بحث عرفاني
لقد أراد الله عز وجل للمسلم الإرتباط معه بالتقوى، وهي أشرف وأعظم رابطة فهي خير محض، وعنوان العبودية لله، وموضوع الإتصال بين عالم الشهادة وعالم الغيب ووسيلة مباركة لكسب السكينة وجعلها حال مستديمة عند الإنسان فهذا الإرتباط رحمة بالإنسان، وسبيل لسعادته في النشأتين، وتستلزم التقوى مجاهدة النفس، وقهر دواعي الشهوة والغضب فيها.
لقد أراد الله عز وجل بهذه الآية للمسلم التطهير من كل ما يشغل القلب، ويصده عن ذكر الله، وتعني في دلالتها الأمر بالإخلاص بالعبادة، والتحلية بالفضائل والتخلية عن الرذائل والأخلاق المذمومة، فالتقوى تجاذب تام بين العبد والرب، أما جذبة العبد فهي الإنقطاع اليه تعالى، الذي يتفرع عنه الإقبال على العبادة، والزهد في الدنيا وزينتها، وأما جذب المعبود فهو عطاء غير مجذوذ وفيض متصل يتغشى الدار الدنيا وعالم البرزخ ويوم القيامة من غير أن تتخلله فترة كفضل من عند الله وجزاء على فعل العبد الذي لم يغادر التقوى مدة حياته.
ان تأكيد القرآن على ان تكون التقوى كما ينبغي ويجب لله تعالى دعوة للتفاني المحض في مرضاته، وباعث عل الشعور بالتقصير في الطاعات، ومناسبة للإستغفار والتوبة النصوح، و تدعو الآية الى اصلاح الذات لمراتب المعراج، ودرجات القرب منه تعالى.
والتقوى سفر روحي وعقائدي ومشاهدة حضورية، تجعل المسلم فخوراً بما عنده، حريصاً بما ناله من مراتب التشريف والعز مع إدراك ان هذا الشرف لم يأتِ الا بالإسلام، فيجتهد في عدم مغادرة منازله، وهو مضمون خاتمة الآية وكأنها تخبر المسلمين بان التقوى تؤدي بالإنسان الى الموت على الإسلام أي ان الجملة وأن جاءت انشائية وبصيغة الأمر بتعاهد الإسلام، والنهي عن مغادرة منازله الا انها تفيد ايضاً الإخبار عن الملازمة بين التقوى والموت على الإسلام.
ويساعد على هذه الملازمة ان التقوى في الآية وردت بصيغة الأمر والتقدير "الذي يتقي الله يموت وهو مسلم".
وإختصاص المسلمين بالأمر بالتقوى فضل إضافي عليهم، ومرتبة لهم لم ينلها غيرهم ودعوة للتفاني المحض في مرضاة واجب الوجود، وشاهد على أهلية المسلمين لتحمل أعباء خلافة الأرض ومباهاة الملائكة في العبادة والإستقامة مع تخليهم عن مباهج الدنيا مع تدافعها صوبهم، والتقوى تنزيه للقلب من الكدورات الظلمانية، وفرار الى الله، في حضرة الملك الجبار.
لقد حبى الله المسلمين كنوزاً وثروات مستديمة تتجلى بالتقوى والخشية منه تعالى لأن التقوى نهر جارِ من الخير المحض.