قانون اصالة الحلية
لقد أنعم الله عزوجل على الإنسان ان هيئ له الأطعمة والأشربة ليتغذى بها وتكون سبباً للنمو والتوالد والتكاثر بين الناس، وهي من مقومات استدامة الخلافة في الأرض، وبها يدفع شبح الموت عن الإنسان، فهي شاهد على استدامة العناية الإلهية بالإنسان وانه سبحانه لم يخلقه ويتركه سدى، بل جعل في الأرض اسباب دوام حياته، لذا فان الطعام والشراب من ابهى واعظم آيات الله في كل زمان، ومن بديع النظام التكويني الأحسن الذي انعم الله به على الناس ولا يمكن ان يتصور أفضل واحسن منه، ومن الآيات ان ترى في كل زمان ومصر نباتات تخرج من غير جهد للإنسان في زراعتها وسقيها بل تخرج بواسطة المطر وطيب التربة، كما تجد الطيور والاسماك وبعض الحيوانات البرية قريبة من الإنسان وجزء من رزقه لتكون موضوعاً لاشباع حاجات النفس الشهوية وتدارك النقص في القوى البدنية، وسببا لدفع العلل والأمراض، ومانعاً من الأوبئة في آيات لاتعد ولا تحصى تبدو جلية في زمن الثورة العلمية والصناعية ومدى انتفاعها من الزراعات.
ثم أنعم الله عزوجل مرة اخرى على الناس فجعل الأصل في الأشياء الإباحة والحلية الا ان يرد دليل شرعي خاص على الحرمة في المطعوم او المأكول وما حرم منها محدود وقليل، ولم يحرم الا لأنه يضر بالأبدان وحال النفس والتكاثر والتناسل والوجود الإنساني في الأرض، كما في الخمر والميتة والدم مثلاً، والدراسات الطبية قديماً وحديثاً اكدت هذه الحقيقة واثبتت ان الحرمة في بعض الأشياء حاجة للناس، وجزء من قوام مصلحتهم في الأرض، لذا فان المحرمات تخرج عن الطيبات بالتخصص لعدم انطباق الاسم عليها واقعاً وشرعاً وعقلاً، ولا عبرة بتلذذ جماعة او افراد بها، ممن غلبت عليهم النفس الشهوية واتبعوا الباطل وأصروا على العناد، والنهي الشرعي كاشف عن قبحها ولزوم الإمتناع عنها، خصوصاً وان الله جعل الطيبات متيسرة للإنسان، وكافية لحاجته في كل زمان، اما الضرورة فلها أحكامها الخاصة لانها تقدر بقدرها من جهة الجواز بما يكفي لسد الرمق، وقانون أصالة الحلية مطلق لإباحة الأشياء ولقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وجاءت هذه الآية الكريمة لتؤكد هذا القانون وتدعو لأن يكون متعارفاً عند الأمم ومانعاً من الاجتهاد في منع الطيبات أي ان الله عزوجل تفضل على الناس مرة أخرى ومنع الناس من حجب نعمه تعالى وحرمان انفسهم وغيرهم من الطيبات في الأكل والملبس والمشرب، وهذه الآية مصداق لهذا الفضل الالهي وحجة للناس في التمتع بأصالة الإباحة في الأشياء وانحصار الحرمة في الخبائث، وقد تنعمت الأجيال السالفة من ذرية إسرائيل ما قبل اليهودية بأصالة الحلية، وجاءت هذه الآية توكيداً للرحمة الالهية ومصداقاً عملياً لعظيم فضله سبحانه وارادته الخير والسعادة لبني آدم عامة، والمليين منهم خاصة.
وهذا القانون وسيلة مباركة لجذب الإنسان لأحكام الشريعة وجعله منقاداً لاحكام الحلال والحرام مطلقاً وليس في الأطعمة فقط ولكن هذا الجذب لم يأت لإرهاق المكلف في الميادين الأخرى، لان أصالة الإباحة مطلقة في الأشياء الا ان يرد دليل خاص.
وهذه الآية وان جاءت بصيغة الخبر الا انها تكشف عن قوانين ثابتة في الأرض وتبين الصلة بين الأنبياء السابقين وذراريهم من جهة وبين المسلمين من جهة اخرى باتحاد الماكول والمشروب، وأكل الطيبات وهي من فضل الله عزوجل على اليهود حتى مابعد نزول القرآن بحثهم على الرجوع الى مناهج آبائهم في الأطعمة والأشربة، فالأصل ان يتبع الناس النبي محمداً في سنن احكام الحلال والحرام واكل الطيبات وإجتناب الخبائث ولكن هذا لا يمنع من التذكير بحياة الأنبياء والأجداد من الصالحين للاقتداء بهم، فالآية ليست للحجة على اليهود فحسب بل هي دعوة لهم ولغيرهم لتهذيب الأحكام وعدم القول بحرمة الأشياء من غير حجة شرعية.
لقد غاصت هذه الآية في أعـماق مجتمـعات المـليين وجذبــــــتهم الى
قوانين السماء وجعلتهم امام حقيقة كونية يدرك الإنسان فيها غبطته وسعادته الا وهي أصالة حلية الأطعمة والأشربة و عدم جواز تحريم بعضها من غير دليل شرعي كما تؤكد هذه الآية ان الحلية والحرمة امران يرجعان للشارع المقدس ولايخضعان لإجتهاد ومزاج الإنسان، وبين الفقه والطب في المقام عموم وخصوص من وجه اذ ان الفقه يبين الحلال والحرام من الأطعمة ومصاديق كل واحد منهما، فيشمل الحلال ما هو واجب ومستحب ومباح ومكروه، اما المحرم فيختص بفرد واحد من الأحكام التكليفية الخمسة وهو الحرمة التي تعني ان الشئ منهي عنه شرعاً ويؤثم من يأتيه.
اما علم الطب فانه يبين المنافع والمضار في تناول الاشياء وخواص كل منها، ومع التحقيق تجد توافقاً بين الشرع والطب في آية اعجازية تدل على الحكمة الإلهية المتعالية وتعاهد الله عزوجل للإنسان في وجوده في الأرض بالشرائع السماوية، وجذب الإنسان، والمراد من الطعام في الآية هو المأكولات مطلقاً، ولاتدخل فيه الخبائث التي توارثت أمم المليين حرمتها وإجتنابها، ولا يتعارض هذا الاستثناء مع عدم اطلاق الحلية الوارد في الآية الكريمة للتسالم عليه لغة وشرعاً وعقلاً.
وتخرج الخبائث من معنى الطعام لأن القدر المتيقن منه هو الإطعام اي الأكل والتناول والإدخال في الفم والحلقوم، والخبائث منهي عنها، واما شرعاً فللأحكام المتوارثة بين الأمم التي تزجر عنها، وهذا لا يمنع من الكثرة والقلة في جنس المحرمات عند الملل والشرائع ولا يعني هذا الإختلاف في الكم التباين، للتسالم على إجتناب الخبائث، وهل يمكن إرادة الحنطة من لفظ الطعام الوارد في الآية باعتبار انه ينصرف الى هذا المعنى في لغة الحجاز، الجواب: لا، من وجوه:
الأول: افادة إطلاق الطعام بلفظ (كل) الوارد في أول الآية وهو سور جامع وعنوان للموجبة الكلية.
الثاني: جاءت الآية بخصوص بني إسرائيل والأمم السالفة وليس الألفاظ المتعارفة في لغة الحجاز.
الثالث: الآية في مقام بيان الحلال وإطلاقه.
الرابع: من الثابت واليقيني عند جميع الأمم ان الحنطة حلال ومباحة.
الخامس: جاءت الآية للإحتجاج على بني إسرائيل وادعائهم حرمة بعض الأطعمة وامتداد هذه الحرمة بالإستصحاب القهقري وشمولها للأنبياء من بني إسرائيل وآباء اليهود قبل أيام موسى عليه السلام ونزول التوراة عليه.
فالمراد من الآية كل الأطعمة من الطيبات سواء من الزراعات او من صيد البر او صيد البحر الا ما دل الدليل انذاك على حرمته.
ووردت الآية بذكر بني إسرائيل على نحو الخصوص، وهو اعم من الأنبياء من ذرية اسحاق ويعقوب، فيشمل الأسباط وابناءهم وهم كالقبائل في ولد إسماعيل، وجاء الفصل والتمييز في الإسم بين ابناء يعقوب وابناء إسماعيل، والحجة في هذا الذكر هي تثبيت أصل الإباحة والحلية، وتوكيد حقيقة تفضيل بني إسرائيل في زمانهم لا يعني تحريم المباحات، ولا حلية المحرمات، بل المباحات والمحرمات على حالها، فلا يصح الخلط بينهما في المصاديق، أو الإتحاد في الحكم.
وورود الآية بلفظ (كل الطعام) شاهد آخر على اكرام بني إسرائيل من وجوه:
الأول: صيغة الإطلاق في الحلية وعدم الحرمة.
الثاني: لم يرد لفظ (كل الطعام) الا في هذه الآية وفي حليته لبني إسرائيل.
الثالث: تلقي بني إسرائيل أحكام الطعام والزاد وحليته من عند الله عز وجل، وتبين الآية ان آباء بني إسرائيل كانوا ملتزمين بهذه الأحكام والتقيد بها عنوان للشكر، وإنتفاع من النعمة، وعدم التقيد بسنن الإباحة والحلية تشديد على النفس، وتجرأ في الحكم.
فجاءت الآية لإرشاد بني إسرائيل الى هذه النعمة والرجوع الى عمل الآباء في الإنتفاع من النعم، وفيه دعوة للمسلمين بأخذ أحكام حلية الطعام او حرمته من القرآن والسنة النبوية، لذا تجد الإبتلاء في هذا الباب قليلاً عند المسلمين، وحتى الأمور المستحدثة والمترشحة عن تقارب البلدان والإرتقاء الصناعي يمكن ارجاعها إلى الأصول الثابتة بخصوص الحلية والتذكية.
وفي الآية حصانة للمسلمين دون التعدي عليهم في حلية الطعام فلولا هذه الآية لجادلهم اليهود مثلاً بان ما حرم عند موسى عليه السلام وانبياء بني إسرائيل مما يتقيد به اليهود يجب ان يكون محرماً عند المسلمين لوحدة أصل الشرائع، فجاءت هذه الآية حجة لإسكات الخصم واقامة الدليل بان الأصل هو حلية الأطعمة وان المسلمين على الأصل الذي كان عليه الأنبياء والأولياء والصالحون.
وتدل الآية على تعدد انواع الطيبات التي رزقها الله بني إسرائيل، ومن الطعام ما كان يأتيهم من السماء كالمن وطائر السلوى.
وجاء قيد ووصف بني إسرائيل للاشارة الى ان أحكام التوراة خاصة بهم، لذا ورد الإحتجاج بها فهي حجة عليهم، وليس لهم ان يحتجوا بها على المسلمين، مع انها خالية من التعارض مع القرآن وللإشارة الى الحنيفية والإسلام الذي يتغشى الأزمنة بأفرادها الطولية المتعددة.