قراءة في الإعلان عن أغنى رجل في التأريخ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

                                            العدد : 1501/15

                                    التاريخ:  21/10/2015

 

م/قراءة في الإعلان عن أغنى رجل في التأريخ

نشر موقع سيليبرتي نت وورث، وبلحاظ التضخم الزمني أن منسي موسى الأول ملك مالي في القرن الرابع عشر الميلادي هو أغنى رجل في تأريخ البشرية بثروة تقدر بالدولار في هذا الزمان بـ400 مليار دولار، متقدماً على عائلة إستبان ثراؤها منذ القرن الثامن عشر والتي تقدر ب 350 مليار دولار.

تولى منسي عرش مالي خلفاً لآبائه بعد أن إستعاد سونديانا ملك الأسرة بقصة عجيبة، إذ كان لأبيه الملك (ناري فامعان) إثنا عشر ولداً، ولما إستولى على ملكهم ملك الصوصو الوثني الساحر(سومادور) قتل هؤلاء الأولاد إلا سونديانا تركه بسبب ضعفه وعاهته لينشأ ويقتل الملك سوما دور بالحرب والمكر إذ أهدى له أخته زوجة لتطلع على أسراره، ولم يلتفت الملك سومادور إلى تحذير أمه بقولها أنه لا يمكن أن يقتل إلا بواسطة ظفر ديك أبيض.

وإشتهر الملك سنديانا (1230 – 1255)م بإسم ماري جاطة، ووسع دائرة ملكه وسلطانه، وهو المؤسس لمملكة مالي الإسلامية وشهدت المملكة في زمانه إزدهاراً وعمراناً وأولى عناية بالزراعة وأدخل زراعة القطن في بلاده وشجع على تربية المواشي والأنعام والمعادن والثروات، وكان يقود الجيوش بنفسه، ونظم المجتمع وفق طبقات وحسب المهن والإختصاص، وكان يأخذ أفراد الجيش عند الحاجة والنفير من طبقة الفلاحين والعمال الذين أسماهم (عبيد المجتمع) مع أنهم أحرار.

وبعد أن حكم سونديانا عشرين سنة أقام أحد أنصاره حفل رماية شكراً للملك على إحسانه له، فجاء سهم غارب من إبنه ليقتل الملك، وتوارث أبناؤه الملك وإستطاعوا ضبط المملكة وتوسعتها، خاصة في عهد(منسي مالي 1255 – 1270) ويسمى مانسا ومنسي ولي وحاجي كانجا مانسا موسى والذي إستولى على مناجم الذهب والملح والنحاس وتحكم بطرق النقل، وذكره إبن بطوطة في رحلته وهو أشهر ملوك مالي وكان حكمه بين 1312 – 1337)م أما ولادته ففي سنة 1280م وصارت مملكة مالي في زمانه بمساحة دول غربي أوربا مجتمعة، وإزدهرت مدينة (تمبكتو) ومدينة (غاو) في شمال مالي.

وسار السلطان منسي موسى لأداء الحج عن طريق مصر سنة 1324 في أيام الملك بيبرس بمصر , وقالوا إن السلطان حمل معه خمسين ألف أوقية من الذهب، وزعها على الناس هدايا وصدقات في مصر وبلاد الحجاز، وسميت حجته بـ(حجة الذهب) لكثرة ما أنفق منه قربة إلى الله تعالى، وكان محافظاً على الصلوات في أوقاتها , وعلى قراءة القرآن والذكر.

وطلبت حاشية بيبرس من منسي مالي أن يسجد للملك فهاله الأمر، وأبى الإستجابة، ولكنه رضخ في النهاية، وقال وهو يسجد إنما السجود لله وكان هذا الأمر بالسجود لملك مصر فعلاً مذموماً مطلقاً سواء بإكراههم للملك منسي أو عامة الرعية إذ لا يصح السجود إلا الله عز وجل.

وفي عصر سليمان، أرسل السلطان أبو عنان إبن بطوطة في مهمة إلى بلاد السودان سنة 1352 مع ثلاثة من أصحابه ودليل، وإستغرقت الرحلة أربعة عشر يوماً، ولم يحملوا معهم ذهباً أو فضة بل حملوا كمية من الملح والخرز لأنها بضائع يقايضها الناس بأي نوع من أنواع الطعام، مما يدل على عدم وجود رغبة شديدة عند الناس بالذهب.

وقيل أن الملك منسي قتل أمه خطأ , فأراد أن يكفر عن ذنبه فسأل الفقهاء فأشاروا عليه بأداء الحج والإستغفار عند البيت الحرام وعند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسؤال شفاعته , ولا دليل على هذا القول، إنما كان حج بيت الله الحرام نهجاً تعاهده وتوارثه ملوك مالي، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] وذكر أنه سار مع الملك ستون ألف جندي، وأمامه خمسمائة عبد، يحمل كل واحد منهم عصا من الذهب الخالص تزن خمسمائة مثقال من الذهب الخالص، وقيل كانت معه أربعة عشر ألف جارية يقمن بخدمته، وهذه الأرقام مبالغ فيها، إلا أن يكون أحضرهم لأداء فريضة الحج على نفقته، لذا قيل أن هناك مبالغات في تقدير قيمة الذهب كان يحملها السلطان موسى، وكذلك مبالغات في ضخامة المواكب.

وإنخفض مثقال الذهب في مصر بمرور منسي هذا عليها من خمس وعشرين درهماً إلى عشرين درهما وإستمر هذا الإنخفاض لمدة إثنتي عشرة سنة أخرى بعدها، مما يدل على أن سعر الذهب لم يكن مرتفعاً كثيراً كما هو في هذا الزمان , وفي أيام النبوة المباركة كان الدينار بعشرة دراهم فضة , والدينار مثقال ذهب عيار ثمان عشر حبة .

وقيل طاب له المقام في مكة وبقي بجوار بيت الله الحرام ثلاثة أشهر بعد الحج، ومع أن الملك كان يحمل معه أطناناً من الذهب فإنه أنفقها في سفره وهداياه وصدقاته، وفي طريق العودة إحتاج الملك إلى الإقتراض، فاستدان من تجار مصر، وجعل لهم في كل ثلاثمائة دينار سبعمائة دينار ربحاً، وهو من الربا إلا أن يكونوا هربوا منه بطريقة شرعية , وهل يصدق على الملك وحاشيته أنهم أبناء سبيل الجواب لا,     

وجلب الملك معه من الحجاز ومصر المهندسين والفقهاء والمدرسين لترتقي الحضارة والعمران في مالي وأنشأ جامعة سانكوري في بلاده، وشاعت رحلة الملك وما فيها من الإنفاق في بلاد أوربا كلها، لتكون لأفريقيا موضوعية في خططهم وسياساتهم والغايات الإستعمارية وظهرت مالي على الخرائط العالمية منها خريطة في عام 1339 أي بعد وفاة منسي موسى بقليل، وأهم هذه الخرائط(الخريطة القطالونية) أو (الأطلس القالوني) التي ظهرت سنة 1375م في زمن الملك شارل الخامس(1364 – 1380)م.

وبينت الخريطة صحراء أفريقيا، وفي وسطها رجل ملثم يركب جملاً وهو مسرع نحو ملك مهيب جالس على كرسيه وعلى رأسه تاج ، فقدم للراكب قطعة من ذهب، ومكتوب على الخريطة: هذا السيد الزنجي موسى مالي سيد زنوج غينيا، يكثر الذهب في بلاده حتى صار أغنى وأعظم ملك في جميع البلاد، وسمي الملك منسي (صديق البيض) لعلاقاته الخارجية، ونمت تجارة مالي مع دول العالم، 

ولا دليل على خريطة الأغنياء في التأريخ هذه التي ذكرها الموقع أعلاه وجعل منسي موسى أغنى رجل في التأريخ من جهات:

الأولى : لابد من الفصل والتمييز بين الملك الذي يتولى الحكم بدولة غنية وبين الأغنياء الذين يملكون الأموال، حتى على القول بأن الملك مفوض بالتصرف المطلق في أموال الدولة.

الثانية : لزوم الفصل بين الثروة الشخصية للملك، وأموال بيت المال التي في يده، نعم يمكن أن يكون هناك تقسيم آخر وهو أغنى الممالك في التأريخ أو أغنى الملوك، ولو تداخل المال الشخصي والملك العام الذي يتصرف به الملك على نحو الإطلاق فالأصل فيه هو أنه ملك للدولة، وتدل عليه صيرورة المال بعد الملك للذي يتولى الحكم والسلطان بعده وإن لم يكن من ورثته.

الثالثة : لحاظ قيمة الذهب في زمانه، فلم يكن آنذاك للذهب هذا الشأن الإقتصادي والقيمة المالية، وصيرورته الملاك وفرد التقييم وتقدير العملات، فقد وردت الروايات أن الملح كان في زمان منسي موسى بسعر الذهب.

ويمكن معرفة قيمة الذهب في زمانه بما تقدم من إنخفاض سعر مثقال الذهب في مصر إلى عشرين درهماً حين مرّ بها الملك منسي موسى، والدرهم هو 2.52 مثقالاً من الفضة، ولابد أن الذهب في ذات بلاد مالي أرخص كثيراً، وأنهم إذا صدروه إلى أوربا تذهب نسبة كبيرة من الأرباح إلى تجار الجملة والمفرد والصاغة.

الرابعة : وفي ملك قارون أيام موسى عليه السلام، ورد قوله تعالى[مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ]( 1)، وكل مفتاح لخزانة خاصة، وتحمل المفاتيح وحدها على سبعين بغلاً , وعن خيثمة قال: وجدت في الإِنجيل أن مفاتيح خزائن قارون كانت وقر ستين بغلاً غراً محجلةً، ما يزيد منها مفتاح على أصبع، لكل مفتاح كنز)( 2)، وربما هاجر الإنسان لطلب الخبز أو الماء والغذاء مع وجود الذهب في بيته وبلده، وقد يموت الملك وعنده الذهب يعرضه عوضاً وبدلاً لرغيف خبز فلا يجد من يبيعه أو يقايضه بالخبز أو الماء، فلابد من دراسة قواعد تعيين الأغنياء عند الدراسة المقارنة بين أهل الأزمان المتباعدة، والظاهر أن الترجيح لأثرياء الأزمنة المعاصرة، لقد قاس الموقع وفق الإستصحاب القهقري، وهو لم يثبت في علم الأصول.

ودأبت بعض المواقع على نشر أخبار بأن فلاناً أو فلاناً أذكى رجل في العالم، وفق إختبارات وضعها الإسترالي جاليسون بيتس، وليس بصحيح، وما من ضابطة كلية تعين الأذكى بخصوص فئة يخضعون لإختبارات مخصوصة وحدها لذا أغلقت لجنة غينيس للأرقام القياسية فئة الذكاء منذ أكثر من عشرين سنة لتخلفها عن تعيين الواقع ولإثارتها الجدل ونعتت بأنها عمل تجاري.

ويبقى الغنى بالتقوى والصلاح والقناعة والتسليم بلقاء الله، ومغادرة هذه الحياة الفانية بزينتها طوعاً أو وقهراً وفي التنزيل[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ].

أكتب هذا البيان وقد صدر الجزء الرابع والعشرون بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن) وكما نضبت ثروات مالي نخشى أن يأتي زمان تتحدث الأمم عن ثروة النفط التي عندنا , وكيف أننا لم ننتفع من معشارها. 

 

 

 

( 1)سورة القصص 76.

 

( 2)الدر المنثور 8/14.

 

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn