بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
م/بين المخادعة ومرض القلوب
يتصف المنافقون بالتلبس بحال عدم الشعور والإحساس بالضرر الذاتي المترتب على قبح فعلهم المخادعة لإختتام الآية بقوله تعالى[وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( )، ليكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الذين يخادعون الله والذين آمنوا يخادعون أنفسهم وما يشعرون.
الصغرى : المنافقون يخادعون الله والذين آمنوا.
النتيجة : المنافقون يخادعون أنفسهم وما يشعرون.
وكأن مضمون الآية بلحاظ المرض الذي يصيب المنافقين على قسمين:
الأول : مرض القلوب , ويتجلى من جهتين:
الأولى : مخادعة المنافقين لله عز وجل.
الثانية : مخادعة المنافقين للذين آمنوا.
الثاني : زيادة مرض المنافقين، ويأتي من جهتين:
الأولى : خداع المنافقين لأنفسهم .
الثانية : عدم شعور المنافقين بان خداعهم لله والذين آمنوا أمر ممتنع، وأنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم.
ومن إعجاز الآية تعدد مادة (خدع) فيها مع التباين النسبي بينهما , إذ ورد بصيغة (يخادعون) و(يخدعون).
والنسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، ومادة الإلتقاء من جهات:
الأولى : إتحاد ماهية الفعل.
الثانية : وحدة صدور المخادعة والخداع.
الثالثة : القبح الذاتي لكل من المخادعة والخداع.
الرابعة : كل من المخادعة والخداع نوع مفاعلة.
الخامسة : تفضل الله عز وجل بفضح كل منهما.
السادسة : التوثيق الخالد في القرآن لكل من المخادعة والخداع.
السابعة : لحوق الخزي بالمنافقين بسبب المخادعة والخداع متفرقين ومجتمعين.
الثامنة : ترتب الإثم على كل من المخادعة وخداع المنافقين لأنفسهم.
أما مادة الإفتراق فهي من جهات :
الأولى : قصور المخادعة عن الأثر والتأثير، بينما يترتب الأثر على خداع المنافقين لأنفسهم.
الثانية : صدور المخادعة عن نية وقصد، بينما يكون خداع المنافقين لأنفسهم إنطباقاً وقهرياً.
الثالثة : وقوع المخادعة مع الله عز وجل والذين آمنوا، أما خداع المنافقين فمع أنفسهم.
الرابعة : تعدد أطراف المخادعة، أما الخداع في الآية فيقع مع الذات وإن كان نوع مفاعلة ، وهو على وجوه:
الأول : خداع المنافق لجماعته.
الثاني : خداع المنافق لصاحبه.
الثالث : خداع جماعة المنافقين للفرد الواحد منهم.
الرابع : خداع طائفة من المنافقين لطائفة أخرى منهم.
الخامس : الخداع بين المنافقين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي , بحيث تكون المخادعة صفة وعرضاً ملازماً للمنافقين.
ويحتمل هذا التعدد في وجوه الخداع أعلاه بلحاظ الآية التالية لها وجوهاً:
الأول : أقسام الخداع أعلاه من مصاديق قوله تعالى[فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] ( ).
الثاني : هذه الأقسام من مصاديق الزيادة في مرض المنافقين التي يرمي الله عز وجل بها المنافقين كما في قوله تعالى في الآية أعلاه[فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا].
الثالث : إرادة المعنى الأعم وأن هذه الأقسام من مرض قلوب المنافقين ومن الزيادة فيه، فيكون من المعصية ومن جزائها العاجل.
الرابع : ليس من صلة وتداخل بين المخادعة ومرض القلوب، فكل فرد منهما موضوع مستقل.
الخامس : إرادة التبعيض والجزئية من جهات :
الأولى : بعض وجوه الخداع من مرض القلوب.
الثانية : ترشح شطر من وجوه الخداع من زيادة مرض المنافقين.
الثالثة : من ضروب المخادعة ما هو خارج عن موضوع داء النفاق والزيادة فيه.
والصحيح هو الوجه الثالث لترشح الخداع عن مرض النفاق، وكذا العكس أي تعلق مرض القلوب والزيادة فيه بالمخادعة من غير أن يلزم الدور بينهما، وفيه تأكيد للإنذار بوجوب هجران النفاق والخصال القبيحة التي تتفرع عنه.
لقد جاءت هذه الآيات لسد باب الوجود على النفاق كطبيعة منهي عنها، فكما يكون الإنسان قادراً على التلبس بها، فانه قادر على الإمتناع والتنزه عنها لقدرته على طرفي النقيض وعلى إيجاد ذات الفعل أو إعدامه إلا أن يشاء الله , وهذه الآيات من رشحات وبركات المشيئة.
وفي تعريف الهيولي هو الجوهر، والصورة التي تكون في المحل، أو يكون بذاته محلاً، وكأن النفاق أمر مركب من حال ومحل، والحال هو الإزدواج والرياء وبذل الوسع للجمع بين الضدين الإيمان الظاهري والكفر في الباطن , والمحل هو القلب الذي صار مرضه برزخاً ومانعاً دون تلقي المعجزات الباهرات بالقبول والرضا والتسليم .