بحث أصولي في واو العطف
من الإعجاز في آية البحث أنها بدأت بحرف العطف وصيغة الجملة الخبرية التي إبتدأت بها الآية [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ]( ) وهي فرع لغة الخطاب في آية البحث والآية السابقة لها وتقدير الآية : (يا أيها الذين آمنوا ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) لبيان منافع حرف العطف الواو في اللغة العربية من جهات:
الأولى : إجزاء حرف العطف عن النداء لعطف آية البحث على قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( ).
الثانية : إتخاذ حرف العطف للصلة بين الآيات في موضوعها وإن تعددت في تعاقبها .
الثالث : تجلي الإختصار البلاغي بحرف العطف، وطرد الملل والسأم.
الرابعة : إرادة الحصر والتقييد بلغة الخطاب بحرف العطف .
الخامسة : البيان والوضوح بحرف العطف وإبتدأت الآيتان السابقتان والآيتان التاليتان بحرف العطف الواو الذي هو أم حروف العطف لذا أولاه النحاة والأصوليون والفقهاء عناية خاصة وإختلف النحاة في موضوعيتها بين المعطوف عليه والمعطوف على وجوه :
الأول : قال المشهور بأفادتها الترتيب وإليه ذهب الكسائي المتوفى 189 هـ ، وقطرب 206 ، والفراء ت 207 وهشام ت 209 ، وغيرهم .
الثاني : قال ابن كيسان ت 299 هي للمعية حقيقة ، وفي غيرها تكون مجازاً .
الثالث :إرادة مطلق الجمع .
وتجلى الإختلاف في الفقه كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]( )، وهل ترتيب أفعال الوضوء فريضة وهو المشهور والمختار، وقيل أنه ستة ومشهور الشافعية إرادة الترتيب من حرف العطف الواو.
وعن جابر قال : لما دنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصفا في حجته قال : إن الصفا والمروة من شعائر الله ، ابدأوا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه] ( ).
وفي الحديث قانون كلي في العبادات بجعل موضوعية للواو في الترتيب إلا أن يرد دليل على الخلاف ومنهم من يستدل على عدم إفادة الواو الترتيب لسؤال بعض الصحابة بم نبدأ ؟ وأن الواو لو كانت تفيد الترتيب لما لجأوا إلى سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم عرب فصحاء ، وأن هذا السؤال يدل على إفادتها الجمع دون الترتيب ، وهذا الإستدلال لا أصل له من جهات :
الأولى : لم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إبدأوا بالصفا بل ذكر قانوناً كلياً .
الثاني : ورد ذكر الحديث أعلاه لبيان من غير سؤال من الصحابة .
الثالثة :السؤال من أحد الصحابة مع كثرتهم في حجة الوداع على فرض وقوعه لا يدل على كونه مرآة لحال الصحابة جميعهم، وذكر أن عدد الذين حضروا حجة الوداع مائة ألف صحابي .
الرابعة : قد يأتي السؤال للتأكد، وإستماع الحكم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يقطع الخلاف.
والمختار هو عدم تقييد وظائف (الواو ) بقانون خاص من الترتيب أو عدمه فقد تأتي للترتيب أو المعية أو مطلق الجمع أو التشريك في الحكم بحسب قرائن الحال والمقال ، من غير أن تصل النوبة إلى جعل إستعمالها في الترتيب حقيقة وفي غيره مجاز كما ذهب إليه الرضي المتوفى سنة 688 هجرية.
نعم إذا دار الأمر بين الترتيب وعدمه ، فالترتيب هو الأولى ،فلو أوصى المسلم بتخصيص شطر من امواله للخيرات بأن قال أجعلوا الدار والبستان الفلاني صدقة جارية لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم [إذا مات المؤمن إنقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له] ( ).
وكان مجموع قيمتها أكثر من ثلث مجموع التركة وهو الحد المأذون به للمسلم الوصية لعودة الثلثين قهراً إلى الورثة من بعده فلا يكفي الثلث إلا لأحدهما ،فان الوصية تنفذ في الأول وهو الدار لقرينة إرادة الأولوية في الوصية ، وذهب القائل بأن الواو لا تفيد الترتيب إلى القرعة بينهما .
وجاءت الواو في آية البحث لعطف جملة على جملة لها محل من الإعراب مما يفيد التشريك بينهما في لغة الخطاب والبيان وإن تعدد الموضوع .
ورد هذا المبحث في الجزء الثاني عشر بعد المائة من معالم الإيمان في تفسير القرآن