بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطـائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
وأستاذ الفقه والأصول والتفسـير والأخــلاق العدد: 595
______
م/التباين الموضوعي والحكمي بين القصاص والإعدام الذي يطالبون بإلغائه
لقد جاء القرآن بحكم القصاص من عند الله عز وجل، وتقييده بحال العمد فلا يشمل الخطأ وهو فرض [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ] وفي لسان العرب 1/699(الكتاب:الفرض والحكم والقدر) وقد جاءت التوراة بالقصاص أيضاً ولكن فريقاً من الأمم الأخرى كانوا إذا جنى الفقير أقتص منه بخلاف الغني , إلى أن هجر حكم القصاص عندهم, فصارت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة ومصداق اللطف والرحمة الإلهية بالناس جميعاً.
ومن رحمة الله في المقام وأسباب ترغيب المسلمين بالعمل بأحكام القصاص ذكر منافع القصاص الحاضرة واللاحقة بقوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] لتوظيف العقل في عاقبة القتل بأن يستحضر الذي يهم بالقتل حكم القصاص فينزجر عن القتل فتكون سلامة له وللذي يهمّ بقتله، ليكون من منافع القصاص التخفيف عن الحكام والمحاكم ومؤسسات العدل , وفيه إمتثال لأمر الله عز وجل.
وبين الإعدام والقصاص عموم وخصوص مطلق، فالقصاص فرد من أفراد العقوبة بالقتل، ولكنه يخرج بالتخصص من الغاء حكم الإعدام الذي تطالب به كثير من منظمات حقوق الإنسان ووافقت عليه العديد من الدول وهو أمر حسن, وللحكومات العربية والإسلامية أن تدرس أو تعطل حكم الإعدام ولكن الحكم بالقصاص مستثنى منه، وله حكمه الخاص لأنه حرب على الأعدام، وحاجز شخصي وأخلاقي عن القتل.
ومن إعجاز الآية أعلاه أنها توجهت إلى جميع المسلمين والمسلمات في تثبيت ووجوب حكم القصاص، مع أنه خاص بالحكام فلم تقل الآية (ياأيها الحكام كتب عليكم) بل قالت[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ]نعم وظائف الحكام والقضاة في المقام مضاعفة , وفي العموم الإستغراقي لهذا الخطاب دعوة للمسلمين والمسلمات جميعاً خصوصاً في زمان العولمة وتداخل الحضارات لبيان التباين ولزوم الفصل بين الإعدام على الجرائم مطلقاً وبين القصاص كحكم سماوي وعقوبة على إزهاق الروح، ويدرك رجال القانون والحقوقيون الرساليون أسباب السلامة والحكمة والإعجاز في التشريع الإسلامي، ومنه تنمية ملكة الحرص على إتقاء الدماء مخافة القصاص والمنع من إستحواذ النفس الشهوية والغضبية.
وقيل أن أهل التوراة كانوا مخيرين بين أمرين أما القصاص أو العفو، وحكم أهل الإنجيل هو العفو ليس غير، أما [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] فقد رزقهم الله عز وجل الخيار الترتيبي للمجني عليه ووليه بين أمور:
الأول : القود من الجاني. الثاني : الدية كقتل الخطأ. الثالث : العفو.
وإذ يقوم الذين يتركون الحكم بالإعدام بابداله بالسجن المؤبد وما فيه من الضرر البالغ على الفرد والجماعة والدولة، فان الإسلام رغّب بالعفو ووعد عليه بالثواب بقوله تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] فان قلت إن الحث على العفو يمحو الخوف الذاتي من القصاص , الجواب لا، لأن الأمر يكون بيد ولي المقتول، ولا يخضع لقانون ثابت، وفيه غاية المواساة والإكرام لمن فقد عزيزاً بجريمة وجناية، ولترتب الندم قهراً وإنطباقاً في نفس الجاني ومصاحبته والخوف وصورة المقتول في الوجود الذهني للقاتل إلى حين مغادرته الدنيا , كما في قصة قتل إبن آدم لأخيه هابيل [فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ], والعفو لا يتعارض مع قاعدة لا يبطل دم أمرء مسلم ولا يمكن معرفة منافع حكم القصاص في الزجر عن القتل والجناية مطلقاً من غير إستحضار موضوعية معرفة الشخص بما ينتظره من حكم القصاص، أي لا يجوز قياس حالة في بلاد لا تحكم بالقصاص على التي تحكم به لأن الأول لا يعلم أن القصاص ينتظره، ولو أجريت إحصائية بين بلدين في مرتبة واحدة من الحالة الإجتماعية والأخلاقية وغيرهما بما يفيد التشابه الموضوعي، أحدهما يتقيد بحكم القصاص والآخر لا يتقيد به، لوجدت القتل في الأول أقل بكثير مما هو في الثاني.
وذكرتُ ستة وجوه في أسباب نزول آية القصاص(سورة البقرة178) في الجزء الخامس والعشرين من تفسيري للقرآن، مع أن المدار على عموم الحكم وليس أسباب النزول , وحكي ان وجيهاً من ذوي الشأن قُتل ولده، فجاءه ذوو القاتل وسألوه عما يريد دية لإبنه المقتول فقال: إحدى ثلاث وهي:
أ) إحياء ولدي. ب) تملأون داري من نجوم السماء.
ت) تدفعوا إلي رجالكم، ثم لا أراهم عوضاً.
وفي القصاص جلب للمصلحة ودفع للمفسدة، ومنع من الثأر والإنتقام بقتل الإثنين أو أكثر بالواحد ، أو قتل أولياء الجاني عند العجز عن الوصول إليه لقاعدة لا يجني الجاني على أكثر من نفسه, فلابد من الرجوع إلى الحاكم والإمام فأخبرت الآية أعلاه بأن القصاص لايكون إلا على الجاني مع الدعوة إلى الدية أو العفو، والدية على ستة وجوه منها ألف دينار ذهباً كل دينار هو مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة، أو عشرة آلاف درهم فضة كل درهم2,52 غراماً، وتستوفي دية العمد في سنة واحدة من حين التراضي وليس من أوان الجناية، وتكون من مال الجاني، وكذا دية شبه العمد إلا أنها تستوفى منه في سنتين , أما دية الخطأ فتكون على العاقلة وتستوفى في ثلاث سنين، نعم للجاني الإختيار بين وجوه الدية كما مبين في الجزء الخامس من رسالتنا العملية(الحجة) وله أن يعفو وليس من حد لمقدمات وأسباب العفو والندب إليه، وقد يرى رجال تشريع قوانين الجزاء في دولة إسلامية تعليق حكم القصاص سواء على نحو القضية الشخصية، أم الإطلاق خصوصاً مع المندوحة للإنتقال للدية أو العفو ولكنه يكون حكماً منفصلاً عن مسألة الغاء حكم الإعدام للتباين بينهما في السنخية والعلة والأثر، والعلم عند الله.
وقد صدر لنا هذا الأسبوع الجزء الثالث والثمانون من التفسير وهو الرابع في تفسير آية الربا من سورة آل عمران، وفيه باب هو(خروج السجناء إلى صلاة الجمعة) في أيام حكم أمير المؤمنين عليه السلام , مع أحكام إنظار المعسر في الدين، في قراءة وبيان للإعجاز في آيات الأحكام القرآنية، ومصاديق الرحمة والتخفيف فيها،قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ].
حرر في النجف الأشرف صالح الطائي
21/4/2011