بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطـائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
وأستاذ الفقه والأصول والتفســيروالأخــلاق العدد: 612
__________ التاريخ: 19/5/2011
م/ إقتراح تدريس صناعة الجدل والبرهان في كليات الحقوق والقانون
الحمد لله الذي جعل موضوع أول آية نزلت من القرآن هو العلم المقرون بالإيمان والتسليم لله بالربوبية المطلقة بقوله تعالى[اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] وفيه بعث للمسلمين للإرتقاء في مراتب العلم، ومنه الدراسات الأكاديمية الملائمة للأمور الإبتلائية في هذا الزمان، ومنها دراسة القانون والحقوق وفروعها في الخصومات الشخصية والدولية والتي تتقوم بالجدل والإحتجاج والبرهان والمناظرة لذا أقترح على كليات الحقوق والقانون إدخال قواعد صناعة الجدل والبرهان في منهج المراحل المنتهية، وعلى نحو ميسر,بما يساعد الطالب في حياته العملية في المحاماة والقضاء، إذ يواجه الناس من مشارب شتى، ويحتاج معرفة مبادئ الأقيسة وأصنافها وهي المقدمات المستغنية عن البيان كاليقينيات والمشهورات، وتتقوم حياة المحامي المهنية بالجدل النافع والقدرة على المحاورة وإستحضار القياس القريب الذي لا يستلزم وسائط كثيرة.
نعم إنه يكتسبه بالمزاولة ورياضة الذهن وتحصيل المقدمات، وتكون معرفته لمواد وأحكام القانون عوناً له، ويتقوم الجدل بطرفين يختلفان في القول والجهة يسعى كل طرف للغلبة وإلزام الخصم، وإبطال حجته مما يستلزم معرفة مقدمات وآلات الجدل، ومواضع الإثبات والنفي، وموارد إستعمال الجدل، وفضح المغالطة في الجدل وهي المجيء بمقدمات بإعتبار أنها مشهورة ومتسالم عليها وإنما هي من الوهميات وأمور غير محسوسة , الغاية منها تغليط وإسكات الخصم، وإجتناب السفسطائية التي يقصد منها الغلبة، دون إفادة أو حصول نفع , والجدل لغة شدة الفتل(ويقال جادَلْت الرجل فجَدَلته جَدْلاً أَي غلبته ، وفي الحديث: ما أوتي الجدلَ قوم إلا ضلوا) وفسره إبن منظور بأن المراد به في الحديث الجَدَلُ على الباطل وطَلَبُ المغالبة به لا إظهار الحق)لسان العرب 11/105.
وهذا صحيح ولكن دلالة الحديث أعم وهو إنتقال ذات القوم للجدال فيما بينهم بخصوص أمور دينهم ودنياهم، فإن الجدل يورث الفرقة والتشتت، ويسبب السأم، والتجرأ والبدعة , لذا ورد النهي عن الجدال في الحج كما في قوله تعالى[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]سورة البقرة 197.
ومن مصاديق حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه إنحسار الحضارة اليونانية مع تميزها بخصال علمية وعسكرية في زمانها، وقيل نقل مناطقة العرب لفظ الجدل وإستعملوه في الصناعة والتي تسمى باليونانية(طوبيقا) ولا يخلو هذا الكلام من تكلف , فالجدل معروف عند العرب، وعند أهل الأرض جميعاً بدليل قوله تعالى[وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً]سورة الكهف 54/ .
وينبغي دراسة الجدل كطريق لإظهار الحق، ودفع الباطل، ولتحقيق العدل ونشر الأمن وإجتناب الظلم.
وقد ذكرت في الجزء الرابع والثمانين من تفسيري للقرآن(قانون الجدل الإيماني) لما في الجدل من منافع وإظهار للحق.
وقد إنتقد (كونت) المنطق الصوري الذي قال به الميتافيزيقيون لأنه منطق جدلي غايته تنمية ملكة الجدل، من غير أن يكشف عن شيء، وكذا القياس الأرسطي لأنه يبين ما نعلم من غير أن يبين ما نجهل وكأنه من تحصيل ما هو حاصل.
وورد الجدال في القرآن بمعنيين أحدهما في المدح والآخر في الذم , ليكون آية في التفصيل في صناعة الجدل ، قال تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ليقترن الجدل بالأخلاق الحميدة, وهو سلاح مصاحب للأنبياء عجز الكفار عن دفعه , كما ورد في التنزيل في قوم نبي الله نوح عليه السلام[قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا].
والنسبة بين الجدل والبرهان هي العموم والخصوص المطلق مادة وصورة:
فالجدل يتقوم بطرفين كل واحد منهما يأتي بإستدلال صحيحاً كان أو لا، لأن المطلوب فيه إفحام الخصم، أما البرهان فهو حق في مقدماته وما ينتج عنها، وقد يقيم أحد الخصمين البرهان ويلجأ الآخر للجدل أو الإستقراء الناقص والمغالطة، ولا يمكن أن يأتي الخصمان معاً بالبرهان في المسألة الواحدة لأنه متحد بسيطاً كان أو مركباً.
وذات النسبة بين الجدال والحجاج، فالمقصود من الجدال رجوع الخصم عن مذهبه بحجة أو شبهة, والمقصود من الحجاج ظهور الحجة، والنسبة بين الجدال والمراء هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء الخصومة ومحاولة الغلبة، ومادة الإفتراق أن المراء مذموم لأنه مخاصمة في الحق بعد ظهوره , وتتقوم المناظرة في الإصطلاح بالمواجهة , وإستماع كل من طرفي الجدال حجة الآخر والرد عليه .
أرجو من رئاسة الجامعة ومجلس إدارة الكلية دراسة الإقتراح وإرتقاء طلبة القانون في المعارف وعلم المنطق والكلام والخطابة لأنهم من قادة المستقبل، وقد إختتمت الجزء الخامس من رسالتي العملي(الحجة) بمبحث مستحدث وبمسائل شرعية خاصة بمهنة المحاماة وذكرت في آخر المسألة 174 منها : ترى من هو المحامي عنا يــوم القيامة؟ وهل يحتــاج المحامــون اليوم إلى من يحامي عنهم غداً؟ بل من هــو المحامــي الذي يدخل معنا القبر حين يرجع الناس؟ وماذا أعددنا له وفيه ومنه؟ وفي الحديث: عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار.
حرر في النجف الأشرف صالح الطائي