بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطـائي
صاحب أحسن تفســـــــــير للقرآن
وأستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق العدد: 539
__________ التاريخ: 24/7/2012
م/ جواز تولي المرأة القضاء وفق قوانين ومواد منصوصة
الحمد لله الذي جعل المسلمين حكاماً وأمراءً، ولهم دولهم وأمصارهم، وثغورهم التي يدافعون عنها، ويتولون القضاء والحكم بين الناس فيها وفي غيرها ، وهو مقام رفيع، ومن رشحات النبوة، وأغصان التنزيل وهو واجب كفائي لمن أحرز شرائطه , وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى انه لم يقض بين اثنين في تمرة قط) .
والقاضي والفقيه والحاكم والمفتي والمجتهد أسماء ومصاديق لمسمى واحد، فيسمى قاضياً لأنه يقضي في الخصومات، وفقيها لإحاطته بالأحكام كالحل والحرمة والصحة والفساد، وإستقرائها من القرآن والسنة وحاكماً لأنه يحكم بين الناس، ومفتياً لأنه يبين الأحكام والقواعد الكلية لتنطبق على مصاديقها، ومجتهداً لإستنباطه الأحكام من أدلتها التفصيلية ولكن موضوع القضاء في الدولة هذا الزمان مختلف، إذ أن القاضي مقيد بنصوص ومواد لا يحق له تجاوزها، والإفتاء بما هو خارج عنها.
وإجماع علماء الإسلام على عدم جواز تولي المرأة القضاء، وخالف أبو حنيفة بجواز توليها له في الأموال دون القصاص والحدود، ولكن هناك تباين في الموضوع، فالقضاء في هذا الزمان عمل بمواد قانونية ومسائل وضعية مبينة ولها حد أعلى وحد أدنى في الحكم والغرامة وقد تكون مادة الحكم تعيينية وليس تخييرية بما يخفف الأمر فلا يجوز للقاضي تجاوزها إنما هو أجير مختص يعمل بعقد ويعرض حكمه على من هو أعلى منه من محاكم الإستئناف والتمييز والإدعاء العام ونحوها، ويكون حكمه قابلاً للطعن والنقض.
وأستدل على عدم جواز تولى المرأة للقضاء بأدلة هي:
الأول: قوله تعالى[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ] وهو عمدة الأدلة , وإذا كانت المرأة منعت من الولاية الأسرية وهي أصغر الولايات فمن باب الأولوية منعها من القضاء والوزارة، ولكن ورد في أسباب نزول الآية أعلاه(قال مقاتل نزلت الآية في سعد بن الربيع بن عمرو، وكان من النقباء , وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير و هما من الأنصار و ذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي فقال أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي لتقتص من زوجها فانصرفت مع أبيها لتقتص منه , فقال النبي ارجعوا فهذا جبرائيل أتاني وأنزل الله هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أردنا أمرا و أراد الله أمرا و الذي أراد الله خير و رفع القصاص)، وصحيح أن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول إلا أن الآية خاصة في الحكم داخل الأسرة وتنظيم شؤونها بما يكفل الإستقرار ويبعث السكينة في المجتمعات الإسلامية ، ويخفف عن المحاكم ودوائر القضاء فلا تصل الخلافات داخل الأسرة إليها، بل تبقى ضمن أسوار عالية شيدت صرحها الآية أعلاه وآية[وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً] فتنقض آية المودة الخلاف، وتأتي عليه، ولو رفع الزوجان كل خلاف بينهما إلى المحاكم لغصت بهم، وعجزت عن خصومات كثيرة، وصار من الصعب رجوع الزوجين إلى حال المودة والوئام، ولماذا لم يستدل القائلون بعدم تولي المرأة للقضاء بإنحصار الطلاق بيد الزوج دون الزوجة ولكن ذات الزوج والطلاق عقد بقبول وإيجاب , وللمرأة الخيار التام في عقد النكاح والرضا بالزوج وعلمها بدلالة هذا العقد بالدلالة التضمنية أن الطلاق بيد الزوج ولا بد من التفكيك بين الصلة الزوجية وأحكامها، وبين عمل المرأة أو الرجل خارج المنزل، ولزوم تقيدهما بشرائطه.
وقبل بضع سنوات عقدت ندوة في الإمارات لرجال قضاء من أوربا والدول العربية فقال أحد المحاضرين الأوربيين لماذا يأمر القرآن بضرب المرأة؟ أي أنه يشير لقوله تعالى(وأضربوهن) من الآية أعلاه , قلت لبعض الحاضرين من القضاة آنذاك : هل رددتم عليه بالبيان والحجة. إذ تضمنت الآية أمرين:
الأول: علة الضرب فلا يصح الضرب إلا بخصوص التي يخاف كراهيتها لزوجها ومعاشرته.
الثاني: الترتيب، فلا يأتي الضرب إلا بعد مرتبتين وهما:
الأولى: الموعظة والنصح للزوجة والتذكير بوظائفها الشرعية.
الثانية: هجران الزوج للزوجة في الفراش وعلى نحو متكرر , وليس مرة واحدة للغة الجمع[وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ] وإن كانت بلحاظ خطاب الجماعة.
ولو حصل الضرب بعدها فيكون بالمسواك وهو عود تدلك به الأسنان مأخوذ من فروع شجر الآراك بطول الأصبع، مما على يدل على إنعدام الأذى بالضرب فيه , وفي رواية الضرب لا يكون مدمياً ولا مبرحاً، أي لا يخرج معه الدم، ولا يكون شديداً بالعصا.
لقد أراد الله عز وجل التخفيف عن المحاكم بالإصلاح الذاتي للإسرة، وتولي الرجل المسؤولية فيها، ولو نشزت القاضية عن زوجها فهل تشملها أحكام الآية أعلاه الجواب نعم، وقد يكون النشوز من الرجل قال تعالى[وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]سورة النساء 128.
الثاني: ما ورد في حديث أبي بكرة قال: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فاقاتله معهم بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى فقال لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
وقيل أن الحديث يثبت الكراهة التحريمية، على المبنى بتقسيم الكراهة إلى تحريمية وتنزيهية , ولم يثبت التحريم إلا بدليل قطعي وقد بينا في البحث الخارج لعلم الأصول أن الأحكام التكليفية خمسة وهي الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم .
ويبين الحديث معنى التولية وهي الإمامة ورئاسة الدولة وشؤون الحكم المطلق، وأما موضوعنا فهو القضاء المقيد بنصوص ومواد ليس للقاضي تجاوزها أو الخروج عنها وقد يحكم وفقها ولكن يأتيه الطعن والنقض بسبب ضعف ووهن الأدلة.
الثالث: أستدل بقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار ورجل عرف الحق فجار فهو في النار).
ووجه الإستدلال لفظ الرجل، وأنه يدل بمفهوم المخالفة على خروج المرأة من الأهلية للقضاء ولكن لفظ(الرجل) يأتي لتغليب المذكر كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( )، مع أن الصوم مفروض على الرجال والنساء بعرض واحد، ويقال القمران ويراد الشمس والقمر، والتثنية أخت العطف.
الرابع: يحتاج القضاء إلى كمال الرأي والفطنة وتمام العقل، والمرأة معرضة للنسيان، إذ جعل الله شهادة إثنتين من النساء بشهادة رجل واحد، قال تعالى[فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ]( ).
ولكن يتقوم القضاء في المحاكم الوضعية بالتدوين سواء لمواد القانون أو للدعاوى والشهادات وأصول المرافعات.
الخامس: ما يعتري المرأة من أمور النساء كالحيض والحمل والولادة، وفيه لا دليل على تأثير هذه الأمور التكوينية الجسدية على ماهية الحكم وإقتباسه من أدلته المنصوص عليها في القانون، بالإضافة إلى الإطلاق بأن القاضي لا يحكم إذا كان في مزاج غير ملائم.
السادس: غلبة العاطفة على المرأة , ولكنها مقيدة بقوانين ومواد ليس لها أن تتجاوزها، وطول مزاولة المرأة للمحاماة والقضاء ينمي عندها ملكة التقيد بالضوابط القانونية من دون أثر زائد للعاطفة وقد تكون هذه العاطفة أمراً حسناً في ظل أحكام وضعية تبتعد عن الحكم الشرعي.
وفي الوقت الذي نقول بعدم جواز تولي المرأة للقضاء الذي عليه الإجماع الذي تستنبط فيه الفتوى والحكم فيه من الأدلة التفصيلية ,فأنه يجوز أن تتولى المرأة القضاء في المحاكم التي تعمل بالقوانين الوضعية ونصوص العقوبات الثابتة تلك التي تخضع وفق نظامها للنقض والإبرام ولغة الجدل والبرهان التي يقوم بها المحامون( ) وإذا تبدل الموضوع تغير الحكم فهذه المحاكم والقوانين لا تكون فيها يد القاضي مطلقة بل هي مقيدة قبل إصدار الحكم بالأنظمة والقوانين، وبعد الحكم بالإستئناف، وإمكان العرض على مواد وقوة القانون.
وقد يقال بكراهة تولي المرأة للقضاء لوجوه:
الأول: وظيفة القاضي في المحاكم الوضعية كفائية، والمؤهلون من الرجال للقضاء كثيرون.
الثاني: الجواز أعم من الوقوع.
الثالث: الأفضل للمرأة إجتناب منازل وأسباب الفتنة والإفتتان.
الرابع: عدم الخروج عن الإجماع.
وصدر هذه الأيام الجزء الثالث والتسعون من تفسيري للقرآن , وهو القسم الثالث في تفسير آية[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، في إشارة لموضوعية الإستغفار والندم في تخفيف الحكم في قانون العقوبات وأروقة المحاكم، نرجو إجراء دراسة مقارنة في هذا الباب بين الحكم الشرعي والوضعي، وأثر الندم والإعتذار في حيثيات وماهية الحكم في القوانين الأوربية وغيرها أيضاً, وجاء قوله تعالى[ خذ العفو أمر ]( )، لبعث الحكام والقضاة على الرأفة في الأحكام ومحو العقوبات , وعدم توجيه اللوم للقاضي إن تسامح في ماهية ومقدار العقوبة , والمراد من العرف أي الأمر المعروف.
وينبغي أن تكون موضوعية للقيادة السياسية بالتخفيف في قوانين العقوبات بما يتناسب والتغييرات في سنخية وحال وتأثير الشعوب وزمان العولمة، وحاجة تلك القيادات وبقائها في دفة الحكم لإجتناب التشديد والغلظة في الأحكام, فلا أحد يتوقع سقوط سريع لنظام حكم شمولي بسبب صفعة شرطية لبائع متجول بمدينة تبعد عن العاصمة التونسية 265 كيلو متراً، ولا هجوم المتظاهرين على السجون وخروج آلاف السجناء حال إستقالة رئيس الدولة ليس تحت قوة القانون، بل تحت إرادة وقهر الشعب ووطأة الجور كما في مصر.
وينبغي في زمن العولمة إعادة قراءة أحكام العقوبات والأمر بالحجز والسجن , وإجراء تغييرات فيها بلحاظ تبدل الأحوال، وإذا تغير الموضوع تبدل الحكم، وندعو للإقتباس من القوانين الأوربية والأمريكية في التخفيف في هذا الباب، وإدراك حقيقة وهي إتصاف الشريعة الإسلامية بالسماحة والشواهد كثيرة وأُتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسارق سرق شملة قال: أسرقت؟ ما أخالك سرقت؟ قال: نعم قال: إذهبوا به فاقطعوه. ثم اتوني به، ففعل فقال: ويحك تُب إلى اللّه، فقال: اللّهم تُب عليه)الكشف والبيان5/82، وقصة ماعز مشهورة إذ أخبر النبي بأنه فعل فاحشة (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان معه: أبصاحبكم مس؟ قال ابن عباس: فنظرت إلى القوم لأشير عليهم فلم يلتفت إلي منهم أحد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك قبلتها قال: لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمسستها قال: لا، قال: ففعلت بها ولم تكن؟ …..الحديت)المستدرك على الصحيحين18/451، وسيتجلى للمشرعين مناسبة الحكم الشرعي قرآناً وسنة لأحوال المجتمعات وصلاحها، قال تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى].
حرر في النجف الأشرف صالح الطائي
5/ رمضان1433هـــ