قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ] ([2])
والأشهر الحرم أربعة هي رجب منفرد , وشهر ذو القعدة وذو الحجة ومحرم سرد متصلة .
وجمع رجب أرجاب ورجبات .
وكان العرب أيام الجاهلية يعظمون هذا الشهر ويحرمون فيه القتال والإغارة والقتل ، وسموّه رجب لأنه يرجّب أي يعظم والأرجح أن تعظيم العرب لشهر رجب من بقايا حنيفية ابراهيم لأنهم ذوو شدة ويرغبون بالثأر على نحو القضية الشخصية والعامة ، كما لو قُتل من القبيلة أحد أبنائها ، فانهم يطلبون أي فرد من قبيلة القاتل وكذا بالنسبة للغزو وإذا حانت لهم فرصة يحرصون على عدم تضييعها , ولكنهم يتقيدون بحرمة شهر رجب فلا يثأرون .
ويدل على هذا المعنى إخبار الآية أعلاه بتقييد عدة الشهور بأنها عند الله وان أربعة حرمة عنده سبحانه مما يدل على أمور :
الأول :عدم النسخ في عدد الشهور .
الثاني : إستدامة حكم الأشهر الحرم إلى يوم القيامة .
الثالث : حرمة النسئ ، قال تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ]([3]) أي كانوا في الجاهلية يؤخرون في الحرمة من الشهر الحرام إلى شهر آخر وهو تحريف وتبديل لحكم الله أو أنهم يؤخرون السنة أحد عشر يوماً ، فيكون محرم في شهر صفر ، ويتأخر الحج كل سنتين شهراً وكان الذي يناديه بالنسئ في الموسم من بني كنانة وقال شاعرهم :
ألسنا الناسئين على مَعَدٍّ … شهور الحل نجعلُهاحَراماً ([4]).
وحج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر ذي الحجة فقام خطيباً في الناس [ في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال : أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم] ([5]).
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم منع التحريف في أفراد الزمان وحساب الشهور والأيام , وحتى يومنا , ويومكم هذا , وهل فيه دلالة بالأولوية على سلامة القرآن من التحريف , الجواب نعم .
والنسبة بين الأشهر الحرم وأشهر الحج هي العموم والخصوص من وجه فمادة الإلتقاء شهرا ذي القعدة وذي الحجة فكل واحد منهما من الأشهر الحرم ومن أشهر الحج .
أما مادة الإفتراق فهو شهر رجب ومحرم من جهة الأشهر الحرم , وشهر شوال الذي هو من أشهر الحج وليس من الأشهر الحرم ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ([6]).
الرابع : عدم وجود إستثناء أو حالة خاصة تخرج بالتخصص أو التخصيص عن الإطلاق في حرمة الأشهر الأربعة وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ويدل على هذا المعنى أن حرمة هذه الأشهر من أيام نبوة إبراهيم عليه السلام تسمية شهر رجب (رجب مضر) لأن قبيلة مضر كانت تعظمه وتبالغ في صيانته من التعدي والظلم ، ومضر الجد السابع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو مضر بن نزار بن مَعد بن عدنان ، ويرجع نسب عدنان إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام .
ومن أسماء شهر رجب :
الأول : رجب منصل الأسنَة .
(وعن مهدي بن ميمون ، قال : سمعت أبا رجاء العطاردي ، يقول : لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب لحقنا بالنار ، قال : وكنا نعبد الحجر في الجاهلية ، فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقي ذاك ونأخذه ، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ، ثم أطفنا به قال : وكنا في الجاهلية إذا دخل رجب نقول : جاء منصل الأسنة([7]) لا ندع حديدة فيها سهم ولا حديدة في رمح إلا انتزعناه فألقيناه) ([8]) .
الثاني : الحرم لحرمته من قديم الزمان .
الثالث : المقيم لثبوت وإستدامة حرمته .
الرابع : المصلى لعلو شأن شهر رجب بين الشهور .
الخامس : الشهر المفرد لأنه شهر حرام لا يتصل به شهر حرام آخر ، بخلاف الثلاثة الحرم الأخرى ، إذ أنها متصلة يتعقب أحدها الآخر ، وذات التسمية له في الإسلام .
السادس : العتيرة لأن العرب كانت تذبح فيه ذبيحة تسمى العتيرة, وتعتر أي تذبح , وتسمى أيضاً الرجبية وقد أبطلها الإسلام ، عن نبيشة ، قال : سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية فمن رجب فما تأمرنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذبحوا لله في أي شهر ما كان وبروا لله وأطعموا([9]).
السابع : المبري .
الثامن : المعشعش .
التاسع : الأصم ، لأن العرب لا يسمعون فيه قعقعة السلاح ، ووردت ذات التسمية على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص شهر ذي الحجة ([10])، وبالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا إن رجب شهر الله الاصم، وهو شهر عظيم، وإنما سمي الاصم لانه لا يقارنه شهر من الشهور حرمة وفضلا)([11]).
العاشر : الأصب لأن رحمة الله تصب فيه .
الحادي عشر : الشهر الحرام لحرمته .
الثاني عشر : رجم : لأن الشياطين ترجم فيه .
الثالث عشر : مفصل الآل ، أي الجواب عن الأعشى في ديوانه .
الرابع عشر : رجب لتعظيمه وترك القتال فيه .
الخامس عشر : رجب مضر ، وقد تقدم بيانه .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل رجب قال : أللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان .
ونقل عن إبن حجر تقسيمه الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فضائل شهر رجب إلى قسمين :
الأول : الأحاديث الضعيفة : وعددها أحد عشر حديثاً .
الثاني : الأحاديث الموضوعة وعددها واحد وعشرون حديثاً .
ومن الضعيفة : أن في الجنة نهر يقال له رجب .
ومنها رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي .
(وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق الزهري عن عروة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية من المسلمين ، وأمر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي ، فانطلقوا حتى هبطوا نخلة ، فوجدوا فيها عمرو بن الحضرمي في عبر تجارة لقريش في يوم بقي من الشهر الحرام ، فاختصم المسلمون فقال قائل منهم : هذه غرة من عدوّ وغنم رزقتموه ، ولا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا .
وقال قائل : لا نعلم اليوم إلا من الشهر الحرام ولا نرى أن تستحلوه لطمع أشفقتم عليه ، فغلب على الأمر الذين يريدون عرض الدنيا فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه وغنموا عيره .
فبلغ ذلك كفار قريش وكان ابن الحضرمي أوّل قتيل قتل بين المسلمين والمشركين ، فركب وفد كفار قريش حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
فقالوا : أتحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله عز وجل [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]([12])، إلى آخر الآية . فحدثهم الله في كتابه : إن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان ، وإن الذين يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك ، فمن صدهم عن سبيل الله حين يسخمونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفرهم بالله وصدهم للمسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه ، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين وفتنتهم إياهم عن الدَين ، فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه ، حتى أنزل الله عز وجل [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]([13]).
وأخرج عن الزهري ومقسم قالا : لقي واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي أوّل ليلة من رجب وهو يرى أنه من جمادى فقتله ، فأنزل الله { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه . . . } الآية . قال الزهري : فكان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرم القتال في الشهر الحرام ، ثم أحل بعد)([14]).
(وأخرج أحمد والباوردي وابن مردويه عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه – وكانت له صحبة – قال : كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال : يا أيها الناس ، هل تدرون في أي شهر أنتم ، وفي أي يوم أنتم ، وفي أي بلد أنتم؟ قالوا : في يوم حرام ، وشهر حرام ، وبلد حرام ، قال : فإن دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه .
ثم قال : اسمعوا مني تعيشوا ، ألا لا تتظالموا ألا لا تتظالموا ، إنه لا يحل مال امرىء إلا بطيب نفس منه ، ألا أن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة .
وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتله هذيل ، ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع ، وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض .
ألا وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض ، منها أربعة حرم ذلك الدَين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، إلا إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه في التحريش بينهم ، واتقوا الله في النساء فانهن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإن لهن عليكم حقاً ولكم عليهن حقاً أن لا يوطئن فرشكم أحداً غيركم ، ولا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه ، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وبسط يديه .
وقال : اللهمَّ قد بلغت ألا هل بلغت ، ثم قال : ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رُبَّ مبلغ أسعد من سامع) ([15]).
( وفي خبر ضعيف عن الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رجب شهر الله الاصب يصب الله فيه الرحمة على عباده، وشهر شعبان تشعب فيه الخيرات، وفي أول يوم من شهر رمضان يغل المردة من الشياطين ويغفر في كل ليلة سبعين ألفا .
فإذا كان في ليلة القدر غفر الله بمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء فيقول الله عز وجل أنظروا هؤلاء حتى يصطلحوا) ([16]).
وكان الإمام علي عليه السلام يعجبه أن يفرغ الرجل نفسه أربع ليال من السنة: أول ليلة من رجب، وليلة النحر، وليلة الفطر، وليلة النصف من شعبان)([17]) .