المقدمــــــة
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه الكريم ، وسلطانه العظيم ، الحمد لله على فضله المتصل والمتجدد وعلى سعة رحمته .
الحمد لله عدد ما خلق في السموات والأرض ، والحمد لله إذ جعل ملك السموات والأرض كله له وحده لا يشاركون فيه أحد ، ليكون مرآة التوحيد والعبودية المطلقة له سبحانه .
الحمد لله الذي خلق الخلائق وتغشاها برحمته ، قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( ) ، ولم يرد لفظ (وسعت) في القرآن إلا مرتين .
الحمد لله على سعة الرزق ، وتعدد مقدماته وطرقه وكيف أن أكثره يأتي من حيث لا نحتسب ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .
الحمد لله الذي يصرف البلاء الذي يأتي على ذات الرزق والصحة ليبقة الرزق والصحة والأمن وسائط لعبادة الله عزو جل ، والإنقطاع إليه تعالى ، وهو من حب الله عز وجل للعباد ، وتقريبهم إلى منازل الطاعة وإقامة الحجة عليهم ، فيجب مقابلته بالشكر .
ومن الشكر التقوى والإحسان إلى العباد ، والرأفة بهم والتنزه عن آفة الإرهاب والتي تجلب الضرر لأصحابها وعامة الناس ، قال تعالى [وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
والعمل الإرهابي ومقدماته والإعانة عليه تهلكة وضد للإحسان الذي تذكره الآية أعلاه .
وجاء هذا الجزء وهو السادس والأربعون بعد المائتين من تفسيري للقرآن خاصاً بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) وهو الجزء السادس عشر بهذا العنوان .
الحمد لله الذي جعلني أكتب هذه المقدمة قبل أيام من شهر رمضان سنة 1444 ولم يذكر اسم شهر في القرآن إلا شهر رمضان ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ…]( )، وتحتمل الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : الهدى للناس بشهر رمضان والقرآن .
الثاني : البينات هي القرآن .
الثالث : الهدى نصوص القرآن ، وكذا البينات .
الرابع : قانون تجلي الهدى والبينات بالقرآن وشهر رمضان والأصل هو آيات القرآن.
والمختار هو الأخير ، فمن المسلمات أن القرآن هو هدى ورشاد للناس وهو من إعجازه وصدق نزوله إلا أن شهر رمضان أيضاً هدى بذاته ووجوب الصيام فيه ، وامتثال المسلمين لفريضة الصيام .
وكم من إنسان تاب واهتدى في شهر رمضان ومظاهر التقوى التي تصاحبه وشهر رمضان ربيع القرآن ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ]( ).
لذا ذكر الله التقوى ورجاء بلوغ مراتبها في آية الصوم بقوله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) ومن معاني التقوى في المقام وجوه :
الأول : إتقان الصيام وآدابه .
الثاني : إكمال عدة الصيام ، قال تعالى [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) .
الثالث : ضبط أوان شهر رمضان ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
الرابع : تعاهد نظام الأشهر القمرية من غير نسيئة أو نقصان ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفظ أنظمة أفراد الزمان الطولية ، وجعل موضوعية لهلال وضبط أوان الحج كل سنة من غير تقديم أو تأخير ، قال تعالى [ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
الخامس : تعاهد الأشهر الحرم والإمتناع عن القتال فيها ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
السادس : لعلكم تتقون الله باداء الفرائض العبادية الأخرى بأوقاتها .
السابع : لعلكم تتقون وتخشون الله بالغيب .
الثامن : لعلكم تتقون المعاصي والسيئات لأن الصيام يقهر النفس الشهوية ، ويمنع الجوارح من العنف والإرهاب.
و(عن ابن مسعود قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ( ).
ترى ما هي النسبة بين الشهوة والإرهاب ، الجواب هو العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء كراهية كل منهما ومنافاته للعقل .
التاسع : لعلكم تتقون الأخلاق الرذيلة .
العاشر : لعلكم تتقون الله وتجتنبون الأفعال القبيحة ، ومنها الإرهاب .
الحادي عشر : لعلكم تتقون الحساب يوم تطاير الصحف ، وعن عائشة أنها قالت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فَهَلْ تَذكُرُونَ أَهْلِيَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : أَمَّا في ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ ، فَلاَ يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَداً ، عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَم : أَيِخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ ، وَعِنْدَ الكِتَابِ حَتَّى يَقُولَ {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَه}( ) ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يُعْطَى كِتَابَهُ : أفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شَمَالِهِ ، أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ ، إذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَي جَهَنَّمَ) ( ).
الثاني عشر :لعلكم تتقون فتفوزون بالبشارة في الدنيا والآخرة .
وفي قوله تعالى ({ وأبشروا بالجنة }( ) الآية . قيل إن بشرى المؤمن في ثلاثة مواطن : أحدها عند الموت ، ثم في القبر ، ثم بعد البعث) ( ).
الثالث عشر : لعلكم تتقون بالإمتثال في صيام شهر رمضان كل عام ، فمن إعجاز القرآن تساوي أجيال المسلمين في تلقي الأوامر والنواهي القرآنية وتعاهدهم لها .
ويدعو شهر رمضان وفريضة الصيام المسلمين إلى الإمتناع عن الإرهاب والظلم في كل أيام السنة لذا جاء ذكر التقوى بصيغة الإطلاق في خاتمة آية الصيام [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
لقد أصبحت مسألة الإرهاب فتنة عالمية وعقائدية ومحاولة إلصاقها بالإسلام وهو برئ منها ، وتأتي هذه الأجزاء لبيان أن كل آية من آيات القرآن تنهى عن الإرهاب من الجهات الآتية .
الأولى : منطوق الآية .
الثانية : مفهوم الموافقة للآية .
الثالثة : مفهوم المخالفة للآية .
الرابعة : الجمع بين مضامين الآية القرآنية ، لذا خصصت فصلاً في تفسير كل آية بعنوان (الصلة بين أول وآخر الآية).
الخامسة : تجلي حرمة الإرهاب بالجمع بين كل آيتين أو أكثر من القرآن ، وقد صدرت عدة أجزاء من هذا التفسير بالصلة بين آيتين ، أو شطر من الآيتين [ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
لقد ذكر قوله تعالى [ اتَّقُوا اللَّهَ]، خمساً وخمسين مرة في القرآن في مدرسة عقائدية لتثبيت عبادة الله في الأرض بالماهية والكيفية والضوابط التي يريدها الله عز وجل .
فمن تقدير قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] ( )، أي لتكون عبادتهم بما يأمر به الله عز وجل ، وليس لهم فيه الخيار ، لذا جاء كل رسول بشريعة مستقلة ، وفي التنزيل [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( )وليس في شريعة الإسلام الإرهاب ، وبث الرعب في قلوب وعوائل ومجتمعات الآمنين .
الحمد لله على رزقه للعباد ، هذا الرزق الذي لا يحصيه كماً وكيفاً ومدداً في كل ساعة غير الله سبحانه فكيف بالنسبة لإحصاء مجموع أرزاق الخلائق فلا يعلمها إلا الله سبحانه .
والنسبة بين نعم الله وبين رزقه عموم وخصوص مطلق ، فالنعم الإلهية أعم وأعظم وأكبر ، وتجلب النعم الرزق وكذا العكس من غير أن يلزم الدور بينهما للتباين الجهتي ، والسعة والكثرة في مصاديق كل من النعم ، ووفرة أفراد الرزق الإلهي .
لذا صدر الجزء السابق من هذا السِفر المبارك وهو الخامس والأربعون بعد المائتين بعنوان (علم الإحصاء القرآني غير متناهِ).
الحمد لله على فيض عطائه علينا وعلى الناس جميعاً ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا] ( ).
الحمد لله الذي يعطي بعد سؤاله ، وبلا سؤال ، والحسن يظهر حسنه الضد .
لقد ابتدأت كتابة هذا التفسير قبل سبع وثلاثين سنة بلطف من عند الله عز وجل ، واتبعت المنهج المتعارف في تفسير الآية القرآنية ، وبفضل من الله عز وجل استحدثت أبواباً متعددة في تفسير كل آية محل البحث ، مع منهجية علمية مستحدثة .
وصدر لي كتاب تفسير سورة يوسف المسجل بدار الكتب والوثائق في بغداد برقم 272 لسنة 1991 بعد أن رفضت وزارة الإعلام من قبل إجازته.
الحمد لله الذي جعل لكل شئ أمداً [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا] ( )،
وبلطف ومدد من عند الله عز وجل أقوم بمفردي بتأليف ومراجعة وتصحيح كل جزء من أجزاء (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) وكذا كتبي الفقهية والأصولية ، مع تدريس البحث الخارج على فضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف منذ أربع وعشرين سنة والحمد لله ، وأكتب في هذه الأيام إضافات لبعض أجزاء تفسير سورة البقرة ، فمنها ما كتبته قبل ثلاثين أو عشرين سنة ، مما يستلزم إضافات مباركة شكراً لله عز وجل على نعمة طول العمر والمندوحة في الوقت وكثرة أجزاء التفسير وأساله المزيد ، وفي التنزيل [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل في القرآن غنى عن الإرهاب ، كما أن القرآن نهى عنه ، وبيّن حرمته ، وحرمة التعدي مطلقاً ، وجعل الله عز وجل تلاوة القرآن مادة للإحتجاج على المشركين الذين يعبدون الأوثان ، قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ] ( ) .
ولم تكتف الآية باسماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين القرآن بل أمره أن يبلغ المشرك إلى الأرض والمحل الذي فيه أمانه لجهالة المشركين ، وليكون استماعه للقرآن مناسبة لهدايته ، والتخلص من الجهالة ، ليدل بالأولوية القطعية على حرمة الإرهاب والإضرار بالناس مطلقاً .
وهل من موضوعية لتلاوة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه القرآن على المسلم والكتابي والكافر أم أن تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره بعرض واحد من الأثر والتأثير والنفع.
الجواب هو الأول ، وهو من بركات وفيوضات النبوة .
وهل يمكن القول أن تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن وأثرها من مختصاته ، الجواب لا ، وإن كان هو صاحب الكمالات الإنسانية الذي [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
أن تلاوة كل مسلم القرآن في الجدال والإحتجاج حرز من الإرهاب ومانع منه ، وحجة على المسلم وغيره بكفاية هذه التلاوة في إصلاح النفوس والهداية إلى الإيمان .
الحمد لله بعدد نسمات الريح ، وعدد أوراق الشجر وحركتها .
الحمد لله سبحانه عني وعن والدي وأولادي وذريتي ذكوراً وإناثاً في الأجيال ، وأسال الله لهم الهداية والرشاد والفلاح ، وأن يرزقهم سلاح كثرة الإستغفار ، وأن يهب لهم من فضله أضعاف ما كتب لهم من الرزق الحلال .
وأسأله تعالى أن يتوارثوا والمؤمنون العناية بهذا السِفر الخالد .
ولهم ولمن يقرأ من هذا التفسير وما فيه من ذخائر العلم المستحدثة وعامة المسلمين والمسلمات والناس جميعاً أزكى التحيات وأنداها والأجر إن شاء الله .
الحمد لله الذي رزقنا هذا العلم ، وجعل مائتين وسبعة وأربعين جزء من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) شموعاً ونبراساً في سبل المعرفة الإلهية ، والهداية ، وهو من رشحات ونعمة أول آية نزولاً من القرآن [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ).
ولا زلت في تفسير سورة آل عمران ، لقد صدرت أجزاء في علوم مستحدثة وفي أمور دولية عامة بلحاظ مسائل ابتلائية عامة ، فصدرت منه أجزاء على وجوه :
الأول : ستة وعشرون جزءً في قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) كما سيأتي ذكر أرقامها( ).
الثاني : تسعة أجزاء بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وهي الأجزاء (205-206-207-214-215-233-240-241-242).
الثالث : ستة عشر جزءً بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) وهي الأجزاء (184-185-188-195-198-199-203-210-211-219-235-236-238-243-244).
الرابع : خمسة أجزاء بقانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) وهي الأجزاء (222-223-224-227-230).
الخامس : خمسة أجزاء بعنوان (آيات الدفاع سلام دائم) وهي الأجزاء (142-205-217-218-231-232).
السادس : جزءان بعنوان (علم الإحصاء القرآني غير متناهِ) وهما الجزء السابق والجزء التالي إن شاء الله .
وهل تدل الأجزاء أعلاه من التفسير على إنحصار منافع القرآن بالله وحده ، الجواب نعم.
وتدل هذه الأجزاء على براءة القرآن في مضامينه القدسية ودلالاته على براءته من الإرهاب ودعوته اليومية لتنزيه أهل الإيمان والأرض منه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الحمد لله الذي نعجز عن إحصاء نعمه علينا ، وتحدى الله عز وجل الخلائق بقوله [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( ) وهل القيام بعد وحساب جزء من النعم الظاهرة والباطنة سبب لزيادة ومضاعفة النعم ، الجواب نعم.
وهل الآية أعلاه دعوة للتدبر في النعم الإلهية واستحضارها في الوجود الذهني ، وفي المجالس ، الجواب نعم ، وهي وسيلة ومادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعن العنف والبطش والإرهاب البغيض .
قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
حرر في الرابع والعشرين من شهر شعبان 1444
16/3/2023
القانون لغة واصطلاحاً
معنى القانون لغة العصا المستقيمة والمسطرة ، وقيل أن أصل الكلمة يوناني ، وأخذته اللغة العربية عن طريق السريانية ومعناها الأصلي (المسطرة) لإرادة معنى الضابطة والقاعدة وتعني القاعدة الكلية المطردة ، والنظام والإستقامة .
وقد ورد ذكره في أمهات كتب اللغة العربية ومنهم من اكتفى بأن هذه الكلمة دخيلة ، وأدرجت كلمة قانون في اللغة العربية منذ أكثر من ألف عام بلحاظ المؤلفات القديمة التي ذكر فيها لفظ القانون خاصة التي صار عنواناً لها أو لموضوعها .
ويذكر قانون النحو ، وقانون الصرف ، وقانون العلوم ، وقانون القضاء ، وقانون المرافعات.
وقد تطلق على خصوص (القوانين الوضعية) لأن الشريعة الإسلامية وعلوم الفقه من عند الله ، والشريعة قواعد كلية وقوانين تفيد القطع والثبات والمناسبة لكل الأزمنة والأمكنة وهي أولى بتسمية القوانين بمعنى القواعد الكلية والنظام والضبط ومصطلح الشريعة والشرع والتشريع خاص بالتنزيل والأحكام السماوية وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم.
والقانون المقياس الذي يقاس عليه .
(والقَوانِينُ الأُصُول الواحد قانُونٌ وليس بعربي)( ).
والقانون في الطب تأليف الحسين بن عبد الله بن سينا البلخي ثم البخاري 370-427 هجرية.
وكتاب قوانين الأصول واسمه القوانين المحكمة في الأصول المتقنة الميرزا أبو القاسم القمي ت1231.
كتاب القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية ، لابن جزي متوفى سنة 741 هجرية .
والمختار أن لفظ القانون يستعمل في العربية من جهات :
الأولى : الأصل ، والجمع قوانين .
الثانية : القاعدة الكلية المطردة .
الثالثة : الضابطة العامة متحدة أو متعددة .
الرابعة : التشريع الثابت .
الخامسة : النظام الكوني ، ومنه قوله تعالى [لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] ( )، ومنه قوانين العلوم الفلكية والطبيعية والرياضية ، وقانون الجاذبية .
السادسة : كل آية قرآنية قانون متعدد بلحاظ تعدد مضامينها ومفهومها .
السابعة : مقياس كل شئ .
الثامنة : التشريعات الدستورية ، والقوانين الوضعية والجنائية ، وهو المعنى المشهور في هذا الزمان للقانون .
آية [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ] نهي عن الإرهاب
ورد هذا اللفظ في آيتين من القرآن هما :
الأولى : قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وهي آخر آية من سورة المزمل التي هي من أوائل ما نزل من القرآن في مكة ولكن الظاهر أن هذه الآية مدنية لأن فيها الأمر بالزكاة التي نزل الأمر بها في السنة الثانية من الهجرة وقيل أنها نزلت في مكة من غير تعيين النصاب ، وفي الآية الإخبار عن القتال في سبيل الله .
والنسبة بينهما من جهة الموضوع عموم وخصوص مطلق ، فالسور المكية أكثر عدداً .
وتتضمن كل من الآيتين الدعوة إلى الجهاد بأداء الفرائض العبادية من الصلاة والزكاة وقراءة القرآن.
والإحسان إلى الفقراء والمحتاجين ثم جاء الإطلاق في فعل الخير بقوله تعالى [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ] وهو سور الموجبة الكلية للترغيب في فعل الصالحات ومصاديقها المستحدثة في كل زمان ، والنسبة بينها وبين الإرهاب التضاد.
ليكون من مفاهيم المخالفة من الوصف والغاية والشرط النهي عن الإرهاب جملة وتفصيلاً فهو ضد للخير ، وعائق له في فعل الذي يقوم بالإرهاب وغيره من ضحايا هذا الفعل المذموم.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة يجتهد فيها الإنسان لجني الحسنات ، وقطف ثمار الصالحات التي أبى الله إلا أن يجعل أغصانها متدلية في كل بيت ، وكل متر من الأرض , وفي الليل والنهار.
وكما تحرك الريح أغصان الشجر ، فان الملائكة تهز أغصان الصالحات بين بصر وسمع وأركان الإنسان ، تداعبها ، وتتقرب إليها ، وهو من اللطف الإلهي بالناس.
وهل تقرب أغصان الصالحات لهم من الكلي المتواطئ أم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة قوة وضعفاً ، وكثرة وقلة.
الجواب هو الثاني إذ يفوز المؤمنون بالقوة والكثرة منها ، وفيه حجة بالغة للتنزه عن الإرهاب ، وللإمتناع عن الإضرار بالناس .
وليجتهد المسلم في إحراز الصالحات ليوم [لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ] ( )ترى ما هي النسبة بين هذا الإحراز والإرهاب ، الجواب هو التضاد .
قانون الغنى عن الإرهاب والفتك والقتل
لقد نسب الله عز وجل إلى نفسه تنصيب الإنسان خليفة بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ولا يقدر على هذا التنصيب إلا هو سبحانه ، وهل تنحصر الخلافة في الأرض بجنس الإنسان ، الجواب لا ، و[وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
ومع هذه النسبة ومسؤليات الخلافة يتجلى الوعد من الله ورحمته بالناس ، وليس من حصر لأفراد ومصاديق رحمة الله في كل ساعة من الدنيا ، ومنها غنى الأفراد والجماعات والملل عن الإرهاب ، وحتى الذي يرجو بالإرهاب والأعمال العنيفة تحقيق غايات ، وتبديل حال يلحقه الفشل ، ولا يجلب له الأنصار والأعوان إلا على نحو الأفراد القلائل فتنة ، والذين يساورهم الشك في ذات الفعل الإرهابي وأثره ، فلا غرابة أن تجد من يتخلى عن الإرهاب من رؤسائه لمخالفته للشرع والعقل .
وتخلفه عن تحقيق المقاصد ، لقانون الإرهاب ضرر محض ، وهذا القانون مصاحب لخلافة الإنسان في الأرض .
ومن شكر الإنسان مطلقاً مسلماً أو كتابياً أو غيرهما الشكر لله عز وجل على نعمة الخلافة بالتنزه عن الإرهاب ، لقانون الإرهاب لا دين له ، وليس فيه إلا الأذى الخاص والعام .
وتقدير آية الخلافة الخالدة بلحاظ العنوان أعلاه على وجوه :
الأول : إني جاعل في الأرض خليفة بالأخوة والتوادد بين الناس ، وتحريم الإرهاب .
الثاني : إني جاعل في الأرض خليفة لا يرهب الناس ، ومن خصائص الأنبياء الصبر على أذى الإرهاب ، ومنه صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الأذى الشديد الذي تلقوه من كفار قريش.
الثالث : إني جاعل في الأرض خليفة يتنزه عن الإرهاب والقتل .
الرابع : إني جاعل في الأرض خليفة يتدبر ويستعد لملاقاتي يوم القيامة بالحسنات وحفظ الحدود .
الخامس : إني جاعل في الأرض خليفة لا يظلم الناس ، وفي التنزيل [لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ]( ).
السادس : إني جاعل في الأرض خليفة بالمناجاة بفعل الصالحات ، وإجتناب الإرهاب من سفك الدماء .
السابع : إني جاعل في الأرض خليفة كرّهت إليه الإرهاب والقتل ، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على إحتجاج الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
معنى (ترهبون)
قد ورد لفظ (ترهبون) في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( )، والجواب موضوع الآية هو أخذ الحائطة والإحتراز من هجوم المشركين وزجرهم عنه ، خاصة بعد أن تكرر هجومهم في معركة بدر ومعركة أحد ، ومعركة الخندق .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ترهبون المشركين لقطع دابر الإرهاب .
الثاني : ترهبون المشركين ليمتنعوا عن غزوكم ، وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : ترهبون المشركين ، وأنتم في حال مرابطة وبقاء في المدينة لقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وتقدير الجمع بين الآيتين : ترهبون به عدو الله وعدوكم وأنتم مرابطون في المدينة المنورة.
الرابع : معنى ترهبون أي تخوفون وليس فيه هجوم أو فعل جوارحي ، مما يدل على حرمة الإرهاب ، وعلى زجر هذه الآية عنه .
الخامس : من معاني ترهبون عدم حدوث قتال مع المشركين فمع إعدادكم السلاح والخيل يخشى المشركون منكم.
السادس : حصر التخويف بالمشركين من قريش وحلفائهم ، فلا تشمل آية البحث تخويف أهل الكتاب .
وهو من الإعجاز في هذه الآية بتقييد الذين تخوفهم جعجعة سلاح المؤمنين بصفتين :
الأولى : عداوة المشركين لله .
الثانية : عداوة المشركين للمؤمنين .
مما يدل على أنهم لا يتورعون عن القتل والفتك والإرهاب ، قال تعالى [لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (يرهبون) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وتدل خاتمة الآية أعلاه بحصر صفة المعتدين بالمشركين ، على سلامة المسلمين من التعدي ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
فيجب أن يتنزه المسلم عن الإرهاب لأنه ظلم وتعد على الذات والمبادئ والناس وفيه منافاة للإيمان ومنهاجه المتوارث.
اسم الرب دعوة لنبذ الإرهاب
من الأسماء الحسنى (الرب) والرب لغة مصلح الشئ ومالكه ، وكذا يفيد معنى السيد المطاع ، قال تعالى في غلام ملك مصر [فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ]( ) ومعنى المُربي والقيمُ والمنعم ويقال رب الدار ورب الناقة.
وإذا ورد لفظ (الرب) مطلقاً من غير إضافة ، فالمراد الله عز وجل ، وهو الخالق لكل شئ ، والمنعم على الخلائق ، والذي يتعاهد وجودها إلى الأجل الذين كتبه من غير تقدم أو تأخير ، والله مالك الملك ، وملك الملوك ، ورب الأرباب ، وهو المعبود الذي ينقطع إلى عبادته الملائكة ، والإنس والجن ، ولا يعبد سواه ، فقول الأنبياء في الدعاء (رب) أي ليس لهم رب سواه ، والله عز وجل هو الذي حرّم الإرهاب والبطش ، ومنع من سفك الدماء والظلم مطلقاً .
وورد في التنزيل حكاية عن نوح عليه السلام قال [قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ] ( ) إذ كان نوح كثير الدعاء لطول مدة مكثه مع قومه يدعوهم إلى الله ، ومع شدة أذاهم له ، ومنه دعاؤه [فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ] ( ).
فقد يأتي ذكر الرب في الدعاء بصيغة النداء ، كما في الآية أعلاه من سورة المؤمنين ، وقد يأتي بصيغة الغائب الحاضر ، ويستجيب الله عز وجل بفضله ولطفه لنوح بالأمر والتكليف ، إذ أمره أن يصنع السفينة وجعل له علامة الإنتقال إليها ، وذكر له الذين يحملهم معه في السفينة ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ] ( ).
وتبين هذه الآيات مجئ النصر والغلبة بالدعاء ، وأن الإرهاب خلق الذين كفروا بتعديهم على نوح الرسول ، وكذا في تجهيز كفار قريش الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله ، والإفراد لإغتياله.
فانعم الله عز وجل على المسلمين بالفتح لإستئصال الإرهاب ، وعدم محاكاة الكافرين فيه ، لقانون التضاد بين المؤمنين والمشركين بتنزه المؤمنين عن الإرهاب والظلم .
وقال إبراهيم عليه السلام [رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ..] ( )وورد لفظ الرب في القرآن نحو (978) مرة ، منها [إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ]( ).
آية السيف منسوخة
أشتهر بين المفسرين أن آية السيف نسخت مائة آية ، وقول مائة وأربعاً وعشرين آية ، ولا أصل لهذا القول ، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن الصحابة ولا أهل البيت .
وآية السيف هي [فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) وقال القرطبي (قال الحسين بن الفضل : نسخت هذه كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء وقال الضحاك و السدي و عطاء : هي منسوخة بقوله {فإما منا بعد وإما فداء}) ( ).
والحسين بن فضل الكوفي من تابعي التابعين ، ولد نحو سنة مائة وثمانين للهجرة ، (نزيل نيسابور يروي عن يزيد بن هارون والكبار ولم أر فيه كلاماً لكن ساق الحاكم في ترجمته مناكير عدة فالله أعلم انتهى وما كان لذكر هذا في هذا الكتاب معنى فإنه من كبار أهل العلم والفضل واسم جده عمير بن القاسم بن كيسان كوفي الأصل.
قال الحاكم: كان إمام عصره في معاني القرآن لقد أنزله عبد الله بن طاهر في الدار التي ابتاعها له سنة سبع عشرة ومائتين فبقي فيها يعلم الناس العلم خمساً وستين سنة ومات وله مائة وأربع سنين وقبره مشهور يزار ثم ذكر طائفة من مشائخه ثم ذكر أن عبد الله بن طاهر لما ولاه المأمون خراسان سأله في استصحاب ثلاثة من العلماء فسماه منهم) ( ).
وقال ابن حجر العسقلاني (ولم أر فيه كلاماً لكن ساق الحاكم في ترجمته مناكير عدة) ( ).
ويمكن معرفة تأخر طبقة الحسين بن الفضل مما ورد عن محمد بن يعقوب الفغراني قال (سألت الحسين بن الفضل: متى ينفخ في الصور؟ فقال: سألت داود ابن سليمان: متى ينفخ في الصور.
فقال: سألت حجر بن هشام: متى ينفخ في الصور؟ فقال: سألت عثمان بن عطاء: متى ينفخ في الصور؟
فقال: سألت أبي: متى ينفخ في الصور؟
فقال: سألت ابن عباس: متى ينفخ في الصور؟
فقال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: متى ينفخ في الصور؟
فقال: سألت جبريل: متى ينفخ في الصور؟
فقال: سألت ميكائيل: متى ينفخ في الصور؟
فقال: سألت إسرافيل: متى ينفخ في الصور؟
فقال: سألت الرفيع: متى ينفخ في الصور؟
فقال: سألت اللوح: متى ينفخ في الصور؟
فقال: سألت القلم: متى ينفخ في الصور؟
فقال: إن الله تعالى خلق ملكاً يوم خلق السموات والأرض فأمره أن يقول لا إله إلا الله فهو يقول لا إله إلا الله ماداً بها صوته لا يقطعها ولا يتنفس فيها ولا يتمها فإذا أتمها أمر إسرافيل بنفخ الصور وقامت القيامة.) ( ).
ومات الحسين بن الفضل سنة(282) للهجرة.
ولن تنسخ آية السيف آيات السلم والرفق والكف والإعراض .
لذا خصّ أبو حنيفة قوله تعالى [حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]، أنه عند المسجد الحرام ( ).
والمختار تقييد الآية زماناً ومكاناً وموضوعها خاص بالأشهر الأربعة آخر السنة التاسعة وأول العاشرة ، وبخصوص مكة وما حولها ، قال تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).
وكان الناس في السنة التاسعة أوان نزول آية السيف قد دخلوا الإسلام إلا القليل النادر الذي يبقى وجوده فتنة فنزلت آية [فَإِذَا انْسَلَخَ] رحمة بهم وبالناس جميعاً ، لتبدأ دنيا السلام وأيام الهناء والأمن ببركة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فقد بعثه الله للقضاء على الإرهاب ، ولا يصح للمسلم أن يكون إرهابياً .
ويمكن القول بقانون لو دار الأمر بين نسخ آية السيف لآيات السلم ، أم أن آيات السلم هي التي نسخت آية السيف.
فالصحيح هو الثاني ، إذ أنها لا تنهض لمعارضة الآيات الكثيرة التي تدعو إلى السلم ، وتندب إليه ، وتبين منافعه .
قال تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ] ( ) وقال تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا] ( ).
وقال الضحاك والسدي وعطاء أن آية [فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً]( ) ناسخة لآية السيف( ) ، ولم تذكر بهذا الاسم انما ورد نصّ الآية .
وهو قول حسن ويدل على أن آية السيف منسوخة ، وهو من الشواهد على قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة والذي صدرت بخصوصه الأجزاء التالية من هذا السِفر : (202-203-204-210-211-231-240-241-242)
وحكي حديثان عن ابن عباس :
الأول : إذ (أخرج النحاس عن ابن عباس في قوله { فإما منّاً بعد وإما فداء }( ) قال : فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالخيار في الأسرى إن شاؤوا قتلوهم ، وإن شاؤوا استعبدوهم ، وإن شاؤوا فادوهم.
الثاني : وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { فإما منّاً بعد وإما فداء } قال : هذا منسوخ نسختها { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين }( ))( ).
قانون الصبر صارف للحرج
لم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا حتى توالت وفود العرب على المدينة معلنيين إسلامهم ومن خلفهم ، وسميت السنة التاسعة للهجرة بعام الوفود ، ولا يعني هذا عدم مجئ الوفود للمدينة لدخول الإسلام قبل السنة التاسعة ، إذ جاءت وفود كثيرة خاصة بعد صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، ولكن إزداد عددها في السنة التاسعة حتى بلغ أكثر من سبعين وفداً بعد كتيبة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( )، أم أن الآية أعلاه تختص بصلح الحديبية ، الجواب هو الأول ، لقانون كثرة الوفود إلى المدينة لدخول الإسلام فتح مبين ولطف من الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ) .
وقابله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشكر لله عز وجل والإجتهاد والمواظبة على العبادة ونزل قوله تعالى [طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى]( ).
وفيه تأديب للشباب المسلم بوجوب شكر الله عز وجل على الأمن والسعة بالموادعة وحسن السمت والإبتعاد التام عن مفاهيم الإرهاب ومقدماته .
ولابد من التقيد بقوله تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ]( ).
وأخرج أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال : الذاكرون الله كثيراً .
قلت يا رسول الله : ومن الغازي في سبيل الله؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون الله أفضل منه درجة( ).
لبيان قانون اللجوء إلى الذكر والتسبيح , ووجوب ترك الإرهاب لبطلانه ، وانتفاء الدليل عليه ، وجلبه الويل والثبور على الناس .
قانون دراسة الإرهاب وضرره
من أجل استئصال الإرهاب لابد أن تخضع العمليات الإرهابية في التأريخ المنظور للتحليل وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( )، من جهات :
الأولى : الأسباب .
الثانية : المقدمات .
الثالثة : ذات الفعل الإرهابي .
الرابعة : الغرض والغاية منها .
الخامسة : النتائج .
السادسة : الأثر والضرر ، وهو على أقسام :
الأول : ضرر الفعل الإرهابي على السلم المجتمعي .
الثاني : ما يجلبه العمل الإرهابي على صاحبه من الأذى .
الثالث : ضحايا كل فعل إرهابي .
الرابع : الخسائر المالية وفي الممتلكات .
الخامس : رصد الضغائن والحالات والآلام النفسية المترتبة على الفعل الإرهابي .
السادس : كيفية الإنتفاع والإتعاظ من وقائع الإرهاب الماضية في منعه واستئصاله.
السابع : الكم والكيف للتصدي الفكري للإرهاب وأثره.
الثامن : الإنفاق على العمل الإرهابي ومقدماته ، والذين يغرر بهم في هذا الباب ، وليس من أجر أو ثواب في هذا الإنفاق .
وفي قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً] ( )، وقيل (نزلت في أبي سفيان ، أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب ، وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالاً من ذهب) ( ).
والآية أعم بدليل ورودها حتى في أسباب النزول بدليل ورودها بصيغة الجمع ، ولا يطلق القرآن صيغة الجمع على الكافر .
وتتضمن الآية الإنذار من الإنفاق على ما فيه الضرر الخاص والعام ، لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، ولقانون الإنفاق في الإرهاب ضرر محض .
التاسع : الخسارة والإنفاق من خزينة الدولة لمكافحة الإرهاب ، والمنع من استفحاله ، واستحداث مؤسسات أمنية وأجهزة خاصة ، ووسائل إعلام لمكافحته ، والجهود المبذولة لمحاصرة الإرهاب ، ودفع شروره عن المجتمعات والقيم والدولة .
قانون الله لا يحب الإرهاب
حب الله عز وجل رضاه ، وسخطه عدم رضاه ، ومن واجبات أي إنسان السعي لطلب رضا الله ، والإمتناع عن سخطه ، قال تعالى [أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
وقد تكرر قوله تعالى [َاللَّهُ لَا يُحِبُّ] سبع عشرة مرة منها :
[اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ]( ).
[لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( ).
[لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا]( ).
[لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا]( ).
[لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ]( ).
[وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ]( ).
[وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ]( ).
[إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
[إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ]( ).
[إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ]( ).
وفيه دعوة للمسلم للتنزه عن كل صفة من الصفات التي لا يحبها الله سواء التي ذكرت على نحو التعيين أو التي تدل عليها مفاهيم الآيات والأوامر والنواهي فيها .
وهل الإرهاب مما لا يحبه الله عز وجل ، الجواب نعم .
إذ يتصف بلحاظ الآيات أعلاه بأمور مذمومة :
الأول : الظلم .
الثاني : الفساد .
الثالث : الخيانة والغدر .
الرابع : الضرر والإفساد .
الخامس : الإعتداء .
السادس : الفرح بالإقدام على الفعل الإرهابي غروراً وحمية .
و(عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)( ).
ومن إعجاز القرآن ذمه للظالمين مطلقاً من غير تعيين للملة التي ينتمون إليها للإنذار من الإرهاب والوعيد عليه ، والكفر أشد أنواع الظلم لأنه ظلم للذات والغير .
و(عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يتركه الله: فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وقال [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ).
وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا، حتى يدين لبعضهم من بعض)( ).
قانون نهي آيات [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا] عن الإرهاب
[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
جاءت هذه الآية وفق نظم القرآن بعد الآية التي تبين بطلان وحرمة الربا وانعدام البركة فيه عاجلاً أو آجلاً مع الترغيب بالصدقة ودفع الزكاة وإقراض المحتاجين ، وبيان النماء والأجر العظيم بالزكاة والإنفاق في سبيل الله.
وأختتمت الآية السابقة بذم الذين يجمعون بين الكفر وفعل المعاصي والإنغماس في السيئات ، إذ قال تعالى [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ]( ).
وتدعو الآية إلى عدم حصر الإنفاق بالزكاة الواجبة إذ ترغب بالصدقة المستحبة ، والتكافل الإجتماعي والتعاون بين الناس لدفع الفقر والفاقة وكل فرد منها ضد للإرهاب ، ودعوة سماوية للتنزه عنه ، والبراءة من أهله.
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الأيدي ثلاث . فيد الله العليا ، ويد المعطي التي تليها ، ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة ، فاستعفف عن السؤال وعن المسألة ما استطعت ، فإن أعطيت خيراً فليُرَ عليك ، وابدأ بمن تعول ، وارضخ من الفضل ، ولا تلام على الكفاف)( ).
ومن خصائص نداء [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا] إكرام المسلمين والمسلمات ، وفيه دعوة للشكر لله عز وجل على هذا التشريف ، ومن مصاديق الشكر في المقام الترفع والإمتناع عن الإرهاب ، لأنه مناف للإيمان والتقوى .
ومن معاني [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا] الإقرار بأن المشيئة في الأرض والسماء لله عز وجل وحده ، وأن الإرهاب خلاف المشيئة الإلهية وإرادة الإضرار بالناس ومحاولة باطلة للتغيير ، وبنداء الإيمان تكسر أضلاع الإرهاب ، وتبتر ساقه ، وقد تفضل الله عز وجل وخاطب المسلمين بنداء التشريف هذا تسعاً وثمانين مرة .
حسد قابيل لأخيه
من إعجاز القرآن دعوته للتنزه عن الأخلاق المذمومة ، وبيان شواهد عديدة على ضررها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ] ( ) .
وينهى القرآن عن الحسد ، ويدعو إلى الإحتراز والإستعاذة منه بالدعاء والصدقة وتلاوة القرآن ، قال تعالى [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِوَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ] ( ) ومن معاني الحسد كراهة النعمة التي عند المحسود ، أو تمني زوالها ، وإن لم ينلها الحاسد نفسه .
وقد نهى الكتاب والسنة عن الحسد (عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام”.)( ).
وجاءت أربع نواهي في أول الحديث أعلاه ، وكل فرد منها يتعلق بالإرهاب ، فهو تقاطع وتدابر وتباغض وتحاسد ، ويؤدي إلى هذا الخصال المذمومة ، ويثير الفتن والشحناء .
وعن (أبي أيوب قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا أيوب ألا أخبرك بما يعظم الله به الأجر ويمحو به الذنوب؟
تمشي في إصلاح الناس إذا تباغضوا وتفاسدوا ، فإنها صدقة يحب الله موضعها) ( ).
لقد غلب الحسد على نفس قابيل بن آدم فتوعد أخاه بالقتل ، فاعلن هابيل عن تحليه بالصبر ، وفي التنزيل [لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] ( ) .
وذكرفي قول هابيل هذا وجهان :
الأول : إذا بدأتني بالقتال لا أبدأك به .
الثاني : أن بدأتني بالقتل أوافقك( ) .
والمختار بلحاظ الآية أعلاه وجوه :
الأول : لا أبدأك بالضرب والتعدي والقتال .
الثاني : أحرص على جعلك في أمان وطمأنينة من جهتي .
الثالث : لأن أردت قتلي فانا لا أريد قتلك .
الرابع : إذا سعيت في قتلي وأردت تنفيذ وعيدك [لَأَقْتُلَنَّكَ] ( ) فاني أذب وأدافع عن نفسي بحدود طلب سلامتي ، من غير أن أسعى في قتلك .
الخامس : سأجتنب اللقاء والإحتكاك والخلاف معك .
لذا سعى قابيل في قتل هابيل غيلة وغدراً وعلى حين غفلة ، إذ رآى هابيل نائماً فضربه بحجر فقتله (وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة { فطوّعت له نفسه قتل أخيه }( ) ليقتله .
فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال ، فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم .
فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات .
فتركه بالعراء ولا يدري كيف يدفن ، فبعث الله غرابين أخوين ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم حثا عليه التراب ، فلما رآه قال : يا ويلتا ، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب .) ( ).
قراءة في الجزء السابق
عنوان الجزء السابق وهو الخامس والأربعون بعد المائتين (علم الإحصاء القرآنية غير متناه ) بفضل ولطف من عند الله ، ويتضمن هذا الجزء نحو ثلاثمائة وعشرين قانوناً في آية علمية وعرفانية وفيه قربة إلى الله عز وجل ، مع رجاء فضله وإحسانه ، وفي قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( )، قال ابن عباس (في الآية قال : فضل الله العلم ، ورحمته محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال الله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }( ))( ) .
ومن عناوين وأبواب هذا الجزء :
الأول : علم الإحصاء القرآني ص 22.
الثاني : أقسام الإحصاء القرآني ص 57 .
الثالث : قانون الحساب على العدد لما أذهب إليه في تفسير [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا] ( ) ص 25.
الرابع: قانون إنفراد الله بإحصاء منافع الآية القرآنية ص 30 .
الخامس : (المحصي) من الأسماء الحسنى ص 33 .
السادس : النسبة بين العد والإحصاء ص 35 .
السابع: قانون العجز عن إحصاء منافع الآية القرآنية ص38 .
الثامن: قانون إحصاء الأحكام الإنشائية ص 39.
التاسع: قانون آيات الأحكام بصيغة الجملة الخبرية ص 40 .
العاشر: قانون الإحصاء في السنة النبوية ص 41 .
الحادي عشر: قانون عجز الخلائق عن إحصاء النعم على الإنسان ص 47 .
الثاني عشر: عجز الناس عن إحصاء النعم لا يمحى ص 49.
الثالث عشر: مصطلح الصالحات بين العقل والشرع ص 52 .
الرابع عشر: قانون التلاوة تنمية للفكر 59 .
الخامس عشر: قانون الصلاة كنز وادخار يومي ص 64.
السادس عشر: معاني الرزق ص69 .
السابع عشر: عمر النبوة وفتراتها ص 71 .
الثامن عشر: بحث كلامي ص 74 .
التاسع عشر: العجز عن إحصاء عالم الأفلاك ص 86 .
العشرون: قانون تعداد النعم من الشكر ص 86.
الواحد والعشرون: القرآن لغة وإصطلاحاً ص 94.
الثاني والعشرون: إحصاء أسماء القرآن ص 95.
الثالث والعشرون: قانون علم الرؤيا نعمة ص 100.
الرابع والعشرون: قانون عدم السهو عن شهر رمضان ص 103.
الخامس والعشرون: تجليات الحكم (بحث أصولي) ص 107.
السادس والعشرون: قانون تجدد علوم الإحصاء القرآني ص109 .
السابع والعشرون: عدد الأوامر في آية المرابطة ص 116.
الثامن والعشرون: إحصاء الأحكام في [الْحَمْدُ لِلَّهِ ]ص 119.
التاسع والعشرون: تعدد الأوامر والنواهي في الآية الواحدة ص 121.
الثلاثون : قانون الملازمة بين العبادة والبشارة ص 136.
الواحد والثلاثون : إحصاء أسماء يوم القيامة ص 160.
الثاني والثلاثون : إتحاد اللفظ القرآني وتعدد معناه ص 167.
الثالث والثلاثون : إحصاء الأوامر في القرآن ص167.
الرابع والثلاثون : معجزات سبقت ولادة النبي محمد ص 173.
الخامس والثلاثون : وفادة عبد المطلب على ملك اليمن ص 180.
السادس والثلاثون : تعدد جهات البشارة بالنبي (ص) ص 184.
السابع والثلاثون : ارتجاس إيوان كسرى ص 194 .
الثامن والثلاثون : قانون إحصاء الرؤيا خاص بالله وحده ص 201 .
التاسع والثلاثون : آيات الأخلاق ص 214 .
الأربعون : النسخ بين القرآن والسنة ص 216.
الواحد والأربعون : قانون تبديل النبي (ص) أسماء للأحسن ص 222.
الثاني والأربعون : الأذى الذي لاقاه عيسى (ع) ص 232.
الثالث والأربعون : قانون عصمة مكة ص 236 .
الرابع والأربعون : قانون سدّ الذرائع ص 247 .
الخامس والأربعون : مقارنة بين السمع والبصر في الإحصاء ص 275.
السادس والأربعون : قانون حرمة الوأد ص 287.
قراءة في قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( )
هذه الآية من سورة الأنفال وهي مدنية ، ولكنها تبين وقائع ابتدأت في مكة ومنها شدة أذى المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادتهم وقف التنزيل ، ومنعه من تبليغ الرسالة فصار تناقض بين أمر الله [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) وبين إرادة المشركين وتجييشهم الجيوش .
فلابد أن تكون السيادة والسلطنة المطلقة للمشيئة الإلهية في الأرض والسماء ، فنزل قوله تعالى [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ]( )، وقيل كانت الأنفال من أول ما نزل في المدينة ، ولكن كثيراَ من آياتها تخص واقعة بدر التي وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة , مما يدل على أنها لم تكن من أول السور نزولاَ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة , حتى سميت هذه السورة سورة بدر .
و(عن سعد بن مالك أنه قال : قال : يا رسول الله، قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف.
فقال: “إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه” قال : فوضعته، ثم رجعت، قلت : عسى أن يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي!
قال: رجل يدعوني من ورائي، قال: قلت: قد أنزل الله في شيئا؟
قال: “كنت سألتني السيف، وليس هو لي وإنه قد وهب لي، فهو لك” قال: وأنزل الله هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}( ))( ).
والتوبة من آخر القرآن نزولاً .
و(عن ابن عباس. قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن (عمدتم) إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المَئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم،
ووضعتموها في السبع الطوال؟)( ).
وسورة التوبة إنذار ووعيد للمشركين ، وزجر لهم عن الإقامة على الكفر ، وهي أمارة سماوية على إنقطاع الشرك في مكة وأرض الحجاز .
ولم يرد لفظ [يَمْكُرُ بِكَ] ( ) في القرآن إلا في آية البحث ، فهل يدل هذا على تحقق المكر بالنبي والكيد له بخصوص مشركي قريش ، الجواب لا ، ولكنه يدل على شدة أذاهم وعداوتهم له ، ولم تجتمع مثل قريش طائفة من العرب أو أهل الكتاب أو غيرهم على الإتفاق على التخيير بين جهات ثلاث ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي :
الأولى : شد وثاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وسجنه لمنعه من الإتصال بكل من :
الأول : أهل مكة .
الثاني : المعتمرون .
الثالث : وفد الحاج .
الرابع : أسواق مكة .
الخامس : الذين يفدون إلى مكة للتبعض والتسوق والزيارة ونحوها .
قال تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).
السادس : الذين دخلوا الإسلام من الصحابة الأوائل .
الثانية : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قتلة رجل واحد بأن تشترك كل قبائل قريش عدا بني هاشم في قتله ، فلا يستطيعون أخذ ثأره فيرضون بالدية .
الثالثة : يخرجونه إلى بعض أطراف الأرض وللجهة التي يريدون ويختارون بمكر أيضاً ، بما يحول دون مواصلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التبليغ ولتحريض الأعراب عليه .
إجتماع دار الندوة للمكر
لقد اجتمع رؤساء قريش في دار الندوة التي بناها جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قصي بن كلاب للتشاور في كيفية البطش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتخلص من الدعوة إلى الله ، وكان من الرؤساء الذين حضروا الجلسة هذه :
الأول : عتبة بن ربيعة .
الثاني : أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية ( 57 ق.م -31 هـ).
الثالث : شيبة بن ربيعة .
الرابع : أبو البختري (567-652 م) إذ مات في أيام عثمان بن عفان الذي تولى الحكم سنة 24 هجرية .
الخامس : أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي (572 -624 ) م ، وكانت كنيته أبا الحكم .
وسماه رسول الله أبا جهل بعد أن قتل سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر طعناً بالحربة في قُبلها حتى الموت ، وقيل لم تكن الطعنة بالقبل .
فقتل في معركة بدر بعد إصراره على القتال .
وكانت قريش لا تأذن لمن عمره أقل من أربعين سنة بحضور إجتماعات دار الندوة ، ولكنهم أذنوا لأبي جهل لرجحان عقله ، فاشار بالمكر والخبث ، إذ اقترح قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : النضر بن الحارث .
السابع : طعمة بن عدي .
الثامن : زمعة بن الأسود .
التاسع : حكيم بن حزام ، وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد .
وكذا الزبير بن العوام بن خويلد ابن أخي خديجة أيضاَ ، الذي أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقتل العوام يوم الفجار.
وقيل أن العوام أبا الزبير رجل من القبط من أهل مصر ، اشتراه خويلد من مصر وسمي العوام لأنه كان يعوم في نهر النيل ، ويخرج ما يغرق فيه من متاع الدنيا ، أي أنه بلغة هذا الزمان (غواص ) وتبناه خويلد , وهو بعيد.
والأصل صحة النسب .
وهجا حسان بن ثابت آل الزبير بن العوام :
(بني أسد ما بال آل خويلد … يحنون شوقا كل يوم إلى القبط
وأعينهم مثل الزجاج وصيغة … يخالف كعبا في لحي لهم ثط
لعمر أبي العوام إن خويلدا … غداة تبناه ليوثق في الشرط) ( ).
ولحسان بن ثابت قصائد أخرى في مدحهم ، وقيل هجا حسان العوام بسبب ولده عبد الرحمن ، وهو أكبر من الزبير .
وشهد عبد الرحمن هذا ( بدرا مع المشركين فلما انهزموا كان هو وأخوه عبد الله على جمل فوجدا حكيم بن حزام ماشيا وهو ابن عمهما وكان عبد الله أعرج .
فقال له أخوه عبد الرحمن: انزل بنا نركب حكيما فقال: أنشدك الله فإني أعرج .
فقال: والله لتنزلن عنه ألا تنزل لرجل إن قتلت كفاك وإن أسرت فداك.
فنزل وأركبا حكيما على الجمل فنجا ونجا عبد الرحمن على راحلته وأدرك عبد الله فقتل ، لبيان الأدب والطاعة في قريش من قبل الأخ الأصغر للأخر الأكبر ، للدلالة بالأولوية على طاعة الأبناء للأباء ، ومع هذا آمن رهط من الشباب الأبناء والإخوان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع منع الاباء والإخوان الكبار ورؤساء القوم ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجلية .
ووقف بعض أبناء سادات قريش مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد في مقابل الآباء من المشركين .
كما في الصحابي أبي حذيفة وكان أبوه عتبة بن ربيعة وعمه شيبة وأخوه الوليد مع جيش المشركين ، وهم من أوائل من قتلوا من المشركين.
وأبو حذيفة ومولى له يسمى سالماً يوم اليمامة قتلا شهيدين (فوجد رأس أحدهما عند رجلي الآخر وذلك سنة اثنتي عشرة من الهجرة) ( ) .
لبيان وجوب الإمتناع عن الإرهاب مطلقاً وعدم طاعة أحد فيه ، لأن طاعة الله ورسوله أولى ، وقد نزل القرآن والسنة بحرمة الإرهاب والتفجيرات ونشر الخوف العام .
وقيل كان اسم عبد الرحمن بن العوام في الجاهلية عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الرحمن واستشهد يوم اليرموك وقتل ولده عبد الله يوم الدار وقيل: إنه أسلم يوم الفتح وصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.) ( ).
وعلى فرض هذا التبني فهل يزوجه عبد المطلب صفية لتنجب الزبير ، الجواب نعم ، وقد زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنة عمته زينب بنت جحش مولاه زيد بن حارثة قبل أن ينزل قوله تعالى [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا] ( ) .
إحصاء أدعية الأنبياء
لقد ابتدأ إبراهيم دعاءه وسؤاله بالنداء العام [رَبَّنَا] بقوله تعالى [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( ).
لإظهار الخشوع والخضوع لله عز وجل ، وأن الرجاء لا يكون إلا منه تعالى.
ترى لماذا لم يقل (ربِ) بصيغة المفرد كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى..] ( ).
الجواب لقد أخبر إبراهيم عن صدق إيمان ذريته من بعده ، وان سكن بعض ذريته في مكة عند البيت الحرام ، إنما هو لتعاهد الأحقاب لعبادة الله عز وجل بدليل بيانه لعلة إقامتهم عند البيت الحرام وهي [لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ]( ).
وهل المقصود الصلاة وحدها أم ضروب العبادات والصلاح وعمارة المسجد الحرام .
الجواب هو الثاني .
ترى ما هي النسبة بين إقامة الصلاة والإرهاب.
الجواب هو التضاد , فيجب على المسلم تعاهد الصلاة ونبذ الإرهاب .
وورد لفظ [ذُرِّيَّتِي] ( )مرتين في القرآن وفي سورة واحدة هي سورة إبراهيم ، وحكاية عن إبراهيم عليه السلام ، والآية الثانية هي[رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ] ( ) .
وقد ورد حكايةعن لقمان قال [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ).
ولم يكن لقمان نبياً ، لبيان الفارق بين الرسول والحكيم .
فالرسول يجاهد لصلاح ذريته ، ويدعو لهم ، وليس لخصوص ابنه.
وكان ارتفاع الكعبة أيام ابراهيم 9 أذرع أي نحوه 4,5م، أما في هذا الزمان فارتفاعها (15)م.
وكان لها بابان من المشرق والمغرب.
وهل يجوز زيادة إرتفاع وعلو سقف الكعبة ، الجواب نعم ، خاصة مع تعدد طوابق الطواف.
تعدد أبواب حرمة الإرهاب
من خصائص القرآن تحريم الإرهاب من وجوه :
الأول : تحريم ذات الإرهاب ، والبطش بغير حق .
الثاني : النهي عن خطاب الكراهية ، قال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]( )، والذي يدل في مفهومه على حرمة الكلام المسئ إلى الأفراد والجماعة والطوائف والأعراق .
الثالث : تحريم الإرهاب من باب الأولوية القطعية سواء بمفهوم الموافقة أو مفهوم المخالفة وما دل عليه اللفظ في غير محل النطق .
الرابع : تحريم الإرهاب لحرمة مقدماته من قصد الإضرار بالناس ، وهل تدخل هذه المقدمات في النهي الوارد في قوله تعالى [وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( )، الجواب نعم .
وعن عبد الله بن مسعود (قال كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فمررنا بشجرة فيها فرخا حمرة فأخذناهما فمرت الحمرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي تعرض فقال من فجع هذه بفرخيها قلنا نحن قال ردوهما موضعهما فرددناهما)( ).
الخامس : نهي السنة النبوية عن الإرهاب بمفهومه في هذا الزمان ، لبيان قانون تضمن الوحي من علوم الغيب بما فيه الصلاح والإصلاح .
الخبر بصيغة الأمر
قد يأتي الخبر في كلام العرب ويراد منه الإمر ويحتمل الخبر الصدق أو الكذب إلا التنزيل وقول المعصوم فلا يحتمل إلا الصدق لإمتناعه عن الحمل على الكذب ، ومنه قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ..]( )، وصيغة الخبر في الآية أعلاه تحمل على الأمر ووجوب التنفيذ والإمتثال ، وعليه منهاج وسيرة المسلمين والمسلمات من أيام ابعثة ، وهو من مصاديق قانون عدم طرو التحريف على الإمتثال لأحكام القرآن سواء كانت أمراً أو خبراً .
ومنه [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا] ( ) أي التزموا الأمن والسلامة من التعدي وسفك الدماء للذي يدخل البيت الحرام حاجاً أو معتمراً أو لاجئاً ومستجيراً .
ووردت الآية بصيغة الخبر وإرادة الإطلاق في أفراد الزمان الطولية ، فلا يختص الأمن بأيام النبوة ، ولا في دعاء إبراهيم بل سبقه أيضاً ، وهو حكم من عند الله ، والآية هي [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ] ( ) فالأمن في البيت الحرام من قبل أن يخلق الله آدم ، قال تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا..] ( ).
ومنه في باب الخبر ويراد منه النهي [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( ) أي لا تحملوا فرداً أو جماعة على دخول الإسلام كرهاً .
ولم يُكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحداً أو جماعة على دخول الإسلام ، ولم يلح على أولئك الذين يظهرون القرب من الإسلام .
ويمكن تدبر الآيات التي جاءت بصيغة الخبر وهي تنهى عن الإرهاب ، ومنها آيات سورة الفاتحة في منطوقها ومفهومها .
ومنه قوله تعالى [وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا] ( )، لبيان وجوب شكر الله عز وجل بتعاهد الأمن ، والإمتناع عن الفرقة والخصومة والشقاق والإرهاب .
ومنه آية (ببدر ) قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) لبيان أن النصر من عند الله ، ويكون خاسراً الذي يرجوه بالإرهاب .
وقوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] دعوة للمسلمين للصبر وإشاعة الأمن عندما أزاح الله عز وجل عنهم الذلة ، والإتعاظ من الماضي بانصاف الناس.
وقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] جملة خبرية بمعنى الأمر ، فيجب الشكر لله عز وجل بالقول والفعل لأصالة الإطلاق ، ومنه الشكر لله عز وجل .التنزه عن الإرهاب وإخافة الناس والقتل العمد والتفجيرات والإعتداء ، ومنه قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، في النهي عن التعدي والظلم ، وإجتنابهما ، وقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ]( ) وقوله تعالى [وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( ).
وقال تعالى [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ) إن الله عز وجل يعلم بعقائد الناس وأعمالهم ، وهو سبحانه يحب عباده ، وعملهم ويهديهم إلى الرشاد .
ولا يؤدي الإرهاب إلى الهدى ، إنما يؤدي إلى الضرر والأذى والخسارة والرعب والحنق والغيظ .
والمراد الخبر من غير أن ينسخ هذا المعنى دلالة الصيغة في منطوقها أمراً أو نهياً .
ومن الأمر الذي يراد منه الخبر .
في القرآن قوله تعالى [قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا] ( ) , أي يستدرج الله الكافر بطول العمر والسعة في الرزق والحظ إمهالاً وبياناً لعجزه عن الإضرار بملك الله ، وليأتيه العذاب دفعة ، قال تعالى [إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا] ( ) لإفادة لزوم الإحتراز من التمادي بالأعمال الإرهابية لأن عاقبتها إلى خسران ، بينما يكون الإبتلاء والإمتحان في الدنيا مناسبة للذكرى والإتعاظ والإلتفات لوجوب التوبة .
وحكي أن الإمام علي عليه السلام قال : حاججني العالم فغلبته ، وحاججني الجاهل فغلبني ) .
ولم يرد هذا الحديث مسنداً ، وفي كتاب معتبر ، والأصل عدمه ، ومنه من ينسبه إلى الشافعي ، إنما يحتج الإمام علي عليه السلام بما يناسب المدارك المختلفة ويفضح المراء .
وقد احتج إبراهيم على نمرود فغلبه ، وكذا في إحتجاج موسى على فرعون ، ومن خصائص الأنبياء تعرضهم للجدال من العالم والجاهل ، فلا يغلبهم العالم أو الجاهل ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] ( ).
ومن العناد الجدال في حرمة الإرهاب وقبحه وضرره ، إذ أن حرمته ظاهرة من الكتاب والسنة والوجدان ، وإجماع الناس ، وأرباب العقول والحكماء والعلماء .
ليكون من ذكر قصة يوسف وإخوته في القرآن موعظة وعبرة ، ودعوة للمسلمين لإجتناب الإرهاب وظلم القريب أو البعيد ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ] ( ).
ولم يرد لفظ [إِخْوَتِهِ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وورد لفظ [آيَاتٌ] [لِلسَّائِلِينَ] بصيغة الجمع والإطلاق ، فليس من حصر لموضوع السؤال بخصوص قصة يوسف وأخوته ، ودلالاتها ونتائجها ، والإعجاز الذي فيها ، وإنتفاع الأمم من يوسف إذ نجّاه الله بعدما أراد إخوته هلاكه في أعماق البئر ، وانتفعوا هم وأبوهم النبي يعقوب عليه السلام من وزارة يوسف عليه السلام في سني المجاعة وكذا وعموم أهل مصر ، والذين يقتلون في العمليات الإرهابية لو بقوا أحياءً لأنتفع منهم أهليهم وابنائهم وغيرهم ، ويكون تقدير خاتمة الآية أعلاه في المقام على وجوه :
الأول : لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين عن أضرار الإرهاب.
الثاني : آيات للسائلين سبل النجاة من الإرهاب .
الثالث : آيات للسائلين للتوبة والإنابة من الإرهاب .
الرابع : آيات للسائلين عن ماهية الإرهاب وتنزه الإسلام عنه .
إلقاء يوسف (ع) في غور البئر من الإرهاب
من خصائص الإنسان ملكة العقل ، والتمييز بين الأشياء ، سواء في العلل أو المعلولات، وفي عالم الأفعال والنتائج التي تؤول إليها ،وجعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار موعظة وعبرة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
والآية أعلاه هي الأخيرة من آيات سورة يوسف ، والتي اختصت بذكر قصته والإتعاظ منها ، وهل كان فعل إخوته بالقائه في الجب من الإرهاب ، الجواب نعم .
قال تعالى [قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ] ( ) لبيان أمور :
الأول : الإرهاب ليس جديداً .
الثاني : الإرهاب على مراتب أشدها القتل وسفك الدماء .
الثالث : تشير الآية إلى لزوم إجتناب الإرهاب ، والإحتراز منه.
الرابع : لا تنحصر جهة صدور الإرهاب بالأشرار وفئات مخصوصة من الناس ، بل قد يصدر من الذوات ، وأبناء الأعلام الذين بذلوا الجهد في تربيتهم وإصلاحهم ، وفي ابن نوح قال تعالى [قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ] ( ).
لذا تبين لإخوة يوسف الغنى عن الفتك والإرهاب ، وهل القاؤهم يوسف عليه السلام في غيابت الجب من الإرهاب ، الجواب نعم ، وهو على نحو القضية الشخصية أم النوع ، الجواب هو الثاني لوجوه :
الأول : موضوع سيرة أبناء الأنبياء بين الناس .
الثاني : منزلة النبي عند الله عز وجل .
الثالث : الدعوة السماوية للإقتداء بالأنبياء ومنهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] ( ) ، ولم يقتد إخوة يوسف بالأنبياء .
الرابع : مبغوضية الإرهاب مطلقاً ، وهو بين الإخوة أشد وأمر.
لذا ألحوا في طلب الإستغفار [قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ]( ).
ولم يرد لفظ (استغفر لنا) في القرآن إلا مرتين ووردت الأخرى في المغيبات التي أخبر الله عز وجل بها رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تبعث السكينة في نفسه بقوله تعالى [سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
وتبين قانون عدم الإنتفاع من الإرهاب ، إذ لحق إخوة يوسف الندم والخسارة ، وكانوا في ضلالة ، وصارت نجاتهم من المجاعة العامة ببركة يوسف عليه السلام ، وتوليه الوزارة في مصر ، لبيان قانون فوات المنافع بالإرهاب ، إلا أن يشاء الله عز وجل ، فيصرف شرور الإرهاب عن الناس.
النسخ
وهو لغة المحو والإزالة يقال الليل نسخ النهار ، وهو في الإصطلاح رفع حكم شرعي سابق بحكم شرعي لاحق لفظاً أو حكماً .
وقال تعالى [فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ]( )، ويأتي النسخ والإستنساخ بمعنى النقل والتحويل .
قال تعالى [وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ] ( ) أي فيما بقي من الألواح التي كتبها الله لموسى ، وأخذها موسى بعد أن القاها وكسر بعضها .
وموارد [كُتِبَ عَلَيْكُمُ] أربعة وهي :
الأول : قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الثاني : قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثالث : قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ]( ).
الرابع : قال تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ]( ).
وتسمية آية السيف خلاف اختيار الاسم الحسن فتسمية السيف ليس من القرآن , إذ ليس فيه لفظ سيف , وهو من إعجازه ودعوته العامة للسلم .
قال تعالى [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ]( ).
قال تعالى [وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
قال تعالى [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
وهل ينسخ الأئمة المعصومون آيات القرآن من مقام الإمامة والتشريع الإبتدائي ، وأنه متصل ومتداخل مع مقام البيان والتبليغ ، الجواب لا ، والأئمة لا يرضون بنسبة نسخ الآيات لهم تشريعاً .
ومع أن عدد أحاديث الكافي ( 16121 ) على رواية المجلسي ، وفيها الصحيح والضعيف سنداً فانك لا تجد الأئمة يصرحون بأنهم يشرعون إبتداءً ما فيه نسخ للقرآن .
وحتى القائل بأن أحاديث الكافي كلها صحيحة وأنه بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة والجماعة ، وأوجبوا العمل بكل الأحاديث في الكافي ، فلا حاجة لعلم الرجال اشترطوا أن لا يكون تعارض بين الأحاديث والقرآن .
والمختار أن أحاديث الكافي ونحوه ليست كلها صحيحة السند والدلالة ، والمدار على قانون عرض الأحاديث عند المسلمين مطلقاً على القرآن لشرط موافقتها له ، وعدم تعارضها معه، وهو من مصاديق قانون سلامة القرآن من التحريف ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
وكتاب الكافي للشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي .
ولد في قرية كُلين جنوب طهران من توابع (مدينة الري ) توفي ببغداد سنة 329 هجرية – 941 ميلادية.
كان معنى النسخ عند القدماء هو التخصيص ، فمثلاً قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( ) هي منسوخة بآية [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]( )، والتخصيص هو قصر العام على بعض أفراده بدليل ظاهر ، أما النسخ فهو مجئ ناسخ رافع لحكم ثابت لولا الناسخ الذي جاء متأخراً زماناً لبقى المنسوخ ذاته .
ومن نسخ القرآن للسنة ، نسخ القبلة فقد كانت إلى بيت المقدس ، وعليه السنة والإجماع ، ثم نزل القرآن بالتوجه إلى البيت الحرام ، قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( ) .
ومنه نسخ صوم التطوع بالصوم الواجب في رمضان ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..]( ).
الحارث بن كَلَدَة
قال الحارث بن كَلَدَة الثقفي: من بلغ الخمسين فلا يقربن الحجامة ، ولا يأخذ من الدواء إلا ما لابد منه ، إنه لا يصلح شيئاً إلا أفسد غيره ، أي المضاعفات الجانبية .
وهو طبيب في الجاهلية ، وأدرك الإسلام ، وجاريته سمية جلبها من فارس والتي ولدت زياد بن أبيه ، والحقه معاوية بأبي سفيان .
وقد ولدت سمية قبل زياد ولدين ، هما الصحابي أبو بكرة واسمه نفيع ، وأخوه الصحابي نافع أقر الحارث أنه ولده فنسب إليه و(عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الطائف: ” من خرج إلينا من العبيد فهو حر “.
فخرج عبيد من العبيد فيهم أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
ونافع هذا هو أحد الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة في البصرة هو وأخوه أبو بكرة ، وشبل بن معد ، ولكن زياداً لم يقطع الشهادة عند عمر بن الخطاب ، فجلد الثلاثة .
و(أخرج ابن سعد والبيهقي وأبو نعيم وابن السكن عن نافع بن الحارث بن كلدة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زهاء أربعمائة رجل .
فنزل بنا على غير ماء فاشتد على الناس إذ أقبلت عنز تمشي حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محددة القرنين فحلبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأروى الجند وروي.
ثم قال يا نافع املكها وما أراك تملكها فأخذت عودا فوكزته في الأرض وأخذت رباطا فربطت الشاة فاستوثقت منها ونام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ونام الناس ونمت فاستيقظت وإذا الحبل محلول وإذا لا شاة.
فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أو ما أخبرتك أنك لا تملكها إن الذي جاء بها هو الذي ذهب بها) ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أحياناً من به علة أن يأتي الحارث فيخبره عن علته .
ومن وصايا الحارث الطبية : لا تتزوجوا إلا شابة ، ولا تأكلوا الفاكهة إلا ناضجة ، ولا يتعالجن أحدكم ما أحتمل به بدنه الداء ، وقال من سره البقاء ولا بقاء فليباكر الغداء وليخفف الرداء ، وليقل غشيان النساء.
ونسب هذا القول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إختلاف قليل ، وإلى الإمام علي عليه السلام .
وخفة الرداء قلة الدين لبيان الطب النفسي .
ووفد الحارث على كسرى فسأله (ما صناعتك؟ قال: الطب ، قال فما صنع العرب بالطبيب مع جهلها وسوء أغذيتها؟
فقال أيها الملك إذا كانت هذه صفتها كانت أحوج إلى من يصلح جهلها ويسوس أبدانها فإن العاقل يعرف ذلك من نفسه ويحترز من الأدواء بحسن سياسته.
قال فما تحمد من أخلاق العرب؟
قال أنفسّ سخية، وقلوب جريّة، ولغة فصيحة، وأنساب صحيحة.
فأمرء بالجلوس فجلس وقال ما الداء؟
قال: ادخال طعام على طعام.
قال: ما تقول في الشراب؟
قال: أطيبه أهنأه وأرقّه أمرؤه لا تشربه صرفا فيورثك صداعاً، ويثير عليك من الأدواء أنواعاً.
قال:فما تقول في الفواكه؟
قال كلها في إقبالها واتركها إذا أدبرت.
قال ففي أي الأوقات الإتيان افضل؟( )
قال عند إدبار الليل.
قال: ولم ، قال يكون الجوف أخلى، والنفس أهدا والقلب أشهى، والحرّ أدفا.
فقال له كسرى: لله درّك من أعرابيّ لقد أعطيت علماً وأحسنت وصفاً وفهما. وأمر بتدوين ما نطق به) ( ) .
مما يدل على توثيق ديوان كسرى حتى المحادثة ذات الأهمية أو النفع .
وهذا الزمان عهد التوثيق الدقيق للوقائع والأحداث والأسماء والتواريخ ، فيلزم الحرص على توثيق ما هو حسن من القول والفعل ، وما يعود على الأمة بالخير والفلاح .
ولو تعارض ما قاله الحارث بن كلدة مع علم الطب الحديث فيؤخذ بالطب الحديث لأنه وفق دراسات علمية وتجارب مختبرية دقيقة .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الموعظة للتجربة لإستقراء المسائل النافعة ، وإجتناب الضارة ، ودلت الشواهد على أن الإرهاب بغيض وضار للذات والغير ، ولابد من الإمتناع عنه .
قانون التقوى فقاهة
التقوى هي السعي والمجاهدة في الله وإكراه النفس على إختيار الصبر والحيلولة بينها وبين الميل إلى زينة الدنيا ومباهجها، الأمر الذي يستلزم حضور الهدى لخلق هذه الملكة في النفس ولتعاهدها ومنع النفس من الملل والكسل والقنوط والركون إلى الدنيا وما فيها من الشهوات واللذات.
إن الإستزادة من المعارف الإلهية، والتوجه إلى مناهل وردها وطرق كسبها يجعل المؤمن يرتقي في منازل التقوى ويضع أقدامه في مقامات اليقين، ان قوله تعالى [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ) بيان لحاجة المتقين وأولياء الله إلى الهدى، لذا تفضل الله سبحانه بنزول القرآن ليهتدي المسلمون بآياته ويستنيروا بأحكامه.
وتؤكد الآية عدم إستغناء المؤمنين – أفراداً وجماعات – عن كتاب منزل من السماء يتضمن مسالك الهدى في أعلى مراتبه وأدق تفاصيله وأحسن مواعظه ودروسه، فكان القرآن تلك النعمة المتجددة, والمعجزة الخالدة والسبيل نحو مرضاة الله.
ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض أنها مزينة بالتقوى والخشية من الله بأن يمتلأ القلب بحب الله ، وتلبي أركان البدن الواجبات ، وتمتنع الجوارح كاللسان والفرج واليد عن المعصية والتعدي والظلم ، وهذا المعنى من الفقاهة الفطرية التي جعلها الله عز وجل عند الإنسان من غير جهد إضافي للإكتساب ، لذا قد تجد إنساناً على الفطرة لا يقرأ ولا يكتب متقيداً بسنن التقوى أكثر من متعلم .
والفطرة أول من تحتج على الإنسان بلزم ترك الإرهاب وسفك الدماء ، لأنه خلاف ميل القلب وإدراك العقل لقبح المعاصي .
ويمكن تقسيم التقوى إلى قسمين :
الأول : تقوى القلوب ، قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب] ( ).
الثاني : تقوى الجوارح ، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ) .
والمختار أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق .
فتقوى القلوب هي الأعم ، لذا نزل القرآن بالعناية بايمان القلوب ، وبالحرب على النفاق وإخفاء الكفر مع إظهار الإيمان ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الإيمان عقيدة وقولاً وفعلاً ، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الليل حتى تورمت قدماه .
وصام حتى قيل لا يفطر .
وخرج في مقدمة الكتائب إلى سوح الدفاع .
وحج البيت واعتمر ليعلم المسلمين مناهج الصلاح والتقوى بعيداً عن الإرهاب ، إذ بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لمنع الإضرار بالناس .
و(عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: [ لا ضرر ولا ضرار من ضار ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه ]) ( ).
والإرهاب ضرر بالذات وإضرار للغير ، وهو خلاف التقوى وما تجلبه للنفس الإنسانية من السعادة والغبطة .
جدول بالحروف المقطعة في القرآن
سميت الحروف المقطعة لأنها تقرأ بأسمائها ، حرفاً حرفاً ، ولا تقرأ كلمة واحدة ، وان اتصلت في رسمها كالكلمة مثل [كهيعص]( )، فانها تقرأ : كاف ، هاء ، ياء ، عين ، صاد ، وجمعت بقول : نص حكيم قاطع له سر.
ومع قلة الحروف المقطعة في القرآن فإنها جاءت فواتح لأربع عشرة سورة بصيغ متعددة كما في الجدول الآتي :
ت نوع الحروف المقطعة مثال السور التي جاءت فيها
1 حروف آحادية ص، ق، ن ص ، ق ، ن
2 حروف ثنائية طه ، طس ، يس ، حم
طه ، النمل ، يس ، غافر ، فصلت ، الشورى ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، الأحقاف
3 حروف ثلاثية الم ، الر ،طسم البقرة ، آل عمران ، العنكبوت ، الروم ، السجدة ، يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ، الحج ، الشعراء ، القصص
4 حروف رباعية المص ، المر الأعراف ، الرعد
5 حروف خماسية كهيعص ، حم عسق مريم ، الشورى
كتيبة بني المصطلق واحتجاج الملائكة
وتسمى هذه الكتيبة غزوة بني المصطلق ، ولم تكن غزوة إنما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يجمعون الجموع لغزو المدينة ، فسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتفريقهم ، وفيه درء لفتنة عامة , ومنع من سفك الدماء ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ]( ).
ولما أخبر الله عز وجل الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، تساءلوا عن هذه الخلافة وسط الفساد وسفك الدماء ، فقال تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
ليشهد الملائكة مصاديق من علم الله في المقام كيف أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يسير مع أصحابه إلى بني المصطلق ليكون من غايات هذه الكتيبة بلحاظ الآية وجوه :
الأول : كتيبة بني المصطلق حرب على الشرك.
الثاني : تأديب الكفار .
الثالث : استباق هجوم المشركين على المدينة .
الرابع : منع الإقتتال في أطراف المدينة وداخلها.
الخامس : كتيبة بني المصطلق نهي فعلي عن الإرهاب .
السادس : عجز المنافقين عن التمادي في الفساد بالبث المتصل لسمومهم في المدينة إذ كانوا يشمتون بالصحابة ، وبالذين يقتلون منهم ، ويقولون لو بقوا في المدينة ولم يخرجوا لم يقتلوا ، يشيرون بأن النبي محمداً سبب في خروجهم ، وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
فخرج المهاجرون والأنصار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني المصطلق وعادوا سالمين غانمين.
ولو بقوا في المدينة لتعرضوا للغزو والهجوم ولتضرر حتى المنافقين واليهود وأسرهم من مباغتة بني المصطلق وغيرهم بهجومهم على المدينة لذا لا يستطيع أحد إحصاء المنافع من كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الله عز وجل.
قول الهيثم بن عدي في الوأد
كان الوأد قليلاً عند كندة ومضر وخزاعة ، ولكن الهيثم بن عدي الكوفي كان يقطع بانتشار عادة الوأد في عامة القبائل العربية ، ولا أصل لقوله هذا ، وهو متروك الحديث ، وكان يعمد إلى إظهار معايب الناس .
قال البخاري (ليس بثقة كان يكذب وقال أبو داود كذّاب وقال النسائي وغيره متروك الحديث) ( ).
وقال (عباس الدوري حدثنا بعض أصحابنا قال قالت جارية الهيثم بن عدي كان مولاي يقوم عامة الليل يصلي فإذا أصبح جلس يكذب) ( ).
والخبر ضعيف سنداً ، ولكنه مشهور ، وذكر في عدد من الكتب الرجالية لظرافته وما يحمله من التضاد ولكثرة من نعتوا الهيثم بالكذب .
والظاهر رصد الجارية له بالكذب في الوقائع اليومية داخل بيتهم ونحوها ، مع احتمال أن تكون على إطلاع في الحديث والدراية في الجملة.
مات الهيثم سنة سبع ومائتين عن ثلاث وتسعين سنة( ).
وهجاه أبو نؤاس بعدة أبيات في حديث طويل بعد أن زار أبو نؤاس مجلسه ، ولم يرحب به على نحو الخصوص لعدم معرفته به ، فلا أصل لقول الهيثم بن عدي بأن عادة وأد البنات كانت منتشرة في عامة القبائل العربية.
لذا كان افراد قلائل من الصحابة يأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يستغفرون الله بخصوص وأدهم بناتهم ، والإستغفار في المقام من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن آيتين من سورة التكوير [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ) مجموع كلماتهما ست كلمات تبعث الناس على العصمة من عادة قبيحة ، وتجعلهم يدركون قبح وضرر الوأد ويبادرون إلى الإستغفار ، وسؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغفر لهم.
حرمة الكذب في الرؤيا
الرؤيا عالم خاص ، فيرى الإنسان الرؤيا ، ولا يطلع عليها إلا الله عز وجل ، وتحتمل الرؤيا وجوهاً :
الأول : الرؤيا بأمر واذن من عند الله عز وجل.
الثاني : تختص الرؤيا الصادقة بأنها من عند الله عز وجل .
الثالث : الرؤيا من سنخية خلق الإنسان وحاله ، وأثر الأخلاط عنده .
الرابع : التفصيل فشطر من الرؤيا بأذن من الله عز وجل ، وشطر أضغاث أحلام ، وفي التنزيل [قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ]( ).
والمختار أن الرؤيا مطلقاً باذن من عند الله عز وجل ، ولا تأتي الرؤيا للعبد إلا بأمر واذن من عند الله بما فيها أضغاث الأحلام .
وحذر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكذب في الرؤيا من جهات :
الأولى : الكذب على الله في الرؤيا ، لأن الرؤيا حبل جعله الله عز وجل بينه بين روح العبد ، فتأتيه البشارة والإنذار في المقام ، فادعاء الرؤيا أمر ضار ، و(عن عبادة بن الصامت : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) ( ).
ولا تختص حرمة الكذب في الرؤيا بما يرويه الإنسان عن نفسه كذباً ، بل يشمل نسبة الرؤيا لغيره افتراءً ، كما لو قال : إن فلاناً رأى رؤيا كذا وهو لم يرها ، ولم يذكر أنه رآى تلك الرؤيا.
الثانية : الكذب على رسول الله في الرؤيا بأن يدّعي الإنسان أنه رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم , و(عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من أعظم الفراء من يقول علي ما لم أقل، ومن أرى عينيه في النوم ما لم تريا، ومن ادعى إلى غير أبيه)) ( ).
لبيان الشأن العظيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في عالم الرؤيا ولأن رؤيته في المنام رؤيا صادقة لا يقربها الشيطان ولزوم عدم الرؤيا الكاذبة ، ولطرد الغفلة عن الناس .
الثالثة : الكذب بالرؤيا للمزاح والسخرية ونحوها ، أو لتحقيق غايات شخصية، أو لمعرفته بالتأويل العام للرؤيا التي يدعي .
وعن (ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : [ من تحلم كاذبا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ولن يعقد بينهما ]) ( ).
ورؤيا الإنسان ليس بحجة ، عدا رؤيا الوحي التي تأتي للأنبياء ، لبيان الأولوية في حرمة الكذب في الواقع والحقيقة ، فاذا كان الكذب في الرؤيا محرماً ومنهياً عنه ، وفيه الإثم والعقوبة يوم القيامة ، فان الكذب في الواقع أشد ضرراً وإثماً وعقوبة ، والتوقي والتنزه عن الإرهاب ينجي الإنسان من الكذب في اليقظة والرؤيا .
فلا يلجأ إليه عند السؤال والمسائلة ، وحتى الإخبار إبتداءً ، وهل يكون الكذب في الرؤيا من عمومات الكذب ، والإنذار منه والذي ورد (عن أبي بكر الصديق قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر وهما في الجنة ، وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور وهما في النار.
ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، ولا يزال يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) ( ) الجواب نعم .
وقد تكون الرؤيا فتنة ، قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا] ( ) لبيان الإمتناع عن الكذب في الرؤيا ، وان الله عز وجل يؤاخذ عليها ، ويلزم العلماء والمؤمنين ببيان قبح الكذب في الرؤيا ، وفضح ما يؤدي إلى الإرهاب والرعب العام ، وخطاب الكراهية الذي لا أصل له.
لقد جعل الله عز وجل الرؤيا بشارة وإنذاراً ومناسبة للدعاء والإتعاظ ، فلا يصح الكذب فيها ، ومن أضرار هذا الكذب صيرورته سبباً لقلة الإتعاظ من الرؤيا .
وعن أم سلمى: امرأة من الانصار قالت: دخلت على أم سلمة وهي تبكى، قلت : ما يبكيك؟ قالت: رأيت الآن رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام وهو يبكى.
فقلت: ما لك يا رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: شهدت قتل الحسين آنفا)( ).
وعن سلمى قالت: دخلت علي أم سلمة وهي تبكي، فقلت: ما يبكيك ؟ قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: ما لك يا رسول الله.
قال: شهدت قتل الحسين آنفاً) ( ).
وقد ذكرت رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام يرثي الحسين عند مقتله في الصحاح والإصابة وأسد الغابة وذكره الحاكم في المستدرك 15/500.
وعن (نضرة الأزدية قالت لما قتل الحسين بن علي مطرت السماء دما فأصبح جرارنا وكل شيء لنا ملآي دما) ( ).
من البشارات بالنبي محمد (ص)
قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ* إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ) فكانت رحلتهم في الصيف إلى الشام لبرودة الجو فيه , وفي الشتاء يرحلون إلى اليمن لأنها بلاد حامية , وليس هذا قاعدة ثابتة , فقد تختلف بعض الرحلات حسب التجارة والكسب والحاجة.
ومن أهل الكتاب من يأتي إلى مكة للتجارة ونحوها وبعضهم يخبر قريشاَ بقرب بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيخبرهم بنبوته أو بنبوته واسمه , ويحذرهم منه .
(وجاء رجل من أهل الكتاب إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة فقال: ولد لكم الليلة مولود.
قالوا: لا.
قال: أخطأكم والله معشر قريش فقد ولد إذا بفلسطين غلام اسمه أحمد، به شامة كلون الحر الأدكن يكون به هلاك أهل الكتاب، فلم يريموا حتى قيل لهم إنه ولد لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام.
فمضى الرجل حتى نظر إليه ثم قال: هو والله هو! ويل أهل الكتاب منه.
فلما رأى سرور قريش بما سمعت منه قال: والله ليسطون بكم سطوة يتحدث بها أهل المشرق والمغرب) ( ).
وهل هذا التحذير تأليب وتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإجهاز عليه قبل بعثته أو في أيام البعثة الأولى الجواب نعم , لذا نزل قوله تعالى [لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
لبيان معجزة نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكيد والمكر قبل ولادته وبعدها , وقبل البعثة وبعدها .
وهو من الدلائل على عموم المكر وعدم اختصاص واو الجماعة في قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ] بالذين يريدون حبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قتله أو إخراجه من مكة بالطريقة التي يبغون وبما فيه الضرر له , إنما يشمل المكر غيرهم أيضاَ من أعداء النبوة والتنزيل ومنهم الذين حرضوا عليه وكذّبوه وآذوه والذين فرضوا الحصار على بني هاشم ثلاث سنين في شعب أبي طالب .
ولما بلغت أنباء البعثة رجالات قريش واسم النبي المبعوث قام بعضهم بتسمية اسم محمد .
الولادة المباركة
لقد أشرقت الأرض بولادة خاتمة النبيين من أصلاب طيبة وأرحام طاهرة , و(عن أنس قال : خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أنا محمدٌ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطلبِ بن هاشمِ بنِ عبدِ منافِ بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كَعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار .
وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما ، فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهد الجاهلية ، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سِفاح من لدن آدم ، حتى انتهيت إلى أبي وأمي ، فأنا خيركم نفساً وخيركم أباً) ( ).
لقد نذر عبد المطلب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يذبح أحد أبنائه إن بلغوا عشرة , فتم له عشرة أولاد ذكور .
وكان إبراهيم عليه السلام من قبل قد رأى رؤيا كما في قوله تعالى [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ).
ومن الإعجاز أن إسماعيل تلقى نبأ ذبحه بأنه أمر من عند الله عز وجل , مما يدل على أن رؤيا إبراهيم هذه وحي وأن إسماعيل مصدق بنبوة أبيه إبراهيم , وقول أن الذبيح هو إسحاق ونسب إلى المشهور.
ولم يرد لفظ (أَذْبَحُكَ) في القرآن إلا في الآية أعلاه , وعدم تحقق هذا الذبح وورد قوله تعالى [وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ] ( ).
لبيان قانون وهو أن القرآن لم ينزل بالذبح والقتل إنما نزل بالسلم والأمن , وهو من الشواهد على قولنا بعدم صحة تسمية آية السيف , [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) لأن القرآن خال من لفظ السيف , وفيه زجر عن ذبح الإنسان مطلقاَ وقد ورد لفظ (تَذْبَحُوا) بخصوص ذبح بني إسرائيل لبقرة لبيان قانون حرمة ذبح الإنسان مطلقاَ , وأن الذبح يقع على الحيوان , قال تعالى [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ]( ) .
ولم يكن نذر عبد المطلب عن وحي فهو ليس نبياَ , فهناك فترة نحو ستمائة سنة بين عيسى عليه السلام وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث الله عز وجل فيها نبياَ .
وهل كان نذر عبد المطلب عن رؤيا صادقة كرؤيا الملك أيام يوسف عليه السلام [وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ]( ).
المختار لا , إنما كان نذر عبد المطلب بإجتهاد منه وتوسل إلى الله عز وجل بكثرة الولد .
وهل نذره هذا صحيح .
الجواب لا , فالنعمة لا تشكر بالذبح والتلف , وإن كان عبد المطلب موحداَ حينئذ , كما يدل عليه كلامه واحتجاجه على أبرهة ، وفيه آية من عند الله بنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل ولادته وبعدها ، وبعد البعثة .
وتحتمل نجاة عبد الله والد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الذبح في نذر عبد المطلب وجوهاً :
الأول : إنها من مصاديق [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ]( ) .
الثاني : إنها عصمة سابقة للولادة وهي من الإستصحاب القهقري للآية أعلاه .
الثالث : تقدير مضامين الآية أعلاه بلحاظ الزمان المتقدم على نزولها [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ]( ).
الرابع : ليس من صلة بين نجاة عبد الله والد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الذبح وبين آية العصمة أعلاه .
وباستثناء الوجه الأخير أعلاه فان الوجوه الأخرى من المصاديق ، ومن عمومات قوله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ).
وضع حرب البسوس أوزارها بولادة النبي محمد (ص)
لقد كان العرب يغزو بعضهم بعضاً ،ويكثر القتل بينهم ومنها حرب البسوس بين قبيلتين هما تغلب بن وائل ، وبني شيبان في الحجاز في منطقة الباحة أثر مقتل الملك كُليب بن ربيعة التغلبي على يد جساس بن مرة الشيباني من قبيلة بكر بن وائل ، وسبب هذه المعركة ناقة للبسوس بنت منقذ سرحت مع إبل كليب ، ودنت من بئر يعود لتغلب ، فرماها كُليب بسهم فقتلها ، وقيل كانت الناقة لضيف عند البسوس فاستغاثت البسوس بابن اختها جسّاس الذي قتل كُليباً غدراً .
فقاد المهُلهل عدي بن ربيعة أخو كليب حرباً ضد قبيلة بكر بن وائل استمرت أربعين سنة .
ولا يعني هذا أن الحرب تقع كل يوم بل هي أيام متفرقة منها :
الأول : يوم النهى ، وهو أول يوم منها .
الثاني : يوم زبيد .
الثالث : يوم الذنائب .
الرابع : يوم واردات .
الخامس : يوم عويرضات.
السادس : يوم أنيق .
السابع : يوم الحنو .
الثامن : يوم ضربة .
التاسع : يوم القصيبات .
العاشر : يوم العصبات .
وكانت الغلبة في أكثر هذه الأيام لقبيلة تغلب وحلفائها ، كما كانت تقع وقائع فردية من الثأر والغارات والغزو إلى أن تمكن المهلهل من قتل جساس بن مرة ونشبت هذه الحرب سنة 534 م .
وانتهت في السني الأولى لولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان بركة ولادته صلى الله عليه وآله وسلم لتنقطع الحروب والمعارك برسالته ، وفيه دعوة إلى الشباب المسلم في كل زمان لإجتناب القتال وسفك الدماء والإرهاب .
لقد أراد الله عز وجل برسالته ونزول القرآن الأمن العام لجميع الناس فيحرم على المسلم العبث بهذا الأمن ، ولن تستطيع جماعة أو منظمة خرمه ونقضه ، إنما هي إبتلاء وفتنة لا تلبث أن تزول ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ] ( ).
من معجزات المولد
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التخفيف والرحمة لعامة الناس ، ومنها البشارة ببعثة الأنبياء وتهيئة الأذهان لقبولها ، وتجلي الآيات والعلامات الكونية التي تهدي الناس إلى مسالك الإيمان.
سواء الآيات السماوية أو الأرضية ، وما فيه العبرة والموعظة ، لذا يقسم الله عز وجل في التنزيل بمخلوقاته لأنها من بدائع صنعه ، ويدعو الناس للتدبر فيها ، واتخاذها وسيلة للإيمان مثل [وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا]( )، وقوله تعالى [فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ]( ).
لقد ولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد حادثة الفيل بأيام معدودات على اختلاف فيها وهي شهر ، أربعون يوماً ، خمسون يوماً ، مما يدل على الإجماع المركب بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولد بعد حادثة الفيل وهلاك أبرهة الأشرم الذي أراد هدم الكعبة.
وفي الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان نفر من قريش يجتمعون عند صنم لهم في يوم مخصوص من السنة يتخذونه عيداً ، ويعظمون هذا الصنم وينحرون عنده الجزر ، ثم يأكلون ويشربون الخمر ويعكفون عليه ، فدخلوا عليه في الليل فرآوه مكبوباً على وجهه فانكروا الأمر وردوه إلى حاله ، فلم يلبث أن انقلب انقلاباً أشد وبما يدل بأن الأمر ليس بفعل إنسان فأخذوه وردوه إلى حاله .
ثم أنقلب ثالثة فجعل عثمان بن الحويرث يقول :
أيا صنم العيد الذي صف حوله … صناديد وفد من بعيد ومن قرب
تكوست مغلوبا فما ذاك قل لنا … أذاك سفية أم تكوست للتعب
وإن كان من ذنب أتيتنا فإننا … نبوء بإقرار ونلوي عن الذنب
وإن كنت مغلوبا تكوست صاغرا..فما أنت في الأوثان بالسيد الرب)( ).
وقيل هتف بهم هاتف من الصنم بصوت جهير بابيات شعر ينبئهم عن ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الليلة.
لقد كانت ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بداية الحرب على الإرهاب , وزيغ الشياطين , وقصدها الإضرار بجنس الناس عامة , والمؤمنين خاصة , وما الإرهاب إلا إضرار عام فالإبتعاد عنه قهر للشياطين وبعث لليأس في نفوس جنوده .
ولادة الإمام علي (ع) في الكعبة
ولد الإمام علي عليه السلام يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب بعد الفيل بثلاثين سنة ، في جوف الكعبة سنة 23 قبل الهجرة واستشهد في اليوم الواحد والعشرين من شهر رمضان في السنة الأربعين للهجرة.
وهاجر إلى المدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أيام.
وعن الحاكم النيسابوري يقول : تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين في جوف الكعبة .
ولم يولد قبله أو بعده في الكعبة .
ولما أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيت في فراشه ليلة الهجرة قال أو تسلمن هناك يا نبي الله فقال : نعم يا علي .
فسجد شكراً لله عز وجل ، وقيل هي أول سجدة شكر في الإسلام فنزلت آية [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ]( ).
وحاصر عشرة من الشباب من كفار قريش البيت من أول الليل وأرادوا الهجوم منتصف الليل .
فانتظروا حتى طلوع الفجر ، وأرادوا قتله عند الصباح ليعلم بنو هاشم أن الذين قتلوه جماعة من بيوتات شتى وليس واحداً.
فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يحيطون بالبيت الذي لم يكن كبيراً ، فلم يتمكنوا من رؤيته ، وكان يتلو [وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ]( ).
وخرج من مكة خفية ونزل قوله تعالى [ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، وورد اسم الجلالة في هذه الآية خمس مرات.
وهل من دلالات في علم الإحصاء لتعدد اسم الجلالة في الآية الواحدة ، الجواب نعم ، وقد ورد اسم الجلالة سبع مرات في آية أخرى ، كما في قوله تعالى [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ] ( ) .
قانون سعة العصمة
من إعجاز القرآن قانون التفسير الذاتي ، إذ تفسر وتبين آياته مضامين بعضها بعضاً .
وهذا التفسير من مصاديق قانون إتصاف القرآن بالبركة ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
ليكون التدبر في الصلة بين آيات القرآن وقانون انتفاء التعارض بينها من مصاديق التدبر في آيات القرآن الذي تذكره الآية أعلاه التي هي مما يجب التدبر والتفكر والتذكر فيها .
ومن الإعجاز العلمي للقرآن وقانون المصاديق الواقعية للآية القرآنية تلك المصاديق التي تتحدى قانون العلة والمعلول ، ومنها مصداق العصمة في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) .
وقد نزلت هذه الآية بخصوص بيعة الغدير على المشهور والمختار ، ومضامين الآية أعم من أسباب وموضوع النزول ، إذ انها وعد من عند الله عز وجل بأن كيد المشركين مصروف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن جابر بن عبد الله قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت {والله يعصمك من الناس } فذهب ليبعث معه فقال : يا عم ، إن الله قد عصمني لا( ) حاجة لي إلى من تبعث) ( ).
وعن أبي ذر قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينام إلا ونحن حوله من مخافة الغوائل ، حتى نزلت آية العصمة { والله يعصمك من الناس })( ).
ومن مصاديق عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نجاته من مكر قريش ومن القتل في معركة بدر وأحد .
ولا يعلم مصاديق العصمة في الآية أعلاه إلا الله عز وجل ، وهو سبحانه يعلم مقدماته وكيفية ووسائل هذه العصمة ، وهل تنقطع عصمة النبي التي وردت في قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ] ( )، بانتقاله إلى الرفيق الأعلى ، الجواب لا ، لذا ورد لفظ الناس في الآية والذي يفيد الجنس والعموم الإستغراقي ، فهذه العصمة مستمرة إلى يوم القيامة ، ولا عبرة بالقليل النادر ممن يظلم نفسه ، ويمكن تقدير آية الخلافة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) رسولاً أعصمه من الناس .
وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يحصي أفراد عصمته من الناس إلا الله عز وجل ، إذ تتخلف الملائكة عن الإحاطة بها ، لذا حينما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ومن الخطأ والزلل ، ومن الإفتراء عليه في حياته وبعد مماته ، وإن حدث هذا الإفتراء فسرعان ما ينكشف ولا يترتب عليه أثر ، ولا يعلم أسباب ومنافع هذا الإنكشاف إلا الله عز وجل الذي [أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] ( ).
وتحتمل العصمة بخصوص المؤمنين ولحاظ هذه الآية وجوهاً :
الأول : شمول العصمة الواردة في الآية أعلاه من سورة المائدة الصحابة وأهل البيت والمؤمنين والمؤمنات .
الثاني : إختصاص العصمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين يقومون بتبليغ الرسالة وأحكام الشريعة .
الثالث : تترشح عصمة المؤمنين من آيات قرآنية أخرى .
الرابع : القدر المتيقن من العصمة هو عصمة الرسول وحده ، وهو من مختصاته ، كما في قيامه الليل ، وتعدد الزوجات لأكثر من أربعة .
والمختار هو الرابع ، فالآية وردت بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنها أعم في رشحاتها ، ولا يعلم إنتفاع المسلمين والمسلمات من هذه الآية إلا الله عز وجل .
حديث عبد المطلب مع أبرهة
لقد استولى رجال أبرهة وهم في طريقهم للإستيلاء على مكة وهدم البيت على مائتين من إبل عبد المطلب فذهب عبد المطلب لأبرهة , وشفع له أنيس سائس الفيل ، (فدخل أنيس على ابرهة فقال : أيّها الملك هذا سيّد قريش وصاحب عير مكّة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، يستأذن عليك، وأنا أحب أن تأذن له فيكلّمك،
وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالفٌ عليك فأْذن له.
وكان عبد المطّلب جسيماً وسيماً عظيماً، فلمّا رآه أبرهة أعظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على سريره وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه فأجلسه معه،
ثم قال لترجمانه قل له : حاجتك إلى الملك؟
فقال له الترجمان ذلك.
فقال عبد المطّلب : حاجتي إلى الملك أن يردّ علي مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة لترجمانه : أعْجَبْتَنِي حين رأيتك، ولقد زهدت فيك. قال : لِمَ؟
قال : جئتُ إلى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم لأهدمه لم تكلّمني فيه،
وتكلّمني في مائتي بعير أصبتها؟
قال عبد المطّلب : أنا ربّ هذه الإبل ولهذا البيت ربّ سَيمنَعَهُ.
قال : ما كان ليمنعه منّي.
قال : فأنت وذاك. فأمرَ بإبله فرُدّت عليه)( ).
وعاد عبد المطلب إلى مكة ودخل المسجد الحرام وأخذ بحلقة باب الكعبة وقال :
(يا رب لا نرجو لهم سواكا … يا رب فامنع منهم حماكا .
إن عدو البيت من عاداكا … امنعهم أن يخربوا قراكا) ( ) .
وهناك أبيات شعر أخرى قالها عبد المطلب في المناسبة.
بطلان نذر عبد المطلب
وهل ينعقد نذر عبد المطلب هذا بذبح أحد أولاده الجواب لا , فلا تصل النوبة إلى إنحلال النذر , ومن باب الأولوية أنه لا يتنجز , لعدم اجتماع شرائط التنجز .
لقد شاء الله عز وجل أن يصرف نذر عبد المطلب ليبعث الله عز وجل النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم بقواعد وشروط النذر الشرعي .
وكفارته عند تعذر إتيانه , فمن شرائط النذر قصد القربة, ووجود راجح له وان يكون في طاعة الله ( ) .
وهو متعذر في ذبح الابن وكفارة حنث النذر هي كفارة يمين , وهي تخييرية بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد تكون تعيينية بصيام ثلاثة أيام .
والأحوط استحباباَ أنها كفارة إفطار شهر رمضان.
وهل أراد عبد المطلب محاكاة إبراهيم عليه السلام في رؤياه بذبح ولده , الجواب هذا أمر ممكن ، ولكن مع الفارق لأن نذر إبراهيم عليه السلام من الوحي لبيان أن ذرية إبراهيم وإسماعيل يتوارثون أخبار النبوة .
و(روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْن يعني : أباه عبد الله بن عبد المطلب ، وإسماعيل بن إبراهيم)( ).
وشاء الله عز وجل أن ينجو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنجاة والده عبد الله من الذبح , إذ أن الوالد هو العلة المادية لتكّون الولد .
وهل كان من بركات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نجاة أبيه من الذبح , ورضا عبد المطلب بأن ينحر بدله مائة ناقة.
الجواب نعم , وبيان قانون سبق بركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لولادته .
إذ(تزوّج عبد المطلب النساء فولد له عشرة رهط .
فقال : اللهمَّ إني كنت نذرت لك نحر أحدهم وإني أقرع بينهم فأصيب بذلك من شئت . فأقرع بينهم فطارت القرعة على عبد الله ، وكان أحب ولده إليه فقال عبد المطلب : اللهم هو أحب إليك أم مائة من الابل؟
ثم أقرع بينه وبين المائة من الإِبل فطارت القرعة على المائة من الإِبل ، فنحرها عبد المطلب) ( ).
قانون ترتيب آيات القرآن توقيفي
يحتمل موضوع ترتيب آيات القرآن وجوهاَ :
الأول : إنه توقيفي من عند الله تعالى .
أي قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بترتيب الآيات والسور بأمر من جبرئيل عن أمر الله عز وجل , ولما جعله الله عز وجل في اللوح المحفوظ , قال تعالى [بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ]( ).
وعن ابن عباس : (أي كتبه الله في اللوح المحفوظ) ( ).
و(سئل النبي {صلى الله عليه وآله وسلم} متى كُتبتَ نبياً؟
قال : كُتبتُ نبياً وآدم بين الروح والجسد) ( ).
ومن الآيات الأخرى التي يمكن أن يستدل بها على قانون ترتيب القرآن توقيفي :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
ومن حفظ الله عز وجل للقرآن حفظ ترتيب الآيات والكلمات والحروف وليس ذات السور والآيات وحدها .
والنسبة بين حفظ الكلام , وحفظ ترتيبه ونظمه عموم وخصوص مطلق , فيدخل حفظ ترتيب الآيات والسور في مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثانية : قوله تعالى [فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]( ).
و(عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال : أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة { إن الله يأمر بالعدل والإحسان . . . . } إلى قوله : { تذكرون }( ))( ).
وهل يختص هذا الأمر بالآية أعلاه أم أنها وردت في الحديث من باب البيان والمثال , الجواب هو الثاني .
ولا يحصي منافع ترتيب سور وآيات القرآن غير الله عز وجل , وكذا سلامة هذا الترتيب من التغيير , ومن يد التحريف ، والتقديم والتأخير.
الثاني : ترتيب الآيات من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما لو كان ينزل عليه جبرئيل بالآية ويعين موضوع الآية النازلة فيأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاب الوحي بجعلها في موضع مناسب من القرآن .
الثالث : إنه من الصحابة الذين كتبوا القرآن .
والجواب انه توقيفي من عند الله تعالى , وعليه الإجماع.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان جبرئيل كان يعارضه بالقرآن أي يتدارس معه القرآن تلاوة وتنظيماً وبياناً .
وينزل فيقول له ضع هذه الآية في الموضع الفلاني من السورة الفلانية لذا تجد بعض الآيات المدنية وسط سور مكية وكذا العكس مما يؤكد شرعاَ وعقلاَ علم المناسبة وان كان هو يظهر بالوجدان.
وتتجلى فوائده وتقتطف ثمراته بالتحصيل، وقوله تعالى [ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ]( )، يتغشى الإحكام فيه فيشمل كل آية بالذات والنظم المستقل والمناسبة والصلة بين الآيات.
و(عن عائشة، عن فاطمة عليها السلام : أسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي)( ).
ويعارضني أي يتدارس معي ، وأقرأ عليه القرآن مما يدل على أن القراءة وترتيب آيات وسور القرآن توقيفي.
إن الترتيب السماوي للآيات في المصحف دعوة كريمة لجعل موضوعية للمناسبة والترابط بينها واستخراج درر النظم الباهر، وهذا العلم لا ينحصر بالآيات بل يشمل السور وترتيبها أيضاَ.
القانون السماوي لضبط التأريخ
تجري الشمس والقمر بنظام يومي دقيق بمشيئة وتعاهد يومي من عند الله عز وجل ، وكما يمسك الله عز وجل السموات والنجوم والكواكب أن تقع على الأرض ، كما في قوله تعالى [وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( )، فان الله سبحانه يمنع الشمس والقمر من مخالفة النظام الذي جعلهما عليه منذ أن خلق السموات والأرض ، لتتعاقب أجيال الناس على الأرض وتغادر ولكن الشمس والقمر مستمران بجريانهما .
وجعل الله عز وجل افراد الزمان هي الأخرى بنظام دقيق ، فجعل الأيام مقسمة إلى سنين ، وكل سنة تنقسم إلى اثني عشر شهراً ، والفيصل بين كل اثنين منهما الهلال ، فلكل شهر هلاله الخاص ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ…]( ) .
ولم تجعل الآية المواقيت لخصوص المسلمين بل لعموم الناس مما يدل على أن نظام الهلال الكوني نعمة عظيمة على البشرية .
وكما لم يذكر في القرآن اسم شهر إلا شهر رمضان ، فانه لم يذكر هلال مخصوص إلا هلال رمضان بقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..]( ) وهذه الضابطة كافية لتعيين كل من :
الأول : أشهر الحج بقوله [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ..] ( ).
الثاني : الأشهر الحرم بقوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ..]( ).
والنسبة بين أشهر الحج والأشهر الحرم عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق ، فمادة الإلتقاء هي شهران وهما :
الأول : شهر ذي القعدة .
الثاني : شهر ذي الحجة .
فكل منهما من أشهر الحج والأشهر الحرم .
أما مادة الإفتراق فهي ثلاثة أشهر :
الأول : شهر محرم من الأشهر الحرم ، وليس من أشهر الحج .
الثاني : شهر رجب من الأشهر الحرم ، وليس من أشهر الحج .
الثالث : شهر شوال من أشهر الحج ، وليس من الأشهر الحرام.
أما النسبة بين هذه الأشهر وشهر رمضان فهي التباين ، لأن شهر رمضان ليس من أشهر الحج ولا من الأشهر الحرم ، وهو من الأشهر الحل ، ولكن له قدسيته الخاصة ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
وهل ذكر اسم شهر رمضان في القرآن من القدسية الخاصة ، الجواب نعم ، وكذا صيرورته وعاءً زمانياً مباركاً لنزول القرآن .
وعندما كثرت أعداد المسلمين ، وإزدادت الهجرة إلى المدينة ، وصار الركبان يتناقلون آيات القرآن ، وجعلوها بديلاً للشعر الفصيح الذي كان حديث المجالس وزينة أسواق الموسم بذاته وما يؤرخه من الوقائع والأحداث إزداد غيظ قريش وصاروا يعدون العدة للهجوم والقتال.
ومن الإعجاز في المقام إتصاف السور المكية بالقصر ، وتضمنها للغة الإنذار والوعيد على الكفر والجحود ، وحمل الناس طوعاً وقهراً على إستحضار عالم الحساب والجزاء الأخروي في الوجود الذهني والمجالس ، والإنتفاع في الوقت وتوالي الأيام بالمبادرة إلى دخول الإسلام ، وإلى الإيمان ، ليكون من الإعجاز الموعظة والتذكير في إطلالة الهلال كل ثلاثين يوماً واتساعه حتى يصير بدراً ، ثم أخذه بالتضائل إلى أن يصير محاقاً ،قال تعالى [وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ]( ).
ولتساهم الكواكب في دعوة الإنسان كل يوم وليلة للإيمان ، ونبذ الكفر والظلم والتعدي والإرهاب ، ولا يحصي عدد الذين انتفعوا من الهلال ،وسير القمر والشمس في الهدى واكتساب الحسنات ، والعمل للدنيا والربح الحلال إلا الله عز وجل .
المكر في دار الندوة
لقد كان كبراء قريش يجتمعون في دار الندوة للتباحث في الأمور ، وعزموا على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه .
إذ قال (أبو جهل لكن أرى لكم أن تعمدوا إلى قبائلكم العشرة، فندبوا من كل قبيلة رجلا نجدا، ثم تسلحوه حساما عضبا، و تمهل الفتية حتى إذا غسق الليل و غور بيتوا بابن أبي كبيشة بياتا، فيذهب دمه في قبائل قريش جميعا، فلا يستطع بنو هاشم و بنو المطلب مناهضة قبائل قريش في صاحبهم، فيرضون حينئذ بالعقل منهم) ( ).
فنزل جبرئيل بقوله [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( )في الليلة التي أرادت فيها قريش الفتك بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمره بالهجرة ، وأن يبيت الإمام علي عليه السلام في فراشه .
فقال الإمام علي عليه السلام أو تسلم بمبيتي هناك يا نبي الله ، قال نعم.
فلم يبادر إلى ذهن الإمام علي عليه السلام المخاطر التي يتعرض لها في هذا المبيت ، ولكن همه كان بنجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولما توالت هجرة الصحابة وأقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في المدينة بأمان استشاطت قريش غضباً وصاروا يخططون لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
أما المهاجرون فلأنهم تركوا ديارهم وأموالهم طاعة لله ورسوله.
وأما الأنصار فلأنهم أووا ونصروا .
فتفضل الله عز وجل وأثنى عليهم وسماهم بتسمية لم يسمها أحد غيرهم في التأريخ ، وهي المهاجرون والأنصار ، قال تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
وذكر أن سبب نزول الآية أعلاه هو كتيبة تبوك لأنها في القيض وحال القحط وعن قتادة (خَرَجُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، الرَّجُلانِ وَالثَّلاثَةُ عَلَى بَعِيرٍ، وَخَرَجُوا فِي حُرٍّ شَدِيدٍ، فَأَصَابَهُمْ يَوْمًا عَطَشٌ شَدِيدٌ، فَجَعَلُوا يَنْحَرُونَ إِبِلَهُمْ فَيَعْصِرُونَ أَكْرَاشَهَا، فَيَشْرَبُونَ مَاءَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ عُسْرَةٌ مِنَ الْمَاءِ، وَعُسْرَةٌ مِنَ الظَّهْرِ، وَعُسْرَةٌ مِنَ النَّفَقَةَ)( ).
ولكن الآية أعم لذا ورد (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ ، قَالَ : هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ)( ).
وعن الشعبي قال (هُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ)( ).
والساعة في العرف مقدار محدد من النهار أو الليل وموضوعها أعم إذ يشار بها إلى الزمن مطلقاً ، وقد وصف الله عز وجل يوم القيامة بالساعة ، لأنه يأتي للناس بغتة وعلى حين غرة ، قال تعالى [هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ]( ) .
وكأن الزلزال الذي يقع في الأرض تذكرة بالساعة أو إلقاء السلاح النووي بغتة ، وقى الله عز وجل جميع أهل الأرض منه ، فمن معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وقانون دعاء المسلمين لأهل الأرض بمنع الهلاك العام وآفات الأرض والسماء ووقف الحروب ، وحينما اخبر الله عز وجل الملائكة بجعل خليفة في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
ومن معاني قولهم هذا الدعاء للناس بالإستقامة والتقوى والصلاح وهل منه لزوم إجتهاد الناس بالدعاء لصرف الحروب والآفات ، الجواب نعم .
وكأنهم يقولون للناس ما دمتم خلفاء في الأرض فادعوا الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) .
قانون معجزات [بِبَدْرٍ]
لقد جعل الله عز وجل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنعطافاً وتغييراً في التأريخ نحو الصلاح والإصلاح ، ولم يكن طريق الإصلاح معبداً في أي زمان ،ولكن المعوقات من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، وأشدها ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ استقبلته قريش بالتكذيب ، والإفتراء ثم بالسيوف والدروع ، ولو كانت عندهم أسلحة دمار شامل فهل يستعملونها لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ميدان معركة بدر .
المختار نعم ، ولا تصل النوبة يومئذ لمثل هذا السلاح ، فقد كفى كفار قريش هذه الأسلحة برجحان كفتهم بأكثر من ثلاثة أضعاف في كل من :
الأول : الرجال .
الثاني : السلاح والدروع .
الثالث : المؤن .
الرابع : الخيل والإبل .
فتحقق نصر المسلمين ليس بالأسباب المادية ولكن بصدق إيمانهم وإخلاصهم وتفانيهم ، لتكون هذه الخصال والحاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء سبباً للمدد والعون من عند الله.
فنزل ألف من الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (عن عبدالله بن مسعود، قال: ما سمعت مناشدا ينشد أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، جعل يقول: ” اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ” .
ثم التفت وكأن شق وجهه القمر وقال: كأنى أنظر إلى مصارع القوم عشية.) ( ).
وقد تقدم في أجزاء هذا السِفر ذكر معجزات متعددة حدثت في يوم معركة بدر ، وأخرى ترشحت وتترشح عنها إلى يوم القيامة، وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات للشكر لله تعالى على هذه النعمة ، وليس من حصر لمصاديق هذا الشكر ، ومنه التعاون في بسط الأمن والتألف بين الناس .
ومن أفراد الشكر في المقام التنزه عن الإرهاب والعنف ، والإمتناع عن التعدي على الآخرين ، قال تعالى [وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( )وهو من مصاديق التقوى التي أمر الله عز وجل بها في آية [بِبَدْرٍ] نفسها ، ويكون من مصاديق قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )، على وجوه :
الأول : فاتقوا الله باطاعة أوامره .
الثاني : فاتقوا الله بطاعة الرسول ، قال تعالى[مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( )ومن طاعة الله ورسوله نشر الأمن في الأرض .
الثالث : فاتقوا الله واستعدوا لمعركة أحد .
الرابع : فاتقوا الله بالإحتراز من النفاق والإنصات للمنافقين.
الخامس : فاتقوا الله وكونوا خلفاء الله في الأرض لتخلو من سفك الدماء ، أما الإرهاب فهو فساد وإزهاق للأرواح بغير حق .
السادس: فاتقوا الله ولا تعتدوا ، والنسبة بين الإعتداء والإرهاب عموم وخصوص مطلق ، فالنهي عن التعدي متصل ومتجدد في كل زمان ، لذا فان قوله تعالى [وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( )، ذكر المعنى الأعم وهو التعدي والظلم ، ليدل بالدلالة التضمنية على حرمة الإرهاب لأنه فرع التعدي والظلم .
قانون دعاء النبي (ص) مقدمة للنصر
لقد كانت معركة بدر فتنة عظمى أراد فيها المشركون استئصال الإسلام ، وإيقاف نزول آيات القرآن بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أصحابه ، وأسر طائفة أخرى خصوصاً المهاجرين ليشمت أهل مكة بهم ، ولحضّ مسلمي مكة والذين لم يهاجروا على الإرتداد ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ).
وقد دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عز وجل في واقعة بدر فاستجاب الله عز وجل دعاءه بالنصر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وهل معركة بدر من تخطيط قريش للإجهاز على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
فالمتوارث في كتب التفسير والسيرة والتأريخ أن أسباب هذه المعركة عزم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإستيلاء على قافلة أبي سفيان القادمة من الشام ، والمؤلفة من ألف بعير محملة بالبضائع .
لذا تسمى غزوة بدر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار أن غزوة بدر من قبل كفار قريش ، وأنهم هم الغزاة الذين سعوا في الإبادة العامة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في هذه المعركة .
أما غزوتهم في أحد ، والخندق فانهم عزموا على الإبادة العامة مع سبي النساء والأطفال ، لتكون خاتمة الآية أعلاه من سورة الأنفال [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) حكماً منبسطاً على مكر وتعد وظلم قريش قبل الهجرة وبعده خاصة وأن الآية وردت بصيغة الجمع الذي يفيد التجدد .
وقد حرصت قريش في هذه القافلة على مشاركة أهل مكة جميعاً في التجارة والمضاربة فيها ولعله جزء من المكر ومقدماته .
وعن (ابن شهاب وموسى بن عقبة قالا : مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد قتل ابن الحضرمي شهرين ، ثم أقبل أبو سفيان بن حرب في عير لقريش من الشام ومعها سبعون راكباً من بطون قريش كلها وفيهم مخرمة بن نوفل ، وعمرو بن العاص ، وكانوا تجاراً بالشام ومعهم خزائن أهل مكة ، ويقال : كانت عيرهم ألف بعير .
ولم يكن لأحد من قريش أوقية فما فوقها إلا بعث بها مع أبي سفيان إلا حويطب بن عبد العزى ، فلذلك كان تخلف عن بدر فلم يشهده .
فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقد كانت الحرب بينهم قبل ذاك ، وقتل ابن الحضرمي وأسر الرجلين عثمان والحكم.
فلما ذكرت عير أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدي بن أبي الزغباء الأنصاري من بني غنم وأصله من جهينة وبسبس – يعني ابن عمرو – إلى العير عينا له ، فسارا حتى أتيا حياً من جهينة قريباً من ساحل البحر ، فسألوهم عن العير وعن تجار قريش ، فأخبروهما بخبر القوم ، فرجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبراه فاستنفر المسلمين للعير وذلك في رمضان .
وقدم أبو سفيان على الجهنيين وهو متخوّف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
فقال : أحسوا من محمد فأخبروه خبر الراكبين عدي بن أبي الزغباء وبسبب ، وأشاروا له إلى مناخهما فقال أبو سفيان : خذوا من بعر بعيرهما ففته فوجد فيه النوى .
فقال : هذه علائف أهل يثرب وهذه عيون محمد وأصحابه ، فساروا سراعاً خائفين للطلب ، وبعث أبو سفيان رجلاً من بني غفار يقال له ضمضم بن عمرو إلى قريش أن انفروا فاحموا عيركم من محمد وأصحابه فإنه قد استنفر أصحابه ليعرضوا لنا) ( ).
لم يثبت استنفارالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه من أجل قافلة أبي سفيان , وكذا بالنسبة لبعثة العيون , فهو نظام متبع في الكتائب النبوية للإطلاع والإحتراز والإستكشاف .
الكوكب الأحمر
لقد كان بعض علماء يهود المدينة يتطلعون إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا يرجون أن تكون فيهم وهو من أسباب إختيار المدينة (يثرب) داراً لسكناهم لأنها تكون مهاجر خاتم النبيين .
وكسبهم كثير من العرب إلى ديانتهم , وهل كانوا يظنون أن خاتم النبيين سيكون من أصل عربي , الجواب لا يبعد هذا .
وعن (مالك بن سنان يقول: جئت بنى عبد الاشهل يوما لاتحدث فيهم، ونحن يومئذ في هدنة من الحرب)( ).
أي الحرب التي كانت بين الأوس والخزرج ، وهي حرب بُعاث –بضم الباء- والتي وقعت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها بخمس سنين وما يترشح عنها من البغضاء والشحناء ، وتحالف الأوس مع يهود قريظة وبني النضير .
وكانت الغلبة ظاهرة للأوس ، والفتنة متصلة إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصاروا إخوة بالإيمان ، قال تعالى [وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
ثم قال مالك بن سنان (فسمعت يوشع اليهودي يقول: أظل خروج نبى يقال له أحمد يخرج من الحرم.
فقال له خليفة بن ثعلبة الاشهلى، كالمستهزئ به: ما صفته ؟ فقال رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة ويركب الحمار، سيفه على عاتقه وهذا البلد مهاجره.
قال: فرجعت إلى قومي بنى خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع، فأسمع رجلا منا يقول: ويوشع يقول هذا وحده ؟ ! كل يهود يثرب يقولون هذا.
قال أبى مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت بنى قريظة فأجد جمعا، فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الاحمر الذى لم يطلع إلا لخروج نبى أو ظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، وهذا مهاجره.
قال أبو سعيد: فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبره أبى هذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو أسلم الزبير لاسلم ذووه من رؤساء اليهود، إنما هم له تبع)( ).
والكوكب الأحمر نجم ، كان طلوعه علامة على بعثة نبي ولابد أن خروجه انقطع.
و(عن حسان بن ثابت قال: إنى لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل ما رأيت وسمعت إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غداة: يا معشر يهود.
فاجتمعوا إليه – وأنا أسمع – فقالوا ويلك مالك ؟ قال: قد طلع نجم أحمد الذى يولد به في هذه الليلة)( ).
وهل لهذه البشارات موضوعية في بيعة العقبة الأولى والثانية ، وإيواء الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين ، الجواب نعم , وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ] ( ).
ترى ما هو مصدر هذه البشارات ، فيه وجوه :
الأول : الوحي الذي نزل على الأنبياء السابقين ، ومنه قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ).
الثاني : علم النجوم والأفلاك والآيات الكونية .
الثالث : أخبار وإخبارالكهنة .
الرابع : أحاديث الجن .
الخامس : الظن والإجتهاد الشخصي .
وباستثناء الوجه الأخير فان الوجوه الأخرى كلها صحيحة .
رؤية هرقل لبعثة النبي (ص)
وقال عبد الله بن عباس (حدثنى أبو سفيان من فيه إلى في قال:
كنا قوما تجارا، وكانت الحرب قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا، فلما كانت الهدنة – هدنة الحديبية – بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نأمن إن وجدنا أمنا، فخرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا وقد حملني بضاعة.
وكان وجه متجرنا من الشام غزة من أرض فلسطين.
فخرجنا حتى قدمناها وذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس فأخرجهم منها، ورد عليه صليبه الاعظم وقد كان استلبوه إياه، فلما أن بلغه ذلك وقد كان منزله بحمص من الشام فخرج منها يمشى متشكرا إلى بيت المقدس ليصلى فيه تبسط له البسط ويطرح عليها الرياحين، حتى انتهى إلى إيلياء فصلى بها)( ).
وكان هرقل عالماً في النجوم ، يرى فيها بعض ما يقع في الأرض ، والذي يُرى في النجوم من أحداث في الأرض ترى اجمالاً وهي ليست علة تامة لوقوعها ، ولكن للترابط ووحدة عائدية السموات والأرض في ملكيتها إلى الله عز وجل كما في قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فما يقع في الأرض قد يرى في السماء.
وفي هذه المدة أي بعد صلح الحديبية أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملوك وأمراء زمانه يدعوهم إلى الإسلام ، ومنهم هرقل.
بعث إليه دِحية الكلبي ، ومعه كتاب إلى هرقل وفيه (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بدعاية الاسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين ويَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ( ).
وبعث هرقل لإحضار رجال من قوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الشام في أرض فلسطين ، فأحضروا أبا سفيان وأصحابه وسألهم عن النبي محمد أسئلة متعددة .
ثم أخرج كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقرأه ، و(قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الاصوات وأخرجنا، فقلت لاصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبى كبشة إنه يخافه ملك بنى الاصفر ، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الاسلام)( ).
ولما قدم هرقل على إيلياء وهي بيت المقدس وهي مدينة قديمة يعود تأريخها إلى نحو خمسة آلاف سنة ، ومقدسة عند كل الأديان السماوية ، ولها أسماء متعددة بحسب القوم الذين يسكنونها أو الوقائع وأسماء الملوك الذين يحكمونها ، ومن أسمائها القدس , و(أورشليم) كما في التوراة والإنجيل.
ومن إعجاز القرآن تسميتها الخالدة بلحاظ المسجد فيها ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( ).
وهل تدل هذه التسمية القرآنية على حرمة الحروب والإقتتال على القدس , المختار نعم .
ولبيان أنها مدينة التوحيد .
ورآى البطارقة وحاشية هرقل في صباح أحد الأيام أنه أصبح كئيباً ، فانكروا هيئته خاصة مع النصر الذي حققه وسألوه فقال (إنى رأيت حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الامة .
قالوا : ليس يختتن إلا اليهود ولا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان فخبرهم عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل.
قال : اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا ؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون.
فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر)( ).
قانون الجمع بين الإنفاق وكظم الغيظ
لقد نزل القرآن بالأمر للمسلمين بحبس الغضب وبالعفو عن الناس جميعاَ , بقوله تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
و(عن ابن عباس، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد، وهو يقول بيده هكذا -وأومأ عبد الرحمن بيده إلى الأرض: من أنظر معسرًا أو وضع له، وقاه الله من فيح جهنم.
ألا إن عمل الجنة حزن بربوة -ثلاثًا -ألا إن عمل النار سهل بسهوة.
والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانًا)( ).
وهل الإرهاب ومقدماته وآثاره فتنة ، الجواب نعم ، فلابد من الإحتراز والتنزه عنه.
و(عن معاذ بن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على( ) رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحوَّر شاء)( ).
لتدل الآية أعلاه والأحاديث النبوية المستفيضة في المقام على حرمة الإرهاب والبطش والتفجيرات العشوائية أو التي يقصد بها هدف مخصوص.
للتضاد بينها وبين مضامين الآية أعلاه من وجوه :
الأول : قانون الإنفاق واخراج الزكاة والحقوق الشرعية في سبيل الله في حال السعة والسراء .
الثاني : بيان الإحسان والعفو المذكور في الآية أعلاه عموم وخصوص مطلق ، فالإحسان أعم ، ومن أسماء الله (المحسن) , والإرهاب عدو الإحسان .
الثالث : الإنفاق والصدقة عند العسر والضيق , لبيان مسائل :
الأولى : ابتدأت الآية بالاسم الموصول (الذين) والمراد أهل التقوى لاختتام الآية السابقة بقوله تعالى [أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثانية : إن الإنسان مطلقاَ والمسلم خاصة يكون في حال سعة أحياناَ , وعسر أحياناَ أخرى .
الثالثة : جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وإبتلاء واختبار وترغيب بالإنفاق ، وفيها يصيب المؤمن ما يصيب غيره إلا ان يشاء الله من توالي النعم .
ومن إعجاز الآية تضمنها هذا الإستثناء بورودها بصيغة الجمع (الذين ينفقون في السراء والضراء).
ليكون من معانيها وجوه :
الأول : الذين ينفقون وهم دائماَ في حال سراء .
الثاني : الذين ينفقون مع أنهم دائماَ في حال ضراء .
الثالث : الذين ينفقون باستمرار وهم في حال سراء مرة وأخرى ضراء.
وتدعو الآية المسلم إلى الصبر في حال الغنى بالتقيد بسنن التقوى والخضوع لله عز وجل , والصبر في حال الفقر بالرضا بما قسم الله عز وجل .
والصدقة رجاء النماء والفضل من عند الله عز وجل.
الرابعة : من المسلمين من يكون في حال غنى ، ومنهم من يكون في حال فقر وضيق .
ولكن قانون الملازمة بين الإسلام والإنفاق مطلق , لذا فإن عدم تحقق نصاب الزكاة والخمس لا يسقط الصدقة المستحبة .
ولم تقيد الآية مقدار الإنفاق وشرطه من جهة الكم والكيف والموضوع والكثرة والقلة ، لبيان السعة والمندوحة ، ولأن الله عز وجل يضاعف ويربي القليل من الصدقة .
ويحمل على الإطلاق وكفاية الصدقة بالقليل في حال العسر , وهذا التقييد لعمومات قوله تعالى [وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] ( ).
لبيان مسألة عقائدية وهي ذكر مصاديق العمل الصالح الذي استحقوا عليه اللبث الدائم في الجنة.
فإن قلت ذكرت الآية أعلاه من سورة آل عمران هذه الأعمال فهل يشترط الإيمان وقصد القربة , الجواب نعم ، فقد ورد في ذات خاتمة الآية السابقة وصفهم بالمتقين .
وتقدير الجمع بين الآيتين [وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ] ( ).
بين سورة البقرة وآل عمران
ومن الإعجاز أن اسم سورة البقرة يتعلق بقصة موسى عليه السلام وبني إسرائيل ، وكيف أن الله أمرهم أن يذبحوا بقرة لكشف قاتل ، وترددوا وأكثروا من مراجعة موسى عليه السلام لبيان أوصاف دقيقة للبقرة , ولم يكتفوا بالمجمل منها.
وقصة البقرة من الآية 67 إلى الآية 73 من سورة البقرة إذ تبدأ بقوله [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ] ( ).
ولم يرد لفظ [تَذْبَحُوا] و[تَتَّخِذُنَا]إلا في هذه الآية .
وأكثر آيات سورة البقرة آيات أحكام .
ويخص اسم سورة آل عمران وإنقطاعهم إلى الله عز وجل ومنهم زكريا ، يحيى ، مريم وولادتها لعيسى عليه السلام بمعجزة من عند الله عز وجل ، وكيف أن الله عز وجل أكرمهم .
وعمران والد مريم أم عيسى عليهما السلام , ومنها الآيات [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ) بغير حساب.
وتتحدث سورة آل عمران عن معركة بدر ومعركة أحد.
و(عن عمر قال : سمعتُ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم يقول : تعلَّموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان) ( ).
ولا يعلم إنتفاع الناس في الدنيا من سورة البقرة وسورة آل عمران وتلاوتهما وما فيهما من الأحكام إلا الله عز جل , أما النفع منهما في الآخرة فلا يحصيه إلا الله عز وجل.
وهل يعلمه الملائكة يومئذ أو أهل الجنة لقوله تعالى [لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ]( )، المختار لا , فهو في تجدد متصل.
لأنه أعظم وأكبر حتى من التصور الذهني ، ولأن القدر المتيقن من مشيئة أهل الجنة في المقام ما يشتهون ويأملون من الحاجات والرغائب الخاصة.
لبيان أن اسم (المحصي) كاسم من الأسماء الحسنى حاضر في كل علم وواقعة ويوم من أيام الدنيا ، أو ساعة من ساعات الآخرة.
قانون اسم النبي محمد (ص) في الكتب السماوية السابقة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه ولد في مكة عام الفيل ولكن تسميته محمد ، وأحمد وردت في التوراة , وعلى لسان عيسى عليه السلام وأخبار المليين وتوارثه العلماء ، وبه قال المنجمون أخذاً من الكتب السماوية السابقة ، مما يدل على أن لكل اسم من أسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دلالات عقائدية ، وهي من أسباب الهداية والصلاح .
فاسم محمد وأحمد يدلان على وجوب الشكر والحمد لله عز وجل ، إقتداء بصاحب الكمالات الإنسانية ، إذ جاء هذان الاسمان مرآة لإجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طاعة الله ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
وذكر كعب الأحبار عدة أسماء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي :
الأول : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند أهل الجنة (عبد الكريم) .
الثاني : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند أهل النار (عبد الجبار).
الثالث : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند أهل العرش (عبد الحميد).
الرابع : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الملائكة (عبد المجيد).
الخامس : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الأنبياء (عبد الوهاب).
السادس : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الشياطين (عبد القهار).
السابع : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الجن (عبد الرحيم).
الثامن : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الجبال (عبد الخالق).
التاسع : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند البر(عبد القادر).
العاشر : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند البحر (عبد المهيمن).
الحادي عشر : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الحيتان (عبد القدوس).
الثاني عشر : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الهوام (عبد الغياث).
الثالث عشر : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الوحوش (عبد الرزاق).
الرابع عشر : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند السباع (عبد السلام ).
الخامس عشر : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند البهائم (عبد المؤمن).
السادس عشر : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الطيور (عبد الغفار).
السابع عشر : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة (مودود).
الثامن عشر : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإنجيل (طاب طاب).
التاسع عشر : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصحف عاقب .
العشرون : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الزبور( فاروق ).
الحادي والعشرون : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله (طه ويس).
الثاني والعشرون : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند المؤمنين (محمد صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
قراءة في أسماء النبي محمد (ص)
أسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أقسام :
الأول : ما يختص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه محمد ، وأحمد ، وطه ، والعاقب ، والحاشر ، وخاتم النبيين ، رؤوف رحيم ، قال تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ) وذكر هذان الاسمان في باب الصفات .
الثاني : اسم مشترك بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء الآخرين مثل نبي الله ، ورسول الله ، عبد الله، والبشير والنذير ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ]( ).
الثالث : اسم مشترك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء ، وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم به صفة الكمال .
الرابع : اسم مشترك بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدد من الرسل .
وإذا احتسبت صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسماء مثل الصادق الأمين فان أسماءه تزيد على المائة .
الخامس : الاسم المشترك بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن .
فكما سمي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشيراً ونذيراً ، فقد وردت ذات التسمية للقرآن بقوله تعالى [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ]( )، وكذا بالنسبة للذكر.
ومن أسرار هذا الإشتراك في الاسم تعاضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن في هداية وإصلاح الناس ، ولا يعلم بمنافع وبركة هذا التعاضد وما ترتب عليه من الخير إلا الله عز وجل.
وقال ابن القيم الجوزي (وَفِي هَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ النّاسِ إنّ لِلّهِ أَلْفُ اسْمٍ وَلِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَلْفُ اسْمٍ قَالَهُ أَبُو الْخَطّاب بْنُ دِحْيَة َ وَمَقْصُودُهُ الْأَوْصَافُ) ( ).
لكن لابد من بيان الفارق الرتبي بين الله عز وجل وبين الرسل حتى في الأسماء وتعددها فيختص الله عز وجل بألف اسم أو أكثر ، وهل في قوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( )، دعوة للعلماء للتدبر في الأسماء الحسنى وكثرتها ، واستنباط القوانين والمسائل منها ، الجواب نعم.
وهل يمكن استقراء أسماء أخرى لله عز وجل من مضامين آيات القرآن والجمع بينها , الجواب نعم .
ولكل اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم معنى ودلالة ، وفيه تأديب وإصلاح للناس ، وبه نفع واستقرار ، وكنية النبي محمد (أبو القاسم).
النسبة بين والسنة السيرة
من آيات الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، إذ نعته المشركون بأنه شاعر وأنه مجنون ، فنزلت هذه الآية .
كما تدل الآية على إحصاء آيات الأخلاق الحميدة ، ونزلت الآية خطاباً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل تشمل المسلمين لأصالة الإطلاق ، وأن الأصل في خطابات القرآن إرادة المسلمين من هذه الخطابات إلا ما دل الدليل على الخلاف , المختار أنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
و(عن أنس قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذر فقال : يا أبا ذر ألا أدلُّك على خصلتين هما أخف على الظهر ، وأثقل في الميزان من غيرهما؟
قال : بلى يا رسول الله الله قال : عليك بحسن الخلق ، وطول الصمت ، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما) ( ).
والنسبة بين السنة والسيرة عموم وخصوص مطلق فالسنة أعم .
(عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل عليَّ أبو هريرة يوما فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( ).
قلت: لا.
قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزو يرابطون فيه.
ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد، يصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت: {اصْبِرُوا } أي: على الصلوات الخمس {وَصَابِرُوا} على أنفسكم وهواكم {وَرَابِطُوا} في مساجدكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما عليكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ})( ).
ليكون من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ) وجوه :
الأول : لقد كان لكم في الخلق العظيم لرسول الله أسوة حسنة .
الثاني : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فوثقوا السنة النبوية .
الثالث : اتخذوا الخلق العظيم لرسول الله منهاجاً .
الرابع : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فاحصوا مصاديق خلقه العظيم .
الخامس : قانون الخلق العظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طريق إلى الجنة .
ترى ما هي النسبة بين الخلق الحسن والخلق العظيم , المختار هو العموم والخصوص المطلق , وأن الخلق الحسن أعم ولا يحصي أفراد الخلق العظيم أو الحسن إلا الله عز وجل .
وكذا بالنسبة لإحصاء الأثر المترتب عليهما في الإصلاح.
قانون الإيمان بالملائكة
ليس من حصر لمخلوقات الله سبحانه سواء في الجنس الواحد أو المتعدد ، ومنه الملائكة الذين هم خلق لله عظيم ، مسكنهم السموات ، أجسامهم نورانية ، إذ خلقوا من نور ، وهم مسخرون لأمر الله عز وجل [لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ) لهم أرواح وقلوب وأجنحة ليسوا ذكورا أو إناثاً، لا يأكلون ولا يشربون ، لهم القدرة على التشكل بهيئات صالحة متعددة ، وكان جبرئيل ينزل أحياناً بهيئة دِحية الكلبي ، كما نزل بهيئة بَشَر في مسألة مجيئه إلى مريم عليها السلام .
وعن عبد الله بن عباس ومرة بن مسعود (خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها ، فلما طهرت إذ هي برجل معها { فتمثل لها بشراً }( ) ففزعت ، وقال : { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً }( ) .
فخرجت وعليها جلبابها فأخذ بكمها ، فنفخ في جيب درعها ، – وكان مشقوقاً من قدامها – فدخلت النفخة صدرها ، فحملت فأتتها أختها امرأة زكريا ليلة تزورها ، فلما فتحت لها الباب التزمتها .
فقالت امرأة زكريا : يا مريم ، أشعرت أني حبلى . قالت مريم : أشعرت أيضاً أني حبلى .
فقالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد للذي في بطنك . فذاك قوله : { مصدقاً بكلمة من الله }( ) فولدت امرأة زكريا يحيى .
ولما بلغ أن تضع مريم خرجت إلى جانب المحراب { فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ، قالت يا ليتني مت قبل هذا }( ) الآية { فناداها } جبريل { من تحتها ألاَّ تحزني }( ) .
فلما ولدته ذهب الشيطان فأخبر بني إسرائيل : إن مريم ولدت .
فلما أرادوها على الكلام ، أشارت إلى عيسى فتكلم فقال : { إني عبد الله آتاني الكتاب } الآيات .
فلما ولد لم يبق في الأرض صنم إلا خرَّ لوجهه .) ( ).
لتكون من مصاديق بشرى عيسى عليه السلام برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كسره الأصنام ، وإزاحة عبادتها في الأرض إلى يوم القيامة ، والذي تجلى يوم فتح مكة ، (قال ابن مسعود وابن عبّاس : لما إفتتح رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين صنماً،
صنم كل قوم بحيالهم ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} بجعل الصنم ينكب لوجهه وجعل أهل مكة يتعجبون،
ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلاً أسحر من محمّد.) ( ).
ومن بشارته بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم استئصال الشرك والإرهاب .
ولا ينزل الملك إلى الأرض إلا بأمر من عند الله عز وجل دفعة واحدة أو تدريجياً ، وفي معركة بدر ،وبعد أن أصّر المشركون على القتال يومئذ ، استغاث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالله عز وجل واجتهد بالدعاء ، وهو من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم بأنه في ساعة الشدة يستحضر ذكر الله ويلجأ إليه ، مثلما يواظب على الدعاء في ساعة الرخاء ، وهل يطرد الدعاء شبح الإرهاب ، الجواب نعم لعمومات قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
وعن (عبد الله بن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة .
فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم مد يده وجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض . فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه .
فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله تعالى { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين }( ))( ).
وعن ابن عباس قال (نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم -يعني: حين سار إلى بدر -والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة وأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ.
يوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين!
فأمطر الله عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان .
وانشف الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب .
فساروا إلى القوم وأمد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة مُجَنِّبَة ، وميكائيل في خمسمائة مُجَنِّبة) ( ).
كيفية نزول الملائكة ببدر
ويحتمل نزول الملائكة وعملهم يوم بدر وجوهاً :
الأول : النزول المقرون بالدعاء من غير عمل .
الثاني : بعث الخوف في قلوب المشركين ، قال تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ.
الثالث : قانون قتال الملائكة يوم بدر .
ولا تعارض بين هذه الوجوه .
ويحتمل وجهين :
الأول : قيام كل ملك بالدعاء وإخافة المشركين والقتال .
الثاني : صيرورة الملائكة طوائف وأقسام كل طائفة تقوم بعمل معين من الدعاء أو إخافة المشركين أو القتال ، خاصة وأن الملك الواحد يأتي في ساعة على جميع المشركين فرداً فرداً .
الثالث : اعدد الأوامر الإلهية المتتابعة التي تنزل للملك .
المختار هو الثاني والثالث .
ومن معاني رئاسة جبرئيل لأهل الميمنة ورئاسة ميكائيل لأهل الميسرة منهم التوجيه والمناوبة وتقسيم الأعمال .
إذ نزلوا على هيئة الرجال وعليهم ثياب بيض وعمائم بيض أرخوا ما بين أكتافهم وجعلوا شارات وعلامات خاصة لها .
(وقال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يشتدّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت لفارس يقول قدم حيزوم ونظر إلى المشرك أمامه خرّ مسلتقياً.
فنظر إليه فإذا هو قد حُطم وشُق وجهه كضربة السوط فجاء الرجل فحدّث بذلك رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} فقال : صدقت ذلك من مدد السماء) ( ).
إن نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر وأحد دعوة لكل مسلم للسكينة والصبر والدعاء والتنزه عن الإرهاب.
من غايات المصاهرة النبوية
وهل كان من المقاصد السامية في زواجها مصاهرة أبي سفيان وهو يومئذ أحد أكبر قادة المشركين ، الجواب نعم .
إذ كانت العرب تولي عناية للمصاهرة ، وتكون نوع زاجر عن استمرار العداوة والإقتتال.
وستأتي إشارة لهذه القواعد في زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جويرية بنت الحارث .
ولكن أبا سفيان والمشركين لم يتقيدوا بهذه الأصول في حربهم على النبوة والتنزيل .
ولم تكن المصاهرة بين بني هاشم وبني أمية مستحدثة ومنها أم جميل أخت أبي سفيان زوجة أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي عمة أم حبيبة ، وفيها نزل قوله تعالى [وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ]( ).
واسم أم حبيبة رملة وقيل هند بنت أبي سفيان ، وهي أخت معاوية بن أبي سفيان لأبيه ، وهي ابنة عمة عثمان بن عفان إذ أن أمها صفية بن أبي العاص.
ولدت قبل البعثة النبوية بسبع عشرة سنة .
ومع شدة محاربة أهلها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي من المسلمين الأوائل في مكة .
وكنيتها أم حبيبة نسبة إلى ابنتها حبيبة من عبيد الله بن جحش التي هاجرت وهي طفلة مع أبيها عبيد الله بن جحش وأمها إلى الحبشة وقيل هاجرت أمها وهي حامل بها .
ومات أبوها نصرانياً في الحبشة ، وقدمت حبيبة مع أمها المدينة ، وتزوجت حبيبة , من داود بن عُروة بن مسعود الثقفي.
ولما حج زياد بن أبيه أيام معاوية بعد أن الحقه معاوية بنسبه ، وأراد الدخول على (أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجبته لم تأذن له في الدخول عليها. وقيل: إنه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة)( ).
ولأم حبيبة رواية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر الرواة عنها من ذويها (روت عنها بنتها حبيبة وأخواها: معاوية وعتبة وابن أخيها عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان وأبو سفيان بن سعيد بن المغيرة بن الأخنس الثقفي وهو بن أختها ومولياها: سالم بن سوال وأبو الجراح وصفية بنت شيبة , وزينب بنت أم سلمة , وعروة بن الزبير وأبو صالح السمان وآخرون.
وأخرج بن سعد من طريق عوف بن الحارث عن عائشة قالت: دعتني أم حبيبة عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فتحللينني من ذلك فحللتها واستغفرت لها فقالت لي: سررتني سرك الله وأرسلت الى أم سلمة بمثل ذلك وماتت بالمدينة سنة أربع وأربعين)( ).
وتوفيت أم حبيبة سنة (44) للهجرة وعمرها (74) سنة ، واختلف في محل دفنها هل هو في المدينة في البقيع أم في الشام إذ توفت وهي في زيارة لأخيها معاوية .
وذكر بالإسناد (عن حسن بن علي قال قدمت منزلي في دار علي بن أبي طالب فحفرنا في ناحية منه فأخرجنا حجرا فإذا فيه مكتوب هذا قبر رملة بنت صخر فأعدناه في مكانه)( ).
وفي الإستيعاب نسب القول إلى علي بن الحسين( ).
والمتبادر أنه لم يقصد الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام ، لقرب المدة بين وفاة أم حبيبة وحياة الإمام ، ولا يستلزم الأمر حفراً في المنزل حتى تخرج صخرة القبر ، وهل المراد من رملة هي رملة الصغرى بنت أبي سفيان.
الجواب هذا بعيد لأنها كانت تحت سعيد بن عثمان ثم تزوجها عمرو بن سعيد الأشدق الذي قتل في الشام ، قتله عبد الملك بن مروان غدراً سنة (70) للهجرة.
وعن (علي بن زيد قال : أخبرني من سمع أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ليرعفن على منبري جبار من جبابرة بني أمية فيسيل رعافه قال فحدثني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص رعف على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى سال رعافه)( ).
وصار عمرو بن سعيد والياً على المدينة ومكة والطائف سنة ستين للهجرة بأمر من يزيد الذي ما لبث أن عزله في شهر ذي الحجة من ذات السنة.
وعن الصحابي (أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة أتأذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام يعني به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة.
فإن أحد ترخص به لقتال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار.
وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب.
فقيل لأبي شريح ما قال عمرو.
قال أنا أعلم بذلك منكم يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا إلا فارا بدم ولا فارا بجزية)( ).
واسم أبي شريح خويلد بن عمرو ويلقب أيضاً في الكتب الرجالية الخزاعي الكعبي ، أسلم يوم الفتح ، وكان من العقلاء وتوفي سنة ثماني وستين للهجرة.
إحصاء منافع تعدد زوجات النبي
مع تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأكثرهن دخل بهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد جاوزن الخمسين من العمر عند الدخول .
ومن منافع هذه الكثرة أمور :
الأول : قانون تآلف القبائل ، ومحاربة الإرهاب ومنع قريش من التحريف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
الثاني: إكرام البيوت والقبائل بمصاهرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : استماع أزواج النبي للتلاوة والسنة النبوية القولية .
الرابع : توثيق أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسنة النبوية الفعلية .
الخامس : صيرورة أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم آمرات بالمعروف وناهيات عن المنكر ، لذا اكرمهن الله عز وجل بمرتبة سامية هي آمهات المؤمنين ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
ومن معاني الأمومة في المقام دعوة أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السلم والصلح والموادعة ونبذ الإرهاب في القول والعمل.
السادس : إكرام أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأغلب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبيرات في السن ، وكلهن ثيبات باستثناء عائشة .
وهذه الأمور ليست علة تامة لزواج النبي لإكثر من أربعة ، إنما هو فضل من عند الله على رسوله ، وبيان الفارق الرتبي في النعيم بين النبي وعامة أفراد الأمة .
وهذا الزواج ليس مطلقاً بل هو مقيد أيضاً ، إذ نزل قوله تعالى [لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا] ( ).
ونزلت سورة الأحزاب بعد واقعة الخندق في السنة الخامسة للهجرة ، ونزلت آيات منها بعد صلح الحديبية.
وذكر أن (أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ، ثم الأنفال ، ثم آل عمران ، ثم الأحزاب ، ثم الممتحنة ، ثم النساء ، ثم الزلزلة ، ثم الحديد ، ثم محمد ، ثم الرعد ، ثم الرحمن ، ثم الإنسان ، ثم الطلاق ، ثم ألم يكن ، ثم الحشر ، ثم النصر ، ثم النور ، ثم الحج ، ثم المنافقون ، ثم المجادلة ، ثم الحجر ، ثم التحريم ، ثم الصف ، ثم الجمعة ، ثم التغابن ، ثم الفتح ، ثم التوبة ، ثم المائدة) ( ).
وآخر امرأة تزوجها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي ميمونة بنت الحارث بمكة عندما حلّ من عمرة القضاء ، وعمرة القضاء في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة .
وأزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هن :
الزوجة الأولى : خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وكانت قبله تحت عتيق بن عائذ المخزومي وهي أول امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يوحى إليه ، وأول الناس إسلاماً ، وكانت من نساء قريش اللائي يتصفن بالعفة والوقار وكثرة المال ، وتدعى في الجاهلية (الطاهرة).
تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمره خمس وعشرون سنة ، وولدت له القاسم (وبه كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكنى) وعبد الله (وهو الطاهر والطيب) وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، ومنهم من يرى أن فاطمة هي ابنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحيدة .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية تعضيد خديجة له بنفسها وجاهها ، وتصديقها له من أول يوم بعث به ، وإنفاقها مالها في سبيل الله ، وحينما نزل جبرئيل بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ).
خطبة النبي (ص) لخديجة
لقد كانت خديجة امرأة ذات مال تضارب به الرجال أو تستأجرهم ، وكثير من نساء قريش يشتغلن بالتجارة ، ولما بلغها عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمانته وصدق حديثه وكرم أخلاقه ، أرسلت إليه ، وعرضت عليه أن يخرج بمالها إلى الشام ، وتعطيه أكثر مما تعطي غيره ، فقبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العرض وأرسلت معه غلاماً لها اسمه ميسرة ، وعند العودة من الشام رأت خديجة الربح الوافر الذي جلبه لها .
كما نقل لها ميسرة حسن أخلاقه ، والكرامة التي يتمتع بها ، فاعجبت به ، وعرضت عليه الزواج فخطبها لأبيها خويلد بن أسد وبه قال محمد بن إسحاق وقيل خطبها لعمها .
والقى أبو طالب عم النبي خطبة الزواج التي اثنى فيها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ، وأشار إلى معجزاته في قادم الأيام للدلالة على حضور البشارات بنبوته وتصديق بني هاشم بها.
إذ ابتدأها بالقول (الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا.
وجعلنا الحكام على الناس وبارك لنا في بلدنا الذي نحن به.
ثم أن ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوزن برجل من قريش إلا رجح ولا يقاس بأحد إلا عظم عنه، وأن كان في المال قل فإن المال رزق حائل وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة وصداق ما سألتموه عاجلة من مالي، وله والله خطب عظيم ونبأ شائع ، فتزوجها وانصرف)( ).
تصديق خديجة بالوحي أول النزول
رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في غار حراء جبرئيل إذ قال (فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل.
قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فأنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل.
فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهى عنه في آفاق السماء فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك.
فما زلت واقفا ما أتقدم أمامى وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبى، فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عنى.
وانصرفت راجعا إلى أهلى حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها، فقالت: يا أبا القاسم أين كنت فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي.
ثم حدثتها بالذى رأيت فقالت: أبشر يا ابن العم واثبت، فو الذى نفس خديجة بيده إنى لارجو أن تكون نبى هذه الامة)( ).
وهل كانت مبادرة خديجة بالتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له ، الجواب نعم ، لأنها تدرك من الشواهد القريبة صدق نبوته ، وقد لحق بها في الإسلام الفوري الإمام علي عليه السلام .
وهل كان اسلامهما واقية من الضرر المترشح عن جحود وإرهاب أبي لهب عم النبي ، الجواب نعم ، فنزلت سورة كاملة في ذمه ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ]( ).
ذهاب خديجة إلى ورقة
لقد كان الوحي أمراً عظيماً ليس فقط في نزوله وأثره على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل على الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، ليكون من معاني قوله تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( )، أن الخشية في تلقي نزول القرآن لا تختص بذات البقعة التي ينزل عليها القرآن بل تشمل الجبل كله ، مع أن الجبل جماد.
ولم يرد لفظ (على جبل) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
فمن باب الأولوية يكون أثر نزول الوحي على النبي عظيماً عليه وعلى غيره ممن حوله فتلقت خديجة ما رزق الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من المرتبة السامية ، وما ظهر عليه من الآثار.
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة بأمر الوحي ، وفي التنزيل [قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
عندئذ نهضت خديجة لتذهب إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها اعتزل الأوثان قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وامتنع عن أكل ما يذبحون لها ، وتنصر ، وقرأ الكتب ، وما كتب أهل الكتاب من الأخبار والمغيبات ، وقال ورقة بن نوفل :
إن بك حقاً يا خديجة فاعلمي … حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما … من الله وحي يشرح الصدر منزل
يفوز به من فاز فيها بتوبة … ويشقى به العاتي الغوي المضلل
فريقان منهم فرقة في جنانه … وأخرى بأحواز الجحيم تغلل
إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت … مقاطع في هاماتهم ثم من عل
فسبحان من تهوى الرياح بأمره … ومن هو في الأيام ما شاء يفعل
ومن عرشه فوق السموات كلها … وأقضاؤه في خلقه لا تبدل
وقال ورقة في ذلك أيضاً:
يا للرجال لصرف الدهر والقدر … وما لشيء قضاه الله من غير
حتى خديجة تدعوني لأخبرها … وما لها بخفي الغيب من خبر
جاءت لتسألني عنه لأخبرها … أمراً أراه سيأتيالناس من اخر
فخبرني بأمر قد سمعت به … فميا مضى من قديم الدهر والعصر
بأن أحمد يأتيه فيخبره … جبريل إنك مبعوث إلى البشر
فقلت على الذي ترجين ينجزه … لك الإله فرجي الخير وانتظرى
وأرسليه إلينا كي نسائله … عن أمر ما يرى في النوم والسهر
فقال حين أتانا منطقاً عجباً … يقف منه أعالي الجلد والشعر
إني رأيت أمين الله واجهني … في صورة أكملت في أهيب الصور
ثم استمر فكاد الخوف يذعرني … مما يسلم ما حولي من الشجر
فقلت ظني وما أدري أيصدقني … أن سوف يبعث يتلو منزل السور
وسوف أبليك إن أعلنت دعوتهم … من الجهاد بلا من ولا كدر) ( ).
الزوجة الثانية : ثم تزوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد خديجة سودة بنت زمعة بن قيس من بني عامر في مكة سنة عشرة للبعثة النبوية.
وكانت قبله تحت ابن عمها السكران بن عمرو الذي هاجر إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة ومات فيها.
وذكر أن سودة بنت دمعة كانت معه مهاجرة في الحبشة ، وولدت له ابناً اسمه عبد الرحمن قتل في حرب جلولاء التي وقعت في السنة السادسة عشرة للهجرة بعد معركة المدائن بين المسلمين وجيش كسرى والتي سميت جلولاء لأن قتلى المشركين جللوا وجه الأرض على كثرتهم ، وقيل قتل منهم في آخر يوم للقتال مائة الف ، ومن المسلمين ثلاثين ألف ، وهو عدد مبالغ فيه .
فبعثوا الأخماس إلى المدينة ووزعها عمر بن الخطاب بين الصحابة بعد أن استمع إلى زياد بن أبي سفيان يصف له شدة المعارك في جلولاء ، وقسم سعد بن أبي وقاص أربعة أخماس على المقاتلين.
لقد خطبت خولة بنت حكيم امرأة مظعون سودة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ بشرتها بالخير والبركة التي دخلت عليها وعلى أهلها.
وهي مقدمة كريمة ومستحقة في الخطبة ، فقالت سودة (وما ذاك ، قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخطبك عليه. قالت: وددت ذلك، ادخلي على أبي واذكري له ذلك)( ).
أي كان متعارفاً نعت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم تقل لهم خطبها محمد أو ابن عبد المطلب ، إنما ذكرته لهم بصفة الرسالة ومن غير ذكر اسمه.
وكان هذا في موسم الحج ، وكان زمعة شيخاً كبيراً قد تخلف عن الحج ولم يخرج إلى منى وعرفات .
فقال : كفؤ كريم ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزوّجه إياه ، وعندما جاء أخوها عبد الله وعلم بهذا الزواج (جعل يحثو التراب على رأسه أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سودة بنت زمعة. فلما أسلم قال: إني لسفيه يوم أحثو التراب على رأسي أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أختي)( ).
وكان مالك بن زمعة بن قيس أخو سودة بنت زمعة قديم الإسلام وممن هاجر إلى الحبشة هو وامرأته عمرة بنت السعدي العامرية( ).
وبعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة واستقر فيها بعث زيد بن حارثة ومعه أبو رافع مولاه إلى مكة فجاءوا بفاطمة عليها السلام وأم كلثوم وسودة بنت زمعة ومعهم عائشة واختها أسماء زوجة الزبير ، وأم أيمن زوجة زيد ، وأسامة بن زيد ، ومعهم طلحة بن عبيد الله ، إذ اتفق أنه يريد الهجرة.
وكانت سودة (امرأة ثقيلة ثبطة( ))( ).
واسنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيل هم بطلاقها ، فقالت : لا تطلقني ، وجعلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حل من شأنها لا تكون لها ليلة في القسمة بين أزواجه ، ووهبت ليلتها لعائشة ، وقالت (إنما أود أن أحشر في زمرة أزواجك)( ).
وأمسكها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى توفى عن أزواجه.
توفيت سودة آخر زمان عمر بن الخطاب( ).
وفي حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنسائه (هذه الحجة ثم ظهور الحصر) وكن يحججن كلهن إلا سودة وزينب قالتا لا تحركنا والله دابة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج ابن سعد عن ابن سيرين قال قالت سودة حججت واعتمرت فأنا أقعد في بيتي كما أمرني الله ، وكانت قد أخذت بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (هذه الحجة ثم ظهور الحصر) فلم تحج حتى توفيت)( )، عن أبي هريرة.
وروي الحديث أيضاً عن ابن لأبي واقد الليثي عن أبيه وهو صحابي قال (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأزواجه في حجة الوداع هذه ثم ظهور الحصر( ))( )، وكذا ورد الحديث عن أم سلمة.
وظهور الحصر ، جمع ظهر الحصير كناية أي إلزمن بيوتكن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ]( ).
ومنع عمر بن الخطاب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحج.
ثم أذن لهن عمر في آخر سنواته إذ خاف من منعهن فحجت من أرادت الحج .
وعلة المنع أن في الحج مشقة وتعباً ، واختلاطاً مع مزاحمة مع الرجال ، وقد أَدَين الحج الواجب.
وتوفيت اثنتان من أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته هما :
الأولى : خديجة بنت خويلد.
الثانية : زينب بنت خزيمة.
وانتقل هو إلى الرفيق الأعلى عن تسع نسوة.
و(عن أم معبد بنت خالد بن خليف قالت رأيت عثمان وعبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر حجا بنساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأيت على هوادجهن الطيالسة الخضر وهن حجرة من النساء يسير أمامهن عثمان على راحلته يصيح إذا دنا منهن أحد إليك إليك وابن عوف من ورائهن يفعل مثل ذلك)( ).
الزوجة الثالثة : تزوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عائشة بنت أبي بكر في السنة الثانية للهجرة النبوية ، وبنى بها في المدينة وعمرها تسع سنوات.
وقيل أنه خطبها في مكة في ذات الوقت الذي خطب فيه سودة بنت زمعة ، خطبتهما معاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خولة بنت حكيم امرأة مظعون.
و(عن بن عباس قال: خطب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى أبي بكر الصديق عائشة فقال أبو بكر: يا رسول الله لقد كنت وعدت بها أو ذكرتها لمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف لابنه جبير فدعني حتى أسلها منهم. ففعل، ثم تزوجها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت بكرا.
أخبرنا محمد بن عمر، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن أبيه عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قالت: سمعت عائشة تقول: تزوجني رسول الله صفي شوال سنة عشر من النبوة فبل الهجرة لثلاث سنين وأنا ابنة ست سنين، وهاجر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقدم على المدينة يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأعرس بي في شوال على رأس ثمانية أشهر من المهاجر، وكنت يوم دخل بي ابنة تسع سنين.
أخبرنا محمد بن عمر، حدثني أبو حمزة ميمون مولى عروة بن الزبير عن عروة عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وإني لألعب مع الجواري، فما دريت أن رسول الله تزوجني حتى أخذتني أمي فحبستني في البيت عن الخروج فوقع في نفسي أني تزوجت، فما سألتها حتى كانت أمي هي التي أخبرتني)( ).
و(عن عائشة قالت: قال لي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يا عائشة ما يخفى علي حين تغضبين علي وحين ترضين. قلت: بم تعرف ذلك يا رسول الله؟
قال: أما حين ترضين فتقولين لا ورب محمد، وأما حين تغضبين فتقولين لا ورب إبراهيم. قالت: قلت صدقت والله، يا رسول الله، إني إنما أهجر اسمك)( ).
وتزوجها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة بسبعة أشهر في شوال ، وبقيت معه تسع سنين وخمسة أشهر ، وماتت سنة ثمان وخمسين للهجرة ، وعائشة هي الباكر الوحيدة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك ؟ قال : في التى لم يرتع منها ” تعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها)( ).
وعن ابن عمر مرفوعاً (العرب أكفاء قبيلة بقبيلة وحي بحي إلا حائكاً أو حجاماً)( ).
وقد أكثرت عائشة من الرواية والحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصار التابعون والمؤرخون وكتاب السيرة يقصدونها من الأمصار لسماع الأحاديث منها مباشرة خاصة في موسم الحج.
وذكر أنها روت ألفاً ومائتين وعشرة أحاديث اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثاً منها ، وانفرد البخاري بأربعة وسبعين ، ومسلم بثمانية وستين.
وفي حديث الإستسقاء قالت عائشة (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قحوط المطر ، فأمر بمنبر فوضعه في المصلى ، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه ، فخرج حين بدا حاجب الشمس ، فقعد على المنبر ، فكبر وحمد الله ثم قال : إنكم شكوتم جدب دياركم ، واستئخار المطر عن إبان زمنه عنكم ، وقد أمركم الله أن تدعوه ، ووعدكم أن يستجيب لكم ، ثم قال [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( )، لا إله إلا الله يفعل ما يريد ، اللهم أنت لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث ، واجعل ما أنزل قوّة وبلاغاً إلى حين)( ).
وبسند ضعيف عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (لما أهبط الله آدم إلى الأرض قام وجاء الكعبة فصلى ركعتين ، فألهمه الله هذا الدعاء.
اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي . اللهم أسألك إيماناً يباشر قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي ، وأرضني بما قسمت لي.
فأوحى الله إليه : يا آدم قد قبلت توبتك ، وغفرت ذنبك ، ولن يدعوني أحد بهذا الدعاء إلا غفرت له ذنبه ، وكفيته المهم من أمره ، وزجرت عنه الشيطان ، واتجرت له من وراء كل تاجر ، وأقبلت إليه الدنيا راغمة وإن لم يرده)( ).
ولا يعلم ما أوحى الله لآدم إلا هو سبحانه ، وكذا مدة الأحقاب والأجيال بين آدم والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والأحقاب بين نزول القرآن وبين قيام الساعة ، قال تعالى [لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
إنما يتوارث المؤمنون النفرة من الإرهاب والظلم من أيام آدم علي السلام إلى يوم القيامة.
و(عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما أسكر الغرق منه فملء كفك منه حرام ، والغرق إناء يحمل ستة عشر رطلاً)( ).
و(عن عائشة : أنَّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم قرأ هذه الآية : [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ]( )، فقال صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم : إذا رأيتم الَّذين يسألون عمَّا تشابه منه ويجادلون فيه الَّذين عنى اللّه عزَّ وجل فاحذروهم ولا تخالطوهم)( ).
وقد أجاز الإسلام نكاح التي قاربت الحيض من غير دخول بها حتى تبلغ.
الزوجة الرابعة : في شهر شعبان من السنة الثامنة للهجرة ، وعلى رأس ثلاثين شهراً من الهجرة تزوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفصة بنت عمر ، بعد أن مات زوجها خنيس بن حذافة القرشي الذي مات بالمدينة على رأس خمسة وعشرين شهراً بعد رجوعه من معركة بدر ، وقيل شهد معركة أحد ونالته جراحات يومئذ ثم مات منها ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج حفصة قبل معركة أحد، مما يدل على أن زوجها الأول مات بعد رجوعه من معركة بدر.
وتوفيت حفصة سنة خمس وأربعين للهجرة.
الزوجة الخامسة : ثم تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم (زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة العامرية.
ولم يختلفوا في نسبها، كانت تدعى أم المساكين في الجاهلية، وكانت تحت عبد الله بن جحش قتل عنها يوم أحد، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة ثلاث ولم تلبث عنده إلا يسيراً شهرين أو ثلاثة، وتوفيت في حياته)( ).
ويرجع نسب عامر بن صعصعة إلى بكر بن هوازن من قيس عيلان بن مضر بن نزار ويرجع نسبهم إلى إسماعيل عليه السلام.
وقيل إنما كانت قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زوجة الطفيل بن الحارث بن المطلب خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث بن المطلب( ) الذي استشهد في معركة بدر بعد أن برز هو والإمام علي وحمزة بن المطلب عليهما السلام إلى عتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وابنه الوليد.
لأن عتبة لم يرض بالأنصار الثلاثة الذين برزوا لقتالهم في خبث ودهاء من عتبة لأنه إذا قُتل الأنصار لم يكن لقتلهم شأن عند أهل مكة ، أما اذا قُتل واحد أو أكثر من بني هاشم فسيشيع الأمر في مكة كما أن هذا القتل يؤذي النبي محمداً وفي هذه المبارزة نزل قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ]( ).
وقتل المشركون الثلاثة أعلاه في المبارزة ، إذ قتل الإمام علي عليه السلام الوليد ، وقتل حمزة عتبة بن ربيعة ، وتبادل شيبة مع عبيدة الذي هو أكبر سناً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضربتين ، فقتل شيبة وجرح عبيدة جرحاً بالغاً ، فمات شهيداً في الصفراء في طريق العودة إلى المدينة.
والصحيح أن زينب بنت خزيمة كانت زوجة لعبد لله بن جحش الذي قتل عنها يوم أحد.
وحينما خطبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعلت أمرها إليه ولم تعش زينب بنت خزيمة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أشهراً معدودات وتوفيت وعمرها ثلاثون سنة ، وصلى عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودفنها في البقيع.
وأختلف في مدة بقائها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أقوال :
الأول : شهران .
الثاني : ثلاثة شهور .
الثالث : ثمانية أشهر .
وقيل توفيت في ربيع الثاني من السنة الرابعة للهجرة ولم تمت في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أزواجه غير خديجة التي ماتت في مكة ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها في حياتها ، ومدفنها بمقبرة الحجون في مكة.
وزينب بنت خزيمة تزوجها وماتت في المدينة ، وصلى عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم ترو عنه أحاديث .
وزينب هذه أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمها ، والتي هي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة زينب بنت خزيمة بعد نحو أربع سنوات.
دخلت زينب بنت خزيمة الإسلام وهي صغيرة وقيل كانت حاضرة معركة بدر تضمد الجرحى وتقدم الطعام لهم ، ولم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ لقتال.
وقد تقدم المختار بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يخرجوا للإستيلاء على قافلة أبي سفيان وقال تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
إنما الود هو كيفية نفسانية لا تترجل إلى الخارج إلا بفعل.
وأرادت زينب (أن تعتق جارية لها سوداء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تفدين بها بني أخيك أو بني أختك من رعاية الغنم)( ).
وقال ابن سعد (خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين فجعلت أمرها إليه فتزوجها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأشهد وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، وكان تزويجه إياها في شهر رمضان على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة، فمكثت عنده ثمانية أشهر وتوفيت في آخر شهر ربيع
الآخر على رأس تسعة وثلاثين شهرا، وصلى عليها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ودفنها بالبقيع.
أخبرنا محمد بن عمر قال: سألت عبد الله بن جعفر: من نزل في حفرتها.
فقال: إخوة لها ثلاثة. قلت: كم كان سنها يوم ماتت.
قال: ثلاثين سنة أو نحوها)( ).
لتنال صفة (أم المؤمنين) وان نزل قوله تعالى [وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( )، بعد موتها ، وأسباب نزول الآية ليست خاصة بالأحياء من أزواج النبي ، لأصالة الإطلاق ، وصدق صفة الزوجية عليها.
الزوجة السادسة : أم سلمة اشتهرت بكنيتها إلى ولدها سلمة بن أبي سلمة هند بنت أبي أمية من بني مخزوم من قريش ، واسم أبي أمية سهيل ، وقيل حذيفة ، وهو ممن لقب بزاد الراكب ، أي لا يجعل الذي يسافر معه يحمل زاداً ، بل يكفي الذين يسافرون معه في قافلته من الطعام والشراب وهو خلق من أخلاق سادات قريش.
وفي أمثال العرب (أقرى من زاد الراكب)( ).
وفي تاج العروس (أقرى من زاد الرّكب) وأيضاً (وزادُ الرَّكْبِ : فَرَسٌ معروف من الخيل التي وَصفَهَا الله عز وجل بالصافِنات الجِيَادِ . سُمِّيَ به لأَنه كان يَلْحَق الصَّيْد.
فكان الوَفدُ إذا نزَلوا رَكِبه أَحدُهم فصادَ لهم ما يَكْفِيهم أَعطاهُ سُليمانُ صَلَوَاتُ الله عليه وسلامُه وعلى نَبيِّنا للأَزْد القَبيلة المشهورة لمَّا وَفَدُوا عَلَيْه فتنَاسلَ عندَهم وأَنجبَ قاله أَبو الثدي قيل : ومنه أَصْلُ كلِّ فرس عَربيِّ) ( ).
وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد من بني مخزوم وقد ارتضع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ارضعتهما ثويبة أمة أبي لهب.
وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ارتضع منها أولاً حمزة بن عبد المطلب ثم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم عبد الله بن عبد الأسد .
كان قد هاجر إلى المدينة .
وحبست عنه امرأته أم سلمة حبسها بنو المغيرة أي منعوها من اللحاق به إلا بعد سنة.
(فانطلقت وحدها مهاجرة حتى إذا كانت بالتنعيم لقيت عثمان بن أبي طلحة أخا بنى عبد الدار وكان يومئذ مشركا فشيعها حتى أوفى على قرية بنى عمرو بن عوف بقباء قال لها هذا زوجك في هذه القرية ثم انصرف راجعا إلى مكة فكانت تقول ما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن ابى طلحة) ( ).
وذكر ان أبا سلمة وأم سلمة ممن هاجروا إلى الحبشة( ) وولدت لهما في الحبشة زينب .
وقد خرجا مع عثمان بن مظعون ، وقبل أن يخرج إلى الحبشة جعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عميس وولد لهما هناك عبد الله بن جعفر .
وأبو سلمة من المسلمين الأوائل ، ولاقى الأذى الشديد من قريش قبل الهجرة إلى الحبشة ، إذ استجار بأبي طالب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو خال أبي سلمة ، فمشى إليه رجال من بني مخزوم رهط أبي جهل لأن أبا سلمة منهم .
فقالوا له (يا أبا طالب، هذا منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا .
قال: إنه استجار بى، وهو ابن أختى، وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي.
فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد.
قالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة.
وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأبقوا على ذلك.) ( ).
وأم أبي سلمة برة بنت عبد المطلب أخت أبي طالب في أبي لهب وصار يحرضه لنصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو لا أقل كف أذاه عنه :
(وَإِنّ امْرَأً أَبُو عُتَيْبَةَ عَمّهُ … لَفِي رَوْضَةٍ مَا إنْ يُسَامُ الْمَظَالِمَا
أَقُولُ لَهُ وَأَيْنَ مِنْهُ نَصِيحَتِي … أَبَا مُعْتِبٍ ثَبّتْ سَوَادَك قَائِمًا
وَلَا تَقْبَلَنّ الدّهْرَ مَا عِشْتَ حظّةً … تُسَبّ بِهَا إمّا هَبَطْت الْمَوَاسِمَا
وَوَلّ سَبِيلَ الْعَجْزِ غَيْرَك مِنْهُمْ … فَإِنّك لَمْ تُخْلَقْ عَلَى الْعَجْزِ لَازِمَا
وَحَارِبْ فَإِنّ الْحَرْبَ نُصْفٌ وَلَنْ تَرَى … أَخَا الْحَرْبِ يُعْطَى الْخَسْفَ حَتّى يُسَالَمَا
وَكَيْفَ وَلَمْ يَجْنُوا عَلَيْك عَظِيمَةً … وَلَمْ يَخْذُلُوك غَانِمًا أَوْ مُغَارِمَا
جَزَى اللّهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا … وَتَيْمًا وَمَخْزُومًا عُقُوقًا وَمَأْثَمَا
بِتَفْرِيقِهِمْ مِنْ بَعْدِ وُدّ وَأُلْفَةٍ … جَمَاعَتَنَا كَيْمَا يَنَالُوا الْمَحَارِمَا
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللّهِ نُبْزَى مُحَمّدًا…وَلَمّا تَرَوْا يَوْمًا لَدَى الشّعْبِ قَائِمَا )( ).
ولم يعلم ابو طالب أن سورة المسد دليل قاطع على حجب أبي لهب عن نفسه التوبة ، فهي من إعجاز القرآن ومن علم الغيب بالعواقب ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ]( ).
خطبة النبي (ص) لأم سلمة
وعن أم سلمة قالت (لما انقضت عدتها أرسل أبو بكر يخطبها فأبت، فأرسل إليها عمر يخطبها فأبت .
قالت : فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطبها.
فقالت : مرحبا برسول الله إن في خلالي ثلاثا أخافهن على رسول الله إني امرأة شديدة الغيرة وإني امرأة مصبية يعني: لها صبيان ، وفي رواية: إني ذات عيال ، وإني امرأة ليس ها هنا أحد من أوليائي شاهد يزوجني.
وفي حديث أبي بكر بن عبد الرحمن، فقالت: ما مثلي ينكح، أما أنا، فلا ولد في، وأنا غيور، وذات عيال فسمع عمر بما ردت به على رسول الله فغضب لرسول الله أشد ما غضب لنفسه حين ردته فلقيها فقال: إن التي تردين رسول الله .
قالت: يا بن الخطاب إن في كذا وكذا، فأقبل رسول الله إليها فقال : أما ما ذكرت أنك غيرى فسأدعو الله عز وجل يذهب غيرتك وأما ما ذكرت أنك مصبية فإن الله سيكفيك صبيانك.
وفي رواية : وأما العيال فإلى الله ورسوله وأما أنه ليس ههنا أحد من أوليائك يزوجك فإنه ليس أحد شاهد ولا غائب من أوليائك يكرهني.
وهو دعاء ووعد ، دعاء لأن يرزقهم الله رزقاً كريم ، ووعد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكفل أولاد أم سلمة لتتفرغ لواجبات الزوجية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
لتكون العناية بأولاد الزوجة الأيتام أو الزوجة المطلقة تأسياً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه الأجر والثواب .
وفي حديث أبي بكر في لفظ : فإنه ليس أحد منهم شاهد ولا حاضر يسترضاني وأنا أكبر منه فقالت لابنها عمر : زوجني رسول الله .
قال : فزوجه إياها فقال رسول الله : أما إني لم أنقصك مما أعطيت أختك فلانة، قال ثابت لابن أم سلمة: ما كان أعطى فلانة.
قال : أعطاها درهمين تجعل منهما صاحبتها( ) ورحلتين ووسادة حشوها ليف.
دخول النبي (ص) بأم سلمة
لقد جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أم سلمة (ثم انصرف عنها ثم أتاها الثانية وهي ترضع زينب فلما رأته مقبلا جعلت الصبية في حجرها.
فسلم ثم رجع فأتاها أيضا الثالثة فلما رأته جعلت الصبية في حجرها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حييا كريما، فرجع، قال عمر: فجاء عمار بن ياسر حتى انتزعها من حجرها.
وفي لفظ : ففطن لذلك عمار بن ياسر وكان أخاها لامها فانتشط زينب من حجرها.
فقال: هاتي وفي لفظ: دعي عنك هذه المسقوحة التي منعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أتاها رسول الله فجعل يقلب بصره في البيت فلم يرالصبية في حجرها وكان اسمها زينب.
فقال : أين زناب ، فقالت: جاء عمار فأخذها وفي حديث أبي بكر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : تجداني أتيتكم الليلة.
قالت : فوضعت ثقالي وأخرجت حبات من شعير كانت في جرن، وأخذت شحما فعضدت به فبات ثم أصبح فقال حين أصبح : إن لك على أهلك كرامة إن شئت أن أسبع لك سبعت للنساء .
قال عمر : فكانت في النساء كأنها ليست منهن لا تجد من الغيرة شيئا)( ).
وروى الطبراني بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبها بنفسه وهو ولا يتعارض مع بعثه عمر لخطبتها له .
و(عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى العصر دخل على نسائه واحدة واحدة، يبدأ بأم سلمة لانها أكبرهن، وكان رسول الله يختم بي.
وروى الامام أحمد عن موسى بن عقبة عن أمه عن أم كلثوم، قالت: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم سلمة، قال لها: يا أم سلمة، إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأوقية مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات ولا أرى هديتي إلا مردودة فهي لك.
فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وردت عليه هديته فأعطى كل واحدة من نسائه أوقية وأعطى أم سلمة المسك والحلة)( ).
وقيل (كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في بعض أسفاره ومعه في ذلك السفر صفية بنت حيي وأم سلمة، فأقبل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى هودج صفية بنت حيي وهو يظن أنه هودج أم سلمة.
وكان ذلك اليوم يوم أم سلمة، فجعل رسول الله يتحدث مع صفية فغارت أم سلمة، وعلم رسول الله بعد أنها صفية فجاء إلى أم سلمة.
فقالت: تتحدث مع ابنة اليهودي في يومي وأنت رسول الله.
قالت ثم ندمت على تلك المقالة، فكانت تستغفر منها، قالت: يا رسول الله استغفر لي فإنما حملني على هذا الغيرة)( ).
وعن عمر بن أبي سلمة (قال: كان الذى جرح أبى أبو أسامة الجشمى، فمكث شهرا يداويه فبرأ، فلما برأ بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المحرم، يعنى من سنة أربع، إلى قطن، فغاب بضع عشرة ليلة، فلما دخل المدينة انتقض به جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الاولى.
قال عمر: واعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشر، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودخل بها في ليال بقين من شوال، فكانت أمي تقول: ما بأس بالنكاح في شوال والدخول فيه، قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شوال وبنى فيه.
قال: وماتت أم سلمة في ذى القعدة سنة تسع وخمسين) ( ).
والمختار أنها ماتت سنة إحدى وستين للهجرة.
وقد تقدم ذكر هذا الخبر في الجزء السابع والأربعين من هذا السٍفر في تفسير قوله تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
هجرة أم سلمة إلى المدينة
والظاهر أن أم سلمة هاجرت الهجرتين ، إلى الحبشة ثم عادت وزوجها إلى مكة ثم خرجا متفرقين إلى المدينة.
وكادت تحدث فتنة في قريش بسبب هجرتها وزوجها إلى المدينة ولكن الله صرفها وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتيسير مقدمات الهجرة للصحابة رجالاَ ونساءَ.
قالت أم سلمة (لَمّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ رَحَلَ لِي بَعِيرَهُ ثُمّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي ، ثُمّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ فَلَمّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إلَيْهِ فَقَالُوا هَذِهِ نَفْسُك غَلَبْتنَا عَلَيْهَا ، أَرَأَيْت صَاحِبَتَك هَذِهِ ؟ عَلَامَ نَتْرُكُك تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلَادِ.
قَالَتْ فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذُونِي مِنْهُ . قَالَتْ وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ ، رَهْطُ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالُوا : لَا وَاَللّهِ لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إذْ نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا .
قَالَتْ فَتَجَاذَبُوا بَنِي سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ حَتّى خَلَعُوا يَدَهُ وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إلَى الْمَدِينَةِ . قَالَتْ فَفَرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي .
قَالَتْ فَكُنْت أَخْرُجُ كُلّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ بِالْأَبْطُحِ فَمَا أَزَالُ أَبْكِي ، حَتّى أَمْسَى سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا حَتّى مَرّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمّي ، أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ فَرَأَى مَا بِي فَرَحِمَنِي فَقَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ أَلَا تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ فَرّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا.
قَالَتْ فَقَالُوا لِي : الْحَقِي بِزَوْجِك إنْ شِئْت . قَالَتْ وَرَدّ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ إلَيّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي . قَالَتْ فَارْتَحَلْت بَعِيرِي ثُمّ أَخَذْت ابْنِي فَوَضَعْته فِي حِجْرِي ، ثُمّ خَرَجْت أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ . قَالَتْ وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ . قَالَتْ فَقُلْت : أَتَبَلّغُ بِمَنْ لَقِيتُ حَتّى أَقْدَمَ عَلَيّ زَوْجِي ، حَتّى إذَا كُنْت بِالتّنْعِيمِ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ.
فَقَالَ لِي : إلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيّةَ ؟
قَالَتْ فَقُلْت : أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ .
قَالَ أَوَمَا مَعَك أَحَدٌ ؟
قَالَتْ فَقُلْت : لَا وَاَللّهِ إلّا اللّهُ وَبُنَيّ هَذَا .
قَالَ وَاَللّهِ مَا لَك مِنْ مَتْرَكٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقَ مَعِي يَهْوِي بِي ، فَوَاَللّهِ مَا صَحِبْت رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ قَطّ ، أَرَى أَنّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ كَانَ إذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي ، ثُمّ اسْتَأْخَرَ عَنّي ، حَتّى إذَا نَزَلْت اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي ، فَحَطّ عَنْهُ ثُمّ قَيّدَهُ فِي الشّجَرَةِ ، ثُمّ تَنَحّى وَقَالَ ارْكَبِي . فَإِذَا رَكِبْت وَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ فَقَادَهُ حَتّى يَنْزِلَ بِي .
فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتّى أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ ، فَلَمّا نَظَرَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بقُباءٍ قَالَ زَوْجُك فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ – وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا – فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى مَكّةَ . قَالَ فَكَانَتْ تَقُولُ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الْإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ ، وَمَا رَأَيْت صَاحِبًا قَطّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَة)( ).
حكمة أم سلمة يوم الحديبية
وفي صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كتابة عقد الصلح مع وفد كفار قريش برئاسة سهيل بن عمرو (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا فوالله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس .
فقالت أم سلمة : يا نبي الله أتحب ذلك ؟
قال : نعم
قالت : فاخرج ثم لا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك
فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخرج فلم يكلم أحدا منهم كلمة حتى فعل ذلك : نحر بدنه ودعا بحالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما)( ).
وسبب إبطاء الصحابة بالنحر والحلق أنهم كانوا يأملون زيارة البيت الحرام في تلك الرحلة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدهم ، ولكنه لم يقيد وعده بتلك السنة ، فنزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
فكان صلح الحديبية أعظم فتح ، وهو شاهد على صبغة السلمية والموادعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل صلح الحديبية من مصاديق [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، الجواب هذه الآية أعم .
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي مال وجنح للسلم ابتداء ، وهو الذي رضي بشروط كفار قريش ليكون من معاني وتقدير الآية أعلاه (وان جنحوا للسلم فاجنح لها ، واجنح لها انت وأصحابك ابتداءً).
لبيان قانون كره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحرب مطلقاً ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، والإرهاب في مهفومه المعاصر أشبه بالحرب ويطرأ الفعل منه على الناس بغتة ، فلابد من تركه وهجرانه والتنزه عنه ، وهو ضد للسلم ، وحرب على الأمن العام الذي بعث الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لاستدامته في الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وتوفيت أم سلمة في السنة الواحدة والستين وتجاوزت السنة الرابعة والثمانين من عمرها ، أي توفت بعد أن استشهد الحسين عليه السلام في العاشر من محرم من ذات السنة بأشهر معدودة.
الزوجة السابعة : أم حبيبة : لقد تزوج النبي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان , وهي في الحبشة بعد أن تنصر زوجها .
وخطبها له النجاشي ، وقيل تزوجها بعد عودتها إلى المدينة ، وزوجه إياها عثمان بن عفان .
أم حبيبة مهاجرة
لقد كانت أم حبيبة من المهاجرات إلى الحبشة ، وفي اسلامها وهجرتها شاهد صدق على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن أباها كان مقيماً على الكفر ، ورأس من رؤوس المشركين ، وأم حبيبة أخت معاوية لأبيه ، إذ أن أمها هي صفية بنت أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس ، وشقيقها حنظلة بن أبي سفيان ، وبه كان يكنى ، وكان حنظلة شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقتل حنظلة في معركة بدر كافراً في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، قتله الإمام علي عليه السلام .
وتزوجت أم حبيبة عبد الله بن جحش ، وأم بني جحش كلهم : أميمة بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وبنو جحش حلفاء لحرب بن أمية وولدت له حبيبة .
و(عن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قالت أم حبيبة: رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه ففزعت، فقلت تغيرت والله حاله، فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر دينا خيرا من النصرانية وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد ثم قد رجعت إلى النصرانية، فقلت: والله ما خير لك.
وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات فأرى في النوم كأن آتيا يقول يا أم المؤمنين، ففزعت فأولتها أن رسول الله يتزوجني.
و(روى الزهري عن عروة : أن زينب بنت أبي سلمة وأمها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت : يا رسول الله انكح أختي قالت : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أو تحبين ذلك؟
قلت : نعم ليست لك بمخلية وأحب من يشاركني في خير أختي.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إنّ ذلك لا يحلّ لي.
فقلت : والله يا رسول الله إنّا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درّة بنت أبي سلمة فقال : بنت أم سلمة؟
فقلت : نعم .
قال : والله إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لبنت أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن) ( ).
وفي القسمة بين الأزواج في السنة إذ تزوج البكر يقيم عندها سبع ليالي على التوالي ، أما إذا كانت ثيباً فثلاث ليال ، ثم يساوي بين الكل .
وإذا أحبت الثيب أن يقيم عندها سبعاً فعل ثم يقضيه للبواقي ، (لأن النَّبِي صلى الله عليه وآله وسلم لما تَزَوَّج أمَّ سَلَمَة أقام عِنْدَها سَبْعاً ، ثم قال : لَيْس بك هَوانٌ على أهْلِكِ ، إن شِئْت سَبَّعْت لَكِ ، وإن سَبَّعْت لك سَبَّعْت لِنِسَائي)( ).
وروت أم سلمة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وذكر الذهبي في مسندها ثلاثمائة وثمانين حديثاً ، واتفق البخاري ومسلم على ثلاثة عشر ، وهي ثاني واحدة من أزواج النبي بعد عائشة في عدد الروايات عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
واكثر روايات أم سلمة عن أحكام النساء وما فيه التعليم وضبط النساء للأحكام الشرعية ، منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبلها وهو صائم وأنها تغتسل معه من الجنابة في إناء واحد.
و(بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيتي يومًا إذ قال الخادم: إن فاطمة وعليا بالسدّة قالت: فقال لي: “قومي فَتَنَحي عن أهل بيتي.
قالت: فقمت فتنحيت في البيت قريبًا، فدخل علي وفاطمة، ومعهما الحسن والحسين، وهما صبيان صغيران، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبَّلهما، واعتنق عليا بإحدى يديه وفاطمة باليد الأخرى، وقَبَّل فاطمة وقَبَّل علياً , وأغدق عليهم خَميصَة سوداء وقال: “اللهم، إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي.
قالت: فقلت: وأنا يا رسول الله؟ صلى الله عليك.
قال: وأنت)( ).
معجزة خطبة أم حبيبة
قالت أم حبيبة فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن فإذا جارية له يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت علي فقالت إن الملك يقول لك إن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كتب إلي أن أزوجكه. فقالت: بشرك الله بخير.
لقد كانت رؤيا أم حبيبة بشارة وأملاً ومواساة ، ودعوة من علم الغيب للثبات على الإسلام ، وعدم محاكاة زوجها ، وفي زواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منع من شماتة المشركين بها .
قالت أم حبيبة : يقول لك الملك وكلي من يزوجك.
فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته وأعطت أبرهة سوارين من فضة وخدمتين كانتا في رجليها وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها سرورا بما بشرتها.
فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا فخطب النجاشي فقال : الحمد لله [الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ]( )، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، صلى الله عليه وسلم، أما بعد فإن رسول الله كتب إلي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله وقد أصدقتها أربع مائة دينار.
ثم سكب الدنانير بين يدي القوم فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأستنصره وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان فبارك الله رسول الله.
ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج. فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا.
قالت أم حبيبة: فلما وصل إلي المال أرسلت إلى أبرهة التي بشرتني فقلت لها: إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي فهذه خمسون مثقالا فخذيها فاستعيني بها.
فأبت، فأخرجت حقا فيه كل ما كنت أعطيتها فردته علي وقالت: عزم علي الملك أن لا أرزأك شيئا وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه، وقد اتبعت دين محمد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأسلمت لله، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر.
قالت فلما كان الغد جاءتني بعود وورس وعنبر وزباد كثير فقدمت بذلك كله على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يراه علي وعندي فلا ينكره.
ثم قالت أبرهة: فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله مني السلام وتعلميه أني قد اتبعت دينه.
قالت: ثم لطفت بي وكانت التي جهزتني فكانت كلما دخلت علي تقول: لا تنسي حاجتي إليك. قالت فلما قدمت على رسول الله أخبرته كيف كانت الخطبة وما فعلت بي أبرهة، فتبسم رسول الله، وأقرأته منها السلام فقال: وعليها السلام ورحمة الله وبركاته)( ).
ورواه أبو داود في سننه مختصراً ومجملاً وكذا النسائي وأحمد ، وذكر أن اسناده صحيح.
الزوجة الثامنة : جويرية بنت الحارث : ولدت قبل البعثة بسنتين.
و(عن جويرية قالت: تزوجني رسول الله وأنا بنت عشرين سنة)( ).
وكانت في سبي المسلمين في كتيبة بني المصطلق .
وزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جويرية وما صاحبه من الأحداث من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كانت جويرية زوجة لابن عمها صفوان بن مالك الذي كان شديد العداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل في كتيبة بني المصطلق.
وكانت جويرية في سهم ثابت بن قيس ، فكاتبته على تسع أواق، وجاءت إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتسأله أن يعينها .
وكانت امرأة جميلة فدخلت عليه وهو في بيت عائشة وقد تقدم في الجزء السادس والتسعين بعد المائة حديث عائشة عنها وكيف أنها كرهت دخولها على النبي لإحتمال خطبة النبي لها .
ولما كلمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرته أنها بنت الحارث سيد قومه ، وسألته إعانتها في فكاكها ، سألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن خير من الفكاك ، فقالت ما هو ، قال لها أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك ، قالت نعم يارسول الله .
ولما سمع الصحابة بخبر هذا الزواج وأن بني المصطلق صاروا أصهار النبي عتقوا من في أيديهم.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن جويرية دخلت عليه مباشرة من غير حاجب أو تفتيش أو استئذان ظاهر ، مع أنها حديثة عهد بالسباء هي وقومها وهي ابنة الرئيس ، قتل زوجها ، فيمكن أن تنتقم , وهذا الدخول ومثله من رجال ونساء من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ]( ).
وكان بنو المصطلق حلفاء لقريش ، وشاركوا في الغزو والهجوم على المدينة في معركة أحد ، وكانوا يقطعون الطريق على المسلمين ، ثم صاروا يعدون العدة للهجوم على المدينة .
فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بريدة بن الحصيب الأسلمي من بني أسلم لهم للتأكد من الأمر .
ولم يكن بريدة من الأنصار وأهل المدينة ، لذا فإنه لا يثير شكوك بني المصطلق ، عندما أظهر لهم مجيؤه لإعانتهم والإنضمام إليهم في حربهم ، وبقي معهم أياماً ورآى كيف يقوم رئيسهم الحارث بن أبي ضرار بتنظيم صفوفهم ، وجمع الأسلحة لهم ، ثم رجع بريدة إلى المدينة وأخبر النبي فسار في سبعمائة من أصحابه ليس للغزو إنما لدرء الفتنة وتفريق القوم ومنع الإقتتال.
ولا تتكرر أحداث معركة أحد بزحف ثلاثة آلاف من المشركين ووصولهم إلى أطراف المدينة.
وهل سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من عنده ، الجواب لا ، إنما سار بالوحي للتخفيف عن أصحابه وعن المشركين ، ولمنع المنافقين من الإكثار من الإرجاف في المدينة ، ولبعث اليأس في نفوس كفار قريش الذين ما لبثوا يؤلبون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وتقع ديار بني المصطلق في وادي القديد وهو طويل يبدأ من مسافة (150)كم عن مكة ، وهم بطن من خزاعة والوا كفار قريش طمعاً وجهالة، وفي ديارهم الصنم (مناة) وهم يدافعون عنها ، قال تعالى [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى*وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى] ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يسيرون في الليل مسرعين ، وحالما بلغ بني المصطلق قدومهم تفرقوا وهربوا إلى رؤوس الجبال .
ولا يعلم ما دفع الله عز وجل من الإقتتال وسفك الدماء بمسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني المصطلق ، لقد كان هذا المسير على وجوه :
الأول : الحرب على الإرهاب .
الثاني : درأ الفتنة .
الثالث : زيادة إيمان المسلمين .
الرابع : زجر حلفاء قريش عن الهجوم على المدينة .
الخامس : تجلي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : ترغيب الناس بدخول الإسلام.
تسمية كتيبة بني المصطلق
وفي تسمية كتيبة بني المصطلق ثلاثة أسماء :
الأولى : غزوة بني المصطلق نسبة إلى القوم ونسبهم .
الثاني : غزوة المريسيع نسبة إلى الماء الذي يقيمون حوله .
الثالث: غزوة نجد .
وكذا اختلف في سنة وقوع هذه الكتيبة بعد الإتفاق بأنها في شهر شعبان ، والمختار أنها في شهر شعبان من السنة السادسة للهجرة ( ).
لقد اختلف بعض الصحابة في الخروج إلى جيوش المشركين في معركة أحد مع أنهم على أطراف المدينة لا يبعدون عن المسجد النبوي سوى (5) كم ، أما في كتيبة بني المصطلق فقد ساروا نحو مائتي كيلو متر لتفريق المشركين قبل غزوهم المدينة ، وقطع امداد قريش لهم بالأموال والأسلحة والرجال من غير أن يختلف الصحابة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،وكان عددهم سبعمائة ، ذات عددهم في معركة أحد .
لقد رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من كتيبة بني المصطلق من غير قتلى وجرحى إنما رجعوا بالغنائم والسبايا وتأديب المشركين ، وصد من خلفهم من غزو المدينة.
فلا غرابة أن تكون هبة من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زواجه من جويرية خاصة وأنه لم يطلبها إنما دخلت عليه وهو عند عائشة فلم يتردد في طلب الزواج منها ، ولا يحصى منافع تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الله عز وجل , وفي زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جويرية منافع عديدة منها:
الأول : إصلاح أمة .
الثاني : قانون تآلف القبائل .
الثالث : فكاك أسرى بني المصطلق رجالاً ونساءً .
الرابع : عتق جويرية ونيلها مرتبة أم المؤمنين ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ…] ( ).
الخامس : هذا الزواج مصداق لقوله تعالى [وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
السادس : قانون ترغيب أفراد القبائل بدخول الإسلام .
السابع : إشاعة السلم والأمن في ربوع الجزيرة .
الثامن : زواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ابنة الذي أراد قتله وأصحابه بالإغارة من المدينة معجزة في أخلاق النبوة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
التاسع : دبيب الندم في نفوس بني المصطلق .
العاشر : لم يسأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جويرية الزواج منها إلا بالوحي ، وكذا بخصوص المهر بمكاتبتها وعتقها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الحادي عشر : لقد أخبر الله عز وجل عن سنخية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها رحمة وخير محض ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني عشر : زواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جويرية من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ).
وورد لفظ (فضل الله عليك) في الآية أعلاه مرتين ، ولم يرد هذا التعدد في آية أخرى من القرآن ، وهو من إعجاز إنفراد أو تعدد اللفظ في القرآن.
وذكرت الآية أعلاه حجب همّ طائفة من المشركين بالنبي فهل زواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جويرية وبعض أزواجه الأخريات من حجب وصرف هذا الهمّ والضرر.
الجواب نعم ، لما في هذا النكاح من المصاهرة والموادعة والتقارب السببي ، وصيرورته وسيلة لبيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الزوجة التاسعة : زينب بنت جحش : وهي أم المؤمنين زينب بن جحش بن رئاب من بني أسد امها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وهي وأخوانها من أوائل الأسر التي هاجرت إلى المدينة فاستحوذ أبو سفيان على دارهم وباعها لعمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي ، فجاء عبد الله بن جحش أخو زينب شاكياً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَلَا تَرْضَى يَا عَبْدَ اللّهِ أَنْ يُعْطِيَك اللّهُ بِهَا دَارًا خَيْرًا مِنْهَا فِي الْجَنّةِ ؟ قَالَ بَلَى ، قَالَ فَذَلِكَ لَك)( ).
وعبد الله بن جحش ابن عمة النبي محمد أميمة وهاجر وزوجته (خزيمة بنت الحارث) والظاهر أنها لم تهاجر معه إلى الحبشة ، بخلاف أم حبيبة زوجة أخيه عبيد الله التي هاجرت معه إلى الحبشة فتنصر هناك ، ليتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وهاجر عبد الله إلى المدينة وأبوه جحش قيل لم يدرك الإسلام.
أما أمه أميمة عمة النبي فذكر أنها اسلمت وهاجرت وأطعمها رسول الله أربعين وسقا من تمر خيبر.
واستشهد عبد الله بن جحش في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة ولما تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة كلم أخوه أبو أحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن دارهم التي باعها أبو سفيان ، وكانت الفارعة بنت أبي سفيان تحته ، وأخته زينب بنت جحش أم المؤمنين ، وحمنة بنت جحش زوجة مصعب بن عمير ثم طلحة بن عبيد الله وأم حبيب بنت جحش .
فابطأ عليه رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجبه ، فقال الصحابة لأبي أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يَكْرَهُ أَنْ تَرْجِعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِكُمْ أُصِيبَ مِنْكُمْ فِي اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَأَمْسَكَ عَنْ كَلَامِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ)( ).
ولقد سكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع عقيل لأموال بني هاشم التي في مكة عندما هاجروا إلى المدينة ، ومنها الدار التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، عندئذ قال أبو أحمد شعراً في أبي سفيان :
(أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ … عَنْ أَمْرٍ عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْ
دَارَ ابْنِ عَمّك بِعْتَهَا … تَقْضِي بِهَا عَنْك الْغَرَامَهْ
وَحَلِيفُكُمْ بِاَللّهِ رَبّ … النّاسِ مُجْتَهَدُ الْقَسَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا ، اذْهَبْ بِهَا … طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ)( ).
ومن أمثال العرب تقلدها طوق الحمامة ، إذا جاء بهنة أو فعل قبيح يلزمه عاره.
و(عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لنسائه : أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً. قالت: فكن يتطاولن أطول يداً قالت: فكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق)( ).
وكانت وفاتها سنة عشرين للهجرة ، وعمرها (53) سنة أي أنها ولدت قبل الهجرة بـ(33) سنة.
آية قرآنية في زواج النبي (ص) من زينب
لقد وردت آية قرآنية في زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زينب بنت جحش بقوله تعالى [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا] ( ).
لبيان فضل ونعمة الله عز وجل على زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل ورود اسم زيد في القرآن من نعمة الله عز وجل على زيد الجواب نعم , وهي من أعظم النعم إذ أنه ذكر بصيغة الثناء لتوالي النعم عليه من حين اشتراه حكيم بن حزام من سوق حباشة لعمته خديجة باربعمائة درهم من مالها الخاص , إذ كان زيد أصابه سباء في الجاهلية و(وهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك وتتبع اهله خبره حتى دلوا عليه فأتوا في طلبه فخيره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المكث عنده أو الرجوع مع اهله فاختار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقام عنده)( ).
يدل قوله تعالى [أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ] ( )، على أن زيداَ جاء مستشيراَ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلاقها وامتناع زيد عن الأخذ بالنصيحة ليس معصية لأنه في باب الإستشارة ، والمختار أنه أخذ بنصيحة رسول الله على نحو الندب وللحجة ، والوطر ، الحاجة والهمة ومتعلق الرغبة.
ويدل قول النبي محمد (أمسك عليك زوجك) على أن رغبته بزينب بنت جحش لا تصل إلى درجة السعي الجاد للزواج منها ، إذ ترك لزيد الأخذ بنصيحته ، نعم قد يهيئ الله عز وجل سبباً آخر لزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها .
والمختار أن زيداً عمل بوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفترة وجيزة ، ثم قام بطلاقها كما في قوله تعالى [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا]( ).
ليكون تقدير الآية : أمسك عليك زوجك فقضى زيد منها وطراً.
أي تحقق هذا الإمساك الذي أمره به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الإعجاز في نظم الآية ، والتقديم والتأخير فيها .
ولم يرد لفظ (وطراً) بالرفع أو النصب أو الجر في القرآن إلا في هذه الآية إذ ورد فيها مرتين .
ولم يرد لفظ (وانعمت عليه) (مبديه) (تخشاه) (زوجناكها) (ادعيائهم) (قضوا) إلا فيها .
وتزوجها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برضاها ، وهداية الله لنفسها بالغبطة والسعادة للإمتثال لأمر الله عز وجل ، فصحيح أن الخطاب في (زوجناكها) موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن النكاح نوع مفاعلة ، فلابد من رضا الزوجة، خاصة وأن أمرها بيدها لأنها ثيب .
وزينب بنت جحش ابنة عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومهاجرة ، ومع هذا زوجها لمولاه ، وكان يقال له عبد محمد، ورضيت زينب بما اختار لها الله ورسوله ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزوجها إلا بالوحي .
(ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه أتى زيداً ذات يوم لحاجة ، فأبصرها قائمة في درع وخمار فأعجبته ، وكأنّها وقعت في نفسه.
فقال : سبحان الله مقلِّب القلوب وانصرف.
فلمّا جاء زيدٌ ، ذكرت ذلك له ففطن زيد ، كرهت إليه في الوقت ، فألقي في نفس زيد كراهتها ، فأراد فراقها)( ).
فجاء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره رغبته بعزمه على طلاقها .
فقال النبي : أرا بك منها شئ ، وقال زيد أنه لم ير منها إلا خيراً.
ولكنها تتعاظم عليه ونسبها وشرفها ، وتؤذيه بلسانها ، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعثه على رأس سرايا من المهاجرين والأنصار ، الأمر الذي جعله لا يطيق استصغاره من قبل زوجته.
فقال له النبي [أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ]( ).
أي أن الأسباب التي ذكرت ليس علة تامة للطلاق ، وحتى على القول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يود مفارقة زيد لها ، فان المدار على القول والفعل ، وليس على الود الذي هو كيفية نفسانية ثم أن زيداً طلقها ، ولما انقضت عدتها بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها زيداً ليخطبها له.
(قال زيد : فانطلقت ، فإذا هي تخمّر عجينها، فلمّا رأيتها، عظمت في صدري حتى ما أستطيع أنْ أنظر إليها حين علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرها فولّيتها ظهري.
وقلت : يا زينب أبشري فإنّ رسول الله يخطبك ، ففرحت بذلك.
وقالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتّى أوامر ربي ، فقامت إلى مسجدها وأُنزل القرآن {زَوَّجْنَاكَهَا} فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللّحم حتّى امتد النهار)( ).
فخفف الله عز وجل عن المسلمين والمسلمات بهذا الزواج بجواز زواج نساء الأدعياء والموالي إذا فارقوهن شرعاً.
وكانت زينب تفخر على أزواج النبي ، و(أما أنتن زوّجكن آباؤكن ، وأما أنا فزوّجني ذو العرش)( ).
نزول آية الحجاب
وفي رواية عن أنس أن آية الحجاب نزلت في زينب بنت جحش ،وهو قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا] ( ) .
(قال أنس بن مالك : أنا أعلم الناس بآية الحجاب،
ولقد سألني عنها أُبيّ بن كعب لمّا بنى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بزينب بنت جحش أولم عليها بتمر وسويق وذبح شاة،
وبعثت إليه أُمّي أُمّ سليم بحيس في تور من حجارة،
فأمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنْ أدعو أصحابه إلى الطعام،
فدعوتهم فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون،
ثمّ يجيء القوم فيأكلون ويخرجون.
فقلت : يا نبيّ الله قد دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه،
فقال : ارفعوا طعامكم فرفعوا وخرج القوم .
وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت، فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقمت معه لكي يخرجوا، فمشى رسول الله صلّى الله عليه منطلقاً نحو حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت.
فقالوا : وعليك السلام يا رسول الله.
كيف وجدت أهلك؟
ثمّ رجع فأتى حجر نسائه فسلّم عليهنّ.
فدعون له ربّه.
ورجع إلى بيت زينب.
فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون في البيت.
وكان النبيّ(عليه السلام) شديد الحياء.
فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولّى عن بيته خرجوا .
فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته وضرب بيني وبينه ستراً ، ونزلت هذه الآية.) ( ).
ونسب إلى أكثر المفسرين نزولها في زينب بنت جحش .
وقال قتادة ومقاتل كان هذا في بيت أم سلمة ، ولكن لو كان في بيت أم سلمة لذكرته في أحاديثها .
و(عن عبد الرحمن بن أبزى، قال: صليت مع عمر على أم المؤمنين زينب بنت جحش، وكانت أول نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفاة)( ).
وقيل للإمام الرضا عليه السلام فما قصة داود مع أوريا قال : (إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا، وأول من أباح الله عزوجل أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود عليه السلام فتزوج بامرأة اوريا لما قتل وانقضت عدتها منه ، فذلك الذي شق على اوري وأما محمد نبيهصلى الله عليه وآله وقول الله عزوجل له : وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ” فإن الله عزوجل عرف نبيه أسماء أزواجه في دار الدنيا، وأسماء أزواجه في الآخرة، وأنهن امهات المؤمنين، وأحد من سمى له زينب بنت جحش وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة، فأخفى صلى الله عليه وآله اسمها في نفسه ولم يبد له لكيلا يقول أحد من المنافقين، إنه قال في امرأة في بيت رجل: إنها أحد أزواجه من امهات المؤمنين، وخشي قول المنافقين، قال الله عزوجل: ” والله أحق أن تخشاه ” في نفسك، وأن الله عزوجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا ترويج حواء من آدم، وزينب من رسول الله صلى الله عليه وآله، وفاطمة من علي عليه السلام)( ).
الزوجة العاشرة : صفية بنت حبيّ بن أخطب : وهي احدى أمهات المؤمنين ، تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد واقعة خيبر التي وقعت في بداية السنة السابعة للهجرة بعد صلح الحديبية ، وهي ابنة رئيس بني النضير ، ومن سبط لاوي بن يعقوب ثم من ولد هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام ، وأمها برة بنت سموأل ، وكانت تتحدث بأن أباها وعمها يحبانها أكثر من بقية أولادهما ، وكأنه من علامات زواجها من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورتها أم المؤمنين ، وهو بشارة واقعية ومن الإستصحاب القهقري في علم الأصول وكأنه من المغيبات في مودة وميل النفوس.
وفي كتابنا الموسوم (فلسفة الرؤيا في الإسلام) (ومن الرؤيا ما كانت في باب غير متوقع ولوجه بعيد مناله، ومنها ما ترى تحقيقها يتم بسرعة وانقلاب واستحالة. لما اتي بصفية بنت حيي الى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم شاهد النبي صلى الله عليه واله وسلم اثراً في وجهها لم يزل بعد لم يندمل سألها ما هو.
فاخبرته انها كانت قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن ابي الحقيق ان قمراً وقع في حجرها وقصت رؤياها على زوجها.
فقال : ما هذا الا انك تتمنين ملك الحجاز محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها.
وزفت لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهي لم تزل بعد.
وقد تحقق مصداق الرؤيا، وإذا كان القمر يطل على أهل الأرض هلالاً رفيعاً ثم يأخذ بالإتساع إلى أن يصبح بدراً في ليالي البيض ويأخذ بالنقصان التدريجي القهري فيختفي في ليالي المحاق ثم يبدأ دورته من جديد في آية كونية، فإن أنوار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تطل على الأرض في الليل والنهار وعلى مدار السنة في آية تشريعية تتضمن الهداية للناس وإرشادهم لسبل الصلاح ومنها إتخاذ الهلال آلة مناسبة للعبادات مثل الحج والصيام قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
لقد أنعم الله عز وجل بالرؤيا كبشارة للاقتران الكريم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي تدل بالدلالة التضمنية على تحقق النصر للمسلمين وأراد الله عز وجل بها انذاراً لزوجها وقومه، فلو أيقن بها وأسلم لظل على حاله ومنزلته وكذا لو اجتنب قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يخف الكنز لذا يجب عدم التفريط برؤيا الانذارات) ( ).
وولدت صفية في المدينة المنورة التي كانت تسمى يثرب (قال ابنُ الأَثير : يَثْرِبُ : اسْمُ مَدِينَةِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قديمة فغَيَّرَهَا وسَمَّاهَا طَيْبَةَ وطَابَةَ كَرَاهِيَةَ التَّثْرِيب وهُوَ اللَّوْمُ والتَّعْيِير قال شيخُنَا : ونَقَل شُرَّاحُ المَوَاهبِ أَنه كانَ سُكَّانُها العَمَالِيق ثُمَّ طَائِفَة مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ثم نَزَلَهَا الأَوْسُ والخَزوْرَجُ لَمَّا تَفَرَّقَ أَهْل سَبَإٍ بسَيْلِ العَرِم)( ).
(وقيل طَيْبةُ وطَابةُ المدينة سماها به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ابن بري قال ابن خالويه سماها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعدّةِ أَسماء وهي :
الأول : طَيْبة.
الثاني : طَيِّبَّةُ .
الثالث : طابَةُ .
الرابع : المُطَيَّبة .
الخامس : الجابِرةُ.
السادس : المَجْبورة.
السابع : الحَبِيبة.
الثامن : المُحَبَّبة.
قال الشاعر فأَصْبحَ مَيْموناً بطَيْبةَ راضِيا ولم يذكر الجوهري من أَسمائها سوى طَيْبة بوزن شَيْبة.
قال ابن الأَثير في الحديث أَنه أَمر أن تُسَمّى المدينة طَيْبةَ وطابَة هما من الطِّيبِ لأَن المدينة كان اسمها يَثْرِبَ والثَّرْبُ الفساد فنَهى أَن تسمى به وسماها طابةَ وطَيْبةَ وهما تأْنيثُ طَيْبٍ وطاب بمعنى الطِّيبِ قال وقيل هو من الطَّيِّبِ الطاهر لخلوصها من الشرك وتطهيرها منه ومنه جُعِلَتْ لي الأَرضُ طَيِّبةً طَهُوراً أَي نظيفة غير خبيثة)( ).
وتزوجت صفية من سلام بن مشكم القريظي ثم فارقته ، فتزوجت كنانة ابن الربيع بن أبي الحقيق ، ولم تلبث عنده أياماً حتى قتل .
وكان سبب قتل كنانة بن أبي الحقيق زوجها أنه أخفى كنز بني النضير الذي عنده وأنكره وقال أنه لا يعلم مكانه (فأتى رسول الله برجل من اليهود فقال لرسول الله عليه السلام : إنّي قد رأيت كنانة يطيف هذه الخزنة كلّ غداة ، فقال رسول الله لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك ، قال : نعم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخزنة ، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثمّ سأله ما بقي، فأبى أن يؤدّيه)( ).
لقد سعى كنانة في الصلح مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورضي بشروط الصلح مع عدم كتمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمراَ ولكنه نكث بإخفاء موضوع كنز بني النضير.
(قال ابن عباس: فدعا رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – رجلا من الانصار فقال : إذهب إلى قراح كذا وكذا، ثم ائت النخل فانظر نخلة عن يمينك، أو عن يسارك مرفوعة فاتني بما فيها ” فجاءه
بالآنية والأموال ، فقومت بعشرة آلاف دينار، فضرب أعناقهما، وسبي أهليهما بالنكث الذي نكثاه) ( ).
ودفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى محمد بن مسلمة ليختار ما يفعل به العفو أو الفكاك ببدل أو القتل لأنهم قتلوا أخاه محمود – أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بقتله مع تنجز الشرط ، ولكن ترك للأنصاري العفو عنه أو فكاكه بعوض-.
قال ابن اسحاق : فضرب محمد بن مسلمة (عنقه بأخيه محمود بن مسلمة، وكانت اليهود ألقت عليه حجراً عند حصن ناعم ، فقتله، كان أوّل حصن افتتح من حصون خيبر)( ).
ولم تكن صفية وأبوها من أهل خيبر إنما هما من بني النضير فلما اجلاهم النبي من المدينة أقاما في خيبر ، وعندما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصن بني أبي الحقيق فوقعت في الأسر .
و(قال ابن إسحاق : ولمّا افتتح رسول الله عليه السلام القموص حصن بني أبي الحقيق أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصفية بنت حي بن أخطب ، وبأُخرى معها، فمرّ بهما بلال، وهو الذي جاء بهما على قتلى من قُتل من اليهود، فلمّا رأتهما التي مع صفية، صاحت، وصكّت وجهها، وحثت التراب على رأسها.
فلمّا رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أغربوا عنّي هذه الشيطانة. وأمر بصفية، فجرت خلفه وألقى عليها رداءه، فعلم المسلمون أنّ رسول الله قد اصطفاها لنفسه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبلال لمّا رأى من تلك اليهودية ما رأى : أَنُزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما)( ).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حاصر أهل خيبر في حصنين لهم هما :
الأول : الوطيح .
الثاني : السلالم .
فلما أحسوا بالعجز ، وأدركوا قرب فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحصنهم بعد إعانتهم أعداء الإسلام ، سألوه الأمان وأن يحقن لهم دماءهم ، فرضي لأنه لا يريد سفك الدماء .
ومشى بينهم محيَصة بن مسعود ، ثم عرضوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبقوا في خيبر وصالحوه على النصف في الأموال ثم قالوا (نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْمَرُ لَهَا ؛ فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلَى النّصْفِ عَلَى أَنّا إذَا شِئْنَا أَنْ نُخْرِجَكُمْ أَخْرَجْنَاكُمْ)( ).
وهذا الشرط الأخير لمنعهم من إيواء وإعانة المشركين ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
فدك
قيل سميت فدك لأن فدك بن حام بن نوح أول من سكنها وقيل يعود اسمها إلى أحد إخوان سلمى بن العمالقة واسمه فدك واحتلها ملوك بابل ، وتسمى في هذا الزمان مدينة الحائط.
إذ تكثر فيها الأسوار والقلاع والبساتين ، وبلغ طول سورها (7) كم يحيط بالبلدة على نحو دائري ، وتشتهر بزراعة النخيل أيام النبوة وإلى أيامنا هذه وفيها نحو (30) الف نخلة ، وفي سنة 2010م أحصي عدد سكانها وقراها (14) ألف شخص .
وتبعد فدك عن المدينة المنورة نحو (280)كم وعن مدينة خيبر نحو (160) كم .
ولما رأى أهل فدك فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحصون خيبر ، ومصالحته لأهلها على النصف أرسلوا إليه قبل أن يصل إليهم بأن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم ، فاجابهم.
فهي لم يوجف عليها بخيل أو ركاب ، فهي ملك خاص لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
زواج النبي (ص) من صفية
ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينوي الزواج من صفية أو إتخاذها سرية .
وفي حديث عن أنس أنهم دخلوا خيبر عنوة (فَجُمِعَ السَّبْيُ قَالَ فَجَاءَ دِحْيَةُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ قَالَ اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً قَالَ فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ.
فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَاللَّهِ مَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ.
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ادْعُوهُ بِهَا فَجَاءَ بِهَا فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ خُذْ جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ غَيْرَهَا)( ).
و(عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إشترى صفية بنت حيى بسبعة أرؤس) ( )، وهو بعيد وقيل (أعطاه ابنتي عمها)( ).
ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين عن أكل لحوم الحمر وأكل ذي ناب من السباع.
و(عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في الخيل)( ).
وبيع المغانم حتى تقسم لأنه قد لا تقع في سهم البائع ، وأن لايصيب أحد امرأة من السبي حتى يستبرء منها ، ولا يجوز اتيان الحبالى من النساء.
(لما حلت صفية من استبرائها دخل بها بمكان يقال له سد الصهباء في أثناء طريقه إلى المدينة) ( ).
وعن أنس بن مالك قال (أقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين خيبر والمد ثلاث ليال يبني عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته وما كان فيها من خبز ولحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالانطاع فبسطت فألقى عليها التمر والاقط والسمن، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه.
فقالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه.
فلما ارتحل وطأ لها خلفه ومد الحجاب)( ).
ولم يكرهها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الزواج منه ، إنما خيرها بين أن يعتقها وتلحق بأهلها ، أو يعتقها وتكون زوجته (فَاخْتَارَتْ أَنْ يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ)( ).
و(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا)( ).
وعن أبي اليقظان (إن قريشاً لم ترغب في أمهات الأولاد حتى ولدن ثلاثاً هم خير أهل زمانهم : علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله. وذلك أن عمر أُتى بنات يزدجرد بن شهريار بن كسرى سبيات، فأراد بيعهن .
فقال له علي عليه السلام : إن بنات الملوك لا يبعن، ولكن قوموهن، فأعطاه أثمانهن ، فقسمهن بين الحسين بن علي، ومحمد بن أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عمر، فولدن الثلاثة)( ).
وصفية بنت حيي بن أخطب سيد بني قريظة ، وقد حلوا على بني النضير سكنة خيبر بعد أن أخرجهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة بسبب نصرتهم لكفار قريش.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرجو حتى الساعة الأخيرة أن يسلم حيي بن أخطب ، ولكنه أبى ، وكانت له هو وأخوه أبو ياسر بن أخطب احتجاجات وجدال مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات الهجرة.
وكانا يظهران الحسد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ورد ذكرهما في حديث جابر بن عبد الله عن الحروف المقطعة( ).
لقد جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عتق صفية صداقاً لها ، وقال بعض العلماء إنه من خصائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا دليل عليه ، فهوحكم عام لأن العتق مال معتبر وفي الغالب ليس بالقليل .
ولم تلد صفية لأحد ، وكانت جميلة وعمرها يوم تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبع عشرة سنة( ) على المشهور والمختار.
لقد أولم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زواجه من صفية ، ولم يولم بلحم أو شحم مع إمكانه ، وقرب عهد بغنائم خيبر والحصون الأخرى ، إنما أولم بتمر وسويق ولبن .
وماتت صفية في شهر رمضان سنة خمسين للهجرة (ودفنت بالبقيع وورثت مائة ألف درهم بقيمة أرض وعرض وأوصت لابن أختها بالثلث ووكان يهوديا)( ).
مما يدل على وجود يهود في المدينة إلى أيام عمر بن الخطاب وجواز الوصية للكتابي بالمال إذا كان ذا رحم.
دس السم للنبي (ص)
لقد نزل قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
لبيان أنه بشر يأتيه الموت أو يقتل من قبل المشركين ، ونجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في معارك الإسلام الأولى معجزة له ، إذ كان القتل قريباً منه في كل معركة إلى جانب محاولات الإغتيال التي صرفها الله عز وجل عنه.
و(عن ابن عباس قال ولد نبيكم يوم الاثنين ونبيء يوم الاثنين وخرج مهاجرا من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين وفتح مكة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين.
وأخرج أبو نعيم عن معقل بن يسار قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المدينة مهاجري ومضجعي من الأرض)( ).
وهل مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فراشه أم قتل ، مشهور المسلمين أنه دسّ له السم ، وهو المختار .
و(عن عبدالله بن مسعود، قال: لئن أحلف تسعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلا أحب إلى من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله اتخذه نبيا واتخذه شهيدا)( ).
وقال محمد بن إسحاق (فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل لها الذراع.
فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة ثم جاءت بها وقال الواقدي (فعمدت إلى عنزٍ لها فذبحتها، ثم عمدت إلى سمٍّ لابطى.
قد شاورت اليهود في سموم فأجمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتفين.
فلما غابت الشمس صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المغرب وانصرف إلى منزله، ويجد زينب جالسةً عند رحله فيسأل عنها.
فقالت : أبا القاسم ، هدية أهديتها لك. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهدية فقبضت منها ووضعت بين يديه.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وهم حضور، أو من حضر منهم : ادنوا فتعشوا! فدنوا فمدوا أيديهم.
وتناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذراع ، وتناول بشر بن البراء عظماً، وأنهش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهشاً وانتهش بشر ، فلما ازدرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكلته ازدرد بشر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كفوا أيديكم فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة)( ).
ولاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلفظها ثم قال : إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم.
ثم دعا بها فاعترفت ، فقال : ما حملك على ذلك ” قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان كذابا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر.
قال: فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومات بشر من أكلته التي أكل.
قال ابن إسحاق : وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال في مرضه الذي توفى فيه – ودخلت عليه أخت بشر بن البراء بن معرور : يا أم بشر إن هذا الاوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الاكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر.
قال ابن هشام: الابهر: العرق المعلق بالقلب.
قال : فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النبوة)( ).
التورية على الكفار
قال إبن اسحاق بسند منقطع : عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خيبر قدم عليه الحجاج بن عِلاط السّلمي واسلم ، وكان له مال كثير عند تجار مكة ، وله معاون في أرض بني سُليم ، وزوجته في مكة أم شيبة أخت بني عبد الدار سدنة البيت ، وحملة لواء المشركين في معركة بدر وأحد.
فقال الحجاج يا رسول الله أن لي أموالاً عند أهل مكة ، وذهباً عند امرأتي ، وإذا علمت وأهلها باسلامي يستحوذون عليه ، ولا يعطوني منه شيئاً ، فاذن لي لاسرع السير قبل أن يسبق خبر إسلامي وفتح خيبر فيزداد حنق وغيظ قريش .
فاذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن الحجاج لم يكتف بالإذن إنما سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأذن له بالنيل منه عند أهل مكة تورية وتقية.
(فقال: إنه لابد لي يا رسول الله من أن أقول.
قال : قل)( ) فتوجه الحجاج إلى مكة يطوي الأرض .
ولما قارب الحجاج أطراف مكة وجد بثنية البيضاء ، وهي قريبة من التنعيم رجالاً من قريش يتسمعون الأخبار لأنهم علموا بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر وهي أشد قرى وحصون الجزيرة منعة.
وفيها نحو سبعمائة من الرجال بين دارع وحاسر ، وفيهم الفرسان الشجعان مثل مرحب وأخيه.
وليس كلهم من أصول يهودية ، فكثير منهم من العرب الذين اعتنقوا اليهودية لإدراكهم قبح عبادة قريش الأصنام ، ولإنقياد الإنسان بالفطرة إلى الديانة السماوية.
وقد تظهر هذه الحقيقة وغيرها بخصوص الأنساب بالدقة المرتقبة لتحليل DNA ، وذكر أن بني النضير وبني قريظة ينتميان إلى قبيلة جُذام اليمنية التي هاجرت إلى الحجاز .
وروى الترمذي (لَمَا أَنَزَلَ اللّهُ فِي سَبَأٍ مَا أَنَزَلَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا سَبَأٌ : امْرَأَةٌ أَمْ أَرْضٌ ؟ قَالَ ” لَيْسَ بِامْرَأَةِ وَلَا أَرْضٍ وَلَكِنّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنْ الْعَرَبِ ، فَتَيَامَنْ مِنْهُمْ سِتّةً وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ فَأَمّا الّذِينَ تَشَاءَمُوا : فَلَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسّانُ ، وَأَمّا الّذِينَ تَيَامَنُوا : فَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرُونَ وَحِمْيَرُ وَمُذْحِجُ وَكِنْدَةُ وَأَنْمَارٌ ، قَالَ الرّجُلُ وَمَنْ أَنْمَارٌ ؟ قَالَ ” الّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ)( ).
ودان السمؤال بن حيا باليهودية وهو عربي من الأزد ، وترجع أسرة مرحب إلى قبيلة حمير .
وكان يقام بخيبر أحد أسواق العرب الكبيرة في الجاهلية واسمه سوق نطاة خيبر ، وقال(محمد بن الحسن بن ثريد الأزدي، في إسناد ذكره أن أسواقَ العرب الكبيرة كانت في الجاهلية ثلاث عشرة سوقاً.
فأولها قياماً: سوق دومة الجندل: وهي على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة، وعلى عشر مراحل من الكوفة، وعلى عشر مراحل من دمشق، حصنها ممرد وبها التقى الحكمان، ثم صار ثم دبا ثم الشحر ثم رابية حضرموت ثم ذو المجاز ثم نطاة خيبراً، ثم المشقر ثم حجر باليمامة ثم منى، ثم عكاظ ثم عدن ثم صنعا.
وكانت هذه الأسواق منها ما يقوم في الأشهر الحرم ولا يقوم في غيرها، ومنها ما لا قوم في الأشهر الحرم، ويقوم في غيرها. لكنه لا يصل أحد إليها إلا بخفير ولا يرجع إلا بخفير) ( ).
لحاجة الناس لاتصال الأسواق على مدار السنة وهي مناسبة متجددة لنشر مبادئ الإسلام وآيات القرآن وبعث النفرة من الأوثان.
وكان الركبان والمسافرون ينقلون الأخبار بين المدن ، ولم يكن هناك بريد لدولة في الجزيرة ، فعندما رآى رجال قريش الموجودون في ثنية البيضاء الحجاج بن عِلاط استبشروا.
وقالوا عنده والله الخبر ، ولم يعلموا باسلامه.
وقالوا أخبرنا (فَإِنّهُ قَدْ بَلَغْنَا أَنّ الْقَاطِعَ قَدْ سَارَ إلَى خَيْبَرَ ، وَهِيَ بَلَدُ يَهُودُ وَرِيفُ الْحِجَازِ) ( ).
أي أنهم لا يسمون النبي باسمه بل يسمونه القاطع وأنه قطع الأرحام باسلام طائفة من قريش ، وبسقوط قتلى من قريش في معركة بدر وأحد والخندق .
إنما بعثه الله عز وجل ليقطع على الناس طريق النار ، ويأخذ بأيديهم إلى الأمن والبركة في الدنيا ، واللبث الدائم في النعيم ، فاجابهم الحجاج : عندي من الخبر ما يسركم ، فسارعوا إلى ناقته والتفوا عليها ، وهم يلحون عليه بأخبارهم بما هو سار .
قال الحجاج (هُزِمَ هَزِيمَةً لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا قَطّ ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ قَتْلًا لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ قَطّ ، وَأُسِرَ مُحَمّدٌ أَسْرًا ، وَقَالُوا : لَا نَقْتُلُهُ حَتّى نَبْعَثَ بِهِ إلَى أَهْلِ مَكّةَ ، فَيَقْتُلُوهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَنْ كَانَ أَصَابَ مِنْ رِجَالِهِمْ .
قَالَ فَقَامُوا وَصَاحُوا بِمَكّةَ وَقَالُوا : قَدْ جَاءَكُمْ الْخَبَرُ) ( ).
وتباشروا بينهم ، وصاروا ينتظرون قتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، فقال لهم الحجاج أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي ، فأني أريد أن أقدم المدينة (يثرب) وأصيب من أصحاب محمد الذين فروا وأسروا قبل أن يسبقني التجار .
فصاروا يجمعون له ماله ، وجاء إلى زوجته وسألها المال الذي جعله عندها فدفعته له : وفيه شاهد على شدة عداوة قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى بعد صلح الحديبية ، وسريان الخبر في مكة ليظهر المشركون الشماتة ويحزن المسلمون والمسلمات من أهل مكة ، وحزن بنو هاشم حزناً شديداً وصاروا حيارى.
وقد يقال هل تنطلي هذه التورية على قريش ولم يشكوا بأمر الحجاج هذا ، وهم أهل معرفة بأحوال الأمم ، وخبرة بالوقائع ، الجواب نعم لأنهم يظنون أن حصون خيبر لا تقهر ، ولعله بلغهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاصرها ، إذ دامت مدة الحصار أربعة عشر يوماً من أيام بقيت من محرم إلى شهر صفر من السنة السابعة للهجرة .
الزوجة الحادية عشرة : ميمونة بنت الحارث : وكانت قبله عند أبي رهم بن عبد العزى من بني عامر بن لؤي ، وتزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السابعة ، وهي ذات السنة التي تزوج فيها صفية بنت حيّ بن أخطب ، إذ تزوج ميمونة في عمرة القضاء في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة .
وقد زوجه إياها عمه العباس بن عبد المطلب وأصدقها العباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعمائة درهم ، ويقال أنها التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن وصلت إليها خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بعيرها (فَقَالَتْ الْبَعِيرُ وَمَا عَلَيْهِ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى [وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ] وَيُقَالُ إنّ الّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ زينب بنت جحش)( )، وهذا القول ضعيف .
وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة القضاء نحو ألفين من أصحاب الحديبية الذين صدّوا عن العمرة وعددهم ألف فارس ومن إنصاف لهم .
ولما صار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريباً من مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى مكة ، ومما أمره به خطبة ميمونة بنت الحارث العامرية له.
فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب لأن أختها أم الفضل زوجته ، فزوجها العباس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودفنت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث في سرف ذات المكان الذي دخل بها فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راجعة من الحج إلى المدينة ، وكان عمرها يوم تزوجها (26) سنة أما عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو( 59 ) سنة.
وأختلف في أوان زواجه :
الأول : تزوجها قبل أن يحرم بعمرته .
الثاني : تزوجها وهو محرم .
عمرة القضاء
لقد اشترطت قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة أن يرجع وأصحابه إلى مكة كيلا تقول العرب أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة عنوة عليهم ، ولا أصل لهذا العذر ، وهو من مصاديق عدم أهليتهم لولاية البيت الحرام ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] ( ).
وأن يدخل النبي وأصحابه مكة معتمرين في قابل ، ليس معهم إلا سلاح الراكب وهي سيوف صغيرة في أغمادها ، وظنت قريش أن هذا الشرط نصر لهم ، ولكن تبين خلافه ، إذ أنكرت العرب هذا الشرط وصدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن العمرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، وإرادة صلح الحديبية في هذه الآية .
ومن الإعجاز في مصاديق هذه الآية أن كل شرط شرطته قريش هو لصالح النبوة والإسلام بالدليل الواقعي الآني واللاحق ودخول الناس في الإسلام ، وضعف جبهة الكفار ، وكانت هذه الشروط حجة عليهم ومقدمة لفتح مكة .
وعندما جاء الموعد في السنة التالية وفي شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة كان نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل جلياً ، وحينما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة في عمرة القضاء (لم يكن أبو سفيان أسلم ولم يبق بمكة من أهلها أحد حين دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل خرجوا منها، وتغيبوا عنها مدة مقامه عليه السلام بها تلك الثلاثة الايام) ( ).
ولم تخرج قريش كلها من مكة بل بقي أفراد منهم .
ترى لماذا خرجوا من مكة يومئذ ، قيل أنهم كرهوا رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، والمختار أنهم أيضاً خشوا استيلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على مكة ، وعجز قريش عن إيجاد الناصر لها وأخذ رؤساء الشرك أسرى ، إذ صارت القبائل يومئذ على أقسام :
الأول : قبائل دخلت الإسلام مثل خزاعة بعد صلح الحديبية ، وأكثر منهم الذين دخلوا الإسلام قبل صلح الحديبية .
الثاني : قبائل اختارت الوقوف والتريث حتى يتجلى الأمر بسيادة الإسلام .
ومن الخصال المستحدثة لهذه القبائل النفرة من عبادة الأوثان ، وإدراك قبحها ومجانبة قريش والإبتعاد عنها .
الثالث : الذين بقوا مع قريش مثل بنو الديل من بني بكر ، وهل أدرك رجالات قريش هذا التقسيم ، وأن العرب صارت تميل إلى الإسلام بوضوح ، الجواب نعم .
لذا قامت قريش باشعال فتنة بمد بني الديل بالسلاح وقاتلوا معهم ضد خزاعة مباغتة وخلافاً للشروط وحازوا خزاعة على الحرم وأجهزوا عليهم فيه بأصرار قبيح وجحود من رئيس بني الديل نوفل بن معاوية ، ولم تكن بنو بكر كلها اشتركت في هذا العدوان .
إنصراف النبي (ص) من عمرة القضاء
ولما تمت الأيام الثلاثة لوجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة جاء حويطب بن عبد العزى وسهيل بن عمرو الذي عقد صلح الحديبية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلب منه الخروج بأصحابه من مكة وأراد منهم أن يمهلوه حتى يبني بميمونة فابوا.
فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى سرِف بكسر الراء ويبعد عن مكة نحو (5) كم ويسمى في هذا الزمان مدينة (النوارية) إذ أقام به النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وبعث إلى ميمونة فبنى بها فيه في محضر من جميع الصحابة الذين معه وعددهم ألفان ، مما يدل على رضاهم بزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبولهم له قبولاً حسناً ، وإدراك موضوعيته في الإصلاح بين القبائل ، ولم يسألوه مع كثرة أسئلتهم في أمور الدين والشريعة .
وميمونة هي برة بنت الحارث الهلالية ، وهي إحدى أخوات أربع سماهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الأخوات المؤمنات).
وفي كيفية زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوه :
الأول : أن ميمونة مات عنها زوجها أبو رهم بن عبد العزى العامري وعمرها ست وعشرون سنة فامضت أمرها إلى شقيقتها الكبيرة أم الفضل ، فأخبرت زوجها العباس بن عبد المطلب.
فمضى العباس من فوره إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعرض عليه الزواج منها فاستجاب له .
الثاني : عندما قارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعفر بن أبي طالب لخطبتها له ، وهو زوج أختها لأمها أسماء بنت عميس .
الثالث : أنها التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزل فيها قوله تعالى [وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وقال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
التي وهبت نفسها للنبي(ص)
من شرائط النكاح المهر يدفع للمرأة ، وهو من إكرام الإسلام للمرأة وحفظ الشريعة لحقوقها مع أنه قد تكون رغبتها بالزواج أكثر من رغبة الزوج ، ولا يصح أن تهب المرأة نفسها إلا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهذه الهبة من مختصاته.
وأختلف في المرأة التي وهبت نفسها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أقوال :
الأول : أنها أم المؤمنين ميمونة ، عن عبد الله بن عباس.
الثاني : أم شريك الأزدية ، وهو الوارد عن الإمام زين العابدين( ).
الثالث : هي خولة بنت الحكيم ، عن عائشة( ).
الرابع : هي ليلى بنت الحطيم .
الخامس : امرأة من الأنصار ، إذ ورد عن الإمام الباقر عليه السلام قال (جاءت امرأة من الانصار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدخلت عليه وهو في منزل حفصة، والمرأة متلبسة متمشطة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقالت: يا رسول الله إن المرأة لا تخطب الزوج، وأنا امرأة أيم لا زوج لي منذ دهر ولا ولد، فهل لك من حاجة.
فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيرا، ودعا لها، ثم قال: يا اخت الانصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا، فقد نصرني رجالكم، ورغبتْ فيّ نساؤكم، فقالت لها حفصة: ما أقل حياءك وأجرأك وأنهمك للرجال.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كفي عنها يا حفصة فإنها خير منك ، رغبت في رسول الله فلمتيها وعيبتها .
ثم قال للمرأة انصرفي رحمك الله، فقد أوجب الله لك الجنة برغبتك في، وتعرضك لمحبتي وسروري وسيأتيك أمري إنشاء الله، فأنزل الله عزوجل [وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
قال: فأحل الله عزوجل هبة المرأة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وآله ولا يحل ذلك لغيره) ( ).
و(عن عكرمة عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة وهبت نفسها له)( ).
ليكون نكاح الهبة من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى على القول بأنه لم تكن من بين زوجاته نكاحها عن هبة.
خلاصة في زواج النبي (ص)
وهذا ملخص بأزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم :
ت الزوجة تأريخ الزواج
1 خديجة بنت خويلد في السنة 15 قبل البعثة
2 سودة بنت زمعة قبل الهجرة
3 عائشة بنت أبي بكر السنة الثانية للهجرة
4 حفصة بنت عمر السنة الثالثة للهجرة
5 زينب بنت خزيمة الثالثة للهجرة وقيل الرابعة
6 أم سلمة الرابعة للهجرة
7 زينب بنت جحش الخامسة للهجرة
8 جويرية بنت الحارث الخامسة للهجرة
9 أم حبيبة السابعة للهجرة
10 صفية بنت حي بن أخطب السابعة للهجرة
11 ميمونة بنت الحارث السابعة للهجرة
وتوفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تسع زوجات وهن :
الأولى : عائشة بنت أبي بكر .
الثانية : حفصة بنت عمر بن الخطاب العدوية.
الثالثة : أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية الاموية.
الرابعة : زينب بنت جحش الاسدية .
الخامسة : أم سلمة هند بنت أبى أمية المخزومية.
السادسة : ميمونة بنت الحارث الهلالية .
السابعة : سودة بنت زمعة العامرية .
الثامنة : جويرية بنت الحارث ابن أبى ضرار المصطلقية.
التاسعة : صفية بنت حيى بن أخطب النضرية الهارونية.
وكانت له سريتان وهما :
الأولى : مارية بنت شمعون القبطية المصرية من كورة أنصناء وهى أم ولده إبراهيم عليه السلام .
الثانية : ريحانة بنت شمعون القرظية، أسلمت ثم أعتقها فلحقت بأهلها ، ومن الناس من يزعم أنها احتجبت عندهم والله أعلم ( ).
(وطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العالية بنت ظبيان ، وفارق أخت بني عمرو بن كلاب.
وفارق أخت بني الجون الكندية من أجل بياض كان بها.
وتوفيت خديجة ، وزينب بنت خزيمة الهلالية ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي.
وبلغنا أن العالية بنت ظبيان التى طلقت تزوجت قبل أن يحرم الله النساء، فنكحت ابن عم لها من قومها وولدت فيهم)( ).
مارية القبطية
أما مارية بنت شمعون القبطية فهي ليست من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي سرية له فلا يصدق عليها أنها من أمهات المؤمنين وهي من المنيا من مصر .
وقد أهداها هي وأختها سيرين المقوقس القبطي صاحب الإسكندرية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السابعة للهجرة ، وأهدى معها (خصياً يقال له مأبور)( ).
وفي طريق العودة إلى المدينة عرض عليهما حاطب الإسلام ، ورغبهما فيه فاسلمتا ، وقيل إنما بادرت مارية بالنطق بالشهادتين عندما دعاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يجمع بين الأختين ، فقد وهب اختها سيرين لحسان بن ثابت الشاعر الأنصاري فولدت له عبد الرحمن .
و(عن عائشة قالت: ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة من النساء جعدة، وأعجب بها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا.
فكان رسول الله عامة النهار والليل عندها حتى فرغنا لها فجزعت.
فحولها إلى العالية فكان يختلف إليها هناك فكان ذلك أشد علينا. ثم رزق الله منها الولد وحرمنا منه)( ).
وعلى قول أن قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( )، نزلت فيها بعد أن اختلى بها في بيت حفصة.
كما ملك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ريحانة بنت شمعون النضرية وهي سرية له ، وتوفيت ماريا بنت شمعون في السنة السادسة عشرة للهجرة.
وفي قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ] (قال عكرمة : نزلت في المرأة التي وهبت نفسها للنبي عليه السلام) ( ).
أمهات المؤمنين وحجة الوداع
لقد حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع ومعه أزواجه كلهن ، وفيه مسائل :
الأولى : قانون اكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأزواجه.
الثانية : قانون أولوية أداء المناسك .
الثالثة : تجلي مصاديق صفة أمهات المؤمنين باكرام المسلمين لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : الشكر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأزواجه بمصداق لقوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب]( ).
الخامسة : قانون الحج زيادة في الإيمان .
السادسة : قانون الحج مادة وسبب للزواج .
السابعة : قرب مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ليكون توديع نسائه عند البيت الحرام .
الثامنة : الأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأزواجه بأن يقرن في بيوتهن ، بعد حجة الوداع.
و(من حديث واقد بن أبي واقد الليثي، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته: “هَذِه ثُمَّ ظُهُورَ الحُصْر، يعني: ثم الزَمْنَ ظُهور الحصر، ولا تخرجن من البيوت)( ).
و(عن محمد بن سيرين قال : نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما لك لا تَحُجِّين ، ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟! فقالت : قد حججت ، واعتمرت ، وأمرني الله أن أقر في بيتي ، فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت قال : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت بجنازتها .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن سعد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن مسروق قال : كانت عائشة إذا قرأت { وقرن في بيوتكن } بكت حتى تبل خمارها)( ).
ولعله لذهابها الى البصرة وحضورها معركة الجمل وما فيها من سفك للدماء .
و(عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع هذه ، ثم ظهور الحصر قال : فكان كلهن يحجن إلا زينب بنت جحش ، وسودة بنت زمعة ، وكانتا تقولان : والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
هذا ما الهالة من الإكرام والتقدير التي تخاطب بها أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحج والأماكن العامة .
علة زواج النبي (ص) من أكثر من أربع
للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصائص في باب العبادات منها قيامه الليل ، قال تعالى [قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا] ( ) ، قيادته لأصحابه في ميادين الدفاع، وعدم فراره من الميدان مع شدة وطأة القتال ، وكثرة جيوش وأسلحة المشركين ، وإقدامهم ومناجاتهم في القتال ، فقد كانوا ينعتون المسلمين بأنهم (أَكلَةَ رأَس).
لإرادة قلتهم وسهولة الإنقضاض عليهم فاخزاهم الله عز وجل بنصر المسلمين في معركة بدر ، ونسبة هذا النصر لله سبحانه بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، ومن مصاديق النصر في المقام قطع دابر إرهاب المشركين ، ليعم السلام الأرض ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أمات القرآن إرهاب المشركين ، ولن يتجدد إلى يوم القيامة ، وإذا قام به بعضهم فسرعان ما يزول من غير أن يترك اثراً إلا الضرر والخسارة ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا] ( ).
وفي باب النكاح جعل الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصية إذ أباح نكاحه لأكثر من أربع نساء ، وهي نعمة خاصة على الرسول الأكرم ، ولا بأس بتحري أسباب وآثار ومنافع هذه الخصوصية ، والحكمة فيها .
قال تعالى [وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا] ( ).
وكان الرجل منهم عنده مال لأيتام ، فيكون على وجوه :
الأول : يتزوج اليتيمة طمعاً بمالها .
الثاني : يتزوج اليتيمة من غير أن يدفع لها صداقاً .
الثالث : يأخذ مال اليتيم ذكراً أو أنثى فيتزوج بها وان كانت عنده نساء متعددات ويتزوج اليتيمة حرصاً على مالها ، فمنع الله عز وجل من الزواج من أكثر من أربع نساء ، وإن خشي أكل مال اليتيم يكتفي بواحدة .
(عن ابن عباس قال : قصر الرجال على أربع نسوة من أجل أموال اليتامى) ( ).
ولكن هذا الأمر ليس علة تامة لتقييد النكاح بأربع خاصة وأن مسألة أموال اليتيم ليست عامة ، ولا يأتي حكم عام للأجيال على مسألة قليلة الوقوع .
ولم يرد لفظ (طاب) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وكأنه اشارة إلى إنفراد الزواج بحسن وطيب خاص ، وفيه ترغيب بالزواج .
وقد تزوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم سلمة وضم أولادها الذين هم أيتام بعد أن استشهد زوجها أبو سلمة عبد الله عبد الأسد من بني مخزوم (شهد أبو سلمة بدرا وأحدا ورمى بها بسهم في عضده فمكث شهرا يداويه ثم برأ الجرح وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجره وبعث معه مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والانصار إلى قطن وهو جبل بناحية فيد فغاب تسعا وعشرين ليلة ثم رجع إلى المدينة فانتفض جرحه فمات منه لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة أربع) ( ).
وانقضت عدتها وكانا من المهاجرين إلى الحبشة ، فكانوا في حجره لترغيب المسلمين بالعناية بالأيتام خاصة أولاد الزوجة .
و(عن عمر بن أبى سلمة قال: كان الذى جرح أبى أبو أسامة الجشمى، فمكث شهرا يداويه فبرأ، فلما برأ بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المحرم، يعنى من سنة أربع، إلى قطن، فغاب بضع عشرة ليلة، فلما دخل المدينة انتقض به جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الاولى.
قال عمر: واعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشر، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودخل بها في ليال بقين من شوال، فكانت أمي تقول: ما بأس بالنكاح في شوال والدخول فيه، قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شوال وبنى فيه.
قال: وماتت أم سلمة في ذى القعدة سنة تسع وخمسين.) ( ).
ولما حلت أم سلمة للزواج خطبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وبعث إليها عمر بن الخطاب في ذلك مرارا، فتذكر أنها امرأة غيرى، أي شديدة الغيرة وأنها مصبية، أي لها صبيان يشغلونها عنه ويحتاجون إلى مؤنة تحتاج معها أن تعمل لهم في قوتهم، فقال: أما الصبية فإلى الله وإلى رسوله) ( ).
أي أن رزقهم على الله ، ونفقتهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه وعد كريم وغاية التخفيف ، ودعوة لأم سلمة لتؤدي واجبات الزوجية .
وأما الغيرة فأدعو الله فيذهبها .
قانون تعدد زواج النبي (ص) مواساة
لقد أصر المشركون على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، كما في معركة بدر، وسقوط أربعة عشر شهيداً ، وكما في غزوهم المدينة في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وصيرورتهم على مشارفها ووقوع معركة أحد وسقوط سبعين شهيداً ليزداد عدد الأرامل خاصة وأن من الصحابة من كان عنده أكثر من زوجة .
ومواساة أزواج الشهداء وأهليهم بأن يقترنّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصير أعظم مواساة للأرامل في التأريخ ، إذ نالت كل واحدة منهن صفة (أم المؤمنين).
وصار ذكرها على نحو الإجمال يكرر كل يوم إلى يوم القيامة يتلوه عموم المسلمين في مشارق ومغارب الأرض لقوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ..] ( ) وهذه المواساة أعم من أن تنحصر بازواج الشهداء ومنها :
الأولى : زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حفصة بنت عمر وكانت زوجة لخنيس بن حذافة السهمي الذي استشهد في كتيبة بدر ، وقد عرضها عمر بعد استشهاد زوجها على أبي بكر ، فلم يتزوجها ثم عرضها على عثمان وكانت رقية بنت رسول الله قد ماتت ، فلم يجبه عثمان .
فذهب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغاضباً يشكو إعراض صاحبيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (تتزوج حفصة خيرا من عثمان ويتزوج عثمان خيرا من حفصة ثم تزوج عليه السلام حفصة وزوج ابنته أم كلثوم عثمان) ( ).
وطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم حفصة تطليقة ثم راجعها بأمر من جبرئيل .
الثانية : كانت زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين (وكانت تحت عبد الله بن جحش قتل عنها يوم أحد، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث ولم تلبث عنده إلا يسيراً شهرين أو ثلاثة، وتوفيت في حياته.
وقال قتادة: كانت زينب بنت خزيمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند الطفيل بن الحارث والقول الأول قول ابن شهاب.
وقال أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني النسابة: كانت زينب بنت خزيمة عند الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث)( )، ابن عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي جرح في معركة بدر جرحاً بالغاً واستشهد في الصفراء عند الرجوع إلى المدينة .
الثالثة : أم سلمة هند بنت أبي أمية صارت أرملة بعد ان استشهد زوجها عبد الله بن عبد الأسد في أعقاب معركة أحد بعد أن جرح فيها والتأم جرحه ثم انفجر عليه.
الرابعة : كانت أم حبيبة قد هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش الذي تنصر هناك فانفصلت عنه ، فخطبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي في الحبشة ، ووكيله في العقد النجاشي ، ثم دخل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد عودتها إلى المدينة من الحبشة .
الخامسة : صفية بن حيي بن أخطب سيد بني النضير ، قتل أبوها وزوجها في خيبر ، فخيرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاختارت الزواج منه ، لقد اختارت المواساة والعز في النشأتين ، وقد اتصفت في حياتها بالتقوى .
الأخوات المؤمنات
هذا النعت والعنوان وصف صادر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ ورد أنه (قال : الأخوات المؤمنات ميمونة بنت الحارث وأم الفضل سلمى وأسماء.
وقال الزبير عن إبراهيم بن حمزة عن الدراوردي بإسناده (الأخوات الأربع مؤمنات ميمونة وأم الفضل وسلمى وأسماء)( ).
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الأخوات المؤمنات ميمونة بنت الحارث وأم الفضل سلمى وأسماء)( )، وهن :
الأولى : أم الفضل أم عبد الله بن عباس ، وهي لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن الهلالية ، وهي من المسلمات الأوائل ، وقيل هي أول امرأة أسلمت بعد خديجة ، وأسلمت قبل زوجها العباس عم النبي بسنوات ، ومن المهاجرات.
وولدت ستة رجال وهم (الفضل وبه كانت تكنى ويكنى زوجها العباس أيضاً أبو الفضل وعبد الله الفقيه ، وعبيد الله الفقيه ، ومعبد ، وقثم ، وعبد الرحمن وأم حبيبة سابعة.
وفي أم الفضل هذه يقول عبد الله بن يزيد الهلالي :
ما ولدت نجيبة من فحل … بجبل نعلمه وسهل
كستة من بطن أم الفضل … أكرم بها من كهلة وكهل
عم النبي المصطفى ذي الفضل … وخاتم الرسل وخير الرسل) ( ).
والمشهور أنها أرضعت الحسين مع ولدها قثم لذا قيل أنه أخو الحسين بالرضاعة وولد الحسين عليه السلام في السنة الرابعة للهجرة .
ولم يكن العباس يومئذ قد هاجر إلى المدينة ، إنما كانت هجرته بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة بقليل إلا أن يراد أن أم الفضل كانت قد هاجرت ، وهي حامل بقثم ، أو هو رضيع على صدرها.
أو أن العباس كان يأتيها إلى المدينة فيغشاها وهو بعيد .
وعن أم الفضل قالت (قلت يا رسول الله رأيت في المنام كأن عضواً من أعضائك في بيتي أو قالت في حجرتي فقال : تلد فاطمة غلاماً إن شاء الله فتكفلينه قالت : فجئت به يوماً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فبال على ظهره فدحيت في ظهره ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : مهلاً يرحمك الله أوجعت ابني .
فقلت : إدفع إليّ إزارك فأغسله فقال : لا ، صُبِّي عليه الماء فإنَّه يُصَبُّ على بوْل الغلام ويغسل بول الجارية) .
الثانية : ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين ، وهي أخت أم الفضل لأبيها وأمها .
الثالثة : سلمى بنت عميس ، أخت أم الفضل ، وكانت تحت حمزة بن عبد المطلب ، فولدت له بنتاً ، ثم خلف عليها شداد بن أسامة الليثي فولدت له عبد الله وعبد الرحمن.
الرابعة : أسماء بنت عميس وكانت زوجة لجعفر بنت أبي طالب فولدت له عبد الله ومحمد وعوناً ، ولما استشهد في معركة مؤتة تزوجها أبو بكر فولدت له محمد بن أبي بكر ، ولما مات أبو بكر تزوجها الإمام علي عليه السلام فولدت له يحيى .
إن تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأخوات المؤمنات ، وتحليهن بالخلق الحميد ، دعوة للمسلمين والمسلمات لتعاهد الإيمان ، وإيلاء التقوى والعناية ، وجعل موضوعية لها في القول والعمل ، ومنه الإمتناع عن الإرهاب وعما يسبب النفرة عند الناس ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
والنسبة بين الخلق العظيم والإرهاب هو التضاد لذا فان النبي محمداً هو نبي الرحمة والسلم والرأفة والموادعة والصبر على الأذى.
الإستحواذ على أموال المؤمنين في مكة
لم ينحصر جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة الأوائل بالصبر وتحمل الأذى وحصار قريش لبني هاشم ثلاث سنوات من السنة السابعة إلى العاشرة للبعثة النبوية .
إنما قامت قريش بالإستحواذ على أموال وبيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة , وبادروا إلى بيعها وسخّروا أثمانها في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
ولم يكتف كفار قريش بإنفاق أموالهم في محاربة النبوة والتنزيل بل استولوا على دور وأموال المؤمنين وجعلوها في محاربتهم , فأخزاهم الله عز وجل في معركة بدر وأحد والخندق , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ولعل سبب تعدي واستحواذ أبي سفيان على دار بني جحش لأنهم حلفاء بني أمية ، وقد استشهد عبد الله بن جحش في معركة أحد ، وورد (عن سعد بن أبي وقاص أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تأتي ندعو الله تعالى في ناحية، فدعا سعد.
فقال : يا رب إذا لقيت العدو غدا فلقني رجلا شديدا بأسه، شديدا حرده ، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمن عبد الله بن جحش.
ثم قال : اللهم ارزقني رجلا شديدا بأسه، شديدا حرده، أقاتله فيك ويقاتلني، فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلت: يا عبدي، فيم جدع أنفك وأذنك ؟
فأقول: فيك وفي رسولك.
فيقول الله تعالى: صدقت.
قال سعد: كانت والله دعوة عبد الله بن جحش خيرا من دعوتي، ولقد رأيته آخر النهار وإن أذنيه، وأنفه معلقات في خيط( ).
أي استجاب الله عز وجل دعوة عبد الله بن جحش فجدعت نسوة الكفار أنه وأذنه تمثيلاً به ، وعلقا على شجرة بخيط ، لإيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
والمراد من الكلب العقور أعم من الكلب فيشمل الأسد والنمر والذئب ، وما عقر الناس واعتدى عليهم فهو عقور .
واستدل عليه بقوله تعالى [وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ]( ).
قال محمد بن عمر: وتولى تركته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاشترى لابنه مالا بخيبر، ودفن هو وخاله حمزة بن عبد المطلب في قبر واحد)( ).
ولما ضرب عدو الله ابن ملجم الإمام علي عليه السلام بالسيف ، قال الإمام للحسن عليه السلام (إن بقيت رأيت فيه رأيي وإن هلكت من ضربتي هذه فاضربه ضربة ولا تمثل به فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ينهى عن المثلة ولو بالكلب العقور)( ).
الشاهد نهي رسول الله عن المثلة حتى بالكلب المعتدي المصاب بداء الكلب .
ثم أوصى الإمام علي عليه السلام أهل البيت قائلاً (يا بني المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قتل أمير المؤمنين قتل أمير المؤمنين ألا لا يقتل بي إلا قاتلي)( ).
قضاء الحج والصوم عن الميت
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وهل يمكن تقدير الآية : كتب عليكم الصيام أداء وقضاء ، الجواب نعم لقوله تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
والسنة النبوية تفسير وبيان للقرآن وتقييد لإطلاقه ، أو توسعة لموضوعه ، ليشمل قضاء الصيام وجوهاً :
الأول : المريض الذي برأ في ذات السنة وقبل حلول رمضان التالي .
الثاني : المسافر الذي أفطر في سفره ، سواء على القول بأن الإفطار في السفر عزيمة أو رخصة .
الثالث : الذي أفطر شهر رمضان عمداً فعليه القضاء والكفارة باطعام ستين مسكيناً عن كل يوم ، وكل مسكين مدّ من الطعام وهو كيلو غرام إلا ربعاً.
وأغلب النصوص الواردة في قضاء الصوم المراد منها الذي أفطر عن مرض أو سفر ، إذ كان عدد الذين يفطرون عن عمد قليلاً ، وهناك مسألتان :
الأولى : ما هي نسبة الذين يفطرون رمضان من المسلمين عن عمد كل سنة في هذا الزمان .
الثانية : أيهما أكثر عدد المصلين أم الصائمين.
أما المسألة الأولى فتحتمل نسبتهم نحو 30% من عموم المكلفين بالصيام من المسلمين ، وإن كان هناك تفاوت كبير بين بلد وآخر ، من بلاد المسلمين ، وعموم أقطار الأرض .
وأما الثانية فان عدد المصلين أكثر من عدد الصائمين ، لأن الصلاة واجب مطلق، ولا تترك بحال ، فاذ يعفى المريض والشيخ والشيخة من الصيام ، فلا عفو في الصلاة ، وهو من الإعجاز في تشريع الفرائض العبادية .
الرابع : الذي مات وفي ذمته صيام واجب وهو على شعب :
الأولى : صيام شهر رمضان ، وهو الوحيد من الصيام الواجب بالأصل.
الثانية : صيام النذر .
الثالثة : صيام الكفارة .
وقد وردت النصوص بقضاء الصيام عن الذي أفطر رمضان وغادر الدنيا وفي ذمته صيام واجب .
فالإبتلاء العام في هذا الزمان يختلف عن أيام النبوة والصحابة والأئمة والتابعين ، فكان الإفطار العمدي قليلاً ، ولا عبرة بالقليل النادر .
وكانت النصوص تنصرف في الجملة إلى الإفطار عن عذر ، أما الان فان الذمة تبقى مشغولة في الواجب.
ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : كتب عليكم الصيام أداء وقضاء عن الحي والميت .
الثاني : كتب عليكم الصيام لتؤدوا الذي يجب عليكم وعلى من مات منكم ولم يؤده لما ورد في قضية الخثعمية (لما سألت رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا زمنا لا يستطيع أنيحج إن حججت عنه أينفعه ذلك ؟ قال لها: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان ينفعه ذلك قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء)( ).
سواء كانت الديون لله عز وجل كالصلاة الفائتة والصيام والحج والزكاة والخمس ، أو ديون وحقوق الناس مطلقاً.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام فاذكروا ما فاتكم منه بالوصية .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ولكم الأجر ولمن تقضون عنه , و(عن سهل بن سعد . أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : للجنة ثمانية أبواب ، فيها باب يسمى الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل معهم أحد غيرهم يقال: أين الصائمون؟
فيدخلون منه ، فإذا دخل آخرهم أغلق ، فلم يدخل منه أحد)( ).
وهل يدخل الذي يُقضى عنه الصيام من باب الريان يوم القيامة, وهو خاص بالصائمين , أم أن القدر المتيقن من الداخلين منه هم الذين أدوا الصيام وتحملوا الجوع والعطش قربة إلى الله تعالى , المختار هو الأول بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
نصوص في قضاء الصوم عن الميت
وفي قوله تعالى [أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا]( )، روي (أن رجلا قال : يا رسول الله مات أبي ولم يحج أفأحج عنه ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي قال نعم قال فدين الله أحق أن يقضى قال : فهل لي من أجر ؟ فأنزل الله تعالى [أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا] يعني من حج عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت)( ).
ويشمل الأجر مَن دَفَع نفقة الحج عن الميت ، ولو أخرجها الورثة من تركته ، فهل لهم أجر ، الجواب نعم ، سواء أوصى باخراجها أم لم يوص.
وعن عبد الله بن عباس (أنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ .
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ نَعَمْ فَأَخَذَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا وَكَانَتْ امْرَأَةً حَسْنَاءَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الْفَضْلَ فَحَوَّلَ وَجْهَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ)( ).
والمختار أن قضاء العبادات لا ينحصر بحج الله الحرام بل هو عام في الفرائض للنص الخاص والعام ، ورجاء المطلوبية والأجر والثواب والإقرار من الأحياء بأن الأموات بحاجة إلى قضاء ديونهم العبادية مثلما تقضى ديون الناس عليهم , وفيه شاهد إيمان الأحياء باليوم الآخر وعالم الحساب ,ليأتيهم ثواب إضافي غير ثواب قضاء العبادات عن الميت , وكذا الذي يتنزه عن الإرهاب ويدعو الناس لإجتنابه فإنه يأتيه ثواب خاص لهذه الدعوة .
و(عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله و سلم فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ، قال : نعم قال فدين الله أحق أن يقضى)( ).
ولا يختص قضاء العبادات بالوالدين ، أو الذي يؤديها خصوص الولد الأكبر .
و(عن ابن عباس قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت يا رسول الله ان اختي ماتت وعليها صيام شهرين متتابعين .
قال ارأيت لو كان على اختك دين اكنت تقضينه قالت نعم .
قال فحق الله أحق)( ).
و(عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن أختي ماتت ولم تحج ، أفأحج عنها فقال صلى الله عليه وآله وسلم : أرأيت لو كان عليها دين فقضيته ، فالله أحق بالوفاء)( ).
وأيهما أهم وأولى قضاء صيام رمضان الواجب بالأصل أم النذر الذي هو واجب بالعرض ، الجواب هو الأول ، ولا تصل النوبة لقياس الأولوية لورود النص بقضاء الصيام.
و(عن أبي بشر أن امرأة من جهينة جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها قال حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته قالت نعم قال اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)( ).
ولا يختص القضاء والصدقة عن الميت بالفرائض العبادية بل يشمل الصدقة المستحبة .
و(عن ابن عباس أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها قال نعم قال فإن لي مخرفاً فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها)( ).
وقد نزل القرآن بالوعيد لمن يخالف العمل بالوصية لقوله تعالى [فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ]( ).
وعن محمد بن مسلم عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (قال : يقضى عن الميت الحج والصوم والعتق وفعاله الحسن)( ).
وكما روي بعدة طرق منها (عن عبدالله بن أبي يعفور ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : يقضى عن الميت الحج والصوم والعتق وفعاله الحسن.
وعن صفوان بن يحيى ، وكان من خواص الرضا والجواد عليهما السلام .
وعن البزنطي ، وكان من رجال الرضا عليه السلام قال : يقضى عن الميت الصوم والحج والعتق وفعله الحسن)( ).
وجواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قضية الخثعمية أعم من خصوص السؤال وفريضة الحج.
إذ أنها (سألت رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا زمنا لا يستطيع أن يحج إن حججت عنه أينفعه ذلك.
قال لها: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان ينفعه ذلك قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء)( )
فلفظ (دين الله) أعم من الحج ويشمل كل الفرائض ، واستدل ابن زهرة على وجوب قضاء الولي الصلاة بالإجماع على أنها تجري مجرى الصوم والحج( ).
وظاهر القول أعلاه أن قضاء الصوم من المسلمات مثل قضاء الحج ، والصيام ركن من أركان الإسلام.
أما ما ورد عن الحسن بن علي الوشاء عن الإمام الرضا عليه السلام قال (إذا مات رجل وعليه صيام شهرين متتابعين من علة فعليه أن يتصدق عن الشهر الاول ، ويقضي الشهر الثاني)( ).
فالحديث في المرض المتصل في رمضانين.
إذ ورد عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال (سألته عن رجل تتابع عليه رمضانان لم يصح فيهما ثم صح بعد ذلك ،كيف يصنع ؟ قال : يصوم الاخير ويتصدق عن الاول بصدقة لكل يوم مد من طعام لكل مسكين)( ).
أما الصدقة عن الأول فهي الفدية لأن المرض استوعب أيام السنة كلها فسقط عنه الأداء والقضاء ، وأما صوم رمضان الثاني فلانه صحى وذهبت عليه في أيام السنة أي من شهر شوال إلى شعبان فيلزمه قضاء رمضان.
وصوم الكفارة الذي حال المرض والعلة دون أدائه إلى أن مات صاحبه .
وان قيل قد ورد قوله تعالى [وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى]( )، فالجواب يستقرأ من النصوص على أن القضاء عن الميت من سعيه .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة تجري له، أو ولد صالح يدعو له)( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : هل الفرائض العبادية رحمة بالناس .
الثانية : هل الفرائض العبادية زاجرة عن الإرهاب .
أما الأولى فالجواب نعم ، فهي رحمة في الدنيا والآخرة ، لذا فان قضاء الصلاة والصيام والحج عن الميت رحمة به ، ودعوة للتدارك ، وعدم تضييع الأجر والثواب والذي لا يحصيه إلا الله عز وجل .
وأما المسألة الثانية ، فالجواب نعم أيضاً إذ أنها تعقل وتقيد الإنسان وتحول دون الشطط والفسوق والتعدي.
لقد جعل الله عز وجل نوع اتصال بين السماء والأرض ، قال تعالى [وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ]( ).
وكذا جعل الله عز وجل الصلة بين الأحياء والأموات بأمور :
الأول : التفكر والتدبر .
الثاني : قانون الإتعاظ من الموت ومجيئه بالقريب والبعيد من حولنا ، وقد أخبر القرآن عن كون الموت أمراً وجودياً ، قال تعالى [خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ]( ).
لبيان لزوم الإلتفات إليه ، والإستعداد له للذات والغير ، ومنه التنزه عن الإرهاب الذي هو ظلم وظلمات يوم القيامة ، فيجب أن يتحصن المسلم بالتقوى والتنزه عن الإضرار بالناس .
الثالث : قانون اجتماع الناس جميعاً يوم القيامة في المحشر ، وليس من نصير للإرهاب والظلم ، قال تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
الفدية عن المريض
لا يجب على الولي قضاء صيام النذر إلا أن يخرج من تركته ، أو يؤدى على نحو الإستحباب.
وتكون الفدية مداً من الطعام عن كل يوم للمريض الذي استمر مرضه إلى شهر رمضان التالي ، والمد نحو ثلاثة أرباع كيلو غرام وكذا من اتصل مرضه من أول رمضان إلى حين وفاته فتدفع عنه الفدية ، ولا يجب القضاء أما الميت الذي فاته قضاء سنة أو سنوات من غير علة المرض فيجب القضاء عنه.
وقال الحنفية بوجوب صوم ولي الميت عنه ، فان لم يستطع انتقل إلى الإطعام .
و(عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه)( ).
إذ ورد (صيام) بصيغة النكرة ، ولم يقيد بصوم مخصوص إلا أن المتبادر هو صيام رمضان
ومذهب الجمهور الحنفية ، المالكية ، الحنابلة ، عدم قضاء الصيام عن الميت في كفارة اليمين ، واستدل بقوله تعالى [وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى]( ).
وقال سعد بن عبادة (لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان امي هلكت فهل ينفعها ان اعتق عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم اعتق عنها)( ).
واسم الولي عنوان عام ولا يختص بالولاية على شؤون الميت ، فلابد من تعاون واجتهاد الآباء والأمهات في عصمة الأبناء من الإرهاب ، والفكر المتطرف ومنعهم من إتباع الذي يدعو إلى العنف والبطش والتعدي على الآخرين .
المراد من الولي
والمراد من الولي على وجوه :
الأول : الوارث المتعدد ، فاذا كان عند الميت ولدان وبنت ، فيصدق عليهم مجتمعين ومتفرقين أنهم ولي ، وفائدة هذا القول المستحدث على جهتين :
الأولى : قضاء الورثة لما على الميت بالتكافل والقسمة أو التراضي ، وهل تنطبق عليه عمومات قوله تعالى [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( )، الجواب نعم مع التراضي ، إذ أن الآية أعلاه بخصوص الإرث والتركة.
الثانية : الولد الأكبر ، فلو كان الأكبر من ولده أنثى فلا يجب عليها القضاء إنما يجب على الولد الأكبر ، وعن محمد الصفار (كتب: رجل مات وعليه قضاء من شهر رمضان عشرة أيام ـ إلى أن قال : فوقع عليه السلام يقضي عنه أكبر ولييه عشرة أيام ولاء ، إن شاء الله)( ).
الثاني : الوارث خاصة وإن كان من الطبقة الثانية أو الثالثة كالأخوال والأعمام وابنائهم ، لأن الوارث هو المتصرف في تركة الميت .
وهل يشترط في القضاء عن الميت أن تكون تركته النقد ، الجواب لا ، فتشمل الأعيان والعروض ، نعم لا تشمل بيع دار سكن العائلة ونحوه من الضروريات .
الثالث : الذي أوصى له الميت في تركته الثلث أو أقل منه سواء كان قريباً أو بعيداً.
إن العناية بالميت بقضاء ما فاته من عبادات كالصلاة والصيام والحج والزكاة والخمس دعوة للمسلم للتهيئ والإستعداد للآخرة بأداء ما عليه من العبادات والفرائض ، وإجتناب المعاصي ، ومنها الظلم والإرهاب ، وإذا كانت العبادات تقضى عن الميت فان الظلم وسفك الدماء وإخافة الناس لا يمكن قضاؤها , لذا يجب التنزه والإبتعاد عن الإرهاب.
ومن خصائص الحياة الدنيا قانون إحتمال طرو الموت ومغادرة الروح الجسد في أي ساعة من ساعات الحياة الدنيا .
لتكون كل ساعة من ساعات الإنسان في الدنيا مناسبة لشكره لله عز وجل على نعمة استدامة حياته والحياة العامة .
وهل قول المسلم خمس مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني في الصلاة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) من الشكر أعلاه ، أم لابد من استحداث شكر لله عز وجل كل ساعة على نعمة البقاء .
الجواب هو الأول ، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين، وهل هو من أسباب إرجاء الأجل ، الجواب نعم ، لوجوب شكر الله عز وجل على هذه النعمة والمندوحة بأداء وقضاء العبادات بالتنزه عن الإضرار بالناس ، وعن الإرهاب والظلم والتعدي.
شجرة الزقوم
قد أخبر الله عز وجل عن أوصاف إجمالية لشجرة الزقوم [إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ]( ).
وقيل التشبيه هنا تشبيه وهمي لا يدرك بالحواس الظاهرة ، ولكنه ليس وهمياً ، إنما يتعلق بالتصور الذهني إذ أن صورة الشيطان معلومة ومعهودة عند العرب كأقبح صورة ومنظر .
ونزل القرآن بلغة العرب ، وهم إذا استقبلوا شيئاً قالوا أَنه وجه شيطان ، وكأَنه رأْس شيطان.
والشيطان لا يُرى ولكنه يُسْتَشْعَر أَنه أَقبَح ما يكون من الأَشياء)( ).
وكان بعضهم يرى شياطين الجن خاصة بالفلوات ويحكي قصته وهيئة الشيطان ، وقد يراد من الشيطان المعنى الأعم ، قال تعالى [شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]( ).
والشيطان متمرد مفسد مغو للغير .
ولقد اختص الجزء الخامس والأربعون بعد المائتين من تفسيرنا هذا (معالم الإيمان في تفسير القرآن) بقانون (علم الإحصاء القرآني غير متناهِ) ونبين أن عدد الجن الصالح والشياطين منهم لا يعلمه إلا الله عز وجل ولا يعلم اماكن وجودهم ومحالهم إلا هو سبحانه.
والمدار على موضوع الآية وهو الإنذار والتخويف من النار ، فاذا استغاث أهل النار اكلوا من شجرة الزقوم فتختلس وجوههم وجلودهم.
والعلم عند الله.
وشجرة الزقوم عنوان ومثال لشدة عذاب الكافرين والظالمين يوم القيامة ، إذ لا ينحصر العذاب بالذين اختاروا الكفر ، إنما يشمل الذين نصروا الحرمات ، قال تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (تعتدوها) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
ويتجلى قانون الإرهاب تعد لحدود الله ، وقانون الإرهاب ظلم للذات والغير ، فيلزم الإبتعاد عنه للأمن والسلامة في الدنيا ومن العذاب الأليم في الآخرة.
قانون وجوب التقوى
تبين آيات القرآن وجوب التقوى والخشية من الله ، وهل يختص هذا الوجوب بالمسلمين أم يشمل الناس جميعاً ، الجواب هو الثاني ، ومن إعجاز القرآن مجئ ما بعد الأمر بتقوى الله على وجوه:
الأول :الوجوب مثل [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا]( )و[فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ]( ) و[اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]( )[ اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا]( ).
وأكثر كلمة معطوفة على التقوى في القرآن قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] ( )، إذ وردت فيه عشر مرات ثمانية في سورة الشعراء على لسان الأنبياء في دعوتهم قومهم للإيمان .
وهل من طاعة الرسل الإمتناع عن الإرهاب وترويع الناس ، وبث الحزن والمصائب بينهم ، الجواب نعم .
الثاني : مجئ النهي بعد الأمر بتقوى الله ، ومنه [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ…] ( ) في قصة النبي لوط عليه السلام .
الثالث : مجئ الخبر بعد الأمر بتقوى الله ،ومنه [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
والشطر أعلاه خاتمة آية الدَين (المداينة ) وهي أطول آية في القرآن ، ومنه أيضاً قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
والإرهاب ضد التقوى , وهو خلاف ما علّمه الله عز وجل للمسلمين من حسن الخلق والصبر والإحسان للناس جميعاَ .
ومن إعجاز القرآن قانون كثرة الأوامر بعد الأمر بتقوى الله ، وقانون قلة النواهي بعدها .
وورد نهي للمسلمين بعد التقوى في الآية أعلاه من سورة هود ، ولزوم هجران الربا ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
ويمكن تسمية القرآن كتاب التقوى ، فكل كلمة منه دعوة سماوية لتقوى الله والخشية والخوف منه ، ومن التقوى حب الله ، والشوق إليه ، وقصد القربة في القول والفعل.
وعن الإمام علي عليه السلام (قد سئل عن التقوى فقال : هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل)( ).
مما يدل على أن التقوى سيرة وأدب وسنة تنفذ إلى عالم القول والفعل في الليل والنهار بمناهج التنزيل ورجاء النجاة يوم [يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ]( ).
ومن أبهى سبل هذه النجاة الإحتراز من مزاولة الإرهاب وإخافة الناس.
خصائص نداء الإيمان
لقد ابتدأت آية البحث بنداء الإيمان لوجوه :
الأول :قانون تنزه المسلمين عن مخالفة أحكام الآية القرآنية .
الثاني : قانون نداء الإيمان باعث على العمل بمضامين الآية القرآنية التي تفتتح به وغيرها من الآيات .
الثالث : قانون دلالة نداء الإيمان على أهلية المسلمين للعمل بمضامين الآية .
الرابع : قانون اختصاص المسلمين بالنداء من عند الله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهو تشريف ومصداق لوجود أمة مؤمنة في كل زمان.
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] ( )، فقد ورد نداء [يَا أَيُّهَا] خطاباً في القرآن لكل من :
الأول : الناس عامة ، ومنه قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ]( ).
لبيان قانون توجه الأمر بالتقوى إلى الناس جميعاً ، وعدم اختصاصه وانحصاره بالمسلمين.
لبيان قانون الملازمة بين عمارة الأرض والتقوى ، فكل إنسان عليه أن يتقي الله ، ويخشاه في السر والعلانية ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( )، الجواب نعم .
وقانون التقوى من خصائص الخلافة في الأرض ، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة عندما احتجوا على خلافة الإنسان بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( ) .
وهل يستجيب الناس لأمر الله بالتقوى ، الجواب نعم ، لأن النسبة بين الناس والمؤمنين عموم وخصوص مطلق ، ففي كل زمان ومن أيام آدم عليه السلام هناك أمة مؤمنة تتقي الله عز وجل .
وكما خاطب القرآن المسلمين بوجوب تقوى الله ، فانه خاطب الناس عموماً بذات الأمر الوجوبي ، نعم ورد الخطاب إلى الناس بصفة الربوبية ثلاث مرات بالنداء [اتَّقُوا رَبَّكُمُ] وليس فيها (اتقوا الله ) ، وهذه الآيات هي:
الأولى : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا]( ).
الثانية : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ]( ).
الثاني : النداء الخاص بالمسلمين بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]والذي ورد تسعاً وثمانين مرة في القرآن أكثر من أربعة أضعاف نداء [يَا أَيُّهَا النَّاسُ].
والنسبة بين الندائين عموم وخصوص مطلق ، فنداء [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] هو الأعم ، ولا يدخل غير المسلمين في نداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفيه ترغيب بدخول الإسلام ، فليس بين الإنسان ونداء التشريف والإكرام من عند الله إلا النطق بالشهادتين .
وفيه لزوم تحلي كل مسلم بخصال الإيمان ومنها إمتناعه عن إرهاب الناس والإضرار بهم .
الثالث : النداء لأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، والدعوة للتقارب والتآلف بينهم وبين المسلمين ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا] ( ) .
نداء التبكيت والبراءة من الذين كفروا ومن عبادتهم الأوثان ، كما في قوله تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ]( ).
والنسبة بين عبادة الله وبين الإرهاب هي التنافي والتضاد ، فمن عبادة الله عز وجل التنزه عن الظلم والتعدي ، والإرهاب فرع الظلم والتعدي.
النسبة بين التقوى والنطق بالشهادتين
يأتي نداء الإيمان الأمر بتقوى الله والخشية منه ، ترى ما هي النسبة بين النطق بالشهادتين والتقوى ، الجواب فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي ، وأن النطق بالشهادتين هو التقوى .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق وهي على شعبتين :
الأولى : النطق بالشهادتين فرع التقوى .
الثانية : التقوى فرع النطق بالشهادتين .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الرابع : نسبة التباين .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، والتقوى أعم لقانون شمول التقوى الإعتقاد والقول والفعل , والنطق بالشهادتين مقدمة للتقوى وكل منهما يحرم الإرهاب.
وقانون التقوى ملكة ثابتة ، وجاءت الآيات بصيغة الجمع [اتَّقُوا اللَّهَ] والمراد على أقسام :
الأول : القضية الشخصية بأن يتقي المسلم الله عز وجل .
الثاني : وجوب اتقاء الأسرة والجماعة والطائفة الله عز وجل ، ومن معانيه تعاهد الفرائض العبادية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعن الصيرورة طرفاً في التعدي والظلم.
الثالث : القضية النوعية بأن يتقي المسلمون على نحو العموم المجموعي الله عز وجل .
وتتعدد صيغ الأمر بتقوى الله في القرآن ، منها خمس مرات (اتقون) كما في قوله تعالى [يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ]( )، لوجوب عبادة الناس جميعاً لله عز وجل والخشية منه في السر والعلانية.
و(عن يسر بن جحاش قال : بصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفه ثم قال : يقول الله أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سوّيتك فعدلتك مشيت بين برديك ، وللأرض منك وئيد . فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : أتصدق وأنى أوان الصدقة)( ).
ومن أظهر معاني التقوى حبس النفس والجوارح عن الإضرار بالناس , والنسبة بين هذا الحبس وبين الإمتناع عن الإرهاب هو العموم والخصوص المطلق ، لقانون التضاد والمنافاة بين التقوى والإرهاب.
قانون تنزه المسلمين عن التعدي
قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، وحينما ينطق العبد بالشهادتين ويقول (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) يصبح مسلماً له ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم ، وتجوز مناكحته ، وتحل ذبيحته ، ويحقن دمه .
ويتوجه إليه الخطاب التكليفي بتقوى الله والتنزه عن الإرهاب ، ومن التقوى :
الأول : أداء الفرائض العبادية ، قال تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ]( ).
الثاني : قانون من التقوى الإمتناع عما حرم الله ومنه الظلم والتعدي ، قال تعالى [بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
الثالث : من التقوى التصديق بما ورد في القرآن .
الرابع : قانون الإيمان باليوم الآخر من التقوى .
ومن دلالاته أن الذي يؤمن بلقاء الله في الآخرة يجتنب الظلم وسفك الدماء .
الخامس : من التقوى التحلي بالصبر والزهد ، والإحسان للغير ، قال تعالى [وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان بالخلافة في الأرض ، وأكرم المسلمين منهم بالإيمان والهدى ، لتتجلى أمور :
الأول : إدراك قانون حرمة الإرهاب .
الثاني : قانون التنافي بين الإسلام والإرهاب ، فيجب أن يعلم كل إنسان هذا التنافي .
الثالث : قانون الإرهاب تعد على دستور الخلافة في الأرض ، فلا يختص موضوع الآية في أول البحث أعلاه [وَلاَ تَعْتَدُوا]( ) بالتعدي على الناس بل يشمل التعدي على كل من جهات :
الأولى : النظم الكونية ، وهل القول بأن النظام الكوني يجري بذاته لذاته وإنكار أن الله عز وجل هو الذي يدبر سيرة في كل لحظة من التعدي على النظم الكونية ، الجواب نعم .
الثانية : التعدي على النبوة والتنزيل بالإنكار أو التحريف أو الجحود والصدود .
الثالثة : الظلم للمؤمنين , وانتحال صفة الإيمان ممن يزاول الإرهاب.
وأشد ضروب الإنكار الأذى لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كفار قريش هو وأصحابه وأهل بيته ، وفيه عبرة وموعظة للمسلمين بلزوم الشكر لله عز وجل على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهور دولة الإسلام .
ويتجلى هذا الشكر بالتنزه العام عن الإرهاب فكراً وقولاً وفعلاً ، فلا يرى الناس من المسلم إلا الدعة والأمن .
والإرهاب إساءة وهو ضد الإحسان , ومن الإعجاز توعد الله عز وجل للمسلمين , وبشارته للمحسنين بقوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى]( ).
بين الحكمة والخير
من إعجاز نظم القرآن ورود كل من [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ] و[يُؤْتَ الْحِكْمَةَ] مرة واحدة وفي آية واحدة من سورة البقرة بقوله تعالى [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ).
وتحتمل النسبة بين الحكمة في الآية أعلاه وبين الخير الكثير وجوهاَ :
الأول : نسبة التساوي وأن الخير الكثير هو ذات الحكمة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الحكمة أعم وأكثر من الخير الكثير .
الثانية : الخير الكثير أعم من الحكمة .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الرابع : نسبة التباين ، وهو بعيد عقلاً وشرعاً .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه لوجوه :
الأول : ذات الحكمة خير كثير .
الثاني : لا تؤتى الحكمة إلا بفضل ولطف من عند الله ، وفي التنزيل [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
الثالث : ترشح الخير والصلاح عن الحكمة .
الرابع : من خصائص الخير الكثير أنه مادة لإكتساب أفراد من الحكمة.
وهل هو من الدور بأن يأتي الخير الكثير عن الحكمة ، وتترشح أفراد من الحكمة عن الخير الكثير الذي رزقه الله العبد .
الجواب لا ، للتعدد والتباين في المصاديق والأفراد طرداً وعكساً.
ويمكن القول بأن الدنيا دار الغنيمة يغنم فيها الإنسان الحكمة والخير الكثير ، ويغنم التوفيق لأداء الفرائض العبادية وثوابها في النشأتين.
و(عن ابن عمر قال : قلت : يا رسول الله ما غنيمة مجالس الذكر ، قال : غنيمة مجالس الذكر الجنة)( ).
ترى ما هي النسبة بين الغنيمة والإرهاب ، الجواب إنه التضاد ، كما أن الإرهاب برزخ دون الغنيمة الدنيوية والأخروية ، وقد رزق الله عز وجل الإنسان الدعاء وهو من مصاديق خلافته في الأرض ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أي خليفة يدعوني ويعبدني ، ويعلم أن مقاليد الأمور كلها بيد الله وحده ، ولا يتعدى في أرضي وسماواتي والإرهاب من أقبح وجوه التعدي فلابد أن يتنزه عنه الإنسان.
و(عن سلمان قال : إذا كان العبد يحمد الله في السراء ويحمده في الرخاء فأصابه ضر دعا الله قالت الملائكة : صوت معروف من امرىء ضعيف فيشفعون له ، فإذا كان العبد لا يذكر الله في السراء ولا يحمده في الرخاء فأصابه ضر فدعا الله قالت الملائكة : صوت منكر)( ).
وهل الإرهاب معصية وإثم ، الجواب نعم .
الوصية بالتنزه عن الإرهاب
بين التقوى والوصية بالمعروف عموم وخصوص مطلق ، فهذه الوصية نوع مغادرة للدنيا بسلام واحتراز ورجاء الرحمة من عند الله ، وهناك مسائل :
الأولى : أختتمت آية القصاص [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) بموضوع التقوى وكذا آية الصيام ، وكذا قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] ( )، لبيان قانون كلي وهو أن كل ما كتب الله على المسلمين هو سبيل وطريق إلى التقوى.
الثانية : يفيد الجمع بين هذه الآيات زيادة متوسط أعمار المسلمين، لأن في القصاص حياة لهم ، وهم لايخشون القتل غيلة فيكتبون الوصية عند أمارات الموت من مرض عضال أو هرم وتقدم في العمر، وهو من إعجاز مجيء آية الوصية بعد آية القصاص مباشرة، لتكون ثمرة من ثمار القصاص، والحياة المترشحة عن الحكم به.
الثالثة : لما أختتمت آية القصاص بقوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) جاء الأمر بالوصية لتكون كتابة الوصية من مصاديق التقوى والخشية من الله عز وجل ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان فضل الله عز وجل على الإنسان بامهاله في ساعة الموت بمقدمات وأمارات واحتضار .
الثانية : من التقوى كتابة الوصية مطلقاً سواء عند حضور الموت أو حال الصحة والعافية .
الثالثة : من التقوى بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، وجوه :
الأول : قانون الوصية بالتنزه عن الإرهاب ، سواء تتوجه هذه الوصية للأبناء أو الإخوان أو الأصدقاء أو مطلقاً .
الثاني : قانون وجوب الإمتناع عن الوصية بالإرهاب أو مقدماته .
الثالث : الوصية بتقوى الله والخوف منه بما يؤكد قانون التضاد بين التقوى والإرهاب.
الرابع : من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الوصية بما يصلح النفوس والأفعال بعيداً عن الإرهاب .
الخامس : الوصية بالتراحم .
قانون الحكمة زاجرة عن الإرهاب
بحث كلامي استدلالي
تتعدد مصاديق الحكمة ومضامينها اللغوية والاصطلاحية تصل إلى خمسة وعشرين تعريفاً وأذكر بعضها في هذا الجزء بما يبعث النفرة من الإرهاب ، وستأتي في أجزاء لاحقة تعاريف أخرى للحكمة بذات الموضوع في الزجر عن الإرهاب إن شاء الله :
الأولى : الحكمة هي اجتماع العلم والعمل , ومجئ الافعال بما يطابق العلم النظري ، وفي المرسل (عن مكحول قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : آتاني الله القرآن ومن الحكمة مِثْلَيْه)( ).
وكما أن القرآن يدعو إلى السلام وإشاعة الأمن ، وينهى عن الإرهاب والظلم ، فان الحكمة التي تركها النبي محمد للمسلمين ميراثاً في سنته القولية والفعلية تدعوهم رجالاً ونساءً للتعاون من أجل استئصال الإرهاب بالحكمة والموعظة والإعلام الهادف.
قد تقدم أنه ورد لفظ [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ثلاث مرات في القرآن وذكر هذه الآيات ، كلها بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعليمه أمته( ).
وكل فرد من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية دعوة للسلم والتسامح ، ونبذ للإرهاب.
الثانية : وضع الشئ بموضعه الصحيح سواء كان أمراً أو قولاً او فعلاَ ، والإرهاب إختيار للموضع الخطأ للذات والفعل ، ومن الحكمة إجتناب الأقوال التي تكون مقدمة للإرهاب والظلم والتعدي .
الثالثة : إصابة الحقيقة عند الاختيار، واجتناب الزلل والخطأ وما فيه الضرر والاذى ، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
ويتجلى قانون الإرهاب إبتعاد عن الحقيقة ، وهو زلل وخطأ ويتنافى مع الحكمة ، فليس فيه إلا الأذى والضرر .
وهل ذكر الله لفضله على لقمان باتيانه الحكمة وتأديبه لابنه كما في قوله تعالى [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ) دعوة للآباء والأمهات بحسن تأديب الأبناء , الجواب نعم .
وسيأتي أن ذكر القرآن لحرص لقمان الحكيم على تعليم ابنه دعوة للمسلمين لتعليم ابنائهم سنن التقوى ، والإمتناع عن الإرهاب.
ومن الشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان العصمة من سفك الدماء وإخافة الآمنين.
الرابعة : ملائمة الاختيار لحكم العقل, وامتناع الانسان عن اتباع الهوى ، من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، وقوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، أن رزق الله عز وجل الإنسان العقل .
وهناك فرد نادر من الناس فاقد لعقله فالقلم مرفوع عنه ، ليدل في مفهومه على أن صاحب العقل عليه التقيد بضوابط الحكمة وهو من الشكر لله عز وجل على نعمة العقل ، وإدراك قانون الوقوف بين يدي الله في الآخرة للحساب ، وقد جاء القرآن بمخاطبة الناس بقوله تعالى [يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، لبعثهم على تسخير العقل في طاعة الله ، وإجتناب السيئات ، ومنها الإرهاب والظلم والتعدي ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
الخامسة : العلم بما يترتب على الفعل من النتائج, والإحاطة بلطائف الأمور.
ترى ما هي النسبة بين العلم والحكمة , المختار هو العموم والخصوص المطلق ، فالحكمة فرع نظري وعملي للعلم ولابد للإنسان من التدبر بنتيجة قوله وفعله ، ولا يعلم سبل نجاة الناس من الأذى والضرر بسبب هذا التدبر إلا الله عز وجل .
ونزل القرآن بالوعد والوعيد فيقبل المسلم على فعل الصالحات ، ويمتنع عن المعاصي والسيئات.
ولا ينتج عن الإرهاب إلا الأذى ، وما يلحق الناس من الضرر الذي يأتيهم بغتة بما يبعث النفرة العامة من الإرهاب ، وما يستند إليه.
السادسة : قانون إحكام القول والفعل, وقانون اجتناب الزيغ والهوى.
فمن الحكمة النظر إلى العواقب القريبة والبعيدة للفعل قبل الإقدام عليه ، أو الإشارة والأمر به لذا جعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً ليكون عوناً ومدداً للمسلم وغيره بالإمتناع عن الإرهاب ومفاهيمه .
ومن الحكمة عدم خضوع الجوارح للنفس الغضبية .
وسيأتي في الأجزاء اللاحقة تعاريف أخرى للحكمة ، وبيان منافاة العمل الإرهابي ومفاهيمه لها في قانون (المنافاة بين الحكمة والإرهاب).
أقسام الحكمة
تقسم الحكمة الى:
الأولى : الحكمة النظرية.
الثانية : الحكمة العملية.
والأولى تعني معرفة الاشياء كما هي، وادراك الحق وتكميل قوى النفس في سلم الكمالات الانسانية.
أما الثانية فهي العلم بمستلزمات الفعل والقدرة البشرية، وتوظيفها في العمل وتحصيل الخير.
والحكمة إحدى الصفات الفعلية الإلهية، والله سبحانه محب للخير والكمال وعالم بماهيتهما وجهاتهما، وهو المانح للحكمة، فهي صفة لله تعالى بالذات والأصالة ، وصفة لمن يشاء من مخلوقاته بالتبعية وبقيد الامكان والمحدود وما يستلزم من المخلوقية والنقص , قال تعالى [عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ).
ووجود الحكمة عند أشرف الخلائق محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحكمة الإلهية لايجاد الموجودات الاكمل التي تحافظ على دوام عبادة الناس لله عز وجل والاقرار بربويته، وتساهم في نشر المحبة وقيم الخير والصلاح واستدامة النظام الاجتماعي.
وقد رزق الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تعليم المسلمين الحكمة مما يدل على حيازته لها على الوجه الأمثل ، قال تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ] ( ).
ومن فضل الله تعالى انه لم يكتف بخلق العقل عند الانسان بل رزقه الحكمة والعلم والمعرفة لتكون عوناَ للعقل على بلوغ الغايات والمقاصد السامية وتحقيق السعادة الأخروية.
وإذ أتى الله الانسان العقل وجعله جزء ثابتاَ من خلقه ومقوماَ لوجوده فان الحكمة لم تأت الا لشطر من الناس ووفق المشيئة الالهية .
والله سبحانه منزه عن طرو الأعراض والكيفيات النفسانية او الامر الحادث وما يكون مسبوقاَ بالتصور والتصديق لبساطة واجب الوجود ، ولأن الله لا يوصف إلا بصفات الكمال ، وفي التنزيل [وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ]( ) [لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ]( )[ فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى] ( ) [لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ]( ).
والنسبة بين الحكمة والإرهاب هي التباين والتضاد ، لذا فهو مما ينهى عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون ومما لا يرضاه الله ورسوله لهم .
قانون ثبوت النبوة سلامة ورحمة
ليس من حصر لثبوت صدق النبوة لأنها هبة ومنصب من عند الله عز وجل ، وهو الذي ينزل الآيات والبراهين التي تدل على صدقها ، وتثبيتها في الوجود الذهني والمجتمعات ، ومنها :
الأولى : قانون الإتيان بالمعجزات التي تعضد دعوة النبوة .
الثانية : القرائن الحالية والمقالية التي تدل على صدق النبي .
الثالثة : الوحي من عند الله لقانون الملازمة بين النبوة والوحي ، وفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
الرابعة : علوم الغيب التي يأتي بها النبي مما أذن الله له بها ، قال تعالى [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا] ( ).
الخامسة : بشارة النبي السابق به ، وذكر علاماته وصفاته ، وقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بذكر الأنبياء ومن أبينا آدم لنبوته وبعض خصاله الحميدة .
ومع وجود فترة ستمائة سنة تقريباً بين بعثة عيسى عليه وبعثة النبي فان عيسى عليه السلام لم يرفع من الأرض إلا بعد أن ترك عهداً للمؤمنين خاصة والناس عامة بالبشارة بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد في قوله تعالى [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]( )، ويأتي الله بما يشاء من البراهين الدالة على صدق النبي من جهات :
الأولى : قبل بعثة النبي .
الثانية : أثناء بعثة وأيام النبي .
الثالثة : بعد بعثة النبي .
وقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات والبراهين التي تدل على صدق نبوته من الجهات الثلاثة أعلاه ، وكل فرد منها يدعو المسلمين إلى السلم ونشر ألوية الأمن في المجتمعات ، وتحرم الإرهاب والتطرف والكراهية المذهبية .
ومن الآيات في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن معجزاته بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى متصلة ومتجددة ولا يحصيها إلا الله عز وجل.
قانون حب الله مانع من الإرهاب
لم يرد لفظ (حب الله ) في القرآن إلا مرة واحدة في معرض ذم الذين كفروا ، والتضاد بين حبهم للأوثان والطواغيت ، وبين شدة حب الذين آمنوا لله عز وجل ، إذ قال تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه عدم وقوفها عند موضوع الحب مع أهميته ، وعلم الله عز وجل به إذ أن الله سبحانه [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
فقد أخبرت الآية عن شدة عذاب الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد والشركاء لله عز وجل ، وحبهم وولائهم لهم ، فلا يختص العذاب بالحب إنما بالفعل والمبرز الخارجي ,
وهل تنهى الآية في مفهومها عن حب الفعل الإرهابي والذين يقومون به ، ويدعون إليه ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : قانون الإرهاب خلاف العقيدة السمحاء وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قوانين السلم والوفاق والوئام .
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي) ( ).
ومن معاني (بَيْضَاءَ نَقِيَّةً) أي أن شريعة الإسلام سلام دائم ، وأمن ، وعصمة من الدماء والإرهاب والبطش والتفجيرات العشوائية ، إنما هي الحجة والبرهان والدليل القاطع من القرآن الذي يجذب الناس إلى الهدى والإيمان.
الثانية : الحب كيفية نفسانية يترشح عنها الفعل بذات الإتجاه ، فاراد الله عز وجل للإنسان الحصانة النفسية والعصمة من الشك والريب والبطش والغواية .
الثالثة :لقد جاء القرآن بالبشارة بقانون ذكر الله أمن للذات والغير ، قال تعالى [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ) .
الرابعة : قانون النهي عن إتباع أتباع الهوى والغضب والسخط بغيرحق ، قال تعالى [وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا]( ).
ولا يختص النهي عن الإرهاب بمفهوم الآية أعلاه من سورة البقرة بل أن آيات القرآن تنهى عنه لما فيها من الحضّ على العبادة والتقوى والصلاح والبشارة عليه بالجنة والنعيم الدائم ، وإجتناب الظلم وبيان قبحه وسوء عاقبته .
قانون إقامة ملايين المنابر
أمس واليوم وغداً في مشارق الأرض ومغاربها ، وكل واحد منها فرع المنبر النبوي ، لتكون هذه المنابر اسماً ومسمى فروعاً لمنبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة أيام البعثة ومن مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وكل فرد من السنة النبوية مدرسة وإعجاز ، ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة المنبر النبوي.
لقد كانت قريش تؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وأرادوا قتله ، وكانوا يؤذون أهل البيت , منه الحصار لثلاث سنين وآذوا الصحابة واستشهدت سمية بنت خياط أم عمار ، وزوجها ياسر بن عامر بن مالك من كنانة تحت التعذيب .
وكان الصحابة يخرجون إلى بطائح مكة للصلاة لتلاوة القرآن والتدبر في آياته.
وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً خائفاً [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
ومن معاني (ثاني اثنين) الثناء بأن احتمال الضرر والقتل يقع عليه وعلى صاحبه ، وليس عليه وحده.
وعن الإمام الحسين بن علي عليه السلام (قال صعدت إلى عمر وهو على المنبر فقلت انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك فقال من علمك هذا قلت ما علمنيه أحد قال منبر أبيك والله منبر أبيك والله وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا أنتم لو جعلت تأتينا وجعلت تغشانا .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي أنا أبو محمد الحسن بن علي أنا محمد بن العباس أنا أحمد بن معروف أنا الحسين بن الفهم أنا محمد بن سعد أنا سليمان بن حرب أنا حماد بن زيد نا يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبيد بن حنين عن حسين بن علي.
قال صعدت إلى عمر بن الخطاب فقلت له انزل عن منبر أبي واصعد منبر أبيك قال .
فقال إن أبي لم يكن له منبر قال فاقعدني معه فلما نزل ذهب بي إلى منزله فقال أي بني من علمك هذا قال قلت ما علمنيه أحد .
قال أي بني لو جعلت تأتينا وتغشانا قال فجئت يوما وهو خال بمعاوية وابن عمر بالباب ولم يؤذن له فرجعت فلقيني بعد فقال لي يا بني لم أرك تأتينا فقال قد جئت وأنت خال بمعاوية ورأيت ابن عمر رجع فرجعت .
فقال أنت أحق بالإذن من عبد الله بن عمر إنما أنبت في رؤوسنا ما ترى الله ثم أنتم قال ووضع يده على رأسه)( ).
قانون طلب العلم سلاح ضد الإرهاب
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار العلم وكسب المعارف ، فيتعلم الإنسان المسائل في يومه وليلته ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، الآية الأولى التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
إذ تدل هذه الآية على أن الدنيا دار القراءة والتعلم ، فذات القراءة علم ، ويترشح عنها العلم ، وهي مناسبة لتعليم الغير ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وتقييد القراءة في الآية أعلاه بأنها باسم الله واقية من تعلم الإرهاب ، وفنونه خاصة مع قرب وسائل التعليم النافع والضار بوسائل الإتصال الإجتماعي في هذا الزمان ، والإرتقاء الصناعي بالأسلحة وسهولة استعمالها ، مما يستلزم التعاون الجاد لحصانة الشباب من الإرهاب ، ومن وتعلم ما يضر الناس .
ومنه الإرهاب وأسباب بعث الخوف والرعب في قلوب الناس ، فهذا البعث قبيح ومنكر ، وفيه الإثم وسوء العاقبة.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا نضرة ، ملأها بأسباب الزينة والسعادة ، وتساهم السماء بحلاوة الحياة الدنيا بضياء الشمس ونور القمر ، وفرائد النجوم والكواكب ونزول المطر ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ]( ).
وهل التدبر في عالم السماء حرب على الإرهاب ، الجواب نعم، وهو مناسبة لكل من :
الأول : الإقرار بعظيم خلق الله.
الثاني : قانون مقاليد الأمور كلها بيد الله تعالى.
الثالث : قانون أن الإرهاب لا يغير شيئاً من أنظمة الكون , وفي الثناء على الله وقدرته المطلقه ورد في التنزيل [لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
فلابد من التسليم بقانون سير الوقائع والأحداث بحكمة من الله عز وجل.
وأن الإرهاب لا يفيد التغيير نحو الأحسن والأصلح إنما هو طريق شائك ، تسفك فيه الدماء ، ويجلب الضرر لأهله وعامة الناس والدول وفيه إنفاق زائد من الأموال العامة والخاصة.
قانون الإرهاب صدّ عن ذكر الله
الدنيا دار طلب العلم طوعاً وقهراً على الإنسان ، فلابد أن يتعلم ، وهذا التعلم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وهل يسمى تعلم الإرهاب وضروب الضرر من العلم ، الجواب لا.
فمن خصائص العلم أنه نافع للذات والغير ، وأبهى العلوم في المقام علوم الشريعة التي تدعو إلى ضبط الجوارح بما فيه رضا وطاعة الله ، والإمتناع عن التعدي ، قال تعالى [وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
ومن مباهج الحياة الدنيا أن العلم واكتسابه برزخ دون التعدي ، ويمكن استقراء عدة قوانين ومسائل في المقام منها :
الأول : قانون طلب العلم عصمة من الإرهاب .
الثاني : قانون إتخاذ العلم واقية من الإرهاب .
الثالث : يملي عليك العلم الإبتعاد عن الدعاة إلى الإرهاب.
فهذه الدعوة من إغواء الشيطان وإرادة الفتنة العامة ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ]( ).
ولا يختص موضوع إغواء الشيطان في الآية أعلاه بالخمر والقمار إنما يشمل سعي الشيطان للصد والمنع عن ذكر الله ، والإنشغال عن الصلاة وإرجائها عن وقتها ، فقال تعالى [فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ]( ).
وهل الإرهاب صدّ عن ذكر الله ، الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : إنشغال الذي يقوم بالفعل الإرهابي عن الذكر ، واتخاذه طريق ضلالة بأن الإرهاب من الذكر أو الإيمان ، فيكون الجهل مركباً ، لذا جعل الله عز وجل آيات القرآن مدرسة الأجيال للوقاية من الضلالة والغواية.
الثاني : قصر عمر الذي يقتل في الإرهاب سواء ذات الفاعل أو غيره ، وفيه قطع للذكر وأيام العبادة وإنخرام لأيام يزينها العبد بالصلاة والذكر ويتخذها وعاء للتوبة والإنابة وتتضاعف فيها حسناته .
لذا فإن قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ) زاجر عن الإرهاب لأنه يقطع حياة الإنسان وذكره لله عز وجل , وفوات مناسبات التوبة .
الثالث : كل عمل إرهابي يشغل الناس ويجعل الخوف ينفذ إلى القلوب ، ويدخل البيوت ، وهل يختص ببيوت أصحاب الواقعة ، والقريبة منها ، الجواب لا ، وهو من رشحات زمان العولمة والفضائيات ووسائل الإعلام.
قانون العداوة بين الإسلام والإرهاب
لقد هبط آدم عليه السلام إلى الأرض بالإسلام والسلم والسلام، وصاحبته النبوة التي تتعاهد أحكام الإسلام ، وتمنع من الإفراط والتفريط فيها ، لذا يمكن القول أن الإرهاب محرم من أيام أبينا آدم.
ولم يأت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يخالف ما تعلمه آدم في السماء ، وما هبط به إلى الأرض ، وهو من الشواهد على وحدة سنخية النبوة ، لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (نحن مَعْشَرَ الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد)( ).
وتقدير الحديث : نحن معشر الأنبياء المائة والأربعة والعشرين ألفاً ، ابتداءً من الرسول آدم ديننا واحد ، وهو الإسلام وإقامة الصلاة وايتاء الزكاة والإيمان بالملائكة واليوم الآخر ، وإجتناب ما حرم الله ومنها الإرهاب ، فليس من نبي يرضى بالإرهاب بمفهومه المعاصر.
لقانون العداوة بين الإسلام والإرهاب من أيام آدم عليه السلام ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ]( ).
قانون الإنذار اللطيف
(اللطيف) (صفة من صفات اللّه واسم من أَسمائه)( ).
وهذا الاسم بذاته لطف ، ودعوة للناس للرفق والتراحم بينهم .
ويقال (لَطُفَ بهِ ولَه كنَصَرَ يَلْطُفُ لُطْفاً بالضمِّ : إِذا رَفَقَ به وأَنا أَلْطُفُ بهِ : إِذا أَرَيْتَهُ مَوَدَّةً ورِفْقاً في مُعامَلةٍ وهو لَطِيفٌ بهذا الأمْرِ رَفيقٌ بمُداراتِه)( )، وفي التنزيل [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ]( ).
وموضوعه ومنافعه نعمة عظمى على الناس والملائكة والخلائق كلها ، ولطف الله عز وجل حاجة لكل إنسان في أي ساعة من ساعات حياته .
ومن معاني اللطف في المقام وجوه :
الأول : الرفق .
الثاني : الرحمة .
الثالث : قانون الهداية إلى الرشاد والفلاح ، ويتنجز مصداق جلي منه بقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الرابع : قانون الجذب والتقريب إلى الحسنة ، والصرف والدفع عن المعصية ، والنسبة بينه وبين قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، العموم والخصوص المطلق ، فكل من الجذب والصرف من لطف الله وعمومات فضل الله عز وجل في كل من :
الأول : محو السيئة والفعل القبيح .
الثاني : قانون إزاحة العوائق عن العمل الصالح .
الثالث : محو أفعال عديدة من الإرهاب والمعاملات الباطلة ، وفي التنزيل [قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )، لتؤكد آيات الربا أن البيع غير الربا ، من جهات :
الأولى : مقدمات المعاملة .
الثانية : ذات المعاملة .
الثالثة : الحكم الشرعي بحلية البيع ، وحرمة الربا .
الرابعة : الأثر المترتب على كل من البيع والربا وهو من وجوه :
الأول : قانون ضرر الربا ، ونفع البيع .
الثاني : قانون المؤاخذة في الآخرة على الربا دون البيع .
الثالث : قانون ترشح البغضاء والفتن عن الربا وشيوعه وسيادته في المعاملات.
ومن لطف الله عز وجل بالناس أنه لا يرضى بالإعتداء عليهم ، ولا مزاولة الإرهاب ضدهم ، فهم عباده ، وفي ملكه ، ومن ملكه ، وهو الذي يبعثهم يوم القيامة للحساب .
قانون اللطف الإلهي زاجر عن الإرهاب
من أسماء الله (اللطيف) ولا يحصي لطف الله عز وجل في كل ثانية ودقيقة من أفراد الزمان الطولية إلا الله سبحانه ، ولا يقدر على ذرة من هذا اللطف غيره تعالى.
(واللَّطَفُ: البِرًّ والتَّكْرِمَةُ. وما ألْطَفْتَ به أخَاكَ من تُحْفَةٍ. واللَطِيْفُ: الرَّفِيْقُ المُدَاري، لَطُفَ يَلْطُفُ لَطَافَةً. ولَطَفَ يَلْطُفُ: أي دَنَا يَدْنُو. واللَّطْفَانُ: المُلاطِفُ. واللطَفُ: اللَّطِيْفُ. والشيْءُ اليَسِيْرُ)( ).
ولا تستديم الحياة الدنيا إلا بلطف من الله عز وجل ، ويتجدد الشهيق والزفير عند الإنسان بلطف وإذن من عند الله عز وجل .
وقد ورد اسم (اللطيف) سبع مرات في القرآن كلها اسم وصفة لله عز وجل :
الأولى : قوله تعالى [لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا]( ).
السادسة : قوله تعالى [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ]( ).
السابعة : قوله تعالى [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( )
أن كل آية من آيات القرآن لطف ورحمة من عند الله عز وجل للمسلمين والناس جميعاً ، فيجب على المسلم العمل بمضامين آيات القرآن باللطف والرأفة بالناس ، ويتنافى الإرهاب مع آيات اللطف وأحكامه .
قانون منافاة الإرهاب لقوانين الوصية
تتجلى موضوعية الوصية في العبادات والمعاملات من وجوه :
الأول : قانون الوصية أخذ للحائطة في الدين والدنيا .
الثاني : قانون في الوصية منع للغبن , وحجب للضرر المتصل قبل الوفاة , والذي يطرأ بعدها .
الثالث : قانون الوصية واقية من الخصومة والفتنة , خاصة بين الورثة وعموم الأهل , قال تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ) .
ولم يرد لفظ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) في القرآن إلا في الآية أعلاه , وأيهما أشد فتنة , الإرهاب أم التخلف عن كتاب الوصية , الجواب هو الأول , وسيأتي قانون الإرهاب فتنة .
الرابع : قانون الوصية إقرار وتسليم بالموت .
الخامس : قانون الوصية تذكير للناس بعالم ما بعد الموت ، وفيه زجر عن الإرهاب خشية العقاب الأليم في الآخرة .
السادس : قانون الوصية استعداد لعالم البرزخ واليوم الآخر , قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ] ( ) .
السابع : قانون الوصية مقدمة لملاقاة العبد الله عز وجل بما يحب ويرضى , قال تعالى أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .
والتنزه عن الإرهاب مما يحبه الله عز وجل ويرضاه للعباد والمؤمنين خاصة .
قانون القرآن وصية وعهد سماوي
لقد وردت آيات الوصية في سورة البقرة لتدعو المسلم والمسلمة لكتابة وصيته عند حضور أمارات الموت أو عند التقدم في العمر , وقرب الأجل أو مطلقاَ على كل حال .
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بنزول القرآن وفيه وجوه :
الأول : قانون القرآن جامع للأحكام الشرعية , قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) .
الثاني : قانون القرآن صراط الهداية والرشاد في أمور الدين والدنيا , ومن خصائصه نهي آياته عن الإرهاب.
الثالث : قانون آيات القرآن برزخ دون الغواية والخسارة، قال تعالى في فاتحة سورة البقرة[الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابع : قانون نزول القرآن من حب الله عز وجل للناس .
الخامس : قانون القرآن زاجر عن الإرهاب .
وتتجلى كل يوم شواهد ودلالات على قانون القرآن وصية وعهد سماوي نازل من عند الله عز وجل ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، الجواب نعم.
وتتجلى أحكام هذه الخلافة المباركة في القرآن لقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
التضاد بين وصايا النبي “ص” والإرهاب
ليس من حصر لوصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي على وجوه :
الأول : وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل البيت .
الثاني : وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة منها (عن معاذ بن جبل قال : أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعشر كلمات .
قال : لا تشرك بالله شيئاً وإن قتلت وحرقت ، ولا تعقن والديك وان أمراك أن تخرج من أهلك ومالك .
ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً فإنه من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله .
ولا تشربن الخمر فإن رأس كل فاحشة ، وإياك والمعصية فإن بالمعصية جل سخط الله ، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس وان أصاب الناس موت فاثبت ، وانفق على أهلك من طولك ، ولا ترفع عنهم عصاك أدباً وأخفهم في الله( ).
و(من حديث عبادة وأبي الدرداء : لا تشركوا بالله شيئًا، وإن قُطِّعتم أو صُلِّبتم أو حُرِّقتم)( ).
وأخرج الطبراني عن أميمة مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت : كنت أصب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضوءه ، فدخل رجل فقال : أوصني .
فقال : لا تشرك بالله شيئاً وان قطعت أو حرقت ، ولا تعص والديك وان أمراك أن تخلي من أهلك ودنياك فتخله ، ولا تشربن خمراً فانها مفتاح كل شر ، ولا تتركن صلاة متعمداً فمن فعل ذلك فقد برئت منه ذمة الله ورسوله( ) ورواه ابن كثير في السيرة النبوية بتغير قليل ، وتقديم وتأخير.
وأخرج ابن سعد عن سماك : أن ابن عباس في عينيه الماء فذهب بصره ، فأتاه هؤلاء الذين يثقبون العيون ويسيلون الماء فقالوا : خل بيننا وبين عينيك نسيل ماءهما ولكنك تمسك خمسة أيام لا تصلي الا على عود)( ).
وأخرج ابن سعد عن سماك : أن ابن عباس في عينيه الماء فذهب بصره ، فأتاه هؤلاء الذين يثقبون العيون ويسيلون الماء فقالوا: خل بيننا وبين عينيك نسيل ماءهما ولكنك تمسك خمسة أيام لا تصلي الا على عود.
قال : لا والله ولا ركعة واحدة ، إني حدثت أن من ترك صلاة واحدة متعمداً لقي الله وهو عليه غضبان) ( ).
وسماك بن حرب الكوفي تابعي وروايته هذه مرسلة , وروايته عن عكرمة ضعيفة , وإن أدرك عدداَ من الصحابة .
وذكر أن سماك بن حرب , ضعيف .
وابن عباس فقيه ويعلم موارد الرخصة وليس من ترك للصلاة في علاجه هذا .
والظاهر من الخبر أن عملية سحب الماء الأبيض والأسود من العين قديمة , وكانت موجودة في أيام النبوة , وهل هناك تخدير , الجواب نعم على نحو الموجبة الجزئية .
وعن (البزار والطبراني عن ابن عباس : أنه لما اشتكى بصره قيل له نداويك وتدع الصلاة أياماً.
قال : لا ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال : من ترك الصلاة لقي الله وهو عليه غضبان) ( ).
وبالإمكان الجمع بين الصحة والصلاة بالتيمم , والإيماء للركوع والسجود , وقد صلى الإمام علي عليه السلام وأصحابه يوم الهرير في صفين الظهر والعصر , صلاة المطاردة , وهي صلاة شدة الخوف لإنتهاء الحال إلى المسايفة والمعانفة , بالصلاة عن وقوف ومشي وركوب بالتكبير والتهليل من غير إيماء , مع أدنى إحتمال أن يؤدي الإيماء إلى الغدر من قبل العدو .
وبعد أن رجعوا إلى المعسكر قالوا للإمام علي عليه السلام أفعيد الصلاة قال : لا .
وإجتناب الإرهاب رحمة وسلامة للمسلمين فلا يضطرون لصلاة الخوف أو صلاة شدة الخوف , أو تأخير الصلاة عن وقتها .
وعن عبد الله (ابن مسعود قال : حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً)( ).
قانون تنزيه الأسواق عن الإرهاب
من رحمة الله عز وجل بالناس البيع والشراء ، وصيرورة كل واحد منهما وسيلة لكسب العيش والتنعم بالمال وتسخيره للحاجات ، وهو من ضروب الإمتحان والإبتداء في الدنيا ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( )وقال تعالى [وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا]( ) .
وقد يلجأ الإنسان إلى المعاملات الباطلة وأكل المال الحرام من أجل الأولاد لبيان ان قوله تعالى [فِتْنَةٌ] يفيد أن كلاً من الأموال والأولاد فتنة مستقلة ، كما أنهما مجتمعين فتنة أخرى ، والله عز وجل هو الرزاق الذي كتب لكل إنسان ، وأهل ملة رزقهم ، فيجب ألا يلجأ الإنسان للإرهاب لأنه لا يغير ما كتب الله عز وجل كما أن الإرهاب محرم بالذات , وحاجب للرزق وموارد الكسب.
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول آيات متعددة من القرآن بحرمة الربا منها قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) .
وجاءت السنة النبوية بالزجر عن الربا بأشد ضروب الإنذار ، ووصفه بالقبح الذاتي ، وسوء العاقبة ، لينتظم سوق المسلمين ، ويبقى على قواعد الشريعة السمحاء ، ولينزع عن المسلمين حال الجشع والطمع والإحتيال في جمع المال.
ولتكون الإستقامة ملكة وسجية ثابتة عند المسلم في السوق والشارع وميدان العمل فلا يلجأ إلى ظلم غيره أو يتعدى عليه .
والنسبة بين الإستقامة والإرهاب هو التضاد .
و(عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله أي البلاد شر ؟
فقال : لا أدري فلما أتاه جبرئيل قال : يا جبرئيل أي البلدان شر.
قال : لا أدري حتى أسأل ربي فانطلق جبرئيل فمكث ما شاء الله أن يمكث ثم جاء فقال : يا محمد إنك سألتني أي البلاد شر وإني قلت لا أدري و إني سألت ربي فقلت : أي البلاد شر.
فقال أسواقها) ( ).
ولا يعني الحديث أن الأسواق شر على نحو السالبة الكلية إذ أن منافع عظيمة من الكسب والتجارة والأجر والثواب , وهو مناسبة لتوفير العيش الكريم فهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وهو باب لإخراج الزكاة بزيادة الأرباح , ولكن الأسواق محل للغش واليمين الكاذبة والربا , وقد ينسى العبد فيها ذكر الله عز وجل .
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)( ).
إذ تقام الصلاة في المساجد ويكون المسجد جامعاَ للمؤمنين والذين دخلوه للعبادة والهدى والصلاح وطلب مرضاة الله عز وجل , أما السوق فهو جامع لاختلاط الناس للكسب والتجارة ، ويجب أن تكون تجارة المؤمن فيه مع الله عز وجل بنشر الأمن ومفاهيم الرفق والرأفة والسماحة فيه .
ويلتقي المسجد والسوق بلزوم الحصانة والأمن من الإرهاب.
وأسواق جمع سوق مؤنث وهو الموضع الذي يعرض فيه الباعة البضائع للبيع ، ويقصده الناس للشراء والمقايضة ونحوها ، وتكون حوانيت ،ودكاكين ، أو موائد مطروحة على الأرض .
ومن المعجزات المصاحبة للبيت الحرام عمارة أسواق مكة وما حولها لمناسبة موسم الحج ، مع أنها في [بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ] ( ) وتتخلها وتحيط بها الجبال فلا زرع ولا ماء ، والذي يتوجه إلى مكة بالراحلة أو السيارة يرى آلاف الكيلو مترات صحراء قاحلة أعرض الناس عن الإقامة فيها ، وغالباً ما يقصد الناس ضفاف الأنهار ، وهجرة أهل اليمن إلى العراق والشام منها , مع مرورهم على مكة وما حولها .
لبيان أن عمارة مكة وأسواقها معجزة من حين فداء إبراهيم للناس بالحج ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السابقة لبعثته عمارة أسواق مكة لأمور :
الأول : تناقل الناس في الأسواق البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإستعداد للتصديق برسالته .
الثاني : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الناس برسالته في أسواق مكة ، وقد تقدمت بعض أخبار هذا التبليغ في الأجزاء السابقة , وهو التبليغ [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ) مما يلزم الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم , وعدم اللجوء إلى الإرهاب والعنف الذي لا يجلب إلا الكراهية والنفرة والعداوة والضرر.
الثالث : تلاوة الناس بعد البعثة لآيات القرآن في الأسواق ، وحملها تحفة إلى أهليهم .
الرابع : الإستياء العام في الأسواق من إيذاء قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الخامس : كثرة الذين يحضرون أسواق مكة ، وتعدد قبائلهم خاصة وأنها تقام في الأشهر الحرم ، ليتدبر الناس في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويأتي التصديق بها إلى مكة من خارجها .
السادس : تهيئة مقدمات هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، فصحيح أن بيعة الأنصار الأولى والثانية جرت في العقبة في مِنى إلا أن لأسواق مكة ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وصيرورة آيات القرآن بديلاً عن الشعر موضوعية في هاتين البيعتين .
ويجب أن تكون الأسواق العامة والمجمعات التجارية موضعاً آمناً يشعر الناس فيه بالأمن ، ويدخلونه بسلام للتنعم بالطيبات ، والشكر لله عز وجل على نعمة التسوق والشراء ، ويحرم الإرهاب في الإسواق ومطلقاً .
قانون الحكمة رزق كريم
قد يظن بعضهم أن القدر المتيقن من الرزق هو المال والأبناء ورغد العيش ، فنزلت آيات القرآن لتؤكد أن الحكمة رزق عظيم ، ومفتاح للرزق والكسب والأمن ، قال تعالى [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا] ( ).
ترى ما هي النسبة بين الحكمة والإرهاب ، الجواب إنه التضاد والتباين( ).
وقد تقدم البيان في الجزء السادس والأربعين من هذا السِفر ففي تفسير قوله تعالى [يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
وفي الآية أمور :
الأول : قانون الترغيب بالحكمة .
الثاني : إكرام الأنبياء والذين آتاهم الله الحكمة .
الثالث : قانون إتخاذ الحكمة وسيلة ومادة في الدعوة إلى الله ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) .
الرابع : من معاني الحكمة الوحي والتنزيل ، قال تعالى[ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ] ( ).
الخامس: قانون الدعاء وسؤال الحكمة من عند الله وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة المضارع ، فلم تقل الآية (آتى الملك ) بصيغة الماضي ، وإرادة الأنبياء والأئمة والصالحين .
كما في لقمان وذكر مجئ الحكمة له بصيغة الماضي بقوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] ( ) .
لبيان قانون الحكمة رزق كريم يتدلى للناس في كل زمان .
ومن الحكمة التنزه عن الإرهاب ، وإدراك أنه قبيح وحرام ، ولا يجلب إلا الضرر للناس .
والحكمة أصل ومن أمهات العلوم ، ومنهاج للصلاح ، فمن التوفيق سؤالها من عند الله عز وجل ، وهي من أفراد ومصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
ومن مصاديق الحكمة آيات القرآن ، فكل آية منه حكمة مستقلة ، وتكون حكمة ثابتة بالجمع بينها وبين آية أخرى ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية وعلى نحو الوجوب العيني ، وفيه أجر وثواب عظيم ، لبيان قانون ترشح الثواب عن الحكمة في القول والعمل .
الصلة بين الوصية والبٍر
الأول : الوصية فرع وشعبة من مصاديق البر والإحسان للذات والغير ، قال تعالى [لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] ( ) وجاء القرآن بالإيمان بلزوم الإيمان بآياته، والتصديق بما فيه من المضامين القدسية.
الثاني : كون الوصية من البر والخير المحض أمر ظاهر للعيان، وتدركه العقول.
وموضوع الوصية أعم من المال والتركة ، وقد تكون الوصية بالخلق الحميد والسماحة ومصدراً لجلب المال ، ومنه الوصية بالرحمة والرأفة والتنزه عن ظلم الناس والتعدي على حقوقهم ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ]( ).
لبيان قانون الملازمة بين الإيمان والمناجاة والتواصي بما يبعد الناس عن الإرهاب إذ أن كلاً من الصبر والمرحمة ضد للإرهاب ، ودعوة للتنزه عنه .
والنسبة بين البر والوصية النافعة عموم وخصوص مطلق ، لذا جاءت الآيات بالوصية بالتقوى ، لبيان حرمة الإرهاب لأنه مناف لسنن التقوى.
الثالث : جاءت الآيات بمصاديق البر، وتدل على الوصية ونحوها من باب الدلالة التضمنية والإلتزامية.
الرابع : لآيات الوصية التوسعة والحكومة في مصاديق البر لأنها وردت بصيغة الفرض والوجوب بينما تتضمن مصاديق البر ما هو مستحب كالصدقة المستحبة وإعطاء السائل إلى جانب الواجب.
قانون مصاديق التقوى واقية من الإرهاب
يحتمل قوله تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ] الذي ورد نحو خمس وخمسين مرة في القرآن وجوهاً :
الأول : إرادة التكليف لحمل صيغة الأمر على الوجوب إلا مع القرينة الصارفة إلى الإستحباب وهي مفقودة في المقام ، ومن بديع صنع الله أن أداء التكاليف العبادية وتعاهد أوقاتها كان للفوز بصفة الإيمان، وهو طريق إلى الجنة وزاجر عن الإرهاب .
الثاني : المقصود التذكير بفضل الله، ودعوة المسلمين لإستحضار نعمة الهداية والتنزيل والأمن .
الثالث : قانون بعث المسلمين لتعاهد كل نعمة من نعم الله ، وحثهم على زيادة الإيمان والتقوى من الشكر العملي لله عز وجل ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من فضل الله عز وجل على المسلمين .
والأمر بالتقوى وسيلة سماوية مباركة للإرتقاء في سلم المعارف الإلهية، وبرزخ دون الجزع والقنوط والخوف من الكفار .
إن منافع (تقوى الله) اكثر من أن تحصى، وهي خير محض، وسلاح ، لأمور الدين والدنيا، وتتعدى منافعها الذات لتشمل الغير من القريب والبعيد، والموجود والمعدوم.
وأمر الله للمسلمين بالتقوى من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لأن في خشية المسلمين من الله مسائل:
الأولى: التقوى تعظيم لشعائر الله، وإظهار لمعاني حبه والإقرار بالعبودية له سبحانه.
الثانية: فيها إشاعة لمعاني الصلاح في الأرض.
الثالثة: قانون التقوى تذكير باليوم الآخر، وهي مادة ووسيلة مباركة للإستعداد له.
الرابعة : بيان إختصاص المؤمنين بنعمة الملازمة بين النصر والتقوى، ليكون من عمومات قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ) لبيان وجود صحابة وأنصار شطر من الأنبياء قاتلوا معهم .
ولم يقاتلوا إلا المشركين عبدة الأوثان ، ولم يقوموا بالغدر والإرهاب والإجهاز على الأبرياء .
الخامسة : التقوى مقدمة وجزء علة لجذب المسلمين النصر والغلبة على الكفار في معارك الإسلام ، وفيه شاهد على حاجة المسلمين للتقوى، فالله عز وجل غني غير محتاج، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
قانون الأمر بالتقوى رحمة عامة
لقد أمر الله سبحانه المسلمين بالتقوى لأنها حاجة لهم وللناس جميعاً، بمعنى أن المسلمين يتعاهدون تقوى الله، فينتفع الناس من تقواهم، وتكون مناسبة لهداية شطر من الناس، لأن التقوى في نفعها وأثرها على وجوه:
الأول: قانون التقوى دعوة إلى الله عز وجل.
الثاني: قانون التقوى حرب على الشرك والضلالة.
الثالث: قانون التقوى حجة على الكفار والمنافقين.
الرابع: قانون التقوى حث للناس لعدم إتباع الظالمين، ورؤساء الكفر لأن الإنسان يدرك بفطرته أن العاقبة وحسن الختام لأهل التقوى والصلاح، لذا جاء القرآن بالإحتجاج بسوء عاقبة الكفار والذين كذّبوا الرسل، وحاربوا أهل الإيمان , قال سبحانه[قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
الخامس : قانون التقوى طارد يومي للإرهاب .
السادس : قانون التقوى كاشف لقبح وأضرار الإرهاب.
جاء رجاء قيام المسلمين بشكر الله عز وجل بعد الأمر لهم بالتقوى في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وفيه وجوه :
الأول : عدم صحة الشكر إلا من منازل التقوى.
الثاني : إقتران الشكر بالتقوى يجعله تاماً جامعاً لشرائط الحسن، صادراً من منازل العبودية.
الثالث : في الآية بيان لعظيم النعم الإلهية على المسلمين في المقام.
الرابع : إرادة الجمع بين لزوم التقوى والشكر لله، وتقديره (فاتقوا الله واشكروه).
الخامس : بيان التقدم الرتبي للتقوى ومصاديقها، وأن الشكر يأتي متعقباً لها، فلابد أولاً من التقوى.
السادس : الشكر من منازل العارفين، ولا يرقى الفرد والجماعة إليه إلا بالتقوى.
السابع : توكيد قصد القربة كمقدمة للتقوى.
الثامن: الأمر بالتقوى بقوله تعالى[فَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ) سبب للتوجه بالشكر لله عز وجل.
متعلق الشكر في الآية على جهات :
الأولى: إختصاص موضوع الشكر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ] إذ أن ظهور الدعوة الإسلامية، وأداء المسلمين الفرائض نصر بذاته، وفيه عز وفخر لهم، الأمر الذي يستحق الشكر لله.
الثانية : إرادة المعنى الأعم لموضوع نصر المسلمين في معارك الجهاد في سبيل الله ، والمنافع الإيمانية التي ترشحت عنه , قال تعالى[أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا]( ).
الثالثة: نصر الله عز وجل المسلمين يوم بدر، ويكون الشكر لله في الآية خاصاً به وما يترشح عنه إلى يوم القيامة ، ولكن ليس على نحو الحصر والتعيين .
والصحيح الثانية أعلاه , والثالثة ، ومن الشكر لله في المقام إشاعة المسلمين الأمن في ربوع الأرض .
قانون براهين بدر تغني عن الإرهاب
في النصر يوم بدر إعجاز وآيات تدل على أمور:
الأول: قانون صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: قانون بداية زوال دولة الكفر.
الثالث: قانون نزول الملائكة وتحقيق نصر المسلمين بالأمر الخارق للعادة، والمقرون بالتحدي والسالم من المعارضة.
الرابع: توكيد نسبة النصر يوم بدر إلى الله عز وجل، وهذا التوكيد خطاب وبشارة وإنذار للكفار عامة وفي كل زمان، قال تعالى[تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ] ( ).
وللنصر يوم بدر موضوعية في بناء صرح الإسلام، وكان حاجة من وجوه:
الأول: إستدامة نزول آيات القرآن وحسب الوقائع والأحداث.
الثاني: سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل، وأصحابه من الأسر والقتل، وكانت قريش تنوي أخذ طائفة من المهاجرين وتعود بهم مقيدين إلى مكة لصد الناس عن الإسلام ، وشفاءً لصدور المشركين ، قال تعالى [وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ] ( ).
الثالث: توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة جلية في ميادين القتال ، وهو أشد موضع للإمتحان والحاجة إلى المدد من عند الله.
الرابع: قانون ثبات المسلمين في منازل الإيمان، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] ( ).
الخامس: قانون بعث الخوف والفزع في قلوب الكفار، وتذكيرهم والناس بعظيم قدرة الله، وأنه سبحانه ولي المؤمنين وناصرهم، وفيه زجر عن الكفر وعن التعدي على الإسلام والمسلمين ، ومنع من الإرهاب ، وبيان عدم الحاجة له ، وخلوه من النفع .
السادس: نصر المسلمين يوم بدر حاجة للأجيال المتعاقبة من المسلمين لما فيه من الدروس والعبر وأسباب بعث السكينة في نفوسهم، وإصلاحهم لحسن التوكل على الله.
قانون النصر مع الذل خيبة للإرهاب
لقد نصر الله سبحانه المسلمين يوم بدر وغيره مع أنهم في حال ذل وضعف، وهو من إطلاق قوله تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
فجاء الوعد بنصر المؤمنين في الآية أعلاه مطلقاً من غير تقييد بحال قوتهم أو ضعف عدوهم، أو التكافئ بين الفريقين ، ولم تخص الآية أعلاه النصر الإلهي بالأنبياء ، لبيان استدامة أحكامها حتى يوم القيامة ، لتدل في مفهومها على حرمة الإرهاب ، وخلوه من النفع والمكاسب .
وهناك موضوعية في النصر للمؤونة وكثرة العدد، والمباغتة وأثر كل منها في الحرب ونتيجة المعركة إلا أن أثرها ينعدم عند المواجهة بين المؤمنين والكفار، لأن نصر المسلمين أمر حتمي .
وهناك تضاد بين الإيمان ووسائل القتل الجماعي بالتفجيرات وغيلة واستهداف الآمنين .
وعندما كان الرجحان إلى جانب الكفار في معركة بدر من جهة الكثرة المتعددة ، أنزل الله ملائكة من السماء لنصر المسلمين , قال تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
(وَقَالَ طَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، يَمْدَحُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَبْكِي أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ :
أَلَا إنّ عَيْنِي أَنْفَدَتْ دَمْعَهَا سَكْبًا … تُبَكّي عَلَى كَعْبٍ وَمَا إنْ تَرَى كَعْبَا
أَلَا إنّ كَعْبًا فِي الْحُرُوبِ تَخَاذَلُوا … وَأَرْدَاهُمْ ذَا الدّهْرُ وَاجْتَرَحُوا ذَنْبًا
وَعَامِرٌ تَبْكِي لِلْمُلِمّاتِ غُدْوَةً … فَيَالَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرَى لَهُمَا قُرْبًا
هُمَا أَخَوَايَ لَنْ يُعَدّا لِغَيّةِ … تُعَدّ وَلَنْ يُسْتَامُ جَارُهُمَا غَصْبَا
فَيَا أَخَوَيْنَا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا … فِدًا لَكُمَا لَا تَبْعَثُوا بَيْنَنَا حَرْبًا
وَلَا تُصْبِحُوا مِنْ بَعْدِ وُدّ وَأُلْفَةٍ … أَحَادِيثَ فِيهَا كُلّكُمْ يَشْتَكِي النّكْبَا
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ..وَجَيْشِ أَبِي يَكْسُومٍ إذْ مَلَئُوا الشّعْبَا
فَلَوْلَا دِفَاعُ اللّهِ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ … لَأَصْبَحْتُمْ لَا تَمْنَعُونَ لَكُمْ سِرْبًا
فَمَا إنْ جَنَيْنَا فِي أَقُرَيْشٌ عَظِيمَةً… سِوَى أَنْ حَمَيْنَا خَيْرَ مَنْ وَطِئَ التّرْبَا
أَخَا ثِقَةٍ فِي النّائِبَاتِ مُرَزّأً … كَرِيمًا نَثَاهُ لَا بَخِيلًا وَلَا ذَرْبًا
يُطِيفُ بِهِ الْعَافُونَ يَغْشَوْنَ بَابَهُ … يَؤُمّونَ بَحْرًا لَا نَزُورًا وَلَا صَرْبًا
فَوَاَللّهِ لَا تَنْفَكّ نَفْسِي حَزِينَةً..تَمَلْمُلُ حَتّى تَصْدُقُوا الْخَزْرَجَ الضّرْبَا)( ).
وتدعو الآية أعلاه المسلمين يوم أحد لاستحضار نصرهم يوم بدر، ليكون هذا التذكير على وجوه:
الأول: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين.
الثاني : البشارة بالنصر ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة المعركة السابقة ونتائجها بشارة وحرزاً للمعركة التالية .
وفي كل معركة هو وأصحابه في حال دفاع وليس غزواً لبلدة أو قرية أو جيش .
وما يتردد في التأريخ ويتوارث في كتب التفسير والسيرة بأن عدد غزوات الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم (25) غزوة أو (27) أو (28) لا أصل له كما ذكرنا شطراً من الأدلة الواقعية في أجزاء هذا السِفر إذ صدرت ستة وعشرون جزء منه بقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) وهذه الأجزاء هي (164-165-166-168-169-170-171-172-174-176-177-178-180-181-182-183-187-193-196—204-212-216-221-229).
الثالث : بعث المسلمين لإستحضار النصر يوم بدر، وهذا الإستحضار شخصي وجمعي، أي يتذكره المؤمن بينه وبين نفسه، وتتذاكره الجماعة والأمة.
وهل يشمل هذا الإستحضار عوائل المؤمنين في المدينة والمسلمين الذين لم يخرجوا يومئذ للدفاع ، الجواب نعم، وفيه وجوه:
الأول: إنه عون ومدد ذاتي للمسلمين.
الثاني:إنه برزخ دون الضجر ودبيب الحزن.
الثالث: طرد الفزع والخوف عن قلوب المسلمين والمسلمات.
الرابع: الإحتراز والتوقي من أهل الشك والريب، قال تعالى [وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ]( ).
الخامس: إنذار الكفار من محاربة الإسلام،ومنعهم من الطمع بالغلبة والمناجاة بينهم بضعف وذلة المؤمنين، فالنصر مصاحب للمؤمنين في جميع الأحوال مما يلزم الشكر لله عز وجل بقبض اليد عن البطش والتعدي والإرهاب .
إجتماع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد
قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتعلق بمعركة أحد لبيان أنه والمسلمين لم يستعدوا للمعركة إلا عندما صارت جيوش المشركين على مشارف المدينة .
وهل الآية أعلاه من الحقيقة أم المجاز ، الجواب إنها منهما معاً للقانون الذي أسسته في هذا السِفر ، وأن الكلمة القرآنية قد تتضمن معنى الحقيقة والمجاز في آن واحد ، كما في قوله تعالى [وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ] ( )، بخصوص أولاد يعقوب ، فالآية مجاز وتقديرها : واسأل أهل القرية .
وهي حقيقة وتقديرها : وأسأل ذات القرية بابنيتها وشجرها والبهائم التي فيها لأنك نبي تجيبك هذه الحيوانات والجمادات .
وعلى علماء التفسير في مقامات المجاز النظر هل يمكن حمل الكلام على الحقيقة أيضاً ، وكذا العكس ، وفي آية البحث وتقديرها على وجهين:
الأول : المجاز ، وإذ غدوت من بيوت أهلك بحذف المضاف.
الثاني : الحقيقة ، وإذ غدوت من عند أهلك لصلاة الجمعة ثم للقاء ثلاثة آلاف رجل كلهم يريدون قتلك لأنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فانقذ الله رسوله مع الخسارة الفادحة التي تعرض لها المسلمون بسقوط سبعين شهيداً.
إن نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد من إرهاب المشركين دعوة متجددة للمسلمين للشكر لله عز وجل على هذه النعمة وما صاحبها من توالي نزول آيات القرآن وأحكام السنة النبوية .
ومن الشكر لله عز وجل في المقام الإقرار بحرمة الإرهاب وإخافة الناس على مختلف مشاربهم ، وهذه الحرمة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
فاجتمع فيه الحقيقة والمجاز في لفظ قرآني واحد ، قوله تعالى [وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ]، في الآية قال تعالى [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] ( ).
من معجزات السنة الدفاعية يوم أحد
لقد أراد الله عز وجل لمعارك الإسلام الأولى أن تكون حجة في الأجيال المتعاقبة من وجوه :
الأول : شدة بأس وبطش الذين كفروا .
الثاني : تنظيم الذين كفروا صفوفهم وبذلهم الأموال الطائلة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع ، واضطرار للقتال .
الرابع : كثرة جيوش المشركين ، وقلة عدد المؤمنين .
الخامس : قانون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل مع أنه قتله هو الغاية الأولى للمشركين .
ويستقرأ من هذا الإعجاز لزوم إمتناع المسلمين عن الإرهاب، وبث الرعب في قلوب الناس .
لقد جاء الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
ثم ورد في الآيتين اللتين بعدها للمسلمين بصفة الإيمان[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ]( )، و[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، ثم جاء قوله تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : إنه شاهد على بلوغ المسلمين درجات الإيمان، وصلاحهم لمراتب التقوى في قوله تعالى[إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] ( ).
الثانية : مجئ خطاب التشريف والإكرام للمسلمين من الله عز وجل ومن رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : وحدة الموضوع في هذه الآيات إذ جاءت بخصوص أوان قتال المسلمين في معركة أحد , وفيه مسائل :
الأولى : إنه دليل على موضوعيتها في تأريخ الإسلام، وسنن القتال عند المسلمين.
الثانية: بيان فضل الله على المسلمين في معركة أحد.
الثالثة: دعوة المسلمين لإستقراء الدروس من واقعة أحد، والآيات التي جاءت بخصوصها، وكل آية منها معجزة وفضل على المسلمين.
الرابعة: كما جاء التذكير يوم أحد بواقعة بدر، فإن وقائع يوم أحد ذكرى وموعظة للمسلمين على نحو الإستقلال، وتكون منضمة إلى وقائع معركة بدر.
قانون مدد الملائكة دعوة للسلم
يتضمن قوله تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( )، توكيد نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة وولايته للمؤمنين، وحفظهم من كيد ومكر الكفار.
وتكون النسبة بين نصرة الله للمؤمنين يوم بدر وأحد على وجوه:
الأول: جاءت النصرة والمدد بعرض واحد مع يوم بدر.
الثاني: نصرة الله يوم بدر أعظم بلحاظ خواتيم الأمور، وإنتهاء المعركة بهزيمة الكفار وأسر سبعين منهم، بينما أستشهد خمسة وستون من المسلمين يوم أحد على رواية ابن إسحاق( ) وفي رواية سبعون .
الثالث: نصرة الله للمسلمين يوم أحد أعظم وأوسع.
والصحيح هو الثالث، من وجوه:
الأول: جاءت الآية أعلاه بالإخبار عن نزول ثلاثة آلاف من الملائكة بينما نزل ألف من الملائكة لنصرة المسلمين يوم بدر.
الثاني: التذكير بنصر الله للمسلمين يوم بدر من النصرة يوم أحد، ففي أحد هناك نصر سابق للمسلمين بمدد من السماء، وليس في معركة بدر نصر سابق مثله.
الثالث: زحف الكفار يوم بدر وعددهم نحو ألف ، وكانوا يأملون النصر، وجاءوا يوم أحد ثلاثة أضعاف هذا العدد , مع أخذهم الحيطة للقتال بعد هزيمتهم في معركة بدر.
الرابع: معركة أحد هي الثانية من معارك المسلمين، ويضاف النصر والثبات فيها لسجل النصر في معركة بدر.
الخامس: خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً في المعركة الثانية والأكبر، وفيه مسائل :
الأولى : عجز الكفار عن الإضرار بالمسلمين ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ]( ).
الثانية : إنه آية عظمى تفيد تضمن معنى ولاية الله للمؤمنين وحفظهم وسلامتهم من القتل العام وإستدامة وجودهم كأمة تتعاهد طاعة الله ورسوله.
الثالثة : إنه من عمومات قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الرابعة : دعوة أجيال المسلمين للشكر لله عز وجل باجتناب الإرهاب ، والإمتناع عن إخافة الناس على اختلاف مشاربهم.
نعم جاء النصر في معركة بدر حاسماً وتاماً في آية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، واجتمعت فيها من دلائل الإعجاز ما لم يجتمع في غيرها.
وهو آية في توالي الفضل الإلهي على المسلمين، مع زيادته كماً وكيفاً وأثراً ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] ( ) ليترشح عن المنّ الإلهي نشر مفاهيم الألفة والرفق والعفو والتسامح بين الناس .
نزول الملائكة يوم أحد
مع أن الملك الواحد من أهل السماء يكفي لإيقاع الهزيمة بالمشركين وان كانوا ألوفاً مؤلفة، فقد نزل عدد من الملائكة يوم أحد بعدد أفراد جيش المشركين .
وكأن كل ملك نزل يوم أحد يقاتل واحداً من الكفار، مما يدل على إستئصالهم وهلاكهم إن إستمروا في القتال ومحاربة المسلمين.
وليبين الله عز وجل للملائكة مصداقاً لرده عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، يوم تساءلوا عن جعل الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء.
ولابد من وجود أسرار إعجازية تتعلق بعدد الملائكة هذا، وحضورهم ميدان المعركة بحيث إضطر الكفار إلى الإنسحاب على نحو مفاجئ مع ظهور الكرة لهم في بداية المعركة، وتراجع أكثر جيش المسلمين من وسط المعركة.
وجاء قيد[مُنْزَلِينَ] ( )، لبيان حال المدد من الملائكة، وفيه شاهد بأنهم لن يقاتلوا الكفار ويوجهوا سهامهم وهم في السماء، بل ينزلون إلى ميدان المعركة وفيه دفع وهم، فلا يظن أحد أن الملائكة من سكنة الأرض، ولو دار النزول بين أمرين وهما:
الأول : قتال الملائكة وهم قريبون من الأرض ومن غير أن يطئوها.
الثاني : نزول الملائكة إلى الأرض، واشتراكهم الفعلي في القتال.
فالصحيح هو الثاني ، لوجوه :
الأول : إنه المتبادر من معنى النزول.
الثاني : ورود النص والخبر بهذا المعنى.
الثالث : أصالة الإطلاق، وقانون يعطي الله بالأوفى والأتم ، وفي التنزيل [ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى]( ).
الرابع: مفهوم المدد وحضوره ميدان المعركة.
الخامس:كان جبرئيل ينزل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهيئة دِحية الكلبي ويحاوره ويتكلم معه ، قال تعالى [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ]( )، لتعذر رؤية الناس الملك بهيئة صورته العظيمة التي خلقه الله تعالى (ولذلك كان جبريل عليه السَّلام يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صورة دحية الكلبيِّ)( ).
السادس: كان الملائكة يأتون الأنبياء كما في سليمان، قال تعالى[وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ]( ).
ومن قبله جاءوا إلى إبراهيم ولوط بصفة الضيوف من الآدميين، قال تعالى[وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ]( ).
ومع أن الآية أعلاه في إنذار الكفار وزجرهم عن سؤال نزول ملك على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشرط رؤيتهم هذا الملك، وقضاء الأمر لعناد الكفار، فان نزولهم المحسوس يوم أحد كان مصداقاً لسؤالهم بصيغة الإنتقام منهم.
وكان نزول ثلاثة آلاف من الملائكة يوم أحد إستئصالاً للكفار إذ قتل عدد منهم، وإنهزم الباقون فزعين تاركين أمتعتهم خلفهم ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( )، وكفى الله المؤمنين استمرار القتال ، مما يلزم مقابلة أجيال المسلمين له بالشكر لله عز وجل ببسط الأمن في الأرض والتعفف عن العنف والإرهاب.
وعلم الناس عجز الكفار عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وصاروا يدخلون الإسلام جماعات وأفواجاً.
لتكون منافع نزول الملائكة يوم أحد أعم من حال وأوان المعركة، ليشمل تأويل قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ] ( ) الكفار الذين لم يحضروا المعركة من الموجود آنذاك والذين من خلفهم ومن بعدهم مكاناً وزماناً، ويكون سبباً لدخولهم الإسلام، وصيرورة الكفار ضعفاء فقد فقدوا طائفة من رجالهم الذين إنتقلوا إلى الإسلام، وصاروا أشداء على الكفار، وهو من مصاديق الخزي الذي يلحق الكفار والمذكور في الآية أعلاه.
وهذا القطع والخزي من مصاديق قانون بقاء مضامين الآية القرآنية غضة طرية تتجلى في كل زمان بأفراد وشواهد حسية متعددة تجذب العقول للتدبر في إعجاز القرآن وحضوره بين الناس بمصاديق متجددة لآياته وان كانت متعلقة بالحوادث والوقائع.
وفيه زاجر عن الإرهاب ، وشاهد بأنه خلاف المشيئة الإلهية باحقاق الحق ودحض الباطل بآيات وشواهد إعجازية من عند الله ، وأن حدثت بقانون العلة والمعلول ، والسببية .
ومن معاني بقاء الآية القرآنية غضة طرية دعوة المسلمين إلى الرضا بأمر الله عز وجل ، وحبس النفس عن السخط وغلبة النفس الغضبية والسُبعية.
قانون نزول الملائكة لقهر المشركين
لما احتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما في قوله تعالى[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء الرد من الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله تعالى أن الملائكة ينزلون لقتال المشركين الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء بغير حق.
ويتجلى مصداقهما معاً، أي الفساد وسفك الدماء، بزحف المشركين من مكة وقطعهم نحو خمسمائة كيلو متراً على الدواب وسيراً على الأقدام من أجل قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ووقوع القتل فعلاً ببعض الصحابة ، لتقوم الحجة على المشركين ، وليتعظ المسلمون في أجيالهم المتعاقبة بادراك مبغوضية سفك الدماء والإرهاب .
ومن علم الله في المقام أن الإنسان في خلافته في الأرض ليس مطلق التصرف، ولا دائم البقاء فيها وانه مقيد بإعمارها بسنن عبادة الله، وعندما يفعل الضد ويحارب العبّاد فان هؤلاء الملائكة ينزلون بأعداد كبيرة لقتال المفسدين مع ضعفهم.
لقد مرت آلاف السنين على خلق آدم عليه السلام وهبوطه بصفة الخليفة في الأرض، لينزل الملائكة دفعة واحدة عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، مرة ألف وأخرى ثلاثة آلاف، وأخرى خمسة آلاف .
مما يدل على أن أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي من أهم وأعظم الأيام في تأريخ الإنسانية عند أهل السماء، وبها بدأ تثبيت دعائم التوحيد، وغلق باب سيادة وطغيان مفاهيم الفساد وسفك الدماء.
وكسرت الأصنام ، وأزيحت عن الناس عبادتها إلى يوم الدين ، وفي التنزيل [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، لبيان قانون وجوب عبادة الله وحده ، وبه الإستعانة لأمور الدنيا والآخرة.
فلا غرابة أن يستبشروا ويحتفي الملائكة ببعثته عند الإسراء به ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( ).
لقد نزل الملائكة ليساهموا في بناء صرح التوحيد الذي سيبقى إلى يوم القيامة، وفيه مسائل:
الأولى : قانون للملائكة شرف المساهمة والحسم في نصر المؤمنين.
الثانية : قانون توكيد حاجة أهل الأرض لأهل السماء وقربهم منهم بما فيه مرضاة الله.
الثالثة : إستعداد الملائكة للنزول يوم بدر وأحد، ولعل بدايات هذا الإستعداد من حين رد الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الرابعة : قانون إشتراك أهل السماء والأرض في قتال المشركين.
الخامسة : قانون الغنى عن الإرهاب ، وقبحه ، وهو مخالف لسنن الأنبياء والملائكة.
لقد نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ليكون شكر المسلمين لله تعالى على هذا النزول والنصر العظيم التقيد بأحكام الشريعة، وإجتناب الظلم والإرهاب.
ترى لماذا إدخر الله نزول الملائكة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين.
وإن كان هذا النزول لا ينفي نزول الملائكة لنصرة الأنبياء السابقين ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
الجواب لأن أمته باقية على ذات النهج والأحكام التي جاء بها ولا تحرف التنزيل إلى يوم القيامة، فلا تنزل الملائكة لتقاتل من أجل أمة تعود للإفساد في الأرض وسفك الدماء.
لذا فان إجتناب الإرهاب ضرورة وقانون متصل إلى يوم القيامة ، قال تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]( ).
وتلك آية في فلسفة نزول الملائكة مدداً، وبشارة ثبات المسلمين على الهداية والإيمان، وهو من خصائص أهل الإيمان وتعاهدهم لذات الأسباب والغايات التي نزل من أجلها الملائكة للقتال نصرة لهم وللحق.
ومن وجوه تقدير الآية أعلاه من سورة البقرة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، بأن كفة الفساد وسفك الدماء والإرهاب في الأرض ستكون مرجوحة وزائلة بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد دافع الملائكة عن لواء التوحيد الذي كان يقاتل تحته المسلمون، ليرى أهل السماء خفقانه.
ويختلط تسبيح الملائكة مع تكبير المؤمنين واستدامة رفع هذا اللواء وصهيل الخيل، وهم يرون العدو والشيطان ينهزم أمامهم.
لتكون هذه الهزيمة مستمرة فليس من هجوم للطواغيت وقوى البغي، وبإشراقة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أطبقت السماء والأرض على المشركين ، وهو من عمومات قوله تعالى[لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).
لينعم أهل الأرض بالسلام والأمن العام فليس لجماعة إثارة الفتن وإشاعة القتل والتفجيرات .
أي أن الآية أعلاه نوع إنذار ووعيد للكفار وأنهم لن يستطيعوا إشاعة الفساد في الأرض بعد نزول الملائكة لنصرة المؤمنين ولن تكون المعاملات الربوية سائدة في الأرض بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصار الناس جميعاً يدركون حرمتها حتى الذين يزاولونها، وهذا الإدراك من فضح وإزاحة القرآن للتحريف الذي طرأ على الكتب السماوية السابقة.
وأختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى[وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] للإخبار بأن باب التوبة مفتوح للكفار، وأن رحمة الله عز وجل تشملهم وتشمل الناس جميعاً، ومن مصاديقها إنحصار الهلاك يوم بدر وأحد بطائفة من الكفار دون الجميع، لقوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
قانون الوسط في الإسلام
من خصائص الإسلام تنزهه عن الإرهاب والعنف بأحكام نفذت حتى إلى داخل الأسرة الواحدة ، فخفف عن أروقة المحاكم بنظام الأسرة وأحكام النكاح والطلاق والميراث.
وليس من دين خفف عن دواوين القضاء والمرافعة مثل الإسلام ، فان قلت أن المحاكم في البلدان الإسلامية ملآى بالمرافعات ، والجواب الناس فيه على أقسام :
الأول : طالب حق وفق الشريعة .
الثاني : مخالف للشريعة ، عن سهو أو خطأ أو عمد .
الثالث : إرادة منع الفتنة والجور ، وكانوا يتحاكمون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أيام حياته .
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ حَكَمت بصيغة المفرد والجمع، قال تعالى في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ) وقال تعالى في خطاب إلى المسلمين [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا] ( ).
ولفظ الأمانات أعم من أن يختص بالأموال ، ويشمل العهود والمواثيق وحق الجوار ، وبعث الطمأنينة في قلوب الناس من المسلم ولسانه وجوارحه ، فلا يأيتهم ضرر منه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وقد ورد لفظ (وسط) في القرآن مرة واحدة بخصوص المسلمين، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا]( ).
فالإسلام دين الوسط الخالي من الإفراط والتفريط ، ويرجع إليه الغالي ، ويتجلى في هذه الآية قانون منع الغلو والتطرف ، وقانون ترشح الإرهاب عن التطرف .
وأخبرت الآية بأن وسطية الإسلام ليست قانوناً وضعياً ، إنما هو بقانون سماوي ، ومشيئة إلهية مما يدل على النفع العام منها ، وخلوها من النقص ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا] ( ) .
وتتضمن الآية الإخبار عن قانون أحكام الإسلام واقية من الخلاف والنزاع.
معجزة الوأد الفوري للفتنة
لقد أراد الله عز وجل أن تكون أيام النبوة مدرسة للأجيال ، ومن الإعجاز في المقام توثيق القرآن الوقائع وطرق السلامة والصلاح فيها.
وقد يأتي فعل مخصوص من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن منافعه أعم من موضوعه فقد خرج النبي وأصحابه لبني المصطلق لتفريقهم وردء الفتنة العامة ولكن بعد تحقق هذه الغاية كادت تحدث فتنة بين الصحابة.
إذ أراد رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول إحداث فتنة بين المهاجرين والأنصار بسبب تزاحم وتدافع بين أجير لعمر بن الخطاب اسمه جهجاه الذي صرّح يا معشر المهاجرين ، وبين سنان بن وبر الجهني حليف بني عوف من الخزرج الذي صرخ يا معشر الأنصار .
فصار عبد الله بن أبي يوجه لومه للأنصار لأنهم أكرموا المهاجرين وقاسموهم أموالهم ، وذكر المثل (سمن كلبك يأكلك ).
وجاء زيد بن أرقم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بما قال رأس النفاق فلم يعاقبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنه أمر بالرحيل في الحال ، فقد انتهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عدوه من غير قتال يذكر ، ونزل قوله تعالى [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
ومن معاني الآية أعلاه في المقام :
الأول : تعدد عمل المنافقين ، فمنهم من يصد الصحابة عن الخروج في الكتائب ، ومنهم من يخرج في الكتائب طمعاً ،ولكنه يكون حاضراً للفتنة .
الثاني : توثيق القرآن لفتنة المنافقين .
الثالث : بيان فضل الله عز وجل في صرف الفتنة من المؤمنين .
الرابع : قانون هداية المسلمين لسبل درء الفتنة .
الخامس : بيان قسم من أقسام جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من داخل صفوف المسلمين بالصبر على المنافقين , وعدم الإنتقام منهم .
ولا يعلم منافع هذا الصبر إلا الله عز وجل وهو سبحانه الذي [أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا] ( ).
قانون العزوف عن الأوثان
لقد خلق الله عز وجل السموات والأرض ، وجعل ملكها له وحده وفي التنزيل وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ومن قدرته تعالى منعه من عبادة الأوثان في الأرض ، ومن انقطاع الناس إليها في العبادة أو اتخاذها وسائط إلى الله عز وجل ، فلابد من وجود أمة مؤمنة في الأرض ، ووجود طائفة تمتنع عن عبادة الأوثان في ذات البلدة التي تعكف على الأوثان إلى جانب بعث الله عز وجل الرسل [مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ].
ومنه البشارة لأهل التوحيد ، والإنذار للذين كفروا وعبدة الأوثان ، وحينما نصبت الأوثان في البيت الحرام وحول مكة صرف رجال من قريش وجوههم عنها خاصة مع الإتصال بأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولإدراك بناء وقيام البيت الحرام على التوحيد.
ومن أسباب العزوف عن عبادة الأوثان أنه اجتمع نفر من قريش عند وثن لهم يذبحون عنده في عيد من أعيادهم فتناجى أربعة منهم وهم:
الأول : عثمان بن الحويرث .
الثاني : عبيد الله بن جحش .
الثالث : زيد بن عمرو بن نفيل .
الرابع : ورقة بن نوفل ، وهو ابن عم خديجة بنت خويلد.
وقال بعضهم لبعض (تَعَلّمُوا وَاَللّهِ مَا قَوْمُكُمْ عَلَى شَيْءٍ لَقَدْ أَخْطَئُوا دِينَ أَبِيهِمْ إبْرَاهِيمَ مَا حَجَرٌ نُطِيفُ بِهِ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَعُ يَا قَوْمِ الْتَمِسُوا لِأَنْفُسِكُمْ (دِينًا) ، فَإِنّكُمْ وَاَللّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ . فَتَفَرّقُوا فِي الْبُلْدَانِ يَلْتَمِسُونَ الْحَنِيفِيّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ)( ).
لبيان فضل الله عز وجل في تهيئة مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوجود فرقة تنكر على قريش عبادة الأوثان ويبعث الله في نفوسهم الشوق لقراءة الكتب والتطلع لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأقام عبيد الله بن جحش إلى أن بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاسلم ثم هاجر إلى الحبشة مع زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان فتنصر هناك وفارق الإسلام ، وتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم حبيبة.
وأكبر أولاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القاسم ، وهو أول من مات ثم بعده توفيت خديجة في السنة العاشرة للهجرة ، ودفنت بالحجون وكان عمرها خمساً وستين سنة( ).
وكان بين وفاتها ووفاة أبي طالب قبلها ثلاثة أيام ، لذا سمي هذا العام عام الحزن وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة يذكرها ويترحم عليها.
و(عن مسروق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها. فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً، فقد أبدلك الله خيراً منها! فغضب حتى اهتز مُقدّم شعره من الغضب.
ثم قال : لا، والله ما أبدلني الله خيراً منها، أمنت إذ كفر الناس، وصدّقتني وكذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولادَ النساء .
قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئة أبداً)( ).
و(عن عمران بن حصين أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم عاد فاطمة وهي مريضة فقال لها: كيف عيناك يا بنية.
أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، قالت: فأين مريم بنت عمران.
قال: تلك سيدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك ، والله لقد زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة)( ).
و(عن ابن عباس مرفوعاً : سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية).
(وعن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بهدية قال إذهبوا بها إلى بيت فلانة فانها كانت صديقة لخديجة انها كانت تحب خديجة، ودخلت عليه إمرأة فهش لها وأحسن السؤال عنها فلما خرجت قال إنها كانت تأتينا أيام خديجة وإن حسن العهد من الايمان، وقال عليه السلام إن آل أبى فلان ليسوا لى بأولياء غير أن لى رحما سأبلها ببلالها)( ).
ومجموع زوجات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إحدى عشرة امرأة ، وهو من مختصاته.
وهل يمكن القول أن خديجة أكثر نساء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جهاداً معه ، الجواب نعم ، إذ بادرت إلى التصديق بنبوته ، وسخرت أموالها في دعوته إلى الله وعانت من حصار قريش لبني هاشم مع أنها ليست من بني هاشم .
ولا يعلم صبر وجهاد أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الله عز وجل ، فلذا أكرمهن الله عز وجل بمرتبة لم تنلها غيرهن من نساء العالمين ، وهي (امهات المؤمنين) من غير استثناء لبعضهن لأن الله عز وجل يهب بالأتم والأوفى ، ولأن الإكرام أيضاً من جهة مقام النبوة وحسن العشرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
المشركون إرهابيون
تدل آية الصد [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ) من سورة آل عمران على أيام الدفاع ومنها معركة أحد ، وسقوط سبعين شهيداً من المسلمين فيها واقعة بئر معونة ، وسرية الرجيع إذ وقعتا بعد معركة أحد في شهر واحد تقريباً .
وكان عدد الصحابة في الأولى نحو عشرة ، وكلهم من القراء ، ولم يكن خروجهم لقتال ، فخرج لهم مائة رام من بني لحيان وأحاطوا بهم ، وقتلوهم بعمل ارهابي ظاهر، وغدروا بمن أسروا وهما :
الأول : الصحابي خبيب بن عدي .
الثاني : الصحابي زيد بن الدثنة .
فباعوهما إلى قريش في مكة الذين أقدموا على قتلهما بعد أن أظهروا صلابة الإيمان ، وحبهما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة القتل.
وعجزت قريش عن أخذ كلمة منهما للنيل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من معجزاته الغيرية ، ولما رفعوا خبيب على الخشبة قالوا له : أتتمنى أن محمداً مكانك .
فقال : لا والله فضحكوا منه .
(وقال خبيب اللهم اني لا أجد إلى رسولك رسولا غيرك فأبلغه منى السلام وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو جالس في ذلك اليوم الذى قتلا فيه وعليكما أو عليك السلام خبيب قتلته قريش ولا يدرون أذكر زيد بن الدثنة معه أم لا.) ( ).
وتولى عقبة بن الحارث قتل خبيب ، وكان خبيب قد قتل أباه حارثاً يوم بدر .
وروى عن(عمرو بن أمية الضمرى قال بعثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خبيب بن عدى لا نزله من الخشبة فصعدت خشبته ليلا فقطعت عنه وألقيته فسمعت وجبة خلفي فالتفت فلم أر شيئا) ( ).
والمختار تعدد ضروب أذى المنافقين والمنافقات سواء في الحضر أو الترحال ، فان قيل هل تدل صيغة الماضي [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) على زمن ما قبل نزول الآية وحده ، الجواب لا ، ولكنه ورد لتوكيد صدور هذا القول والفعل .
قانون أداء الصلاة موضوع للثناء
جاء القرآن بالثناء والمدح في إقامة الصلاة وهي أشرف الأعمال وأفضل القربات وأصدق شاهد على الإيمان وجزء علة لفعل الخيرات .
والحاجز والواقية من الفواحش والسيئات .
فمن يؤدي الصلاة يحرص على التنزه عن المعاصي .
فان قلت من الناس من يفعل المعصية ويحضر صلاة الجماعة .
قلتُ إنه فرد نادر والأحكام لا تلحظ القليل النادر وان الذين احترزوا من المعاصي لا يعلم عددهم الا الله عز وجل لأن لصلاة والفرائض العبادية الأخرى سبيل هداية ورشاد وحتى القليل الذي تقول انه يجمع بين المعصية والصلاة فانه لن يستمر بالمعصية ما دام مواظباً على الصلاة، والتوبة تتقرب منه، وتلح عليه الصلاة كل يوم خمس مرات بترك الربا وتعده بالخلف الكريم وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
ومن الإعجاز ان يأتي ذكر الصلاة وسط آيات المعاملات لتكون زاجراً عقائدياً وأخـــلاقياً عن الحرام .
فمن فضـــل القرآن واعجازه الغيري ان ترى الناس يتركــون الرذائل والمعاصـــي ويحرصون على اتيان الطاعات لطـــرد الموجودات المضـادة والمخالفة لها التي لا يمكن ان تجتمـــع معها في وقت ومحل واحد.
وتبين الآية وجوه التضاد بين العبادات وبين المعاصي لتقابلهما تقابل الإيجاب والسلب، والإيمان والكفر، والخير والشر، فمدح الذين يقيمون الصـــلاة ذم للـــذين يعرضون عنها وعما تدعو إليه من الرشاد والصلاح.
قانون تعقب الزكاة للصلاة
جاء ايتاء الزكاة متعقباً لأداء الصلاة، في توكيد متكرر على الملازمة بينهما في مناهج الإيمان والتقوى، وليس كل مسلم تجب عليه الزكاة لقيد النصاب.
بخلاف الصلاة التي تجب على كل مكلف ذكراً كان أو أنثى مقيماَ أو ضاعناَ , معافى أو سقيماَ.
ومن منافع الملازمة بينهما في المقام اتحاد الموضوع وهو المال مع التضاد في القصد والنفع والأثر.
فالزكاة اخراج للمال على نحو الصدقة والقربة الى الله والإمتثال لأمره تعالى وعدم طلب عوض أو بدل.
اما الربا مثلاً فانه معصية وظلم وطريق غير مشروع لطلب المال بالتعدي والتجاوز والإضرار بالغير.
فيكون الناس على أقسام:
الأول : مؤمن يخرج الزكاة من أمواله , قال تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الثاني : من تتعلق الزكاة بماله ولكنه لا يخرجها نسياناَ أو تقصيراً.
فيأتي الأمر من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
لحض الناس على الزكاة ومطالبتهم وترغيبهم بها , وبيان أجرها في النشأتين , وهل الخطاب أعلاه خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , أم يشمل أهل البيت والصحابة والعلماء الجواب هو الثاني .
فالآية ليست من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ استدامة أحكام الزكاة ووجوبها على المكلفين إلى يوم القيامة.
الثالث : من لم يكن في ماله زكاة او نصاب، وهو مستعد لإعطاء الزكاة في حال تعلقها بماله، وآخر غيره لم ينو اخراج الزكاة لو تعلقت بماله , وهل هناك من المؤمنين من يحب المال حتى يخرج الزكاة والخمس , الجواب نعم.
الرابع : من لم يخرج الزكاة.
وهل يمكن تصور قسم خامس وهو من يعطي الزكاة ويأكل الربا في آن واحد، الجواب لا، وهو ظاهر عقلاً ووجداناً، فمن يخرج زكاة ماله قربة الى الله تعالى لا يفكر بالتعدي وجمع الأموال بظلم الآخرين وبطرق محرمة ومبغوضة شرعاً وعقلاً، وان وجد مثل هذا الفرد فهو قليل نادر لا يعتد به، وتأكل الحسرة قلبه ويصارع نفسه لإجتناب الحرام والزكاة رأفة وإعانة للفقراء ، وإخراج المال الخاص لدفعه إليهم ، ليكون من باب الأولوية إجتناب الإرهاب والإضرار بهم وبغيرهم من الناس ، إذ أن الإرهاب يصيب الفقراء ايضاً في أبدانهم ورزقهم ، فيجب الإمتناع عنه .
وجاء قوله تعالى [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( ) بصيغة الماضي أي انهم مواظبون على اتيان الزكاة فلا يمكن ان يتسلل الحرام الى سلوكهم وأفعالهم.
اما اذا نظرنا الى الزكاة بالمعنى الأعم كما في اطلاق اصطلاح زكاة الأبدان على الصيام، وان الزكاة البذل والعطاء في سبيل الله بكل الوجوه الممكنة والمتيسرة في القول الصالح، واصلاح ذات البين، وتقديم الخدمات، والإعانة بالجهد واليد واللسان، واغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، وانقاذ الغــريق ونحـــوها فان الآية تبين خصـــائص اخــلاقية عامة للمــؤمنين لا نجــدها عند المشرك الذي تراه منكمشاً كئيباً.
لبيان قانون ترك الإرهاب سلامة للذات وانقاذ للغير لمنافاة الإرهاب للصلاح.
والقدر المتيقن من الآية أعلاه هو زكاة الأموال لمن وجبت عليه وفيه نهي عام عن الظلم ، وتأكيد لقبحه .
ولا مانع من شمول المسلمين جميعاً بالخطاب على نحو تعليقي وهو ان كان عند كل واحد منهم نصاب فانه لا يتخلف عن اعطاء الزكاة وايصالها الى مستحقيها، وبذا يكتب الله عز وجل كل مسلم معطياً ودافعاً للزكاة وان لم يخرجها لتعذر موضوعها وهو النصاب في حاله ولا يخرج من هذا الوصف التشريفي العام الا من اشتغلت ذمته بالزكاة، بمعنى انها تعلقت بأمواله ولكنه لم يخرجها، وحتى هذا لم يخرج من مفهوم الآية على نحو دائم وقطعي، فان باب التوبة مفتوح إلى جانب الوصية باخراج الزكاة ، والخمس ، وتدارك الورثة في قضاء العبادات عن الميت من تركته أو تبرعاً لعمومات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فدين الله أحق أن يقضى) ( )، والآيات تحث على التوبة وتدعو إليها، وان تخلف العبد عن إخراجها.
وهل يجوز إعطاء الزكاة لغير المسلم ، الجواب نعم ، مع الحاجة.
ولو قام الورثة باخراج ما على ابيهم او مورثهم مطلقاً من الزكاة فهل تبرأ ذمته وينال الثواب .
الجواب نعم , لعظيم فضل واحسان الله تعالى ولأن الولد الصالح فرع للأب، ولأن الزكاة اخرجت فعلاً من المال .
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية)( ).
وتخبر الآية عن الإمتثال النوعي العام للتكليف بالزكاة، فان الإمتثال قوس صعود وهو غير التكليف الذي هو قوس نزول وفرض .
وليس كل أمة كلفت بوظائف عبادية قامت بادائها على الوجه الأتم ويمتاز المسلمون بالتقيد بالعبادات والإمتثال للأوامر الإلهية الواردة في القرآن.
وآيات الزكاة شاهد قرآني ومفخرة وعز للمسلمين ووثيقة سماوية تؤكد التزام المسلمين بالصلاة والزكاة وتدعو الأجيال اللاحقة لتعاهد وحفظ هذه الأمانة.
وزكاة الأبدان الصوم ، لبيان قانون دفع المسلم من ماله وبدنه في سبيل الله ، وهذا الدفع منع ومانع من الإرهاب.
سوق المدينة سلام
لقد كان هلاك أبرهة عام 570 للميلاد مناسبة لعلو شأن مكة وقريش بين الناس ، فصاروا يسمون أهل الله ، وجيران البيت ، وأولياء الكعبة ، فانتفعت قريش من هذه المنزلة وزاولت التجارة ، وسيرت القوافل إلى الشام واليمن ، ومصر ، والحبشة ، وفارس ، ونزل قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( )، لبيان أن الرزق الكريم علة للعبادة وأداء الفرائض الواجبة ، والتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثته وظهر الثراء في مكة ، وصاروا يقرضون الناس بالربا ، وبرز رجال منهم على مستوى الجزيرة ، وصارت القبائل تلجأ إليهم لحل الخصومات.
وعمرت أسواق مكة ، وصارت فيها وكالات للملوك والأمراء منهم النعمان بن المنذر ملك الحيرة ، ورؤساء أقطار الجزيرة والتي كانت تقسم تقسيماً شائعاً عند العرب إلى خمسة أقطار وهي :
الأول : اليمن .
الثاني : الحجاز .
الثالث : نجد .
الرابع : عُمان .
الخامس : البحرين ، وتشمل الإحساء والقطيف وتسمى أيضاً الخط ، وتسمى أيضاً العروض لاعتراضها بين اليمن ونجد والعراق، و(هجر مدينة الإحساء)( ).
(روى ابن عباس: البحرين من أعمال العراق وحده من عُمان ناحية جرفار واليمامة على جبالها) ( ).
وكان يطلق على البحرين الحالية وبالذات على جزيرة المنامة والمحرق قبل الإسلام (تايلوس) عندما وصلها فياخوس القائد الذي أرسله الإسكندر المقدوني لإستكشاف المنطقة ، وكانت تابعة للسومريين ، وتسمى (أوال) .
وكان الخليج يسمى (البحر الأخضر) للونه الأخضر وعمقه يصل إلى (91) م فقط ، وتطل عليه عدة دول في هذا الزمان وهي إيران ، والسعودية ، والعراق ، والكويت ، وقطر ، وعمان ، والبحرين ، والإمارات العربية .
لقد كان رجال ووفود القبائل تأتي لأداء الحج والعمرة ، وعرض بضائعهم في أسواق مكة ، والتسوق منها ، إذ كانت تباع فيها الخيل والحمير والسيوف والدروع ، والقمح والشعير ، والأقمشة ، والآدام ، والذهب والفضة ، ومن يشتري لا يخاف في الطريق لأنه في الأشهر الحرم التي لا قتال فيها .
وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة كانت السوق بيد بني قينقاع ، وتسمى باسمهم ، إذ كان الأنصار يعملون بالزراعة والسقي والحرث .
ولكن رجال قريش لا يحسنون الزراعة ، كما أن لهم خبرة في التجارة ، وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم انشاء سوق خال من الربا ، فخرج إلى موضع ليختاره سوقاً للمدينة و(عن عطاء بن يسار قال: لما أَراد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أَن يجعل للمدينة سُوقًا أَتى سوقَ بني قَيْنُقَاع، ثم جاء سوق المدينة فضربه برجله وقال: “هذا سوقكم، فلا يُضيَق، ولا يؤخذ فيه خَرَاج) ( ) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يؤخذ فيه خراج دعوة للحكام على عدم أخذ ضريبة على الكسبة وبائعي المفرد ، ودعوة عامة لعصمة الأسواق من الإرهاب .
ليكون السوق مناسبة للذكر والإستغفار والمعاملات المحللة البعيدة عن الغش ونحوه ، قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ) ولتكون الأسواق محلاً للذكر والشكر لله عز وجل ونبذ العنف والأخلاق المذمومة والسرقة والتعدي والإرهاب .
قانون ندم وأسى الإرهابي على فعله
إن أدنى تفكر فيما يؤول إليه الفعل الإرهابي يبين قانون الضرر الخاص والعام للإرهاب , وخلوه من أي نفع , ليكون من معاني الحكمة والتدبر بالفعل قبل الإقدام عليه العزوف والإمتناع عن الفعل الإرهابي , ولا يعلم عدد الذين أريد إغوائهم بعمل إرهابي فانصرفوا عنه بالتفكر في سوء نتيجته إلا الله عز وجل .
إن إصابة الفكر بآثار الإرهاب من سفك الدماء , واليتم والترمل , والقهر والفتنة الدولية العامة تبعث النفرة منه .
وقد تقدم في الجزء السادس والأربعين من هذا السِفر تفسير قوله تعالى [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
وقد ذكرت في فصل الصلة بين أول وآخر الآية وجوهاَ :
الأول : قانون ذات الحكمة خير كثير إلى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] ( ).
والإرهاب تفريط وحجب للفعل من السيطرة على الجوارح والجوانح , وخلاف ضبط اللسان والفعل , ولو رجع الزمان على الإرهابي فهل يقدم على ذات الفعل , الجواب لا .
فمن الحكمة اللاحقة إنكشاف سنخية الفعل بعد إتيانه ليدرك أموراَ :
الأول : قانون قبح الإرهاب .
الثاني : قانون الإرهاب ضرر محض .
الثالث : قانون الندامة والأسى على إتيان العمل الإرهابي والدعوة إليه , وخشية مقدماته .
الرابع : قانون منافاة الإرهاب للقرآن والسنة والعقل .
الخامس : قانون الإبتعاد والإعراض عن سنن ومفاهيم الحكمة عند الإقدام على الفعل الإرهابي .
لقد تفضل الله عز وجل على الناس بأن جعل كلامه حاضراً بينهم ، وتلاوته من الماهية بلا شرط ، فلا يشترط الإيمان أو وجوب العمل بمضامين الآية حتى يتلو العبد غيرها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، لتحض تلاوة القرآن الناس على النفرة والإبتعاد عن الإرهاب ، كما أنها تدعو للأمر بالمعروف ومنه التنزه عن الإرهاب ، وتنهى عن المنكر ، ومنه الإرهاب ومقدماته ، والإعانة عليه ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
قانون التذكير بالموت زاجر يومي عن الإرهاب
لقد أكرم الله عز وجل الناس وجعل عاقبتهم الحشر إليه ، وهو الذي [لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ]( )، وهذا الحشر ليس مجرداً إنما هو مقدمة ومناسبة للحساب والجزاء الأخروي الذي يكون على وجهين بينهما تضاد وتناقض وهما:
الأول : الجزاء والثواب بالجنة مع بيان صفات الذين يستحقون هذا الجزاء .
الثاني : الجزاء والعقاب بدخول النار والإقامة فيها ، و(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده من الغداة والعشي . إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار . يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا( ).
وقد جاءت الآيات في المقام على وجوه :
الأول : الآيات التي تبشر بالجنة والنعيم الدائم .
الثاني : آيات الوعيد بالنار وحال المجرمين فيها .
الثالث : الآيات التي تتضمن الجمع في ذكر الجنة والنار ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ) ومنها [وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ] ( ) وأين يكون الذي يقوم بالفعل الإرهابي ، ويبث الرعب في قلوب الأبرياء ، ويبعث رسائل الخوف إلى القاطنين في بيوتهم فيطرد عنهم الأمن والسكينة ، الجواب إنه يحجب عن نفسه الإقامة في النعيم .
وكان بحثنا الخارج هذا اليوم( ) على فضلاء الحوزة العلمية في النجف بخصوص قوله تعالى وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ،وموضوعها متصل بالآية السابقة لها ، وهو قوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( )، والتي ذكرت أمرين :
الأول : القتل في سبيل الله .
الثاني : الموت .
بينما قدمت آية البحث الموت ولم تقيد القتل بأنه في سبيل الله ، فهل هو من المطلق والمقيد ، وأن تقدير آية البحث القتل مطلقاً ، ومنه الظلم والتعدي والجنايات والقضايا الشخصية الجواب نعم ، لذا قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وتدعو آية القصاص أعلاه إلى الإمتناع عن الإرهاب ، وإدراك أن عقوبته القتل بالقود والقصاص ، والذي يدل عليه بالدلالة التضمنية على إنتفاء الأجر والثواب على الإرهاب وطرقه ومقدماته والإعانة والإنفاق فيه.
وقدمت الآية [وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ] لبيان فضل الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الذين يموتون على الفراش أكثر من الذين يقتلون ، وهو من اللطف والتخفيف عن الناس من عند الله عز وجل بالناس.