مقدمات بعثة النبي(ص)
لقد بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة في مكة وسط مجتمع قبلي مشرك وسرعان ما مال إليه الناس ، ولم يكن هذا الميل بالعاطفة والإستحسان والرأفة بل هو إيمان ينفذ إلى شغاف القلوب وتسليم بمعجزات وبينات لم يعهدها أهل مكة مع أنها بلدة يتوافد عليها رجال القبائل كل عام في موسم الحج ، وتقام الأسواق التجارية والعروض الشعرية التي يلقي فيها فحول الشعراء قصائدهم ، ويسافر رجال قريش للتجارة في الشتاء إلى بلاد الشام حيث الروم والديانة النصرانية . وفي الصيف إلى اليمن ونفر على دين المجوسية مما يدل على إطلاعهم على المذاهب والملل ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْش* إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ].
ونشرع هنا علما جديدا في بابه إسمه مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي بدأت من الأيام الأولى لخلق آدم وهو بعد في الجنة , وقبل أن يهبط إلى الأرض، لتتوارث ذريته العلم بمقامه وتتطلع إلى بعثته وتصدق بنبوته.
وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه ، رفع رأسه إلى السماء فقال : أسألك بحق محمد إلا غفرت لي؟ فأوحى الله إليه : ومن محمد؟ فقال : تبارك اسمك . لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك . فأوحى الله إليه : يا آدم انه آخر النبين من ذريتك ، ولولا هو ما خلقتك.
وقصة إبرهة خليفة النجاشي على اليمن في عزمه على هدم الكعبة معروفة وموثقة من السماء بقوله تعالى[أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ] إذ أن إبرهة بنى بصنعاء كنيسة، لم يُر مثلها في زمانه في أرض الروم، ولا في أرض الشام ثم كتب إلى النجاشي الأكبر، ملك الحبشة، أني قد بنيت لك كنيسة، لم يكن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب، فلما علمت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي، خرج رجل من بني كنانة من الحمس، حتى قدم اليمن، فدخل الكنيسة، فنظر فيها، ثم خرى فيها فدخلها أبرهة، فوجد تلك العذرة فيها فقال: من اجترأ عليّ بهذا، فقال له أصحابه: أيها الملك، رجل من أهل ذلك البيت الذي يحجه العرب فقال: أعليّ اجْتَرأ بهذا ثم قال بالنصرانية: لأهْدِمَنَّ ذلك البيت ولأُخَرِّبنه، حتى لا يحجه حاج أبداً فدعا بالفيل وأذن قومه بالخروج.
وروي في رواية أُخرى أن فئة من قريش، خرجوا إلى أرض النجاشي، فأوقدوا ناراً، فلما رجعوا، تركوا النار في يوم ريح عاصف، حتى وقعت النار في الكنيسة، فأحرقتها فعزم أبرهة، وهو خليفة النجاشي أن يخرج إلى مكة فيهدم الكعبة، وينقل أحجارها إلى اليمن، فيبني هناك بيتاً ليحج الناس إليه وروي في رواية أُخرى، أن رجلاً من أهل مكة، خرج إلى اليمن، فأخذ جزعة من القصب ذات ليلة، وأضرم النار في الكنيسة فأحرقها ثم هرب فبناها أبرهة مرة أخرى، فحلف بعيسى ابن مريم بأن يهدم الكعبة، لكي يتحول الحج إلى كنيسته، فتجهز فخرج معه حتى إذا كان في بعض طريقه ، بعث رجلاً من بني سليم، ليدعو الناس في حج بيته الذي بناه، فتلقاه رجل من اليمن من بني كنانة، فقتله.
فازداد أبرهة بذلك غضباً، وحث على المسير والانطلاق، حتى إذا كان بأرض جعم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم، يقال له ذو يفن فدعا القوم، وأحبابه من سائر العرب، إلى حرب أبرهة، وصده عن بيت الله، فقاتله فهرب ذو يفن وأصحابه، وأخذوا ذا يفن، وأتى به أسيراً فلما أراد قتله قال: أيها الملك، لا تقتلني، فإنه عسى أن أكون معك خير لك من قتلي، فتركه وحبسه عنده في وثاقه ثم مضى على وجهه ذلك، حتى إذا كان بأرض خشعم، عرض له نفيل بن حبيب الخشعي، فقاتله فهزمه، وأخذ أسيراً).
لذا فمن المتعذر أن يخرج بينهم من يدعي النبوة من غير معجزة ودليل قاطع عقلياً كان أو نقلياً ، فصحيح أن القوم مشركون إلا أنه لا يعني إنعدام التمييز والفصل عندهم بل إن إختلاطهم مع أهل الملل الأخرى يجعلهم ينفرون من عبادة الأوثان التي هم عليها ويدركون حاجتهم إلى ديانة التوحيد وإلى الإرتقاء إلى مراتب الأمم التي تمتلك شطراً من العلم بتلاوة الكتاب وهو مما سبق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويمكن تأسيس علم جديد إسمه مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يختلف عن البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن مواضيعه متعددة ومتشعبة منها :
الأول : حاجة أهل مكة والناس إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم,[ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ].
الثاني : الإنحراف والتبديل والتشويه الذي طرأ على الحنيفية الإبراهمية.
الثالث : إمتناع وعزوف العرب عن الديانة اليهودية والنصرانية خصوصاً وأنهما جاءا في بني إسرائيل .
الرابع : طرو التحريف من قبل المشركين على مناسك الحج التي جاء بها إبراهيم عليه السلام ، وقد أبى الله عز وجل الا أن تبقى سالمة إلى يوم القيامة وشاء الله أن تنحصر هذه السلامة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وترشح صيرورة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، من رسالته المباركة.
الخامس : منع سلطان الإختلاف بين أهل الملل والنحل على النفوس ، كما في قوله تعالى [وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ].
السادس : ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينجو الناس من الحروب التي تسبب الفناء على نحو السالبة الكلية أو الجزئية وقد كانت المعارك مستمرة بين الدولتين الكبيرتين آنذاك دولة الروم ودولة الفرس، وفي التنزيل[غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ].
السابع : إنشغال الدول العظمى آنذاك بعضها ببعض كما تدل عليه الآية أعلاه من سورة الروم مناسبة لنشر الدعوة الإسلامية في الحجاز، ومن الإعجاز في قوله تعالى[وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ].
وكانت في فارس امرأة لا تلد إلاّ الملوك والأبطال بسم الله الرحمن الرحيم، فدعاها كسرى فقال : إنّي أُريد أن أبعث إلى الروم جيشاً وأستعمل عليهم رجلاً من بنيكِ فأشيري عليَّ أيّهم أستعمل؟ فقالت : هذا فلان، أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر، وهذا فرخان أنفذ من سنان، وهذا شهريراز هو أحلم من كذا، فاستعمل أيّهم شئت. قال : فإنّي استعملتُ الحليم، فاستعمل شهريراز، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم فقتلهم وخرّب مدائنهم وقطع زيتونهم، وكان قيصر بعث رجلاً يدعى يحنس وبعث كسرى شهريراذ فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فَغَلَبت فارسُ الرومَ، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وأصحابه بمكّة فشقّ عليهم، وكان النبيّ صلّى الله عليه يكره أنْ يظهر الأمّيّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم.
وفرح كفّار مكّة وشمتوا ولقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنّكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أُمّيون , وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم. فإنّكم إنْ قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم فأنزل الله عزّ وجلّ:{الم غُلِبتْ الرُّومُ…} فخرج الصّدّيق إلى الكفّار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرّنَ الله أعينكم، فوالله ليظهرنّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبيُّنا، فقام إليه أُبيّ بن خلف الجمحي فقال : كذبت يا أبا فضيل، فقال له أبو بكر: أنتَ أكذب يا عدوّ الله، فقال: اجعل بيننا أجلاً أُناحبُكَ عليه، والمناحبة: المراهنة على عشر قلائص منّي وعشر قلائص منك، فإنْ ظهرت الروم على فارس غرمتُ، وإنْ ظهرت فارس غرمتَ، ففعل ذلك وجعلوا الأجل ثلاث سنين.
فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره وذلك قبل تحريم القمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هكذا ذكرتُ، إنّما البضع ما بين ثلاث إلى التسع فزايدهُ في الخطر ومادّه في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أُبيّاً فقال: لعلَّك ندمت قال: لا، قال : فتعال أزايدك في الخطر وأُمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت فلمّا خشي أُبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه فقال: إنّي أُخاف أن تخرج من مكّة فأقم لي كفيلاً، فكفل له ابنه عبد الله إبن أبي بكر.
فلمّا أراد أُبي بن خلف أن يخرج إلى أحُد أتاه عبدالله بن أبي بكر فلزمه قال : والله لا أدعك حتّى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثمّ خرج إلى أحُد، ثمّ رجع أُبيّ بن خلف فمات بمكّة من جُراحتِهِ التي جرحه رسول الله صلّى الله عليه حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحُديبيّة وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم. هذا قول أكثر المفسِّرين.
وقال أبو سعيد الخدري ومقاتل : لمّا كان يوم بدر غلب المسلمون كفّار مكّة وأتاهم الخبر أنّ الروم قد غلبوا فارس ففرح المؤمنون بذلك. قال الشعبي : لم تمضِ تلك المدّة التي عقدوا المناحبة بينهم، أهل مكّة وصاحب قمارهم أبيّ بن خلف، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر، وذلك قبل تحريم القمار حتّى غلَبت الرومُ فارسَ وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فَقَمَر أبو بكر أُبيّاً، وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به يحمله إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: تصدّق به).
وتتبين بلحاظ المقام مسائل:
الأولى : إستمرار الحرب بين الروم والفرس.
الثانية : الحرب بينهما كر وفر.
الثالثة : كل فريق منهما يستعد للقاء الآخر، ويجعل همّه نحوه.
الرابعة : كانت الغلبة في النهاية لأهل الكتاب، وهذه الغلبة مقدمة أخرى لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته.
الخامسة : إنذار كفار قريش وقرب مجيء العذاب لهم، وقيل إن يوم نصر المسلمين وهزيمة الكفار في بدر هو نفسه اليوم الذي إنتصرت به الروم على كسرى، قد تقدم في الصفحة السابقة بأن عبد الله بن أبي بكر منع أبي بن خلف من الخروج إلى أحد حتى أعطاه كفيلاً مما يدل على أن خبر غلبة الروم لم يأت يوم بدر، إنما كان متأخراً عن معركة أحد.
الثامن : زهد الملوك والسلاطين بأرض الحجاز الجرداء، وخشيتهم العرب وفروسيتهم وغدرهم، وهذه الخشية من جهات:
الأولى : كراهية العربي في الصحراء السكن في مدن وعمارة تكون أسيرة لسلطان معين، لذا يكون تمصير مكة مدينة معجزة للبيت الحرام، ومن أسرار تسميتها (أم القرى) أي أن ما حولها لم ترق بعضها إلى مدينة، فان قلت قد صارت تلك القرى وغيرها مدناً عامرة , والجواب من وجوه :
الأول : إنه بفضل الله ونعمة الإسلام وسيادة أحكامه وإطمئنان الناس وتقيد السلطان بأحكام الشريعة، ونظرهم لما يعمل وفق سنن الشريعة، وإستهجانهم وإنكارهم لما يخالفها، قال تعالى[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]، وفي هذه الآية حجة بان الأحكام الشرعية مبينة وجلية للحاكم وعامة الناس.
الثاني : إنه من مصاديق البركة في قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]، فتشمل الهداية الحاكم والمحكوم.
الثالث : في هذه المدن منعة وقوة للإسلام.
الرابع : تجلي البركات في كثرة عدد المسلمين ومدنهم وقراهم، وصيرورة هذه المدن كالثغور التي تحيط بالبيت الحرام.
الثانية : طبيعة حياة العرب في تتبع الكلأ والماء.
الثالثة : إنتشار ظاهرة الغزو بين العرب، لذا كانوا يؤادون البنات خشية أن يأخذها الغازي فتكون عليه عاراً، قال تعالى[وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ..].
التاسع : إقامة ذرية إبراهيم وإسماعيل المتعاقبة في مكة، وعدم مغادرتهم لها، مع أن العرب كانوا ينتقلون بحسب الحال وطلب الماء والكلام وكانوا يهجرون أماكنهم وقراهم خشية غزو وإنتقام القبائل الأخرى، وهروباً من التعرض للثأر.
العاشر : توارث أهل الكتاب البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتعيينهم لزمان بعثته كما في أخبار ولادته صلى الله عليه وآله وسلم.
الحادي عشر : كان يهود المدينة يرجون بعثته للإنتقام لهم ممت يؤذيهم من مشركي العرب، وعن إبن عباس قوله تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا]، يقول : يستنصرون بخروج محمد على مشركي العرب يعني بذلك أهل الكتاب ، فلما بعث الله محمداً ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه.
الثاني عشر : تعاهد العرب لمناسك الحج، وتوارث وتسابق رجال قريش لرفادة، وسقاية الحاج.
الثالث عشر : ترغيب الناس باتباع ملة إبراهيم الذي يدعو لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذم وتوبيخ الذي يعزف عنها، قال تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ]، فان قلت جاءت الآية أعلاه في القرآن، وموضوعها هو مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والجواب هذه الآية إخبار وبيان عن أحوال الناس منذ أيام إبراهيم، فقد أقام الله عز وجل البرهان بلزوم إتباعه بجهاده في محاربة الطواغيت والأصنام ونجاته بآية ومعجزة من النار التي القوه فيها، قال تعالى[قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]، وكان لعبد المطلب ابل كثيرة يجمعها في الموسم، ويخلط اللبن بالعسل في حوض عند زمزم يسقي به الحجاج، ويشتري الزبيب فيخلطه بماء زمزم يكسر به غلظه فيشرب الحاج، وكذا يفعل أهل مكة باسقية خاصة بهم.
ولما توفى عبد المطلب قام العباس بسقاية الحاج، وكان له كرم بالطائف فيحمل زبيبه إلى مكة، ويداين أهل الطائف ويستوفي منهم الزبيب إلى يوم الفتح فقال العباس:يارسول الله بابي أنت وأمي، أجمع لنا الحجابة والسقاية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:اعطيكم ما ترزء ون فيه ولا ترزءون منه، ثم قام بين عضادتي باب الكعبة (فقال: ألا إن كل مأثرة في الجاهلية ودم ومال تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سدانة البيت وسقاية الحاج فقد أمضيتها لأهلها.
وبقيت بأيدي ذرياتهم في الأجيال اللاحقة مع تعاقب الدول، وفي إطعام هاشم بن عبد مناف ورفادته للحاج أن الناس أصابهم جدب شديد فخرج إلى الشام واشترى بما عنده من المال دقيقاً وكعكاً، فدخل مكة في موسم الحج، فهشم الكوك وطبخ الجزور وجعله ثريداً فاكل الناس حتى شبعوا، فسمي هاشما، وكان اسمه عمر .
فقال: شَاعِرُهُمْ فِيهِ وَهُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى:
كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْضَةً فَتَفَقّأَتْ … فَالْمُحّ خَالِصُهُ لِعَبْدِ مَنَافِ
الْخَالِطِينَ فَقِيرَهُمْ بِغَنِيّهِمْ … وَالطّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْأَضْيَافِ
وَالرّائِشِينَ وَلَيْسَ يُوجَدُ رَائِشٌ… وَالْقَائِلِينَ هَلُمّ لِلْأَضْيَافِ.
ولم يكن الناس آنذاك بأعداد المليارات من البشر كما هو اليوم وان كانت الحروب المدمرة تحرق الأخضر اليابس في كل زمان، كما لم تكن أكثر مناطق الأرض معمورة بالسكن ، فاراد الله عز وجل أن تصاحب النماء في السكان شآبيب الرحمة التي تتفرع عن نزول القرآن ووجود أمة عظيمة وهم المسلمون يعملون بأحكامه الخالية من الظلم والتعدي، وصيرورة أصل تقسيم الناس الإنتماء إلى الملل.
ومن أسرار هذا التقسيم رجوع كل أهل ملة إلى مبادئ الشريعة وما جاء به الأنبياء بخلاف الولاء والإجتماع بلحاظ القبيلة والقومية وما فيه من أسباب الحمية وطغيان الغضب, قال تعالى[إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى].
الثامن : لزوم أداء الناس للوظائف العبادية لأنه ضرورة وحاجة لإستدامة الحياة , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ].
لقد أراد الله عز وجل ثبوت وإستدامة عبادته في الأرض إلى يوم القيامة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : فضل الله عز وجل على الناس بتقريبهم إلى منازل الطاعة وأسباب فعل الصالحات وإكتناز الحسنات.
العاشر : جعل الناس يتسابقون في الخيرات ويسعون إلى دخول الجنة بمسالك للتقوى جلية، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ].
الحادي عشر : مجيء إبراهيم عليه السلام بإسماعيل وأمه للسكن عند البيت الحرام، وصيرورة مكة بلداً عامراً، وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ].
وصحيح أن علم مقدمات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يختلف عن علم البشارات به الذي هو معروف وفيه بحوث عديدة إلا أن هذا لا يمنع من التداخل والتأثير المتبادل بينهما، فالنسبة بينهما ليست هي التباين بل هي العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
وقد تكون البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الماهية والأثر وتسخير الأسباب لنصرة النبوة، ومن لطف الله عز وجل في باب مقدمات النبوة أمور:
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين ولادته وحضانته في أيام قحط وجدب حيث إزدهرت ربوع بني سعد حينما حلّ رضيعاَ بين ظهرانيهم.
الثاني : سلامة النسب ، وشرف ورفعة البيت الذي ينتمي إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين العرب عامة وقريش خاصة.
الثالث : بداية نزول الوحي بجوار البيت الحرام الذي قال فيه تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]، لتكون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بركة ونماء لأهل الأرض وأموالهم وحسن سمتهم وسبباً للهداية، ونزول شآبيب الرحمة عليهم.
الرابع : إصغاء الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله ولو على نحو الموجبة الجزئية لما فيها من التدبر في ماهية الدعوة وما يعضدها من المعجزات.
الخامس : موضوعية مجئ القبائل للحج والتجارة إلى مكة المكرمة في إنتشار الإسلام، وتجلت هذه الآية في بيعة العقبة الأولى والثانية، وبايعه في الأولى أثنا عشر رجلاً من أهل مدينة يثرب وسموا في التنزيل الأنصار وسميت يثرب بالمدينة.
وليس في البيعة ذكر للحرب والقتال إنما كانت تتقوم بالتوحيد وعدم الشرك بالله، والتنزه عن السرقة أو الزنا أو قتل الأولاد، ثم كانت بيعة العقبة الثانية ليلة الثاني عشر من شهر ذي الحجة قبل سنة الهجرة، وكان عدد الأنصار ثلاثة وسبعون رجلاً وإمرأتان وسيأتي بيانه وذكر أسماء أصحاب كل من البيعتين والنسبة بينهما تفصيلاً إن شاء الله.
وبعد هذه البيعة أذن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة ليخرج بعدهم هو وأبو بكر، ويبقى الإمام علي عليه السلام(بأمره ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من الودائع، ثم لحقهم بقباء، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين قريبا من الزوال وقد اشتد الضحاء قال الواقدي وغيره: وذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول).
ومنهم من جعل بيعات العقبة ثلاثة وحصول الأولى في رجب، ولم تكن بيعة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة الأولى بنت ساعتها بل كان النبي يدعو الناس في الموسم كل عام حتى إستجاب له نفر من أهل المدينة، وعن جابر(لَبِثَ بِمَكّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتّبِعُ النّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوَاسِمِ وَمَجَنّةَ وَعُكَاظَ يَقُولُ مَنْ يُؤْوِينِي ؟ مَنْ يَنْصُرُنِي ؟ حَتَى أُبَلّغَ رِسَالَاتِ رَبّي وَلَهُ الْجَنّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُؤْوِيهِ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَرْحَلُ مِنْ مُضَرَ أَوْ الْيَمَنِ إلَى ذِي رَحِمِهِ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ لَهُ احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنْك وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَهُمْ يُشِيرُونَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ حَتّى بَعَثَنَا اللّهُ مِنْ يَثْرِبَ فَيَأْتِيهِ الرّجُلُ مِنّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ حَتّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ
وَبَعَثَنَا اللّهُ إلَيْهِ فَائْتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا وَقُلْنَا : حَتّى مَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُطَرّدُ فِي جِبَالِ مَكّةَ وَيَخَافُ فَرَحَلْنَا حَتّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ فَوَاعَدَنَا بَيْعَةَ الْعُقْبَةِ فَقَالَ لَهُ عَمّهُ الْعَبّاسُ يَا ابْنَ أَخِي مَا أَدْرِي مَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الّذِينَ جَاءُوك إنّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ فَاجْتَمَعْنَا عَنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ فَلَمّا نَظَرَ الْعَبّاسُ فِي وُجُوهِنَا قَالَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا نَعْرِفُهُمْ هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ ” تُبَايِعُونِي عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فِي النّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَعَلَى النّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللّهِ لَا تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ
وَلَكُمْ الْجَنّةُ فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السّبْعِينَ فَقَالَ رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ إنّا لَمْ نَضْرِبْ إلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيّ إلّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَإِنّ إخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنْ تَعَضّكُمْ السّيُوفُ فَإِمّا أَنْتُمْ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللّهِ وَإِمّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللّهِ فَقَالُوا : يَا أَسْعَدُ أَمِطْ عَنّا يَدَك فَوَاَللّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا فَقُمْنَا إلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا فَأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ يُعْطِينَا بِذَلِكَ الْجَنّةَ
ثُمّ انْصَرَفُوا إلَى الْمَدِينَةِ وَبَعَثَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرَو بْنَ أُمّ مَكْتُومٍ وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ يُعَلّمَانِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْقُرْآنَ وَيَدْعُوَانِ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَنَزَلَا عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَة َ وَكَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَؤُمّهُمْ وَجَمَعَ بِهِمْ لَمّا بَلَغُوا أَرْبَعِينَ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِمَا بَشَرٌ كَثِيرٌ)( ).
السادس : حصول حالة الإستعداد عند الناس لدخول الإسلام، وطرد النفرة في نفوسهم من الإنتقال إلى الدين الجديد، وما في هذا الإنتقال من الموانع الذاتية والتردد، لذا كانت العرب تسمي الذي يترك الشرك ويدخل الإسلام في أيام البعثة النبوية(صابئاً) وفي حديث إسلام أبي ذر قال: قال لي أخي انيس، ان لي حاجة بمكة، فانطلق فراث، فقلت: ما حبسك فقال: لقيت رجلا على دينك، يزعم أن الله جل وعز أرسله قلت فما يقول الناس
قال: يقولون ساحر شاعر كاهن قال أبو ذر، وكان أنيس أحد الشعراء، فقال والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلا يلتئم على لسان أحد ولقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، والله انه لصادق، وانهم لكاذبون
قال أبو ذر: فقلت أكفني حتى أنظر، قال: نعم، وكن من أهل مكة على حذر، فانهم قد شنفوا له وتجهموا، فانطلقت فتضعفت رجلا من أهل مكة، فقلت: اين هذا الرجل الذي تدعونه الصابئ قال: فمال علي أهل الوادي بكل مدره وعظم وحجر، فخررت مغشيا علي، فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فغسلت عني الدم وشربت من مائها، ثم دخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت بها ثلاثين من بين يوم وليلة، ومالي بها طعام الا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع)( ).
ومن مقدمات البعثة النبوية ما يتعلق بعالم الرؤيا التي جعلها في الوقائع والأحداث صلة بينه وبين روح العبد، وقد تأتي الرؤيا بشارة أو إنذاراً، وقد تكون بعثاً لفعل مخصوص وهذا الفعل متعدد في الموضوع والمحمول، ومن وجوهه:
الأول : تعلق الرؤيا بصاحبها وكأنها إيماء ونوع أمر.
الثاني : موضوع الرؤيا شخص آخر ، لتأتيه بالواسطة، مع تعدد أسباب وجود واسطة في المقام منها:
الأول : إعلان الأمر.
الثاني : الموعظة والإعتبار للرائي.
الثالث : الحجة على الذي تتعلق الرؤيا به.
الرابع : دفع وحث الشخص متعلق الرؤيا على العمل بمضامينها.
الخامس : تعلق أمر الواسطة في الرؤيا بطرف ثالث غير صاحب الرؤيا والشخص الذي تتعلق به، أو أنها تشمل الجميع.
السادس : رؤيا الواسطة دعوة للهداية والتصديق بعلوم الغيب قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] ( ).
السابع : صيرورة الرؤيا موضوعاَ للشهادة.
الثامن : دعوة الناس للعناية بعالم الرؤيا وتأويلها.
التاسع : تنمية الصلات الإجتماعية التي تتقوم بالإعتبار والإتعاظ.
العاشر : حث الناس على التعاون في أمور الدين والدنيا.
الحادي عشر: جذب الناس إلى منازل الإيمان.
الثاني عشر : تعاون الناس في الدعاء والمسألة لتحقيق الرؤيا الصادقة والإشتراك بصرف الرؤيا المكروهة بالدعاء والصدقة والحيطة والحذر وأخذ الحائطة ولزوم إجتناب الظلم والتعدي قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( )، وليس من حصر للرؤا التي كان لها أثر في مجريات الأمور ومنها ما كانت مقدمة وإخباراً عن تغيير لأنظمة حكم وسلاطين، أو سبباً في الصلاح والفلاح، أو مادة لجلب الأموال والفلاح في التجارات والسلامة من الهلاك وتلف الأموال، وإن كان الدعاء حاجة في المقام بتقريب الرؤيا الصالحة، ومحو موضوع الرؤيا المكروهة، وهو من عمومات قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
قال المفسِّرون : كانت في فارس امرأة لا تلد إلاّ الملوك والأبطال بسم الله الرحمن الرحيم( )، فدعاها كسرى فقال : إنّي أُريد أن أبعث إلى الروم جيشاً وأستعمل عليهم رجلاً من بنيكِ فأشيري عليَّ أيّهم أستعمل؟ فقالت : هذا فلان، أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر، وهذا فرخان أنفذ من سنان، وهذا شهريراز هو أحلم من كذا، فاستعمل أيّهم شئت. قال : فإنّي استعملتُ الحليم، فاستعمل شهريراز، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم فقتلهم وخرّب مدائنهم وقطع زيتونهم، وكان قيصر بعث رجلاً يدعى يحنس وبعث كسرى شهريراذ فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فَغَلَبت فارسُ الرومَ، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وأصحابه بمكّة فشقّ عليهم، وكان النبيّ صلّى الله عليه يكره أنْ يظهر الأمّيّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم. وفرح كفّار مكّة وشمتوا ولقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : إنّكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أُمّيون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم. فإنّكم إنْ قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم. فأنزل الله عزّ وجلّ[الم * غُلِبَتْ الرُّومُ] ( )، إلى آخر الآيات.
فخرج الصّدّيق إلى الكفّار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرّنَ الله أعينكم، فوالله ليظهرنّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبيُّنا، فقام إليه أُبيّ بن خلف الجمحي فقال : كذبت يا أبا فضيل، فقال له أبو بكر : أنتَ أكذب يا عدوّ الله،
فقال : اجعل بيننا أجلاً أُناحبُكَ عليه، والمناحبة : المراهنة على عشر قلائص منّي وعشر قلائص منك، فإنْ ظهرت الروم على فارس غرمتُ، وإنْ ظهرت فارس غرمتَ، ففعل ذلك وجعلوا الأجل ثلاث سنين.
فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره وذلك قبل تحريم القمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هكذا ذكرتُ، إنّما البضع ما بين ثلاث إلى التسع فزايدهُ في الخطر ومادّه في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أُبيّاً فقال : لعلَّك ندمت قال : لا،
قال : فتعال أزايدك في الخطر وأُمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين، قال : قد فعلت فلمّا خشي أُبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه فقال : إنّي أُخاف أن تخرج من مكّة فأقم لي كفيلاً، فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر.
فلمّا أراد أُبي بن خلف أن يخرج إلى أحُد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه قال : والله لا أدعك حتّى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثمّ خرج إلى أحُد، ثمّ رجع أُبيّ بن خلف فمات بمكّة من جُراحتِهِ التي جرحه رسول الله صلّى الله عليه وآله حين بارزه.
وظهرت الروم على فارس يوم الحُديبيّة وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم. هذا قول أكثر المفسِّرين.
وقال أبو سعيد الخدري ومقاتل : لمّا كان يوم بدر غلب المسلمون كفّار مكّة وأتاهم الخبر أنّ الروم قد غلبوا فارس ففرح المؤمنون بذلك. قال الشعبي : لم تمضِ تلك المدّة التي عقدوا المناحبة بينهم، أهل مكّة وصاحب قمارهم أبيّ بن خلف، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر، وذلك قبل تحريم القمار حتّى غلَبت الرومُ فارسَ وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فَقَمَر أبو بكر أُبيّاً، وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به يحمله إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم «تصدّق به.
وكان سبب غلبة الروم فارسَ على ما قال عكرمة وغيره أنّ شهريراز بعدما غلب الروم لم يزل يطأهم ويخرّب مدائنهم حتّى بلغ الخليج، فبينا أخوه فرخان جالس ذات يوم يشرب فقال لأصحابه : لقد رأيت كأنّي جالس على سرير كسرى، فبلغت كلمته كسرى فكتب إلى شهريراز : إذا أتاك كتابي فابعث إليّ برأس فرخان.
فكتب إليه : أيّها الملك إنّك لم تجد مثل فرخان، إنّ له نكاية وصوتاً في العدوّ فلا تفعل،
فكتب إليه : إنَّ في رجال فارس خَلَفاً منه فعجّل إليّ برأسهِ، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريداً إلى أهل فارس إنّي قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان. ثمّ دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وأمره فيها بقتل شهريراز وقال : إذا وليَ فرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطهِ، فلمّا قرأ شهريراز الكتاب قال : سمعاً وطاعة ونزل عن سريره وجلس فرخان فدفع إليه الصحيفة فقال : ائتوني بشهريراز فقدَّمه ليضرب عنقه. قال : لا تعجل حتّى أكتب وصيّتي، قال : نعم، قال : فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف، وقال : كلّ هذا راجعت فيه كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد، فَردَّ المُلْكَ إلى أخيه. فكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم : إنّ لي إليك حاجة لا يحملها البريد ولا تبلغها الصحف فألقني ولا تلقني إلاّ في خمسين روميّاً فأنّي ألقاك في خمسين فارسيّاً.
فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق وخاف أن يكون قد مُكرَ بهِ حتّى أتاه عيونه أنّه ليس معه إلاّ خمسون رجلاً ثمّ بسط لهما والتقيا في قبّة ديباج ضربت لهما ومع كلّ واحد منهما سكين، فدعيا بترجمان بينهما فقال شهريراز : إنّ الذين خرّبوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا ومكرنا وشجاعتنا، وإنّ كسرى حسدنا وأراد أنْ أقتل أخي فأَبيت.
ثمّ أمر أخي أن يقتلني. فقد خلعناه جميعاً فنحن نقاتله معك، قال : قد أصبتما ثمّ أشار أحدهما إلى صاحبه أنّ السرّ بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا، فقتلا الترجمان جميعاً بسكّينيهما (فأُديلت) الروم على فارس عند ذلك فأتبعوهم يقتلونهم ومات كسرى.
وجاء الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه يوم الحديبية ففرح ومن معه.
ومعلوم أن فرح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة لايختص بذات الواقعة بالذات بل لأنها أيضاَ مقدمة وطريق لسطوع فجر الإسلام وإنتشاره في بلاد فارس والروم قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ].
ندعو الباحثين والعلماء إلى اعداد دراسات خاصة بهذا العلم وما فيه من الإشراقات والبراهين العلمية التي تتعلق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم