المقدمة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب فهدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله، وتفضل وبارك لنا في هذا السِفر وجعله ثورة علمية، الحمد لله الذي جعل الإستعانة به ومنه وله، وللعصمة من المعاصي، والأمن من المخاوف والمكاره، ولدفع الضيق والحرج في الدنيا والسلامة من أهوال يوم القيامة.
ولقد تفضل الله عز وجل وقرن الإستعانة بوجوب بعبادته , قال تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، ليكون الأصل هو الإقرار بالعبودية لله والإستعانة من مصــاديقها ورشحاتها، وورد لفظ (إياك) مكرراً في الآية أعــلاه لبيان العنــاية والموضــوعية لكــل منهمــا، وحصــر العبادة والطــاعة بالله عز وجل والإمتثال لأوامره ونواهيه والسعي في مرضاته، لتبقى الصبغة التي تتغشى الأرض هي الإستعانة وقصد القربة له سبحانه وإختصاصه بتوكل العباد عليه.
فمن نعم الله عز وجل على الناس هدايتهم إلى الإستعانة به، وإذ حصر الله عز وجل هذه الإستعانة به وحده لأمور الدين والدنيا فإنه ليس من حصر لأسباب ومقدمات ومصاديق هذه الإستعانة منها التنزيل والنبوة والآيات الكونية، وكل فرد منها توليدي ينشطر إلى أفراد كثيرة ومضاعفة، وقيل(إن الله جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ].
ولكن لا دليل على جمع علوم القرآن بآية واحدة لأمور:
الأول: كل آية من القرآن علم قائم بذاته.
الثاني: ينتج الجمع بين كل آيتين من القرآن علم آخر مستقل فيكون الحاصل 6236X6235=460,881, 38 علماً من علوم القرآن.
الثالث: في الجمع بين كل ثلاث آيات أو أكثر علم مستقل آخر.
الرابع: التعدد في موضوع وحكم الآيات القرآنية.
الخامس: التعدد في معاني ودلالات ووجوه الآية والمقاصد السامية منها.
السادس: يأتي صدر الآية القرآنية في شيء، ووسطها في شيء وآخرها في شيء آخر.
السابع: لقد جعل القرآن بياناً وكشفاً سماويا لكل شيء، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ومن أسرار القرآن أن كل آية منه جامعة مانعة، جامعة للعلوم، مانعة من الشك والغفلة وتبدو للذي يتدبر في معانيها أنها أصل للعلوم، لذا ورد قوله تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
وهذا الجزء من التفسير هو القسم الثاني من تفسير قوله تعالى[الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، وتتجلى فيها جملة من العلوم وهي صراط مستقيم نحو السعادة في أفراد الزمان الطولية ومدرسة في الصبر وزجر النفس عن الهوى، وهي أصل في باب التقوى والخشية من الله وتلاوتها إظهار للفقر والفاقة إلى رحمة الله والعمل بمضامينها تسليم بالحاجة إلى عفوه ومغفرته تعالى في الدنيا والآخرة، ومصداق من مصاديق التوكل عليه، وشاهد على حب المسلمين مجتمعين ومتفرقين لله عز وجل .
وفي قوله تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( )، (عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفاً عن المسلمين[فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] فنسخت الآية الأولى)( ).
وعن ابن عباس في قوله تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] لم تنسخ)( ).
ولو دار الأمر بين الجمع بين الآيتين وبين النسخ فإن الأول مقدم على الثاني، ومن الإعجاز في آيات القرآن أنها ملائمة لأحوال الناس في كل الأزمنة والأحوال، فالتخفيف لا يتعارض مع الأصل وما يفيد التكامل في معاني التقوى في القول والعمل بل هو في طوله وإمتداد له.
ومثلما يكون الإنتقال من الأصل إلى التخفيف فكذا يمكن العودة من التخفيف والفرع إلى الأصل القرآني في العمل خصوصاً وأن أحوال الإنسان والجماعة متغيرة في اليوم والليلة سعة وضيقاً، قال تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، وكذا بالنسبة للموضوعات، فجاءت الآيات بالسعة والمندوحة ضمن القواعد الكلية للتكاليف، فالعبادات البدنية والعبادات المالية، والبدنية المالية يجب أن تؤدى إلا ما وردت فيه رخصة ما دامية وليست دائمية، أي أن هذه الرخصة متزلزلة تزول مع زوال السبب.
والآية موضوع هذا الجزء من الشواهد على الجمع بين الآيتين أعلاه وأن المسلم لا يخرج عن درجات ومصاديق التقوى بالعمل بالأصل أو الفرع وأنه لا يغادر التقوى وإن أذنب لأن هذه الآية تجعل منازل التقوى قريبة منه، وتتصف بالضياء الجاذب، والإشراقة التي تستولي على القلوب والأبصار، ليقبل المسلم على سرادق الذكر، ويغتسل في نهر الإستغفار، وكأن الإستغفار مرآة في الدنيا لقوله تعالى[إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ]( ).
إن الإستغفار نعمة من الله عز وجل وهي بلغة للفوز برضاه تعالى، وكما قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( )، فإن الإستغفار من السنن التي يستعين بها المسلم للإرتقاء إلى مراتب العز في الدنيا والآخرة.
لقد تضمنت الآية محل هذا الجزء الإخبار عن فعلين مذمومين من جنس واحد هما فعل الفاحشة وظلم النفس، وجاءت بسلاح الذكر والإستغفار، إذ يأتي على الإثنين معاً فيمحوهما , ويكون هذا السلاح على وجوه :
الأول : إنه آلة مباركة للإرتقاء في سلم التقوى .
الثاني : إنه وسيلة لمغانم كثيرة في الدنيا والآخرة فالإستغفار باب لنزول الرزق الكريم من الله .
ويحتمل هذا الرزق في متعلقه وجوهاً:
الأول: إنه خاص بالمستغفر، قال تعالى[لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى]( ).
الثاني:يشمل الرزق المستغفر وعياله بالتبعية والإلحاق , ويشمل والديه بلحاظ أن الإستغفار عمل صالح ينتفع منه الوالدان.
الثالث:يترشح الرزق على أهل دويرة المستغفر وكأنه من حسن الجوار.
الرابع:ينتفع ذوو القربى من الإستغفار لأنه نوع معروف وصلاح , قال تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ]( ).
الخامس:العموم في الإنتفاع من الإستغفار وإن كان على نحو القضية الشخصية.
والصحيح هو الأخير، وتلك آية في الفضل الإلهي، فيقوم المؤمن بذكر الله , ويستغفره من ذنوبه فتنزل البركات والنعم على الناس، وورد حكاية عن نوح في التنزيل [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا]( ).
وينزل المطر عاماً للناس فيصيب البر والفاجر ومن كرم وفضل الله أن غيث السماء لا يعلق على تنجز الإيمان وصدور الإستغفار من جميع الذين ينزل عليهم المطر.
الثالث: إستجارة المسلمين بالذكر والإستغفار فطنة وحكمة , وشاهد على أنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من جهات:
الأولى: يتناجى المسلمون بطاعة الله والإنفاق في سبيله.
الثانية: يحرص المسلمون على التنزه عن المعاصي.
الثالثة:ينهي الجماعة الفرد منهم ومن غيرهم عن إرتكاب الفاحشة وعن ظلم النفس، يلجأ المسلمون متفرقين ومجتمعين إلى ذكر الله، ويلوذون بالإستغفار وسؤال العفو من الله، ليتقربوا إليه درجة ويبينوا للناس وظائفهم التي أكرمهم بواسطتها وفضلهم على كثير من الخلائق، قال تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
وجاءت آية البحث بترتب البشارة العظمى على الذكر والإستغفار إذ أنهما الطريق إلى الجنة الواسعة، وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فلا تنحصر منافع كل من الذكر والإستغفار بعالم الجزاء والثواب بل تشمل منافعها الحياة الدنيا وعالم البرزخ، وفي التنزيل حكاية عن نبي الله هود[وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى]( ).
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته بلحاظ الآية أعلاه لأمور:
الأول: مبادرة المسلمين للإستغفار.
الثاني: ملازمة الإستغفار للمسلمين، وبقاؤه بهم ولهم إلى يوم القيامة وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: يصاحب الإستغفار المسلمين.
الصغرى: المسلمون الأمة الباقية إلى يوم القيامة.
النتيجة: يصاحب الإستغفار الأمة الباقية إلى يوم القيامة.
وفي هذه المصاحبة مسائل:
الأولى: إنها من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثانية: عدم مفارقة العبادة الأرض ليكون تقدير آية الخلافة(أني جاعل في الأرض خليفة ليعبدون).
الثالثة: بقاء الإسلام سبب لإستدامة الرزق الكريم على الناس، وإنتفاء لعموم المجاعة والفاقة.
الرابعة: تأكيد الواقعي المتجدد لحاجة الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يستلزم دوام الشكر له سبحانه على هذه النعمة وهو من أسرار بشارات الأنبياء برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعائهم له، وورد على لسان إبراهيم وإسماعيل في التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ]( ).
الثالث: يتصف المسلمون بالجمع بين الذكر والإستغفار.
الرابع: تعاهد المسلمين للذكر والإستغفار من منازل التقوى.
ومن منافع الإستغفار في الدنيا ما ورد في الآية أعلاه من سورة هود من المتاع الحسن ومنه سعة الرزق وطيب العيش، والغبطة بالذرية والأبناء ذاتاً وإيماناً، والسلامة من الآفات والأدران , ومحو أسباب الفتنة والبلاء، وقيل[يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا] (وهو الترقي في المقامات من السفليات إلى العلويات إلى حضرة العلى الكبير)( ).
ولكن الآية بشارة بالمحسوس والواقع اليومي إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء يتصارع فيها الصبر مع ما في النفس الإنسانية من أسباب الهوى، فجاءت البشارات القرآنية بالإخبار عن النعم التي تدركها الحواس في اليوم والليلة من الرزق والنماء في المال وصرف البلاء بما يجعل المسلم يتعاهد الذكر ويلجأ إلى الإستغفار[خَوْفًا وَطَمَعًا].
وتتجلى مصاديق المتاع الحسن على المسلمين في الزمن الحاضر بالرزق الكريم وإخراج الأرض كنوزها ليأتي الذكر والإستغفار من مقامات الشكر لله عز وجل إبتداءً وهو أعم وأوسع من باب الشرط وتعليقهما على فعل الفاحشة وظلم النفس.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا سفراً مباركاً تتغشى الإنسان فيه رحمة الله في نفسه وبدنه ورزقه، وتكون آيات التنزيل قريبة منه وإن أعرض عنها فانها تتودد إليه، وتشعره بحواسه المتعددة حاجته لها، ومن مصاديق هذه الحاجة الآية الكريمة محل البحث إذ أنها مفتاح للغبطة في الدنيا والسعادة في الآخرة .
وهذا الجزء هو القسم الثاني من تفسيرها , أقوم بكتابته وتصحيحه ومراجعته بمفردي بفيض ومدد من الله , ويساعدني في التنضيد ولدان لي صغيران ليلاً ونهاراً, فصار بأجزائه صرحاً علمياً لم يشهد له التأريخ مثيلاً , ونسأل الله سبحانه توالي أجزائه قال تعالى[هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] ( ).
حرر في النجف الأشرف
23/جمادي الأولى 1433هــ
14 نيسان 2012
صلة (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم)بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين أموراً :
الأول : الأمر الإلهي بالمبادرة إلى سبل المغفرة .
الثاني : الإخبار عن إحتمال الوقوع في المعصية , وإرتكاب المسلم الذنب .
الثالث : بيان إمكان وكيفية التدارك وعلاج الخطيئة , وإختصاص المسلم بهذا العلاج .
الرابع : بعث السكينة في نفوس المسلمين والمسلمات .
الخامس : منع دبيب اليأس والقنوط إلى نفوس المسلمين , قال تعالى[وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ]( ).
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على عصمة المسلمين والمسلمات من اليأس والقنوط من رحمة الله، وجاءت آية البحث لتكون من الشواهد على هذه الحقيقة إذ يلجأ المسلمون إلى الذكر والإستغفار عند إرتكاب الذنب عرضاً، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَا أُحَدِّثُكُمْ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي أَنَّ عَبْدًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي قَتَلْتُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ بَعْدَ قَتْلِ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَفْسًا قَالَ فَانْتَضَى سَيْفَهُ فَقَتَلَهُ بِهِ فَأَكْمَلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي قَتَلْتُ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ
فَقَالَ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ اخْرُجْ مِنْ الْقَرْيَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ قَرْيَةِ كَذَا وَكَذَا فَاعْبُدْ رَبَّكَ فِيهَا قَالَ فَخَرَجَ إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ فَعَرَضَ لَهُ أَجَلُهُ فِي الطَّرِيقِ قَالَ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ قَالَ فَقَالَ إِبْلِيسُ أَنَا أَوْلَى بِهِ إِنَّهُ لَمْ يَعْصِنِي سَاعَةً قَطُّ قَالَ فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ إِنَّهُ خَرَجَ تَائِبًا)( ).
وورد الحديث مع فارق لفظي في خاتمته من غير إختلاف في موضوعه، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله عز وجل وقالت ملائكة العذاب انه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمى فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين (فالى ايهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة)( ).
ولكن الحديث الأول أعلاه هو الأقوى والأنسب مع سعة رحمة الله، فكان العزم على الخروج للتوبة وإبتداء التلبس بالخروج إلى سبيل الهداية والصلاح أوان قبول التوبة.
ولا تنحصر السكينة بمرتكب المعصية بل تشمل غيره ممن يوده ويحبه وعياله، ويعمل ويعيش معه إذ تتغشى البهجة الصلات والمعاملة بينهم، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بلحاظ ذات السكينة وما يترشح عنها من أسباب الصلاح، ويولي العالم ومؤسساته عناية خاصة بالطب والعلاج النفسي في هذا الزمان.
وجاءت كل من آية البحث والسياق مدرسة متكاملة في هذا الباب وينتسب إليها المسلمون جميعاً متحدين ومتفرقين، وتتجلى السكينة والطمأنينة المترشحة من هاتين الآيتين على عموم المسلمين، ومن اللطف الإلهي في المقام أن كل آية مدرسة مستقلة في هذا الباب قبل أن تصل النوبة إلى الجمع بين الآيتين، وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى سور وآيات مستقلة بمضمونها تفصل بينها علامات خاصة، لينطبق اسم الآية في القرآن على مسمى إعجازي يبهر في كل زمان العقول، ويجذب القلوب إلى الإسلام، ويمنع من العداء له.
الثانية: بيان موضوعية ذكر الله عز وجل عند الإستغفار، فإن قلت إن الإستغفار ذاته ذكر لله عز وجل لأنه يتقوم بالقول(أستغفر الله) والجواب.
لقد أراد الله عز وجل أن يكــون الإســتغفار على وجوه مباركة منها:
الأول: الإستغفار مناسبة لإستحضار ذكر الله سبحانه، وإتخاذه حرزاً لقهر النفس الشهوية.
الثاني: إدراك المسلمين حقيقة وهي أن مغفرة الذنوب بيد الله تعالى لأنه رب العالمين الذي خلق الأكوان.
الثالث: معرفة المسلمين بأن المغفرة شاهد على قدرة الله المطلقة وواسع رحمته.
الثالثة: لقد جعل الله المغفرة رحمة متجددة وقريبة من المسلم، ليس بينه وبينها إلا الإستغفار، وفيه وجوه:
الأول: الإستغفار مدرسة في التوحيد وإقرار بحاجة العبد إلى مرضاة الله عز وجل، وتفضله بمحو الذنوب، وستر العيوب.
الثاني: إنه من مصاديق ذكر وعبادة الله، ومن عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )،لأن الإستغفار طاعة لله عز وجل بدليل كل من آية البحث والسياق وما فيهما من الندب إلى الإستغفار مطلقاً، وعند إرتكاب السيئة.
الثالث: الإستغفار شاهد على التنزه عن الإصرار على الذنوب والمعاصي.
الرابع: الإستغفار مظهر للندم والأسف على إرتكاب الخطيئة.
الخامس: اللجوء إلى الإستغفار تفقه في الدين ومعرفة بأحكام الشريعة.
الرابعة: جاءت آية السياق بالأمر بالمسارعة إلى المغفرة بعد الأمر بطاعة الله ورسوله( )، بينما جاءت آية البحث بالإستغفار عند فعل الفاحشة ليكون هذا الإستغفارطريقاً إلى الخلود في النعيم في الآخرة.
ومن إعجاز القرآن تقدم طاعة الله ورسوله على المسارعة إلى الإستغفار ليأتي من مقامات الإيمان وبقصد القربة إلى الله.
الخامسة: تتضمن الآيتان هداية المسلمين إلى كنز الإستغفار وما فيه من جلب المصالح وقضاء الحاجات، ودفع المفاسد، (وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم”مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرجاً، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً، ورَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ”)( ).
الرابعة: جاءت آيات القرآن بذم الذين كفروا لإرتكابهم الإثم وإصرارهم على أسباب الكفر والضلالة، قال تعالى[وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن المسارعة في الآية أعلاه تتعدى بحرف الجر(في الإثم) بينما ورد حرف إلى في(سارعوا إلى مغفرة)لبيان إنغماس أهل الضلالة والعناد بالحرام وأكل الربا والسحت، وتكون المغفرة غاية يسعى إليها المسلمون مجتمعين ومتفرقين ما دامت الحياة الدنيا.
ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها(دار مسارعة إلى المغفرة) ليكون المسلم في عمل دائم وسعي متصل للوصول إلى الغاية الحميدة وهي الفوز بالمغفرة من الله، فلا يترك السعي والكسب والتحصيل في سبل المغفرة إلا عند مغادرة الدنيا، فإن قيل هل المغفرة كالفلاة التي يلمع فيها السراب، الجواب لا، من وجوه:
الأول: المغفرة وعد من الله عز وجل، وخزائن مدخرة للذين يبادرون إليها، قال تعالى[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
الثاني: الدنيا مزرعة الآخرة، وخير ما يزرع فيها الإستغفار وهل ينحصر أوان حصاده بعالم الآخرة، الجواب لا، بل يشمل الدنيا وعالم القبر.
الثالث: الإستغفار من مصاديق العبادة التي هي علة خلق الناس وبثهم في الأرض، ليكون تقدير الجمع بين آية البحث وقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، هو : أني جاعل في الأرض خليفة ليعبدني الناس بالإستغفار) .
وهو من علم الله عز وجل بلحاظ أن الإستغفار سبيل إلى المغفرة، ولا تبقى موضوعية لإحتجاج الملائكة بإفساد الإنسان في الأرض , وسفكه الدماء لذا لجؤوا إلى الإعتذار بصيغة التسبيح ولاذوا بتعظيم مقام الربوبية.
الخامسة: لفظ المسارعة في المقام من إعجاز القرآن لأنه مركب من وجوه:
الأول: قيام الفرد من المسلمين بالإسراع والتعجيل في الإستغفار.
الثاني: المسارعة نوع مفاعلة بين المسلمين في سعيهم في الخيرات، وكل واحد منهم يبذل الوسع ليصل إلى المغفرة قبل غيره , ليمتاز المسلمون بخصلة حميدة تتغشاهم على نحو العموم المجموعي وهي تسابقهم في الخيرات وسبل المغفرة , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث: تعدد مصاديق المسارعة وكيفيتها من النطق بالإستغفار والتوبة وإتيان الفرائض وعمل الصالحات ، ولما أمرت آية السياق بالمسارعة إلى المغفرة جاءت آية البحث ببيان حاجة المسلم والمسلمة لمصداقين منهما :
الأول: عند وعقب فعل الفاحشة.
الثاني: عند وعقب ظلم النفس.
السادسة: بين قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]، وبين آية البحث عموم وخصوص مطلق، فالمسارعة هي الأعم وهي مطلقة تشمل مبادرة المسلم إلى أداء الفرائض والأعمال الصالحة سواء في الواجب المؤقت الذي له أوان معين كالصلاة اليومية وصيام شهر رمضان، أو الواجب غير المؤقت كما في شطر من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما آية البحث فموضوعها أخص ويتعلق بالمبادرة إلى الإستغفار في حال فعل الفاحشة وإرتكاب المعصية.
وهل يمكن القول أن الآية أعلاه قيدت المسارعة بفعل معين كما (روي عن أنس بن مالك: أنها التكبيرة الأولى)( ).
الجواب لا، لتعلق المسارعة بالغاية وهي المغفرة التي تتعدد الوسائط لها مع تعدد الوظائف العبادية، وخطاب الله عز وجل للعباد في الواجبات والتروك.
صلة[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فإستغفروا لذنوبهم.
الثاني: أعدت للمتقين الذين يعلمون أن الذنوب لا يغفرها إلا الله.
الثالث: أعدت للمتقين الذين لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
الثانية: يبين الجمع بين الآيتين خصالاً للمتقين وهي:
الأول: فعل الفاحشة أمر طارئ على المؤمنين فهو لا يحصل عندهم إلا على نحو عرضي زائل.
الثاني: فزع وإستجارة المؤمن عند فعل الفاحشة أو ظلم النفس إلى ذكر الله عز وجل، وهو عنوان للتسليم بأنه الغفور الرحيم، فيتفضل الله عز وجل بالعفو والتوبة.
الثالث: من التقوى والخشية من الله عدم الإصرار على فعل السيئة، وهو مناسبة لتلقي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقبول والرضا.
الرابع: يعلم المسلمون قبح المعصية، وأنها برزخ دون الجنة، والتلذذ بالنعيم الدائم فيها فيبادرون إلى التوبة والإنابة.
الخامس: تبين الآية رحمة الله عز وجل في أشد وأقسى الأحوال التي يمر بها بعض المسلمين حين تغلب النفس الشهوية على جوارحه، ليشكر المسلمون الله عز وجل على النعم في المقام ومنها :
الأولى : جذب المسلمين بالتنزيل إلى الإستغفار .
الثانية : بعث السكينة في نفوسهم من تبعات الذنوب , للتضاد الواقعي بين الإستغفار والآثام.
الثالثة : هداية المسلمين لمعرفة طريق مبارك إلى الإقامة في الجنة التي[عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ).
وبالإسناد عن سعيد بن جنادة قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اجمعوا من وجد عوداً فليأت، ومن وجد عظماً أو شيئاً فليأت به قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاماً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أترون هذا؟ فكذلك تجتمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا ، فليتق الله رجل لا يذنب صغيرة ولا كبيرة فإنها محصاة عليه)( ).
الثالثة: من خصائص المسلمين المعرفة والعلم , وأنهم يتجنبون المعاصي والذنوب ليس عن إنشغال عنها، ولكن لعلمهم بأضرارها الدنيوية والأخروية، وهذا العلم من بركات نزول القرآن , وورد في التنزيل حكاية عن دعاء إبراهيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
(وأخرج الطبراني بالإسناد عن أبي إمامة قلت: يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال: دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام)( ).
وفي رواية ( قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، فقال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى وبصرى من أرض الشام)( )، وفي الحديث بلحاظ آية البحث وجوه:
الأول: تعدد البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: موضوعية هذه البشارات والآثار المباركة المترتبة عليه، لذا يمكن القول أنها أعم وأوسع من البشارة.
الثالث: تقدم الإخبار السماوي عن صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه مسائل :
الأولى: توارث المليين من أتباع الأنبياء وأهل الكتاب البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: تطلع الأجيال المتعاقبة من الموحدين إلى الطلعة البهية، وإشراقات أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن البشارة هي الإخبار بما يسر السامع والمتلقي، وقيدوا البشارة بأنها الخبر السابق(لكل خبر سواه لأن الثاني لا يسمى بشارة)( ).
ولكن معنى بشارات النبوة أعم وذات معنى إصطلاحي مستقل، ففي كل مرة يأتي الخبر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو بشارة وعلة لإمتلاء النفس بالسعادة، وصيرورة الأمل قريباً .
الثالثة: في مجيء الكتب السابقة بنعت وصفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة على أهل الكتاب قبل وعند وبعد نبوته، وفي خطاب لبني إسرائيل , قال تعالى[وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ]( ).
الرابعة: البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة لتصديق الناس به سواء أهل الكتاب أو غيرهم.
ومن البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما ورد في القرآن إذ جاء حكاية عن لسان عيسى عليه السلام في التنزيل[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( )، وتتعدد مصاديق هذه البشارة من وجوه:
الأول: إنها خاصة بأيام عيسى وحواريه وأنصاره.
الثاني: بشارة النبي عيسى عليه السلام موعظة إلى أهل زمانه وحجة عليهم.
الثالث: إرادة أتباع عيسى والنصارى في الفترة السابقة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: المقصود النصارى وبنو إسرائيل المعاصرون لأيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد ورد في نبوة عيسى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ]( )، وتقدير الجمع بين الآية أعلاه وآية البشارة: أني رسول الله إليكم بالبشارة بنبوة أحمد.
الخامس: إرادة الناس جميعاً أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.
السادس: شمول بشارة عيسى للأجيال اللاحقة بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين وغيرهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهو من الإعجاز الذاتي والغيري لآية البشارة أعلاه، إذ أنها حجة بيد المسلمين إلى يوم القيامة، وسلاح لتثبيت الإيمان في نفوسهم.
الخامسة: البشارة تذكرة ووعد ووعيد، وفيه برهان بأن الله عز وجل يتفضل على الناس بتذكيرهم بلزوم عبادة الله عز وجل.
السادسة:ء في البشارة تهيئة للأذهان، والمجتمعات لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منذ بعثته وإظهاره الدعوة ، قال تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ]( ).
السابعة: من معاني البشارة أنها الخبر الذي يفرح به المتلقي، وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة وفضل من الله , ومن أبهى مصاديق قوله تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا]( ).
الثامنة: التدبر والتحقيق في وجوه الشبه والإلتقاء بين شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشرائع السابقة، وورد عن ورقة بن نوفل( ): هذا الناموس الذي أنزل على موسى)( ).
دعوة للناس للتصديق به، ولزوم عدم الإلتفات لطائفة من أهل الكتاب أصرت على الجحود بنبوته مع أنهم كانوا يتطلعون إلى بعثته، قال تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ]( ).
الرابع: بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين لإختيارهم الإسلام وموافقة حسن عملهم بشارات ودعاء الأنبياء.
الخامس: توثيق السنة النبوية للوقائع والأخبار والوقائع المتعلقة بنبوته السابقة لها.
السادس: الحديث من عمومات قانون السنة بيان للقرآن من جهتين:
الأولى: ما ورد في القرآن من دعاء إبراهيم عليه السلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته , ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ]( ).
الثانية: ذكر عيسى وبشارته بلحاظ أنه آخر أنبياء بني إسرائيل، لتكون بشارته بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طول المعجزات الباهرات التي جاء بها عيسى عليه السلام كما ورد في التنزيل[وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
وفيه آية إعجازية من وجوه :
الأول: التصديق المتبادل بين النبوتين، ويتفق المسلمون والنصارى على نبوة عيسى عليه السلام، الذي جاء بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: إقتران تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة بحكومته وبيانه وأئتمانه على الكتب السماوية , قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ]( )، أي شاهد سماوياً، قال حسان:
إن الكتاب لمهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب.
وورد في حديث الحشر عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك ، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول نعم فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله{وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} قال: عدلاً{لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً})( ).
الثالث: إقامة الحجة على بني إسرائيل في صدق نبوة عيسى وهذا التصديق مقدمة للإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: سلامة القرآن من التحريف بلحاظ بيانه لحقائق التنزيل وحمله للواء النبوة، وشهادته على الأمم، وتأكيده لحقيقة وهي أن تقادم الأحقاب والأجيال لم يخف أو يمح وجوب التصديق بنبوة عيسى عليه السلام وبشارته التي تطل على أهل الأرض كل يوم ما دامت الحياة الدنيا بقوله تعالى[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
وقد ذكر القرآن إسماً آخر للنبي وهو(محمد) مما يدل على تعدد أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم وفيه أن تعدد أسماء النبي جاء في أسمى موضوع وهو الحمد والثناء على الله عز وجل وفيه بلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى: تأكيد إخلاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العبادة لله عز وجل.
الثانية: بيان بركات وجود النبي بين ظهراني المسلمين في صرف البلاء والعذاب عنهم.
الثالثة: بعث المسلمين لإتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العبادات والصالحات، وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي)( )، و(خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم)( )، وفيه حث على العمل بسنته وإقتفاء نهجه.
الرابعة: مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فاز بالمغفرة من الله عز وجل، ومع عصمته من الزلل والذنب صغيراً كان أو كبيراً فإنه لا يفارق الإستغفار في اليوم والليلة، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وأخرج البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال: إن الله أوحى في الزبور: يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي إسمه أحمد ومحمد صادقاً نبياً لا أغضب عليه أبداً ولا يعصيني أبداً، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا لي لكل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم.
يا داود إني فضَّلت محمداً وأمته على الأمم، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافاً مضاعفة، ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك .
وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم.
فإما أن يروه عاجلاً.
وإما أن أصرف عنهم سوءاً.
وإما أن أؤخره لهم في الآخرة.
يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقاً بها فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذب محمداً وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صبب/ت عليه في قبره العذاب صبا, وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار)( ).
وقد ورد لعدد من الأنبياء أكثر من إسم، كما في إسرائيل وإسمه أيضاً يعقوب، وعيسى وإسمه أيضاً المسيح بصيغة الصفة الحميدة كما في قوله تعالى[إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ]( ).
وورد عن مطعم بن عدي أن رسول الله قال(إِنَّ لِي أَسْمَاءً أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يُمْحَى بِيَ الْكُفْرُ وَأَنَا الْعَاقِبُ ,وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ)( ).
السابع: بيان موضوعية رؤيا أم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آمنة بنت وهب، قال ابن إسحاق: رأت أمه صلى الله عليه وسلم في منامها قائلا يقول: إنك حملت بخير البرية وسيد العالمين فإذا ولدتيه فسميه محمدا فإن اسمه في التوراة حامد وفي الانجيل أحمد).
وتأتي الرؤيا أحياناً للبشارة الخاصة والعامة، والرؤيا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسمى معاني البشرى وهي توليدية إذ أن ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بداية إشراقة ثبوت الإيمان في الأرض وخلو التنزيل من التحريف وبعثته صلى الله عليه وآله وسلم بشارة النعيم في الدنيا والآخرة فإذا كان عيسى عليه السلام مبشراً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي ليس من نبي بعده فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالبشارة بالسعادة في النشأتين وأخبر بأنه لا نبي من بعده .
ورد عن سعد بن أبي وقاص: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان ، فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، غير أنه لا نبي بعدي( ).
بالإسناد عن ثوبان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ رَبِّي زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَإِنِّي أُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يَهْلِكُوا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَلَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَقَالَ يُونُسُ لَا يُرَدُّ .
وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَلَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا أَوْ قَالَ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا .
وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ وَإِذَا وُضِعَ فِي أُمَّتِي السَّيْفُ لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ حَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ .
وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ( ).
وفي هذا الإخبار وجوه:
الأول:التحدي والإعجاز بعدم خروج نبي بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يأتي أحد من البشر بمعجزة تدل على أنه نبي.
الثاني:المنع عن الكذب وإدعاء النبوة.
الثالث:بعث السكينة في نفوس المسلمين والناس جميعاً بالإطمئنان لعدم بعثة نبي بعده.
الرابع:توجه المسلمين إلى عباداتهم، وبعث الناس للتدبر في معجزات نبوة محمد.
ومن فلسفة النبوة الملازمة بين رؤيا أم كل نبي وبعثته سواء كان نبياً أو رسولاً، وتلك نعمة وإكرام للأنبياء , وتأكيد للزوم حفظها الأمانة التي خصهن الله عز وجل بها.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إنّي عبد الله في أُمّ الكتاب لخاتم النبييّن وإنّ آدم لمجدل في طينة وسوف أنبئكم بذلك دعوة إبراهيم وبشارة عيسى عليهما السلام قومه، ورؤيا أْمي التي رأت إنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمّهات النبييّن)( ).
وولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عام الفيل، ولما سأل عبد الملك بن مروان عتاب بن أسيد: أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: النبي صلى الله عليه و سلم أكبر مني وأنا أسن منه ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس)( ).
وكثير من أهــل مكـــة أخبروا عن رؤيتهما يتكففان الناس، وفيه نكتة أنه لم يجهز عليهــم أحد أو جماعة فينتقمون منهما، فقد إنتقم منهم الله عز وجل وبقيا في مكة شاهدين على بطش الله بهم، وفيه نوع بشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأكيد يومي متجدد على إمتناع مكة على الطواغيت وهو من عمومات دعاء إبراهيم كما في التنزيل[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا]( )، وكـأن رؤيتهما حث لأهل مكة للتصديق بنبوته، لاسيما وأن رد إبرهة وجيش الحبشة عن مكة من معجزات النبي محمد لإقتران هذا الرد بولادته مع دلالتها على قدسية البيت الحرام، لذا (فمن علل تسمية البيت الحرام[الْبَيْتِ الْعَتِيقِ]( )، (أن الله أعتقه وحرره من نير الجبابرة، كما حصل لإبرهة ملك الحبشة إذ أنه أقام بصنعاء اليمن كنيسة ضخمة ليحج إليها العرب، ولكنه عجز عن صرفهم عن الكعبة، فسار إليها بجيش عظيم لهدمها فلحقته الهزيمة والعار والخزي كما في سورة الفيل، وكان عبرة وموعظة.
ومن الإعجاز والآيات لا الصدفة والإتفاق أن ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت في عام الفيل، ليتجدد في كل عام حفظ البيت بأداء المسلمين للحج وطردهم للشياطين من القلوب والثغور)( ).
ولمصاحبة الإفتتان للإنسان ومداهمة النفس الشهوية والغضبية لجوارحه وتصارع قوى الخير والشر في ميادين القتال والإستيلاء على مقاليد الحكم والتأثير على الناس في أمورهم العامة جاء الأمر الإلهي بأداء العمرة طيلة أيام السنة، قال تعالى[فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]( ).
لتتصل البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآخر الأنبياء الذين سبقوه وهو عيسى، وتستمر في الفترة بينهما ويتوارثها الرهبان، وتدخرها الكتب والصحف، إلى حين البعثة المباركة التي إقترنت بالبراهين والدلالات الباهرات على صدق نبوته ولزوم إتباعه.
وهل البشارات بالنبي محمد من عمومات قوله تعالى[وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ]( )، الجواب نعم، لشمول قوله تعالى[لِمَا مَعَهُمْ]للكتب المنزلة وتركة النبوة المتوارثة ومنها البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحاجة أهل الأرض لبعثته.
الرابعة: بيان قانون كلي وهو أن فعل الفاحشة لا يحجب المسلم عن دخول الجنة بشرط المبادرة إلى الإستغفار، وإستحضار ذكر الله، ويتجلى هذا الإستحضار بأداء الفرائض والعبادات.
وهل هذا القانون خاص بالمسلمين، الجواب إنه أعم، وهو شامل للمؤمنين في الأجيال والأمم السالفة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعم خفّف الله عن المسلمين بكفاية قول أستغفر الله كطريق مبارك إلى الجنة.
وفي حديث ابن مسعود قال:كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم أغفر لي أنك أنت التواب الرحيم).
الخامسة: من خصال الإنسان السعي للغايات الحميدة والمنافع الجزيلة، والتدبر في السبل إليها، وجاءت آية السياق بأعظم غاية للناس جميعاً وخير الدنيا والآخرة، وهي الإقامة الدائمة في النعيم، وجاءت آية البحث بلطف ورحمة من عند الله بأن الذنب والمعصية ليست برزخاً دون دخول الجنة وهذه الإقامة للذين يسعون إليها في أيام حياتهم في الدنيا بأداء العبادات وفعل الصالحات إذا ما لجأوا إلى ذكر الله والإستغفار عند فعل المعصية والإعتراف بها، ليكون هذا الإستغفار سبيلاً مباركاً إلى الجنة، وعلاجاً شافياً للنفس من الأدران المترتبة على فعل تزول لذته بإنقضائه وتدوم تبعاته ويطول حسابه لولا تفضل الله بالبعث إلى الإستغفار والتذكير بذكر الله، والإخبار بأن الإستغفار ماحي للندبة السوداء والعائق الذي يحول دون السعي إلى الجنة.
السادسة: من عمومات قوله تعالى في آية البحث(ذكروا الله) عند إرتكاب المعصية بين ثنايا العمل الصالح والمسارعة إلى الجنة إستحضار الغاية الأخروية الحميدة، والنية الصادقة لبلوغ النعيم الدائم الذي أعدّه الله للمتقين، وأن الله عز وجل يغفر للمؤمنين الذنوب العظام عند قيامهم بالإستغفار .
وجاءت آية السياق لجعل الجنة ونعيمها حاضرة في الوجود الذهني عند المسلمين على نحو الدوام، وعند إرتكاب الفاحشة ليكون حضورها هذا تذكيراً بالله عز وجل وسعة رحمته، قال تعالى[غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ]( ).
السابعة: لما ذكرت آية السياق إعداد الجنة للمتقين جاءت آية البحث لبيان صفات المتقين , وفيه وجوه:
الأول: بعث السكينة في نفوس المسلمين.
الثاني: منع الجهالة والغرر عن المسلمين.
الثالث: إقامة الحجة على الناس جميعاً، فلا يأتي بعضهم يوم القيامة ويقول أنه لا يعلم بشرائط دخول الجنة، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الرابع: دعوة الناس لدخول الإسلام، وإحراز مرتبة التقوى، والإرتقاء في منازلها.
الخامس: تأكيد حقيقة وهي لغة البيان في القرآن , ووضوح الأحكام فيه.
السادس: بيان موضوعية الإستغفار كسلاح للتدارك، وبلغة لدخول الجنة.
السابع: عدم تسرب الحزن والحسرة إلى نفس المسلم إذا إرتكب ذنباً إذ تبقى آية السياق تدعوه إلى الجنة، وآية البحث تحثه على الإستغفار والإنابة.
الثامن: إرتقاء المسلمين إلى مرتبة عدم الإصرار على الذنب وإدراكهم للحاجة إلى التنزه عن صغائر وكبائر الذنوب بالإستغفار منها، والعزم على عدم الرجوع إليها.
التاسع: بيان التنافي والتضاد بين إصلاح الذات لدخول الجنة, والإقامة على فعل المعاصي لإفادة الآيتين إعداد الجنة للذين يبادرون إلى الإستغفار عند فعل الفاحشة أو إرتكاب الذنب.
العاشر: دعوة المسلم للعناية بنفسه وإكرامها بعدم ظلمها، ومنعها من الإنغماس في الرذيلة التي تكون برزخاً بينها وبين الدخول إلى الجنة.
الحادي عشر: بيان فضل الله عز وجل باللجوء إلى الإستغفار عند حدوث هذا الظلم والأذى للنفس.
الثامنة: تبين الآيــتان إنحصــار إعــداد الجنة وغفــران الذنــوب بالله عز وجل فهو سبحانه الذي خلق الجنة والنار، وجعل الأولى داراً للثواب، والثانية منزلاً للعقاب الأليم .
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يجاء بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ثم يذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود لا موت)( ).
التاسعة: دعوة المسلمين للإستعداد لشكر الله عز وجل للإقامة في النعيم الدائم بالإستغفار والتوبة والإنابة ونحوها من صيغ الهداية، وقد ورد في القرآن عن أهل الجنة ثناؤهم[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا]( )، وفيه وجوه :
الأول الإغتباط تسليماً بصدق الوعد الإلهي،
الإقرار بأن بلوغ مراتب النعيم الأخروي تم بفضل الله على المؤمنين.
العاشرة: تبعث آية السياق المسلمين على العمل بأحكام وسنن آية البحث، وتدعوهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه في المقام الدعوة إلى الصلاح وتعاهد الفرائض والعبادات، والزجر عن فعل الفاحشة وظلم النفس، مع بيان وسلاح لهم في المقام.
وهل تنسلخ صفة التقوى عن المسلم عند فعل الفاحشة وتعود له بالإستغفار، أم أن فعل الفاحشة الذي يتعقبه الإستغفار لا يسلخ عنه صفة وصبغة التقوى .
الجواب هو الثاني، وهو الذي تدل عليه آية البحث لمجيئها في بيان صفات المتقين، ومن الإعجاز فيها أنها لم تقل(والذين يستغفرون لذنوبهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) بل قدمت الآية فعل الفاحشة وأعقبتها بالإستغفار.
وفي الخبر أنه قيل يا رسول الله: أَيَسْرِقُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ قِيلَ: أَيَزْنِي الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قِيلَ: أَيَكْذِبُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: لَا} وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ{ إنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}).
الحادية عشرة: يقسم الكلام إلى أقسام:
الأول: وضع بالأصل لشيء مخصوص، وجرى التفاهم عليه بلغة الخطاب، ويسمى أيضاً الأصل.
الثاني: المجاز وهو إستعارة اللفظ المستعمل في الحقيقة ليكون إسماً ومعنى لشيء لم يوضع له بالأصل لوجود قرينة أو وجه للشبه بين المعنى والشيء الذي وضع له والشيء المستعار له اللفظ، مفعل من جاز يجوز لتعديه.
والمجاز شائع وهو أكثر من الحقيقة في البيان ولغة الخطاب بين الناس، وإطلاق المجاز على ذات اللفظ نوع مجاز أيضاً للإتحاد اللفظي والتطابق بين اللفظ في الحقيقة والمجاز.
الثالث: العنوان الجامع للحقيقة والمجاز، وهذا النوع هو قسيم ثالث أضفناه للتقسيم الإستقرائي الشائع للحقيقة والمجاز، ومنه قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] فهذه المسارعة من الحقيقة بالمبادرة إلى جهاد أداء الفرائض بأوقاتها والإنفاق في سبيل الله ومضامين آية البحث والآية السابقة نور يهتدي بخيوط ضيائه المسلمون .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: وإذا إستنفرتم فانفروا)( ).
وتفيد المسارعة في الآية أعلاه معنى المجاز لإرادة المنافسة والتسابق في الصالحات، والمبادرة إلى فعل الخير , وكأنه من ذكر اللازم وإرادة الملزوم, قال تعالى[أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ]( ).
ولا يدل هذا المعنى الجامع على التعارض بين الحقيقة والمجاز بل يكون المجاز في طول الحقيقة ويصير اللفظ مستعملاً في معاني متعددة تربطها بالمعنى الحقيقي وجوه للشبه.
الثانية عشرة: تبين آية السياق سعة الجنة بما يفوق التصور الذهني، ويجعل الإنسان عاجزاً عن حساب أطوال الجنة لأنها من اللامتناهي بفضل الله، ومعه يتضح قبح الرذيلة ودناءة فعل المعصية، إذ أنها شهوة في محرم لا تلبث أن تزول بسرعة.
وفي الجمع بين الآيتين زجر للنفس الإنسانية عن فعل السيئة لأنها تكون في سياحة في عالم الملكوت تتنزه معها عن القبائح.
الثالثة عشرة: بيان المائز بين المسلمين وغيرهم والذي يتقوم بأمرين:
الأول: أصالة تنزه المسلمين عن إرتكاب المعصية.
الثاني: مبادرة المسلمين إلى ذكر الله والإستغفار عند طرو غلبة النفس الشهوية وحدوث المعصية عرضاً، وفيه شاهد على فضل الله عز وجل على المسلمين، وأنه تعالى يهديهم إلى سبل الجنة، ويمحو عنهم الذنوب والآثام.
الثالث: صلة قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، بهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الإنشائية، ولغة الأمر للمسلمين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي الشامل لهم جميعاً كأمة وأفراد فلابد من طاعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في أمورهم العامة والخاصة، ومنها العبادات والتقيد بأحكامها وسننها وأوقاتها.
لتجتمع فيها طاعة الله والرسول بأداء المسلمين العام لمناسكهم، وكذا تتجلى مصاديق الطاعة العامة بأداء الصلاة جماعة، والخاصة بأداء الصلاة فرادى مع البيان في الشريعة على أفضلية الجماعة والندب إليها، وإتصافها بخصائص عديدة تكون عوناً للمسلم في تعاهده لمرتبة التقوى، وسعيه إلى الجنة الواسعة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده خمسة وعشرين جزءً)( ).
وفي رواية هم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)( ).
الثانية: تقدم الأمر بطاعة الله والرسول على المسارعة إلى الإستغفار أمارة على لزوم صدور الإستغفار من منازل الإيمان , فلا يقبل الإستغفار من الكافر، ولا يصح السعي منه إلى الجنة وإن جاء بأعمال البر كالصدقة والإحسان، وفي التنزيل[إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ]( ).
إن طاعة الله والرسول هي الأصل الذي تتقوم به الأعمال، ويأتي من مقامات الإستغفار والسعي إلى الجنان.
الثالثة: طاعة الله والرسول في النهي عن فعل الفاحشة، إذ أن الأوامر والنواهي الإلهية حرز من ظلم النفس والتعدي على الغير فليس في أحكام الشريعة الإسلامية إلا الخير المحض وأسباب الصلاح، لذا جاءت آية البحث على نحو الجملة الشرطية والتعليق في فعل الفاحشة , وبعد الإخبار عن السجايا الحميدة للمسلمين من الإنفاق في حال السعة والشدة، وحبس الغيظ والعفو عن الناس، والتحلي بمحاسن الأخلاق والتي هي من طاعة الله والرسول، ليجتمع الأمر بطاعة الله والرسول ونية وعزم المسلم على هذه طاعة المباركة , والإمتثال الفعلي ومصاديق الطاعة في العبادات المعاملات لتكون حاجزاً دون إرتكابه السيئة، وهو من عمومات خاتمة آية السياق (لعلكم ترحمون).
الرابعة: تتجلى طاعة الله بلحاظ آية البحث بأمور:
الأول: ذكر الله والإستغفار عند فعل الفاحشة أو ظلم النفس والتعدي.
الثاني: الإقرار بالحاجة إلى مغفرة الذنوب ومحوها.
الثالث: التسليم بإنحصار مغفرة الذنوب بالله عز وجل.
الرابع: الإقلاع عن الذنوب والإبتعاد عن مستنقع المعاصي وعدم الإصرار على الذنب عند وبعد إرتكابه.
الخامس: التفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام, قال تعالى[وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ]( ).
الخامسة: بينما إقترنت طاعة الرسول بطاعة الله في آية السياق، فإن آية البحث تضمنت ذكر الله عز وجل , وأخبرت بأن الذنوب لا يغفرها إلا الله عز وجل.
وفي الجمع بين الآيتين دلالة على أن طاعة الرسول ليست منفردة ومستقلة بل هي فرع طاعة الله لأن السنة النبوية فرع الوحي قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وتتجلى طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ آية البحث من وجوه:
الأول: قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار فهو الأسوة والإمام المقتدى في باب الإستغفار والتضرع إلى الله.
الثاني: أمر النبي للمسلمين بالإستغفار والمبادرة إليه، وهذا الأمر على شعب:
الأولى: قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار مطلقاً من غير سبب خاص يتعلق بذنب ومعصية تستلزمه .
وعن الأغر أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يا أيها الناس توبوا إلى الله جميعاً فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة)( ).
وفي الحديث دلالة على أن إستغفار النبي ليس من مختصاته، بل هو دعوة للمسلمين بالإستغفار على نحو الإطلاق والتعدد.
الثانية: ندب النبي المسلمين إلى الإستغفار عند إرتكاب ذنب أو فعل معصية.
الثالثة: دعوة النبي محمد المسلمين للإستغفار للمؤمن الذي يرتكب الفاحشة أو الذي يموت أو يقام عليه الحد، وذكر أن ماعزاً لما أصاب من الفاحشة أتي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وقال طهرني، فرجمه، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أستغفر لماعز بن مالك).
الرابعة: إتخاذ الإستغفار واقية من الإقامة على المعصية والإصرار على الخطيئة، وسلاح من الظلم وإرتكاب الجناية، وأراد شخص إسمه فضالة ابن عمير بن الملوح قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يطوف بالبيت الحرام عام الفتح فدنا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإلتفت إليه النبي قائلاً: أفضالة؟ قال: نعم: نعم فضالة يا رسول الله , قال: ” ماذا كنت تحدث به نفسك ؟ قال: لا شئ، كنت أذكر الله.
قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ” إستغفر الله ” ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شئ أحب إلى منه.
قال فضالة: فرجعت إلى أهلى فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت: هلم إلى الحديث ؟ فقال: لا، وانبعث فضالة يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والاسلام
لو ما رأيت محمدا وقبيله * بالفتح يوم تكسر الاصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا * والشرك يغشى وجهه الاظلام) ( ).
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين صلاح المسلمين للتدارك والإستغفار إذا ما إرتكبوا فاحشة، من جهات:
الأولى: مصاحبة الندم لفعل السيئة.
الثانية: إرتكاب المعصية مناف ومخالف لسنن الإيمان، وملكة التقوى التي يتصف بها المسلمون.
الثالثة: موضوعية وسلطان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المسلمين.
الرابعة: تعاهد المسلمين للفرائض والواجبات العبادية واقية من فعل السيئات فلذا جاءت آية البحث بصيغة الشرط:[ الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً] فبلحاظ آية السياق وأن المسلمين مقيمون على طاعة الله ورسوله تتجلى معاني الشرط في المقام بأن المسلمين لم يفعلوا الفاحشة إلا على نحو القضية الشخصية والفعل النادر، فلذا يبادرون إلى سلاح الإستغفار الذي يتصف بأمور :
الأول: مع ندرة صدور المعصية وأن الأصل عدم العبرة بالقليل النادر فإن الله عز وجل هدى المسلمين إلى الإستغفار، مما يدل على دقة الحساب يوم القيامة، قال تعالى[وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
الثاني: لقد جعل الله عز وجل محو الذنوب قريباً منهم فمع أن إرتكاب الفاحشة خلاف التقوى وأدنى مراتب الإيمان، فإن الآية الكريمة تهدي المسلم إلى تعاهد الإيمان وأسباب الصلاح بالإستغفار.
الثالث: الذكر والإستغفار علاج تام وشاف من درن المعصية وآثارها، ومن تلك الآثار العودة إلى ذات المعصية والإنغماس في الرذيلة.
الرابع: تدل آية البحث على أن الله عز وجل يحب من المسلم لجوءه للإستغفار , وفيه دلالة على أن الإستغفار مغنم وطريق للفوز بحب الله عز وجل.
السادسة:تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول:إذكروا الله لعلكم ترحمون.
الثاني: إذا فعلتم فاحشة أو ظلمتم أنفسكم إذكروا الله فاستغفروا لذنوبكم لعلكم ترحمون.
الثالث: لا تصروا على ما تفعلون لعلكم ترحمون.
من الإعجاز في آية البحث أنها لم تقل(ولم يصروا على ما أذنبوا) بل جاءت بصيغة الإطلاق في جنس الفعل، ولكنه يدل على إرادة المعصية لوجوه:
الأول: مجيء الآية في موضوع فعل الفاحشة بقوله تعالى(إذا فعلوا فاحشة).
الثاني: تأكيد الجملة الشرطية في فعل المسلم للفاحشة الذي ورد بقوله تعالى(إذ فعلوا فاحشة) والذي يدل على طرو فعل المعصية عليه، وأن الأصل هو تعاهده لمنازل التقوى.
الثالث: التباين بين العلم الذي أختتمت به الآية، وبين الإصرار على الفعل، مما يدل على أن هذا الفعل مناف ومباين للعلم.
السابعة:جاءت آية السياق بصيغة الخطاب والترجي , أما آية البحث فجاءت بصيغة الجملة الخبرية.
وبين الآيتين في الموضوع عموم وخصوص مطلق، فتضمنت آية البحث وصف المتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة، وتجلى العموم الذي يدل عليه التنزيل حكاية عن ولدي آدم[قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] ( )، ليكون قبول القربان شهادة سماوية على بلوغ مرتبة التقوى، وبشارة دخول الجنة بقيد تعاهد هذه المرتبة التي هي أسنى المراتب.
وآية السياق خطاب للمسلمين والمسلمات بلحاظ ذكر الرسول بقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ]( ) والمراد من اللام في الرسول هو العهد , وأن المراد هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لتكون الآيتان مجتمعتين ومتفرقتين خطاباً للمسلمين، وبياناً لحالهم بما يتضمن التشريف والإكرام والإعانة على بلوغ مراتب النجاة في الآخرة.
وجاء القرآن بالتحذير والنهي عن فعل الفاحشة وظلم النفس, وبالحث على التدارك بالإستغفار والإنابة إلى الله وكذا السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية.
لقد جاءت الآية ضمن خطاب عام للذين آمنوا بالله وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدليل مجيئها في سياق الخطاب العام للمسلمين والعطف على قوله تعالىيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
ليفيد الجمع بين الآيتين تجلي قواعد إيمانية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي:
الأولى: المسلمون حملة لواء التقوى وهم الذين يحفظون سننها، ويتقيدون بآدابها.
الثانية:عدم مغادرة التقوى للأرض , إذ أن أحكام الشريعة الإسلامية باقية إلى يوم القيامة بعمل المسلمين لها، ودفعهم أسباب التحريف والتغيير عنها.
الثالثة:المسلمون ورثة الأنبياء والصالحين.
الرابعة: بالتقوى تنزل الرحمة الإلهية على المتقين بالأصالة , وغيرهم بالتبعية والإلحاق.
الخامسة: حسن عاقبة ومنقلب المتقين، قال تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ]( ).
الثامنة: تتجلى في الصلة بين قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] وهذه الآية بلحاظ تعقب الرحمة الإلهية لطاعة الله والرسول وجوه:
الأول: بيان قانون كلي في الفضل الإلهي على المسلمين , وهو إمكان التدارك عند إرتكاب الفاحشة.
الثاني : الهداية إلى صيغ تدارك الذنب وإصلاح الذات عند فعل الفاحشة.
الثالث: عدم ترتب الأثر والضرر على فعل الفاحشة من قبل المطيع لله ورسوله إذا تعقب فعله لها بذكر الله والإستغفار.
الرابع:من رحمة الله في المقام الإرشاد إلى ذكر الله والمبادرة إلى الإستغفار عند فعل الفاحشة أو إرتكاب الذنب.
وفيه دليل على عظيم منزلة الإنسان عند الله عز وجل، وإصلاحه لتعاهد مراتب التقوى التي تدوم بها الحياة الإنسانية على الأرض.
الخامس:هداية المسلمين والمسلمات إلى عدم الإصرار على الذنب وفعل المعصية.
السادس:إرتقاء المسلمين لمرتبة اليقين بأن الله يغفر الذنوب ولا يقدر على غفرانها إلا هو سبحانه، وهو من الدلائل على حاجة الناس جميعاً لرحمة الله عز وجل، وليس من قاض لهذه الحاجات إلا هو سبحانه، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ).
السابع: دعوة المسلم للإستغفار لنفسه ولغيره من المسلمين الموجود منهم والمعدوم رجاء رحمة الله، وعن عائشة قالت: كُلَّمَا كَانَتْ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم َخْرجَ فِى آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُولُ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا وَإِيَّاكُمْ مُتَوَاعِدُونَ غَدًا أَوْ مُوَاكِلُونَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ اللَّهُمَّ إغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ)( ).
التاسعة: تتجلى الرحمة الإلهية في آية البحث من وجوه:
الأول: نعت المسلمين بالمتقين لطاعتهم الله ورسوله.
الثاني: فعل الفاحشة لا يغير عنوان وموضوع تقوى الله لأن الإستغفار متعقب له.
الثالث: تفقه المســلمين في الدين بمعرفتهم بموضوعية وأثر ذكــر الله عز وجل الذي يمحو ويستر السـيئات، وجاءت آية البــحث للإخبار بأن واســطة ووسيلة هذا المحو هو ذكر الله تعالى وفيه رحمة بالناس لخلو الذكر من المشقة والكلفة بل أنه سبب للطمأنينة، ليكون حجة مركبة على الناس في لزوم اللجوء إليه تعالى.
الرابع: لم يعلم المسلمون والناس جميعاَ أن الإستغفار يأتي على فعل الفاحشة وظلم النفس فيسترها ويعدمها إلى أن جاء التنزيل بهذه البشارة، وفيه مسائل:
الأولى: ترغيب الناس جميعاً بالإستغفار.
الثانية: الإيمان طريق الفوز برحمة الله في الدنيا والآخرة.
الثالثة: وجوب التصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتقيد بأحكام الحلال والحرام التي جاء بها القرآن خصوصاً وأن الفواحش وظلم النفس لا يُعرفان إلا من القرآن وبالقرآن وهو من عمومات رحمة الله عز وجل بالمسلمين في المقام بالرجوع إلى القرآن والصدور عنه، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الخامس:من رحمة الله بالمسلمين وقايتهم وحجبهم ودفعهم عن فعل الفاحشة، وصرفها ومقدماتها عنهم، قال تعالى في يوسف عليه السلام وما تعرض له من الإفتتان والإمتحان[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ).
السادس:من رحمة الله بالمسلمين في المقام تلقيهم قانون(عدم الإصرار على المعصية) , ويتجلى هذا التلقي بآية البحث من وجوه:
الأول: تأديب المسلمين على التوبة والإنابة.
الثاني: نفرة النفوس من المعصية وأضرارها إذ أنها تحجب الفضل الإلهي.
الثالث: تفقه المسلمين في الدين بمعرفة القبح الذاتي والغيري للإصرار على الذنب , وقيامهم بالتناجي والتعاضد للتنزه من الإصرار على المعصية.
الرابع: جذب المسلمين إلى منازل العصمة من الإصرار على الخطيئة وأسباب العناد.
فمن الإعجاز الغيري للقرآن إصلاح المسلمين للتوبة والإنابة , والإقلاع عن المعصية بتلاوة آية البحث، وإدراكهم معها لحقيقة وهي أن الإصرار على الذنب ظلم للنفس.
وإذ جاءت الآية بالبعث على ذكر الله والإستغفار عند ظلم النفس فإنها واقية من ظلم النفس، وتلك آية في بديع صنع الإنسان، ومفاهيم الخلافة في الأرض ومن عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ).
من إعجاز القرآن تقدم طاعة الله والرسول على الإستغفار , وفيه مسائل:
الأولى: بيان قاعدة تقديم الأهم على المهم في باب العبادة والطاعة، وأن الأهم هو وجوب طاعة الله والرسول وإتيان الواجبات.
الثانية: من الواجبات ومصاديق طاعة الله المسارعة والتسابق لأسباب المغفرة لورود قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، بصيغة الأمر التي تدل على الوجوب ولزوم عدم الترك.
الثالثة: في الجمع بين الآيتين دليل على دخول المسلمين الجنة بطاعتهم لله فهو سبحانه الذي يهديهم إلى سبل التقوى والخشية منه تعالى.
الرابعة: يدل تقديم طاعة الله على الإستغفار على أمور:
الأول: التفقه في الدين، ومعرفة وجوه الطاعة وأسباب المعصية.
الثاني: الإحتراز من السيئات والمعاصي.
الثالث: اللجوء إلى الندم والإنابة حال إرتكاب المعصية.
الرابع: صدور الإستغفار من مقامات الإيمان.
الخامس: طاعة الله ذخيرة للمسلم عند فعل المعصية، وسبب لإمهاله وتذكيره باللجوء إلى سبيل الإستغفار.
الخامسة: أولوية طاعة الله والرسول , وأداء التكاليف والتقيد بأحكام الشريعة فهي بذاتها أداء لواجب , وذكر لله عز وجل , وإستغفار عملي.
وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن) ( ).
وهل إجتناب ما نهى الله عنه من ذكره تعالى , الجواب نعم، لما في الإمتناع عن الفواحش من الخشية من الله، وإستحضار ذكره، وهذه الخشية من مصاديق التقوى التي هي شرط يتقوم به دخول الجنة.
(وقال محمد بن إسحاق: هذه الآية من قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله} هي ابتداءُ المعاتبةِ فِي أمر أُحُدٍ، وانهزام مَنْ فَرَّ، وزوالِ الرماةِ عن مَرَكزهم)( ).
ولا دليل عليه , ومن معاني ومفاهيم الآية أمور:
الأول: الآية ثناء على المسلمين.
الثاني: في الآية إصلاح للمسلمين في سبل طاعة الله.
الثالث: هذه الآيات تأديب وإرشاد وبلغة للخلود في النعيم الدائم.
الرابع: في الآية إكرام وثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإقتران طاعته بطاعة الله.
الخامس: مدح المسلمين لتلقيهم لهذا الأمر بالقبول وحسن الإمتثال وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ويحتمل إقتران طاعة الرسول بطاعة الله وجوهاً:
الأول: إنه من التشديد على المسلمين، وزيادة التكاليف عليهم.
الثاني: فيه رحمة وبيان وتخفيف عن المسلمين.
الثالث: الموضوع أجنبي عن التشديد أو التخفيف لأن أمر الرسول من أمر الله عز وجل.
والصحيح هو الثاني، فمما تفضل به الله عز وجل على المسلمين أن جعل طاعة الرسول مقرونة بطاعته تعالى، وهو من مصاديق وقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
صلة(لعلكم ترحمون) بهذه الآية
يولد الإصرار على المعصية حسرة وأسى في النفس لأنه مخالفة مركبة لفطرة الإنسان , ويتجلى التركيب والتعدد في هذه المخالفة من جهتين:
الأولى: فعل المعصية.
الثانية: الإصرار على فعل المعصية، فجاءت الآية لنجاة المسلم من الحسرة , وبما يترتب عليه النفع الخاص والعام من وجوه:
الأول: سلامة المسلم من الأمراض النفسية التي تترشح عن الإصرار على الذنب.
الثاني: توجه المسلم لحاجاته الدنيوية بصفاء.
الثالث: إلتفات المسلم لأداء وظائفه العبادية بنقاء سريرة، وإمتناع عن الإنشغال بالهم والحزن الذي يخلفه فعل المعصية, وذكر ابن أبي الدنيا: أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة، وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة، فلم ير ذلك الرجل شيئًا مما كان يرى لغيره، فشكى ذلك إلى أمه، فقالت له: يا بني، فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه، فقال: لا والله ما أعلم، قالت: فلعلك هممت؟ قال: لا ولا هممت قالت: فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر؟ فقال: نعم، كثيرًا قالت: فمن هاهنا أتيت)( )، وقد خفف الله عز وجل عن المسلمين بان رزقهم الإستغفار، ووعدهم عليه الإقامة الدائمة في جنة ليس لها حد ولا لنعيمها منتهى.
فإن قلت من الناس من يرتكب المعصية ويصر عليها من غير أن تكون عنده حسرة وأسى، والجواب من وجوه:
الأول: لا دليل على هذا القول، إذ أن الحسرة كيفية نفسانية، نعم إنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً، وكثرة وقلة، فقد تكون عند إنسان أقل منها عند آخر.
الثاني: يمتاز المسلمون بمعرفة سوء عاقبة المعاصي بالذات.
الثالث: من خصائص المسلمين معرفة سبيل التوبة وإنعدام الحواجز بينهم وبينها.
الرابع: مجيء آية البحث بلزوم إجتناب الإصرار على الذنب والمعصية، وفيه تأديب للمسلمين وإرشاد إلى سبل الصلاح، ويتلو المسلمون هذه الآية بكرة وعشية وهي تقول لهم إجتنبوا الإقامة على المعاصي، ولا تحبسوا أنفسكم عليها.
وليس من أمة يأتيها التأديب من السماء كل يوم وعلى نحو بيّن وواضح كالمسلمين، وتؤيده الوقائع الخارجية بكرامة الذي يتقيد بأحكام وسنن هذا التأديب , ويتجلى هذا التأديب بأمور:
الأول:أداء الصلاة , وليس من حصر لأفراد ودروس التأديب في الصلاة ومنها :
الأول: أداء الصلاة إمتثال لأمر الله عز وجل، وصرف وجود الإمتثال مدرسة في الإصلاح، وحمل النفس على الإستجابة للأوامر والنواهي الإلهية.
الثاني: محاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته , لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي)( ) .
وفيه بيان وإرشاد للمسلمين للعمل بسنته في باب الواجبات والمستحبات والمباحاة.
الثالث:بأداء الصلاة تنمية لملكة الإيمان في النفوس , وهي طريق لقبول الصالحات، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الدين خمس لا يقبل الله منه شيئا دون شيء :
شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والحياة بعد الموت ، هذه واحدة ، وصلاة الخمس عمود الدين ، لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة .
والزكاة مطهرة من الذنوب ، لا يقبل الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة ، فمن فعل هؤلاء .
ثم جاء رمضان فترك صيامه متعمدا لم يقبل الله منه الإيمان ، ولا الصلاة ولا الزكاة إلا بالصيام , فمن فعل هؤلاء الأربع .
ثم تيسر له الحج فلم يحج أو يحج عنه بعض أهله أو يوصي بحجه , لم يقبل الله منه الإيمان ولا الصلاة ولا الزكاة ولا الصيام إلا بالحج ، لأن الحج فريضة من فرائض الله ، ولن يقبل الله شيئا من الفرائض بعضا دون بعض ( ).
الرابع:إقامة الصلاة مقدمة ومناسبة لإتيان الواجبات العبادية الأخرى قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، وإستقبال البيت الحرام في الصلاة كل يوم باعث للشوق في النفس لأداء فريضة الحج.
الخامس:التبصر والتدبر وإكتساب المعارف، والإهتداء إلى سنن الصلاح , وعن ابن عباس قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر ، فإذا رأى أحسن منه أخذه وألقى الآخر فأنزل اللهأَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ.
وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، إذ تأتيهم الآية بالأمر والزجر المقرون بالثناء والمدح لهم كما يتجلى بهذه الآية الكريمة.
السادسة : من معاني التأديب والإصلاح في الآية الكريمة أنها علاج وشفاء من الأدران التي يخلفها فعل المعصية , من وجوه :
الأول:ندب الآية لذكر الله، وما يبعثه من السكينة في النفس، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثاني:إدراك المسلمين لحقيقة وهي موضوعية العزم والعقد على الفعل بالقلب لمجئ الآية بالتحذير والإنذار على الإصرار على المعاصي، والإصرار كيفية نفسانية تتمثل بالبقاء على الفعل،وعدم الإعتراف بما فيه من القبح الذاتي، وما له من الأضرار على الذات والغير.
الثالث:الإستغفار هروب من الفزع والحزن والأمراض التي تتعقب فعل المعصية.
الرابع:الإخبار عن إحتمال قيام المؤمن بفعل الفاحشة وظلمه لنفسه, مع أنهما أمران منافيان لمعاني الإيمان والتقوى، ولكن قد تغلب عنده النفس الشهوية والغضبية، فيعيش بعدها بحال من الأسى والحزن ويظن أنه فارق منازل الإيمان، وأن برزخاً صار بينه وبين دخول الجنة .
فجاءت هذه الآية رحمة بالمؤمنين جميعاً، سواء الذين إرتكبوا المعصية منهم، أم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أم غيرهم من عموم الذين إختاروا مقامات الإيمان.
فتمنع الآية الكريمة الأسى والحزن من الدنو للمسلم وإن إقتربا منه فان الآية الكريمة تأمره باللجوء إلى الإستغفار،وأنه العلاج الوافي، والضياء الذي يشع على القلوب المنكسرة فينفي عنها الندبة السوداء التي تتعقب طوعاً وإنطباقاً وقهراً فعل المعصية.
الخامس:إكرام المسلمين بالثناء عليهم، ووصفهم بالعلم والمعرفة لإختتام الآية بقوله تعالى[وَهُمْ يَعْلَمُونَ] وهذا الوصف حقيقة وليس مجازاً، ولا يقول الله عز وجل إلا الحق والصدق، فالثناء من الله عز وجل أسنى وأبهى شهادة وحجة على الناس في لزوم الإتعاظ من المسلمين،وإقتباس مكارم الأخلاق منهم، وفي التنزيل [وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ).
السادس:تقرب الآية المسلمين من الجنة، وتبين دنوها منهم , وأنها لم تخلق إلا من أجلهم، قال تعالى[يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( )، إن شعور المسلمين بقرب الجنة منهم مادة للصلاح، وواقية من فعل السيئات.
فمن إعجاز الآية مجئ أولها في إحتمال إرتكاب المؤمن الفاحشة، وإختتامها بالثناء على المسلمين بسعيهم في منازل العلم والتحصيل، وتلاوة آيات القرآن في الصلاة الواجبة مدرسة يومية مصاحبة للمسلم في أيام حياته كلها.
وليس في الوجود الإنساني على الأرض مدرسة أوسع وأعم منها لأنها تعليم إجباري يومي في أسباب الهداية وتقويم الذات، والتنزه من الكدورات والأخلاق المذمومة، ومدرسة التلاوة هذه من مصاديق طاعة الله ورسوله ورشحات الرحمة التي جاءت بالبشارة بها آية السياق، قال تعالى[الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ]( ) .
فتنقطع أيام الدراسة في سن الشباب والوظيفة والعمل في سن المشيب، ولكن الصلاة لا تترك بحال، فتؤدى في حال الصحة والسقم، والحضر والسفر بالطهارة المائية أو الترابية، ليبقى المسلم ينهل من هذه المدرسة سبل الهداية، وقواعد السلامة من إرتكاب الفاحشة وظلم النفس,ويدخر من القيام والركوع والسجود[يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ]( ).
وتبعث تلاوة آيات القرآن اللذة المقرونة بالطمأنينة في النفس باستحضار عظمة كلام الله وما فيه من الدلالات والمضامين القدسية, ليدرك معها المسلم منافع العمل بمضامين آية البحث , وسعة رحمة الله التي تتجلى بكل آية منه.
بالإسناد عن أبي ذر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها [إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ] فلما أصبح قلت : يا رسول الله ، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت؟! قال : إني سألت ربي الشفاعة لأمتي فأعطانيها ، وهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئاً ( )، ورويت بطريق آخر بشئ من التفصيل عن جَسْرة بنت دجاجة: أنها انطلقت معتمرة، فانتهت إلى الربذة، فسمعت أبا ذر يقول:
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء، فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون، فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلى .
فجئت فقمت خلفه، فأومأ إليَّ بيمينه، فقمت عن يمينه. ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه، فأومأ إليه بشماله، فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه، ويتلو من القرآن ما شاء الله أن يتلو. وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة.
فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود: أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة؟ فقال ابن مسعود بيده: لا أسأله عن شيء حتى يحدث إليّ، فقلت: بأبي أنت وأمي، قمت بآية من القرآن ومعك القرآن، لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه، قال: “دعوت لأمتي”. قلت: فماذا أَجِبْتَ؟ -أو ماذا رُدَّ عليك؟
قال: “أجبت بالذي لو إطلع عليه كثير منهم طلْعة تركوا الصلاة”. قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: “بلى”. فانطلقتُ مُعْنقًا قريبًا من قَذْفة بحجر. فقال عمر: يا رسول الله، إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نَكَلوا عن العبادة. فناداه أن ارجع فرجع، وتلك الآية:[ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ) ( )،
وطاعة الله والرسول علم قائم بذاته، وهو أشرف وأسنا العلوم من وجوه:
الأول: خير الدنيا والآخرة في العلم والمعرفة , لذا كانت أول آية نزولاً من القرآن[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، كما عن ابن عباس( ), وعن الأوزاعي قال: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل من قبل قال يا أيها المدثر فقلت أو اقرأ باسم ربك فقال سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل قال (يا أيها المدثر) فقلت أو اقرأ فقال جابر أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :
جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الواد فنوديت فنظرت أمامي و خلفي و عن يميني و شمالي فلم أر أحدا ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء يعني جبرائيل فقلت دثروني دثروني فصبوا علي ماء , فأنزل الله عز و جل يا أيها المدثر وفي رواية فحييت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت زملوني فنزل(يا أيها المدثر) قم فأنذر)( ).
ولكن الحديث لا يدل على أن سورة المدثر أول سورة نزلت من القرآن , والأرجح أن سورة إقرأ هي أول سورة نزلت من القرآن , وفيه دلالة بأن موضوعها عام ونفعها متجدد .
الثاني: موافقة هذا العلم لعلة خلق الإنسان، وهو أصل وظيفته في الأرض.
الثالث: العلم بوجوب طاعة الله والرسول واقية من فعل السيئات، وإرتكاب المعاصي.
الرابع:التنافي والتضاد بين العلم والإصرار على الذنوب.
الخامس: تجلي فضل الله عز وجل على الناس بهدايتهم إلى طريق الجنة وسبيل الصلاح وهو طاعة الله ورسوله وما فيها من أسباب العلم والمعرفة.
السادس:تجتمع بطاعة الله والرسول رحمة الله والعلم , وهي نعمة عظيمة إختص الله عز وجل بها المسلمين من بين أهل الأرض، ومن عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فان قيل ليس من فضل للمسلمين في المقام لأن إجتماع الرحمة والعلم بلطف من الله عز وجل، والجواب هذا صحيح، وفيه مسائل:
الأولى: من خصائص الفضل الإلهي أن الناس فيه شرع سواء، وليس من برزخ بينه وبين أي فرد أو جماعة من أهل الأرض، ويتجلى بانعدام الموانع بينهم وبين دخول الإسلام.
الثانية:جاءت آية السياق بالأمر بطاعة الله والرسول كسبيل للرحمة والفلاح، وهي مطلقة تشمل الذكر والأنثى، والشاب والكهل والشيخ، وعن عبد الله بن عمر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إن الله يحب الشاب الذي يفني شبابه في طاعة الله عز وجل”)( ).
الثالثة: إقتران طاعة الرسول بطاعة الله عز وجل إمتحان للناس، وقد فاز المسلمون به فاستحقوا الأفضلية على الأمم والملل.
الرابعة:بطاعة الله والرسول إكتساب للعلم، ويعلم معها الإنسان سبل الهداية إلى الجنة والنعيم، ويدرك قبح المعاصي،وأضرار الإصرار على المعصية.
الخامسة:من إعجاز آية السياق ترشح الرحمة عن طاعة الله والرسول مما يدل على تعدد مصاديق الرحمة الإلهية للبشر من وجوه:
الأول:أفراد الرحمة الإلهية للناس جميعاً في أبدانهم وأرزاقهم، وصرف البلاء العام منهم، وغيره مما يفوق الإحصاء، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الثاني: نزول الرحمة على المؤمنين خاصة، وهو فضل وثناء وشكر عاجل من الله عز وجل، قال تعالى[وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
والبيان في الآية أعلاه بأن الله سبحانه ذو الفضل ترغيب للناس بالنهل من رحمته العامة والخاصة، وأن إختصاص رحمته بالمسلمين لا ينقص من خزائنها شيئاً، ولا يحجب عن الناس فضله تعالى وهو سبحانه [رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، ولكن الناس حجبوا عن أنفسهم النهل من الرحمة الخاصة، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
الثالث: الرحمة الإلهية التي تتعقب مصاديق الطاعة بالإرتقاء في درجات المعرفة وتعاهد الطاعات بلطف ومدد من الله عز وجل، إذ أن تعاهد العبادات والطاعات نعمة إضافية تتجدد كل يوم وتستحق الشكر والثناء،وهو من أسرار إبتداء التلاوة في الصلاة اليومية بقوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
وقول الحمد لله ذاته يستلزم تجديد الشكر لله عز وجل إلا أن القراءة في الصلاة توقيفية لاتجوز الزيادة فيها وإلا لإنقطع شطر من المسلمين إلى تكرار الحمد لله في الصلاة في سياحة للروح في عالم الملكوت.
ففي كل مرة يطيع المسلم الله والرسول تنزل عليه شآبيب الرحمة في نفسه وعياله وماله وشأنه وأحواله المختلفة من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب , وليكون من معاني قوله تعالى[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( )، تعاهد الإيمان في الأرض وفي نفس المؤمن، وإقامته على طاعة الله والرسول، وإتيان الفرائض والعبادات.
وجاءت آية البحث بالإخبار عن إحتمال قيام المؤمن بفعل الفاحشة أو ظلمه نفسه ليفيد جمع هذا الإحتمال مع قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] صرف المؤمن عن فعل الفاحشة وظلم النفس بطاعة الله والرسول، قال تعالى في يوسف عليه السلام[كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ]( ).
ليكون من إعجاز سياق الآيات تقدم الإخبار عن صرف المسلم عن فعل الفاحشة وأسباب تركه السعي لبلوغ المراتب السامية في الجنة العالية، فمن مصاديق [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] حجب وزجر المسلمين عن فعل الفواحش وظلم النفس.
وتتضمن آية البحث جهاد المسلمين من أجل الفوز برحمة الله، وتحصيل الرحمة التي وردت في آية السياق على نحو الرجاء، إذ أن الإستغفار طريق إلى رحمة الله والنهل منها، وفي قوم صالح ورد في التنزيل[لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
ليكون فيه شاهد على أن رحمة الله سبيل لبلوغ مرتبة الإستغفار، وذات الإستغفار طريق للظفر برحمة الله، ولا يستلزم الأمر الدور وفي كل فرد من الرحمة والإستغفار مسائل:
الأولى: إنه مطلوب بذاته لأنه خير محض.
الثانية: فيه تهذيب للنفوس، وصلاح للمجتمعات , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن للقلوب صدأ، قالوا: فما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: جلاؤها الاستغفار)( ).
الثالثة: الإستغفار وسيلة لجلب رحمة الله ورحمة الله علة لبلوغ مرتبة الإستغفار واللجوء إليه من غير أن يستلزم الأمر الدور بينهما.
التاسعة:جاءت الرحمة في آية السياق على نحو الرجاء والنعمة المترشحة عن طاعة الله ورسوله، وجاءت آية البحث باحتمال صدور الفاحشة من المؤمن وظلمه لنفسه، لتتعلق نفس المسلم برحمة الله، التي هي واقية من الفاحشة.
ومن لطف الله عز وجل بالناس الدنو والإقتراب المتجدد لرحمة الله من أهل الإيمان والتقوى، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وآية البحث من عمومات الآية أعلاه لما فيها من أسباب الفرج والإنقاذ للمسلمين بذكر الله والإستغفار.
وفي الجمع بين آية البحث والسياق بيان لعظيم قدرة الله ووجوب طاعته سبحانه والتصديق بما جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذ تجتمع الرحمة والمغفرة من الله بطاعته.
وفي الحديث القدسي مَن علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أبالي)( ).
إن الإقرار بأن الله عز وجل[غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) وأنه ليس من برزخ يحول دون وصول رحمته للعباد والخلائق مطلقاً سبيل للمغفرة، لذا جاءت آية السياق بالبعث على الإقرار بسعة رحمة الله.
الشعبة الثانية: صلة هذه الآية بالآيات التالية المجاورة لها ، وفيها وجوه:
الأول:صلة هذه الآية بالآية التالية[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ] ( )، وفيها مسائل:
الأولى:تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات).
الثاني : الذين لم يصروا على ما فعلوا أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات).
الثالث : الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ونعم أجر العاملين) .
وفي الذكر والإستغفار مسائل:
الأولى: كل فرد منهما عمل بطاعة الله.
الثانية: فيهما شاهد على العزوف عن المعصية.
الثالثة: صيرورة الذكر والإستغفار مقدمة ومادة للصبر في أداء العبادات.
الثانية :تأكيد التخفيف الذي فازت به أمة محمد في التيسير في المغفرة والفوز بالعفو .
وفي أسباب نزول هذه الآيات: روي أن قوماً من المؤمنين قالوا يا رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منا كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه (أجدع أنفك أو أذنك افعل كذا) فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فنزلت الآية فقال ألا أخبركم بخير من ذلكم و قرأ عليهم هذه الآية عن ابن مسعود( ).
وقد تقدم أنها نزلت في نبهان التمار وأن امرأة أتته تبتاع منه تمراً( ).
ولا مانع من تعدد أسباب النزول للآية القرآنية وإتحادهما زماناً وتشابه موضوعهما ولو على نحو جهتي.
الثالث: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بإنعدام الفاصلة بين أمور:
الأول: الدعوة لذكر الله.
الثاني: الإستغفار.
الثالث: الإخبار عن الجزاء العظيم، والثواب الجزيل على كل منهما، ويحتمل الثواب على الذكر والإستغفار وجوهاً:
الأول: إتحاد الثواب عليهما بلحاظ مسائل:
الأولى: إجتماعهما في آية البحث.
الثانية: ترشح الإستغفار عن الذكر.
الثالثة: تعقب الذكر والإستغفار لفعل الفاحشة.
الثاني: إستقلال كل من الذكر والإستغفار بثواب مخصوص، لأن كلاً منهما عمل عبادي وتقرب إلى الله عز وجل.
الثالث: التفصيل بلحاظ القصد والنية وموضوع الذكر والإستغفار.
والصحيح هو الثاني لسعة رحمة الله عز وجل ولأنه يعطي بالأتم والأوفى، قال تعالى[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه]( ).
وفيه وجوه:
الأول: الترغيب بالذكر والإستغفار.
الثاني: بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين.
الثالث: تأكيد قانون تعدد الفضل الإلهي في الموضوع المتحد، فمع محو الأثر المترتب على فعل الفاحشة أو ظلم النفس الذي ذكرته الآية السابقة، جاءت هذه الآية بالثواب العظيم على الإستغفار والتوبة من الذنب.
الرابع:من منافع إنعدام الفاصلة بين الإستغفار وجزائه تأديب المسلمين وإرشادهم إلى الإستغفار حالما يرتكبون الفاحشة وحرصهم على عدم التسويف في التوبة والإنابة، وفيه مدرسة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدعوة المسلمين لمن يفعل الفاحشة منهم بالإستجارة الفورية بذكر الله والإستغفار، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الثالثة :جاءت كل من آية البحث والسياق بصيغة الجملة الخبرية، لإفادة الهداية والإصلاح إلى الإستغفار مع الوعد الكريم عليه.
إن تعقب آية الإستغفار بآية تتضمن الجزاء العظيم عليه دليل على موضوعيته والمنافع الدنيوية والأخروية التي تترتب عليه، ويدل على هذا التعدد أن آية السياق لم تذكر الجنة وحدها بل تقدم عليها البعث إلى المسارعة إلى المغفرة من الله، وفيه وجوه:
الأول: تتغشى منافع المغفرة أمور الدنيا والآخرة.
الثاني: المغفرة طريق إلى الأمن والسلامة يوم الفزع الأكبر، وفيه وجوه:
الأول: ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه إطباق باب النار حين يغلق على أهلها
الثاني: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح.
الثالث: عند النفخة الثانية إذا خرجوا من قبورهم)( )، لقوله تعالى[فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ]( ).
الرابع : إرادة المعنى الأعم وهو الأمن من أهوال الحساب، ويوم الحشر والجزاء .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن للشهيد عند الله خصالاً يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى عليه حلة الإيمان ، ويجار من عذاب القبر، ويأمن يوم الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه)( ).
الخامس: أوان إنصراف الكفار إلى النار، عن الحسن( ).
الثالث: ذكرت الآية المغفرة بأنها من الله عز وجل وكذا بالنسبة للإقامة في الجنة فإنهــا من الله، ولا يقــدر عليهما مجتمعين ومتفرقين إلا الله عز وجل، الذي لا تمتنع عليه مسألة.
الرابعة : تتصف هذه الآيات بأنها تقدم ذكر الجنة , وتذكره بعد بيان صفات أصحابها، إذ جاءت بين قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ) وآية السياق الآيتان اللتان تذكران خصال المتقين، وما يبعث إلى أسباب النجاة في النشأتين، مع بيان آية السياق لصفات الجنة ونعمة جريان الأنهار فيها وأن الجنة أجر وثواب للذين يعملون في مرضاة الله، ويصلحون ما بينهم وبين الله عز وجل في السر والعلانية.
الخامسة :جاءت آية البحث بالبعث إلى الإستغفار وسؤال العفو والمغفرة من الله عز وجل، وتضمنت آية السياق الإخبار عن المغفرة من الله عز وجل، التي تترتب على أمور:
الأول: اللجوء إلى ذكر الله عند فعل الفاحشة، أو ظلم النفس.
الثاني: عدم اليأس أو القنوط من رحمة الله عند إرتكاب السيئة.
الثالث: المبادرة إلى الإستغفار، وتعقبه للذنب والمعصية (مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ)( ).
الرابع: التسليم بأن غفران الذنوب بيد الله عز وجل، ولا يقدر عليه غيره سبحانه وهو باب للإنقطاع إلى الله عز وجل، ودعوة للإقرار بالعبودية لله عز وجل , وعلم ينفع في نبذ الغلو.
الخامس: التنزه عن الإصرار على الذنوب والمعاصي.
السادس:العلم والتمييز بين الحسنة والسيئة، وجعل المدار في الحسن والقبح على الشريعة وأحكامها.
السادسة :لما أخبرت آية البحث عن نيل المسلمين مرتبة العلم والمعرفة، جاءت آية السياق بأمور:
الأول: مصاديق من العلم.
الثاني: تفقه في الدين.
الثالث: إرتقاء في سلم المعارف الإلهية من وجوه:
الأول: تعقب المغفرة للتوبة والإنابة، وكأنه من تعقب المعلول لعلته.
الثاني:التأكيد العملي للقانون الذي ذكرته آية البحث وهو إنحصار مغفرة الذنوب بالله عز وجل , وأنه سبحانه وحده الذي يغفرها ويمحو أثرها، وما يترتب عليها من العقاب، والمصداق هو إخبار الآية عن تحقق المغفرة من الله للمتقين الذين يبادرون إلى ذكر الله ويهرعون إلى الإستغفار عند فعل السيئة.
الثالث:خلود المؤمنين في النعيم لمواظبتهم على الإستغفار وتعاهدهم لسنن التقوى، وبالإسناد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ
فَيُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا قَالَ فَيَشْرَئِبُّونَ فَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ
قَالَ فَيُقَالُ يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا قَالَ فَيَشْرَئِبُّونَ فَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ
قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ قَالَ وَيُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ
قَالَ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ] ( ).
الرابع: الإستغفار عمل وصلاح، وفيه مرضاة الله ويترتب الأجر والثواب عليه ترتب الجزاء على شرطه والأمر به.
السابعة :الأثر المترتب على فعل الفاحشة وظلم النفس على أحد وجهين بينهما تضاد وتباين:
الأول:العقوبة والعذاب الشديد.
الثاني:العفو والمغفرة.
وجاءت كل من آية البحث والسياق من الوجه الثاني والترغيب فيه، وبيان محبوبيته، والإخبار بأنه خاص بالمتقين الذين يخشون الله بالغيب.
الثامنة :تعدد الجزاء الحسن والثواب الجزيل على ذكر الله والإستغفار من وجوه:
الأول: مجيء الجزاء للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي لقوله تعالى[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ].
الثاني: بيان حقيقة وهي أن المغفرة فضل من الله عز وجل لقوله تعالى[مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ].
الثالث: نسبة صدور المغفرة إلى الله دليل على عدم إمكان حجبها أو صدها، فلو إجتمعت الخلائق على حجبها لما إستطاعت، وفيه دعوة للمؤمنين إلى عدم الإنشغال بحسد الآخرين وعدائهم وتعديهم، وهذه المغفرة حرب وحجة عليهم، قال تعالى[مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
الرابع:بيان خصائص الجنة الواسعة التي يسعون إليها بجد يومي متجدد والتي ورد ذكرها قبل آيتين ,وأن الله عز وجل أعدّها للمتقين من جهات:
الأولى: جاء ذكر الجنة بصيغة المفرد في قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( )، وذكرت في هذه الآية بصيغة الجمع، وليس من تعارض بينهما، لإرادة الجنس في قوله تعالى[وَجَنَّةٍ] وإرادة البيان والتفصيل في فضل الله في آية السياق وصيغة الجمع(جنات) .
ومن الإعجاز في المقام أن كلاً من صيغة المفرد والجمع ترغيب بالجنة والسكن فيها , وبعث للجد والإجتهاد في السعي لها , فتفضل الله وخص المسلمين بآية البحث وما فيها من الذكر والإستغفار كبلغة وطريق للفوز بتلقي البشارة والسلام من الملائكة عند أبوابها , كما ورد في التنزيل[يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
ومن الإعجاز ورود لفظ الجمع في الآية التي تبين جزاء المستغفرين وفيه بيان لقانون في عالم الجزاء وهو أن الذين يفعلون الفاحشة من المؤمنين ثم يتوبون إلى الله لا يكونون في جنة مخصوصة ومنازل معينة للتوابين، بل أن أبواب الجنات تفتح لهم ويسيحون في رياضها، مما يدل على أن المغفرة من الله عز وجل على نحو الموجبة الكلية الماحية لكل أثر مترتب على فعل السيئة ، ويدل عليه أيضاً تأكيد هذه الآيات بأن صدور الفاحشة من المؤمن وتعقبها بالإستغفار لا يضر في صدق إنطباق مفهوم التقوى عليه، قال تعالى[تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا] ( ).
وعن ابن عباس في عدد الجنان: أنها سبع: جنةُ الفردوس، وجنة عدْن، وجنة النعيم، ودارُ الخلد، وجنةُ المأوى، ودارُ السلام، وعِلِّيُّون)( ).
وقال أبو الليث الجنان أربع كما قال تعالى{ولمن خاف مقام ربه جنتان} ثم قال { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ }( ) فذلك جنان أربع أحداهن جنة الخلد والثانية جنة الفردوس والثالثة جنة المأوى والرابعة جنة عدن وأبوابها ثمانية)( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة من النبيّين والصدّيقين والشهداء، يقول الله: طوبى لمن دخلك)( ) .
وذكر أن عدد الجنان ثمانية دار الجلال ودار القرار ودار السلام وجنة عدن وجنة المأوى وجنة الخلد وجنة الفردوس وجنة النعيم .
الثانية: تنعم المستغفرين بجريان الأنهار من تحت البساتين، والأشجار المعروشات في الجنة الواسعة، وتكرر موضوع جريان الأنهار في الجنة في إحدى وأربعين آية من القرآن , وجاء لفظ الأنهار فيها بصيغة الرفع(أنهار) لبيان موضوعيتها في الجنان.
ومن إعجاز القرآن وبيان اللطف الإلهي في آياته , ورود لفظ(الأنهار) في إحدى هذه الآيات أربع مرات , وهو من الأمور النادرة في آيات القرآن بأن يرد لفظ أربع مرات في آية واحدة مع قلة كلماتها( )، قال تعالى[مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى]( ) .
ومن الإعجاز فيها أيضاً أن هذا التعدد ورد بخصوص الجنة وأنهارها، ليكون فيه ترغيب إضافي بالجنة وبعث للإجتهاد في السعي إليها وورد في سورة محمد على نحو التعيين , في إشارة إلى قانون وهو أن طريق الجنة هو التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة:الخلود في النعيم، وفيه تأكيد آخر للمحو التام لفعل المؤمن الفاحشة وأثره لدلالة إستدامة النعيم على عدم تجدد الحساب على السيئة التي تعقبها الإستغفار.
الرابعة:الثناء على المؤمنين الذين يبادرون إلى ذكر الله والإستغفار، ونعتهم بأنهم عاملون بطاعة الله وبأحكام التقوى.
الخامسة:بيان قانون كلي من فضل الله وهو أن المؤمن الذي يسيء ويقصر ثم يعود عن تقصيره كالعامل من غير تقصير، (وعن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا أحب الله عبده لم يضره ذنب، ثم تلا{إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} قيل: يا رسول الله وما علامة التوبة؟ قال: الندامة)( ).
وفي تفسير قوله تعالى[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ] من آية البحث ورد عن الزمخشري: وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز)( )، ولكن لا وجوب في المقام والعفو هنا ليس من العدل إنما هو تفضل وإحسان من عند الله عز وجل يمنّ به على من يشاء من عباده، وجاءت آية البحث لتأكيد هذا المن والإنعام.
وعن الإمام علي عليه السلام:
إلهي كيف لا يحسن مني الظن وقد حسن منك المنّ لنا سيئة
لقد جعل الله عز وجل العفو غاية حميدة يسعى لبلوغها المؤمنون، وهو رزق كريم للروح والبدن وسلامتهما من العذاب
فإنك ترجو العفو من غير توبة ولست ترجى الرزق إلا بحيلة.
ومن الإعجاز نظم هذه الآيات أن آية السياق وصفتهم بالعاملين، بينما ذكرتهم الآية السابقة بالمحسنين لمجيئها بصفات حسن على نحو الموجبة الكلية بالإنفاق في السراء والضراء وحبس الغيظ، والعفو عن الناس مطلقاً.
العاشرة : بيان حاجة الناس لذكر الله وعظيم نفعه في الدنيا والآخرة وفيه ترغيب بالعبادات وأداء الفرائض، وبين الفرائض وذكر الله عموم وخصوص مطلق، وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين لإتيانهم الواجبات من الصلاة والصوم وغيرهما من الفرائض، وتعدد ذكر الله فيها، كما في الصلاة، وما فيها من تلاوة آيات القرآن فسميت سورة الفاتحة التي تتلى عدة مرات في كل فريضة صلاة لمعاني الدعاء والذكر التي فيها، ولعظيم فضلها ولقدر منافعها.
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى : أختتمت آية البحث بقوله تعالى[وَهُمْ يَعْلَمُونَ] وأختتمت آية السياق بقوله تعالى[وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ] مع إرادة المؤمنين في كلتا الآيتين.
الثانية:بيان حقيقة وهي إجتماع العلم والعمل عند المؤمنين، وفيه حجة على الناس بأن إتيان المسلمين للفرائض والواجبات عن علم ومعرفة.
العلم سلاح النجاة من الإصرار على الذنوب، والعمل في طاعة الله ترجمان العلم وسبيل الصلاح.
وأخرج عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ، قال : فتعلمنا العلم والعمل( ).
الثالثة:الإسلام دين العلم والعمل، وببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحقق الإرتقاء في سلم المعارف وخرج المسلمون بالتكامل في العقيدة والعمل، وهو من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ( )
الرابعة:بيان الثواب العظيم على العمل المترشح عن العلم.
الخامسة:ديمومة وإستمرار بقاء الإسلام شريعة ثابتة في الأرض، وسلامة القرآن من التحريف، لإقتران العلم والعمل عند المسلمين، وفيه برزخ دون الإرتداد وأسباب الضلالة.
السادسة:كل من مراتب العلم العالية والعمل بطاعة الله الذي يتصف به المسلمون من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
السابعة:ترغيب الناس بدخول الإسلام لأنه دين العلم والعمل.
الثامنة: ترشح المنافع والبركات من العمل بأحكام الشريعة الإسلامية.
التاسعة: تقدير الجمع بين خاتمتي الآيتين على وجوه:
الأول: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ونعم أجر العاملين.
الثاني: فإستغفروا لذنوبهم فنعم أجر العاملين.
الثالث: ومن يغفر الذنوب إلا الله ونعم أجر العاملين.
الرابع: لم يصروا على ما فعلوا ونعم أجر العاملين.
الخامس: وهم يعلمون نعم أجر العاملين.
العاشرة: يدل الجمع بين الآيتين على أمور:
الأول: كل من ذكر الله والإستغفار عمل وإن كان إستحضاراً بالقلب ونطقاً باللسان.
الثاني: إخبار المسلمين عن إدخار عملهم في الصالحات ، وإثابتهم عليه في الآخرة، قال تعالى[أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى…..]( ).
وفي الآية أعلاه ورد عن أم سلمة أنها آخر آية نزلت( )، وذكر أنها قالت: يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فنزلت هذه الآية.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إحاطة الله علماً بأعمال الناس جميعاً.
الثانية: أعمال العباد محفوظة عند الله , وإن تعاقبت الأجيال والسنون. وليس من خلط بينها.
الثالثة: دعوة المسلمين لعدم إستصغار فعل الخير والمعروف وإن قلّ.
الثالث: البشارة بالثواب العظيم على عمل المسلم الصالحات، روي عن أبي إمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها , قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات ، فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيئاً ، وإن لم يستغفر الله كتب عليه سيئة واحدة)( ).
الحادية عشرة: الثناء على المسلمين لوصفهم بالعلم، والإخبار عن فوزهم بالجزاء الحسن.
الثانية عشرة: بعد نيل المسلمين مرتبة التقوى بالتصديق بنزول القرآن وإتيان ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفرائض هداهم الله في آية البحث إلى الذكر والإستغفار ثم تفضل عليهم بخاتمة آية السياق بالوعد الكريم بالثواب العظيم.
الثالثة عشرة: من فضل الله عز وجل على الناس عامة والمسلمين خاصة أنه تعالى يهدي إلى فعل الصالحات ويجزي عليها أعظم الجزاء.
الرابعة عشرة: يحتمل تعلق الأجر في خاتمة آية السياق (ونعم أجر العاملين)وجوهاً:
الأول: إنه خاص بالذين يتصفون بخصال المتقين المذكورة في آية البحث والآية التي قبلها.
الثاني: إرادة مطلق العمل في سبيل الله، وصرف الوجود منه.
الثالث: الإجتهاد وبذل الوسع في عمل الصالحات وإكتناز الحسنات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّبِيِّ الْمُتَّقُونَ فَكُونُوا أَنْتُمْ بِسَبِيلِ ذَلِكَ فَانْظُرُوا أَنْ لا يَلْقَانِي النَّاسُ يَحْمِلُونَ الأَعْمَالَ، وَتَلْقَوْنِي بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا فَأَصُدَّ عَنْكُمْ بِوَجْهِي)( ).
والصحيح هو الأول والثالث، إذ تتضمن هذه الآيات لزوم التقيد بخصال وآداب التقوى، والسعي والعمل الدؤوب لدخول الجنة, قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
قانون(النسبة بين الإستغفار ومحو الذنوب)
الإستغفار قوس صعود ورجاء وتوسل من العبد إلى الله عز وجل، أما محو الذنوب فهو فضل نازل من عند الله عز وجل، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: وحدة الموضوع وتعلق كل منهما بستر الذنوب و(الغفر لغة: التغطية)( ).
الثاني: كــل من الإستغفار ومحو الذنــوب شــاهد على حــب الله عـز وجل للمسلمين، فإن قلت سلّمنا أن محو وغفران الذنوب رحمة وفضل من الله ، أما الإستغفار فإنه قول وفعل من العبد .
والجواب إن الله عز وجل هو الذي هدى المسلمين للإستغفار، وهو النعمة العظمى التي تصاحب الإنسان في الدنيا، ويكون مدار نجاته في الآخرة على تعاهدها في الدنيا.
ومن بديع صنع الله أن الآية السابقة لآية البحث تذكر صفات المتقين بمبادرتهم إلى البذل والعطاء في سبيل الله، قال تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( )، ويتقوم الإنفاق بالمال وإخراجه من الملكية وإيصاله إلى مستحقيه فالذي لا يملك ما يزيد على مؤونته يتعذر عليه الإنفاق والتوسعة فيه، بينما يكون الإستغفار سلاحاً يمتلكه كل مسلم بل كل إنسان .
فسبحان الله الذي جعل الهواء متنفساً ومادة للحياة الدنيا لا تقدر الخلائق وإن إجتمعت على حجبه ومنعه عن الإنسان صغيراً كان أو كبيراً براً أو فاجراً، وجعل الله الإستغفار مثله وأكثر من هذا , فقد يعمل الظالم على إفراغ مكان من الهواء بطشاً وعقوبة وصيغة بالقتل والإعدام ولكنه لا يقدر هو أو غيره على منع نعمة الله عز وجل على العبد بالإستغفار.
وهل هذا الإستغفار رخصة في فعل المعصية , الجواب لا، بل هو تدارك وإقالة عثرة وباب لإتصال ودوام رحمة الله بالعبد، أما الرخصة فهي التخفيف في العمل ومصاديق الواجب والمندوب , وعن عائشة أنه(صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم امْراً فَتَرَخَّصَ فِيهِ فَبَلَغَ ذلِكَ نَاساً مِنْ اصْحَابِهِ، فَكَانَّهُمْ كَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ فَبَلَغَهُ ذلِكَ، فَقَامَ خَطِيباً فَقَالَ: مَابَالُ رجالٍ بَلَغَهُمْ عَنِّي امْرٌ تَرَخَصْتُ فِيهِ فَكَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ فَوَ اللَّهِ لانَا أعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً)( ).
ولعظيم النفع من الإستغفار فإن المسلمين جميعاً يقبلون عليه بشوق ولهفة وكأنه غذاء شهي فهو رزق كريم من الله.
الثالث: كل من الإستغفار ومحو الذنوب جواز عبور على الصراط.
الرابع: يأتي كل من الإستغفار ومحو الذنوب على السيئات , فيطوي سجلها ويزيل الندبة السوداء التي تتركها في صحائف الأعمال، وهو برزخ دون دخول النار.
(عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها، ولو قيل لأهل الجنة إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا ولكن جعل لهم الأبد)( ).
وأما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: الإستغفار تضرع ومسكنة وسؤال إلى الله، أما محو الذنوب فهو رحمة نازلة من عند الله.
الثاني: ثمرة الإستغفار محو الذنوب، وهل العفو والمغفرة طريق وسبب للإستغفار , الجواب نعم، وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين والناس جميعاً بأن يجذبهم بعفوه ومغفرته إلى منازل الإستغفار.
الثالث: يقوم المؤمن بالإستغفار عن ذنب وبلا ذنب.
الرابع: يأتي محو الذنوب على شعب:
الأولى: إستغفار المؤمن لذنوبه.
الثانية: إستغفار الغير.
الثالثة: إستغفار الحي للميت , وهذا الإستغفار من البر والصلة الحسنة.
الرابعة: أداء الفرائض والعبادات.
الخامسة: تفضل الله بمضاعفة ثواب الصالحات، وكتابة السيئة بمثلها من غير مضاعفة مع أنها معصية لأمر الله .
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا أحسن أحدكم إسلامه , فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله عز وجل)( ).
السادسة: فعل الصالحات.
السابعة: الإقرار والتسليم بأن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل.
الثامنة: إقتران فعل المسلم الذنب بعلمه بأن الله عز وجل يغفر الذنوب، لما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: من أذنب ذنباً وعلم أن له ربّاً يغفر الذنوب غفر له وإن لم يستغفر)( ).
التاسعة: دعاء الأنبياء للمؤمنين، وفي التنزيل حكاية عن نوح[رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني: صلة قوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( )، بهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: عادت آية السياق إلى صيغة الخطاب للمسلمين والمسلمات بعد ستة آيات من الخطاب في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) .
ومن إعجاز نظم الآيات الإتحاد في جهة الخطاب في الآيتين، فالمراد هم المسلمون وفيه إكرام لهم، ومناسبة لتفقههم في أمور الدين والدنيا.
الثانية: بعد أن أخبرت الآية السابقة لآية السياق عن الجزاء العظيم الذي أعدّه الله للمؤمنين جاءت هذه الآية بدعوتهم للتدبر في أحوال الأمم السالفة , والإتعاظ منهم والإعتبار من آثارهم وأخبارهم.
وذكر أن آية السياق تتعلق بما تقدم في الآيات السابقة بخصوص معركة أحد وما تعرض له المسلمون من الخسارة وإستشهاد عدد من الأنصار والمهاجرين لمواساة المسلمين ومنع إنكسار خواطرهم من تلك الخسارة أو قل عدم تحقق النصر لهم كما حصل من النصر والغلبة للمسلمين في معركة بدر، ولكن الآية أعم .
فإن قلت ورد توثيق النصر يوم بدر بقوله[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )، ولم ترد آية تنص على نصر المسلمين يوم أحد، والجواب من وجوه :
الأول : الآية أعلاه وثيقة سماوية تؤكد بالدلالة التضمنية على نصر المسلمين .
الثاني : بلوغ المسلمين مراتب النصر , وصاروا(الأمة المنصورة) وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
الثالث : تترشح معاني النصر يوم بدر على وقائع أحد والخندق وغيرها بالإضافة إلى حقيقة وهي أن المسلمين لم ينهزموا يوم أحد.
الخامس : جاء القرآن بالإخبار عن هزيمة الكفار يوم أحد وخزيهم وبطش الله بهم , والذي يدل في مفهومه على نصر المسلمين , قال تعالى بخصوص يوم أحد[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
والسنن: جمع سنة وهي الطريقة والنهج في العمل والسجايا الأخلاقية التي تلازم الفرد والجماعة.
الثالثة: دعوة المسلمين للإتعاظ من الأمم السابقة , وجعل أخبارهم وإنقضاء أيامهم مادة لإجتناب الفاحشة وظلم النفس، وعبرة للجوء إلى ذكر الله والإستغفار عند فعل الفاحشة.
الرابعة: إتخاذ المسلمين تأريخ الأمم موضوعاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووسيلة لتوارث الإيمان وتعاهد أحكام الحلال والحرام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله.
وهل يشترط السير في الأرض بأن يكون بقصد النظر والإعتبار, الجواب لا، لأن الآية أعم وتشمل الأمر الحسن بالطواف في الأرض، وقد يأتي التدبر لاحقاً لرسوخ تلك الأطلال ودلالتها في الوجود الذهني, بالإضافة إلى الإتعاظ بالواسطة كاللجوء إلى الكتب التي تحكي تأريخ الأمم السابقة , وجاء في هذا الزمان الإعلام المرئي والمسموع ليكون من مصاديق الآية طوعاً وقهراً.
وقيل(وإنَّما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب لأنّ في المخاطبين مَن كانوا أمِّيين، ولأنّ المشاهدة تفيد من لم يقرأ علماً وتقوّي عِلْم من قرأ التَّاريخ أو قصّ عليه)( ).
وكون فريق من المسلمين أميين ليس علة تامة لمجيء الآية بالسير في الأرض، وفيه مسائل:
الأولى: آيات القرآن تلاوة وذكر وتوثيق سماوي لتأريخ الإنسانية أعظم وأبين من التدبر في الآثار والأطلال، وهو من الشواهد بأن إعجاز القرآن أعم من أن ينحصر بالبلاغة.
الثانية: السير في الأرض ترجمان وبيان عملي لقصص القرآن، وهو أرسخ في الأذهان وأكثر موعظة من القراءة، وقد تكون القصص مبالغاً فيها أو أنها متخلفة عن بيان الواقع , ولكن الشواهد الفعلية على الأرض أصدق بياناً وأظهر للحواس.
الثالثة: جاءت آية السياق بالمعنى الأعم من السير في الأرض، بذكر السنن السابقة لتشمل العقائد والمبادئ والسياسات، وعن مجاهد: “قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ “مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ”)( ).
الرابعة: تدل آية السياق على حاجة الناس للقرآن في معرفة سنن الأمم السابقة، وإن ساروا في الأرض ورأوا الأطلال.
الخامسة: من خصائص الخطاب القرآني أنه يتوجه للمسلمين والمسلمات بأجيالهم المتعاقبة إلى يوم القيامة, ليكون أعم خطاب سماوي.
السادسة:أثنى الله عز وجل على المسلمين بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، والسير في الأرض والإتعاظ منه مصداق من مصاديق تفضيل المسلمين على غيرهم.
السابعة : في السياحة في الأرض دروس مستنبطة ومسائل يتخذونها سلاحاً وحجة في خروجهم للناس، فلا غرابة أن يدخل في كل زمان الإسلام أفواج من الناس .
فقد تفضل الله عز وجل ببيان قصصهم في القرآن بما يكون فيه كفاية وموعظة، ومدرسة في توثيق المعالم الجلية لأحوال الأمم، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( )، ليكون من منافع القرآن الإعجازية أنه مدرسة متكاملة في التأريخ والإعتبار يوفر للمسلمين الطواف في الأرض للإتعاظ من سنن ومناهج الأمم السابقة في الصلاح , وأسباب درء الفساد، وتصديق الأنبياء أو الجحود بنبواتهم.
فجاءت آيات القرآن وثيقة بتعاقب وقائع متعددة على موضوع متحد من جهات:
الأول: ذكر أيام الطواغيت كنمروذ وفرعون .
الثاني: بعث الله عز وجل الأنبياء لهم يدعونهم لطاعة الله.
الثالث: صدود رؤساء الكفر عن دعوة الحق، قال تعالى[الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا]( ).
الرابع: نزول عذاب الإستئصال بالطواغيت .
وفيه نكتة تتعلق بواسع رحمة الله، وأنه سبحانه لا يترك من أعرض عنه وإختار التجبر في الأرض، ولم يسارع له في العقوبة بل يتودد له ببعث الأنبياء وقيام الصالحين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعريض حياتهم للأذى، ليفوزوا بالثواب العظيم، ويبوء الكافر بجنايته وظلمه
الثامنة : دعوة المسلمين لشكر الله عز وجل بأن جاءت آية البحث ببشارتهم بالثواب العظيم، وجاءت آية السياق بدعوتهم للتدبر في عاقبة الأمم السابقة التي خلت ومضت من قبلهم، ولا تخاطب أمة بعدهم بمثل هذا الخطاب .
فالمسلمون هم الأمة المؤمنة الباقية إلى يوم القيامة برداء التوحيد.
السادسة: جاءت آية البحث بوصف حال المتقين وما أعدّ الله لهم من الثواب العظيم، وتضمنت آية السياق بيان سوء عاقبة المكذبين الذين أبوا إلا الإقامة على الكفر والجحود , لتجتمع في الآيتين أسباب دخول الجنة ولزوم إجتناب الناس ضدها كالتكذيب بالأنبياء، والمعجزات الباهرات التي جاءوا بها.
السابعة: الجمع بين الآيتين حجة على الناس، ودعوة لهم للسعي إلى مراتب التقوى، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
الثامنة: إخبار المسلمين عن تقدم زمان أمم من المؤمنين لجأوا إلى ذكر الله، والإستغفار عند فعل الفاحشة وظلم النفس لبيان حقيقة وهي أن المتقين الذين أعدّ الله عز وجل لهم الجنة أعم من المسلمين الذين صدّقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن بديع صنع الله في خلق الإنسان أن النبوة والخلافة إقترنتا بهبوط الإنسان إلى الأرض، ومنه أن آدم أبا البشر إرتكب وزوجه خطأ وزلة وهما في الجنة بأكلهما من الشجرة، قال تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( ).
التاسعة: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم قد ضلت من قبلكم سنن.
الثاني: ومن يغفر الذنوب إلا الله فسيروا في الأرض.
الثالث: فإستغفروا لذنوبكم قد خلت من قبلكم سنن.
الرابع: وأنتم تعلمون كيف كان عاقبة المكذبين.
العاشرة: تؤكد آية البحث خصلة كريمة عند المؤمنين، وهي اللجوء إلى ذكر الله والإستغفار عند فعل الفاحشة أو ظلم النفس، ويدل قيد التقوى في الآية على إصرار فريق من الناس على المعصية , وتركهم ذكر الله عند فعل المعصية، ويحتمل وجهين:
الأول: الملازمة بين الكفر والإصرار على المعصية، وعدم ذكر الله عند فعل الفاحشة.
الثاني: بين الكفر والإصرار على المعصية عموم وخصوص مطلق، فليس كل كافر يصر على الذنب لا يذكر الله .
ويدل كل من الوجهين على خسارة وخيبة الكافر، فهو وإن ذكر الله فإن هذا الذكر لا ينفعه لأن الكفر برزخ وحاجب دون ترتب الأثر على هذا الذكر، وفي التنزيل[قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( )، لذا جاءت آية البحث بتبيان صفات المتقين وأن سر إنتفاعهم من الذكر مع إرتكابهم للمعصية هو إيمانهم وتلبسهم بالخشية من الله.
نعم يبقى باب التوبة مفتوحاً للكافر، والطريق إلى جني ثمار الذكر سالكاً بالإسلام والإنقياد لأوامر الله عز وجل، وعن يحيى بن عباد قال: قَالَ عَلِي: الْفَقِيهُ حَقُّ الْفَقِيهِ الَّذِى لاَ يُقَنِّطُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلاَ يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلاَ يُرَخِّصُ لَهُمْ فِي مَعَاصِى اللَّهِ، إِنَّهُ لاَ خَيْرَ فِى عِبَادَةٍ لاَ عِلْمَ فِيهَا، وَلاَ خَيْرَ فِى عِلْمٍ لاَ فَهْمَ فِيهِ، وَلاَ خَيْرَ فِى قِرَاءَةٍ لاَ تَدَبُّرَ فِيهَا)( ).
الحادية عشرة: توجه الخطاب الإلهي للمسلمين بالسياحة في الأرض والإتعاظ من الأمم السالفة، وفيه وجوه:
الأول: إنه إكرام خاص للمسلمين.
الثاني: فيه دليل على إنتفاء الخوف عند المسلمين من السير والتنقل في ربوع الأرض شرقاً وغرباً، وكأنه من مصاديق قوله تعالى[وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا]( ).
الثالث: البشارة للمسلمين بالفتح والعز والمنعة، بطي الأرض من غير خوف أو فزع، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع: تأكيد خاتمة آية البحث على إنصاف المسلمين بالعلم والمعرفة، بحيث أنهم يستقرأون أحوال الأمم السالفة من الشواهد الحسية والأطلال التي على الأرض.
الخامس: سياحة المسلمين في الأرض مدرسة ومناسبة للموعظة وإقتباس العبر.
السادس: عدم الخشية على المسلمين من الإطلاع على أحوال الأمم السابقة، وسلامتهم من الإفتتان بقصصهم .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقاً لم تكذبوهم، وإن كان باطلاً لم تصدقوهم)( ).
الثانية عشرة: من إعجاز القرآن أن إطلاع المسلمين على أحوال وقصص الأمم السابقة يجعلهم يستجيرون بذكر الله ويستعينون بالإستغفار من الذنوب وآثارها، وهو من خصال التقوى بزيادة الإيمان بالتجربة والوجدان , قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالثة عشرة: بيان حاجة الناس إلى الإستغفار، وحفظ النوع الإنساني والحياة على الأرض به وبالذكر .
وعن ابن عباس يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون، ثم يستغفرون الله، فيغفر لهم)( )، وفي الحديث بلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى: في الحديث أعلاه إشارة إلى عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنزهه من الذنوب والخطايا، فهو لم يقل(لو لم نذنب…) بل جاء كلامه بصيغة الخطاب للمسلمين , وهل هو خاص بالصحابة أم أعم .
الجواب هو الثاني إذ أنه شامل للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، وفيه دعوة للإستغفار، لتكون آية البحث ترغيباً إضافياً بالإستغفار لما فيها من الوعد الكريم عليه باللبث الدائم في الجنة.
الثانية: إبتدأ الحديث بحرف الإمتناع (لو) أي لابد وأن يذنب المسلم، وهو من مصاديق آية البحث بأن المتقين قد يرتكبون الفاحشة ويظلمون أنفسهم ولكنهم يلجأون إلى الإستغفار فيكون برزخاً دون خروجهم عن صبغة التقوى.
الثالثة: لا يأتي الله عز وجل بأمة غير المسلمين بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فالمسلمون هم آخر الأمم الذين إختارهم الله عز وجل لميراث النبوة وحفظ التنزيل مما يملي عليهم التقيد بأحكام آية البحث بالمبادرة إلى الإستغفار عند فعل السيئة.
الرابعة: بيان المائز الذي يتصف به المسلمون من بين المليين الذين توارثوا الكتاب، وهو أن المسلمين يجمعون بين الذكر والإستغفار، ومن مصاديق الذكر في المقام إقامة الصلاة خمس مرات مع مقدمتها برفع الأذان عالياً بالتكبير والتهليل ليصدح في مشارق الأرض ومغاربها،إلى جانب وجوب الطهارة .
ولوتنزلنا وقلنا بمجيء أمة أخرى فإن الحديث يدل على مجيئها بالإستغفار , أما المسلمون فإنهم يحرصون على الذكر مع الإستغفار في آن واحد من غير تعارض بينهما , فتحتاج تلك الأمة المسلمين وتقر بلزوم دخول الإسلام لحصر بلوغ مراتب التقوى به .
الخامسة: الحديث من الدلائل على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من وجوه:
الأول: تعاهد المسلمين لسنن الإستغفار , وهي من أحسن وأجمل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل.
الثاني: بيان حقيقة وهي إرتقاء المسلمين إلى مراتب (خير أمة) بالإستغفار والتبرأ من الذنوب.
الثالث: صحيح أنه لا ترقى أمة بعد المسلمين لنيل مرتبة (خير أمة) إلا أن المسلمين يخرجون للناس بالإستغفار لجلبهم لمنازل التقوى والصلاح وليدخلوا في الإسلام , فليس من قرار ثابت لمقامات الناس في الملل الأخرى، فقد يتوب الفرد والجماعة ويدخلون الإسلام.
وقام بعض الأفراد بوضع الأحاديث , ومنهم من الزنادقة جمع زنديق , وهو الخارج عن الدين الذي يطعن فيه مع علمه بأن هذا الطعن إفتراء، فهو لم يكتف بالإرتداد , ولكنه يأتي بالقذف والتحريف والتشويه والإفتراء على الإسلام , ووضع الأحاديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهناك مثالان:
الأول: وضع محمد بن سعيد المصلوب أحاديث عن رسول الله، فقتله أبو جعفر المنصور بسبب هذا الوضع , ومنه حديث ينسبه زوراً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قال: أنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي إلا ما شاء الله)( )، إلا أن وضع الإستثناء ظاهر خصوصاً وأن الحديث لا يرقى إلى معارضة النصوص المستفيضة والمتواترة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تخبر عن كونه خاتم النبيين.
بالإضافة إلى حقيقة وهي أن أنس بن مالك إنتقل إلى البصرة وعمّر طويلاً، مات في قصره بالطف على بعد فرسخين من البصرة سنة إحدى وتسعين، وذكر أنه مات وهو ابن تسع وتسعين سنة وهو الأنسب لأنه خدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلابد أنه كان يعقل آنذاك دروس الأخبار الكثيرة عن النبي , وكان له قبل أن يموت من صلبه وولد ولده نحو مائة، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا له فقال: اللهم إرزقه مالاً وولداً وبارك له( ) , فلو كان هذا الإستثناء وارداً على لسان أنس لذكره الكثير من رجال الحديث سماعا أو بالواسطة .
الثاني: الزنديق عبد الكريم بن أبي العوجاء قتله محمد بن سليمان الأمير بالبصرة ولما أخذ ليضرب عنقه قال: تقتلني في بعض الأحاديث، لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيه الحلال وأحل الحرام.
وفيه وجوه:
الأول: تأريخ السنة النبوية وسيرة المسلمين تأبى وجود عشرات الأحاديث الموضوعة، فكيف بإدعاء أربعة آلاف حديث.
الثاني: يدل الخبر أعلاه بالدلالة الإلتزامية على وضع آلاف الأحاديث الأخرى، فإذا كان كذاب واحد أدخل أربعة آلاف حديث، فإن الكذابين وأهل الحسد والذين في قلوبهم مرض ليسوا بالعدد القليل، وقيل مجموع الأحاديث التي وضعها الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة عشر ألف حديث.
الثالث: كان قتل ابن أبي العوجاء بعد سنة ستين ومائة للهجرة، وقد دوّن الفقهاء الحديث وفتحت مدارس له في الأمصار، وكانت حلقات العلماء منتشرة في المساجد الكبيرة مثل المسجد الحرام والمسجد النبوي ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة، والمسجد الأموي، إلى جانب المساجد الأخرى إذ يتدارس أهل العلم الأحاديث وفق القواعد.
الرابع: كان الصحابة ثم التابعين يقطعون المسافات والبراري ليلتقوا بصاحبي أو تابعي أو أحد أهل البيت عنده حديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع بيان سنده، ويدركون أن طلب الحديث الواحد يستحق الجهد والعناء وتحمل الأخطار.
الخامس: كان الأدباء يحترزون في الإفتراء ونسبة أبيات الشعر لوقائع تخص أيام النبوة والرسالة أو لغير قائليها فكيف بحال الأحاديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن ابن أبي نهشل عن أبيه قال: قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام – وجئته أطلب منه مغرماً يا خال، هذه أربعة آلاف درهم وأنشد هذه الأبيات الأربعة وقل: سمعت حسان ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالله أن أفتري على الله ورسوله، ولكن إن شئت أن أقول: سمعت عائشة تنشدها فعلت
فقال: لا، إلا أن تقول: سمعت حسان ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فأبى علي وأبيت عليه، فأقمنا لذلك لا نتكلم عدة ليالٍ فأرسل إلي فقال: قل أبياتاً تمدح بها هشاماً يعني ابن المغيرة وبني أمية. فقلت: سمهم لي، فسماهم وقال: اجعلها في عكاظ واجعلها لأبيك. فقلت:
ألا لله قومٌ و … لدت أخت بني سهم
قال: ثم جئت فقلت: هذه قالها أبي. فقال: لا، ولكن قل: قالها ابن الزبعري. قال: فهي إلى الآن منسوبةٌ في كتب الناس إلى ابن الزبعري.
قال الزبير: وأخبرني محمد بن الحسن المخزومي قال: أخبرني محمد بن طلحة أن عمر بن أبي ربيعة قائل هذه الأبيات)( ).
السادس: إبتدأت أيام الخلافة الراشدة حركة تدوين أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاقفتها أيدي العلماء يداً عن يد، مع إجازة للرواية يمنحها الأستاذ لتلميذه وهي عرف لا زال موجوداً بين أهل العلم للوثاقة والتوثيق( ).
السابع: قام علماء الجرح والتعديل وأهل علوم الحديث ومنذ أيام التابعين بإسقاط الأحاديث الموضوعة أو التي تشم منها رائحة الوضع، , ومنها التي وضعت حسبة لترغيب الناس في عمل الصالحات , والترهيب من المعاصي .ومنها التي جاء بها القصاصون وأهل الحديث بغية السؤال . فإمتنع العلماء عن ذكرها في كتبهم , وفضحوا أمرها .
الثامن: كان المسلمون يراجعون الصحابة وأرباب الحديث ويسألونهم عما يروى عنهم (عن سيف بن وهب مولى لبني تميم: قال قال لي أبو الطفيل ألا أحدثك بحديث عن حذيفة بن اليمان كان رجل يقال له عمرو بن صليع وكانت له هيبة وكان بسني يومئذ وكنت بسنك يومئذ فأخذ بيدي فأتينا حذيفة وهو بالمدائن في مسجد محصوب يعني فيه حصا قال فأما أنا فمنعتني الحداثة فقعدت في أدنى القوم وأما عمرو بن صليع فمضى حتى قام بين يدي حذيفة فسلم عليه فقال كيف أصبحت يا أبا عبد الله أو كيف أمسيت قال أحمد الله فقال له عمرو بن صليع ما هذه الأحاديث التي تبلغنا عنك قال وما يبلغك عني يا عمرو بن صليع قال أحاديث لم نسمعها
فقال والله لو حدثتكم بما أعلم ما انتظرتم بي جنح هذا الليل المظلم ولكن يا عمرو بن صليع إذا رأيت قيسا نزلت الشام فالحذر الحذر فو الله لا يدع قيس عبدا مواليا إلا أخافته أو قتلته والله ليأتين عليهم زمان لا يمنعوا (فيه ذئب تلعة قال فقال له عمرو بن صليع ما ينصبك على قومك يرحمك الله قال هو ذاك الآن( ))( ).
فمع أن الحديث يتعلق بقوم حذيفة وذمهم فأنه لم يتردد في ذكر وتكرار الحديث.
التاسعة: تتجلى في المقام الحاجة للقرآن واقية وحرزاً من الوضع.
العاشرة: سلامة القرآن من التحريف إعجاز في حفظ السنة النبوية, ودفع ورفع الوضع عنها.
الرابعة عشرة: آية البحث والسياق تفسير عملي متباين في موضوعه لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، إذ يتحلى المسلمون بالإمتثال للأوامر الإلهية، ويعبدون الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله .
ويتبين مفهوم الآية أعلاه بالفناء والإنقراض للأمم التي جحدت بالربوبية المطلقة لله عز وجل وأقامت على المعاصي وفيه إنذار للذين يتخلفون عن طاعة لله، ويصرون على الكفر والضلالة لأنهم لم يعملوا للغايات التي خلقوا من أجلها , وتأتي سنة المسلمين بذكر الله والإستغفار لتكون حجة وإنذاراً إضافياً للكفار بلزوم التدارك والإنابة والتوبة.
الخامسة عشرة: أختتمت آية البحث بالإخبار عن كون المسلمين أمة علم ومعرفة، وتدل بالدلالة الإلتزامية على أن أعداءهم أهل جهالة وغفلة والتي تتجلى بالإصرار على التكذيب بالنبوات الذي يتعقبه الهلاك والمحو والإندراس , لذا جاءت آية السياق بالسياحة في الأرض للتدبر في سوء عاقبة المكذبين.
وهل ما تنقله وسائل الأعلام المرئية والسمعية في هذا الزمان من السير في الأرض، الجواب نعم , وفيه مسائل:
الأولى: إنه من صيغ الحجة على الناس التعدد مصاديق الآية الكريمة برؤية عموم الناس لمساكن القرون الماضية ورؤية آثار ديارهم والإتعاظ من الأمم الخالية التي أهلكها الله لتكذيبها الرسل، ولإنغماسها في المعاصي.
الثانية: تخفيف عن المؤمنين وتقريب للبعيد.
الثالثة: إنه مصداق من مصاديق تذكير الناس بأحوال الأمم.
الرابعة: فيها دعوة مستحدثة للإتعاظ والإعتبار منها، فمن فضل الله على الناس أن تكون الوقائع حاضرة عندهم.
الخامسة: توظيف العلم والتقنية الحديثة في تأويل آيات القرآن، والإنتفاع الأمثل منها ومن مصاديقها ليكون من مصاديق قوله تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( )، توظيف العلم المكتسب ووسائل الإتصال السريع في الدعوة إلى الله, وإستقراء الدرق التي يستحضر معها الناس ذكر الله، ويبادرون إلى التوبة والإنابة.
السادسة: قالوا أن العالم صار كالقرية الصغيرة، وفيه مصداق لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لبيان الدعوة إلى الله ولزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابعة: السعة والمندوحة والزيادة في سعي المسلمين في سبيل الله، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن صوتهم وحجتهم تصل إلى الناس جميعاً، ومنه ذكرهم لله وقيامهم بالإستغفار وأداؤهم الفرائض، وهو آية ومن مصاديق قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الثالث: صلة قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، بهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فإستغفروا لذنوبهم هذا بيان للناس وهدى.
الثاني: ومن يغفر الذنوب إلا الله هذا بيان للناس.
الثالث: ولم يصروا على ما فعلوا هذا بيان للناس.
الثانية: لجوء المسلمين للذكر والإستغفار عند إرتكاب معصية أو حصول تقصير بيان للناس بلزوم التوبة والإنابة، ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، فإن الله عز وجل أقام عليهم الحجة بإحاطته علماً بكل شيء، ومنه في المقام:
الأول: يعلم الله عز وجل ما لا يعلم الملائكة من ماهية الإنسان وأسرار نفخ الروح من الله فيه , وفتح باب التوبة له.
الثاني: بعثة الأنبياء برداء العصمة والصلاح، وفيه نقض لكلام الملائكة خصوصاً على القول بأن الخلافة خاصة بآدم والأنبياء لتشمل التنزه عن الفساد في الأرض وسفك الدماء الأعم من الأنبياء من الأئمة والأولياء والصالحين الذين يتعاقبون في الأرض، ولا تخلو طبقة أو جيل منهم , قال تعالى[أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ]( ).
الثالث: تفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومن مصاديق الرحمة في المقام أمور:
الأول: تنزه المسلمين عن الفساد والظلم، وعن القتل بغير الحق.
الثاني: حمل المسلمين للواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل من الأمر والنهي دعوة إلى الصلاح، وحرب على الفساد والإفساد بالذات والواسطة.
الثالث: إمتناع المسلمين عن مقدمات الفساد، والأسباب التي تؤدي إلى القتل وسفك الدماء , قال تعالى[وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ).
الرابع: خروج المسلمين إلى الناس جميعاً بالزجر عن المعاصي ومسالك الفساد.
الخامس: إظهار المسلمين لمعاني التوبة والإنابة بالقول والفعل.
السادس: إطلاع الملائكة على تعاهد المسلمين لمصاديق التقوى وإحترازهم من ضدها والإصرار على الذنوب والمعاصي.
السابع: صيرورة المسلمين أسوة حسنة للناس جميعاً في التوبة والإنابة، ويصبح إستغفارهم بياناً عملياً للناس، وترجماناً القرآن.
ليكون من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض أمور:
الأول: تحلي المسلمين بالإستغفار وقيامهم بذكر الله.
الثاني: إطلاع الناس على صلاح المسلمين، وما فيه من الدعوة والترغيب بالإسلام.
الثالث: تثبيت قانون في الأرض وهو: الإستغفار برزخ دون الفساد.
الرابع: بيان حقيقة وهي وتفضل الله عز وجل بمحو إثم الذي يفسد في الأرض إذا تاب إلى الله.
الخامس: سيرة ومنهاج المسلمين ترجمان للقرآن.
الثالثة: يحتمل البيان الوارد في آية السياق (هذا بيان) وجوهاً:
الأول: إرادة القرآن ,
الثاني: الهلاك والفناء الذي أصاب الكفار المكذبين في أنفسهم وأموالهم وديارهم.
الثالث: المعنى الأعم وشموله لخصال المسلمين في باب التقوى والخشية من الله، قال تعالى[الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابع: تفضل الله عز وجل بإعداد وتهيئة الجنة للمتقين، وعلامات المسلمين التي تؤهلهم لدخول الجنة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وفي التعدد والعموم الذي تذكره الآية الكريمة مسائل:
الأولى: بعث المسلمين لتعاهد أسباب ومقدمات دخولهم الجنة.
الثانية: حث الناس على التوبة والإنابة.
الثالثة: تعدد الحجة ومصاديق البيان عون للناس للهداية والصلاح، وهذا التعدد من إعجاز القرآن وعمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابعة: هداية المسلمين للغة الجدال وسلطان البرهان بتعدد وكثرة الآيات والبينات التي تكون مادة لزيادة إيمانهم، وموضوعاً للإحتجاج، والدعوة إلى الله عز وجل.
الخامسة : تتضمن آية البحث الوعد الكريم بالمغفرة للمسلمين مع هدايتهم لسبل هذه المغفرة، أما آية السياق فإنها تتضمن التحدي والإعجاز بتجلي سوء عاقبة الذين كفروا بالربوبية والتنزيل والذي يدل في مفهومه على حسن عاقبة المؤمنين , وهذا الحسن على وجوه:
الأول: إرادة حسن عاقبة المسلمين في الآخرة بالإقامة الدائمة في جنة النعيم.
الثاني: الخاتمة في حياتهم الدنيا، واللطف الإلهي بهم في الأبدان والأرزاق والذرية الصالحة والهداية، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”)( ).
الثالث: إرادة المعنى الأعم الشامل للحياة الدنيا والآخرة إذ تغمر المؤمن السعادة لحسن عمله، والسكينة لأنه في طريق ملاقاة ربه.
ولا تعارض بين هذه الوجوه فالدنيا وإن كانت مزرعة للآخرة إلا أنها تختتم بالموت , والخصال التي يكون عليها الإنسان وان مغادرته الدنيا من غير عودة إليها، والخاتمة الحميدة فيها أمن من عذاب البرزخ وأهوال الآخرة.
وتدل الآيات على موضوعية العاقبة في الدنيا بلحاظ ما فيها من التبكيت للظالمين بالفناء والبوار الذي لحقهم، قال تعالى[فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( )[ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ]( ) [فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ]( ).
الرابعة: تأكيد فضل الله عز وجل على الناس عامة والمسلمين خاصة بنزول القرآن، وما في آياته من المواعظ وأسباب الهداية إلى سبل التقوى.
ومن إعجاز آية السياق بلحاظ آية البحث أمور:
الأول: تحبب آية السياق ذكر الله والإستغفار إلى الناس، وتجعلهم يدركون الحاجة إليهما، والنفع العظيم في كل منهما.
الثاني: تفكر الناس بأحوال المسلمين، ولجوئهم إلى الذكر والإستغفار عند فعل الفاحشة، ليكون هذا اللجوء آية من آيات الله في الأرض وهل هو من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( )، الجواب نعم، إذ تكون إستجارة المسلمين بالإستغفار دعوة للناس لمحاكمتهم، والتدبر في الحاجة إلى الإستغفار.
الثالث: جعل النفوس تنفر من الإصرار على الذنوب والخطايا.
الرابع: معرفة الناس جميعاً بأسباب ومقدمات الأجر والثواب، ودخول الجنة في عالم الآخرة.
الخامسة: بين المسلمين والناس بلحاظ آية السياق عموم وخصوص مطلق، إذ يشترك المسلمون مع الناس في تلقي البيان، ويختص المسلمون بالهداية والموعظة الواردة فيها وفي آية البحث.
فإن قلت قد يهتدي الكافر بهذا البيان، ويتخذ هذه الآيات وما فيها من البشارة بالعفو والمغفرة للمتقين طريقاً للتوبة والإنابة، وسبيلاً إلى الجنة.
الجواب نعم، ليكون في هذه الحالة من المتقين الذين ذكرتهم هذه الآية بقوله تعالى(وموعظة للمتقين) وفيه آية إعجازية وهي أن الإنسان حال تركه منازل الكفر، وإعلانه التوبة يصدق عليه أنه متق، ليشمله قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وفي هذا الشمول وجوه:
الأول: إنه من فضل الله عز وجل على الناس، قال تعالى[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
الثاني: ترغيب الناس بالتوبة، ودعوتهم للإيمان.
الثالث: إقامة الحجة على الناس، بتعدد صيغ اللطف الإلهي لجذبهم لسنن الهداية.
الرابع: العز والمنعة للمؤمنين بكثرة عددهم، وزيادة قوتهم بإنضمام أهل التوبة والإنابة لهم وصيرورتهم بمرتبة واحدة معهم في مصاديق التقوى.
وعن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه؟ قال إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح{إن الشرك لظلم عظيم} إنما هو الشرك)( ) .
وكأن قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه من تقييد المطلق بالسنة النبوية، إذ أن الظلم أعم، وكذا ورد عن سلمان المحمدي لمّا سئل عن الآية، وأخرج عن ابن مهران: أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأه، فدخل ذات يوم فقرأ، فأتى على هذه الآية:”الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون”، فانفتَل وأخذ رداءه، ثم أتى أبيّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر فتلا هذه الآية:”الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم” وقد ترى أنا نظلِم، ونفعل ونفعل! فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا ليس بذاك، يقول الله تعالى ذكره:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، إنما ذلك الشرك)( ).
وفي هذا التقييد وحصر الظلم بالشرك في المقام تخفيف عن المسلمين ولطف بهم، وتدل عليه آية البحث فمع أنها ذكرت الظلم وفعل الفاحشة بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ] فإن التفسير والتقييد أعلاه وبإرادة الشرك من الظلم يجعل المسلم من الذين لم يخلطوا بإيمانهم ظلماً، وتؤكده ذات آية البحث بنعت المسلمين بالمتقين، ومجيء الإستغفار على المعصية ومحوه لها.
ومن معاني الإستغفار أنه حب لله عز وجل، وإنتفاء الشرك به سبحانه، فلا يتوجه المسلم عند فعل الذنب بالإستغفار إلا لله عز وجل ليكون من عمومات قوله تعالى[وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا]( )، ليأتي الإستغفار لله وبالله ومن الله.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين بعث اليأس في نفوس الكفار لإمتناع المؤمنين عن الإرتداد بسبب مصاحبة المغفرة من الله لفتح باب الإستغفار لهم فلا يصيبهم القنوط من رحمة الله، ليكون من نعم الله عز وجل على المؤمنين السلامة من القنوط على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، فكل فرد من المسلمين يدرك منافع الإستغفار في محو الذنوب، وتسلم الأمة كلها بفضل الله في العفو والمغفرة لمن يلجأ إلى الإستغفار عند فعل الفاحشة.
ومن معاني هذا التسليم السنة النبوية وما فيها من البشارات والأخبار التي تدل على الملازمة بين الإستغفار والأمن.
وفيه آية في مفاهيم وقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتغشى الشوق المسلم في الأمر والنهي وتلقيهما لما فيهما من النفع الخاص والعام وكأنهما بناء في صرح الهداية والصلاح، ويدرك المسلمون ما في الأمر والنهي من جلب المصلحة ودفع المفسدة بأمور الدين والدنيا، وهو من عمومات الإحسان في قوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
السابعة: تلتقي آية البحث والسياق في أمور:
الأول: كل من الآيتين هداية وموعظة للمتقين.
الثاني: تهدي كل منهما إلى التوبة والإنابة.
الثالث: تدعو الآيتين لترك الفاحشة وفعل السيئات، واللجوء للإستغفار والتوبة عند إرتكاب المعصية.
ومن إعجاز القرآن أن الإشارة إلى البيان جاءت بصيغة المذكر(هذا بيان) إذ أنه إنحلالي فكل آية من القرآن تكون بياناً في معانيها ودلالتها من وجوه:
الأول: إنها بيان للناس جميعاً.
الثاني: الآية القرآنية مدرسة في الصلاح والتقوى.
الثالث: كل آية برزخ دون الغفلة والجهالة.
الثامنة: قد تقدم قبل آيتين الإخبار الإلهي بأن عرض الجنة السموات والأرض، ومن خصائص الإخبار القرآني أنه بذاته يحمل معاني البشارة والإنذار منطوقاً ومفهوماً , إذ تضمن هذا الإخبار البشارة المقرونة بالإعجاز والتحدي بأن عرض الجنة هو السموات والأرض متصلة بعضها ببعض مع أن الإنسان يبقى قاصراً وعاجزاً عن معرفة أبعاد وأطوال السموات.
وهل يستطيع العلم والتقنية المتطورة معرفة أطوال السموات كما تم معرفة مساحات وأطوال الأرض ولو إنطلقنا من نقطة من الأرض في الفضاء الخارجي، ورجعنا إلى النقطة المقابلة لها من الأرض مع إتحاد الزمان وحركة دوران الأرض , فهل يعني هذا إكتشاف السموات وبلوغ الغاية والمنتهى فيها.
الجواب لا، لأن السماوات أعم من التقابل والحصر المكاني , والإنسان قاصر عن الإحاطة بكل طبقات السماوات وأبعادها وموجوداتها ، قال تعالى[يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ]( )، ولو تنزلنا وقلنا بإمكان إكتشاف الإنسان في أزمنة لاحقة اللامتناهي من السموات وبلوغ منتهاها وغايتها فهو لا يتعارض مع دلالات الآية أعلاه وفيه شاهد على بديع صنع الله عز وجل وعظيم قدرته وسلطانه.
وقد جعل الله عز وجل آية قريبة منها في ذات الإنسان إذ صيره مركباً من روح وبدن، وكشف الطب القديم والحديث أعضاء الإنسان بينما بقي عاجزاً عن إدراك ماهية الروح.
ويتجلى الجمع بين آيات السماء وخلق الإنسان بقوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
ولو تنزلنا وقلنا بإكتشاف الإنسان بالمركبات الفضائية وغيرها من وسائل العلوم والإكتشاف المستحدثة كل طبقات السماوات وفرض المحال ليس بمحال، ولم يجد الناس فيها معالم وأوصاف الجنة التي وعد الله عز وجل من القصور والأنهار والفواكه فهل يخل هذا بالوعد الإلهي بقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ].
الجواب لا، من وجوه:
الأول: جاء إعداد الجنة وبيان سعتها من باب التشبيه بسعة وعرض السموات والأرض وليس السموات والأرض بالذات كما في قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ).
الثاني: لم يعد في الآخرة وجود للسموات والأرض، إذ أنها تطوى وتضمحل بعظيم قدرة الله، وكأن الموت يصيبها كما يصيب الناس، خصوصاً وأن الله عز وجل سخّرها للناس في حياتهم الدنيا.
الثالث: ومع القول بأن الجنان في السماوات , فإن الله عز وجل قادر على أن يأتي بها وبمثلها من عالم آخر، وتكون في ذات المحل والأمكنة والفضاء الذي فيه السموات والأرض بقوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ) .
وهل إحضار الجنة والنار من عوالم أخرى غير السموات والأرض يتعارض مع القول بأنهما مخلوقتان، الجواب لا، لأن النقل غير الإيجاد والإستحداث.
أما القول بأن الجنة قد تكون قريبة منا وهي على هذه الأرض والسماء ولكن لا نراها بحواسنا فهو بعيد ولا أصل له، لأنها أمر حسي يدرك بالآلة الباصرة والسامعة والشامة الذائقة، وجاءت آية السياق لبيان حقيقة سعة الجنة.
وإن قلت جاء إعداد الجنة للمتقين، بينما أخبرت آية السياق بأن البيان للناس جميعاً , والجواب من وجوه:
الأول: بين البيان والإعداد عموم وخصوص من وجه، فالبيان أعم وأوسع، ومن فضل الله عز وجل أنه شامل للناس جميعاً.
الثاني: البيان رحمة من الله عز وجل يتساوى الناس فيها جميعاً، فكما يتفضل الله بالرزق والهواء والماء والسكن على للناس جميعاً كحاجة للأبدان فإنه سبحانه تفضل بغذاء عقائدي للنفوس لهدايتها إلى سبل النجاة في الآخرة، مع تداخل مصاديق الرزق في المقام إذ يكون رزق الأبدان مقدمة لتلقي البيان , والعكس صحيح أي أن تلقي البيان سبب لزيادة الرزق.
الثالث: البيان من صفات الكمال أو قل إن عدم البيان علامة النقص، وتبعث إفاضات الله عز وجل عامة على الكمال الإنساني ومنه البيان الذي يكون من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة بلحاظ إستعداد القابل والمتلقي، قال تعالى[الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ]( ).
ليكون البيان مادة للتفاضل بين الناس، فرزقهم الله عز وجل العلم بالإكتساب إلى جانب ملكة النطق والتعبير والإفصاح عما في الفؤاد.
ومن البيان الذي علمه الله عز وجل أفراد الإنسان الإستغفار الذي تضمنته آية البحث، وهو أبهى وأحسن مصاديق البيان بالذات والعرض، ولا ينحصر أثره بالحياة الدنيا بل يشمل عالم الآخرة بالفوز بأسنى المراتب.
التاسعة: بيان حقيقة وهي أن الترغيب في آية البحث بالتوبة والإنابة والبشارة بالعفو والمغفرة عند الإستغفار ليس سبباً للتمادي في السيئات وإغراءً في المعاصي، وجاءت آية السياق لأمور:
الأول: آية البحث بيان لقانون كلي ثابت من رحمة الله.
الثاني: من مصاديق البيان في المقام مجيء آية البحث في صفات المتقين، والذي يدل بالدلالة التضمنية على تنزه المسلمين عن التمادي في السيئات بسبب آية البحث وما فيها من الهداية إلى الإستغفار.
الثالث: جاءت آية البحث بالندب إلى الإستغفار، أما تحقق المغفرة والعفو فهو أمر بيد الله عز وجل، والبشارة به نعمة من عنده تعالى.
العاشــرة: إبتدأت هـــذه الآية بـــذكر المتقين , وتهـــيئة الجنـة لــهم بقــوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] لبــيان عفو وثواب الله عز وجل للمسلمين في الآخرة، وأختتمت آية السياق بقوله تعالى[هُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] وفيه وجوه:
الأول: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين في الحياة الدنيا , وبقاء بابه مفتوحاً للزيادة عليهم قال تعالى[وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
الثاني: جعل المسلمين يتعاهدون منهاج الصراط المستقيم , والطريق الذي يؤدي بهم إلى الجنة الواسعة.
الثالث: من مصاديق الموعظة قوله تعالى(أعدت للمتقين) وهل هذه الموعظة خاصة بالمتقين أم أنها عامة وشاملة للناس جميعاً.
الجواب هو الثاني إلا أن المسلمين هم الذين إتخذوا من هذا الإعداد موعظة وعبرة.
الرابع: دعوة المسلمين والناس للتدبر في عالم الآخرة، فصحيح أن الآية أعلاه جاءت بالإخبار عن إعداد الجنة للمتقين، ويدل الجمع بين الآيتين على أن دخول المتقين الجنة بلطف ومدد من الله لهم في الدنيا، والنبوة والتنزيل خير شاهد عليه، إذ أن الناس يصلون إلى منازل التقوى بهداية من الله عز وجل.
إعجاز الآية
ينقسم إعجاز الآية إلى أقسام:
القسم الأول: الإعجاز بلحاظ نظم الآيات وهو على شعبتين:
الأولى: إبتدأت الآية بحرف العطف الواو الذي يدل على إتصال الآية موضوعاً وحكماً بالآية السابقة لها، ترى لماذا لم تتحد الآيتان في آية واحدة خصوصاً وأنهما جاءتا ببيان صفات المتقين .
والجواب من وجوه :
الأول: ترتيب وتقسيم آيات القرآن من حكمة الله، وهو إعجاز قائم بذاته، والأصل أن نتدبر المعاني والدلالات التي تتجلى في التقسيم القرآني للآيات، ونستنبط منها المسائل والأحكام.
الثاني: تعدد آيات صفات المتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة ترغيب في التحلي بتلك الصفات.
الثالث: فيه دعوة للإلتفات إلى كل صفة من صفات المتقين على نحو مستقل.
الرابع: التباين الموضوعي في الصفات التي تذكرها الآيتان، إذ جاءت الآية السابقة بخصوص فعل الحسنات، وجاءت هذه الآية في موضوع التدارك.
الخامس: تجلي الترابط والتداخل بين الآيتين في موضوعهما مع إتحادهما في الحكم، والإستغفار نوع إحسان للذات وصلاح للنفوس والمجتمعات.
السادس: أختتمت الآية السابقة بقانون كلي ثابت[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، فلم يأت قوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً]، بعد بيان شطر من صفات المتقين مباشرة للتباين الموضوعي بين تحقق مرتبة المحسنين وبين فعل الفاحشة فأختتمت الآية السابقة بالثناء على المحسنين , وهذا الثناء نوع جزاء حال , وبدأت آية البحث بحرف العطف الواو والاسم الموصول (والذين) للدلالة على الإختلاف الموضوعي والإنتقال إلى صفات أخرى مباينة لها في الموضوع , متحدة معها في الماهية والغاية بالتدارك بالإستغفار , وهذا التدارك من الإحسان الذي أختتمت بالثناء عليه الآية السابقة .
السابع: جاءت الآية السابقة بصيغة الإطلاق في فعل الحسنات، أمّا هذه الآية فجاءت بصيغة الجملة الشرطية والتعليق , ليفيد الجمع بين الآيتين مواظبة وإقامة المسلمين على الخصال التي جاءت بها الآية السابقة من الإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس، أما فعل الفاحشة فهو أمر محتمل، وقد يطرأ عليهم.
الثانية: جاءت الآية التالية ببيان ثواب المتقين الذين ذكرت هذه الآية والآية السابقة صفاتهم وخصالهم الحميدة، وكأنه دليل على إنعدام البرزخ والفترة بين إتيان المسلم الصالحات وبين الثواب الأخروي، وعن رسول صلى الله عليه وآله وسلم: من مات فقد قامت قيامته)( ).
ولم ترد آية السياق بالاسم الموصول (الذين) بل إبتدأت باسم الإشارة (أولئك) لإفادة الإكرام للمؤمنين الذين يعملون الصالحات لأنهم بالتقيد بأحكام ومضامين هذه الآية والآية السابقة إستحقوا الإكرام وبلغة الإشارة للبعيد التي تفيد الثناء عليهم , ولزوم بذل الوسع لبلوغ مرتبتهم .
إن لفظ (أولئك) من بدايات مصاديق الجزاء الحسن، وفيه ترغيب بالتقوى , وحث على اللجوء إلى ذكر الله والإستغفار عند فعل المعصية ومطلقاً أي حتى عند التوقي من فعل السيئات.
القسم الثاني: الإعجاز الذاتي للآية إذ جاءت بصيغة الجملة الشرطية (إذا) للتعليق لفعل المعصية، ولأنه على سبيل الإحتمال، ويتجلى أيضاً هذا الإحتمال بدلالات ومعاني العطف على الآية السابقة بلحاظ أن ما فيها من الخصال الحميدة حرز من فعل السيئات.
وتبين الآية موضوعية ذكر الله عز وجل في إصلاح النفوس والمجتمعات والتوقي من فعل السيئات، وهذه الآية هي الآية الثانية في ذكر صفات المتقين الذين أصلح الله لهم[جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( )، جاءت متعقبة للصفات الأخرى والتفصيل في حال إرتكاب السيئات، إذ ذكرت الآية قسمين من الإبتلاء الذ يهو خلاف سنخية الإيمان المستقر عند المسلم والمسلمة :
الأول: فعل الفاحشة.
الثاني: ظلم النفس.
وهو مناسبة لتفقه المسلمين في الدين، وطرد الغفلة والجهالة عنهم مجتمعين ومتفرقين، فلا يقتصر إستغفار المسلم على حال فعل الفاحشة، ويظن أن ظلمه لنفسه أمر هين، وهو حق خاص له، وكما ورد التفصيل والتعدد أعلاه فإن التدارك جاء على قسمين أيضاً وهما:
الأول: ذكر الله عز وجل.
الثاني: الإستغفار.
وتفتح الآية باب الدراسات والتحقيقات في علم (ذكر الله) من جهات:
الأولى: الحاجة إلى ذكر الله عند الشدائد وفي المهمات، إذ أن فعل المعصية وزر لا يدفعه مال أو جاه أو شأن، فليس لمحو أثره إلا الذكر والإستغفار، قال تعالى[لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ]( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيما داع إلى ضلالة فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء)( ).
وإذا كانت الدعوة إلى الإستغفار من مصاديق الهدى فهل اللجوء إلى الإستغفار عند فعل الفاحشة ومطلقاً من الدعوة إلى الهدى، ويصدق عليه عنــوان إتباع الغير للمســتغفر .
الجــواب نعم، وهو من فضــل الله عز وجل على المسلم إذ يكون إستغفاره على وجوه:
الأول: إنه مرآة للصلاح والفلاح.
الثاني: فيه بيان لتعدد صيغ ووسائط الجذب إلى سبل الهداية.
الثالث: رأفة الله عز وجل بالمسلم بتعدد وكثرة الأبواب التي يرده منها وفيها الأجر والثواب.
الرابع: أصالة إنتفاع الناس من إستغفار المؤمن لأنه خير محض، ذو رشحات عامة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لو أن عبداً بكى في أمة من الأمم، لأنجى الله تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد , وما من عمل إلا له وزن وثواب إلا الدمعة، فإنها تطفئ بحوراً من النار , وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله ، إلا حرم الله جسدها على النار، وإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة)( ).
الثانية: موضوعية ذكر الله في أمور الدين والدنيا، ودعوة الناس للجوء إليه أماناً وشفاءً.
الثالثة: تعدد منافع ذكر الله عز وجل وكيف أنه وسيلة محو السيئات.
الرابعة: الــذكر مقـــدمة ومناســـبة للإستغفار وسؤال العفو من الله عز وجل.
الخامسة: ذكر الله زاجر عن العودة إلى المعصية، والتمادي في فعل السيئات.
ومن إعجاز الآية أنها لم تجعل الذكر والإستغفار شرطين على نحو الإجتماع أو التخيير أو البدلية للعفو عن المؤمن الذي يفعل الفاحشة أو يظلم نفسه، بل جاء قوله تعالى[ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، على نحو الإخبار وبيان صفة كريمة للمتقين وفيه نكتة ورشحة من الفيض الإلهي وهي أن المسلم في حال ذكر وإستغفار متصل، ليأتي الإستغفار المقصود بالذات على الذنوب مطلقاً , ومنها التي فعلها المسلم ونسي الإستغفار عنها على نحو التعيين.
والآية الكريمة تأديب للمسلمين في ترك ذكر المعصية وإجتناب إفشائها موضوعاً ورواية وخبراً بين الناس، إذ تدل في مفهومها على حقيقة وهي لزوم عدم التعريض والذم للمؤمن لما إرتكبه من الذنب وظلم النفس , لأن إـيانه بالذكر وقيامه بالإستغفار تدارك , وقد أخبرت الآية عن بقائه في منازل التقوى, (وعن الإمام علي عليه السلام: مذيع الفاحشة كفاعلها) .
وتنمي الآية ملكة الصبر في أداء العبادات , وترغب بالإكثار من الإتيان بالمندوبات والمستحبات، فكما أن الذكر والإستغفار يأتيان على أثر المعصية السابقة فإنهما حرز من فعل تلك المعصية أو غيرها في قادم الأيام.
القسم الثالث: الإعجاز الغيري للآية إذ تتعدد مصاديق الإعجاز في الآية الكريمة منطوقاً ومضموناً ودلالة، وهي في موضوعها حاضرة على نحو يومي دائم في :
الأول: الوجود الذهني للمسلم.
الثاني: الوقائع العامة والخاصة , ذات الأسباب والعلل الظاهرة وغيرها .
الثالث : المصاديق الخارجية لفعل الإنسان.
وبين الثاني والأول أعلاه عموم وخصوص مطلق، إذ أن الوجود الذهني للإنسان محدود، وهو عاجز عن الإحاطة بالوقائع والحوادث في مستقبل الأيام , ويهجم عليه النسيان فلا يذكر بعض الهنات والزلات والمعاصي .
ويقصر الإنسان عن بلوغ مراتب العلم الحضوري في المقام , وهو الذي يكون فيه العلم والمعلوم بمرتبة واحدة , ولا يستطيع أن يكون وجود العلم بأفراد المعصية التي إرتكبها هو عين وجود المعلوم، فمن محدودية الوجود الذهني عدم حضورها عنده .
فتأتي هذه الآية لتكسب المسلم علماً حصولياً عن عالم الأفعال وتقسيمها بلحاظ الحسن والقبح الشرعيين , ولا تقف عند هذا الحد بل تجذبه إلى منازل الإستغفار, وهو من عمومات قوله تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
ومن إعجاز الآية أنها تجعل ذكر الله ولزوم الإستغفار حاضرين عند المسلم مع إقترانهما بالثواب الأخروي للمتقين الذين يتخلف التصور الذهني عن الإحاطة بماهية ظلم النفس وكيفيته ومتى حصل , فجاءت آية البحث ليلوذ المسلم بذكر الله، ويلجأ إلى الإستغفار عن الذنوب التي إرتكبها مطلقاً وهي:
الأول: الذنوب الماثلة نصب عينيه، وتلح عليه وتجعل مضجعه ينبأ به، ويتململ وهو جالس، ويتحسر إختياراً وقهراً، فدلته الآية على الشفاء من هذا الداء وآثاره , قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثاني: الذنوب التي يستحضرها الذهن بأدنى تفكر.
الثالث: المعاصي التي يتذكرها العبد عندما يسمع ويرى صدور مثلها من غيره.
الرابع: ما يستحضره عند تلاوة القرآن، والسير في الأرض وحدوث أسباب العبرة والموعظة من الأمم الأخرى، قال تعالى في إحتجاج موسى على فرعون ودعوته له للإسلام، وإصرار فرعون على الجحود، وبطش الله عز وجل به[إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى]( ).
ويمكن تسمية الآية آية (ذكروا الله) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، نعم ورد مع حرف العطف الواو (وذكروا الله كثيراً) في آية من سورة الشعراء( ).
الآية سلاح
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين المرتبة العظيمة بين أهل الأرض وتنال هذه المرتبة ببلغة الإستغفار، وهو أمر سهل على اللسان، عسير على النفس إلا من هدى الله عز وجل، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ) .
وتبين الآية أن المسلمين بشر قد يقع بعضهم في مستنقع الرذيلة، ولكنه يلجأ إلى طريق واضحة لمحو هذا الوقوع وهو الإستغفار، ليكون بينهم وبين الناس قدر مشترك وقدر مميز بلحاظ أن القدر المشترك فعل السيئات، والقدر المميز للمسلمين هو إنبعاثهم للذكر والإستغفار عند فعل السيئة أو ظلم النفس , للتباين في النية والعزم وأصل الفعل، فيبني المسلم على قصد القربة إلى الله وعدم فعل المعصية، وهو إن فعلها يلجأ إلى الذكر والإستغفار , بالإضافة إلى السنخية وأن الكافر غارق في وحل المعصية , أما المسلم فإن نفسه تنفر منها بالأصالة والعرض , لذا يبادر إلى التبرأ منها, .
لذا أختتمت الآية ببيان خصلة حميدة عند المسلمين وهي عدم إصرارهم على المعصية والذنب، فسرعان ما يرجعون إلى أحكام الشريعة في سنن الحلال والحرام .
لقد جاءت الآية بسلاحين هما :
الأول: سلاح ذكر الله وما يبعثه من السكينة في النفس، وهو مقدمة للإستغفار وإدراك الحاجة للتوبة والإنابة، قال تعالى[أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ]( ).
الثاني: قول (أستغفر الله) وما يترتب عليه من الأثر والنفع العظيم بمحو السيئة بفضل من الله.
والآية سلاح في حفظ كلمة التوحيد، وحرب على الغلو بالأنبياء والملائكة والصالحين، إذ أنها تحصر المغفرة بالله عز وجل، وفيه حجة على حاجة الناس لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهذه الحاجة من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، وتتجلى بما آلت إليه بعض كتب أهل الكتاب من التحريف من الأتباع , كما في مسألة صكوك الغفران التي ظهرت في أوربا في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي , وإزداد تداولها في القرآن الخامس عشر لتشترى للأقرباء والموتى لينالوا الإعفاء الكلي أو الجزئي من الخطايا والمعاصي , ويفوزوا بالعفو الذي يدخلهم جنة السماء.
وقام البابا بإصدار أعداد كبيرة منها ، وأخذ يوقع على بياض ليطوف الرهبان بها في المدن والقرى لبيعها، وتدوين الأسماء عليها، إلى أن حدثت حركة الإصلاح الديني، التي قادها مارتن لوثر المولود في مدينة إيسلين في ألمانيا سنة1483 لأب فلاح، وطالب أيضاً بما جاء به الإسلام من الغاء الوساطة بين المؤمنين والله عز وجل أي من غير المرور بشخص البابا أو غيره، ومال إلى اليهود تحت ضغط هدر الكنيسة دمه، وتراجع فيما بعد عن هذا الميل، وطالب بزواج الكهنة والقساوسة، وتزوج هو نفسه ورزق ستة من الأولاد بنين وبناتاً، ويعد الأب الروحي للبروستانتية.
وفي سنة 1546 دعي إلى البلدة التي ولد فيها لفض نزاع، فأفلح في حله، ولكنه أصيب بنوبة برد ما لبث أن توفى على أثرها.
وهل كان للإسلام ودعوة القرآن لطلب المغفرة من الله عز وجل وحده أثر على حركة الإصلاح في أوربا وغيرها، الجواب نعم، خصوصاً مع إمتداد سلطان الدولة الإسلامية إلى بعض أجزاء أوربا، والتداخل بين أهل الملل والنحل، وهو من عمومات الخطاب الإلهي الموجه إلى النبي محمد صلى الله وآله وسلم[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وبنزول القرآن أصطبغت الأرض ببهاء سلاح الإستغفار، وصار قريباً من الناس، وأدرك الناس عظيم نفعه، وليس في حمله ثقل أو وطأة بل هو خير محض يبعث البهجة في النفوس، ويجعلها تقبل على العمل لأمور الدين والدنيا بهمة وغبطة وسعادة، ويحول دون حصول الخصومات والنزاعات التي تترشح عن الإنفعال وغلبة النفس الغضبية والشهوية.
وبينما إبتدأت الآية بإحتمال فعل المسلمين الفاحشة فإنها أختتمت بالشهادة لهم جميعاً بالعلم والمعرفة، وفيه دلالة على أن اللجوء إلى الإستغفار علم قائم بذاته فاز للإرتقاء له المسلمون، وفيه آية إعجازية بتعاهدهم لمرتبة الذكر والإستغفار والعلم واقية من العودة إلى المعصية والفاحشة.
وفيه دليل على موضوعية إبتداء نزول القرآن بطلب العلم، بقوله تعالى[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ]( )، ليكون العلم بلغة العبادة لله والتقيد بسنن الشريعة، وما فيه من أحكام الحلال والحرام.
وتبين الآية فضل الله عز وجل على المسلمين، وهدايتهم إلى سلاح التقوى الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتحمّل من أجل تثبيته في الأرض وهداية الناس له العناء، وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما أوذي نبي قط مثل ما أوذيت)( ) أي أنه تلقى الأذى من الذين أراد لهم الصلاح وإستحضار ذكر الله، والتوبة، والتنزه الخاص والعام عن ملازمة المعصية وتجدد إرتكاب الفاحشة.
لقد آذوه ليتركوا التوبة، ولكنه لم يتركــهم، بل إستمر في جهاده النبوي الذي هو رشحة من رشحات الوحي، فكانت آية البــحث ضياء يهدي الملايين من المســلمين كل يوم لســبل الجنة والنعيم الدائم, قال تعالى[مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا]( ).
ونزلت الآية أعلاه في قصة أهل الكهف والإتعاظ منها، (أن قريشًا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح)( ).
وكان أصحاب الكهف من أبناء الملوك وساداتهم وكان قومهم يعبدون الأصنام والطواغيت، ويتقربون إليهم بالذبائح، وعندهم ملك طاغية إسمه (دقيانوس) فخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم إلى يوم فيه يجتمعون في ظاهر البلد .
فإعتزلوا قومهم كل واحد منهم على حدة، مستنكرين لفعلهم، فإلتقوا على عبادة الله وحده وإتخذوا مسجداً يعبدون الله عز وجل به، فوشى الناس بهم إلى الملك فأحضرهم بين يديه فدعوه إلى عبادة الله، ولكنه بدل أن يستجيب لهم أنذرهم وتوعدهم، وأمر بخلع لباس الزينة عنهم، وأمهلهم ليرجعوا إلى دينه وأنظرهم إلى حين، فإختاروا الهرب في تلك الفترة , والنجاة من الإفتتان والبطش، فدخلوا إلى الكهف وحفظهم الله في آية من آياته[وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا]( ).
ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم واجه الطواغيت في أيامه وتحمل الأذى ليقود المسلمين نحو النصر النهائي على الكفر والجحود.
وهو من مصاديق الإنقلاب النوعي في الصراع بين الكفر والإيمان , فلا يحتاج المؤمنون بعثته صلى الله عليه وآله وسلم الإختفاء بالكهوف والجبال فإن قلت قد يحدث الهرب من السلاطين والحكام وقد يتلقى المؤمنون أشد أنواع الأذى .
والجواب هذا صحيح ولكنه قياس مع الفارق فكان الملك وقومه يومئذ يعبدون الأصنام فإضطر أهل الكهف إلى الهرب بدينهم، وحينما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثبت الإيمان في الأرض وعلت راية التوحيد، ولا بد من أمصار يعبد فيها الله جهرة وعلانية في كل يوم، وليس من سلطان أو ملك يدعو إلى عبادة الأصنام أو الطواغيت، وإنتفاء هذه العبادة من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من جهات:
الأولى: إتباع المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع شدة الأذى الذي يتعرضون له من الكفار، وكانوا يرون إيذاء رؤساء الكفر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فشاطره نفر منهم الأذى وتلقى صنوف العذاب منهم بلال وعمار بن ياسر، وأبوه وأمه سمية.
ولم تمر الأيام والسنون حتى يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً يوم الفتح بأن يعلو ظهر الكعبة ويؤذن، فصعق كبراء قريش ولم يطيقوا ويدركوا العز الذي يترشح عن الإيمان .
(فقال عتاب بن أسد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتّى لم ير هذا اليوم .
وقال الحرث بن هاشم: أما وجد محمّدٌ غير هذا الغراب الأسود مؤذِّناً؟ .
وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئاً يغيره، وقال أبو سفيان بن حرب: إنّي لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به ربّ السماء .
فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بما قالوا، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وسألهم عمّا قالوا، فأقرّوا، فأنزل الله سبحانه[ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ) وزجرهم، عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء للفقراء)( ).
ترى لماذا عذبوا بلالاً عذاباً شديداً متجدداً كل يوم، الجواب من وجوه:
الأول: إستضعاف قريش لبلال لأنه كان عبداً لعبد الله بن جدعان.
الثاني: تحدي بلال لقريش بإعلانه الإسلام جهرة فلم ينقاد لأوامر قريش، ويتبعهم في ظلالتهم .
الثالث : في إعلان بلال إيمانه بنبوة محمد دعوة لشباب قريش ولعموم العبيد عندهم بدخول الإسلام، ومن خصائص الأنبياء أن المستضعفين والعبيد من أوائل الذين يتبعونهم.
الرابع : ثبات بلال على الإيمان مع شدة التعذيب وعلم أهل مكة والقبائل بصبر بلال في جنب الله ، وفيه دعوة للتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تجعل المؤمنين يتمسكون بالإسلام, ويجهرون بالتوحيد تحت وطأة التعذيب القاسي.
الخامس : قيام بلال بالهجوم على الأصنام التي كانت قريش تعبد, عن ابن عباس: أن بلالا لما أسلم ذهب إلى الأصنام فسلح( ) عليها، وكان المشركون وكلوا امرأة تحفظ الأصنام، فأخبرتهم المرأة، وكان بلال عبداً لعبد الله ابن جدعان، فشكوا إليه، فوهبه لهم ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء، وهو يقول: أحداً أحد، فمرّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ينجيك أحد أحد)( ).
ويدل الحديث أعلاه على أن ذكر الله سلاح لتحمل الأذى، ومادة للصبر، وغذاء للجوارح وأعضاء البدن عند الشدائد، قال تعالى[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( )، ويدل كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (ينجيك أحد أحد) على أن بلالا كان يستغيث بالله، ويستجير به تعالى، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد نجى بلال ومدّ الله في عمره ولم يكن بلال مؤذناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحسب بل كان يقوم بالدعوة والتبليغ (عن أنس قال:”وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال: يا بلال أنصت لي الناس، فقال بلال يا معشر الناس أنصتوا، فقال: أتاني جبرائيل آنفاً فأقرأني آنفاً من ربي السلام، فقال: إن الله غفر لأهل عرفات ما خلا التبعات أفيضوا بسم الله”)( ).
و(عن سويد بن غفلة كان بلال يسوي مناكبنا في الصلاة)( )، وورد إكرام بلال في السنة النبوية بذكر رفعة مقامه وعلو شأنه يوم القيامة فقد ورد عن عمر بن علي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال:”إذا كان يوم القيامة حملت على البراق وحملت فاطمة على ناقتى القصواء وحمل بلال على ناقة من نوق الجنة وهو يؤذن تسمع الخلائق”)( ).
وتوفي بلال الحبشي سنة عشرين للهجرة في داريا وهي(قرية كبيرة مشهورة من قرى دمشق بالغوطة)( ).
لقد كان ذكر الله مؤنساً لأهل الكهف، وإختاروا إعتزال قومهم، وتلقوا الأذى وأثابهم الله عز وجل بأن جعل محل إعتزالهم مسجداً، وأحيا ذكرهم في العالمين إلى يوم القيامة بسورة خصهم بإسمها هي سورة الكهف.
وقد تفضل الله عز وجل على المسلمين أنهم مع الذكر جاهدوا في سبيل الله إلى أن تم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة ليكون فتحاً لقلوب الناس للإسلام، وإزاحة لأسوار المدن عن الدعوة إلى الله ليمتاز المسلمون عن الأمم السالفة بأنهم لم يكتفوا بذكر الله في الكهوف وأعالي الجبال بل حملوا لواء جهاد الذكر عالياً إلى أن صدح الأذان في مشارق الأرض ومغاربها حتى إذا جاء موسم الحج توجه المسلمون من كل أقطار الأرض لأداء فريضة الحج، ليكون من مصاديق الفتح أن الله فتح للمسلمين من جميع أقطار الأرض مكة وشعابها، قال تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
مفهوم الآية
جاءت الآية في بيان صفات المتقين، وفي مفهومها مسائل:
الأولى: بيان رفعة وعلو منزلة المسلمين بذكر الصفات التي تقودهم إلى الجنة.
الثانية: إرتقاء المسلمين في مراتب التقوى بمعرفة سبل التدارك والتخلص من المعاصي وتبعاتها.
الثالثة: بيان قانون كلي في الحياة الدنيا، وهو إنعدام البرزخ بين رحمة الله والعبد، وأن فعل المعصية وإرتكاب الذنب ليس حاجباً دونها.
الرابعة: قرب المغفرة من المسلم بسلاح الإستغفار وإظهار الندم.
الخامسة: دعوة المسلمين إلى ذكر الله، وإجتناب الغفلة.
السادسة: التنافي والتضاد بين الإسلام والجهالة، لأن ذكر الله عند فعل الفاحشة أو مطلقاً أمارة على العلم والمعرفة.
السابعة: تبكيت وتوبيخ الكفار على إصرارهم على الجحود , وهو أكبر الكبائر، وإغلاقهم باب التوبة على أنفسهم , قال تعالى[ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]( ).
الثامنة: ترغــيب الناس جمــيعاً بالتــوبة والإنابة وهو من فضل الله عز وجل عليهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءت هذه الآية بصيغة النص الصريح الخالي من الترديد واللبس، فأخبرت عن الملازمة بين الإستغفار والنجاة والسلامة من أهوال الآخرة، قال تعالى[وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
التاسعة: الآية إحتجاج على الكفار، ورد لجدالهم وأسباب الشك والريب التي يثيرونها، إذ يمتاز المسلمون بالتنزه عن فعل الفواحش، ومن يقترفها منهم يلجأ إلى الذكر والإستغفار , لذا يمكن تقسيم التلبس بإقتراف السيئات إلى قسمين:
الأول: الذي يأتي السيئة ويندم على فعلها.
الثاني: الذي يقيم على السيئة .
ويتنزه المسلم عن القسم الثاني أعلاه ، وليس فيهم من يصر على السيئة والمنكر، فجاءت الآية لترجمة الندم بالذكر والإستغفار، ودعوة لهم للشكر لله عز وجل على هدايتهم إلى مقامات هذا التنزه , قال تعالى[وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
العاشرة: فضح الذين يعبدون الأوثان، ويتقربون إلى الوسائل بجهل وجاهلية إذ تحصر الآية المغفرة بالله عز وجل، وفي التنزيل[مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى]( ).
الحادية عشرة: تأكيد قبح الإقامة على الذنوب والمعاصي، والإخبار عن الإطلاق في ضرره ليشمل الحياة الدنيا والآخرة.
الثانية عشرة: دعوة المسلمين للثبات على نهج التدارك والإنابة بعدم الإصرار على الذنوب والمعاصي، وألا يلتفتوا إلى غيرهم من الناس الذين يصرون عليها.
الثالثة عشرة: بيان موضوعية وأثر الوعد الكريم بالجنة وذكر الصفات التي تؤهل الفرد والجماعة لدخولها في جذب المسلمين إلى مضامين هذه الآية، والحرص على العمل بأحكامها.
الرابعة عشرة: دعوة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب عدم الإصرار على الذنب، وترغيب الناس بالإقلاع عن المعاصي وهجران الإقامة عليها إذ تضع الآية الكريمة القواعد لمنهج الأمر والنهي في هذا الباب، وتبين في مفهومها أضرار الإصرار على المعاصي.
والأمر والنهي في المقام من العلم الذي أختتمت الآية به لإرادة الثناء على المسلمين بقوله تعالى(وهم يعلمون).
الخامسة عشرة: دعوة الناس لإكتساب العلوم والمعارف لأنها طريق إلى الهداية وسبيل إلى ذكر الله , ونبذ الكفر وهجران المعاصي، وترك الإصرار عليها، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أنها حرب على الجهل، وأن العلم والتحصيل سبب للإقرار بالمعجزات التي فيها، ومنها آية البحث إذ أنها معجزة قائمة بذاتها في إصلاح النفوس في الدنيا، وسلامة الناس في الآخرة، قال تعالى[فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ]( ).
وفي سبب نزول الآية أعلاه ورد عن ابن عباس(قالوا يا رسول الله لو خوّفتنا، فنزلت{فذكر بالقرآن من يخاف وعيد})( ) .
وفي الآية مسألتان:
الأولى: هل الذكرى والموعظة خاصة بالمسلمين فهم الذين يخشون الله ويخافون يوم الوعيد.
الثانية: هل آية البحث من التذكير بالقرآن.
أما الأولى فإن آيات القرآن تدل على المعنى الأعم إذ أنها تتضمن الإنذار للناس جميعاً.
وفي الآية أعلاه وجوه:
الأول: بيان الأولى والأهم، ولزوم عدم تركه، فحينما يدخل المسلم الإسلام , ويقوم بأداء الفرائض يجب أن تكون الذكرى والموعظة مصاحبة له، فهو أهلها لأنه يخشى الله عز وجل.
الثاني: بقاء باب خشية الله مفتوحاً للناس إلى يوم القيامة، وكل إنسان يمتلك أسباب الخشية من الله، وهو من عمومات قوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، وأسرار خلافة الإنسان في الأرض، ولكن غلبة النفس الشهوية وطول الأمل وحب الدنيا أمور تجعل غشاوة على البصر والسمع، فيأتي التذكير بالقرآن ليخترق هذه الغشاوة، ويصل إلى شغاف القلب، لذا تجد بعضهم يتوب إلى الله على نحو دفعي، وآخر على نحو تدريجي.
الثالث: في الآية بيان لحقيقة وهي أن القرآن هو الذكرى والموعظة، ومن وظائفه التذكير والتخويف , قال تعالى في وصف القرآن[إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابع: الآية بعث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإجتهاد في التبليغ وتوسعة دائرته، وإرسال الرسل إلى الملوك والقبائل والأمصار, ودعوة للمسلمين للسعي والصبر في هذا الباب .
لذا ورد عن أنس أنه قال: لما نزلت هذه الآية {وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به} كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر والنجاشي وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل)( ).
الخامس: في الآية تأديب للمسلمين، وإرشاد لهم لكيفية التبليغ، وموضوع الإنذار، وإقامة البرهان، (عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من بلغه القرآن فكأنما شافهته به، ثم قرأ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ( ).
أما بالنسبة للمسألة الثانية فالجواب نعم , ووردت مادة غفر في القرآن نحو مائتين وست وثلاثين مرة، كلها في الثناء على الله عز وجل لمغفرته الذنوب ودعوة الناس للمبادرة إلى الإستغفار، وهدايتهم إلى كيفيته ، ووردت آيتان في الثناء على المؤمنين فيما دعوة لرجاء رحمة الله قال تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ]( ), [وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ]( ).
السادسة عشرة: الثناء على المسلمين بأنهم يميزون بين الحلال والحرام، ويعلمون جنس الخطيئة فلا يقربوها ، وإن فعلها أحدهم فإنه يعلم لزوم الإستغفار.
السابعة عشرة: في الآية إنذار للكفار الذين يصرون على المعاصي لغلقهم باب التوبة والإنابة على أنفسهم وحجب المغفرة من الوصول إليهم، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
الثامنة عشرة: تدل الآية في مفهومها على قانون ثابت وهو الملازمة بين الإصرار على المعاصي والجهالة، إذ نعتت الآية المسلمين بالعلم والمعرفة لتنزههم عن الإصرار على المعاصي , وهو من عمومات قوله تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثامنة عشرة: تقسم الآية الناس إلى قسمين:
الأول: ما يدل عليه منطوقها بأن المتقين يذكرون الله ويستغفرونه إذا إرتكبوا معصية أو ظلموا أنفسهم.
الثاني: ما يدل عليه مفهومها بأن الذين لا يذكرون الله ولا يستغفرونه عند فعل الفاحشة أو ظلم النفس ليسوا بمتقين.
التاسعة عشرة: الآية حرب على الشرك وأسباب الغلو بالأنبياء والأولياء والملائكة إذ تحصر مغفرة الذنوب بالله عز وجل، نعم إنها لا تنفي الشفاعة التي يستقرأ موضوعها من آيات قرآنية أخرى كما في قوله تعالى[مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالاسم الموصول الذين وعطفه على ذات الاسم في الجملة السابقة[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( )، ويدل العطف وفق الصناعة النحوية على تخلف هذه الصناعة عن إعجاز القرآن إذ أنها تفيد عطف الاسم الموصول في هذه الجملة على السابق مع أن المراد منهما ذات المقصود وهم المسلمون والمسلمات وقد تقدم بيانه( )، فلا يفيد العطف هنا التغاير كما في قوله تعالى[خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، فالأرض غير السموات ,وليس في إصطلاح العطف من تفصيل بين أمور:
الأول: المغايرة والعطف في الموضوع.
الثاني: العطف في المحمول مع إتحاد الموضوع.
الثالث: التعدد والعطف في الحكم.
الرابع: العطف والتعدد في الفعل مع إتحاد الفاعل.
الخامس: المغايرة والتعدد في الفاعل, مع إتحاد وتشابه الفعل وجنسه.
ويستقرأ التفصيل من ذات المعنى والتبادر والقرائن.
لقد جاءت الآية السابقة بمعاني الإحسان للذات والغير، وعلى نحو الموجبة الكلية سواء في الإنفاق أو كظم الغيظ أو العفو عن الناس، أما هذه الآية فجاءت بالإحسان للذات بالتدارك والإستغفار، وبما تكون فيه النجاة في النشأتين .
وإبتدأت بصيغة الجملة الشرطية (إذا فعلوا) ولا يعني هذا تعليق الجزاء على الشرط وحده، بل إن الفعل وإرتكاب الفاحشة قد يحدث أو لا يحدث، وبلحاظ صفة التقوى ومضامين الآية السابقة يتجلى رجحان عدم وقوعه من أكثر المسلمين، وهو الذي يدل عليه الواقع الخارجي والوجدان .
وتقدم في الآية ذكر الفاحشة على ظلم النفس ليكون من عطف الذنب الصغير على الكبير، وتقديم الأهم على المهم في لزوم الإستغفار له، وفيه نكتة ببيان فضل الله عز وجل على المسلمين ومغفرة فعل الفاحشة إذا إرتكبها بعضهم .
وقد تكون الفاحشة نوع مفاعلة، كما في السرقة والزنا , والتعدي على الغير , فجاءت الآية بالبشارة بالمغفرة من الله , فإن قلت هــل فيه تضــييع لحقوق الغــير الذين وقــع عليــهم الظــلم والأذى , الجــواب لا، لأن الله عز وجل يتفضل بالبدل والعوض على الغير وهو الواسع الكريم وهذا البدل دنيوي وأخروي , نعم قد يكون فعل الفاحشة من الطرفين كما في حال الزنا، قال تعالى[وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً]( ).
والجواب إن كل طرف يبوء بإثمه، وتأتي المغفرة للطرف الذي يبادر إلى الذكر والإستغفار، ولهما معاً إن لجئا إلى الذكر والإستغفار مجتمعين ومتفرقين، ولو تزوجا بعد الزنا صح الزواج ولكن هل يكون ماحياً للزنا وآثاره، الجواب لا , إلا مع الإستغفار والتوبة، إنما النكاح عقد يحل الوطئ بعده، بينما يتصف الإستغفار بأن أثره رجعي ويتعلق بالزمان اللاحق بأن يتعفف المستغفر عن العودة لدنس المعصية وهو الذي تؤكده آية البحث بقوله تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا]( ).
وجاءت الآية الكريمة بأربعة أفعال بصيغة الماضي، أحدها مكرر مرتين وهو(فعلوا) ويتعلق بفعل الفاحشة والسيئة مطلقاً، ومنها ذكر المسلمين لله عز وجل وإستغفارهم , لما في صيغة الماضي من الثبات والمضي .
وهو شاهد على بلوغ المسلمين مراتب التقوى , وأن المسلم لا ينتظر من يأتيه ويأمره بالذكر والإستغفار بل يكونا عنده ملكة ثابتة ويدل عليه توجهه إلى الصلاة الواجبة خمس مرات في اليوم.
وجاءت السنة النبوية بالترغيب بالإستغفار وتأكيد نفعه في الدنيا والآخرة، وصيرورته بداية لحال جديدة من النقاء وصفحة بيضاء من أدران الذنوب.
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِى إِلَى فِرَاشِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا( ).
وفي الحديث النبوي أعلاه آية في النبوة ، وَرَمْلُ عَالِجٍ جِبَالٌ مُتَوَاصِلَةٌ يَتَّصِلُ أَعْلَاهَا بِالدَّهْنَاءِ وَالدَّهْنَاءُ بِقُرْبِ الْيَمَامَةِ وَأَسْفَلُهَا بِنَجْدٍ وَيَتَّسِعُ اتِّسَاعًا كَثِيرًا حَتَّى قَالَ الْبَكْرِيُّ رَمْلُ عَالِجٍ يُحِيطُ بِأَكْثَرِ أَرْضِ الْعَرَبِ ( ).
وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيام الدنيا بعرض واحد مع رمل عالج من حيث الكثرة مما يدل على طولها وكثرتها وأنها ملايين السنين إبتداءً وإنتهاء، وليس كما قيل بأنها بضعة آلاف من السنين، وفيه آية في مطابقة إكتشافات العلم الحديث للسنة النبوية الشريفة.
ولم تقل الآية الكريمة ( وَالَّذِينَ إِذَا يفعَلُون فَاحِشَةً أَوْ يظَلَمُون أَنْفُسَهُمْ يذَكَرُون اللَّهَ ) لأن صيغة المضارع تتضمن التجدد في الحدوث , فجاءت صيغة الماضي في الآية الكريمة من الثناء على المسلمين، والشهادة لهم بترك المعاصي بدليل نفيها إصرارهم على المعصية والذنب وفي تكرار الفعل(فعلوا) آية إعجازية من وجوه:
الأول: ورد ذكره في حال فعل الفاحشة على نحو الجملة الشرطية والنسبة الإحتمالية، بينما ورد ذكره في عدم الإصرار على نحو القطع واليقين.
وأخرج الترمذي عن معتمرعن أبيه أن لقمان عليه السلام قال لابنه: يا بني عود لسانك أن يقول: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعة لا يرد فيها الدعاء( ).
الثاني: تكرار ذات الفعل لتأكيد أن المراد في مقام عدم الإصرار هو فعل الفاحشة.
الثالث: تعقب ذكر الله وسؤال مغفرته لفعل الفاحشة، بينما تعقب الثناء على المسلمين نعتهم بالعلم , لقوله تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ].
وجاءت الآية بثلاثة أفعال بصيغة المضارع، وهي تتضمن الوعد الكريم للمسلمين، والثناء عليهم أيضاً:
الأول: يدل قوله تعالى(ومن يغفر الذنوب إلا الله) على إستدامة فتح باب المغفرة من الله للمسلمين، وإن منافع المغفرة شاملة للدنيا والآخرة، فلم تقل الآية (ومن غفر) بل ورد الفعل بصيغة المضارع الذي يستغرق أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمضارع.
الثاني: مجيء تنزيه المسلمين من الإقامة على المعاصي بصيغة المضارع(يصروا) ولكنه جاء مع أداة الجزم والقلب(لم يصروا) ليفيد إنتفاء الإصرار عنهم في الزمن الماضي , وأن حالهم في الزمان الحاضر هو الفقه والتوبة والصلاح .
فلم تقل الآية (ولن يصروا) بصيغة الإستقبال , وفيه بيان لمنافع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تغيير النفوس وإصلاحها لفعل الخير والتوقي من السيئات.
فإن قلت كيف تكون السلامة من الإصرار على المعصية في الزمن الماضي، وأجيال المسلمين تتعاقب، وإرتكاب الفاحشة قد يحصل من بعضهم, والجواب المراد من الزمن الماضي في المقام أعم من الأيام المنصرمة قبل نزول الآية، فهو متجدد بلحاظ تلاوة الآية، ففي كل مرة تتلى فيها هذه الآية يكون الزمان السابق لها ماضياً , قد كف فيه المسلم عن فعل الفاحشة وبادر إلى الذكر والإستغفار، وهو من مصاديق بقاء القرآن غضاً طرياً، ولسان المسلم رطباً بذكر الله.
وجاءت خاتمة الآية (وهم يعلمون) جملة حالية لوصف وبيان حال المسلمين في الزمن الحاضر، وفيه تأكيد للمعنى أعلاه المراد من الفعل الماضي في الآية، مما يدل على إعجاز آخر للفظ القرآني أعم من فقه اللغة وأوسع من أن تحيط به تقسيمات الفعل الثلاثية بلحاظ أفراد الزمان, وقدمت الآية ذكر الله والإستغفار، وفيه مسائل:
الأولى: ذكر الله أمارة الإنابة والتوبة.
الثانية: من علامات الإيمان ذكر الله عز وجل في حال الشدة قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
الثالثة: إستحضار ذكر الله عز وجل واقية من الإستمرار في المعصية.
الرابعة: ذكر الله مقــدمة للإســـتغفار، ومناسبة لتجدد العلم بأن الله عز وجل هو الذي يغفر الذنوب.
الخامسة: اللجوء إلى ذكر الله عصمة من الزلل , وشاهد على عدم الإصرار على الذنب.
السادسة: ذكر الله عز وجل حسن على كل حال , وتدل الآية على تعاهد المسلمين لذكر الله, وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشَدُّ الأعْمَالِ ذِكْرُ اللَّهِ على كُلِّ حَالٍ، والإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَمُوَاسَاةُ الأخِ في المالِ)( ).
السابعة: جاءت الآية من عطف الخاص على العام، لأن الإستغفار هو الآخر ذكر لله , ولكنه خاص بسؤال العفو ومحو آثار الذنب والمعصية، وذكر الله عام يشمل صفاته الحسنى, وما فيها من معاني الرحمة والرأفة والعفو والمغفرة.
الثامنة: ذكر الله عن علم وصيرورة من مصاديق الكمال الإنساني.
التاسعة: ذكر الله من النباهة الفطنة، وهو حرب على الغفلة، وعن رسول الله عليه وآله وسلم قال: الغفلة في ثلاث عن ذكر الله، ومن حين يصلي الصبح إلى طلوع الشمس، وأن يغفل الرجل عن نفسه في الدين حتى يركبه)( ).
العاشرة: في الآية تأديب للمسلمين في الإستجارة بذكر الله عند فعل السيئة والخشية من عقابه وأليم عذابه، ليبادروا إلى الإستغفار وسؤال العفو.
وتنفي الآية وجود فترة ومهلة بين فعل الفاحشة أو ظلم النفس وبين ذكر الله عز وجل، وهو المستقرأ من صيغة الجملة الشرطية , وفيه دلالة على تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا، وعدم بقاء ميل في نفوسهم للفاحشة والمعصية، لأن ذكر الله يمنع من غلبة النفس الشهوية.
ومع أن الآية إبتدأت بذكر الفاحشة وظلم النفس إلا أن الإستغفار جاء لإرادة المعنى الأعم، إذ يستغفر المسلمون لذنوبهم , وفيه مسائل:
الأولى: إرادة الإستغفار عما هو أعم من الفاحشة أو ظلم النفس.
الثانية: مجيء الإستغفار على الذنوب ظاهرها وباطنها وصغيرها وكبيرها , والله عز وجل يعطي بالأعم والأوسع والأحسن.
الثالثة: قد يرتكب الإنسان ذنباً وينساه أو ينسى الإستغفار عنه، فجاءت الآية معجزة في المقام بصيرورة فعل الفاحشة أو ظلم النفس مناسبة للإستغفار عن كل ما تقدم من الذنوب، وفيه سبيل إلى التوفيق السداد والصلاح، ومن مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض وجعلوا علة إستنكارهم هو فساد الإنسان وسفكه الدماء كما جاء في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
جاءت آية البحث رداً عليهم في منطوقها ومفهومها ومصاديقها العملية المتجددة كل يوم وإلى يوم القيامة بلحاظ بقائها سالمة من التحريف والتغيير، وبقاء أمة عظيمة تعمل بمضامينها بعلم ودراية وليشترك الملائكة في الإستغفار والدعاء لهم.
وفيه نوع تثبيت للمسلمين في سنن التقوى والصلاح، وليكون من علم الله عز وجل في الرد على الملائكة في قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، أن الإستغفار من الفاحشة من صيغ التقوى، وأن المدار ليس على الفساد وحده، بل المدار على تعقبه بالإستغفار أو عدمه وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ)( ).
وعلى فرض أن الملائكة لم يحيطوا برحمة الله في موضوعية الإستغفار ففيه أمور:
الأول: محو الأثر المترتب على الفساد.
الثاني: البعث على التوقي من الفساد.
الثالث: التنزه من الإصرار على الذنب، لأن الإستغفار نوع ندم.
الرابع: إستحضار ذكر الله عقب فعل الفاحشة حرب على النفس الشهوية والغضبية.
الخامس: عظيم فضل الله عز وجل على المسلمين بجعل الإستغفار توبة ووسيلة للفوز بالمغفرة
ترى ما هي النسبة بين الفساد وفعل الفاحشة، الجواب هو العموم والخصوص المطلق فالفساد أعم، وجاءت آية البحث لمنع التمادي في الذنوب والمعاصي، ولقطع دابر الفساد في الأرض.
الخامس: المسلمون في جهاد متصل ودائم مع الفساد في الأرض، وهذا الجهاد مع النفس وبين الناس.
السادس: نزول سلاح الذكر والإستغفار من الله إلى المسلمين خاصة، والمتقين عامة في الأمم السابقة.
السابع: الذي يذكر الله ويستغفره بعد فعل الفاحشة ليس مفسداً، بل متق، أي أن الملائكة نظروا إلى ذات الفساد مجرداً، فجاءت آية البحث لتخبر بأن من علم الله الذي لا يعلمه الملائكة هو موضوعية ما يتعقب الذنب وفعل الفاحشة من الذكر والإستغفار وأنهما يمحيان أثر الفساد.
الثامن: ذكر المذنب والعاصي من المؤمنين عبادة لله عز وجل، وإستغفاره من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
التاسع: الإستغفار أعم من أن يتعقب الفاحشة وظلم النفس، فيأتي طاعة لله، وطلباً لثبات المغفرة المنع من وقوع المعصية، ويأتي تعبداً، ورجاء الفوز بالوعد الإلهي.
لقد خرّ الملائكة لله عز وجل سجّداً وأظهروا خشوعهم وتسليمهم لمشيئته، وعجزهم عن بلوغ كنه إرادته في جعل الإنسان خليفة في الأرض[قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا]( )، فأدركوا الملازمة بين عمارة الإنسان الأرض والتقوى، وبادروا إلى الإستغفار للمؤمنين, قال تعالى في وصف الملائكة[يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا]( ).
ومع إبتداء الآية بذكر فعل الفاحشة وظلم النفس الذات، فإن هذا الموضوع حسم بتعقب الذكر والإستغفار له، لتشرع الآية بالثناء على الله عز وجل وبيان علامة من علامات التوحيد وإختصاص الله تعالى بالربوبية المطلقة التي من رشحاتها غفران ذنوب العباد بقوله تعالى[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ] وفيه تحد لأهل الشرك والضلالة، وقطع للجدال الذي يثيرونه.
ويدل أول الآية على أن المسلمين يعلمون أموراً:
الأول: صنف الذنوب والمعاصي، ومصاديقها الواقعية.
الثاني: التفصيل بين الفواحش وظلم النفس.
الثالث: علاج داء المعصية، ويتجلى هذا العلاج بأمرين:
الأول: ذكر الله عز وجل، وما يترشح عنه من إمتلاء النفس بالسكينة، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثاني: الإستغفار الذي يأتي على الذنب فلا يترك له أثراً، ويتعقب ظلم النفس فيجلي عنها الهم والحزن.
الرابع: الإقرار بالذنب والمعصية بدليل قوله تعالى(فإستغفروا لذنوبهم) إذ أنه يدل بالدلالة التضمنية على الإلتفات إلى الذنوب والإقرار بها، وإستحضارها رجاء العفو والمغفرة من الله عز وجل.
الخامس: التفقه في الدين , ومعرفة حقيقة وهي كفاية الذكر والإستغفار لتدارك فعل الفاحشة رجاء فضل الله عز وجل، قال تعالى[وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا]( ).
وهل تبين الآية جني الفعل الذي يفعله المسلم بعد الذكر والإستغفار، فيه وجوه محتملة:
الأول: العودة لفعل الفاحشة.
الثاني: الكف عن المعاصي وظلم النفس.
الثالث: التعدد والتفصيل , فمرة يكون الأول وأخرى يكون الثاني أعلاه.
الرابع: وجود فترة بين الإستغفار وبين العودة للمعصية.
الخامس: التباين بين الأفراد والجماعات، فمنهم من يعود، ومنهم من تكون توبته توبة نصوحاً، خصوصاً وأن شطراً من المسلمين لا يرتكب الفاحشة.
والأصل هو الثاني، وتدل عليه الآية الكريمة بتنزه المسلمين مجتمعين ومتفرقين عن الإصرار على الذنوب وفعل الفواحش، ولكن إن تجدد فعل المعصية فآية البحث حاضرة في الذكر والإستغفار والتدارك، قال تعالى[نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان خصال كريمة من الخصال الحميدة للمتقين.
الثانية: تجلي ووضوح الطريق إلى الجنة الواسعة، ومنع الترديد والإلتباس فيه، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من نسي الصلاة عليّ أخطأ طريق الجنة)( ).
وفي الحديث أعلاه مسائل:
الأولى: بيان حقيقة وهي وجود طريق للجنة , يتقوم بالإمتثال لأوامر الله عز وجل.
الثانية: إظهار العبودية لله سبحانه وإتباع نـبـيـه، وإكرامه عند ذكره.
الثالثة: دعوة المسلمين لإجتناب فعل الفاحشة وظلم النفس، وحثهم على عدم الخروج عن جادة الهدى.
الرابعة: يدل الحديث في مفهومه على أن الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صفات المتقين وطريق مبارك إلى الجنة.
الخامسة: تأكيد موضوعية ومنافع الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة: الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق ذكر الله عز وجل.
الثالثة: ذكر فضل الله عز وجل على المسلمين بعدم إنسلاخ المسلم من مراتب التقوى عند فعل الفاحشة لأنه يتعقبه بالتوبة والإنابة.
الرابعة: دعوة المسلمين خاصة والناس عامة إلى التدبر في المنافع العظيمة للإستغفار في الدنيا والآخرة.
الخامسة: بعث المسلمين للحرص على تعاهد درجة التقوى بالتقيد بسننها وآدابها ومنها ذكر الله والإستغفار عند فعل الفاحشة، وأيهما أفضل المؤمن الذي يرتكب الفاحشة ويستغفر الله، أم المؤمن الذي يجتنبها.
الجواب هو الثاني، لأنه في سياحة دائمة في منازل التقوى، وبينه وبين الأول عموم وخصوص من وجه، فمادة الإفتراق هي التباين في فعل الفاحشة من الأول، وعدمه من الثاني .
وقد أثنت الآية على المسلمين ونعتتهم بالعلم والتحصيل بقوله تعالى[وَهُمْ يَعْلَمُونَ].
أما مادة الإلتقاء فهي الذكر والإستغفار من كل منهما، وهل يمكن القول بفارق دقيق آخر وهو التباين في مقدار من الوقت، فالآن الذي يمضيه الأول في فعل الفاحشة، يقضيه الثاني بالذكر والإستغفار.
الجواب نعم، وهذا الفارق ليس في الكم فقط , بل في الجوهر والموضوع والماهية، ولكن الآية ذكرت الجامع المشترك بينهما بلحاظ خصال التقوى التي تقود إلى الجنة، وهي في المقام على وجوه:
الأول: ذكر الله عز وجل.
الثاني: الإستغفار وسؤال العفو من عند الله.
الثالث: التنزه عن الإصرار على فعل الفاحشة، فإن قلت : فعل الفاحشة من الثاني سالبة بإنتفاء الموضوع فكيف يكون الجامع هو عدم الإصرار، والجواب من وجوه:
الأول: عدم الإصرار على المعصية ملكة عند المؤمن، فعل الفاحشة أم لم يفعلها.
الثاني: جاء ذكر عدم الإصرار على المعصية كمنقبة وخصلة للمتقين فتشمل كل متق.
الثالث: الذي لا يرتكب المعصية يكون ممن لا يصر عليها من باب الأولوية بلحاظ أدنى مراتب الإصرار، وتركه لمقدماته.
السادسة: تأديب المسلمين على كيفية الإستغفار، ولزوم مجيئه بصيغة العموم الشاملة لكل الذنوب، فمن الذنوب ما ينساها الإنسان، ولكنها مدونة من قبل الملائكة , والله عز وجل أحصى كل شيء، قال تعالى[وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ]( ).
ليكون من خصائص المتقين تلقين الله عز وجل لهم للسعي الحثيث في سبل النجاة، فمع الإقرار بأن القرآن كتاب نازل من عند الله تكون أسباب الهداية والتأديب والإرشاد، وهو من عمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أدبني ربي فأحسن تأديبي)( ).
بلحاظ ترشح هذا التأديب على المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة , ومن مصاديقه آية البحث وما فيها من الترغيب بالتوبة، وإتخاذها سلّماً مباركاً للصعود إلى مراتب التقوى العالية وصيرورة الإستغفار واقية من النار، وسبباً لدخول الجنة، قال تعالى[فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ]( ).
السابعة: دلالة القرآن على التوحيد، وإنحصار الربوبية المطلقة بالله عز وجل، وهو سبحانه الذي يغفر الذنوب جميعاً، ومن إعجاز الآية إخبارها عن مغفرة الله عز وجل للذنوب كلها في ذات الوقت الذي تدعو المسلمين إلى الإستغفار لذنوبهم.
ليتضمن هذا الإخبار ترغيب الناس بالتوبة، وندبهم إلى الإستغفار كخصلة من خصال التقوى أي يؤتى به بقيد الإيمان بالله والتصديق برسله وكتبه، إن مغفرة الذنوب خزينة من خزائن الله التي لا تنقص على كثرة الذين يغفر لهم ذنوبهم، وهي تدعو الناس للنهل والإنتفاع منها، وهو من عمومات الإختبار والإمتحان في الحياة الدنيا.
الثامنة: هل يمكن القول أن خاتمة الآية حجة على المسلم الذي يرتكب الفاحشة أو يظلم نفسه , وإن تعقبه بالإستغفار لأنها تؤكد مرتبة العلم والتفقه في الدين التي عليها [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وهو فرد منها، فتكون الحجة عليه أكبر من الحجة على الجاهل والضال والجاحد.
والجواب لا، من وجوه:
الأول: جاءت الآية لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين في فتح باب التوبة عليهم، وبيان وخصلة حميدة وصفة من صفات المتقين.
الثاني:من يفعل السيئة من المسلمين لم يخرج عن صبغة التقوى، ولم يغادر مراتبها لإيمانه، ولأنه يتدارك أمره بالذكر والإستغفار، قال تعالى[وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] ( ).
الثالث:من شاء من الناس أن يلحق بالمسلمين، ويفوز بهذه النعمة، فليس من برزخ بينه وبينها.
الرابع: جاء الإخبار عن بلوغ المسلمين مراتب العلم , وفيه بيان لعدم إصرارهم على المعاصي والذنوب.
التاسعة: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من الإسلام، وجعلهم ييأسون من إرتداد بعض المسلمين، قال تعالى[وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ]( ).
وستبقى آية البحث رحمة متجددة وحاضرة عند فعل المسلم الفاحشة, فلا يصاب بالقنوط واليأس والعجز عند إرتكابها، بل يستحضر ذكر الله ويستغفره سبحانه، فيزول الهّم والحزن الذي تركه في نفسه فعل الفاحشة، ولا ينشغل عن أداء الفرائض والعبادات، وهو من معاني خاتمة الآية [وَهُمْ يَعْلَمُونَ] أي يعلمون بأن أداء الفرائض ذكر لله، وسبيل لمغفرة الذنوب ومحو السيئات، قال تعالى[إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] ( ).
إفاضات الآية
لقد أنزل الله عز وجل آدم وحواء ليسكنا الأرض ويعمراها وذراريهما بالتقوى والذكر ووجوه العبادة والصلاح، ولتكون محل إكرام لهم بقيد التقوى ومقدمة للخلود الدائم في النعيم، ويدل عليه بيان الصفة التي خلق الله فيها آدم وهي مرتبة الخلافة السامية , التي لم ينلها أحد من الخلائق قبله، قال تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ولم يحتج الله عز وجل من الخليفة وذريته شيئاً لأنه سبحانه هو الغني وغناه مطلق ومستديم، إلا أنه أراد أن يرحم آدم والخلائق بهذه الخلافة ويدل عليه قول الملائكة وما فيه من معاني الإستفهام وإرادتهم تلك الخلافة، لأنفسهم لأنهم أحق بها من آدم بحسب علمهم، كما ورد في التنزيل [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وهو الأمر الذي بينّه الله للملائكة بالإحتجاج عليهم بأن أمر آدم عليه السلام أن يعلمهم الأسماء، وروي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال(أن الملائكة سألت الله أن يجعل الخليفة منهم وقالوا: نحن نقدسك ونطيعك ولا نعصيك كغيرنا فلما أجيبوا بما ذكر الله في القرآن، علموا أنهم قد تجاوزوا ما ليس لهم فلاذوا بالعرش استغفارا، فأمر الله آدم بعد هبوطه أن يبني لهم في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقربون)( )،
ليكون من علم الله عز وجل في المقام فضله على المؤمنين بالتجاوز عن سيئاتهم، وعدم صيرورة الفاحشة، التي قد يفعلها المؤمن برزخاً وحاجزاً دون دخوله الجنة، كما أنها لم تغير أو تمحو عنه صفة التقوى، فان فعل الفاحشة فان وظيفة الملائكة النظر إليه باعتباره من المتقين الذين جعل الله عز وجل لهم الدنيا دار كرامة لأن ذكرهم له سبحانه، وتعاهدهم للإستغفار هو الذي يؤكد بقاءهم في منازل التقوى التي هي تشريف ووثيقة صلاح بفيض ولطف من الله عز وجل، قال تعالى[لَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ] ( ).
وذكرنا وجهاً آخر لتفسير الآية أعلاه، وهو إرادة الملائكة الصلاح والتقوى لجميع عمار الأرض، وأن يتفضل الله عليه بمثل ما رزق الملائكة من الإنقطاع إلى التسبيح والتقديس لمقام الربوبية.
لقد أراد الله عز وجل للحياة الإنسانية في الأرض الإستدامة والدوام بقيد التقوى وهدى سبحانه المؤمنين إلى سبل الذكر والإستغفار عند فعل الفاحشة ليكون فيها ثبات على الإيمان وطمأنينة في السعي إلى الإقامة الدائمة في الجنة التي ليس لها حد في سعتها ونعيمها.
وفيه شاهد على أهلية الإنسان لخلافة الأرض، نعم هذه الأهلية بفضل ولطف من الله عز وجل، لإستدامة صفة التقوى على المسلم وعدم إنسلاخه منها بارتكاب الفاحشة أو ظلم النفس، وعلة ثباته في مراتب التقوى هو الذكر والإستغفار عند فعل الفاحشة.
وفي علم المنطق أن الموجبة الكلية تنخرم بالسالبة الجزئية، ولكن هذه القاعدة متخلفة عن قوانين اللطف الإلهي في المقام، ففعل الفاحشة سالبة جزئية، ولكنها لا تغير صفة التقوى عن المؤمن الذي يفعلها لأنه يتداركها بالذكر والإستغفار.
وهل تنسلخ منه صفة التقوى آناً ما، وهو أوان التلبس بالفاحشة إلى حين ذكر الله والإستغفار، الجواب لا، من وجوه:
الأول: تأكيد آية البحث إستدامة وملازمة صفة التقوى للمسلم بالذكر والإستغفار.
الثاني: تفتح الآية باب الإستغفار للمسلمين على نحو الإطلاق في جنس وماهية الذنوب.
الثالث: تطرد الآية اليأس والقنوط عن النفوس.
الرابع: تمنع الناس من مؤاخذة العبد الذي يستغفر الله.
ومن خصائص الآية جعلها لظلم النفس بعرض واحد مع فعل الفاحشة من جهة القبح الذاتي، ولزوم التدارك بالإستغفار، فقد يظن بعضهم وجود تباين بينهما، وأن الإنسان حر في إيذاء نفسه وتعريضها وبدنه للضرر.
فجاءت هذه الآية للزجر عن ظلم النفس بإعتباره رذيلة , وسبباً لنزول البلاء والعقاب، ولكنها لم تقف عند هذا الزجر، بل جاءت بالعلاج للتخلص من تبعات تلك الرذائل، وهذا العلاج مقدمة للإحتراز من مصاديقها في قادم الأيام.
ومن منــافع الآية الكريمة منـع المسلم من التشديد علــى النفس والإضــرار بالذات عقوبة لها علــى إرتكاب المعاصــي، وحيــاءً من الله عز وجل، إذ تدل الآية على التباين والتضاد بين التوبة والإضرار بالنفس، لذا جاءت صيغة التوبة بأبهى حلة وفيها سعادة وغبطة للنفس، وطرد للكآبة والإنفعال، وزجر للنفس السبعية.
وتخبر الآية عن حقيقة وهي التنافي بين التقوى والضرر، وهو من عمومات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)( ) .
فصحيح أن الحديث أعلاه جاء في باب الفقه والمعاملات كما بيناه في مباحث علم الأصول إلا أننا نضيف حقيقة في المقام وهي أن شمول هذا الحديث لمواضيع علم الكلام إعجاز في السنة النبوية القولية، ودعوة للتحقيق فيها بالمعنى الأعم لزيادة الفائدة وإستنباط المسائل وإستقراء الدروس الإضافية منها، وتعدد التأويل في قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الآية لطف
لقد أقام الله عز وجل الحجة الواقعية الحاضرة والمتجددة على الملائكة عندما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض، إذ أمره الله بتعليم الملائكة الأسماء، بعد أن علمه الله عز وجل تلك الأسماء بقوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ).
ويتجلى فرد كريم من مصاديق هذا العلم بعدم إصرار المسلمين على الذنوب وظلم النفس، فهم يمتلكون متفرقين ومجتمعين القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، وبين الطاعة والمعصية، وفيه مسائل:
الأولى: يشكر المسلمون الله عز وجل على إتيانهم أفعال الطاعة.
الثانية:يستغفر المسلمون الله سبحانه عن المعاصي والذنوب، ومن فضل الله في المقام أن الموجود يستغفر للمعدوم، فيكتب الثواب للإثنين معاً، ويستغفر الابن لأبيه بعد مغادرته الدنيا، فيكون من مصاديق البر بالوالدين وتطالعنا القوانين الوضعية بعدم ترتب أثر رجعي عليها، وبإنقضائها مع إنقطاع موضوعها .
ولكن الفيض والبركات المترتبة على آية البحث ليس لها حد زماني من جهة أفراد الماضي أو المستقبل المنظور وغير المنظور، فيستغفر السابق للاحق، وبالعكس مع طي الأزمان بينهما، وتجلى في دعاء إبراهيم وإسماعيل لذريتهما الباقي في موضوعه إلى يوم القيامة[وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ]( ).
الثالثة: هذا ليكون العلم نعمة يتعاهد بها المؤمنون مقامات التقوى، وينجون فيها من العذاب الأليم يوم القيامة، وهو من رشحات الآية أعلاه، وتعليم الله عز وجل للأسماء كلها، وبيانها الذي ورد في أحكام القرآن من الأوامر والنواهي، والمواعظ والعبر وقصص الأنبياء والأمم السالفة , وتفصيل حال القرون الماضية .
( قيل يا رسول الله قد أسرع إليك المشيب، قال: شيبتني هود وأخواتها : الحاقة، والواقعة، وعمّ يتساءلون، وهل أتاك حديث الغاشية)( ).
وذكر أنه سئل: لم ذلك يا نبي الله؟ فقال: لأن فيهافَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ( )، وآية البحث من مصاديق الإستقامة التي أمرّ الله عز وجل بها، إذ أنه سبحانه أمر بالتقوى وندب إليها في آيات كثيرة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( ).
وجاءت آية البحث ببيان صفات المتقين وأنهم يذكرون الله ويستغفرونه، ليفيد الجمع بين آية البحث والآيات التي تتضمن وجوب التقوى بأن كلاً من ذكر الله والإستغفار واجب، ومن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، القيام بتوظيف العلم للنفع الخاص والعام وفي الدنيا والآخرة.
ولقد أكرم الله المسلمين بأن جعل لهم هذه الآية قارب سلامة وسط عواصف الهوى، وزلازل الزلات، وهي ضياء كاشف لسبل التقوى، ولا أقول أنها تعيدهم إليها، لأنهم لم يغادروا منازل التقوى بفعل الفاحشة، وهو من لطف الله عز وجل بالمسلمين.
ومن خصائص وفلسفة اللطف الإلهي بالمسلمين ترغيب الناس بالإسلام، ودعوتهم لنبذ الشرك ومفاهيم الضلالة التي هي ظلم مستديم للنفس .
فإذا كان المؤمن يظلم نفسه فيستغفر الله، فان الكافر يظلم نفسه في كل آن، وإن كان راقداً ونائماً،قال تعالى[قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ]( ). والمراد من الآية أعلاه المعنى الأعم، أي لايستوي كل من:
الأول:الكافر والمؤمن.
الثاني:العمل القبيح والعمل الصالح.
الثالث:الحرام والحلال.
الرابع:الإعتقاد الباطل وتقوى الله.
الخامس: الجحود وذكر الله.
السادس: الإصرار على الذنب والإستغفار.
السابع: الإعراض عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بها.
الثامن: ظلم النفس وقهرها على طاعة الله.
وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:المؤمن أطيب من عمله، والكافر أخبث من عمله( ).
التفسير
تقع هذه الآية في نظم سبع آيات تخاطب المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة بلغة الإكرام والوعد الحسن جزاء لهم لأنهم صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأقروا أن القرآن كتاب نازل من عند الله , قال تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( ).
إذ إبتدأت هذه الآيات بمخاطبتهم بصيغة الإكرام والثناء والشهادة لهم بالإيمان، بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( )، لبيان التضاد والتنافي بين الإيمان والمعاملات الباطلة التي تتضمن الإضرار بالآخرين ومعاشات ومكاسب الناس لما في الربا من تعطيل للمكاسب ونشر لمفاهيم الغضاضة بين الناس.
ومن الإعجاز أن الذي يقترض المال بالفائدة الربوية يمتلأ هو وعياله كرهاً وإزدراءً للذين يدفع لهم هذه الفائدة وان كانوا جهة مصرفية ومؤسسات مالية.
لتكون المعاملة الربوية وتنزه المسلمين عنها من بين أهل الأرض سبيلاً لهداية الناس والإتعاظ من أحكام المعاملات، ولولا أن جاء القرآن بالآية أعلاه وأكد حرمة الربا، وتعاهد المسلمين لهذه الحرمة بالقول والفعل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما إلتفت الناس إلى قبح الربا، وإتخاذ التدبر في أضراره وسيلة للتسليم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباعه.
وتتبين في هذا الزمان زمان العولمة الآثار السلبية المهلكة للمعاملات الربوية بما يؤدي إلى زلزلة الإستقرار الإجتماعي والسياسي، ومن إعجاز القرآن أنه حذّر قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة من أمور:
الأول: المعاملات الباطلة.
الثاني: قطع سبيل الإحسان في باب القرض.
الثالث: الزجر عن الربا.
الرابع: بيان أضرار الربا.
الخامس: ورود اللعنة على أطراف الربا المتعددة، ( عن جابر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه)( ).
السادس: ظن التشابه والتساوي بين البيع والربا، ووجوه الربا عديدة منها:
الأول:إعطاء السلف مع إشتراط الزيادة عليه عند الأداء.
الثاني:القرض إلى أجل معين من غير زيادة، ولكن إن تخلف المقترض عن الأجل، فرضت عليه الزيادة الربوية التي يتفق عليها الطرفان.
وجاء القرآن بالتحذير من الإنسياق وراء جمع المال، ووالإفراط في الحرص على إدخاره للأولاد خشية فاقتهم وإملاقهم، قال تعالى[إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ]( )، هذا الحرص الذي قد يجعل الإنسان يجمعه من الحرام المختلط بالحلال .
فجاءت آية البحث للوقاية من الحرص وكيفية الجمع هذه بالتوكل على الله، واللجوء إلى حصن ذكره تعالى.
وذكر الحافظ ابن عساكر بإسناده عن أبي ظبية قال: مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك من بعدك؟ قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من قرأ سورة الواقعة كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا”)( ).
الثالث: تشريع المعاملة الربوية وإمضاؤها وجعلها عرفاً تجارياً في الأسواق، وورد في التنزيل[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( )، والأصل أن يقدم الكفار الربا في الإحتجاج وفق نظم الكلام وقواعد الجدال، بأن يقولوا (إنما الربا مثل البيع) بلحاظ أن حلية البيع متفق عليها، وهم في المغالطة وتزيين الشبهة يقيسون الربا عليه.
ولكن الآية الكريمة تبين عكسهم القياس , وقيل (فالجواب أنه لم يكن مقصود القوم أن يتمسكوا بنظم القياس ، بل كان غرضهم أن الربا والبيع متماثلان من جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والثاني بالحرمة , وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز) ( ).
وفي الرد عليه مسائل:
الأولى: دلالات اللفط القرآني أوسع وأعظم من الإجمال المقيد.
الثانية: يدل جعل الربا مشبهاً به على إنتشاره بينهم وتعاطيهم له دون حرج.
الثالثة: فيه شاهد بأن القوم مقيمون على الربا، وأنهم لا يتعاطون البيع إلا على نحو الفرد القليل.
الرابعة: صار الكفار ينظرون إلى الربح من جهة ما فيه من المرابحة والزيادة.
الخامسة: إعتبروا شبهة التساوي في الربح والزيادة بينهما، ولم يعلموا أن المدار على الحلية والحرمة، قال تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
السادسة: أرادوا الجدال بأنه إذا كان الربا محرم لما فيه في الزيادة على رأس المال، فإن البيع كذلك فيه زيادة على الأصل , فلماذا ينهى عن الربا دون البيع، وفاتهم أن الربا يدخل في باب القرض والزيادة عليه بغير الحق.
السابعة: بيان نكتة وهي إعتماد الكفار القياس الباطل في مقابل النص.
الثامنة: توثيق حقيقة وهي كثرة مزاولة الكفار للربا بحيث جعلوه أصلاً في المقارنة بينه وبين البيع.
التاسعة: حرص الكفار على بقاء عاداتهم ونهجهم في المعاملات وكذا في العقائد والعبادات، فهم لا يريدون أن يذعنوا لأحكام التنزيل في المعاملات خشية إقامة الحجة عليهم في لزوم عبادة الله عز وجل، قال تعالى[وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ]( ).
وجاءت الآية أعلاه في ذم الكفار وبيان أسباب سوء حالهم يوم القيامة، وأنهم هم الذين ظلموا أنفسهم إذ جحدوا بالنعم، وغفلوا عن ذكر الله، وتركوا طاعته، وإمتنعوا عن الشكر لله عز وجل ونسوا وجوب الإستغفار عند فعل السيئة.
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على الثواب العظيم الذي يفوز به المسلمون لإختيارهم الذكر والإستغفار، وفيها دعوة لهم للإقامة الإستغفار وعدم مغادرة منازل الذكر، وفيه شاهد بأن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ), إذ أن تفضيلها في فعل الصالحات، وخروجها فيباب العبادات والمعاملات والأحكام.
الثالث:حدوث الأزمات الإقتصادية للأفراد والجماعات بسبب الربا.
الرابع: إنعدام البركة في المال الربوي، وغياب النماء، وإمتناعه عن الزيادة في مستقبل الأيام بالذات أو بالعرض والأمور الطارئة ، قال تعالى[يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] ( ).
وأسباب نقصه أعم من أن تنحصر بالمعاملات الربوية أو التجارة والبيع والشراء مطلقاً، فقد تأتي آفة تتلف المال كلاً أو جزءً , أو يطرأ إبتلاء يحل بصاحبه أو يحصل تخلف قهري أو إختياري بقضاء المال الربوي , أو لايتم القضاء إلا بعد عناء , مما يدل على أن نهي الله المسلمين عن الربا رحمة بهم في الدنيا والآخرة.
الخامس:إنحسار المعاملات، وقلة المكاسب والزراعات بسبب الربا, ودفع العامل أكثر أرباحه إلى المرُبي صاحب المال.
السادس:الإنشغال عن ذكر الله والعبادة.
لذا جاءت آية البحث بالحث على الذكر والإستغفار عن المعصية والسيئة، وفيه مسائل:
الأولى: إنه شاهد على التداخل بين هذه الآيات.
الثانية: العطف الذي يربط بين الآيات مرآة للتشابه والتقارب الموضوعي بينها.
الثالثة: بيان أثر العمل بكل آية منها في تلقي مضامين الآيات الأخرى بالقبول والإمتثال.
الرابعة: هذا الحث والبعث مناسبة للعصمة من النواهي مثل إقراض أو إقتراض المال بالفائدة الربوية.
وهل أكل الربا من الكبائر أم الصغائر، كما مبين معنى هذه التقسيم في قوله تعالى[إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ]( ).
الجواب هو الأول، فأكل الربا من الكبائر، وجاء النهي عنه صريحاً في القرآن وضرره عام لا ينحصر بصاحبه، ولكن آية البحث مطلقة في نفعها أي أن الذكر والإستغفار ينفع التائب من أكل الربا، فسبحان الذي لم يجعل لليأس موضعاً في الدنيا، التي تتزين أيامها بالذكر، وتفضل الله وجعل الإستغفار للإنسان حالاً متجدداً من البهجة والغبطة، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) .
أي أن الله عز وجل يتفضل على الإنسان بالراحة والعافية والهناء في الدنيا، وذكر في سبب نزول قوله تعالى[طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى]( ) أن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك شقي، حيث تركت دين آبائك، وما نزل عليك هذا القرآن إلا لتشقى)( ).
والآية أعم في لغة الخطاب والموضوع، والمدار على عموم اللفظ لا سبب النزول , فصحيح أنها خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن الأمة من المسلمين والمسلمات مشمولون بالخطاب، فإن قلت هناك قرينة تدل على التعيين والتخصيص في الآية , وهو قوله تعالى[مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ] فالقرآن لم ينزل كلاً أو جزءاً إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يشاركه فيه أحد، ففي نزوله أطراف أربعة تتصف بالإتحاد :
الأول: نزول القرآن من عند الله عز وجل.
الثاني: إن جبرئيل عليه السلام هو الملك الذي ينزل بالوحي، فمع أن عدد الملائكة لا يحصيه إلا الله، وكلهم يتصفون بالأمانة ومع أن بعضهم كان ينزل على النبي محمد صلى الله وآله وسلم , فإنه لم يشارك أحد من الملائكة جبرئيل في تبليغ أي القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: نزول آيات القرآن التي بين الدفتين ليس فيها زيادة ولا نقيصة عند التبليغ والتلاوة وبعد التدوين وإلى يوم القيامة.
الرابع: إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشرف تلقي القرآن من بين أهل الأرض .
والجواب على القول بالقرينة في المقام على وجوه:
الأول: بيان الآية أعلاه لنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يعني حق إنتفاء الشقاء بخصوصه.
الثاني: يستقرأ إنتفاء الشقاء بالأصل في الحياة الدنيا من سعة رحمة الله وآيات القرآن , ومن يعاني الشقاء فإنه إختاره بنفسه , وجلبه لها بسوء تدبيره.
الثالث: وردت آيات القرآن بالإخبار عن حصول التنزيل للمسلمين بالواسطة، قال تعالى[قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ….]( ).
الرابع: إذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يشقى فإن المسلمين مأمورون بالإقتداء به والتأسي بسنته، قال تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وانتهت هذه الآيات السبع بذكر جزاء المتقين بلغة البيان والوعد الكريم، وهذا الوعد ومصداقه العملي لا يقدر عليه إلا الله، مثله مثل الخلق وتعاهد المخلوقات، ومغفرة الذنوب، إذ جاءت به هذه الآية صريحة بقوله تعالى[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ] ( ).
وموضوع هذه الآيات هو تقوى الله أمراً وفعلاً وجزاءً، إذ تضمنت أولاها قوله تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
وحذرت الآية الثانية من المقدمات والمسالك التي تؤدي إلى العقاب الأليم بقوله تعالى[وَاتَّقُوا النَّارَ] ( ).
وجاءت الآية الثالثة بتقوى الله بصيغة البيان والتفسير والتفصيل، بقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] ( ).
وتضمنت الآية الرابعة الإخبار عن إعداد وتهيئة الجنة خاصة للذين يخشون الله بقوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
وإختصت الآية السابقة وهذه الآية ببيان صفات المتقين، وأختتمت هذه الآيات بذكر حسن عاقبة المتقين، لتكون مجتمعة ومتفرقة مدرسة في إصلاح المسلمين لمراتب [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وقيامهم بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة , ومنها أمور:
الأول: الترغيب بسنن التقوى.
الثاني: بعث الشوق في النفوس لنيل الجزاء العظيم على الصالحات.
الثالث: تولي المسلمين مسؤوليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو حاجة للناس في أمور الدين والدنيا، وهذه الحاجة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
فيحتاج الكافر الزجر عن الكفر، والأمر بالإيمان.
ويحتاج المؤمن البعث على أداء الواجبات وإتيان المستحبات وترك المحرمات، والتنزه عن المكروهات , ومن أسرار خلق الإنسان وتعدد صيغ وسبل الثواب في الدنيا أن هذه الحاجة متجددة عند كل إنسان , فإن قلت ورد قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
فالجواب هذه الأمة هي الأخرى محتاجة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدور من القرآن , والرجوع للأمة عامة وعلمائها مطلقاً، وفي غير الموضوع أو الزمان الذي تأمر به .
وأفراد هذه الأمة التي هي شطر من المسلمين مستقر ومتبدل غير منحصر بأفراد أو أهل بلد مخصوص، ففي كل مسألة إبتلائية يدخل جماعة وشطر من المؤمنين في مصاديق هذه الآية، ويكتفي الآخرون بدخولهم وعملهم في سبيل الله, أو يدخلون معهم , حسب جنس الواجب والمندوب وهل هو كفائي أو عيني.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه( ).
وفي الحديث مسائل:
الأولى: بيان فضل الله عز وجل في جعل آدم خليفة في الأرض.
الثانية: تأكيد موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منهاج الإستقامة , ومفاهيم الخلافة في الأرض.
الثالثة: تجدد الخلافة بعد أحقاب وأجيال من مغادرة آدم الحياة الدنيا قال تعالى[يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ]( ).
الرابعة: ترغيب المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامسة: عدم وجود تزاحم أو تعارض في طاعة الله والرسول والعمل بأحكام القرآن، لذا قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
السادسة: بلحاظ تعدد الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر فان في كل بلد ومصر من أمصار المسلمين خلفاء لله ورسول والقرآن يتلون آية البحث ويعملون بمضامينها ويدعون الناس للمبادرة إلى الذكر والإستغفار، وينبذون الإصرار على الذنوب.
وتقدير الجمع بين لغة الخطاب في أول هذه الآيات[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ( )، وموضوع هذه الآية على وجوه:
الأول:يا أيها الذين آمنوا إذا فعلتم فاحشة أو ظلمتم أنفسكم اذكروا الله فاستغفروا لذنوبكم.
الثاني:يا أيها الذين آمنوا من يغفر الذنوب إلا الله.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا الذين لم تصروا على ما فعلتم وأنتم تعلمون.
ولا ينحصر موضوع الآية بما بعد دخول الإسلام فهي أعم , فتشمل التوبة عن إيذاء المؤمنين والإضرار بهم وبمصالحهم.
فان قلت ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال الإسلام يجبّ( )، ما قبله) والتوبة تجبّ ما قبلها) ( )، فهل ينحصر موضوع الإستغفار بما بعد دخول الإسلام خصوصاً وأن آية البحث ذكرته في بيان خصال المتقين .
والجواب إن الهداية إلى الإستغفار رحمة ونعمة تفضل الله عز وجل بها على المسلمين، وأثره عام وشامل لما قبل الإسلام وما بعده، ويشمل حال الإرتداد الفطري والملي لأصالة الإطلاق، والإسلام يجبّ أي يمحو ما كان قبله من الجحود والكفر والمعاصي .
والإستغفار متمم لدخول الإسلام وباب للثواب، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن من وظائف الذي يدخل الإسلام أداء الفرائض وذكر الله والإستغفار .
ويؤكد هذا المعنى أنه (قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفْدُ مُحَارِبٍ عَامَ حِجّةِ الْوَدَاعِ وَهُمْ كَانُوا أَغْلَظَ الْعَرَبِ وَأَفَظّهُمْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تِلْكَ الْمَوَاسم أَيّامَ عَرْضِهِ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ فَجَاءَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ نَائِبِينَ عَمّنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ فَأَسْلَمُوا وَكَانَ بِلَالٌ يَأْتِيهِمْ بِغَدَاءٍ وَعَشَاءٍ إلَى أَنْ جَلَسُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمًا مِنْ الظّهْرِ إلَى الْعَصْرِ فَعَرَفَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَمَدّهُ النّظَرَ فَلَمّا رَآهُ الْمُحَارِبِيّ يُدِيمُ النّظَرَ إلَيْهِ قَالَ كَأَنّك يَا رَسُولَ اللّهِ تُوهِمُنِي؟ قَالَ”لَقَدْ رَأَيْتُك” قَالَ الْمُحَارِبِيّ: أَيْ وَاَللّهِ، لَقَدْ رَأَيْتنِي وَكَلّمْتنِي وَكَلّمْتُك بِأَقْبَحِ الْكَلَامِ وَرَدَدْتُك بِأَقْبَحِ الرّدّ بِعُكَاظٍ، وَأَنْتَ تَطُوفُ عَلَى النّاسِ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ “نَعَمْ” ثُمّ قَالَ الْمُحَارِبِيّ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا كَانَ فِي أَصْحَابِي أَشَدّ عَلَيْكَ يَوْمَئِذٍ وَلَا أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنّي فَأَحْمَدُ اللّهَ الّذِي أَبْقَانِي حَتّى صَدّقْتُ بِك وَلَقَدْ مَاتَ أُولَئِكَ النّفَرُ الّذِينَ كَانُوا مَعِي عَلَى دِينِهِمْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ “إنّ هَذِهِ الْقُلُوبَ بِيَدِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ.
فَقَالَ الْمُحَارِبِيّ: يَا رَسُولَ اللّهِ اسْتَغْفِرْ لِي مِنْ مُرَاجَعَتِي إيّاكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ “إنّ الْإِسْلَامَ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْكُفْرِ” ثُمّ انْصَرَفُوا إلَى أَهْلِيهِمْ)( ).
فلم يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ولكنه أخبره عن قانون كلي بأن دخول الإسلام يمحو الذنوب والمعاصي السابقة له، وفيه حث له وللمسلمين على التقوى والخشية من الله، والمواظبة على الذكر والإستغفار وكأنه يدعوه للعمل في مرضاة الله وعدم الإتكال في الإستغفار .
ومما ذكر في حديث دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني محارب قبل دخولهم الإسلام أنه جاءهم بعكاظ (فوجدهم في محالهم فيهم شيخ منهم وهو جالس في أصحابه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته ودعا إلى الله وطلب المنعة حتى يبلغ رسالات ربه فرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الرد وقال له عجبا لك يأبى قومك أن يتبعوك وتأتي إلى محارب تدعوهم إلى ترك ما كان عليه آباؤهم، إذهب فإنه غير متبعك رجل من محارب آخر الدهر
ويقبل إليه سفيه منهم فقال يا محمد ما في بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا فلعمري إنك لتدعي من العلم أعظم مما سألتك عنه تزعم أن الله يوحي إليك ويكلمك فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل إليه رجل منهم يقال له سلمة بن قيس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا قريباً من منزلهم فأراد أن يطرحه في البئر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنحى عن البئر فجعل سلمة يقول لو وقعت في البئر إستراح منك أهل الموسم
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بزمام راحلته يقودها، وهم يرمونها بالحجارة حتى تواري عنهم وهو يقول اللهم إنك لو شئت لم يكونوا هكذا وإن قلوبهم بيدك وأنت أعلم بهم فإن كان هذا عن سخط بك علي فلك العتبي( )، ولا حول ولا قوة إلا بك).
بحث فقهي
أصل الربا لغة الزيادة يقال:ربا المال إذا زاد وكثر، وإحتج الكفار بأن كلَ من الربا والبيع طريق لنماء وزيادة المال، وجعلوا الربا مشبهاً به لأن الزيادة فيه مضمونة لصاحب المال والبيع ملحق به، وقد يكون البيع خالياً من الربح، أو يكون فيه نقص عن رأس المال إذ(أن أقسام البيع بالنسبة إلى ملاحظة الثمن اربعة:
الأول: بيع شئ معلوم بثمن معلوم مع تراضيهما , كما لو قال بعتك هذا الكتاب بدينار، فلا يذكر رأس المال وسعر الكلفة والربح والخسران في العقد , ويسمى بالمساومة.
الثاني: البيع برأس المال مع الزيادة ويسمى بالمرابحة، كما لو قال بعتك هـذه السيارة برأس مالها وقدره ألف دينار مع زيادة مقدارها كذا.
الثالث: البيع برأس المال مع النقيصة ويسمى بالمواضعة كما لو اشترى طناً من الحنطة بمائة دينار ثم باعه بخمسة وتسعين ديناراً، أي بنقيصة خمسة دنانير.
الرابع: البيع برأس المال من دون زيادة ولا نقيصة ويسمى بالتولية، كما لو اشترى المتاع بدينار وباعه بدينار أيضاً.
وهذه الأقسام الأربعة كلها صحيحة وعليه الاجماع لقاعدة السلطنة وأدلة تجارة عن تراض وعدم ثبوت الردع من الشارع، والأدلة على تقريرها، وأفضل هذه الاقسام هو المساومة وهو السائد والمتعارف في مثل هذه المعاملات , وبفضل الله تعالى ترى النفوس تميل وتسكن إليه، أما المرابحة فهي مكروهة أحياناً( ).
إن حب الكفار للمال وإفتتانهم بها جعلهم لا ينظرون إلا من جهة جمعه وتكاثره وسلامته من النقص والتلف، وظنوا أن الترخيص للغير بالتصرف في المال يجب أن يكون له مقابل مضمون لا يتحصل إلا بالزيادة الربوبية.
ويعتبر في المرابحة تعيين مقدار الربح، وفي المواضعة بيان مقدار النقيصة، ويكفي فيه ذكر رأس المال وثمن البيع ونحوه القصد الإجمالي الذي يكفي في معرفة الزيادة أو النقيصة.
وعبارة عقد المرابحة والإيجاب والقبول بعد تعيين رأس المال أو تعيينه من الخارج أن يقول البائع : بعتك هذا المتاع بالمقدار الذي اشتريته به وهو كذا وربح كذا .
ويقول المشتري : قبلت .
ويجوز أن يكتفي بذكر الزيادة ولم يحدد رأس المال إلا أن يكون فيه غرر أو ضرر، فمعها يلزم البيان والتفصيل بما يرفع الجهالة والغرر، وكذا بالنسبة للمواضعة ببيان النقص .
وفي التولية يقول له بعتك بما اشتريت فيقول المشتري : قبلت أو اشتريت.
ولو تعددت النقود والعملات في البلد وكان في قيمتها وصرفها تفاوت فلابد من تعيين نوع تلك العملة، وكذا لابد من ذكر الشروط والأجل ونحوه مما يتفاوت لأجله الثمن.
إذا إشترى متاعاً بثمن معين , ولم يحدث فيه ما يوجب زيادة قيمته فرأس ماله ثمن شرائه , فيقول إشتريته بكذا، أو رأس مالي كذا، وإن أحدث فيه ما يوجب زيادة قيمته .
فإن كان بعمل من البائع فيقول رأس ماله كذا , وعملت فيه كذا أو ما تقدر كلفته أو قيمته بكذا، أي لا يجعل عمله جزء من رأس المال عند الاخبار عن رأس ماله , لما فيه من الجهــالة والتغــرير , وقد يكون من الكذب .
وان أنفق عليه باستئجار عامل ونحوه فله أن يحتسب تلك الأجرة ويقول: تقوّم عليّ بكذا، ولا يجوز أن يضيف الأجرة إلى رأس المال ويقول: إشتريته بكذا أو رأس ماله كذا)( ).
وجاءت آية البحث لتحصين أسواق المسلمين من المعاملات الفاسدة، وأكل المال بالباطل، لذا جاءت النصوص بإستحباب الدعاء وذكر الله عند دخول السوق، وعند إجراء عقد البيع .
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل السوق قال: بسم الله، اللهم إني أسألك خير هذه السوق، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما فيها، اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها يمينا فاجرة، أو صفقة خاسرة)( )، وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من دخل السوق، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتا في الجنة)( ).
وفي الحديث بلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى: هذا الحديث النبوي تفسير لآية البحث.
الثانية: بيان حقيقة وهي أن ذكر الله حسن على كل حال , ولا تنحصر الحاجة إليه بفعل المعصية.
الثالثة: ذكر الله مقدمة للفعل والمعاملة.
الرابعة: الإحتراز عند دخول الأسواق بذكر الله، وعن الإمام علي عليه السلام قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن شر بقاع الأرض وخير بقاع الأرض؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: شر بقاع الأرض الأسواق إلى أن قال وخير البقاع المساجد)( ).
الخامسة: تعدد ذكر الله في الدعاء والإقرار فيه بالوحدانية.
السادسة: يدل الحديث بالدلالة التضمنية على الشكر لله.
السابعة: بيان محو السيئات بالدعاء والتهليل لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ومحا عنه ألف ألف سيئة، أي مليون سيئة.
الثامنة: الحديث مصداق لموضوع آية البحث , وهو ذكر صفات المتقين الذين هيأ وأعدّ الله عز وجل لهم جنة عرضها السموات والأرض.
التاسعة: الذكر عند دخول الأسواق زاجر للنفس عن الإنقطاع إلى زينة الدنيا، والإنشغال بصغائر الأمور، لذا وردت الكراهة في الدوران في الأسواق، وتولي ذي الحسب والدين شراء دقائق الأشياء بنفسه ومماكسة الأدنين.
قوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ]
إبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) للدلالة على إتحادها في الموضوع مع الآية السابقة، ومجيئها لبيان خصلة كريمة من خصال المتقين الذين يخشون الله عز وجل ويؤتون ما أمرهم به، ويجتنبون ما نهاهم عنه، وتقدير أول الآية: والمتقون إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم).
وتدل الآية في مفهومها على عدم الملازمة بين التقوى والعصمة من الذنوب، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق فكل معصوم هو متق وليس العكس , وفيه لطف من الله عز وجل بالعفو ومحو الذنوب عن المؤمنين , وأنها لا تبقى تصاحبهم لا بالصفة ولا بالأثر.
وجاءت هذه الآية الكريمة بقانون كلي من الرأفة الإلهية ليكون سلاحاً وحرزاً بيد المسلم لأوان الحاجة إليه، فهو لا يحتاجه مثل سلاح الصلاة اليومية، ولا مثل الذكر والإستغفار مطلقاً اللذين يأتي بهما من غير سبب أو علة أي أن المسلم في ذكر وإستغفار دائم ومتصل.
فذات الصلاة مثلاً ذكر وإستغفار، وكذا الصيام والحج والواجبات الأخرى التي يؤتى بها بقصد القربة إلى الله عز وجل.
ففي الحج ورد عن رسول الله صلى عليه وآله وسلم انه قال: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمه( ).
وقد يطرأ على المسلم حال غلبة النفس الشهوية , فيرتكب بعض النواهي فتأتيه هذه الآية سفينة نجاة سخّرها الله له لدفع الهلكة التي يجلبها فعل الفاحشة، ويكون ركوب هذه السفينة بأمرين:
الأول:ذكر الله.
الثاني : قول : إستغفر الله.
وليس في الآية ذكر للمسلمين على نحو التعيين والخصوص، إنما ذكرت المتقين الذين يخشون الله , ويدخلون الجنة بمصاديق التقوى التي يواظبون عليها في الحياة الدنيا .
والجواب من وجوه:
الأول:جاءت الآية للإخبار عن قانون كلي في ماهية خلق الإنسان، والثواب العظيم الذي ينتظر فريقاً من الناس وهم أهل الإيمان.
الثاني:دخول الإسلام وأداء الفرائض أبهى سبل ومعاني التقوى، لما فيه من الإقرار بالتوحيد، والتصديق بالنبوة والتنزيل.
الثالث:جاءت آيات القرآن بندب المسلمين إلى منازل التقوى , وإطلاق صفتها عليهم، وإبتدأت أكبر وأول سور القرآن التي جاءت بعد سورة الفاتحة , وهي سورة البقرة بقوله تعالى[الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
وعن عطية السعدي وكان من أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ”)( ).
وجاءت آية البحث بالذكر والإستغفار وكل منهما حسنة وخير وبركة، ويأتي على ما فيه البأس فيمحوه.
لقد أراد الله عز وجل أن تكون الحياة الدنيا(دار النجاة) للمتقين الذين يخافونه بالغيب ويواظبون على عبادته بأن يقيهم الأضرار التي تترتب على فعل الفاحشة، ويجعلهم في أمن وسكينة وإن زلت أقدامهم عن منهاج الإستقامة وجادة الهدى آنا ما، قال تعالى[فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، وفيه حجة ورحمة للمسلمين بأنهم بلغوا مرتبة من الهداية ووضوح الطريق.
والنجاة في الدنيا جزاء عاجل من الله على ملكة التقوى , والمبادرة إلى دخول الإسلام، والتصديق بالنبوات، فالأرض ملك لله عز وجل وأراد لعباده المؤمنين أن يتنعموا بالعفو والمغفرة العاجلة منه في الدنيا، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
ولقد أختتمت الآية السابقة بالثناء على المسلمين , ووصفهم بالمحسنين لتحليهم بصفات التقوى، ولكن إبتدأت هذه الآية بذم فعل الفاحشة فهو أمر مضاد للإحسان.
والجواب جاءت آية البحث بالإخبار عن حقيقة وهي أن فعل المسلم للفاحشة لا يخرجه من الإحسان لأنه يتعقبه بالذكر والإستغفار، وفيه إحسان للذات والغير.
ومن أسرار العفو والمغفرة في آية البحث تغشي صفة التقوى للمسلمين على نحو متصل ومستديم وإن فعل بعضهم الفاحشة لا يخرج المسلمين عن مراتب وصبغة التقوى، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن الإعجاز في المقام التباين في المتعدد والمتحد، في موضوع الفعل إذ ذكرت الآية المسلمين بصيغة الجمع من وجهين:
الأولى: الاسم الوصول[الَّذِينَ].
الثانية:واو الجماعة في (إذا فعلوا) بينما ورد ذكر الفاحشة بصيغة المفرد (فاحشة) مع ورود ذكرها بصيغة الجمع في آيات قرآنية أخرى، قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أن الله عز وجل يغفر الفعل المحرم والمنهي عنه الذي يؤثم الإنسان بإتيانه , متحداً أو متعدداً، قليلاً أو كثيراً، مما يدل على عدم الملازمة بين فعل الفاحشة والعقاب، ولكن بشرطين:
الأول:تعاهد مرتبة التقوى بالإيمان بالله ورسوله، وأخرج ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال : الإِيمان عريان ولباسه التقوى ، وزينته الحياء ، وماله العفة( )، ومنهم من أخرجه بلفظ في الخبر، وفي الحديث، ويشكل عليه سنداً ودلالة.
وأما سنداً فانه لم يرفع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو عن أحد الصحابة أو أهل البيت , ووهب بن منبه تابعي من اليمن , سمع من ابن عباس يكثر الرواية عن كتب الأقدمين , مات سنة مائة وأربع عشرة.
وأما دلالة فان الإيمان علم ومرتبة من التقوى قائمة بذاتها، وليس هو عرياناً أو مجرداً، إلا إذا أريد الموعظة والحث على خشية الله , فالإيمان بذاته محمود وأمر حسن، ويترتب عليه الأجر والثواب، بل العكس هو الصواب إذ أن الأعمال الحسنة لا تقبل إلا مع الإيمان بالله جلً وعلا، والكفر كبيرة لا يقبل معها عمل حسن، قال تعالى[وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا]( ).
الثاني:إستحضار ذكر الله وسؤال المغفرة منه تعالى عند فعل الفاحشة، الأمر الذي يدل على الإقرار بأنها معصية، وأن الله عز وجل يغفر لمن ذكره وسأله ورجاه، قال تعالى[فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ]( ).
الثالثة:بيان حقيقة وهي أن المسلمين لا يرتكبون ما يتعارض مع قواعد التوحيد،وضوابط الإيمان، إذ أن الآية ذكرت فعلهم الفاحشة من غير مغادرة منهم لمنازل التقوى، ليواجه هذا الفعل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وظاهر آية البحث الفورية بالذكر والإستغفار، وعدم الإبطاء أو التسويف بهما بلحاظ أن هذه الفورية من خصائص المتقين التي تؤهلهم لدخول الجنة، وهي خصلة حميدة يمتازون بها من بين الناس، فإذا سأل سائل ما هي صفات المتقين يمكن القول أن منها صفة المبادرة والفورية إلى الذكر والإستغفار عند فعل المعصية لصيغة الأمر قبل آيتين والتي تحمل على الوجوب[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
ولو أبطأ المسلم عن الذكر وتأخر عن الإستغفار , فهل يبقى على صبغة التقوى وفي منازلها، الجواب نعم، من وجوه:
الأول:يتفضل الله عز وجل ولا يجعل موضوعية للزمن الفاصل بين فعل الفاحشة والذكر.
الثاني:تقريب المسلم من الذكر والإستغفار، وتذكيره بهما، وجذبه إلى مراتب الطاعة والتقوى طوعاً وإنطباقاً.
الثالث:جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية لبيان حال له مصداق خارجي في سيرة المؤمنين، وهي دعوة للمسلمين والمسلمات جميعاً للمبادرة والفورية في الذكر والإستغفار.
الرابع:الآية الكريمة حرب على الإبطاء والتسويف في الذكر والإستغفار مطلقاً في جميع الأحوال، وعند فعل الفاحشة وظلم النفس على نحو الخصوص .
وعن جابر أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: واذنوباه واذنوباه، فقال هذا القول مرتين أو ثلاثا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من عملي، فقالها ثم قال: عد فعاد ثم، قال: عد فعاد، فقال: قم فقد غفر الله لك)( ).
ومع أن الظلم نوع مفاعلة بين طرفين أحدهما ظالم والآخر مظلوم, وهناك مادة للتعدي من الأول على الآخر , فإن الآية جاءت بتعدي الإنسان على نفسه , وفيه مسائل:
الأولى: ذكرت الآية النفس لتكون قرينة على خصوص الإضرار بالذات , وأن الأمر ليس من باب المفاعلة بين طرفين.
الثانية: بيان حقيقة وهي تأثير الإنسان على نفسه وجوارحه، وفيه حجة عليه بلزوم الإستقامة في نهج الصالحات، والتنزه عن الإضرار بالنفس.
الثالثة: تأكيد عائدية ملكية النفس الإنسانية لله عز وجل، وأن السلطان المطلق لله عليها، فليس للإنسان العبث بها أو ببدنه بغير مرضاة الله , وأسباب جلب المصلحة ودفع المفسدة.
وهل يشمل ظلم النفس في الآية الشك , الجواب لا، فيكون موضوعها التقصير في العبادات والفرائض الواجبة على المتقين والإسراف في المال والتخلف عما يبقي الإنسان في سبل الهداية , وتضييع مناسبات للأجر والثواب.
ومن خصال[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] الدعاء والتضرع بصيغة القرآنية وعلى نحو الوجوب اليومي المتكرر في قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
وتقدير الآية أعلاه بلحاظ آية البحث وإياك نعبد بالذكر والإستغفار وإياك نستعين للسلامة من فعل الفاحشة وظلم النفس , إهدنا الصراط المستقيم الذي يسوقنا إلى الجنة التي عرضها السموات والأرض).
ولو ظلم المؤمن نفسه وفق مضامين آية البحث فهل يكون من القوم الظالمين الذين ذمهم الله عز وجل في موارد عديدة من القرآن، كما في قوله تعالى على سبيل المثال[فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، الجواب لا، لأن المراد من القوم الظالمين هم الذين تجاوزوا الحد في التعدي والإضرار بالذات والغير كما في قوله تعالى[وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
بينما جاءت آية البحث في الثناء على المؤمنين ونعتهم بالمتقين وجاء القرآن بالإنذار والوعيد للظالمين، ولزوم إتعاظهم من البطش الذي أصاب من سبقهم في التعدي والجور، كما في ذكر الحجارة التي أهلكت قوم لوط , وإنذار الكفار من ذات العاقبة، بقوله تعالى[وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية (إذا فعلوا الفواحش) بلحاظ التعدد في الفعل لتعدد الفاعل، لأن الأصل هو قيام الفرد بفعل الفاحشة، وليس إجتماع الجماعة والأمة على فعل فاحشة واحدة.
والجواب على وجوه:
الأول: جاءت الآية لإكرام المسلمين، وتنزيههم عن فعل الفواحش، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )،بلحاظ العناية بهم وهدايتهم , ولطفه تعالى بهم بابعادهم عن المعاصي , وجعل الحواجز بينهم وبين فعل الفواحش.
ومن أمثال الحكمة (من العصمة أن لا تجد) ليدخل فيه ضعف البدن، والإستضعاف والفقر والعوز، والتزاحم أو التعارض بين الأشياء، وتقديم الأهم بما يفوت على الإنسان فعل الفاحشة، كتقديم أداء العبادات، أو الإنشغال بأمور المعيشة والكسب، وبما يكون فيه فضل ولطف من الله عز وجل، قال تعالى[وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ] ( ).
الثاني:الإخبار عن ندرة وقوع الفاحشة من المؤمنين، لأن الأصل في أفعالهم وسيرتهم هو ما ذكرته الآية السابقة من الإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس.
الثالث: إتيان المؤمنين الفرائض والعبادات واقية وحرز من فعل الفواحش.
الرابع:في الآية نوع تحد للكفار والظالمين لما تدل عليه من ندرة وقلة صدور الفاحشة من المؤمنين، نعم فيها بعث للأمن في الأرض بلحاظ وجود أمة كريمة تأبى الإقامة على المعاصي، وتتجنب ظلم النفس.
الخامس:بيان حقيقة وهي أن تنزه المسلمين عن الإقامة على الفواحش خشية من الله عز وجل وطاعة له سبحانه.
السادس: الآية شاهد على موضوعية وأثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المسلمين وفي أقوالهم وأفعالهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
وظاهر الآية أعلاه أن الأمر والنهي ملازمان للمسلمين والمسلمات في أمورهم العامة والخاصة، وأن صفتهم هي [خَيْرَ أُمَّةٍ] وفعلهم هو الأمر والنهي وهو الذي يجعل إقامتهم في هذه المرتبة مستديمة ومتجددة، وتتوارثها أجيالهم كأعظم تركة في حياة الإنسانية، وهبة تفضل الله عز وجل بها على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلا غرابة أن تستبشر الملائكة ببعثته , كما يدل عليه حديث الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
بالإسناد عن أنس بن مالك قال ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابًا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قالوا: مرحبًا به وأهلاً به، يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يُعْلِمهم( ).
ويكون حال الإرتقاء عند المسلمين وفق القياس الإقتراني على النحو الآتي:
الكبرى:خير أمة تتعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الصغرى: المسلمون يتعاهدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
النتيجة: المسلمون خير أمة.
ومن خصال المسلمين التقيد بالعبادة المقرونة بالعلم، وكل واحد منها يترشح عن الآخر من غير أن يستلزم الدور بينها، للتباين في المؤثر والأثر الذي يحصل على نحو جهتي، إذ أن العبادة تنمي وتزيد العلم، ويهدي العلم إلى التقوى والحرص على إتيان الفرائض بأوقاتها، والإحتراز من مواطن الشبهات، وعن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فضل العلم خير من فضل العبادة ، وخير دينكم الورع( ).
فانه قيل ما هو النفع والأثر الظاهري المترتب عند المسلمين على قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجواب على شعبتين:
الأولى: ذات آية (خير أمة) شهادة من الله عز وجل على وجوه:
الأول:النفع العظيم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإختصاص المسلمين بأسمى مرتبة بين الأمم.
الثاني:إخبار الآية عن عدم الإنفكاك بين المسلمين وبين الأمر والنهي في مرضاة الله.
الثالث:من أبهى وأصدق معاني الأمر والنهي هو الأمر بالذكر والإستغفار، والنهي عن فعل الفاحشة وظلم النفس.
الرابع: صدور المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن القرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو أمر ينفردون به من بين أهل الأرض، لأن كمال الدين والشرائع بالقرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون القرآن والسنة إماماً لهم في سبل الإستغفار، وشفيعاً لأجيالهم المباركة.
ومن الآيات أن (خير أمة ) تلتقي مع آدم عليه السلام بذات التوسل في الإستغفار، وهو من الدلائل على أن الله عز وجل إذا أنعم بنعمة على أهل الأرض فإنها تبقى لا ترفع كرماً ولطفاً منه تعالى بالناس.
(وأخرج ابن المنذر عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : لما أصاب آدم الخطيئة عظم كربه ، واشتد ندمه . فجاءه جبريل فقال : يا آدم هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك منه؟ قال بلى يا جبريل قال : قم في مقامك الذي تناجي فيه ربّك فمجده وامدح ، فليس شيء أحب إلى الله من المدح قال : فأقول ماذا يا جبريل؟ قال : فقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير . ثم تبوء بخطيئتك فتقول : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت . رب إني ظلمت نفسي وعملت السوء فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . اللهم إني أسألك بجاه محمد عبدك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي . قال : ففعل آدم فقال الله : يا آدم من علمك هذا؟ فقال : يا رب إنك لما نفخت فيّ الروح فقمت بشراً سوياً أسمع وأبصر وأعقل وأنظر رأيت على ساق عرشك مكتوباً « بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك . قال : صدقت . وقد تبت عليك وغفرت لك خطيئتك قال : فحمد آدم ربه وشكره وانصرف بأعظم سرور ، لم ينصرف به عبد من عند ربه . وكان لباس آدم النور، قال الله [يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا] ثياب النور قال : فجاءته الملائكة أفواجاً تهنئه يقولون : لتهنك توبة الله يا أبا محمد( ).
الثانية: آية البحث التي تؤكد بأن مضامينها ثمرة من ثمار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجوه:
الأول: بلوغ المسلمين مرتبة المتقين بالتصديق بالنبوة والتنزيل، فلقد صبروا في جنب الله , وتحملوا الأذى على إيمانهم، ولم يفرطوا بسنن التقوى، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
الثاني:ذكر الآية لفعل المسلمين الفاحشة بلغة التنكير والمفرد، مما يدل على ندرته وقلته، وعدم كثرة مزاولة المسلمين للفاحشة، والنكرة ما وضع عنواناً لشيء من غير تعيين لفرد مخصوص أو معلوم , ويأتي مجرداً وخالياً من الألف واللام مثل: إثم، قلم( ).
الثالث:موضوعية تعاهد المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في لجوئهم إلى الذكر والإستغفار عند فعل الفاحشة.
الرابع:تسليم المسلمين بأن الله عز وجل وحده القادر على محو ومغفرة المعاصي، وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا] ( ).
وقد يخشى بعض الناس دخول الإسلام لظنه بالعجز عن الإمساك التام عن الفواحش والسيئات , خصوصاً وأن الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، فجاءت هذه الآية مدداً ولطفاً من الله عز وجل لدفع هذه الخشية، وبياناً عن سعة رحمة الله، وعلمه بأن المؤمن قد يعود إلى المعصية فيجد عندها سلاح الذكر والإستغفار الذي يمحو أثرها، ليكون العبد بين أمرين:
الأول:البقاء على الكفر والجحود وآثار المعاصي وشدة العقاب الذي يترتب عليها.
الثاني:دخول الإسلام والفوز بالعفو بالقوة الواقعية التي جعلها الله عز وجل لقانون الذكر والإستغفار الذي يأتي على المعاصي فيمحوها وآثارها وكأنها لم تكن.
وتدعو آية البحث إلى الثاني، وترّغب الأفراد والجماعات فيه، وهو من أسرار دخول القبائل في الإسلام على نحو دفعي، قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ).
وجاء قوله تعالى[فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ] بفاء التعقيب والعطف ويكون الثاني داخلاً فيما دخل فيه الأول التي تدل على إنتفاء الفترة والموضوع بين الذكر والإستغفار، كما يقال:جاء زيد فعمرو، أي أنه جاء بعده مباشرة، وتعقب الذنب بالذكر والإستغفار من التقوى وأمارات الصلاح التي يتصف بها المسلمون، ولو خالف الأول الثاني لا يحمل الثاني على الأول وان كان بينهما عطف إذ ينتصب الثاني باضمار أن، كما يقال:لا تأكل السمك وتشربَ اللبن، زرني فاحسنَ إليك.
ويدل العطف في الآية على إتحاد ماهية الذكر والإستغفار وأنما توسل وتغرب إلى الله.
ووردت الآية بصيغة الجمع في الذنوب والمعاصي[فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ] وفي ماهية هذه الذنوب وجوه:
الأول:المراد الذنوب التي يفعلها المسلمون على نحو العموم المجموعي.
الثاني:إرادة الذنوب الشخصية.
الثالث:جاءت صيغة الجمع في الآية لنظم الآيات، ولأنها وردت بصيغة الجمع.
الرابع:المقصود أن المسلمين مجتمعين ومتفرقين يستغفرون للفرد الواحد منهم الذي يرتكب المعصية.
الخامس: الآية إنحلالية , والمراد من لغة الجمع أن كل مسلم يستغفر لذنوبه.
السادس: كل مسلم يستغفر للمسلمين جميعاً.
أما الأول اعلاه فهو ممتنع , لأن المسلمين مجتمعين لا يرتكبون المعصية والذنب، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمتي لا تجتمع على ضلالة) ( ).
والفاحشة أكبر من الخطأ، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل فاحشة خطأ وليس العكس، أي من باب الأولوية القطعية، لا يجتمع المسلمون على الخطأ.
أما الثاني أعلاه فهو صحيح، والمراد الذنوب التي يرتكبها بعض المسلمين.
وأما الوجه الثالث فنظم الآيات ليس علة تامة لمجئ صيغة الجمع في (الذنوب).
وأما الرابع فهو من مصاديق وتفسير الآية الكريمة، ليكون من نعم الله عز وجل على المسلمين إجتماع إستغفار الأمة على الذنب المتحد الذي يفعله أحدهم، وهو من مصاديق مجئ لفظ (فاحشة) في الآية بصيغة المفرد ولغة التنكير.
وأما الخامس فهو المتبادر من ظاهر الآية الكريمة , وإن كانت أعم موضوعاً ودلالة وحكماً، قال تعالى[وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
ويأتي سؤال الإستغفار من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمته رحمة ومن آيات وفلسفة النبوة في الأرض.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: الإستغفار على نحوين : أحدهما في القول ، والآخر في العمل . فأما استغفار القول فإن الله يقول [[وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ]( )، وأما إستغفار العمل فإن الله يقول [وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] ( )، فعنى بذلك أن يعملوا عمل الغفران ، ولقد علمت أن أناساً سيدخلون النار وهم يستغفرون الله بألسنتهم ، ممن يدعي بالإسلام ومن سائر الملل( ).
ولا دليل على هذا التفصيل والتقييد، فكلا الآيتين في الإستغفار القولي، والعمل الصالح تأكيد مبارك للإستغفار، وزيادة في الأجر، ومناسبة لمحو السيئات.
فقد جاءت الآية أعلاه من سورة النساء[وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ] والآية الأخرى أعلاه من سورة الأنفال[وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لهم بلسانه وقوله، وكذا إستغفارهم.
نعم من الإعجاز في الجمع بين الآيتين أن إستغفار الرسول بصيغة الماضي، وإستغفار المسلمين بصيغة المضارع للدلالة على بقاء إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمته، وأن وظيفتهم العبادية تقتضي مواظبتهم على الإستغفار.
وفي إستغفار الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمته مسائل:
الأولى:ملازمة الإستغفار النبوي للمسلمين إلى يوم القيامة، فمع إنقطاع النبوة بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى يبقى إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين متجدداً في نفعه وأثره، من جهات:
الأولى: جاء إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي الشامل لأجيالهم المتعاقبة.
الثانية:تلاوة المسلمين لآيات إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في اليوم والليلة.
الثالثة:فضل الله عز وجل في حفظ ونماء إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمته , وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام , والإنتفاع الأمثل في النشأتين من دعاء وإستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابعة:الرسالة صفة نازلة من عند الله , والإستغفار سؤال صاعد، ليكون إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمته شكراً لله على تشريفه بالرسالة.
الثانية:فيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين باستغفاره لأمته وهي خير وأحسن وأكبر الأمم، وفي نوح ورد قوله تعالى[رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا]( )، وقوله تعالى[فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا]( ).
الثالثة:موضوعية الإستغفار للأمة في السنة النبوية الشريفة، وإمتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الدعاء على أعدائه من قريش وفي أحيان عديدة، وإختياره الإستغفار لهم رجاء صلاحهم مع شدة إيذائهم له وللمسلمين .
عن أنس قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كُسرَتْ رَبَاعيتُهُ يومَ أُحدُ، وشُجَّ في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: “كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ، وهو يدعوهم إلى ربهم، عز وجل”. فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ.
الرابعة: بيان مرتبة الصبر العالية التي يتحلى بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ورحمته بالأمة بالإستغفار لهم.
وأخرج ابن مردويه عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله رحيم ولا يضع رحمته إلا على رحيم قلنا : يا رسول الله كلنا نرحم أموالنا وأولادنا . قال : ليس بذلك , ولكن كما قال الله لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
الخامسة:دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين للتفقه في الدين، وإدراك موضوعية الإستغفار، وما فيه من الخير والفلاح في الدنيا والآخرة.
السادسة: إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين من عمومات آية البحث، وبعث المسلمين على ذكر الله والإستغفار لذنوبهم إقتداء بسنة النبي، وتعلم من سيرته ونهجه المبارك .
السابعة:لقد أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمته ضروباً من الخير منها:
الأول:تعاهد المسلمين منزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، باستغفارالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم.
الثاني: فوز أجيال المسلمين المتعاقبة بأثر ورشحات هذا الإستغفار.
الثالث:تنمية ملكة الإستغفار عند المسلمين مجتمعين ومتفرقين.
الرابع: التخفيف عن المسلمين والرحمة بهم , وإزاحة لكثير من أفراد الإبتلاء اليومي عنهم.
وقيل أن الله تعالى نادى موسى بن عمران: لا تخيب من قَصدك وأجر من إستجار بك، فبينما موسى عليه السلام في سياحته إذا بجارح يطرد حمامة فلما رآه الحمام نزل على كتفه مستجيراً به، ونزل الجارح على الكتف الآخر فلما هّم به الجارح نزل الحمام على كمه، فناداه الجارح بلسان فصيح يا ابن عمران إني قاصدك فلا تخيبني ولا تحل بيني وبين رزقي، وناداه الحمام يا ابن عمران إني أنا مستجير بك فأجرني فقال موسى ما أسرع ما ابتليت به ثم مد يده ليقطع من فخذه قطعة للجارح وقاء لهما وحفظاً لما عهد إليه فيهما فقال يا ابن عمران أنا رسول ربك أرسلني إليك ليرى صحة ما عهد إليك يعطي الدنيا من يحب ويبغض ولا يعطي الآخرة إلا من يحب( ).
والحديث ضعيف سنداً وموضوعاً وجهة صدور، وقد تجلى صدق وجهاد موسى عليه السلام في إحتجاجه على فرعون والملأ من قومه، وإمامته بني إسرائيل، وغيرها من أنباء قصته , ونبوته التي ذكرها القرآن، وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وقد إقتبس المسلمون من سنن الأنبياء، وإهتدوا إلى سبل الإستغفار وإتخذوه بلغة للوصول إلى الإقامة الدائمة في جنات النعيم، ويتضمن قوله تعالى في الآية السابقة [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( )، الوعد الكريم من الله عز وجل للمسلمين بالسعة والمندوحة في الحياة الدنيا مع البشارة بالخلود في النعيم بأمور:
الأول: سلاح التقوى.
الثاني: زاد الذكر والإستغفار.
الثالث: سؤال العفو من الله عز وجل.
الرابع: إستحضار قصص الأنبياء والأمم السالفة وأخذ الدروس والمواعظ منها، قال تعالى[فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
بحث نحوي
ينقسم حرف الجر من حيث المرتبة إلى ثلاثة أقسام:
الأول:حرف جر أصلي، وهو الذي له معنى خاص به قائم بذاته، وله متعلق مذكور وظاهر، أو محذوف، كما في لفظ مغفرة في قوله تعالى[مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ] , فالمتعلق هو المغفرة لأنه يوضح معنى حرف الجر.
وقد ذكرت في بحث الأصول عدم إستقلال الحرف بافادة المعنى، فالحرف وضع للإستعمال كغيره، ولكن المراد منه الدلالة الناقصة التي لا تتم الا بغيره، ووضع لفظ الاسم والفعل ليستعمل كل منهما في المعنى على نحو الإستقلال، أما حرف الجر مثل(الباء) فإنه يحتاج في معناه إلى غيره، أما الاسم والفعل فان كلاً منهما يفيد المعنى لذاته وعلى نحو الإستقلال.
الثاني:حرف جر زائد وهو الذي ليس له معنى خاص , ولا يحتاج إلى متعلق، بل يؤثر به للتأكيد، كما في قوله تعالى[وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ]( )، فجاء حرف الجر(من) مرة من القسم الثاني أخرى من القسم الأول أعلاه .
الثالث:حرف جر شبيه بالزائد، وبينه وبين القسم الثاني أعلاه عموم وخصوص من وجه، فيلتقيان بأن كل واحد منهما ليس له متعلق، ويفترقان بأن الحرف الشبيه بالزائد له معنى خاص به مثل(رب) على مذهب البصريين لمساواتها للحرف بعدم ظهور معنى خاص لها ولأنها مبنية، وقد يكون حكمها الإعراب بخلاف أسماء الإستفهام والشرط فان لها معنى مفهوماً ومستقرأ من لفظها.
وذهب الكوفيون إلى كون (رب) إسماً يحكم بحسب موضعه من الإعراب، وأختلف في معناها وهل هي للتكثير أو التقليل , أو أنها من الأضداد وتفيد المعنيين معاً.
وحرف الجر(من) يكون أصلياً وزائداً، والأصلي منه أربعة عشر معنى منها إبتداء الغاية والتبعيض وبيان الجنس والتعليل والبدل كما في قوله تعالى[أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ] ( )، والتي تكـــون لإبتداء الغاية تأتي في المكــان، وما ينزل منزلة المكــان كما يقال من فلان إلى فـــلان، والله عز وجل لا يوصف بأين أو مكان وهو سبحانه منزه عن الجهة، قال تعالى[فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( ).
فالمراد من حرف الجر(من)أعم من إبتداء الغاية والحرف الأصلي والزائد، ويصدق عليه في قوله تعالى[مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، أنه أصلي وزائد جاء للتوكيد والبيان , إلا أن مجيئه في الآية للدلالة على أن مصاديق مغفرة الله أعم من التي تلحق المؤمنين الذين يرتكبون الفاحشة أو يظلمون أنفسهم ثم يذكرون الله ويستغفرونه , فتشمل كلاً من:
الأول:المؤمنون الذين يجتنبون الفواحش وظلم النفس.
الثاني:المتقون الذين يواظبون على ذكر الله.
الثالث:عامة الناس، وهدايتهم إلى التوبة والإيمان.
الرابع: الموجود والمعدوم من الناس , بلحاظ إستغفار الحي للميت، وبلحاظ الصدقة الجارية والأسوة الحسنة، وتركة المسلم في الصالحات.وبر الابن لأبيه بعد موته , وأداء الحج عنه.
وعن ابن عباس إن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وآله سلم فقال: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم وذلك في حجة الوداع , وفي رواية: لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره فقل النبي صلى الله عليه و سلم: فحجي عنه أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت نعم قال: فدين الله أحق أن يقضى)( ).
قانون القرض
وردت مادة (قرض) إثنتي عشرة في ست آيات كلها في قرض الله أي إخراج الزكاة وإعانة الفقراء والمحتاجين والسعي في سبيل الله رجاء مرضاته , ومن إعجاز القرآن أن اللفظ (قرضاً) ورد في هذه الآيات من القرآن , ويتصف بأمور:
الأول: صيغة المفرد (قرضاً ) ، فلم يرد في القرآن بصيغة الجمع(قروض).
الثاني: ورد بصيغة المفعول به المنصوب , لأن المراد هو فعل المسلم , وقصد القربة في قرضه وسعيه.
الثالث: الملازمة بين القرض والحسن في الآيات الستة كلها.
الرابع: الوعد الكريم من الله عز وجل بالمضاعفة في الثواب العظيم، قال تعالى[إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ]( ).
الخامس: المقترض هو الله عز وجل , إذ أن القرض نوع مفاعلة بين الـمُقرض والمقترض، فأخبرت الآيات عن قبول الله عز وجل للقرض، وفيه مسائل:
الأولى: إنه من فضل من الله عز وجل بأن جعل الصدقة والإحسان إلى العباد قرضاً وديناً عليه سبحانه .
الثانية: بيان الله عز وجل لعباده مطلقاً المحسن والمحسن إليه، أما المحسن فبما ينعم عليه الله من الثواب، وأما المحسن إليه فلترغيب القرآن بإعانته.
الثالثة: الكثرة والمضاعفة والفيض في الجزاء الذي يتفضل به الله تعالى كما في قوله تعالى[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً]( ).
الرابعة: الصدقة باب لنيل العفو والمغفرة من الله عز وجل , لأن العفو من الجزاء الذي وعد الله عز وجل به على القرض، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)( ).
الخامسة: آيات القرض دعوة للمسلمين للتوجه بالشكر لله عز وجل.
السادسة : في آيات القرض والوعد الكريم على الإحسان بعث للمسلمين لفعل الصالحات، ونشر مفاهيم الإحسان، وتعاهد سبل المعروف.
السابعة : فيه حث على إستحضار قصد طاعة الله في الصدقات.
وقد جاء ذكر الأضعاف الكثيرة على نحو التعيين في العدد بأنه سبعمائة ضعف قابلة للنافلة والزيادة , قال تعالى[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
ولكن الآية أعلاه بخصوص الإنفاق، وتحتمل النسبة بين قرض الله والإنفاق وجوهاً:
الأول: نسبة التساوي بينهما، وأن القرض هو ذاته الإنفاق.
الثاني: نسبة العموم والخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء بينهما، وأخرى للإفتراق.
الثالث: نسبة العموم والخصوص المطلق، وهي على شعبتين:
الأولى: القرض أعم من الإنفاق.
الثانية: الإنفاق أعم من القرض.
والصحيح هو الشــعبة الأولى من الوجه الثالــث، وهو من فضــل الله عز وجل، وأخرج ابن المنذر عن سفيان قال: لما نزلت {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}( ) قال: رب زد أمتي فنزلت{من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً…}( ) قال: رب زد أمتي فنزلت{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل…}( ) قال: رب زد أمتي فنزلت{إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}( ) فانتهى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله{قرضاً حسناً}قال: النفقة على الأهل.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم من طريق أبي سفيان عن أبي حيان عن أبيه عن شيخ لهم أنه كان إذا سمع السائل يقول{من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، هذا القرض الحسن)( ).
وهل ما جاءت به آية البحث من القرض الحسن، الجواب نعم، من وجوه:
الأول: جاءت الآية في ذكر صفات الصلاح للذين أعدّ الله عز وجل لهم[جَنَة عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، فالتقــوى إعــتقاد وقول وعمـل .
ويتجلى بالثواب العـظــيم الذي تخبر به هــذه الآيـات أن الله عـز وجل يجعل التقوى بمنزلة القرض مع أن عبادة الله واجب على الناس، وكأنه من صدقة الإنسان على نفسه بحملها على الإنقياد لأمر الله عز وجل والإستقامة وهو من الحنيفية، قال تعالى[وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ]( ).
الثاني: إخراج الصدقات قربة لله عز وجل ذكر له سبحانه , وتوسل عملي ورجاء لقبول التوبة والإنابة.
وفي الخبــر عن رســول الله صــلى الله عليه وآله وســلم : يقــول الله عـز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)( ).
والله عز وجل منزه عن المحل والتركيب وهو سبحانه موجود في كل مكان , قال تعالى[مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ]( )، ولكن الحديث جاء لبيان رأفة الله بالعباد وقربه من الصالحين ومجيء الثواب العظيم على الفعل القليل من البر، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثالث: ذكر الله والإستغفار إدخار كريم[لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ]( )، وطريق مبارك إلى الخلود في النعيم , ليكون لفظ الأضعاف الكثيرة في الآية مطلقاً وخارجاً عن الإحصاء , وكذا عن التصور الذهني لولا أن جاءت آيات القرآن والسنة النبوية ببيان بعض خصائص الجنة.
بحث عقائدي
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بالعقل وجعله رسولاً ذاتياً يهديه لأسباب الإستقامة والهدى التي تتجلى بالتنزيل والنبوة، وإذا كان الأنبياء السابقون يأتون بالمعجزات الحسية فإن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالمتعدد من وجوه:
الأول: الإعجاز في التنزيل.
الثاني: كثرة آيات القرآن، وإستقلال كل آية بإعجاز خاص بها، وإعجاز بإنضمامها إلى غيرها من الآيات.
الثالث: إجتماع المعجزة الحسية والعقلية.
الرابع: التكامل في الشريعة الإسلامية، وإتصالها بالحنيفية التي جاء بها إبراهيم وهو أبو الأنبياء، ونسبة بني إسرائيل والرسول عيسى له , قال تعالى [وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى]( ).
وفي الحنيفية أقوال ووجوه:
الأول: أنها حج البيت عن ابن عباس والحسن ومجاهد( )، لذا قيل أن الملل التي ليس فيها فريضة الحج ليس من الحنيفية.
الثاني: إتباع الحق، عن مجاهد (قال الربيع بن أنس: حنيفاً أي متبعاً)( ).
الثالث: إتباع إبراهيم في إمامته , وما جاء به من المناسك والختان وسنن من شرائع الإسلام.
الرابع: الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل، والإخلاص له في الطاعة (وعن السدي: الحنيف هو المخلص)( ).
الخامس: الإستقامة والصلاح.
السادس: الفطرة التي فطر الناس عليها وهي التوحيد، عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى[حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ]( )، قال: هي الفطرة التي فطر الناس عليها، فطر الله الخلق على معرفته.
السابع: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن العرب لم يزالوا على شيء من الحنيفية يصلون الرحم، ويقرون الضيف، ويحجون البيت، ويقولون: اتقوا مال اليتيم، فإنّ مال اليتيم عقال، ويكفون عن أشياء من المحارم مخافة العقوبة، وكانوا لا يملى لهم إذا انتهكوا المحارم)( ).
الثامن: تحريم الإمهات والبنات والمحارم الأخرى التي حرّم الله في النكاح.
التاسع: الحنيفية (خمس من السنن في الرأس ، وخمس في الجسد، فأما التي في الرأس فالسواك، وأخذ الشارب، وفرق الشعر، والمضمضة، والاستنشاق، وأما التي في الجسد، فالختان، وحلق العانة، ونتف الإبطين، وتقليم الأظفار، والإستنجاء)( ).
العاشر: الحنيفية: من الحنيف وهو المائل إلى الإسلام , والذي يتقيد بأحكامه وسننه , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بعثت بالحنيفية السمحة) ( ).
والحنف لغة هو الميل، أي مال إلى دين الحق ويقال للرجل أحنف لميل كل واحدة من قدميه إلى أختها)( ).
الحادي عشر: أصل الحنف هو الإستقامة قاله ابن قتيبة , وقيل للرجل الذي تباعدت صدور قدميه أحنف، تفاؤلاً بالإستقامة وتطيراً من الميل، كما يقال للديغ سليم، وللمهلكة من الأرض مفازة.
الثاني عشر: عن ابن عباس: هو المائل عن الأديان كلها، وعن الزجاج الحنيف هو المائل عما عليه العامة)( ).
الثالث عشر: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم)( )، قاله أبو قلابة.
الرابع عشر: قال قتادة: الحنيفية: شهادة أن لا إله إلا الله. يدخل فيها تحريمُ الأمهات والبنات والخالات والعمات ، وما حرم الله عز وجل والختانُ)( ).
الخامس عشر: شريعة التوحيد السمحاء، وعن ابن عباس سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة)( ).
قانون(إذ فعلوا فاحشة)
لقد أطل ضياء الإيمان على الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الضياء أبدي، ليس من برزخ وغيوم تحجبه عن النفوس والجوارح والحواس، وكأنه مثال دنيوي ومقدمة في دار العمل لشجرة المنتهى وأغصانها التي تدخل كل بيت في دار الثواب حيث الخلود في النعيم .
وتلقى المسلمون المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق، وآيات القرآن بالترجمة العملية لمضامينها، ومنها آيات الجهاد والدفاع عن الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومواجهة هجوم جحافل قريش وزحفهم بجيوش عظيمة.
ولم تمر على هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة سنتان، فقطعت قريش المسافات الطويلة على الرواحل , ومشياً على الأقدام، وعطلوا تجاراتهم ومعاشاتهم , وأنفقوا الأموال في الإنفاق على الجيوش الباغية ، إذ يبلغ طول الطريق بين مكة ويثرب نحو خمسمائة كيلو متراً مع عناء ومشقة يصعب إستحضارها في الوجود الذهني في زمن الطرق المعبدة في ثنايا الجبال وبطون الأودية ووسائط النقل السريعة هذا الزمان , والتي لم تخطر على بال أهل قرن مضى أو قل الأجيال التي جاءت بعد ألف وثلاثمائة سنة على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي سبقتها.
وواجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة مع قلة عددهم طواغيت وطغيان قريش بشجاعة فريدة من نوعها , ليس لها مثيل في التأريخ، وتفضل الله عز وجل عليهم بالنصر والغلبة بإعجاز ظاهر , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
ولو أجريت دراسات وإحصائيات من جهات متعددة، لا تجد واقعة تمت في ساعة من نهار غيرت وجه التأريخ مثل واقعة بدر، وتلك آية إعجازية متجددة في نبوة محمد، فهي تتحدى القادة والزعماء والملوك، وتخبر عن بناء صرح الإيمان والصلاح يوم بدر , فلا غرابة أن تنزل الملائكة مدداً لنصرة المسلمين يومئذ ونسبة نصر المسلمين يومئذ إلى الله عز وجل وشمول لغة الخطاب(نصركم) المسلمين والمسلمات وإنحلاله ليشمل الموجود والذي لم يولد منهم إلى يوم القيامة، ويتجلى التأثير بين التغيير بهداية النفوس وبين النصر من وجوه:
الأول: إيمان المسلمين وتصديقهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبب لجذب النصر، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]( ).
الثاني: نصر الله عز وجل جزء علة لتغيير نفوس المسلمين , بزيادة الإيمان عندهم , ويدل عليه قوله تعالى[الم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، بلحاظ أن الآية أعلاه من سورة آل عمران موضوع وحكم لزيادة إيمان المسلمين من جهات:
الأولى: في النصر يوم بدر مصداق عملي للتوحيد وإنحصار الربوبية والقوة بالله عز وجل، قال سبحانه[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
الثانية: دعوة المسلمين للعمل لما بعد النصر يوم بدر.
الثالثة: التحدي بالإخبار عما يترشح عن النصر من المنافع والفوائد وأسباب نشر وإنتشار مبادئ الإسلام.
الرابعة: تهيئ المسلمين لإستقبال إخوانهم الذين يدخلون في الإسلام بآية النصر ومعجزة سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد قريش وإرادتهم الإجهاز عليه وعلى أصحابه من المهاجرين والأنصار.
الخامسة: النصر مناسبة ومادة لتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة النصر (وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}( ) عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف زماناً ، فلما نزلت {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} اجتهد، فقيل له: تجهد نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟) ( ).
وهل هذا النصر خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأهل البيت يوم واقعة بدر أم أنه أعم في موضوعه ونفعه وأثره، والصحيح هو الثاني.
الأول: بيان فضل الله على الأجيال المتعاقبة من المسلمين إلى يوم القيامة.
الثاني: النصر سبب لزيادة الإيمان.
الثالث: إنه حرز ووقاية من فعل الفواحش بلحاظ قاعدة كلية , وهي أن التنزه من المعصية مصداق عملي وثمرة للنصر يوم بدر.
الرابع: بيان حاجة المسلمين والمسلمات عموماً إلى النصر يوم بدر.
الخامس: التوجه العام بالشكر لله عز وجل على نعمة النصر يوم بدر.
السادسة: بعث المسلمين على التوكل على الله عز وجل، والثقة به وبمدده ونصره سبحانه، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ] ( ).
السابعة: إمتناع المسلمين عن اليأس والقنوط، وإن حدثت مقدماته وأسبابه، فتأتي وقائع على الناس تكون سبباً لإمتلاء نفوسهم بالخوف واليأس، بينما يكون المسلمون في أمن وسلامة من ذات الخوف واليأس إن طرأت عليهم ذات الأسباب، وهذا المائز الذي يتصف به المسلمون من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثامنة: توجه المسلمين إلى الدعاء والمسألة بالأمن والسلامة وجلب المصلحة، ودفع المفسدة، إذ تبين الآية أن النصر بيد الله ومن عنده، قال تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
التاسعة: حرص المسلمين على التنزه عن فعل الفاحشة، وعن ظلم النفس والإبتعاد عن الرذائل، وجاء توالي وتعاقب فضل الله تصديقاً عملياً بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أحكام الشريعة بإتيان الأوامر وإجتناب النواهي والمحرمات، قال تعالى[وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ]( ).
العاشرة: رؤية المسلمين لآثار هزيمة الكفار وهلاك كبرائهم يوم بدر في بعث الفزع والخوف في نفوسهم، وإدراك أهل مكة ومن حولها لسوء نية وقصد كفار قريش، وما هم عليه من الضلالة وفساد المذهب.
الحادية عشرة: التخفيف عن المسلمين في باب الجدال الذي يقوم به أهل الكتاب في المدينة لأن النصر يوم بدر رد وجداني وحسي وعقلي عظيم على الريب والشك الذي يثيره شطر منهم.
الثانية عشرة: في النصر يوم بدر أمور مباركة منها:
الأول: إنه مناسبة لتفقه المسلمين في الدين.
الثاني: فيه زيادة معرفة المسلمين بأحكام الشريعة وهو عون للإمتثال لها.
الثالث: إنه باعث للإنصات لآيات القرآن وما فيها من البشارة.
ومن الآيات أن البشارة القرآنية لا تنحصر بأمور الدنيا وما فيها من أسباب الظفر والعز والسيادة، بل تشمل عالم الآخرة والثواب العظيم الذي ينتظر المسلمين، قال تعالى[جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ]( ).
الثالثة عشرة: تنمية ملكة الجهاد عند المسلمين، وزيادة مزاولتهم للقتال وإخلاصهم فيه للفوز بإحدى الحسنيين، أما النصر وأما الشهادة، وقد إنتفع المسلمون مما نالوه من الغنائم يوم بدر، وفداء الأسرى من المشركين لزيادة مؤون القتال، فمع أن النصر يوم بدر بفضل ومدد من الله فإنه لا يمنع من بذل المسلمين الوسع لتحصين أنفسهم وزيادة قوتهم، قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
الثالث: كل فرد من النصر والإيمان مستقل بذاته ولا تأثير له على الآخر.
الرابع: تداخل وتبادل التأثير، فالإيمان سبب لجلب النصر، والنصر موضوع وعلة لإصلاح وتهذيب النفوس.
وتلك آية في إستدامة الإيمان بمدد ملكوتي من عند الله لا ينحصر موضوعها بنزول الملائكة ناصرين ومؤازرين للمسلمين يوم بدر وأحد، بل إبتدأ المدد بنزول القرآن الذي هو حرب على الضلالة والجهالة، فلا غرابة أن يبدأ التنزيل بقوله تعالى(أقرأ) .
لتكون القراءة هنا أعم في موضوعها من التلاوة , وتشمل التدبر في الوقائع والأحداث , وإتخاذها مناسبة لإقتباس دروس الحكمة والإرتقاء في مراتب التقوى والفلاح.
ولما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض جاء قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن الوجوه ومصاديق علم الله في المقام حكمته تعالى في إصلاح الإنسان للخلافة في الأرض بتلاوة آيات القرآن والتدبر في النصر الإلهي الذي تفضل الله عز وجل به على المسلمين يوم بدر، والإنتفاع المتجدد منه وإتخاده نبراساً من وجوه:
الأول: جعل النصر موضوعاً لجذب الناس لمنازل الهداية والصلاح، وترشح عن النصر ببدردخول القبائل في الإسلام.
الثاني: خذلان وخيبة كفار قريش ومن خلفهم.
الثالث: إمتناع ذوي الشأن والمال والسلاح عن إعانة ونصرة رؤساء الكفر من قريش.
الرابع: في النصر يوم بدر دعوة للمسلمين لأداء الفرائض والعبادات، ومن الآيات أن فريضة الزكاة والصيام نزلتا في ذات السنة التي تم فيها النصر في معركة بدر وهي السنة الثانية للهجرة , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( ) وذكر أن فرض الزكاة كان بمكة , ولكن مقادير النصب لم تبين إلا في المدينة.
الخامس: مناجاة المسلمين بطاعة الله ورسوله.
السادس: توجه المسلمين للدعاء والإجتهاد في المسألة رجاء فضل الله في الحرب والسلم، قال تعالى[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
السابع: الحصانة من فعل الفاحشة.
الثامن: فيه مادة للتفقه في الدين واللجوء إلى الإستغفار حال إرتكاب المعصية، وهذا اللجوء من عمومات قوله تعالى(إقرأ) بلحاظ أنه نص قرآني تجلي بوضوح في آية البحث.
التاسع : إحداث المسلمين مصاديق من الشكر لله عز وجل .
قانون ( السلامة من أثر الفاحشة)
مع مجيء آية البحث في وصف المتقين والثناء عليهم، وبيان الخصال الحميدة التي تدخلهم الجنة، فإنها إبتدأت بذكر الفاحشة، ولم تخبر الآية بأن غير المتقين ممن يتلبسون بالكفر والجحود هم الذين يرتكبون الفاحشة، بل ذكرت إرتكاب المتقين للفاحشة مع أنها ضد ونقيض التقوى.
وتحتمل النسبة بين المسلمين وغيرهم في المقام وجوهاً:
الأول: نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وهي فعل الفاحشة، ومادة للإفتراق , فالمسلمون يذكرون الله عز وجل ويستغفرونه، أما الكفار فإنهم يصرون على فعل الفاحشة.
الثاني: نسبة التباين والتنافي بين المسلمين وغيرهم في المقام.
الثالث: نسبة العموم والخصوص المطلق، إذ يأتي الكفار الفواحش على نحو مستديم، أما المسلمون فقد يرتكبونها.
الرابع : نسبة التساوي والتلبس العام بفعل الفاحشة , وإن إختلفت وتباينت كماً وكيفاً، بندرتها وقلتها , وصغر مرتبتها عند المسلمين، وكثرتها وكبرها وتواليها عند غيرهم .
وقد يبدو في الوهلة الأولى صحة الوجوه الأربعة أعلاه كلها، ولكنها شبهة بدوية تزول بأدنى تأمل، والصحيح هو الثاني أعلاه، من جهات:
الأولى: جاء الإخبار عن فعل المسلمين للفاحشة على نحو الإحتمال والأمر الطارئ، بخلاف الكفار فإن تلبسهم بالكفر ومفاهيم الشرك أكبر الكبائر، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
الثانية: الأصل هو بلوغ المسلمين مرتبة التقوى، وهي واقية وحرز دائم من فعل الفاحشة , ولكن قد يرتكبها بعضهم عرضاً، فلا تضر في صفة التقوى التي يتصفون بها على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي، خصوصاً وأنهم يتعقبونها بالذكر والإستغفار.
الثالثة: من فضل الله على المسلم عدم ترتب الأثر على فعله الفاحشة، لأن الله تعالى رزقه سلاح الذكر والإستغفار.
الرابعة: إنفراد المسلمين بالتنزه عن الإصرار على الذنوب، وإتصافهم بخصلة حميدة وهي عدم الثبات عليها، وهو من البراهين المتجددة التي تدل على التباين والتنافي بين المسلمين وغيرهم في المقام، وتعاهد المسلمين لسبل الصلاح، لتكون الآية بشارة ورحمة من وجوه:
الأول: إستدامة تنزه المسلمين عن الإقامة على فعل المعاصي.
الثاني: بقاء باب التوبة مفتوحاً للمسلم ما دام في دار الدنيا , وما يلاقيه فيها من أسباب الإمتحان، وأفراد الإبتلاء التي تداهم الإنسان فجأة، أو تزحف إليه على نحو التدريج.
(عن أبي هبيرة عن إبراهيم قال: قال عبد الله( ): إن في القرآن لآيتين ما أذنب عبد ذنبا ثم تلاهما وإستغفر الله إلا غفر له، فسألوه عنهما فلم يخبرهم، فقال علقمة الأسود أحدهما لصاحبه: قم بنا فقاما إلى المنزل فأخذا المصحف فتصفحا البقرة فقالا: ما رايناهما ثم أخذا في النساء حتى انتهيا إلى هذه الآية {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} فقال : هذه واحدة ثم تصفحا آل عمران حتى انتهيا إلى قوله {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا} قالا: هذه أخرى ثم طبقا المصحف ثم أتيا عبد الله فقالا: هما هاتان الآيتان؟ قال: نعم)( ).
وفيه مسائل :
الأولى : الآيات التي تتضمن معاني المغفرة أعم وأكثر، وجاءت آية البحث بالذكر والإستغفار، والذكر أعم من تلاوة القرآن وقول عبد الله بن مسعود لهما: نعم ) , لا يعني الحصر بهما بلحاظ أن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره , ويمكن إعتبار قوله(نعم) من مدرسة عبد الله بن مسعود في تعليم القرآن وتفسيره، التي تتصف بالبعث على الإستقراء والتأويل والإستنباط، كما أن سورة البقرة تتضمن آيات عديدة في باب المغفرة والندب إليها، قال تعالى[وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا]( ).
لقد كان نزول آية البعث تغييراً في عالم الأفعال، ونجاة للناس من وطأة وثقل الذنوب وهمومها وحضورها يوم الحساب، ومن الآيات أن الإنسان نفسه هو الذي يقوم بإحضارها لتكون شاهداً وحجة عليه، قال تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
فجاءت آية البحث للسلامة والأمن من هذا الحضور فهل تنزوي ذنوب المؤمن في الآخرة , أم تكون معلقة ومؤجلة .
الجواب إنها تنعدم وتمحى بالذكر والإستغفار في الدنيا، فلا غرابة أن يحزن إبليس وجنوده حين نزول آية البحث , ويظهرون الحسرة والخيبة لشدة لعداوتهم للإنسان.
(وأخرج الحكيم الترمذي عن عطاف بن خالد قال: بلغني أنه لما نزل قوله{ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا} صاح إبليس بجنوده، وحثا على رأسه التراب، ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر فقالوا: ما لك يا سيدنا؟ .
قال: آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحداً من بني آدم ذنب قالوا: ما هي؟ فاخبرهم قالوا: نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق، فرضي منهم ذلك)( ).
وكن آية البحث واقية من الهوى , وهي سبيل متجدد للتوبة وجذب للإستغفار , وتذكير بفضل الله .
بحث بلاغي
ينقسم اللفظ إلى نكرة ومعرفة، والنكرة اللفظ الذي يعم شيئين أو أكثر ولم يقصد منه واحد من جنس مخصوص وبما ينفي الإجمال والترديد وشطر من النحويين يقدم المعرفة فيقول (المعرفة والنكرة) لأن المعرفة أرقى مرتبة.
والأصل في الكلام هو النكرة لأنه يقع على جميع أفراد الجنس من غير أن يختص أو ينحصر بشطر منها مثل كتاب، ولأن المعارف تستخرج من النكرة وتكون فرعاً منها.
وسميت نكرة لأنك لا تعرف فرداً بعينه من اللفظ إذا ذكر، فلفظ إنسان نكرة قبل أن يأتيه الاسم الذي يميزه ويفصله عن غيره، وتدخل(رب) على النكرة، وتقبل الألف واللام فتكون معرفة أو تثنى أو تجمع بذات اللفظ من غير دخول ألف ولام عليها، والتنكير والتعريف من خصائص الأسماء.
وتكون المعرفة على سبعة وجوه: العلَم، المقترن بالألف واللام، اسم الإشارة، الاسم الموصول، المضاف إلى معرفة، الضمير، المنادى المقصود بالنداء.
فالعلم هو الاسم الخاص لمسمى معلوم، مثل: زيد، فإن الذهن ينصرف إلى شخص معروف بهذا الاسم وإن كان التبادر والمرتكز الذهني يؤدي إلى شخصين أو أكثر بذات الاسم يكونان بعرض واحد عند أحد طرفي الخطاب المتكلم والسامع أو عند السامع خاصة، إقتضى التعريف بفصل وصفة أخص تبين المقصود من كل منهما، كالنعت والكنية اللقب أو صفة مخصوصة، فتقول: زيد التقي.
ومنه نسبت نعوت لأفراد ثم جرت على أولادهم ومنها ما كان حسناً، ومنها ما كان غير حسن، والثاني مكروه وإن إعتادته الألسن، وشاع في العرف مثل الأعمى، الأعرج.
ومنها ما يخص مهنة مذمومة، وللذراري أن يجتهدوا في تغيير هذه النعوت، خصوصاً أن شطراً منها لا أصل له، وعلى المؤمنين إجتناب الخطاب بتلك النعوت إذا كان أصحابها لا يرضون بها، وتنزيه لغة الخطاب وصيغ المعاملة بين المسلمين منها من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وقد يأتي اللقب من وصف يصدر من ملك أو صاحب شأن كما في سبب تسمية الشاعر أبي العتاهية إذ لقبه المهدي العباسي به على قول( ).
ومن بديع عالم الأسماء والكنى أن ألقاب المسلمين ليس فيها ما يدل على المحرمات والفواحش، وهو من المنافع والآثار المترتبة على آية البحث، ولجوء المسلمين إلى ذكر الله والإستغفار، وإدراكهم لمحو التوبة والإستغفار للصفات القبيحة، ولإجتهادهم في حسن العاقبة وأسباب الصلاح.
وفيه آية من الإعجاز الغيري للقرآن بأنه يدخل في لغة الخطاب والأسماء فينقحها ويهذبها ويجعلها تبعث على التفاؤل والصلاح، وقد تفضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبدل أسماء بعض الأشخاص ذكوراً وأناثاً، فزوجه ميمونة كان إسمها برة فسماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميمونة وكان زواجه منها سنة سبع في عمرة القضاء.
والمقترن بالألف واللام هو الاسم المشترك الذي تدخل عليه(أل)، كما في قوله تعالى[فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ]( )، لأن الرسول الذي دعا فرعون للإسلام وأراه الآيات هو موسى عليه السلام.
ومن أسرار القرآن أن التعريف والتذكير فيه لا يختص بباب البلاغة، ففيه معاني ودلالات عقائدية تتعلق بموضوعه ومواضيع أخرى أعم وأشمل، وهو مناسبة لإستنباط الدروس، وإقتباس العلوم .
وفيه وجوه:
الأول: إنذار الكفار والظالمين بعدم الجحود والصدود عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام.
الثاني: بيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين فليس من طاغوت دخل عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو دخل عليه وقابله بالصدود والإستكبار.
الثالث: إنقطاع زمان الطواغيت الذين يدّعون الربوبية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: تحذير الناس من الجحود والإستهزاء بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الإصرار على الكفر، وهو الذي تدل عليه الآية السابقة للآية أعلاه.
الخامس: تأكيد قانون كلي، وهو كون القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وأن فيه قصص الأنبياء، وما لاقوه من عتو حكام الجور.
السادس: بيان التخفيف عن المسلمين في قهر كفار قريش في معارك الإسلام الأولى إلى أن دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون مكة وهم يجمعون بين الفتح والنسك والعبادة، قال تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
السابع: بينت الآية أعلاه نزول العذاب العاجل بفرعون بقوله تعالى[فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً]( ).
ويلاحظ بالآية تكرار حرف العطف(الفاء) للتفريع والتعقيب ولم تأت بالواو، فلم تقل الآية(وعصى فرعون)، وفيه نكتة وهي أن فرعون لم يتدبر في معجزات موسى، ولم يجمع الحكماء والعقلاء من الملأ وعامة أهل مملكته ويسألهم عنها، لذا أسلم بعض أقاربه خفية , ولم يطلب فرعون من موسى الإمهال وعدم الإستجابة لدعوته، لذا لم يمهله الله فأخذه بالبطش الشديد الثقيل الذي كان فيه هلاكه وزوال ملكه.
الثامن: لم تذكر الآية موسى بالاسم بل إكتفت بالتعريف بالألف واللام، وفيه مسائل:
الأولى: إنه معهود ومعروف عند المسلمين وأهل الكتاب.
الثانية: بيان مسألة وهي أن الموضوع في المقام هو الرسالة والنبوة، وما يصاحبها من المعجزات.
الثالثة: إن موسى عليه السلام لم يذهب بإختياره إلى فرعون بل أرسله الله عز وجل إلى فرعون على نحو التعيين، قال تعالى في الإخبار عن خطابه إلى موسى[اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى]( ).
الرابعة: إذا كان فرعون مع عرشه وكثرة جيوشه وسعة مملكه قد بطش الله عز وجل به لمعصيته الرسول , فمن باب الأولوية القطعية أن يبطش الله عز وجل بالذين يصدون عن رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الخامسة: بيان مرتبة المسلمين في الفقاهة، ومعرفتهم بقصص الأنبياء وأن موسى عليه السلام أرسل في زمن فرعون، وإن كانت هذه المعرفة من آيات القرآن الأخرى وتلاوتها.
وفي قوله تعالى[كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ]( )، قال في الكشاف فإن قلت: لم نكر الرسول ثم عرف؟ قلت: لأنه أراد: أرسلنا إلى فرعون بعض الرسل، فلما أعاده، وهو معهود بالذكر أدخل لام التعريف إشارة إلى المذكور بعينه)( ).
وتناقله علماء التفسير متعاقبين، ولكن ذكر الرسول بلغة التنكير ثم التعريف له دلالات أعم منها :
الأولى: لا ينحصر موضوع هذه اللغة بكون الرسول معهوداً عند المسلمين الذين يتلون الآيات والذين يسمعون التلاوة، بل يشمل ذات فرعون، فجاء التعريف عند معصية فرعون الرسول لبيان حقيقة وهي أن فرعون أدرك أن موسى رسول من عند الله، وثبتت عنده المعجزة الخارقة للعادة التي جاء بها , وتأكد أنه عصى بعد إقامة الحجة عليه، قال تعالى[وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ]( ).
الثانية: إكتفاء فرعون بمعصية موسى عليه السلام، ولم يقتله، وتلك آية في حفظ الله لموسى، لأن الآية السابقة تخبر بأن الله عز وجل هو الذي أمره أن يذهب إلى فرعون ويدعوه إلى الإسلام، ليدل هذا الأمر في مفهومه على الضمان والحفظ من الله لموسى , ودلت الوقائع بأن الحفظ لم ينحصر بدخوله على فرعون وإحتجاجه في مقامه , بل هو مطلق وشامل للأيام والسنين التي بعده وإلى حين خروج موسى ببني إسرائيل من مصر , فهم يسيرون مع رسول محفوظ من الله , قال تعالى[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا]( ).
وأخرج عن ابن عباس قال: لقد دخل موسى على فرعون وعليه زرمانقة( )، من صوف ما تجاوز مرفقه، فاستأذن على فرعون فقال: ادخلوه فدخل فقال: إن إلهي أرسلني إليك فقال للقوم حوله: ما علمت لكم من إله غيري خذوه قال إني قد جئتك بآية{قال فائت بها إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه}( ) فصارت ثعباناً ما بين لحييه ما بين السقف إلى الأرض، وأدخل يده في جيبه فأخرجها مثل البرق تلتمع للأبصار فخروا على وجوههم، وأخذ موسى عصاه ثم خرج ليس أحد من الناس إلا يفر منه.
فلما أفاق وذهب عن فرعون الروع قال للملأ حوله: ماذا تأمرون؟ قالوا: أرجئه وأخاه لا تأتنا به ولا يقربنا، وأرسل في المدائن حاشرين، وكانت السحرة يخشون من فرعون، فلما أسرع إليهم , قالوا: قد إحتاج إليكم إلهكم قال: إن هذا فعل كذا وكذا , قالوا: إن هذا ساحر يسحر، أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال: ساحر يسحر الناس، ولا يسحر الساحر الساحر؟ قال: نعم وإنكم إذاً لمن المقربين)( ) , ليقيموا الحجة على أنفسهم وعلى فرعون.
أما الحجة على السحرة أنفسهم فهي إن رأوا معجزة وآية من موسى فعليهم أن يظهروا التصديق بها.
وأما الحجة على فرعون فهي إن آمن السحرة بما جاء به موسى فإنه نبي وليس بساحر، لأن السحر لا ينطلي عليهم، فهم يبطلونه ويأتون بمثله أو بأكثر مكراً وحيلة وخفية منه، فعليه أن يتبعهم، ويكف يده عنهم ولا يؤذيهم فلما ألقى موسى عصاه صدّق به السحرة , وخروا لله ساجدين, ولكن فرعون أبى وجحد وفتك بالسحرة التائبين وفي التنزيل [قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ]( ).
الثالثة: جاءت الآية السابقة بالتساوي في وظيفة الرسالة بين موسى والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع بيان المائز والتفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادة على المسلمين والناس جميعاً، بقوله تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً]( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتحمل أذى قومه رجاء دخولهم الإسلام، وإذ إنقطع في الآية خبر رسالة موسى بتكذيب ومعصية فرعون له، فإن الآية أعلاه تخبر عن بقاء وإستمرار شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أهل مكة وغيرهم، وشهادته عليهم يوم القيامة بإيمان من آمن بنبوته، ويشهد على الكفار الذين كذبوه.
الرابعة: من معاني التعريف بالألف واللام في معصية فرعون الرسول أن دخول موسى عليه السلام على فرعون وما جرى بعدها من المناظرة والإحتجاج ومقابلة السحرة أمور :
الأول : تأكيد صدق نبوة موسى .
الثاني : صار موسى معروفاً كرسول من الله بين الناس .
الثالث : لم تلتبس على الناس أدلة الرسالة، وإتضح للملأ من آل فرعون ولأهل مصر حقيقة وهي أن موسى هو الرسول من الله عز وجل يدعو إلى التوحيد، لذا وصل الإسلام إلى فرعون، وفي التنزيل[وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ]( ).
إن دلالات التعريف بالألف واللام في القرآن أعم من أن تنحصر بالعهد والأمر المعهود لدى السامع والمتلقي , بل تتعلق بأمور عقائدية تستقرأ من ذات اللفظ المعرف ومن القرائن المقالية والحالية، ومقاصد وغايات التعريف، وإلا فإنه لو جاءت الآية (وعصى فرعون رسولا) لإنصرف إلى موسى عليه السلام أيضاً لأنه الرسول الوحيد الذي أرسله الله عز وجل إلى فرعون، وكان معه أخوه هارون وهو نبي، وحتى معنى العهد لم يتحصل إلا ببركة القرآن وآياتهقال تعالى [مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا]( ).
ولفظ(رسول) كان نكرة وفق القواعد النحوية فصار معرفة بإضافة الألف واللام كحرف تعريف، أما في الدلالة والمعنى فإنه حتى في حال التنكير فإن اللفظ منصرف إلى موسى عليه السلام على نحو التعيين، وهذا من المواطن التي تتخلف فيه صناعة النحو عن إعجاز ومعاني القرآن.
واللام على قسمين:
الأول: أل العهدية التي يراد منها تعريف فرد معهود، وهي على أقسام، عهد ذكري وحضوري وذهني .
والألف واللام في (فعصى فرعون الرسولا) من الأول أي العهد الذكري لأنه مذكور في الآية السابقة.
الثاني: أل الجنسية : وهي على قسمين:
الأول: التي تفيد الإستغراق وهي التي تستغرق عموم أفراد الجنس، أو خصائصه، وعلامته إمكان وقوع (كل) بدلها في ذات الكلام.
الثاني: أل الحقيقة، التي تبين ماهية الجنس وحقيقته مثل(الماء طاهر مطهر).
وقال سيبويه (وأما موسى وعيسى فإنهما أعجميان لا ينصرفان في المعرفة، وينصرفان في النكرة، أخبرني بذلك من أثق به)( ).
إن تقسيمات النحو علم بديع إختصت به اللغة العربية وبنى صرحه علماء أفذاذ، وأسست قواعده على كلمات وآيات القرآن لفظاً ودلالة ولم تتقوم تلك القواعد إلا بها.
ولكن لا يجب حمل اللفظ القرآني على هذه الصناعة وحصر معناه بما أفرزته قواعد النحو وعلل البناء والإعراب , لأنه تقييد لما هو مطلق، وتخصيص من غير مخصص , وقد يكون إيجاداً لغاية وفق الصفات وتقييد الحكم بها مع إجماع العلماء والمسلمين قاطبة على تعدد معاني وغايات اللفظ القرآني، إنما يكون علم النحو والبلاغة وجهاً أو وجوهاً من وجوه التفسير.
ويدل كلامنا أعلاه على أن التبعيض نوع من أنواع النكرة.
فكما يقسم المعرفة إلى أقسام , فيمكن التوسعة في مبحث النكرة وذكر أقسامه، ولا حجر في الإصطلاح، وتعدد الفروع، ما دامت تساعد على فهم المعاني وسبر أغوارها.
ولعلم النحو المرتبة الأولى بعد القرآن في حفظ اللغة العربية وسلامتها مما يطرأ على اللغات من آفات العامية واللحن وأسباب التفريط في أصولها وهو يذب عن قواعدها ودلالاتها.
قوله تعالى[ذَكَرُوا اللَّهَ]
وإذ كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معصوماً من المعصية قبل النبوة وبعدها , ومشهور علماء الإسلام أن الأنبياء معصومون من الذنوب قبل النبوة وبعدها .
وقالت طائفة من العلماء بأنهم غير معصومين قبل النبوة من الصغائر، ومنهم من فصل في الصغائر بين التي فيها رذيلة فهم معصومون منها، وبين تلك التي ليس فيها رذيلة فهم غير معصومين منها.
ترى لماذا يكثر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإستغفار وقد ورد عنه (أني لأتوب في اليوم وأستغفر الله سبعين مرة)( ) الجواب من وجوه:
الأول: آية البحث هي البيان والأصل لهذا الإستغفار، لأنها جاءت بذكر صفات الذين أعدّ الله عز وجل لهم الجنة , وهم الذين يذكرون الله ويستغفرونه.
الثاني: إن قلت أن النبي محمداً معصوم من الخطأ، وهو خارج من مضامين هذه الآية لأنها خاصة ب[ الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ].
والجواب جاءت الآية أعلاه من باب البيان وذكر الفرد الغالب، وللدلالة على الحاجة إلى الذكر والإستغفار، ولا يخرج أحدهم من الدنيا إلا ويختم حياته بالإستغفار , وورد في سورة النصر في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
وعن ابن عباس قال: لما نزلت{إذا جاء نصر الله والفتح} قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيت إلى نفسي وقرب أجلي)( ).
وعنه قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين أنزل عليه{إذا جاء نصر الله والفتح} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي بن أبي طالب، يا فاطمة بنت محمد جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبحان ربي وبحمده واستغفره إنه كان توابا)( ).
الرابع: ترغيب المسلمين بالإستغفار، وطرد النفرة منه , ومنع التكاسل عن ولوجه والإقبال عليه.
الخامس: التنزه عن الإستكبار من الإستغفار.
السادس: تأكيد حقيقة وهي إنعدام الملازمة بين الذنب والإستغفار.
السابع: الإستغفار حسن على كل حال.
الثامن: ليس من ثواب أعظم من الإستغفار، ومنافعه وبركاته تتغشى الدنيا والآخرة.
التاسع: بيان المائز الذي يفصل المسلمين عن غيرهم , وهو إظهار الخضوع والخشوع لله، إن إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إرتقاء من حال إلى حال أعلى للذات والأمة، ويتبين الأمران الإرتقاء والخضوع بقوله تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ]( ).
ليس بين العبد والجنة إلا ذكر الله والدوام عليه، وهو الذي يتجلى بقوله تعالى[الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ] أي لا يفارق المسلمون التسبيح والتهليل.
لذا بينت آية البحث الملازمة بين التقوى وذكر الله، وتلك آية في بديع خلق الإنسان، وهو من أسرار نفخ الروح فيه من عند الله، بحيث ينجذب الإنسان بفطرته وأصل خلقه إلى الله , ومن مقامات العبودية والإستكانة والخشية، فيجازيه الله عز وجل باللبث الدائم في الجنة .
وفي قوله تعالى[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] ( )، روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ بن جبل: أين السابقون: قال معاذ : قد مضى ناس فقال : السابقون المستهترون بذكر الله من أراد أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله تعالى( ) ، وأخرج ابن أبي شيبة الحديث عن معاذ ( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع وهي إنحلالية، فتنقسم إلى وجوه:
الأول:ذكر المسلمين على نحو العموم المجموعي لله عز وجل , كما في أدء الصلاة جماعة.
الثاني:يذكر المسلم الذي يرتكب الفاحشة الله عز وجل.
الثالث:يقوم الذي يظلم نفسه من المؤمنين بذكر الله.
الرابع:قيام المسلمين بالإستغفار للفرد الواحد منهم، فكما تبادر جماعة المسلمين إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزجر الذي يرتكب الفاحشة عن العودة إليها فانهم يقومون بالإستغفار له.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وإمتثال المسلمين للأمر الإلهي وإن جاء بصيغة الجملة الخبرية , وهذا الإمتثال مطلوب بذاته، وهو بلغة لدخول الجنة التي جاءت هذه الآيات بالإخبار عن إعدادها وإصلاحها للمؤمنين.
ويحتمل ذكر الله من جهة الظهور وجوهاً:
الأول:ذكر الله باللسان على نحو الجهر والإعلان للغير.
الثاني:الإخفات بالذكر، كما في إخفات القراءة في صلاة الظهر والعصر، ومن فضل الله أن هذه القراءة من الذكر.
الثالث:إستحضار ذكر الله في النفس، قال تعالى في الثناء على نفسه وإحاطته بكل شئ علماً[سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ] ( ).
الرابع: تحديث النفس ولومها على إرتكاب المعصية، وإدراك الحاجة إلى ذكر الله.
وجميع المعلومات والموجودات حاضرة عند الله سبحانه، وهو منزه عن الآلة السامعة أو الباصرة، فذات وجود الشئ في نفسه أو عدمه هو في علم الله عز وجل قبل أن يكون وأثناء وجوده وبعده.
وقدمت الآية أعلاه إسرار القول لبيان عظيم سلطان وقدرة الله ، وفيه إنذار إضافي للكافرين، وبشارة للمؤمنين بزيادة أجرهم وثوابهم، وإنتفاعهم في الدنيا والآخرة من الإسرار بذكر الله.
وقد ورد في أسباب نزول الآية أعلاه عن ابن عباس قال:نزلت في المشركينَ كانُوا ينالُونَ من النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فيُوحَى إليهِ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ , فقال بعضُهُم لبعضٍ أسرُّوا قولَكُم كيلاَ يسمعَ ربُّ محمدٍ فقيلَ لهُم أسِرُّوا ذلكَ أو اجهروا بهِ فإنَّ الله يعلمهُ( ).
إن الله عز وجل يسمع الجهر والإسرار، وكل فرد منهما يصدق عليه أنه من الذكر فهل هما بمرتبة واحدة من حيث الثواب، الجواب لا، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، والجهر هو الأعم نفعاً والأفضل والأعظم أجراً، والأقرب إلى المغفرة، وفيه مسائل:
الأولى: الجهر بالذكر من مصاديق البيان.
الثانية:في الإستغفار علانية تعظيم لشعائر الله، وهو من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدلالته بالدلالة الإلتزامية على دعوة المسلمين والناس جميعاً إلى حدائق الذكر ذات البهجة والأناقة.
الثالثة:في الذكر علانية عز المؤمن، ومنعة للمسلمين جميعاً، وبرزخ دون طمع الأعداء بهم، ولو بأسباب الجدل والريب، لأن الجهر بالذكر رسالة تنبأ عن الإنشغال باصلاح الذات والإعراض عن مباهج الدنيا ,.
وكما جاء قبل آيتين بأن الله عز وجل هيئ الجنة للمؤمنين الذين يخشونه بالغيب بقوله [وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( )، فان آية البحث جاءت لإرتقاء المسلمين في مراتب التقوى، وإعداد أنفسهم لدخول الجنة إذ أن الحياة الدنيا دار الإعداد والتهيئة.
الرابعة : في الجهر بالذكر إظهار للإيمان وإشهار بالتقوى، وبعث للسكينة في النفوس وأمن عام من المؤمن، فيدرك الناس تنزهه من الكيد والمكر , للتسالم بالفطرة بأن الذكر واقية من المكر.
فان قلت قد ورد أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع أصحابه رفعوا أصواتهم بالتكبير قال: أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، إنما تدعون سميعاً بصيراً ، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)( ).
والجواب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد إرشادهم إلى آداب الدعاء، وإيجاد قواعد كلية ومنهجية لتضرع وتوسل المسلمين , ورفع الصوت هذا بالدعاء ليس من عمومات التعدي في الدعاء الذي ورد في الحديث الذي أُخرج (عن عبدالله بن مغفل أنه سمع إبنه: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: يا بني، سل الله الجنة، وعذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يكون قوم يعتدون في الدعاء والطَّهُور)( ).
وفي الحديث أعلاه مسائل:
الأولى: لا دليل على كون التخصيص في الدعاء والمسألة من التعدي في الدعاء، وقد قال الله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
الثانية:لعل عبد الله بن مغفل أراد تأديب إبنه للدعاء في مستقبل الأيام.
الثالثة:ليس من حد أو رسم لثواب ونعيم الجنة، قال تعالى[وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ]( ).
الرابعة: نعم قد ذكر الحديث باضافة , إذ ذكر الزمخشري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وحسب المرء أن يقول : اللَّهمّ إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل ” ثم قرأ قوله تعالى[إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
ولكن الحديث عن عبدالله بن مغفل أعلاه أصح سنداً , وطرقه متعددة.
الخامسة: تعدد تأويل الإعتداء في الدعاء على وجوه:
الأول: قال ابن جريج:هو رفع الصوت بالدعاء( ).
الثاني:هو الإسهاب في الدعاء.
الثالث: الصياح في الدعاء.
الرابع:لا تتجاوزوا حد الحق في الدعاء , فتطلبوا منازل الأنبياء، وما لا يجوز أن يعمل في الدنيا في قول أبي مجلز( ).
الخامس:الدعاء على الغير بغير حق، وقد يقال يدفع هذا الوجه ما ورد في الحديث أعلاه، باقتران التعدي في الطهور مع التعدي في الدعاء، والجواب هذا صحيح , إلا أنه يمكن التفكيك في أفراد الحديث، وحمل كل فرد من التعدي على ما يشابهه ويناسبه موضوعاً وحكماً ، وإن كان الأصل هو الإتحاد، ولا تصل النوبة إلى التعدد والتباين إلا بالقرينة.
وفي ذكر الله الوارد في آية البحث مسائل:
الأولى: أنه هروب من التعدي ومن ظلم النفس.
الثانية: في الذكر إصلاح للذات وتأديب للنفس، وتقويم للسلوك.
الثالثة: ذكر الله عز وجل زجر عن التعدي ومصاديق الظلم .
وأخرج الطبراني عن أم أنس قال: يا رسول الله أوصني قال : اهجري المعاصي فإنها أفضل الهجرة ، وحافظي على الفرائض فإنها أفضل الجهاد ، واكثري من ذكر الله فإنك لا تأتين الله بشيء أحب إليه من كثرة ذكر)( ).
وقد وردت نصوص مستفيضة في ذكر الله والحاجة إليه , وعظيم نفعه في الدنيا والآخرة، وكأن ذات النصوص ترعة من الجنة، ويبعث التدبر فيها الطمأنينة والرضا لأنه نوع هداية، وسعي في سبل الصراط المستقيم وكل حديث نبوي ترغيب بالذكر، وتجديد للحث عليه , وإشعار المسلم بأن رحلته في الذكر طويلة، وعليه الجد فيها لينال الراحة الأبدية .
وفي حديث الإمام علي عليه السلام: رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، وقال لي: اقذف بها قذف الاتن، لا يرتضيها ليراقعها، فقلت له: اعزب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى)( ).
ويضرب المثل الوارد في خاتمة الحديث أعلاه لتحمل العناء والمشقة الزائدة لبلوغ الراحة وإنجاز العمل، وأصله أن القوم المسافرين الذين يسيرون ويقطعون المسافات في الليل يشعرون بالغبطة أنهم لم يناموا إلى الصباح في موضعهم الأول , بل قطعوا الليل بالإسراء، قال تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]( ).
وجاءت آية البحث ليجتهد المسلمون بالذكر والإستغفار , ويكون عندهم صباحان:
الأول: الصباح في أيام الدنيا بعد قيام الليل وإحيائه بالذكر والإستغفار، قال تعالى[كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( ).
الثاني: إشراقة النشور بعد ظلمة القبر وعالم البرزخ , ليحمد المؤمنون السرى وهو إجتهادهم في طاعة الله في الحياة الدنيا، وطيهم مسافات القرب إلى الله للآخرة بمتاع الذكر وآلة الإستغفار، قال تعالى[خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
علم المناسبة
ورد لفظ(الفاحشة) أربع عشرة مرة في القرآن منها ثلاث مرات بنعتها بأنها مبينة، إثنتين منها في المطلقات وأحكام خروجهن من بيت الزوجية مدة العدة، قال تعالى[وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ]( )، أي ترتكب المطلقة معصية كبيرة، قبحها ظاهر، وهو عنوان إجمالي تدخل تحته مصاديق عديدة، وقال ابن مسعود وابن عباس بأنه يشمل الزنا( )، وتقييد الفاحشة بأنها (مبينة) لإرادة الحلم والتأني والصبر والسماحة والتجاوز عن هفوات وصغائر الزوجة .
وورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوصاني جبرئيل بالمرأة حتى ظننت انه لا ينبغي طلاقها إلا من فاحشة مبينة)( ). وفيه زجر عن المسارعة إلى الطلاق, وتأكيد لكراهيته.
أما الثالثة فقد جاءت بخصوص نساء النبي , قال تعالى[مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ]( )، وفيه مسائل:
الأولى: المراد من الفاحشة المبينة في الآية معصية الزوجة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: بيان قانون كلي وهو أن الحجة على نساء النبي أبلغ وأشد منها على المؤمنات من نساء الأمة.
الثالثة: صحيح أن الآية جاءت بصيغة الجملة الشرطية إلا أن نساء النبي منزهات من الزنا فلابد من حمل لفظ(مبينة) على ظهور القبح بالصغائر التي قد تصدر منهن , بما يخالف مقامات النبوة، قال ابن عباس في الآية: أي ليس قدركن عندي كقدر غيركن من النساء الصالحات)( ).
قال الشاعر:
وكبائر الرجل الصغير صغائر وصغائر الرجل الكبير كبائر
الرابعة: بيان عظيم منزلة نساء النبي عند المسلمين، وإقتباسهم رجالاً ونساء منهن محاسن الأخلاق.
الخامسة: نساء النبي مرآة النبوة، ومن الآيات أن نهج وعمل نساء النبي محمد صلى الله مدون في كتب المسلمين , وتميل النفوس لمعرفة سنن الصلاح في بيت النبوة والتأسي والإقتباس منها.
السادسة: جاء القرآن بالبشارة بمضاعفة الأجر لزوجات النبي على فعلهن الصالحات، قال تعالى[وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ]( )، أي تكتب الحسنة لها عشرين ضعفاً لعمومات قوله تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
السابعة: بيان منزلة أهل البيت عند الله وخطر مقاماتهم، ولزوم تعاهدهم لسنن التقوى، وقال رجل للإمام علي بن الحسين عليه السلام: إنكم أهل بيت مغفور لكم، قال: فغضب وقال: نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن نكون كما تقول، إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب، ثم قرأ الآيتين “وأعتدنا لها رزقا كريما “)( ).
الثامنة: تأكيد حقيقة ومنهج عقائدي وأخلاقي , وهو أن معاملة وتصرف أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معه يجب أن تكون بحصة زائدة وهي صفة النبوة، فلابد من جعل موضوعية لها في لغة الخطاب والسؤال والمعاشرة اليومية.
وتشمل آية البحث أزواج النبي وأهل البيــت جميعــاً فهي خطــاب وحكم وباب من الرحمة فتحه الله عز وجل للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، كل جيل ينهل من خزائن المغفرة التي جاءت بها الآية من غير أن ينقص منها شيء.
لقد جاء القرآن بالنهي عن الفواحش صغيرها وكبيرها، ظاهرها وما خفي منها، قال تعالى[وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ]( )، وفيه آية في إعجاز القرآن , إذ تنهى الآية عن مقدمات التلبس بالفاحشة، وتدعو للنفرة من إقتراف الآثام ليكون النهي عن إرتكابها من باب الأولوية القطعية.
وتدل الآية أعلاه على حقيقة وهي أن آية البحث لا ترغب بفعل الفاحشة من وجوه:
الأول: إنتفاء التعارض في القرآن.
الثاني: المغفرة باب آخر غير باب الأوامر والنواهي.
الثالث: جاء القرآن بالزجر عن الفواحش وتحذير المسلمين منها , قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ]( ).
الرابع: جاءت آية البحث بلزوم التدارك بذكر الله والإستغفار , وهو عمل وسعي عن قصد ونية وإرادة التقرب إلى الله عز زجل، لقد تفضل الله عز وجل وجعل الحياة الدنيا (دار المغفرة) فيها تمحى الذنوب عن الذين يبادرون إلى الإستغفار , وهذا لا يتعارض مع إعتبار الآخرة دار المغفرة بلحاظ أن العفو وسبل الشفاعة أعظم في الآخرة .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، منها رحمة يتراحم بها الخلق وتسع وتسعون ليوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة)( ).
وتتصف آية البحث بأنها من رحمة الله في الدنيا، ومن رحمته المتعددة في الآخرة، فالتفصيل الوارد في الحديث أعلاه لا يمنع من وجود مصاديق تنطبق على كل من رحمة الله في الدنيا والآخرة في آن واحد.
فآية البحث من رحمة الله في الدنيا من وجوه:
الأول: نزول الآية من عند الله جل وعلا .
الثاني: إطلاق الآية وعدم التقييد فيها , وهذا الإطلاق من جهات:
الأولى: التنكير في ذكر الفاحشة , وعدم حصر الفواحش التي تشملها المغفرة بمراتب معينة، أو تخصيص المغفرة بالصغائر من الذنوب.
الثانية: مجيء الآية بصيغة الجمع[والَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً] فلا يحرم بعض المسلمين من معاني الرحمة والعفو في الآية لا بالتخصص ولا بالتخصيص.
الثالثة: شمول العفو والمغفرة لظلم النفس، في السر والعلانية.
الرابعة: سلامة الآية من التحريف والتبديل، قال تعالى[وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ]( )،
الخامسة: الإطلاق والإجزاء في ذكر الله، والخشية منه، وإستحضار سعة رحمته وعفوه.
السادسة: دعوة المسلمين لتعاهد مراتب التقوى وأداء الفرائض والطاعات.
الثالث: دلالة الآية على الوعد الكريم من الله بالعفو والمغفرة لأنها جاءت في بيان صفات المتقين الذين هيء الله عز وجل لهم الجنة دار مقام وثواب دائم.
الرابع: لهج ألسنة المسلمين بذكر الله، وصيرورته ملكة دائمة عند كل فرد منهم فهو يتجه إلى ذكر الله عند فعل الفاحشة، طلباً للعفو، وعند فعل الصالحات شكراً لله تعالى ورجاء الثواب.
الخامس: من رحمة الله تأديب المسلمين على الإستغفار، والنهل من خزائنه التي ليس لها خزان .
وعن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَهُ إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ)( ).
السادس: نزول الرحمة وأسباب الرزق والبركة مع ذكر الله، حتى وإن جاء متعقباً لفعل الفاحشة، لأن الذكر حسن على كل حال، وخير محض , وتقرب إلى الله .
(كان سلمان في عصابة يذكرون الله عز وجل، قال: فمرّ النبي صلى الله عليه وسلم فكفوا فقال:”ما كنتم تقولون؟”فقلنا: نذكر الله يا رسول الله، قال:”قولوا فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها “، ثم قال:”الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم”)( ).
السابع: الذكر والإستغفار باب لقضاء حوائج الدنيا والآخرة , وإن لم يتم السؤال عنها لأن فيهما مجتمعين ومتفرقين إقرار بالوحدانية، وعزوف عن الزخرف الزائل الواهي.
الثامن: الثناء على المسلمين بوصفهم بالمتقين في عرض بيان صفة أهل الجنان , لتعاهدهم ذكر الله ولجوئهم للإستغفار عند فعل الفاحشة، ومواظبتهم على قراءة القرآن.
التاسع: بيان تفضيل المسلمين، ونيلهم مراتب القرب من الله بأن خصهم بالإرشاد إلى صراط الذكر والإستغفار.
وأما رحمة الله في آية البحث بخصوص عالم الآخرة , فهي من وجوه:
الأول: تضمّن الآية الهداية إلى اللبث الدائم في الجنة والنعيم الذي لا إنقطاع له.
الثاني: محو ذنوب المؤمن من صحائف يوم القيامة، وتبديل سيئاته حسنات، لأنه فزع في الدنيا إلى الإستغفار .
( وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما قال عبد: لا إله إلا الله في ساعة من ليل أو نهار إلا طمست ما في صحيفته من السيئات حتى يسكن إلى مثلها من الحسنات) ( ).
الثالث: الآية بشارة لنجاة المؤمن من العقاب الأليم على فعل الفاحشة وظلم النفس في الدنيا ويوم القيامة , وسبب نجاته أنه إمتثل لأحكام هذه الآية وبادر إلى الذكر والإستغفار.
بحث عرفاني
لقد أنعم الله على الإنسان بالعقل، وجعله رسولاً باطنياً يختار بواسطته الإنسان سبل الهداية والرشاد، والفلاح، وتفضل سبحانه باللسان وجعله آلة البيان عما يفرزه عقله، ويجول في خاطره، ليتخذه بلغة لتحقيق غاياته.
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً( )
ويبقى اللسان حجة على الإنسان وحجة له، ولأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة وخير محض، جاءت آية البحث من عند الله لتقويم اللسان وجعله يفوح بالمسك , ويصدح بالذكر لينسج حلل الجنة، ويكون وسيلة التدارك.
فيرتكب الإنسان بأعضائه الأخرى الفواحش ويظلم نفسه بها، كاليد والفم والعين والأذن والرجل فيقوم اللسان بالتكفير عنها، ولا يبذل معه المسلمون الجهد والمشقة , فلا يتحمل إلا قول إستغفر الله، وهو خفيف على اللسان، ثقيل في الميزان وله أثر رجعي مبارك ومركب على الأعضاء وفعلها، فيعتقها من ربقة المعصية، ويجعلها تقبل على وظائفها بهمة.
وتمتلأ النفس مع الإستغفار بالأمل وتكون أكثر إشراقة وغبطة لذا ترى وجه المؤمن يشع نوراً لما يضيفه عليه قيام اللسان بذكر الله والإستغفار من النور والبهجة، ليتصف المسلم بالرفل في حلل النضارة، وخلع القرب من ساحة القدس، ونفسه في سلامة من الشؤم، وسوء الطوية، وقد إستغنى بالذكر لعلاج ما إرتكب من المعصية، أو قل أن الذكر والإستغفار هو العلاج الشافي , وهو عنوان الوقار، والباعث للهيبة في نفوس الناس من المسلم المنشغل بالذكر والإستغفار .
وكما أن اللسان علاج فهو واقية للذات والغير، بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهد بترك المحرمات، ويتصف اللسان بإنه آلة للصدقة من غير إخراج المال والنفقة.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الصدقة صدقة اللسان , قيل : يا رسول الله وما صدقة اللسان؟ قال: الشفاعة تفك بها الاسير، وتحقن بها الدم ، وتجر بها المعروف إلى أخيك، وتدفع بها الكريهة)( ).
ولإن يختص الجهاد بالسيف في سوح المعارك فإن الجهاد باللسان متصل في السلم والحرب، والحضر والسفر، والليل والنهار، فهو عضو وآلة مباركة جعلها الله عز وجل عند المسلم يسخرها في سبيل الله، ويكسب بها الثواب العظيم .
ويتوجه اللسان في جهاده إلى المنصرم من الذنوب الذاتية بالإستغفار فيدركها ويدكها بفضل من الله وبركات آية البحث.
فإن قلت قد يكون اللسان هو وسيلة فعل الفاحشة، أو ظلم النفس، بأن يعتدي المسلم بلسانه ويتفوه بكلمة فيها غيبة أو إفتراء أو إساءة للغير وظلم للنفس.
والجواب جاءت هذه الآية لتدعو المسلم لتوظيف لسانه نفسه للإستغفار عما جرى عليه من الفعل القبيح ، وهل يكون من باب الأولوية أن يستغفر اللسان عن القبيح الذي تفوه به , قبل أن يستغفر للسوء الذي إرتكبته أعضاء البدن الأخرى , الجواب لا , من جهات:
الأول: تقتضي وظيفة العبد التنزه عن الفواحش والسيئات، وإن فعلها فيلزم مبادرته إلى الإستغفار فوراً ثم فوراً.
الثاني: الإنسان وأعضاؤه واحد متحد وإن كان مركباً من روح وبدن.
الثالث: يتوجه الأمر الإلهي بالإستغفار إلى العبد كمكلف.
الرابع: ليس من تقسيم للذنوب والخطايا بلحاظ الأعضاء، وقد تصدر من اللسان كبيرة , وقد تصدر منه الصغيرة.
الخامس: كل ذنب وفاحشة يرتكبها العبد يجب أن يبادر إلى الإستغفار عنها من باب الأولوية القطعية.
وجاءت آية البحث ليرتقي اللسان إلى مرتبة اللهج بذكر الله من غير تعب أو إعياء للجوارح، وفي دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته، ولا سقما إلا شفيته، ولاعيبا إلا سترته، ولا رزقا إلا بسطته ولا خوفا إلا أمنته، ولا سوء إلا صرفته، ولا حاجة هي لك رضى ولي صلاح إلا قضيتها، يا أرحم الراحمين، آمين رب العالمين)( ).
ويستحق طلب مغفرة الذنوب ومحو السيئات بذل الوسع وشد الرحال وإنفاق المال الكثير ، ولكن الله تفضل بآية البحث فجعلها أقرب شيء من المسلم، ليس بينه وبينها إلا ذكره لله عز وجل وتحريك شفتيه لتكون مغفرة الذنوب من رحمة الله عز وجل في قوله تعالى[وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ).
(وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن مقعد الملكين على الشفتين قلمهما اللسان ومدادهما الريق)( ).
بحث أصولي
الحكم عند الأصوليين هو ذات الخطاب الإلهي، أما عند الفقهاء فهو أثر الخطاب، وقيل بأن الأول أعلاه قديم والثاني حادث، ولا صلة في المقام للقدم والحداثة بحسب علم الكلام, ثم أن الخلاف لفظي وفي التعريف والإصطلاح أما الموضوع فهو ذاته.
ويكون الحكم في قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]( ) عند الأصوليين هو ذات الخطاب في الآية الكريمة، أما عند الفقهاء فالحكم هو وجوب الصلاة المستقرأ من هذه الآية الكريمة، وهو من أفراد الحكم التكليفي الذي هو دليل ومضمون الخطاب المتوجه إلى المكلف , وهو على أقسام ثلاثة:
1- الفعل . 2- الترك . 3- التخيير .
أما الحكم الوضعي فهو خطاب الله الذي يتضمن تعليق شيء على شيء مثل السببية أو الشرطية أو المانعية.
والفارق بين الحكم التكليفي والوضعي على وجوه:
الأول: إختصاص الحكم التكليفي بالمكلفين، فلا يشمل غيرهم، أَمًا الحكم الوضعي فهو أعم إذ يشمل متعلقات أفعال الصبي كالعبادات المستحبة منه، وقاعدة الضمان فيما يتلفه أو يسرقه، وصحة البيع والوصية من الصبي المميز في بعض الأحوال.
ويختص الحكم التكليفي بمقدور المكلف, تخفيفا وحجة من الله على العباد, وترغيباً لهم بطاعته , قال تعالى[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
إذ أن التكليف بما لا يطاق عبث، والعبث محال على الشارع المقدس، أما الحكم الوضعي فليس فيه تكليف، فيتعلق بغير مقدور المكلف مثلما يتعلق بما هو مقدور .
وأستدل على التكليفي بقوله تعالى[وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، فهو تكليف وبمقدور المكلف، وجاز تعلقه بغير المكلف مثلما هو جائز في المكلف فمن لا يكون عنده النصاب لا يجب عليه شيء، وكذا بالنسبة للحج، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
فهو أمر يقدر عليه المكلف عند الإستطاعة، وإذا لم تتوفر الإستطاعة كشرط للوجوب فلا يجب الحج على المكلف، وذكروا مثلاً للحكم الوضعي ما جاء في قوله تعالى[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( )، بلحاظ أن دلوك الشمس ليس بمقدور الإنسان ولا من فعله.
وجاءت الآية أعلاه بياناً وتفصيلاً للحكم التكليفي، وهي في طول قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]( )، وليس في عرضها، ودلوك الشمس هو زوالها عن كبد السماء على التحقيق وإرادة صلاة الظهر وهو المروي عن الإمام الباقر والصادق عليهما السلام( )، وبه قال الحسن، ومجاهد، وقتاده.
وعن ابن عباس وابن مسعود: أن الدلوك هو الغروب، والمراد من الصلاة في قوله تعالى[لِدُلُوكِ الشَّمْسِ] هي صلاة المغرب.
وغسق الليل هو ظلامه للدلالة على صلاة المغرب والعشاء وقوله تعالى[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ]( )، وتعددت فيها الأقوال ومنها المراد أوله.
والحكم التكليفي يقسم إلى خمسة أقسام وهو مشهور الأصوليين شهرة عظيمة:
الأول: الواجب وهو الأمر بإتيان الفعل على نحو الجزم ولا يجوز تركه كإقامة الصلاة اليومية الواجبة.
الثاني: المندوب، وهو الأمر بإتيان الفعل بغير جزم وقطع، فيجوز تركه من غير أن يترتب إثم على هذا الترك كصلاة النافلة، وصوم التطوع.
الثالث: النهي عن الفعل بغير جزم، أو قل طلب تركه بغير جزم أو إلزام، ويسمى المكروه مثل خلف الوعد.
الرابع: النهي عن الفعل بطريق الجزم، وترتب الإثم على إتيانه، ويسمى الحرام كالزنا وأكل الربا وبيع السلاح على أعداء الإسلام.
الخامس: التخيير في ذات الفعل بين إتيانه أو تركه، ويسمى المباح ليتمتع المكلف فيه بحق الإختيار في الفعل أو عدمه، وقيل: قد تستعمل صيغة النهي في موارد الكراهة، فينهى عن المكروه أيضاً بسبب الشبه القائم بين الكراهة والحرمة، ويعتبر إستعمالها في موارد المكروهات إستعمالاً مجازياً)( ).
والأقرب عندي أن إستعمالها في المكروه حقيقياً وليس مجازياً , ولكن طبيعة النهي لها أفراد طولية متباينة بحسب الجزم بالترك أو عدمه،فلا تضاد بين الحرمة والكراهة لا أقل في صيغة النهي .
وأضاف أتباع أبي حنيفة قسمين للأحكام التكليفية الخمسة أعلاه لتكون سبعة، فقسموا الواجب( )، إلى فرعين:
الأول: الفرض فهو الثابت بدليل قطعي في ثبوته ودلالته ويسمى فرضاً.
الثاني: الواجب وهو الثابت بدليل ظني.
وقسموا الحرام إلى فرعين:
الأول: النهي الثابت بدليل قطعي ويسمى حراماً.
الثاني: النهي الثابت بدليل ظني ويسمى مكروها تحريماً.
وأضاف الفاضل التوني قسماً سادساً إلى الأحكام التكليفية الخمسة وهو الأحكام الوضعية كالحكم على الشيء بأنه سبب لأمر أو شرط أو مانع منه.
وصحيح أن آية البحث جاءت بصيغة الجملة الخبرية (والذين إذا فعلوا) ولكنها تدل بالدلالة التضمنية على لزوم المبادرة إلى الإستغفار وأنه واجب على المتقين الذين أصلح لهم الله الجنة وهيئها لهم وجعلها بإنتظارهم .
وصيغة الخبر في الآية لأن الدنيا دار إختبار وإمتحان , وجعل الله عز وجل الإستغفار جوازاً وإجازة إلى الجنة , وقد جاءت آيات القرآن بصيغة الأمر في الإستغفار الذي يحمل على الوجوب خصوصاً مع عدم القرينة على الندب، قال تعالى[وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، و[فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ]( ).
ويحتمل الإستغفار من جهة تقسيم الأحكام التكليفية تقسيماً إستقرائياً وجهين:
الأول: قصور هذا التقسيم عن ماهية الشريعة الإسلامية والقوانين التي تتضمنها آيات القرآن وهي أعم من أن يحيط بها تقسيم إستقرائي في باب علم الأصول أو الكلام أو النحو.
الثاني: التعدد في مرتبة حكم الإستغفار وهل هو واجب أم مندوب، كما في الصلاة منها صلاة الفريضة , ومنها الصلاة المندوبة والمستحبة.
ولا تعارض بين الوجهين، ويأتي ذات الفرد الواحد من الإستغفار, وهو يحمل صفة الوجوب والندب في آن واحد، فيكون سؤالاً وتضرعاً لمحو الفاحشة، وباباً للثواب العظيم.
قانون الذكر حسنة
لقد خلق الله الإنسان لعبادته وإظهار الخشية منه، والسعي إلى مرضاته، فكان الذكر والتسبيح من أبهى معاني العبادة التي يزين بها المسلمون الأرض، ويدفعون بها الآفات والمهالك عن الناس , وتستقر معها الجبال، وتسكن البحار، وتقرّ الخلائق بسببها بصلاح المسلمين لخلافة الأرض ووراثة الأنبياء , وأنزل الله القرآن ليكون لأجيالهم المتعاقبة إمام هدىً وصراط نجاة .
ومن أسماء القرآن الذكر قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، وفي هذه التسمية المباركة وجوه:
الأول: بيان فضل الله عز وجل على الناس في نزول الذكر والبيان من السماء.
الثاني: إرادة الحجة على الناس.
الثالث: القرآن برهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: تضمن القرآن لقصص الأنبياء , وأخبار الأمم السالفة.
الخامس: في القرآن ذكر لله، وهو أعظم الذكر والحديث سواء مع النفس أو الغير , قال تعالى[ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ]( ).
السادس: في القرآن بيان لواجبات ووظائف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات في أبواب العبادات والمعاملات والأحكام.
السابع: إنه كتاب سماوي في ذكر آلاء الله ونعمه العظيمة على الناس.
الثامن: يذّكر القرآن بيوم القيامة ويبين سبل النجاة يومئذ.
التاسع: في القرآن ذكر لسبل الحسنات ولزوم إجتناب السيئات , وما يثقل الظهر يوم الحساب، ولا يمكن حصر مصاديق الذكر التي جاء بها القرآن , وتستقرأ من قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنها آية البحث وما تتضمنه من وجوه الذكر , ومنها:
الأول: بيان عظيم منزلة المتقين عند الله من جهات:
الأولى: إعداد الجنة لهم.
الثانية: ثواب التقوى هو الخلود في النعيم.
الثالثة: الإخبار عن فضل الله عز وجل على المتقين بغفران ذنوبهم.
الثاني: بيان الملازمة بين التقوى وذكر الله، فربما يرتكب المؤمن الفاحشة، ولكنه لا يغادر منازل التقوى والخشية من الله عز وجل.
الثالث: ليس من ملازمة بين التقوى والعصمة، فالمؤمن الذي يخشى الله عز وجل قد يخطأ أو يذنب , ولكن الإيمان سبيل نجاة من تبعات الذنب.
فإن قلت إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو إمام المتقين فهل يخطأ، خصوصاً وأن الآية جاءت مطلقة في بيان صفات المتقين، وقد قال الله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
والجواب في الآية أعلاه بلحاظ هذه المسألة من وجوه:
الأول: بيان عدم المنافاة بين العصمة وسنخية البشرية .
الثاني: تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل.
الثالث: الدعوة للتدبر بمعاني ووجوه ومفاهيم الوحي ، ومنها العصمة والتنزه عن الخطأ والمعصية.
الرابع: منع الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فرؤية معاني العصمة والآيات في حياته وسلوكه وكلامه قد يدفع بعضهم إلى الغلو بشخصه الكريم، في حياته أو بعد مماته كما غالى قوم بشطر من الأنبياء السابقين، فجاءت الآية للزجر عن هذا الغلو، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس من الملائكة لذا تضمنت الآية الدعوة إلى عبادة الله نعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ]( ).
الخامس: تدعو الآية المسلمين إلى بذل الوسع لبلوغ مراتب العصمة بالإكتساب.
السادس: لا ينحصر الإستدلال على عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآية أعلاه , فلابد من إستحضار الآيات الخاصة بالموضوع منطوقاً وتفسيراً وتأويلاً، ومنها آية الوحي التي يستدل بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه في إقامة البرهان على أن فعله من الله عز وجل فقد (أخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء وحبة العرني قالا: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسد الأبواب التي في المسجد، فشق عليهم، قال حبة: إني لأنظر إلى حمزة بن عبد المطلب وهو تحت قطيفة حمراء وعيناه تذرفان ، وهو يقول: أخرجت عمك وأبا بكر وعمر والعباس، وأسكنت ابن عمك؟
فقال رجل يومئذ: ما يألو يرفع ابن عمه، قال: فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد شق عليهم، فدعا الصلاة جامعة، فلما اجتمعوا صعد المنبر فلم يسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة قط كان أبلغ منها تمجيداً وتوحيداً، فلما فرغ قال: يا أيها الناس ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته، ثم قرأ{والنجم إذا هوى ما ضلّ صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى})( ).
وذكر في المائز بين القرآن والسنة أن الأخيرة نقص منها الإعجاز , وفيه مسـألتان:
الأولى: على فرض صحة هذا النقص فإنه لا يتعارض مع الملازمة بين الوحي والعصمة، لأن المقصود من العصمة الإمتناع عن الخطأ والمعصية لتكون على وجوه :
الأول : العصمة مرآة النبوة وترجمان عملي للوحي.
الثاني: السلامة من الخطأ والزلل بالهبة شاهداً على صدق دعوى الرسالة.
الثالث: لقد أراد الله عز وجل لعصمة النبي أن تكون مناراً يهتدي به المسلمون في حياتهم اليومية.
الرابع: فيها دعوة لإكتساب مكارم الأخلاق، والسعي لبلوغ مراتب الكمال الإنساني.
أما الإعجاز فهو عنوان للتحدي بالمعجزة الخارقة للعادة، السالمة من المعارضة , المقرونة بالتحدي .
الثانية: يمكن القول أن الإعجاز من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وأن إعجاز القرآن بأعلى وأكمل مراتب الإعجاز، وليس من حصر لأبواب ودلائل الإعجاز في القرآن وتتجلى رشحة منه في تفسيرنا هذا والتفاسير والكتب والدراسات التي تخص القرآن وتأتي السنة النبوية بمرتبة أدنى , ولكنها تنفرد وتحتفظ بصفة وهي أنها فوق كلام البشر ودون كلام الخالق.
الثالثة: ما ذكر في نقص الإعجاز عن السنة النبوية وقائع محدودة هي خبر ماعز، وحديث الغامدية، ونحوه ولكن يمكن الإستدلال على التباين الموضوعي بين القرآن والسنة فكلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان وحياً إلا أنه يرقى إلى إعجاز القرآن .
لقد أراد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تكون (دار الذكر) فيها يذكر الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته القدسية، وتفرده بالربوبية , وتتجلى آياته التي تدل على بديع صنعه , قال تعالى[وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة غير واحدة من أحصاها كلّها دخل الجنّة( ).
ومن الآيات في خلق الإنسان أن العبادة هي ذكر وتهليل وتسبيح، فجاءت آية البحث لتكون ذكراً لله بذاتها، وإرشاداً للذكر عند ساعة الشدة والحرج.
فلما تضمنت آية البحث صفات المتقين الذين أصلحهم الله للجنة فإنها تخبر بالدلالة الإلتزامية عن نفرتهم من الفواحش وأسباب إبتعادهم عن مفاهيم الإيمان، والخصال الحميدة التي تؤهلهم لدخول الجنة فأرشدتهم إلى ذكر الله لإتصافه بخصائص كريمة منها.
الأول: إنه علقة وصلة بالله عز وجل , وهل يمكن القول أن الذكر من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( )، الجواب نعم , وهو موضوع ومادة وعنوان للوحدة والتآخي بين المسلمين.
الثاني: الذكر سبيل تدارك وإنابة.
الثالث: الذكر باب للوحدة والتآخي بين المسلمين، ومانع من الفرقة والخصومة وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
(عن سُوَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ فَتَحَرَّجَ النَّاسُ أَنْ يَحْلِفُوا وَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي فَخَلَّى عَنْهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ أَنْتَ كُنْتَ أَبَرَّهُمْ وَأَصْدَقَهُمْ صَدَقْتَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ)( ).
ولا يعلم ما صرف عن المسلمين بالذكر والصلاة وأدائها جماعة من أسباب الشقاق والنزاع، وكان الذكر والصلاة وسائر العبادات مناسبة للصلح، ووعاء للألفة والمودة , وحرزاً وسلاحاً لدفع مقدمات الفتنة.
الرابع:ترتب الثواب العظيم على ذكر الله.
الخامس: ليس من حصر لوجوه ومصاديق ذكر الله، ومنها أداء الصلاة، وهل الصيام من ذكر الله أم أن القدر المتيقن منه هو الإمساك عن المفطرات.
الجواب هو الأول من جهات:
الأولى: الصيام طاعة لأمر الله.
الثانية: لزوم إستحضار قصد القربة في الصيام لأنه عبادة.
الثالثة: الصيام مناسبة للإنقطاع إلى الله والسياحة في عالم الملكوت، بالإسناد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نوم الصائم عبادة و صمته تسبيح و عمله مضاعف ودعاؤه مستجاب وذنبه مغفور)( ).
الرابع: ترتب الثــواب العظيم على الصيام، فمع أنه فريضة وواجب فإن الله عز وجل يجزي عليه بما لا يعلم مقداره وعظمته إلا الله عز وجل .
وفي الحديث المشهور عند عموم المسلمين وفي طرقهم المتعددة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلُّ عَمَلِ ابن آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ إِنَّمَا يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي فَصِيَامُهُ لَهُ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)( ).
فإن قلت جاء ذكر الصلاة معطوفاً على الذكر بقوله تعالى[إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ]( )، ويفيد العطف المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، والجواب من وجوه:
الأول: إنه من عطف الخاص على العام.
الثاني: بيان عداوة إبليس للناس.
الثالث: لزوم الحذر والحيطة من إبليس وجنوده.
الرابع: كشف حقيقة وهي أن وسوسة إبليس لا تختص بالكفار من الناس، بل إنه يجتهد في إغواء المؤمن، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني رجل من أسلم وكان واعية( ): أن أبا جهل اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه ما يكره من العيب لدينه، فذكر ذلك لحمزة بن عبد المطلب، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس فضربه بها ضربة شجه منه شجة منكرة، وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، فقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت
فقال حمزة: وما يمنعني وقد إستبان لي منه أنا أشهد أنه رسول الله، وأن الذي يقول حق، فوالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا.
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، فكفوا عن بعض ما كانوا يتناولون منه، وقال حمزة في ذلك شعرا.
قال ابن إسحاق: ثم رجع حمزة إلى بيته، فأتاه الشيطان، فقال: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ، وتركت دين آبائك، للموت خير لك مما صنعت، فأقبل على حمزة بثه فقال: ما صنعت؟ اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو أرشد هو أم غي شديد، فحدثني حديثا، فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثني فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، ووعظه، وخوفه، وبشره، فألقى الله في نفسه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك الصادق شهادة الصدق فأظهر يا ابن أخي دينك، فوالله ما أحب أن لي ما أظلت السماء، وأني على ديني الأول، فكان حمزة رضي الله عنه ممن أعز الله عز وجل به الدين)( ).
لقد جاءت آية البحث مدرسة في الذكر والصلاح، ومناسبة لتأكيد التقوى وتثبيتها في النفوس وإظهارها في الأرض، ويحتمل الذكر في آية البحث وجوهاً:
الأول: إنه رجوع إلى منازل التقوى.
الثاني: إنه رشحة من رشحات التقوى.
الثالث: إنه برزخ بين مقامات التقوى، وضدها.
الرابع: الذكر عند فعل الفاحشة أو عقب ظلم النفس.
بحث أصولي
الحكم وفق الإصطلاح هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين باللزوم أو التخيير أو الترك، والخطاب هو اللفظ المراد منه الإفهام والتبليغ، وتقييد التعريف أعلاه بالخطاب يمزج لغة الإشارة والعين وحركة اليد والرأس وما وضع وفق العرف لأنها ليست من عالم الألفاظ التي تجلت في قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ).
فكان هذا التعليم وألفاظه الحجة والبرهان الذي تبين معه للملائكة أهلية آدم عليه السلام للخلافة في الأرض، وأدركوا أن الله عز وجل سيخاطب الناس بالأحكام الشرعية والأوامر والنواهي.
وأن هذه الحكام ستنزل إلى محل الخلافة وهي الأرض بالكتب السماوية والنبوة، ويستطيع الناس تعلم وتعليم الأوامر والنواهي والذي ظهر للملائكة بقوله تعالى[قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( ).
وقيد التعريف بأنه خطاب الله ليخرج مخاطبة الناس فيما بينهم، وكلام وخطاب القادة والملوك والأمراء، قال تعالى[إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ]( ).
فإن قيل إن الأوامر والنواهي الواردة بالسنة يجب العمل بمضامينها، وهي ليست من كلام الله الذي ينحصر بالقرآن، والجواب من وجوه:
الأول: الخطاب الإلهي وألفاظ الحكم الشرعي أعم من كلمات القرآن الكريم.
الثاني: لقد أمر الله عز وجل بطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت الآيات بإقترانها بطاعة الله، قال الله عز وجل[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالث: يتضمن خطاب الله إلى المكلفين العمل بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الرابع: إنتفاء التعارض بين القرآن والسنة النبوية التي هي بيان وتفسير للقرآن، ومن أفراد خطاب الله عز وجل للمكلفين وجوب طاعة الرسول، وورد عن رسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)( ).
والمراد من التعلق هو الإرتباط والترشح بما يفيد إبانة المطلوب من وجوب أو ندب أو ترك، ورجاء قيد ثان في التعريف بأن الخطاب خاص بأفعال المكلفين ليخرج به ما يتعلق بمخلوقات أخرى مثل الملائكة والخلائق كلها مستجيبة لله عز وجل.
ليكون الحكم الشرعي شاهداً على أهلية الإنسان للخلافة في الأرض، ومصداقاً لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ومن الأصوليين من قال: يخرج بقيد(بأفعال المكلفين) ما تعلق بذاته تعالى وإستدل بقوله تعالى[شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ولكن الحكم أجنبي عن المقام، وهو يصدر من الحاكم المطلق إلى المحكوم عليه لأن واجب الوجود بسيط ليس مركباً، بل أراد الله عز وجل الإخبار عن حقيقة، ولتكون حكماً على الناس والخلائق.
والمكلفون جمع مكلف وهو الإنسان البالغ العاقل ذكراً كان أو أنثى، وقد بينّا تعريفه في رسالتنا العملية(الحجة)( )، وخرج بقيد البلوغ الخطاب المتعلق بأفعال الصبي كما في إستحباب العبادات له لإرادة التمرين وإن كان فيه ثواب وهذا الثواب نوع فضل من الله , وإن قيل بأن الثواب دليل على الحكم الشرعي، ومنه أمر الصبي بالإسلام وقبوله منه، إلى جانب تعلق بعض الأحكام الشرعية به، كالوصية ومسألة الزكاة في ماله، لذا إستبدل شطر من الأصوليين كلمة (المكلفين) الواردة في التعريف الذي ذكرناه في أول البحث بكلمة (العباد) ليدخل فيه الصبي وغيره ,وفي الزكاة مثلاً يستحب للولي الذي يتجر بمال الصبي والصبية والمجنون إخراج الزكاة منه.
فالخطاب في الباب موجه للولي وليس للصبي، نعم إذا بلغ الصبي سن البلوغ وعلم أن وليه لم يخرج الزكاة يتوجه الخطاب حينئذ إليه بأداء ما تخلف الولي عن أدائه.
وأشكل بعض الأصوليين على جمع كلمة المكلف، لأن فيه خروج لمختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي عديدة منها( ).
زواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأكثر من أربع نساء بالعقد، وقد جاء الأمر الإلهي بالتوقف فيه بقوله تعالى[لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ] ( ).
وإذا رغب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنكاح امرأة وجب عليها القبول إن كانت خلية ويحرم على غيره خطبتها، وإذا كانت ذات زوج وجب على الزوج طلاقها، كما في قصة زيد( )، قال تعالى[فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا]( )، أي أن زيداً دخل بها واكتفى بأيامه معها، والوطر:الحاجة والهمّة في طلب الشيء، ولم تبق له فيها حاجة، وفيه مسائل:
الأولى: جاء طلاق زيد لها عن إختيار وتفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه.
الثانية: في ذكر قضاء زيد وطره من زينب بنت جحش( )، دليل على أن موضوعها ليس من باب الشهوة ونضارة الشباب , وحلاوة ونكهة البكارة مع أن النبي ترغب في الفوز بإختياره لها أي امرأة وتنال مرتبة الأمومة للمؤمنين , وكانت زينب ثيباً أخذ منها زيد حاجته، ولم تبق له فيها همة.
الثالثة: بعد إنقضاء عدة زينب بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيداً نفسه لخطبتها فقال (ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك، أخطب عليّ زينب قال زيد: فانطلقت فإذا هي تخمر عجينتها، فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، حين علمت أنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري وقلت: يا زينب، أبشري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك، ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها.
ونزل القرآن[فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا]( )، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها: ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتدّ النهار)( ).
وفي بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيداً لخطبتها أمور:
الأول: إقامة الحجة بأن زيداً لا يرغب فيها , كما في قوله تعالى حكاية عن النبي[أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ] ( ).
الثاني: إحتمال خطبة زيد لها.
الثالث: البيان العملي للناس جميعاً بأن زيداً طابت نفسه منها، وأنه لم يخطبها للنبي إلا عن رضاه، وقد صدر الطلاق من زيد لغيرها من زوجاته (لما تبنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم زيداً زوجه زينب بنت جحش وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب وزوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك مولاته أم أيمن فولدت له أسامة ثم لما طلق زينب زوجه أم كلثوم بنت عقبة وأمها أروى بنت كريز وأمها البيضاء بنت عبد المطلب فهي أخت عثمان من أمه فولدت له زيد بن زيد ورقية ثم طلق أم كلثوم وتزوج درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب ثم طلقها وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير)( ).
ولكن ذكر أن أم كلثوم كانت عنده يوم إستشهد وهي إبنة عقبة بن أبي معيط هاجرت إلى المدينة سنة سبع في الهدنة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين من قريش (يقولون إنها مشت على قدميها من مكة إلى المدينة، فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي كان بينه وبين قريش في الحديبية، فلم يفعل، وقال: أبى الله ذلك( ) فلما قدمت المدينة تزوجها زيد بن حارثة فقتل عنها يوم مؤتة)( )، وعلى فرض صحة الخبرين يكون زيد قد طلق أم كلثوم ثم راجعها، ولكنه بعيد لأصالة إستصحاب الزوجية.
وفي أم كلثوم هذه نزل قوله تعالى[إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ]( )، وهي ممن بايعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وروت عنه أنه قال: “ليس بالكاذب الذي يقول خيراً وينمى خيراً ليصلح بين الناس”)( ).
الرابعة: لما تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بنت جحش(قال المشركون: إنه تزوج امرأة ابنه فأنزل الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ})( ).
فإن قلت لماذا المشركون، وليس المنافقين خصوصاً وأن المدينة ليس فيها من المشركين وكان زواج النبي من زينب سنة أربع للهجرة على الأرجح , والجواب من وجوه:
الأول: كانت قريش تتابع أخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه بحسد وكراهية.
الثاني: تسعى قريش لبث روح الشك والريب بين القبائل بسيرة وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: تعرف قريش أمرين:
الأول: أن زيداً ابن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبني، وكان يسمى زيد بن محمد.
الثاني: إن زينب إبنة عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أما بالنسبة للمنافقين ففيه وجوه محتملة:
الأول: نقص عدد المنافقين وضعفهم وعجزهم عن إثارة الريب.
الثاني: قد تكلم المنافقون , ولكن المؤمنين لم ينصتوا إلى قولهم لنزول القرآن بالبيان والحكم والفصل (وقال المنافقون: حرم محمد نساء الولد وقد تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى: “مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِن رِجَالِكُمْ)( ).
الثالث: لقد نزلت الآيات في زواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بآية إعجازية في حفظ مقامات النبوة، ووقايتها من الطعن والتشويه، إذ أكدت الآيات على أن الزواج من عند الله، وأن زيداً ليس ابن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: لما هاجر زيد إلى المدينة كان يعرف باسم زيد بن حارثة، فلا يقدر المنافقون على الجدال وإثارة الشك في مسألة زواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من زينب.
ولا أثر لقول المشركين وهم في مكة، بل فيه حجة عليهم في كون سنّة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الله عز وجل، وينزل فيها قرآن يبقى إلى يوم القيامة، يرفع به الحرج عن المؤمنين، ويبطل عادات الجاهلية.
الخامسة : جاء زواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بأمر من الله عز وجل، لذا كانت تتباهى وتفتخر وتحتج على سائر أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فتقول: زوجني الله من النبي و أنتن إنما زوجكن أولياؤكن)( )، ومن أزواج النبي من لم يزوجها وليها كصفية بن حيي بن أخطب.
(وكانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأدل عليك بثلاث:
ما من نسائك امرأة تدل بهن: جدي وجدك واحد.
و إني أنكحنيك الله في السماء.
و أن السفير لي جبرائيل( ).
وفي صباح عرسها نزلت آية الحجاب[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ]( ).
السادسة: بيان العلة والنفع العام للمسلمين من زواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا لما فيه من رفع الحرج عنهم، قال تعالى[لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ]( ).
وفيه دفع لشبهة إتحاد موضوع التبني بالرحم، وأنه يحرم من المتبني ما يحرم من الإبن، فبيّن الله بالواقعة الثابتة كتاباً وسنة التباين بين حلائل الأولياء، وحرمة حلائل الأبناء بالصلب وإن نزلوا.
السابعة: روى البيهقي بإسناده عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك أهلك، فنزلت: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه)( ).
وتدل شكوى زيد على وجود نوع خلاف بين زيد وزينب.
الثامنة: تبين الآية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخذ التبني والولاء لحمل زيد على طلاق زوجته , بل ذكرت الآية النعمة والإحسان كما في التنزيل[وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ] ( )، لبيان أن قصة طلاق زيد لزينب وزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها إستمرار لهذه النعمة كما في أصل الإستصحاب الذي هو دليل عقلي قبل أن يكون أمارة شرعية.
لقد أكرم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيد , وجعله قائداً للجيوش وتفضل الله عز وجل وذكره بالاسم في القرآن بصيغة التشريف والإكرام لإمتثاله لما يظنه رغبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فذكره القرآن بالإسم[فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ]( ).
ولم يذكر اسم من أسماء الصحابة في القرآن كما ذكر زيد وبهذه الواقعة على نحو الخصوص.
فقد ورد عن ابن عباس أنه قال: فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية فمروا على أبيات معن رهط أم زيد فاحتملوا زيدا وهو يومئذ غلام يفعة فوافوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع فاشتراه منهم حكيم بن حزام بن خويلد لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم وهبته له فقبضه)( ).
وكان الناس يأتون إلى مكة للحج أو التجارة، وجاء جماعة من كلب للحج فرأوا زيداً فعرفوه وعرفهم، بالصفات والأخبار عن حياته وبيعه وإن كانت إجمالية .
أوعرفوه إبتداء بالشمائل والعلامات والقيافة، أو أن نسبه وأصله كان معروفاً عند قريش لتعريف الذين باعوه به لمنع الزيجات المحرمة وكيلا تختلط الأنساب، وأهل الحجاز يتعاهدون الأنساب إلى يومنا هذا.
وخرج زيد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف بعد وفاة أبي طالب وخديجة وإشتداد أذى قريش له، وأقام النبي شهراً في الطائف، فلم يجيبوه وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم يسبونه، ويقذَفونه بالحجارة.
ورجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة في جوار المطعم بن عدي , وقد ورد في كتب الرجال والسير ذات الاسم زيد، ولكنه الأنصاري وهو غير زيد هذا، ويسمى زيد بن جارية الأنصاري، وشهد صفين مع علي عليه السلام وهو أخو مجمع بن جارية (وروى عنه أبو الطفيل حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه فصففنا خلفه صفين)( ).
وقال زيد بن جارية : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إستصغره يوم أحد والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدري وسعد بن حيثمة وعبد الله بن عمر)( ).
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما خرج إلى بدر الأولى إستعمل زيداً على المدينة , وحمل اللواء الإمام علي عليه السلام)( ).
وزوّج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيداً أم أيمن وإسمها بركة، وكانت أمة لعبد الله بن عبد المطلب وقيل أنها جارية حبشية وصارت ميراثاً للنبي، وعندها ولد إسمه أيمن بن عبيد (كان ممن بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين , ولم ينهزم وذكره ابن إسحاق فيمن استشهد يوم حنين وأنه الذي عنى العباس بن عبد المطلب بقوله في شعره:
وثامننا لاقى الحمام بسيفه … بما مسه في الله لا يتوجع)( ).
وولدت لزيد أسامة بن زيد الذي يسمى(الحب بن الحب).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أم أيمن أمي بعد أمي)( )، وكان يزورها في بيتها.
وكانت تمشي بين صفوف المسلمين يوم حنين تدعو لهم وتقول(سبت الله أقدامكم) أي ثبت الله أقدامكم) فقال لها أسكتي يا أم أيمن، فإنك عسراء اللسان)( ).
وهاجر زيد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة وأرجعه إلى مكة ليأتي مع فاطمة الزهراء وأم كلثوم وسودة بنت زمعة ومعهم أم أيمن وأسامة، وزيد من أهل بدر، وجاء بشيراً إلى أهل المدينة بما فتح الله على المسلمين يومئذ.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيداً على رأس جيش من ثلاثة آلاف مقاتل إلى مؤتة فلقيتهم الروم في نحو مائة ألف , في جمادي الأولى سنة ثمانية فأستشهد فيها .
وتبين قصة زيد أمراً عظيماً في حياة الناس والتغيير الذي حصل بنبوة محمد وإنتقالهم إلى حال الأمن والعز، فلا تستطيع منظمات حقوق الإنسان والأنظمة والقوانين الوضعية القضاء على سبي النساء , ومنع أخذ الأطفال من حجور أمهاتهم، ولكن آيات القرآن هذبت النفوس وأصلحت الأمم، وأكرمت الناس ذكوراً وأناثاً من حين الولادة إلى سن الشيخوخة في الذكور والأناث.
وكانت العرب تدفن البنات وهن أحياء خشية لحوق العار بهم بإغارة العدو ووقوعهن في السبي, ومخافة الإملاق في سني الجدب، قال تعالى[وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ) .
والمراد من الموؤدة أي البنت المدفونة حية،وبين القتل والوأد عموم وخصوص مطلق، فالقتل إزهاق للحياة بالتسبيب والوأد قتل بالدفن في الأرض وخاص بالبنات , وذكر أن الحامل إذا إقتربت حفرت حفرة، فإذا جاءها المخاض تجلس عليها، فإذا ولدت بنتاً رمت بها، وإذا ولدت إبناً ضَمّته (أي أن الزوج والزوجة يشتركان في الوأد) في الجملة , وذكر أن الرجل إذا ولدت له بنت ألبسها جبة من صوف أو شعر وتركها ترعى له الإبل والغنم لعدم العناية بها أو العطف عليها , وإذا أراد قتلها تركها إلى أن يبلغ طولها ستة أشبار( ) أو صار عمرها ست سنوات فيذهب بها إلى الصحراء ويلقيها في حفرة، ويهيل عليها التراب .
ونهى الله عز وجل عن الوأد وعن قتل الأولاد خشية آفة الفقر[وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ]( )، ويدخل معه في الحرمة إسقاط الجنين لهذه العلة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
وكراهية ولادة البنت عليه أكثر الأمم، ولكن هذه الكراهية على مراتب متفاوتة، وجاء الإسلام لمحاربتها بالأصل وليس الوأد فقط , قال تعالى[وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ]( ).
ويظهر أيضاً على نحو السالبة الجزئية بعدم إنصاف البنت في الميراث من غير راجح شرعي ، وقيام الآباء بالإحتيال في منعها وحرمانها من التركة بالوقف والحبس على الأولاد الذكور على نحو الخصوص، ومنهم من يلجأ إلى حمل البنات على إسقاط حقهن في الميراث عند وفاة المورث وحال الأسف والأسى على فقده أيام مجلس الفاتحة، والتي لا تهب حقها يهجرونها , وتسمى هذه المسالة في الفقه (هبة بنات القبائل) ويذهب بعضهم إلى حرمتها، ومنهم من يعدها من الإكراه.
وقالوا إن قريشاً لا تأد البنات ولكن ورد في بعض الأخبار ما يدل على وجود هذه الظاهرة عندهم وسئل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن العزل فقال(ذلك الوأد الخفي)( )، ولكن ورد عن جابر بن عبد الله أنه قال:كنا نعزل والقرآن ينزل)( )، والمشهور كراهة العزل، وفي المسألة(454) من رسالتي العملية (يجوز على كراهة ان تتعاطى الزوجة حبوب منع الحمل بإذن الزوج وبشرط ان لا تقتل البويضة بعد التلقيح وخلوها من الاضرار المعتد بها والتي لا تحتمل.
إن تنزه المسلمين عن الغزو والسبي والوأد مقدمات لعمارتهم الأرض بذكر الله والإستغفار وفيه آية إعجازية وهي أن الله عز وجل أصلح أمة عظيمة من الناس وهم المسلمون ليعملوا بمضامين آيات الذكر والإستغفار وما فيها من الفيض وشآبيب الرحمة التي تنزل معها وبالعمل بها، ويكونوا أسوة حسنة للناس وحجة عليهم.
قانون الإعجاز الواقعي للقرآن
لقد أراد الله عز وجل للقرآن البقاء إلى يوم القيامة بخصائصه الإعجازية، ففي كل زمان تقتبس مسائل وتستقرأ قوانين وتستنبط قواعد من آيات القرآن.
وفيه أمور:
الأول: تثبيت آيات القرآن في الأرض رسماً وتلاوة.
الثاني: حث العلماء على الغوص في كنوز ألفاظ القرآن .
الثالث: دعوة الناس للتصديق بنزول القرآن من عند الله.
الرابع: الإنتفاع الأمثل من التنزيل، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ أن المسلمين ينهلون من خزائن القرآن ويفيضون على أهل الملل منه أسباب الصلاح بالسمت الحسن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وفي آيات بناء البيت الحرام قال الرازي إنما قال:{وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت} ولم يقل يرفع قواعد البيت لأن في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام من تفخيم الشأن ما ليس في العبارة الأخرى)( )، ولكن دلالات اللفظ القرآني أعم وأعظم، ومنها في المقام أمور:
الأول: بين البيت والقواعد عموم وخصوص مطلق، فالبيت أعم في بنائه ومدته وعمارته.
الثاني: ظاهر الآية أن إبراهيم لم يتم بناء البيت، وكأنه مرآة للدين والملة، وأن كماله يكون بأمور جاءت مجتمعة ومتداخلة ومتصلة وتتصف بالدوام وهي:
الأول: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: نزول القرآن.
الثالث: دخول الناس في الإسلام أفواجاً وهو من مصاديق قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
الثالث: من أسرار ذكر القواعد على نحو الخصوص أن كل بناء وعمارة في البيت الحرام متخلفة عن حاجة البيت والمسلمين لذا ما أن تجرى توسعة في البيت ولوازم الحج وتنفق الأموال الطائلة فيها حتى يتبين أن الحاجة للزيادة فيها ظاهرة، ولكن هذا التبيان لا يحجب المنافع العظيمة لتلك التوسعة والجهود المبذولة في عمارة البيت، وهو من أسرار وضع البيت للناس جميعاً.
الرابع: قد قسمنا الإعجاز القرآني إلى الإعجاز الذاتي والغيري ونقسم كل قسم منهما إلى أقسام.
ونذكر في المقام وجوهاً من الإعجاز الغيري:
الأول: الإعجاز الواقعي: ومعناه أن الوقائع والأحداث اليومية المتجددة شاهد على إعجاز القرآن سواء في ميدان العبادات والمعاملات والإجتماع أو التجارات أو السياسة أو الفتن والحروب وغيرها.
فتجد مصاديق تتجلى في عالم الأفعال والأخلاق والتغييرات الحادة والمتدرجة عند الناس، ومنها عمارة البيت الحرام من قبل المسلمين عموماً وإيلاء الحكام وأهل الحل والعقد منهم عناية خاصة بالبيت الحرام وبنائه وتوسعته والسهر على العناية بوفد الحاج وحاجاتهم وأسباب أدائهم المناسك.
فقوله تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ]، دعوة للحكام لإتمام بناء البيت.
الثاني: الإعجاز العلمي: وهو على شعبتين:
الأولى: الذي يختص بالعلوم المكتشفة , والتي تكون كالتفسير المعلق للآية القرآنية، فمن إعجاز القرآن حضور آياته عند الإكتشافات العلمية.
الثانية: ويتعلق بما يحدث في النجوم والكواكب، وما تظهره العلوم والدراسات الحديثة لعلماء الفلك من الأسرار العجيبة مما يدل على بديع صنع الله وعظيم قدرته، وموافقة الإكتشافات لما في القرآن من أنباء الغيب والإشارة إليها.
الثالث: الإعجاز الأخلاقي وهو آثار وبركات القرآن في السنن الأخلاقية والآداب العامة التي يكون عليها المسلمون والناس جميعاً بلحاظ قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
فلم يرتق المسلمون لهذه المنزلة الرفيعة إلا بالقرآن والعمل بأحكامه ليكونوا بتقيدهم بآداب القرآن أسوة وأئمة للناس في الأخلاق الحميدة، ويتجلى مثلاً في تنزه المسلمين من الرذائل والفساد في الأرض والقتل بغير حق .
إن عدم الإصرار على المعصية، سور جامع للوقاية من السيئات لذا جاءت الآية بذم هذا الإصرار.
قانون دعوة إبراهيم
إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لعظم منزلة الخلافة عن الله عز وجل، وما فيها من معاني السيادة وتسخير الأشياء للإنسان، وإطلاق تصرفه فيها وصيغ المعاملة بين الناس وما يترتب على غريزة الطمع والحرص وغلبة النفس الغضبية الشهوية، وورد حكاية منهم في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ليبين الملائكة حقيقة وهي أن حياة الناس في الأرض سوف تكون مختلفة عن عالم السماء، وما يتصف به الملائكة من الطاعة والإنقياد والمطلق إلى الله وإنقطاعهم إلى العبادة، وهذا الإنقطاع من أسرار عصمة أهل السماء من الخصومة والخلاف.
وليس من حصر لمضامين ومصاديق رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، والتي تجعل الإنسان يتعاهد مقامات الخلافة في الأرض ويتنزه عن الفساد وسفك الدماء.
فإن قلت إن القتل في الأرض مستمر وأن الحروب تطحن أرواح الملايين من البشر ظلماً ومن دون غايات حميدة وترى أربابها يؤاخذون المسلمين لأنهم قتلوا في سنوات الدفاع عن الإسلام أيام النبوة بضعة مئات لتبقى بركات الإسلام في الأرض، وتمنع سيادة وظهور أحكامه طغيان الفساد وإشاعة القتل.
ومن مصاديق علم الله عز وجل في موضوع خلافة الأرض ملازمة حضور النبوة، وهو من بديع صنع الله إذ أن هذا الحضور على قسمين متعاقبين:
الأول: تعاقب الأنبياء بأشخاصهم، فما هبط الإنسان إلى الأرض إلا والنبوة معه، لأن آدم عليه السلام نبي رسول، وفي حديث لأبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم(يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال: “آدم” قلت: يا رسول الله ونبي كان؟ قال: “نعم نبي مكلم” قال: قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: “ثلثمائة وبضعة عشر جمًّا غفيرًا”)( ).
الثاني: إنقطاع النبوة، وعدم نزول الوحي، وتبدأ هذه المرحلة من يوم مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ليختص بأمر وهو إجتماع النبوة وإنقطاعها بشخصه الكريم، وكانت علة خلق الناس هي عبادة الله , ولا تصح العبادة بلا نبوة، وليس من وحي وتنزيل بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فبه إنقطعت أخبار السماء، والله عز وجل هو الرؤوف الرحيم بخلقه الذي لا يتركهم وشأنهم بل يقربهم بلطفه إلى منازل الهداية والصلاح .
وقد تقدم في الجزء السابق قانون (الأبواب الثلاثة) ( )، وأن الرزق نازل من عند الله، والتوبة صاعدة من العباد بفضل منه تعالى ، وكأن الرزق مدد وعون للتوبة وحث يومي حسي متجدد عليها.
وتكون آية البحث مدداً سماوياً وترغيباً بالتوبة وتذكيراً بالذكر , وهي سبب للفضل والزيادة في الرزق الكريم من الله عز وجل ومن مصاديق بقاء الوحي والنبوة في الأرض بالقرآن والسنة النبوية.
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين بقاء أحكام رسالته حية حاضرة في كل زمان وسلامة القرآن من الزيادة والنقصان، فلا تغادر النبوة الأرض إلى يوم القيامة، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ تجدد معاني وأفراد الرحمة الإلهية من نبوته ، وإنتفاع الناس الأمثل منها في كل جيل.
فكما جاءت دعوة إبراهيم عليه السلام لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أجل حفظ النبوة في الأرض، وتعاهد الناس للمناسك ومنها أداء الحج، ونجاة الناس من درن الشرك والضلالة فلقد جاهد إبراهيم دولة الكفر، وإحتج على نمرود الذي طغى في الأرض وإدعى الربوبية فهيأوا له النار ليحرقوه لولا أن نجّاه الله عز وجل.
وفي المرسل ( عن قتادة عن بعضهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : كانت الضفدع تطفئ النار عن إبراهيم، وكانت الوزغ تنفخ عليه، ونهى عن قتل هذا وأمر بقتل هذا.
وعن ابن عباس قال: لما جمع لإبراهيم عليه السلام ما جمع وألقي في النار، جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله؟ فكان أمر الله أسرع، قال الله:{كوني برداً وسلاماً}( )، فلم يبق في الأرض نار إلا طفئت)( ).
وجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتتجدد معجزاته في كل زمان وإلى يوم القيامة بأمور:
الأول: إنقطاع حكم الطواغيت في الأرض، فليس من ملك جبار يدّعي الربوبية بعد بعثة النبي.
الثاني: تجلي معاني الخضوع والخشوع على الحكام المسلمين.
الثالث: قيام المسلمين في كل زمان ومكان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذه الوظيفة مركبة من شعبتين:
الأولى: مناجاة المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم، وإتخاذه بلغة لإستدامة صلاحهم وإصلاح أعمالهم.
الثانية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رسالة المسلمين للناس ومرآة لبقاء نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وشاهد على حاجة الناس لها، وتأكيد لدعوة وبشارة إبراهيم والأنبياء السابقين بنبوته، وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ]( ).
(عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ،”قَوْلُهُ: “رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ” يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ، وَهُوَ كَائِنٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ”)( ).
ولم يبعث الله رسولاً من ذرية إبراهيم وإسماعيل معاً إلا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وجاء على فترة من الرسل وبين ظهراني أمة فشى فيها الكفر، وشاعت بها عبادة الأصنام، قال تعالى[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ]( ).
لقد كان إبراهيم رسولاً نبياً فهل جاء دعاؤه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الوحــي أم أنه إجتهاد منه وأن قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، خــاص بالنبـي محمد صـلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب هــو الأول فقد بنى إبراهيم البيــت بأمــر الله عز وجل، وجاء دعاؤه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أثناء بنائه وتثبيت أركانه لتكون الغاية من رفع قواعد البيت إعلاء كلمة التوحيد بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن الضحاك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا دعوة إبراهيم قال وهو يرفع القواعد من البيت{ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} حتى أتم الآية)( ).
لقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة إثنين من كبار الأنبياء هما إبراهيم وإسماعيل , وفي آن وزمان واحد عند أشرف بقعة في الأرض، وأثناء بناء صرح العبادة الذي يستقبله المسلمون في صلاتهم خمس مرات في اليوم , قال تعالى[وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( ).
ليبقى البيت من مظان إستجابة الدعاء بالمصداق السامي الخالد وهو إستجابة دعاء إبراهيم عليه السلام , وهذا المصداق هو إستدامة وراثة أمة محمد لسنن السماء.
ويحتمل دعاء إبراهيم وإسماعيل في هذه الآية وجوهاً:
الأول: يقوم إبراهيم عليه السلام بالدعاء، ويؤمن إسماعيل على دعائه.
الثاني: يشترك إبراهيم وإسماعيل بالدعاء في مجلس واحد.
الثالث: يسمع إسماعيل دعاء أبيه إبراهيم فيحاكيه ويكرره، وهل هذا التكرار من الإلحاح في الدعاء , الجواب نعم , فصحيح أن الأصل في الإلحاح إتحاد الداعي ولكن ذات الدعاء جاء متكرراً ومتوارثاً بين الأنبياء لتتجلى فيه نكتة عقائدية وهي إدراك الأنبياء لحاجة أهل الأرض بأجيالهم المتعاقبة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: تولى إبراهيم الدعاء وعندما إنتقل إلى الرفيق الأعلى إستمر إسماعيل في ذات الدعاء , ليكون من تركة إبراهيم له وفيه آية في فلسفة وأسرار النبوة، وهي أن الأنبياء يتوارثون العلم ويتجلى خارجاً بالدعاء والمسكنة إلى الله لإصلاح الذراري.
الخامس: بادر كل من إبراهيم وإسماعيل بذات الدعاء على نحو مستقل.
السادس: يدعو كل من إبراهيم وإسماعيل بذات الدعاء في مجلس واحد، أي أن إسماعيل يقول ذات كلمات الدعاء ولا يكتفي بقول(آمين).
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية ووردت الآية بصيغة المثنى(وأجعلنا مسلمين) وفيه دعوة للمسلمين للإشتراك والتآزر في الدعاء , ومن أسراره أن ذات الدعاء تأديب وتفقه في الدين وإذ إستجاب الله عز وجل لدعاء إبراهيم وإسماعيل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهوره وأمته وبناء صرح التوحيد في الأرض ففيه وجوه محتملة:
الأول:إنقطاع هذا الدعاء بتحقق مصداقه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني:إستدامة موضوع وتجدد مضامين دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ومن الإعجاز فيه أنه جاء على نحو العموم في الذرية الذي يقترن إنطباقاً بالإطلاق الزماني كما ورد في التنزيل[وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ]( ).
فكل فرد من الأجيال المتأخرة على ذات الملة والدين الذي عليه الأجيال المتقدمة من ذراري إبراهيم وقريش وأهل البيت الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث:تأتي أمة محمد بذات الدعاء الذي جاء به إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
والصحيح هو الثاني والثالث.
لقد سأل إبراهيم وإسماعيل الإسلام لله , أي الإنقياد لأوامره سبحانه، ليتعاهد الأنبياء الإسلام , وفي يعقوب ورد قوله تعالى [وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( )، وجاء عن يوسف في التنزيل[تَوَفَّنِي مُسْلِمًا]( )، وتتجلى معاني تثبيت الإسلام بين الناس وعند أتباع الأنبياء في آيات عديدة منها قوله تعالى في عيسى والحواريين [قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ]( ).
لقد سأل إبراهيم وإسماعيل الإسلام لها ولذريتهما بلحاظ الأفراد الطولية للذرية إذ تشمل الأبناء الصلبيين والأحفاد وأبناء الأحفاد، أما أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنها بفضل الله أمة من أعراق متعددة، قال تعالى[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]( ).
فلم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا إلا ودولة الإسلام تحكم في الأرض وسنن الإسلام تسود بين الناس، وآيات التنزيل تتلى خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني على كل مكلف ومكلفة.
وورد في المرسل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال تسمى الله باسمين، سمى بها أمتي: هو السلام، وسمى أمتي المسلمين، وهو المؤمن، وسمى أمتي المؤمنين، والله تعالى أعلم)( ).
ومع مرتبة النبوة التي فاز بها إبراهيم وإسماعيل الثبات على الإسلام، وفيه إقرار بأن إستدامة الإيمان بفضل ولطف من الله عز وجل.
وأخرج عن أم سلمة( ): أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول:
اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قلت: يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب؟!
قال: نعم ما من خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله أقامه، وإن شاء أزاغه , فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب
قلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي , قال: بلى
قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني)( ).
وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني دعوت للعرب، فقلت: اللهم من لقيك منهم مؤمناً موقناً بك مصدقاً بلقائك، فاغفر له أيام حياته. وهي دعوة أبينا إبراهيم، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة، ومن أقرب الناس إلى لوائي يومئذ العرب( ).
ولم ينحصر إنتفاع المسلمين من إبراهيم ونبوته بدعائه للمسلمين بل إتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون جهاده في سبيل الله ودعاءه مطلقاً سبيلاً لتثبيت الإيمان في النفوس، ومناسبة للتضرع إلى الله عز وجل.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا قول إبراهيم (عليه السلام) {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقول عيسى عليه السلام {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}
فرفع يديه( ) ثم قال: اللهم أُمتي اللهم أُمتي وبكى، فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسأله ما بك، فأتى جبرئيل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فقال الله : يا جبرئيل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أُمتك ولا يسؤك)( ).
وصحيح أن رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو شفاعته لأمته، إلا أن آية البحث من فضل الله، وفيها هي الأخرى رضا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها توطئة للشفاعة، ومغفرة ومحو لذنوب المؤمنين وهم في الدنيا وقبل أن يغادروها بشرط ذكرهم لله ولجوئهم لسلاح الإستغفار.
قانون(السكينة)
من الآيات أن الوحي له ثقل وخصوصية، لأنه أمانة السماء ووديعة عالم الملكوت , وأصل وسنخية الخلافة في الأرض , وعن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي , فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سري عنه: فقال: اكتب فكتبت في كتف{لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله}( )إلى آخر الآية.
فقال ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى لما سمع فضل المجاهدين: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقا : اقرأ يا زيد فقرأت{لا يستوي القاعدون من المؤمنين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب{غير أولي الضرر)( ).
وفي الحديث مسائل:
الأولى: بيان حقيقة وهي أن السكينة أثر مبارك لنزول الوحي ومصاحب له , قال تعالى[ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
والسكينة فعيلة من السكون وهو الطمأنينة والوقار، وهي في الحديث مقدمة لنزول الوحي ومظهر له، ودعوة للناس للسكون والتدبر في كنه ودلالات آية الوحي، وقد كان بعض أعضاء وفود القبائل يلازم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يرى كيفية نزول الوحي، وحالما يراه يزداد إيماناً.
الثانية: هذه السكينة شاهد على أن الوحي أمر خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما ينزل على أحد غيره، فالسكينة غير الوحي، وهي مقدمة له وسابقة له معه.
الثالثة: تتداخل السكينة مع الوحي في الماهية والحال، فهي لا تغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول الوحي بل تصاحب نزوله، وحينما ينتهي الوحي والتنزيل هل تغادر السكينة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على نحو السالبة الكلية.
الجواب لا، فالذي يرتفع منها هو المقدار الذي يكون فيه إنقطاع تام إلى التنزيل وإستعداد لتلقي الآيات لتبقى السكينة التي تساعد في رسوخها في القوة الحافظة ونقشها في الوجود الذهني، لذا فحالما سري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بكتابة الآية أي أنه ساعة الأمر بالكتابة وإملاء الآية أو الآيات في حال سكينة إضافية أيضاً، لتكون السكينة عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه:
الأول: السكينة المصاحبة له بالليل والنهار، وهي من خصال النبوة وأسباب العصمة والحكم بأمر الله , وكانت تنزل على الأنبياء السابقين، قال تعالى في طالوت[إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، عن الإمام علي عليه السلام أن رجلاً قال له: ألا تخبرني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض؟ قال: لا، ولكنه أول بيت وضع للناس فيه البركة والهدى، ومقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً، ثم حدث أن إبراهيم لما أمر ببناء البيت ضاق به ذرعاً فلم يدر كيف يبنيه، فأرسل الله إليه السكينة وهي ريح خجوج ولها رأسان فتطوّقت له على موضع البيت، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فبنى إبراهيم، فلمّا بلغ موضع الحجر قال لاسماعيل: اذهب فالتمس لي حجراً أضعه ههنا. فذهب اسماعيل يطوف في الجبال، فنزل جبريل بالحجر فوضعه، فجاء اسماعيل فقال: من أين هذا الحجر؟! قال: جاء به من لم يتكل على بنائي ولا بنائك)( ).
الثاني: السكينة التي تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة للوحي والتنزيل.
الثالث: السكينة التي تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند مجيء جبرائيل وتلاوته الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحيث يكون قادراً على تلقي الوحي وحفظه والتدبر فيه.
الرابع: بقايا سكينة الوحي ومقدماته، فعندما يغادر الملك والوحي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فإن السكينة التي جاءت معه لا تغادر معه في الحال بل تبقى عند النبي ليتلو الآيات ويكتبها الكتّاب.
الخامس: سكينة الوقائع , وهي التي تنزل عند الحوادث وملمات الأمور، وفي التنزيل[ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( )، روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل الحديبية بعثت قريشٌ سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العُزَّى، ومِكْرَز بن حفص، على أن يعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك، على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، ففعل ذلك، وكتب بينهم كتاباً، فقال صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل وأصحابه ما نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم .
ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه رسولُ الله أهلَ مكة فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمدٌ بن عبد الله أهلَ مكة، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتب ما يريدون، فأنا أشهد أنّي رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله فهمّ المسلمون أن يأبَوا ذلك، ويبطشوا بهم، فأنزل الله السكينة عليهم، فتوقّروا وحلُموا
فكتب عليّ رضي الله عنه: هذا ما قضى عليه محمد رسول الله فلما أَبَوا ذلك، قال صلى الله عليه وسلم لعلي: امح رسول الله، واكتب: محمد بن عبد الله، (فقال: لا والله لا أمحوك أبدا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب: “هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله: لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب، وألا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه، وألا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها” فلما دخلها ومضى الأجل، أتوا عليا فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل)( ).
والسكينة هنا الثبات والحلم والتؤدة، وملكة تقابل حمية الجاهلية بالأخلاق الحميدة والسماحة، وملكة التنزه عن الثأر والإنتقام، وفيه حجة بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف والغضب بل بالحكمة والحجة، فمع السكينة يكون البيان والبرهان.
السادس: جاءت السكينة في الآية أعلاه بصيغة المفرد والمراد الجنس، وتحتمل في ماهيتها وكيفيتها جهات:
الأولى: ذات السكينة التي تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنزل على المؤمنين سواء في الجنس أو الفصل أو الكيف والمقدار.
الثانية: ما ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر وأعظم من السكينة التي تنزل على كل واحد من المؤمنين، وكأنهم يشتركون بشطر منها، ويختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشطر الآخر لتكون النسبة بينهما في المقام هي العموم والخصوص المطلق.
الثالثة: نسبة التباين فالسكينة التي تنزل على النبي رشحة من رشحات الوحي وهي غير السكينة التي تنزل على المؤمنين والأرجح الثالثة، ليشارك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين سكينة الإيمان، ويختص بسكينة الوحي والتنزيل.
وليس من تزاحم بين هذه الوجوه، وبعضها في طول بعضها الآخر، نعم يبقى الوجه الأول ملازماً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتغشاه في يقظته ونومه، لذا ورد أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه(وبالإسناد عن ابن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي.
قال سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم شيئاً فعرفتموه لتتابعني؟
قالوا: فذلك لك قالوا: أربع خلال نسألك عنها: أخبرنا أي طعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وأخبرنا كيف ماء الرجل من ماء المرأة وكيف الأنثى منه والذكر، وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم، ومن وليه من الملائكة.
فأخذ عليهم عهد الله لئن أخبرتكم لتتابعني، فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق قال: فأنشدكم بالذي أنزل التوراة هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً طال سقمه، فنذر نذراً لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه، وكان أحب الطعام إليه لُحْمَان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟
فقالوا: اللهم نعم فقال: اللهم اشهد قال: أنشدكم بالذي لا إله إلا هو هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، إن علا ماء الرجل كان ذكراً بإذن الله وإن علا ماء المرأة كان أنثى بإذن الله؟
قالوا: اللهم نعم قال: اللهم اشهد
قال: فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن النبي الأمي هذا تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: نعم قال: اللهم اشهد عليهم.
قالوا: أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نتابعك أو نفارقك؟ قال: وليي جبريل ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه
قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة لا تبعناك وصدقناك قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: هو عدوّنا فأنزل الله تعالى{من كان عدواً لجبريل}( ) إلى قوله{كأنهم لا يعلمون})( ).
بحث منطقي في الآية
ينقسم اللفظ بلحاظ دلالته على المعنى وظهوره فيه إلى أقسام:
القسم الأول: الدلالة المطابقية أو التطابق بين الاسم والموضوع للشيء، مثل اسم القرآن وإرادة ما بين الدفتين منه، وفي آية البحث بحسب هذه الدلالة مسائل:
الأولى: الإخبار الإلهي عن عظيم منزلة المتقين عند الله.
الثانية: الوعد الكريم من الله بحسن جزاء المؤمنين.
الثالثة: بيان الثواب العظيم الذي يفوز به المؤمنون.
الرابعة: تأكيد حقيقة وهي أن المؤمنين في الآخرة[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الخامسة: السعة والمندوحة في إقامة المؤمنين في الآخرة، وهذه السعة، وإخبار الآية عن كون عرض الجنة يستغرق السماوات والأرض من النعيم الدائم الذي وعدهم الله عز وجل به من وجوه:
الأول: الإخبار عن سعة الجنة بما يفوق التصور الذهني.
الثاني: نزول الإخبار عن سعة الجنة من الله عز وجل[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
الثالث: قد يذنــب المــؤمن وقد تــرتكب المؤمــنة المعصية , ولكن الله عز وجل لم يتركهما منفردين مع الذنب وإبليس، بل فتح عليهما باب التوبة والمغفرة، جزاء عاجلاً منه تعالى على إيمانهما وتصديقهما بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله.
الرابع: حينما ينجو المؤمن من فعل الفاحشة فقد يقع في ظلم النفس، وجاء في باب الطلاق ولزوم عدم ظلم المرأة والتعدي على حقوقها قوله تعالى[وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( )، ومن ظلم النفس الذنوب التي بين العبد وبين ربه كالتخلف عن أداء الفرائض المؤقتة إلا بعد خروج وقتها فجاءت آية البحث لمحو هذه الذنوب بالإستغفار.
السادسة: إنحصار غفران الذنوب بالله عز وجل، وهو من معاني الربوبية المطلقة له سبحانه، فلم يفوض الله لأحد من خلقه مغفرة الذنوب، وعدم التفويض هذا من سعة رحمته بالناس، لتكون هذه الآية من مصاديق هذه الرحمة.
القسم الثاني: الدلالة التضمنية أو الدلالة بطريق التضمن , بأن يأتي لفظ العام بالدلالة على الجزء الخاص منه مثل لفظ الإنسان على بدنه وجوارحه، ولفظ القرآن على السورة، ولفظ السورة على الآية منها، وقيل وتشمل هذه الدلالة الوصف الخاص على العام أي بالعكس فيدل لفظ الآية على السورة.
وفي آية البحث وفق هذه الدلالة مسائل:
الأولى: حب الله للمتقين بهدايتهم إلى سبل التدارك عند الزلل، وقد جاءت توبة آدم موعظة وعبرة للمسلمين، فعندما أكل آدم وحواء من الجنة , وأمره الله عز وجل بأن يهبط إلى الأرض تفضل سبحانه وتاب عليه وهو في الحياة الدنيا، وفي التنزيل[فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
وإختتام الآية أعلاه بذكر كل من صفة التواب والرحيم دعوة للمسلمين والمسلمات لنيل العفو والمغفرة من الله عز وجل , لاسيما وأن آدم نبي ورسول وإمام للمتقين.
الثانية: ذكرُ الله وظيفة دائمة تصاحب المسلم في ليله ونهاره، وهذه المصاحبة طريق لبلوغ النعيم الدائم في الآخرة، فتفضل الله عز وجل وفرض الصلوات اليومية الخمس فهي رحمة إختص الله عز وجل المسلمين بها.
وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات)( ).
الثالثة: في آية البحث تلاوة وتدبراً تنمية لملكة ذكر الله، وصيرورة المسلم يواظب عليه عند إرتكاب معصية وعند ظلم النفس ومطلقاً.
وعن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني أحبك لا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)( ).
الرابعة: تنزه المسلمين عن الإصرار على الذنوب، وجعلهم يدركون قبح التلبس بها.
الخامسة: مع علم المسلمين بأن الله عز وجل هو الذي يغفر الذنوب، ومواظبتهم على الذكر والإستغفار , فإنهم يتصفون بخصلة حميدة وهي عدم إصرارهم على الذنوب والمعاصي، وفيه نكتة وهي أنهم ناجون من فتنة وعقبة مهلكة وهي مداهمة الحِمام للعبد وهو في حال الإصرار على الذنب والمعصية.
السادسة: قرب الجنة من المسلمين لأنهم على الصراط المستقيم الذي يؤدي إليها بمواظبتهم على الذكر والإستغفار خشية من الله عز وجل، قال تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ]( ).
القسم الثالث:الدلالة الإلتزامية، أي الإشارة إلى أمر بملازمته أو تبعيته للمذكور كدلالة النهار على الشمس، والكتابة على القلم، وهذا القسم
الثانية: تدعو آية البحث إلى الذكر والإستغفار، والثاني من مصاديق الأول، وكذا العكس من غير أن يحصل بينها دور، لأن كل واحد منهما في طول الآخر.
الثالثة:في الآية تذكرة بشدة عذاب الذي يرتكب الذنوب، ويلاقي الله عز وجل بغير توبة وإستغفار منها، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا]( ).
الرابعة: بيان علامة يعرف بها المسلمون في الدنيا والآخرة، وهي ملازمتهم لأشرف الأذكار، ودأب ألسنتهم بالنطق بالاسم الأعظم وفزعهم إلى الإستغفار، وعدم إقامتهم على المعاصي.سواء على القول بأنه اسم الجلالة (الله) أو أن كل اسم من أسمائه هو أعظم كما في قول (يارحمن،يا رؤوف،يا غفار، يا لطيف يا خبير)
الخامسة: سيرة المسلمين حجة على الناس جميعاً، ودعوة لهم للتنزه في رياض الذكر، وحدائق الإستغفار، والتبرأ من الذنوب.
السادسة: حث الناس على إكتساب العلوم لأن آية البحث ذكرت المسلمين بصيغة المدح والثناء[وَهُمْ يَعْلَمُونَ] وفيه آية بالملازمة بين الإيمان والعلم.
السابعة:تطرد آية البحث الغفلة عن المسلمين , لذا جعل الله عز وجل قراءة القرآن واجباً متكرراً عدة مرات في اليوم، ففي كل ركعة من الصلوات اليومية الخمس قراءة للقرآن على نحو الوجوب، ومن الإعجاز في هذا الباب أن القراءة في الصلاة جامعة لوجهين:
الأول: التعيين في سورة مخصوصة في كل ركعة، وهي سورة الفاتحة.
الثاني:التخيير بقراءة آيات وسورر أخرى من القرآن مع سورة الفاتحة وبشرط الترتيب بمجيئها بعد سورة الفاتحة.
وقال الرازي بخصوص الدعاء ( أما إذا قال (يا هو) فإنه يعرف أنه هو ، وهذا الذكر لا يدل على شيء غيره ألبتة ، فحينئذٍ يحصل في قلبه نور ذكره ، ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير الله ، وهناك يحصل في قلبه النور التام والكشف الكامل( ).
ولكن لفظ(هو) ضمير منفصل، وصحيح أنه يقوم مقام الاسم الظاهر ولكن الغرض منه الإختصار ولا يأتي إلا مع القرينة والإشارة وتقدم ذكر الإسم، إلا انه لا يكون في المنادى خصوصاً في الأسماء الحسنى، ولزوم البيان والوضوح فيها ورجاء الثواب من الإتيان بأي واحد منها، ولأن كل اسم منها له دلالات عقائدية ومعاني قدسية .
ولعل أصل هذا القول هو إعتبار الرازي لثلاثة أسماء في قوله تعالى[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] وورد في تفسيره للآية أعلاه (وقوله هو) إشارة مطلقة والإشارة وإن كانت مطلقة إلا أن المشار إليه لما كان معيناً انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين( ).
إنما جاء الإنصراف والتعيين بالبيان وذكر اسم الجلالة في ذات الآية، وبأنه سبحانه واحد، ومن يقول (يا هو) ما عليه أن يقول(يا هو الله) وفيه الثواب والأجر ومغفرة الذنوب.
وقد ورد لفظ ( قل هو) عشر مرات في القرآن كلها خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ست منها في الثناء على الله عز وجل تستبين بما بعدها مثل قوله تعالى[قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ]( )، وورد بخصوص يوم أحد والضرر الذي لحق المسلمين يومئذ.
والنداء بالضمير في الدعاء أقرب إلى دلالة الإيماء وفق إصطلاح علم الأصول، وهي من دلالة الإلتزام، وكذا منها دلالة الإقتضاء والإشارة والتنبيه، وهي من المنطوق غير الصريح، ومنهم من جعلها من المفهوم، والأول أعلاه مقدم على الثاني أي على المفهوم.
ودلالة الإيماء هي ذكر وصف مقترن بحكم وارد في النص بحيث يكون هذا الوصف علة الحكم، ومنه مثلاً ما يترشح عن الجمع بين قوله تعالى[وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا]( )، وقوله[وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ]( )، بأن أقل مدة في الحمل ستة أشهر.
وقد يأتي الترجيح بقرينة خارجية مقالية أو حالية مثل كون الموضوع هو الدعاء وسؤال المغفرة وهو أمرلا يتوجه فيه المسلم إلا لله لقوله تعالى في آية البحث[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ]( ).
وقد ورد القرآن بالأمر بدعوة الله عز وجل بأسمائه الحسنى[وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( )، ويدل في مفهومه على التقيد بها في الدعاء والمسألة رجاء الثواب.
وقيل في سبب نزول الآية أن أبا جهل سمع بعض الصحابة يقرأ، فيذكر الله مرة، والرحمن أخرى، فقال: يزعم محمد أن الإله واحد، وها هو يعبد ألهة كثيرة فنزلت الآية لتبين أموراً:
الأول: أن الله عز وجل هو الإله وحده وله أسماء كثيرة.
الثاني:تعدد الأسماء تأكيد لعظمة مقام الربوبية وقدرة الله.
الثالث:الحسن الذاتي لأسماء الله عز وجل، وتلاوتها جنة حاضرة وسكينة ظاهرة.
الرابع:كل اسم من أسماء الله له دلالات عقائدية.
الخامس:دعوة المسلمين للتوسل بأسماء الله عز وجل، مجتمعة ومتفرقة.
السادس: بعث الفزع في قلوب الكفار.
السابع: بيان سنخية الكمال والجلال في أسماء الله، وكل اسم منها زاجر عن الإلحاد والشرك وأسباب الشك والريب.
الثامن: تعداد أسماء الله عز وجل من ذكر الله عز وجل الذي ذكرت الآية.
التاسع:كثرة أسماء الله مناسبة ليتوسل به المسلم لمغفرة ذنوبه ومن أسمائه تعالى في باب المغفرة: الغفور، الغفار،غافر الذنوب، العفو.
يحذر القرآن من الإبتعاد عن الأسماء الحسنى في الدعاء وقد جاء حكاية عن فرعون[أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( )، ويدل وفق مفهوم المخالفة على لزوم دعاء الله بأسمائه الحسنى الخاصة به.
فإن قلت الأعلى من صفات الله الجواب نعم قال تعالى[سَبِّحْ اسم رَبِّكَ الأَعْلَى]( )، ولكن الصفة لا تكون بمرتبة الاسم إلا إذا كثر إستعمالها كما تستعمل الأسماء، ومن اسماء الله(العلي).
قانون(الذكر جهاد)
لقد أصلح الله عز وجل الأرض للإنسان وسخّرها لحاجاته ورغباته وآماله، وما أن هبط إليها حتى نزل معه إبليس للفتنة والإفتتان، ولم يخل الله عز وجل بين الإنسان وأعدائه، بل جعل أسباب الهداية والرحمة هي الأكثر والأعم.
وإذا كانت عداوة الإنسان تنحصر بإبليس وجنوده، قال تعالى[إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا]( )، فإن أسباب المودة والأخوة والإيمان أكثر من أن تحصى، بالإضافة إلى المائز في الكيفية والموضوع والأثر المترتب على هبوط حواء مع آدم وبصفة الزوجية التي تحلت بها من حين خلقها، قال تعالى[هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا]( )، ليؤازر أحدهما الآخر في أداء العبادات والمناسك وفي الجهاد في سبيل الله، وليكون من الحكمة في خلق الإنسان الإثنينية والتعدد في العيش وأداء العبادات، وقد أدى آدم وحواء الحج معاً.
ومن علل تسمية جبل المروة أن حواء هبطت عليه، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال (هبطت حواء على المروة و إنما سميت المروة لأن المرأة هبطت عليها فقطع للجبل اسم من اسم المرأة و سمي النساء لأنه لم يكنلآدم أنس غير حواء)( ).
عن عامر الشعبي قال: كان وثن بالصفا يدعى أساف ووثن بالمروة يدعى نائلة ، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين وليس الطواف بهما من الشعائر! فأنزل الله { إن الصفا والمروة . . . } الآية . فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه ، وأُنِّثَتْ المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثاً)( ).وعلة التسمية هذه غير صحيحة .
وذكر خبر آخر يختلف عنه عن محمد بن إسحاق : أن عمرو بن لحي نصب على الصفا صنما يقال له نهيك مجاود الريح ، ونصب على المروة صنما يقال له مطعم الطير)( ).
ويمكن أن نؤسس قاعدة كلية في المناسك , وهي لو دار الأمر في التسمية الواردة في القرآن هل هي موجودة قبل الإسلام، أم أنها تسمية مستحدثة، فالأصل هو الأول، وقد تعددت الأخبار في سعي آدم وحواء بين الصفا والمروة .
وفي قوله تعالى[وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا]( )(عن مجاهد قال : قال إبراهيم عليه السلام: رب أرنا مناسكنا فاتاه جبريل فأتى به البيت فقال: ارفع القواعد . فرفع القواعد وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه ، فانطلق به إلى الصفا قال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به إلى المروة فقال: وهذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو منى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة فقال: كبر وارمه. فكبر ورماه ، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما حاذى به جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه. فكبر ورمى، فذهب إبليس حتى أتى الجمرة القصوى، فقال له جبريل: كبر وارمه. فكبر ورمى، فذهب إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئاً فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام، ثم ذهب حتى أتى به عرفات قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاث مرات. قال: نعم. قال: فأذن في الناس بالحج. قال: وكيف أؤذن؟ قال: قل يا أيها الناس أجيبوا ربكم ثلاث مرات، فأجاب العباد لبيك اللهم ربنا لبيك، فمن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق فهو حاج)( ).
وعلة تحرج الأنصار من السعي بين الصفا والمروة هي أن الكفار كانوا يسعون بينهما ولا يريدون مخالطتهم في ذات الموضع , ونزول الآية الكريمة أعلاه بسبب هذا الحرج تبين موضوعية الجبلين في مواطن العبادة , ومظان الدعاء وتمام مناسك الحج.
وقد أجمع علماء الإسلام على وجوب السعي بين الصفا والمروة , وهو ركن في الحج والعمرة , وخالف الفرد القليل من الفقهاء الذي لا يقوى قوله على معارضة الإجماع , وظاهر الآية الكريمة التي إختصتها بصفة عظيمة وهي كونها من شعائر الله، وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنصوص المتواترة وسيرة المسلمين، ونسب إلى أبي حنيفة أنه قال باستحباب السعي بينهما.
وجاء قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، عاماً وشاملاً للرجال والنساء، والجهاد من أفضل أبواب الولوج إلى الجنة ولم يكتب على النساء، وفيه وجوه:
الأول:هناك أبواب أخرى بديلة عنها تنال منها المرأة الأجر بما يعادل ثواب الجهاد.
الثاني: إنه باب مغلوق عن المرأة لأنها لا تزاول الجهاد، ولا دليل على هذا القول، فالله عز وجل هو الواسع الكريم الذي يعطي الكثير بالقليل.
الثالث: صحيح أن الله عز وجل لم يكتب الجهاد على المرأة , ولكن هناك مسائل:
الأولى:تلد المرأة المجاهدين، وتصلحهم للجهاد، والمسلمة الواحدة تصلح المتعدد من الأولاد الصالحين.
الثانية:تقوم المرأة بتهيئة مستلزمات المقاتلين، وتكون مواسية لهم.
الثالثة:من النساء من شاركت في الجهاد مقاتلة بالسيف.
الرابعة:من فلسفة سقوط الجهاد عن المرأة تولي شؤون الأسرة والمال, وإذا جاءت الحرب على الرجال فان المسلمات أوعية مباركة تلد الذرية، وتقوم باعالتهم ولو بمشقة، وإذا كانت المعارك في السابق تجري بالسيف والمبارزة، والمرأة غير مؤهلة لها بحكم تكوينها العضوي وحالتها النفسية، فهل يجب عليها الجهاد في هذا الزمان وظهور الأسلحة الإلكترونية الدقيقة، ودخول المرأة معترك السياسة وتقلدها أعلى المناصب.
الجواب لا، فذات الحكم بسقوط الجهاد عنها باق إلى يوم القيامة، وقد جعلها الله عز وجل أماً لإنجاب الأولاد , والقيام باعدادهم والحرص على إعالتهم، فاذا أفنت الحرب الرجال فان النساء يبقين للولادة وتربية النشأ , وهو من أسرار تعدد الزوجات في الإسلام ، قال تعالى[فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً] ( ).
فمع قلة الرجال زمن الحروب والفتن والأوبئة يكون تعدد الزوجات حاجة للملة والمجتمع وذات النساء لتسعى المسلمة إلى الجنة الواسعة بصبرها وحسن خلقها وطاعتها لله ورسوله ثم لزوجها، إذ أنها تحافظ على سلامة دينها، وتتعاهد بناء صرح الإسلام بالجهاد الشخصي والعائلي.
وعن الإمام علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما تكون الصنيعة إلى ذي دين أو حسب ، وجهاد الضعفاء الحج ، وجهاد المرأة حسن التبعل لزوجها ، والتودد نصف الإِيمان ، وما عال امرؤ على اقتصاد ، واستنزلوا الرزق بالصدقة ، وأبى الله أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين إلا من حيث لا يحتسبون( ).
وقيل سمي الزوج بعلاً لقيامه بأمر زوجته، وقيل:أصل البعل السيد المالك.
لقد جعل الله عز وجل الدنيا كلها دار جهاد، ومنه ذكر الله عز وجل فهو مجاهدة مع النفس، وإعراض إختياري عن زينة الدنيا، وصراع ذاتي مع طول الأمل الذي لا يعلم أكثر فصوله إلا الذي[يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ).
وأخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من النار من ذكر الله . قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلاَّ أن تضرب بسيفك حتى ينقطع ، ثم تضرب بسيفك حتى ينقطع ، ثم تضرب حتى ينقطع( ).
وفي الحديث بشرى لعموم المسلمين والمسلمات، إذ أنه يجعل ذكر الله متقدماً رتبة على الجهاد في الأجر والثواب والمن والسلامة من النار، ولا يعني هذا أن الذكر بديل عن الجهاد، فليس من تعارض أو تزاحم بينهما فالمجاهد في سبيل الله ذاكر لله عز وجل بلسانه ويده، ويدعو الحديث المسلمين ليعمروا الأرض بذكر الله.
لقد جاءت تسمية الجبل بالمروة في القرآن مع بيان موضوعيته في العبادة, وهي أمارة على أن تسميته ليست جديدة أو متعلقة بوثن خصوصاً وأن هذه التسمية باقية إلى يوم القيامة، قال تعالى[إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( ).
ولم تقل الآية (إن السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله) بل جعلت ذات الجبلين من معالم الدين , ومواضع ذكر الله والمناسك , ولم يرد وصف الشعيرة على موضع في الأرض غير الصفا والمروة , وهو تشريف لهما ودعوة للمسلمين للعناية بهما، قال تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
ويأتي التعظيم للمسمى وهو ذات الجبل , وهذه المنزلة وأسرار التعظيم تترشح على الاسم هذا على القول بأن الاسم غير المسمى وهو المشهور والمختار، أما على القول بإتحادهما فإن الأمر أكثر بياناً، وفيه تأكيد للبينونة بين أسباب تسمية الصفا والمروة وبين موضوع الأوثان الذي جاء في فترة غفلة وجاهلية، قال تعالى[فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ…..إلى قوله تعالى فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ]( ).
ليجمع المسلم في كل موطن ومنسك من مناسك الحج ذكر الله والإستغفار , ويستمر الذكر بعد إنقضاء المناسك ليكون من منافع الحج والسعي بين الصفا والمروة تنمية ملكة الذكر والإستغفار.
وكان العرب إذا أتموا الحج قاموا عند البيت , وأخذوا يذكرون آباءهم وأيامهم، ويقول بعضهم كان أبي يطعم الطعام، وكان أبي يفعل، ويذكرون الأشعار التي تمجدهم وتؤرخ وقائعهم، وقد يكون فيها مدح وقدح وجرح وتعريض مما يسبب النفرة والخصومةوهم لا يزالون في البيت الحرام الذي جعله الله عز وجل آمناً وأمناً .
فجاءت الآية أعلاه وآية البحث لتأكيد لزوم الإنشغال بذكر الله، وإزاحة مفاهيم الكفر عن الصفا والمروة لأنهما من شعائر الله، وليأتي ذكر الله في المواطن التي تشهد للمسلم في الدنيا والآخرة بحسن السمت والإمتثال لأمر الله، فلا بد من أسرار في صيرورة الصفا والمروة بالذات من شعائر الله، ومنها السعي بينهما، والإجهاز بذكر الله عز وجل عليهما وإتخاذهما موضعاً للدعاء والمسألة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما جعل الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله لا لغيره( ).
علم المناسبة
وردت مادة(ذكر) في آيات كثيرة من القرآن وبصيغ متعددة، تندب إلى ذكر لله، وتبين أن القرآن ذكر وتذكرة وموعظة، وتتضمن البشارة بأن عاقبة الذكر هي الفوز بالجنة، قال تعالى[قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فَصَلَّى]( ).
ومع أن الأخبار في تفسير الزكاة في الآية أعلاه وردت بخصوص زكاة الفطر وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسمها قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر.
فقد أخرج عن عطاء أنه قال (قد أفلح من تزكى) قال: من أكثر الإستغفار)( )، وكل آية من آيات الذكر برزخ دون قسوة القلب، ورفع للجهالة، وطرد للغفلة.
ويبين قوله تعالى(فذكر اسم ربه) ماهية الذكر وأنها ليست الصفات الحسنى ودلالة عظمة المخلوقات على عظيم قدرة الله وسعة سلطانه، بل جاءت الآية بذكر اسم الله عز وجل على اللسان باسم الجلالة والربوبية والأسماء الحسنى لله عز وجل , وليس الذكر في القلب وحده، وفيه أمور:
الأول: التخفيف عن المسلمين، ومنع تشديد الفقهاء بخصوص صيغ الذكر، وتعدد التقسيمات فيه.
الثاني: فوز كل مسلم ومسلمة بالفلاح لصدق إمتثاله لمضامين الآية الكريمة في القراءة في الصلاة والتي تبدأ بالتكبير (الله أكبر) ثم البسملة ثم قول[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين نصفها لي و نصفها لعبدي فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي .
فإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله أثنى علي عبدي .
فإذا قال العبد مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي .
فإذا قال: إياك نعبد و إياك نستعين , يقول الله هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل)( ).
وورد لفظ(ذكروا الله) مرتين في القرآن، إحداهما في هذه الآية، والثانية في قوله تعالى[إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا]( )، وفي الجمع بينهما مسائل:
الأولى: جاءت آية البحث في بيان صفات المتقين، بينما جاءت الآية أعلاه فيمن إستثني من الشعراء الذين ورد ذمهم وإنذارهم بقوله تعالى [وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ]( ).
ليكون بين مصاديق الآيتين عموم وخصوص مطلق، فآية البحث عامة وشاملة لكل المؤمنين، بينما جاءت الآية أعلاه بخصوص الشعراء، وذكر أنه: لما نزلت{والشعراء…} جاء عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت ، وهم يبكون فقالوا : يا رسول الله لقد أنزل الله هذه الآية وهو يعلم انا شعراء أهلكنا؟ فأنزل الله{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}( )
فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاها عليهم)( ).
الثانية: تنبيه الشعراء إلى إتخاذ اليقظة وإجتناب الغفلة ليبقوا على الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن ابن مسعود مرفوعاً: الشعراء الذين يموتون في الإِسلام يأمرهم الله أن يقولوا شعراً تتغنى به الحور العين لأزواجهن في الجنة، والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار)( ).
وفيه نكتة وهي أن ذكر الله ينفع المؤمن في الدنيا والآخرة , ولا ينحصر نفعه وبركته بعالم الآخرة بدخول الجنة، بل يأتي بالذكر ودلائل الإيمان في محضر ومشهد من المؤمنين.
الثالثة: من صفات المتقين الإيمان وعمل الصالحات، وإجتناب الهجاء والمدح بدون حق.
الرابعة: ذكرُ الله عنوان للزهد، ورادع عن القول بغير ما يرضي الله، وزاجر عن الفاحشة بالقول والفعل.
الخامسة: إذا كان الشعراء من المؤمنين يذكرون الله كثيراً وهم جزء من المتقين فمــن باب الأولوية القطعية أن يكثر عموم المتقين الذين أعدّ الله عز وجل لهم الجنة من ذكر الله ويواظبون عليه.
السادسة: ذكر الله كثيراً من خصال العدالة الظاهرية , وعلامات الخشية من الله، ومن سنن الإيمان التي يجب أن يحرص عليها كل مسلم ومسلمة، ومن فضل الله أن القرآن جاء بالأمر بالذكر والندب إليه، فورد الأمر للمسلمين والمسلمات جميعاً بالإكثار من ذكر الله بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
والذكر على أقسام منها التهليل، والتحميد، والإستغفار، وتلاوة القرآن، وإتيان الفرائض وهو الذي نذكره إن شاء الله في الجزء التالي بقانون (مصاديق الذكر).
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: أكثروا ذكر الله حتّى يقولوا مجنون)( ).
الفورية والتراخي
أختلف في دلالة الأمر على الفورية في الإمتثال أو عدمها، وجعل التراخي مقابل الفورية ، ولكنه ليس من سبيل إلى ترشح التراخي من الأمر، إنما هو مفهوم حال عدم ثبوت الفورية، ليكون العنوان الأصولي متخلفاً عن الإنطباق على موضوعه بالدقة.
والترديد في الأمر على وجهين:
الأول:الترديد بين وجوب الفورية أو وجوب التراخي والإبطاء.
الثاني: الترديد بين وجوب الفورية أو عدمها.
ولا موضوعية للثاني في فعل الصالحات بل إن مسألة الترديد أعلاه زائدة بلحاظ آيات المسارعة والإستباق في الخيرات، قال تعالى[أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
والآية وان جاءت بصيغة الجملة الخبرية، فهي بعث للفعل، وزجر عن التراخي والتسويف في فعل الصالحات.
وقيل أن المرتكز في الأذهان هو إرادة الإستحباب، وعدم اللزوم في هذه المسارعة ولا دليل على هذا المعنى ، بالإضافة إلى كبرى كلية وهي أن المرتكز في الأذهان ليس حجة أو دليلاً، ولم يأت في القرآن والسنة ما يفوض تعيين مرتبة الفعل في أفراد الحكم التكليفي للمرتكز في الأذهان.
لقد تفضل الله عز وجل وجعل القرآن عربياً وبينّ علة هذا الجعل بقوله تعالى[قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] ( )، وصحيح أن المصلحة قد لا تفوت بترك الفورية في العمل إلا أنه لايعني عدم وجوبها، لأن عدم الفوات هذا رحمة من الله عز وجل.
وقيل أن إطلاق صيغة الأمر يدل على جواز التراخي لأن الطلب لم يقيد بالفورية، وأشكل بعض الأصوليين على إرادة الفورية الوارد قبل آيتين، قال في الكفاية(ضرورة أن سياق آية (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكذا آية (فاستبقوا الخيرات) إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير، من دون استتباع تركهما للغضب والشر، ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر، كان البعث بالتحذير عنهما أنسب، كما لا يخفى)( ).
ولكن إستتباع الآية أعلاه بأن تركها موجب للغضب والسخط بلحاظ أن المسارعة إلى المغفرة طريق إلى جنة عرضها السموات والأرض، وليس من برزخ في الآخرة بين الجنة والنار، فمن يفوت على نفسه الجنة بالتفريط بالمسارعة إلى المغفرة يهوى إلى النار.
فالآية تدل في مفهومها على قانون وهو أن عدم المسارعة إلى المغفرة يوجب غضب الله لما فيه من التخلف عن الإمتثال، نعم تجدد الفورية في كل آن إنما هو من الإمهال والفضل الإلهي.
بالإضافة إلى حقيقة وهي عدم إحراز الإنسان البقاء حياً لساعة من نهار، إنما هو نفس يصعد وقد لا ينزل أو العكس .
وعن أبي سعيد الخدري قال: إشترى أسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر ، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر، إن أسامة لطويل الأمل، والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي وطننت أن شفري يلتقيان حتى أقبض ، ولا رفعت طرفي وظننت إني واضعة حتى أقبض ، ولا لقمت لقمة فظننت أني أسيغها حتى أغص بالموت . يا بني آدم إن كنتم تعقلون فَعِدُوا أنفسكم في الموتى ، والذي نفسي بيده[إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ])( ) ( ).
وفي آية البحث تتجلى الفورية بذكر الله والإستغفار من وجوه:
الأول:الشرطية بين فعل الفاحشة وذكر الله، وتعقب الذكر للمعصية كالمعلول الذي لا يتخلف عن علته , وإن كان قياساً مع الفارق.
الثاني: الشرطية والتعقب بين ظلم النفس وظلم النفس.
ومن الآيات في المقام أن ذكر الله يتعقب كلاً من المعصية وظلم النفس، ولا يتعقب أحدهما أو كلاهما ذكر الله، بل يأتي الإستغفار مباشرة بعد الذكر ثم تأخذ الآية بالثناء على الله عز وجل لأنه وحده القادر على غفران الذنوب والذي يتفضل بمغفرتها أي أن آية البحث لا تكتفي بالإخبار عن قدرة الله على غفران الذنوب بل تتضمن الوعد الكريم والبشارة بحصول العفو والمغفرة من عند الله بمقدمة وسؤال من العبد بالذكر والإستغفار.
وجاء الإستغفار في الآية للمعنى الأعم من المعصية الحاضرة، فلم تقل الآية(فاستغفروا لفعلهم) أو(فاستغفروا لظلمهم أنفسهم)، بل جاءت بصيغة الإطلاق، وذكرت لفظ الذنوب ليكون بينه وبين الفاحشة عموم وخصوص مطلق، وكذا النسبة بينه وبين ظلم النفس، ليس من جهة صيغة الجمع والمفرد فقط بأن الذنوب جمع، وفعل الفاحشة وظلم النفس كل واحد منها مفرد، وإجتماعهما معاً يكون من المثنى بلحاظ إتحاد النوع وإن إختلف الجنس أو الفصل، بل للمعنى الأعم من الذنوب والمعاصي، وجاء قوله تعالى[فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ] أيضاَ على المفرد والمثنى والجمع.
الثالث:صفة التقوى التي يتصف بها المسلمون والتي تجعل بقاء الحال على المعصية أمراً غير ممكن بلحاظ أنه من إجتماع الضدين، فيبادر المسلم إلى ذكر الله وطلب العفو والمغفرة من الله عز وجل.
الرابع: تنزه المسلمين عن الإصرار على الذنوب، لقوله تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا].
فان قلت جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية، وليس فيها أمر يدل على الفورية أو عدمها، والجواب صيغة الآية من إعجازها، وشاهد على بلوغ المسلمين مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إذ أنها تخبر عن حالهم وصفات التقوى والخشية من الله، وتحث المسلمين إلى المبادرة إلى الذكر بالإضافة إلى صيغة الأمر بالذكر الواردة في آيات القرآن والتي تدل بالدلالة التضمنية على الفورية في الإمتثال , قال تعالى[فَاذْكُرُوا اللَّهَ] ( ).
قانون(الإستغفار حصن)
تدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على أمور:
الأول: إحتمال وقوع الذنب من المسلم.
الثاني:إرتكاب المسلم الذنب من منازل الإيمان.
الثالث:لجوء المسلم إلى الإستغفار.
ويدل الأمر الثاني والثالث أعلاه على حقيقة , وهي أن المسلم يتوقى من الذنوب، وأنه لا يأتيها عن رغبة ورضا نفسي، ولكنها تأتي عرضاَ خلاف ما يريده لنفسه وما يسعى إليه من حسن العاقبة، لأن هذه الذنوب ضد للإيمان وقد ثبت في الفلسفة أن المتضادين لايجتمعان
والضدان هما العرضان الوجوديان من جنسين أو نوعين مع عدم إمكان الإجتماع بينهما، وعدم توقف تصور أحدهما على تصور الآخر كالسواد والبياض، والإيمان والكفر، إذ أن الإيمان واجب على كل مكلف والإصرار والتوبة وجاءت آية البحث بالتوبة ونبذ الإصرار والعناد.
ولقد إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، فرد الله عز وجل عليهم بأن هذه الخلافة من علمه المطلق الذي أحاط بكل شئ، ومنه في المقام أمور:
الأول: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، ومن وجوه هذه الرحمة قيامه بالإستغفار للمسلمين، إذ تتغشى الرحمة ومصاديق العفو معاشر المسلمين فينتفعون منها والناسُ جميعاً بأرزاقهم وسلامتهم من الآفات، والمنسأة في الآجال.
ثم يختص المسلمون بالإنتفاع الأعظم منها في مواطن وأهوال يوم القيامة، قال تعالى[وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( )، وعن الإمام الباقر عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مقامي فيكم والإستغفار لكم حصن حصين، فمضى أكبر الحصنين وبقي الإستغفار( ).
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء، ولكنه تفضل وجعلها ملأى بالحصون والأحراز وأسباب الوقاية، ومن أعظمها النبوة والتنزيل وما يترشح عنهما من العناية واللطف الإلهي بالناس جميعاً والمؤمنين على نحو الخصوص وتقريبهم إلى بر الأمان بسلاح الإستغفار والمواظبة عليه .
ويدل على لزوم المواظبة على الإستغفار أمور:
الأول: ظاهر الآية أعلاه (وهم يستغفرون) وما فيها من صيغة المضارع التي تدل على الإستمرار والتجدد، لتفيد الآية قانوناً ثابتاً , وهو: الإستغفار يصرف العذاب.
ويحتمل العذاب الذي ينصرف بالإستغفار وجوهاً:
الأول: المراد عذاب الدنيا.
الثاني: عذاب الآخرة.
الثالث: المعنى الأعم وإرادة عذاب الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الأخير لأصالة الإطلاق وللأدلة في المقام، وعن عبد الله بن عمر قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصلى رسول الله ، فقام فلم يكد يركع ، ثم ركع فلم يكد يسجد ، ثم سجد فلم يكد يرفع ، ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ، ثم نفخ في آخر سجوده
ثم قال : رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم ، رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك . ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته وقد انمخضت الشمس( ).
وقد يقال إن الكسوف ظاهرة كونية تطل كل عام على أهل كل مصر من أمصار الأرض، على نحو السالبة الكلية بالكسوف التام، أو السالبة الجزئية.
وقد إستبانت للناس في هذا الزمان علتها بصيرورة القمر بينها وبين الأرض ساعة الكسوف بما يحجب ضياءها.
والجواب من وجوه:
الأول: يرى النبي ما لا يراه الناس من الآيات الكونية وأسبابها وآثارها.
الثاني:الكسوف آية من آيات الله عز وجل في ذاته ودلالاته وما يترتب عليه.
الثالث:شرعت صلاة الآيات عند حدوث الكسوف والخسوف فزعاًً ولجوءً إلى الله عز وجل.
الرابع: يظهر أن ذلك الكسوف إنذاراً وتخويفاً , فتضرع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصرف البلاء.
الخامس:كسوف الشمس تذكير بلزوم الإستعانة بالإستغفار.
السادس:في الحديث تأكيد لقوله تعالى[وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ].
السابع:دعوة المسلمين إلى اللجوء إلى الصلاة والإستغفار عند حدوث آية كونية، فالكسوف تذكرة بحصول خلاف جريان الفلك، وتنبيه للنظام الدقيق الذي يحكمه لملايين السنين.
ولا تنحصر الحصانة بالإستغفار من صنوف البلاء، بل تشمل التوقي من إستحواذ النفس الشهوية والغضبية، وفي التنزيل[إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي]( )، ومن رحمة الله عز وجل بالعبد هدايته إلى الإستغفار الذي هو سلامة من الآفات والفتن وزلزال المعصية الذي يعصف بالنفس فيجعلها أسيرة الحسرة والألم.
فيأتي الإستغفار ليفكها وأركان البدن من قيد هذا الأسر، ويكون حرزاً في قادم الأيام إذ تدفع عن المؤمن الذي يجتهد بالإستغفار ضروباً من الإبتلاء ووجوه الإمتحان , فيرى ويدرك الإنسان البراهين والحجج التي يحترس معها من السيئات.
وفي قوله تعالى في قصة يوسف[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ]( )، بيان لرحمة الله في حضور البرهان الذي يزجر عن إرتكاب الذنب.
ومن مصاديق البرهان ما يذّكر المسلم بلزوم الإستغفار، فمع الإيمان تترى البراهين والحجج والبراهين التي تقربه وتدنيه من عمل الصالحات، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
قانون(رجاء العفو من الله توبة)
ليس من حصر لمصاديق البلغة التي يسعى فيها الناس لكسب مرضاة الله، وتلك التي يصدق عليها أنها توبة وإستغفار، وكأنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، ومن المندوحة في المقام إمكان إتيانها في زمان واحد , فكل فرد منها في طول الآخر وليس من تزاحم أو تقاطع بينها ليجتهد المسلم في سبل التقوى، ويغترف من مناهل اللطف الإلهي في التقريب إلى منازل العفو، والهداية إليها، وإصلاح النفس والجوارح للإقبال عليها وإزالة الموانع عنها، قال تعالى[أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ]( ).
وفي الآية حجة على الإنسان بتسخير أسباب الوقاية الذاتية من المعاصي ، وتسليحه بسبل النجاة منها , والتخلص من آثارها في حال وقوعها .
وهل يلزم الدور والتعارض بين أسباب الوقاية من الذنوب وطلب التوبة منها في المقام , الجواب لا، لإتصاف الدور الباطل بالتشابه في موضوع الطرفين، بينما هناك إختلاف جهتي وموضوعي بين أفراد الذنوب التي يسأل المسلم ربه سبحانه محوها والتخلص من تبعاتها، وتلك التي يتوقى عنها ويرجو صرفها ودفعها، لتتضمن الآية أعلاه في منطوقها ومفهومها بيان قانون وهو أن الحواس والجوارح عند الإنسان من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وعن أبي حازم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن آدم إنْ نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق)( ).
وفي تعدد العوالم وعظيم خلق الله وقوله تعالى[رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) وجوه:
الأول: قال سعيد بن المسيب: لله ألف عالم؛ منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر. وقال الضحاك: فمنهم ثلاثمائة وستون عالماً حفاة عراة لا يعرفون مَن خالقهم، وستون عالماً يلبسون الثياب)( ).
الثاني: لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا عالم منها، وما العمارة في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء)( ).
الثالث: إن لله أربعين ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد)( ).
الرابع: العالمون ثمانون ألف عالم؛ أربعون ألفاً في البرّ وأربعون ألفاً في البحر)( ).
الخامس: لو فسّرت{الْعَالَمِينَ}، لاحتجت إلى ألف جلد كل جلد ألف ورقة وقال كعب الأحبار: لا يحصي عدد العالمين إلاّ الله)( ).
وفي سبب نزول قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ…إلى قوله تعالى.. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) أن عطارد بن حاجب بن زرارة جاء في أشراف من بني تميم منهم الأقرع بن حابس و الزبرقان بن بدر و عمرو بن الأهتم و قيس بن عاصم في وفد عظيم فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وراء الحجرات أن اخرج إلينا يا محمد فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إليهم فقالوا جئناك لنفاخرك فأذَن لشاعرنا و خطيبنا فقال قد أذنت فقام عطارد بن حاجب
وقال الحمد لله الذي جعلنا ملوكا الذي له الفضل علينا و الذي وهب علينا أموالا عظاما نفعل بها المعروف , وجعلنا أعز أهل المشرق و أكثر عددا و عدة فمن مثلنا في الناس فمن فاخرنا , فليعد مثل ما عددنا ولو شئنا لأكثرنا من الكلام و لكنا نستحي من الإكثار ثم جلس .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لثابت بن قيس بن شماس: قم فأجبه فقام , فقال الحمد لله الذي السماوات و الأرض خلقه قضى فيهن أمره و وسع كرسيه علمه و لم يكن شيء قط إلا من فضله , ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكا و اصطفى من خير خلقه رسولا أكرمهم نسبا و أصدقهم حديثا و أفضلهم حسبا فأنزل الله عليه كتابا وإئتمنه على خلقه فكان خيرة الله على العالمين .
ثم دعا الناس إلى الإيمان بالله فآمن به المهاجرون من قومه و ذوي رحمه أكرم الناس أحسابا و أحسنهم وجوها فكان أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحن , فنحن أنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وردؤه نقاتل الناس حتى يؤمنوا.
فمن آمن بالله و رسوله منع ماله ودمه و من نكث جاهدناه في الله أبدا و كان قتله علينا يسيرا أقول هذا وأستغفر الله للمؤمنين و المؤمنات, والسلام عليكم .
ثم قام الزبرقان بن بدر ينشد , وأجابه حسان بن ثابت , فلما فرغ حسان من قوله قال الأقرع إن هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا و شاعره أشعر من شاعرنا , وأصواتهم أعلى من أصواتنا , فلما فرغوا أجازهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأحسن جوائزهم)( ).
فمع أن القوم إفتخروا بالسلطنة والملك والمال والجاه العظيم، فإن خطيب الإسلام إفتخر بخصوصية إنفرد بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أهل الأرض والسماء بقوله (فكان خيرة الله على العالمين) ثم بين الوظيفة العظيمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقودهم إلى[جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( )، ولبيان حــقيقة وهــي أن الإنســــان عالم مســتقل في خلقه وشـــأنه وفعــله وغـــاياته والأســــباب التي ســخرها الله عــز وجل له , وكان كلامه ذكر لله وإختتمه بالإستغفار .
وفي الشعر المنسوب للإمام علي عليه السلام:
وتحسب أنك جرم صغير … وفيك انطوى العالم الأكبر( )