معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 100

المقدمة
الحمد لله الذي تفرد بالألوهية، وإختص لنفسه الوحدانية، ولم يشاركه أحد في الربوبية، وزاد من فضله فجعل الخلائق مجتمعة ومتفرقة محتاجة لرحمته، وليس من جنس أكثر من الإنس يحتاج إليها وينتفع منها، فرزقهم الخلافة في الأرض والنبوة والتنزيل وهداهم للإيمان وفتح لهم باب الإستغفار، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، ليكون طلب العفو والستر من الله مقدمة لفتح أبواب الجنان الثمانية لهم، ومناسبة لغلق أبواب جهنم السبعة عنهم.
وتحتمل النسبة بين الرحمة والنعمة الإلهية وجوهاً:
الأول: نسبة التساوي وأن النعمة هي ذاتها الرحمة، فكل فرد من أفراد الرحمة الإلهية هو نعمة، وكذا العكس فإن كل نعمة عامة أو خاصة هي رحمة من الله عز وجل , وآية البحث نعمة ورحمة من الله للمسلمين والناس جميعاً.
الثاني: نسبة العموم والخصوص المطلق، وهي على شعبتين:
الأولى: رحمة الله عز وجل أعم من النعم التي يتفضل بها.
الثانية: النعم الإلهية هي الأعم من الرحمة.
الثالث: نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء، وأخرى للإفتراق بينهما.
والصــحيح هو الشــعبة الأولى من الوجه الثانــي أعلاه، فرحــمة الله عز وجل أعم وهو ذو الفضل العظيم، الذي يدعو العباد لدعائه وسؤاله وللإستقامة لتنزل عليهم شآبيب الرحمة، ومن الآيات أن من أسماء الله عز وجل في القرآن (الرحيم) و(الرحمن)، ولم يرد إسم(المنعم) فيه مع ورود مفردات النعمة الإلهية في القرآن بصيغة الفعل والإسم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]( ).
ومع عظيم النعم الإلهية فإن مصاديق الرحمة الإلهية على المسلمين تتغشى عالم الدنيا والبرزخ والآخرة.
الحمد لله حمد الشاكرين وصلواته على محمد خاتم النبيين وعلى آله أجمعين، الحمد لله فائض الأنوار، مجلي الأبصار الذي تفضل علينا بهذا التفسير ليكون آية في العالمين، بتوالى أجزائه وتيسير طبعه مع لذة في المشقة التي ألاقيها في قيامي بمفردي بكتابة أجزائه ومراجعتها وتصحيحها ثم الإشراف على الطبع مع إنشغالي بتدريس البحث الخارج على فضلاء الحوزة العلمية في الفقه والأصول والتفسير والأخلاق بمدد ولطف من الله تعالى.
وأسأله سبحانه دوام النعمة بتوالي إصدار الأجزاء المباركة منه بما يحب ويرضى، فهذا الجزء من التفسير هو المائة ويقع في تفسير آية واحدة من سورة آل عمران خاصة بشطر من صفات المتقين، وتتضمن البشارة للمسلم بعدم مغادرته منازل الإيمان والتقوى وإن إرتكب معصية أو ظلم نفسه لأنه يتعقبها بإستحضار ذكر الله، واللجوء إليه بسلاح الإستغفار وسؤال العفو، قال سبحانه[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
وجاءت آيات القرآن بالوعيد على فعل المعصية وإرتكاب الذنوب، وليس من حصر لآيات الإنذار في المقام، وكل واحدة منها زاجر عن الهمّ بالمعصية، والسعي لمقدماتها، ومع هذا تضمنت آية البحث بعث السكينة في نفوس المســلمين والمســـلمات بتأمين سابق يتجلى بوعد كريم من الله عز وجل لهم بالجنة.
لتكون هذه الآية واقية من الكآبة وإمتلاء النفس بالحسرة، وفي التنزيل[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ]( ).
وفيها ترغيب للناس بدخول الإسلام، والإنتفاع من النعم الكثيرة التي خصّ الله عز وجل بها المسلمين، ليكون من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ومن معاني خروجهم في المقام التحلي بخصال التقوى، والمواظبة على ذكر الله، واللجوء إلى الإستغفار مطلقاً سواء عند ظلم النفس أو عند أداء عبادة وفعل معروف أو عند الإنزجار عن معصية.
لقد أخبرت الآية قبل السابقة عن تفضل الله عز وجل بخلق وتهيئة الجنة للمتقين الذين يخشون الله عز وجل من لدن آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة وحث المسلمين للمسارعة إليها، بقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وجاءت آية البحث ببيان اللطف الإلهي بالمسلمين، وعظيم نعمته عليهم بالعفو والستر عن السيئة التي يتعقبها الذكر والإستغفار، وهو من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
ليكون ذكــر المســلمين لله عز وجل عصمة وحصانة لهم من العقاب العاجل والآجل، ويكون الإستغفار تثبيتاً للنفوس والأبدان في منازل التقوى، إذ أن الإنسان مركب من روح وبدن، وكل منهما له موارد إبتلائه وهما مجتمعان يتعرضان للإفتتان والإختبار، قال تعالى[أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( )، وتتضمن هذه الآية رياضة النفس على إستدامة ذكر الله، وجعل اللسان رطباً بالإستغفار، والجوارح في سياحة في منازل التقوى ومواطن الصلاح
وجاءت السنة النبوية ببيان القرآن والكشف في هذا الباب، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: مَنْ أَتَمَّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ)( ).
وتجتمع في الآية الإلهيات والنبوة والمعاد والبشارة والإنذار وقضاء الله وعظيم إحسانه والوعد والوعيد، وتتجلى شذرات منه في هذا التفسير الذي يختص بها من بين آيات القرآن مع أنه قاصر ومتخلف عن إستظهار كنوز الآية العقائدية، ولكنه دعوة للعلماء للغوص في بحارها وإستنباط الأحكام منها، وإستخراج الدرر واللآلئ التي ترغب الناس بالإسلام، وتبعث الشوق في النفوس لإتيان العبادات والإنقطاع إلى التسبيح ومصاديق الذكر , قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).

قوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]الآية 135

الإعراب واللغة
الواو: حرف عطف وإستئناف، الذين: اسم موصول معطوف على الاسم الموصول في الآية السابقة وقيل معطوف على المتقين في قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
إذا: ظرف إستقبال متعلق بذكروا. فعلوا: فعل ماض مبني على الضم، واو الجماعة: فاعل، وجملة (فعلوا) في محل جر بالإضافة.
فاحشة: مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة على آخره، أو: حرف عطف، ظلموا: فعل ماض مبني على الضم، واو الجماعة: فاعل.
أنفسهم: مفعول به منصوب بالفتحة، والضمير(هم) مضاف إليه، ذكروا: فعل ماض مبني على الضم، واو الجماعة: فاعل.
اسم الجلالة: مفعول به منصوب وجملة (ذكروا الله) لا محل لها لأنها جواب حرف شرط غير جازم(إذا).
فاستغفروا: الفاء: حرف عطف، إستغفروا: فعل ماض مبني على الضم، لذنوبهم: جار ومجرور متعلقان بـ(إستغفروا): والضمير(هم) مضاف إليه.
ومن يغفر: الواو إستئنافية، وقيل حالية أو إعتراضية، من: اسم إستفهام في محل رفع مبتدأ، ويجري الإستفهام هنا مجرى النفي، والجملة خبرية وليست إستفهامية.
يغفر: فعل مضارع مرفوع بالضمة، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو)، ويعود لله عز وجل.
الذنوب: مفعول به منصوب.
إلا: أداة حصر، اسم الجلالة: بدل من الضمير المستتر في(يغفر) مرفوع بالضمة.
ولم يصروا: الواو: حرف عطف.
لم: حرف نفي وجزم وقلب.
يصروا: فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف النون.
واو الجماعة: فاعل.
على ما فعلوا: على: حرف جر، ما: اسم موصول مبني في محل جر متعلق بــ(يصروا)، فعلوا: مثل إعراب فعلوا الأول أعلاه وجملة(فعلوا) لا عمل لها وهي صلة الموصول(ما).
وهم يعلمون: الواو: حالية، هم: ضمير منفصل مبني في محل رفع مبتدأ، يعلمون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، وواو الجماعة: فاعل، وجملة يعلمون في محل خبر المبتدأ(هم) والجملة من المبتدأ والخبر(هم يعلمون) في محل نصب حال.
والفاحشة مؤنث الفاحش، ووزنها الصرفي فاعلة ووزن الفحشاء فعلاء، وهي اسم الفاحشة، وأفحش الرجل فحشاً، وفحش علينا(وكل أمر لم يوافق الحق فهو فاحشة)( )، ويكون الفحش في القول والفعل أو بأحدهما.
والفاحشة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، فسوء كلام المرأة مع زوجها الذي طلقها في أيام العدة من الفاحشة، قال تعالى[إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ]( )، لذا ورد في قراءة أبي(إلا أن يفحشن عليكم)( ).
والإستغفار سؤال العفو عن ذنب ومعصية، مأخوذ من الغفر، وهو الستر (ويقال: أصررت على الشيء: إذا أقمت ودمت عليه)( )، ويحتمل الإصرار على الذنب وجوهاً:
الأول: العزم على الذنب، وإن لم يفعله فيكفي في صدق الإصرار على الفعل إضماره في النفس.
الثاني: الإنغماس في الذنب والمعصية.
الثالث: التسويف والتأخير في الإستغفار.
الرابع: الإمتناع عن الإقلاع عن الذنب.
الخامس: عدم ترك الذنب في الواقع الخارجي، وإن كان يحدث نفسه ويلومها أثناء إرتكاب الذنب وقبله وبعده.
السادس: ملازمة المعصية والدوام عليها.
السابع: السعي لتحصيل مقدمات الفاحشة.
الثامن: بذل الوسع في إزاحة الموانع والحواجز التي تحول دون إرتكاب المعصية.
وكل الوجوه صحيحة عدا الوجه الأول فلا عبرة بالعزم وحده وكذا الثالث فإن المبادرة إلى الإستغفار من المعصية واجب وهو من خصال المتقين كما تدل عليه آية البحث إلا أن التسويف أعم من الإصرار مع وجوب المسارعة إلى الإستغفار، ولكن لا ملازمة بين تأخير التوبة وبين الإصرار على المعصية , نعم قد يفاجئ الحِمام الإنسان فيمنعه من الإستغفار والتوبة.
وبالنسبة للخامس أعلاه لا موضوعية للوم النفس الذي يصاحب الإقامة على المعصية، وهو ليس من أفراد الندم والإنابة.
وقال الأصمعي: أصر على الأمر: عزم والعزم ما عقد عليه القلب من أمر (وعن صاحب العين: أصَرَّ على الذنب: إذا لم يُقلع عنه)( ).
ولما نزل قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( )، قالوا: يا رسول الله: من يقوى على هذا؟ وشق عليهم، فنزلت[فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]( )، فنسخت هذه الآية( ).
ولكن يمكن الجمع بين الآيتين أعلاه وأن التقوى على مراتب متعددة وكل من الآيتين تبعث المسلمين على الإجتهاد في منازل التقوى، وتدعو المسلم إلى الإستغفار عند التقصير والتخلف عن الموجبة الكلية في مفاهيم التقوى وتغشيها لكل قول وفعل صادر منه، ليكون من الإستطاعة في باب التقوى بلحاظ آية البحث أمور:
الأول: لا تغادر صيغة التقوى المسلم عند فعله الفاحشة لأنه تعقبها بالإستغفار.
الثاني: ذكر الله عز وجل عند إرتكاب المعصية إنابة وإستجارة، وعن أنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ الْجَنَّةُ اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ. وَمَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ النَّارُ اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ)( ).
الثالث: يستطيع كل مسلم اللجوء إلى الذكر والإستغفار عند إرتكاب المعصية، مما يدل على أنها لا تكون برزخاً بينه وبين التقوى.
الرابع: من خصال المتقين أنهم لا يصرون على المعصية وفعل الفاحشة.
الخامس: يتدارك المسلم ظلمه لنفسه بالذكر والإستغفار، وفيه شهادة له بالتقوى، وهذا التدارك أمر يقدر عليه كل إنسان، ولكن المسلمين هم الذين فازوا وتقيدوا به.
التاسع: فعل المعصية والعزم على إرتكابها عندما تتهيء مقدماتها.
العاشر: الإصرار على عدم الإقرار بأن معصية مخصوصة من الذنوب والمعاصي، كما ورد في قوله تعالى في ذم قوم[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة , وهي على شعبتين:
الشعبة الأولى: صلة هذه الآية بالآيات السابقة لها, وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآية السابقة[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد الموضوع في الآيتين، وإرادة صفات المتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة، والصفات التي ذكرتها هذه الآية في طول الصفات التي ذكرتها الآية السابقة.
الثانية: من الإعجاز في نظم الآيات أن كلاً من الآيتين جاءت بذكر أربع صفات للمتقين، فجاءت الآية السابقة بمضامين وخصال المتقين وهي:
الأولى: الإنفاق في السراء والسعة.
الثانية: البذل والعطاء في حال الشدة والضراء.
الثالثة: حبس الغيظ، وتجرع الغضب وعدم إظهاره.
الرابعة: العفو عن الناس، وترك مجازاة الذي يستحق العقوبة، وجاءت هذه الآية بخصال حميدة أخرى هي:
الأولى: إستحضار المتقين لذكر الله عز وجل فيما إذا إرتكبوا فاحشة، ومن هذا الذكر التسليم بعظيم قدرته وواسع رحمته ومغفرته للذنوب، ( وعن رسول الله صلى عليه وآله وسلم قال: قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)( ).
الثانية: ذكر الله عند ظلمهم أنفسهم , وهذا الذكر إلتجاء وإستجارة به تعالى وشاهد على الندم والإنابة.
الثالثة: لجوء المتقين إلى الإستغفار، والخشية من الله عز وجل عند ذكره تعالى.
الرابعة: تنزه المسلمين عن الإصرار على الذنب والتقصير، وهذا التنزه من مصاديق التقوى، وتعاهد الإيمان في الأرض.
الخامسة: توقي أهل الإيمان من الكبائر والمعاصي المهلكة، قال تعالى[إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ]( ).
من خصائص الإنسان أنه محتاج لأنه ممكن , والحاجة لا تنفك عن الإمكان، وتتجلى ماهية الحاجة بلحاظ خلق وذات الإنسان، فهو ضعيف في خلقه وبدنه , قال تعالى[وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، وهو عاجز عن دفع الآفات والأخطار عنه، وقاصر عن معرفة ما يداهمه منها لأنه أمر من علم الغيب، وهو أسير جوعة، وصريع شبعة، وفي تدافع وصراع مستمر مع النفس الشهوية.
فجاءت آية السياق لبعثه في الخيرات، والعمل في ميادين الإحسان، وإن تخلف مرة عن منازل الصلاح والرفعة بإرتكاب الفاحشة أو ظلم النفس جاءت آية البحث، ليتعاهد مقامات التقوى بالذكر والإستغفار، وعن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة)( ).
السادسة: من خصال المؤمنين الترقي في درجات التقوى، فيكون في يومه أفضــل من أمســه، وكأنه كان في حــال من التقصـــير فيســتغفر الله عز وجل لما بلغه من مراتب التقوى والخشوع لله عز وجل وهذا الإستغفار نوع خضوع وخشوع لله، وفيه عصمة من الإستكبار.
السابعة: حضور الجنة في ذهن المؤمن عند الإقدام على فعل إذ جعلتها هذه الآيات هدفاً وغاية حميدة يجب أن يسعى إليها العباد مجتمعين ومتفرقين، وهذا الحضور تنزه من فعل السيئات ولجوء إلى الإستغفار والتوبة.
(عن قتادة قال: إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر، وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إجتنبوا الكبائر، وسددوا وأبشروا)( ).
المسألة الثالثة: تبين الآيتان حقيقة وهي أن الإيمان ملكة راسخة عند المتقين، فلا يغادرهم في اليوم والليلة , وفي العبادات والمعاملات، وهم إذا إرتكبوا إثماً فإن هذا الإثم لا يسلخ عنهم صفة الإيمان لأن التوبة والإنابة تتعقبه، وهي موجودة عندهم بالهداية للإيمان في الأصل، أي أنها ليست أمراً طارئاً على المسلم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أفضل الناس إيماناً من يعلم أن الله معه في كل مكان)( )، ومن المؤمنين من تولى وظيفة مراقبة قلبه لعلمه بأن الله عز وجل مطلع عليه، فيخشى الله عز وجل من خطور الرذيلة وفعل الفاحشة على قلبه، ويجتنب تدبير مقدمات فعلها إستحياء من الله عز وجل، قال تعالى في الثناء على نفسه[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
وهل تبييت فعل الفاحشة في النفس من ظلم النفس وفق مضامين هذه الآية , الجواب لها، فالقدر المتيقن منه المبرز الخارجي، وظهور القول على اللسان، أو الفعل على الجوارح، وفي قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ]( )، (أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله {إنَّ الذين اتقوا} قال: هم المؤمنون)( ).
فإن قلت إن فعل الذنب بذاته إنسلاخ وإبتعاد عن الإيمان، الجواب لا، من وجوه:
الأول: جاءت آية البحث لتبين رحمة الله عز وجل بعدم ترتب الأثر على الذنب الذي يتبعه العبد المؤمن بالإستغفار والتوبة، وعن رسول الله أنه قال: “لما خَلَقَ اللَّه الخَلْقَ كَتَبَ في كِتَابٍ، فهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إن رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي”)( ).
وقيدنا صبغة العبودية أعلاه بالإيمان لشرط قصد القربة في الإستغفار، وصدور التوبة من مراتب الهداية والإيمان بالله عز وجل والتصديق بالنبوة والتنزيل.
وتدل آية البحث على هذا القيد لأنها ذكرت الإستغفار ضمن خصال المتقين الذين أعدّ الله عز وجل لهم الجنة، لتكون كلاً من آية البحث والسياق إصلاحاً للمسلمين في النشأتين بحسن السمت والخلق الرفيع والتقوى في الدنيا، والخلود بتمام النعيم والبهجة في الآخرة، قال تعالى[وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا]( ).
والزمر: الجماعات والأفواج المتفرقة، واحدتها زمرة، لتفاوت المراتب بينهم كما في تقدم فيلق الشهداء، ولتعدد أبواب الجنة الثمانية الذي يدل بالدلالة التضمنية على تعدد الطريق إليها أو بحسب الطبقات والنظائر كالعلماء والزهاد والفقراء.
(عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على صورة أشد كوكب دري في السماء إضاءة)( ).
وقيل زمراً: ركبانا، ولكن ذات اللفظ ورد بخصوص سوق أهل النار، قال تعالى[وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا]( )، مما يدل على أن معناه أعم من الركوب.
وبين الآيتين أعلاه من سورة الزمر من جهة اللفظ عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء بينهما من جهات:
الأولى: لفظ سيق.
الثانية: لفظ(زمراً).
الثالثة: فتح الأبواب.
الرابعة: (حتى إذا جاءوها).
الخامسة: صيغة نائب الفاعل في قوله تعالى(فتحت أبوابها).
السادسة: قوله تعالى(وقال لهم خزنتها).
أما مادة الإفتراق فمن جهات:
الأولى: التباين والتناقض بين الثواب العظيم للمتقين الذي يتجلى بدخول الجنة، والعذاب الأليم للكفار بالإقامة في النار.
الثانية: الخلود بالنسبة لأهل الجنة بقوله تعالى[فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ]( )، وإن ذكرت آيات أخرى خلود الكافرين في النار, وفيه نكتة وآية من رحمة الله بالناس وهي إذا ذكر الوعد والوعيد، والجنة والنار، جاء البيان بالخلود في النعيم للمتقين لترغيب الناس بالإيمان.
الثالثة: بيان الملازمة بين طاعة الله واللبث الدائم في النعيم، والملازمة بين الكفر والعذاب الأليم.
الرابعة: مع إتحاد لفظ(سيق) في الآيتين فإنه جاء للوعيد ولبيان ذلة وهوان الكفار بالتعجيل بعقوبتهم، وسوق المتقين للإسراع في إكرامهم، ولأن الملائكة بإنتظارهم مرحبين بهم.
الخامسة: زيادة واو العطف في قوله تعالى[وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا]( ).
وذكرت في ماهية واو العطف أعلاه وجوه:
الأول: الواو فيه واو الحال ومجازه: وقد فتحت أبوابها( ).
الثاني: زيدت الواو لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب الجحيم سبعة، وتسمى واو الثمانية، وأستدل بقوله تعالى في سورة الكهف[وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ]( )، وإن قريشاً إذا وصلوا إلى العدد ثمانية يضيفون واواً يقولون ستة، سبعة، وثمانية.
بلحاظ أن سبعة عدد تام، وللإخبار ببدء عدد جديد مستأنف , قال ابن عطية : ذكرها ابن خالويه في مناظرته لأبي علي الفارسي في قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا]( ) , وأنكرها الفارسي .
وإستدل بعضهم عليه بالواو في(والناهون) من قوله تعالى[التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين]( ). إشارة لكون (والناهون) صفة ثامنة للمؤمنين في الآية أعلاه , فأضيفت لها (الواو) .
وقيل وقوع هذه الواوات مصادفة غريبة، (وتنبُّه أولئك إلى تلك المصادفة تنبه لطيف ولكنه لا طائل تحته في معاني القرآن بَلْهَ بلاغتِه، وقد زينه ابن هشام في مغني اللبيب)( ).
ولكن القرآن خال من الصدفة والإتفاق، وكل حرف ومسألة في سياقه ونظمه آية إعجازية لها دلالات، وخزينة تدعو لإستخراج الكنوز العلمية منها.
الثالث: الواو لعطف جملة على جملة، والجواب محذوف.
الرابع: الواو زائدة، وقاله الكوفيون، وهو خطأ عند البصريين( )، وفائدة الواو الزائدة التوكيد.
وجاءت زيادة الواو لوجوه إعجازية أخرى منها:
الأول: زيادة المعنى والدلالة الذي تدل عليه زيادة المباني والحروف.
الثاني: الإخبار بأن الجنة كالكنز الذي لا يفتح إلا لأهله، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث: إكرام المؤمنين بتهيئتهم لدخول الجنة، وعن الإمام علي عليه السلام: يساق الذين إتقوا ربهم إلى الجنة زمراً، وتصحون فلا تحرضون أبداً) ( ).
الرابع: إرادة نكتة وهي أن المتقين يدخلون إلى الجنة بفضل الله، وعفوه ومغفرته، فهناك ملازمة بين وصول الكفار إلى أبواب جهنم السبعة وفتحها لهم حين وصولهم لأنهم يستحقون العذاب الأليم.
أما بالنسبة للجنة فلا ملازمة بين وصول المتقين إليها وفتح أبوابها، بل أن فتحها نعمة وأمر مستحدث بفضل الله عز وجل ويتجلى بمضاعفة الحسنات ومحو السيئات , لذا يجدد المؤمنون في الآخرة الشكر لله عز وجل على لطفه ومصداق الوعد الكريم الذي تفضل به كما في الآية التالية[وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ]( ).
الخامس: إتصاف أبواب الجنة بأنها مغلقة، لم يدخلها إلا المتقون ثواباً لأعمالهم ورحمة من الله، وورد عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: للجنة ثمانية أبواب سبعة مغلقة، وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه)( ).
وفي هذا الباب المفتوح مسائل:
الأولى: الترغيب بالتوبة والإنابة الذي جاءت آية البحث بالحث عليها عند فعل الفاحشة أو ظلم النفس والتعدي.
الثانية: الزجر عن الإصرار على المعصية لما فيه من الوقوع في التهلكة قال تعالى[وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( ).
ويمكن أن يستدل بقوله تعالى(وفتحت أبوابها) على أن الجنة التي خلق فيها آدم وسجد له الملائكة فيها ليست جنة الآخرة، بل هي جنة أخرى ويدل عليه قوله تعالى[وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ]( ).
السادس: يفيد الجمع بين الآيتين أعلاه من سورة الزمر الإنذار والوعيد للكفار , وأنه ليس من إمهال لهم عند باب النار للإستغفار والإنابة، وليس من إستثناء في دخولهم النار، فكل من يساق إلى النار يجدها بإنتظاره إلا أن يشاء الله.
ويدل هذا الإنذار في مفهومه على بعث المسلمين على الإجتهاد في طاعة الله، وبذل الوسع لبلوغ مراتب التقوى، قال تعالى[أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( ).
السابع: تأكيد التباين الرتبي بين إعداد الجنة في قوله تعالى قبل آيتين[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] وبين فتحها أوان دخول المتقين إليها.
الثامن: أختلف في إفادة واو العطف الترتيب أو عدمه، وجاب هذه الآية لتفيد القرينة على الترتيب وإن الجنة لم تفتح أبوابها حال وصول المتقين لها، فكما أعدّها الله عز وجل للمتقين، فأنها لا تفتح إلا بأمر من الله وبعد وصول المتقين لها، وليس من حال وصولها لهم.
الثاني: من خصال المتقين أن الذنب أمر طارئ عليهم , وإن وقع من بعضهم فيكون على نحو القضية الشخصية والفرد النادر الذي يتعقبه الإستغفار.
الثالث: مضامين آية السياق وما فيها من المواظبة على الصالحات واقية من إرتكاب الذنوب والمعاصي، لذا جاءت آية البحث بصيغة الجملة الشرطية التي تتضمن معنى الإحتمال , وتدل صفة التقوى التي يتحلى بها أهل هذه الآية على ندرة وقلة هذا الإحتمال.
الرابع: ليس من فترة بين فعل المؤمن الذنب ولجوئه إلى التوبة والإنابة وهو الذي تدل عليه آية البحث، وما تؤكده من صفة المتقين بالملازمة بين الذنب الطارئ وبين الإستغفار.
الخامس: عدم إنسلاخ المسلم عن منازل الإيمان عند فعل الفاحشة أو ظلمه لنفسه إنما هو بلطف وفضل من الله عز وجل , والذي تشير إليه هذه الآية الكريمة التي تتضمن قبول الإستغفار.
قانون الإستغفار واقية من الغضب
من خصال المسلمين المواظبة على الإستغفار عند إرتكاب الذنب ومطلقاً، وحتى عند إتيان الفعل العبادي الذي هو خير محض، وفيه مسائل:
الأولى: تنمية ملكة السكينة في النفس.
الثانية: تجلي معاني الخشوع والخشية من الله على الجوارح والأفعال قال تعالى[الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ]( )، وسئل الإمام علي عليه السلام عن هذه الآية فقال: الخشوع في القلب، وأن تلين كتفك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك)( ) .
الثالث : إحراز سبيل من سبل السعي إلى الجنة التي جاءت آية البحث بالترغيب فيها والإخبار عن صفات الذين أعدها الله عز وجل لهم، إذ أن الجوارح تُسأل عن أفعال صاحبها وتشهد عليه طوعاً وقهراً، قال تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
وعن ثوبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا إنصرف من صلاته إستغفر ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)( ) وفي الحديث مسائل( ):
الأولى: إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإستغفار تعقيباً لكل فرض من الصلاة.
الثانية: تكرار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإستغفار ثلاث مرات، وفيه تنمية لملكة حب الإستغفار عند المسلمين.
الثالثة: مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار بصوت مسموع، بحيث يسمعه أصحابه مما يدل على إرادة تعليمهم وإرشادهم وتلقينهم لصيغة الإستغفار، وجعل المسلمين يتوارثونه موضوعاً، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الرابعة: من خصائص الإستغفار عقب الصلاة أنه بحضور المؤمنين، وسماعهم له وهم في حال خشوع وإنقطاع إلى الله عز وجل.
الخامسة: تأسيس مدرسة الإستغفار لتبقى إلى يوم القيامة بتعاهد المسلمين لها، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادسة: وراثة المسلمين لسنن ونهج الإستغفار الذي دأب عليه الأنبياء.
السابعة: إنه من الشواهد على مصاحبة الإستغفار للإنسان في الحياة الدنيا، فما دامت هناك حياة إنسانية على الأرض فالإستغفار يصعد إلى السماء ، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: المسلمون باقون مادامت الدنيا.
الصغرى: الإستغفار ملازم للمسلمين.
النتيجة: الإستغفار باق ما دامت الدنيا.
لقد إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وجاء تأديب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على الإستغفار وتلقيهم له بالقبول والمحاكاة بشوق وعشق ورجاء الثواب ليكون من علم الله عز وجل وإحتجاجه تعالى على الملائكة الوارد في الآية أعلاه.
الثامنة: بعث المسلمين على المواظبة على الإستغفار، وفي منافع هذه المواظبة وجوه:
الأول: إنها محبوبة ذاتاً.
الثاني: فيها واقية من فعل السيئات.
الثالث: أفراد الإستغفار الراتب سبيل للعفو ومحو الذنوب.
الرابع: إنه من الشواهد على وراثة المسلمين لنهج الأنبياء وما أوصوا به أممهم وأنصارهم، وجاء في التنزيل حكاية عن هود عليه السلام[وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا]( ).
التاسعة: جاء إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الثناء على الله عز وجل، والتسليم بعظيم مقام الربوبية.
العاشرة: دعوة المسلمين للإلحاح في الدعاء والإستغفار عند الإنتهاء من الصلاة خاصة وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكرر الإستغفار، قال تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الحادية عشرة: صيرورة الإستغفار أمراً قريباً من المسلم في كل الأحوال، فإذا فعل فاحشة إستغفر الله عز وجل، وإذا جاء بواجب أو مندوب إستغفر الله سبحانه.
الثانية عشرة: من منافع المواظبة على الإستغفار الحصانة من الهمّ بالفاحشة، وإذا همّ المسلم بها فإن الإستغفار برزخ دون حدوث مصداق هذا الهم في الواقع الخارجي، قال تعالى في يوسف عليه السلام[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]( ).
(وعن الضحاك في الهم الوارد في الآية أعلاه قال: هَمَّ بِفَاحِشَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا”)( ).
وعن الأمام الرضا عليه السلام، وقد سأله المأمون عن عصمة الأنبياء(لقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها كما همت به لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه)( ).
الثالثة عشرة: في اللجوء إلى الإستغفار بعد الصلاة واقية من فعل الفاحشة.
الثاني: صلة[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( )، بهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: إتصاف المسلمين بإستدامة إنفاقهم في سبيل الله، وإنبساطه على الأيام كلها، وهو من معاني الفعل المضارع(ينفقون) بينما جاء ذكرهم لفعل الفاحشة على نحو الشرط والإحتمال .
وهل يؤثر الإنفاق في فعل الفاحشة قلة وكثرة , أو وجوداً و عدماً، الجواب نعم، فإنه برزخ دون إتيان الفاحشة من وجوه:
الأول: إرادة قصد القربة في الإنفاق تهذيب للنفس، وسعي نحو منازل التقوى.
الثاني: شيوع الإنفاق والبذل بين المسلمين وسيلة لإصلاح المجتمعات ونفرة النفوس من المعاصي والفواحش.
الثالث: يقترن إقبال المسلمين على الإنفاق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون في بعض مصاديقه من رشحات الأمر والنهي, وموضوعهما أعم فيشمل تعاون المسلمين في التناهي عن الفاحشة والمعصية.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا حسد إلا في إثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلط الله على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)( ).
الرابع: جاءت آيات القرآن بتأكيد حقيقة وهي أن العفو التام والمتجدد مع القدرة المطلقة من صفات الله عز وجل، قال سبحانه[فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا]( )، وتفضل سبحانه وبيّن في هذه الآيات صفات المتقين ومنها الدعوة إلى العفو عن الناس على نحو الإطلاق في حال السلم والحرب.
والمراد أن المسلم يعفو عن الآخرين، وهو في حال ضعف وفي حال العز والقوة رجاء رحمة الله، وتحلياً بالصبر والأخلاق الحميدة، قال تعالى[وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
وفيه تنمية لملكة الصبر عند المسلم، ومنه الصبر عن الفاحشة والمعصية، لما فيه من زجر للنفس الأمارة بالسوء، وإمتناع عن الشهوات الذي هو مطلوب بذاته ويكون مقدمة للصبر على الطاعات وأداء الواجبات، ومن عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
الثانية: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: الذين ينفقون في السراء والضراء إذا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله).
الثاني: إن الكاظمين الغيظ إذا فعلوا فاحشة……..).
الثالث: إن العافين عن الناس إذا فعلوا فاحشة……..).
الرابع: الذين ينفقون في السراء والضراء ذكروا الله فإستغفروا لذنوبهم).
وفيه نكتة وهي أن الإنفاق في سبيل الله مناسبة لذكره وشكره تعالى على نعمة مركبة من وجوه:
الأول: وجود مادة الإنفاق عند المسلم وهي المال.
الثاني: الإطلاق الحالي في المبادرة إلى الإنفاق.
الثالث: الإمتثال لأمر الله تعالى بالإنفاق، قال تعالى[وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ]( ).
الرابع: الإنفاق أمارة على الإيمان والتصديق بنزول القرآن من عند الله عز وجل.
الخامس: الفوز بمرتبة التقوى , لأن الإنفاق من أهم مصاديقها.
السادس: تعاون وإشتراك المسلمين في الإنفاق، وتحقق الإنفاق العام من الجماعة والأمة، والإنفاق من الأفراد متفرقين، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
وإذا كان الإنفاق طريقاً وسبباً للذكر والإستغفار، والذكر سبب للإنفاق فهل يلزم الدور، الجواب لا، لأن الدور الباطل هو الذي يؤخذ الشيء في بيان ذاته بذاته وعينه، أما في المقام فإن كل فرد ومصداق من الذكر والإستغفار يرجع إلى فرد آخر متجدد ولو من ذات النوع.
الخامس: الذين ينفقون في السراء والضراء لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون).
السادس: الذين ذكروا فإستغفروا لذنوبهم وينفقون في السراء والضراء, وكأن الإستغفار طريق ووسيلة لإستدامة وإتصال الإنفاق .
الثالثة: مع مجيء هذه الآية والآية السابقة في بيان خصال المتقين فإن التداخل والأثر المتبادل بين هذه الخصال غير خفي، فالإنفاق في سبيل الله مصداق لذكر الله عز وجل ومقدمة لذكره عند فعل الفاحشة، إذ أن الإنفاق يأتي بقصد القربة إلى الله عز وجل فيكون باعثاً للذكر عند مداهمة أسباب المعصية، قال تعالى[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]( ).
الرابعة: الذين يقومون ببذل المال في سبيل الله يعلمون بأمور:
الأول: إن الله عز وجل يخلف ما ينفقه المسلم خيراً في الدنيا.
وهل يشمل الإنفاق ما يبذله المسلم على عياله في معاشهم ومؤونتهم الجواب نعم، وهذا الشمول نعمة إضافية ولطف من عند الله عز وجل، وعن عبد الله بن مسعود عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن المسلم إذا أنفق على أهله كانت له صدقة)( ).
الثاني: الفوز بالأجر والثواب الأخروي بالإنفاق والبذل في سبيل الله.
الثالث: الإنفاق عن قصد القربة، وإرادة مرضاة الله عز وجل، مع إجتناب الرياء الذي قد يحبط الثواب.
الرابع: يعلم المسلمون بالنفع العظيم للإنفاق في باب الهداية والصلاح.
الخامس: يدرك المسلمون بفخر وإعتزاز أنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ومن مصاديق تفضيل المسلمين في المقام وخروجهم للناس إنفاقهم في حال السراء والضراء.
السادس: بيان سمو منزلة المسلمين في ميادين المعرفة والتحصيل لورود قوله تعالى(وهم يعلمون) على نحو الجملة الحالية.
السابع: يعلم المسلمون أن الإنفاق في الضراء والشدة سبب لدفعها وصرف حال العسر عن المسلمين ليكون علمهم هذا مترشحاً عن الثقة بالله، وحسن التوكل عليه، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
الثامن: من علم المسلمين تفقههم في أمور الدين والدنيا، ومعرفتهم بأن البخل والشح آفة تضر الفرد والجماعة والملة فيتنزهون عنه بالإنفاق في حال السراء والضراء.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إياكم والشح فأنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)( ).
يدرك المسلمون حقيقة وهي لزوم الإتحاد والتآخي وإشاعة مفاهيم المودة المترشحة عن الإيمان كصلة ذات ضوابط ومنهاج سماوي يتغشى المسلمين في الصلات والمعاملات فيما بينهم، ونبذ أسباب الفرقة ومقدمات الشحناء والبغضاء بينهم.
وفي قوله تعالى[لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، (ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كُنَّا فِى غَزَاةٍ فَكَسَعَ( ) رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِىُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِىُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) ( ).
أي إتركوا النداء والمناجاة بها، ومع أنها ليس من حمية الجاهلية فهي عصبية مترشحة عن غضب ذي صبغة أجنبية عن الإسلام وصفات المؤمنين، فجاء هي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها من مصاديق السكينة في قوله تعالى[إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا]( ).
إن كلاً من الهجرة والنصرة من خصال الإيمان وباب للفخر والعز إلى يوم القيامة، والقدر المتيقن من النهي أعلاه الوارد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو بخصوص المناجاة في الفتنة، ولزوم تركها، وقيل المراد تركها مطلقاً، لأن الأمر المطلق يقتضي الوجوب.
التاسع: إتصاف نفع الإنفاق في الدنيا حتى بعد وفاة المنفق، وترشح هذا النفع على مقامه في الآخرة ثواباً وأجراً.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: خير ما يخلف المرء بعد موته ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها ، وعلم يعمل به من بعده)( ).
العاشر: الإنفاق مصداق عملي لما ورد في هذه الآية[ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، من وجوه:
الأول: يدل بالدلالة التضمنية على إستحضار ذكر لله.
الثاني: فيه تضرع بالفعل والإنابة ومبادرة الصلاح لرجاء العفو من الله عز وجل.
الثالث: الإنفاق إستجارة وتوسل بطاعة الله عز وجل للأمن من عقابه.
الرابع: فيه إستعانة بفعل الصالحات، وقهر للشح عن النفس.
الخامس: إنه من عمومات الصبر في قوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
الخامسة: يحتمل قوله تعالى[الذين ينفقون في السراء والضراء] وجوهاً:
الأول: صيرورة المسلمين في حال سراء أو ضراء على نحو العموم المجموعي، كما لو كانوا في بداية الإسلام في حال فقر وعوز، وبعد الفتوحات أخذت تترى عليهم الغنائم فصاروا في حال غنى، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الثاني: التعدد والتباين في حال المسلمين في زمان واحد، فشطر منهم في حال سعة، وشطر في حال ضيق وشدة.
الثالث: غلبة حال السراء زماناً ومكاناً ونسبة بين المسلمين لأن الآية جاءت بالإخبار عن إنفاقهم مطلقاً، ولتقديم الإنفاق في السراء.
والصحيح هو الثاني والثالث، وليس من مصداق واقعي على الوجه الأول أعلاه إذ تتضمن الآية البشارة بالسعة والمندوحة عند المسلمين، لتكون إحترازاً حاضراً ومتقدماً زماناً للمسلمين من فعل الفاحشة عند إقبال الدنيا عليهم، ومن علل هذا الإقبال تعاهدهم للإنفاق في حال السراء والضراء لمافيه من معاني الإعلان بالتقيد بمفاهيم التقوى.
وعن خثيمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: دخلت أنا وأبي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لأبي: هذا إبنك، قال: نعم، قال: ما إسمه، قال: الحباب قال : الحباب شيطان ولكن هو عبد الرحمن فقلت: إن لي أنواعا من المال أتصدق منه وأعتق منه وأحمل ولكني أنفقه فيذهب ثم أفيد.
قال: أما علمت أن ملكا ينادي اللهم اجعل لمال منفق خلفا، واجعل لمال ممسك تلفا قال:
قلت: يا رسول الله بما أوتر قال: بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)( ).
السادسة: تتحد آية البحث والسياق بأمور:
الأول: تعدد الخصال الحميدة للمسلمين في أمور الدين والدنيا، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الثاني: لغة الجمع في كل منهما.
الثالث: إتحاد الموضوع، وإرادة صفات المتقين الذين أعدّ الله عز وجل لهم الجنة.
السابعة: أختتمت آية السياق بقوله تعالى(والله يحب المحسنين) لتأكيد مسألة وهي أن من الخصال الحميدة في الآية الإحسان للذات والغير، ترى هل مضامين آية البحث من الإحسان للذات والغير، الجواب نعم من وجوه:
الأول: ذكر الله عز وجل.
الثاني: الإستغفار من الذنب.
الثالث: التنزه عن الإصرار على الذنب.
الرابع: المعرفة والعلم بأحكام الشريعة والتمييز بين الحلال والحرام.
الثامنة: هل يدخل البخل والشح في عمومات قوله تعالى[أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ]( ).
الجواب نعم، ولكن الآية السابقة نعتت المؤمنين بأنهم ينفقون أموالهم في حال السعة والشدة، مما يدل على إنتفاء البخل عنهم، ليكون من إعجاز نظم هذه الآيات إبتداؤها بذكر الإنفاق والبذل في سبيل الله.
ومن خصائص هذا الإبتلاء التأكيد وجذب الإنتباه إلى الإنفاق وبيان موضوعيته، وإستحضاره في الوجود الذهني في حال السعة والشدة، والحرص على ترجمته في الواقع العملي، وإتخاذه سلاحاً على غلبة العقل على الشهوة ليكون سبباً لبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين غنيهم وفقيرهم لأنه عنوان الأخوة وإستدامة المحبة بينهم بفضل ولطف من الله عز وجل لذا جاءت آيات القرآن بصيغة الجملة الخبرية[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، لبيان أن أخوتهم أمر واقع وثابت، ولا يمكن تبديله أو تغييره.
فلم تخاطب الآية المسلمين بصيغة الأمر(كونوا أخوة)بل جاءت بصيغة الجملة الخبرية التي تدل على الثبوت، وكذا قوله تعالى[فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
التاسعة: إن الله عز وجل هو الذي أعدّ الجنة مثوىً كريماً دائماً للمتقين في الآخرة، وهو سبحانه وحده الذي يغفر الذنوب، فلا يقدر على مغفرتها غيره كما تدل عليه آية البحث، ليفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل يقرّب الناس من منازل التقوى، ويصلحهم لدخول الجنة، ومنها أواصر المحبة بين المسلمين .
وفي الحديث الصحيح والمشهور عند أجيال المسلمين في كل زمان الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)( ).
وفيه إرشاد للمسلمين في بلوغ مرتبة المحسنين، وفوزهم بحب الله عز وجل لهم، لأن حب نزول النعمة بالمؤمن من الإحسان، وكذا إعانته والإحسان إليه.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: من سره أن يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدث ، وليؤد أمانته إذا أؤتمن ، وليحسن جوار من جاور)( ).
ومن حسن الجوار الإنفاق على الجار المحتاج مطلقاً والسعي لمواساته، ودفع الضر عنه وإن لم تكن له من صلة إلا قرب الدار , قال تعالى[وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ]( ).
بحث كلامي
الضراء اسم على وزن فعلاء ويعني الشدة والعسر، ويأتي ضداً للنعماء أي النعمة، ومن معاني الصلة بين آية البحث والآية السابقة إتصاف المسلمين بخصلة وهي إقتران العفو بالإنفاق، وإتحادهما في موضوع واحد ليكون من الشواهد على أمور:
الأول: شوق المسلمين إلى الجنة.
الثاني: القيام بالإنفاق والعفو في حال الشدة.
الثالث: فيه أمارة على تغلب المسلم على النفس الشهوية إذا نازعت في طلب الفاحشة أو السعي في مقدماتها وما يوصل إليها , وفي التنزيل[إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي]( ).
وعن الراغب(ونفس الإنسان واقعة بين قوتين: قوة الشهوة وقوة العقل، فبقوة الشهوة يحرص على تناول اللذات البدنية البهيمية كالغذاء والسفاد والتغالب وسائر اللذات العاجلة، وبقوة العقل يحرص على تناول العلوم والأفعال الجليلة والأمور المحمودة العاقبة، وإلى هاتين القوتين أشار الله تعالى بقوله: [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]، وبقوله: (وهديناه النَّجْدَين))( ).
ولكن ما يؤثر في النفس أعظم من هاتين القوتين إذ يكون للنبوة والتنزيل أكبر الأثر في صلاحها وتنزهها من الفواحش والملذات المحرمة، فإن قلت إن هذا التأثير لا يتم إلا بالعقل.
والجواب للعقل موضوعية جلية في المقام إلا أن التنزيل والنبوة يخاطبان الإنسان بذاته وعقله وجوارحه، ويمنعان العقل من الإستقلال في الحكم، وهو متخلف عن إدراك المصلحة ودفع المفسدة في كل الأحوال، ولكن التنزيل والنبوة يمنعانه من الشطط والخطأ، ويدل عليه قوله تعالى أعلاه الذي جعل سلطان الأثر والتأثير في الإنسان هو هداية الله عز وجل، لذا جاءت الأحكام الشرعية بصيغ التكليف والوجوب والحرمة.
ولم تأت تلك الهداية لعقل الإنسان على نحو الخصوص بل جاءت له كمركب من عقل ونفس وحواس وجوارح بلحاظ إستجابة حواس الإنسان أيضاً لأمر الله، وأسباب رحمته، ولو بواسطة العقل، وجاء القرآن بذم الكفار لإعراضهم عن البشارات والإنذارات كما في قوله تعالى[صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ]( )، مع وجود العقل وإنعدام الفارق في الخلقة، عند الناس البر والفاجر، والمؤمن والكافر منهم.
فلا غرابة أن تأتي الآيات بذكر القلوب وموضوعيتها في فعل الإنسان ولا يضر به القول بإرادة العقل بذكر القلب أحياناً، وقد ورد لفظ(القلب) في القرآن بصيغ متعددة وهي:
الأول: صيغة المفرد تسع عشرة مرة.
الثاني: صيغة المثنى مرة واحدة بقوله تعالى[مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ]( ).
وفي الآية أعلاه مسائل:
الأولى: الإشارة إلى بديع صنع الله عز وجل في خلق الإنسان.
الثانية: إنها نوع تحد في خلق الإنسان والنعم العظيمة في هيئته وتسوية خلقه ودقة نظام أعضائه فكل عضو منه آية إعجازية في ذاته وتعدد وظائفه، لذا تنسب الآية إنتفاء تعدد القلب عند الإنسان إلى الله عز وجل، وهو من عمومات قوله تعالى[الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ]( ).
الثالثة: إتمام الحجة على الإنسان، بسلامته في خلقه من أسباب التناقض في الرأي والقرار، مما يملي عليه لزوم إختيار التقوى.
وهذا المعنى لا يتعارض مع ما ورد في أسباب نزول الآية، فقد ذكر أنها نزلت في أبي معمر جميل بن معمر بن حبيب بن عبد الله وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع، فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلاّ وله قلبان. وكان يقول : إنّ لي قلبين أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد .
فلمّا كان يوم بدر، وهُزم المشركون وفيهم يومئذ أبو معمر تلقّاه أبو سفيان بن حرب، وهو معلِّق إحدى نعليه بيده والأُخرى في رِجله، فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال : انهزموا .
قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأُخرى في رجلك، فقال له أبو معمر : ما شعرت إلاّ أنّهما في رجلي، فعرفوا يومئذ أنّه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده.
وقال الزهري ومقاتل بخصوص الآية: هذا مثل ضربه الله للمُظاهر من إمرأته، وللمتبنّي ولد غيرهِ، يقول : فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أُمّه حتى يكون له أُمّان، ولا يكون ولد أحد ابن رجُلين)( ).
الرابعة: بيان قرب أسباب الهداية للإنسان، وإن إتحاد القلب عنده من اللطف الإلهي به كيلا يقف متحيراً يتجاذبه القلبان.
الخامسة: موضوعية القلب في خلق الإنسان، وتأكيد أهميته وأنه أمير الجوارح، وعن رسول الله عليه وآله وسلم: إنَّ في الجسدِ مُضغةً إذا صلَحَت صلُحَ الجسدُ كلُّهُ، وإذا فَسدَت فَسدَ الجَسدُ كلُّه؛ ألاَ وَهي القَلبِ)( ).
السادسة: إعانة العبد على فعل الصالحات، وإجتناب التضاد في قوله وفعله.
السابعة: إقامة الحجة على الإنسان، فلا يأتي يوم القيامة ، ويقول إن إرتكابي للذنوب من التعارض بين القلبين، أحدهما يأمره بالمعروف والآخر بالمنكر بل جعل الله عز وجل عند الإنسان قلباً واحداً يتلقى الأوامر والنواهي، ويقدر معه على الإستجابة والإمتثال، قال تعالى[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
ووردت الآية بذكر الرجل على نحو التعيين، فهل هي خاصة به أم تشمل المرأة أيضاً، الجواب هو الثاني، لتعلق الآية بخلقة الإنسان وميوله وعمله بما يفيد الإشتراك بين الذكر والأنثى، وإذا كان تعدد القلب ينعدم عند الرجل فمن باب الأولوية القطعية او المثل والشبه إنعدامه عند المرأة.
الثالث: ورد لفظ(القلوب) في القرآن مائة وإحدى عشرة مرة، بصيغة الجمع ولغة المتكلمين والمخاطَبين والغائبين.
الرابع: صيغة جمع المؤنث، مرة واحدة بقوله تعالى[ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ]( )، ومن إعجاز القرآن أنه لم يرد لفظ العقل بصيغة المفرد أو الجمع، بل ورد الفعل(تعقلون) (يعقلون) ونحوهما من صيغ الجمع، قال تعالى[إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
والعقل ليس قوة مستقلة بذاتها وقرارها بل يكون أمره مرآة وأثراً وإقتباساً من الآيات والبراهين الكونية الدائمة، والوجدانية، والعرضية الخاصة بالموضوع والحكم وذات الشخص .
وفي الحديث القدسي: لما خلق الله العقل إستنطقه، ثم قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملك إلا فيمن أحب أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أثيب)( ).
ويدل التأكيد القرآني على موضوعية القلوب في التدبر وسبل النجاة، وفي حسرة الكفار يوم القيامة على التفريط في وظائفها إن مصدر القرار وإختيار الفعل عند الإنسان لا يرجع للمخ وحده وإن قال به شطر من علماء الأبدان بل هو أعم وأن الإنسان كيان متداخل تشترك أعضاؤه في الإختيار والتدبر مع تمايز وتباين في وظائف وموضوعية بعض الأعضاء كالعقل والقلب والنفس .
وهذا الإشتراك من معاني وجود الروح في الإنسان وإحاطتها بحركة الأعضاء وجريان الحياة فيها، ولا يضر بهذا المعنى ما ذكر من إتحاد المعنى بين العقل والقلب.
ولو تردد الأمر بين الإتحاد والتعدد بينهما، فالصحيح هو الثاني وهو من عمومات قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
وجاءت كل من آية البحث والسياق لبعث الشوق في قلوب المسلمين لتعاهد الإستغفار، والشوق لفعل الصالحات، وبذل المال في مرضاة الله، وهذه الخصال مجتمعة ومتفرقة طريق إلى الجنة، وواقية من فعل الفاحشة وظلم النفس، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
والأصل والواقع في نفس الإنسان أنها واحدة لتكون منقادة لأمر الله, وآية في بديع خلقه ونفعه , ولكن التفصيل في خصائص النفس وتعددها في ذات الإنسان للبيان والتفصيل بلحاظ عالم الأفعال والرغائب.
وبالإسناد عن سعيد بن المسيب قال: وكان بلغنا أول ما رأى، يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى أراه رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه، فذكرها لامرأته خديجة، فعصمها الله عن التكذيب وشرح صدرها للتصديق فقالت: أبشر فإن الله لم يصنع بك إلا خيرا.
ثم إنه خرج من عندها ثم رجع إليها، فأخبرها أنه رأى بطنه شق ثم غسل وطهر ثم أعيد كما كان، قالت: هذا والله خير فأبشر،ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة فأجلسه على مجلس كريم معجب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك، فيه الياقوت واللؤلؤ، فبشره برسالة الله عز وجل، حتى اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جبريل اقرأ، فقال: كيف أقرأ ؟ فقال:”[ اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
ويحتمل ما ورد أعلاه من شق بطن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المذكور في الحديث أعلاه وجوهاً:
الأول:كان شق البطن في اليقظة والواقع الخارجي، وهو على شعب:
الأولى:إنه حكاية لما جرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صباه عندما كان عند حليمة السعدية.
الثانية: عندما عرج بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء بقوله تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]( ).
الثالثة: واقعة ومناسبة أخرى جرى فيها شق البطن.
الثاني: حدوث شق البطن برؤيا منام، وهو ظاهر الحديث أعلاه وسياقه.
الثالث:المعنى الأعم، والتعدد في حدوث شق البطن في اليقظة والواقع، وحدوثه في المنام أيضاَ ولا مانع من الوجه الثالث أعلاه في آية خص الله بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
صلة[وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ] بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: الكاظمين الغيظ الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله.
الثاني: الكاظمين الغيظ ذكروا الله.
الثالث:الكاظمين الغيظ إستغفروا لذنوبهم.
الرابع: الكاظمين الغيظ لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
الثانية: يدل كل من كظم الغيظ حال الغضب، وذكر الله عند إرتكاب المعصية على غلبة العقل على الشهوة عند المؤمنين.
الثالثة: كظم الغيظ ملكة مستديمة وثابتة عند المؤمنين، وهم منزهون عن فعل الفاحشة، وإن فعلها أحدهم فإنه يبادر إلى الإستغفار والتوبة ويستغفر له المسلمون.
الرابعة: قد يرتكب المؤمن الفاحشة، فيلجأ إلى الإستغفار لكنه لا يغادر كظم الغيظ، ولا يترك العنان للغضب، وما يترشح عنه من الآفات وأسباب الهلكات، وتعاهده لكظم الغيظ واقية من فعل الفاحشة والتجرأ على الذنوب، وهو من أسرار تقدم كظم الغيظ وحبس الحنق على إحتمال الزلل والوقوع في إغواء الشيطان، نعم قد لا يحبس المؤمن غيظه في بعض الحالات، ويعاقب بأكثر من الإستحقاق أو يتكلم بما فيه الغيبة والتعدي فيستحضر ذكر الله ويستغفر الله ويعود إلى ملكة كظم الغيظ ببركة هذه الآية.
وليس من حصر للآيات والنصوص التي تحث المسلمين على الصبر، ومنع إستحواذ الغضب على الجوارح، ومنها آية البحث التي تردع النفس منه وبما يفيد عدم دبيبه إلى اللسان والجوارح وإن ظهرت علاماته على البشرة وأعضاء الوجه، قال تعالى[وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ). وقد يحصل الألم في النفس مما ينزل بالإنسان ويتلقاه من الغير، فتضمنت آية البحث الحث على منع ظهوره بلسان الغضب والتخبط، والهياج ومعاني الجهل. وجاءت السنة النبوية الفعلية والقولية بأسمى معاني كظم الغيظ، وقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين قصص الأنبياء بما يبعث المسلمين على التأسي والإقتداء بهم، (وعن ابن مسعود: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)( )، ومن السنة ما جاء في باب الحلم، وتحمل الأذى، والصبر، والصفح عن الآخرين والإعراض عن الجاهلين. الخامسة: إتصاف المسلمين بأنهم يحبسون غيظهم، ويمنعون ظهور الغضب على جوارحهم، وهي مقدمة وحال ومناسبة كريمة للجوء إلى الإستغفار وسؤال العفو من عند الله عز وجل. ليفيد الجمع بين الآيتين حقيقة وهي أن إستغفار المتقين أعم من أن ينحصر بحال إرتكاب المعصية وظلم النفس، فحينما يهجم عليهم وعلى أوداجهم الغضب، وتصطبغ البشرة بالحمرة يلجأون إلى الإستغفار، فيكون هذا اللجوء مدرسة في الحكمة والأخلاق الحميدة تبين معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى بقهر المسلمين للغضب وطردهم لآثاره على الذات والغير. عن ابن أبي نجيح ، قال: قال سليمان بن داود عليه السلام: أوتينا ما أوتي الناس وما لم يؤتوا وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا ولم نجد شيئاً أفضل من ثلاثة: كلمة الحكمة في الغضب والرضى.. والقصد في الفقر والغنى.. وخشية الله في السر والعلانية)( ). من منافع العزم على كظم الغيظ معرفة أضرار الغضب على الذات والغير ومجاهدة النفس لإجتناب سلطان الغضب. السادسة: ليس من حصر لبركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس عامة وعلى المسلمين خاصة، ومنها جذبهم لمنازل التقوى، وتقريبهم من الدخول إلى الجنة، ومن وجوه هذا الجذب إعانتهم لنبذ الغضب بالتذكير بالله عز وجل وعظيم قدرته، فقد أخبرت الآية عن ذكر المسلمين لله عز وجل عند فعل السيئة أو ظلم النفس، مما يدل على أمور: الأول: عدم إستحواذ النفس الشهوية على المسلمين. الثاني: تأكيد قانون ثابت وهو أن ذكر الله إقالة من الزلة وآثارها في باب الجزاء. الثالث: إقامة الحجة على الناس بفتح باب التوبة والإنابة لهم بذكر الله والإستغفار. الرابع: تعدد المنافع من ذكر الله في الدنيا والآخرة، فيذكر المسلم الله عز وجل عقب المعصية فيكون سبباً للهداية والصلاح، ومناسبة للأجر والثواب . وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث(من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق)( ). وبالإسناد عن أبي مسعود الأنصاري قال: بينما أنا أضرب غلاماً بالسوط إذ سمعت صوتاً من خلفي: أعلم أبا مسعود، فجعلت لا أعقل من الغضب حتى دنا مني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رأيته وقع السوط من يدي، فقال:أعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، فقلت: والذي بعثك بالحق لا أضرب عبداً أبداً)( ). وفي الحديث مسائل: الأولى: إنصات الصحابة للسنة القولية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. الثاني: التدبر بما في كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المواعظ والإنذارات. الثالث: ترجمة هذا الإنصات بالواقع العملي وعلى نحو الإستدامة والدوام. الرابع: تدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القضايا الشخصية، والأمور البسيطة، ليكون تدخله قانوناً تقتبس منه القواعد والأحكام. الخامس: كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي سعيد إعانة له للإمتثال لأحكام القرآن , وليعمل المسلمون في الموضوع المتحد بالمضامين والأحكام المتعدد في آية البحث قوله تعالى قبل آيتين[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، ففي حديث النبي دعوة للمسارعة إلى الإستغفار، وبعث للسعي إلى الجنة، وهداية لسبل التقوى. وفيه حث على الإستغفار، وضبط النفس والجوارح، وإختيار العفو والتخلي بخصال المحسنين، ليكون هذا الحديث شاهداً على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام الذي يقود أمته ويجذبهم إلى سبل العمل بأحكام آيات القرآن. السادس: عدم إكتفاء الصحابي بالإعتذار أو الأستغفار القولي، ولكنه جمع في كلمتين بين أمور: الأول: الحلف بالله عز وجل. الثاني: تجديد التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله في يمينه(والذي بعثك بالحق). الثالث: إظهار الندم على شدة الغضب، وقيامه بضرب الغلام. الرابع: مع أن الغلام عبد للصحابي، وهو جزء من ملكه إلا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ذكره باسم (الغلام) لتأكيد أولوية صبغة الإنسانية وأن الملكية للعبد لا تعني ضربه والتعدي عليه لأن لفظ الغلام أعم العبد ويطلق على الصبي مطلقاً(أيفع الغلام , وإلتحى الغلام)( )، وينصرف إلى العبد بالقرينة. الخامس: إعطاء أبي مسعود الأنصاري عهداً لله عز وجل بأنه لا يضرب عبداً في المستقبل القريب والبعيد وعلى نحو العموم في العبيد، فهو لم يقيد عهده بعبيده، إذ يجوز أن يستأجر ويوظف الحر عبداً مملوكاً لغيره، فعاهد الله ورسوله ألا يضرب عبداً أبداً. السادس: يدل العهد أعلاه على عدم ضربه الحر من باب الأولوية القطعية، لتتنزه مجتمعات المسلمين عن الغضب وما يترشح عنه من القسوة ومقدمات ومصاديق البطش، وفي التنزيل حكاية عن هود في إنذار وتبكيت قومه[وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( )، والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب وبغير حق وجاء الحديث أعلاه ليؤكد تقوى المسلمين وطاعتهم لله والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب الغضب، وإيذاء العبيد.
السابع: بيان مصداق من مصاديق السنة النبوية بتدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المسائل الشخصية والقضايا الجزئية بما فيه الإصلاح والصلاح.
الثامن: توثيق المسلمين لأخبار السنة وإتخاذها نبراساً وضياءً ينير لهم دروب الهداية بما يقودهم إلى مقامات التقوى، وقد ورد في ذم قوم قوله تعالى[أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ]( )، ليدل الحديث أعلاه على سلامة المسلمين من الكبر والعناد، وهذه السلامة مطلقة لا تختص بحادثة وزمان معين، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
التاسع: هذا الحديث من مدرسة النبوة في كظم الغيظ، وأن خطابات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب عامة وخاصة، وكلها تؤدي إلى هداية المسلمين لكظم الغيظ وفيها مسائل:
الأولى: جعل كظم الغيظ ملكة يعرف بها المسلمون .
الثانية: إنه مقدمة وموضوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة: إنه طريق للإنفاق في سبيل الله، فقد يستحوذ الحنق والغيظ على الإنسان فيمتنع عن الإنفاق على شخص مخصوص، أو مطلقاً، فيأتي الترغيب النبوي بذكر الله والإستغفار وإستحضار قدرة الله عز وجل على العبد ليكون دائماً في حال خشوع وخضوع، الأمر الذي تترشح عنه معاني الرأفة والرحمة.
العاشر: يدل الحديث على أن السنة النبوية تعضيد للقرآن وليس بياناً وحده، فلما جاءت الآية السابقة بلزوم كظم المسلمين لغيظهم، جاءت السنة النبوية بالزجر عن ظهور الغضب على الجوارح والأركان، فتلقاها المؤمنون بالعهد على كظم الغيظ، والعهد على كبح جماح الغضب.
الحادي عشر: بيان تقّوم نظام الرق في الإسلام على الرفق والصفح والرأفة، وهي مقدمة لتيسير العتق الذي جعله الله عز وجل وظيفة شرعية ككفارة للذنوب وفي كفارة اليمين ورد قوله تعالى[فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ]( ).
وبالإسناد أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به وأمره ان يعتق رقبة)( ).
الثاني عشر: ظاهر الحديث أن عقاب الصحابي للعبد عن تقصير وخطأ منه، وإلا لوجّه له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اللوم على أصل الضرب، وإن كان العبد مملوكاً له، للتباين بين ماهية الملكية والتعدي، أي أن موضوع الملكية لا يجيز إيذاء العبد، إنما شرّع الرق لأمور:
الأول: إنه عقوبة على الإصرار على الكفر ومحاربة الإسلام.
الثاني: منع تجدد تعدي العبد على الإسلام والمسلمين.
الثالث: الرق مناسبة لرؤية العبد عبادات المسلمين، وللتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: سلامة العبد من القتل والإستئصال، لأن الرق نوع حفظ له, ووسيلة مباركة لإيجاد ذرية منه لبقائه حيا , مما يدل على أن الإسلام لا يريد الإنتقام والبطش به .
الخامس: إصابة عدد الإسلام بالضعف والوهن وإبتلاء أفراده بالخوف من الرق.
السادس: إنشغال مجتمعات العدو بالأسى على من أسترق من أهليهم وأبنائهم.
السابع: إدراك الناس لحقيقة الرأفة والرحمة عند المسلمين التي تشمل العدو الذي يقع في أيديهم، فهم لا يقتلونه إنتقاماً وثأراً، بل يتركونه يعيش بين ظهرانيهم بأمن وسلام، وفيه رد تأريخي بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف بالحجة والبرهان، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الثامن: تأكيد قوة ومنعة الإسلام بآية ومدد من الله عز وجل، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام، بما فيهم أهل الأسرى والعبيد، خصوصاً وأنهم يحفظون حريتهم بدخول الإسلام ويكون لهم ما للمسلمين فترى رجلاً إسترقه المسلمون، وإبنه حر دخل الإسلام طواعية، وقام بالسعي لفك رقبة أبيه، وأعانه المسلمون في سعيه وهداية وفك رقبة أبيه، وهو من عمومات قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
ليكون الرِق والعتق في الإسلام من المصاديق العملية للدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة وصيغ الإحسان.
الثالث عشر: يدل الحديث على أن كظم الغيظ واقية من ظلم النفس وإيذاء الآخرين من العيال وغيرهم.
الرابع عشر: التقيد بالسنة النبوية وآدابها سبيل لهداية الناس إلى الإسلام.
السابعة: تقدير الجمع بين الآيتين: والكاظمين الغيظ وهم يعلمون) إذ أن المسلمين يحبسون حنقهم ولا يجعلون لغضبهم مبرزاً خارجياً لأنهم يعلمون بأمور:
الأول: إن الله عز وجل دعا أجيال المسلمين والمسلمات لكظم الغيظ، وندبهم إليه.
الثاني: من يطع الله بكظم الغيظ يحبه الله عز وجل لما فيه من الإمتثال لأمر الله، والرأفة بالناس، وقهر آفة الغضب، وترك التعدي، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا قَالَ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ قَالَ فَيُبْغِضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ)( ).
الثالث: مجيء النعم دفعة ونجوماً على الذي يفوز بمرتبة حب الله له وليس من حصر لميادين ومواضيع النعم التي تأتي على المؤمن فهي تتعلق ببدنه وصحته ورزقه وماله وعياله، وعموم أمور الدين والدنيا، وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله عز وجل يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته)( ).
الرابع: يعلم المسلمون الأضرار الدنيوية لإظهار الغيظ وفي الحديث: ليس الشديد بالصرعة( ) إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)( ).
الخامس: يدرك المسلمون أن كظم الغيظ طريق سالكة لدخول الجنة، ويدل عليه إخبار الآية قبل السابقة بأن الله أعدّ الجنة للمتقين، وهو اسم عام شامل للمؤمنين من الأمم السابقة قبل الإسلام.
السادس: يعلم المسلمون بإتصاف (خير أمة) بكظم الغيظ، ولزوم الحرص على هذه المنزلة بتعاهد حبس الغضب.
السابع: يعلم المسلمون أنهم يكظمون غيظهم مع أنه في الله ولله، وهذا الكظم وسيلة كريمة للإحتجاج بالبرهان والدليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله، فقد يكون في إظهار الغضب إنصراف عن الحجة فجاء قوله تعالى(والكاظمين الغيظ) مناسبة لتفقه المسلمين في الدين وإمامتهم للناس في باب إستحواذ العقل على الجوارح وترك القسوة والبطش المتفرعين عن الغضب.
ولا تعارض بين كظم الغيظ، والدعوة إلى الله، لذا أثنى الله عز وجل على المسلمين بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
ليكون من مصاديق تفضيل المسلمين حبسهم للغيظ، وخروجهم للناس بالسماحة والحكمة مع عدم فتورهم في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي كظم المسلم غيظه مسائل:
الأولى: إنه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر بالفعل والمصداق الذاتي.
الثانية: صيرورة تأثير ووقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الناس أعظم وأبلغ.
الثالثة: تنمية ملكة عدم إظهار المسلم التذمر والإنفعال.
الرابعة: تجلي مفاهيم الصبر في سلوك المسلم , وعلى جوارحه ولسانه وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له)( ).
الخامسة: جعل الناس يحبون الإستماع والإمتثال للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما فيهما من معاني الود واللطف.
والصبر على أقسام منها:
الأول: الصبر في أداء العبادات والمناسك ويمكن تسميته (صبر التقوى) لدلالته على التقوى والخشية من الله التي تقود إلى الجنة ونعته بصبر التقوى ترغيب بالعبادات، وبعث للتلذذ بتحمل المشقة فيها.
الثاني: الصبر بالتنزه عن اللذات المحرمة، ويسمى الورع والعفة.
الثالث: الصبر على إحتمال المكروه، وهو على شعب:
الأولى: الصبر عند المصيبة، ومن الآيات في علوم القرآن إقتران هذا الصــبر بذكــر الله وإتخــاذه وســيلة لإظــهار الإنقياد والتســليم لأمر الله عز وجل، قال سبحانه[الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( )، ويضاد هذا الضرب من الصبر الجزع.
الثانية: الصبر عن زينة وبهجة الدنيا عندما تكون في متناول اليد، ويسمى العفة وضبط النفس ويضاده البطر والغرور.
الثالثة: الصبر في الحرب ويسمى الشجاعة، ويقابله الجبن والفزع الذي هو مذموم شرعاً وعرفاً ، وفي الدعاء عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ)( ).
الرابعة: الصبر وإمتلاك النفس عند الغضب وطرو أسبابه، ويسمى حلماً، ويقابله التذمر والبطش.
الخامسة: الصبر عند تلقي الأذى والنوائب، ويسمى سعة الصدر، ويقابله الضجر والعبس.
السادسة: الصبر عند الشدة وضيق الحال، ويسمى زهداً وقناعة، ويقابله الشره والطمع، (والزهادة في الأَشياء كلها ضد الرغبة)( ).
السابعة: الصبر في ميادين الجهاد وثغور المسلمين والدعوة إلى الله، قال تعالى[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( ).
وعن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحرٌ فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر فبعث إليه غلاماً يعلمه وكان في طريقه إذا سلك راهبٌ فقعد إليه وسمع كلامه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الراهب فبينما هو كذلك إذا أتى على دابة ٍ عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل فأخذ حجراً
فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإن ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس سائر الأدواء فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ها هنا لك إن أنت شفيتني قال إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك قال ربي قال ولك ربٌّ غيري قال ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام
فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل قال فقال إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمئشار فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل
فقال اللهم أكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم أكفينهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال ما هو قال تجمع الناس في صعيدٍ واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارم فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على الجذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه فمات فقال الناس آمناً برب الغلام فأتي الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك
قد آمن الناس فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم فيها النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌّ لها فتقاعست فقال لها الغلام يا أماه اصبري فإنك على الحق)( ).
وفي الحديث آية، وهي أن صبر المؤمن المنفرد في تقوى الله سبب لهداية أمة كاملة وإمتلاء النفوس بالغبطة والسعادة عند تحمل الأذى على الإيمان والإقرار بالوحدانية لله عز وجل.
الثامن: يعلم المسلمون أن الذنوب لا يغفرها إلا الله فيبادرون إلى ذكر الله عند طرو الغيظ.
صلة(والعافين عن الناس) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: العافين عن الناس إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله.
الثاني: العافين عن الناس ذكروا الله فإستغفروا لذنوبهم.
الثالث: العافين عن الناس إستغفروا لذنوبهم.
الرابع: العافين عن الناس لم يصروا على ما فعلوا.
الخامس: العافين عن الناس هم يعلمون.
الثانية: كما يعفو المؤمنون عن الناس فإنهم يرأفون بأنفسهم من باب الأولوية القطعية، وتتجلى هذه الرأفة بالتوقي من ظلم النفس وصرف طبيعته فإنهم يلجأون إلى ذكر الله عز وجل وإتخاذه حرزاً وستراً، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ] ( ).
الثالثة: يعفو المؤمنون عن الناس رجاء نيل رحمة الله، والفوز بغفران الذنوب، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِى الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِى الْعُقُوبَةِ)( ).
فمن مصاديق اللطف الإلهي في الدنيا وأسباب تقريب المسلمين إلى منازل مرضاة الله قيامهم بالعفو عن الناس، والصفح عن تعديهم وظلمهم لهم، وهذا العفو سجية إكتسبها المسلمون من القرآن والسنة، أحكاماً وأوامر ونواهي ومنها آية البحث التي تبين الثواب العظيم للعفو وهو الخلود في النعيم.
الرابعة: لقد أراد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تكون (دار العفو) يعفو بها المتقون عن الظالمين والذين يسيئون إليهم، ولا يردون عليهم بالعقوبة والإنتقام.
وقد ورد ذكر(المتقين) في بدايات سكن الإنسان الأرض فجاء حكاية عن هابيل بن آدم قوله تعالى[إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه تحكي إحتجاج ابن آدم على أخيه قابيل إلا أنها أعم في موضوعها من وجوه:
الأول: بيان قانون كلي يتغشى الحياة الدنيا، بقبول الصالحات من الذين يخشون الله بالغيب.
الثاني: إرادة إستحضار قصد القربة عند فعل الخيرات.
الثالث: البشارة بأن التقوى طريق النجاة وسبيل قبول الصالحات.
الرابع: الثناء على المسلمين لبلوغهم مراتب التقوى بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: بعث الأمل والرجاء في نفوس المسلمين للفوز بالثواب العظيم على فعل الصالحات.
السادس: تدل الآية في مفهومها على عدم قبول الفعل الحسن إن صدر من الكفار، قال تعالى بخصوص تبكيت الملائكة لأهل النار، وعدم تخفيف العذاب عنهم[قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
وحينما توعد قابيل أخاه بقتله، لم يرد بالمثل ولم يباغته ويسارع إلى قتله، بل قابل الوعيد بالقتل بالوعد بالأمن وعدم إيذاء قابيل بضرب ونحوه، والعفو المقصود في آية السياق أعم من الوعد بعدم الرد فقد يعد إنسان بعدم الرد ولكنه عند حصول أو تجدد التعدي لا يكظم غيظه، أو أنه لا يختار العفو.
فجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون العفو سجية ثابتة في الأرض، يُعرف بها المسلمون، وتكون دعوة للناس لدخول الإسلام، ونبذ العداء للمسلمين، وتتجلى خصال المسلمين بالدعوة إلى الإسلام في أيام النبوة وما بعدها بالعفو عن الناس، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامسة: العفو عن الناس نوع مفاعلة تترشح بين طرفين، ورد لفعل مغاير له في الماهية والجنس، فالعفو ترك للعقوبة بعد أذى على الذات جاء من الغير، أمّا الإستغفار بعد الفاحشة وظلم النفس فهو أعم، فقد يكون بعد إيذاء وإضرار بالغير، أو تخلف عن واجب.
والعفو أمر حسن ذاتاً وعرضاً، أمّا فعل الفاحشة وظلم النفس فإنه قبيح، وجاءت آية البحث لتداركه ومحو الآثار والأضرار المترتبة عليه في النفس وعالم الدنيا والآخرة باللجوء إلى الإستغفار والتوبة.
عن أنس، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إني أذنبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذنبت فاستغفر ربك، قال: فإني إستغفر ثم أعود فأذنب فقال: إذا أذنبت فاستغفر ربك، ثم عاد فقال في الرابعة: أستغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور)( ).
السادسة: يسأل المسلمون الله مغفرة ذنوبهم، ويقومون بالعفو عن الناس.
وبين المغفرة والعفو عموم وخصوص مطلق, فالعفو ترك المؤاخذة على الذنب، أما المغفرة فتشمل أيضاً الستر والمحو للذنب، والرحمة هي السور الجامع لهما، وفيها تفضل ولطف إضافيين، لذا ورد في التنزيل[وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
السابعة: يدل العفو عن الناس على سخاء النفس، وفيه إشاعة للمودة ونشر لشآبيب الرحمة بين الناس، وعن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها)( ).
والعفو إنعطاف باللطف على المعفو عنه، وبين الإحسان والعفو عموم وخصوص مطلق، فالإحسان أعم، والعفو من مصاديق الإحسان، وتثبيت لمفاهيم التقوى في النفوس، وتوارث أجيال المسلمين لها.
لذا فمن الإعجاز في الآية أعلاه وآية السياق أنهما جاءا بالأعم من العفو والإحسان وكذا بالنسبة لآية البحث وما فيها من تجاوز الله عز وجل عن ذنوب العباد، لبيان سعة رحمة الله، وما خصّ به المسلمين من سبل العفو وما فيها من معاني الإكرام والتشريف وأسباب تعاهد أحكام الإسلام وسنن العفو والصفح عن الآخرين.
وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان يقول: إن الله تعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء رزقهم السماحة والعفاف، وإذا أراد بقوم إقتطاعا فتح عليهم باب خيانة ثم قرأ (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)( ).
لقد أراد الله عز وجل للقرآن البقاء في الأرض، وفيه وجوه:
الوجه الأول: سلامة التنزيل من التحريف والتبديل ، ومنع الإفتتان والفتنة بين الناس بخصوص مصاديق التنزيل، فقد تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين أمة عظيمة تجتمع أجيالهم على قانون ثابت وهو أن القرآن الذي بين أيديهم هو ذاته الذي أنزله الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيه زيادة ولا نقيصة، قال تعالى[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( ).
الوجه الثاني: إستدامة صلة السماء بكل طبقة وجيل من الناس، وهذه الإستدامة ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورشحات جهاده وأمته في سبيل الله، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، وفيه أمور:
الأول: تشرف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلقي التنزيل الذي ينفرد بالثبات في الأرض والعصمة من التبديل، أوطرو النسخ بكتاب آخر، وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء.
الثاني: توارث المسلمين جيلاً بعد جيل لآيات القرآن رسماً وتلاوة وتفسيراً.
الثالث: خروج المسلمين للناس بالقرآن والعمل بأحكامه ومضامينه القدسية.
الرابع: صبر المسلمين، وتحملهم الأذى في الحفاظ على القرآن، وفي كل زمان شواهد لما يلاقيه المسلمون من التعدي في هذا الباب.
ومن الآيات أن عشقهم للقرآن في تجدد متصل، وهذا العشق مرآة لإعجازه، وتجلي كنوزه وإشراقات علومه على نفوسهم وفي أعمالهم.
الخامس: تعاهد المسلمين للقرآن من عمومات قوله تعالى[أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) فهم يخرجون بحفظ التنزيل وإتخاذه حجة وبرهاناً لتثبيت كلمة التوحيد في الأرض.
السادس: نشر المسلمين الأخلاق الفاضلة بين الناس بعملهم بأحكام الحلال والحرام في القرآن، ومحاربتهم لأسباب الضلالة.
الوجه الثالث: كل آية من القرآن شاهد على نزوله من عند الله، وسبيل هداية لذوي العقول للصراط المستقيم، والشريعة السمحاء سواء بذاتها أو بصلتها مع غيرها من الآيات المجاورة لها( )، أو غير المجاورة لما فيها من الكنوز العلمية.
الوجه الرابع: تقّوم علة الوجود الإنساني في الأرض بالتنزيل الذي إنحصر بالقرآن لإقتباس الأحكام منه ووجوب صدور الناس عنه، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الوجه الخامس: بقــاء القــرآن فــي الأرض شــاهداً عــلى حــب الله عز وجل للعباد جميعاً، ولقد تفضل الله ونفخ في آدم من روحه قال تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]( )، وتفضل سبحانه مرة أخرى وجعل كلامه مصاحباً للناس في يومهم وليلتهم ليس بينهم وبينه برزخ أو حجاب، وإنتفاء البرزخ في المقام من عمومات خروج المسلمين للناس، وما فيه من البركات وأسباب الصلاح.
الوجه السادس: تجلي البينات بحاجة الناس للمسلمين في هدايتهم وإرشادهم لوظائفهم العبادية والأخلاقية، ومنع التمادي في الرذائل والمنكرات، لذا جاءت آية البحث ليكون المسلمون النبراس والمرآة الفعلية لأحكام القرآن في إجتناب المعاصي، وعدم الإقامة أو العودة إليها، فمن خصال[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) أن من يفعل الفاحشة منهم لا يعود إليها بل يتوجه إلى ذكر الله والإستغفار لتعاهده لصفة التقوى، وحرصه على عدم مغادرة منازلها.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن العبد إذا زنى خرج عنه الإيمان حتى يصير عليه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)( ).
وهل ذكر الله والإستغفار من العفو عن الغير وعمومات قوله تعالى[وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ]( ) الجواب لا، من وجوه:
الأول: ذكر الله والإستغفار مرتبة أسمى وأولى من العفو عن الناس.
الثاني: ذكر الله مقدمة للعفو عن الناس بقصد القربة، وإرادة نشر شآبيب الرحمة بين الناس، لما يترشح عنه من حال الخضوع والخشوع لله عز وجل.
الثالث: يشمل قوله تعالى(ذكروا الله)أداء الفرائض التي تأتي على الذنوب فتمحوها بفضل من الله عز وجل، لأنها ذكر لله في موضوعها ومادتها وأسبابها، بالإضافة إلى الذكر والتعقيب المستحب بعدها وقد هدى الله عز وجل المسلمين لماهية الفعل ما بعد أداء الصلاة، قال تعالى بخصوص صلاة الجمعة[فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، ليكون أوان وكيفية الذكر أعم من صلاة الفريضة(عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة)( ).
وظاهر لفظ (كان يقول) يفيد التكرار , وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يعيد هذا القول بين الفينة والأخرى ، وهل هذا التعدد من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، أم أن القدر المتيقن من الوحي هو مرة واحدة منه، الجواب هو الأول، فكل مرة يعيد فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم القول إنما بأمر وإذن من الله عز وجل، ليفيد التعدد والإعادة في المقام وجوهاً:
الأول: زيادة الفائدة والنفع من السنة القولية.
الثاني: التذكير بالنعم المترشحة عن الصلاة.
الثالث: كثرة وزيادة عدد الصحابة الذين يسمعون الحديث.
الرابع: توثيق وتثبيت الحديث نصاً ومضموناً.
الخامس: بعث أجيال المسلمين على تعاهد الصلاة والشوق لحضور وقتها، وعدم التكاسل في السعي إلى المسجد لأدائها جماعة.
وقد ورد عن عبد الله بن عمرو: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من راح إلى مسجد جماعة، فخطوتاه خطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب حسنة، ذاهبا وراجعا)( ).
السادس: ما تترتب عليه المغفرة أعم من الإستغفار، ويتجلى بقوله تعالى في آية البحث (ومن يغفر الذنوب إلا الله)وإفادته تعلق المغفرة بمشيئة الله، وليس بذات الإستغفار، وفيه مسائل:
الأولى: إنه آية من فضل الله وفيه بعث للمسلمين للسعي في الصالحات، وإكتناز الحسنات، للفوز برضا الله، قال تعالى[فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
الثانية: فيه إخبار عن رحمة الله، وأنه سبحانه قد يغفر ذنب المؤمن قبل أن يتجه صوب الإستغفار ليكون ثوابه حسنة إضافية، وهو من عمومات قوله تعالى[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
بلحاظ أن موضوع الآية أعلاه الرحمة والرأفة من عند الله ومنها مغفرة ذنوب العباد.
الثالثة: مجيء الإستغفار بلسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمته أو طائفة منها أو لإفراد على نحو التعيين.
وعن أنس: أَتَتِ الأَنْصَارُ النَّبِيَّ بِجَمَاعَتِهِمْ، فَقَالُوا: إِلَى مَتَى نَنْزَعُ مِنْ هَذِهِ الآبَارِ، فَلَوْ أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ فَدَعَا اللهَ لَنَا ، فَفَجَّرَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْجِبَالِ عُيُونًا، فَجَاؤُوا بِجَمَاعَتِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ فَلَمَّا رَآهُمْ، قَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلاً، لَقَدْ جَاءَ بِكُمْ إِلَيْنَا حَاجَةٌ؟ قَالُوا: إِي وَاللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ لَنْ تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئًا إِلاَّ أُوتِيتُمُوهُ، وَلاَ أَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَانِيهِ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: الدُّنْيَا تُرِيدُونَ؟ فَاطْلُبُوا الآخِرَةَ، فَقَالُوا بِجَمَاعَتِهِمْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ لَنَا أَنْ يَغْفِرَ لَنَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلأَنْصَارِ، وَلأَبْنَاءِ الأَنْصَارِ، وَلأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَوْلاَدُنَا مِنْ غَيْرِنَا، قَالَ: وَأَوْلاَدِ الأَنْصَارِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَوَالِينَا، قَالَ: وَمَوَالِي الأَنْصَارِ)( ).
الرابعة: قد تلحق المغفرة العبد بعد موته، لدعاء من إبنه، أو تركة في عمل صالح يقتدي به الناس، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”)( ).
السابع: منع اليأس والقنوط من الإستيلاء على نفس المؤمن عند إرتكاب خطيئة أو ظلمه نفسه.
الثامن: ترغيب المسلمين بالصلاة، وحثهم على اللجوء إليها في السراء والضراء، وعند إرتكاب المعصية، ليكون أداؤها من عمومات قوله تعالى في آية البحث(ذكر الله).
التاسع: تكرار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكلامه لا ينحصر بالحديث محل البحث بل هو أمر جار في أحاديث أخرى(وعن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا تكلم تكلم ثلاثا لكي يفهم عنه)( ).
والمرات الثلاثة المذكورة أعلاه تأتي في المجلس الواحد على نحو التعاقب، أما التكرار المقصود فهو الإعادة في مجلس ومناسبة أخرى.
وبالإسناد عن سلمان الفارسي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا سلمان أتدري ما الجمعة؟ ثلاث مرات، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: جمع أبوكم آدم، ثم قال: لكن أنا أحدثكم عن الجمعة: من أتى الجمعة، فتطهر كما أمر، ثم مشى إلى المسجد، فأنصت حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما قبلها من الجمع)( ).
الثالث: ذكر الله عز وجل واقية من الإنتقام والبطش، ومناسبة لإمتلاء النفس بمفاهيم الرأفة، وسعي إلى مرضاة الله، وبالإسناد عن عبد الله بن بسر: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيَّانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا مَنْ خَيْرُ الرِّجَالِ يَا مُحَمَّدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ.
وَقَالَ الْآخَرُ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ.
قَالَ لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)( ).
لقد أراد عز وجل للمؤمن أن يكون أمة في صلاحه وتقواه، وإماماً في سبل الصلاح، ورائداً لإفشاء الأخلاق الحميدة، والسنن الرشيدة مع الناس جميعاً بما يجعل الحياة الدنيا ذات بهجة ونضارة، وتكون مزرعة خصبة لأداء الفرائض وذكر الله، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
السابعة: قد تقدم في الوجه الأول من المسألة الأولى أن تقدير الجمع بين الآيتين هو(والعافين عن الناس وهم يعلمون)، وفيه وجوه:
الأول: يعفو المسلمون عن الناس عن علم ومعرفة بالمنافع العظيمة التي تترشح عن العفو.
الثاني: عفو المسلمين عن الناس من التفقه في الدين.
الثالث: يجتهد المسلمون في باب العفو عن الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيحث بعضهم بعضاً لإختيار العفو والسماحة، وترك العقوبة المستحقة والقصاص رجاء الثواب من الله عز وجل.
الرابع: يعلم المسلمون أن العفو هو الأفضل من العقاب والقصاص في الدنيا والآخرة قال تعالى[وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ]( ).
الخامس: لو لم يعف المسلمون عن الناس، فماذا يحصل، الجواب على جهات:
الأولى: وقوع الفتن وأسباب الخصومة بين الناس.
الثانية: إنعدام المائز الذي يفصل المسلمين عن غيرهم في باب العفو والأخلاق الحميدة.
الثالثة: إنغلاق باب من الثواب على المسلمين، ولقد أراد الله لخير أمة الثواب والأجر، والخروج إلى الناس بالعفو، لذا فإن عدم عفو المسلمين عن الناس سالبة بإنتفاء الموضوع، فلابد أن يكون العفو صبغة ورداء للمسلمين في التعامل فيما بينهم ومع الناس وإلى يوم القيامة.
ولقد أخبر القرآن بأن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) من بين الأولين والآخرين من أهل الأرض , وفيه نكتة وهي غلق باب التسابق والتنافس في هذا الباب فلا تطمع أمة بنيل هذه المرتبة في زمان ومكان من الأرض، فإن قلت هل من حال مشابهة غلق فيها التنافس والمثلية مع موضوعية التنافس في الصلاح وصيغ الإرتقاء.
الجواب نعم، فإن النبوة إنقطعت بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، أما التنافس في التقوى فإنه لم يغلق إلى يوم القيامة، ولكنه محصور بخير أمة , قال تعالى في خطاب للمسلمين قبل آيتين[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، وقال تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ]( )، وفيه آية بأن باب التنافس مفتوح للناس جميعاً بدخول الإسلام وأداء الوظائف العبادية , وإعلاء كلمة التوحيد , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مما يدل بالدلالة التضمنية على أنهم أحسن الأمم في باب العفو وأنهم يخرجون للناس بصفة العفو كجزء ومصداق للتقوى، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الذين يتبعون النبي محمداً(ص) هم المتقون.
الصغرى: المسلمون هم الذين يتبعون النبي محمداً(ص).
النتيجة: المسلمون هم المتقون.
السادس: في الجمع بين الآيتين تأكيد لفضل الله عز وجل على المسلمين بهدايتهم إلى منازل العفو، وعلمهم بأنه الأحسن في خواتيم الأعمال، وتتجاذب النفس الإنسانية رغبة الإنتقام والعفو عند النصر والغلبة , فجاءت آية البحث لتطرد هذا التجاذب عن المؤمن وتجعله يختار العفو من دون تردد.
وعندما قتل المشركون الحمزة وعدداً من المهاجرين والأنصار يوم أحد، ومثلوا بالحمزة وحنظلة بن أبي عامر و(بقروا بطن حمزة، وقطعوا مذاكيره وأدخــلوها فى فيه)( )، قال المســـلمون: والله لئن ظــهرنا عليهــم لنمثلنّ بهــم مُثْلة لم يمثِّلْهـــا أحـــد من العـــرب بأحد قـــطُّ فــأنزل الله وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ( ).
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم قتل حمزة ومثل به: لئن ظفرت بقريش لأمثلن بسبعين رجلاً منهم فأنزل الله [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ]
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نصبر يا رب)( ).
وفي الحديث أعلاه نكتة من جهات:
الأولى: التداخل بين الصبر والعفو.
الثانية: إتصاف المسلمين بالجمع بين الصبر والعفو عن الناس، وهذا الجمع من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة: العفو رشحة من رشحات الصبر، وقد يأتي متعقباً للصبر على نحو أمر دفعي وتدريجي.
الرابعة: بيان ما يختص به المسلمون من بين أهل الأرض، وهو إختيار الصبر وعدم الثأر والعقوبة بالمثل مع الإذن الإلهي به.
الخامسة: أولوية الصبر على العقوبة، وتقديمه حتى مع الأعداء والكفار.
السادسة: بالصبر تكون السلامة من إحتمال التعدي في العقوبة.
السابعة: إجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقول (بل نصبر يا رب) وفيها مسائل:
الأول: إبلاغ المسلمين بقانون كلي في سنن النبوة، وهو أن الصبر أفضل من معاقبة الظالم والمتعدي.
الثاني: قدرة المسلمين على كظم الغيظ وعدم البطش.
الثالث: تنزه المسلمين عما يفعله الكفار.
الرابع: إجابة وعهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نيابة عن المسلمين وتتجلى بإجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الجمع(نصبر).
الخامس: إنقياد المسلمين لما إختاره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الصبر وترك العقوبة، قال تعالى[مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
السادس: تنمية ملكة الصبر عند المسلمين، وإذا كان المسلم يصبر على الكافر الظلم، فمن باب الأولوية أنه يصبر على أخيه المسلم.
السابع: منع التمادي في الخصومة وأسباب الفتنة بين المسلمين بإختيار الصبر، والسعي للصلح فيما بينهم، قال تعالى[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا]( ).
الثامن: مع أن الآية أعلاه من سورة النحل جاءت بصيغة الجملة الخبرية، فإن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بادر إلى الإجابة وبيان إختيار الصبر، لتأكيد أن الآية القرآنية منهاج ودليل عمل للمسلمين جميعاً، وقوله تعالى(نصبر) شامل للمسلمات أيضاً، وعليهن بالصبر وعدم المثلة، وعدم تحريض الرجال على الإنتقام من الكفار.
التاسع: في الحديث نوع تحد إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعطي عهداً لله عز وجل عن أمته بأجيالها المتعاقبة بأنهم سوف يصبرون عند النصر والظفر ولا ينتقمون من الكفار، بلحاظ إرادة المعنى الأعم في كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشموله لأفراد الزمان الحاضرة واللاحقة , خصوصاً وأن الآية أعلاه تتعلق بما بعد معركة أحد.
العاشر: في حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شكر لله عز وجل لما تدل عليه الآية الكريمة بالدلالة التضمنية على قدرة المسلمين على معاقبة العدو والظفر به، قال تعالى[كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي]( ).
وذكر مقاتل أن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لئن فتح الله علينا مكة وخيبر وما حولها فنحن نرجوا أن يظهرنا الله ما عاش النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الشام وفارس والروم، فقال عبد الله بن أبى المسلمين: أتظنون بالله أن أهل الروم وفارس كبعض أهل هذه القرى التي غلبتموهم عليها، كلا والله لهم أكثر جمعا، وعددا، فأنزل الله تعالى في قول عبد الله بن أبى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} وأنزل كتب الله كتاباً وأمضاه لأغلبن أنا ورسلي يعنى النبي صلى الله عليه وسلم وحده { إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيز} يقول أقوى، وأعز من أهل الشام والروم وفارس)( ).
ولكن الآية أعم لأنها جاءت بصيغة القانون الكلي الدائم في الأرض, وكما توجد آيات كونية تطل على الناس، فإن الآية أعلاه آية أرضية وليست هي زلزلة أو خسفاً، بل هي عهد من الله متجدد في الأرض، وهو من عمومات قوله تعالى في الرد على الملائكة حينما إحتجت على جعل آدم خليفة في الأرض[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
إذ تتضمن الآية أموراً:
الأول: بعث الله عز وجل الرسل والأنبياء إلى الناس.
الثاني: يدل التساوي في مرتبة الرسالة على التعدد والتباين الزماني والمكاني في رسالتهم وبعثتهم للناس.
الثالث: إرادة الحتم والوجوب في قوله تعالى(كتب) أي فرض وحكم وقدّر(كتب الله كتاباً فأمضاه)( ).
الرابع: تأكيد علم الله المطلق بالغيب، ومنه أحوال الناس والملل،( والكاتب عند العرب العَالِمُ ومنه قوله تعالى أَمْ عِنْدَهُمُ الغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُون( ).
الخامس: أضاف الله عز وجل الغلبة له ولرسله، وليس للرسل وحدهم، وفيه آية إعجازية بأن الله عز وجل[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( )، وإن الظفر والغلبة للإيمان الذي لا ينحصر بأيام الرسالة بل يتغشى الأرض في كل زمان، وأن الغلبة والنصر يصاحب المؤمنين.
السادس: غلبة الله ورسله أعم من السيف فتشمل الحجة والبرهان، وإبتلاء الكفار بالضعف والوهن والإنكسار.
السابع: إن الله عز وجل لا يترك الرسل وأتباعهم بمفردهم في مواجهته الكفار، فقد يكون جيش الكفار هو الأكثر عدداً وعدة فجاءت الآية للإخبار بأن الله عز وجل مع الرسل واتباعهم وأنصارهم، وقد تجلت هذه الحقيقة في معارك الإسلام الأولى إذ كان جيش الكفار نحو ثلاثة أضعاف عدد وعدة المسلمين كما في معركة بدر وأحد والخندق فأنزل الله عز وجل مدداً من الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، قال تعالى[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
الثامنة: تدل إجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدلالة التضمنية على البشارة بتحقق مصاديق النصر على الكفار على نحو متعدد.
التاسعة: إتخاذ المسلمين الصبر سلاحاً لبناء صرح دولة الإسلام، وعدم الإنشغال بالعقوبة والإنتقام.
العاشرة: بالصبر وعدم البطش دعوة للناس لدخول الإسلام، وإشاعة للإخلاق الحميدة.
السابع: يعلم المسلمون بأن العفو عن الناس سبيل لإشاعة مفاهيم الرحمة بين الناس، والعفو محو الذنب من عفا إذا درس وإنمحى وقد يأتي العفو عن شفاعة ليكون قبولها عنوان المودة وتوظيف للجاه في صرف الأذى وآثار المؤاخذة.
الثامن: يعلم المسلمون أن بلوغهم مرتبة العفو عن الناس بلطف وهداية من الله عز وجل بدليل آية البحث، ويعلمون وجوب قيامهم بالشكر لله عز وجل على هذه النعمة وما فيها من الثواب العظيم , وفيه تثبيت لسنن العفو عند المسلمين وصيرورته أصلاً في حياتهم ومعاملاتهم، وأصل الشكر هو البيان والوضوح، وقيل(هو مقلوب كشر كما يقال كشر فلاناً عن أنيابه إذا فتح فمه فظهرت أنيابه) ولا دليل على هذا القول لأن الشكر له.
التاسع: يعلم المسلمون أن العفو عن الناس خال من الضرر على الملة والشريعة الإسلامية وهو خير محض، وليس في الحلم ذل ومهانة، بل العفو رحمة جعلها الله عز وجل مستديمة بين الناس ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه آله سلم.
العاشر: يعلم المسلمون بإنحصار مغفرة الذنوب بالله عز وجل فلم يجعلها بيد ملك مقرب أو نبي رسول، بل بقيت المغفرة بيد الله وحده، ولا يقدر عليها غيره، قال تعالى[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ]( ) .
فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم يقوم بتبليغ الناس بالأصل الذي تتقوم به المغفرة وهو الإنسلاخ من الكفر , والتوبة من الشرك والضلالة، ومع إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم معصوم من الخطأ والزلل فليس من حصر لأدعيته في الإستغفار وسؤال المغفرة من الله ومنها:
الأول: أبوء لك بذنبي وأبوء لك بنعمتك علي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ( ).
الثاني: اللهم أنى ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت( ).
الثالث: الحديث الذي يسمى سيد الإستغفار، إذ ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِالنِّعْمَةِ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ قَالَ إِنْ قَالَهَا بَعْدَمَا يُصْبِحُ مُوقِنًا بِهَا ثُمَّ مَاتَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ قَالَهَا بَعْدَمَا يُمْسِي مُوقِنًا بِهَا ثُمَّ مَاتَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)( ).
الرابع: بالإسناد عن الإمام علي عليه السلام في حديث إستفتاح وإختتام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصلاته: اللهم أغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به منى أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت)( ).
وجاءت أحاديث كثيرة في تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الدعاء مطلقاً والإستغفار خاصة، ومنها ما ورد بالإسناد عن سعد بن أبي وقاص أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، علمني كلاما أقوله، قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم العزيز الحكيم .
قال: هؤلاء لربي، فما لي؟، قال: قل: اللهم اغفر لي، وارحمني، وأهدني، وارزقني)( ) .
ويلاحظ في الحديث إبتداء الشطر الثاني من الدعاء بسؤال المغفرة لأن مصاديق الرحمة والرزق وأسباب الهداية والعافية التي تأتي مع المغفرة أعظم وأسنى وأكثر.
ولا يقدر على إطلاق المغفرة موضوعاً وحكماً ومتعلقاً إلا الله عز وجل لقوله تعالى[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ] فلا يستطيع الملوك والملأ أن يشتروا مغفرة ذنوبهم بالمال والجاه والسلطان , بل حالهم حال الناس بوجوب اللجوء إلى الله وسؤال عفوه ومغفرته، ليكون العفو عن الناس مصداقاً عملياً لهذا اللجوء، لأنه طاعة لله عز وجل في باب الرحمة والرأفة بين الناس، وتعدى العفو في آية السياق بــ(عن) وفيه مسائل:
الأولى: إرادة الإطلاق بالعفو، وأنه يتعلق بالناس، وليس بالسيئة والتعدي وحده.
الثانية: بعث الأمن والسكينة في قلوب الناس بعفو المسلمين عنهم.
الثالثة: دعوة الناس إلى الإستغفار، وبعثهم للتوبة والسعي في مرضاة الله، وسؤال لعفو منه تعالى، وفي التنزيل[وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ]( )، وقد تجلت مكارم الأخلاق في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد الله عز وجل أن تكون تأديباً للمسلمين في الإمتناع عن فعل الفاحشة فكان قريباً منهم لا يحجب عنهم حاجب أو خادم .
وفي الخبر عن وائل بن حجر: لقد كنت أصافح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو يمسى جلدي جلده، فأتعرقه بعد في يدي وإنه لأطيب رائحة من المسك.
ومن صفاته صلى الله عليه وآله وسلم أمور:
الأول: إذا مشى يسرع كأنما ينحدر من أعلى، لا يستطع أحد أن يلحق به.
الثاني: ساقاه بيضاءان، تبرقان لمعاناً.
الثالث: يفوح منه ريح طيبة ويُرى بياض أبطيه , وهو أمارة على الطهارة والنظافة ، قال أنس: ما شممت عنبرا قط ولا مسكا ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه و سلم)( ).
الرابع: كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس، يسابق الريح في الكرم والجود.
الخامس: ما عرض عليه أمران إلا إختار أيسرهما، إلا أن يكون فيه إثم.
السادس: قال أَبَو سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ)( ).
السابع: من الخلق الكريم الذي يتصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يوجه اللوم لأحد على فعل أو ترك في المباحات، قال أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فما قال لي: أف قط، ولا قال لشيء مما صنعه خادم: لم فعلت كذا وكذا، وهلا فعلت كذا) ( ).
الثامن: لا ينزع يده من يد الذي يصافحه إلى أن يسحب الآخر يده.
التاسع: يجالس الفقراء ويقبل على من يحدثه، ولا يعرض عنه.
العاشر: يجيب دعوة من دعاه، حراً كان أو عبداً ويسـأل عن الصحابي إذا غاب عنه، ويعود المريض ويدعو الله له.
الحادي عشر: يفشي السلام، ويبادر بالسلام على الذي يلقاه ولو كان صبياً.
الثاني عشر: يتكلم عند الحاجة، ولا يوبخ أحداً وإنما يقول (ما بال أقوام) كناية ومن أجل الإصلاح وتهذيب النفوس , وفيه نكتة وهي علمه ببقاء سنته منار هدىً للأجيال , فيجتنب المسلون الفعل الذي يكرهه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث عشر: حليم لا يغضب لنفسه، نعم يغضب لله عز وجل.
الرابع عشر: لا يأخذه الزهو والكبر عند تحقيق النصر على الأعداء، لأنه يعلم[إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ]( )، ولابد من وقوع مصداق بشارات النصر والفتح وعلو راية الإسلام التي جاء بها التنزيل وأخبر بها جبرئيل.
لقد تجلت أخلاق النبوة بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكانت مرآة لسنن السماء في الأرض، وترجمة لما جاء في القرآن من السمت الحسن، ومنهاج الأنبياء، وهي محط إفتخار المسلمين، وفي كل يوم تتبين المنافع العظيمة لسنته وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم في المجتمعات وعند عموم أهل الأرض وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، وهناك صفات كريمة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نذكر شطراً منها في محلها إن شاء الله.
الرابعة: قد تكون للعقوبة كيفية خاصة من وجوه:
الأول: العقوبة التي يختارها الإنسان، موضوعاً وزماناً ومكاناً بما يكون فيها تشديد وأذى وإضرار على المسيء والمذنب , كما لو إنتظر غفلته، أو ترقب إنفراده عن أهله وأصحابه.
الثاني: تحقق الممكن من العقاب، وما هو قريب وميسور للذي يعاقب غيره، فجاءت آية البحث دعوة للعفو عن ذات الإنسان في جوارحه وبدنه وماله، وإن كان مستحقاً للعقوبة.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في العفو وسننه، ومن الآيات أن المسلمين وأمرائهم إقتدوا به في حياتهم وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى إذ كان عفوه مدرسة تشع منها أنوار الرأفة والرحمة، وعندما سئلت عائشة عن أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قالت(خلقه القرآن)( ).
إذ يتضمن القرآن مكارم الأخلاق , وللتسليم بأن سنة النبي ترجمة عملية لآيات القرآن، وما فيها من الدعوة للصلاح وعمارة الأرض بذكر الله، والبعث على الإستغفار، وقد آذنت ثقيف النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً قبل الهجرة وبعد فتح مكة، ومع هذا فأنه بادر إلى العفو عنهم وتبعه أهل البيت والمهاجرون والأنصار.
وعن أبي جزول زهير بن صرد الجشمى يقول: لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين يوم هوازن وذهب يفرق الشبان والسبي أنشدته هذا الشعر:
امنن علينا رســــــول الله في كــرم … فــــــإنك المـــرء نرجــــــوه وننتظــــر
امنن على بيضــــة قد عاقها قدر … مفرقا شــملها في دهـــــرهـــا غــــــير
أبقت لنا الدهر هتافا على حزن … على قلوبهـــــم الغـــــماء والغـــــــمر
إن لم تداركهــــم نعماء تنشرها … يا أرجح الناس حلـما حين يختـــــــبر
امنن على نســوة قد كنت ترضعها …وإذ يزينــك ما تأتي ومـــا تـــــــــذر
لا تجعلنا كمن شــــالت نعامـــــــته … فاســــتبق منا فإنا معشــــر زهــــــــر
إنا لنشكــر للنعــــماء إذ كفــــــرت … وعندنا بعـــــد هذا اليوم مــــــدخر
فألبس العفو من قد كنت ترضــعه … من أمهاتك إن العفـــو مشـــــــتهر
يا خير من مرحت كمت الجياد به …عند الهياج إذا ما أســــتوقد الشرر
إنا نؤمل عفوا منــــــــك نلبسه … هــادي البـــــرية إذ تـعفــــو تنتصـــــــــر
فاعف عفا الله عما أنت راهبه … يوم القيامة إذ يهــدى لك الظــــــــــفر
فلما سمع هذا الشعر قال: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله)( ).
الثالث: جاءت الآية السابقة بصيغة الجمع في لغة الخطاب والعفو، بأن العفو عن الناس مطلقاً من غير تقييد العفو بشرط أو صفة أو خصوصية، ومن مصاديق العفو في السنة النبوية(أَنه أُتِيَ بأَسِيرٍ يُرْعَد فقال لقَوْمٍ اذْهَبُوا به فَأَدْفُوهُ فَذهبوا به فقتلوه فَوداهُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أَراد الإِدْفَاء من الدِّفْءِ وأَن يُدْفَأَ بثوب فَحَسِبُوه بمعنى القتل في لغة أَهل اليمن)( )، وأراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تدفئته رفقاً به وبعثاً للسكينة في نفسه، ومع أنه أسير فقد دفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ديته لأنه قتل خطأ .
فإذا كان العفو يشمل الجاني، فمن باب الأولوية القطعية أنه يشمل غيره , ممن آزره وهيئ له المقدمات، ومن يتصل به في القربى والإنتماء، وفيه آية في السماحة والسخاء بأن يكون العفو عاماً وشاملاً، وهو من عمومات قوله تعالى في خاتمة هذه الآية (وهم يعلمون) فالمسلمون يعلمون بعمومات العفو التي تذكرها الآية السابقة، وهم يمتثلون لها عن علم وفهم وتفقه في الدين.
الرابع: العقوبة المنصوصة , كما في سرقة المال فإن عقوبته قطع اليد إذا كان ربع دينار ذهب أو أكثر من المال المسكوك أو ما يعادله، لأن التعدي والظلم حصلا بهذه الجارحة، قال تعالى[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ]( ).
فإقامة الحد في السرقة لا ينحصر بمقدار المسروق، وإن جاءت الآية أعلاه مطلقة إذ أن السنة مقيدة لها، بالإضافة إلى عمومات شرائط السرقة منها:
الأول: بلوغ السارق، فلا قطع على الصبي غير البالغ لأن شرط البلوغ عام في التكاليف.
الثاني: العقل، فلابد أن يكون السارق عاقلاً غير مجنون، ولو جنوناً إدوارياً ساعة السرقة.
الثالث: أن يكون السارق مختاراً، غير مكره على السرقة.
الرابع: علم السارق بأن ما يأخذه هو ملك للناس، فمع الإشتباه أو التخيل بأنه ماله يدفع عنه الحد، وإن يسقط عنه الضمان.
الخامس: إنتفاء شركة السارق في المال، فلو أخذ من مال مشاع وشركة بينه وبين غيره ولو على سبيل المضاربة فلا قطع عليه.
السادس: أخذ المال خلسة، فلو نهب المال، أو جاء وكسر القفل عنوة وعلناً فدخل أمام الناس وسرق بمقدار ربع دينار ذهباً أو أكثر فلا حد عليه، وكذا لو نهب أو سلب المال من يد صاحبه نعم عليه التعزير، ولا قطع لو أكتشف أنه خان الأمانة وتصرف بها أو سرق من المسجد أو الأماكن العامة التي يرتادها الناس.
السابع: لا قطع على الأب الذي يسرق ماله إبنه، لما وردت من نصوص إكرام الأب وحقه في الأخذ من مال إبنه.
وبالإسناد(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبِي أَخَذَ مَالِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِأَبِيكَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ، وَيَقُولُ: إِذَا جَاءَكَ الشَّيْخُ، فَسَلْهُ عَنْ شَيْءٍ قَالَهُ فِي نَفْسِهِ مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّيْخُ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ ابْنِكَ يَشْكُوكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ مَالَهُ؟
فَقَالَ: سَلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَنْفَقْتُهُ إِلَّا عَلَى عَمَّاتِهِ أَوْ خَالاتِهِ أَوْ عَلَى نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيهِ، دَعْنَا مِنْ هَذَا أَخْبِرْنَا عَنْ شَيْءٍ قُلْتَهُ فِي نَفْسِكَ مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاكَ، فَقَالَ الشَّيْخُ : وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَزَالُ اللهُ يَزِيدُنَا بِكَ يَقِينًا، لَقَدْ قُلْتُ فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، فَقَالَ: قُلْ: وَأَنَا أَسْمَعُ، قَالَ: قُلْتُ:
غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًــا ** تُعَلُّ بِمَا أَجْنِـــي عَلَيْـكَ وَتَنْـــــــهَـلُ
إِذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ ** لِسُّــــــقْمِكَ إِلَّاسَـــاهِرًا أَتَمَــلْـمَلُ
كَأَنِّي أَنَا الْمْطَرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي ** طُــرِقْتَ بِهِ دُونِي فَعَـيْنَايَ تَهْــمُلُ
تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا** لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَــوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّــلُ
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّــنَّ وَالْغَــايَةَ الَّتِي ** إِلَيْهَا مَــدَى مَا فِيــكَ كُنْتُ أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَـــاظَةً ** كَــأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْـــعِمُ الْمُتَفَضِّــــلُ
فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَــرْعَ حَـــقَّ أُبُـوَّتِي ** فَعَــلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ
تَــــــرَاهُ مُعَـــدًّا لِلْخِــلافِ كَأَنَّهُ ** بِرَدٍّ عَلَــى أَهْلِ الصَّـــوَابِ مُوَكَّــــلُ
قَالَ : فَحِينَئِذٍ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَلابِيبِ ابْنِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ وَمَالُكُ لأَبِيكَ، لا يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، بِهَذَا التَّمَامِ وَالشِّعْرِ، إِلَّا بِهَذَا الإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ عُبَيْدُ بْنُ خَلَصَةَ)( ).
الثامن: أن لا يكون السارق مضطراً للسرقة، كما لو كان في حال فاقة وعوز وفي زمان قحط، وسرق ما يحتاج إليه، وإن كان عليه الضمان عند الميسرة، وقد أثنى الله عز وجل على الذي يطعم الطعام أوان المجاعة وزمان القحط، قال تعالى[أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ]( ).
صلة قوله تعالى (والله يحب المحسنين)، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: قوله تعالى أعلاه خاتمة للآية السابقة فهي متصلة مع آية البحث , فليس من كلمة أو كلمات تفصل بينهما، ولابد لهذا الإتصال من دلالات.
الثانية: إتحاد موضوع الآيتين، وتعلق كل واحدة منهما بالمتقين الذين هيئ وأصلح الله عز وجل لهم الجنة، وجعلها بإنتظارهم ليس بينهم وبينها إلا مغادرة الروح الجسد، فإن قلت هناك تباين بين عالم القبر والإقامة في الجنة، وتفصل بينهما مواطن الحساب، قال تعالى[وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
والجواب بالخروج من الدنيا ينقطع عمل العبد وموارد الإبتلاء، وتقر صحيفة الإعمال إلا أن يشاء الله بأن تأتي عليها أسباب العفو والرحمة، فهي لا تختم عند الموت، بل يأتيها الثواب بالعرض من التركة في الصالحات وفعل الغير المترشح عن فعله والمترتب كأثر عليه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا مات أحدُكم فقد قامتْ قيامتُه , واعبدوا اللهَ كأنكم ترونه واستغفروه كلَّ ساعةٍ)( ).
الثالث: جاءت الآية السابقة بذكر الخاص والعام، أما الخاص فهم الذين يعفون عن غيرهم، وأما العام فهم الناس جميعاً بلحاظ أنهم معفو عنهم، ومتجاوز عن سيئاتهم.
فإن قيل ليس كل الناس يعفو عنهم المسلمون، والجواب نعم هذا صحيح وعالم الإمكان أعم من عالم الوقوع، فجاءت الآية للإخبار عن قانون كلي في الأرض، بعفو المسلمين عن الناس، كملكة وإستعداد.
وقد يأتي العفو بمعنى أخذ أو دفع الزائد , وإجتناب أدنى مراتب الضرر، قالوا: لَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هِلَالَ الْمُحَرّمِ سَنَةَ تِسْعٍ بَعَثَ الْمُصَدّقِينَ( ) يُصَدّقُونَ الْعَرَبَ فَبَعَثَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ إلَى بَنِي تَمِيمٍ وَبَعَثَ يَزِيدَ بْنَ الْحُصَيْنِ إلَى أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَبَعَثَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ الْأَشْهَلِيّ إلَى سُلَيْمٍ وَمُزَيْنَةَ وَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مُكَيْثٍ إلَى جُهَيْنَةَ وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إلَى بَنِي فَزَارَةَ وَبَعَثَ الضّحّاكَ بْنَ سُفْيَانَ إلَى بَنِي كِلَاب ٍ وَبَعَثَ بِشْرَ بْنَ سُفْيَانَ إلَى بَنِي كَعْبٍ وَبَعَثَ ابن اللّتْبِيّةِ الْأَزْدِيّ إلَى بَنِي ذُبْيَان َ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُصَدّقِينَ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَفْوَ مِنْهُمْ وَيَتَوَقّوْا كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ)( ).
وهل قانون(العفو) في آية البحث عقائدي أم أخلاقي، الجواب هو الأول، لأن عفوهم عن الغير قربة إلى الله وطاعة له سبحانه، نعم تترشح المعاني الأخلاقية من هذا القانون وتتداخل معه، وهو من الشواهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، تنشر الأخلاق الفاضلة بطاعتها لله عز وجل.
الرابعة: يتضمن قوله تعالى(والله يحب المحسنين) الثناء على المســلمين، وإكرامهم والوعد الكـــريم لهم باللطــف والحــب والإحســان من الله عز وجل، وتجلت معاني هذا الحب بآية البحث التي جاءت متعقبة لهذا الثناء والإكـــرام , فمن حب الله عز وجل للمسلمين بعثهم على ذكر الله عز وجل والإستغفار عند فعل معصية أو ذنب، فهذا الذكر مرتبة رفيعة ومقام عظيم , وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الذين يذكرون الله عند فعل الفاحشة يحبهم الله.
الصغرى: المسلمون يذكرون الله عند فعل الفاحشة.
النتيجة: المسلمون يحبهم الله.
ترى لماذا لم يرزق الله المسلمين العصمة من فعل الفواحش وظلم النفس، وهذه العصمة أسمى مرتبة من تعقب المعصية بالذكر والإستغفار.
والجواب من وجوه:
الأول: بلغ المسلمون مرتبة التقوى بالذكر عند فعل الفاحشة.
الثاني: الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، والناس فيها على أقسام، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالهداية إلى الإيمان، واللجوء إلى الذكر والإستغفار عند إرتكاب المعصية.
الثالث: تفضل الله عز وجل على الأنبياء ورزقهم العصمة من الذنوب والمعاصي لذا جاء إعداد الجنة في الآية قبل السابقة بأنه للمتقين ليدخل معهم الأنبياء من باب الأولوية القطعية فهم سادة المتقين، وأئمة المسلمين.
الرابع: عصمة الأنبياء موعظة وسبيل هداية وصلاح للمسلمين والناس جميعاً، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الخامس: جاء القرآن بحفظ وتوثيق سنن الأنبياء لتكون حجة في ميادين التقوى، وباعثاً على التنزه من فعل الفاحشة وظلم النفس، وهو من عمومات ما ورد في سورة يوسف[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( ).
السادس: باب العصمة والإرتقاء إليها مفتوح للمسلمين والمسلمات بالإكتساب وحمل النفس على إتيان الطاعات والإعراض عن أسباب الغواية والقبائح , وآيات البحث من هذا الباب .
الخامسة: من معاني الصلة والإتصال بين خاتمة آية السياق وآية البحث بعث السكينة في نفوس المسلمين من شدة الحساب والمؤاخذة في الآخرة عن الذنوب كبائرها وصغائرها.
(عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى شَابٍّ، وَهُوَ فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: وَاللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ، وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ، فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ، إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو، وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ)( ).
وفي الحديث ترغيب للمسلمين بذكر الله عز وجل والتوبة وإظهار الخشوع والخضوع عند الإحتضار، وتجديد الأمل بالعفو والمغفرة من الله عز وجل.
السادسة: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: والله يحب المحسنين الذين إذا فعلوا فاحشة ذكروا الله.
الثاني: والله يحب المحسنين الذين إذا ظلموا أنفسهم ذكروا الله.
الثالث: والله يحب المحسنين الذين ذكروا الله فإستغفروا لذنوبهم.
الرابع: والله يحب المحسنين الذين لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
السابعة: تدل آية البحث على إحسان المسلمين لأنفسهم , مجتمعين ومتفرقين في الفعل وتلقيه , من وجوه:
الأول: بلوغ مرتبة التقوى بالهداية إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه غاية الإحسان والنفع المستديم للنفس في الدنيا الآخرة.
الثاني: إحراز مرتبة التقوى سبيل للعفو والمغفرة عن فعل الفاحشة وظلم النفس، نعم هذا العفو نافلة وفضل من الله عز وجل.
الثالث: كما أعد الله عز وجل الجنة للمتقين فإنه سبحانه أضاء لهم طرق العفو والمغفرة في الدنيا، وبيّن لهم مسالك التوبة التي تتقوم بذكره تعالى وسؤال المغفرة منه سبحانه وإتخاذ الشكر له سبحانه وسيلة ورجاءً للفوز بالعفو والمغفرة، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما أنعم الله على عبد من نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها قبل أن يحمده ، وما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر له ذلك قبل أن يستغفره ، إن الرجل ليشتري الثوب بالدينار فيلبسه فيحمد الله فما يبلغ ركبتيه حتى يغفر له)( ).
الرابع: تأكيد حب الله عز وجل للمؤمنين للجوئهم إلى الذكر والإستغفار، ولأن الظفر بالمغفرة سلّم للإرتقاء إلى أرفع الدرجات، وبلغة لنيل أسمى المطالب.
الخامس: حسن ظن المسلمين بالله عز وجل، وأنه سبحانه يغفر ذنوبهم لمبادرتهم إلى الذكر وسؤال المغفرة منه تعالى مع تجدد المعصية والخطيئة، وأخرج البيهقي عن عقبة بن عامر الجهني أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أحدنا يذنب، قال: يكتب عليه قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفر له ويتاب عليه ولا يمل الله حتى تملوا)( ).
السادس: حب الله عز وجل للمسلمين لأنهم يقرون بحقيقة ثابتة , وهي إنحصار مغفرة الذنوب بالله عز وجل، وفي هذا الإقرار مسائل:
الأولى: التسليم بترتب الأثر على الأفعال.
الثانية: التصديق بعالم الحساب.
الثالثة: الإقرار بشهادة الله على الأعمال، وأنه تعالى قريب من العباد، قال تعالى[هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ]( ).
الرابعة: لزوم التنزه عن المعاصي والذنوب خشية من الله عز وجل.
الخامسة: ملازمة سبل طاعة الله، وقد تقدم قبل ثلاث آيات قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
السادسة: القيام بالشكر لله عز وجل على إمهاله لنا على الذنوب، وعدم تعقبها بالعقوبة وهو سبحانه[غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
السابعة: لقد أكرم الله عز وجل بني آدم بالخلق والخلافة في الأرض ليعبدوه، وعند إخلالهم بالعبادة تفضل سبحانه وهداهم إلى سبل العفو والمغفرة , ومنها آية البحث.
الثامنة: تأكيد إنتفاء الجهالة عن المسلمين، لأن هذا الإقرار علم قائم بذاته , وتترشح علوم كثيرة تنفع المسلم في دنياه وآخرته، وهو من الشواهد على إرتقاء المسلمين لمراتب العلم، وتفضيلهم وبشارتهم بقوله تعالى[هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
التاسعة: طرد الغفلة عن المسلم في عالم الفعل , وبعثه على التقيد بأداء الفرائض والمناسك، وعن ابن عمر وابن عباس أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَلَيُكْتَبَنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ)( ).
العاشرة: اللجوء إلى الدعاء والإستجارة بالله عز وجل للإحتراز من الذنوب وآثارها الوضعية والأخروية، وتدل هذه الإستجارة بالدلالة التضمنية على التسليم بأن الذنوب كبيرها وصغيرها لا يقدر على محوها وسترها إلا الله عز وجل .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه : اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم والقسوة، والغفلة، والعيلة والذلة والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر والكفر، والفسوق، والشقاق، والنفاق والسمعة، والرياء، وأعوذ بك من الصمم والبكم والجنون، والجذام، والبرص، وسيئ الأسقام)( ).
السابع: يحب الله المؤمنين لأنهم لا يقيمون على فعل الفاحشة أو ظلم النفس , بل يلجأون إلى الله عز وجل، وهذا اللجوء حرز وواقية، وباعث للندم والحيطة في النفس، ليكون الذكر صرحاً وبرزخاً دون العودة إلى مستنقع الفاحشة.
الثامنة: ذكرت آية البحث خلة يتصف بها المتقون، والتقوى ذاتها محبوبة عند الله عز وجل، لما فيها من الإمتثال لأمر الله عز وجل في علة خلق الإنسان، ونشر الصلاح في الأرض، وبعث الطمأنينة في نفوس الناس، إذ أن النفس تسكن لأهل التقوى بالفطرة للتضاد بين التقوى والإضرار بالناس ,
وأختتمت آية السياق بالحث على الإحسان للناس جميعاً، وقال الحسن: الإحسان أن تعم ولا تخص، كالريح والمطر والشمس والقمر)( ).
التاسعة: يكون الناس بلحاظ العفو على أقسام:
الأول: الذي لا يعفو عن الغير، ويسعى في العقوبة.
الثاني: الذي يختار العفو، ويترك العقوبة.
الثالث: الذي يعفو عن السيئة، ويحسن إلى الذي أساء إليه.
والقسم الثالث أعلاه هم المتقون الذين يختارون العفو ويقرنونه بالإحسان طاعة لله عز وجل وطمعاً في الثواب الذي أعده الله للمتقين، فإن قيل إعتبار الطمع في العبادة أمر غير راجح لقول الإمام علي عليه السلام: (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار)( ), فالجواب تلتقي هذه الوجوه في مصاديق العبادة وطاعة الله، وجاءت آية البـحث لبعـــث المســـلمين والناس جميعـــاً على عبــادة الله عز وجل شكراً له سبحانه على تفضله بنعمة الخلق والجزاء الحسن، وإتخاذ الشوق والطمع في الجنة شاهداً على الإقرار على ربوبيته المطلقة وإعترافاً بعظيم قدرته وسلطانه.
العاشرة: مجيء الآية السابقة بقوله تعالى(والله يحب المحسنين) وبعد مصاديق من الإحسان والبر شاهد على عدم حصر أو تقييد مصاديق الإحسان، وأنها أعم وأكثر مما ذكرته الآية السابقة، فجاءت آية البحث بمصاديق أخرى تتعلق بإحسان المتقين إلى أنفسهم بلحاظ كبرى كلية , وهي أولوية النفس في الإحسان وأسباب السلامة من العذاب الأليم في الآخرة، وهو من إعجاز القرآن.
الحادية عشرة: إختتام الآية السابقة بقوله تعالى (والله يحب المحسنين) مقدمة وترغيب بالعمل بمضامين آية البحث، وإخبار بأن خصال التقوى لا تقف عند أفراد الآية السابقة، من الإنفاق في حال السعة والشدة، وحبس الحنق والغضب عند طرو أسبابهما , والعفو عن الناس، فمن الإحسان معرفة القبائح والرذائل والمعاصي وإجتنابها والتنزه عنها، ومع غلبة النفس الشهوية وإتيانها فلابد من ذكر الله والإستغفار.
الثانية عشرة: من وجوه الإبتلاء والإمتحان في الحياة الدنيا التباين في الرزق بين الناس، قال تعالى[وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ]( )، وفيه شاهد على أن التفاوت في أرزاق ومعايش الناس من القوانين الكلية والسنن الكونية الثابتة بحكمة من الله عز وجل، وفيه تحد للطواغيت، والأفكار التي تلغي الملكيات الخاصة وما يترشح عنها من الإبداع وصيغ الدعاء، وإختيار سبل التقوى بالإنفاق في السراء والضراء، وقد تكون حال الغنى أو الفقر سبباً لزيادة إيمان العبد، وبرزخاً دون فعله الفاحشة، كما أنها مناسبة لذكر الله والإستغفار.
(شكا فقراء المسلمين ما فضل به أغنياؤهم، فقالوا: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا آمنوا إيماننا وصلوا صلاتنا وصاموا صيامنا لهم علينا فضل في الأموال يتصدقون ويصلون الرحم ونحن فقراء لا نجد ذلك قال: أفلا أخبركم بشيء إن صنعتموه أدركتم مثل فضلهم: قولوا دبر كل صلاة: الله أكبر إحدى عشرة مرة والحمد لله إحدى عشرة مرة وسبحان الله إحدى عشرة مرة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له إحدى عشرة مرة، وسبحان الله إحدى عشرة مرة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له إحدى عشرة مرة تدركوا مثل فضلهم فبلغ ذلك الأغنياء
فقالوا مثل ما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءوه، فقالوا: يا رسول الله، إخواننا يقولون مثل ما نقول قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ألا أبشركم يا معشر الفقراء إن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم خمسمائة عام)( ).
بحث أصولي في النحو
إبتدأت كل من الآية السابقة وهذه الآية بالاسم الموصول(الذين)، ولعل الجمع بينهما بمفهوم العطف يظهر تخلف الصناعة النحوية عن علوم القرآن، وعجزها عن الإحاطة بذخائر القرآن اللغوية للحصر في دلالات العطف نحوياً .
والعطف لغة: الإنصراف، الميل، والرجوع، قال ابن منظور: عَطَفَ يَعْطِفُ عَطْفاً انصرفَ ورجل عَطوف وعَطَّاف يَحْمِي المُنْهَزِمين وعطَف عليه يَعْطِفُ عَطفاً رجع عليه بما يكره أَو له بما يريد ) وقال :عَطف الشيءَ يَعْطِفُه عَطْفاً وعُطُوفاً فانعطَفَ وعطَّفه فتعطَّف حَناه وأَمالَه)( ).
ومع إتحاد موضوع (الذين) في الآيتين , فإن الأول وفق الصناعة النحوية نعت وصفة للمتقين، بينما يكون الثاني معطوفاً على الأول وقيل على المتقين، وإن كان هذا العطف يتعلق بموضوع النعت أيضاً، والاسم الموصول في آية البحث لم يتصل موضوعاً بالمتقين إلا بواسطة الاسم الموصول(الذين) في الآية السابقة .
ولو قلت بأن(الذين) في هذه الآية هي صفة أخرى للمتقين فيرد عليه أن المراد من(الذين) في الآيتين هم أمة متحدة وليس هو من المتعدد، إذ يأتي ذات العطف في المتغايرين في اللفظ والمعنى أو في أحدهما , وقد يستلزم التفصيل في العطف بحسب الموضوع والحكم , ويكون على أقسام:
الأول: العطف الذاتي وهو العطف الذي يتعلق بذات الموضوع، كما في آية البحث.
الثاني: العطف بين المتغايرين في اللفظ وإن إتحدا في الموضوع.
الثالث: العطف بين المتحدين في اللفظ , المتغايرين في الموضوع.
الرابع: العطف بين المتغايرين في الموضوع والمعنى، وهو أكثر أقسام العطف , كما في قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
الخامس: عطف الجملة الإسمية على مثلها , والفعلية على أختها.
السادس: عطف الجملة الإسمية على الفعلية , وبالعكس.
السابع:عطف الجملة الخبرية على الإنشائية وبالعكس , على القول به, وندرته.
الثامن: عطف العام على الخاص وبالعكس.
التاسع: عطف الموجبة الجزئية على الموجبة الكلية، وعطف السالبة الجزئية على السالبة الكلية , وبالعكس في كل منهما.
العاشر: عطف الناقص على التام وبالعكس كما لو قيل بتعلق الآية السابقة بكمال التقوى، وهذه الآية بالتدارك والعودة لمنازل التقوى بالذكر والإستغفار.
الحادي عشر: عطف الصفات مع إتحاد الموصوف , كما في قوله تعالى[خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا]( ).
الثاني عشر: التعدد والتباين في حرف العطف ودلالاته , فالقدر المتيقن من حرف العطف (الواو) إشراك الثاني فيما دخل فيه الأول موضوعاً أو حكما أو هما معاً، ولا يفيد الترتيب إلا مع القرينة، وأستدل على عدمه وإحتمال مجئ الثاني أولاً , بقوله تعالى[وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ]( )، بلحاظ أن السجود في الصلاة بعد الركوع، ولكن هذا الإستدلال ليس بتام لإحتمال التباين في المعنى والمقصود , وأنه أعم من الصلاة بهيئتها وموضوعها وشرائطها وترتيبها , كما جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيد عطف النسق بحصوله بواسطة حرف عطف (وحده ابن الحاجب بأنه تابع يقصد بالنسبة مع متبوعه)( ).
(والتوابع هي الأسماء التي لا يمسها الأعراب إلا على سبيل التبع لغيرها وهي خمسة أضرب تأكيد وصفة وبدل وعطف بيان وعطف بحرف)( ).
فهل[الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً]هم غير[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] الجواب فيه وجوه:
الأول: الإتحاد في الأفراد والأشخاص والجماعات.
الثاني: التعدد والتغاير , وأن الذين يفعلون الفاحشة فيذكرون الله، هم غير الذين ينفقون في السراء والضراء.
الثالث: الإتحاد على نحو الموجبة الجزئية ونسبة العموم والخصوص من وجه , وهو أن شطراً من كل من الفريقين تجتمع فيه الخصال التي ذكرتها الآيتان.
الرابع: الإتحاد في مضامين الآية السابقة , فالمتقون جميعاً يعملون بما ورد فيها من الإنفاق وكظم الغيظ والعفو، ويتخذون من الإحسان للغير رداءً.
أما بالنسبة لمضامين آية البحث فإن فريقاً من المتقين يرتكبون الفاحشة، وفريقاً يمتنعون عنها، وهو من أسرار مجيء ( الواو ) للعطف في الآية الكريمة.
والصحيح هو الأول والرابع، فمن أسرار العطف بين موضوع الآيتين، تحقق مضامين الآية السابقة، أما مضامين هذه الآية فهي على قسمين:
الأول: إحتمال الوقوع والحدوث، وهو على شعبتين:
الأولى: فعل الفاحشة.
الثانية: ظلم النفس.
الثاني: تحقق الحدوث، وإتيان الفعل وهو على شعبتين أيضاً:
الأولى: ذكر الله عز وجل.
الثانية: الإستغفار.
قد ينعم الله عز وجل على فريق من المؤمنين بأبهى مصاديق الإيمان وأسمى مراتب التقوى لينالوا في الآخرة الدرجات العلى، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن الأنبياء يدخلون في مضامين الآية السابقة , فهم من المتقين وسادتهم وأئمتهم في سبل التقوى واليقين والخشية من الله.
بحث منطقي في الجمع بين الآيتين
يعتبر علم المنطق المعاني وعقلانيتها بالذات، وينظر إلى الألفاظ بالتبعية والإلحاق، وهناك تقسيمات متعددة لها بحسب اللحاظ، والقضية فيه قول مركب تام الخبر، وفيه وجهان محتملان:
الأول: الصدق.
الثاني: الكذب.
لذا فإنه خبري وليس إنشائياً، والقضايا في القرآن خارجة من تقسيم المناطقة أعلاه، من جهات:
الأولى: ليس في القضية القرآنية إلا الصدق، فكل خبر في القرآن هو حق وصدق، قال تعالى[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا]( )، وليس من ثقل لساني وصوتي أثقل من وحي القرآن، ونزول كلماته على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعن أنس قال: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان واضعاً رأسه على فخذي فأتاه الوحي، فكان فخذي تكاد تنفصل مني ، وذكر أنه إذا نزل الوحي عليه وهو على راحلته في السفر بركت به الناقة .
(وكان النبي محمد عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحى يحمر وجهه، ويغط كما يغط البكر من الابل، ويتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد) قال تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً( ).
الثانية: الجملة الخبرية في القرآن هي صدق كلها، فتختلف عن الجملة الخبرية في كلام الناس المتعارف التي تحتمل الصدق والكذب , ومن المؤمنين من لا يكذب.
الثالثة: يلحق بالقرآن نصوص السنة النبوية الشريفة فإنها كلها حق وصدق سواء كانت وفق الإصطلاح قضية من المركب التام الخبري أو جملة إنشائية بلحاظ الدلالة والغاية من الحديث النبوي الشريف، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وتقسم القضية حسب الرابطة، ونسبة الحكم بينهما إلى قسمين:
الأول: القضية الحملية وتتألف من موضوع ومحمول بأن يلحق المحمول فيها بالموضوع، مع وجود نسبة ورابطة بينهما , كما لو قلت: صلّى زيد.
فالموضوع هو زيد
والمحمول(صلى)
أما الرابطة فهي نسبة الصلاة إلى زيد وكل فرد من طرفي القضية الحملية، أما مفرد أو مركب ناقص لذا قيل أن القضية الحملية أصغر القضايا، بلحاظ أنها لا توجد في المركبات التامة، وتنقسم الرابطة في القضية الحملية إلى شعبتين:
الأولى: رابطة إثبات، وتسمى بالموجبة، كما في قوله تعالى[مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]( ).
الثانية: رابطة نفي، وتسمى سلبية، كما في قوله تعالى[مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى]( ).
وتحتمل القضية الحملية الصدق والكذب، والثبوت والنفي، ليتحد الموضوع والمحمول في الوجود الذهني.
الثاني: القضية الشرطية: وتتألف من طرفين أيضاً كالحملية، ولكن ليس فيها ثبوت المحمول للموضوع , بل يتعلق فيها أحد الطرفين على الآخر وكأنه من تعلق المعلول على علته وليس منه، ويكون كل طرف من طرفي القضية مركباً خبرياً تاماً وقضية مستقلة، ويسمى الجزء الأول منها(المقدم)، والثاني (التالي) بينما يسمى طرفا القضية الحملية(الموضوع) و(المحمول) وقد يأتي الموضوع أولاً وقد يأتي تالياً.
وتنقسم القضية الشرطية إلى قسمين:
الأول: الشرطية المتصلة، وهي التي يكون بين طرفيها تلازم وترابط، وأن أحدهما ملازم للآخر، كما في قوله تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
ولا تتعارض هذه الملازمة مع صبغة التعليق التي تتصف بها القضية الشرطية، بل يكون التعليق في طول الملازمة، ولولاه لكانت القضية حملية كما يظهر في الآية أعلاه فإن إبتداء صيام شهر رمضان معلق على رؤية هلال الشهر.
الثاني: الشرطية المنفصلة: وهي التي يكون بين طرفيها تعاند وتضاد، ويكون وجود المقدم فيها سبباً لإنعدام وجود التالي كما في قوله تعالى[أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ]( )، وتسمى هنا مانعة الجمع.
وبين آية البحث والآية السابقة لها عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء تضمن كل واحدة منهما لصفات حميدة للمؤمنين تؤهلهم للثواب والنعيم الدائم في الآخرة بالخلود في الجنة التي يكون عرضها كالسموات والأرض إذا إتصل بعضها ببعض على نحو طولي.
أما مادة الإفتراق وفق الإصطلاح المنطقي والتقسيم المتقدم في هذا البحث فإن الآية السابقة من القضية الحملية الموجبة التي تفيد الصدق والقطع، إذ ذكرت الإنفاق في الرخاء والشدة، والسعة والعوز، وذكرت حبس الحنق والغضب وكذا العفو عن الناس كخصال حميدة تترشح عن مقامات التقوى.
أما آية البحث فإنها من القضية الشرطية المنفصلة لما فيها من صفات للمتقين معلق فيها اللاحق على التالي، فإذا أذنبوا ذنباً أو فعلوا ما يضرهم في أمور دينهم ودنياهم فإنهم يلجأون إلى ذكر الله والإستغفار لأنه الطريق إلى محو الذنوب.
الثاني: صلة قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، بهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: التداخل الموضوعي بين الآيتين ظاهر من وجوه:
الأول: جاءت آية البحث لبيان صفات المتقين الذين ذكرت الآية أعلاه تهيئة وإصلاح الجنة لهم.
الثاني: مجيء الآيتين بالحث على الإستغفار، والندب إليه، وبيان منافعه والآثار الحسنة المترتبة عليه.
الثالث: إتحاد موضوع الآيتين، وهو بيان صفة وسعة الجنة، وسبيل الدخول إليها.
الرابع: لغة الجمع في الخطاب والمضمون في الآيتين.
الخامس: إرادة المسلمين والمسلمات في صيغة الخطاب والقصد في الآيتين، قال تعالى[جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ]( ).
الثانية: جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية، أما آية السياق فهي إنشائية تتضمن الندب والبعث إلى أمرين:
الأول: المغفرة من الله.
الثاني: اللبث الدائم في الجنة.
الثالثة: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: سارعوا إلى مغفرة من ربكم إذا فعلتم فاحشة.
الثاني: سارعوا إلى مغفرة من ربكم إذا ظلمتم أنفسكم.
الثالث: إذكروا الله وسارعوا إلى مغفرة من ربكم.
الرابع: سارعوا إلى مغفرة من ربكم وأنتم تعلمون.
السابع: سارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض بذكر الله والإستغفار لذنوبكم.
الثامن: سارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فإستغفروا لذنوبهم.
التاسع: وسارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للذين لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون .
وتتجلى هذه المسارعة بالسعي الحثيث في مسالك العبادة، وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام قال: إن جدي رسول الله صلى الله عليه و آله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر فلم يدع الاجتهاد له، و تعبد بأبي هو و أمي حتى انتفخ الساق وورم القدم، و قيل له أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر , قال أفلا أكون عبدا شكورا)( ).
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين لزوم المبادرة إلى الإستغفار وسؤال العفو ومحو الذنوب من عند الله عز وجل، والإستغفار على وجهين:
الأول: الإقامة والمواظبة على الإستغفار مطلقاً , من غير أن يكون متعقباً لذنب أو إستحضار فعل معصية في الوجود الذهني.
الثاني: اللجوء إلى سلاح الإستغفار عند فعل المعصية، أو التقصير في الواجب, وفيه مسائل:
الأولى: تنمية لملكة الإستغفار , وتوارث أجيال المسلمين لها ذكوراً وأناثاً.
الثانية: طرد الغفلة بالتذلل والتضرع، وإظهار المسكنة والخضوع لله عز وجل قال تعالى[وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
الثالثة: سؤال العفو عن الذنوب إحتراز وواقية من المعاصي.
الرابعة: الإستغفار من مصاديق ذكر الله عز وجل.
ولا ينحصر موضوع الإستغفار بالذات بل يشمل الغير من المؤمنين الموجود والذي غادر الدنيا.
وبالإسناد عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ بِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ ، فَسَمِعَ الأَذَانَ، اسْتَغْفَرَ لأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ ابن زُرَارَةَ، وَدَعَا لَهُ، فَمَكَثْتُ حِينًا أَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللهِ، إِنَّ ذَا لَعَجْزٌ، إِنِّي أَسْمَعُهُ كُلَّمَا سَمِعَ أَذَانَ الْجُمُعَةِ يَسْتَغْفِرُ لأَبِي أُمَامَةَ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَلاَ أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ لِمَ هُوَ؟ فَخَرَجْتُ بِهِ كَمَا كُنْتُ أَخْرُجُ بِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ الأَذَانَ اسْتَغْفَرَ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتَاهُ، أَرَأَيْتَكَ صَلاَتَكَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ كُلَّمَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ بِالْجُمُعَةِ، لِمَ هُوَ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى بِنَا صَلاَةَ الْجُمُعَةِ، قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ، فِي نَقِيعِ الْخَضَمَاتِ، فِي هَزْمٍ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ رَجُلاً)( ).
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل يغفر الذنوب عند الإستغفار من وجوه:
الأول: الأمر الإلهي للمسلمين والمسلمات بالمسارعة إلى المغفرة، وتدل صيغة (إفعل) على الوجوب إذا جاءت مجردة من القرائن .
الثاني: تعــيين جــهة صـــدور المغفرة، وأنها لا تكون إلا من عند الله عز وجل.
الثالث: تأكيد كل من آية البحث والسياق بأن مغفرة الذنوب لا تكون إلا من عند الله عز وجل.
الرابع: إرادة الإطلاق في جنس وماهية الذنوب التي يغفرها الله عز وجل إلا أن يرد إستثناء ومخصص منفصل , كما في قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( )، فإن قلت جاءت آية البحث والسياق بالبعث الأكيد للإستغفار والترغيب فيه، والإخبار بأن المغفرة من عند الله حاضرة ومتعلقة بالإستغفار، وكأنها من ترتب المعلول على علته.
الجواب هذا صحيح، لتكون كل من الآيتين من اللطف الإلهي , ومما يدل عليه قوله تعالى[قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( ).
السادسة: يبين الأمر بالمسارعة إلى المغفرة في آية السياق إنعدام الفترة والفرد الزماني بين فعل الفاحشة والإستغفار وأسباب التوبة، والمُسارَعَةُ إلى الشيء: المبادرةُ إليه)( ) وهي محمودة، ويقال(سرعان الناس: – بفتح الراء- أوائلهم)( ).
وبين المسارعة إلى المغفرة والإستغفار عموم وخصوص مطلق، فالمسارعة إلى المغفرة أعم من الإستغفار فتتضمن أموراً:
الأول: أداء الفرائض والواجبات.
الثاني: السعي لستر الذنب والمعصية باللجوء إلى الله تعالى , والغفر هو ستر الذنب، ليكون معنى الإستغفار هو طلب ستر الذنب من الله عز وجل والمغفرة هي ستر ومحو الذنب وإبداله بالإحسان، لذا فلم تقل الآية سارعوا إلى عفو من ربكم, لأن العفو إزالة للذنب بترك العقوبة والمؤاخذة عليه, وجاء الجمع في قوله تعالى[وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا]( ).
الثالث: رجاء العفو عن المعاصي والذنوب التي إرتكبها العبد.
الرابع: المبادرة إلى الصدقة قربة إلى الله ورجاء فضله ومغفرته، وليس من حصر لمنافع وفيوضات الصدقة على البدن والنفس، وفي الدنيا والآخرة .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تصدقوا وداووا مرضاكم بالصدقة ، فإن الصدقة تدفع عن الأعراض والأمراض، وهي زيادة في أعمالكم وحسناتكم)( ) .
الخامس: المبادرة إلى سؤال العفو والستر من الله عز وجل تسليم بربوبيته وإقرار بتوحيده وأن مقاليد الأمور بيده تعالى, وفي التنزيل [لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( )، أي الذين لا يعرفون طرق الهداية، وسعة رحمة الله، وكمال قدرته , وتفضله بمحو ذنوب الذين يستغفرونه.
السادس: رجاء فضل الله، وسعة رزقه، والسلامة من أسباب الفتنة والإفتتان، وعن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى[لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
السابع: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رجاء الثواب من عند الله، والإتعاظ من الإنذار من العقاب الأليم على الإصرار على الذنوب، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( ).
الثامن: التوبة النصوح، والتنزه عن المعاصي والذنوب، وعدم التسويف في التوبة والإنابة.
التاسع: العفو عن الناس، والصفح عن الإساءة والظلم رجاء الأجر والثواب من عند الله.
العاشر: إتيان الواجبات والمستحبات بقصد القربة.
الحادي عشر: التوقي من رفقة السوء والحيطة من إغواء الشيطان , وما يشغل الإنسان على التوبة ومقدماتها، قال تعالى[الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثاني عشر: العزم الأكيد على عدم العودة للذنوب والمعاصي.
الثالث عشر: الحرص على عدم الإخلال بالواجب.
الرابع عشر: الإقامة على طاعة الله والرسول.
الخامس عشر: التسليم بأن الله عز وجل هو (الغفور الرحيم)( ).
السادس عشر: التقيد بالسنة النبوية، والعمل بمضامينها رجاء المغفرة والعفو من عند الله , قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
السابع عشر: التضرع وإظهار معاني الخشوع لله عز وجل والخوف منه تعالى ليسير هذا الخوف من العقاب من الله إلى جانب الرجاء لفضله تعالى في النشأتين.
الثامن عشر: إجتناب الإقدام والمسارعة إلى الضد من الإستغفار مثل الإقامة على الذنوب والإصرار عليها.
التاسع عشر: إشاعة المعروف وأفعال البر والسعي في قضاء الحوائج، وإصلاح ذات البين، وإطعام الطعام، وأخرج عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان( ))( ).
العشرون: الإستغفار سؤال المغفرة عما سلف من الذنوب والمعاصي، وتدرك المغفرة بالندم والإنابة والإستقامة والصلاح .
الحادي والعشرون : تعاهد المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب الإنابة والتوبة
أرجى آية
الرجاء ممدود نقيض اليأس: رجا، يرجو رجاء، وليس في السنة القولية لفظ (أرجى) ولكنه مبحث كلامي في دراسة مقارنة وسياحة في آيات الفضل الإلهي .
وفي أرجى آية في القرآن أقوال ووجوه :
الأول: قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، والمراد الذين أقروا بالتوحيد صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم(ثم إستقاموا) أي واظبوا على أداء الفرائض والعبادات.
وورد ذات المعنى بالإخبار عن نزول الملائكة في قوله تعالى[) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ]( ) (تنزل عليهم الملائكة) وفيه مسائل :
الأولى: في الحياة الدنيا، كما في معاني قوله تعالى[تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا]( )، لبيان فضل ليلة القدر ولزوم إستثمارها بالعبادة، والشأن العظيم لمناسبة نزول القرآن فينزل الملائكة لتغشي هذه الليلة بالبركات، ويحيطون بالمؤمنين ويرون تلاوة المسلمين لآيات القرآن وصيامهم نهار رمضان وهذا النزول من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما رد على الملائكة في إحتجاجهم على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، فيتجدد نزول الملائكة في كل سنة ليروا [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وهي تجتهد في أمور:
الأول: طاعة الله، وأداء الفرائض.
الثانية: الإقرار وهذا التعاهد من مصاديق قوله تعالى[وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( )، ومجيئه بصيغة الفعل المضارع التي تدل على الدوام والتجدد.
الثالثة: تعاهد صرح التوحيد في الأرض.
الرابعة:قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامسة:إستدامة ذكر الله، وحرص المسلمين على اللجوء إلى الله عز وجل في حال الرخاء والشدة، والإستقامة وعند العثرة، وبالإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده( ).
السادسة: رؤية الملائكة للمسلمين وهم يفوزون بالثواب العظيم والمقام الرفيع بذكر الله لهم، وفي قوله تعالى[وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ]( )، وجهان:
الأول: أن ذكر الله إياكم افضل من ذكركم إياه روي مرفوعاً عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( ) وعن عبد الله بن ربيعة، قال: قال لي ابن عباس: هل تدري ما قوله:(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال: قلت: نعم، قال: فما هو؟ قال: قلت: التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة، وقراءة القرآن ونحو ذلك، قال: لقد قلت قولا عجبا وما هو كذلك، ولكنه إنما يقول: ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه، إذا ذكرتموه(أَكْبَرُ) من ذكركم إياه( )، وروي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام: ذكر الله لأهل الصلاة اكبر من ذكرهم اياه الا ترى انه يقول (اذكروني اذكركم) ( ).
الثاني:ذكر العبد لله عز وجل، وهذا الذكر على أقسام في كبره من:
الأول: ذكر الله عز وجل أكبر من سائر الطاعات.
الثاني: ذكر الله أكبر من النهي عن الفحشاء والمنكر.
الثالث:ذكر الله في الصلاة أكبر من ذات الصلاة.
الرابع:الصلاة هي الذكر وهي الأكبر من سائر الطاعات قال تعالى بخصوص صلاة الجمعة[فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ]( )، طاعة الله الإقرار بالتوحيد والإيمان بالنبوة والتنزيل.
وحضور الملائكة عند الموت من وجوه تسمية أوان الموت بالإحتضار، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ]( ).
وهناك مسألتان:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بصيغة المفرد، وورد قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا]( )، بصيغة الجمع.
الثانية: لا يختص حضور الملائكة عند الموت بالمؤمنين، فيشمل الكفار أيضاً، قال تعالى[حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ]( ).
أما الأولى فتتعلق بحضور الموت ودنو الأجل، والإستعداد لمغادرة الدنيا بحفظ الحقوق والواجبات الشخصية، وتعاهد صلة الرحم عند الرحيل لتأكيد الإيمان بالمعاد والوقوف بين يدي الله للحساب، وكأن الوصية بالمال للوارث توصية له بالخشية من الله والتقيد بالواجبات، وعن ثابت عن أنس لما نزلت[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا]( ) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمتي ورب الكعبة)( ).
أما الثانية فإن آية البحث لا تنفي حضور الملائكة عند الكفار ساعة موتهم، وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ]( )، في إشارة إلى ملك الموت وقبضه لروح الكافر، وقيل نزلت الآية أعلاه في ناس من أهل مكة دخلوا في الإسلام ولم يهاجروا منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة. وقيس بن الوليد بن المغيرة وانهم أظهروا الإيمان وأسرّوا النفاق فلما كان يوم بدر خرجوا مع المشركين إلى حرب المسلمين فلما التقى الناس، ورأوا قلة المؤمنين قالوا: غرّ هؤلاء دينهم، فقتلوا يوم بدر فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وهزموهم)( )، ولكن الآية أعم موضوعاً وحكماً، والمدار على عموم المعنى وليس على سبب النزول.
أما المؤمنون فينزل عليهم عند ساعة الموت ملائكة الرحمة لبعث السكينة في نفوسهم، وتخفيف الفزع وشدة قبض الروح عليهم، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن نفس المؤمن تخرج رشحا وإن نفس الكافر تسيل كما تخرج نفس الحمار وإن المؤمن ليعمل الخطيئة فيشدد بها عليه عند الموت ليكفر بها وإن الكافر ليعمل الحسنة فيسهل عليه عند الموت ليجزى بها)( ).
وهل يصح على هذا تمني المؤمن الموت للفوز بالراحة والطمأنينة في قبض الروح، الجواب لا، لأن الدنيا مزرعة للآخرة، وعملاً لفعل الصالحات وإكتناز الحسنات، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فخروج المسلمين للناس يملي عليهم السعي الحثيث في مرضاة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه انه إذا مات أحدكم انقطع عمله عنه وانه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا)( ).
ونزول الملائكة عند البعث والنشور عون ومدد للمؤمنين لتخفيف من أهوال البعث عنهم، فيقول المؤمنون تصديقاً بالبعث وما جاءت به الرسل والكتب المنزلة[هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ]( )، وفي إعادة الأبدان حال البعث أمور ثلاثة:
الأول: جمع ما تفرق منها، من غير أن تكون موضوعية لشبهة الآكل والمأكول لعظيم قدرة الله وإستجابة ذرات الأجسام لأمره وسلطانه قال تعالى[وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ]( ).
الثاني: ثبات البدن من عجب ذنب كل إنسان، وهو على شعبتين:
الأولى: الجسد الناشئ جديد فيكون كالشجرة التي تنبت من النواة، وهذا البدن مشابه ومماثل لجسده في الدنيا.
الثانية: عودة جسد الإنسان ذاته الذي كان في الحياة الدنيا، فيقع عليه الجزاء ثواباً أو عقاباً.
والأصح هي الشعبة الثانية، وبالإسناد عن أبي سعيد الخدري عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب( )ذنبه( ) قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: مثل حبة خردل( ) منه ينشأون)( ).
الثالث: إعادة الإجسام من العدم.
والإطلاق والمعنى الأعم، في تعدد المواطن التي تنزل بها الملائكة بشارة ورحمة بالمؤمنين، بأن ينزل الملائكة عند الموت، وفي عالم القبر وعند البعث، وفي مواطن الحساب، وهل يمكن القول بوجه خامس، وهو نزول الملائكة على المؤمنين وهم في الجنة الجواب نعم يأتيهم الملائكة ولكن ليس بمعنى النزول ، وفيه وجوه:
الأول: إخبار الآية عن قيام الملائكة بإخبار المؤمنين بالبشارة بدخول الجنة، لقوله تعالى[تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ]( )، وهناك فارق زماني بين البشارة ومصداقها الواقعي وإذا كان زمان دخول الجنة معلوماً وهو في عالم الآخرة، فإن أوان البشارة متصل غير محصور، لتكون الحياة الدنيا(دار البشارة).
وتتعدد الوسائط المباركة للبشارة وموضوعها، وأسمها وأعظمها البشارة باللبث الدائم في الجنة ومن هذه الوسائط:
الأول: الكتب السماوية المنزلة.
الثاني: بعثة الأنبياء والرسل، قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
الثالث: نزول الملائكة بلطف وفضل من الله، وهل تدخل الرؤيا الصالحة في البشارات الجواب نعم، وبه وردت نصوص مستفيضة.
وعن حذيفة بن أسيد الغفاري عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: ذهبت النبوّة فلا نبوة بعدي وبقيت المبشرات، رؤيا المسلم الحسنة يراها المسلم أو ترى له)( ).
الثاني: تستقبل الملائكة المؤمنين عند دخولهم الجنة.
الثالث: جاءت الآية ببعث السكينة في نفوس المؤمنين، وحثهم على عدم الخوف أو الحزن، والخوف من أمر مستقبل، وخشية العذاب، والحزن على الماضي.
بالإسناد عن سفيان الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: “قل آمنت بالله، ثم استقم”)( ).
الرابع: تبعث الآية أعلاه المسلمين على الثبات على الإيمان، وكأنها مدد ملكوتي متصل ومتجدد لتكون شاهداً على صحة وصدق الوجوه السابقة كلها، لأن الله عز وجل يعطي بالأعم والأوفى، وإن كان موضوع أرجى آية يتعلق بعالم الآخرة.
وهذا المعنى لا يتعارض مع مجيء البشارة للمؤمنين وهم في الجنة، وقد ورد عن جابر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} قال ما سألني عنها أحد: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة)( )، ويدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما سألني عنها أحد) على أمور:
الأول: أن أهل البيت والصحابة كانوا يسألون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن تفسير ومعاني ما ينزل من آيات القرآن.
الثاني: إنعدام الفترة بين نزول الآية وسؤالهم عنها.
الثالث: تعدد السؤال منهم عن تفسير وتأويل الآيات.
الرابع: لعل المراد هو المعنى الأعم وشمول أهل الكتاب في موضوع السؤال عن معاني آيات القرآن.
وعن ثابت عن أنس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] قال: من مات عليها، فهو ممن إستقام) ( )، وفيه دلالة باب الآية تجمع بين التكليف والبشارة لتدل في مفهومها أيضاً على الإنذار والوعيد للكفار.
أما بالنسبة لصلة آية البحث بقوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا]( )، فقد تكرر قوله تعالى أعلاه في القرآن مرتين يتعلقان بعالم الآخرة، وكل واحدة منهما تفسر الأخرى، فقد ورد في سورة فصلت[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] ( ) .
وقيل أن البشارة عند الموت، وعند دخول الجنة من باب واحد.
ولكن كل واحدة منهما لها أوانها ومناسبتها وموضوعها والنزاع صغروي إن كانت الأولى من ختام عالم الدنيا في مقابل البشارات في عالم الآخرة ، كما في قوله تعالى[لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
والصلاة هي الركن الذي تتقوم به العبادة، وبالإسناد عن معاذ بن جبل قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا تدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم قلت : يا رسول الله ألا أبشر الناس؟ قال: دعهم يعملون)( ).
وتحتمل آية البحث في موضوع البشارة وجوهاً:
الأول: إنها بشارة في الحياة الدنيا.
الثاني: بشارة عند الموت.
الثالث: بشارة في عالم القبر.
الرابع: بشارة عند النشور.
الخامس: بشارة يوم الحساب.
ولا تعارض بين هذه الوجوه إذ تتضمن آية البحث معاني البشارة في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فإن الآية جاءت بأمور:
الأول: تقوى الله .
الثاني: ذكر الله.
الثالث: الإستغفار.
الرابع: ترك الإصرار على الذنب.
الخامس:التفقه في الدين , لإختتامها بقوله تعالى ( وهم يعلمون ).
وأما في الآخرة فإن الله عز وجل يجزي المسلمين على الإيمان وفعل الصالحات ومنه ذكرهم له سبحانه، ويأتي الإستغفار ليجعل كفة الذنوب خالية وعاجزة عن الترجيح أمام كفة الصالحات .
وذكر أن داود عليه السلام سأل الله عز وجل أن يريه الميزان عن عبدي ملأتها بثمرة( ).
فإن قلت جاءت الآية أعلاه بقيد الإستقامة[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] وفعل الفاحشة وظلم النفس خلاف الإستقامة.
والجواب يفيد الجمع بين الآيتين أن إرتكاب المؤمن المعصية ومبادرته بعدها إلى الذكر والإستغفار من مصاديق الإستقامة بمعنى أن إرتكاب المعصية من منازل التقوى وتعقبها بالذكر والإستغفار لا يخرج المسلم عن صبغة الإيمان وصفة الإستقامة بالإضافة إلى حقيقة وهي أن إرتكاب الفاحشة في حال حصوله فأنه يأتي في ثنايا الإنفاق في سبيل الله على كل حال وحبس الغضب والعفو عن أهل الإساءة من الناس مطلقاً رجاء رحمة الله عز وجل في النشأتين، وهذه الصالحات والغاية الحميدة منها أمور تدل على حسن السمت والإستقامة وهي من مصاديقها.

الوجه الثاني: روى ثوبان عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما أحب أن لي الدنيا, وما فيها بهذه الآية{ياعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم قال: إلا ومن أشرك ثلاث مرات)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام: ما في القرآن آية أوسع من[ياعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ])( )، ولفظ أوسع أعم من أرجىَ ويتعلق بالعمل والسعي في سبل التوبة ودفع القنوط واليأس عن النفس(وقال ابن مسعود: إنها أكثر آية فرجاً)( ).
وجاءت آية البحث لتأكد هذه السعة والمندوحة ولكنها خاصة بالمتقين الذين يخشون الله عز وجل، أم الآية أعلاه فأنها أعم، لتتضمن صيغتي العموم والإطلاق معاً، عموم الخطاب للناس جميعاً، وتعلقها بالذنوب مطلقاً، نعم ورد التقييد بالمشيئة عن(مصحف عبد الله بن مسعود: إن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء)( ).
وهذا التقييد للبيان والتفسير، وإلا فإن الأصل هو ما مرسوم في المصاحف وورد البيان فيما روته أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ{يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً} ولا يبالي)( ).
ولكن ترجيح منزلة ومنافع هذه الآية على الدنيا وما فيها لا يدل على أنها أرجى آية في الآخرة.
الآية خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقوم بتبليغ البشارة بالعفو من الله للناس جميعاً بقيد الإستغفار والتوبة، وتشمل البشارة بالنص والتصريح الذين أفرطوا في التعدي والإنغماس في المعاصي.
وذكرت في أسباب نزول هذه الآية وجوه:
الأول: نزلت الآية في وحشي قاتل حمزة، وأخرج البيهقي بسند لين عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي بن حرب قاتل حمزة يدعوه إلى الإِسلام، فأرسل إليه: يا محمد كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل، أو أشرك، أو زنى، {يلقَ أثاماً}{يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً}( ) وأنا صنعت ذلك فهل تجد لي من رخصة؟ فأنزل الله{إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً}( ) فقال وحشي: هذا شرط شديد{إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً} فلعلي لا أقدر على هذا.
فأنزل الله{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}( ) فقال وحشي: هذا أرى بعد مشيئة فلا يدرى يغفر لي أم لا , فهل غير هذا؟ فأنزل الله{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم…}قال وحشي: هذا فهم , فأسلم، فقال الناس: يا رسول الله: إنا أصبنا ما أصاب وحشي قال: بلى للمسلمين عامة)( ).
ووحشي بن حرب الحبشي من سودان مكة وهو مولى جبير بن مطعم بن عدي ويكنى وحشي أبا دسمة، وجاء مع قريش في هجومها على المدينة يوم أحد قالت له إبنة الحارث بن نوفل بن عامر: إن أبي قتل يوم بدر، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر؛ إن قتلت محمداً أو حمزة بن عبد المطلب، أو علي بن أبي طالب , فإني لا أرى في القوم كفؤا لأبي غيرهم ، فقال وحشي : أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني قد عرفت أني لا أقدر عليه ، وأن أصحابه لن يسلموه ، وأما حمزة فقلت : والله لو وجدته نائما ما أيقظته من هيبته ، وأما علي فقد كنت ألتمسه . قال : فبينا أنا في الناس ألتمس عليا، إلى أن طلع علي ، فطلع رجل حذر مرس كثير الالتفات، قال: فقلت: ما هذا صاحبي الذي ألتمس، إذ رأيت حمزة يفري الناس فريا)( ).
وكان وحشي يرمي بالحربة رمي الحبشة فلا يكاد يخطئ، فإستخفى لحمزة عم النبي خلف حجر ثم رماه بحربة كانت معه فقتله شهيداً، وبذا فقد قتله غيلة وليس مبارزة فحينما(إصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ خَرَجَ سِبَاعٌ فَقَالَ هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ قَالَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ يَا سِبَاعُ يَا ابن أُمِّ أَنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ الْبُظُور( )ِ، أَتُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ قَالَ حبشي: وَكَمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ فَلَمَّا دَنَا مِنِّى رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِى، فَأَضَعُهَا فِى ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيْهِ قَالَ فَكَانَ ذَاكَ الْعَهْدَ بِهِ)( ).
وكان جبير بن مطعم وعد وحشي بالعتق أيضاً إن قتل حمزة( )، وظهر الحزن وأشد الألم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند مقتله وكان حمزة يوم قتل(ابن تسع وخمسين سنة)( )، وقيل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى على حمزة سبعين مرة، كلما قدّمت له جنازة صلى عليه معها.
قال ابن هشام (ولما رأى صلى الله عليه وسلم حمزة قتيلاً بكى، فلما رأى ما مثل به شهق. وذلك أن هند إبنة عتبة بن ربيعة لما قتل أباها وعمها وأخاها أبو عبيدة بن الحارث وحمزة وعلي مبارزة لم تزل هي والنسوة اللاتي كن معها يوم أحد يجدعن آناف القتلى وآذانهم، ونظمت من ذلك أساور ومخانق وخلاخل، وأعطت أساورها ومخانقها وخلاخلها لوحشي، ثم عمدت إلى بطن حمزة فشقتها وأخرجت كبده فلاكتها، فلم تستطع سيغها فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة ثم أنشدت: من الرجز
نحن جـــزيناكم بيـــــــــوم بدر … والحـــرب بعد الحرب ذات ســــــــعر
ما كان عن عتبة لي من صــبر … ولا أخــــي وعـــــــمّه وبكــــــــــــــري
شـــفيت نفسي وقضيت نذري … شـــــــفيت وحشــيّ غليل صــــدري
فشــــــــكر وحشيّ عليّ عمري … حتّـــــى ترمّ أعظمي في قبــــري)( ).
وقد أجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن عبد المطلب رجزاً وكأن شكر هند من منازل الكفر وعلى أقبح فعل قام وحشي ظل يلاحقه، قال ابن هشام: بلغني أن وحشيا لم يزل يجد في الخمر حتى خلع من الديوان وكان عمر يقول لقد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة)( )، (ولما فتحت حمص نزلها، ووقع في الخمر يشربها. ولبس المعصفر المصقول، فكان أول من ضرب في الخمر بالشام، وأول من ليس المعصفرات في الشام ومات بحمص في بركة خمر)( ).
وتدل كيفية إسلام حبشي على إستبعاد نزول آيات عديدة بسبب إسلامه ودعوته على نحو التعيين , وقد كان مطلوباً خصوصاً وانه خرج مرة أخرى مع المشركين في الخندق وقتل الطفيل بن النعمان الأنصاري، ثم أحد بني سلمة .
قال ابن عباس: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل وحشي مع النفر، ولم يكن المسلمون على أحدٍ أحرص منهم على وحشي؛ فهرب وحشي إلى الطائف، فلم يزل به مقيماً حتى قدم في وفد الطائف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فقال: وحشي؟! قال: نعم، قال: اجلس، حدثني كيف قتلت حمزة، فأخبره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غيب عني وجهك.
قال: فكنت إذا رأيته تواريت عنه حتى خرج الناس إلى مسيلمة، فدفعت إلى مسيلمة فزرقته بالحربة، وضربه رجل من الأنصار، فربك أعلم أينا قتله)( ).
الثاني: نزلت في قوم آمنوا ولم يهاجروا ففتنوا فإفتتنوا ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم.
الثالث: نزلت الآية في قوم من أهل الجاهلية قالوا ما ينفعنا الإسلام لأننا قد زنينا وقتلنا النفوس.
والآية كنز وخزينة سماوية مدخرة وحاضرة للناس جميعاً، فمن إعجاز القرآن إجتماع الإدخار والحضور في العين الواحدة ، والنفع المتصل من الآية من غير أن ينقص من منافعها ودررها شيء، لتكون الآية القرآنية مثالاً في الدنيا لأشجار وثمار الجنة والوعد الكريم يومئذ بقوله تعالى[لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ]( )، فالمسلمون ينهلون من آيات القرآن، وهي غير ممنوعة عن أحد من أهل الأرض.
الوجه الثالث: آية [وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى]( )، والآية شاملة لفضل الله في الدنيا والآخرة.
وهي من سورة الضحى التي هي من السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومع أن الصبغة الغالبة على هذه السور التخويف والوعيد للكفار .
فقد جاءت الآية على وجوه:
الأول: إنها سكينة ومدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة.
الثاني: فيها دعوة للناس لدخول الإسلام.
الثالث: طرد أسباب الشك والتردد التي كانت تلح على شطر منهم في بدايات الدعوة.
الرابع: الآية حرب على الملأ من قريش الذين أظهروا العداوة والإستغفار والسخرية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته وأصحابه , قال تعالى[إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( ).
الخامس: في الآية مواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يلقاه وأصحابه من الأذى والتعذيب من قريش بالشفاعة لأمته.
السادس: تقوية قلوب المسلمين وزيادة إيمانهم، قال تعالى[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( ).
إن تحمل الذين أسلموا في أول أيام الدعوة الأذى من أسباب نزول هذه الآية من سورة الضحى وما فيها من البشارة للأجيال المتعاقبة من المسلمين والمسلمات بالفوز بشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت الآية إكراماً وتشريفاً ووعداً كريماً له بصيغة القسم مع بيان النعم التي تفضل الله عز وجل بها عليه في ذات السورة منها قوله تعالى[وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى] ( ).
وفي معاني الضلالة في المقام وجوه منها:
الأول: وجد الله قومك في ضلالة، وكأن الآية من لغة إياك أعني وإسمعي يا جارة.
الثاني: لم تكن تعرف الحق والنبوة فهداك الله عز وجل له، وصحيح أن الخطاب في الآية للنبي محمد صلى عليه وآله وسلم إلا أنه عام للمسلمين , وفيه دعوة لهم للشكر لله عز وجل على نعمة المعرفة والبصيرة.
الثالث: إعراض الناس عنك وعن نبوتك(فوجدك ضالاً) أي مضلول كما يقال سر كاتم أي مكتوم.
الرابع: لمّا هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ضل في الطريق، وضل دليله، فهداه الله إلى الطريق الواضح إلى أن بلغوا مدينة يثرب، لتكون الآية على هذا المعنى بشارة، وليس الضلالة بمعنى فعل المعصية وتعلق الآية بموضوع الهجرة بعيد فقد جاءت بصورة الفعل الماضي ، ولو شاء الله لأنزل آية مدنية تتضمن الإخبار عن هذه الواقعة.
الخامس: وجدك ضالاً في شعاب مكة فردك إلى جدك (فروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضل في شعاب مكة و هو صغير فرآه أبو جهل و رده إلى جده عبد المطلب)( ).
وقيل لما رآه أبو جهل أناخ الناقة وأركبه من خلفه فأبت أن تقوم فأركبه أمامه فقامت , فكأن الناقة تقول يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدي)( ).
وفيه آية بأن يكون رجوعه إلى جده على يد عدوه وعدو الإسلام أبي جهل، ليكون مثل قصة إرجاع موسى عليه السلام إلى أمه على يد فرعون.
السادس: ذكر أن حليمة بنت أبي ذؤويب لما أرضعته مدة عادت به إلى أهله في مكة ضلّ في الطريق فطلبته جزعة , وكانت تقول إن لم أره لأرمين نفسي من شاهق وجعلت تصيح وا محمداه فدخلت مكة على تلك الحال فخرج جده عبد المطلب وتلقاه ورقة بن نوفل فوجداه قائماً تحت شجرة يجذب الأغصان ويلعب بالورق
وقال كعب(فقال له عبد المطلب من أنت يا غلام، قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال عبد المطلب: فدتك نفسي وأنا جدك، ثم حمله على قابوس سرجه وردّه إلى مكة وإطمأنت قريش بعد ذلك)( ).
السابع: بالإسناد عن بشر بن سعيد عن أبيه قال: حججت في الجاهلية، فإذا أنا برجل يطوف البيت، وهو يرتجز، ويقول: يا ربّ ردّ راكبي محمدا ردّ إليّ واصطنع عندي يدا فقلت: من هذا؟ قيل: عبد المطلب بن هاشم، ذهبت أبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها، ولم يرسله في حاجة قط إلاّ جاء بها، وقد احتبس عليه، قال: فما برحتُ أنْ جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل، فقال: يا بُنيّ لقد حزنت عليك حزناً لا يفارقني أبداً)( ).
ومن أسرار الأبوة في الحياة الدنيا أن الأب يحزن ويساوره الخوف والفزع حال غياب إبنه عنه، وتخلفه عن أوان الحضور سواء المعتاد والمتعارف، أو الخاص بواقعة ويكون عند الأم أدنى وأقل منه مرتبة.
ولكن حزن عبد المطلب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر مختلف لوظائف وآثار النبوة، وما ينبعث عند عبد المطلب وأبي طالب وغيرهما من الشعور بوجوب حفظه وتعاهده والذب عنه، كما ظهر في حلية السعدية وما أصابها من الفزع والجزع عند فقده صلى الله عليه وآله وسلم عند إرجاعها له بعد مدة الرضاعة , وهل هذا الحفظ من عمومات قوله تعالى[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً]( ).
الجواب إن الحرص والعناية التي أولاها أهل بيت النبوة لشخص النبي والأذى الذي لاقوه في شعب أبي طالب وكان علامات النبوة جلية وظاهرة ومصاحبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين ولادته وفي صباه ليتغير الزمان بنبوته بما ينفع الناس في النشأتين فكما يكون مبحث الرجاء في عدد من آيات القرآن فكذا يكون في شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونبوته والبركات المترشحة عنها.
الثامن : ما تعرض له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ضلالة الطريق وهو في قافلة مع عمه، (قال سعيد بن المسيب: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة , فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء ناقةً إذ جاء إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الحبشة، ورده إلى القافلة فمنَّ الله عليه بذلك)( ).
التاسع: وجدك ضالاً عن معالم النبوة وأحكام الشريعة فهداك إليها)( ).
العاشر:(وجدك ضالاً) عما أنت عليه من النبوة , فهداك الله عز وجل إلى إمامة الناس بالحق، قال تعالى في خطاب لداود[يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ]( )، لتشمل أحكام الخلافة في المقام النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من باب الأولوية.
الحادي عشر:الضلالة في الآية بمعنى الحيرة , إذ كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخلو في غار حراء يتوجه إلى الله عز وجل لإصلاحه لوظائف النبوة، بلحاظ أنه لم يكن على دين قومه من الضلالة لعصمة الأنبياء قبل النبوة وبعدها، ونشوئهم على التوحيد، وتنزههم عن الجهالة ولعمومات قوله تعالى[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ).
لذا فإن قريشاً عادوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل شيء, ولكنهم لم يرموه بالشرك وأسباب الجاهــلية مما يدل على أنه لم يكـــن معهم في ملتهم وضلالتهم , فبرأه الله عز وجل من كل ما قالوه فيه، ولم تأت هذه الآية وغيرها من آيات القرآن لتعيير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو توبيخه بل جاءت لبيان نعم الله عز وجل عليه وعلى المسلمين وتأكيد الإعجاز والفضل الإلهي في الحالة الشخصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعناية الله عز وجل به من صغره وإصلاحه للنبوة، ولقد كانت علامة النبوة ظاهرة في بدنه، عندما سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام رآها بحيرا الراهب فعرفها.
قَالَ ابن إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ فِي رَكْبٍ تَاجِرًا إلَى الشّامِ ، فَلَمّا تَهَيّأَ لِلرّحِيلِ وَأَجْمَع الْمَسِيرَ صَبّ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا يَزْعُمُونَ فَرَقّ لَهُ وَقَالَ وَاَللّهِ، وَلَا يُفَارِقُنِي، وَلَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا، أَوْ كَمَا قَالَ . فَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ فَلَمّا نَزَلَ الرّكْبُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشّامِ، وَبِهَا رَاهِبٌ يُقَالُ لَهُ بَحِيرَى فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ وَكَانَ إلَيْهِ عِلْمُ أَهْلِ النّصْرَانِيّةِ، وَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ الصّوْمَعَةِ مُنْذُ قَطّ رَاهِبٌ إلَيْهِ يَصِيرُ عِلْمُهُمْ عَنْ كِتَابٍ فِيهَا فِيمَا يَزْعُمُونَ يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. فَلَمّا نَزَلُوا ذَلِكَ الْعَامَ بِبَحِيرَى، وَكَانُوا كَثِيرًا مَا يَمُرّونَ بِهِ قَبْلَ ذَلِك، فَلَا يُكَلّمُهُمْ وَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ حَتّى كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ. فَلَمّا نَزَلُوا بِهِ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَتِهِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا كَثِيرًا، وَذَلِكَ فِيمَا يَزْعُمُونَ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ يَزْعُمُونَ أَنّهُ رَأَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ فِي الرّكْبِ حِينَ أَقْبَلُوا، وَغَمَامَةٌ تُظِلّهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ.
قَالَ ثُمّ أَقْبَلُوا فَنَزَلُوا فِي ظِلّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْهُ فَنَظَرَ إلَى الْغَمَامَةِ حِينَ أَظَلّتْ الشّجَرَةَ، وَتَهَصّرَتْ أَغْصَانُ الشّجَرَةِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى اسْتَظَلّ تَحْتَهَا، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ بَحِيرَى نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ وَقَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ الطّعَامِ فَصُنِعَ ثُمّ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ فَقَالَ إنّي قَدْ صَنَعْت لَكُمْ طَعَامًا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَأَنَا أُحِبّ أَنْ تَحْضُرُوا كُلّكُمْ صَغِيرُكُمْ وَكَبِيرُكُمْ عَبْدُكُمْ وَحُرّكُمْ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَاَللّهِ يَا بَحِيرَى إنّ لَك لَشَأْنًا الْيَوْمَ مَا كُنْت تَصْنَعُ هَذَا بِنَا، وَقَدْ كُنّا نَمُرّ بِك كَثِيرًا، فَمَا شَأْنُك الْيَوْمَ؟ قَالَ لَهُ بَحِيرَى: صَدَقْت، قَدْ كَانَ مَا تَقُولُ وَلَكِنّكُمْ ضَيْفٌ وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ أُكْرِمَكُمْ وَأَصْنَعَ لَكُمْ طَعَامًا، فَتَأْكُلُوا مِنْهُ كُلّكُمْ.
فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ وَتَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ لِحَدَاثَةِ سِنّهِ فِي رِحَالِ الْقَوْمِ تَحْتَ الشّجَرَةِ، فَلَمّا نَظَرَ بَحِيرَى فِي الْقَوْمِ لَمْ يَرَ الصّفَةَ الّتِي يَعْرِفُ وَيَجِدُ عِنْدَهُ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: لَا يَتَخَلّفَنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ طَعَامِي، قَالُوا لَهُ يَا بَحِيرَى، مَا تَخَلّفَ عَنْك أَحَدٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَك إلّا غُلَامٌ وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ سِنّا، فَتَخَلّفَ فِي رِحَالِهِمْ فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا، اُدْعُوهُ فَلْيَحْضُرْ هَذَا الطّعَامَ مَعَكُمْ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ الْقَوْمِ وَاَللّاتِي وَالْعُزّى، إنْ كَانَ لَلُؤْمٌ بِنَا أَنْ يَتَخَلّفَ ابن عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَنْ طَعَامٍ مِنْ بَيْنِنَا ، ثُمّ قَامَ إلَيْهِ فَاحْتَضَنَهُ وَأَجْلَسَهُ مَعَ الْقَوْمِ.
فَلَمّا رَآهُ بَحِيرَى، جَعَلَ يَلْحَظُهُ لَحْظًا شَدِيدًا، وَيَنْظُرُ إلَى أَشْيَاءَ مِنْ جَسَدِهِ وَقَدْ كَانَ يَجِدُهَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ حَتّى إذَا فَرَغَ الْقَوْمُ مِنْ طَعَامِهِمْ وَتَفَرّقُوا ، قَامَ إلَيْهِ بَحِيرَى، فَقَالَ يَا غُلَامُ أَسْأَلُك بِحَقّ اللّاتِي وَالْعُزّى إلّا مَا أَخْبَرْتنِي عَمّا أَسْأَلُك عَنْهُ وَإِنّمَا قَالَ لَهُ بَحِيرَى ذَلِكَ لِأَنّهُ سَمِعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ بِهِمَا، فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ”لَا تَسْأَلْنِي بِاَللّاتِي وَالْعُزّى شَيْئًا، فَوَاَللّهِ مَا أَبْغَضْت شَيْئًا قَطّ بُغْضَهُمَا “، فَقَالَ لَهُ بَحِيرَى : فَبِاَللّهِ إلّا مَا أَخْبَرْتنِي عَمّا أَسْأَلُك عَنْهُ فَقَالَ لَهُ ” سَلْنِي عَمّا بَدَا لَك “. فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ مِنْ نَوْمِهِ وَهَيْئَتِهِ وَأُمُورِهِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُخْبِرُهُ فَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا عِنْدَ بَحِيرَى مِنْ صِفَتِهِ ثُمّ نَظَرَ إلَى ظَهْرِهِ فَرَأَى خَاتَمَ النّبُوّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَى مَوْضِعِهِ مِنْ صِفَتِهِ الّتِي عِنْدَهُ قَالَ ابن هِشَامٍ: وَكَانَ مِثْلَ أَثَرِ الْمِحْجَمِ.
قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَلَمّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْك ؟ قَالَ ابْنِي. قَالَ لَهُ بَحِيرَى: مَا هُوَ بِابْنِك، وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيّا، قَالَ فَإِنّهُ ابن أَخِي، قَالَ فَمَا فَعَلَ أَبُوهُ؟ قَالَ مَاتَ وَأُمّهُ حُبْلَى بِهِ قَالَ صَدَقْت، فَارْجِعْ بِابن أَخِيك إلَى بَلَدِهِ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ يَهُودَ فَوَاَللّهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْت لِيَبْغُنّهُ شَرّا، فَإِنّهُ كَائِنٌ لَابن أَخِيك هَذَا شَأْنٌ عَظِيمٌ فَأَسْرِعْ بِهِ إلَى بِلَادِهِ فَخَرَجَ بِهِ عَمّهُ أَبُو طَالِبٍ سَرِيعًا، حَتّى أَقْدَمَهُ مَكّةَ حِينَ فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ بِالشّامِ فَزَعَمُوا فِيمَا رَوَى النّاسُ أَنّ زُرَيْرًا وَتَمّامًا وَدَرِيسًا وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ كَانُوا رَأَوْا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِثْلَ مَا رَآهُ بَحِيرَى فِي ذَلِكَ السّفَرِ الّذِي كَانَ فِيهِ مَعَ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَأَرَادُوهُ فَرَدّهُمْ عَنْهُ بَحِيرَى ، وَذَكّرَهُمْ اللّهَ وَمَا يَجِدُونَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ وَأَنّهُمْ إنْ أَجْمَعُوا لِمَا أَرَادُوا بِهِ لَمْ يَخْلُصُوا إلَيْهِ وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى عَرَفُوا مَا قَالَ لَهُمْ وَصَدّقُوهُ بِمَا قَالَ فَتَرَكُوهُ وَانْصَرَفُوا عَنْهُ( ).
فقال أبو طالب في ذلك من الشعر، يذكر مسيره برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرادوا منه – أولئك النفر – وما قال لهم فيه بحيرا:
إن ابن آمنـــــــة النبي محمـــداً … عندي بمثــــــل منـــــــــــــــازل الأولاد
لما تعلــــــــــق بالزمام رحمته … والعيـــــــس قد قلصـــــــــــن بالأزواد
فارفض من عيني دمع ذارف … مثـــل الجــــــمان مفرق الأفـــــــــــراد
راعيــــــت فيه قرابة موصولة … وحفظـــــــت فيه وصــــية الأجــــــداد
وأمرته بالســـــــير بين عمـومة … بيـــــض الوجــــوه مصـــــــالت أنجاد
ســــــــاروا لأبعد طية معلومة … فلقــــد تبــــــــــاعد طيـــــه المـــــــــرتاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا … لاقوا على شـــــرك من المرصـــــاد
حبراً فأخبرهم حديثا صــــــادقا … عنــــــــه ورد معاشـــــر الحســــــــاد
قوماً يهــــوداً قد رأوا ما قد رأى … ظــــل الغمــــــام وعز ذي الأكباد
ســــــاروا لقـــــــتل محمد فنهاهم … عنه وأجــــــهد أحســــــن الاجهاد
فثــــــنى زبيراً بحــــــــيرا فانثنـــــى … في القــــــوم بعد تجـــــادل وبعــــاد
ونهى دريســــــاً فانتهى عن قوله … حـــــبر يوافق أمره برشـــــــاد)( ).
التاسع: وجدك لا يعرفك الناس , وقيل إذا وجدت العرب شجر مفردة في فلاة سموها ضالة، لأن الضال في الطريق يهتدي بها، والمعنى وجدتك وحيداً فهديت الناس بك وإليك.
نعم وردت بعض الأخبار التي تتعلق بشفاعة النبي محمد في الآخرة وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: أشفع لأمتي حتى يناديني ربي أرضيت يا محمد؟ فأقول : نعم يا رب رضيت)( ).
روي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال لما نزلت: إذاً لا أرضى أن يبقى واحد من إمتي في النار)( ).
وعن محمد بن علي بن أبي طالب أنها أرجى آية وتعني الشفاعة .
وفي أسباب نزول الآية أعلاه ورد بالإسناد عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من جملة الإبل، فلما نظر إليها قال: يا فاطمة تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً)( ).
أما بخصوص صلة آية البحث بقوله تعالى[وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى]( ).
فقد ذكرت الآية في باب دلالة حذف المتعلق عن النعيم(ذكر علماء البيان أن حذف المتعلق يشعر بالتعميم نحو زيد يعطي ويمنع بحذف المفعولين , ونحو قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) بحذف المفعول الثاني وكقوله تعالى فأما من أعطى واتقى)( ).
ولكنه قياس مع الفارق فالآية أعلاه من سورة الضحى تختلف عن الأمثلة الأخرى التي ذكرت معها , لأن متعلق العطاء هنا هو رضا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولا ضرورة لغوية لوجود مفعول به ثان، ومعها يمكن القول تكلفاً أن قوله تعالى (فترضى) في محل مفعول به ثان .
وتبين الآية وجود حد للرضا وقد جاء جلياً في السنة النبوية والبشارات التي جاءت بواسطة الملائكة يوم مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
وورد في حديث طويل عن ابن عباس في وقائع اليوم الأخير من أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا ومجيء ملك الموت ووقوفه بالباب بهيئة شبه إعرابي يسلم ثلاث مرات ثم دعا الثالثة السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة أأدخل؟ فلا بد من الدخول فسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم صوت ملك الموت صلى الله عليه و سلم فقال: يا فاطمة من بالباب؟
فقالت: يا رسول الله إن رجلا بالباب يستأذن في الدخول فأجبناه مرة بعد أخرى فنادى في الثالثة صوتا اقشعر منه جلدي وارتعدت فرائصي فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم : يا فاطمة أتدرين من بالباب؟ هذا هادم اللذات مفرق الجماعات هذا مرمل الأزواج وموتم الأولاد هذا مخرب الدور وعامر القبور هذا ملك الموت صلى الله عليه و سلم ادخل رحمك الله يا ملك الموت فدخل ملك الموت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: يا ملك الموت جئتني زائرا أم قابضا؟ قال: جئتك زائرا وقابضا وأمرني الله عز و جل أن لا أدخل عليك إلا بإذنك ولا أقبض روحك إلا بإذنك فإن أذنت وإلا رجعت إلى ربي عز وجل
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: يا ملك الموت أين خلفت حبيبي جبريل؟ قال: خلفته في السماء الدنيا والملائكة يعزونه فيك فما كان بأسرع أن أتاه جبريل عليه السلام فقعد عند رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: يا جبريل هذا الرحيل من الدنيا فبشرني ما لي عند الله؟ قال: أبشرك يا حبيب الله أني قد تركت أبواب السماء قد فتحت والملائكة قد قاموا صفوفا صفوفا بالتحية والريحان يحيون روحك يا محمد فقال: لوجه ربي الحمد وبشرني يا جبريل قال: أبشرك أن أبواب الجنان قد فتحت وأنهارها قد اطردت وأشجارها قد تدلت وحورها قد تزينت لقدوم روحك يا محمد قال: لوجه ربي الحمد فبشرني يا جبريل
قال: أنت أول شافع وأول مشفع في القيامة قال: لوجه ربي الحمد قال جبريل: يا حبيبي عم تسألني ؟ قال: أسألك عن غمي وهمي من لقراء القرآن من بعدي؟ من لصوم شهر رمضان من بعدي؟ من لحاج بيت الله الحرام من بعدي؟ من لأمتي المصفاة من بعدي؟ قال: ابشر يا حبيب الله فإن الله عز و جل يقول: قد حرمت الجنة على جميع الأنبياء والأمم حتى تدخلها أنت وأمتك يا محمد قال: الآن طابت نفسي إذن يا ملك الموت فانته إلى ما أمرت)( ).
فإن قلـت إذا كــانت أمة محمــد تدخــل الجنة بوعـــد كــريم من الله عز وجل وشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلماذا إذن الإســـتغفار ؟
الجواب إنما يكون الدخول بإصلاح المسلمين له بتقوى الله عز وجل وفزعهم إلى ذكر الله عند الزلل والوقوع بالخطأ والتقصير.
ومصاديق آية البحث من عطاء الله عز وجل المذكور في الآية أعلاه، فقد هدى الله عز وجل المسلمين إلى تعاهد أحكام الإسلام فإجتهدوا في حفظ القرآن وسلامته من التحريف لينالوا الدرجات العلا في نعيم أبدي لا إنتقال عنه , وكأن هناك ملازمة بين حفظهم للتنزيل والفرائض ودوام إقامتهم في النعيم.
الوجه الرابع: آية الدَين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ]( )، وهي أطول آية في القرآن، وفيها عناية ولطف لحفظ مال المسلم، وتعاهد الدَين والقرض، وعدم إنقطاعه كمعروف , وتنزه المسلم عن إنكار الحق نسياناً وجهلاً، إذ أن القرض والدين نوع مفاعلة بين طرفين , وتدل الآية في مفهومها على حفظ الله المسلم يوم القيامة كما يتفضل ويصون له ماله في الدنيا.
فحفظ مال المسلم في الدنيا يبين من باب الأولوية مسألة وهي حفظ ذات المسلم في الآخرة لسعة رحمة الله التي ينشرها يوم القيامة، وعن جندب بن عبد الله البجلي قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ، ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم نادى : اللهمَّ ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حظرت رحمة واسعة ، إن الله خلق مائة رحمة ، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنّها وإنسها وبهائمها ، وعنده تسعة وتسعون( ).
ومع أن ظاهر الأمر في الآية الوجوب كما في آية الوضوء[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ]( )، والسنة والإجماع والسيرة على وجوب الوضوء, وهو مقدمة واجبة للصلاة ومقدمة الواجب واجب، ولكن الأمر في آية الدين محمول على الندب والإستحباب وهو ليس مقدمة لأمر واجب آخر، ولم يذكر وجوب الكتابة في الدَين والقرض إلا عن الضحاك.
وقد باع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا إشترى ورهن ولكنه لم يكتب.
وورد عن عبد المجيد بن وهب قال: قال لي العداء بن خالد بن هوذة أَلاَ نُقْرِئُكَ كِتَابًا كَتَبَهُ لِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ قُلْتُ بَلَى فَأَخْرَجَ لِى كِتَابًا فَإِذَا فِيهِ هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لاَ دَاءَ وَلاَ غَائِلَةَ( ) وَلاَ خِبْثَةَ( ) بَيْعَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ)( ).
والحديث ضعيف دلالة وموضوعاً، أما الأول فلأنه يتضمن التخيير والترديد بالحرف(أو) في(عبداً أو أمة).
وأما الثاني وهو الموضوع فإن إسلام العداء بعد الفتح وحنين أي بعد السنة الثامنة للهجرة(عام الفتح) وهو القائل: قاتلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلم يظهرنا الله ولم ينصرنا)( )، وفي بعض الروايات ذكر القتال من غير تقييد وحصره بزمان ما بعد معركة حنين( ).
وقيل لابن عباس أن آية الدين منسوخة ؟ (قال: لا والله إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ)( ).
وجاءت آية الدين في أحكام المعاملات في البيع والشراء والرهن وسنن قاعدة لا ضرر ولا ضرار وقاعدة نفي الحرج في الدين، ومنع الجهالة والغرر , وفيه أسمى مراتب الضبط والنظام في الأسواق وما يلحق بها من المعاملات العامة والخاصة، ومن إعجاز هذه الآية البيان والتعدد والتفصيل.
وذكر ضوابط الشهادة وكأنها أمر واجب مع بيان قانون كلي في ماهية الشهادة والتمييز بين شهادة الرجل والمرأة مع بيان علته بما لا يضر أو يعيب المرأة، لأنه يتعلق بآفة النسيان وإحتمال إنشغال المرأة عن الشهادة مدة مديدة بإنقطاع عن موضوع الشهادة كالتجارة والأسواق لمواظبتها على أعمال المنزل وتربية الأولاد وندرة الخروج من البيت.
وموضوع أرجى آية يتعلق بعالم الآخرة، وآية الدين خاصة بأحكام القرض والدين في الدنيا، ووجه ترجيحها في باب الرجاء أن الآية بينت بالتفصيل سبل حفظ الدين وصيانة مال المسلم من الضياع والتلف كما يدل عليه قوله تعالى[وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ]( )، الأمر الذي يدل في مفهومه على أن الله عز وجل لا يضيع المؤمن يوم القيامة حيث تشتد حاجته إلى رحمة الله.
وموضوع آية الدين لا يخص صاحب المال والدائن , فحسب بل يخص المدين أيضاً لضبط وصيانة حقوق الآخرين وسلامة المجتمع من أكل المال بالباطل، أو مجازاة الإحسان وهو القرض في المقام بالجحود والإنكار غير المقصود، وقد يكون العكس , فقد يظن الدائن أن المبلغ الذي قرضه أو قيمة البضاعة أكثر مما جرى عليه عقد القبول والإيجاب، أو أنه حصل وفاء للمال ولكنه نسيه وإستمر بإستصحاب الدين.
ولم يذكر الصحابة والتابعون والطبقات الأولى من المفسرين هذه الآية من الآيات التي تدخل ضمن باب أرجى آية على الأرجح، ويمكن القول أن كل آية من القرآن تدل في منطوقها أو مفهومها على الرجاء والطمع بفضل الله.
وصلة آية البحث بآية الدين( )، من جهة الرجاء تتجلى بدعوة المسلمين إلى ضبط وقضاء القرض والدين وما في ذمتهم من حقوق الآخرين لأن في تضييع هذه الحقوق بلحاظ آية البحث ظلم مركب من جهتين:
الأولى: إنه فعل للفاحشة مع العمد في أكل مال الغير أو تضييعه.
الثانية: إنه ظلم للنفس.
مما يدل على أن التعدد والترديد في قوله تعالى[إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ]( )، للبيان والتفصيل ولا يعني إنحصار الفعل بطرف منهما بل قد يتضمن الفعل المتحد منهما صفة الفاحشة وظلم النفس معاً، وقد يترشح أحدهما عن الآخر , فجاءت آية البحث للسعة والمندوحة في سبل العفو من الله، فإن أكل أموال الناس بالباطل وإنكار الدَين وعدم قضائه من ظلم النفس والغير وهو معصية لله ورسوله، وجاءت كتابة الدين للسلامة من ظلم النفس عمداً أو سهواً، كما في الظلم الذي فيه حق لله وحق للناس كالسرقة ففيها حق الله بقطع اليد إذا كانت السرقة ربع دينار أو أكثر , قال تعالى[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا]( )، وحق الناس وهو إرجاع المال المسروق.
وفي الدين وعدم قضائه عبأ وحمل ثقيل، فيأتي الذكر والإستغفار للإنابة والتدارك ورجاء العوض والبدل من الله في الدنيا والأخرة , وورد (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ،يَدْعُو اللَّهُ بِصَاحِبِ الدَّيْنِ( ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُقَالُ يَا ابن آدَمَ فِيمَ أَخَذْتَ هَذَا الدَّيْنَ وَفِيمَ ضَيَّعْتَ حُقُوقَ النَّاسِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أَخَذْتُهُ فَلَمْ آكُلْ وَلَمْ أَشْرَبْ وَلَمْ أَلْبَسْ وَلَمْ أُضَيِّعْ وَلَكِنْ أَتَى عَلَى يَدَيَّ إِمَّا حَرَقٌ وَإِمَّا سَرَقٌ وَإِمَّا وَضِيعَةٌ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَحَقُّ مَنْ قَضَى عَنْكَ الْيَوْمَ فَيَدْعُو اللَّهُ بِشَيْءٍ فَيَضَعُهُ فِي كِفَّةِ مِيزَانِهِ فَتَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ( ).
ومنافع الذكر والإستغفار في المقام أعم من أن تنحصر بعالم الأخرة بل تشمل الدنيا بأن يجعل في تركة الميت ما يكفي لقضاء الدين، وقيام الورثة باخراج الدين قبل توزيع التركة , قال تعالى[مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه التأكيد على الوصية والدين بصيغ متعددة في منطوق ذات الآية , وهي:
الأول:في وفاة الأزواج وتركتهن , من بعد وصية يوصين بها أو دين.
الثاني:لغة الجمع والخطاب للمسلمين، من بعد وصية يوصون بها أو دين.
وجاء تقديم الوصية مع ان الدين هو الأهم والمقدم عليها في الإخراج من التركة لبيان موضوعية الوصية والتأكيد عليها ولأن الدين في الغالب يدفع إلى أهله قبل حلول الأجل .
ومع أن آية [إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ] سميت آية الدين, فان لفظ(الدين)لم يذكر فيها إلا مرة واحدة، بينما ذكر في الآية أعلاه من سورة النساء ثلاث مرات، ومجموع لفظ(الدين) بمعنى القرض في القرآن خمس مرات ثلاثة منها في آية واحدة تتعلق بحضور الموت وفيه تأكيد لدفع حقوق الناس والإستعداد للآخرة ببراءة الذمة التي تتقوم بالذكر والإستغفار.
وفي كتابة الدين تنمية لملكة الحفظ والشهادة بالحق، إذ أن ظلم النفس في الآية قد يلحق الشاهد إذا شهد خلاف الأصل فيما يتعلق بأطراف ومقدار وميقات الدين ، فإن قلت في هذه الحالة يشمله الناسي في المقام من الدائن أو المدين أو الشاهد حديث الرفع المشهور عند عموم المسلمين والوارد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أستكرهوا عليه) ( ).
وفي خبر ابن عباس: إن الله تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)( )، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع عن امتي تسعة: الخطاء، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة)( ).
الجواب إن آية الدَين حاكمة في المقام فقد أمر الله عز وجل المسلمين بكتابة الدين بتفاصيله بما يمنع من اللبس والخطأ والإشـتباه، ويحــول دون الســهو والنســيان، ويتجلى التأكــيد والتشــديد في المقام بأن جــعل الله عــز وجل شهادة المرأتين عن شهادة رجل واحد لإحتمال طرو النسيان على المرأة، قال تعالى[فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى]( ).
ولم تستثن الآية في تعدد النساء في الشهادة حال الكتابة لأنها أبعد عن النسيان بل جاء الحكم مطلقاً، لأمور:
الأول: وثيقة الكتابة ذاتها عرضة للتلف.
الثاني: قد يشمل النسيان أصل الدين والوثيقة.
الثالث: الإطلاق في الحكم وبيان موضوعية الشهادة والتغليظ فيها.
الرابع: لا تنحصر كتابة الدين بالمقدار الكبير، فتشمل المقدار الصغير ولزوم تعيين أجل القضاء، قال تعالى[وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ]( ).
فإن قلت أن الأصل هو التخفيف عن المرأة والجواب نعم، ويتجلى في المقام من وجوه:
الأول: تقديم شهادة الرجال.
الثاني: تأتي شهادة النساء عند تعذر وجود رجلين مجتمعين يتصفان بالعدالة , ومع القول بجواز شهادة أربع إلا أن الآية قيدت الشهادة بأن يبقى معهما رجل واحد.
الثالث: شمول النساء اللائي يتحملن الشهادة بالإتصاف بالعدالة والقبول عند الطرفين الدائن والمدين , ويدل عليه قوله تعالى[مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ]( ).
الرابع: التقييد في شهادة النساء فلا تجوز في الحدود والقصاص، عند علماء الإسلام، وتجوز في الأموال وتوابعها، وقال الحنفية بجوازها في الطلاق والنكاح والرجعة.
الخامس: وجود إمرأتين في الموضوع المتحد من الشهادة ليتذاكرا مضمون الشهادة وأطراف القرض والدَين، وفي رسالتنا العملية الحجة مسألتان:
المسألة23: تقبل شهادة النساء في النكاح إن كان معهن رجل، ولا تقبل شهادتهن في القصاص، كما تقبل شهادتهن في الحقوق المتعلقة بالأموال كالخيار والشفعة والأجل وفسخ العقد المتعلق بالمال).
المسالة24: كل ما يعسر إطلاع الرجال عليه غالباً كالولادة والعذرة والحيض وعيوب النساء الباطنية كالقروح والجروح في الفرج والقرن والرتق تجوز شهادة النساء وحدهن فيه، أما ما هو ظاهر كالعمى والعرج فتقبل شهادة الرجال والنساء فيه منفردات ومنضمات)( ).
وتدعو آية البحث المسلمات إلى القيام بوظائفهن العبادية وفي المعاملات , فمن خصال التقوى العدالة والشهادة بالحق وعدم إخفائها أو تبديلها , وجاءت الآية بصيغة التذكير (الذين إذا فعلوا فاحشة) لقاعدة تغليب المذكر مع أنها شاملة للمسلمين والمسلمات جميعاً، وتزجر آية البحث المسلمين عن التعدي على حقوق الغير، وعن شهادة الزور واليمين الكاذبة(الغموس) , فصحيح أن آية الدَين من آيات الرجاء في مفهومها إلا أن الجمع بين الآيتين يتضمن مسائل:
الأولى: من مصاديق التقوى كتابة الدين وتدوينه، وإن كانت هذه الكتابة مستحبة.
الثانية: تعدد الرجاء برحمة الله في الآخرة بلحاظ مفهوم آية الدين، ومنطوق آية البحث.
الثالثة: إخبار آية البحث بلزوم ذكر الله والإستغفار عند عقد الدَين أو الشهادة عليه أو كتابته موضوعاً ومحمولاً كالمقدار والأجل.
الرابعة: إبتدأت آية الدين بالخطاب إلى المسلمين (يا أيها الذين آمنوا) أما آية البحث فتتضمن بياناً لصفات المتقين، وبين الذين آمنوا والمتقين عموم وخصوص مطلق، وجاءت آية الدين أيضاً بتأكيد موضوع التقوى لقوله تعالى[وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ]( )، أي الذي عليه الدَين ثم جاءت بصيغة الأمر للمسلمين جميعاً[وَاتَّقُوا اللَّهَ]( )، ببيان حقيقة وهي أن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم طريق التقوى، وسعي في سبلها.

الوجه الخامس: قوله تعالى[ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا]( )، لما في الآية من إصطفاء وإختيار المسلمين لوارثة الكتاب، وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”أُمَّتِي ثَلاثُ أَثْلاثٍ: فَثُلُثٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
وَثُلُثٌ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
وَثُلُثٌ يُمَحَّصُونَ وَيُكْشَفُونَ، ثُمَّ تَأْتِي الْمَلائِكَةُ فَيَقُولُونَ: وَجَدْنَاهُمْ يَقُولُونَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ:”أَدْخِلُوهُمُ الْجَنَّةَ بِقَوْلِهِمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَاحْمِلُوا خَطَايَاهُمْ عَلَى أَهْلِ التَّكْذِيبِ”، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: ” وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ”، وَتَصْدِيقًا فِي الَّتِي ذَكَرَ الْمَلائِكَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:” ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا “
وتعددت الروايات التي تفيد أن الآية أعلاه في أمة محمد , وفيه أمارة على توثيق بعضها لبعض.
وأخرج الطبراني والبيهقي في الآية أعلاه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه}، قال: “هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة”)( )، وبخصوص آية البحث تكون الآية أعلاه بشارة للمسلمين والمسلمات في العفو والمغفرة من الله للمسلمين إذا ظلموا أنفسهم، نعم ورد (عن عمر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم{فمنهم ظالم لنفسه} قال: الكافر)( ).
ولكن آية البحث ذكرت ظلم النفس في طول التقوى والخشية من الله لأنها تبين صفات المتقين، ولم تذكر الآية ظلم النفس وحده بل ذكرت فعلهم الفاحشة بصيغة الشرط وهو أمارة على الندرة والقلة ، وجعلته مقدماً على ظلم النفس, وكل منهما يمحى بالذكر والإستغفار، وشاهد على السلامة من الكفر والوقاية من مفاهيم الضلالة.
ولا يرقى الحديث أعلاه إلى معارضة النصوص المستفيضة التي تفيد أن الأصناف الثلاثة في الآية الكريمة من المسلمين، كما أنه معارض بما ورد بالإسناد عن عمر نفسه، فعن أبي عثمان الهندي قال: سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له)( ).
وتتجلى معاني الرجاء في الآية لشمول الوعد الإلهي الكريم فيها للمسلمين جميعاً على نحو العموم الإستغراقي بسلاحين أحدهما أصل وهو الإيمان، والآخر فرع وهو الإستغفار.
فأخبرت الآية عن وراثة المسلمين للتنزيل وسنن النبوة، وبشرتهم بدخول جنة عدن عليهم التيجان والأساور المرصعة بالذهب واللؤلؤ الخالي من الكدر، وهم يلبسون البريسم المحض .
وفيه بلحاظ آية البحث أمور:
الأول: ترغيب المسلمين في الإستغفار.
الثاني: دعوة المسلمين للتنزه عن فعل الفاحشة أو ظلم النفس.
الثالث: بعث المسلمين للتفقه في الدين، وإدراك لزوم إجتناب مقدمات ومواطن فعل السيئة .
الرابع: معرفة المسلمين للثمار والمنافع العظيمة للإستغفار في الدنيا والآخرة، وليس من نفع أعظم من السبيل والبلغة التي تؤدي إلى دخول الجنة, وجاءت الآية أعلاه بالإخبار عن دخول المسلمين لها بأبهى مقامات العز والرفعة لذا كان كلامهم هو الشكر والثناء على الله عز وجل بقوله تعالى عندما يدخلون الجنة ويستقرون فيها[وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ]( )، لتكون عاقبة الإستغفار في الدنيا المواظبة على الحمد لله في الآخرة على عظيم النعم، وتلك المواظبة نعمة أخرى على المؤمنين، من وجوه:
الأول: الإذن الإلهي بقول(الحمد لله) في الآخرة نعمة لأنها دار جزاء لا عمل فيها.
الثاني: كل فرد من أفراد الحمد لله في الآخرة نعمة من الله.
الثالث: العز والفخر في العوالم اللاحقة بالإجتهاد في الحياة الدنيا بالإستغفار.
الوجه السادس: قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ]( )، ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله ، حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم[وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ] وسأفسرها لك يا علي، ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه)( ).
وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب يحدثه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب)( ).
ولا دليل على أن نسيان آية من القرآن بعد حفظها من أعظم المصائب، وأنها من موضوع هذه الآية، نعم يستحب حفظ آيات وسور القرآن ويكره نسيانها .
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله إستذكروا القرآن، فإنه أشد تفصياً( ) من صدور الرجال من النعم)( )، ولكن هذا لا يعني أن نسيان الآية مصيبة عظيمة , إنما وردت الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة ما تعرض والمسلمون له من الجراح والخسارة في ميادين الحرب وما هو أعم فتشمل النكبات والأهوال الطارئة.
وعن ابن عباس في الآية قال: ما كانت من نكبة فبذنبك وأنا قدّرت ذلك عليك)( ).
والمصيبة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، فمنها الغم والحزن والمكروه والألم والجراحة والخسارة في الحرب.
وقيل أن المصيبة عقوبة لكم، وفيه مسائل:
الأولى: لا دليل على الملازمة بين المصيبة والعقوبة، وكون الآية تخبر عن سبب نزول المصيبة وهو ما جنت الأيدي لا يدل على أنه عقوبة.
الثانية: يمكن التفصيل بين ما ينزل بالكفار وما يصيب المسلمين من البلاء والأذى ، فالأول عقوبة وإنذار، والثاني مناسبة للأجر والثواب وغفران الذنوب .
(عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما يصيب المؤمن من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه)( ).
الثالثة: إتخاذ المسلمين المصيبة موعظة وعبرة، وإجتناب أسبابها ومقدماتها في مستقبل الأيام، كما تجلى بإنتفاع المسلمين يوم الخندق مما تعرضوا له من الضرر يوم أحد، لتنفع دروس الواقعة والمصيبة أجيال المسلمين المتعاقبة.
الوجه السابع: قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، وتبين الآية عجز وتخلف بني آدم مجتمعين ومتفرقين عن إحصاء النعم الإلهية التي تفضل عليهم الله سبحانه بها لكثرتها وعظمتها , ويحتمل العجز هنا وجوهاً:
الأول: عجز الإنسان عن إحصاء النعم التي تفضل الله عز وجل بها عليه.
الثاني: تخـــلف الناس مجتمعــين عن إحصـــاء النعم التي تفضل الله عز وجل بها عليهم للغة الجمع التي وردت بها الآية.
الثالث: عجز الناس مجتمعين عن إحصاء النعم الإلهية التي تأتي للفرد الواحد منهم.
الرابع: تخلف وقصور الأجيال المتعاقبة عن إحصاء النعم على جيل واحد منهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية الكريمة, ولفظ النعمة مفرد, ولكنه اسم جنس مضاف إلى معرفة ليفيد العموم وإرادة مطلق النعم الإلهية، لوجوه:
الأول: جاءت الآية في مقام التحدي المقرون بالبيان والمصاديق القريبة.
الثاني: البعث على الشكر لله سبحانه والإخبار عن سعة رحمة الله ومغفرته , وهي مجتمعة ومتفرقة برهان على التخلف عن ضبط النعم بلحاظ الجنس والفصل وما يحمل تحتهما من الأنواع والأعراض ، وفيه دعوة للناس للمبادرة للإيمان وإتيان العبادات.
ولا تنحصر النعم الإلهية بالحياة الدنيا بل تشمل عالم الآخرة ليتجلى العجز عن إحصاء النعم لكل إنسان بلحاظ كبرى كلية , وهي مصاحبة الجهل والقصور للإنسان في تصور النعم العظيمة التي أعدها الله عز وجل للمؤمنين .
وعن عبد الله بن مسعود: إن لله على أهل النار منة ، فلو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم)( ).
إن قصور الناس عن إحصاء النعم لا يعني قعودهم عن ذكر وتعداد وشكر ما يحسون ويدركون ويعلمون منها مثل آية البحث ومضامينها القدسية، وما فيها من نعمة عدم خروج المؤمن عن منازل المتقين بسبب فعل الفاحشة وظلم النفس.
وهل إستدامة النعم مع إقامة العبد على المعاصي من النعمة الإلهية على الإنسان , الجواب نعم، لما فيه من الإمهال والموعظة وهو لا يتعارض مع كون هذه الإستدامة من عمومات قوله تعالى[سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، لما في هذا الإستدراج من التذكير بالنعم وباهر قدرة الله عز وجل.
لقد أنعم الله عز وجل على المســـلمين وجعـــلهم ينتفعون من وظــائف النعم العرضـــية بالإستغفار والذكر , فمن مصـــاديق الذكر الشكر لله عز وجل على الإمهال بعد إرتكاب المعصية وظلم النفس لحين الإستغفار، وجاءت آية البحث بإتخاذ الذكر مناسبة للإحتراز من الذنوب وتتضمن آية البحث نعماً متعددة من وجوه:
الأول: حث المسلمين على التمسك بصبغة التقوى.
الثاني: بيان طريق بهيج إلى الجنة.
ومن الآيات أن هذا الطريق معبد وسالك وسط وعورة عقبتي المعصية وظلم النفس بالإستغفار.
الثالث: دعوة المسلمين للمناجاة بالإستغفار، والتعاون والتآزر في الذكر , قال تعالى في وصف المؤمنين[وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ]( ).
الرابع: تنزه المسلم عن الإصرار على المعصية، وإن كانت صغيرة، وفيه ترغيب للمسلمين بعشق الإستغفار لأنه لجوء ومسكنة في حضرة المحبوب .
ومن الإعجاز في الآية الكريمة تسهيل وتيسير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المسلمين، ورفع الموانع والحواجز عنه.
الخامس: سلامة وعصمة المسلمين من الإستهزاء بأحكام الشريعة، وقد ذمّ الله عز وجل قوماً لسخريتهم من النبوة، ليقيم عليهم الحجة يوم القيامة , قال تعالى[قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ]( ).
الوجه الثامن: قوله تعالى[وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا]( ).
ذكر أن الفضل الكبير في الآية هو الجنة، وبه قال الحسن وقتادة( )، ولكن موضوع الآية أعم وإن كانت الجنة أعظم وأسمى البشارات، وما عداها من البشارات مقدمة وبلغة إليها، فمن الأسرار في الحياة الدنيا أن البشارة توليدية وتقود إلى البشارة , ليكون فضل الله عز وجل على أقسام:
الأول: فضل الله على المؤمنين عز وجل في الدنيا، وليس له حصر, قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
ومن فضل الله في المقام الهداية إلى الإسلام والنصر على الأعداء المقرون بالغنيمة، وأداء العبادات والثناء وصلات الأخوة بين المسلمين، ومعاني الود بينهم، وإصلاح مجتمعاتهم وتهذيب أخلاقهم، والبشارة بسلامة وهداية ذراريهم من بعدهم، والرزق الكريم الذي صاحب بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو ملازم للمسلمين يتجلى في هذا الزمان بمصاديق كثيرة من أبهرها كنوز الأرض التي أخرجها الله لهم، مع ثبوت ودوام هذه البشارات وإتصالها بمثلها عند الموت في عالم البرزخ وعالم الحساب، قال تعالى[وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ]( ).
والبشارات الواردة في القرآن من كلمات الله عز وجل , وهباته إلى المؤمنين , وورد عن نافع قال: خطب الحجاج فقال: إن ابن الزبير بدل كتاب الله. فقال ابن عمر: لا تستطيع ذلك أنت ولا ابن الزبير{لا تبديل لكلمات الله})( ) .
أي كان الرد نوع تحد للحجاج إذ بدأ به قبل ابن الزبير، وظاهر الحديث أن خطبة الحجاج في المدينة عند إقامته بها شهرين بعد مقتل عبد الله بن الزبير في جمادي الآخرة سنة ثلاث وسبعين في مكة المكرمة بعد قتال وكر وفر طال والمنجنيق الكعبة وحجاج بيت الله الحرام ثم سار الحجاج إلى المدينة , وأرسل إلى الحسن بن الحسن، فقال: هات سيف رسول صلى الله عليه وسلم ودرعه، فقال: لا أفعل، قال: فجاء الحجاج بالسوط والعصا والسيف، وقال: والله لأضربنك بها حتى تبرد( ) أو فأتني بهما، فقال الناس: يا أبا محمد، لا تتعرض لهذا الجبار، فجاء الحسن بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه، فوضعهما بين يديه، فأرسل الحجاج إلى رجل من آل أبي رافع.
فقال له: هل تعرف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فخلطه بأسياف، ثم قال له: أخرجه، فأخرجه، ثم جاء بالدرع، فنظر إليها، فقال: هناك علامة، كانت على الفضل ابن عباس يوم اليرموك، فطعن بحربة فخرقت الدرع، فرفعوها فوجدوا الدرع كما قال، فقال الحجاج للحسن: أما والله لو لم تجئني به، وجئت بغيره، لضربت به رأسك، وأساء إلى أهل المدينة، وقال: أنتم قتلة عثمان. وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص , إستخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة؛ منهم: جابر بن عبد اللّه، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد)( ).
ومن خصائص فضل الله في الحياة الدنيا أنه شامل وعام للناس جميعاً قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ]( ).
ليكون معنى الآية أعلاه وبلحاظ الآيات السابقة لها، أن الله يمد ويرزق الذين يبتغون الحياة الدنيا , والمتقين الذين يسارعون إلى الجنة أي أنه سبحانه يمدهم بالمقدمات والوسائل التي توصلهم إلى الغاية الحميدة باللبث الدائم في الجنة.
الثاني: فضل الله في عالم القبر، وهو خاص بالمؤمنين وسلامتهم من العذاب والحساب الإبتدائي في القبر، إذ يمن الله جل وعلا على المؤمن بإكرامه في عالم البرزخ بالسعة في قبره , بينما يلاقي الكفار العذاب الإبتدائي في قبورهم .
بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنَازَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَإِذَا الْإِنْسَانُ دُفِنَ فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ فَأَقْعَدَهُ قَالَ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ( ) فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ صَدَقْتَ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُ هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ فَهَذَا مَنْزِلُكَ فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ اسْكُنْ وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا يَقُولُ لَهُ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ
فَيَقُولَ لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَيَقُولُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ وَلَا اهْتَدَيْتَ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ ثُمَّ يَقْمَعُهُ قَمْعَةً بِالْمِطْرَاقِ يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ إِلَّا هُبِلَ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ})( ).
والمقصود من ( هذا الرجل ) الوارد في الحديث أعلاه هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما يدل عليه الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام(قال يجئ الملكان منكر ونكير إلى الميت حين يدفن أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف يخطان الأرض بأنيابهما ويطأن في شعورهما فيسألان الميت من ربك؟ وما دينك؟ قال: فإذا كان مؤمنا قال: الله ربي , وديني الإسلام، فيقولان له: ما تقول في هذا الرجل الذي خرج بين ظهرانيكم؟ فيقول: أعن محمد رسول الله صلى الله عليه وآله تسألاني فيقولان له: تشهد أنه رسول الله، فيقول: أشهد أنه رسول الله فيقولان له: نم نومة لا حلم فيها ويفسح له في قبره تسعة أذرع ويفتح له باب إلى الجنة ويرى مقعده فيها)( ).
الثالث: فضل الله عز وجل على المؤمنين في عالم الآخرة بالأمن والنجاة من الفزع من أهوال يوم القيامة
قال ابن عطية: قال لي أبي هذه أرجى آية أي قوله تعالى[وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا]، بتقريب بيان القرآن للفضل الكبير وهو الإقامة في الجنة والفوز بالنعم العظيمة فيها بقوله تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ]( )، والفضل هو الزيادة والنفل في العطاء، أي أن الله عز وجل يعطي المؤمنين الثواب وهو على أقسام ثلاثة مجتمعة:
الأول: الأجر المستحق.
الثاني: الثواب الذي وعد الله عز وجل به.
الثالث: الفضل الكبير الذي لم يطرأ على الخاطر.
الوجه التاسع: قوله تعالى[وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى]( )، قيل نزلت الآية في قصة أبي بكر ومسطح، وهو ابن خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف، وكان أبو بكر ينفق عليه ويساعده، فلما حدث موضوع الإفك، وقال فيه مسطح ما قال: حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبداً، فجاءه مسطح……..)( )الحديث
وقيده الثعلبي بأنها أرجى آية للموحدين)( ).
وعلة القول بأن هذه الآية أرجى آية ما فيها من الوصية بالإحسان إلى القاذف، والوعد الكريم من الله عز وجل بالعفو[أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ]( )، وقوله تعالى(ولا يأتل) أي لا يحلفوا بأن لا يبروا المحتاجين من ذوي القربى والمساكين، وقيل لا يأتل أي لا يقصر، وفي الآية زجر عن الإقامة على اليمين المرجوحة التي تمنع من فعل الصالحات، وإن كان لليمين سبب وجيه لأن الغاية هي الفوز بالعفو من الله عز وجل.
وجاءت آية البحث بالحث على الإستغفار والذكر وفيه بالدلالة التضمنية شاهد على أن الله عز وجل يحب العفو وينهى عن الأسباب التي تحول دونه.
وصلة آية البحث بقوله تعالى[وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ]( ).
(لا يأتل أي لا يحلف، وآلَى يُؤلِي إيلاءً حَلَف)( )، وجاءت الآية أعلاه في نهي المؤمنين أرباب السعة عن اليمين بالإمتناع عن إعانة ذوي القربى والمحتاجين من المؤمنين، وزجرهم عن التقصير في سبل المعروف والصدقات على الفقراء والمساكين.
وفيه دعوة للإستغفار العملي ورجاء رحمة الله برحمة الناس وفي الخبر عن إنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن موسى بن عمران عليه السلام كان يمشي ذات يوم في الطريق فناداه الجبار جل جلاله يا موسى فالتفت يمينا وشمالا فلم يجد أحدا ثم ناداه الثانية يا موسى بن عمران فالتفت يمينا وشمالا فلم يجد أحدا ثم ارتعدت فرائصه
ثم نودي الثالثة يا موسى بن عمران أنا الله لا إله إلا أنا فقال لبيك لبيك فخر لله ساجدا فقال ارفع رأسك يا موسى بن عمران فرفع راسه فقال يا موسى إن أحببت أن تسكن في ظل عرشي يوم لا ظل الا ظلي يا موسى كن لليتيم كالأب الرحيم وكن للأرملة كالزوج العصوب( ) يا موسى بن عمران ارحم ترحم يا موسى كما تدين تدان .
يا موسى بن عمران نبئ بني اسرائيل أنه من لقيني وهو جاحد لمحمد أدخلته النار ولو كان ابراهيم خليلي وموسى كليمي قال ومن محمد قال يا موسى وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منه كتبت اسمه مع اسمي في العرش قبل أن أخلق السموات والأرض والشمس والقمر بألفي ألف سنة وعزتي وجلالي إن الجنة محرمة على جميع خلقي حتى يدخلها محمد وأمته
قال موسى ومن أمة محمد قال أمته الحمادون يحمدون الله صعودا وهبوطا , وعلى كل حال يشدون أوساطهم, ويطهرون أطرافهم صائمون بالنهار رهبانا بالليل أقبل منهم اليسير وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله.
قال فاجعلني نبي تلك الأمة قال نبيها منها
قال اجعلني من أمة ذلك النبي.
قال استقدمت واستأخروا يا موسى ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال)( ) والحديث ضعيف سنداً، ففي سنده أيوب الجبابري وقيل (أيوب الجبابري في حديثه لين)( ).
وفي الحديث مسائل:
الأولى: الترغيب بالرأفة باليتامى والأرامل، وفيه تهذيب للنفوس وتخفيف للمصائب وإصلاح للناشئة لوراثة الأرض.
الثانية: الأثر والتأثير في باب التراحم بين الناس، كما أن رحمة العبد بالناس سبب لنزول رحمة الله عز وجل به، وعن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)( ).
الثالثة: إجتناب التعدي على الناس، وتضييع الحقوق وهدر الحرمات، لما ورد في الحديث القدسي أعلاه(كما تدين تدان) وورد في حديث أبي قلابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت فكن كما شئت كما تدين تدان)( ).
وتتجلى منافع آية البحث في المقام فلو أساء المؤمن إلى شخص في نفسه أو ماله أو عرضه وبادر إلى الذكر والإستغفار فهل يبتلى بتلقي ذات التعدي.
الجواب لا، وهو من فضل الله عز وجل عليهم ومن عمومات قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( ).
الرابعة: بشارة موسى عليه السلام بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تصديق بني إسرائيل بها.
الخامسة:بيان المنزلة الرفيعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل، والمقامات السامية لأمته في الآخرة وهو من مصاديق قوله تعالى في خطاب للمسلمين[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
السادسة: بيان خصال أمة محمد بأنهم لا يقفون عند النطق بالشهادتين بل ينقطعون إلى العبادة ويواظبون على أداء الفرائض ومنها الصلاة والصيام والحج.
السابعة:تأكيد حقيقة وهي أن مضامين آية البحث شاملة للمسلمين في كل الأزمنة ومنهم أتباع الأنبياء السابقين في الأحقاب التي خلت، فمع عظيم منزلة موسى وأنه كليم الله، فقد سأل الله أن يجعله من أمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه فبين له الله عز وجل تأخر زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه فبين له الله عز وجل تأخر زمان بعثة النبي محمد على زمان موسى وأنه سبحانه سيجمع بين المسلمين والأنبياء في الجنة .
وفي الآية ترغيب بعدم الوقوف عند اليمين وموضوعه عند وجود الراجح في خلافه وفيه نصوص عديدة، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي موسى: إني والله – إن شاء الله – لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ( ).
وفيها تأديب للأغنياء وذوي الشأن والمال والجاه أن لا يهجروا أصحاب الزلات والهفوات والذين يظهر الحسد على ألسنتهم وفي أفعالهم.
وبين قوله تعالى[وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ] ( )، وبين هذه الآية عموم وخصوص مطلق، فبينما تخاطب الآية أعلاه أرباب الأموال والذين تعلقت في ذمتهم الزكاة الواجبة، وهم قادرون على إخراج صدقات مستحبة أيضاً لأنهم أهل سعة في العيش، فان آية البحث جاءت مطلقة شاملة للمسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي لتشمل الغني والفقير والسيد والعبد، والملك والرعية، وكل فرد منهم محتاج إلى ذكر الله والإستغفار، وهل الحلف على منع البر وصلة الرحم من ظلم النفس , الجواب نعم، ومع وجود سبب وموضوع له فان الظلم يتعلق بالبقاء على ذات اليمين وإستدامة قطع الرحم، ليفيد الجمع بين الآيتين التخفيف عن المسلمين وهدايتهم إلى المواظبة في الصالحات وعدم ترتيب الأثر على اليمين المانعة من إسداء المعروف.
وتبين الآية أن الفضل والسعة التي عند الناس هي نعمة من عند الله، ومن الشكر له سبحانه إعانة المحتاجين، وقوله تعالى[وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ]( )، وآيات الصدقة حاكمة في المقام، ومقدم على اليمين.
إن ذكر الله عز وجل والإستغفار باب للرفق والصفح بالناس لأن كلاً من الذكر والإستغفار رحمة بالذات، وإقرار بالحاجة إلى العفو والمغفرة من الله عز وجل.
وهو أمر يملأ النفس بالرحمة لتفيض على الآخرين رجاء أن تكون هذه الرحمة مؤازرة لرحمته لنفسه بالذكر، ووسيلة وزلفى إلى الله عز وجل وسؤالاً عملياً بالواسطة لرحمته.
وتضمنت الآية أعلاه من سورة النور قانوناً كلياً وهو تعلق مغفرة الله بالعبد برحمته بغيره من الناس كترتب المعلول على علته بقوله تعالى[وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ] ( ).
وتبين الآية أن هذه الرحمة بالغير ليس علة تامة للمغفرة من الله، ولكنها نوع طريق للمغفرة جاءت بها الآية أعلاه.
وجاءت آية البحث بالسبيل السالك العامة للمسلمين وهو الذكر والإستغفار عند طرو إرتكاب معصية أو جهالة.
وعلى فرض بقاء المسلم على يمينه في الإمتناع عن بر ذي القربى والمحتاج نتيجة تعديه وظلمه كما في حديث الإفك وهو سبب نزول الآية فهل هو من الإصرار الوارد في قوله تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا] ( ).
الجواب لا، لأن القدر المتيقن من الآية أعلاه إرادة الذين يرتكبون الفاحشة ويظلمون أنفسهم ولم يظهروا الندم على فعلهم هذا، ولم يبادروا إلى اللجوء إلى ذكر الله والإستغفار، نعم بعد الآية الكريمة التي تنهى عن البقاء على يمين القطع , وبعد الأحاديث النبوية الخاصة في المقام فان البقاء على اليمين والإمتناع عن إعانة المحتاجين ممن أساء وإستغاب من الإصرار والعناد وأسباب تضييع مناسبة لرحمة الله والفوز بالعفو، ولكنه ليس من الإصرار على فعل الفاحشة الذي ذكرته آية البحث , للتباين الموضوعي بينهما .
فأصل اليمين في المقام ليس فعلاً للفاحشة، وقد يظن المؤمن أن الوفاء به من لوازم الإيمان، فجاءت الآية الكريمة والسنة النبوية ببيان وظيفة المؤمن بالحنث باليمين التي تقطع الرحمة، وتمنع من الإحسان ولو لخصوص أشخاص قد أساءوا وظلموا بالإفك والإفتراء وغيره كي لا يضيعوا عن أنفسهم مناسبة الثواب والأجر , والدنيا مزرعة الآخرة.
الوجه العاشر: قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( )، عن ابن عباس هي أرجى آية)( ).
لقد كان قلب إبراهيم مملوءً يقيناً، وليس عنده شك، وكان يُسمع رجيف قلبه من خشية الله، ولكنه أراد بهذا السؤال التأكد من منزلته وشأنه عند الله عز وجل بالإستجابة لمسألته وجعل البعيد زماناً حالاً، والدليل العقلي محسوساً، لأن النفوس تأنس بالمحسوس، وتنتقل منه إلى المعقول وعلم اليقين.
وقد تفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعله يرى الآيات من غير أن يسألها، وعن ابن عباس قال: إن إبراهيم مرّ برجل ميت زعموا أنه حبشي على ساحل البحر، فرأى دواب البحر تخرج فتأكل منه، وسباع الأرض تأتيه فتأكل منه، والطير تقع عليه فتأكل منه فقال إبراهيم عند ذلك: رب هذه دواب البحر تأكل من هذا، وسباع الأرض والطير، ثم تميت هذه فتبلى، ثم تحييها فأرني كيف تحيي الموتى؟ قال: أولم تؤمن يا إبراهيم أني أحيي الموتى؟ قال: بلى يا رب ولكن ليطمئن قلبي يقول: لأرى من آياتك وأعلم أنك قد أجبتني.
فقال الله: [فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ]( )، فصنع ما صنع، والطير الذي أخذه: وز, ورال، وديك، وطاوس وأخذ نصفين مختلفين ثم أتى أربعة أجبل، فجعل على كل جبل نصفين مختلفين، وهو قوله[ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا] ( ) ثم تنحى ورؤوسهما تحت قدميه، فدعا باسم الله الأعظم، فرجع كل نصف إلى نصفه وكل ريش إلى طائره، ثم أقبلت تطير بغير رؤوس إلى قدمه تريد رؤوسها بأعناقها ، فرفع قدمه فوضع كل طائر منها عنقه في رأسه فعادت كما كانت{واعلم أن الله عزيز} يقول: مقتدر على ما يشاء {حكيم} يقول: محكم لما أراد)( )، وهو المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام, قال ابن زيد : مرّ إبراهيم ج بحوت ميّت نصفه في البر ونصفه في البحر فما كان في البحر فدواب البحر تأكله وما كان في البر فدواب البر تأكله، فقال له الخبيث إبليس: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال:[رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى]، قال:[أَوَلَمْ تُؤْمِنْ]؟ [قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] بذهاب وسوسة إبليس منه ويصير الشيطان خاسراً صاغراً)( ).
ونسب الثعلبي القول إلى بعضهم، وهو أمارة على تضعيف الخبر، (لما أحتجّ على نمرود وقال : {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ} وقال:{أَلَمْ تَرَ إِلَى} وقتل ذلك الرجل وأطلق الآخر قال إبراهيم: فإنّ الله عزّ وجلّ يحيي بأن يقصد إلى جسد ميّت فيحييه ويجعل الروح فيه .
فقال له نمرود : أنت عاينت هذا، فلم يقدر أن يقول نعم رأيته، فانتقل إلى حجّة أُخرى، فقال إنّ الله عزّ وجلّ يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، .
ثم سأل أي إبراهيم ربّه فقال:[رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى]، قَالَ [أَوَلَمْ تُؤْمِنْ]؟ [قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] حتّى إذا قال لي قائل : أنت عاينت؟ أقول : نعم قد عاينت ولا أحتاج إلى الإنصراف لأي حجّة أُخرى .
وليعلم نمرود أنّ الإحياء كما فعلت لا كما فعل هو. وهذا معنى قول محمد بن إسحاق عن ابن يسارة. روى في الخبر : إنّ نمرود قال لإبراهيم: أنت تزعم إن ربّك يُحيي الموتى وتدعوني إلى عبادته فسل لربّك يُحيي الموتى إنّ كان قادراً وإلاّ قتلتك، فقال إبراهيم: [رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى]، قَالَ [أَوَلَمْ تُؤْمِنْ]؟ [قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] بقوّة حجّتي ونجاتي من القتل، فإن عدو الله توعدني بالقتل إنّ لم تُحيي له ميّتاً)( ).
وذكر عن ابن عباس أنه قال: هي أرجى آية) وذكر عن الإمام الرضا أن إبراهيم أراد الإطمئنان للخلة، وهو المروي عن سعيد بن جبير لقوله تعالى[وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]، وتكون أرجى آية لوجوه:
الأول: ما في الآية من الدلالة على الربوبية المطلقة لله عز وجل وعظيم قدرته.
الثاني: الإحياء في الحياة الدنيا، خلافاً لنواميس الخلق وأوان البعث العام للخلائق.
الثالث: إستجابة الله عز وجل لسؤال الإحياء في الدنيا.
الرابع: إنها أرجى آية لدلالتها على كفاية الإيمان والغنى معه عن التحقيق والتنقير لقوله تعالى[أَوَلَمْ تُؤْمِنْ] ولكن عدم التحقيق لا يتعارض مع وجوب الفرائض وإجتناب النواهي .
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص “أَيُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ أَرْجَى عِنْدَكَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قَوْلُ اللَّهِ: “يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا”, فَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: لَكِنْ أَنَا أَقُولُ: قَوْلُ اللَّهِ:”وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى” فَرَضِيَ مِنْ إِبْرَهِيمَ قَوْلَهُ: “بَلَى” فَهَذَا لِمَا يَعْرِضُ فِي الصُّدُورِ، وَيُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ”)( ).
وصلة آية البحث بقوله تعالى[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( ).
كل واحدة من الآيتين باب للرجاء , فيتجلى الأمل والرجاء بالقدر المتيقن من الآية أعلاه وهو الإيمان بلحاظ المفهوم ودليل الخطاب وان الإيمان سبب لإستجابة الله للعبد، وهو كاف لبعث السكينة في النفس بفضل من الله عز وجل، أما آية البحث فانها جاءت صريحة في عالم الأفعال.
وتبين موضوعية الإيمان بلحاظ آية البحث بصيرورته حرزاً من ولوج مستنقع الفاحشة ومن التعدي على النفس وظلمها، وفي حال حصول هذا الولوج والتعدي فان آية البحث جاءت بالمخرج وسبيل النجاة وهو الذكر والإستغفار ليكون من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( )، فيشترك في كل منهما المسلمون جميعاً , من إرتكب الفاحشة ومن إحترز منها، والذي ظلم نفسه والذي لم يظلمها، وهم يسارعون مجتمعين ومتفرقين إلى[جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وكل من الذكر والإستغفار من مصاديق التسابق إلى الجنة، وهما مقدمة وسبيل مبارك لهذا التسابق.
ومن مصاديق الرجاء في الجمع بين الآيتين أن الذكر والإستغفار من خصال المؤمنين وأن المواظبة عليها تقرب العبد من الله وتفتح له باب الإستجابة في الدنيا والآخرة، إذ أن إحياء الموتى في الدنيا بسؤال إبراهيم آية عظمى، تجددت في أيام عيسى عليه السلام بما هو أكبر باحياء الميت من جنس الإنسان كما ورد في التنزيل حكاية عن عيسى[وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ]( )، ونسبة الإحياء لعيسى إلا أنها مقيدة بأذن الله, منعاً لبني إسرائيل من الغلو في عيسى عليه السلام، لأن أحياء الموتى بشراً أو دواباً أو طيراً إنما هو من الإرادة التكوينية التي يختص بها الله عز وجل، وجاء الإذن الإلهي بعدد مخصوص بمعجزة للنبوة، وذكر أن مجموع الذين أحياهم عيسى بذات العدد من الطير التي أحياها إبراهيم عليه السلام مع أن إحياء عيسى للموتى أعظم وهم أربعة أنفس :
الأول: العازر: وكان صديقاً له، فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك العازر يموت، فأتاه من مسيرة ثلاثة أيام فوجده مات ، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، وهو في صخرة مطبقة، فدعا الله تعالى، فقام العازر يقطر ودكه، فعاش وولده له.
الثاني : ابن العجوز، مُر بجنازته على عيسى عليه السلام فدعا الله تعالى، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال ، ولبس ثيابه، وحمل سريره على عنقه، ورجع إلى أهله ، وبقي حتى وُلد له.
الثالث : إبنة العاشر، كان يأخذ العشور، قيل له: أتحييها، وقد ماتت أمس؟ فدعا الله تعالى، فعاشت وولد لها.
الرابع : سام بن نوح، دعا باسم الله الأعظم، فخرج من قبره، وقد شاب نصف رأسه ، فقال: أقامت الساعة؟ قال: لا، لكني دعوت الله فأحياك ، ما لي أرى الشيب في رأسك، ولم يكن في زمانك؟ قال : سمعت الصيحة، فظننت أن الساعة قامت فشبت من هولها( ).
أما صلة آية البحث بقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ]( ).
فيفيد قوله تعالى أعلاه الأمن والسلامة للمسلمين للملازمة بين المغفرة والنجاة من العذاب يوم القيامة، ولأن المسلمين منزهون عن الشرك والضلالة، ولا ينحصر الرجاء في الآية أعلاه بخصوص المسلمين بل هو عام للناس جميعاً بلحاظ فتح باب التوبة لهم قال تعالى[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ]( ).
لقد جاءت آية البحث بالزجر عن ظلم النفس، وباللجوء إلى ذكر الله والإستغفار عند وقوع هذا الظلم وهذا الظلم يمحى بالإستغفار وهي غير ظلم الكفار لأنفسهم فهو ظلم عظيم للذات والغير وهو مصاحب لهم لا يزول إلا بالتوبة والإنابة، قال تعالى[إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ).
والناس على أصناف:
الأول: المؤمن المحسن الذي غادر الدنيا ولم يذنب .
الثاني: الذي مات على توبته.
الثالث: الكافر الذي مات على كفره.
الرابع: مذنب مات قبل توبته.
فالأول مخلد في الجنة وعليه إجماع علماء الإسلام، والثاني ملحق بالأول بفضل الله، والثالث في النار , ووقع الخلاف في الرابع.
وقالت المرجئة: إنه يدخل الجنة بإيمانه ويغفر له الله سيئاته وقالوا بأن آيات الوعيد خاصة بالكفار وآيات الوعد عامة في المؤمنين.
وقال المعتزلة: إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولكن التقييد في الآية أعلاه بأنه سبحانه(يغفر ما دون ذلك) يدل على عدم الملازمة بين الخلود في النار وفعل الكبيرة , وهذه المغفرة بالرحمة والمشيئة الإلهية، وهو الذي تدل عليه آية البحث باللجوء إلى الذكر والإستغفار.
وهل يدل نظم آية البحث ببيانها لصفات المتقين الذين أعدّ الله عز وجل لهم الجنة بأنهم منزهون من فعل الكبائر وأن المراد من الفاحشة وظلم النفس الذي يرتكبون إنما هو متعلق بالصغائر فقط، للتنافي والتضاد بين التقوى والكبائر لأن أصل التقوى هو إجتناب المعاصي.
الجواب لابد من دليل يبين عدم شمول المغفرة للمعصية الكبيرة والأصل هو عدمه، وهو الذي تدل عليه آية البحث، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إني ادخرت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من أمتي)( )، فان قلت الشفاعة أو آخر يتعلق بعالم الحساب والجزاء وآية البحث مطلقة الجواب نعم، ولكن الشفاعة لاتحصل إلا بشرط الإذن الإلهي الذي يخرج الكفار منه على نحو التعيين بالتخصص، قال تعالى[وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( )، لذا جاء قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقيداً بذكر خصوص أمته أي أن شفاعته لاتشمل الذين ليسوا من أمته.
وجاءت آية البحث لدعوة المسلم للإستعداد للآخرة بعمله وبذكر لله، وسؤال العفو منه وهو في الدنيا.
وهذا الذكر والسؤال ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل عليه من عند الله ومنه آية البحث ودعوتها المسلمين إلى إحراز العفو من الله وهم في الدنيا وقبل الإنتقال إلى عالم الحساب وما فيه من الأهوال.
وبمعزل عن أقوال المتكلمين ومذاهبهم تتوجه الآية إلى المسلم بلزوم لجوئه ومبادرته إلى الذكر والإستغفار لتدعوه إلى حسن التوكل على الله عز وجل والظن بوعده الكريم.
وتدل الآية في مفهومها بأن الذين يفعلون الفاحشة أو يظلمون أنفسهم ولا يذكرون الله ولا يستغفرون الله لا يغفر الله عز وجل لهم فهم ليسوا من المتقين لأن من خصال التقوى الذكر والإستغفار عن فعل الفاحشة .
فمن إعجاز هذه الآيات أنها لم تقل (وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمسلمين) لذا لابد من التحلي بخصال التقوى والخشية من الله عز وجل ومعرفة أحكام الحلال والحرام بحيث إذا إرتكب المسلم معصية بادر إلى التوبة(وورد عن رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ)( ).
وورد مثله في وصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإمام عليه السلام (بالإسناد عن جعفر ابن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي عليهم السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه واله أوصى إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وكان فيما أوصى به أن قال له : يا علي من حفظ من امتي أربعين حديثا يطلب بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة حشره الله يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فقال علي عليه السلام: يا رسول الله أخبرني ما هذه الاحاديث فقال: أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، وتعبده ولا تعبد غيره.
وتقيم الصلاة بوضوء سابغ في مواقيتها ولا تؤخرها فان في تأخيرها من غير علة غضب الله عز وجل، وتؤدي الزكاة، وتصوم شهر رمضان. وتحج البيت إذا كان لك مال وكنت مستطيعا. وأن لا تعق والديك، ولا تأكل مال اليتيم ظلما. ولا تأكل الربا ولا تشرب الخمر ولا شيئا من الاشربة المسكرة. ولا تزني ولا تلوط . ولا تمشي بالنميمة ولا تحلف بالله كاذبا. ولا تسرق. ولا تشهد شهادة الزور لاحد قريبا كان أو بعيدا. وأن تقبل الحق ممن جاء به صغيرا كان أو كبيرا. وأن لا تركن إلى ظالم وإن كان حميما قريبا . وأن لا تعمل بالهوى. ولا تقذف المحصنة. ولا ترائي فان أيسر الرياء شرك بالله عز وجل .
وأن لا تقول لقصير: يا قصير، ولا لطويل: يا طويل تريد بذلك عيبه. وأن لا تسخر من أحد من خلق الله. وأن تصبر على البلاء والمصيبة. وأن تشكر نعم الله التي أنعم بها عليك، وأن لا تأمن عقاب الله على ذنب تصيبه، وأن لا تقنط من رحمة الله.
وأن تتوب إلى الله عز وجل من ذنوبك فان التائب من ذنوبه كمن لا ذنب له. ولا تصر على الذنوب مع الاستغفار فتكون كالمستهزئ بالله وآياته ورسله. وأن تعلم أن ما أصابك ولدك وجيرانك على حسب الطاقة. وأن تعمل بما علمت. ولا تعاملن أحدا من خلق الله عز وجل إلا بالحق. وأن تكون سهلا للقريب والبعيد وأن لا تكون جبارا عنيدا، وأن تكثر من التسبيح والتهليل والدعاء وذكر الموت وما بعده من القيامة والجنة والنار.
وأن تكثر من قراءة القرآن وتعمل بما فيه . وأن تستغنم البر والكرامة بالمؤمنين والمؤمنات. وأن تنظر إلى كل ما لا ترضى فعله لنفسك , فلا تفعله بأحد من المؤمنين. ولا تمل من فعل الخير . وأن لا تثقل على أحد. وأن لا تمن على أحد إذا أنعمت عليه . وأن تكون الدنيا عندك سجنا , حتى يجعل الله لك جنة .
فهذه أربعون حديثا من استقام عليها وحفظها عني من امتي دخل الجنة برحمة الله وكان من أفضل الناس وأحبهم إلى الله عز وجل بعد النبيين والوصيين ، وحشره الله يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)( ).
ويتضمن الحديث مسألتين يرتكز عليهما الحديث هما:
الأولى: إن الحفظ بمعنى العمل وليس الحفظ عن ظهر قلب.
الثانية: تغشي الأحاديث للعبادات والمعاملات والسنن الأخلاقية وتأتي آية البحث لتكون مدداً للمسلم بالعمل بمضامين هذا الحديث وعدم مغادرة منازل التقوى التي تعني صلاح النفس وإحترازها من الموبقات والمعاصي مطلقاً.
كما وتبين آية البحث حقيقة وهي أن المسلم بنطقه بالشهادتين قد إجتاز عقبة كؤود، ونجى من الخلود الأكيد في الجحيم وعليه أن يتابع السعي ويبذل الوسع في سبل الطاعات، إذ تتوجه له خطابات التكليف كل يوم بالصلاة وكل سنة بصيام شهر ومرة في العمر بأداء الحج، ويأتيه الخطاب في العبادات المالية بإخراج الزكاة والحق الشرعي من ماله إذا بلغ النصاب، ليرقى في درجات التقوى , ويقترب كل يوم خطوة مباركة إلى الجنة.
وجاءت آية البحث لتزيح الموانع العرضية التي تتولد من المعصية بأن يبادر مرتكبها إلى ذكر الله وسؤال العفو والمغفرة منه سبحانه، والناس على قسمين:
الأول: أهل المعاصي.
الثاني: المؤمنون.
وأهل المعاصي لا يذكرون الله عند فعل المعصية، وعدم الذكر ذاته معصية إضافية وإصرار على القبيح، أما المؤمنون فهم الذين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يرتكبون السيئة إلا عرضاً ومعها يلجأون إلى التوبة والإنابة.
الوجه الحادي عشر: قوله تعالى[وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ]( )، عن بعض أهل الإشارة أنها أرجى آية في كتاب الله( ).
إبتــدأت الآية الكــريمة بعالم التكــوين، وعظيم قــدرة وسلطان الله عز وجل وجاء خلق السموات والأرض بصيغة الإطلاق الزماني من غير تقييد بيوم مخصوص للتعدد فيه، قال تعالى[اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ]( ).
أما الأمر الثاني فجاء مع التعيين الزماني وصيغة المستقبل[وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ] لإرادة بديع صنع الله عز وجل، وسعة فضله وتوالي آياته من أمر التكوين والمحو والثواب والعقاب وعالم البعث والحشر وقول الله تعالى هو الحق السالم من الخطأ والخالي من الزلل، فهناك تطابق بين قول الله والحق، لا يغادر أحدهما الآخر , وفيه بعث للسكينة في قلوب العباد بأن الذي يفعله الله مستقبلاً خير محض مثل الذي فعله سابقاً من غير حد من طرفي السابق والمستقبل ومنه خلق السموات والأرض بالحق وتفضل الله بجعل الناس ينتفعون منها الإنتفاع الأمثل، قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا]( ).
وفي(الصور) المذكور في الآية وجوه:
الأول: إنه بوق عظيم ينفخ فيه الملك إسرافيل.
الثاني: (إنه قرن ينفخ فيه بلغة أهل اليمين)( )، وروي إن إعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصور فقال: قرن ينفخ فيه)( ).
الثالث: المراد من الصور جمع صورة، وهيئة الأبدان وصور الخلائق, فينفخ فيها وفي الموجودات فتعود فيها الحياة.
الرابع: هو جمع صورة مثل سورة وسور، قاله أبو عبيدة)( )، وقرأ قتادة (في الصوَر) بفتح الواو.
والصحيح هو الثاني لوروده عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان موضوعه وشدته يومئذ شدة عظيمة، ولقانون التفسير الذاتي للقرآن قال تعالى[وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى]( )، وفيه وجوه:
الأول: جاء الصعق بعد النفخ، أي تخر الأحياء ميتة، وهو في دلالته ضد النفخ في صورهم , إلا أن يراد النفخ الثاني.
الثاني: ورد النفخ الثاني بالصور بصيغة المفرد(ونفخ فيه) ولم تقل الآية أعلاه ونفخ فيها.
الثالث: الترابط والترتيب بين النفخ والصعق، وإنعدام الفترة بينهما لدلالة الفاء على التعقيب تقول: جاء زيد فعمر.
ولا بد من تأسيس قانون كلي وهو إذا ورد حديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو بسند ضعيف فيجب ألا يتم التعجل والتجرأ إلى قول مغاير له لا دليل عليه.
الوجه الثاني عشر: قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( )، نسب الطبرسي القول بأنها أرجى آية إلى المحققين)( )، لأن كل معصية وذنب داخل في المغفرة إلا الشرك , والمسلمون في مأمن منه.
(وعن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما من عبد قال: لا إله إلا الله. ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة” قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: “وإن زنى وإن سرق” قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: “وإن زنى وإن سرق” ثلاثا، ثم قال في الرابعة: “على رغم أنف أبي ذر”! قال: فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر”، وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر)( ).
وعن الإمام محمد الباقر أن الإمام علي عليه السلام أقبل على الناس فقال أية آية في كتاب الله أرجى عندكم فقال بعضهم إن الله لا يغفر أن يشرك به) الآية فقال حسنة و ليست إياها.
وقال بعضهم[وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ]( ) قال حسنة و ليست إياها.
وقال بعضهم[قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ]( ) قال حسنة و ليست إياها.
وقال بعضهم [والذين إذ فعلوا فاحشة]( ) قال حسنة وليست إياها، قال ثم أحجم الناس فقال ما لكم يا معشر المسلمين فقالوا لا والله ما عندنا شيء.
قال سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول أرجى آية في كتاب الله [وأقم الصلاة طرفي النهار]( ) وقرأ الآية كلها قال يا علي والذي بعثني بالحق بشيرا و نذيرا إن أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه.
فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عدّ الصلوات الخمس .
ثم قال يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات أكان يبقى في جسده درن فكذلك و الله الصلوات الخمس لأمتي)( ).
ويدل الحديث أعلاه على أن جماعة من المسلمين جعلوا آية البحث من الآيات التي يحتمل أن تكون هي أرجى آية , وفيه مسائل:
الأولى: حضور آية البحث في أذهان ومجالس المسلمين .
الثانية : تأكيد منزلة آية البحث عند المسلمين , وتدبرهم في معانيها القدسية.
الثالثة: الإستبشار بآية البحث والحرص على تلاوتها , وإدراك منافعها في الدنيا والآخرة.
الرابعة : إمضاء الإمام علي عليه السلام لترجيح المسلمين لآية البحث بوصف إختيارها لهذه المرتبة بالحسن، وإن أخبر بالدلالة التضمنية على وجود أرجح منها كما تقدم أعلاه وقال بعضهم[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً]( ).
الخامسة : لم يرجح المسلمون آية أخرى بعد آية البحث لتكون أرجى آية لقوله أعلاه (ثم أحجم الناس) ( ).
السادسة : فوز المسلمين بالإنتفاع الأمثل من مضامين آية البحث لقوله تعالى في ذات الآية[إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أن أداء الصلاة حسنة , وأن تلاوتها من ذكر الله عز وجل الذي ورد في آية البحث فيتحقق مصداق التقوى والذكر والإستغفار بأداء فريضة الصلاة، مما يدل على أن الصلاة نعمة عظيمة ومائدة سماوية حاضرة بين أيدي الناس لمحو السيئات والمعاصي ، وهي موضوع مبارك للسعي في ذات الوقت إلى الجنة الواسعة, والسياحة في مقدماتها.
ويفيد الجمع بين قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ….]( ) وبين آية البحث أموراً:
الأول: ندب المسلمين إلى الإجتهاد في ذكر الله والإستغفار من كل ذنب.
الثاني: المبادرة إلى فعل الصالحات.
الثالث: شكر الله عز وجل على نعمة الهداية إلى الإسلام , والسلامة من الكفر.
الرابع: التحلي بالورع والتقوى، والتنزه عن المعاصي والقبائح، وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال(قال سليمان بن داود عليهما السلام: أوتينا ما أوتى الناس وما لم يؤتوا، وعلمنا ما يعلم الناس وما لم يعلموا، فلم نجد شيئا أفضل من خشية الله في المغيب والمشهد، والقصد في الغنى والفقر وكلمة الحق في الرضا والغضب، والتضرع إلى الله تعالى على كل حال)( ).

الوجه الثالث عشر: قوله تعالى[فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ]( )، قيل أنها أرجى آية في كتاب الله عز وجل للمؤمنين)( )، لما تدل عليه في مفهومها من السلامة والنجاة للمؤمنين.
وتدل الآية وفق مفهوم المخالفة ودليل الخطاب على نجاة المؤمنين لحصر الهلاك بالفاسقين الذين يصرون على المعصية والجحود، ويتجلى هذا المفهوم في منطوق الآية أيضاً لما فيها من الأمر بالصبر كوسيلة وبلغة لوصول المؤمنين إلى العاقبة الحميدة التي أعدّها الله عز وجل لهم باللبث الدائم في[جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( )، ليكون هذا الصبر من مصاديق التقوى والخشية من الله عز وجل.
(وأخرج الطبراني في الدعاء عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا طلبت وأحببت أن تنجح فقل : لا إله إلا إله وحده لا شريك له العلي العظيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السموات والأرض، ورب العرش العظيم , الحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عيشة أو ضحاها كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون، اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة والنجاة من النار اللهم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته ولا همّاً إلا فرجته ولا حاجة هي لك رضاً إلا قضيتها يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين)( ).
وتتضمن الآية الإنذار للقوم الفاسقين بنزول العذاب بهم، وتدل على سلامة المسلمين وبقاء أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مأمن من الإستئصال والهلاك وإستدامة شريعته والعمل بأحكامها وليس من أمة جاءها الأمن من العذاب مثل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ أن خروج المسلمين للناس يتقوم بحفظهم من الهلاك والفناء، وهذه الآية بشارة مركبة للمسلمين من وجوه:
الأول: سوء عاقبة الكفار والمشركين.
الثاني: حتمية نزول العذاب بالفاسقين الذين يمتنعون عن التصديق بالآيات.
الثالث: سلامة المسلمين كأمة من العذاب وعقاب الإستئصال.
الرابع: ضعف ووهن أعداء الإسلام، وعجزهم عن محاربة الإسلام.
الخامس: المنافع العظيمة في الدنيا والآخرة لملكة الصبر التي يتحلى بها المسلمون.
وبالإسناد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا عسر على المرأة ولدها، فلتكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة، ثمّ تُغسّل، ثمّ تسقى منها: بسم الله الرّحمن الرّحيم لا إله إلاّ الله الحليم الكريم سبحان الله{رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَار بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ})( ).
وصلة آية البحث بقوله تعالى[فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ] أن آية البحث في مفهومها بلاغ وإنذار للظالمين الذين يصرون على الكفر والجحود.
وجاءت الآية أعلاه بصيغة الإستفهام الإنكاري بلغة الحصر والإستثناء وفيه تأكيد لقيام الحجة على الفاسقين الذين جحدوا بآيات الله، وصدوا عن سبيله، وتلقوا معجزات النبوة بالإعراض والإستهزاء، ويحتمل الهلاك في الآية أعلاه وجوهاً:
الأول: الخلود في الجحيم.
الثاني: الحرمان من فضل الله.
الثالث: القتل والموت وزوال الذكر.
الرابع: نزول البلاء والعذاب بغتة أو جهرة، ليلاً أو نهاراً.
الخامس: البوء بسخط الله.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، لحمل اللفظ على إطلاقه ولأنه في مقام الوعيد والتخويف، لتبعث الآية في النفوس النفرة من الكفر والظلم والضلالة وتدعو الناس إلى الإسلام .
ويفيد الجمع بينها وبين آية البحث أن الكافر حينما يفعل المعصية يدنو باختياره من العذاب, وهذا الدنو بذاته هلاك ولكنه لا يشعر به ظاهراً، بينما المؤمن حينما يرتكب المعصية فإنه يلجأ إلى الله ويتطلع إلى عفوه ومغفرته.
ومنهم من قرأ(هل يَهلِك) من الثلاثي وإرادة الفعل المبني للمعلوم أي أن الله عز وجل هو الذي يهلك الفاسقين , ويدل بالدلالة التضمنية على حرمان الفاسقين من الجنة ليس لأن المتضادين لا يجتمعان وأنهم لا يجتمعون مع المؤمنين في الآخرة، بل لأن الله عز وجل أعدّ الجنة للمتقين على نحو الخصوص الذين يلجأون إلى الذكر والإستغفار , ويأتي هلاك الفاسقين من جهة إصرارهم على المعاصي وعدم مغادرتهم الرذيلة والفاحشة بينما يكون المؤمنون في حذر وحيطة دائمة من الفواحش ما قل منها وما كبر وإن خالف وزلّ بعضهم فإنهم يتوجهون إليه بسلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن حسن سمت المسلم أنه يتلقى هذا الأمر والنهي بالرضا واللجوء إلى سلاح الإستغفار وهل الأمر والنهي من تحفة ذكر الله الذي جاءت بها هبة من السماء آية البحث , الجواب نعم، من وجوه:
الأول: يقوم المسلمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طاعة لله عز وجل.
الثاني: موضوع ما يأمر به المسلمون هو الواجبات والمستحبات، وموضوع ما ينهون عنه هو المحرمات والمكروهات.
الثالث: الأمر والنهي في المقام من رشحات ذكر الله، وسبب لذكره تعالى فهي من شعائر الله، ودين الله الذي بعث به الأنبياء، وتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين والمسلمات ورثة الأنبياء فيه ليكونوا من الذين أعد لهم الجنة في الآخرة.
الرابع: الأمر والنهي من مصاديق الإيمان، وخصال المتقين لذا ورد عن أبي سعيد الخدري انه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)( ).
الوجه الرابع عشر: [قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً]( )، نسب الطبرسي كونها أرجى آية إلى أرباب اللسان)( ).
روي أنه عندما تذاكر الصحابة القرآن أن أبا بكر قال: لم أرَ فيه آية أرجى وأحسن من قوله تبارك وتعالى:{قل كل يعمل على شاكلته} فإنه لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ولا يشاكل بالرب إلا الغفران)( ).
ومن معاني الآية الكريمة أن كل فرد يعمل على دينه وطريقته ونيته (قال ابن عباس: على ناصيته)( )، وقال الطبري(الشاكلة: الدين)( ).
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: توجه الخطاب إلى المسلمين.
الثاني: توجه الخطاب إلى الناس جميعاً.
والصحيح هو الثاني، وتقدير الآية قل يا محمد للناس كل يعمل على شاكلته، ويحتمل هذا القول وجوهاً:
الأول: إرادة الإذن والسماح لأهل المذاهب والملل للبقاء على مللهم ومناهجهم المتباينة.
الثاني: حصر الإذن بالمسلمين وأهل الكتاب على نحو الخصوص.
الثالث: إرادة الناس جميعاً وشمول الآية لأهل الإيمان وأهل الكفر.
والصحيح هو الثالث ولكن الآية جاءت على نحو التحدي للذين يكذبون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون على وجوه:
الأول: في الآية نوع إنذار وتخويف للكفار.
الثاني: تبعث الآية الطمأنينة في نفوس المسلمين لأنها من مقامات الإحتجاج وإقامة البرهان على سلامة وصحة عمل المسلمين.
الثالث: في الآية دعوة للمسلمين لتعاهد الفرائض والعبادات، والإعراض عن أهل الشك والريب.
الرابع: في الآية إمضاء لفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ وحث المسلمين على إتيان الفرائض والواجبات، وجاءت السور في بداية التنزيل في مكة بالتخويف والوعيد الصريح مثل[إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا]( ) [الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ]( ) .
وقوله تعالى[قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ] من سورة الإسراء وهي مكية فيكون الوعيد للكفار من معانيها ودلالاتها.
الخامس: هل تسقط هذه الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المسلمين مع الكفار بخصوص موضوع الآية[قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ] الجواب لا من جهات:
الأولى: ملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمسلمين وإلى أن تقوم الساعة.
الثانية: جاءت الآية بصيغة الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل كل يعمل) وهذا الأمر إنحلالي ينحل بعدد المسلمين والمسلمات وتعدد مناسباته مما يدل على أن أفراده من اللامتناهي، ويحتج به فكل مسلم يتلو هذا القول, ويتدبر معانيه ولو على نحو الموجبة الجزئية المتباينة في مراتب أفرادها.
الثالثة: مضامين الآية الكريمة من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلك آية من إعجاز القرآن بأن يأمر الله عز وجل المسلمين بالأمر والنهي ثم يتفضل ويجعل أفراد الأمر والنهي في القرآن , وهو من مصاديق إمامة القرآن للمسلمين قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
السادس: مع أن الآية في مقام التحدي فإنها تتضمن الدعوة إلى التوحيد، وحث الناس على نبذ الشرك ومفاهيم الكفر، فقد ورد فيها ذكر الله عز وجل بصفة الربوبية المطلقة للمخاطبين (فربكم أعلم) وتدل الآية بالدلالة التضمنية على إقرار المسلمين بالعبودية لله عز وجل.
السابع: تعيين موضوع الجدال، ومادة الإحتجاج وهو الهدى لقوله تعالى[بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً]( ).
الثامن: بعث حب الإيمان في النفوس، وجعله البلغة والغاية , قال تعالى[وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُم-ْ]( ).
والصلة بين آية البحث بقوله تعالى[قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً] ( )، على وجوه :
الأول:تحدي أهل الملل الأخرى.
الثاني:السكينة التي تملأ نفوس المسلمين بصحة نهجهم وسلامة إختيارهم .
الثالث:إعراض المسلمين عن أسباب الجدال والخصومة، ومنع أهل الشك من التعدي عليهم.
الرابع:تسليم المسلمين بأن الله عز وجل[أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا]( ) فهو سبحانه الذي يعلم نوايا وأفعال الناس ويحاسب عليها.
ومن مذهب وطريقة المسلمين ذكر الله والإستغفار عند فعل الفاحشة أو ظلم النفس، وهو أمر حسن ذاتاً وعرضاَ وخير محض ونفع في النشأتين.
وتدل مضامين آية البحث على أن المسلمين هم الأمة الأهدى سبيلاً من بين الأمم لتنزههم عن الشرك وهو الظلم الأكبر، قال تعالى[إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( )، وإذا فعل أحدهم فاحشة أو ظلم نفسه إستدرك بذكر الله وإستجار بالإستغفار ولم يبق مقيماً على المعصية، ولم يصر على الذنب .
لقد اراد الله عز وجل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنقطاع الإصرار على الذنب عند الناس.
فان قلت لا زال هذا الإصرار موجوداً عند شطر من أهل الأرض، والجواب من وجوه:
الأول:وجود أمة مسلمة معصومة من الإصرار على المعاصي.
الثاني:إطلالة آية البحث على المسلمين والناس جميعاً تذكرهم بلزوم الإستغفار.
الثالث:شمول الإصرار على المعاصي لعمومات وأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فصحيح أن التقوى وظيفة المسلمين إلا أنهم يتوجهون بمفاهيمها وسننها إلى الناس جميعاً , قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( )، ومن مصاديق الخير في الآية أعلاه ذكر الله والإستغفار , والإقلاع عن المعصية , ليصير الناس بعد نزول القرآن قسمين:
الأول:المؤمنون الذين يجتنبون الإصرار على المعصية.
الثاني:الكفار الذين يصرون على الجحود والفسوق.
والقسم الأول ثابت في سنخيته ونهجه، لايخرج منه أحد، والقسم الثاني متزلزل , وتخرج منه كل يوم جماعات إلى مقامات الهداية هروباً من الإصرار على المعاصي وشوقاً للعمل بآية البحث وما فيها من إنبعاث السكينة في النفس التي تترشح عن خصال التقوى من ذكر الله والإستغفار.
إن لجوء المسلم إلى الذكر والإستغفار شاهد بأن فعله للفاحشة قضية شخصية وأن عموم المسلمين مواظبون على الصالحات، متجانفون عن الإثم وظلم الذات والغير.
وهو من مصاديق تعاون المسلمين في سبل البر والتقوى , وهي في المقام على وجوه:
الأول: التآزر والتعاضد بين المسلمين في تعاهد الفضيلة , وكل فرد من أفراد تعاونهم في سبل التقوى ينفعهم والناس في الدنيا والآخرة، ولكن لوتآزرت الخلائق مع إبليس على عداوة الله فانهم لايضرونه شيئاً، وليس من مصداق عملي لهذا المثل لوجود أمة مؤمنة في كل زمان لا تغادر منازل التقوى.
الثاني:إرتقاء المسلمين في سلم التقوى , وهو من عمومات قوله تعالى قبل آيتين[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
الثالث: تطهير الأفعال وتهذيب الأخلاق.
الرابع:النجاة من جب المعصية، والحصانة من إستحواذ الهوى وغلبة النفس الشهوية , وحسن سمت المسلمين بإتصافهم بخصلة عدم الإصرار على الذنب .
لتكون شاكلة المسلمين ضياء يدعو الناس جميعاً للإقتباس منها، وبرهاناً يبين بطلان الضد والمنافي لأفعالهم.
فمن الإعجاز في قوله تعالى[قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ] دعوة الناس للتدبر في سيرة المسلمين والتعلم منهم , والإهتداء إلى سبل الذين أعّد الله عز وجل لهم [جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ).وتتجلى مضامين آية البحث كونها من أركان التقوى .
ويدل الجمع بين الآيتين على أن قوله تعالى(قل كل يعمل على شاكلته) لا يعني دعوة الناس للبقاء على مذاهبهم، بل يفيد أموراً:
الأول:تأكيد الوعيد على الإصرار على الكفر والشرك.
الثاني:بيان قبح المعاصي والإقامة عليها.
الثالث:الإخبار بأن الإصرار على الذنوب يؤدي إلى الحرمان من الجنة، بينما يكون نهج المسلمين اللجوء إلى التوبة والإستغفار عند ظلم النفس.
الرابع: حث وترغيب الناس لدخول الإسلام وترك الملل الباطلة، والعادات المذمومة.
الخامس: يؤكد قوله تعالى[هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى]( )، علم الله عز وجل بأعمال الناس صغيرها وكبيرها ونوع وماهية العمل في دعوة للناس للإشفاق على نفوسهم وإختيار مصاديق الهداية وسبل السلامة في النشأتين ومنها ذكر الله والإستغفار عند إرتكاب معصية.
لقد جعل الله عز وجل آية البحث نجاة من المصيبة والحزن الذي يترشح عن فعل السيئة، والإنقياد للشهوة وفعل المعصية في ساعة من نهار يترك الآثام على الإنسان فان الإستغفار مع خفته على اللسان، ويسر أدائه يأتي على هذه الآثام والحزن المصاحب لها فيزيلها ويجعل الإنسان في غبطة وسعادة.
وتتجلى في آية البحث معاني الوحدة الإسلامية والأخوة بين المسلمين بالذكر والإستغفار والتعاون فيه، ويجزي فيه إشتراكهم في قول[اسْتَغْفِرْ اللَّهَ] وهذا اللفظ من القرآن، قال تعالى[وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
ويصح سواء جاء به المسلم بصيغة الدعاء والسؤال، أم ضمّ له قصد القرآنية، وكذا يصح الإستغفار بما جاء في القرآن مثل قوله تعالى[أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ] ( )،أستغفر الله[إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا]( )،وأستغفر الله[غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ]( )، فقد تفضل الله عز وجل بتقديم مغفرة الذنب قبل قبول التوبة حلماً منه تعالى على الناس، وإمهالهم لحين التوبة.
وهل يراد من المغفرة في الآية أعلاه خصوص العفو ومحو الذنوب في الحياة الدنيا بلحاظ أن قبول التوبة يكون في الحياة الدنيا، والترغيب في الآية أعلاه يفيد ترتب المحمول أيضاً، الجواب الآية أعم ومغفرة الذنوب تكون في الدنيا والآخرة والشفاعة من مصاديقها وجزء منها.
وقال الآلوسي[قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ] على طريقته التي تشاكل استعداده وكل اناء بالذي فيه يرشح) ( ).
ولكن الآية جاءت للتحدي والإصلاح، ولا موضوعية لمسألة الإستعداد والإناء لأن فطرة الإنسان مطلقاً هي الإسلام، وأراد الله عز وجل في هذه الآية تذكيرهم بها، وبيان قبح إصرارهم على المعصية.
وقال الثعالبي(على شاكلته) أي: على ما يليق به( ).
ولكن لا يليق بأي إنسان إلا الإسلام , قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( )، ولكن الكفار أعرضوا عن دعوة الهدى وأسباب جذبهم إلى ما يليق بهم وهم الإيمان، وإمتنعوا عن التدبر في الآيات وإجتنبوا مواطن الدعوة والدعاة، وإتخذوا طريق العناد والضلالة وإتجهوا صوب الجدال وإثارة الريب في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فجاءت الآية أعلاه من سورة الإسراء لوجوه:
الأول: التخفيف عن المسلمين في أداء واجباتهم الشرعية.
الثاني: حث المسلمين على العناية بالفرائض وضبطها وتوارثها طبقة إلى مثلها, وجيلا إلى جيل.
الثالث: إصلاح شأن وحال المسلمين بما يجعلهم قادرين على مواجهة قوى الكفر والضلالة.
ولم تأت الآية أعلاه إلا بعد أن تبين للناس إصرار رؤساء الكفر على الجحود ، وإمتناعهم عن كف أذاهم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، لذا فانها تتضمن تحذير المسلمين من كيدهم ومكرهم ويتجلى تلقي المسلمين التحذير بالتهيأ للدفاع عن بيضة الإسلام، ودفع العدو عن بلاد المسلمين.
وقوله تعالى[قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ] أي من المسلمين وأهل الكتاب والكفار، وعمل الكفار سبب لنفرة الناس منهم ومن الكفر، فالآية جاءت للتحدي والإخبار بأن تحلي المسلمين بالتقوى باب لدخول الناس الإسلام أفواجاً, وبقاء الكفار في منازل الضلالة والإصرار على الفساد سبب لترك الناس لهم، والإبتعاد عنهم .لذا ففي ذات الوقت الذي يحرض رؤساء الكفر القبائل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترى أبناءهم وبناتهم يدخلون الإسلام جهرة وخفية.
وبلحاظ آية البحث يكون معنى قوله تعالى[قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ] أن المسلمين والمسلمات يواظبون على ذكر الله والإستغفار عند فعل فاحشة أو ظلم النفس، أما الكفار فانه يتمادون في فعل السيئات، ليكون نتيجة الآية أعلاه أي أن شاكلة المسلمين تقودهم إلى الجنة، وشاكلة منهج الكفار يسوقهم إلى النار، وهذا التباين والتضاد في العاقبة من مضامين ودلالات الآية.
وفي الجمع بينها وبين آية البحث بيان لحقيقة وهي أن المسلمين وليهم الله عز وجل يأخذ بأيديهم للإرتقاء في مراتب المعرفة، ودرجات الرفعة وروضات التقوى , قال تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] ( ).

الوجه الخامس عشر: قوله تعالى[وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ]( )، أي أن شدة العقاب تأتي إذا أصروا على الكفر والجحود،كما يتجلى في قوله تعالى[مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]( ).
وفي قوله تعالى ( قل كل يعمل على شاكلته ) ورد عن ابن عباس أنها أرجى آية في القرآن)( )، وعن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت الآية , قال رسول الله عليه وآله وسلم: لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هنأ أحد عيش ولولا عقابه ووعيده وعذابه لاتكل كل أحد)( ).
وقيل إن المغفرة هنا مؤقتة، بمعنى أنها خاصة بالدنيا بلحاظ ما قبلها وهو قوله تعالى[وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلاَتُ]( )، أي العبر والمواعظ(وعن الشعبي قال: القردة والخنازير)( )، فلما كذّب الكفار بالنبوة، وواصلوا الإستخفاف بآياتها ولم يأتهم العذاب تمادوا في الغي والغرور وأخذوا يؤذون النبي محمداً ويعلنون إستهزاءهم، ويتحدون بسؤال نزول العذاب عليهم في الحال , كما ورد في التنزيل[فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
وفي الآية أعلاه وجوه:
الأول: الإخبار عن ستر الله عز وجل للناس، وإمهاله للكفار والفاسقين في الدنيا.
الثاني: المراد مغفرة الله لذنوب الناس الذين يتوبون من ذنوبهم، ويصلحون أمورهم بمناهج التقوى.
الثالث: إرادة المعنى الأعم، وأن الآية تشمل العفو والحلم والإمهال في الدنيا للمؤمن والكافر، والعفو والمغفرة للمؤمنين في الآخرة.
وجاءت الآية بالمغفرة للناس على نحو العموم الإستغراقي الذي يدل عليه الألف واللام في(الناس) وموضوع الظلم، بينما خصت آية البحث المؤمنين بالمغفرة في أمرين هما:
الأول: فعل الفاحشة.
الثاني: ظلم النفس.
وفيه آية في إكرام المسلمين، ولطف الله عز وجل بهم في الدنيا والآخرة، نعم جاء تقييد المغفرة بالإستغفار الذي هو مصاحب لهم في حياتهم اليومية، وهو من أسرار فرض الصلاة خمس مرات في اليوم لأنها عمل ومناسبة للإستغفار طوعاً وإنطباقاً وقهراً.
(قال السدي: يعني المؤمنين وهي أرجى آية في كتاب الله حيث ذكر المغفرة مع الظلم)( ).
ويحتمل الظلم في الآية وجوهاً:
الأول: إرادة ظلم الإنسان لنفسه.
الثاني: ظلم الإنسان لغيره.
الثالث: ظلم الناس بعضهم لبعض على نحو العموم الإستغراقي، أو الأمر الشائع بينهم.
الرابع: تعطيل الناس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس: ظلم الجماعة من الناس للفرد منهم وإن كان من ملة أو مذهب غير الذي هم عليه.
السادس: ظلم الإنسان مع ربه بالتقصير في أداء العبادات، والتفريط في الواجبات، والتهاون في المحرمات.
وهذه الوجوه من مصاديق الآية التي جاءت بصيغة الإطلاق ولغة الجمع، وعندما إحتجت الملائكــة على جعــل آدم خليــفة في الأرض كــما ورد في التنــزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) أقـام الله عـز وجل الحجة عليهم بقوله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن مصاديق علم الله تعالى في المقام مغفرته للناس مع ظلمهم , وفيه إستدامة لموضوع الخلافة في الأرض ، وتجدد الدعوة للناس للتوبة والإنابة، فالظلم الذي ذكرته الآية الكريمة من مصاديق الفساد الذي إتخذته الملائكة موضوعاً للإحتجاج , فأخبر الله عز وجل عن سقوطه بالمغفرة بفضله على الخليفة، ليبقى ذكر المؤمنين لله سبحانه وأداؤهم للعبادات هو السمة الظاهرة والجلية في عمارة الإنسان للأرض , قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
لتنزل الملائكة تقاتل إلى جانب المسلمين لإعانة الناس في دخول أبواب المغفرة التي فتحها الله عز وجل لهم على نحو العموم الذي يدل عليه قوله تعالى في الآية أعلاه[وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ]، وإفادة الألف واللام في(الناس) الإستغراق، قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بنى سلمة، أنهم ذكروا أن الحباب ابن منذر بن الجموح قال يوم بدر : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأى والحرب والمكيدة.
قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبنى عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لقد أشرت بالرأى”، قال الاموى: حدثنا أبى، قال: وزعم الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الاقباص وجبريل عن يمينه إذا أتاه ملك من الملائكة فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” هو السلام ومنه السلام وإليه السلام ” فقال الملك: إن الله يقول لك: إن الامر الذى أمرك به الحباب بن المنذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل هل تعرف هذا ؟ فقال: ما كل أهل السماء أعرف، وإنه لصادق وما هو بشيطان. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
وذكر بعضهم أن الحباب بن المنذر لما أشار بما اشار به على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ملك من السماء وجبريل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الملك: يا محمد، ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن الرأى ما أشار به الحباب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل فقال: ليس كل الملائكة أعرفهم، وإنه ملك وليس بشيطان)( ).
وتكون النسبة بين الآية أعلاه [وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ] وبين آية البحث هي العموم والخصوص المطلق إذ جاءت الآية أعلاه بشارة للناس جميعاً، بينما جاءت آية البحث خاصة للمتقين، وهل يحمل العام على الخاص وأن المراد بالناس في الآية أعلاه هم المتقون الذين أعد الله لهم الجنة، الجواب لا، لأصالة العموم.
وبلحاظ آية البحث فإن المسلمين إتبعوا الهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: يسعى المسلمون بجد وإجتهاد إلى الإقامة الدائمة في الجنة.
الثاني: يلجأ المسلمون إلى الإستغفار ويستجيرون بذكر الله عند فعل الفاحشة.
الثالث: إستحضار المسلمين لقصد القربة في عمل الصالحات.
الرابع: مصاحبة المسلمين لذكر الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن لله سيارة من الملائكة يتبعون حلق الذكر فإذا مروا بحلق الذكر قال بعضهم لبعض اقعدوا فإذا دعا القوم أمنوا على دعائهم فإذا صلوا على النبي صلوا معهم حتى يفرغوا ثم يقول بعضهم لبعض طوبى لهم لا يرجعون إلا مغفورا لهم)( ).
الخامـس: إمتلاء نفــوس المســلمين بالســكينة لأنهم يعلمون أن الله عز وجل يغفر الذنوب، ويمنع من ترتب الأثر عليها.
السادس: رجاء المسلمين بأنه يكون الإستغفار والتوبة والندم على فعل الفاحشة وسيلة لإبدال السيئات بضدها المبارك.
وصلة آية البحث بقوله تعالى[وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ]( )، دعوة الناس للنهل والتطهر من بحور المغفرة بلفظ الإستغفار, وبينما يتعجل الكفار العذاب، ويسأمون من الإنصات لآيات الوعيد , وما فيها من التخويف ترى المسلمين يتضرعون إلى الله رجاء العفو والمغفرة.
ولما إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض لأن الإنسان يرتكب المعاصي كما ورد في التنزيل حكاية عنهم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء قوله تعالى[وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ] لبيان حقيقة من وجوه:
الأول: إستغراق خلافة الإنسان في الأرض لأفراد الزمان إبتداءً وإستدامة بفضل ورحمة من الله.
الثاني: شدة عقاب الله عز وجل بالذين يفسدون في الأرض لتكون الخلافة أمانة ووديعة عند الناس ومعها إمهال وستر وحلم ورجاء التدارك.
الثالث: فتح باب التوبة والإنابة للناس جميعاً.
وفي الآية أعلاه من سورة الرعد وجوه:
الأول: حصول العفو قبل التوبة بلحاظ محو ذنوب التائب ليصبح وكأنه لم يظلم أحداً.
الثاني: إرادة الصغائر من الذنوب دون الكبائر.
الثالث: المقصود الإمهال والحلم من الله عز وجل، وعدم المؤاخذة على الذنوب مع ترتب العقاب عليها كترتب المعلول على علته، ولكن الله يعفو ويمهل.
الرابع: جاءت الآية لبيان فضل الله، وحضور مغفرته وعدم حجبها عن الناس مع ظلمهم فالذي يتوب إلى الله يغفر له ذنوبه وإن كانت عظيمة وكثيرة.
الخامس: التباين بين العقاب الفعلي على الظلم وبين العذاب المستحق, فحتى لو كان هناك عقاب فإنه أقل كثيراً مما يستحقه الذنب، قال تعالى[وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ]( ).
والصحيح هو الوجوه الثلاثة الأخيرة , وعن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتّكل كل أحد)( ).
وجاءت الآية بصيغة الإطلاق من جهات:
الأولى: سعة المغفرة ونسبتها إلى الله عز وجل.
الثانية: شمول المغفرة لعموم الناس إذ أن الألف واللام تفيد الإستغراق، وهو ظاهر الآية فهي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، ولا يفوز بمحو الذنوب جملة وتفصيلاً إلا أهل آية البحث الذين يذكرون الله ويستغفرونه عند ظلم النفس أو الغير .
وهل يمكن القول بإفادة الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث : أن المراد بالناس هم المؤمنون الذين يستغفرونه لأنهم يستغفرون الله بعد الظلم , الجواب الآية أعم وهي من رحمة الله في الدنيا التي تتجلى منافعها في الآخرة .
السادس عشر: قوله تعالى[وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى]( )، قال الثعلبي: ورأيت في بعض التفاسير أنَّ هذه أرجى آية للموحّدين في القرآن)( ).
ويتعــلق موضــوع الآية أعــلاه بموســى عليه الســلام , وكيف أن الله عز وجل أمره أن يذهب هو وهارون إلى فرعون، ووجه الرجاء في الآية أن السلام على المؤمنين الذين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإتباعهم الهدى الذي جاء به، وجاء ذكر السلام بصيغة الإطلاق وفيه مسائل:
الأولى: إفادة الحياة الدنيا والآخرة.
الثانية: في الآية ترغيب بالإيمان، وإخبار عن وجود أمة مؤمنة بنبوة موسى عليه السلام، وأن جحود فرعون بنبوته لن يضره والمسلمين .
الثالثة: التعريض بالذين يتبعون الغواية ويصرون على الجحود بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: دعوة الناس لدخول الإسلام لتجلي مصاديق الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
وفي موضوع ودلالات صيغة السلام في الآية ورد في كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهرقل عظيم الروم: “بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من إتبع الهدى أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام)( ).
ومن معاني السلام في الآية وجوه منها:
الأول: إرادة التحية التي تتضمن الإكرام والبشارة بالأمن والسلام، والإخبار بأنها خاصة بالمؤمنين، وعلى هذا المعنى فالآية وعيد لفرعون في الدنيا والآخرة، وتحد وإنذار له ولسلطانه، وقد بينت الوقائع اللاحقة وغرق فرعون وجنوده في أليم صدق ووقوع هذا الإنذار فكأن الآية تقول لفرعون ومن مثله من الكفار الظالمين: أسلم تسلم.
الثاني: الأمن من عذاب الله يوم القيامة.
الثالث: السلامة والأمن في الدنيا وفي عالم البرزخ وفي الآخرة، وعن ابن بريدة عن أبيه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ، وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ)( ).
لقد أمر الله عز وجل موسى وهارون أن يكلما فرعون بلطف وأدب, وبما لا يثير غضبه ويسبب نفرته والملأ من قومه، مع بيان علة المجيء له وصيغة الرفق واللين لقوله تعالى[فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى]( )، ومع هذا فإن موسى وهارون جاءا بالسلام مقيداً بالهدى والإيمان ليخرج منه فرعون وقومه ما داموا قائمين على الكفر والجحود وفق مفهوم المخالفة وفحوى الخطاب كما مبين في علم الأصول فلم يقولا: والسلام على من آمن).وهو من القول اللين ويحتمل قول (السلام على من إتبع الهدى)أمرين:
الأول: إرادة الحصر وتقييد السلام بالمؤمنين الذين يعرفون طريق الحق ويتخذونه مسلكاً.
الثاني: قصد خصوص المهتدي من غير حجب السلام عن غيره بإعتبار إفادة الألف واللام في (السلام ) للعهد، لأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
والصحيح هو الأول وقصد تعيين المؤمنين وأن الألف واللام تفيد الجنـس، وهل هذا الحصــر في الســلام من القـــول اللين الــذي أمر الله عز وجل به موسى وهارون، أم أنه خارج عنه بالتخصص أو التخصيص.
الجواب هو الأول بلحاظ القطع بإستجابة الأنبياء لأمر الله عز وجل قبل أن تصل النوبة إلى عصمتهم وموضوعيتها، وتتجلى معاني اللين بحصر السلام بالمهتدين من وجوه:
الأول: إبتداء موسى وهارون السلام.
الثاني: جذب الإسماع إلى ما بعد السلام من الكلام فقد ظن فرعون وملئه أن موسى يؤدي التحية بما يناسب عرش وسلطان فرعون وإن لم يكن بالإعتراف بإطلاق سلطانه ، فجاء السلام قاعدة كلية فمن أراد أن يكون من مصاديقها وأفرادها فعليه بالهداية والرشاد.
الثالث: إختصاص السلام بأهل الهداية دعوة لذكر الله عز وجل، وعظيم قدرته، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وحثهم في آية البحث على ذكر الله والإستغفار.
الرابع: قيدت الآية القول اللين بأنه يصدر من مقامات النبوة، والسلام رحمة فما أراد موسى أن تتغشى فرعون , وهو مصر على الكفر والجحود.
الخامس: ذكر الهداية من القول اللين.
السادس: لقد كان في قوم فرعون رجل مؤمن، ولعله كان موجوداً في المجلس هو أو من هو على نهجه، وإلا فإن سلام موسى وهارون لابد أن يكون له محل متوجها إليه، قال تعالى[وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ]( ).
وقال السدي ومقاتل: كان ابن عم فرعون وهو الذي أخبر الله تعالى عنه فقال : {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى})( ).
ويرجح أيضاً أن كيفية سلام موسى وهارون كانت وسيلة لإيمان نفر من آل فرعون وممن كان حاضراً مناظرة موسى وإحتجاجه على فرعون.
السابع : إقامة الحجة على فرعون وقومه وترغيبهم بالإسلام بلحاظ الملازمة الظاهرة بين الفعل والهدى , فمن الحكمة ووظيفة العقلاء إتباع ما فيه الهداية والرشاد، والهدى على قسمين:
الأول: الهدى العام الذي هو تجلي الحق.
الثاني: الهدى الخاص وهو معرفة الصراط المستقيم والدين القويم, وظاهر كلام موسى إرادة المعنى الخاص , ويدل عليه الأمر بإتباع الهدى, وفيه تأكيد لحقيقة وهي أن حضور موسى رحمة بفرعون ووزرائه وقادته , وفيه دعوة إلى فرعون وقومه إلى دين التوحيد، فالنبي لا يدعو إلى برزخ بينه وبين الكفار، بل يدعو الناس للإيمان ونبذ الشرك.
ترى لم يقل موسى وهارون (والسلام على من إتبعنا)؟ الجواب جاء هذا القول قانوناً كلياً من قوانين النبوة، والمراد به مخاطبة الناس جميعاً بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بالقرآن وآياته وإعجازها الذاتي والغيري، ففي نبوة موسى عليه السلام ورد قوله تعالى[وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ]( )، وفي ظهور نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونسخها للشرائع السابقة ورد قوله تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ]( ).
لقد جاء عيسى بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة الناس إلى إتباعه، أما إحتجاج موسى مع فرعون فإنه يتضمن الأمن للمسلمين في النشأتين .
وهل يجوز مخاطبة الحاكم المسلم إذا كان ظالماً بأنه فرعون.
الجواب لا، للتباين في أهم موضوع وهو الإيمان والكفر، ففرعون مات كافراً بأشد الأحوال هو وقومه، والحاكم المسلم ينطق بالشهادتين وتتوجه له آية البحث بالحث على الذكر والإستغفار , ولا يقدر أن يقود الأمة في مسالك الظلم والجور .
إن الإمتناع عن وصف الحاكم المسلم بصفة فرعون إقرار بأن زمان الفراعنة والطواغيت وإدعاء الربوبية قد إنقضى وولى ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيادة مبادئ التوحيد في الأرض.
ومضامين آية البحث هدىً وصلاح، وهي من عمومات قوله تعالى[الم *ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، ليكون العمل بأحكامها من الهدى الذي ورد في قوله تعالى[وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى]( ), من وجوه:
الأول: الذكر والإستغفار.
الثاني: الإقرار بأن الله عز وجل يغفر الذنوب.
الثالث: لا يستطيع غير الله غفران الذنوب.
الرابع: التنزه عن الإصرار على الذنوب.
الخامس: التفقه في الدين، والعلم بأن الله عز وجل غفار للتائبين.
ويدل خطاب موسى إلى فرعون بالدلالة التضمنية على أمور:
الأول: دعوة فرعون إلى الإسلام.
الثاني: سعة وعموم الدعوة إلى الإسلام لتشمل الوزراء والقواد والملأ من قوم فرعون وعوائلهم ومن تصلهم الدعوة لأنها جاءت بصيغة القانون الكلي الثابت بانحصار السلام بالمهتدين.
الثالث:عدم إختصاص فرعون بالدعوة إلى الإسلام مع عظيم خطره وأثره على الأمة.
الرابع: إلتفات آل فرعون إلى حقيقة وهي أنهم في ضلالة باتباع فرعون، وهو من أسرار مجئ الآية أعلاه بمعاني الإتباع والإنقياد [وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى] ( )، إذ أن مفهومها من يتبع فرعون يحجب عنه السلام , وهو بعيد عن الأمن.
الخامس: إدعّى فرعون أنه ابن الإلهة، وأنه حامي الهياكل والكهنة، فجاء الخطاب لفضحه وأنه لا يستحق السلام إلا بالإيمان.
السادس: الإنذار والوعيد لفرعون في ملكه وعرشه، وشمول هذا الإنذار لأركان حكمه ومملكته ، ومن الآيات أن هذا الإنذار أصبح واقعاً إذ غرق هو وجيشه في أليم، قال تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( )،، ليكون قول [وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى] وما حل بفرعون وقومه موعظة لبني إسرائيل والناس جميعاً.
وتدل آيات القرآن على عدم شمول فرعون بالسلام لأنه طاغوت إدعى الإلوهية، وأفرد في الذم على نحو الحصر لذاته في آيات القرآن بما يجعل الناس وإلى يوم القيامة ينكرون قبيح فعله [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي] ( ).
وهل من ملازمة بين عدم إستحقاق فرعون للسلام وبين نزول العذاب به الجواب لا، لوجوه:
الأول:الدنيا دار التوبة والإنابة للناس جميعاً.
الثاني: عدم شمول فرعون بالسلام حث له لدخول الإسلام.
الثالث:بيان آية لفرعون وهي أن العز ليس بالسلطان والحكم بل بالإيمان والتقوى.
الرابع:تجلي الإعجاز بأمرين:
الأول: وعيد موسى لفرعون بصيغة الظن والإحتمال الراجح.
الثاني:صدق نزول القرآن من عند الله، وهو يقص أخبار النبوة، ويتبين هذا الإعجاز بقوله تعالى[وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا]( )، فلم يقطع موسى بهلاك وخسارة فرعون لإمكان توبته وهدايته، ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وقوله تعالى[وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى] تأكيد دعوة فرعون للإسلام وبيان الأضرار التي تلحقه وملكه وقومه بالإصرار على الضلالة.
الخامس:رجحان لغة موسى عليه السلام في الإحتجاج فلأن كان فرعون ملكاً، فان موسى جاءت بعدة من الآيات وهي أعظم من ملك فرعون، وفيها فضح حاضر ومستديم لكذبه بقوله[أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ( ).
وهذا التعدد في الآيات رحمة من الله بفرعون وقومه وبني إسرائيل وحجة على الناس، ودعوة للجوء إلى ذكر الله والإستغفار.
قال تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] ( )، وعن ابن عباس في معجزات موسى قال: اليد والعصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين ونقص من الثمرات) ( )، وإذ كانت آيات موسى حسية فمن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين أن الآيات التي جاء بها على أقسام:
الأول:الآيات العقلية.
الثاني:الآيات الحسية.
الثالث:الآيات العقلية الحسية،وتتصف آيات القرآن بأمور:
الأول: الكثرة والتعدد إذ أن مجموعها هو ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية.
الثاني:تجلي المصاديق الحسية للآية القرآنية.
الثالث:إتصال واستمرار التحدي في الدلالة على نزولها من عند الله.
الرابع:كل آية من القرآن سبيل هداية ونجاة للناس، ومنها آية البحث لما فيها من الإرشاد إلى التوبة وما يترشح عن التوبة من السكينة والغبطة والتنعم بالحياة الدنيا.
وتقدير الجمع بين[وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى]وآية البحث هو(والسلام على الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم).
وفيه تأكيد لقانون كلي وهو بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإجمال الذي جاء به الأنبياء السابقون.
وهذا البيان من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، ومن وجوه إختتام النبوة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنبوات , فجاءت رسالته جامعة للشرائع ومبينة لها، ومن معاني الجمع بين الآيتين وجوه:
الأول:خاطب موسى عليه السلام فرعون بينما توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثاني:إشتراك هارون مع موسى عليهما السلام في الذهاب إلى فرعون والإحتجاج عليه بينما جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منفرداً في رسالته وبينه وبين آخر الأنبياء السابقين له وهو عيسى عليه السلام نحو ستمائة سنة.
الثالث: أخبر موسى عليه السلام عن تغشي السلام لمن إتبع الهدى، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاء بالبشارة العظمى بالإقامة في الجنة للمتقين[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ].
الرابع:جاء خطاب موسى على نحو القضية الشخصية لفرعون وملئه، بينما توجه ويتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً.
الخامس:أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي التي تتلو قصة موسى والبلاغ الذي توجه به إلى فرعون وهي الأمة العظيمة التي تنتفع منه فهم الذين أثنى عليهم الله لإعتبارهم وإتعاظهم بقوله تعالى[انَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
السادس:من خصال المسلمين الجمع في العمل بين مضامين آية البحث ودعوة الناس لإتباع الهدى وتلقي السلام والرحمة، لذا قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: لأنْ يَهْدِيَ اللّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لكَ مِنْ حُمْر النَعَمِ) ( )، وبخصوص الحديث النبوي:( إِذَا مَاتَ العبدُ انْقَطَعَ عمله إلا مِنْ ثَلاَثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِح يَدْعُوا لَهُ ، أوْ عِلَم يُنْتَفَعُ به ) .
قيل أن الحديث أعلاه ( يشمل الولد البشري والروحاني) ( )، ولكنه من خلط أمرين متباينين فالمراد من الولد في الحديث أعلاه هو الولد بالنسب سواء كان الولد الصلبي المباشر أو الحفيد، وفي قوله تعالى[وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا] ( )، المراد الولد النسبي , وكذا معنى الولد في آيات القرآن وإطلاقات السنة كما في الحدي أعلاه , فلا موضوعية للتقسيم إلى الولد البشري والروحاني، فهو إما ولد بالنسب وإما أخ في الإيمان يدعو له وان كان وليه وتلميذه وأصغر منه سناً.
ومن أسرار البنوة في المقام أن الابن وإن نزل يدعو لآبائه، فقد يكون حفيد الحفيد أو أبعد نزولاً وهو يدعو لآبائه بالعفو والمغفرة.
ومن منافع الحديث النبوي أعلاه البعث على تأديب الأولاد، وصلاحهم وتعاهد أدائهم للوظائف العبادية، وفي إسماعيل ورد قوله تعالى[وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ] ( )، ومتى ما علم المسلم أنه محتاج إلى ولده في الآخرة فانه يولي تعليمه أمور دينه عناية خاصة، ويدل في مفهومه على لزوم عدم ترك الولي لشأن أولاده وإهتمامه بتلميذه.
وفي قول وإنذار موسى عليه السلام لفرعون (السلام على من إتبع الهدى)مسائل:
الأولى: إنه مدرسة في التبليغ لفرعون ومن خلفه من الملأ ورجال الحكم.
الثانية: فيه بيان يكشف سنخية دعوة موسى وأنها خالصة لوجه الله.
الثالثة: تنزه موسى عن الطمع بالحكم وأنه لا يبغي الدنيا وزينتها.
الرابعة: عدم إرادة موسى عليه السلام القضاء على ملك وسلطان فرعون، ولو آمن فرعون لبقي في عرشه يرثه أولاده من بعده، وكذا بالنسبة للطواغيت والظالمين الذين أبوا التصديق بالأنبياء وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على إحتجاج الملائكة بجعل آدم خليفة في الأرض، فمن علمه تعالى في المقام أمور:
الأول:إن الله يبطش ويهلك الملوك الذين يصرون على الكفر والجحود كما في فرعون ونمرود وكسرى وغيرهم.
الثاني:يتفضل الله عز وجل على الملوك الذين يصدقون بالنبوة والتنزيل بإدامة ملكهم وعرشهم.
الثالث: ظهور دولة الإسلام , وتهاوي وإنهيار دولة الكفر، أي أن الهلاك لايختص بشخص الملك الجاحد بل يشمل مملكته وسلطانه , قال تعالى[يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
ومن خصائص حكام الجور أن بطانتهم تأتمر بأمرهم، وتزين لهم الباطل الذي هم عليه، ولا تدعوهم إلى الحق , لأن هذه الدعوة تكون سبباً لفقدهم منزلتهم وشأنهم عند السلطان والناس، والقريب من السلطان كثير الأخوان مع أنه في وجل متصل فتكه، لذا تجد مؤمن آل فرعون يستر إيمانه ويخاف على نفسه ولكنه حينما خرج موسى ببني إسرائيل خرج معهم وكان وجيهاً عند موسى عليه السلام ومقرباً منه.
فقد ذكر ابن جريج أنه (لما إنتهى موسى إلى البحر هاجت الريح، والبحر يرمي موجاً مثل الجبال فقال له يوشع : يا مكلّم الله أين أُمرت فقد غشينا فرعون،والبحر أمامنا؟قال موسى : ههنا فخاض يوشع الماء وحار البحر يتوارى حتى أقرّ دابته الماء،وقال الذي يكتم إيمانه : يا مكلّم الله أين أُمرت؟قال : ههنا فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقته،ثم أقحمه البحر فارتسب الماء،وذهب القوم يصنعون مثل ذلك فلم يقدروا.
فجعل موسى لا يدري كيف يصنع فأوحى الله سبحانه[أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ] ( )،فضربه بعصاه فانفلق،فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل لبده ولا سرجه)( )، لتكون نجاة مؤمن آل فرعون درساً على وجوه:
الأول: إنها حجة على فرعون وقومه.
الثاني:فيها مصداق عملي من مصاديق قوله تعالى[وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى].
الثالث:إنها شاهد على قانون كلي وهو لزوم ترتب أثر حال لدعوة ونداء النبي، فقول موسى في مجلس الملك والسلطنة [وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى] لابد وأن يكون هناك متلق له بالقبول والرضا، وهو من إعجاز القرآن في قصة موسى عليه السلام بالربط بين الإجمال في سلام موسى وبين وجود مؤمن يرد هذا السلام , ولكنه يخفي إسلامه خشية قتله والبطش به .
وكان من عادة فرعون ورؤساء الكفر قتل المسلمين بأقسى صور القتل والتنكيل كما في السحرة عندما آمنوا بنبوة موسى عليه السلام إذ خاطبهم فرعون بلغة الوعيد[أُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ] ( )، وكما في قصة الماشطة , فقد ورد بالإسناد ( عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة، فقلت: يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال ماشطة بنت فرعون وأولادها كانت تمشطها، فسقط المشط من يدها، فقالت بسم الله ، فقالت ابنة فرعون، أبي؟ قالت: بل ربي وربك ورب أبيك. قالت: أولك رب غير أبي؟ قالت: نعم , قالت: فأخبر بذلك أبي؟ قالت: نعم فأخبرته فدعاها فقال: ألك رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله الذي في السماء. فأمر ببقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها لتلقي فيها وأولادها. قالت: إن لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي، فتدفنها جميعاً. قال: ذلك لك لما لك علينا من الحق، فألقوا واحداً واحداً حتى بلغ رضيعاً فيهم , قال: أسرعي يا أمه ولا تقاعسي فإنك على الحق ، فألقيت هي وولدها)( ).
وعن ابن عباس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: تكلّم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب بن جُريج، وعيسى ابن مريم عليه السلام)( ).
ويلاحظ في الحديث أعلاه تقديم ابن الماشطة مع أنه ذكر في الحديث نبي رسول وهو عيسى، ومع تقدم زمان شاهد يوسف على أوان قتل الماشطة وإبنها، أما صاحب جريح فقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أنّ رجلاً يقال له جريح كان راهباً يتعبّد في صومعته فأتته أُمّه لتسلّم عليه فنادته : يا جريح اطلع إليّ انظر إليك، فوافقته يصلّي فقال: أُمّي وصلاتي لرّبي، أُوثر صلاتي لربّي على أُمّي، فانصرفت ثم جاءت الثانية فنادته: يا جريح كلّمني فوافقته يصلّي فاختار صلاته، ثمّ جاءته الثالثة فاختار صلاته فقالت: إنّه أبى أن يكلّمني، اللهمّ لا تمته حتى تنظر في وجهه زواني المدينة، قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن.
قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلاماً فقيل لها: ممّن هذا؟ فقالت: من صاحب الصومعة، فأتوه وهدّموا صومعته وانطلقوا به إلى ملكهم، فلمّا مرَّ على حوانيت الزواني خرجن، فتبسم وعرف أنّه دعاء أُمّه، فقالوا: لم يضحك حين مرَّ على الزواني؟ فلمّا أُدخل على ملكهم قال جريح : أين الصبي الذي ولدت؟ فأتي به , فقال له جريح: مَنْ أبوك؟ قال: أبي فلان الراعي، فابرأ الله سبحانه جريحاً وأعظمه الناس، وقالوا: نبني لك ديرك بالذهب والفضة قال : لا ولكن أعيدوه كما كان، ثمّ علاه)( ).
لقد أراد موسى عليه السلام تثبيت مفاهيم العز للمؤمنين في مجلس فرعون ودار حكمه، وتوبيخ الكفار , وكما قال الحكماء:العافية تاج على رؤوس الأصحاء لايراه إلا المرضى) فان حاشية فرعون أدركوا لأول مرة الشأن الرفيع للمؤمنين وان كانوا فقراء مستضعفين وأن الإيمان أمن وسلام في النشأتين.
لقد إنتظر موسى عليه السلام سنة( )، على باب فرعون لم يؤذن له وهارون بالدخول (حتى قال البواب لفرعون :إن ههنا إنساناً يزعم انه رسول رب العالمين، فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه) فلما دخل موسى عرفه فرعون وقال(الم نريك فينا وليداً) ( ).

الوجه السابع عشر: قوله تعالى[إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى]( )، وعن ابن عباس: هذه أرجى آية في القرآن لأن المؤمن ما كذب وتولى فلا يناله شيء من العذاب)( ).
وجاءت الآية في سياق إحتجاج وإنذار موسى وهارون لفرعون وسلطانه، وبعد السلام بقيد الهداية أعلن موسى أمراً وهو الوحي وفيه رجحان لكفة موسى على فرعون في عرشه وسلطانه , لقد حبس فرعون موسى على بابه , لكن تحديه بالفيض والفضل الإلهي[إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا] تجعله هو السيد في المجلس والمحفل والجدال.
في نهج البلاغة ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السلام على فرعون وعليهما مدراع الصوف وبأيديهما العصى فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزه، فقال: إلا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما مما ترون من حال الفقر والذل فهلا ألقى عليهما أساور من ذهب؟ إعظاما للذهب وجمعه، واحتقارا للصوف ولبسه ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرضين لفعل، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء واضمحلت الأنباء ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء معانيها
ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملء القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى ، ولو كانت الأنبياء عليهم السلام أهل قوة لا ترام وعزة لا تضام ، وملك تمد نحوه عناق الرجال وتشد إليه عقد الرحال لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار وأبعد لهم من الاستكبار، ولا منوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، وكانت النيات مشتركة والحسنات مقتسمة، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الأتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والاستكانة لأمره والاستسلام لطاعته أمورا له خاصة لا يشوبها من غيرها شائبة، وكلما كانت البلوى والإختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل( ).
وفيه دعوة لفرعون وملئه للإصغاء لموسى وهارون , لقد حلً بعرش وإيوان فرعون أمر لم يسمعوا به من قبل، وهو الوحي، ومع سلطان وقوة فرعون فإنه لم يدع الوحي، ولا يستطيع القول به , وإذا إدعى الربوبية فإن الله عز وجل قد أوحى إلى موسى بعلوم غيبية، وفرعون لا يوحى إليه ولا يوحي لأحد بشي منها ، ليكون إخبار موسى من منازل الوحي دعوة لآل فرعون للإنصات له ولما يقول، وفيه ترغيب لهم بالسعي وراء الوحي وتتبع مسائله وأحكامه، ومن أسرار الوحي أن موسى بكلمة واحدة إستطاع أن يجذب الأسماع إليه، ويسقط ما في يد فرعون.
وفيه إنذار لهم جميعاً بأن لا يطلبوا موسى وبني إسرائيل إذا خرجوا هاربين منهم، أي أن قوله تعالى[إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا]، تحذير لآل فرعون من الموت غرقاً في أليم, لقد ورد مصداق التولي وتعقبه بالعذاب في ذات موضوع إحتجاج موسى عليه السلام قال تعالى[فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى]( )، فجاءت الآية بحرف العطف الفاء الذي يفيد التعقب من غير تراخ أو إبطاء مما يدل على إدراك فرعون للخطر المحدق بعرشه، وفي قوليه هنا ثلاثة وجوه:
الأول: إنصرف عن الإحتجاج ليعد العدة لإجتماع(يوم الزينة) الذي تواعد عليه موسى عليه السلام.
الثاني: غادر المجلس والمقام لتهيئة أسباب ومقدمات الإحتجاج على موسى عند حلول الموعد.
الثالث: صرف همه لجمع السحرة من أطراف البلاد , قال تعالى[ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى* فَحَشَرَ فَنَادَى]( ).
ولا مانع من تعدد هذه الوجوه في الآية، وكل فرد منها بذاته وبإجتماعه مع غيره يدل على فزع فرعون وخشيته على ملكه، ومعرفته بقوة حجة موسى عليه السلام، ومن أسرار الآية إجتماع أمرين في الإنذار وهما التكذيب والإعراض عن المعجزات، فقد يتولى ويعرض أحدهم ولكنه لا يكذّب بآيات النبوة، فلا يكون سبباً لصد الناس عنها ولكن كلاً من التكذيب والتولي وحده مادة وموضوع لإستحقاق العذاب.
وهو من الإعجاز في ورود الآيات والحجج للناس جميعاً، ليكون قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، عاما وشاملا فيأتي البرهان والإنذار للمؤمن والكافر فينتفع منه المؤمن، ويكون حجة على الكافر ووجه الرجاء في هذه الآية يوم القيامة خروج المسلمين بالتخصص من موارد العذاب ومن جهات:
الأولى: لقد صدّق المسلمون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين.
الثانية: لم يعرض أو يتول المسلمون عن الدعوة إلى الله، بل واظبوا على الطاعات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]( ).
الثالثة: يتلو المسلمون قوله تعالى[أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى]( )، فيكون واقية لنفوسهم من التكذيب بالنبوة , ومن الإعراض عن العبادات والفرائض.
والصلة بين قوله تعالى[إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى] وبين آية البحث على وجوه:
الأول: بين الآيتين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من جهات:
الأولى: كل مضامين الآيتين من الوحي الذي تفضل الله عز وجل به على الأنبياء.
الثانية: كل من الآيتين نزلتا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: مجيء الآية أعلاه بموضوعين وهما الكذب والتولي كسبب للعذاب، وجاءت آية البحث بموضوعين هما فعل الفاحشة وظلم النفس.
الرابعة: كل آية دعوة للناس للهداية والإيمان.
الخامسة: كل من الآيتين قانون وحكم كلي ثابت في باب العقائد والعبادات.
أما مادة الإفتراق فمن جهات:
الأولى: مجيء الآية أعلاه بلغة الإنذار والوعيد، بينما جاءت آية البحث بالبشارة وأسباب الأمن.
الثانية: التضاد في العاقبة، فعاقبة الكذب والتولي العذاب الأليم، وعاقبة الإستغفار بعد فعل الفاحشة وظلم النفس العفو والمغفرة.
الثالثة: التباين في الموضوع والمحمول إذ يصدر التكذيب والتولي من منازل الكفر والجحود، ويصدر الإستغفار بعد إرتكاب المعصية من مقامات الإيمان والتقوى وفي الكذب والتولي حسرة وندامة، وفي الإستغفار سكينة وغبطة.
الرابعة: جاءت الآية أعلاه حكاية عن موسى وهارون في الإحتجاج على موسى، وجاءت آية البحث خطاباً من الله عز وجل للمسلمين والمسلمات.
الخامسة: الذي كذب وتولى أعرض عن آيات الله وأبى أتباعها، أما المسلمون فأنهم آمنوا بالآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، وعملوا بأحكامها.
السادسة: جاءت الآية أعلاه بلغة الخطاب أما آية البحث فوردت بصيغة الجملة الخبرية.
السابعة: في الآية أعلاه غلق لباب الأمل والرجاء على الكفار قال تعالى [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ]( )، أي يعرض آل فرعون على النار في الصباح والمساء: وهم بعد في عالم البرزخ، ليكون من العذاب الإبتدائي، ويدل في مفهومه وفحوى الخطاب على إكرام المؤمنين في عالم البرزخ كبشارة ومقدمة للسعادة الأبدية، وقد يقال أن العرض على النار يوم القيامة، ولكن النصوص تفيد أنه في عالم البرزخ.
وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما أسرى بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس(وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا يقولون ربنا متى الساعة)( ).
الثاني: يفيد الجمع بين الآيتين طرد النفاق ودفع الشك عن المسلمين بذكر الله والإستغفار، فمن إعجاز القرآن مجيء القرآن بقصص الأمم السالفة وهلاك ملوك بكفرهم وظلمهم .
فلم يكن موسى وهارون يحملان السلاح بوجه فرعون إنما دخلا عليه بالدعوة إلى الله عز وجل ثم خرجا بقومهما بأمر من الله عز وجل إلى خارج مصر وملك فرعون لأن بني إسرائيل لم يجنوا فيه إلا العناء والشقاء والقيام بالمهن الدنيئة في خدمة آل فرعون إستذلالاً لهم ولما إحتج كبراء قوم فرعون على ما يفعله موسى وبنو إسرائيل من الدعوة إلى عبادة الله وترك عبادة فرعون وآلهته رد فرعون بلسان الطغيان والغرور بقرار من ثلاثة وجوه:
الأول: قتل الأبناء من بني إسرائيل.
الثاني: إستحياء النساء، وإبقائهن للخدمة.
الثالث: إذلال الرجال والنساء من بني إسرائيل كما ورد في التنزيل[قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ]( ).
وأصاب الفزع والخوف بني إسرائيل لمعرفتهم ببطش فرعون فلجأوا إلى موسى عليه السلام فأمرهم بالصبر وحسن التوكل على الله [قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]( ).
وقد تفضل الله عز وجل وأورثها المسلمين بالشريعة الباقية إلى يوم القيامة من غير تغيير أو تبديل، مما يملي على أجيال المسلمين وظائف عبادية وعقائدية متصلة , وفيه حجة عليهم فقد أنعم الله عز وجل عليهم بالدولة في أمصارهم وأمرهم سبحانه بالذكر والإستغفار من مواطن العز والطمأنينة والأمن من سلطان وقهر الطواغيت، لتكون حال الأمن في الدنيا نوع رجاء ومقدمة للسلامة في الآخرة من العذاب بتقوى الله عز وجل في دار الإبتلاء والإمتحان .
الثالث: يظهر التباين الجلي بين اليأس والرجاء وإمكان معرفة أحوال الناس في الآخرة بلحاظ أعمالهم في الدنيا، فالذي يكذب بالآيات فيأتي الحبط على أعمال من كذب وتولى، ويأتي الثواب والأجر للذي يستغفر الله من منازل الهداية والتقوى.
ويتجلى الرجاء في مضامين آية البحث بأن المسلمين صدّقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحملوا السلاح للجهاد ضد الرؤساء والملأ الظالمين , وقهر سلطانهم في الأرض، وتلقوا تعدي الظالمين وهجومهم بالخيل والرجال ككفار قريش بملكة الصبر وحسن التوكل على الله، ليأتي النصر والبشارة لهم ولذراريهم من بعدهم ومن إتبعهم إلى يوم الدين بالمغفــرة والعفو وإرشـادهم إلى سلاح الإستغفار وسؤال العفو من الله عز وجل.
وينبعث الرجاء في قلب المسلم حين تلاوة الآية أعلاه لأنه لم يكذب ولم يتول، بالإضافة إلى الثواب العظيم الذي يأتيه لما تبعثه في تلاوتها من التوقي والإحتراز للذات, وصيغ الإنذار والوعيد للغير .
الوجه الثامن عشر: من آيات الرجاء قوله تعالى[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ]( ).
عن الإمام محمد بن علي إن عليا عليه السلام أقبل على الناس فقال: أي آية في كتاب الله أرجى عندكم؟ فقال بعضهم: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قال: حسنة وليست إياها فقال بعضهم: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله قال: حسنة وليست إياها وقال بعضهم: الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم قال: حسنة وليست إياها، قال: ثم أحجم الناس , فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟
قالوا: لا والله ما عندنا شيء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول: أرجي آية في كتاب الله[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ] وقرأ الآية كلها، وقال: يا على والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا ان أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط عن جواحه الذنوب، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلواته وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه، فان أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس
ثم قال : يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما ظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي)( ).
ويتضمن قول الإمام علي عليه السلام (ما لكم معشر المسلمين) مسائل:
الأولى: تأكيد حقيقة وهي كثرة الآيات التي تصلح لأن تكون أرجى آية.
الثانية: بعث المسلمين للتدبر في آيات القرآن ودلالاتها.
الثالثة: دعوة المسلمين لإستحضار آيات القرآن.
الرابعة: الترغيب في حفظ القرآن.
الخامسة: التذكير المتكرر بعالم الآخرة، وحاجة الإنسان يومئذ لرحمة الله عزوجل.
السادسة: الإخبار بوظائف آيات القرآن يوم القيامة من إعانة المسلم ودفع العذاب عنه، وورد عنه في وصف القرآن : واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدق وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة: “ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن”فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكم ، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، وإستغشوا فيه أهواءكم)( ).
وتعددت الأقوال في معنى طرفي النهار، وهو نزاع صغروي، فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التسالم والإجماع على تعيين أوقات الصلوات الخمس بما يمنع من الشك، وجاءت الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة، ومن فضل الله عز وجل عليهم في المقام أمور:
الأول: شمول المسلمين بمضامين الخطاب المتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتقدير الآية: أقيموا الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل.
الثاني: إشتراك المسلمين بالتكليف الذي إمتثل له الأنبياء والذي تستديم به الحياة في الأرض وهو الصلاة.
الثالث: وراثة المسلمين للأنبياء في أبهى عمل عبادي.
الرابع: تعاهد المسلمين والمسلمات للأمر المتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة طرفي النهار وساعات من الليل.
الخامس: الدلالة على تجدد الخطاب القرآني والتكاليف العبادية الواردة فيه، ويتكرر الخطاب خمس مرات كل يوم في مشارق ومغارب الأرض.
السادس: من بركات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الخطاب يتوجه إليه على نحو القضية الشخصية فتعمل به أمة عظيمة وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السابع: في الآية دليل على تفضيل المسلمين على غيرهم وأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ] وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: خير أمة التي تمتثل لأمر الله المتوجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الصغرى: المسلمون يمتثلون لأمر الله الموجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
النتيجة : المسلمون هم خير أمة.
فإن قلت لم ينحصر التكليف بالصلاة بالخطاب الخاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاءت آيات القرآن بالخطاب العام للمسلمين[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
والجواب هذا الخطاب العام في طول الخطاب الخاص، وجاء قوله تعالى[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ] بالتفصيل والبيان لكيفية صلاة المسلم والمسلمة.
وهل يشمل الخطاب الموجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ] الناس من أهل الملل الأخرى الجواب نعم لعموم رسالته ونسخها للشرائع السابقة , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، ولتكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول.
الثامن: الآية أمارة كاشفة عن أمور:
الأول: إستدامة النظام الكوني بتعاقب الليل والنهار في مدة اليوم وليلته.
الثاني: هناك مناطق قطبية جليدية من الأرض يكون فيها النهار ستة أشهر وكذا الليل وهو من آيات الله وبديع صنعه، بأن يكون جزء قليل خلاف النظام العام لبيان عظيم قدرة الله عز وجل.
وتدل الآية على غلبة نظام الكل على جزئه القليل في الأحكام ، ولعل الدراسات الكونية تبين عودة هذه المناطق إلى النظام العام بالتعاقب بين الليل والنهار كل يوم.
الثالث: إستمرار جريان الشمس والقمر بذات الدقة والجري والنظام, وعدم التداخل بين الليل والنهار لبيان الآية لقانون كلي وهو أن للنهار طرفين وحدين أحدهما يدخل به والآخر يغادر به، ويأتي الطرف بمعنى الناحية كما في قوله تعالى[أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا]( )، ويأتي بمعنى القطعة والطائفة كما في قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
ولم يرد لفظ (طرفي) بصيغة المثنى في القرآن إلا في الآية أعلاه التي يدل الأمر فيها على وجوب الصلاة بأوقاتها وليس بالذات وحده، فلا يكفي المسمى منها أو المرة الواحدة في اليوم بل لابد من تعددها كل يوم، والرجوع إلى السنة النبوية في تعيين أوقاتها، لأن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة (أقم) وجاءت السنة بالبيان العملي التفصيلي لأفرادها.
وبينما ذكرت الآية طرفي النهار بصيغة التثنية، فإن آية أخرى ذكرتهما بصيغة الجمع[وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى]( )، وفيه وجوه:
الأول: قيل المراد من أطراف هنا المثنى لأن لفظ الجمع قد يقع على الإثنين، قال تعالى[فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا]( )، وإستدل بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الإثنان فما فوقهما جماعة)( ).
الثاني: يمكن الجمع بين الآيتين بدلالة العام على الخاص لإتحاد الموضوع وهو حد النهار إبتداء وإنتهاء , فلفظ أطراف يدل على الطرفين، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.
الثالث: إرادة الجنس من لفظ النهار في الآية أعلاه، فكل يوم له طرفاه، فيكون للأيام أطراف كثيرة بلحاظ أن النهار اسم جنس.
الرابع: قد يتعـــذر على الإنســان أداء الصــلاة في أوقاتها فجعل الله عز وجل متسعاً في وقت الأداء ولكن التسبيح لا يسقط في ذات الطرف لسهولته وإستدامة القدر عليه.
الخامس: لقد جاء الخطاب التكليفي عاماً وشاملاً للذكور والإناث، وورد الإطلاق في أطراف النهار لتأكيد الوجوب، ومنه إستحباب ذكر المرأة الحائض لله في أوقات الصلاة.
السادس: شمول لفظ الأطراف للصلاة والتسبيح قبلها، والتعقيب بعدها فيدخل فيه ساعة ما بين الفجر وطلوع الشمس، وآنات غياب قرص الشمس إلى حين ظهور الحمرة.
السابع: التفصيل وهو على وجهين:
الأول: إرادة صلاة الفريضة والنافلة من لفظ(أطراف النهار).
التاسع: في الآية خطاب ودعوة للناس جميعاً بالصلاة لما ورد فيها بأنها(ذكرى للذاكرين) وفيه ترغيب بالتوبة وحث على الإتعاظ والنهل من كنز الصلاة.
وفي الآية أعلاه تعيين لأوقات الصلاة وطرفي النهار من وجوه:
الأول: صلاة العصر والمغرب، عن ابن عباس( ).
الثاني: طرفاه: المغرب والغداة، وزلفا من الليل هي صلاة العشاء، عن الإمام الباقر عليه السلام( ).
الثالث: أخرج عن مجاهد في قوله{وأقم الصلاة طرفي النهار} قال: صلاة الفجر وصلاتي العشاء يعني الظهر والعصر{وزلفاً من الليل} قال: المغرب والعشاء)( ).
الرابع: أخرج عن الحسن في قوله{وأقم الصلاة طرفي النهار} قال: الفجر والعصر{وزلفاً من الليل} قال: هما زلفتان صلاة المغرب وصلاة العشاء قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هما زلفتا الليل)( ).
الخامس: صلاة الفجر والظهر والعصر، عن القرطبي، أي ليس من ملازمة بين الإثنينية في طرفي النهار وبين عدد الصلوات فيها.
السادس: صلاة الفجر والظهر طرف، وصلاة العصر والمغرب طرف، نسبه الثعلبي إلى القيل ( ).
وليس من حصر لمنافع هذه الآية، وما فيها من الهداية إلى الصلاة اليومية بأوقاتها، وعن معاذ قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيء إلا أتاه منها، غير أنه لم يجامعها؟ قال: فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “توضأ ثم صَلِّ” قال معاذ: فقلت: يا رسول الله، أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: “بل للمؤمنين عامة”)( ).
ويحتمل أوان محو السيئات بسبب أداء الصلاة وجوهاً:
الأول: محوها في الحياة الدنيا.
الثاني: في عالم القبر، فلا يحاسبه منكر ونكير عن تلك السيئات التي جاءت عليها الصلاة وما فيها من القيام والركوع والسجود.
الثالث: ملازمة تلك الذنوب وآثارها للمسلم في الحياة الدنيا وعالم القبر، ولا تغادره إلى يوم القيامة وفي عرصات الحساب .
والصحيح هو الأول من وجوه:
الأول: عظيم فضل الله عز وجل بمجيء أسباب الرحمة والعفو.
الثاني: أخبار السنة النبوية ومنها ما جاء عن الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما إجتنبت الكبائر)( )، والكفارة ما يغطي الذنب ويستر الإثم وهي مأخوذة من الكفر وهو الستر.
الثالث: يمكن تأسيس قاعدة كلية وهي لو دار الأمر بين حضور الفضل الإلهي أو تأخره، فالأصل هو الأول، فلو تردد الأمر بين محو السيئات حال إتيان الصلاة وبين تعليق وتأخير الأمر فالراجح محوها في الحال.
وجاءت أسباب نزول الآية بأنها نزلت بخصوص قصة أحد الصحابة وعن ابن عباس أنها نزلت في نبهان التمار كان له دكان وكان يبيع فيه التمر ( ), وكنيته أبو مقبل.
وعن أبي اليسر قال: فيّ نزلت)( ).
ووردت أكثر الروايات بلفظ التنكير(إن رجلاً أصاب من إمرأة) ولكن موضوع الآية أعم , والخطاب فيها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على إرادة المسلمين والمسلمات جميعاً خصوصاً وأن الآية في الصلاة التي هي الركن الذي تتقوم به عبادة الله في الأرض وهي أصدق معاني الذكر الذي جاءت به آية البحث ليتخذ المسلم سلاح الصلاة للإجهاز على المعصية السابقة لها زماناً، بلحاظ أن الصلاة حسنة تأتي على السيئة فتمحوها بفضل من الله عز وجل .
وهل تكون الصلاة واقية من المعصية في الزمان اللاحق لها، الجواب نعم، لما فيها من تنمية لملكة التقوى في النفس، وما تبعثه من الفطنة والإحتراز من أسباب الغواية والضلالة.
ولما جاءت آية البحث بالأمر بذكر الله فإن الآية أعلاه تؤكد حقيقة لجوء المسلم للذكر والإستغفار، وأداء المسلم للصلاة شاهد بأنه من أهل آية البحث وأنه من المتقين الذين أعدّ الله عز وجل لهم الجنة .
وهو من الآيات في تعيين المتقين ويكون تعريفهم بلحاظ الآية أنهم الذين يقفون بين يدي الله خمس مرات في اليوم في صلاة موقوتة تتألف من أركان وأجزاء ثابتة جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحياً من عند الله.
لتكون البشارة ومفاهيم الثواب مصاحبة للعمل العبادي، فحالما يتوضأ المسلم ويقبل على الصلاة يدرك أنه يتعاهد مقامه في منازل التقوى وأنه يخطو إلى الجنة خطوة مع كل فريضة وإن تقدمت المعصية والإثم على إقامة الصلاة.
لذا فمن أسرار صلاة الجماعة ووقوف المسلمين في صفوف متراصة ونسق عبادي لم يشهد له التأريخ مثيلاً أنها موافقة لصيغة الجمع التي جاءت بها آية البحث(ذكروا الله فإستغفروا لذنوبهم) ومن الإعجاز أن الآية أعلاه من سورة آل عمران جاءت بصيغة الخطاب المفرد، بينما وردت آية ا لبحث بصيغة الجمع لبيان تلقي المسلمين الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والإمتثال.
وقوله تعالى(وأقم الصلاة طرفي النهار) آية من سورة هود وهي سورة مكية، وقال قتادة: سورة هود مكية عدا الآية أعلاه فهي آية مدنية)( ).
وجاءت الآية بوجوب الصلاة، ويبدأ الرجاء بإتيان مقدماتها من أفعال الوضوء بغسل الوجه واليدين إلى المرفقين والمسح على الرأس والرجلين بنص قرآني مبين وثابت لا يطرأ عليه التغيير والتبديل[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ]( ).
ومن المتسالم عليه أن أداء الصلاة من الذكر والإستغفار وهل يحتاج معه المسلم الذي يرتكب المعصية أن يذكر ويستغفر الله خارج الصلاة. الجواب يتحقق مصداق الإمتثال بالذكر والإستغفار في أداء فريضة الصلاة، وفي إتيانهما خارج الصلاة نافلة وفيه ثواب وأجر عظيم وهو من عمومات نور على نور وإحتياط في الإمتثال لآية البحث بالذات.
والصلة بين آية البحث وقوله تعالى[وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ]( ) على وجوه:
الأول: تأكيد عظيم قدرة الله وإستدامتها , فمن الإعجاز في الآية أعلاه أنها تتضمن قدرة الله في إبتداء الخلق بترتيب حكيم , وتدبير دقيق سواء في الأفلاك العلوية أو الأجرام السفلية.
الثاني: قدرة الله في دوام نعمة الخلق، وبقاء الأكوان في نظام متجانس تظهر للعالم منه كل يوم أسرار تبهر العقول، مما يدل على أن الآيات التي تدعو إلى التوحيد لا تنحصر بالنبوة والتنزيل بل تشمل بديع الخلق، لتكون كل آية كونية ونبوية دعوة للناس للعمل بآية البحث والتهيأ لسفر الجزاء , قال تعالى[أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى]( ).
الثالث: دلالة الآيات الكونية على الوحدانية، لتكون سبب هداية للعالم الصغير وهو الإنسان.
الرابع: إن العفو ومحو الذنوب من فضل الله على الناس ليكون جزاءً للمؤمنين الذين إمتثلوا لعلة الخلق , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، والذي يدل في مفهومه على الثواب على العبادة يوم القيامة، فالملك لله عز وجل في الدنيا والآخرة .
والله عز وجل هو الذي يثيب الذين يتقيدون بسنن العبادة والأوامر والنواهي التي جاءت في القرآن بلحاظ أنه كتاب جامع للشرائع، ومنها آية البحث وما فيها من البشارة والإخبار عن تهيئة الله عز وجل جنة النعيم للمؤمنين الذين يسارعون إلى ذكر الله والإستغفار عند الزلل وإرتكاب الفاحشة.
وورد في حكم الله (عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة)( ).
وجاء قوله تعالى[كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ]( )، بعد آيتين:
الأولى: تتضمن بيان نزول القرآن شفاء للمؤمنين من سقم الجهالة، وريب الشك، وأوهام الضلالة وأنه حجة في هلاك الكافرين لتكذيبهم بالآيات الباهرات، لقوله تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
الثانية: تتضمن ذم أهل البطر والجحود بالنعمة، الذين يتخلفون عن عتو وغرور عن القيام بالشكر لله ولي النعم على الخلائق، قال تعالى[وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا]( ).
والمراد من لفظ الإنسان في الآية أعلاه على وجوه:
الأول:إرادة جنس الإنسان مطلقاً، لولا أن يتداركه الإيمان.
الثاني:المراد من لفظ الإنسان هو الكافر، وبه قال السدي( )،
الثالث:بيان فضل الله عز وجل على الناس بالنبوة والتنزيل، ونجاتهم من الصدود والكبر، ونقلهم إلى مراتب التقوى، والإلتفات إلى لزوم الذكر والإستغفار عند إرتكاب الفاحشة أو ظلم النفس.
الرابع: المراد صنف من الناس يتصفون بالجحود بالنعم، ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية، ويخرج المؤمنون بالتخصص، ومن دلائل هذا الخروج مجيء الآية بصيغة المفرد(الإنسان) فلم تقل الآية(يقول الناس إإذا متنا) وفيه شاهد بأن في كل قرن وطبقة من الناس في كل زمان أمة تؤمن بالبعث والنشور.
وتتضمن الآية أعلاه بيان حال متعدد مترشح عن النعمة من جهات:
الأولى: الإعراض عن الذكر، وعن معجزات النبوة والتنزيل.
الثانية:عدم الإنقياد إلى الحق.
الثالثة:الشح والبخل في الشكر لله، مع أن هذا الشكر طريق لإستدامة النعمة، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الشرط[إِذَا أَنْعَمْنَا].
الرابعة:الإبتعاد بالنفس عن سبل مرضاة الله، والتكبر عن والإعراض عن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
الخامسة:الإنشغال بذات النعمة، وعدم التدبر في الآيات الكونية، وترك الإستعداد لعالم الآخرة.
الخامس: قيل أن الآية أعلاه نزلت في الوليد بن المغيرة، ولكنها أعم من وجوه :
الأول: ذكرت آيات متعددة بأن سبب نزولها هو الوليد بن المغيرة منها:
الأولى: قوله تعالى[إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( )، وإن المستهزئين هم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس السهمي، والأسود بن عبد يغوث، وقد تجلت كفاية الله لنبيه في هؤلاء، (أما الوليد بن المغيرة فانه مر بسهم لرجل من خزاعة قد راشه(أي الزق عليه الريش) ووضعه في الطريق فأصاب أسفل عقبه قطعة من ذلك فانقطع أكحله حتى أدماه فمات وهو يقول: قتلني رب محمد، وأما العاص بن وائل السهمى فانه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده تحته حجر فسقط فتقطع قطعة قطعة فمات وهو يقول: قتلني رب محمد، وأما الأسود بن عبد يغوث فانه خرج يستقبل ابنه زمعة فاستظل الشجرة فأتاه جبرئيل فأخذ رأسه فنطح به الشجرة فقال لغلامه: إمنع هذا عنى، فقال: ما أرى أحدا يصنع بك شيئا إلا نفسك، فقتله وهو يقول: قتلني رب محمد، وقيل : أنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب الماء حتى انشق بطنه فمات ، وأما الأسود بن المطلب فان النبي صلى الله عليه وآله دعا عليه ان يعمى بصره وان يثكله ولده فلما كان في ذلك اليوم خرج حتى صار إلى موضع فأتاه جبرئيل بورقة خضراء، فضرب بها وجهه فعمى وبقى حتى اثكله الله ولده، وأما الحارث فانه خرج من بيته في السموم (وهى الريح الحارة وقيل: الحر الشديد النافذ في المسام) فتحول حبشيا فرجع إلى أهله فقال: أنا الحارث فغضبوا عليه فقتلوه، وهو يقول قتلني رب محمد.
كل ذلك في ساعة واحدة وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا يا محمد ننتظر بك إلى الظهر فان رجعت عن قولك وإلا قتلناك ، فدخل النبي صلى الله عليه وآله منزله فأغلق عليه بابه مغتما لقولهم فأتاه جبرئيل عن الله من ساعته فقال: يا محمد السلام يقرء عليك السلام وهو يقول: أصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)( ).
الثانية: قوله تعالى[وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا]( )، من معاني الآية أعلاه توثيق قول الكفار في إنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الإخبار عن عالم الآخرة ولزوم الإستعداد لأهوال الحساب(وقال المهدوي: نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه وهو قول ابن عباس)( ).
وتبين الآية في مفهومها تسليم عامة الناس بحقيقة الملازمة بين الإقرار بالبعث والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, فتوجهَ الكفار من قريش لنفي البعث مع إقرار أهل الملل به آنذاك كاليهود والنصارى والمجوس، ومع كونه من بقايا الحنيفية التي خلفها إبراهيم عليه السلام في أهل مكة.
الثالثة: قوله تعالى[لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ]( )، والرجلان هما الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي والقريتان مكة والطائف، وكان الوليد يقول: لو كان حقاً ما يقول محمد لنزل هذا القرآن عليّ أو على أبي مسعود الثقفي، وأبو مسعود: كنية عروة بن مسعود، عن قتادة)( ).
وحينما كانت النبوة في بني إسرائيل وغيرهم لم تكن قريش تتكلم أو تحتج، أما وقد تفضل الله عز وجل عليهم وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من سادات مكة ومن بين ظهرانيهم أرادوا التحكم والتدخل بالإختيار , وغايتهم الجحود والإستكبار , وصدّ الناس عن الدعوة .
ومع أن الآية ذكرت رجلين على نحو التقييد بالمثنى فإن القول جاء من الجماعة[وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ] مما يدل على أنه قول صادر من الكثير المتعدد من الكفار , فجاء الرد من السماء للتأديب والزجر أيام النبوة وما بعدها إلى يوم القيامة وللهداية إلى الإقرار بأن أمر النبوة بيد الله وأن إختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحكمة الله , وهو نعمة وهو خير محض ورحمة للناس جميعاً ولا ينحصر موضوعه بمكة وما حولها قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وقال الزمخشري : (لولا نزل هذا القرآن) ذكر له على وجه الاستهانة به)( )، ولكن الظاهر بخلافه , فإن كلامهم يدل بالدلالة الإلتزامية على أمور:
الأول: تسليم المسلمين بإعجاز القرآن.
الثاني: الإقرار بنزول القرآن من عند الله لقولهم(لو لا نزل) وهذا الإقرار يدفع إحتمال الإستهزاء.
الثالث: عجز الكفار عن النيل من القرآن.
الرابع: ليس في قولهم ما يدل على ذم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو التعريض به أو بنسبه ولكنهم قالوا بترجيح غيره حسداً وإستكباراً وجهلاً وحصروا الترجيح بشخصين لعظيم شأنهما.
الخامس: في الآية دلالة على أن العرب أيام نزول القرآن على درجة رفيعة من البلاغة والتدبر والحكمة بحيث إستطاعوا من أول أيام نزول القرآن بأنه وحي من عند الله وأنه ليس كلام البشر.
السادس: في الآية بيان لفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالأمن والأمان من المشركين، وشدة عداوتهم، لإنحصار إحتجاجهم في شخص المنزل عليه القرآن كأنهم إحتجوا على الملك الذي ينزل بالقرآن وفيه مناسبة لإنتشار الإسلام، ودخول القبائل فيه وقد واجه الإسلام بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب المنافقين ورأسهم عبد الله بن أبي سلول الذي نزل فيه قوله تعالى[وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ]( ).
الرابعة: قوله تعالى[الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ]( )، أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم والبيهقي وأبو نعيم معاً في الدلائل عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة إجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم :
يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيُكَذِّب بعضكم بعضاً . فقالوا : أنت فقل ، وأتم لنا به رأياً نقول به . قال: لا، بل أنتم قولوا لأسمع.
قالوا: نقول كاهن. قال: ما هو بكاهن… لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا بسجعهم. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون… لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا بحائحه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر…. لقد عرفنا الشعر كله، رَجَزه وهَزَجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا بعقده. قالوا: فماذا نقول؟
قال: والله إن لقوله حلاوة؛ وإن عليه طلاوة( ) وإن أصله لعذق( ) وإن فرعه لحياة( )، فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.
فتفرقوا عنه بذلك. فأنزل الله في الوليد وذلك من قوله[ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا………إلى سَأُصْلِيهِ سَقَرَ]( ) وأنزل الله في أولئك النفر الذين كانوا معه{الذين جعلوا القرآن عضين} أي أصنافاً {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون})( ).
الخامسة: قوله تعالى[أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ]( )، (قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يمنع بني أخيه من الإسلام، وكان يقول: من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت{مُعْتَدٍ} ظالم متخط للحق{مُرِيبٍ} شاك في الله وفي دينه)( ).
السادسة: قوله تعالى[وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ]( )، من النبوة، وذلك إن الوليد بن المغيرة قال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : واللّه لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية)( ).
السابعة: قوله تعالى[كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ]( )، وفي المقتسمين قولان:
الأول: إنهم من أهل الكتاب آمنوا ببعض كتابهم وكفروا ببعضه، فصاروا قسمين.
الثاني:هم قريش إقتسموا أبواب مكة في الموسم للإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحضرة من يحضره من العرب , لجعلهم ينفرون من دعوته ، وينقلون إلى قبائلهم خلاف ما يسمعون من معجزاته وآيات التنزيل .
(وقال مقاتل: كانوا ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا أبواب مكة وطرقها وقعدوا على أبوابها وطرقها وإذا جاء الحجاج، قال فريق منهم: لا تغتروا بخارج منّا يدعي النبوة فإنه مجنون وقالت طائفة أخرى: على طريق آخر إنه كاهن.
وقالت طائفة: عَرّاف. وقالت طائفة شاعر، والوليد قاعد على باب المسجد نصبوه حكماً، فإذا سئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صدق أولئك المقتسمين.
وقال مقاتل بن حيان: هم قوم اقتسموا القرآن، فقال بعضهم: سحر، وقال بعضهم: سمر، وقال بعضهم: كذب. وقال بعضهم: شعر، وقال بعضهم: أساطير الأولين)( ).
الثامنة: روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قرأ على الوليد بن المغيرة[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ] ( )، إلى آخر الآية، قال له: يا ابن أخ أعد، فأعاد عليه فقال: إن له والله لحلاوة وإن عليه لطلاوة فإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول بشر، ثمّ لم يسلم، فأنزل الله فيه: {وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى})( ).
التاسعة: [إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ]( )( بمعنى الوليد بن المغيرة وأصحابه حين رجع إليه كفار مكة من أمر محمّد وشاوروه , فقال{إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا} مطبوباً)( ).
العاشرة: قوله تعالى[أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ]( )، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم , وحول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنماً فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم[إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ]( )، الآيات الثلاث، ثمَّ قام فأقبل عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي السهمي فرآهم يتهامسون قال : فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبعرى: أنت قلت: إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم؟
قال: نعم، قال : قد خصمتك وربّ الكعبة، أليست اليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد المسيح، وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم، بل هم يعبدون الشياطين، هي التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله سبحانه[إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى]( )، يعني عزيراً وعيسى والملائكة)( ).
العاشرة: قوله تعالى[ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا]( )، كما يدل عليه الخبر أعلاه، قال ابن عباس: كان الوليد بن المغيرة يسمى الوحيد في قومه( ).
الحادية عشرة: قوله تعالى[إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ]( )، قال مجاهد: هي في مثل قول الوليد بن المغيرة ومن معه في دار الندوة .
وقد دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الوليد بن المغيرة يوم بدر لما بلغه ما يقول إستكبارا ومنعا للناس من دخول الإسلام , ولولا إصرار كبراء قريش على الصدود عن الإسلام وإظهارهم الإستخفاف بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما خرجت معهم القبائل في أحد والخندق . وقد دعا النبي لابن الوليد وهو الوليد بن الوليد الذي كان يخضع للتعذيب في مكة لثباته على الإسلام بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم أشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف)( ).
وللوليد بن المغيرة عشرة أولاد, وقيل ثلاثة عشر, وقيل سبعة وهم خالد بن الوليد , وهشام، والوليد، وعمارة, والعاصي، وقيس، وعبد شمس، وأسلم الثلاثة الأوائل أعلاه، وقيل مات عمارة مسلماً وقتله النجاشي بعد أن وشى به عمرو بن العاص بمكيدة.
الثانية عشرة: قوله تعالى[فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً]( )، عن مجاهد قال: مخرجاً يخرجهم من الأمثال التي ضربوا لك الوليد بن المغيرة وأصحابه .
الثالثة عشرة: قوله تعالى[إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا]( )، عن سعيد بن جبير ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا” الْآيَاتِ، قَالَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ لَهُ ثَلاثَةَ عَشَرَ وَلَدًا، كُلُّهُمْ رَبُّ بَيْتٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ:”ِأنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا”، لَمْ يَزَلْ فِي إِدْبَارٍ مِنَ الدُّنْيَا فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الدُّنْيَا”)( ).
الرابعة عشرة: سورة الكافرون، عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد
ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظاً.
فأنزل الله{قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون} حتى انقضت السورة)( ).
أي لم ينحصر موضوع صيرورة الوليد بن المغيرة سبباً لنزول آيات منفردة، بل إنه سبب لنزول سورة الكافرون، وآيات متعددة من سورة كما في سورة المدثر، ويبين الحديث أعلاه أن اسم الوليد يرد أول القوم من رؤوس الكفر والضلالة.
الخامسة عشرة: قوله تعالى[ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ]( )، عن تفسير الكلبي(أن الوليد بن المغيرة قال لقريش: إن أمر هذا الرجل، يعني النبي عليه السلام قد فشا، وقد حضر الموسم. وإن الناس سيسألونكم عنه فما تردون؟ قالوا: نقول: إنه مجنون قال: إذن والله يستنطقونه فيجدونه فصيحاً عاقلاً فيكذبونكم قالوا: فلنخبرهم أنه كاهن فقال: إذن والله يلقونه فيخبرهم بما لا يخبرهم به الكاهن , قالوا: فنخبرهم أنه شاعر قال: فإنهم يعرفون الشعر ويروونه، فلا يسمعون شيئاَ يشبه الشعر.
ثم انصرف إلى بيته فقالت قريش: صبا والله الوليد، وأيم الله لئن صبا الوليد لتصبونّ قريش كلها . فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق أبو جهل فجلس إليه وهو كهيئة الحزين
فقال له الوليد ما يحزنك يا ابن أخي , قال ومالي لا أحزن وهذه قريش تجمع لك نفقة يعينوك بها على كبرك وزمانتك قال أولست أكثر منهم مالا وولدا قال فإنهم يقولون إنك قلت الذي قلت لتصيب من فضول طعام محمد وأصحابه
قال والله ما يشبعون من الطعام فأي فضل يكون لهم ولكني أكثرت الحديث فيه فإذا الذي يقول سحر وقول بشر فاجتمع إليه قومه فقالوا كيف يا أبا المغيرة يكون قوله سحر أو قول بشر
قال أذكركم الله هل تعلمون أنه فرق بين فلانة وزوجها، وبين فلان وابنه، وبين فلان وابن أخيه وبين فلان مولى بني فلان وبين مواليه يعني من أسلم.
فقالوا اللهم نعم قد فعل ذلك قال فهو ساحر , فأنزل الله فيه[إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ]( )، أي فلعن[كَيْفَ قَدَّرَ*ثُمَّ قُتِل]( )، لعن[كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ]( )، عبس وبسر أي قطب وكره يقال بسر وبسر وأصل الكلمة من قولهم بسر الفحل الناقة إذا ضربها قبل وقتها ( ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا ) يعني القرآن ( إلا سحر يؤثر ) يروى إن هذا إلا قول البشر يعنون عداسا غلام عتبة كقوله[وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ]( ) هو عداس)( ).
السادسة عشرة: [مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ]( )، نزلت في عبد الله بن أبي سرح ومِقْيسَ بن صُبَابة وعبد الله بن خطل , وقيس بن الوليد بن المغيرة( ) كفروا بعد إيمانهم{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} نزلت في عمار وأبويه ياسر وسمية، أو في بلال وصهيب وخباب أظهروا الكفر وقلوبهم مطمئنة بالإيمان)( ).
السابعة عشرة: قوله تعالى[وَإِذْ هُمْ نَجْوَى]( )، كان جماعة من قريش منهم الوليد بن المغيرة يتناجون بما ينفر الناس عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فنجواهم قولهم: إنه ساحر أو مجنون أو يأتي بأساطير الأولين{مَّسْحُوراً} سُحر فاختلط عليه أمره، أو مخدوعاً، أو له سَحَرُ يعنون يأكل ويشرب فهو مثلكم وليس بملك)( ).
الثامنة عشرة: [أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا]( )، {لأُوتَيَنَّ مَالاً} نزلت في العاص بن وائل، أو في الوليد بن المغيرة، {لأُوتَيَنَّ} في الدنيا على قول الجمهور، أو في الجنة استهزاء منه{وَوَلَداً} وُوْلدا واحد كعُدْم وَعَدم، أو بالضم جمع وبالفتح واحد لغة قيس)( ).
التاسعة عشرة: قوله تعالى[وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ]( )،{مُّقْتَدُونَ} متبعون , قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي جهل وعتبة وشيبة)( ).
وفي الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “عرض عليّ الأنبياء، فجعل النبي يمر ومعه الفئام( ) من الناس، والنبي معه الرجل والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد”( ).
ويفيد(كذلك) في الآية أعلاه التشبيه، وفيه تأكيد للملازمة بين الرسالة وبين إصرار رؤساء الضلالة على البقاء على منهج وطريقة الآباء من الكفر والشرك , وفيه وجوه:
الأول: مواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يلاقيه من الملأ من قومه.
الثاني: زيادة إيمان المسلمين , وتقوية قلوبهم في سبل الهداية.
الثالث: إزاحة المانع عن دخول الناس الإسلام.
الرابع: كسر شوكة رؤساء الشرك , وطرد هيبتهم من النفوس لوضوح ضلالتهم وخبث غايتهم في التشبث بالجاه والشأن وإن كان بالباطل.
الخامس: الوعيد للكفار والبشارة للمؤمنين، بلحاظ ظهور الأنبياء السابقين وأنصارهم وأتباعهم .
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين في المقام أمور:
الأول: ظهور دولة الإسلام في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يغادر الدنيا إلا وقد إتخذ كرسي الحكم لتثبيت أحكام الإسلام , وتأسيس قوانين الحكومة الإسلامية، ومناهج عمل الحكام والأمراء والقادة , وأدرك المسلمون والمسلمات يومئذ وجوب وجود خليفة له، وكانت تركة النبوة مباركة بأمور منها :
الأول: إتساع رقعة الإسلام، وتعدد أمصار المسلمين.
الثاني: إرسال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمراء إلى البلدان , وربما كان من المترفين الذين ذكرتهم الآية أعلاه من هؤلاء الأمراء، والقادة في الغزوات لتوبتهم وعملهم بمضامين آية البحث من ذكر الله والإستغفار , وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]( ).
الثالث : حفظ المسلمين للقرآن تدويناً وعن ظهر قلب، وإحراز عدم طرو التحريف والتبديل على آياته.
الرابع : الكثرة والتعدد في الصحابة الذين يستمعون إلى أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويرون أفعاله لتكون نبراساً ومنهاج عمل للمسلمين، وجاء قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، لتأكيد لزوم عدم التفريط بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية والتقريرية والتدوينية.
الخامس: عقد وإمضاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقود والمعاهدات والمواثيق مع أهل الملل الأخرى، فأجرى في السنة السادسة للهجرة صلح الحديبية مع قريش ثم لم يلبثوا أن دخلوا الإسلام , ليعقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلح والمواثيق مع يهود المدينة ونصارى نجران بما فيه عز الإسلام ودوام دولته , ولم تمر السنون إلا ويدخل شطر من علمائهم وعامتهم مثل عبد الله بن سلام.
وكان إسمه حصين بن سلام، إلا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي سمّاه سلاماً، وفي دخوله الإسلام موضوعا وزماناً آية تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ودعوة ليهود المدينة لإتباعه والإقتداء به وحجة لأهل يثرب من الآوس والخزرج [الَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا]( )، .
قَالَ ابن إسْحَاقَ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَامٍ، كَمَا حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِهِ عَنْهُ. وَعَنْ إسْلَامِهِ حِينَ أَسْلَمَ، وَكَانَ حَبْرًا عَالِمًا.
قَالَ لَمّا سَمِعْت بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَرَفْت صِفَتَهُ وَاسْمَهُ وَزَمَانَهُ الّذِي كُنّا نَتَوَكّفُ لَهُ فَكُنْت مُسِرّا لِذَلِكَ صَامِتًا عَلَيْهِ حَتّى قَدِمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمّا نَزَلَ بِقُبَاءٍ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ حَتّى أَخْبَرَ بِقُدُومِهِ وَأَنَا فِي رَأْسِ نَخْلَةٍ لِي أَعْمَلُ فِيهَا ، وَعَمّتِي خَالِدَةُ بْنَةُ الْحَارِثِ تَحْتِي جَالِسَةٌ .
فَلَمّا سَمِعْت الْخَبَرَ بِقُدُومِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَبّرْت ، فَقَالَتْ لِي عَمّتِي ، حِينَ سَمِعَتْ تَكْبِيرِي: خَيّبَك اللّهُ وَاَللّهِ لَوْ كُنْت سَمِعْت بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ قَادِمًا مَا زِدْت .
فَقُلْت لَهَا: أَيْ عَمّةَ هُوَ وَاَللّهِ أَخُو مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعَلَى دِينِهِ بُعِثَ بِمَا بُعِثَ بِهِ . قَالَتْ أَيْ ابن أَخِي ، أَهُوَ النّبِيّ الّذِي كُنّا نُخْبَرُ أَنّهُ يُبْعَثُ مَعَ نَفَسِ السّاعَةِ ؟
قَالَ فَقُلْت لَهَا : نَعَمْ . قَالَ فَقَالَتْ فَذَاكَ إذًا .
قَالَ ثُمّ خَرَجْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمْت ، ثُمّ رَجَعْت إلَى أَهْلِ بَيْتِي ، فَأَمَرْتهمْ فَأَسْلَمُوا . قَالَ وَكَتَمْت إسْلَامِي مِنْ يَهُودَ ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْت لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ يَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ وَإِنّي أُحِبّ أَنْ تُدْخِلَنِي فِي بَعْضِ بُيُوتِك ، وَتُغَيّبُنِي عَنْهُمْ ثُمّ تَسْأَلُهُمْ عَنّي ، حَتّى يُخْبِرُوك كَيْفَ أَنَا فِيهِمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَإِنّهُمْ إنْ عَلِمُوا بِهِ بَهَتُونِي وَعَابُونِي .
فَأَدْخَلَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَكَلّمُوهُ قَالَ لَهُمْ أَيّ رَجُلٍ الْحُصَيْنُ بْنُ سَلَامٍ فِيكُمْ؟ قَالُوا : سَيّدُنَا وَابن سَيّدِنَا ، وَحَبْرُنَا وَعَالِمُنَا . قَالَ فَلَمّا فَرَغُوا مِنْ قَوْلِهِمْ خَرَجْت عَلَيْهِمْ فَقُلْت لَهُمْ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ اتّقُوا اللّهَ وَاقْبَلُوا مَا جَاءَكُمْ بِهِ فَوَاَللّهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ إنّهُ لَرَسُولُ اللّهِ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التّوْرَاةِ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ فَإِنّي أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأُومِنُ بِهِ وَأُصَدّقُهُ وَأَعْرِفُهُ فَقَالُوا : كَذَبْت ثُمّ وَقَعُوا بِي ، قَالَ فَقُلْت لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَمْ أُخْبِرْك يَا رَسُولَ اللّهِ أَنّهُمْ قَوْمٌ بُهُتٌ أَهْلُ غَدْرٍ وَكَذِبٍ وَفُجُورٍ قَالَ فَأَظْهَرْت إسْلَامِي وَإِسْلَامَ أَهْلِ بَيْتِي، وَأَسْلَمَتْ عَمّتِي خَالِدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فَحَسُنَ إسْلَامُهَا)( ).
لقد قيدّ المشركون قولهم بأنهم وجدوا آباءهم على أمة وملة، ليهربوا من حقيقة وهي أن أشرف وأكرم آبائهم هو إبراهيم عليه السلام فيجب أن يتبعوه في عبادة الله وترك الأوثان ،ويتجلى هذا الإتباع على نحو الحصر والتعيين باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي خاطبه وأمره الله تعالى بالقول[قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
العشرون: قوله تعالى[وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ]( )، (قال الرسول صلى الله عليه وسلم يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيهما يعني عمله الصالح والطالح أو نفسك طهرها من الخطايا أو مما نسبوه إليك من السحر والشعر والكهانة والجنون أو مما كنت تفكر فيه وتحذره من قول الوليد بن المغيرة أو قلبك طهره من الإثم والمعاصي أو الغدر)( ).
الحادية والعشرون: قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )، {الإِنسَانَ} عام أو كلدة بن أسيد أو أبو جهل أو الوليد بن المغيرة أو عتبة وشيبة أو الرسول صلى الله عليه وسلم{أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أعدل خلق أو أحسن صورة أو شباب وقوة أو منتصب القامة وسائر الحيوان منكب)( ).
الثانية والعشرون: قوله تعالى[إِنَّ الإِْنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ]( )، كنود قيل الذي يكفر اليسير ولا يشكر الكثير أو اللوام لربه يذكر المصائب وينسى النعم أو جاحد الحق قيل إنها سميت كندة لأنها جحدت أباها أو العاصي بلسان كندة وحضرموت أو البخيل بلسان مالك بن كنانة أو الذي ينفق نعم الله في معاصيه أو الذي يضرب عبده ويأكل وحده ويمنع رِفده قيل نزلت في الوليد بن المغيرة)( ).
الثالثة والعشرون: قوله تعالى [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ]( ) همزة المغتاب واللُّمزة العيَّاب أو الهمزة الذي همز الناس بيده واللمزة الذي يلمزهم بلسانه أو الهمزة الذي يهمز الذي يلمز في وجهه إذا أقبل واللمزة الذي يلمز في خلفه إذا أدبر أو الهمزة الذي يعيب الناس جهراً بيد أو لسان اللمزة الذي يعيبهم سراً بعين أو حاجب نزلت في أبي بن خلف أو جميل بن عامر أو الأخنس بن شريق أو الوليد بن المغيرة أو عامة عند الأكثرين)( ).
الرابعة والعشرون: الآيات السبعة الأولى من سورة المدثر بإسناد الطبراني(عن ابن عباس يقول: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما، فلما أكلوا. قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر. وقال بعضهم ليس بساحر. وقال بعضهم: كاهن. وقال بعضهم: ليس بكاهن. وقال بعضهم: شاعر. وقال بعضهم ليس بشاعر. وقال بعضهم: [بل] سحر يُؤثر. فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزنَ وقَنعَ رأسه، وتَدَثَّر، فأنزل الله{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ})( ).
الخامسة والعشرون: ما ورد في تفسير قوله تعالى[عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى]( )، قيل نقل السهيلي في الروض الأنف عن شيخه ابن العربي قال: “قول المفسرين في الذي شغل النبي صلى الله عليه وسلم أنه الوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعباس كله باطل، فإن أمية والوليد كانا بمكة، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما، ولا حضرا معه وماتا كافرين، أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر، ولم يقصد أمية المدينة قط، ولا حضر عنده مفردا ولا مع آخر)( ).
السادسة والعشرون: إن الوليد بن المغيرة قال: أنا أولى بالنبوة من محمد فرد الله على من قال ذلك بقوله:{اللهُ أعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ} فَعَلِم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أهل للرسالة، فخصه بها، وعلم أنهم ليسوا بأهل لها، فحرمهم إياها)( ).
السابعة والعشرون: قوله تعالى[قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ]( )، وهذه الآية والتي قبلها نزلت في الوليد بن المغيرة، ذكره المهدوي( ).
الثامنة والعشرون: قوله تعالى[بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً]( )، روي أنّ الوليد بن المغيرة ، قال للنّبي صلى الله عليه وسلم لو كانت النّبوءةُ لكنتُ أولى بها منكَ لأنّي أكبرُ منك سِنّا وأكثر مالاً وولداً؛ وأنّ أبا جهل قال: زاحمَنا (يعني بني مخزوم) بنو عبد مناف في الشّرف، حتّى إذا صرنا كفَرسَيْ رِهانٍ قالوا : مِنّا نبي يُوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه. فكانت هذه الآية مشيرة إلى ما صدر من هذين، وعلى هذا يكون المراد حتّى يأتينا وَحْي كما يأتي الرّسلَ)( ).
وورد في مسألة بناء الكعبة قبل البعثة النبوية بسنوات قليلة أن الوليد هو الذي أمر قريشاً بأن تبنى الكعبة من الكسب الحلال وهو الذي تجرأ فكان أو من هدم البناية السابقة (وقال محمد بن إسحاق بن يسار: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبناء الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان في بئر في جوف الكعبة وكان الذى وجد عنده الكنز دويك مولى لبنى مليح بن عمرو بن خزاعة فقطعت قريش يده وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.
وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها قال الاموى: كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم تحمل آلات البناء من الرخام والخشب والحديد، سرحها قيصر مع باقوم الرومي إلى الكنيسة التي احرقها الفرس للحبشة، فلما بلغت مرساها من جدة بعث الله عليها ريحا فحطمتها.
قال ابن إسحاق: وكان بمكة رجل قبطى نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التى كانت تطرح فيها ما يهدى إليها كل يوم، فتتشرق على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا أحزألت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينما هي يوما تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائرا فاختطفها فذهب بها.
فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضى ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية , وحكى السهيلي عن رزين، أن سارقا دخل الكعبة في أيام جرهم ليسرق كنزها، فانهار البئر عليه حتى جاءوا فأخرجوه وأخذوا منه ما كان أخذه، ثم سكنت هذا البئر حية رأسها كرأس الجدي، وبطنها أبيض وظهرها أسود، فأقامت فيها خمسمائة عام .
قال محمد ابن إسحاق: فلما أجمعوا أمرهم لهدمها وبنيانها قام أبو وهب عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم وقال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه.
فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، ولا يدخل فيها مهر بغى ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
ثم رجح ابن اسحاق أن قائل ذلك أبو وهب ابن عمرو قال: وكان خال أبى النبي صلى الله عليه وسلم وكان شريفا ممدحا قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تجزأت الكعبة.
فكان شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وما بين الركن الاسود والركن اليماني لبنى مخزوم قبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وسهم وكان شق الحجر لبنى عبد الدار بن قصى، ولبنى أسد بن عبد العزى ولبنى عدى بن كعب وهو الحطيم.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضى الله ما صنعنا[من هدمها] فأصبح الوليد غاديا على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساس إبراهيم عليه السلام، أفضوا إلى حجارة خضر كالآسنة آخذ بعضها بعضا)( ).
ومن أولاد الوليد هشام وخالد بن الوليد، (والوليد بن الوليد الذي أسر يوم بدر كافراً أسره عبد الله بن جحش ويقال أسره سليط بن قيس المازني الأنصاري فقدم في فدائه أخواه: خالد وهشام فتمنع عبد الله بن جحش حتى افتكاه بأربعة آلاف درهم فجعل خالد يزيد لا يبلغ ذلك فقال هشام لخالد إنه ليس بابن أمك والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت. ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن جحش: “لا تقبل في فدائه إلا شكة أبيه الوليد”. وكانت الشكة درعاً فضفاضة وسيفاً وبيضة فأبى خالد ذلك وأطاع لذلك هشام بن الوليد لأنه أخوه لأبيه وأمه فأقيمت الشكة بمائة دينار فطاعا بذلك وسلماها إلى عبد الله بن جحش. فلما افتكاه أسلم فقيل له هلا أسلمت قبل أن تفتدي وأنت مع المسلمين فقال كرهت أن تظنوا بي أني جزعت من الإسار فحبسوه بمكة) ( ).
ولما أسلم حبسه أخواله فكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو له في القنوت:اللهم انج الوليد بن الوليد والمستضعفين من المؤمنين.
وكان للوليد بن المغيرة عبيد عشرة عند كل واحد منهم الف دينار يتجر بها وملك القنطار قد ذكرت خمسة وعشرين وجهاً لمعنى ومقدار القنطار منها ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه ألف ومائتا وقية، وفي رواية أنه أثنا عشر ألف وقية( ).
إن نزول آيات عديدة بسبب شخص واحد أمر مستبعد، وأكثر هذه الآيات جاءت بصيغة الإنذار والوعيد للكفار مطلقاً.
والصلة بين قوله تعالى[إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى]( )، وبين آية البحث( ) على وجوه:
الأول: يدل قوله تعالى أعلاه في مفهومه على بشارة موسى وهارون بنجاة أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العذاب لأنهم لم يكّذبوا بالنبوة، فإن جحد فرعون بنبوتهما فإن المسلمين تلقوا أخبار ومعجزات موسى عليه السلام بالتصديق .
ومن الآيات أن معجزاته كانت عدة، ومنها ما هو توليدي كمعجزة العصا، إذ إستعملها موسى في الإحتجاج على فرعون وإبطال سحر السحرة وجذبهم للإسلام، وفي نجاة بني إسرائيل وعبورهم البحر الأحمر(القلزم) وفي التيه، ومنع الخلاف والخصومة بين إسرائيل.
الثاني: ذات الوحي الذي جاء موسى وهارون بخصوص العذاب على من كذب وتولى جاء إنذاراً لمن يكّذب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن إعجاز هذه الآيات أن ذكر الوحي جاء في آخر كلام موسى وهارون إلى فرعون كما ورد في التنزيل[فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى]( )، لتأكيد حقيقة في علم النبوة من وجوه:
الأول: مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمتعدد من الآيات إلى الملوك والرؤساء وعامة الناس بينما جاء موسى وهارون عليهما السلام بآية من الله إلى فرعون.
الثاني: آيات النبي محمد صلى الله عقلية توليدية وآية موسى وهارون لإنذار فرعون حسية.
الثالث: خصّ موسى في سلامه الذين يتبعون الهدى، والمسلمون أئمة يهتدي بهم الناس إلى وفي سبل الصلاح، وتدل آية البحث على هداية المسلمين إلى ذكر الله والإستغفار.
الرابع: الآيتان أعلاه من سورة طه من آيات الرجاء (وأخرج ابن مردويه، عن أبي الطفيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي عشرة أسماء عند ربي , قال أبو الطفيل: حفظت منها ثمانية: محمد وأحمد وأبو القاسم والفاتح والخاتم والماحي والعاقب والحاشر، وزعم سيف أن أبا جعفر قال: الإسمان الباقيان طه ويس)( ).
وورد قوله تعالى[طهمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى]( )، لما رأى الكفار إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وضروب العبادة وورم رجليه من طول القيام , قال أبو جهل والنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة والمطعم بن عدي له: إنك لتشقى بترك ديننا، لما رأوا من طول عبادته وإجتهاده فأنزل الله تعالى الآية، والمشهور إختصر من بين الأربعة أعلاه على الأوليين منهم. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن البصري قال: لما نزلت هذه الآية[وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ]( )، عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف زماناً، فلما نزلت[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ]( )، إجتهد، فقيل له: تجهد نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟)( ).
ولكن الخبر أعلاه يدل على إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العبادة وكثرة قيامه حتى في أيام الدعوة الأولى ولا دليل على إنقطاع نهجه في العبادة مما يدل على إتصاله وإستمراره قبل أن تصل النوبة للإستدلال بأصل الإستصحاب وقاعدته (لا تنقض اليقين بالشك) لأن الشك لم يطرأ في موضوع بذل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوسع في العبادة منذ أن كان ينقطع عن الناس في غار حراء، ولا يعني قولهم له (تجهد نفسك) أن إجتهاده هذا أمر طارئ وأنهم يرون منه نوافل مستحدثة في العبادة.
وأخرج عن الحسن البصري قال: وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم [يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً]( )، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام المسلمون معه حولاً كاملاً حتى تورمت أقدامهم، فأنزل الله بعد الحول[إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ] إلى[مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ]( )، قال: الحسن : فالحمد لله الذي جعله تطوعاً بعد فرضه، ولابد من قيام الليل)( ).
أما قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ]( ).
فيتضمن دعوة المؤمن لرجاء عفو الله حتى مع البلاء والمصيبة ليبقى في قادم الأيام راضياً بفضله تعالى.
(روى أبو سخلة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: “ما عفى الله عنه فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة ، وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد العذاب عليه في الآخرة” رواه الواحدي في البسيط، وقال إذا كان كذلك فهذه أرجى آية في كتاب الله)( ).
(وقال الحسن في هذه الآية: هذا في الحدود)( )، وقيل إنها في الجزاء ولكن الآية أعم في موضوعها فيدخل فيها المرض والبلاء في الدنيا كما ورد في النص( )، ومن وجوه الرجاء في الآية أمور:
الأول: إن الله عز وجل أكرم من أن يعاقب مرتين، فإذا نزل البلاء بالعبد في الدنيا فإن الله عز وجل لا يعاقبه عليه في الآخرة.
الثاني: بلاء الدنيا أخف كثيراً من بلاء الآخرة وأقل زماناً منه، وبالإسناد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن : قولوا اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ونعوذ بك من عذاب القبر ونعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات)( ).
الثالث: مجيء الآية بالإخبار عن عفو الله عز وجل.
الرابع: البشارة والوعد الكريم بأن مقدار وجنس وماهية المعفو عنه أكثر مما يكون سبباً للبلاء في الدنيا، وهو من مصاديق فضل الله عز وجل على[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن إعجاز آية المصيبة أعلاه وصلتها بآية البحث أن الكثير المعفو عنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً وكثرة وقلة، ولكن الضابطة أن المعفو عنه دائما هو الأكثر وطرف القلة في ذات وأثر المصيبة والبلاء النازل، وهل هذه القاعدة تتعلق بالمسلمين والمسلمات على نحو العموم المجموعي أو البدلي، بمعنى أن العموم المجموعي أقل لطرف للعفو عن أي مسلم هو أكثر وأعظم من أي طرف للمصيبة التي تصيب أي مسلم ومسلمة في زمانه أو الأجيال المتعاقبة الجواب إرادة أصالة الإطلاق في المقام .
أما العموم البدلي فإن القاعدة تشمل القضية الشخصية فطرفي الكثرة والقلة خاصتان بالمسلم نفسه , وكل مسلم تكون المصيبة التي تحل به أقل من الذي يعفو عنه الله عز وجل من الذنوب وعقابها, وكذا بالنسبة للجماعة والأمة.
والآية إنحلالية وفيه دعوة للمسلمين للإجتهاد بالعمل بمضامــين آية البحث من الذكر والإستغفار وفيهما مجتمعين ومتفرقين مناســبة وعلة لمــحو الذنوب بفضــل الله عز وجل الذي تفضل وأكرم المسلمين وهداهم إلى الذكر والإستغفار من منازل التقوى للفوز بمرتبة محو الذنوب وإن كثرت.
(وعن جرير عن أبي البلاد قال: قلت للعلاء بن بدر: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، وقد ذهب بصري وأنا غلام؟ قال: فبذنوب والديك)( ).
ويرد عليه من وجوه :
الأول : لا دليل على نزول البلاء بالإنسان بسبب ذنوب والديه, قال تعالى[كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ]( ).
الثاني: إنه من الإفتاء عن أمور من علم الغيب لا يعلم علتها وغاياتها إلا الله سبحانه .
الثالث :ليس كل بلاء يصيب المسلم هو من العقوبة. فقد يكون البلاء باباً جاء إبتداء للأجر والثواب .
وتحتمل لغة الخطاب في الآية وجوها:
الأول: الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيغة الجمع للإكرام فضلا من الله وبياناً لمنزلته عند الله.
الثاني: المقصود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وما تعرضوا له في معركة أحد من الخسائر والجراحات.
الثالث: الخطاب لرسول الله عليه وآله وسلم والمقصود منه الأمة, قاله الزجاج( ).
الرابع: المراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة.
الخامس: توجه الخطاب في الآية للناس جميعاً من المسلمين وأهل الكتاب والكفار.
والصحيح هو الثالث والرابع، وفيه دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للإجتهاد في الدعاء وإتيان الصالحات لدفع المصائب وأسباب البلاء ، ووظيفة الدعاء هنا مركبة ومنها أنه ذكر لله سبحانه .
وفي حديث ثوبان قال: فإني سألت ربي أن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً)( ).
وكل من الآية أعلاه من سورة الشورى وآية البحث مناسبة لتفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم لأحكام الحلال والحرام المقرون بالإلتفات إلى لزوم تعاهد منازل التقوى لأنه السبيل لدفع المصائب ووجوه البلاء، ويتجلى هذا التعاهد بذكر الله وسؤال المغفرة والعفو منه سبحانه لذا فمن إعجاز الآية أعلاه مجيء موضوع المصيبة والبلاء بصيغة الماضي(ما أصابكم) بينما جاء موضوع العفو بصيغة المضارع ( ويعفو عن كثير) للترغيب بالعفو في قادم الأيام، والسعي لصرف المصيبة والبلاء فيها، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، ليكون العفو متصلاً، والمصيبة سالبة بإنتفاء الموضوع بفضل من الله عز وجل.
وصلة آية البحث بقوله تعالى[وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا]( )، على وجوه:
الأول: ذات آية البحث فضل عظيم على المسلمين والمسلمات وهي نعمة متجددة في تلاوتها ومضامينها القدسية , وسلاح مبارك للفوز بفضل الله في الآخرة، والذكر والإستغفار حسنة وعمل صالح ينميه الله عز وجل إلى يوم القيامة.
الثاني: بيان حقيقة وهي أن فضل الله عز وجل على المسلمين أعم من أن يخص الدار الآخرة بل يشمل الحياة الدنيا بالهداية إلى سبل النجاة في النشأتين.
الثالث: تدل آية البحث بالدلالة التضمنية على لزوم ذكر المسلمين لله وسؤال العفو والمحو لذنوبهم، والدعوة إليه، وهذا اللزوم والدعوة من فضل الله عز وجل، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته إلى الأمة[وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا]( )، فمن مصاديق الهداية والصراط التنزه عن فعل الفاحشة، واللجوء إلى ذكر الله والإستغفار عند الزلل وغلبة النفس الشهوية بإرتكابه.
الرابع: إقترنت البشارة بالإيمان في قوله تعالى[وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ] وتوجه فيها الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من مصاديق رسالته حمل البشارات وإبلاغها إلى الذين يصدقون بها بلحاظ أنها فرع نبوته صلى الله عليه وآله وسلم وهذه البشارات من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامس: من فضل الله عز وجل على المسلمين هدايتهم للإيمان، وإخبارهم بأن الله عز وجل أعدّ لهم الجنة التي عرضها السموات والأرض، والطريق إليها هو الذكر والإستغفار من منازل الإيمان الذي يتقوم بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من أداء الفرائض والمناسك.
السادس: ترغيب المسلمين بالثواب والنعيم الذي لا يزول , الأمر الذي يملي عليهم اللجوء إلى الذكر والإستغفار عند فعل الفاحشة أو ظلم النفس.
ومن فضل الله عز وجل أن آنات الزمان التي يستوعبها الذكر والإستغفار خالية من إرتكاب السيئة، وهو الذي تدل عليه آية البحث بتعقب الذكر ثم الإستغفار لظلم النفس[إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ).
ليكون الذكر في المقام مناسبة للتدبر بقبح الفاحشة ولزوم إجتنابها، وهذا التدبر من خصال المتقين.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري: لـمّا أُنزل قوله: {إِنَّا فتحنا لك فتحاً مبيناً….}( ) قال الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، فما لَنا؟ فنزلت الآية[وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا])( ).
السابع: جاءت الآية أعلاه خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويحتمل موضوع بشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً:
الأول: المؤمنون أيام النبوة الذين يتلقون خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة.
الثاني: المؤمنون من الصحابة والتابعين والذين يتلقون هذه البشارة بالواسطة شفاهاً كالشهادة على الشهادة.
الثالث: إرادة جميع المؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة.
والصحيح هو الثالث، فجاء قوله تعالى(وبشر المؤمنين) وثيقة سماوية تنقل البشارة بفضل الله لكل المؤمنين إلى يوم القيامة، وليس من سبيل وواسطة لنقل بشارة أفضل وأشرف من القرآن ليكون الفضل الإلهي في الآية أعلاه عظيماً من جهات:
الأولى: تفضل الله عز وجل بالبشارة.
الثانية: ذات البشارة وأنها فضل عظيم من الله عز وجل.
الثالثة: معاني الوعد الإلهي في هذه البشارة.
الرابعة: توجه البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنقلها للمؤمنين.
الخامس: تغشي موضوع البشارة أفراد العوالم الطولية.
ومن فضل الله عز وجل على المسلمين في آية البحث بيان ضرر الإصرار على الذنب وإن كان صغيراً محقراً لأن ذات الإصرار عليه كبيرة بالإضافة إلى الإثم في إجتماع صغائر الذنوب .
وروي عن عبد الله بن مسعود قال: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إياكم ومحقرات الأعمال إنهن ليجمعن على الرجل حتى يهلكنه، وان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل يجئ بالعويد والرجل يجئ بالعويد حتى جمعوا من ذلك سوادا ثم أججوا نارا فأنضجت ما قذف فيها)( ).
لقد تفضل الله عز وجل وجعل للناس مخرجاً من الذنوب، ووسيلة لمحوها ودفع آثارها في الدنيا والآخرة، وليس على الإنسان من سبيل أسهل وأقرب من هذا المخرج وهو قول: أستغفر الله.
ويتعذر على الناس إحصاء النعم الإلهية لهذا القول مما يدل على عجزهم عن تعداد الفضل الإلهي في الإستغفار وحده موضوعا وحكما وأثرا , وهو من عمومات [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
وتلك آية في الفضل الإلهي بأن يقصر الناس عن إحصاء النعم وأسباب الرحمة في مصداق واحد من مصاديق نعمة الإستغفار في الدنيا والآخرة، والتحدي في الآية أعلاه لم يأت بمصداق أو مصاديق متعددة من النعمة بل جاء بالأعم بالعجز عن إحصاء النعمة مع أنه ظاهر للعيان والأوهام والوجدان بأنها من اللامتناهي.
إن نعمة عدم الإصرار على المعاصي التي تدعو إليها آية البحث لطف وفضل من الله يدرك من خلاله المسلمون قبح المعصية الذاتي، ويجعلهم يهربون من أفرادها ومقدماتها القريبة والبعيدة.

الوجه التاسع عشر: من وجوه أرجى آية قوله تعالى[لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ]( ) وفي الآية وجوه:
الأول: إرادة الأنبياء بالخطاب ولغة الوعيد، مع أنهم معصومون من الشرك والمعصية، ليكون إحباط العمل في المقام سالبة بإنتفاء الموضوع.
الثاني: إرادة الناس جميعاً، فجاء الإنذار بواسطة الأنبياء.
الثالث: المقصود الكفار على نحو الخصوص.
الرابع: الخطاب خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون هناك دلالة مطابقية بين صيغته والمخاطَب.
الخامس: توجه الخطاب للمسلمين بصورة خاصة، والناس جميعاً بصورة عامة.
(وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي في سننه عن علي رضي الله عنه أن رجلاً من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر , فقال[وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ) فأجابه علي رضي الله عنه, وهو في الصلاة فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ.
ويتجلى الرجاء في الآية الكريمة بأنها تدل في مفهومها على عدم بطلان وضياع أعمال المسلمين والمسلمات لأنهم لم يشركوا بالله، وفي تقدير قراءة الآية بلغة الدلالة وجوه:
الأول: لقد أوحي إلى كل نبي لئن أشركت ليحبطن عملك) , فجاءت الآية على نحو الإخبار والتوثيق .
الثاني: في الآية تقديم وتأخير , والتقدير: لقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك).
الثالث: لقد أوحي إلى كل نبي ورسول أنه لو أشركت أمة محمد ليحبط عملها
وجاءت الآية بلغة الشرط، وليس من ملازمة بين الشرط والوقوع، ولكنها لبيان مسائل:
الأولى: بيان حكم ثابت في الإرادة التكوينية[سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]( ).
الثانية: إقامة برهان عقائدي في وراثة المسلمين الأرض بالحق.
الثالثة: قيام الأنبياء بالتبليغ بالتكاليف التي يقوم بها المسلمون، أي أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت إلا بما أخبر الأنبياء عن نبوته من غير تشديد أو تفريط .
الرابعة : ليس من ثواب للإنسان مع الشرك، ويدل فوز المسلمين بمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، على تنزههم من الشرك، وسلامتهم من بطلان وحبط الصالحات.
وجاءت الآية بصيغة الشرط، وهو لا يدل على جواز الوقوع إنما أرادت الآية بيان حكم عام بأن الشرك محبط ومبطل للصالحات وإن كان العبد يبادر إلى الإحسان إلى الآخرين لذا جاء التقييد بقصد القربة في قبول الأعمال .
وجاء الخطاب هنا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد الناس جميعاً، ولا دليل على حصر إرادة المسلمين في الخطاب لأن الله عز وجل أثنى عليهم بقوله [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وخير أفعل تفضيل وصفة حسن بذاتها، فلا يجتمع الخير مع الشرك لأنهما متضادان، ولأن الشرك شر محض .
وتحتمل الآية وجهين:
الأول:إرادة الشرك مطلقاً.
الثاني: الإرتداد والشرك الذي يأتي بعد الإيمان.
والصحيح هو الأول ويكون الثاني في طوله، وفيه وجوه:
الأول:أصالة الإطلاق، وعدم وجود دليل على الحصر والتقييد.
الثاني:قبح الشرك وإضراره، ومجئ الآيات والأخبار التي تدل على الملازمة بين الشرك وحبط الأعمال.
الثالث:تقدير الآية:لئن أشركت ليحبطن عملك كما حبط عمل المشركين.
الرابع:من المشركين من كان يلح ويؤذي بعض المسلمين ممن هو أهله وعشيرته ليترك الإسلام، وذكر أن سعد بن أبي وقاص الزهري: لما أسلم قالت له أمه جمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف : يا سعد بلغني إنّك صبوت فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد وترجع إلى ما كنت عليه، وكان أحب ولدها إليها .
فأبى سعد وصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل بظل .
فأتى سعد النبي عليه السلام وشكا ذلك إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية والتي في لقمان والأحقاف، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يترضاها ويحسن إليها ولا يطيعها في الشرك وذلك قوله سبحانه : {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إنّه ليس لي شريكفَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
لتكون الآية على وجوه:
الأول:التعريض بالمنافقين.
الثاني:تحذير المسلمين من الإرتداد , ممن كان حديث وضعيف الإيمان.
الثالث:تثبيت قلوب المسلمين، وإمتلاؤها بالطمأنينة والعزم على البقاء في منازل الإيمان، وفي توجه خطاب التحذير للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسائل:
الأولى:إقامة الحجة على الناس جميعاً.
الثانية:قطع طمع الكفار بترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدعوة في سبيل الله.
الوجه العشرون: قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، وعن ابن عباس قال آيتان يبشر بهما المؤمن عند موته، وذكر الآية أعلاه وقوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا]( ).
وأختلف في سبب نزول هذه الآية على وجوه:
الأول: نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر: لا يبقى ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حقّكما كلّه فهذا لكما أن تأخذا النصف وتؤخّرا النصف وأضعف لكما فقبلا، فلمّا جاء الرجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما وأنزل الله هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما.
الثاني: قال السدي: نزلت في العبّاس عبد المطلب وخالد بن الوليد وكانا شريكان في الجاهليّة يسلّفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ناس من ثقيف ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم وإنّ كلّ ربا من ربا الجاهليّة موضوع وأوّل الربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب، وكلّ دم من دم الجاهليّة موضوع وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحرث ابن عبد المطلب كان مُرضعاً في بني ليث قتلـتـه هذيل.
الثالث: قال مقاتل: أنزلت في أربعة أخوة: من ثقيف مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي وكانوا يداينون المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكانوا يربون، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف وصالح ثقيفاً أسلم هؤلاء الأربعة الأخوة وطلبوا رباهم من بني المغيرة، فقالت بنو المغيرة: والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله ورسوله عن المؤمنين، فما يجعلنا أشقى الناس بهذا، فاختصموا إلى عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة.
وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكّة وقال: أبعثك على أهل الله فكتب عتّاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقصّة الفريقين وكان ذلك مالاً عظيماً , فأنزل الله تعالى:[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا]( ) وذر لفظ تهديد)( ).
الرابع: عموم الذين تابوا عن أكل الربا بلحاظ الآيات السابقة لها, وتتجلى قاعدة المدار على عموم لفظ اللفظ وليس سبب النزول في هذه الآية وما فيها من المندوحة في الموضوع والإطلاق في الحكم، إذ أخبرت الآية عن شمول حكم الأمن من الخوف والسلامة من الحزن لكل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأدوا الفرائض.
وهل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من الصالحات , الجواب نعم، ومجيؤها في الآية من عطف الخاص على العام , وفي هذا العطف بيان لموضوعية الصلاة والزكاة في عالم الأفعال والصالحات.
فإن قلت قد وردت الآية بكفاية الإيمان وعمل الصالحات لدخول الجنة، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ]( )، أي في زمرتهم ومعهم (وقال محمد بن جرير : أي في مدخل الصالحين وهو الجنة)( ).
والجواب أن عمل الصالحات وإتيان الصلاة والزكاة مما يصدق عليه إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا.
فإذا ورد عمل يدخل فيه أداء الصلاة وإيتاء الزكاة لأنهما ركنان يتقوم بهما عمل الصالحات، قال تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ولا ينحصر موضوع قوله تعالى[وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ] بترك أكل الربا، وتدل عليه مضامين الآية الكريمة , وتعدد وجوه العمل الصالح , وأداء الفرائض والعبادات، وفيه مسائل:
الأولى: حاجة المسلم لعمل الصالحات.
الثانية: وجوب أداء الفرائض، فإن الآية ذكرت الصلاة والزكاة للدلالة على لزوم إتيان الفرائض مطلقاً.
الثالثة: الوعد الكريم من الله عز وجل بالأمن والسلامة يوم القيامة، ومن مصاديق الرجاء في الآية الكريمة الإخبار عن إقامة المسلمين في النعيم الدائم لإيمانهم وأدائهم الوظائف العبادية، وتمنع الآية من التشديد على النفس، لمجيئها بصيغة الجمع (الذين آمنوا) التي تفيد الثناء على المسلمين على نحو العموم المجموعي.
الوجه الحادي والعشرون: قوله تعالى[ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا]( )، بلحاظ كفاية الفوز بحب الله، قال القشيري: المَوْلَى: المحِبُّ، فهو محب الذين آمنوا، والكافرين لا يُحبهم، ويصح أن يُقال: أرجى آيةٍ في القرآن هذه الآية، لم يقل مولى الزُهّاد والعُبّاد وأصحاب الأورادِ والاجتهاد: بل قال: {مولى الذين آمنوا} والمؤمن وإن كان عاصياً فهو من جملتهم والمحبة تتفاوت بقدر زيادة الإيمان والإيقان حتى يصير محبوباً مقرباً)( ).
ولكن ليس في القرآن : الله مولى العُبّاد وأصحاب الإجتهاد واليقين) وتدل آية البحث على حقيقة وهي صدق عنوان الإيمان حتى مع المعصية بشرط تعقبها بالذكر والإستغفار , فالمؤمن الذي لا يصر على المعصية ولا يفرط في الصلوات اليومية الخمسة.
وتبين الآية حال المتقين الذين يؤمنون بالله عز وجل، ويجتهدون في السعي لدخول الجنة ويتخذون من الذكر والإستغفار وسيلة مباركة للفوز بحب الله.
وموضوع أرجى آية أخص من موضوع الولاية، ويتعلق بما فيها من البيان والتفصيل , والنهل الواسع والجلي من رحمة الله ورضوانه.
ولفظ(مولى) مشترك لفظي يأتي على وجوه ولكن أكثر هذه الوجوه لا صلة له بالمقام كابن العم والمعتق والحليف , ومن معاني المولى السيد والأولى، قال الأخطل:
فأصبحتَ مولاها من الناسِ بعـــدَهُ
وأحــرَى قريشٍ أنْ يهابَ ويحمــــدا)( ).
والله عز وجل ربّ وسيد الناس وهو أولى بهم جميعاً برهم وفاجرهم، ولكن الآية أعلاه جاءت في باب الإنذار والوعيد للكفار ومن إعجاز القرآن ورود البشارة في ثنايا الإنذار ليكون فيه دعوة للكفار للتوبة والإنابة ليبين القرآن قانوناً كلياً وهو أن الحياة الدنيا دار التوبة والإنابة للناس جميعاً
الوجه الثاني والعشرون: قوله تعالى[نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( )، قال عثمان بن عفان:لم أرَ آية أرجى منها) ( ).
عن قتادة في الآية قال: بلغنا إِنَّ نَبِيّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لو يعلم الْعَبْد قدرعفو الله، لما تورّع مِنْ حرام، ولو يعلم قدر عذابه، لجمع نفس) ( ).
وقيل أن الخطاب في الآية خاص للمؤمنين سواء الورع المطيع منهم أو الذي يرتكب المعصية، ولكن لفظ(عبادي)في الآية أعم، ويشمل الناس جميعاً، لبيان القرآن بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول إلى إليهم جميعاً، ولأن الآية أعلاه تبين قانوناً كلياً يتعلق بسعة رحمة الله، للمؤمنين وشدة عذابه بالكافرين لقبح العقاب بلا بيان والناس كلهم عباد الله شاءوا أم أبوا , والعبادة هي العلة الغائية لخلق الناس.
وجاءت الآية أعلاه بخمسة أسماء لله عز وجل المعبود، إني،أنا، الغفور، الرحيم، وإبتدأت الخطاب بأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحينما جاء الكلام عن إبراهيم عليه السلام كان خاصاً بقضية عين وتوثيق واقعة تأريخية، قال تعالى[نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ * وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ] ( )، أما رحمة الله وغفرانه للذنوب فينبسط على آنات الزمان الطولية.
لقد أراد الله عز وجل إبلاغ الناس بوعد كريم منه بالعفو والمغفرة عن الذنوب , فان قلت كيف تكون المغفرة، جاءت آية البحث جواباً وضياءً وبلغة للوصول إلى موارد العفو والمغفرة من الله عز وجل.
وفي سبب نزول الآية ورد في المرسل عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ، فقال : لا أراكم تضحكون ، ثم أدبر، ثم رجع القهقري ، فقال: إني خرجت حتى إذا كنت عند الحجر جاء جبريل فقال : يا محمد إن الله يقول لك لم تقنط عبادي ؟ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم( ).
ومن مصاديق الإنباء بعفو ومغفرة الله عز وجل آية البحث وإخبارها عن أمور:
الأول:وجود عالم الجزاء في الآخرة.
الثاني:إتصاف عالم الجزاء بالدوام والخلود.
الثالث:تعيين موضوع وأهل النعيم في الآخرة فلم يخلق الله عز وجل الجنة ثم يعّين الغاية منها ويختار أهلها بل هناك نوع ملازمة بين خلق الجنة وبين تعيين أصحابها وهم المتقون، وهو من رحمة الله، وترغيب بالتقوى والخشية من الله عز وجل .
وجاءت الآية أعلاه بلفظ(عبادي) بينما تذكر آية البحث خصال المتقين، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فالمتقون من عباد الله وليس العكس.
لذا جاءت الآية أعلاه بيان تسمي الجزاء من الثواب الحسن والعقاب الأليم، فجاء ذكر المغفرة والرحمة بصفات الله الحسنى(الغفور الرحيم) بينما جاء ذكر العذاب بذاته مع نسبته إلى الله فليس في القرآن (أني المعاقب والمعُذٍب).
الرابع: شمول المغفرة للذين يذكرون الله ويسألونه العفو والمغفرة عند إرتكاب السيئة، وهذا الشمول من رحمة الله وأسرار إجتماع إسمي(الغفور الرحيم) في خمسة وسبعين موضعاً من القرآن، ومنه الآية أعلاه، ومع التعدد في الاسم والمعنى فانهما يتحدان في الموضوع.
فآية البحث من مصاديق مغفرة الله لذنوب المؤمنين الذين لا ينسون ذكره في الرخاء والشدة، ويلجأون إلى الإستغفار لعلمهم أنه هو الغفور الذي يمحو الذنوب عن المؤمنين جزاء لهم لسعيهم وجهادهم في محو عبادة الأوثان من الأرض .
وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وجعل اسمي في الزبور ماح، محا الله عزوجل بي من الأرض عبادة الاوثان( ).
والرزق من رحمة الله عز وجل بالناس وهو شاهد على عدم إنقطاع رحمة الله عن أي فرد من الناس آنا ما، ولو إنقطع الرزق عن أحدهم لتلف وإنعدم وغادرت روحه جسده.
وإختلف المتكلمون في الروح، وجاء في التنزيل[وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي]( )، وفي تفويض أمر الروح إلى الله أمور:
الأول:التسليم بعظيم قدرة الله.
الثاني:بيان فضل الله على الناس بنفخ الروح في آدم.
الثالث:دعوة العلماء للبحث والتحقيق عن ماهية الروح بما يناسب كلام الفلاسفة والمتكلمين والحكماء، والتقنية الحديثة في معرفة أسرار تركيب وأعضاء الإنسان، وكيف أنه أدق نظام في الكون وهذه الدقة ونفخ الروح من مصاديق خلافته في الأرض.
الرابع:تأديب المسلمين والناس جميعاً بتفويض الأمور , وإرجاعها إلى الله عز وجل قال تعالى[وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
الخامس:الروح من أعظم مصاديق الرزق على الإنسان بذاتها وأسباب إستدامتها.
السادس: ترك الجدال والخصومة في موضوع الروح والتباري فيه.
السابع:شكر الله عز وجل على نعمة الروح، وتجلي هذا الشكر باجتناب المعاصي، وقد تعددت الأقوال في معنى الروح، ولكن المقصود في المقام هو نفس الحيوان والجسم اللطيف الذي يحيا به.
ومن خصائص الروح وأثرها في سلوك وعمل الإنسان سعيه إلى الحسن وكسب المعاش، وتحصيل العلم، والحرص على البقاء، ودفع أسباب الفناء ولا تتحقق هذه الأمور إلا بفضل من عند الله، وكل فرد منها رزق كريم منه سبحانه وهو من عمومات[قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي]( )، لأن معانيها وموضوعها أعم من أن يحيط بها جواب , وهو من أسرار الخطاب الإلهي إلى الناس بعبادته، والروح في الإنسان من أهم مصاديق علم الله الذي إحتج به على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، لما أنكروا جعل الإنسان خليفة في الأرض مع إتصافه بالفساد وسفك الدماء، فان الروح واقية من الفساد العام، وسبب لصلاح أهل الأرض، وهي آلة الإستجابة للنبوة والعمل بمضامين الكتاب، وتحتمل إستدامة الروح أمرين:
الأول:إن الله عز وجل خلقها وجعلها تعمل بنظام دقيق لا تخرج عنه، ومنه نفس الإنسان.
الثاني:تعاهد الله عز وجل روح الإنسان بالرزق في كل لحظة وثانية، ومنه الشهيق والزفير .
وفي الأول يدخل الهواء النقي إلى الرئة، ويزود الدم بمقدار منه تحتاجه الخلايا لتوليد الطاقة والقدرة على الحركة، وهو المسمى في إصطلاح أطباء الأبدان (الأوكسجين).
وفي الثاني يخرج الهواء المترسب في الرئتين الذي جلبه الدم من الخلايا ليتخلص منه البدن ويسمى هذا الهواء ثاني أوكسيد الكاربون، فسبحان الله الذي جعل رزق الروح مبذولاً متوفراً في الهواء لكل إنسان وجعله في تجدد مستمر من الشجر والزرع لبيان الحاجة المتبادلة بين المخلوقات، وضعف الإنسان وحاجته للجسم النامي حيواناً كان أو نباتاً.
ولا تستطيع الطواغيت والجبابرة منعه عن الناس وإتخاذه وسيلة إكراههم في أمور الدين والدنيا، ليكون رزق الروح حجة على الإنسان لولوج باب التوبة فكل نفَس يذكرّه بذكر الله، وهو من وجوه التداخل بين أسبلب الرزق وطرق التوبة , لأن الإنسان يدرك أن إنقطاع النفس يعني بالضرورة مغادرة الدنيا، وفيه دعوة للزهد فيها فهي قائمة على أمر بسيط متكرر في كل طرفة عين، وإذ يقدر الإنسان أن يجمع ويدخر مؤونته لسنوات قادمة ويكنز الأموال الطائلة التي تجعله وورثته في بحبوحة من العيش، فانه لا يستطيع أن يضمن شهيقاً أو زفيراً متحداً أو متعدداً.
الوجه الثالث والعشرون: قوله تعالى[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، تبين الآية حقيقة وهي أن الخير كله وفي أفراد الزمان والعوالم الطولية المختلفة بيد الله عز وجل وحده لا يقدر عليه غيره، فذكرت الآية حال الناس في المسألة، وهم على قسمين:
الأول: الذين يستعجلون منافع الدنيا، ويقصدونها بالذات.
الثاني: الذين يسألون الهداية والتقوى في الدنيا، والنعيم في الآخرة، ولا تعني الآية إنعدام وجود قسم أو أقسام أخرى في الناس، فإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
فمن الناس من يلهث وراء زينة الدنيا ويريد الأمن والسعادة في الآخرة، ومنهم من يقول بأنه لن يعذب إلا مدة يسيرة، وفي التنزيل:[َقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً]( ).
وتعددت أقوال المفسرين في الحسنة في الدنيا، أما في الآخرة فالإجماع على أنها الجنة , وهل يمكن القول أن الجنة نعمة متحدة في الآخرة للخلود فيها وهي خير من النعم المتعددة في الدنيا.
الجواب صحيح أن نعمة الجنة أعظم كثيراً من نعم الدنيا، ولكنها ليست نعمة متحدة، فأفراد النعم في الجنة أكثر وأعظم من أن تحصى وما النعم في الدنيا إلا مرآة لشطر يسير منها[وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى]( ).
(وأخرج عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكاً يقول آمين، فإذا مررتم عليه فقولوا: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)( ).
ومن إعجاز القرآن تلقين المسلمين لصيغ الهداية، وإرشادهم لسبل التوفيق والفلاح في النشأتين بكلمات معدودات نازلة من تحت العرش لتكون كنزاً مصاحباً لهم، ينهلون من فيوضاته وبركاته كل يوم من غير أن ينقص منه شيء، وذخائره الأخروية أكبر وأعظم.
وصلة آية البحث بقوله [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً] الحسنة لفظ جامع لمصاديق متعددة من جنس الخير والصلاح، وما يأتي في باب السؤال من الله عز وجل تكون مصاديقه وأفراده من اللامتناهي سواء تلك التي في الدنيا، أو التي في الآخرة، أو كلاهما معاً، ومن الإعجاز في الآية أنها جاءت بصيغة التنكير ولغة الجنس(حسنة) من غير تقييد بموضوع أو مواضيع مخصوصة تفويضاَ للأمر والإحسان إلى الله عز وجل وللعلم بقصورنا عن إحصاء النعم التي يتفضل بها , والتي نحتاج إليها وتلك التي تكون نافلة، وهذا التفويض من الإقرار بقوله تعالى[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، وأنه رحمة ووعد كريم من الله، ودعوة للناس للجوء إلى الدعاء وبعث على الذكر والإستغفار كما في آية البحث لأنهما حسنة بالذات، وجلب للحسنة في الدنيا والآخرة.
وقد ذكرتُ للحسنة في الدنيا واحداً وعشرين وجهاً( )،وللحسنة في الآخرة أحد عشر وجهاً ، وأفراد كل منهما أضعاف مضاعفة للعدد أعلاه، لذا فمن الرجاء في الآية أن الدنيا مزرعة الآخرة وأن الله عز وجل يصلح المسلم في الدنيا للإستعداد للآخرة والتجهز لأهوالها بالذكر والإستغفار .
وكل من الذكر والإستغفار حسنة في الدنيا ورزق كريم ، وأثرهما حسنة في الآخرة، فمن فضل الله عز وجل في الدنيا على العبد هدايته للذكر وملازمته للإستغفار.
وحينما يتلو المسلم قوله تعالى[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، يأتيه الجواب من الله عز وجل بآية البحث من جهات:
الأول:تلاوة آية البحث والعمل من الحسنة في الدنيا .
الثاني:ذكر الله حسنة.
الثالث:الإستغفار حسنة.
الرابع:إجتناب الإصرار على المعصية حسنة.
الخامس:التفقه في الدين ومعرفة قبح الإقامة على المعصية، وضرر ترك الإستغفار.
أما بالنسبة للحسنة في الآخرة فان آية البحث جاءت بالوعد الكريم بالجنة لمن يعمل بمضامينها وأن فعل الفاحشة وظلم النفس ليس مانعاً من اللبث الدائم في النعيم بشرط المبادرة إلى الذكر والإستغفار
الوجه الرابع والعشرون : قوله تعالى[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً]( )، جاءت الآية أعلاه بصيغة البعث على الإحسان للآخرين وبلغة الوعد الكريم الذي يتضمن تأكيد عظيم قدرة الله، وعجز الخلائق عن إدراك كنهها فليس من أحد يحتسب إعانتك للغير من فضله عليك قرضاً له إلا الله لتتضمن الآية ثلاثة أطراف:
الأول: صاحب الإحسان والذي يتصدق على غيره.
الثاني: مادة وموضوع الإحسان.
الثالث: المحسن إليه، ومادة الإحسان من فضل الله عز وجل على المحسن، ومع هذا فان الله عز وجل يحتسبها قرضاً عليه، ويعد بمضاعفتها بما لا يخطر في التصور الذهني، (وأخرج ابن سعد عن يحيى بن أبي كثير قال: لما نزلت هذه الآية[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً] ( )، فالكثيرة عند الله أكثر من ألف ألف وألفي ألف، والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة( ).
لقد ندب الله عز وجل المسلمين للإنفاق في سبيله، ووعد عليه الجزاء العظيم , وهذا الجزاء من مصاديق الرجاء يوم القيامة.
وورد في آية أخرى الوعيد المتعدد , فإلى جانب مضاعفة الإنفاق عند وفائه وقضائه يأتي الأجر دفعة ونجوماً من عند الله , قال تعالى[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ]( ).
ومع أن الآية جاءت بصيغة التخصيص والترغيب والبعث لفعل الخيرات , وكثرة أضعاف القرض وتعدد وجوه الأجر وإتصافه بأنه كريم بذاته وأثره فلا تعارض أو تزاحم بين المؤمنين فيما يأتي من الأجر فيصلهم جزاؤهم وثوابهم دفعة واحدة، وخزائن الله عز وجل لا تنفد وقوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( )، مطلق وشامل للحياة الدنيا والآخرة ومنها عالم الحساب والجزاء، وفيه نكتة وهي أهلية المسلمين لتلقي الخطابات التي ترّغب بالإنفاق على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي .
قال طرفة:
إذا القومُ قالوا مَن فتىً؟ خِلتُ أَنَّني
عُنيتُ، فَلَمْ أَكْسَلْ ولم أَتَبَلَّدِ( ).
والقرض في الإصطلاح إسلاف المال ونحوه بقصد إستيفاء مثله، وتفضل الله عز وجل بتشريع الصدقة لوجوه كلها من معاني الرجاء موضوعاً أو محمولاً منها:
الأول: نشر مفاهيم الإحسان بين الناس.
الثاني: الترغيب بأسباب الرحمة بين الناس.
الثالث:إعانة الأغنياء للفقراء بالصدقة.
الرابع: منع الربا والمعاملات الفاسدة
الخامس: بعث المؤمنين لأداء وظائفهم العبادية .
السادس: تحقق مصداق من مصاديق العبادة بإخراج الحقوق الواجبة، من الزكاة ونحوها لما فيها من الأجر والثواب، قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، ومع صيغة الوجوب أعلاه فان الله عز وجل ذكرها بصيغة القرض، وفيه مسائل:
الأولى: إن لفظ القرض في قوله تعالى[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ]( )، أعم من المجاز.
وصحيح أن لفظ القرض يستعمل لحال العوز والحاجة، ولكنه قد يأتي مطلقاً من دون حاجة .
وآية البحث من الآيات التي يشملها عنوان (أرجى آية) من وجوه:
الأول: الإقامة في النعيم الدائم الغاية السامية التي يسعى إليها أرباب العقول، وجاءت آية البحث لتبين أنها قريبة من الناس وجعلت الطريق إليها معبداً ومناراً ويتقوم بذكر الله والإستغفار، وتلك آية في رحمة الله عز وجل فحينما يتلو المسلم آية البحث يدرك أنه قريب من الجنة وأن البلغة إليها أمر سهل ويسير , وهو من أسرار إقبال المسلم عن تلاوة القرآن بلذة وشوق لأن منافع التلاوة أعظم وأكثر من حد الإحصاء.
الثاني: آية البحث شاهد على تنزه المسلمين عن إنقطاع إلى الدنيا وزينتها وأسباب الفتنة والإفتتان قال تعالى[رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ]( ).
الثالث: الحسن الذاتي لذكر الله في حال السعة والضيق، فكما جاءت الآية السابقة بوصف المتقين بالإنفاق على كل حال بقوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( )، جاءت آية البحث بذكر الله عند الشدة والضيق وأي ضيق أشد من إرتكاب الفاحشة وما يجلبه من الضرر على الذات في الدنيا والآخرة، ليبعث تلاةتها الرجاء والأمل في النفس بمحو تبعات وآثار الفاحشة بالذكر والإستغفار لتكون آية تجديد الرجاء، ومناسبة لطرد اليأس والقنوط عن النفس.
الرابع: السلامة والمنسأة في الأجل للذي يبقى لسانه رطباً بذكر الله ويواظب على الإستغفار، ويبتعد عن كابوس الإصرار على المعصية، لتكون هذه السلامة مناسبة للإكثار والنافلة من الذكر والإستغفار.
وورد في قوله تعالى[وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ]( )، أنه كان صابراً مع شدة بلائه ولكنه خشي من إستحواذ آفة الداء على لسانه وعجزه عن ذكر الله .
ونُسب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حديث لم نجد سنده(أنه جاء إليه رجل فسأله عن قول أيوب{مسّني الضر} فبكى عليه الصلاة والسلام وقال: والذي بعثني بالحق نبيًا ما شكى فقرًا نزل من ربه، ولكن كان في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات، فلما كان في بعض الساعات وثب ليُصلي، فلم يستطع النهوض، فقال:{مسني الضر}.
ثم قال: عليه الصلاة والسلام: أكل الدود عامة جسده حتى بقي عظامًا نخرة، فكادت الشمس تطلع من قُبله وتخرج من دُبره، وما بقي إلا قلبه ولسانه، وكان قلبه لا يخلو من ذكر الله، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه، فلما أحب الله له الفرج، بعث إليه الدودتين؛ إحداهما إلى لسانه والأخرى إلى قلبه، فقال: يا رب ما بقي إلا هاتان الجارحتان، أذكرك بهما، فأقبلت هاتان الدودتان إليهما ليشغلاني عنك ويطلعان على سري، مسني الضر وأنت أرحم الراحمين)( ).
الخامس: الإستغفار سبب لزوال الغم والحزن سواء الذي يترسب بسبب إرتكاب المعصية , أو الذي يأتي من الهموم والخوف من المجهول أو مطلقاً وكأن الذكر والإستغفار روضة غناء فيها عين خرارة بماء طهور يأتي على الأدران ، ويمتاز بصفة وهو أنه موعظة وإرتقاء في مراتب العز والرفعة، لذا ورد في الحديث المشهور: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)( ).
قانون الأبواب الثلاثة
لقد جعل الله عز وجل حياة الإنسان على الأرض سراً من أســرار علمه، ومصداقاً من مصاديق حكــمته، وآية في بديع خلقــه إبتداء من مقام الخلافة إلى عالم الحســاب والجزاء، فلا غرابة أن يحتج الملائكة كــما ورد في التنـزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِــدُ فِيهَا وَيَسْــفِكُ الدِّمَاءَ]( )، فتفضــل الله عز وجل بآية البحث لتكون حرباً على الرذيلــة وردماً لمستنقعها، وزاجراً للنفوس من التردي في هاوية الفسوق التي تسوق إلى الجحيم.
ففي كل آن هناك ثلاثة أبواب مفتوحة بوجه العبد:
الأول: باب الرزق.
الثاني: باب التوبة.
الثالث: باب الموت.
أما الأول فلا ينقطع ما يأتيه منه في الليل والنهار، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ]( ).
وأما الثاني فانه يدعو الإنسان لولوجه والمبادرة للدخول فيه من غير إبطاء أو تأخير.
وأما الباب الثالث فإنه يتصف بخصوصية وهي أن العبد يدخله مرة واحدة فلا يخرج منه، ويتجلى التداخل بين الأبواب الثلاثة أعلاه من وجوه:
الأول: ما يأتي من الباب الأول ترغيب باللجوء إلى الثاني وهو باب التوبة.
الثاني: دخول الباب الثاني يزيد من الفيض والفضل الإلهي الذي يأتي من الأول , وهل فيه رد على الملائكة في إستفهامهم الإنكاري أعلاه الجواب نعم، وهو جواب تتجلى مصاديقه المتكثرة كل يوم في مشارق ومغارب الأرض للجوء المسلمين إلى الذكر والإستغفار، فتتصل عمارة الإنسان للأرض , وفوز المسلمين بمحو آثار المعصية، ليكون من مصاديق الرد أنه مع إستغفار العباد لا يكون هناك فساد، أو لا يترتب عليه أثر وإن حــدث واقعاً.
ولكن من فضل الله أنه يبدله حسنة بالإستغفار، والملائكة أعلم الخلائق، ومع هذا يفاجئون يوم القيامة برؤية صفحات أناس خالية من الذنوب التي كتبها الملائكة في الدنيا لأنهم ذكروا الله عز وجل وإستغفروه من الذنوب فمحيت ذنوبهم من صحائف الأعمال، لتكون من عمومات قوله تعالى[مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ), بلحاظ تدوين الملائكة للذكر والإستغفار.
ليستبشر الملائكة بحسن سمت الإنسان وتداركه بالذكر والإستغفار، (روى عكرمة عن ابن عبّاس قال : لما خلق الله الملائكة قال : إني خالق بشراً من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، قالوا: لا نفعل. فأرسل عليهم ناراً فأحرقهم. ثمّ خلق ملائكة فقال: إني خالق بشراً من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، فأبوا، فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقهم ثمّ خلق ملائكة فقال: إني خالق بشراً من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، قالوا: سمعنا وأطعنا إلاّ إبليس كان من الكافرين)( ).
ولكن الحديث ضعيف سنداً ودراية، ولا دليل عليه من الكتاب والسنة، والأصل هو إمتثال الملائكة لأمر الله بالسجود لآدم، قال تعالى في الثناء على الملائكة[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ]( )، ويدل عدم نزول العقوبة بإبليس في السماء سوى هبوطه إلى الأرض وإمهاله[إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ]( )، وهبـوط آدم وحــواء مع أكلــهما من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عنها يدل على عدم وجود عقوبة فناء وإعدام في السماء.
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك، فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات، فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيئاً، وإن لم يستغفر الله كتب عليه سيئة واحدة)( ).
وفيه بيان لموضوعية الإستغفار، إذ جعله الله عز وجل باباً للفوز بمرضاة الله، ومانعاً من نزول سخطه وعقابه بسبب إرتكاب الفاحشة أو ظلم النفس.
ويدل تأخير كتابة السيئة الوارد في الحديث أعلاه على موضوعية تعقب الذكر والإستغفار للمعصية والذي جاءت به آية البحث، إذ أنها تنفي وجود فترة بين المعصية والذكر.
ومن حكمة الله عز وجل ورحمته بالناس في المقام وجوب إقامة الصلاة خمس مرات في اليوم، وشمول التكليف للنساء بعرض واحد مع الرجال، وإستمرار أداء الصلاة بكل الأحوال لأنها لا تترك على حال للدلالة على الحاجة إليها وأنها غذاء وسبيل نجاة في النشأتين، وقد شرعّت صلاة الخوف وصلاة المطاردة، وصلاة الغريق ونحوها.
إن إتصــاف الإنســان بأنه خليفــة الله في الأرض دليل علـى أن الله عز وجل لن يتركه وشأنه ولن يوكله إلى نفسه وإلى غيره من الخلائق بل تفضل الله عز وجل بسلامته ورزقه، قال تعالى[لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ]( ).
وظاهر قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، هو الإطلاق في الملازمة بين وجود الإنسان والأرض، فلا إفتراق بينهما كما أنه لا مغادرة لصفة الخلافة للإنسان[مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( )، مما يدل على بقاء الإسلام والقرآن وسلامته من التحريف والتبديل ليكون من إعجاز القرآن تضمن آياته بشارة دوام الإسلام، سواء كانت الآية من آيات الأحكام أو الأوامر أو النواهي أو القصص، وجاءت بصيغة الجملة الخبرية أو الإنشائية، ليكون وجود الإنسان في الأرض مركباً متعدداً من ذات الوجود، ومن الخلافة في الأرض، ففتح الله عز وجل عليه أبواباً ثلاثة هي:
الأول: باب الرزق، لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، والحاجة ملازمة لعالم الإمكــان، وهي نعمـــة على الإنسان لإدراكه في كل حين حاجـته إلى الله عز وجل في إســتدامة حياته وســلامة أعضــائه، ومـن بديع صــنع الله أن الشيء الذي تكثر حاجة الناس إليه يكون كثيراً وقريباً منهم، كالماء قال تعالى[وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( ).
وكل ما كانت حاجتهم إليه قليلة ندر وشح كالدر والمعادن النفيسة، وليس من إنسان إلا وقد تفضل الله برزقه وفضل عظيم عن حاجته لتسكن نفسه فحاجة النفس أكبر من حاجة البدن ليكون الرزق مناسبة لشكره تعالى، وعن أنس قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا)( ).
ومن عادة الملوك تعيين الخلفاء والأمراء ليحفظوا لهم ثغور مملكتهم، ويجلبوا لهم العشور والغنائم ولو أخطأ الأمراء ونواب السلطان لإستولى على أموالهم، وقد يلقون في السجون مكبلين بالقيود، أما خلافة الإنسان في الأرض فإنها تتقوم بالرحمة ومدد الهداية من الله، ومنه آية البحث وما فيها من الترغيب بالذكر والإستغفار.
وعن سعيد بن زيد سمعت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يا معشر العرب، احمدوا ربكم الذي رفع عنكم العشور)( )، وفي حديث: ليس على المسلمين عشور )، أي ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سقط عنهم ما كان يأخذه ملوك العجم والعرب من عشر أموال الناس، وسمي عشراً لأن الذي يأخذه هو العاشر ,ومقداره نصف العشر أي 5%.
وقد فرض الله عز وجل الزكاة على المسلمين وهي ربع العشر أي 25% وتتصف بالتخفيف عن المسلمين من وجوه:
الأول: الزكاة في أصناف مخصوصة من الأنعام والحبوب والنقدين.
الثاني: إنحصار الزكاة بنصب معينة كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: في أربعين شاة شاة)( ).
الثالث: تقييد الزكاة بحال تدل على السعة والمندوحة لحمل المطلق على المقيد كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: وفي صدقة الغنم في سائمتها) ليختص حكم الزكاة بالتي ترعى في المرعى، وتخرج المعلوفة بالتخصيص.
الرابع: رجوع أموال الزكاة إلى فقراء المسلمين، فلا تذهب إلى الملوك والسلاطين، قال تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا]( ).
ومن خصائص الخليفة تحري أسباب الرزق والكسب، وليس لها حصر لتعدد المكاسب والتجارات والصناعات , فيرى الإنسان نفسه موفقاً في الكسب، وأنه يمتاز عن غيره في موارد المعاش، وهذا الحال العامة موجودة عند الناس جميعاً مما يدل على أن المدبر للرزق واحد وهو الله، ويلحظ عباده جميعاً، ليبعث الله عز وجل السكينة والغبطة في نفس الإنسان على الرزق الكريم السهل القريب، وفيه أمور:
الأول: إنه آية في التوحيد.
الثاني: فيه دعوة للناس لعبادة الله، والثناء عليه.
الثالث: في الشكر لله عز وجل زيادة في الرزق كماً وكيفاً، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
فإن قلت وردت النصوص بأن مقدار الرزق مفروغ منه وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من رزقه وأجله وعمله وأثره ومضجعه)( )، وذكر أكثر من واحد أن المراد بالأثر في الحديث أعلاه هو أثر مشيه في الأرض، ولكن الحديث قد يكون أعم في دلالته، والمراد من الأثر هو الولد والنسل وإن نزل , وأن المراد من المضجع هو النكاح , ومنه الحديث: ليس في المضاجعة وضوء) ( )، خصوصاً وأنه جاء في رواية أحمد تقديم المضجع على الأثر وكتابة الرزق لا تعني القعود بل تبعث على العمل والجد والسعي.
وقد قسم الله عز وجل الأرزاق وجعل فضلاً ونافلة لمن يدعو ويسأل ومن يستغفر الله عز وجل , كما ورد على لسان هود في التنزيل[وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ]( )، وذات مضمون الآية ذكر أن المطر حبس عن عاد ثلاث سنين، فجاءهم الأمر بالتوبة والإستغفار كطريق لنزول المطر والخصب. ورد على لسان نوح عليه السلام
وعن مجاهد المراد في قوله تعالى([وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ] ولد الولد)( )، ولكن الآية أعم موضوعاً ومحمولاً خصوصاً وأن الآية لم تقل(ثم يزدكم قوة إلى قوتكم) بل جاءت الزيادة في القوة متصلة ومعطوفة على نزول مطر غزير كما في قوله تعالى[وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ]( ).
وبيان حقيقة وهي أن الإستغفار يزيد قوة الفرد والجماعة لذا فمن خصائص آية البحث وما فيها من الندب إلى الإستغفار من زيادة قوة المسلمين مع نافلة تتجلى بمنافع ورشحات ذكر الله عز وجل لقوله تعالى[ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا].
فأصل التوبة موجودة عند المسلمين بإيمانهم وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا جاءت خطابات القرآن لهم بلفظ(يا أيها الذين آمنوا) ومنها آية البحث المعطوفة على قوله تعالى قبل خمس آيات[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( )، وأمرهم بطاعة الله والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسارعة إلى الجنة بالعمل الصالح.
ومن خصائص باب الرزق النازل من عند الله أنه عام وشامل للناس جميعاً البر والفاجر، وهو من رحمة الله عز وجل في الدنيا وأسباب الهداية إلى التوبة والإنابة، وإذ أمرت آية البحث بذكر الله عز وجل عند إرتكاب المعصية، فإن الرزق مناسبة كريمة لذكر الله عز وجل بالتسليم بعظيم قدرته وسعة رحمته.
والشــكر لله عز وجل علــى الرزق والنعمة مطلقاً من عمومات الرزق الذي يكون أمراً توليداً بمعنى أن الرزق يجلب الرزق في ذات النوع والجنس وفي غيره وليس أعظم رزقاً من الشكر لله عز وجل لأنه من مصاديق الذكر باعث على الصبر وبرزخ دون التعدي في الدنيا، ويثقل كفة الصالحات في الآخرة، ويبين تأريخ الدعوة الإسلامية وكيف أن المسلمين بدأوا بحال من العوز والفقر فأظهرهم الله برزق كريم منه تعالى تجلى بمدد ملكوتي في معارك الإسلام الأولى , قال سبحانه[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
ليكون هذا النصر بشارة ومرآة للرزق الكريم اللامحدود الذي يفتحه الله عز وجل على أجيال وأمصار المسلمين .
وبالإسناد عن طلحة النضري قال: قدمت المدينة مهاجرا وكان الرجل إذا قدم المدينة فان كان له عريف نزل عليه وان لم يكن له عريف نزل الصفّة فقدمتها , وليس لى بها عريف فنزلت الصفة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرافق بين الرجلين ويقسم بينهما مدا من تمر فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلوته إذا أداه رجل فقال يا رسول الله احرق بطؤننا التمر وتخرقت عنا الخنف قال وان رسول الله صلى الله عليه وسلم حمد الله واثنى عليه وذكر ما لقى من قومه .
ثم قال : لقد رأيتنى وصاحبى مكثنا بضع عشرة ليلة مالنا طعام غير البرير والبرير ثمن الاراك حتى اتينا اخواننا من الانصار فآسونا من طعامهم وكان جل طعامهم التمر والذى لا اله الا هو لو قدرت لكم على الخبز واللحم لا طعمتكموه وسيأتى عليكم زمان أو من ادركه منكم تلبسون امثال استار الكعبة ويغدي ويراح عليكم بالجفان قالوا يا رسول الله نحن يومئذ خير أو اليوم قال لا بل انتم خير انتم اليوم أخوان وانتم يومئذ يضرب بعضكم رقاب بعض)( ).
الثاني: باب التوبة: وهو النعمة العظمى التي فتحها الله عز وجل على العباد، وجعله يدعو الناس كل ساعة من الليل والنهار ليلجأوا ويلجوا إليه، حيث الأمن والأمان والسلامة، وهذا الباب فاصل بين عالمين، فما قبله ندبة سوداء وأرض جرداء وسراب ووهم.
وبالإسناد عن صفوان بن عسال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز و جل فتح بابا من المغرب مساحته سبعون خريفا للتوبة لم يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها)( ).
أما ما بعده فروضة غنّاء، فإن قلت قبل التوبة كانت اللذات وبعدها جاء ألم التكاليف والطاعات , والجواب بعد التوبة يدرك الإنسان أن تلك اللذات مرارة وشقاء ومادة للبلاء، وأن الطاعات اللاحقة لذة وسياحة في عالم الملكوت، ولا يفرح الإنسان أكثر وأعظم من فرحه وسعادته بالعمل ذي الثمر، وأداء الفرائض عمل مبارك تترشح منافعه على العقل والبدن، والذات والغير، ليكون باب التوبة نعمة حاضرة ووسيلة وآلة لجلب الرزق , قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ]( ).
فقولنا قانون الأبواب الثلاثة من باب التفصيل والبيان وإلا فإن الأصل هو التداخل بينها وإن التوبة تأتي بالرزق فما من صلة وسبيل بين السماء والأرض إلا وهو باب للرزق سواء كان نازلاً أو صاعداً , وهو من أسرار الربوبية المطلقة لله عز وجل ومعاني الخلافة منه سبحانه بلحاظ أنها خير محض.
والنسبة بين باب التوبة والرزق العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: كل منهما رحمة ونعمة من الله عز وجل.
الثاني:إستدامة فتح كل منهما إلى يوم القيامة، فليس من إنقطاع لأحدهما آناً ما.
الثالث:تمادي العبد في المعاصي لا يصبح برزخاً بينه وبينهما.
الرابع:مصاحبة كل من البابين العبد طيلة أيام حياته، وبالإسناد عن رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)( ).
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: باب الرزق نازل من عند الله، والتوبة لجوء وإنابة إلى الله.
الثاني: مجئ الرزق للإنسان أمر حتمي ومصاحب له في الحياة، أما التوبة فانها من وجوه الإبتلاء والإختبار في الدنيا.
الثالث: الرزق نعمة من الله، والتوبة من وجوه الشكر لله عز وجل على هذه النعمة وان كانت التوبة ذاتها فضلاً من لله.
الرابع: يأتي الرزق من الله إبتداء، أما التوبة فتتعقب الذنب والمعصية.
الخامس: يصيب الرزق الناس جميعاً، أما التوبة فهي خاصة بأهل الإيمان.
السادس: الرزق تذكير بالتوبة ودعوة إليها , والتوبة باب لزيادة الرزق، وهو مناسبة للتدبر في عظيم قدرة الله، وبديع حكمته فإن الرزق لا يرتبط بالعلم والمعرفة، وكثرة السعي والعمل، إنما هو فضل من الله، وأمر من سلطانه وربوبيته المطلقة، وفيه ومقداره دعوة للناس للإيمان والدعاء والقناعة والرضا .

الباب الثالث: لأن حصل التباين الجلي بين الناس في الرزق كماً وكيفاً وصيغة كسب، ولأن إختلف الناس في ولوجهم باب التوبة وأن فريقاً منهم بادروا إليه، وفريقاً أصروا على الإنحراف والميل على جادة الصراط التي تؤدي إليه بعمومات قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، فإن الباب الثالث يساوي بين الناس جميعاً، لا يفرق بين الغني والفقير والمؤمن والكافر ألا وهو باب الموت .
ويجمع بين الأبواب الثلاثة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابن آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقُلُّ لِلْحِسَابِ)( ).
فالإيمان في الحديث مصداق التوبة، وقلة المال عنوان الرزق والمواساة فيه بالإيمان وخفة الحساب، فمع الإيمان تكون القناعة والشكر لله عز وجل .
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يهرم ابن آدم ويشب فيه إثنان الحرص على المال والحرص على العمر)( )، ليتدبر المؤمن ويتعظ من الدنيا، ويمتاز عن الكافر في المقام بأن المؤمن يخرج الحقوق الشرعية، ويعمل بالمال كما جاء في الآية السابقة[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ] ويحرص على عمره لتوظيفه في الطاعات والذكر والإستغفار، ليأتيه الموت وقد إنتفع من باب الرزق في مرضاة الله، وأدّب نفسه على كثرة طرق حلقات باب التوبة.
فإن قلت يختلف الموت عن باب الرزق والتوبة بأنه لا يـأتي إلا مرة واحدة زيادة قابضة فاصلة بين الدنيا والآخرة , والجواب نعم ولكنه أمر حتمي ويستحب الإكثار من ذكره لما في هذا الذكر من أسباب الصلاح وهو وسيلة لجريان الرزق الكريم وللعمل بمضامين قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أكثروا من ذكر هادم اللذات)( )، أي الموت.
ومع أن الموت يأتي للإنسان مرة واحدة بصورة مباغتة، أو وفق مقدمات من المرض العضال والهرم وأسباب الإنخرام والآفات العامة فإن الإستعداد له يتغشى أيام الحياة للأهوال التي تعقبه والتي ليس بينه وبينها فترة ومهلة، وصحيح أن هذا الإستعداد ينمو عند الإنسان مع تقدمه في العمر وطرو أمارات الموت عليه كالشيب والشيخوخة وجاءت الأخبار بذكر شطر من تلك الأهوال والمواقف ذات المشقة والعسر.
(وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تحدثوا عن بني إسرائيل فإنه كانت فيهم أعاجيب ثم أنشأ يحدثنا قال: خرجت طائفة منهم فأتوا على مقبرة من مقابرهم فقالوا لو صلينا ركعتين ودعونا الله يخرج لنا بعض الأموات يخبرنا عن الموت قال: ففعلوا فبينما هم كذلك إذا طلع رجل رأسه بيضاء أسود اللون خلا شيء بين عينيه أثر السجود فقال يا هؤلاء ما أردتم إلي؟ لقد مت منذ مائة سنة فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن فادعوا الله أن يعيدني كما كنت)( ).

ومن فضل الله عز وجل قانون إتصال رزق الإنسان إلى حين الموت، وأن الأجل لا أثر متقدم له في حجب الرزق، فترى الإنسان يأتيه رزقه ما دام فيه نفس، ولكنه لا يستطيع غلق باب التوبة، بل يكون تذكيراً بها، وسبباً للإلحاح بالمبادرة إلى طرقها وأبوابها , وتفضل الله عز وجل وجعلها أقرب شيء للإنسان، لكفاية جريانها على اللسان بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، وكأن تقدير الآية بخصوص حضور ملك الموت: الذين إذا حضر الموت ذكروا الله فإستغفروا لذنوبهم).
(وسئل ذو النون عن التوبة فقال: توبة العوام تكون من الذنوب، وتوبة الخواص تكون من الغفلة) ,وعلى فرض صحة صدور الحديث فإن آية البحث جاءت بالثناء على الذين يستغفرون لذنوبهم، وأنهم المتقون الذي أعدّ الله عز وجل لهم الجنة، وليس في القرآن وأحكامه ما يدل على تقسيم المسلمين إلى عوام وخواص وخواص الخواص، وتبين الآية حقيقة وهي أن الإستغفار من الذنوب حاجة للناس جميعاً , ونعمة عليهم، والخواص هم الذين يستغفرون من الذنوب والغفلة مطلقاً.
ومن التداخل بين الأبواب الثلاثة أن ذكر الموت برزخ دون تسويف التوبة، ومانع من إتباع الهوى ومن قسوة القلب وحائل دون البخل والشح، ومنه أن التوبة منسأة في الأجل وباب لرزق مستحدث بفضل من الله عز وجل على المسلم بالتوبة من النعم بذاتها والشكر لله على كل نعمة ومنها الرزق المصاحب للإنسان ليفوز المسلم بالبصيرة في أمور الدين والدنيا، ويزداد فراسة ويتسلح باليقظة والفطنة ويترك لأهله وذريته ثروة عظيمة وتركة مباركة هي التوبة تأتي بالرزق الكريم وتغلق باب المعصية .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn