بحث كلامي
لما جاءت الآيات القرآنية بتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الى البيت الحرام واتخاذه قبلة في صلاتهم وانكار اليهود للنسخ، وانكار تغيير القبلة من بيت المقدس الى مكة فجاءت هذه الآية لتخبر عن أمرين:
الأول: ملازمة الصلاة للإنسان في وجوده في الأرض.
الثاني: وجود قبلة يتوجه لها الأنبياء والناس جميعاً منذ أيام آدم عليه السلام، وأنها موجودة قبل وجود الإنسان ولو كانت القبلة بيت المقدس الذي بناه سليمان لطرحت شبهة وهي هل كان الأنبياء السابقون وأتباعهم يصلون الى جهة مخصوصة واذا لم تثبت تلك الجهة فقد يدعون عدم التمسك بها، كما في مسألة لحم الجزور وإدعائهم حرمته مع أنه مسألة شخصية تتعلق بالنبي يعقوب عليه السلام.
فجاءت هذه الآية لتؤكد ان القبلة قديمة قدم الإنسان، وتكون رداً استباقياً ضد الشبهات، ودفاعاً عن البيت ببيان موضوعيته في الحياة الإنسانية ووجوه العبادة، وفي وضع البيت بهذا الخصوص أمور:
الأول: فرض الصلاة على الإنسان قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ]( ).
الثاني: اقتران القبلة بفرض الصلاة، فهي شرط مصاحب لها وللوجود الإنساني، كي يعرف الإنسان قبلته وتكون مصداقاً من مصاديق الصراط المستقيم وعنواناً للسعي نحو دار الخلد.
الثالث: جاء تعيين القبلة بأمر من عند الله، وهذا الأمر مركب من وجوه:
الأول: وضع البيت الحرام.
الثاني: تعيين موضع البيت وإرشادهم اليه، ومن وجوه الإرشاد فرض أداء الحج ليكون هذا الفرض وسيلة عبادية لتثبيت جهة القبلة، وتعاهداً للصلاة، ودعوة لحفظ وحدة المسلمين في جميع انحاء الأرض وفي كل زمان من خلال أمرين:
الأول: أداء الحج وتوجه وفد الحاج من كل مصر من أقطار الأرض الى البيت الحرام.
الثاني: التوجه الى البيت الحرام في الصلاة اليومية، ليكون عمل المسلمين متحداً ومشابهاً لعمل من سبقهم من إخوانهم المسلمين، والحج واستقبال البيت في الصلاة عنوان وراثتهم الأرض.
قانون توسعة البيت
قالت الآية بان الحج واجب على الناس، وحق لله على أجيالهم المتعاقبة وخطاب تكليفي متجدد يتوجه لكل من يبلغ الرشد من الرجال والنساء كما ان الزواج وممانعة الزوج لا تمنع من إستدامة وبقاء تكليف المرأة بالحج، فلا عبرة لإذنه او عدمه في حجة الإسلام خاصة، والمدار على الإستطاعة والسرب.
ولو إستجاب الناس جميعاً وحضروا الى البيت فهل يمكن أداؤهم الحج في موسم واحد، الجواب من وجوه:
الأول: ورد الخطاب التكليفي عاماً ولكنه مقيد بالإستطاعة، وهو عنوان لا يتحقق للناس جميعاً.
الثاني: فرض الله على المكلف الحج مرة واحدة في العمر، وليس كل عام، فلا خطاب تكليفي لمن أدى الحج، نعم هو مستحب، وقد يأتي عنوان ثانوي آخر يجعله مقيماً في بلاده لا يتوجه لأداء الحج المستحب، ولو قلنا ان معدل عمر الإنسان الذي يستطيع معه أداء الحج هو ستون سنة، فان الذين يجب عليهم الحج هو واحد من ستين، بإعتبار ان الحج مرة واحدة في العمر، ويدخل في المجموع الذين لم يبلغوا الرشد، واذا اردنا عدم ادخالهم في المجموع فلابد ان النسبة تتغير، ويقل عدد الذين يجب عليهم الحج وتكون نحو واحد من ثمانين باعتبار وجوب الحج على الذكر عند إتمامه خمس عشرة سنة هلالية، والأنثى عند اتمامها تسع سنين ويضاف لها موضوع الإستطاعة، وهي من الكلي المشكك فقد تكون متيسرة للكثير من المسلمين وقد تكون متعذرة عليهم، وسقوط التكليف عن المكره وغير العاقل مما يجعل عدد الذين يجب عليهم الحج كل عام نحو معشار الناس في حال إسلامهم جميعاً، وهو عدد كبير أيضاً، والله العالم بكل شيء، ولابد ان البيت يسعهم، ومناسك الحج مناسبة لعددهم من غير حرج وعسر وضرر.
الثالث: صحيح ان الخطاب التكليفي بالحج متوجه للناس جميعاً، الا انه لا يتقوم الا بشرط الإسلام والنطق بالشهادتين.
الرابع: الإستطاعة عنوان عام تدخل تحته الأسباب الشخصية والمقدمات الغيرية، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار، وقاعدة نفي الحرج في الدين الا انها منفردة ومتحدة لا تصح ان تكون دليلاً على تقييد حكم الآية، وإمكان الإمتثال التام من الناس لأداء الحج، فلو جاء الذين يستطيعون الحج فان البيت يسعهم، وبإمكانهم أداء المناسك وهذا من الإعجاز في الآية ومصاديقها العملية، فالخطاب موجه للناس جميعاً، واذا أسلموا وجاء الذين يجب عليهم الحج الى البيت الحرام فانه يسعهم ويكفيهم، وهل تكون كثرة الناس سبباً لسقوط الاستطاعة، الجواب: لا، لأن الوظيفة الشرعية تقتضي توسعة البيت وبيان التخفيف في أداء المناسك والتنظيم بما يمنع الزحام الضار، أما التدافع فهو أمر متجدد ظاهر حتى من اسم بكة والفاظ آيات القرآن مثل قوله تعالى [فاذا أفضتم من عرفات]، كما انه ظاهر في هذه الآية، وفرض الحج وتقييده بالاستطاعة مع عدم التشديد بمصاديقها.
ومن الآيات فيه ان أداء الحج يتضمن في أحكامه أركاناً وافعالاً هي:
الأول: يبدأ الحج بالإحرام مع النية من المواقيت وهي خمسة وفي بعض الأخبار أنها عشرة تحيط بالحرم المكي، ونعتها بالمواقيت إشارة الى الوجوب بالإحرام منها، كما في الصلاة قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
وجاءت مواقيت الحج لتكون توقيتاً وتحديداً للأماكن المحدودة للإحرام، والتوقيت فيها لا يعني التعيين المكاني المحض بل يشمل التعيين الزماني ولكن على نحو الإجمال، وتقع هذه المواقيت على طرق القوافل ومسير الحاج، وهي بعيدة عن مكة ولكنها تستوعب الجهات الأربعة ليكون بإمكان القادم من أي مكان من العالم المرور عليها والإحرام منها، كما ان تعيين المواقيت لا يفيد الحصر، فيجوز الإحرام من محاذاة أحدها لمن لم يمر عليها، لصدق المحاذاة عرفاً وقاعدة نفي الحرج، والأمر سهل في هذا الزمان بالنسبة للقادمين عن طريق البر، لأن طرق التبليط تمر على المواقيت، كما كانت تمر عليها طرق القوافل من قبل، أما بالنسبة للقادم عن طريق الجو فيجوز ان يلبس ملابس الإحرام قبل ركوب الطائرة، ولكنه ينوي الإحرام ويأتي بالتلبية حين اخباره بكونه على الميقات او بمحاذاته، ويصلي ركعتي الإحرام فيما بعد، وقد بيناه في مسألة (232) من مناسك الحج.
والمواقيت بعيدة عن البيت الحرام بما يمنع من الزحام وأسبابه، فأحدها وهو ذو الحليفة يبعد عن مكة نحو أربعمائة كيلو متر، وهو ميقات أهل المدينة ومن يمر على طريقهم، فلا حرج ولا زحام في مواقيت الإحرام، وطرق السير وصولاً الى مكة المكرمة.
فمن الآيات في التخفيف في الحج انه لم يخصص ميقات واحد من جهة واحدة لتوجه الحاج الى مكة مع ما فيه من القدسية والخشوع لله والبدء بأداء مناسك الحج على نحو الإتحاد، بل تفضل الله وخفف عن الناس، ومنع الحرج في الإحرام والوصول الى مكة، كما جعل الدخول اليها من أي جهة كانت، وكذا بالنسبة لدخول البيت الحرام وان أستحب الدخول من باب السلام عند القدوم.
الثاني: المندوحة في أوان الإحرام، اذ انه يستمر لشهري شوال وذي القعدة، الى جانب بضعة أيام من شهر ذي الحجة، وفيه تخفيف ومنع للحرج وعدم اضطرار للإقامة في الميقات بانتظار أوان الإحرام والنفير والتوجه الى مكة، او التعجيل في السير وقطع المسافة للوصول الى الميقات عند الوقت المحدود بل جاء أوان الإحرام مستوعباً لأكثر من شهرين، ومتى ما جاء الحاج فبامكانه الإحرام والتوجه الى البيت الحرام من ساعته.
الثالث: الإحرام من الميقات والإحلال لإتيان عمرة التمتع، وبما ان أيام الإحرام متعددة وفيها سعة، فإن وفد الحاج يستطيعون أداء مناسك العمرة بيسر ومن غير مشقة كبيرة وان كان عددهم كبيراً خصوصاً بلحاظ ان الإستعدادات أخذت لإستيعاب وفد الحاج في أيام الحج الأكبر، وأركان العمرة بعد الإحرام هي الطواف والسعي بين الصفا والمروة.
الرابع: بعد السعي في العمرة يقصر المعتمر شعره، ويحل إحرامه ويبقى في مكة بانتظار أيام الحج والإحرام الى الحج، ووقت الإحرام للحج لا ينحصر بساعة مخصوصة فيجوز إتيانه في أشهر الحج ويمتد حتى يتضيق وقت الوقوف بعرفة.
الخامس: جواز الإحرام للحج من داخل مكة مطلقاً، وعدم حصره بالبيت الحرام وان كان مستحباً فيجوز ان يحرم الإنسان من مكان سكناه في مكة والتوجه مباشرة الى منى ثم الى أرض عرفة.
السادس: السعة في الطريق الى عرفة وعدم الضيق فيه.
السابع: بعد الإحرام يأتي الركن الثاني في الحج وهو الوقوف بعرفات وهو الموضع المبارك المعروف المجاور للحرم من جهة الجنوب، وقد تقدم ذكر سبعين وجهاً لتسميته عرفة( ).
الثامن: سعة موقف عرفة، وإمكان استيعابه للحاج ويبعد عن مكة نحو (21) كيلو متراً تقريباً، ومن الآيات ان أرضه مستوية وتحيط بها جبال على شكل قوس، وتبلغ مساحة عرفة نحو عشرة كيلو متر مربع ونصف الكيلو، وحدودها مبينة بعلامات خاصة، وهذه المساحة تكفي لوقوف وفد الحاج وان كثروا، مع الإلتفات الى أمور تساعد على التخفيف هي:
الأول: يمتد الوقوف الإختياري في عرفة من زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجة، أي من أذان الظهر ويستمر الى وقت الغروب.
الثاني: انشغال الحاج بالدعاء والتضرع لأنه يوم عبادة وسؤال الحاجات.
الثالث: امكان تهيئة الموضع المبارك ومنع دخول المركبات اليه، لإستيعاب وفد الحاج.
الرابع: وجود الخبر بضم الحاج حاجاته اليه، ليفسح المكان لغيره ويمنع من الزحام، ويتجنب الإنشغال بها.
التاسع: بعد عرفة يتوجه الحاج عند غروب ليلة العاشر من ذي الحجة الى المشعر الحرام، قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ]( )، والوقوف الإختياري من طلوع فجر يوم النحر الى طلوع الشمس منه، ومساحة مزدلفة أي المشعر الحرام أكبر من مساحة عرفة اذ تبلغ نحو 12.25 كم مربع.
العاشر: الوقوف بالمشعر الحرام عبادة من ليلة النحر الى طلوع الشمس وتجوز الإفاضة قبل الفجر خصوصاً لذوي الأعذار والنساء، والإفاضة من المشعر قبل الفجر بعد الوقوف فيه مع النية في ليلة النحر، ولا كفارة عليهم، والأولى ان تكون إفاضتهم بعد منتصف الليل مع جواز مرافقة المختار لذوي العذر تحفظاً عليه ونسب الى كثير من الفقهاء وجوب المبيت في المشعر تأسياً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الحادي عشر: صحة الوقوف في مزدلفة عن قيام او قعود او ركوب.
الثاني عشر: يجوز عند الضرورة والزحام الإرتفاع الى المأزمين، وهما جبلان متقابلان بينهما طريق، والمأزم كل طريق ضيق بين جبلين.
الثالث عشر: مع كثرة وفد الحاج وعلى فرض بلوغهم عشرين مليوناً او أكثر هل يجوز التوسعة في مزدلفة وازاحة بعض الجبل من حولها والحاقها بالمشعر، الجواب نعم ولكن لابد من وقوف كل حاج وحاجة في ارض مزدلفة والمشعر الحرام الحالية المبينة حدودها بعلامات خاصة، ولو مسمى الوقوف لأنه عبادة وللإحتياط والإمتثال وأداء الواجب العبادي بالوقوف في مزدلفة.
ولو دار الأمر بين توسعة أرض عرفة وبين بناء طابق أعلى فيها عند الضرورة فالأولى هو بناء طابق آخر على جزء من أرضها وان تعدد، مع تنبيه الحاج الى الاحتياط بتحقق صدق الوقوف على الأرض آناً ما من الوقوف الاختياري الذي يمتد من زوال الشمس الى غروبها.
الرابع عشر: سعة الطرق التي يفيض وينتقل الحاج بها من عرفة الى المشعر الحرام ومنه الى منى بالإضافة الى سعةالوقت، وامكان مد جسور وسكك حديدية وتوظيف التقنية الحديثة لإقامة وتنقل الحاج بما لا يضر بالقواعد الأساسية للحج.
الخامس عشر: يستحب التقاط حصى رمي الجمارمن مزدلفة، ويجوز من منى، ويجزي من الحرم مطلقاً ولو من وادي محسر.
السادس عشر: يجب على الحاج المبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة، والواجب المبيت فيها من أول الليل الى ان يمضي النصف منه، ويجوز البقاء في مكة للعبادة، ولا تعني العبادة هنا الإنقطاع التام الى الصلاة والدعاء وقراءة القرآن، بل يجوز قضاء حوائجه المتعارفة بما لا يخل بصبغة العبادة، وجوازالبقاء هنا تخفيف عن الحاج ومناسبة للدعاء ودفع للضرر ومنع للحرج وشدة الزحام.
السابع عشر: بعد الإفاضة الى منى يقوم الحاج برمي الجمار، ولا ترمى يوم النحر الا جمرة العقبة وهي تلي مكة، وفي اليوم الحادي عشر والثاني عشر يرمي الجمار الثلاث، كل جمرة بسبع حصيات وما يحصل من الزحام في الجمرات يمكن تداركه ببناء الجسور والأنفاق والطرق السريعة الى جانب الإنتفاع من التخفيف في المقام وهو على وجوه:
الأول: أوان الرمي للجمار ما بين طلوع الشمس الى غروبها، وهو وقت متسع.
الثاني: يجوز الرمي ليلاً لصاحب العذر والخائف والمريض، كما يجوز للمرأة والكبير ومن يخشى الزحام خصوصاً في هذه الأزمنة، وقد رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنساء والضعفاء ان يرموا الجمرة ليلاً.
الثالث: يجوز ان ينوب شخص واحد عن أشخاص كثيرين في الرمي.
الرابع: لا يشترط في النائب في رمي الجمار ان يكون محرماً، وهذه السعة في وقت وكيفية الرمي، وجواز الإنابة فيه تيسير وتخفيف ووسيلة لدفع الأذى وأضرار الزحام.
الثامن عشر: لا يجوز البناء وانشاء المؤسسات والمباني التي تضر بأداء المناسك وتسبب حرجاً وزحاماً للحاج في عرفة ومزدلفة ومنى الا مع الضرورة ووفق أحكامها وبقدرها.
التاسع عشر: المندوحة والسعة في منى والرجوع الى مكة، اذ انه على قسمين:
الأول: وهو النفر والرجوع الى مكة في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة ويكون بعد زوال الشمس ويجوز قبله للضرورة والحرج ومن ينفر فيه يسقط عنه الرمي في اليوم الثالث عشر، ويسمى يوم الثاني عشر يوم النفر الأول.
الثاني: النفر الثاني في اليوم الثالث عشر، ويستحب قبل الزوال لذا يسمى هذا اليوم يوم النفر الثاني.
وهذا التعدد في أوان النفر مركب وفيه سعة خصوصاً بلحاظ قرب منى عن مكة اذ انها لا تبعد عنها أكثر من ستة كيلو متراً وقد أتصلت بيوت مكة مع منى في هذا الزمان، ومع هذا القرب والتداخل فان وقت النفر والرجوع الى مكة يستغرق يومين، وفيه منع للزحام والأذى، كما أنه ينفع في استيعاب مكة لوفد الحاج من جديد، خصوصاً وان دخولهم هذا يختلف عن دخولهم اليها اول الحج، اذ انهم كانوا يتوافدون خلال أيام وأسابيع عديدة، أما في الرجوع من منى فأنهم ينفرون دفعة واحدة، ومن مكان قريب فجاء التخفيف في سعة الوقت بالإضافة الى تخفيف آخر وهو استقرارهم في أماكن سكناهم في مكة فأنهم في هذا النفر يرجعون الى إقامة ومسكن معروف مع استعداد للرحيل عند إكمال الطواف.
العشرون: من أركان الحج الطواف، وهو ذروة أعمال الحج وفيه عشق لواجب الوجود، وانجذاب للشاخص المبارك الذي جعله الله أمناً وبركة ورحمة، والطواف أكثر أماكن الزحام، فرمي الجمرات يمكن ان ينظم وتجوز فيه الإنابة، اما الطواف فيشهد زحاماً شديداً يوم النحر وهو العاشر من ذي الحجة، ومن الآيات التي تنفي الزحام وأسبابه ان الطواف معلوم من جهة المطاف به وهو البيت الحرام، اما أرض المطاف فيمكن توسعتها، وجدران المسجد ليست حائلاً دونها خصوصاً وان ارض المطاف الأصلية كانت بين البيت ومقام إبراهيم، ولكن يجوز الطواف خلف المقام عند الزحام لقاعدة لا ضرر ولا ضرار وقاعدة نفي الحرج، كما يجوز بناء عدة طوابق بما لا يتعدى سقف الكعبة ويصح الطواف في الطوابق العلوية عند عدم التمكن منه في الطابق الأرضي.
فنسك الطواف وتعيين المطاف به دون أرض الطواف آية اعجازية ومصداق من مصاديق هذه الآية وكتابة وفرض الحج على الناس وامكان استيعاب وفد الحاج وان كثروا لعدم حصر المطاف بين حدين، بل حده الأول معلوم، وحده الآخر مفتوح ويجوز تعدد طوابق الطواف وتخصيص طابق لعربات آلية حديثة تسع كل واحدة لكثيرين يطاف بها المرضى والذين يتعذر او يشق عليهم الطواف في نظام بهيج يدل على اليسر في أحكام الشريعة وما بين تخوم الأرض وعنان السماء قبلة، فيجوز النظر الى طوابق الطواف بعين السعة والتخفيف عند الحاجة والضرورة.
الحادي والعشرون: يسمى يوم العاشر من ذي الحجة يوم الحج الأكبر وفيه يؤدي الحاج مناسكه برمي جمرة العقبة وذبح الهدي وتقصير او حلق الشعر ليتوجه الى مكة، والأفضل ان يتوجه الى مكة للطواف والسعي ليومه، ويجوز ان يؤخر الطواف لليوم التالي أو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة وهما من أيام التشريق، والأول أولى ولكن شدة الزحام في حال وجودها لها أحكامها ويصح اتيان الطواف ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، كما يجوز اتيانه بعد أيام التشريق ضمن أيام شهر ذي الحجة، على كراهة، وبشرط ان لا يقرب الحاج النساء والطيب، فالسعة في الطواف وعدم تقييد المطاف بدائرة وحدود معلومة وسيلة وسبب ليكون قابلاً للتوسعة، وهو جزء من البركة في البيت التي جاءت في الآية السابقة بقوله تعالى [مُبَارَكًا] فمن وجوه البركة التخفيف في الأحكام وامكان استيعاب الحاج، وتيسير أدائهم المناسك سواء بالمندوحة في القواعد والأحكام الفقهية الخاصة بالحج او بأرض الواقع.
الثاني والعشرون: الثالث من أفعال العمرة والتاسع من أفعال الحج هو صلاة الطواف، وهي واجب في الطواف الواجب سواء كان للحج الواجب او المندوب، ولعمرة التمتع او العمرة المفردة، والأولى الإتيان بها حال الفراغ من الطواف وتتكون من ركعتين كصلاة الصبح ويتخير فيها المصلي بين الجهر والإخفات.
ويجب اتيانها خلف مقام إبراهيم مع الإمكان وذكرنا في رسالتنا العملية الموسومة مناسك الحج المسألة الآتية:
– يجب اتيان ركعتي طواف الفريضة خلف مقام إبراهيم عليه السلام مع الإمكان، ولا يتباعد عنه بحيث لا يصدق عليه انه عنده الا مع الزحام والعذر.
– لو تعارض أداء الصلاة خلف المقام مع الطواف وكثرة الطائفين فالأولوية للطواف ويكون الموضع حينئذ من المطاف ويرجع المصلون الى الخلف.
– يجوز ان يصلي ركعتي طواف الفريضة في أية ساعة ولو في الأوقات التي تكره فيها النوافل المبتدئة.
– لو تعذر عليه الصلاة خلف المقام او تعسر بسبب الزحام او نحوه وقد ضاق عليه الوقت صلاهما حيث ما تمكن من المسجد مع مراعاة الأقرب فالأقرب.
الثالث والعشرون: من أركان الحج السعي بين الصفا والمروة اللذين شرفهما الله بذكرهما بالإسم في القرآن قال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( )، والسعي بينهما هو العاشر من أفعال الحج.
والصفا جبل يقع على يمين الداخل الى المسعى من البيت الحرام، والمروة جبل منخفض يكون على يساره، وفي هذا الزمان يبدو وكأنهما جزءان من المسجد الحرام.
وسمي الصفا لأن آدم صفوة الله هبط عليه، والمروة لأن حواء هبطت عليه فاقتبس إسمه من إسم المرأة، والمسافة بينهما (400) متراً، وعدد أشواط السعي بينهما سبعة أشواط أربعة من الصفا الى المروة ذهاباً وثلاثة من المروة الى الصفا إياباً، فالمبدأ يكون بالصفا والختم بالمروة ويمكن توسعة المسعى عند الحاجة.
الرابع والعشرون: يجوز بناء طوابق متعددة بينهما واجتناب الإرتفاع والفارق الكبير بين الطابقين، والمدار على كفايتها واستيعابها لوفد الحاج، ويجوز السعي في الطابق غير الأرضي عند الزحام والضرورة، والأولى السعي في الأرضي المتعارف وهو الذي سعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس والعشرون: يجوز السعي بين الصفا والمروة راكباً ويمكن معه استخدام التقنية في المركبات ونظام سيرها.
السادس والعشرون: ليس من وقت مخصوص للسعي، الا انه يأتي بعد اكمال الطواف وركعتيه، ويتعلق بإتمامه الإحلال من العمرة او الحج.
ان الإعمار والتوسعة المستمرة في البيت الحرام حاجة وضرورة شرعية وعقلية وعرفية، ويجب ان يؤخذ معها بنظر الإعتبار امكان التوسعة الإضافية والإمتداد الأفقي والدائري اللاحق في عشرات ومئات السنين، وكذا بالنسبة للمسجد النبوي، وان كانت الحاجة فيه أقل درجة، والأولى ان يكون بيت مال خاص بالبيت الحرام وإعماره( ).
لقد وضع الله البيت الحرام للناس ولازم الإنسان في وجوده في الأرض، ولابد أن يحتل المرتبة الأولى في العناية والخدمات والتوسعة، وان تبعث عمارته البهجة والغبطة في النفوس، وتبين قدسيته وشأنه، من غير ان تكون باباً للإنشغال عن ذكره تعالى اثناء الطواف وأداء المناسك.
فوضع البيت للناس دعوة لهم لتعاهده وإجلاله وإكرامه وإظهاره بما يليق بشأنه، ولعل التوسعة والعناية به من عمومات قوله تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ]( )، فجاء الأمر متعدداَ في جهته ليشمل إبراهيم وإسماعيل، والتطهير من القذارة يأتي بعد تهيئة البيت وجعله يستوعب الذين يريدون الطواف والإعتكاف والصلاة، ولا بأس في الإنتفاع من التقنية الحديثة في توسعة البيت وتيسير اداء الحجاج والمعتمرين مناسكهم بشرط عدم الإخلال بالقواعد والسنن الشرعية والمتوارثة في الحج، ولو تعارضت التقنية معها فالإختيار للقواعد الشرعية، اذ لا يجوز التبديل والتغيير فيها.