المجاز في القرآن

المجاز في القرآن 

لقد أبى وإستكبر المنافقون بجهالتهم عن اللحوق بالمؤمنين في منازل الهدى والصلاح ، فجاء ذمهم في بدايات القرآن , فالإيمان بسيط وليس مركباً , وإستخفوا بالمسلمين[قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ]. فأي إيمان يختارون، ولكن القرآن لم يبق المسألة معلقة بل تعقب كلامهم نعت الله عز وجل لهم بأنهم السفهاء ، وهذه السفاهة بلحاظ آية البحث لأمور :

الأول : فقد المنافقين حاسة السمع في الواجبات العبادية وما ينفعهم والناس جميعاً .

الثاني : عجز المنافقين عن الكلام في مرضاة الله عز وجل، ليكون نعتهم بالبكم من الحقيقة , وليس المجاز أو الإستعارة وحدها، بإصابتهم بالبكم على السالبة الجزئية، فيتكلم المنافق في أمور الدنيا والمباحات واللذات، وفي الكذب والإفتراء على الإسلام وإنكار المعجزات، ولكنه لا يستطيع الكلام والدعوة إلى الحق وما فيه الصلاح والثواب.

لكن كيف يستقرأ هذا المعنى من منطوق الآية الجواب الأصل في الكلام العربي هو الحقيقة ولا ينتقل إلى المجاز أو الإستعارة إلا مع القرينة الصارفة عن الحقيقة أو إلى المجاز وكل من قوله تعالى(صم) و(بكم) و(عمي) يفيد الحقيقة كلاً أو جزءً فيؤخذ به، ويفيد المجاز أيضاً , وهو من مصاديق القانون الذي أسسناه في هذا السِفر , وهو تقسيم الكلام إلى ثلاثة أقسام:

الأول : الحقيقة وهو المعنى الذي وضع له اللفظ.

الثاني : المجاز وهو إستعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً، ويسمى المجاز في المفرد في مقابل المجاز في التركيب , وأنواع المجاز في المفرد كثيرة ومتعددة منها الحذف والإطناب، وإطلاق الكل على الجزء، وعكسه، وذكر الحال وإرادة المحل، وفي أولاد يعقوب ورد قوله تعالى[وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا]، والمراد إسأل أهل القرية ولا مانع من حمله على الحقيقة أيضاً لأسرار ومعجزات النبوة وعلم أولاد يعقوب رتبته في النبوة , فيسأل الجمادات والثوابت في القرية , وربما قصدوا قيامه بالسؤال من محل إقامته, وقد كلم الحجر والحصى وغيرها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , وكذا العظم الذي دس له السم به.

ويفيد المجاز أيضاً لعلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي، وقرينة صارفة إلى المعنى المجازي، أو مانعة من المعنى الحقيقي , ومن مفاهيم المجاز في الآية أعلاه , وأسأل من كان حاضراً في القرية من غير أهلها كالعبيد والأجراء والمسافرين , وهذا المعنى يذكر لأول مرة والحمد لله , ولم يرد في كتابنا الموسوم تفسير سورة يوسف الصادر قبل خمس وعشرين سنة , ليتجلى قانون من ذخائر القرآن وهو أن العلوم المستقرأة من حقيقة ومجاز القرآن متجددة في كل زمان.

الثالث : المعنى الجامع للحقيقة والمجاز في آن واحد.

وهذا القسم الثالث علم جديد في اللغة والبلاغة، ترشح عن كنوز وفيوضات القرآن , أو قل إن قوانين البلاغة الوضعية متخلفة عن الإحاطة بأسرار القرآن ودلالاته، ولا معنى لربط نفي المجاز في القرآن بتعطيل صفاته تعالى عند القول بوجود المجاز في القرآن[فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ]( وفيه مسائل:

الأولى : النزاع بين القائلين بوجود المجاز في القرآن أو عدمه نزاع لفظي , إذ يلتقي القائلون بوجود المجاز في القرآن والقائلون بعدمه في المعنى والدلالة , ولو على نحو الموجبة الجزئية , فمثلاً قوله تعالى[وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ]، فيجمع الفريقان على أن الذل ليس هو طائر أو له جناح والقائل بالمجاز يقول أن إستعمال الجناح في الآية من المجاز، والذين ينفون المجاز يقولون جناح الذل بحسبه من المسكنة وإجتناب الترفع عن الوالدين، وكذا بالنسبة لقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام[كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ]، فالذي يقول بالمجاز يقول أنهم سدوا مسامعهم عن دعوة نوح إلى الله والذي لا يقول بالمجاز يحمل الكلام على الحقيقة وإرادة جعل بعض الأصابع في الآذان ، ولكنه من المجاز أيضاً للإتيان بالكل وإرادة بعض الأصابع , وكما في قوله تعالى[يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]، إنما هم يكتبون بأصابعهم، وقد يأتي زمان تكون فيه الكتابة باليد وبما هو أعم من الأصابع ليكون من إعجاز الآية في إرادة المجاز والحقيقة بلحاظ التباين في الموضوع والتعاقب في الأحقاب، وطرو التغيير بالعلم والتحصيل أو العكس من النقص والضمور ز

 وتدل آية دعاء نوح أعلاه على أن المجاز موجود في الأمم السابقة وأنه لا يختص باللغة العربية.

كما جاء في الآية على لسان رسول من الرسل الخمسة أولي العزم وهو معصوم من الكذب، وكان في مقام الدعاء والمناجاة والتضرع إلى الله بصيغة البيان وإقامة الحجة على قومه , وذكر الأذى الذي لحقه منهم في دعوته إلى الله عز وجل , وتكرر ذات الأمر في المنافقين مع شدة أذاهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ]، وهو من مصاديق قول النبي (ما أوذي نبي مثلما أوذيت) .

الثانية : المجاز موجود في اللغة عند العرب وفي لغتهم قبل نزول القرآن , وقال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ].

الثالثة : المجاز ليس كذباً كما يظن بعضهم.

الرابعة : تعدد معاني اللفظ القرآني، وهو أمر جلي وظاهر للجميع , ولما بعث الإمام علي عليه السلام عبد الله بن عباس للإحتجاج على الخوارج قال له: لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه، ذو وجوه تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة، فانهم لن يجدوا عنها محيصاً).

الخامسة : لا ملازمة بين المجاز والكذب لأن اللفظ أستعمل في معنى آخر يدركه المخاطب، فيصح الإتيان به لوجود المقتضي وفقد المانع.

السادسة : علوم القرآن من اللامتناهي ومنها علم المجاز وضروبه من الإستعارة والكتابة.

السابعة : من أظهر وجوه إعجاز القرآن بلاغته ومعانيه، وقد أقر أساطين اللغة من العرب أيام نزوله بأنه فوق كلام البشر، الكفار منهم حريصون على إيجاد أي سبب للجدال والمغالطة في آيات القرآن ولكنهم أظهروا عجزهم وسلّموا بتنزيله لولا الحسد والعناد الذي إستولى على فريق منهم، ودخل فريق آخر منهم الإسلام لبلاغة القرآن وكنوز معانيه ودلالاته.

وعن إبن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوه لك ، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله . قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً . قال : فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر أو أنك كاره له . قال : وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده مني ، ولا بشاعر الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته . قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه . قال : فدعني حتى أفكر . ففكر . فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت { ذرني ومن خلقت وحيداً ].

فكل كلمة من كلمات هذه الآية المباركة تكون في معناها من الحقيقة ومن المجاز في آن واحد من غير تعارض بينهما، وكل بحسب موضوعه , وله دلالته وفيه أذى إضافي للمنافقين، وإنذار لهم، وبيان لقبح خصالهم، وسوء عاقبتهم، ولا يصح تقييد كنوز القرآن بعلوم وقواعد مستحدثة لم يثبت إطلاقها.

ويعرف المجاز بصحة نفيه بخلاف الحقيقة التي يدل عليها التبادر والإطراد , وعدم صحة السلب والمراد من الإطراد هو إنطباق اللفظ على ذات المعنى في كل الأحوال المتباينة ، فاذا قلت الأسد شجاع فهو بارادة الحيوان المفترس المعروف لا يعرف الإنهزام أمام الحيوانات الأخرى ، ولو قلت زيد أسد ، فان هذا القول ينخرم عندما يرى من هو أشد منه بطشاً وقوة وعدة.

ويتعلق تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز بمعنى كلام الله وليس ذات الكلام لأنه ثابت وتعدد معاني اللفظ القرآني خاصة وأن المجاز يحمل نوعاً من الحقيقة بلحاظ التفاهم على إنتقال اللفظ في إستعماله له ، لذا هو نوع تجوز في وظائف وإستعمال اللفظ العربي .

فالمجاز فرع الحقيقة ، لأن اللفظ يستعمل فيه بلغة التخاطب , وتقسيم إلى حقيقة ومجاز لا ينطبق على دلالات اللفظ في اللغة العربية , وعدم إحاطة هذه القواعد بسعة وأسرار اللغة العربية وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).

ويمكن القول بان النسبة بين الحقيقة والمجاز هي العموم والخصوص المطلق لوجود صلة وعلاقة ووجوه شبه بين المعنى الحقيقي والمجازي لذات اللفظ .

ولم يكن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز معروفاً في أيام النبوة ولا الصحابة ولا التابعين ولم يرد على السنة الأئمة عليهم السلام , وقيل ظهر في المائة الثالثة للهجرة وإشتهر في السنة الرابعة، وهذه الشهرة وأوانها تحتاج إلى دليل.

ولم يشر إليه القراء العشرة , ولم يذكره أئمة اللغة والنحو كالخليل والكسائي , ونسب إلى بعض المتكلمين من المعتزلة وأول من ذكر المجاز هو أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 209 هجرية ) بكتابه ( مجاز القرآن ) ولكنه لم يقصد بالمجاز معناه الإصطلاحي بل أراد ما يجوز لغة ، ويصح تفسيراً ففي قوله تعالى [أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ] ( )قال ومجاز طائرهم : (حظهم ونصيبهم ) وسبب تأليفه أن أحد كتّاب الفضل بن الربيع ( ) سأله عن تفسير آية من القرآن , فعزم على تأليف الكتاب ، ثم قام الجاحظ  (ت255) باستعمال المجاز في القرآن في مقابل الحقيقة وجاء بعده إبن جني (322-392 هجرية). وكلاهما من المعتزلة  , أي أن مبحث المجاز محصور في نشأته بطائفة مخصوصة .

وصحيح أن إصطلاح المجاز لم يكن موجوداً أيام الصحابة والتابعين , وهو غير موجود قبل الإسلام من باب الأولوية القطعية فيمكن دراسة المجاز في تفسير القرآن بالرجوع إلى أمور:

الأول : تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( )، للقرآن بلحاظ أن السنة النبوية مرآة للقرآن وعلومه . 

الثاني : المجاز في السنة النبوية، وهو بحر زاخر في سعة معانيه ودلالاته، لأن العدول في الحقيقة إلى المجاز يكون لأغراض بلاغية منها:

الأول : السعة في المعنى .

الثاني : التأكيد.

الثالث : التشبيه.

وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فرس إشتراه  من تجار قدموا من اليمن ما أنت إلا بحر) ، وفيه مجاز من جهات:

الأولى : مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للفرس.

الثانية : تسمية الفرس بالبحر وقيل مسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الفرس، وأنه سبق عليه ثلاث مرات.

الثالثة : مجئ تسمية الفرس في سياق الخطاب له، وليس لتمييزه من بين الأفراس الأخرى.

الثالث : تفسير الصحابة للقرآن ، وهل فيه ما يدل على المجاز .

الرابع : تفسير أئمة أهل البيت للقرآن .

الخامس : تفسير التابعين للقرآن .

الثاني : ذكر وجوه ومصاديق التفسير التي يشكل عليها القائلون , بعدم وجود المجاز في القرآن لبيان أن الخلاف صغروي ولفظي .

الثالث : بيان إجتماع المعنى الحقيقي والمجازي في ذات اللفظ القرآني متحداً أو مركباً، كما في آية البحث في ذم المنافقين[صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] فكل كلمة من كلماتها الخمسة تجمع المعنيين , ومن وجوه متعددة .

مما يدل على أن إفادة اللفظ القرآني المعنى المجازي ثروة علمية وآية إعجازية لا يمكن تعطيلها أو التفريط بها نتيجة بحث عقلي في باب اللغة لا أصل له , يقول به من خالف المشهور شهرة عظيمة .

فقوله تعالى [صُمٌّ]حقيقة ومجاز وإستعارة وتشبيه، وفيه توبيخ إضافي للمنافقين ودعوة للناس للنفرة من النفاق , وكذا نعوت المنافقين الأخرى الواردة في الآية أعلاه.

لأن الإنسان بفطرته يسعى إلى الكمال ، ويحب تمام الخلقة وسلامة الأعضاء والحواس ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : (من رأى صاحب بلاء فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني عليك وعلى جميع خلقه تفضيلاً فقد أدى شكر النعمة) ( ).

ويشمل الحديث أعلاه موضوع النفاق والإبتلاء به، ولا ينحصر برؤية المؤمن للمنافق وشكر الله عندها على السلامة من النفاق ، خاصة وأن المنافقين يخفون أنفسهم لأن النفاق داء في القلوب ، ولكن المؤمن يشكر الله عز وجل على النجاة من النفاق في كل مرة يتلو هذه الآيات أو يسمعها , وقد جاءت سورة كاملة في القرآن باسم (سورة المنافقون) وهي مدرسة في كشف النفاق وبيان قبحه.

 وإن حصل خلاف على المجاز فيمكن إبدال إسمه في الإصطلاح القرآني خاصة أو مطلقاً , وان كان المجاز ليس من الكذب كما يظن بعضهم لأن اللفظ العربي تجوز وإنتقل إليه في الإستعمال، فله مصداق خارجي، وليس من دليل على حصر المعنى اللغوي للفظ بما وضع إليه في أصل اللغة، وحتى هذا الوضع لم يثبت في كثير من الكلمات لأنها إنتقلت إلينا بأكثر من معنى ومصداق.

وقد يرد لفظ لعدة معان، ويتردد المعنى الحقيقي بين أكثر من واحد منها لفظ(العين) وهو إسم يذكر ويؤنث حسب المعنى، ومن معانيها حاسة البصر، وعين العدو وهو الجاسوس، وذات الشئ، والعناية والحفظ والتعاهد كما في قوله تعالى[وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] ( )، والعين ينبوع الماء، أما لفظ العين بلحاظ الإضافة والتقييد فمعانيه كثيرة وفيها مندوحة.

وفرض العين وهو الذي يجب أن يؤديه المكلف نفسه كالصلاة اليومية في مقابل فرض الكفاية كصلاة الجنازة ورد السلام.

وإستعمل الشعراء في الجاهلية اللفظ بمعناه الحقيقي والمجازي , وكانت عذوبة الشعر بهذا التعدد من الإستعمال وقد ثبت في علم الكلام أن الإسم غير المسمى، والمدار على الأخير وليس على الأول خاصة وأن المعنى الإصطلاحي للمجاز مستحدث.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn