بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
م/ فتوى العصر
جواز ركوب السيارة والطائرة والقطار حال الإحرام
لقد جعل الله عز وجل الحج فريضة عبادية، وسياحة ملكوتية في أشرف بقاع الأرض، وما عليه النصوص والإجماع أن التظليل من تروك الإحرام، وجرت العادة في هذا الزمان أن تنتقل قوافل المؤمنين عند الإحرام للركوب في أحواض سيارات مكشوفة بطيئة وقديمة في الجملة، وسيارات حمل البضائع حرصاً على الإمتثال الأحسن، ولكن الشريعة سمحاء وتتضمن أدلة التخفيف المطلقة والخاصة في الحج ,وقاعدة نفي الحرج سيالة وحاكمة من باب الطهارة إلى الديات.
ونسبت حرمة تظليل المحرم سائراً إلى المشهور, كما قال في المدارك وجامع المدارك والحدائق، وفيه عن الصدوق: لا بأس بالتظليل ويتصدق عن كل يوم بمد.
وفي المنتهى جعل إبن الجنيد(297–385 هجرية) ترك التظليل مستحباً، وليس واجباً، كما قال باستحباب الفدية، والمختار عندنا هو الحرمة وفيه نصوص كثيرة وإن ظهرت بعض الأخبار بالكراهة و عدم البأس، منها صحيحة الحلبي قال: “سألت ابا عبد الله عليه السلام عن المحرم يركب في القبة؟ قال: ما يعجبني ذلك إلا أن يكون مريضاً”.
ولا تدخل السيارة والطائرة في الحرمة لوجوه:
الأول: القدر المتيقن من النصوص وفتاوى الفقهاء المتقدمين والمتأخرين هو المحمل والهودج والقبة والعمارية المظللة على البعير كمثال للمصداق ومتعلق الأمر والنهي.
الثاني: الإختيار وقصد التظليل قيد في نشر الحرمة، بدليل أن المشي تحت الظلال والأشجار جائز، فليس بمقدور الإنسان رفع سقف الطائرة والسيارة التي جاء بها من الآفاق والبلدان البعيدة، والتكليف بما لا يطاق قبيح، وأحكام الشريعة الإسلامية منزهة وخالية مما لا يطاق وما فيه مشقة وعسر.
الثالث: حكومة قاعدة نفي الحرج، ولا ضرر ولا ضرار في المقام، ولابد أن الإحتراز والتوقي موافق للأوامر والنواهي كما هو ظاهر الأدلة خصوصاً مع القول بان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.
الرابع: أدلة نفي التشديد على النفس، بالإضافة إلى فلسفة الوسط في الإسلام.
الخامس: أولوية وحدة المسلمين وتوكيد الأئمة المعصومين عليها في خصوص الحج.
السادس: إطلاقات أحكام التقية المداراتية، ومن وجوه الحكمة فيها رفع الإختلاف، ودفع المنافرة، وتحصيل الإئتلاف. السابع: لزوم دفع الأذى المحتمل المتحد والمتعدد , والشخصي والنوعي.
الثامن: صيانة المؤمنين ومنع الغيبة والإساءة لهم، والإحتراز من الجدال.
التاسع: التباين الموضوعي بين المحمل والدابة وبين السيارات والطائرات، وتعدد العنوان موجب لتعدد المعنون.
العاشر: إذا أنعم الله نعمة على أهل الأرض، فالمؤمن أولى بها، والطائرات والسيارات المكيفة من نعم الله عز وجل على الإنسان في هذا الزمان، ولم يثبت خروج موضوع الإحرام من إستخدامها.
الحادي عشر: لقد أصبحت أبدان الناس في هذا الزمان معتادة على التبريد والتدفئة، وتكون أكثر عرضة للأمراض حين الإنكشاف بسيارات مكشوفة ساعات عديدة، وقاعدة نفي الحرج بخلافه بالإضافة إلى النصوص في المنع من تعريض النفس للأذى، ومن الأدلة والبينة في المقام ما ورد في الصحيح عن سعد بن سعد الأشعري عن الرضا عليه السلام سألته عن المحرم: يظلل على نفسه، فقال: من علة؟ فقلت: يؤذيه حر الشمس وهو محرم، فقال: (هي علة يظلل ويفدي)، فمجرد الأذى من الشمس إعتبره الإمام عليه السلام سبباً كافياً للتظليل، وليس من أحد في هذا الزمان إلا ويؤذيه حر الشمس وشدة البرد إلا النادر، والحكم لا يكون على القليل النادر.
الثاني عشر: الحاجة إلى السلامة من الأمراض للإنقطاع إلى الدعاء والعبادة وأداء المناسك، ألا ترى مجيء النهي عن صيام يوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء.
الثالث عشر: وردت الرخصة بجواز التظليل للمريض، والمرض أعم من التلبس به، فمن مصاديقه وجود الظن المعتبر للإصابة والتعرض للأخطار بالسيارات القديمة المكشوفة في هذا الزمان، خصوصاً مع إحتمال سرعة إنتشار الأمراض والأوبئة في موسم الحج وإن كانت تدرء بفضل وعناية الله تعالى بوفد الحاج.
الرابع عشر: قد إقترحنا في البيان رقم 12 الصادر في 4 شوال 1424هـ إنشاء سكةحديد عالمية تربط عواصم العالم كلها بمكة المكرمة والمدينة المنورة، وسيأتي يوم ينتفع المسلمون والعالم بأسره من هذا المشروع الحيوي لما فيه من المنافع العقائدية والأخلاقية والإجتماعية والإقتصادية، وظهورِ وإزدهار مدن عديدة تقع على طريقه، وترغيبٍ بالحج والعمرة، ولابد أن يكون الإحرام داخل القطار، والأدلة منصرفة عن المركبات الكبيرة الحديثة التي تشهد تطوراً متصلاً أمساً واليوم وغداً.
الخامس عشر: في باب الطهارة والنجاسة قالوا إن الماء المضاف إذا كان كثيراً ولاقى قطرة من النجاسة فانه ينجس وأطلقوا الحكم أي أنه يشمل ناقلة النفط ونحوها، وقد بيّنا في الجزء الأول من رسالتنا العملية “الحجة” ورسالتنا (حجة النساء) وهي أول رسالة عملية للمرأة أن القدر المتيقن هو الحوض والخابية والآنية الصغيرة، وكذلك بالنسبة لراحلة الحاج فقد كانت فردية كالبعير والناقة، ويمكن التصرف بها إختياراً، أما في هذا الزمان فواسطة السفر جماعية عامة مصنوعة من الحديد.
السادس عشر: هناك قاعدة كلية أصولية وهي إذا تغير الموضوع تبدل الحكم لأن الحكم تابع للموضوع، والمرتكز في أذهان المتشرعة في الأزمان السالفة هو الهودج والمحمل والقبة وهي البناء من الشعر على الهودج، فالأدلة منصرفة عن السيارات والطائرات موضوعاً وحكماً، وهذا الدليل حجة شرعية وعقلية.
السابع عشر: من حج ماشياً أو راكباً على دابة فان التظليل محرم عليه لقوله عليه السلام: (إحرام الرجل في رأسه)، وكفارته دم شاة إلا أن يكون مريضاً، ويكفي في السيارة والطائرة كشف الرأس أثناء الإحرام وعدم وجود الظل الإختياري.
الثامن عشر: الحج عيد عبادي تطلع شعوب العالم كافة على معظم مناسكه في زمن العولمة بواسطة الفضائيات ونحوها، ومن الأولى أن يظهر المؤمنون بأبهى صورة تبعث الشوق في نفوس الآخرين للحج والعلوم العقائدية، فمثلاً مع حرمة لبس الحرير يجوز لبسه في الحرب وساحة المعركة كي يبدو المسلمون أغنياء وفي مندوحة وسعة ولدعوة الكافرين لدخول الاسلام، وكذا بالنسبة لوسائط النقل في الإحرام، خصوصاً وأن الركوب بأحواض سيارات الحمل وعلى سطح السيارة لم يثبت دليله ولا يخلو من الأخطار.
التاسع عشر: ما ذكرناه أعلاه بفضل ورأفة الله تعالى أدلة شرعية، وفيه تيسير ضمن أحكام الشريعة، وسيتلقى أولوا المعرفة هذه الفتوى بالقبول الحسن لما فيها من تخفيف عن المؤمنين وإزاحة للعناء الذي يلاقونه كل عام ولزوم دفع العسر والمشقة، وسينتفع منها الملايين من الحجاج والمعتمرين، وتكون سبباً لمنع عزوف الكثيرين عن الحج المستحب وتكرار العمرة بسبب المشقة في واسطة الإحرام والموانع المصاحبة لها ذاتاً وتقييداُ، وفي هذه الفتوى عزُّ للمؤمنين والمؤمنات، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] سورة المنافقون 8.
اللهم تفضل علينا باللطف والإحسان في هذه المسألة الإبتلائية، وإهدنا للتي هي أقوم في هذا العام وكل عام، إنك أنت اللطيف الخبير.
15ذو القعدة 1425هـ صالح الطائي
__________________________________________________________________________
صدر(90) جزء من معالم الإيمان في تفسير القرآن وكلها في سورة البقرة وشطر من سورة آل عمران، من أكثر من ثلاثة ملايين جزء في أكبر ثورة علمية في التأريخ، على العلماء في الأجيال اللاحقة إتمامه ونصدر كل شهر جزء على نفقتنا الخاصة مع أنه من أفضل موارد الخمس والزكاة، كما تعرض معه كتبنا الفقهية والعقائدية والأصولية في مكتبنا المركزي.