قانون خزائن مصر ورد هذا القانون في الجزء السبعين من تفسيرنا للقرآن والذي يقع في 410 صفحة وكله في تفسير الآية(127) من سورة آل عمران.
قانون”خزائن مصر’’
لقد سأل إبراهيم عليه السلام الثمرات لأهل البلد الحرام بقوله تعالى[وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( )، لتكون نعمة مصاحبة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأداء المسلمين للفرائض،وليأتي من بعده يوسف عليه السلام فيطلب من ملك مصر وزارة الأرض كما ورد حكاية عنه في التنزيل[اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ]( )بعد محنة السجن.
وذكر الخزائن بصيغة الجمع والتنكير والإطلاق إشارة إلى عدم إنحصار وظائف وزارته بالزراعات، خصوصاً وأنها كانت سني قحط مع قلة الأمطار والمياه , قال تعالى[ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ] ( ).
وكان إدخار يوسف عليه السلام للبر والطعام في سني الخصب والرخاء وسيلة ومقدمة لبيعه على الناس الذين جاءوا بأموالهم وذخائرهم للحصول على رغيف العيش، وربما إجتهدوا في إستخراج بعض الكنوز والمعادن من أرض مصر ، وأن يوسف وجّه عماله لهذا الغرض.
ومن إعجاز القرآن وجود المصاديق الخارجية لمضامين الآية القرآنية على وجوه:
الأول: ماهو خاص بزمان الواقعة , وإن تقدم على أيام التنزيل بأحقاب لتكون مناسبة لتفقه المسلمين في الدين وإرتقائهم في المعارف الإلهية، وآية للناس في كشف القرآن لعلوم الغيب وقصص الأمم السالفة بلغة خالية من التحريف والتشويه , قال تعالى في قصة نوح، ونجاته ومن معه من الطوفان [تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ] ( ).
الثاني: المصاديق التي تتجلى أيام التنزيل، وتكون شواهد على صدق مضامين الآية، وحجة وبرهاناً على صدق نزول القرآن خصوصاً وأن الناس جميعاً المسلمين وغيرهم يشتركون باستحضار هذه المصاديق في الوجود الذهني عند تلاوة الآية أو الإستماع لها، أو سماعها عرضاً من غير قصد.
الثالث: ما يتجدد من المصاديق في الأحقاب اللاحقة لنزول القرآن والتي تؤكد إعجازه , وتبعث الشوق في النفوس لإستقراء ما فيه من الدرر, والإتعاظ مما فيه من الدروس والعبر، والإنتفاع الأمثل مما ينبأ عنه، فليس من حصر لزمان مواضيع الآية القرآنية بل تتغشى أفراد الزمان الطولية بأقسامها الماضي والحاضر والمستقبل.
وجاءت الآية أعلاه بخصوص كنوز مصر من الشواهد على هذا الإطلاق الزماني، وفي قوله تعالى [وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( )، ورد (عن إبن عباس رضي الله عنه : كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت( ).
وفي قوله تعالى [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ]( )، إخبار وبشارة عن وجود خزائن وكنوز في أرض مصر، وهو من اللطف الإلهي، وبيان فضل الله على أهل مصر في الإسلام , ودعوة للإجتهاد والتنقيب على الكنوز والمعادن فيها , وفي صبغة القرآنية ومناسبة المقام لهذه البشارة إشارة إلى إنتفاع أهل مصر والمسلمين عموماً من هذه الكنوز والمعادن والخيرات , وفيه دعوة لبذل الوسع وفق الأسباب وأدوات العلم لإكتشاف وإستخراج تلك الكنوز, ولا دليل على نفاد تلك الكنوز أيام يوسف عليه السلام وما بعدها .
وإذا كان النفط هو الكنز الغالب في هذا الزمان فإن الآية تشمل هذا الزمان وأفراد الزمان الطولية اللاحقة فيما يخص المصاديق المتعددة والمستحدثة لكنوز الأرض وحاجة الناس لها وفق الإرتقاء العلمي والتقني ومنها خزائن مصر، بتقؤيب أن مضامين الآية القرآنية حية وباقية إلى يوم القيامة ( والخزانة: إسم الموضع الذي يخزن فيه الشئ)( ).
وفيه دعوة للناس للتقيد بأحكام الإسلام، وسنن الإيمان مقرونة بالأمل والرجاء والحث على الدعاء لتقريب البعيد، ولكن شطراً من الناس إختاروا الضلالة والجحود، وغرتهم الحياة الدنيا وزينتها، وصاروا أعداء للأنبياء , قال تعالى[فَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ] ( ).
فتأتي ذخائر الأرض الإسلامية ترغيباً لهم بالإسلام
وبلاد مصر أكثر المدن والبلدان التي ذكرت في القرآن , وهذا شرف عظيم إختص الله به مصر وأهلها , ويلقي وظائف عقائدية عليهم ويشير إليها, ويدل في مفهومه على الثناء عليهم , وأنهم أهل لهذا الإكرام , فلا غرابة أن يخصهم الله بخزائن مدخرة في الأرض والبشارة بها , وصحيح أن ذكر مدين جاء عشر مرات في القرآن، إلا أن ذكر مصر جاء فيه أكثر عدداً، وأعظم دلالة، من وجوه:
الأول: جاء ذكر مدين بلحاظ المتعلق وليس ذات البلدة [أَهْلِ مَدْيَنَ]( )،[ أَصْحَابِ مَدْيَنَ] ( )،[مَاءَ مَدْيَنَ]( )،.
الثاني: لم يبق لمدين من عمارة وأثر حضاري , ومصر عامرة بأهلها في كل زمان , وملكة عشقهم المتوارث للإيمان أمر معروف ومحمود , وهو نوع تكريم إضافي لهم .
الثالث: إرادة أهل مدين في الآيات بلغة الإنذار كما في قوله تعالى [وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا]( ).
بينما جاء ذكر مصر في القرآن على وجوه:
الأول: إرادة بلدة مصر على نحو التعيين وذكر إسمها خمس مرات في القرآن ، قال تعالى في يوسف وأبويه وإخوته [ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ].
وقد ذكرت في كتابي الموسوم تفسير سورة يوسف والمطبوع قبل عشرين سنة أن هذه الآية بشارة فتح المسلمين لمصر من غير قتال وهو آية إعجازية تدل على وجود بشارات في القرآن تدرك بالتفسير والتأويل، خصوصاً وان الله عز وجل فضّل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء، وجعل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الثاني: ورود مصر في القرآن بلفظ (المدينة) خمس مرات , قال تعالى في صويحبات يوسف [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ].
الثالث: ذكرت مصر في القرآن بلفظ (المدائن) ثلاث مرات، وكلها خاصة ببلدة مصر والمدن المحيطة به والتابعة لها , قال تعالى [فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ].
الرابع: كثرة القصص والمواضيع التي تخص بلاد وأهل مصر في القرآن فقد ذكر فرعون مثلاً أربعاً وسبعين مرة في القرآن , وجاء شطر من قصص بني إسرائيل في مصر لتكون وراثة المسلمين لأرض مصر نصراً عظيماً ، وآية في تثبيت أحكام التوحيد في ربوع الأرض إلى يوم القيامة، لما تشع من أرض مصر من أسباب الهداية والصلاح، وتعاهد أهلها للفرائض وسنن الشريعة الإسلامية، فلا غرابة أن تكون بإنتظارهم كنوز عظيمة في الأرض، تجعل لمصر وأهلها بين الناس ذات المنزلة المستقرأة من آيات القرآن , موضوعاً ومدداً.
ولا دليل على ما ذكر في علم الأصول أن التحديد بالعدد لا مفهوم له , إلا أن يراد المفهوم الجهتي وعدم دلالة العدد الخاص على إنتفاء الحكم عن غيره, خصوصاً في معاني اللفظ القرآني , وأن كل لفظ مبارك فيه له دلالات وإشارات إعجازية عديدة , وجاءت البشارة عما في مصر من الذخائر والكنوز إشارة إلى الرزق الكريم للمسلمين.
نعم وقع الخلاف في معنى فرد واحد من لفظ (مصر) الوارد في القرآن وهو قوله تعالى [اهْبِطُوا مِصْراً]، تقدم ذكره.
ولفظ المدينة من الموضوعات العرفية والأمور الخارجية، ويراد منه الموضع الذي تقيم فيه جماعة كثيرة من الناس، ويصلح لتبليغ الأحكام ونشر الدعوة وقيام الحجة، وكذا القرية ولكنها أقل عمارة بالإضافة إلى التباين في مهن السكان، ومزاولة أكثر سكان القرية الزراعة، إذ أنها ضيعة، سميت بالقرية لأن الماء يقرئ فيها أي يجمع، بينما جاء لفظ المدينة من الإقامة، يقال مَدَن بالمكان أي أقام به، وهي فعيلة، وتجمع على مدائن ومَدن، ومُدُن، وقيل أنها مفعلة من دنتُ أي ملكت.
وقد جاء ذكر مكة المكرمة في القرآن بلفظ القرية , قال تعالى[وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] ، والمراد من القريتين مكة والطائف، كما ذكرت مكة بأنها أم القرى، وذكرت يثرب بلفظ المدينة، فمع تكرار ذكرها في القرآن لم ترد بلفظ القرية، كما أن تسمية مكة بالقرية إنما جاء في القرآن حكاية عن الكفار الذين أنكروا نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أوسطهم، ليكون شاهداً على أن الكفار كانوا يستخفون بمكة وما لها من المنزلة العظيمة، وأن الإسلام أظهر الوجه المشرق لمكة وعظيم شأنها ومنزلتها بين مدن وأمصار الأرض، وهو نعمة أخرى على المسلمين والناس جميعاً.
ومن الإعجاز في القرآن بلحاظ الأمكنة والبلدان مجيء لغة الإنذار والعقاب والهلاك بلفظ القرية، وفيه إشارة إلى نزول الرحمة والعفو مع كثرة الناس في المدينة والحضر، ووجود جماعة وأمة في المدينة تذكر الله عز وجل، ولا تنقاد لمفاهيم الضلالة، وبلحاظ السعة والكثرة وتعدد الأنساب والمذاهب قد يوجد في المدينة المؤمن الذي يستحق الرحمة , وينكر على الكفار سوء فعلهم ويستهجن إقامتهم على المعاصي , ويدرك أن الله بديع السماوات والأرض فيكون سبباً لدفع البلاء والإنتقام العاجل عن الناس.
ومدين مدينة تقع في طريق القدس(وقال الزمخشري: مدين بلدة معروفة)، وتحتمل المعرفة هنا وجوهاً:
الأول: تكرار إسمها في القرآن , وحضور المعنى المخصوص في الوجود الذهني.
الثاني: كانت موجودة آنذاك، وتوفي الزمخشري سنة 538.
الثالث: إرادة المعنى الأعم، والشامل للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث ليبقى ذكر مصر في القرآن مدداً لأهلها في الإعتزاز بها، ولزوم تعاهد الإيمان في ربوعها, وتطلعهم إلى تلك الكنوز المتجددة , ولزوم إجتهادهم وبذل الوسع لتحصيلها .
ومن الآيات أن لفظ (خزائن) ورد في القرآن ثمان مرات، كلها تتعلق بخزائن الله ورحمته، إلا الآية أعلاه من سورة يوسف فانها جاءت بخصوص خزائن مصر مما يدل على أنها من خزائن الله، والله له ملك السماوات والأرض , وقد إختص الله عز وجل مصر وأهلها بأفراد مباركة منها، وإدخرها للمؤمنين لتكون مأوى للمترين والتجار وأهل الحاجة، كما كانت في أيام وزارة يوسف عليه السلام، وموضوعاً للسعة والمندوحة عند المسلمين , قال تعالى [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ].
وهل خزائن مصر من كبت الكفار , الجواب نعم وإن تحقق بعد حين، وهو من أسرار مجئ قوله تعالى [أَوْ يَكْبِتَهُمْ] بصيغة الفعل المضارع، ولإرادة المعنى الأعم من الآية والعموم الأزماني ، وما يقع في تعاقب الجديدان من الحوادث والوقائع تكون فيها تلك الخزائن سلاحاً وعوناً للمسلمين وواقية من إضرار الكفار بأمصار المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ].
وهذا القانون رشحة من موضوع الآية , وإن تأخرت مضامينه عن زمان النزول , ودعوة للتأمل والتدبر في بشارات القرآن , وكيف أنها تجعل كبت وذل الكفار الوارد في هذه الآية متجدداً , والآية القرآنية حية بمصاديقها التوليدية , تحث على إستقراء مصاديقها المستحدثة لتكون ضياء وسراً مكنوناً من كنوز القرآن وذخائر بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وتفضيل المسلمين بما في أرضهم وأمصارهم من الخزائن .