بحث فلسفي
إتخذ بعض الفلاسفة الإدراك وماهيته مقسماً للأشياء، وجعلها على قسمين:
الأول: الكيفيات الأولية، وهي التي لا تدرك إلا بالواسطة والآلة، ومن المفاهيم غير المادية واجب الوجود، والنفس والروح، والمادية مثل الشكل والروح.
الثاني: الكيفيات الثانوية، وهي التي تدرك بالحواس مباشرة مثل اللون والطعم والرائحة.
ولكن هذا التقسيم لا يحيط بالأشياء المادية أو غيرها، لوجوه:
الأول: وجود برزخ بينها.
الثاني: التداخل بين القسمين الآخرين، في الأثر وإن تغايرا في الكيفية.
الثالث: صيرورة أحدهما مقدمة وطريقاً للآخر.
الرابع: بديع صنع الله في الإنسان إذ جعل العقل والحواس يعملان مجتمعين ومتفرقين على إدراك المفاهيم، ويكون بلغة للإقرار بالعبودية لله عز وجل وإنتهاج ما هو نافع ومفيد.
وجاءت هذه الآية بذكر طمأنينة القلوب وهي كيفية نفسانية لا تدرك بالحواس، ولكن تظهر آثارها للناس بعالم الأقوال والأفعال، ومنها مرابطة المؤمنين وخروجهم في اليوم الثاني من معركة أحد خلف العدو مع ان الأصل وأسباب الإحتراز بخلافه من وجوه:
الأول: كثرة جيش الكفار.
الثاني: عدم تعرض الكفار لخسائر كبيرة في الأرواح والمؤون، إذ جاء الكفار بنحو ثلاثة آلاف رجل، (قال إبن إسحاق: فجميع من قتل الله تبارك وتعالى يوم أحد من المشركين إثنان وعشرون رجلاً( ).
وهو عدد قليل بالنسبة لمجموع عددهم وجيشهم بينما كان المشركون يوم بدر نحو ثلث عددهم يوم أحد، وقتل منهم يوم بدر أكثر من ثلاثة أضعاف من قتل يوم أحد، وأسر منهم سبعون.
الثالث: كثرة الجراحات التي أصابت المؤمنين.
الرابع: رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الى المدينة، والوصول إلى الأهل والأولاد، وفيه نوع من الميل إلى الراحة والسكينة.
وهو من مصاديق الطمأنينة التي ذكرتها الآية ليشمل موضوع الطمأنينة يوم المعركة وما بعده، فهذه الآية أزاحت عن صدور المؤمنين الخوف من فراق الأهل والأحبة، وتدل البشارة بالدلالة الإلتزامية على الوعد بالرجوع إليهم والإلتقاء بهم، كما أن الطمأنينة تصاحب المؤمنين وهم في عيالهم ووسط أبناءهم بأن الكفار لن يغزوهم بغتة، وأن جاء الكفار فأن المؤمنين قادرون على صدهم ودفعهم وإرجاعهم إلى مكة منهزمين، وفي قوله تعالى[وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا] ( )، ورد عن إبن عباس في الآية أنه قد كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمى ملكاً.
الخامس: قلة المؤون والأسلحة والخيل التي عند المؤمنين.
السادس: وجود المنافقين واليهود في المدينة، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين خرجوا لقتال العدو لتتجلى الطمأنينة في القلوب بأثرها، من وجوه:
الأول: يدرك كل واحد من المؤمنين ما هو عليه من السكينة والرضا.
الثاني: إمتناع المؤمنين عن الإحتجاج أو التردد في الخروج خلف العدو، وقد خرج جماعة من المؤمنين في اليوم التالي ليوم أحد، وهم مصابون بجراحات بالغة.
الثالث: الرضا والقبول على نحو العموم المجموعي والإستغراقي من المؤمنين، بأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلف العدو.
وفي بداية معركة أحد ومع أن الكفار هم الذين زحفوا على المدينة للقتال فإن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره الخروج لقتالهم، ولكن ألحّ عليه بعض المؤمنين فلبس لأمته وخرج، أما بعد معركة أحد ومع ما أصاب المؤمنين من الخسائر والجراحات فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالخروج خلف القوم، وفيه مسائل:
الأولى: توكيد حصول الطمأنينة في قلوب المؤمنين حال نزول هذه الآية الكريمة.
الثانية: إزدياد قوة ومنعة المؤمنين بالسكينة والطمأنينة.
الثالثة: إذا كان نزول الملائكة مدداً خارجياً، وآية عقلية، في واقعة أحد وبدر، فان الطمأنينة مدد داخلي عند المؤمنين، تترشح عنه منافع عظيمة تبقى صاحباً كريماً مع أجيال المسلمين.