بحث كلامي من الجزء الثمانين من التفسير بخصوص آية الربا ص272-280
إن الله الغفور الرحيم هو الذي نهى المسلمين عن الربا، وأمرهم بالتقوى، مما يدل على كونه تعالى لطيفاً بالناس، يمنعهم من التمادي بفعل المعصية، ويدفعهم عن إختيار الغفلة.
وجاءت آية البحث بالنهي والأمر والبعث لمنازل الفلاح، ومصاديق المغفرة والرحمة وفيها من وجوه:
الأول: خطاب الإكرام(يا أيها الذين آمنوا) رحمة بالمسلمين، ويدل بالدلالة التضمنية على مغفرة ذنوبهم فضلاً من الله، وشكراً منه تعالى على إهتداء المسلمين للإسلام، قال تعالى[فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] ( )، وهناك مسائل:
الأولى: هل من إيمان المسلمين إقرارهم بأن الله غفور رحيم.
الثانية: هل هناك ملازمة بين الإيمان والإمتناع عن الربا.
الثالثة: هل من مصاديق رحمة الله إعانة المسلمين للتنزه عن الربا.
أما الأولى فنعم، ولابد من التسليم بصفات الله عز وجل الثبوتية والسلبية، وتسمى صــفات الله الثبوتية صفات الإكرام ومنها أنه سبحانه : قادر، عالم، حي، مريد، قديم، أزلي، متكلم , صادق، مدرك .
أما الصفات الســلبية وتسمى صفات الجــلال وهذه التسمية مستقرأة من قوله تعالى[تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( )، فهي التي يجب أن تسلب عن الله عز وجل فهو تعالى ليس بمركب، لأن المركب يفتقر إلى أجزائه، وأنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، لأنه سبحانه لا يحتاج إلى المكان وليس في جهة لإستغنائه عنها، وعدم دركه بالإشارة الحسية إلى جهة مخصوصة.
والله عز وجل واجب الوجود , وغير محتاج إلى المكان فكل شيء حاضر عنده، قال تعالى[وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ).
أما الثانية فإن الملازمة ظاهرة جلية بينهما وتدل عليه مضامين آية البحث، فليس من فاصلة بين الخطاب التشريفي(يا أيها الذين آمنوا) وبين(لا تأكلوا الربا)مما يدل على أمور:
الأول: موضوعية إجتناب الربا في صبغة وسلّم الإيمان.
الثاني: لزوم مبادرة المسلمين إلى العمل الصالح، وإجتناب النواهي حال دخولهم الإسلام فليس من فترة بين دخولهم الإسلام وإمتناعهم عن الربا، قال تعالى[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ]( ).
لتكون المغفرة ملازمة للإيمان لا تتخلف عنه رحمة ووعداً من الله عز وجل.
وبين الرحمة والمغفرة عموم وخصوص مطلق، فكل مغفرة من الله رحمة منه تعالى، أما الرحمة فهي أعم وأوسع.
الثالث: تفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم لمجيء الأوامر والنواهي بعد الخطاب التشريفي بالإيمان.
أما الثالثة فنعم وآية البحث من مصاديق رحمة الله، ويدفع الله المسلمين عن الربا أمس واليوم وغداً، وآية البحث من صيغ هذا المنع والدفع , وهل يدفع عنهم الله الربا , الجواب نعم وكذا يدفع مقدماته , وهو من الطف بالمسلمين , ودفاعه عنهم , وتقريبهم لسبل الهداية والإرتقاء في سلم المعارف .
ومن خصائص رحمة الله أنها متجددة ومتصلة ليس فيها فترة وفتور، ويدل عليه بقاء آية البحث حية غضة في موضوعها وحكمها وتلاوتها، وعموم أثرها في الزجر عن الربا وأكله، وفي النهي عن الباطل ووجوه معصية الله.
وهل تدخل فيها سيرة الأجيال السابقة من المسلمين، الجواب نعم، وهو رحمة إضافية بالمسلمين، ونوع تخفيف على الأجيال اللاحقة من المسلمين ولبعثهم على محاكاة آبائهم في الصلاح والتقوى، وهو من خصائص(خير أمة) وهم المسلمون إذ أن الكافرين يصرون على الجحود وفعل المعاصي، وفي التنزيل[وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا]( ).
وأختتمت آية السياق بثلاثة أســـماء لله عز وجل(الله غفور رحيم).
وجاءت آية البــحث بقوله تعالى(وأتقوا الله) وفي الجمع بينهما دلالة على لزوم تقوى الله لأنه الغفور الرحيم، وما في هذين الإسـمين من معــاني القدرة والعظمة والسلطان، فكما ينفرد الله عز وجل بوجوب الوجود والقوة والقدرة المطلقة فإنه ينفرد بالقدرة على مغفرة الذنوب وتفضله بمحوها.
وتحتمل التقوى وأثرها في سبل المغفرة وجوهاً:
الأول: التقوى طريق لنيل المغفرة، ونزول شآبيب الرحمة.
الثاني: إستقلال موضوع التقوى عن المغفرة، إذ أن طريق المغفرة الإستغفار.
الثالث: حاجة التقوى إلى ضميمة معها كالإستغفار.
الرابع: المغفرة فضل من الله عز وجل ليس لفعل العبد فيه موضوعية.
والصحيح هو الأول والرابع وقد يظن بالتعارض بينهما، ولكنها شبهة بدوية تزول بأدنى تأمل لتعدد سبل المغفرة والعفو، بفضل الله .
وكل فرد منها من مصاديق قوله تعالى(والله غفور رحيم) الذي ليس له حد من جهة الكثرة في محو الذنوب والذي ينالهم العفو والمغفرة .
فالتقوى مفتاح المغفرة، لذا أمر الله عز وجل المسلمين بتقوى الله ليفوزوا بالمغفرة والرحمة من عند الله، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
وهل دخول الإسلام من تقوى الله، الجواب نعم، ليكون دخول الإسلام سبباً لنيل المغفرة ونزول الرحمة الإلهية على المسلم ومن حوله فضلاً من الله عز وجل.
فإن قلت إذا كان دخول الإسلام من التقوى فلماذا يأمر الله المسلمين بالتقوى كما في آية البحث.
والجواب تحتمل التقوى وجهين:
الأول: إنها من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة متساوية، تكون مطلوبة من الناس جميعاً في قوله تعالى(وأتقوا الله).
الثاني: إنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
والصحيح هو الثاني فإن التقوى على مراتب متعددة بلحاظ الموضوع والحكم، والتقوى باب للإرتقاء في سلّم الخشية من الله، وسبل اليقين، وكما أنها سبيل إلى المغفرة والرحمة، فإن كلاً من المغفرة والرحمة سبيل لبلوغ منازل التقوى واليقين بالسعي في مرضاة الله، وإظهار معاني حبه والتفاني في طاعته والإخلاص في سنن الإيمان بما يجعل الدنيا حديقة ذات بهجة يفوح منها عطر الهدى، وتتجلى فيها معاني الصلاح والرشاد.
وفي التنزيل[هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ]( )، أي أن الله أهل أن يحذر من بطشه وعقابه، وأهل أن يسعى الناس لنيل مغفرته، ولا يدركون المغفرة إلا عند الله.
الثامنة : لما تفضل الله عز وجل وخلق الناس لطاعته وعبادته فإنه سبحانه لم يتركهم وشأنهم يتلمسون سبل الهداية بتوظيف العقل والحواس، بل أنعم عليهم بالأنبياء والكتب السماوية لتكون وسائط جذب مباركة لرحمة الله، ونيل العفو والمغفرة منه تعالى، وتفضل وجعل المغفرة والرحمة يدنوان من العبد ويصيران قريبين منه من غير وسائط أرضية أو سماوية، بشرية أو ملكوتية، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
فليس بين الناس ورحمة الله من برزخ، ولا يستلزم الفوز بالرحمة الإستعانة بالوسائط المباركة مع سموها وشرفها، وفي التنزيل[وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
ومن مصاديق الإستعانة السعي للمغفرة والرحمة والفلاح، ليكون من رحمة الله في المقام تعدد مصاديق الرحمة، وكثرة سبلها، ومنها الأوامر والنواهي، وكل فرد منها رحمة مخصوصة ومناسبة كريمة لبلوغ المسلمين مراتب الفلاح والتوفيق.
وتلك آية في بديع الخلق والحجة على الناس في كثرة مصاديق الرحمة، وترغيبهم بالنهل منها، فكل حادثة وواقعة تدعو إلى رحمة الله، وإن لم تكن هناك وقائع حاضرة فإن الآيات الكونية وذات الإنسان تدعو بإلحاح للجوء إلى رحمة الله، قال سبحانه[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالنهي عن الربا، وفيه أمور:
الأول: الربا برزخ دون المغفرة.
الثاني: إنه سبب لحمل الأوزار في الدنيا والآخرة.
الثالث: أكل الربا مانع من بلوغ مراتب الفلاح والبقاء.
والمنع من الربا من عمومات قوله تعالى(والله غفور رحيم) ومن فضل الله عز وجل على المسلمين تلاوتهم كل يوم في الصلاة الواجبة قوله تعالى[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ].
ومن مصاديق رحمة الله تعالى بالمسلمين أمور:
الأول: نهي المسلمين عن الربا.
الثاني: إعانة المسلمين لإجتناب الربا.
الثالث: نيل المسلمين الأجر والثواب على الإمتناع عن أكل الربا.
الرابع: تهيئة أسباب الرزق الكريم للمسلمين، بما يغنيهم عن الربا، ويفتح عليهم آفاقاً واسعة من العمل وأسباب الكسب والتجارة.
ولو أجريت دراسة مقارنة على مجتمعين بينهما تساو في الحال والمال، مع التباين في الفعل:
المجتمع الأول: يتعاطى الربا ويتعامل به.
المجتمع الثاني: يمتنع عن الربا ويتنزه عنه.
لظهر تجلي سبل العمل والنفع المستديم واضحة في عند المجتمع الثاني لأمور:
الأول: إنتفاء الغبن والغرر الذي يحصل بالربا.
الثاني: سعي صاحب الربا للعمل وبذل الوسع للكسب، ودخوله منافساً مع الذي إمتنع عن أخذ المال الربوي منه ودفع الزيادة له.
الثالث: عدم إنتزاع أرباح على القرض.
الرابع: إنتشار مفاهيم الود والمحبة بين أفراد المجتمع لإنتفاء الغبن والغرر والظلم، لذا فإن النهي عن الربا من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، وفيه آية إعجازية بأن الله عز وجل يأمر وينهى المسلمين بما يجعلهم أخوة متحابين في الله .
ومن معاني الأخوة بينهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه سبيل الصلاح والرشاد، ووسيلة لنزول الرحمة، وفي الحديث: من عَصى الله لم يَقِه منه واقِيةٌ إِلا بإِحْداث تَوْبةٍ) ( ).
لقد إبتدأت آية السياق بالإخبار عن ملك الله للسموات والأرض وما فيهما لتختتم بالبشارة والإخبار عن كونه تعالى الغفور الرحيم، ليكون من مصاديق الرحمة نزول الفضل الإلهي من السماء، ومجيؤه من الأرض، قال تعالى[سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).