معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 103

المقدمــــــــة
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض بالكاف والنون في بيان لعظيم قدرته وتجليات حكمته , وتفضل وجعل الأرض محلاً لخلافة الإنسان التي هي من بديع صنعه تعالى وسعة سلطانه وكريم إحسانه وآيات رحمته وصلى الله على نبيه الأكرم محمد وأهل بيته الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وعندما إحتجت الملائكة على رشحات الخلافة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، رد الله عز وجل عليهم بالبرهان الساطع[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وتتضح معاني الحجة القاطعة في هذا الرد من وجوه :
الأول : صيغة القطع في المشيئة الإلهية [إِنِّي جَاعِلٌ] وبيان حقيقة وهي تنزهه تعالى عن المشورة والرأي الآخر، وهذا التنزه فرد من غناه المطلق سبحانه .
الثاني : لزوم تلقي الملائكة وعموم الخلائق للمشيئة الإلهية بالإقرار والإمتثال.
الثالث : لجوء الملائكة إلى التسبيح.
الرابع : إعلان الملائكة عن القصور والعجز عن معرفة ما لم يعلمهم الله [سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا]( )، ويدل في مفهومه على تسليم الملائكة
بأن الله عز وجل أحاط بكل شئ علماً.
الخامس : المدد واللطف الذي يتفضل به الله سبحانه لإعانة الإنسان في خلافة الأرض وإستئصال الفساد بالنبوة والتنزيل، إذ تفضل باشراقة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون حرباً يومية دائمة على الفساد، وسبيلاً إلى الفلاح ، وصيرورة منافع القرآن من اللامنتهي وهو من البركات المتجددة للرسالة الخالدة.
ومن المدد الإلهي للمسلمين الآية التي إختص هذا الجزء بتفسيرها لما فيها من البعث على العمل والأمل بالفوز بالوعد الكريم بالخلود في النعيم[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
وتقدم قبل آيات الخطاب من الله إلى المسلمين والمسلمات[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وتتجلى فيه صيغة الأمر الذي يفيد الوجوب على المكلفين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي أي أن الطاعة في المقام لا تختص بالأمور الفردية بل تشمل التكاليف التي تتوجه للأمة مجتمعة مثلما جاءت الخطابات بذات لغةالجمع[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الحمد لله الذي جعل كل آية قرآنية كنزاً علمياً وحديقة ناضرة من خزائن الوحي، وفيضاَ سماوياً يقود إلى السعادة , قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ( )، ويتعدد إكتساب العلم من الآية القرآنية من وجوه :
الأول : تلاوة الآية.
الثاني : الإنصات لها.
الثالث :التدبر في مضامين الآية القدسية.
الرابع : العمل بأحكام الآية القرآنية.
الخامس :تلمس الإعجاز والأمر الخارق للعادة في الآية القرآنية.
السادس : جعل الآية القرآنية منطوقاً ومفهوماً موضوعاً ومادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السابع : إتخاذ الآية القرآنية برهاناً وحجة لدعوة الناس للإسلام.
الثامن : إستنباط المسائل من الصلة بين آيات القرآن.
التاسع : كل آية قرآنية دليل باهر على وجوب عبادة الله.
العاشر : إمامة آيات القرآن في العبادات والمعاملات والأحكام , قال تعالى[مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ]( ).
الحادي عشر :التسليم بنزول القرآن من عند الله.
الثاني عشر : إستحضار قصد القربة إلى الله عند التلاوة.
الثالث عشر : تنمية ملكة الإيمان عند القارئ والسامع وظهور معاني الآيات على جوارح وأفعال المسلم، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، وتبعث آية البحث إلى المبادرة إلى الإستغفار وما يترشح عنه طوعاً وإنطباقاً من التنزه عن المعاصي والسيئات.
الرابع عشر : بذل المسلمين الوسع لإستقراء ذخائر الآية القرآنية رسماً وتلاوة وتفسيراً وتأويلاً تعاهد لوراثتهم سنن الأنبياء، وشاهد على أن المسلمين جنود لله عز وجل في الأرض يدعون للإيمان والصلاح , قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وفي كل آية قرآنية مصاديق متعددة للعلوم المختلفة، لتكون الآية سلوكاً لطرق متكثرة نحو الجنة في آن واحد.
وهل من تزاحم أو تعارض في المقام بلحاظ أن الإنسان الواحد لا يستطيع أن يسلك عدة طرق في آن واحد الجواب إنه ليس سعياً جسدياً مادياً محضاَ ممتنعا بالذات , بل هو إجتهاد عقائدي ونفسي وأخلاقي متعدد, وذات الفعل العبادي سير وسُرى في عدة طرق تؤدي الى السعادة.
وتفضل الله سبحانه وجعل للجنة ثمانية أبواب وقد يؤدي عمل واحد إلى الخيار بين تلك الأبواب، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء( ).
ومن سنخية الإنسان طي الوقت لنيل الخير والكسب بسرعة , قال تعالى [خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ]( ).
فتفضل الله عز وجل بالآية القرآنية التي إختص بها هذا الجزء من التفسير بفيض منه سبحانه ، وفيها مسائل:
الأولى : البشارة بالخير العاجل بنيل المغفرة وستر الذنوب.
الثانية : بيان الصالحات التي تكون سبيلاً للفوز بالمغفرة والتي ذكرتها الآيتان السابقتان في خصال المتقين، وفيه نفي للجهالة والغرر.
الثالثة : تعيين الذين تشملهم المغفرة من الله عز وجل بقوله تعالى في أول هذه الآية المباركة[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ]( ).
الرابعة : نيل المغفرة على نحو دفعي وليس تدريجياً، والله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم ومنه محو الذنوب مرة واحدة مع التفاوت في الموضوع والمكان والزمان في وقوعها .
ويتجلى الإعجاز في آية البحث بالإخبار عن فعل المؤمن الفاحشة أو ظلمه لنفسه فيهديه الله عز وجل للإستغفار لذنوبه كلها بقوله تعالى[فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ] وأن الله سبحانه يجعل سؤال المؤمن المغفرة والعفو لقضية في واقعة في باب المعصية إستغفاراً لذنوبه كلها ومحواً لها، لما في الإستغفار من الإقرار بالعبودية لله عز وجل والتصديق باليوم الآخر وإستحضار ماهية خلق الإنسان ووظائف الخلافة وعمارة الأرض , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الخامسة : إذا كان الفواحش وظلم النفس متباينة كماً وكيفية وهي على مراتب في القبح والفساد، فإن الله عز وجل تفضل وجعل صيغة وآلة محوها واحدة وقريبة وسهلة, وهو ذكره تعالى والمبادرة إلى الإستغفار، وجاءت آية البحث بالثواب العظيم الذي يجذب الإنسان طوعاً وقهراً وإنطباقاً إلى مقامات التوبة والإستغفار.
السادسة : الوعد الكريم بالنعيم الأخروي.
السابعة : اللبث الدائم في الجنان وبيان صفة ونعمة من نعمها وهي جريان الأنهار من تحتها باعتبار أنه أصل للثمار والأشجار وزينة وبهجة.
الثامنة : مع أن النعيم الأخروي فضل عظيم من الله عز وجل فانه سبحانه تفضل مرة أخرى واختتم آية البحث في هذا الجزء وهي السادسة والثلاثون بعد المائة من سورة آل عمران بجعل الجنان جزاء وشكراً للمؤمنين بقوله تعالى[وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]( )، لتتضمن الشهادة للمسلمين بالسعي الدؤوب في مرضاة الله عز وجل.
ويمكن تسمية هذه الآية آية الثناء من وجوه :
الأول : ثناء الله عز وجل على المسلمين الذين يعملون الصالحات.
الثاني : استحقاق المتقين دخول الجنة بفضل من الله عز وجل ومنه جعلها ثواباً.
الثالث : بيان الفضل الإلهي العظيم بجعل المغفرة جزاءً على حسنات مخصوصة ذكرتها الآيتان السابقتان( ).
الرابع : ثناء الله عز وجل على نفسه بجعل ثواب المؤمنين نعيماً يتخلف التصور الذهني عن الإحاطة بشطر منه.
الخامس : بيان عظيم قدرة الله بخلود المؤمنين في الجنان، وتعدد هذه الجنان.
السادس : الثناء على العاملين في سبل الصالحات الذين يبذلون الوسع للسلامة والنجاة في النشأتين بقوله تعالى[وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]( ).
السابع : مدح ذات الأجر الذي يتفضل به الله عز وجل على المؤمنين الذين يعملون الصالحات في الدنيا والآخرة، وفيه ترغيب لهم وللناس بالمواظبة على سنن التقوى.
الثامن : ثناء الله عز وجل على نفسه الذي يتجلى في آخر كلمة من آية هذا الجزاء وهي العاملين في قوله تعالى(ونعم أجر العاملين) ليكون ثناء الله عز وجل على نفسه فيها من جهات:
الأولى : وجود أمة عاملة في سبيل الله في كل طبقة وزمان على نحو الدوام.
الثانية : تفضل الله ببعث الأنبياء وتنزيل الكتب التي تدعو إلى العمل في مرضاته تعالى، فهو سبحانه يثني على العاملين , وهم لم يرتقوا إلى هذه المنزلة إلا بفضله ولطفه.
الثالثة : إختصاص المسلمين بنيل مرتبة العاملين بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : علم الله تعالى بالعاملين من بين أهل الأرض لتقوم الثواب بالعلم والإحصاء للعمل , وفي التنزيل[وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ).
وليس من حد أو رسم للعلوم المستخرجة من الآية القرآنية , وجاء هذا السفر الخالد في علوم التفسير ليبين إستدامة قانون كلي في الإرادة التكوينية وهو عجز البشر عن الإحاطة بأسرار وعلوم القرآن وعن حصر مفاتيح العلوم التي بين ثنايا آياته ومن غير أن يتعارض مع لزوم الجد والمثابرة والتعاون في كشف شطر منها وتعضيد جهود العلماء في العروج في سماء ذخائر الوحي والتنزيل.

قوله تعالى[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]الآية 136.
الأعراب واللغة
أولئك: اسم إشارة مبني في محل رفع مبتدأ، والكاف: حرف خطاب جزاؤهم ، مبتدأ ثان مرفوع ، والضمير (هم) مضاف إليه.
مغفرة من ربهم: مغفرة : خبر المبتدأ الثاني، وجملة(جزاؤهم مغفرة) في محل رفع خبر المبتدأ(أولئك).
من ربهم : جار ومجرور متعلقان بمحذوف نعت لمغفرة، والضمير (هم) مضاف إليه.
وجنات : الواو : حرف عطف ، جنات : معطوف على مغفرة وهو مرفوع، تجري: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضمة المقدرة على آخره.
من تحتها: جار ومجرور، والضمير (ها) مضاف إليه ، الأنهار: فاعل مرفوع بالضمة.
خالدين : حال من الضمير في (جزاؤهم) فيها: جار ومجرور.
ونعم : الواو إستئنافية ، نعم : فعل ماض جامد لإرادة المدح، أجرُ: فاعل مرفوع بالضمة.
العاملين : مضاف إليه مجرور، وجملة(أولئك جزاؤهم) لا محل لها إستئنافية.
(الجَزاءُ المُكافأََة على الشيء جَزَاه به وعليه جَزَاءً وجازاه مُجازاةً وجِزَاءً)( )، والجزاء الثواب والعطاء، وهو شاهد على حاجة الإنسان في الدنيا والآخرة لرحمة الله وأنه سبحانه هو المنان الذي يهب ويعطي ولا يطلب عليه شيئاً .
تأتي نِعم للمدح وتقابلها بئس للذم، وقال الفراء وجماعة من الكوفيين بأن نعم وبئس إسمان لدخول حرف الجر على كل منهما، وأستدل بقول إعرابي بشر بمولودة: والله ما هي بنعم الولد، وحكي عن بعض فصحاء العرب أنه قال: نعم السير على بئس العير , وقال حسان بن ثابت:
الستُ بنعمَ الجارُ يولفُ بيتهُ لذي العرفِ ذا مالٍ كثيرٍ ومعدما( ).
وقال المشهور بأن نعم وبئس فعلان وعليه مدرسة البصرة، وبه قال علي بن حمزة الكسائي لإتصال تاء التأنيث الساكنة بهما .
وفي نعم أربع لغات: نَعِمَ، ونِعِمَ، ونِعْمَ، ونَعَمَ.
سياق الآيات
الصلة بين هذه الآية والآيات المجاورة:
على شعبتين:
الأولى : صلة هذه الآية بالآيات السابقة، وفيها وجوه:
الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ]( )، وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه منها ثلاثة وجوه ذكرت في تفسير الآية السابقة[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ]( )، بالآيات المجاورة لها( )( )، ومنها أيضاً:
الأول : والذين إذا فعلوا فاحشة ذكروا الله فإستغفروا لذنوبهم أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم)، وعن ثابت البناني: بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} الآية إلى آخرها)( ) , ولم يرفع الحديث وليس من آية تنزل إلا ويحزن ويبكي إبليس.
الثاني : والذين إذا ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم).
الثالث : الذين ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الرابع : الذين إستغفروا لذنوبهم أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم بلحاظ أن كل فرد من المؤمنين يستغفر الله ويمتنع عن فعل الفاحشة ويجتهد في إجتناب ظلم النفس.
الخامس : والذين إذا فعلوا فاحشة جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها.
السادس : والذين إذا ظلموا أنفسهم ذكروا الله فأستغفروا لذنوبهم جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
السابع : الذين ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
الثامن : الذين ذكروا الله جزاؤهم مغفرة من ربهم ، قال تعالى[وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
التاسع : الذين إستغفروا لذنوبهم جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
العاشر : والذين اذا فعلوا فاحشة ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم نعم أجر العاملين.
الحادي عشر : الذين إذا ظلموا أنفسهم ذكروا الله وإستغفروا لذنوبهم نعم أجر العاملين.
الثاني عشر : الذين ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم نعم أجر العاملين.
الثانية : من أسرار مجئ آية البحث وما فيها من البشارة للتوابين حضور مضامينها في حالات منها:
الأولى : عند مزاولة المعصية بادراك حقيقة وهي لزوم الكف عنها.
الثانية : إجتناب الإصرار على المعصية لأن الآية تجذب العبد إلى التوبة.
الثالثة : رغبة المكلف في التوبة والتفكر في الحاجة إليها.
الرابعة : تتجلى معاني آية البحث في ثنايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستمع الذي يفعل المعصية الزجر عنها بصيغة الرجاء والبشارة والإخبار عن المنافع الأخروية التي يحجبها فعل السيئة.
الخامسة : عند رؤية مرتكب الفاحشة لأهل الصلاح الذين يسعون إلى السعادة الأبدية.
السادسة : في المناجاة بين الناس، إذ أن رجاء الفوز بالنعيم من الأمور الفطرية التي جعلها الله عز وجل جزءً من ماهية الإنسان , وهو من عمومات قوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( ).
الثالثة : من إعجاز القرآن ونظم آياته أن كل آية منه ترغيب ودعوة للعمل بمضامين الآية الأخرى بما فيه الهداية والصلاح فالوعد الكريم بالمغفرة والإقامة في الجنة بعث للتوبة والمسارعة في الخيرات بلحاظ أنها مقدمة للنجاة والفوز.
وفي علم الأصول قاعدة وهي وجوب المقدمة لوجوب ذيها، ويمكن تأسيس قاعدة في علم الكلام ودلالات القرآن وهي: أن الجزاء والثواب الأخروي الحسن باعث للسعي في مقدماته.
الرابعة : يفيد الجمع بين آية البحث وأول الآية السابقة قانوناً كلياً وهو أن فعل الفاحشة ليس أمراً مستعصياً في أثره وحتمية عقابه، بل تأتي التوبة عليه، وتمحوه لتملأ النفس إشراقة الصفح التي تبعث على الإبتداء بالصالحات وأخذ الحائطة من العودة إلى مستنقع الرذيلة.
ومن الإعجاز مجيء الآيتين بصيغة الجمع وفيه بيان لسعة رحمة الله سبحانه , نعم جاء التقييد في الآيات السابقة التي عطفت عليها هذه الآية من وجهين:
الأول : مجيء هذه الآيات بصيغة الخطاب والنداء للمسلمين الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله، بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( ).
الثاني : وصف الذين يغفر الله عز وجل لهم وهم المتقون الذين يخشون الله بالغيب، بقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ترى لماذا ذكرت الآية السابقة عدم الإصرار على المعاصي بقوله تعالى(ولم يصروا على ما فعلوا) يتجلى وجه من وجوه ومصاديق الجواب في آية البحث إذ ينصتون لما فيها من البشارات بالجنة فيقلعون عن المعاصي، ويستمعون إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيستجيبون للأمر بالإمتثال، وللنهي بالإنزجار، ومن مصاديق عدم الإصرار السعي في الصالحات، وإن جاء بالواسطة أي بإدراك أن فعلها نجاة من النار، وسبيل للفوز بالنعيم المقيم.
وجاءت الآيات السابقة بالعطف بالواو كما في قوله تعالى[وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ]( )، [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً]( )، وللواو معان:
الأول : الإجتماع بين المعطوف والمعطوف عليه كما في قوله تعالى[وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ]( )، حكاية عن يوسف عليه السلام بتقدير أنه رآها تسجد دفعة واحدة، أو كما في حال المفاعلة بين طرفين، تقول إختصم زيد وعمرو.
الثاني : الإقتران بأن يتقدم المتقدم زماناً وموضوعاً.
الثالث : التعقب بأن يأتي المعطوف متعقبا للمعطوف عليه .
بحث كلامي
ذكرت الآية السابقة ظلم النفس ووجوب ذكر الله والإستغفار من هذا الظلم، وصحيح أن الآية لم تذكر هذا الوجوب بالنص، ولكنه مستقرأ بلحاظ أمور:
الأول : الأمر الإلهي بالمبادرة إلى الإستغفار، ومقدمات الفوز بالعفو وستر الذنوب , قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، وجاء هذا الأمر في سياق الخطاب التشريفي للمؤمنين , والمورد لا يخصص الوارد فالدعوة والبعث على الإستغفار وطلب المغفرة عام وشامل للذين عملوا السيئات والذين عصموا أنفسهم من الوقوع في جبّ الرذيلة لتكون الدنيا دار المغفرة وليس دار الخزي.
الثاني : التباين والتضاد بين صفة التقوى التي هي الصراط المستقيم إلى الجنة وبين غلبة الشهوات وإنقياد الإنسان إلى هواه وإتباعه الشيطان.
وقيل(إنقطع الغيث عن بني اسرائيل في زمن موسى على نبينا وآله وعليه السلام، فجاءوا إلى موسى يتشاكون الفاقة والحاجة، وقالوا له: ادعُ لنا ربّك لينقذنا من هذه التهلكة.. فخرج موسى فيهم الى الصحراء وصلى بهم صلاة الإستسقاء، ودعوا ربّهم لينزل عليهم المطر.. الاّ ان المطر لم ينزل مع كثرتهم اذ كان عددهم سبعين الفاً، ومع الحاحهم بالدعاء.
فرفع موسى رأسه إلى السماء وقال: اللهم!.. اني ادعوك ومعي سبعون الفاً فلا تستجيب لنا، فهل نقصت منزلتي عندك؟!.. فاوحى الله تعالى اليه: ان بينكم رجلاً عصى الله اربعين سنة، فقل له ان يخرج من بينكم حتّى انزل عليكم المطر فقال موسى: يا ربي!.. ان صوتي ضعيف فكيف اسمعه سبعين الف رجل؟.. فأوحى الله اليه انك إن قلت نحن نوصل صوتك اليهم .. فصاح موسى بصوت جهوري: من عصا الله اربعين سنة فليقم وليخرج من بيننا؛ لأن الله قطع عنا الغيث بسببه.
نهض ذلك العاصي وتلفت يميناً وشمالاَ فلم يجد أحداً قد خرج، فادرك انّه هو المقصود.. فقال في نفسه: ماذا اصنع؛ إذا قمت ورآني الناس عرفوني وفضحت بينهم، وإذا انا بقيت لا ينزل عليهم الغيث.. فجلس مكانه وندم من اعماق قلبه على قبائحه ومعاصيه، وتاب إلى ربّه.
ظهرت الغيوم على الفور وتراكمت ونزل عليهم الغيث، وسقوا بأجمعهم.. فقال موسى: يا رب!.. لم يخرج من بيننا احد، فكيف سقيتنا؟.. فنودي :”سقيتكم بالذي منعتكم به”.. فقال موسى: يا رب!.. هل تريني هذا العاصي؟.. فقال له ربّه : لم أفضحه عندما كان عاصياً ، هل افضحه الآن بعد ما تاب؟.. يا موسى اني عدو النمامين، أفهل أنم، وانا ستار العيوب، فهل اهتك ستر عبادي ؟)، وذكر ذات المعنى والقصة بإيجاز القرطبي عن كعب الأحبار( ).
الثالث : جاءت الآيات بصيغة الجملة الخبرية، وتتضمن بيان الحاجة الخاصة والعامة للذكر والإستغفار، وهذه الحاجة وبيانها في القرآن يدل بالدلالة التضمنية على الوجوب ولزوم عدم الإبطاء والتسويف في التوبة.
الرابع : في قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] مسائل:
الأولى : الجنة حق وهي أمر حتمي، ومخلوقة الآن وهو المشهور والمختار، وعلى القول بأنها لم تخلق بعد فإنها سوف تكون موجودة يوم القيامة.
الثانية : تقييد دخول الجنة بالتقوى وأنها دار المتقين , وليس في الآخرة إلا الجنة والنار، فمن لم يدخل الجنة فإنه يساق إلى النار، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: إن الارواح في صفة الاجساد في شجرة في الجنة تعارف وتسائل، فإذا قدمت الروح على الارواح تقول: دعوها فإنها قد أفلتت من هول عظيم، ثم يسألونها: ما فعل فلان ؟ وما فعل فلان ؟ فإن قالت لهم، تركته حيا ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك قالوا: قد هوى هوى)( )، أي على طريقة السبر والتقسيم، فبما أنه لم يلحق بأرواح المؤمنين وأجسادهم المثالية في الجنة فلابد أنه من أهل النار.
الثالثة : عظيم سعة الجنة وما فيها من السعادة، ولزوم جلب الإنسان المصلحة لنفسه، وأهله، ودفع الأذى عن النفس والأهل، قال تعالى[قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( ).
الرابعة : فضل الله عز وجل بالأمر إلى المسارعة إلى الجنة، بعطفها على المغفرة، وتقدير الآية: وسارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين).
ومن أسرار العطف في المقام أمور:
الأول : إمكان تعدد المسارعة إلى أكثر من قصد حميد.
الثاني : التداخل الموضوعي بين طلب المغفرة والجنة.
الثالث : كل من فردي المسارعة مقدمة للآخر وفي طوله من غير تزاحم أو تعارض بينهما.
الرابع : ذات المغفرة بلغة إلى الجنة التي تطلب بالمبادرة إلى سبل المغفرة وأسباب الطاعات التي تؤدي إلى الجنة والتي ذكرتها الآيتان السابقتان.
الخامس : تعيين آية البحث لحسن عاقبة الذين يستغفرون الله، وبيان الملازمة بين الذكر والإستغفار من جهة وبين الإقامة الدائمة في الجنة والتي تملي على الناس لزوم إتخاذ الإستغفار نهجا مباركا وطريقا للإقامة في الجنة الواسعة.
ولما أخبر الله عز وجل الملائكة بأنه[جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لم يحتجوا على أصل وموضوع الخلافة إنما إحتجوا على فعل الإنسان بما لا يناسب منازل الخلافة ووجوب إكرام وتنزيه مقام الربوبية من قبل الخليفة من باب الأولوية القطعية بالنسبة للخلائق الأخرى التي تنشغل بالإنقياد لطاعة الله عز وجل بقوله تعالى[يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( )، فكان الإحتجاج على تمادي الإنسان بالمعاصي كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
فجاء الرد من الله عز وجل بما جعل الملائكة يلجأون إلى التسبيح والتقديس لله عز وجل، ويجددون الشهادة ببديع صنعه وعظيم قدرته، فكان من علم الله عز وجل في المقام مجيء القرآن بالحرب على الظلم مطلقاً فكل آية في القرآن تتضمن في منطوقها أومفهومها محاربة الظلم لتكون على وجوه:
الأول : كل آية قرآنية تعضيد للآية الأخرى في باب محاربة الظلم.
الثاني : كل آية قرآنية عون للمسلمين لمعرفة أفراد الظلم، والتمييز بينه وبين العدل والإنصاف، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ]( ).
الثالث : الآية القرآنية مدد من السماء للمسلمين للتنزه عن الظلم مطلقاً سواء ظلم الذات أو الغير، فإن قلت لم يرد لفظ المدد بخصوص الآية القرآنية بينما ورد في نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، قال تعالى[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، والجواب إن ثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وليس من حصر لأنواع ومصاديق المدد الإلهي للناس العامة منها والخاصة، ومنه الرزق بأصنافه , قال تعالى[وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ]( ).
ومن الرزق الوحي والتنزيل وآيات القرآن، وهو مقدمة لنيل أسباب الرزق الدنيوي والأخروي، قال تعالى[وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
ليكون من عدل ورحمة الله في المقام سلامة القرآن من التحريف، وما فيها من إتصال وتجلي معاني المدد الإلهي للناس في القرآن في باب العصمة من الظلم وإجتنابه .
لقد أراد الله عز وجل لآية البحث زحزحة الناس عن الظلم والتعدي، فكل من الإفساد في الأرض وسفك الدماء حاجب وبرزخ دون التنعم بآية البحث ومضامينها القدسية، ومن عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، جعل الجنة مقاماً دائماً للذين يكفون بقصد القربة عن الإفساد في الأرض لتتضمن آية البحث رداً على الملائكة مضمونه أن الفساد في الأرض إذا تعقبه ذكر الله والإستغفار فانه لا يضر العبد في آخرته، إنما المدار على خواتيم الأمور، وميزان الأعمال الذي يتقوم بقانون يتجلى بهداية الناس إلى طرق العفو والمغفرة، ليكون تقدير الرد الإلهي على الملائكة بالجمع بين آيتين: إني أعلم ما لا تعلمون إن الحسنات يذهبن السيئات)( ) .
لتتضمن الآيات الثلاثة السابقة مصاديق الحسنات، وآية البحث وعد كريم بأمور:
الأول : محو السيئات لمن بادر إلى ذكر الله وسأل الله العفو عن الذنوب التي إرتكبها.
الثاني : إنعدام القيد والشرط للمغفرة والتوبة على العبد، فليس من عمل في صيغة الإستغفار إلا ما يجري على اللسان، والذي يتقوم بأمرين:
الأول : ذكر الله.
الثاني : الإستغفار.
وتلك آية في فضل الله على[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بتفضيلها والتخفيف عنها بالتقريب إلى المقامات الرفيعة في الآخرة بأقل الأعمال وأيسر الطرق، وأخرج عن ابن مسعود قال: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه ، وإذا أصاب البول شيئاً منه قرضه بالمقراض ، فقال رجل : لقد آتى الله بني إسرائيل خيراً , فقال ابن مسعود : ما آتاكم الله خير مما آتاهم ، جعل لكم الماء طهوراً وقال {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً})( ).
الثالث : وجود عالم الحساب والثواب، وأن هذا العالم ليس في الدنيا، بل بعدها والذي يتجلى في الآية الكريمة من جهات:
الأولى : الإخبار بالجزاء، بقوله تعالى(جزاؤهم) ومن أسرار القرآن أن اللفظ القرآني له مفهوم حكمي ظاهر ومباين للمنطوق، لتكون مضامين الآية من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
وآية البحث والوعد فيها بالجنة بشارة وإنذار، بشارة للمتقين التائبين، وإنذار للكافرين والمقيمين على المعاصي لمفهوم قوله تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا].
الثانية : إخبار الآية عن الخلود وهو أمر ينافي ماهية الدنيا وتغير وتعاقب طبقات وأجيال الناس فيها، وتسليم أهل الدنيا في كل زمان بمغادرتها، وعدم دفعها الموت لمن وعمن ركن إليها، ولهث وراء زينتها وما فيها من اللذات وبلحاظ أن الموت أمر وجودي وليس عدمياً لقوله تعالى[خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ]( )، وترد مسألتان:
الأولى : أيهما يبقى بعد صاحبه الدنيا أم الموت بإعتبار أنه ليس من العدم، ويوكن المراد منه فناء الشيء بعد وجوده وصدق الحياة من الأجسام النامية نباتية كانت أو حيوانية.
الثانية : أيهما أطول عمراً وزماناً الدنيا أم الموت .
والجواب في المسألتين هو الثاني في كل منهما.
الثالثة : الملازمة بين الجنات وجريان الأنهار تحتها على نحو دائم فمع كثرة أعداد أهل الجنة من المسلمين والأمم السابقة من الموحدين فانهم يسكنون في جنات لا ينقطع فيها جريان الماء والأنهار ولا يطرأ فيها على النفوس التحاسد والتباغض، قال تعالى[وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( ).
الرابعة : دوام النعيم جزاء لعمل الصالحات في الدنيا، وليس من جزاء في الدنيا يتضمن الخلود والبقاء الذي ليس له نهاية.
الخامسة : تأخر زمان وعنوان الخلود عن زمان الحساب وأوان دخول الجنة، وبعد أن إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض فانهم يخاطبون المؤمنين يوم القيامة بلغة التهنئة والدعاء والثناء المقرون بالبشارة بالسلام والأمن[سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ]( ).
الثاني : صلة هذه الآية بالآية قبل السابقة[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ….]( )، تقدير الجمع بين الآيتين فيه مسائل:
الأولى : تتجلى منافع التحلي بخصلة التقوى بتقدير قراءة الجمع بين الآيتين من وجوه :
الأول : الذين ينفقون في السراء أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الثاني : المتقون الذين ينفقون في الضراء أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الثالث : والكاظمين الغيظ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الرابع : والعافين عن الناس أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الخامس : والله يحب المحسنين أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
السادس : الذين ينفقون في السراء جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
السابع : الذين ينفقون في الضراء جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
الثامن : والكاظمين الغيظ أولئك جزاؤهم جنات.
التاسع : والعافين عن الناس أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
العاشر : والله يحب المحسنين أولئك جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
الحادي عشر : نعم أجر العاملين الذين ينفقون في السراء.
الثاني عشر : نعم أجر العاملين الذين ينفقون في الضراء.
الثالث عشر : نعم أجر العاملين الكاظمين الغيظ.
الرابع عشر : نعم أجر العاملين العافين عن الناس.
الخامس عشر : نعم أجر العاملين المحسنين.
الثانية : الجمع بين الآيتين من مصاديق قاعدة نفي الجهالة والغرر بخصوص الإبتلاء في الدنيا، فمن معانيه إظهار العدل الإلهي، وتأكيد حاجة الناس للقرآن بطرد الغفلة عنهم، وبيان العدل الإلهي يوم القيامة وفي مواطن الحساب والجزاء فإن قلت إن الله عز وجل قال[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، الجواب إن الكفار إختاروا عدم التعلم والإنصات وأصروا على الجحود والأصل أن الناس شرع سواء في التعلم والذي يتقوم بالتدبر في آيات الله وهي قريبة من كل إنسان بمفرده وإنضمامه إلى الجماعة والطائفة والأمة، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : بيان طريق السعادة الأبدية، وتأكيد الجزاء والثواب على فعل الحسنات وترغيب الناس بالعمل الصالح بإعتباره بلغة للنعيم الدائم.
الرابعة : من الإعجاز في نظم هذه الآيات حصر صفات الجنة بالبشارة بها من طرفيها فإبتدأت هذه الآيات بالمسارعة إلى الجنة التي[أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وأختتمت بآية البحث وما فيها من البشارات وصفات الجنة الحسنة ولذاتها وأفراحها، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول الله تعالى: أعددتُ لعبادِي الصالحينَ ما لاَ عينُ رأتْ ولا أذنَ سمعَت ولا خطر على قلبِ بشرٍ، بَلْهَ ما أطلعتُهم عليهِ. اقرؤُوا إن شئتمُ: فلا تعلمُ نفسُ ما أخفيَ لهمُ منْ قرةِ أعينٍ)( ).
الخامسة : بعث المسلمين على إستحضار قصد القربة عند الإنفاق والبذل في سبيل الله، سواء كان في دفع الصدقات الواجبة كالزكاة والخمس أو المندوبة والمستحبة.
السادسة : تلاوة وسماع آية البحث وإستحضار مضامينها سبب ومناسبة للإنفاق، والإقبال عليه، وعدم رد اليد وحبس الصدقة، ومن إعجاز هذه الآيات أنه لما جاء قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، تضمنت الآية التي بعدها الإخبار عن الإنفاق وعلى نحو الإطلاق في حال السعة والضيق ثم جاءت آية البحث للترغيب بالإستغفار وبيان عظيم ثوابه في النشأتين.
ويدل على نيل المغفرة بالصدقة المندوبة والمستحبة قوله تعالى(والضراء) فلا تكون الزكاة إلا عند تحقق النصاب، وحال العسر والشدة ليس فيها زيادة على المؤونة أو نصاب إلا ما في حالات قليلة، وترد أحكام الآية القرآنية للأعم الأغلب لأنها قانون في التشريع خصوصاً وأن آية البحث تتصف بأمور:
الأول : إنها بيان لشرط الإيمان.
الثاني : تتضمن الآية وصف حال التقوى وبلوغ مرتبة المتقين.
الثالث : الإخبار الغيبي عن عاقبة الذين ينفقون المال في سبيل الله.
السابعة : لو كان المسلم ينفق في حال الرخاء والشدة ولكنه يطلق العنان لغضبه، ولا يكظم غيظه ولا يلتفت إلى خطئه إلا بعد الفعل القاسي المترشح عن الغضب فهل يبقى في منازل المتقين الذين تبشرهم آية البحث بالجنة الجواب نعم، لأن الآية السابقة وهي التي تعقبت كظم الغيظ جاءت بالندب إلى الإستغفار عند فعل الفاحشة أو ظلم النفس، وعدم كظم الغيظ قد يؤدي إلى ظلم النفس أو لا يؤدي إليه، فجاءت الآية السابقة جامعة مانعة، جامعة للموضوعات التي يلزم ويصح الإستغفار منها، ومانعة من بقاء أوزار الذنوب على ظهر المسلم.
فمن اللطف والفضل الإلهي على الناس أن فتح لهم باب الإستغفار ولم يجعل له حدوداً أو قيوداً أو شروطاً، وجاءت آية البحث لترغب فيه وتجعل الناس يدركون أنه حاجة وضرورة وسبيل النجاة لهم عند كظم الغيظ وعدمه، وعند التعدي على الذات أو الغير، وهل في إظهار ضروب الغضب معصية بلحاظ آية السياق.
الجواب إنما المعصية قد تترشح عن الغضب والهياج، فجاءت كل من آية السياق والبحث لمنع المقدمة والسبب الذي يؤدي إلى الغضب، وليكون هذا المنع أمراً وجودياً وسكوتاً وتجاوزاً عن السيئة بقصد القربة ورجاء الكسب الأخروي العظيم في الآخرة عند ترك الحساب والعقاب على الشيء القليل الزائل في الدنيا.
ومن الأسرار في المقام أن كظم الغيظ لا يزيد الإنسان إلا رفعة بين الناس لأن ملاكه العقل والصبر ورداءه الحلم والإحسان.
الثامنة : وعن بعض الحكماء: ثَلَاثَةٌ لَا يُعْرَفُونَ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ : لَا يُعْرَفُ الْجَوَادُ إلَّا فِي الْعُسْرَةِ ، وَالشُّجَاعُ إلَّا فِي الْحَرْبِ ، وَالْحَلِيمُ إلَّا فِي الْغَضَبِ).
وجاءت كل من آية السياق والبحث بالمعنى الأعم من قول الحكماء فالجواد والشجاع الذي ينفق في حال السراء والسعة أيضاً والحلم صفة ملازمة للمؤمن في حال الغضب والرضا وعند حال الغيظ , لتبين الآية سعة رحمة الله وإكرامه للمؤمنين، وأن المسلم ينال مرتبة الكرم والحلم والعفو عند الله بصرف الطبيعة والمصداق المحدود الذي يضاعفه الله كحسنة، ويجعل النماء المتصل في ثوابه، فقد جاء قبل ثماني آيات نهي المسلمين عن أكل الربا وترك الأضعاف المضاعفة منه ليبدلهم الله بأضعاف من الحسنات متجددة ودائمة.
وبين الغيظ والغضب عموم وخصوص مطلق، فالغيظ أعم من الغضب، فقد يغتاظ الإنسان من أمر وينتزع حقه ويجازي الطرف الآخر من غير غضب أو بعد أن تسكن ثورة الغضب.
لذا جاءت الآية الكريمة بالإطلاق في الكيفية النفسانية عند مداهمة التعدي وأسباب الظلم، وما يظنه الإنسان أنه إساءة له، ومن منافع كظم الغيظ إستبانة حقيقة الأمر كما لو لم يكن تعدياً أو ظلماً، أو يكون الطرف الآخر معذوراً ولو على نحو الموجبة الجزئية.
وتبين آية السياق أن الشجاعة لا تختص بالحرب وساحة القتال، بل تشمل مواطن العفو عن الناس عند المقدرة وتجددها، وأنشد النابغة الجعدي بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له … بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له … حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا( ).
وعندما إنتهى النابغة إلى البيت الأول أعلاه قال له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لا يفضض الله فاك، فعاش ثلاثين ومائة سنة لم تسقط له ثنية، وقيل: كان أحسن الناس ثغراً إذا أسقطت له سن تنبت له أخرى.
ولم يرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله أو ينكره عليه، وإن قصّر المسلم وتخلف عن مواطن الجود والشجاعة والحلم فإن آية السياق تبعثه للتدارك والتحلي بتلك الخصال الحميدة.
وجاءت آية البحث لتخبر عن فتح باب المغفرة بلحاظ التقوى والخشية من الله عز وجل، فالملاك هو التقوى وهو الأصل في الأخلاق والسنن والعادات.
التاسعة : تضمنت آية البحث الثناء على الذين يعفون عن الناس بجعل هذا العفو خصلة إيمانية، وأمارة التقوى والخشية من الله وورد العفو على نحو الإطلاق من جهات:
الأولى : العفو سمة وصفة المتقين مجتمعين ومتفرقين.
الثانية : الإطلاق في موضوعات العفو، فليس من حصر لمصاديقه.
الثالثة : العموم في الذين يعفو عنهم المؤمنون لأن الآية جاءت بصيغة الناس وإرادة الجنس والإستغراق وهو من عمومات قوله تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
(عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بشر هذه الأمة بالسَّناء والرفعة، والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب”)( ).
فمن خصائص الإمامة العفو والرأفة بالناس، والتجاوز عن سيئاتهم، وعندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض، تفضل الله عز وجل بالرد عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وكان من علم الله تعالى أن المسلمين أئمة في العفو وترك المجازاة على التعدي الذي يأتيهم من الغير وهذا العفو سبيل للفوز بالعفو من الله عز وجل، وبلغة لنيل مرتبة في العز والفضل والشأن.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما إزداد أحد بعفو إلا عزاً، فأعفو يعزكم الله).
وفي الحديث نكتة وهي أن السنة النبوية تهدي إلى العمل بأحكام القرآن وتبعث الرغبة في الإمتثال للأوامر الإلهية، وأنها لا تنحصر ببيان وتفسير آيات القرآن، وبلحاظ الحديث أعلاه يكون عفو المسلمين عن غيرهم من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا]( ).
العاشرة : كظم الغيظ أمارة على ملك النفس، وشاهد بأن الإنسان يستطيع السيطرة على جوارحه عند مداهمة الغضب والرغبة في الإنتقام والعقوبة وإنتزاع الحق ونحوه.
وفي دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم أغننى بالعلم وزينى بالحلم وكرمنى بالتقوى وجملنى بالعافية)( ).
ومن الآيات أن حبس الغضب وترك المؤاخذة فرد من كل واحدة من هذه الخصال الكريمة وكأنه ثمرة لها مجتمعة ومتفرقة، وجاءت آية البحث لصيرورة كظم الغيظ ملكة ثابتة عند المسلم لأن البشارة بالعفو والمغفرة باعث على تعاهد أمرين:

الأول : ذكر الله، وهو واقية من ترجل الغضب على الجوارح.
الثاني : الإستغفار وهو سبيل لمحو آثار إظهار الغيظ، والعجز عن حبسه.
وهو من اللطف الإلهي بأن تسبق الرحمة إظهار الغيظ بالدعوة إلى إخفائه، وتتعقبه الرحمة بالإستغفار، وكل واحد منهما عنوان التقوى وسبيل إلى تثبيت مفاهيمها في النفس والقيم الإجتماعية والأخلاقية، ولو إمتنع المسلم عن إظهار الغيظ طاعة لله تعالى، وإختار معه الإلتجاء إلى الإستغفار فهل يكون ثوابه ذاته أم أعظم.
الجواب هو الثاني، وهو الذي يدل عليه الجمع بين آية البحث وآية السياق ليكون من أسرار سياق الآيات الأثر البليغ في إصلاح النفوس، وتهذيب المجتمعات وجذب الناس إلى منازل التقوى، قال تعالى[وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
فيتفضل الله عز وجل ويجعل هذا الحظ والنصيب في ثنايا آيات القرآن، والجمع بين مضامينها من غير حاجة إلى وسائط خارجية، وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ليكون من مصاديق هذا البيان كيفية نشأة ملكة التقوى وصيرورتها طريقاً للإقامة الدائمة في الجنة الواسعة.
الحادية عشرة : ليس من إنسان إلا ويحتاج العفو من الله عز وجل في الدنيا والآخرة، وتتجلى هذه الحاجة عند النشور في عالم الحساب أمام الخلائق كلها بستر الذنب وعدم كشف السيئات، قال تعالى[أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ]( ).
وفي قوله تعالى(الغفور الرحيم) روي أن ابن عباس قال: غفور لمن تاب رحيم حيث رخص في التوبة)، ولكن الآية أعم وليس من حصر لمضامينها وموضوعها وحكمها زماناً ومكاناً، ولا تختص مغفرة الله عز وجل بمن تاب بل تشمل غيره، ومن معانيها تقريب العباد إلى التوبة، وهدايتهم إلى سبلها، ورحمة الله أعم من موضوع التوبة والمغفرة وهي تتغشى الناس في أمور الدين والدنيا.
ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار الرحمة) لأنها تتقوم إبتداء وإستدامة برحمة الله عز وجل بالناس والخلائق كلها، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]( ).
وفيه شاهد بأن قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من رحمة الله بالمسلمين والناس جميعاً وهو مصداق لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وأن الرحمة في نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تنحصر بالبعثة وأداء الرسالة بل تشمل سنته وسيرته وهو ظاهر للوجدان إذ يستضيء المسلمون بأنوار السنة المباركة في ميادين الحياة المختلفة، وهو سر من أسرار إستدامة أحكام الإسلام وسلامتها من التحريف والتبديل، لقد نزلت الآية ليكون لين العريكة وحسن الخلق مظهراً من مظاهر العفو ومقدمة له، قال تعالى[وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]( ).
وجاءت آية البحث لصيرورة العفو سجية ثابتة عند المسلمين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي لما فيها من الترغيب الذي يحتاج إليه كل أحد، فلقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً ممكناً، والحاجة ملازمة لعالم الإمكان.
ومن رحمة الله عز وجل الإطلاق والدوام والتعدد في حاجة الإنسان، فهو في فقر دائم في كل باب وموضوع , فجاءت آية البحث لإستيفاء حاجة الإنسان في النشأتين، فليس من قضاء لحاجات الإنسان وحد لآماله ورغائبه إلا الجنة وهو من أسرار جريان الأنهار من تحت قصور وأشجار الجنة لأنها تفوق حد التصور الذهني، ولأن الإنسان فقير، ذكرت الآيتان السابقتان الخصال الحميدة التي تؤدي إلى دار الرغائب ومنتهى الآمال. ليكون فيه بيان وعناية وإرشاد وصيغ التوفيق
ويسعى الإنسان إلى إطالة عمره في الدنيا مع ما فيها من الخوف والألم وعداوة الشيطان , وجاءت آية البحث بالوعد بجنة خالية من أسباب الخوف والفزع، قال تعالى في وصف أهل الجنة[وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، وذكرت الآية الخلود في مقام كريم كأعظم نعمة وجاءت آيات أخرى تؤكد الملازمة بين الجنة والخلود فيها وكأنه من اللازم والملزوم والفردين المتضادين، وقد ذكر الخلود في الجنة ثماناً وثلاثين مرة في القرآن كل آية منها دعوة للإستغفار وباعث لطلب العفو والمغفرة.
العشرون : يتضمن العفو عن الناس التنازل عن إستحقاق يتمثل في عقوبة وإنتزاع حق، وبيان فعلي للقوة والتسلط على الذي تجاوز وإعتدى ويستلزم هذا التنازل حسن خلق وبدلاً يتناسب معه أو يزيد عليه في أثره وموضوعه، فجاءت آية البحث لتبين الإطلاق في العوض وأنه أعظم شيء في الدنيا وهو قصد القربة وإرادة رضا الله عز وجل وفي الآخرة يأتي الثواب بالخلود في النعيم.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كأَبِي ضَمْضَم ، كان إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قال : اللَّهُمَّ إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ)( ).
إن الله عز وجل عفو يحب العفو والذين يعفون عن الناس فأراد لـ[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أن تفوز بهذه النعمة وتتلقى الوعد بالجنة على العفو، وهل من تفصيل بين العفو عن الذنب الشخصي والنوعي وعما فيه ضرر وأذى وغيره، وما يخشى معه التمادي في السيئات، والإغراء بالرجوع إلى ذات الذنب وغيره من ضروب التعدي عند العفو.
الجواب جاءت الآية بالإطلاق في العفو من غير تقييد بحال دون أخرى، وتلك آية في صلاح المجتمعات وإن هذه الخشية لا تصلح لمعارضة المنافع العظيمة للعفو وإن أكد عليها علماء الإجتماع والقانون الجنائي في هذا الزمان.
وتبين الآية حقيقة وهي عدم إختصاص منافع العفو بالجاني، بل تشمل صاحب الحق الذي يعفو ، وهو أمر لم يلتفت إليه في الدراسات الجنائية، فجاء القرآن ببيان الفرد الأولى وذي الشأن والأهم في العفو من وجوه:
الأول : توجه الخطاب إلى الذي يعفو.
الثاني : الثواب والأجر العظيم لمن يقوم العفو والتنازل عن حقه في العقوبة.
الثالث : نيل مرتبة التقوى بالصفح عن الناس.
الرابع : مجيء العفو في نظم الأخلاق الحميدة.
وجاءت آيات قرآنية بالأمر بالعفو قال تعالى[وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا]( )، مما يدل على أن العفو يكون على نحو القضية الشخصية والنوعية سواء في جهة الصدور أو الجهة التي يقع عليها.
وتبين آية البحث أطراف العفو هي:
الأول : فاعل العفو، الذي يصدره بعد ثبوت الحق.
الثاني : الذي يقع عليه العفو، ويحصل التجاوز عنه وعن خطيئته وتعديه.
الثالث : الموضوع الذي يتعلق به العفو.
وجاءت الآية بالإطلاق في كل طرف منها، وأيهما أكثر إنتفاعاً الذي يعفو أو يعفى عنه، الجواب هو الأول، وهو الذي تدل عليه البحث وما فيها من البشارة بالخلود في النعيم وتلك آية وقانون في ماهية الحياة الدنيا وفلسفة الثواب والعقاب فيها، نعم هذه الأفضلية بخصوص ذات موضوع العفو، وإختياره قربة إلى الله أما الأمور الأخرى في باب العبادات والمعاملات فكل حسب عمله قال تعالى[مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
لقد أراد الله عز وجل للمؤمنين إصطناع المعروف مع الناس وهو أبهى معاني حسن الخلق ، وإعانة الملهوف من منازل القدرة، ويدل قوله تعالى[وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ]( )، ولغة الإطلاق فيها بإرادة العفو عن الناس جميعاً بالدلالة التضمنية على البشارة بمنازل الرئاسة للمسلمين، ليكون في الآية مسائل:
الأولى : تأديب المسلمين وإرشادهم في كيفية إدارة شؤون الحكم والقضاء في الأمصار تلك التي يقطنها المسلمون أو هم وغيرهم من أهل الملل والنحل.
الثانية : وضع قواعد كلية في تشريع القوانين ومواد العقوبات تتقوم بالعفو.
الثالثة : بشارة المسلمين بالظفر وإستدامة تولي الحكم بين الناس بلحاظ كبرى كلية وهي بقاء آيات القرآن ومضامينها إلى يوم القيامة.
الرابعة : العموم في قوله تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( )، فلا دليل على حصر بلوغ مراتب التقوى بالذين يعفون عن غيرهم، لأصالة الإطلاق، ولأن العفو إفشاء للأخلاق الحميدة وسنن الرشاد، وفيه تعليم وإصلاح للمعفو عنه لإختيار العفو منهجاً فمن يغفر له الناس في موضوع مخصوص أو في زمان وحال معينة قد يصبح في مقام وقدرة على الناس، وسيأتي بعد ثلاث آيات قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
فإن قلت إن الدراسات الجنائية والإجتماعية تشير إلى عودة بعض الذين يتم العفو عنهم إلى ذات المعصية والجريمة كالسرقة وفعل الفحشاء والجواب قد يكون ولكن على نحو السالبة الجزئية المقيدة، وجاءت الآية السابقة بالحث على التوبة والإنابة بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ….]( ).
ليكون من إعجاز القرآن السبق الزماني في تثبيت السنن الرشيدة التي جاء بها وعلاج الظواهر السلبية التي يظن بعضهم أنها تترشح عن الأخلاق الحميدة التي يدعو لها، مع الإقرار بأن تلك الظواهر تأخذ بالنقص والتلاشي مع سيادة مبادئ وأحكام الإسلام، فجاء نظم هذه الآيات بالترتيب بين الآيات على الوجه الآتي:
الأول : آية تدعو للعفو عن الناس مع الوعد الكريم بالثواب على العفو بجعل(العافين عن الناس) من الذين أعد الله لهم جنة عرضها السموات والأرض.
الثاني : آية تدعو الذين يفعلون الفاحشة إلى الإستغفار، ومن الآيات مجيء هذه الدعوة بلغة الإخبار عن تحقق لجوئهم إلى ذكر الله والإستغفار.
الثالث : آية البحث التي تتضمن الإشتراك في البشارة بين الذين يعفون عن الناس والذين يلجأون إلى الذكر والإستغفار عقب إرتكاب المعصية والجناية
الحادية والعشرون : من إعجاز القرآن إتحاد موضوع العفو في آيتي البحث والسياق مع التباين الرتبي والحكمي في جهة الصدور، ويمكن القول أن بين الآيتين عموماً وخصوصاً مطلقاً، فأخبرت آية البحث عن تفضل الله بالعفو .
أما آية السياق فتضمنت الندب إلى عفو المؤمنين عن غيرهم، وفيما بينهم، وهذا العفو رحمة وتوفيق من عند الله من جهات:
الأولى : مجيء هذا العفو في القرآن.
الثانية : بيان أنه من أفراد التقوى وصفة من صفات المؤمنين.
الثالثة : تقريب الناس من منازل العفو والمبادرة إليه.
الرابعة : تعقب ذكر العفو بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : العفو من مصاديق الإحسان.
الثانية : العفو عن الناس طريق للفوز بمرضاة الله.
الثالثة : نفي الحرج في سنخية العموم في الإحسان .
ولو إتحدت جهة العفو والإحسان وتعدد المصداق ,ففي الأجر والثواب وجوه محتملة:
الأول : إتحاد الثواب وإن تعدد مصداق العفو والإحسان للناس.
الثاني : تعدد الثواب بعدد الأشخاص الذين يحسن إليهم المؤمن.
الثالث : يتعدد الثواب بلحاظ أفراد العفو والإحسان للشخص الواحد.
الرابع : يتعدد الثواب لكل مصداق من العفو أو الإحسان للشخص الواحد.
وبإستثناء الوجه الأول فإن الوجوه الأخرى مجتمعة ومتفرقة صحيحة، وهي من مصاديق المدح والثناء في لفظ(نعم) في خاتمة آية البحث(ونعم أجر العاملين )لإبتناء الثناء على أسمى وأفضل وجوه الأجر والثواب.
الثانية والعشرون : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وبلاء، مع مدد ولطف من الله ليكون ميل الإنسان إلى كفة الإيمان والإحسان، لذا تفضل ببعث الأنبياء بالمعجزات، وأنزل القرآن وكل آية منه معجزة تجذب الناس إلى سبل الهداية وتدفعهم عن منازل المعصية، بالإضافة إلى الإعجاز اللامتناهي في نظم الآيات والجمع بينها، وذكرت آية السياق حب الله للمحسنين.
وجاءت آية البحث بالبشارة لهم بالنعيم الدائم، ثم جاء بعد إحدى عشرة آية الجمع بينهما بقوله تعالى[فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، لتجلي القطع والبيان بمعنى حب الله للمحسنين وأن مصداقه السعادة في الدنيا والنعيم المؤبد في جنة الآخرة.
فإن قيل تدل آية البحث في مفهومها على الإنذار والوعيد للكفار بحرمانهم من الجنة التي لا يدخلها إلا المتقون الذين يخشون الله عز وجل ويطيعونه فيما أمر به وجاءت آيات بالتصريح بعذاب الكفار وخلودهم في النار.
الجواب هذا صحيح إذ أن الترغيب بالصالحات والبشارة بدار السعادات لا يتعارض مع بقاء أصل الإبتلاء والإمتحان، ومن اللطف الإلهي إستمرار وإتصال الدعوة السماوية للإنسان بالإقلاع عن المعصية والفعل الذي يؤدي به إلى الهاوية، قال تعالى[فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ]( ).
ومن الوظائف المباركة لآية البحث أنها تدفع وتزحزح الناس عن مقدمات وأسباب ولوج النار، وكل من الإنفاق وحبس الغيظ والعفو عن الناس حواجز تقي حر ولهيب النار.
الثالثة والعشرون : أخبرت هذه الآيات عن الإقامة الدائمة في الجنة للمحسنين وتضمنت بيان لحقيقة ودفع وهم من وجوه:
الأول : الإحسان فرع التقوى.
الثاني : التقوى أظهر وأولى مصاديق الإحسان، ولا إحسان يترتب عليه الثواب من غير تقوى وخشية من الله.
الثالث : التقوى إحسان للذات والغير، فمن يريد أن يكون من المحسنين فعليه أن يرأف بنفسه ويحسن إليها بإتخاذ الإيمان منهجاً وطريقاً.
الرابع : التقوى باعث على الإحسان.
الخامس : الإحسان طريق إلى التقوى، إذ يدرك الإنسان عدم تمام إحسانه وتحقق مصداقه إلا بالتقوى.
السادس : إنحصار مقدمات وسبيل الدخول إلى الجنة بالتقوى بدليل قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابعة والعشرون : تحتمل النسبة بين حب الله للمحسنين من جهة وفوزهم بالمغفرة والإقامة في الجنة وجوهاً:
الأول : نسبة التساوي بين الأمرين.
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه.
الثالث : النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى : حب الله للمحسنين أعم من الثواب الدنيوي والأخروي.
الثانية : الثواب الذي يأتي من الله للمحسنين أعم من حب الله لهم.
الرابع : التباين الموضوعي بين حب الله للمحسنين وثوابهم.
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثالث أعلاه، فليس من حدود وحصر موضوعي أو حكمي لحب الله عز وجل للمحسنين ويدخل فيه إلى جانب المغفرة والثواب بالجنان الشفاعة والنصرة، والمدد للإرتقاء في منازل اليقين، ومضاعفة الإحسان وصيرورتهم أئمة في الهداية، ودفع موانع الإحسان، وصرف الأسقام، وإعانتهم لمسالك الطاعة والجهاد في سبيل الله وحسن التوكل عليه والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمن من الفزع والخوف.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أنه قال: إن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)( ).
لقد جاءت آية السياق بأمرين:
الأول : حب الله.
الثاني : تعلق هذا الحب بالمحسنين، وليس من حصر لوجوه الإحسان مما يدل على تعدد وكثرة الطرق التي تؤدي بالعبد إلى حب الله.
لذا لم تقل الآية(أولئك المحسنون الذين يحبهم الله) ولم تقل(والله يحب المحسنين الذين ينفقون في السراء والضراء…….) بل ذكرت حب الله للمحسنين على نحو القانون القائم بذاته وبما يتضمن أن الأفعال الحسنة التي ذكرتها آية السياق إنما هي من باب المصداق الأتم، ليتدبر المسلمون آيات القرآن وموارد فعل الخيرات فيها، ويبادروا إلى المسارعة فيها سواء كانت في باب العبادات أو المعاملات أو الأحكام وقد أخبر القرآن عن حب الله للمتقين والمتطهرين، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا احدثكم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم يوم القيامة الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله على منابر من نور، فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين يحببون عباد الله إلى الله، ويحببون عباد الله إلي، قال: يأمرونهم بما يحب الله وينهونهم عما يكره الله، فإذا أطاعوهم أحبهم الله)( ).
وفي الصلة بين قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وبين مرتبة المتقين وجوه:
الأول : النسبة بين المسلمين والمتقين هي التساوي، وخير أمة هم الذين بلغوا مرتبة التقوى كأمة عظيمة وهم المسلمون، ولا يتعارض معه بلوغ مؤمني الأجيال السابقة من أتباع الأنبياء ذات المقام المحمود.
الثاني : النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فالمسلمون هم شطر من المتقين , وهو على جهات محتملة:
الأولى : لحاظ المتقين من الأمم السابقة، لبيان قانون في الإرادة التكوينية وهي: في كل زمان أمة من المتقين.
الثانية : وجود متقين من الأمم والملل الأخرى بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : سوف تخرج أمة من المتقين من غير المسلمين في الأحقاب والأجيال اللاحقة.
والصحيح هو النسبة الأولى لتقوّم التقوى بطاعة الله وإتباع أنبيائه.
الثالث : النسبة هي العموم والخصوص من وجه، وبين المتقين(وخير أمة) مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
والصحيح هو الثاني فالمسلمون شطر من المتقين مع خصوصية زائدة من جهات:
الأولى : المسلمون أمة عظيمة تتصف بالتقوى وليس هي جماعات من أتباع وأنصار الأنبياء.
الثانية : بالمسلمين تحفظ التقوى، وبها يحفظ الله عز وجل المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، بتقريب أن الله عز وجل يحفظ المسلمين وفيه حفظ للذكر، ويحفظ القرآن وبه يتعاهد المسلمون مرتبة(خير أمة).
الثالثة : إنحصار التقوى بعد البعثة النبوية بالمسلمين.
الرابعة : توارث المسلمين سنن وصيغ التقوى.
الرابع : لم تبدأ كل من الآيتين بحرف العطف (الواو) مع ظهور عطف كل منهما على الآية السابقة، فلم تقل الآيات[أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي…..]( )، وما في العطف من التعدد والمغايرة في الصفات والإخبار بأن القيام بالإنفاق صفة إضافية للتقوى.
ومن معاني عدم ذكر حرف العطف بين الآيتين أعلاه بيان حقيقة وهي التداخل بين التقوى والإنفاق وتعذر الإنفكاك بينهما، وفيه درس وموعظة للمسلمين من جهات:
الأولى : التنافي بين الإيمان والشح، قال تعالى في ذم المنافقين[أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ]( )، وأحبط الله أعمالهم لإعراضهم عن سبل الإيمان، الذي هو شرط في قبول الأعمال، ويحتمل الإستغفار وموضوعيته في مراتب الإيمان وجوهاً:
الأول : إنه شاهد وأمارة على الإيمان.
الثاني : الإستغفار مقدمة للإيمان ودعوة إليه.
الثالث : إنه جزاء هداية على الإيمان.
الرابع : الإستغفار رشحة من رشحات الإيمان.
الخامس : الإستغفار مصداق الإيمان.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من معاني آية البحث وضروب المصلحة فيها , ترى ما هو التباين في معنى الآية لو قالت(والذين ينفقون في السراء والضراء..) أي بإضافة واو العطف.
الجواب فيه إخبار عن التعدد والتباين الجهتي بين التقوى والإنفاق، وتفضل الله عز وجل وخفّف عن المسلمين وجعل الإنفاق في حال الرخاء والشدة من أفراد التقوى وخصال المؤمنين وفي هذه الآيات تداخل في صفات التقوى، ودعوة للمسلمين للتحلي بالممكن والميسور منها.
الثانية : تعاهد المتقين لسنن تعظيم شعائر الله، ومنها ما لا يتقوم إلا بالإنفاق.
الثالثة : الإنفاق شاهد على التقوى بلحاظ كبرى كلية وهي أن المتقين يعلمون بالجزاء يوم القيامة، كون الإنفاق في سبيل الله[تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ]( ).
الرابعة : ترغيب المسلمين والمسلمات بالإنفاق في حال الرخاء والشدة.
الخامسة : التداخل بين التقوى والإنفاق تثبيت للخشية من الله في النفوس، سواء عند الذي يقوم بالإنفاق أو الذي يتلقاه.
السادسة : من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، الإنفاق في مختلف الأحوال لأن العلة الغائية للمؤمنين هي مرضاة الله.
وإبتدأت آية البحث باسم الإشارة (أولئك) من غير حرف عطف في بدايتها لأنها جزاء وثواب للعمل بمضامين الآيات السابقة التي جاءت بصيغة النص الخالي من الإجمال أو اللبس أو الترديد.
الخامس : صيرورة الغاية الحميدة وسيلة لإتيان السبل وفعل المقدمات التي تؤدي إليها.
السادس : الجمع بين الآيتين دعوة سماوية للمبادرة إلى إخراج الحقوق الشرعية، ودفع الزكاة إلى مستحقيها، وأداء الواجبات كالحج لقوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، إذ أن الإنفاق لا يصدر إلا عن مقدرة، وبين الإنفاق والحج عموم وخصوص مطلق، فمادة الإلتقاء بذل المال وبقصد القربة، ومادة الإفتراق من وجوه:
الأول : الإنفاق أعم ويكون غيرياً ومنه إعانة الفقراء والمساكين، ومنه في سبيل الله وعمارة المساجد ونحوها.
الثاني : في الحج بذل للجهد والعناء إلى جانب الإنفاق، وقد ينحصر الإنفاق بدفع المال وصرفه في سبل الطاعات.
الثالث : الحج مقيد بالإستطاعة التي تكفي للزاد والراحلة، بينما الإنفاق يكون بالقليل من النقد أو العروض.
الرابع : لا يأتي ويؤتى الحج إلا مرة في السنة، بينما يصح الإنفاق في الليل والنهار، ومن أسرار خلق الإنسان وأحكام التشريع إمكان الجمع بين الحج والإنفاق في موارد البر والخير[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( )، وفيه مناسبة للفوز بالبشارة بالجنة ومضامين آية البحث.
ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أركان الكفر أربعة : الرغبة، والرهبة والسخط، والغضب)( )، ومعنى الرغبة في المقام أي حب الدنيا والميل إلى لذاتها وإتباع الشهوات لنيل الدنيا، والرهبة أي الخوف من ضياع مباهج الدنيا، أو الخوف من مواجهة الكفار في القتال، والندب إلى الجهاد.
أما السخط فهو عدم الرضا بفضل الله والنعم التي تتوالى عليه كما لو كان الساخط ينظر إلى من هو أعلى وأغنى منه ويظن أنه مغبون لعدم نيله ذات المنزلة، أما الغضب فهو غلبة النفس الغضبية عند الإنتقام والبطش والثأر عند رؤية غير الملائم، ومن غير الرجوع إلى الحكم الشرعي، وجاءت آية البحث حرباً على الكفر وأركانه.
السادس : تضمنت آية السياق الثناء على الذين يحبسون غضبهم، ويمنعونه من الظهور على اللسان واليد بقوله تعالى (والكاظمين الغيظ) لتكون بشارته المغفرة والجنة.
ترى هل من ملازمة بين الثناء في القرآن والوعد بالجنة، بمعنى أن الذين يثني عليهم القرآن ويرد ذكرهم بلغة المدح فيه يكون ثوابهم الجنة، الجواب لا دليل على هذه الملازمة بلحاظ أنه قد يكون الثناء على نحو جهتي وجزئي، إذ أن القرآن ورد بلغة الإتعاظ والعبرة بصيغة الجمع، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
وجاءت آية البحث بالبيان والنص الجلي الذي يتضمن الفعل الذي يدخل صاحبه الجنة، وعلى نحو التفضيل وبما يشمل عالم القول والفعل في الليل والنهار، والبيت والسوق ومحل العمل، وتداهم أسباب الغضب والإنفعال الإنسان في أمور الحياة المتباينة وميادينها المختلفة، فجاءت آية البحث لسلامة المسلم من الكدورات النفسية، والضيق وشدة الحرج مما يترتب على الإنقياد للنفس الغضبية من الضرر للذات والغير، وهذا الضرر عام يشمل أمور الدين والدنيا، لتبين آية البحث أن الإيمان نجاة من إظهار الغيظ والغضب على الجوارح، وسلامة من أضراره الآنية والآجلة، وليس من ندم يبقى عند الإنسان أشد من ترك العنان لغضبه.
فقد يخسر في التجارة قهراً ويفقد الأحبة، وقد يبتلى بمرض خارج عن إرادته، ولكنه عندما تصدر منه أفعال إنفعالية وشدة وقسوة وإيذاء للغير بسبب هيجان ثورة الغضب والأمن من العقاب أو الإستعداد لتحمله وإطاقته فأنها تورث الندم والحزن، لذا جاءت آية البحث كبحاً لجماح الغضب، وترغيباً بالصبر ورد الإنفعال بأمور:
الأول : ثناء آية البحث على(الكاظمين الغيظ).
الثاني : الشهادة السماوية بأن كظم الغيظ من التقوى والإيمان.
الثالث : الوعد الكريم بالجنة نتيجة التحلي بحبس الغضب.
الرابع : مجيء صفة كظم الغيظ بمعية صفات كريمة أخرى في آية البحث، إذ ذكرت آية السياق أربع صفات من صفات المتقين وهي:
الأول : البذل والعطاء وإخراج الزكاة في حال السراء.
الثاني : الإنفاق وإعانة الفقراء في حال الشدة والعسر.
الثالث : الذين لا يظهرون أمارات الغضب على الجوارح وعالم الأفعال، والذين يتخذون من الصبر رداءً وواقية عند مهاجمة التعدي عليهم أو فوات المنفعة، وضياع الفرصة.
الرابع : العفو والتجاوز عن الإساءة للآخرين، وهذا العفو من الكلي المتواطئ في موضوعه، والمتباين من حيث الجهة، فتارة يكون عن الأقربين والأرحام وتارة عن الأصحاب والأقران، وأخرى عن الخصم والعدو، قال تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
وجاءت آية السياق بالإخبار عن كون العفو صفة للمتقين، ولا تعارض بين الأمرين، فالعفو فعل من أفعال المتقين، وهو مقدمة وطريق لتثبيت ملكة التقوى وصيرورتها ملكة في النفس وعالم الأفعال، وتبعث آية البحث وما فيها من الوعد الكريم بالنعيم الدائم الشوق في النفس للتحلي بهذه الصفات.
السابع : لما ذكرت آية السياق أهل الإنفاق في سبيل الله بصيغة الجملة الخبرية ( الذين ينفقون في السراء والضراء) جاءت آية البحث بلغة الإشارة للبعيد (أولئك) بما يفيد الإكرام والثناء ، فان قلت يأتي اسم الاشارة للبعيد للذم , ففي ذم الذين يخفون الآيات والمعجزات ولم يتوبوا قال تعالى[أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ]( ).
الجواب تعرف معاني ودلالات البعد بحسب القرائن والأمارات، وهي ظاهرة بصيغة الثناء في المقام، وفيه دعوة لبذل الوسع للإرتقاء إلى هذا المنزلة.
فان قلت جاء اسم الاشارة في آية البحث لإرادة البعد الزماني للجزاء لأنه في عالم الآخرة، أي أن معاني البعد موجودة في الآية ايضاً والجواب هذا صحيح وهو لا يتعارض مع مفاهيم الإكرام في ذات اسم الإشارة، وفيه مسألة وهي أن اللفظ القرآني يحمل معاني ودلالات كلامية وعقائدية إلى جانب المعنى اللغوي، وفيه بيان بأن بلوغ مرتبة التحلي بخصال التقوى تحتاج إلى جهاد مع النفس، وجهد متصل، وإستحضار لسنن التقوى، وقواعد الإيمان، وتبعث آية البحث على السعي الدؤوب لبلوغ مراتب البشارة في هذه الآية الكريمة.
ليكون إستعمال اسم الاشارة (أولئك) للبعيد في ذم الكفار، وللبعيد في الثناء على المؤمنين من صغريات حقيقة الدنيا وأنها دار إمتحان وبلاء فأما أن يستحق الإنسان فيها الثواب أو العقاب , قال تعالى[يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ]( )، ليكون من إعجاز القرآن صيرورة اسم الإشارة ( اولئك) باعثاً لإتيان مصاديق التقوى، وزاجراً عن أسباب الولوج إلى النار ولا يضر التباين بينهما في الموضوع والقرائن والحكم لأن كل فرد من الثواب والعقاب إشارة على ضده الآخر مع التباين والإختلاف في الوسائط والسبل والوصف والغاية .
وقد أختلف في علم الأصول هل أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص، أم لا يقتضيه، أما بالنسبة لعلوم القرآن فانها تتصف بالوضوح والبيان وسهولة بلوغ مرحلة الإستنتاج فيها، فان الثناء على المؤمنين باسم الإشارة (اولئك) يبعث النفرة في النفوس من الكفار وسوء عاقبتهم وان جاءت الإشارة إليهم بذات اسم الإشارة (اولئك) للتباين في الموضوع والعاقبة التي تترتب عليه بنحو الانطباق والقهر.
الثامن : الناس في الإنفاق والبذل على أقسام:
الأول : الذي يتعاهد الإنفاق في الرخاء والشدة، وكأنه سجية ثابتة عنده، تلازمه في أيام حياته، فهو ينظر إلى المحتاجين بعين الرحمة والمودة والرأفة، ويسارع في العطاء في تعظيم شعائر الله وكأنه واجب عيني متجدد عليه، قال تعالى[وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ]( ).
الثاني : الذي ينفق في السعة واليسر، ويعطي من الزائد عن مؤونته ونفقة عياله، دون حال الشدة والضراء حيث يجعل الأولوية لنفسه ونفقته، ويحتاط بالإمساك أو لا يعطي في حال الشدة إلا القليل الذي لا قيمة له، ومن المجاز: أعطاني من الشوى أي رذال الأموال، قال الشاعر:
أكلنا الشوى حتى اذا لم نجد شوى … أشرنا الى خيراتها بالأصابع( )
الثالث : الذي لا ينفق مطلقاً لا في حال السعة ولا الشدة، قال تعالى[أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ]( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية أعلاه قال: أشحة على المال)( )، ولكن الآية أعم، ويتجلى العموم بحرف الجر(على) وما فيه من معاني الإستعلاء، فلم تقل الآية أشحة بالخير، والآية نزلت في فريق من المنافقين الذين يريدون الإستيلاء على الغنائم عند القسمة، ولا يبغون السعة والظفر لجند الإسلام، فجاءت آية البحث لبيان حقيقة وهي أن أبواب الحنة تفتح للذين ينفقون في حال الرخاء والشدة، ويتخذون من الإنفاق سبباً للرزق الكريم في الدنيا والآخرة، فإذا كان قوم قد آثروا الدنيا، وطلبوها بهجران وظائفهم العبادية، وترك طريق الخلود في النعيم , وذمهم القرآن بقول الله تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ]( )، فإن المتقين طلبوا الجنة، وسعوا إليها بالإنفاق، وهل يصدق عليهم أنهم إشتروا الآخرة بالدنيا، في الضد من الكفار.
لقد ورد لفظ (إشتروا) ست مرات في القرآن كلها في ذم الذين كفروا منها[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى]( )، [اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ]( )، [اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً]( ).
ويدل هذا التباين على أن طلب الآخرة والمقام الكريم فيها لا يستلزم على الدوام شراءه بالدنيا، إذ تكون الدنيا بأداء العبادات والفرائض ذات بهجة ويتفرع عنه قانون وهو أن الإنفاق في السراء والضراء لن يضر المسلم في منازله في الدنيا، ولا يزيده الإنفاق إلا رفعة، وهو سبب لنماء المال.
ومع أن الزكاة إخراج للمال ودفعه إلى الفقراء والمحتاجين فإن تسميتها الزكاة يعني لغة إن فيها النماء والبركة والسعة، ليكون ذات إسمها وعد كريم وإعجاز في ذات الفريضة، وهل النماء والبركة أمران خاصان بالزكاة بلحاظ أنها القدر المتيقن أم أنهما ينبسطان على الفرائض الأخرى، الجواب هو الثاني .
ومن الآيات أن النماء والبركة في العبادات المالية تتجلى في باب السعة في الرزق والعافية في البدن وإنشراح الصدر، وكذا الإطلاق بالنسبة للعبادات البدنية وهو آية في الفضل والجزاء من الله عز وجل فإنه سبحانه يعطي بالأعم والأوفى.
والزكاة :زكاة المال، وهي تطهيره، زكى يزكي تزكية، والزكاة: الصلاح، تقول: رجل زكيٌّ تقي، ورجال أزكياءُ أتقياء( )، وإذا كان في إخراج الحق الشرعي من المال الشخصي نماء له وزيادة فيه، فترد مسألتان:
الأولى : هل في الزكاة نماء وعافية للبدن.
الثانية : هل في الفرائض العبادية البدنية كالصلاة والصيام نماء للمال والبدن.
الجواب في كلتا المسألتين بالإيجاب، فان الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى، ويدل عليه قوله تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا]( )، فجاء متعلق الزكاة في النفوس وذات الأشخاص وليس الأموال، وتلك آية إعجازية في منافع الفرائض الدنيوية، أما منافعها الأخروية فهي أكثر من أن تحصى وتفوق عالم التصور الذهني( ).
وهل البركة في الزكاة خاصة بالذي يدفعها أم بالذي تصل إليه الجواب كلاهما معاً بالإضافة إلى النماء والبركة في الأمور العقائدية وتهذيب الأخلاق وحسن المواساة وإنتفاء الحسد بين الفقراء والأغنياء , وإقتداء الغير بدافع الزكاة , وتطلع الفقير للأخذ منها.
الثالث : صلة[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ…….]( )، بهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الثاني : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم أولئك جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها.
الثالث : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ونعم أجر العاملين.
الرابع : وسارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الخامس : وسارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض أولئك جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
السادس : وسارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض ونعم أجر العاملين.
السابع : وسارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض ونعم أجر العاملين.
الثامن : جنات تجري من تحتها الأنهار عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
التاسع : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ونعم أجر العاملين.
الثانية : من إعجاز القرآن تعضيد الآية القرآنية لأختها، وصيرورتها مدداً ومؤازراً لها، وهو من اللطف الإلهي بالعباد وتقريبهم إلى منازل الطاعة، وفيها إعانة للمسلمين في عباداتهم وأبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمدد بين أول كل من آية البحث والسياق على وجوه:
الأول : تأكيد قانون في الإرادة التكوينية وهو أن الله عز وجل يغفر الذنوب ويمحو السيئات، ويتجاوز عن المعصية وكأنها لم تكن من جهة ترتب الأثر في الدنيا والعقاب في الآخرة، قال تعالى[يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( ).
الثاني : إبتداء كل من الآيتين بموضوع المغفرة من الله، وذكرها على نحو الموجبة الكلية بما يبعث الناس للسعي إليها ومنع الإختلاف والفرقة في نيلها والفوز بها، ولولا هذا الإطلاق في المغفرة فقد تجد بعض الطوائف تحصر المغفرة بها وتبحث عن أسباب ودليل لتقييدها.
وجاءت كل من آية البحث والسياق مجتمعتين ومتفرقتين للزجر عن هذا التقييد، وعدم إتساعه وترتب الأثر عليه في حال القول والإفتاء به، وفي التنزيل[هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالث : من إعجاز القرآن غير الظاهر للعيان إبطال مقالات الإختصاص التي تؤدي إلى الفرقة والتشتت وإستقلال كل مذهب بما لديهم ومنع الإزدراء المذهبي .
ومن إعجاز القرآن إصلاح المجتمعات بلغة البشارة، فليس من مدرسة أو مؤسسة أو دولة تستطيع تهذيب الأقوال والأفعال مثل القرآن الذي شيدت آياته صرح الأخلاق الحميدة وصيرتها طبائع وسنخية ثابتة عند المسلمين ويشع ضياؤها على سكان المعمورة، منها الحلم وكظم الغيظ والترغيب فيه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اذا جمع الخلائق يوم القيامة نادى مناد اين اهل الفضل فيقوم اناس وهم يسيرون فينطلقون سراعا الى الجنة فيقولون نحن اهل الفضل فيقال لهم ما كان فضلكم فيقولون كنا اذا ظلمنا صبرنا واذا سيئ الينا غفرنا واذا جهل حلمنا فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم اجر العاملين)( ).
وهل إطلاق المغفرة في آية البحث والسياق من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( )، الجواب نعم لأنه وعد كريم وعهد من الله وهبة سماوية لعموم المسلمين والناس جميعاً , فهم شرع سواء في الإنتفاع من آيات القرآن وفيوضاتها، وهو من أسرار بقاء القرآن سالماً من التحريف إلى يوم القيامة.
الرابع : لم يكتف القرآن بالإخبار عن المغفرة وإمكان الفوز بها، بل تضمن البعث الأكيد إلى العفو والمغفرة كما في آية السياق (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم).
الخامس : تشترك الآيتان بذكر الجنة جزاءً وثواباً على الإيمان والعمل الصالح.
السادس : بيان قانون وهو أن التقوى عمل وكسب لقوله تعالى(ونعم أجر العاملين) وأن مرتبة التقوى لا تنال إلا بالسعي، وهذا السعي مبارك وتميل إليه النفوس.
السابع : الجنة ودخولها أمر بيد الله عز وجل، وكذا الطريق إليها الذي يتجلى بأبهى مصاديقه بالإستغفار وإتيان الأفعال التي تؤدي إلى المغفرة, وعن سعد بن أبي وقاص وعدد من أصحاب رسول الله: كَانَ رَجُلَانِ أَخَوَانِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ مِنْ الْآخَرِ فَتُوُفِّيَ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُهُمَا ثُمَّ عُمِّرَ الْآخَرُ بَعْدَهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلُ الْأَوَّلِ عَلَى الْآخَرِ فَقَالَ أَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي فَقَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَانَ لَا بَأْسَ بِهِ فَقَالَ مَا يُدْرِيكُمْ مَاذَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ ثُمَّ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إِنَّمَا مَثَلُ الصَّلَوَاتِ كَمَثَلِ نَهَرٍ جَارٍ بِبَابِ رَجُلٍ غَمْرٍ عَذْبٍ يَقْتَحِمُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَا تُرَوْنَ يُبْقِي ذَلِكَ مِنْ دَرَنِهِ)( ).
الثالثة : تضمنت آية السياق أمرين:
الأول : وجوب المسارعة إلى المغفرة.
الثاني : وجوب المسارعة إلى الإقامة الدائمة في الجنة.
وجاءت آية البحث بالوعد بذات الأمرين وهما المغفرة والجنة مما يدل على التعدد والمغايرة بين المغفرة والجنة، وفيه وجوه:
الأول : كل من الآيتين تفسر أختها، من غير أن يستلزم الدور بينهما للتباين الجهتي والموضوعي.
الثاني : كل آية من الآيتين تعضيد ومؤازرة للآية الأخرى.
الثالث : التداخل الموضوعي بين الآيتين شاهد على صدق نزولهما من عند الله.
الرابع : تأكيد موضوعية كل من الإستغفار والسعي إلى الجنة.
الخامس : بين الإستغفار والمغفرة عموم وخصوص مطلق، فالإستغفار بلغة وطريق رجاء لنيل المغفرة.
السادس: بين المغفرة والجنة عموم وخصوص مطلق، والمغفرة طريق إلى الجنة، ولكن دخول الجنة لا ينحصر بها، وهو من إعجاز هذه الآيات أنها بينت طرقا متعددة إلى الجنة، وجاءت محصورة بين آيتي المغفرة وهما آية السياق والبحث , وفيه وجوه:
الأول : تأكيد لغة البيان والوضوح في القرآن، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : التخفيف عن المسلمين في معرفة أحكام الشريعة.
الثالث : تفقه المسلمين في الدين، والعلم بالسبل التي تؤدي إلى دخول الجنة واللبث الدائم فيها.
الرابع : إعانة المسلمين في الجدال والإحتجاج على أهل الملل الأخرى، وهو من عمومات قوله تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
الخامس : صيرورة معرفة الصالحات التي تؤدي إلى النعيم الأبدي مادة وموضوعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابعة : الجمع بين الآيتين مرآة لصبغة الإبتلاء والإمتحان التي تتغشى أيام الحياة الدنيا مع رجحان كفة الهداية وأسباب الرشاد، قال تعالى [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( ).
وتتجلى معاني الإبتلاء بمجيء آية السياق بالأمر بالمسارعة والتسابق لطلب المغفرة، من وجوه:
الأول : مجيء آية البحث بالإخبار عن حسن عاقبة الذين يسارعون إلى المغفرة.
الثاني : يستلزم الأمر بالمسارعة إلى المغفرة التفقه في الدين ومعرفة أحكام القرآن , وهو من أسباب حفظ القرآن وسلامته من التحريف , وعمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالث : المبادرة إلى سؤال المغفرة، والإجتهاد في الإستغفار , وفي عمل الصالحات التي هي طريق مبارك لنيل الثواب العظيم الذي ذكرته آية البحث.
الرابع : تبين الآية قانونا وهو أن طلب المغفرة والجنة لا يكون إلا من الله عز وجل، وتؤكد آية السياق بأن الجزاء بالنعيم الدائم لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
الخامس : إستدامة الإختبار وسنن الإبتلاء للإنسان وملازمة البشارة له بالجنة مادامت روحه لم تغادر جسده، فإن قيل وإن كان في ساعة الإحتضار فهل من مسارعة إلى المغفرة الجواب نعم، وفي معنى الإحتضارالذي هو(سوق الروح وإخراجها من البدن إعاننا الله عليه ذكرت وجوه:
الأول : حضور الملائكة عنده ملائكة الرحمة او ملائكة العذاب.
الثاني : حضور المؤمنين.
الثالث : حضور الموت كما في قوله تعالى [إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ]( ).
الرابع : حضور ما مر عليه في حياته للإستغفار.
الخامس : استحضار العقل في إعداد الوصية( ).
الخامسة : تضمنت كل من آية البحث والسياق لفظ(مغفرة) وأن هذه المغفرة من الله عز وجل وذكر إسمه تعالى بلفظ الربوبية المطلقة، والإضافة(مغفرة من ربكم) وفي آية البحث(من ربهم) بصيغة الغائب والمعنى واحد، إلا أن لغة الغائب أعم لما فيها من الترغيب للناس جميعاً بالمغفرة، والإنتقال إلى إستحقاق لغة الخطاب (من ربكم).
ويتضمن إقرار المسلمين بأن محو الذنوب وستر العيوب لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، وهو من خصال التقوى التي ذكرتها آية السياق في قوله تعالى(أعدت للمتقين) ليفيد قوله تعالى (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) إرادة إستحضار قصد القربة في السعي إلى المغفرة , وهذا القصد شرط في العبادات.
السادسة : ذكرت آية السياق الجنة وإعدادها للمتقين، وهل من ملازمة بين اللبث فيها والمسارعة إليها أم أن القدر المتيقن هو شرط التقوى، فقوله تعالى(وسارعوا) يستلزم المسارعة كشرط لدخول الجنة أم تكفي التقوى.
الجواب هذه المسارعة حاجة للناس، وهي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، ويدخل في المسارعة المبادرة لأداء الفرائض والواجبات في أوقاتها، وكذا ما يكون واجباً مضيقاً على نحو التعيين الزماني كصيام أيام شهر رمضان من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس، قال تعالى[وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]( )، لتحقق المسارعة قهراً وإنطباقاً.
السابعة : ذكرت كل من آية البحث والسياق شرط التقوى والخشية من الله لدخول الجنة , وفيه دعوة عامة للناس للتحلي بسنن التقوى والتوبة النصوح وشكر الله على النعم والصبر على النوائب، وحسن التوكل على الله والرضا بقسمه والتنزه عن المعاصي، قال تعالى[وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، وفيه دعوة للمسلمين للتآزر في سبل التقوى وجذب بعضهم بعضاً إلى منازلها.
الثامنة : لما تضمنت آية السياق الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنة، جاءت آية البحث بالشاهد والدليل على إستحقاق الجنة لهذه المسارعة العامة والخاصة، ليفيد الجمع بين الآيتين حقيقة وهي أن الخلود في النعيم يستلزم من العقلاء المسارعة والسعي الحثيث إلى بلوغ منازله.
وهو من أسرار جعل العقل عند الإنسان للتمييز بين الحق والباطل، وجلب المصلحة ودفع الضرر والأذى عن الذات , وهل يختص خطاب المسارعة بذات المسلم أم يتضمن بالدلالة التضمنية والإلتزامية إشراك غيره معه في السعي إلى المغفرة واللبث الدائم في الجنة.
الجواب هو الثاني من وجوه:
الأول : صيغة الجمع في آية البحث(أولئك جزاؤهم) وفي لغة الأمر في آية السياق(وسارعوا) وصحيح أنها تنحل إلى صيغة المفرد : وسارع بالخطاب المباشر إلى المسلم، ولكنها تتضمن الأمر بدعوة الغير إلى المسارعة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قال: أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا ، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما)( ).
ويبين الحديث الوظائف الأخلاقية الرفيعة، والعادات الحميدة التي تترشح عن الإنتساب للإسلام والتحلي بصفة الإيمان على نحو الإجتماع والإفتراق، إذ أن النسبة بين الإسلام والإيمان هي العموم والخصوص المطلق، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس، فإن صبغة الإسلام تتجلى بإشاعة الود والمحبة بين الناس، ويحب المسلم لغيره الهداية والصلاح، أما الإيمان فانه فعل وخلق حميد يتجلى بحسن المعاملة والصبر على الأذى، وقد ذكر الجار في القرآن مرتين وفي آية واحدة وبما يشمل العموم في الوصية به بقوله تعالى[وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن ، وليس بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه، أتدرون ما حق الجار؟ إن استعانك أعنته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن مرض عدته، وإن مات شهدت جنازته ، وإن أصابه خير هنأته ، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطيل عليه بالبناء، فتحجب عنه الريح إلا بإذن، وإذا شريت فاكهة فاهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سرا ، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ، ولا تؤذه بقيثار قدرك إلا أن تغرف له منها)( )، ترى عل من موضوعية وإشارة إلى حسن الصلة مع الجار في آية البحث وما فيها من الثواب، وفي الآيتين السابقتين لها وبيان خصال المتقين الجواب نعم من وجوه:
الأول : قوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ] إذ وردت النصوص بإطعام الجار مطلقاً سواء كان فقيرا أو غنياً لأن التوصية بالجار جاءت مطلقة، ومن خصائص الإنفاق على الجار الإجزاء بالقليل وصرف الطبيعة.
الثاني : قوله تعالى(والكاظمين الغيظ) فمن حسن الجوار تحمل الأذى والصبر على الضرر الصادر من الجار وهو من أبهى معاني كظم الغيظ، (وعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: ليس حسن الجوار كف الأذى ولكن حسن الجوار صبرك على الأذى)( ).
لقد أوصى الله ورسوله بالجار وهو من إعجاز أحكام الشريعة الإسلامية بأنها تقود إلى الفوز بما في آية البحث من البشارة والفوز العظيم، فيحرص المسلم على حسن الجوار عملاً، بقوله تعالى قبل ست آيات[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ]( )، فيأتيه الجزاء العاجل والثواب العظيم في الآخرة.
ولو كان كل جار يكظم غبطة ويحبس غضبه عن بدائن وأذل جاره لعاش الجميع في هناءة ورغد وإنقطعوا إلى ذكر الله والعمل والبناء.
الثالث : تتجلى معاني[وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ]( )، في حسن الجوار، وعدم رد الأذى الذي قد يصدر من الجار مع أن هذا الأذى من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، ومن الآيات في المقام أن العفو في الآية أعلاه جاء مطلقاً بذاته وموضوعه والجهة التي يتعلق بها وهي الجار وورد في خبر ضعيف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن الجار أربعين داراً، وجاء الجوار في القرآن بما هو أعم قال تعالى في ذم ووعيد المنافقين[لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
ويتجلى الإطلاق في الآية بإتصاف المتقين بالعفو عن الناس مطلقاً وإن كانوا من ملة أخرى، ويتجلى في عموم الجار وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: الجيران ثلاثة جار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام وجار له حق الجوار المشرك من أهل الكتاب)( ).
الرابع : من مصاديق الإحسان الذي يجلب المصلحة للمسلم ويفوز معه بحب الله تعالى كما في قوله تعالى(والله يحب المحسنين) الإحسان إلى الجار، وحسن الصلة معه، وإجتناب إيذائه والإضرار به شخصاً وعرضاً ومسكناً وإقامة ليكون من بديع خلق الإنسان وسنخية الألفة عنده التحلي بالإحسان إلى الجار وإتخاذ المؤمن مسألة الجوار سكينة في الدنيا وطريقاً إلى الخلود في النعيم وهو من عمومات قاعدة اللطف بقانون موضوعي وهو يتقوم بتفضل الله عز وجل بإيجاد الموضوعات التي تجعل المسلم يعمل الصالحات ويدّخر الحسنات.
الخامس : ذكرت الآية السابقة خصلة حميدة للمؤمنين وهي لجوئهم للذكر والإستغفار[إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ]( )، وإن أساء المسلم إلى جاره فإنه يذكر الله عز وجل وتفضله بالوصية بالجار فيستغفر الله فتكتب له حسنة.
وهل يمكن القول بإمكان التقرب إلى الله تعالى بالإحسان إلى الجار رجاء العفو وغفران فعل الفاحشة أو ظلم النفس، الجواب نعم، لإرادة قصد القربة في الإحسان إلى الجار، وما فيه من مصاديق الذكر.
السادس : في حسن الجوار، وإطمئنان الجار لجاره، وعدم صدور الآثام نحوه سعي في مرضاة الله، ورجاء عملي للفوز بمغفرة الذنوب وجاء في الآية السابقة بقوله تعالى[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ].
وفيه مناسبة للتفقه في الدين، ومعرفة مواطن المغفرة، وإدراك حقيقة وهي أن الإحسان إلى الجار إنما هو بقصد القربة لا يتم هذا الإحسان واقعاً إلا بهذا القصد فبدونه قد تكون الغلبة في السلوك والمعاملة للنفس الغضبية والشهوية، ويتجلى المائز، في نوع وصلة الجوار بين المؤمن وغيره في المجتمعات خصوصاً في زمن العولمة وتقارب البلدان وإطلاع الناس على العادات والقيم وأنماط السلوك للأمم والنحل الأخرى.
وهل يؤدي هذا التقارب إلى تعطيل حق الجوار عند المسلمين لإقتباسهم من حضارات وعادات الأمم الأخرى خصوصاً وأن لها الطول في وسائل الإعلام وأسباب الثقافة، الجواب لا، فبالقرآن والسنة يتعاهد المسلمون سنن الجوار الحسن ويمتنعون عن إقتباس ضدها، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد جاءت آية البحث للتوقي من العادات التي تبعث الكدورة في البيت والعمل، إذ يجتهد المسلمون مجتمعين ومتفرقين في السعي إلى الإقامة في الجنة والإساءة إلى الجار عقبة إلا أن يتم التدارك بما ورد ف الآية السابقة من الذكر والإستغفار، أي أن من يقتبس من صيغ الجفاء مع الجار من المؤمنين لابد وأن يرجع إلى الإحسان في هذا الباب، فإن قلت إن المجتمعات الأخرى لا تسيء إلى الجار بطبعها فكل فرد منها منشغل بذاته ولا يلتفت إلى غيره، وهذا صحيح وهو من الأمور الفطرية والمكتسبة التي جعلها الله عند الإنسان إلا أن الإسلام جاء في المقام بحسن الخلق ومد يد العون للجار وإظهار معاني الأخوة في الجوار، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ فَأَكْثِرْ الْمَرَقَةَ وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ أَوْ اقْسِمْ بَيْنَ جِيرَانِكَ)( )، وفيه لصلة الجوار ولو الأقل والجزء اليسير.
وهو من عمومات قول النبي محمد صلى وآله وسلم: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)( ) وفيه شاهد بأن الناس يقتبسون من المسلمين العادات الحميدة والسنن المتوارثة الكريمة ولا يأخذ المسلمون من غيرهم ضدها، لعدم وجود المقتضي ولوجود المانع.
ومن الآيات في حياة المسلمين أن كل مسلم ومسلمة يعلمان لزوم حسن الجوار والنصوص التي جاءت بالتأكيد عليه، ويتوارث كل جيل من المسلمين التلقي بالقبول والرضا والعناية قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لا زال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت إنه سيورثه)( ).
السابع : ورد في الآية السابقة في وصف المتقين قوله تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( )، لقد تفضل الله عز وجل على الناس عامة والمسلمين خاصة بمعرفة المسلمين لوظائفهم العبادية والأخلاقية، وتوارثهم جيلاً بعد جيل من غير تغيير أو تحريف أو تبديل وهو من عمومات قوله تعالى أعلاه(وهم يعلمون) إذ يعلم المسلمون على نحو العموم الإستغراقي الواجبات والآداب التي تترتب على الجوار ليكون هذا العلم ضياءً يهتدون به وبرزخاً دون الإصرار على سوء الجوار.
لقد ذكرنا قانون حسن الجوار بلحاظ مضامين آية البحث من باب المثال والدرس العقائدي، ولبيان تعدد العلوم المستقرأة والمسائل المستنبطة من الآية القرآنية بلحاظ تعدد المواضيع والعلوم المتفرعة عنها، وفي علم الأصول قاعدة وهي إتباع الحكم للموضوع فإذا تغير الموضوع تبدل الحكم، وكذا بالنسبة للموضوعات بلحاظ الآية القرآنية بإعتبارها حكماً سماوياً يتغشى أمور الدين والدنيا.
الثاني : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتجلى في بعث الناس للسعي في سبل التقوى، والتحلي بمصاديق المغفرة ومقدماتها.
الثالث : مجيء آيات القرآن بلزوم بذل الوسع لسلامة النفس والأهل من النار وأسباب الولوج إليها.
وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أسلم قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} فقالوا: يا رسول الله كيف نقي أهلنا ناراً ؟ قال: تأمرونهم بما يحبه الله وتنهونهم عما يكره الله)( ) ليكون من الإعجاز الغيري للقرآن تظافر جهود أفراد الأسرة المسلمة في سبل الصلاح وصيرورتها أمة وجماعة تتعاون وتتعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وتكون مرآة وشاهدا محسوسا على[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع : حث الآخرين على سبل المغفرة من مصاديق المسارعة فيها، فمن أراد أن يصدق عليه لفظ المسارعة إلى المغفرة فعليه أن يسعى في جذب الناس إلى منازل التوبة والصلاح، وإرشادهم إلى وظائفهم العبادية، وبيان الحاجة الخاصة والعامة للتقوى.
التاسعة : تتضمن خاتمة آية البحث (ونعم أجر العاملين) دعوة للمبادرة إلى التوبة والإنابة وفعل الصالحات، وفيها ثناء حاضر وترغيب بالإستغفار والتوبة.
العاشرة : الصلة بين خاتمي الآيتين، وفيها مسائل:
الأولى : أختتمت آية السياق بقوله تعالى بخصوص الجنة(أعدت للمتقين) وآية البحث بقوله تعالى(ونعم أجر العاملين) وتقدير الجمع بين الآيتين على وجهين:
الأول : أعدت للعاملين.
الثاني : ونعم أجر المتقين.
الثانية : بيان قانون وهو أن التقوى عمل وجد وسعي في سبيل الله، وهل النية وقصد القربة من العمل أم أن القدر المتيقن منه هو الفعل ذو المبرز الخارجي , الجواب هو الأول.
الثالثة : الترغيب بالصالحات والمسارعة إليها، لمجيء خاتمة آية البحث بالشهادة لأهلها بأنهم عاملون في مرضاة الله.
الرابعة : في الدنيا كسب وربح وخسارة، ولكن الربح محدود وقصير أجله لإنقطاع الحياة بمغادرة الإنسان لها قهراً وترك ما إقتناه خلفه، أمّا العمل للآخرة فهو الباقي والدائم في ثوابه وأجره , قال تعالى[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( ).
الخامسة : جاءت كل من الآيتين بصيغة الجمع (المتقين)،(العاملين) وفيه دعوة للمسلمين مجتمعين ومتفرقين للإجتهاد في طاعة الله وحث للناس على الإقتداء بهم في سبل الصالحات، فليس من أسباب للترغيب مثل الوعد بالجنة.
ومن إعجاز القرآن إتحاد الموضوع بين آية البحث والسياق مع الإختلاف في المحمول، فتبعث آية السياق إلى أمرين:
الأول : المغفرة.
الثاني : الجنة التي عرضها السموات والأرض.
وجاءت آية البحث بالإخبار عن حضور كل من المغفرة والجنة، قريبة من المؤمنين , قال تعالى[يَرَوْنَهُ بَعِيدًا* وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( )، وليس من فاصلة بين الآيتين إلا بيان صفات المتقين الذين يدخلون الجنة , وكأن آية السياق تقول للمسلمين والناس جميعاً تحلوا بالصفات الحميدة التي توصلكم إلى اللبث الدائم في الجنة.
الرابع : الصلة بين قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : وأطيعوا الله أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الثاني : وأطيعوا الله أولئك جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
الثالث : وأطيعوا الله ونعم أجر العاملين.
الرابع : وأطيعوا الرسول أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الخامس : وأطيعوا الرسول أولئك لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها.
السادس : وأطيعوا الرسول ونعم أجر العاملين.
السابع : لعلكم ترحمون اولئك لهم مغفرة من ربهم.
الثامن : لعلكم ترحمون جنات تجري من تحتها الأنهار.
التاسع : لعلكم ترحمون ونعم أجر العاملين.
فإن قلت إن آية البحث وما فيها من الجزاء يشمل الأنبياء والرسل، والجواب إن طاعة الرسول من طاعة الله عز وجل , والرسول هو الإمام في عمل الصالحات، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثانية : إقامة الحجة على الناس جميعاً، من وجوه:
الأول : ذكر الوظائف العبادية للمكلفين.
الثاني : إنحصار الصلاح وطريق الجنة بطاعة الله والرسول.
الثالث : منع الجهالة والغرر في أمور الدين والدنيا.
الرابع : هداية الناس إلى سبل الرحمة.
الخامس : بيان قرب وإستقامة الطريق الذي يؤدي إلى الجنة، ويتجلى بيانه في قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، والذي يتلوه كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب.
الثالثة : من إعجاز القرآن الملازمة بين الأمر الإلهي والجزاء، فجاءت آية السياق بالأمر إلى المسلمين والمسلمات جميعاً بطاعة الله والرسول وجاءت آية البحث بالإخبار عن الجزاء العظيم على هذه الطاعة والإمتثال المبارك , وفيه وجهان:
الأول : مجيء الجزاء بصيغة الجمع (أولئك) وفيه ترغيب للمسلمين بالمبادرة إلى طاعة الله ورسوله.
الثاني : دعوة المسلمين والمسلمات إلى تعاهد طاعة الله، إذ أن قوله تعالى(وأطيعوا الله) خطاب متجدد في كل آن وحال.
الرابعة : تضمنت آية السياق الرجاء للمؤمنين بالفوز برحمة الله عز وجل مجتمعين ومتفرقين بقوله تعالى(لعلكم ترحمون) وجاءت آية البحث لتتضمن البشارة بالرحمة للمسلمين جميعاً في الدنيا والآخرة، وليس من حد ومنتهى للرحمة الإلهية في اللبث الدائم في الجنة.
الخامسة : إتحاد لغة وجهة الخطاب في الآيتين، وكل واحدة منهما معطوفة على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً….]( )، وتتوجه هذه الآيات إلى المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة , وبما فيه صلاحهم ونفعهم في النشأتين.
السادسة : من رحمة الله التي وعد بها المسلمين والمسلمات في آية السياق المغفرة في قوله تعالى(أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم) وفيه بيان لقانون أن المسلمين يمتثلون للأوامر الإلهية التي تتوجه إليهم، ولا يمنع منه مجيء آية البحث بصيغة الجملة الخبرية والوصف المبين لخصال المتقين لإنطباقها على المؤمنين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابعة : تترشح سنخية وجوب الشيء على مقدمته، فتكون مقدمة الواجب واجباً , ويفيد الجمع بين الآيتين حقيقة وهي ترشح الوجوب على الطاعة بالذات وصيغة الأمر (وأطيعوا) التي تحمل على الوجوب، ولزوم العناية بالنفس والسعي لجلب المصلحة بالإقامة في الجنة، لتكون معاني الرحمة في آية السياق على وجوه:
الأول : تلقي المغفرة من الله.
الثاني : دخول الجنة واللبث الدائم فيها.
الثالث : الوقاية من النار وشدة العذاب فيها.
الثامنة : ذكرت آية السياق إصابة المسلمين بالرحمة على سبيل الرجاء، ولم تذكر مصدر الرحمة ويحتمل وجوهاً:
الأول : نزول الرحمة من الله عز وجل.
الثاني : الرحمة من الله ورسوله، قال تعالى[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالث : نزول الرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا أخبرت آية السياق عن ترشح الرحمة عن إطاعة الله والرسول، وذكر (أن رسول الله لما شج وجهه يوم أحد شقّ ذلك على أصحابه فقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة)( ).
الرابع : مجيء الرحمة من الناس للمسلمين بسبب طاعتهم لله ورسوله، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
الخامس : التراحم بين المسلمين أنفسهم، ليكون من سنن التقوى والصلاح ومن رشحات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
والقدر المتيقن من الآية الكريمة هو الوجه الأول، وهو لا يتعارض مع الوجوه الأخرى التي هي بالأصل فيض ورحمة من الله عز وجل، وجاءت آية البحث لتأكد أن الرحمة من الله عز وجل من اللامتناهي، ولا تختص بالحياة الدنيا بل تشمل عالم البرزخ، ويوم النشور، ومواطن الحساب وعالم الخلود الدائم.
التاسعة : إن قوله تعالى(لعلكم ترحمون) وعد كريم من الله عز وجل مترشح من مصاديق طاعة الله والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتصف وعد الله عز وجل بأنه إعطاء للكثير الدائم على القليل المنقطع وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، حينما أنكروا صيرورة الإنسان خليفة في الأرض مع إفساده وسفكه للدماء فيها، فمن علم الله تعالى تفضله برحمة المسلمين في الدنيا واللطف بهم بتقريبهم إلى منازل الطاعة وإعانتهم في أداء الفرائض والعبادات , ويحتمل قوله تعالى (لعلكم ترحمون) من جهة تعلقه بطاعة الله ورسوله وجوهاً:
الأول : تعقب الرحمة الإلهية لطاعة الله ورسوله.
الثاني : لا تأتي الرحمة الإلهية إلا بعد صيرورة طاعة الله ورسوله ملكة وسنخية ثابتة عند المسلم.
الثالث : الملازمة بين الطاعة والرحمة.
الرابع : شهادة المؤمنين ومعرفة الناس بطاعة المسلم لله ورسوله.
الخامس : مجيء شآبيب الرحمة في الدار الآخرة.
والصحيح هو الثالث، فليس ثمة فترة بين طاعة المسلم لله ورسوله.
وبين نزول والرأفة من عند الله من وجوه:
الأول : إنه من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الثاني : تعجيل رحمة الله مصداق للوعد الإلهي، وبيان لخصائصه وما ينفرد به من سرعة حضوره ومجيئه على نحو دفعي ومتصل.
الثالث : الترغيب بطاعة الله ورسوله، إذ أن التعجيل بالجزاء سبب للإستجابة بالإضافة إلى حقيقة وهي أن الإمتثال للأوامر الإلهية أمر متجدد في ذات الأشخاص وتعاقبهم.
الرابع : من رحمة الله توارث المسلمين لطاعة الله ورسوله، والثبات في منازل الإيمان، والإرتقاء في سبل الصلاح والتقوى.
الخامس : تتجلى رحمة الله بالمسلمين بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لأن المراد من(خير أمة) أعم من الفعل والعمل فيشمل نزول الرحمة والبركات من الله عز وجل , فإن قالت الأمم الأخرى لماذا هذا الإختصاص برحمة الله.
الجواب إن هذه الرحمة العظيمة مقيدة بطاعة الله ورسوله والناس فيها شرع سواء، فكل فرد وجماعة مدعوّون لهذه الطاعة , والفوز ببركاتها وفيوضاتها، وليس من حصر لمصاديق رحمة الله على كل أمة وجماعة وأفراد.
وتحتمل الصلة بين رحمة الله بالمسلمين في الدنيا وفي الآخرة وجوهاً:
الأول : الإستقلال لكل منهما، فرحمة الله في الدنيا مستقلة عن رحمته تعالى في الآخرة للتباين الموضوعي في العوالم الطولية.
الثاني : التداخل بين رحمة الله في الدنيا وفي الآخرة.
الثالث : التشابه والإتحاد بين رحمة الله في الدنيا والآخرة.
الرابع : رحمة الله في الدنيا مقدمة لرحمته تعالى في الآخرة، وبإستثناء الوجه الأول فإن الوجوه الثلاثة الأخرى من معاني الإطلاق في قوله تعالى(لعلكم ترحمون) ومن مصاديق ترتب الثواب في الآخرة على فعل الصالحات في الدنيا.
الخامس : صلة آية البحث بالآية الكريمة[وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( )، مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : واتقوا النار أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الثاني : واتقوا النار ونعم أجر العاملين.
الثالث : واتقوا النار أولئك جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
الرابع : ونعم أجر العاملين واتقوا النار.
الثانية : من إعجاز القرآن بيان خصائص المتناقضين بما يبعث الشوق في النفس للثواب والجزاء الحسن، والنفرة من السيئات والقبائح لأن فعلها يؤدي إلى النار.
الثالثة : بين السعي إلى المغفرة وإتقاء النار عموم وخصوص مطلق، فطلب المغفرة أعم , ومن مصاديقه وثمراته إتقاء النار، وكل مرة يرجو فيها المسلم المغفرة هو إحتراز وواقية من النار.
الرابعة : ذكرت آية البحث الجنة وتضمنت النعم العظيمة التي فيها والخلود في نعيمها، بينما ذكرت آية السياق النار وإعدادها للكافرين، ولكن ذكرها في طول ذكر الجنة وبذات لغة وجهة الخطاب لأنها جاءت بلغة الإنذار والتحذير من النار وعذابها، ويفيد الجمع بين الآيتين أن الذين يتقون النار لهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار، بلحاظ وجوه:
الأول : قصد القربة في إجتناب الذنوب التي تؤدي بصاحبها إلى النار، فالإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار فمن إجتنب الزنا أو الربا مثلاً طاعة لله عز وجل وخشية أليم النار تكتب له حسنة وهو سبيل مغفرة.
الثاني : من معاني التوقي من النار اللجوء إلى الإستغفار، والإجتهاد في طاعة الله عز وجل، وفي الإستغفار وإبعاده صاحبه عن النار ورد ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قال دبر كل صلاة أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، غفر له وإن كان قد فر من الزحف)( ).
الثالث : ليس من وسط وبرزخ في عالم الجزاء يوم القيامة، فأما أن يؤخذ العبد إلى الجنة بإكرام، وأما أن يساق إلى النار كرها بما فعلت يداه، وليس من فناء وموت يومئذ، أو عودة إلى الدنيا للتدارك والإنابة، وفي التنزيل[قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ]( )، إذ يتوسل الكافر ويسأل العودة إلى الدنيا وماله وجاهه ويبذل وسعه لعمل الصالحات ويبدأ أوان هذا التوسل من حين مفارقة الروح للجسد وليس لنهايته حد معلوم فيستمر وهو يظن أن الدنيا باقية وموجودة والعودة لها أمر ممكن ولكنها زالت وإنطوت[كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( )، حيث ينقطع معها الإمتحان والإختبار والإبتلاء قبل أوان النشور والحساب.
وهل يرجو الكافر من الله إعادته للدنيا مرة أخرى وهو القادر على كل شيء، الجواب لا إعتبار أو حرمة لرجاء وسؤال الكافر، وفي التنزيل بخصوص دعاء أهل النار[قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
الخامسة : تتضمن آية السياق في مفهومها البشارة للمؤمنين بالنجاة من النار، لحصرها وموضوع إعدادها بالكفار والجاحدين، فكأنها تقول للمسلمين إنكم في مأمن من النار لأنها أعدت لأعدائكم وأبى الله أن يجمع بينكم وبين عدوكم، وتأتي آية البحث بالبشارة والأمن للمسلمين والإخبار عن سلامتهم من النار وحرها.
السادسة : يفيد الجمع بين إخبار آية السياق عن إعداد النار للكافرين على نحو الحصر والتعيين، وبين بشارة آية البحث بالمغفرة للمؤمنين بعث السكينة والأمن في نفوس المسلمين من ولوج النار يوم القيامة ويعتبر طلب الأمن والسلام أظهر وأهم موضوع يستحوذ على فكر وفعل الإنسان فهو يسعى لإحراز الأمن الدائم أو المؤقت في الدنيا له ولعياله.
وجاءت كل من آية البحث والسياق لتخبرا عن أولوية الأمن في الآخرة، وشراء السلامة من عذاب النار بالتنزه عن الكفر ومفاهيم الضلالة.
السابعة : من إعجاز القرآن إقتران دعوة المسارعة إلى المغفرة بالتحذير من النار وشدة عذابها, وفيه شاهد على أمور:
الأول : التكامل الموضوعي في خطابات القرآن.
الثاني : الزجر عن خلط العمل الصالح بالسيء، والمبادرة إلى الإستغفار والتخلص من آثاره، قال تعالى[وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ]( )، وهل من موضوعية لكل من آية البحث والسياق في تقريب الذين يجمعون بين الصالحات والسيئات إلى مسالك التوبة وطرق الهداية، الجواب نعم.
وتتجلى موضوعيتها على نحو الإتحاد والإنفراد في صلاح النفوس وتهذيب عالم الأفعال بالخشية من النار والسعي الدؤوب لإكتناز الحسنات.
الثامنة : بعث الحسرة والندامة في نفوس الكافرين، وتأكيد الإخبار بالعالم الآخر، وإنتظارهم الوقوف بين يدي الله عز وجل للحساب، وكل من الآيتين من مصاديق اللعنة في قوله تعالى[الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
وهل هذه الحسرة مستقرة أم متزلزلة، الجواب هو الثاني لأنها متعلقة بالتلبس بالكفر والجحود، فما أن يتوب العبد إلى الله ويسارع إلى المغفرة حتى تأتيه البشارة على نحو دفعي ومتعدد، لذا فمن إعجاز كل من الآيتين ترتب الحكم فيهما على الصفة.
لقد أعدّ الله النار للذين يموتون على الكفر , فتأتي آية السياق إنذاراً للكافر ووعيداً له بأن النار في إنتظاره، قال تعالى[يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( )، ولكن ما أن يتجافى عن مواطن الكفر، ويتبرأ من مفاهيمه تتوجه له ذات الآية بلغة الإخبار عن حال قوم آخرين يتصفون بالكفر ومنهم أصحاب له بالأمس، فتأتيه آية البحث بالبشارة بالجنة مما يجعله ينبعث بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي له منافع خاصة وعامة غير متناهية لتكون كل من آية السياق والبحث سلاحاً مباركاً تجري مصاديقه على لسانه ويده.
التاسعة : جاءت آية السياق مختصرة موجزة من أربع كلمات ولكنها تتضمن مسائل وأحكام متعددة وهي:
الأول : صدور الخطاب في الآية للمؤمنين مع أنهم في مأمن من النار، وفيه حجة وبرهان بلزوم مصاحبة الإيمان وفعل الصالحات للعبد والخشية من النار ما دام في الحياة الدنيا.
الثاني : التسالم بين الناس على وجود الجنة والنار في الآخرة، وأن النار خاصة بالكفار الجاحدين.
الثالث : إكرام المسلمين بتوجه الخطاب الإلهي لهم بالتوقي من النار.
الرابع : دعوة الناس للإقتداء بالمؤمنين بالإحتراز من النار.
الخامس : بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن إعداد النار مخصوص للكفار، لتكون كل من آية السياق والبحث من عمومات قوله تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادس : قاعدة منع الجهالة والغرر من جهات:
الأولى : بيان القبح الذاتي للكفر.
الثانية : الضرر البالغ في الدنيا والآخرة والمترتب على الكفر، وأنه ظلم للنفس، وفي عدم فتور عذاب جهنم عن المجرمين ورد قوله تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ]( ).
الثالثة : تأكيد الطريق إلى النجاة في الآخرة، وهو التوبة وفعل الصالحات.
الرابعة : إقامة الحجة على الناس، ببيان عاقبة الكفر، وفيه دلالة على الزجر عنه.
الخامسة : تجلي فضل الله في نزول القرآن بإنذار وتحذير الناس من الكفر وسوء عاقبته.
السادس : صلة هذه الآية بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : الذين آمنوا جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا ونعم أجر العاملين.
الثالث : وإتقوا الله أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار.
الرابع : لعلكم تفلحون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الخامس : لعلكم تفلحون ونعم أجر العاملين.
السادس : اتقوا الله ونعم أجر العاملين.
السابع : واتقوا الله أولئك جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
الثانية : آية البحث معطوفة على آية السياق في لغة الخطاب، فمع أنه بين الآيتين خمس آيات فإن صيغة العطف تتغشى جميع هذه الآيات، وتلك آية في تعدد مصاديق إكرام المسلمين، ولا ينحصر هذا التعدد بخصوص عدد الآيات بل يشمل مضامينها المتكثرة.
الثالثة : جاءت آية السياق بصيغة الخطاب , أما آية البحث فوردت بلغة الغائب، وفيه آية إعجازية في الإتحاد بجهة الخطاب مع نسبة العموم والخصوص المطلق في الجزاء الذي ورد في آية البحث بلحاظ أنه شامل للمسلمين في الأمم والملل المختلفة بتعاقب الأحقاب من أيام أبينا آدم عليه السلام.
كما ورد في وجوه التشابه بين المسلمين والموحدين من الأمم السابقة في باب العبادات وأسباب الصلاح قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
وجاءت الآية أعلاه بصريح العبارة بأن الصيام كان مفروضاً على الأمم السابقة فهل الربا محرم عليهم أيضاً، أم أنه تشريع جديد ملازم لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب هو الأول من وجوه:
الأول : تتجلى في آية السياق حقيقة التنافي بين الإيمان والربا، لأنها تخاطب المسلمين بصيغة الإيمان وتزجرهم عن الربا وأخذ الفائدة على القرض ونحوه.
الثاني : القبح الذاتي للربا ومضاعفة الفائدة الربوية بغير حق.
الثالث : في الربا ظلم وتعد وفق أحكام الشريعة، وتنفر نفوس المؤمنين من ظلم النفس أو ظلم الغير.
الرابع : يمكن تأسيس قاعدة كلية , وهي لو ورد نهي للمسلمين في القرآن وشككنا هل ورد ذات النهي على المسلمين في الأمم السالفة أم لا، فالأصل هو الأول.
الخامس : مجيء آية السياق بالأمر بتقوى الله والخشية منه، ومجيء الآية التالية لها بلزوم التوقي من النار بقوله تعالى[وَاتَّقُوا النَّارَ]( ).
ومن أبهى مصاديق التوقي والإحتراز من النار إجتناب أكل المال بالباطل .
السادس : تأكيد الآية على حقيقة وهي لغة الرجاء في نيل مرتبة الفلاح والنجاح والبقاء الحسن مع إجتماع ثلاثة أمور، وهي:
الأول : الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإبتداء الآية بخطاب الثناء والمدح (يا أيها الذين آمنوا).
الثاني : إجتناب أكل الربا.
الثالث : تقوى الله والخشية منه بقوله تعالى(واتقوا الله).
السابع : مجيء آية البحث بالبشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات في حال السراء والضراء باللبث الدائم في النعيم، وبين الإنفاق والربا نوع تناف، والقرض غير الربوي أدنى مرتبة من الإنفاق، لأن القرض ترجو فيه الإعادة ليدل الأمر والترغيب بالإنفاق في قوله تعالى قبل آيتين في وصف أهل الجنة[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( )، على البعث على إقراض المحتاج ورجاء الثواب فيه من باب الأولوية القطعية.
الرابعة : تضمنت آية السياق الأمر بالخشية من الله بقوله تعالى(وإتقوا الله) وهو خطاب للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي وجاءت آية البحث بالبشارة للمتقين بالإقامة الدائمة في الجنة لقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، بتقوى الله في آية السياق الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجزاء بالجنة الواسعة.
الخامسة : بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو إصلاح المسلمين بواسطة بيان حسن العاقبة على الإيمان وتقوى الله فزجرت آية السياق عن أكل الربا، وتضمنت آية البحث البشارة بالجنة لمن إمتثل للأوامر والنواهي الإلهية، وعندما إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض بسبب قبح فعل الإنسان كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ]( )، جاء الرد من الله عز وجل بأنه يعلم ما لا يعلمه الملائكة وإتخذ الملائكة هذا الرد حجة بالغة وبرهاناً على أهلية الإنسان للخلافة, ليكون من مصاديق الرد الإلهي وأفراد إصلاح الناس وتنزيه الأرض من الفساد والقتل بغير حق وجوه:
الأول : آية البحث وما فيها من البشارة والترغيب بحسن العاقبة والثواب العظيم.
الثاني : آية السياق وتضمنها للنهي والأمر، النهي عن أكل الربا والأمر بتقوى الله.
الثالث : الجمع بين الآيتين أعلاه , فإذا كان المسلم يحرص على إجتناب الإفساد في الأرض، ويحترز من القتل بدون حق ويخشى القصاص لقوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
السادسة : جاءت الآيتان السابقتان في بيان صفات المتقين الذين يكون جزاؤهم من الله عز وجل الجنة والنعيم الدائم، أما آية السياق فانها تضمنت النهي عن أكل الربا، ويفيد الجمع بين هذه الآيات عدم إختصاص الجنة بالأمتثال للأوامر بل يشمل إجتناب ما نهى الله عنه، فجاء ذكر النهي عن أكل الربا لوجوه:
الأول : التذكير بالنواهي التي وردت في القرآن والسنة، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثاني : بيان قبح الربا على نحو الخصوص، وقد يتهاون بعضهم في أكل الربا، ويشترط الفائدة على القرض لما فيه من شائبة البيع وقضاء حاجة آخذ القرض، وفي التنزيل[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( )، وليس في الربا إرتكاب جناية فعل ظاهرة تنفر منها النفوس كالزنا والسرقة، فجاءت آية السياق بتأكيد القبح الذاتي للربا، وحرمته شرعية قبل أن تصل النوبة إلى الأضرار المترتبة عليه التي هي حجة وبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجيئها بالتكامل في الإصلاح.
الثالث : تعلق الجزاء بالجنة بحسن المعاملة في الأسواق التي هي مرتع للشيطان، ومحل ظهور خصلة الطمع , وجاءت آية البحث للوقاية منهما بحضور الثواب العظيم على التقوى عند المسلم في عباداته ومعاملاته.
إن إتصاف أسواق المسلمين بالسلامة من الربا من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ولا يضر بهذا القانون وجود ظواهر لمعاملات ربوية فردية أو جاءت من صيغ المماثلة والمحاكاة مع أمم ودول ومصارف أخرى، فإن القرآن جاء بالفصل والبيان، وجعل المسلمين مؤهلين من جهات:
الأولى : التمييز بين الحلال والحرام في المكاسب.
الثانية : معرفة حرمة الربا ومصاديقه العملية في الخارج.
الثالثة : من خصائص وبركات كل من آية البحث والسياق تنمية ملكة الوقاية من المنكرات وإجتناب السيئات وهذه الملكة حاجة وخصلة من خصال المتقين.
لقد جعل الله عز وجل الجنة جزاءً عظيماً خالداً وأنزل آيات القرآن لتكون إماماً يقود إلى هذا الجزاء، وضياء يهدي إليه وليكون من مصاديق الهداية في قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ورود آيات القرآن بالهداية إلى سبل النجاة في النشأتين، أي أن المسلم يدعو الله في كل يوم في الصلاة ويأتيه الهدى والرشاد في الحال بذات آيات القرآن وتلاوتها والإنصات إليها وهو من مصاديق سرعة الإستجابة في قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
إذ يتصف دعاء المسلم في المقام بخصائص:
الأولى : صبغة القرآنية في القراءة والدعاء.
الثانية : وقوف المسلم بين يدي الله عز وجل أثناء الصلاة خاشعاً خاضعاً.
الثالثة : سؤال المسلم المزيد من الهداية بلحاظ أن الصلاة ذاتها هداية ومع هذا يسأل الهداية إلى الصراط المستقيم الذي يؤدي إلى الجزاء.
السابعة : إن خطاب الإكرام والثناء ( يا أيها الذين آمنوا) دعوة للمسلمين لتعاهد الإيمان ليكون هذا التعاهد بذاته سبباً ومقدمة للفوز بالمغفرة، ولا يمكن بلوغ هذه المقامات من دون التحلي بالإيمان بالله ورسوله.
والجمع بين الآيتين وسيلة مباركة للتفقه في الدين والإرتقاء في المعرفة الإلهية لما فيها من الملازمة بين الإيمان والسعي إلى المغفرة، فذات الإيمان خطوة مباركة في الصراط المستقيم، وهو باعث لإتيان ما يمليه الإيمان من الوظائف العقائدية والعبادية وكل فرد منها سعي إلى الإقامة الدائمة في جنة النعيم.
وهل تدخل الشهادة بالإيمان في قوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) في عمومات العمل الصالح والجزاء الوارد في خاتمة آية البحث (ونعم أجر العاملين) الجواب نعم فإن الإيمان عمل مبارك تفضل الله عز وجل بالثناء عليه بالخطاب بصبغة الإيمان الذي هو إختيار وسعي ورشاد وأصل تبتنى عليه طرق الكسب والمغفرة.
الثامنة : يفيد الجمع بين الآيتين أن المغفرة لا تنحصر بفعل الصالحات بل تشمل إجتناب السيئات والكبائر ومنها أخذ الفائدة الربوية وإشاعة الربا، ليكون من خصال المؤمنين الإمساك عن الفواحش والمعاصي، ولكن من يرتكبها تأتيه الدعوة للتوبة والإنابة بقوله تعالى قبل آيتين[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ).
وهو من اللطف الإلهي والرأفة بالمؤمنين بأن خطابات الثناء لا تنقطع عن الذي يرتكب السيئات من المؤمنين فإن قلت إنما تأتي خطابات الثناء للمسلمين جميعاً رجالاً ونساءً، ويحتمل وجوهاً:
الأول : خروج الذي يفعل الفاحشة منهم بالتخصيص، كما في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وفيه حذف وتقديره على شعبتين:
الأولى : إلا الذين يفعلون الفاحشة منكم.
الثانية : أنكم (خير أمة) مع وجود من يفعل الفاحشة من بينكم.
ولا دليل على هذا الحذف بشعبتيه، وإذا أعطى الله فإنه يعطي بالأتم والأوفى.
الثاني : إرادة خصوص المؤمنين الذين يعملون الصالحات في الخطاب القرآني(يا أيها الذين آمنوا) للتسالم على الملازمة بين الإيمان وعمل الصالحات.
الثالث : الثناء على المسلمين في الخطاب القرآني إنحلالي يشمل كل مسلم ومسلمة.
والصحيح هو الثالث وهو الذي يدل عليه ظاهر وموضع الخطاب بصبغة الإيمان.
التاسعة : تضمنت آية البحث الوعد الكريم بالجنة الواسعة التي تجري من تحتها الأنهار بلحاظ صفات المتقين التي وردت في الآيتين السابقتين من الإنفاق وحبس الغضب والعفو عمن يسيء إليهم، ومبادرتهم إلى الإستغفار والإنابة عن إرتكاب المعصية.
ولم تذكر هذه الآيات الذين يمتنعون عن أكل الربا فهل تشملهم البشارة بالمغفرة الجنة التي جاءت بها آية البحث الجواب نعم لأنه تقيد بمضامين النهي الإلهي، وإجتناب للمعاملة الربوية المحرمة في الإسلام، وهو من مصاديق التقوى والخشية من الله عز وجل سواء بلحاظ الإمتناع عن أكل الربا بالذات أو بلحاظ طاعة الله في التنزه والعصمة عن أكل المال الربوي المحرم.
ومن الآيات أن المسلمين يمتنعون عن المعاملة الربوية جملة وتفصيلاً، فيمتنع المسلم عن أخذ المال الربوي بالفائدة مع حاجته للمال، ومن العصمة إمتناع المعصية، فإذا كان صاحب أموال يريد أن يقرضها بالنفع والربح فإنه لا يجد طرفاً آخر يقبض منه ويدفع له الفائدة، وفيه آية إعجازية في إصلاح المجتمعات ومنع الفساد في الأرض بإنعدام الطرف القابل للمفسدة التي تستلزم المفاعلة، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
فإن الله عز وجل زجر عن الفساد مطلقاً، وأعان المسلمين للإمتناع عن مصاديقه، ويمكن تقسيم الفساد إلى أقسام:
الأول : الفساد الذي لا يحتاج إلا إلى طرف واحد، كالإمتناع عن أداء الفرائض عمداً وما فيه من ظلم للنفس.
الثاني : الفساد الذي لا يتقوم إلا بطرفين، وهو على شعب:
الأولى : وجود طرف فاعل آخر يقع عليه الفعل والتعدي كالقتل، ففيه قاتل ومقتول ومثل السرقة والتعدي بالضرب والإفتراء.
الثانية : الفساد الذي يستلزم التراضي بين طرفين مثل أكل الربا والمعاملات الباطلة، والزنا.
الثالثة : ما يشترك فيه أكثر من طرفين وهو على شعبتين:
الأولى : الفساد الذي يكون بالتسبيب من طرف، والمباشرة له من طرف آخر.
الثانية : ما يكون بالواسطة من طرف والفعل من آخر.
الثالث : الفساد الترتيبي أي الذي تكون أطرافه على مراتب متفاوتة مثل أكل الربا، فأشدهم عقوبة الذي يأكله.
الرابع : الأمر المردد بين الإيقاع من طرف واحد أو التراضي والتوافق من طرفين كما في النهي عن المعروف والأمر بالمنكر، فيصدر من شخص وقد يفعله طرف آخر متحد أو متعدد وقد لا يفعله , وأكل الربا من الوجه الثاني أعلاه بشعبتيه، والقسم الثالث , وجاءت اللعنة لتشمله وغيره، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الربا خمسة آكله وموكله وشاهديه وكاتبه)( ).
كما يمكن تقسيم الفساد تقسيمات أخرى كلحاظ الأثر المترتب عليه , وهو من الإعجاز والسعة في رحمة الله، وجاءت آية البحث بإستحباب العفو والمغفرة ومتعلقها على وجوه:
الأول : فساد يؤثر ويضر على ذات الشخص, قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ]( ).
الثاني : ما يكون أثره على الفرد والأسرة، كما في الإسراف الباطل في المال.
الثالث : أثر الفساد على الجماعة.
الرابع : آثار وأضرار الفساد على الأجيال اللاحقة كالذرية[وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ]( ).
ومن الإعجاز في آية البحث التعدد في الوجوه التي تتغشاها المغفرة بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ…]( )، ويتقوم فعل الفاحشة في الغالب بطرفين، وكل طرف منهما يصدق عليه أنه فاعل للفاحشة، فجاء خطاب الترغيب بالإستغفار والتوبة من وجوه:
الأول : توجه الدعوة بالتوبة لكل طرف من أطراف فعل الفاحشة على نحو الإستقلال.
الثاني : دعوة كل طرف بالإنضمام إلى الطرف الآخر.
الثالث : توجه الدعوة والخطاب لهما على نحو العموم المجموعي، من الدفعة الواحدة.
الرابع : فوز المتقين بالمغفرة ومرضاة الله.
العاشرة : بعد أن تضمنت آية السياق الزجر عن أكل الربا وإن كان (أضعافاً مضاعفة) لأصل المال وذات القرض الذي هو علة وسبب قبض الفائدة الربوية جاءت آية البحث لتبشر بالمغفرة والجنة , وفيه مسائل:
الأولى : البعث للزهد بالمال الزائل والفوائد المحرمة التي تحجب عن الإنسان السعادة الأبدية واللبث الدائم في النعيم.
الثانية : حضور الربط الذهني بين آيات القرآن عند إختيار الفعل، فيميل الإنسان إلى ما فيه نفعه الدائم.
الثالثة : نفرة المسلم من المال الربوي وإن كان يحقق أرباحاً طائلة.
الرابعة : ما تتضمنه آية البحث من الثناء على المؤمنين الذين يعملون الصالحات بقوله تعالى(ونعم أجر العاملين) دعوة يومية متجددة للتقوى، وحجة على الإنسان، ومناسبة وصيغة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الحادية عشرة : جاءت آية السياق بالأمر الإلهي(واتقوا الله) وهو خطاب يتوجه للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، فيجب أن يتحلى كل مسلم بخصال التقوى، وأن يكون المسلمون مجتمعين أمة تتصف بالخشية من الله عز وجل , وبها يعرفون بين الناس وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس : صلة آية البحث بقوله تعالى[وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ…..]( )، وفيها مسائل:
الأولى : بينت آية السياق الملكية المطلقة لله عز وجل، فما من شيء من الموجودات والكائنات إلا وهو ملك طلق لله عز وجل لا يشاركه فيه أحد وهو من معاني ومفاهيم الوحدانية ولزوم عبادة الله، وجاءت آية البحث لتؤكد أن ملك الله عز وجل شامل للآخرة أيضاً، وفي التنزيل[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
وفي الآية إعجاز يتجلى بالسؤال والجواب في تداخل الكلمات أعلاه وهو سؤال تحد وتقرير وتأكيد، وإنكار لفعل الذين غرتهم الحياة الدنيا ولهثوا وراء زينتها، وأختلف في الآية على وجوه:
الأول : إن الله عز وجل هو الذي يسأل ويجيب، ليكون ذات السؤال من ملك الله يوم القيامة وما فيه مطلقا والناس يومئذ في سكون ورهبة.
الثاني : إن الناس والخلائق هي التي تجيب الله عز وجل.
الثالث : القائل(لمن الملك اليوم) ملك من الملائكة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه بلحاظ رجحان تكرار هذا القول في مواطن عديدة يوم القيامة لأنه حق وصدق، وورد في حديث طويل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ملك الموت يأتي ويقول: يا رب مات حملة عرشك فيقول الله وهو أعلم فمن بقي؟ فيقول: يا رب بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت أنا فيقول الله له: أنت خلق من خلقي, خلقتك لما رأيت فمت فيموت فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار)( ).
وقد فاز المسلمون بالإنصات لهذا القول في الحياة الدنيا مع أنه من أسرار يوم القيامة ولا يسمعه حينئذ أحد من الخلائق وتلك نعمة يمّن بها الله عز وجل على المسلمين وكنز من علوم الغيب يظهره للناس بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : أخبرت هذه الآيات عن سعة الجنة وأن[عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] وهل يدل إخبار آية السياق عن ملكية السموات والأرض لله على أن سعة الجنة هي ذات السموات والأرض على نحو الحصر , الجواب لا، إذ أن سعة الجنة أعم وأكبر من السموات والأرض، وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فملك الله للسموات والأرض لا ينفي ملكه تعالى لغيرهما، لذا جاءت الآية أعلاه من سورة غافر مطلقة بلحاظ الملك وقدرة الله عز وجل على توسعته وزيادته.
وهل هو من عمومات قوله تعالى[وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( )، الجواب نعم , فالتوسعة والزيادة في الخلائق متجددة ومتصلة ولكن ملك الله في الحياة الدنيا أعم وأكبر من السموات والأرض، ومنه الجنة والنار بلحاظ أنهما مخلوقتان، (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة القيت في ترس , قال ابن زيد: قال أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد القيت بين ظهري فلاة من الأرض، والكرسي موضع القدمين)( ).
الثالثة : يفيد الجمع بين الآيتين بعث الشوق في النفوس للجنة الواسعة لأنها من ملك الله وهو سبحانه الذي وعد المتقين بدخولها والإقامة فيها، وهل المغفرة من ملك الله الجواب نعم فلا يقدر على محو الذنوب إلا الله عز وجل وتجلت المشيئة في آية السياق وتقديرها: يغفر لمن يشاء) بفضله ولطفه(ويعذب من يشاء) بعدله.
الرابعة : تكررت مادة (غفر) في آية السياق مرتين وجاءت مرة واحدة في آية البحث، وكلها تعود لله عز وجل وفيه دعوة للناس للإجتهاد في الإستغفار والتضرع إليه سبحانه ليكونوا من الذين يغفر لهم، ولو إستغفر الناس جميعاً فأين المصداق الخارجي لمن يلقى العذاب بقوله تعالى(ويعذب من يشاء) الجواب من وجوه:
الأول : إن الله عز وجل يعلم أن الناس لم يستغفروا جميعهم و منهم من يموت على الكفر.
الثاني : يتفضل الله بالآيات والبراهين التي تدعوهم كل صباح ومساء إلى الإستغفار والعبادة، وكان الكفر ظاهراً أيام نزول القرآن الذي هو حرب سماوية متجددة عليه.
الثالث : موضوع المغفرة والعذاب المذكورين في آية السياق أعم في متعلقهما من بني آدم، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وتؤكد الآية أعلاه الوظائف العبادية لعالم الجن مثلما هي واجبة على الناس، ولا تعني الحصر في العبادة بالجن والإنس فتشمل العبادة الملائكة والخلائق بالماهية والكيفية التي ألهمها وأرشدها إلى مصاديقها الله عز وجل، قال تعالى[يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( )، وهل تشمل موضوع العفو عمومات قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، الجواب نعم، فإن المغفرة باب يتسع بلطف ورأفة من الله عز وجل، وجاءت آية البحث لترغيب الناس رجالاً ونساءً به، ويتجلى الترغيب بأمور:
الأول : شرطية التقوى للنجاة يوم القيامة.
الثاني : الدعوة إلى العمل الصالح وجعله السبيل إلى الإقامة في الجنان، ولتكون الآية من عمومات قوله تعالى[وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثالث : ذكر النعم العظيمة الدائمة التي تنتظر المؤمنين في الآخرة.
الرابع : بيان قانون كلي وهو أن الجنان وما فيها من السعادات جزاء وأجر للعاملين في مرضاة الله.
الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : أولئك لهم مغفرة من ربهم ولله ما في السموات وما في الأرض.
الثاني : يغفر لمن يشاء أولئك لهم مغفرة من ربهم.
الثالث : ولله ما في السموات والأرض أولئك لهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
الرابع : ولله ما في السموات وما في الأرض ونعم أجر العاملين.
الخامس : أولئك لهم مغفرة من ربهم ويعذب من يشاء.
السادس : ولله ما في السموات والأرض أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم ويعذب من يشاء.
السابع : ولله ما في السموات وما في الأرض ونعم أجر العاملين.
الثامن : يغفر لمن يشاء ونعم أجر العاملين.
التاسع : ولله ما في السموات وما في الأرض ونعم أجر العاملين ويعذب من يشاء.
العاشر : ولله ما في السموات والله غفور رحيم.
الحادي عشر : أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم والله غفور رحيم.
الثاني عشر : أولئك جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار والله غفور رحيم.
الثالث عشر : ونعم أجر العاملين والله غفور رحيم.
الرابع عشر : يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ونعم أجر العاملين.
السادسة : الجمع بين الآيتين مصداق لبيان المجمل في القرآن، إذ ورد موضوع المغفرة في آية السياق بصيغة الإجمال بقوله تعالى(يغفر لمن يشاء) لتتعقبها آية البحث بالبيان والتفصيل لمتعلق المشيئة الإلهية، وخصال الأفراد والجماعات الذين تنالهم المغفرة.
ومن الإعجاز في المقام وأسرار المجمل والمبين في القرآن هو إنعدام الحصر لرحمة الله في آية مخصوصة، فلا تختص رحمة الله والفوز بالمغفرة بأهل هذه الآيات من الذين ينفقون على كل حال ويحبسون غيظهم، ويردون غضبهم، ويبادرون إلى العفو عن الناس ويلجأون إلى الإستغفار كطريق ومقدمة يرجو المسلم أن توصله إلى الفوز بالمغفرة من الله عز وجل، مما يدل على قانون كلي في القرآن من وجوه:
الأول : المجمل في القرآن تبينه آيات متعددة.
الثاني : تبين الآية القرآنية الواحدة المتعدد من المجمل في ذات آيات القرآن.
الثالث : تتضمن الآية القرآنية البيان الذاتي لموضوعاتها ليكون حرزاً ومقدمة للمعنى الأعم من البيان.
السابعة : تكرر لفظ وموضوع المغفرة في هذه الآيات من وجوه:
الأول : إن الله عز وجل يغفر لمن يشاء من الناس.
الثاني : من أسماء الله عز وجل الغفور، وإقترن في آية السياق بصفة الرحيم بقوله تعالى(والله غفور رحيم) وفيه بشارة سعة المغفرة وإن ملاكها الفضل والإحسان الإلهي وليس الإستحقاق من البشر.
الثالث : بعث المسلمين إلى المغفرة، وإجتناب التسويف والإبطاء والتردد فيه، بقوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وفيه مسائل:
الأولى : المسارعة إلى ذات المغفرة.
الثانية : المواظبة على أداء الفرائض والواجبات العبادية.
الثالثة : تلمس مواطن المغفرة والعفو الإلهي كتاباً وسنة إذ تدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على أن المغفرة الإلهية موجودة وحاضرة وظاهرة للمؤمنين في سبل بلوغها، ومن مصاديق[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) إستثناء المسلمين من أسباب حجب المغفرة عنهم، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( )، لذا يتضمن الأمر الإلهي للمسلمين بالمسارعة إلى المغفرة بشارة بإمكان المغفرة، ووعداً كريماً للمسلمين بنيلها.
الرابعة : بيان خصلة حميدة من خصال المسلمين وهي الإستغفار عند فعل فاحشة لقوله تعالى[ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ).
وتقدير الآية: فإستغفروا الله لذنوبهم، وسألوه أن يعفو عنهم ويتجاوز عن خطاياهم، وهل يشمل المسلمين نزول بلاء الموت الوارد في الحديث عن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما نقض قوم العهد قط الا كان القتل بينهم ولا ظهرت الفاحشة في قوم قط الا سلط الله عليهم الموت ولا منع قوم الزكاة الا حبس الله عنهم القطر)( ).
الجواب لا، لأن لدلالة الحديث أعلاه تدل على تفشي فعل الفاحشة وغياب أو ضعف أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما يلجأ المسلمون لذكر الله والإستغفار، وقد شهد الله عز وجل بقيام المسلمين بوظائف الأمر والنهي , قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، وفيه واقية من الفناء ومقدماته العرضية كظهور الفواحش، سمع ابن الكوا الأمام علي عليه السلام يقول: أعوذ بالله من الذنوب التي تعجل الفناء، فقال: أيكون ذنب يعجل الفناء ؟ فقال: نعم قطيعة الرحم، إن أهل بيت يكونون أتقياء، فيقطع بعضهم بعضا فيحرمهم الله وإن أهل بيت يكونون فجرة فيتواسون فيرزقهم الله)( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: خمس إن أدركتموها فتعوذوا بالله منهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوها إلا ظهر فيهم الطاعون والاوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم( ) لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، ولم يحكموا بغير ما أنزل الله إلا جعل بأسهم بينهم)( ).
لتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على أمور:
الأول : القبح الذاتي للذنوب والمعاصي.
الثاني : لزوم التدارك والمبادرة إلى الإستغفار عند فعل السيئة وعدم الإبطاء وترك فاصلة بين المعصية والإستغفار منها لمقام الفاء في(فإستغفروا).
الثالث : النية والقصد بجعل الإستغفار للأعم من فعل الفاحشة وظلم النفس، وهل يفيد معنى الإستغفار المتعدد للذنب المتحد والسابق واللاحق الجواب نعم، وهو من الإعجاز في الإطلاق الوارد في الآية أعلاه.
الرابع : بيان هذه الآيات لقانون كلي وهو عدم قدرة غير الله على مغفرة الذنوب، فتفضل سبحانه وأخبر بأنه (الغفور الرحيم) لبيان حقيقة وهي الإطلاق في مغفرة الله للذنوب وإنتفاء التعليق فيها، فلا يبقى أمر الذنوب معلقاً إلى يوم القيامة بل يمحوه الله عز وجل عن العبد عند الإستغفار إن شاء(عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل العبد السيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال لا تعجل و أنظره سبع ساعات، فإن مضى سبع ساعات و لم يستغفر قال اكتب، فما أقل حياء هذا العبد)( ).
الخامس : تنزه المسلمين عن الإقامة على الذنوب والمعاصي، ليكون من معاني قوله تعالى(ولم يصروا على ما فعلوا) تعقب الإستغفار بالتوبة والإنابة، ولا بد للإنسان من القول والفعل في البيت والسوق وميادين العمل والمجالس، فإذا كان المسلم يمتنع عن العودة إلى المعصية والإصرار عليها، فإنه لابد وأن يفعل ضدها الحسن عن علم وتفقه في الدين ولحاظ عواقب الأمور، لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى(وهم يعلمون) لتأتي المغفرة عن إستحقاق وصلاح وهداية.
السابعة : تضمنت آية السياق الإنذار والوعيد بقول تعالى(ويعذب من يشاء) وجاءت آية البحث بالأمن والسكينة للمسلمين بالنجاة من العذاب يوم القيامة، لتكون آية البحث من عمومات قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، ويكون ذكر الله بلحاظ هذه الآيات متعدداً من جهات:
الأولى : المسارعة إلى المغفرة ذكر لله.
الثانية : تقوّم السعي إلى الجنة بالذكر.
الثالثة : الذكر ركن التقوى، فيؤكد قوله تعالى(أعدت للمتقين) مواظبة المسلمين على الذكر الذي يطرد الفزع والخوف من العذاب يوم القيامة.
الرابعة : يأتي الإنفاق في حال السراء والضراء بقصد القربة إلى الله لصدوره عن مقامات التقوى كما تدل عليه لغة العطف والبيان(أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء) وتتعدد وجوه الذكر في الإنفاق من وجوه:
الأول : أداء الوظائف العبادية المالية، كزكاة الأموال والأبدان، قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
الثاني : قصد القربة في الإنفاق.
الثالث : العزم على الإنفاق حتى في حال الضيق والشدة لقوله تعالى(والضراء).
الرابع : بذل المال في مرضاة الله.
الخامس : إعانة الفقراء كطريق للفوز بالعفو والمغفرة.
السادس : فعل الصالحات وإكتناز الحسنات إستعداداً للقاء الله عز وجل.
السابع : بعث السكينة في القلوب المنكسرة وتثبيت أقدام الفقراء وغيرهم في منازل الإيمان.
الثامن : تجلي مصاديق عملية في باب البذل والإنفاق لقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، وفيه شاهد على كون المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ البذل والتعاضد بينهم في سبل الإيمان، وقصد طاعة الله في الإنفاق والتوسط فيه وتلقيه.
التاسع : زيادة قوة المسلمين بمحاربة الفقر والعوز بينهم، لتكون إعانة الفقراء منهم من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
العاشر : قيام المسلمين بالإنفاق في سبيل الله منعة وقوة للمسلمين وهو من عمومات قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ…]( ).
الحادي عشر : في الإنفاق بعث للفزع والخوف في قلوب أعداء الإسلام، وزجر لهم من التعدي على المسلمين، وعن رسول الله عليه وآله وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر)( ).
الثامنة : أختتمت آية السياق بما يتضمن قانوناً في الإرادة التكوينية يتغشى الخلائق إيجاداً وإستدامة وعاقبة، وهو قوله تعالى(والله غفور رحيم) وجاءت آية البحث بياناً وتفسيراً ومصداقاً لهذا القانون بأن يفوز المؤمنون برحمة الله من وجوه:
الأول : تقريب المسلمين إلى منازل التقوى والخشية من الله، فكل مرة يقومون بالإنفاق في السراء والضراء فإنها مصداق لطاعة الله وخشيته بالسر والعلانية ليكون الإنفاق تأديباً وإصلاحاً للمسلمين وتزكية لسرائرهم مثلما يكون أدباً وصلاحاً وطهارة لنفوس المسلمين وسبباً ومقدمة للإنفاق والبذل في الرخاء والشدة من غير أن يستلزم الدور بينهما للتباين الجهتي ولسمو الموضوع وتعدد الطرق الموصلة إلى الغاية المتحدة، وهو نيل العفو والمغفرة من الله.
بحث كلامي
تضمنت آية السياق الوعيد بالعذاب وتعليق العذاب بخصوص الأفراد بقوله تعالى[وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] فلا ينزل العذاب بالمكلف يوم القيامة إلا بالمشيئة الإلهية، وصحيح أن العذاب مترتب على الكفر وإتيان الكبائر إلا أن المشيئة في المقام، لتكون المشيئة في المقام نعمة ورحمة وفضل من الله عز وجل على العبد.
وهل يمكن القول بأن الظالم الذي يثبت إستحقاقه دخول النار ينتظر ويأمل في المشيئة الإلهية بأن لا تأتي بخصوص إدخاله النار لأن الله عز وجل عز وجل علق دخول النار عليها وليس على الفعل السيء وحده بقوله تعالى[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ]( ).
الجواب نعم وتلك آية في رحمة الله في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فالتباين بين لغة البشارة والوعيد في الآية أعلاه، فليس من إبطاء أو تأخير في المغفرة أو تعليقها على أمر آخر، أما العذاب لمستحقيه فانه معلق على المشيئة الإلهية، وفيه دلالة على اللطف الإلهي بإحتمال التوبة والإنابة من العبد وإشارة إلى عدم وجود برزخ أو حاجز بين أي إنسان وبين التوبة.
وهل هذه المشيئة متقدمة على العذاب وأوانه في الآخرة كما لو كانت ملازمة لفعل المعصية، الجواب لا، بدليل مجيء الآية بصيغة المضارع فلم تقل الآية(ويعذب من شاء) أي العفو والمغفرة قريبة , بالإضافة إلى فتح باب التوبة والشفاعة وصيرورة مضاعفة الحسنات في حياة المكلف وبعد مماته وهو سبب لرجحان كفة الحسنات , وشاهد على حلم الله تعالى على الناس.
وصفة الحلم لله تعالى دائمة، ولا تختص بأيام الناس في الحياة الدنيا ومن معاني الحليم في قوله تعالى[وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( )، أنه سبحانه لا يعجل العقوبة، ويكون من مصاديقها ومقدماتها إمهال العبد, وفيه مسائل:
الأولى : عدم وجود حد للفترة بين الفعل وعقوبته وليس من حصر لأسباب محوها.
الثانية : عدم ترتب العقوبة على فعل المعصية ترتب المعلول على علته.
الثالثة : مجيء الوعيد بالعقوبة بين ثنايا البعث على الإستغفار والترغيب بالجنة.
الرابعة : بيان شدة العقاب بالخلود في النار أي أن عدم الملازمة بين المعصية والعقوبة ليس حاجزاً دون بيان العذاب الأليم لأهل المعاصي الذي هو آية في منع الناس من التمادي في المعاصي.
الخامسة : موضوعية الحلم الإلهي في ذات المشيئة، فالحلم من صفات الذات وهو حاضر سواء تعجيل المغفرة وتأخير العذاب.
الشعبة الثانية : صلة آية البحث بالآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول : صلة آية البحث بقوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : أولئك لهم مغفرة من ربهم قل سيروا في الأرض.
الثاني : فسيروا في الأرض أولئك لهم مغفرة من ربهم.
الثالث : فسيروا في الأرض أولئك لهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
الرابع : نعم أجر العاملين فأنظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
الخامس : قد خلت من قبلكم سنن فنعم أجر العاملين.
السادس : نعم أجر العاملين أنظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
الثانية : تشترك آيتا البحث والسياق بلغة الخطاب، فكل منهما تتوجه إلى المسلمين رجالاً ونساءً على نحو متجدد وإلى يوم القيامة، وفيه وجوه:
الأول : إكرام المسلمين بذات صيغة الخطاب وبما فيه من معاني الثناء.
الثاني : هداية المسلمين إلى سبل الرشاد وهو من عمومات ما ورد في التنزيل[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، بأن يصلحهم الله لأمور الدين والدنيا.
الثالث : تأديب المسلمين وهدايتهم لسبل وكيفية إكتناز الحسنات, وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي)( ).
الرابع : ترغيب الناس بالإسلام للإشتراك في تلقي الخطاب الإلهي التشريفي، والنجاة من خطابات الإنذار والوعيد التي نزلت بخصوص الظالمين والكفار خصوصاً وأنه ليس من برزخ بين الجنة والنار.
الثالثة : بعد آيات الثناء على المسلمين جاء وبذات لغة الخطاب الأمر إلى المسلمين بالإتعاظ من أحوال الأمم السابقة وما تركوه خلفهم من السنن والأخبار الحميدة أو المكروهة، قال تعالى[وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا]( ).
الرابعة : من إعجاز القرآن مجيء هذه الآية بالبشارة للمسلمين بالجنة والنعيم الدائم، وتضمنت آية السياق دعوتهم للتدبر بآثارهم في الأرض من الأطلال والخرائب والآية أعم وتشمل القصص والأخبار والعادات لقوله تعالى(سنن) ومنها ما هو حسن ومنها ما هو قبيح , وجاء القرآن بالدعوة لمحاكاة الحسن , وإجتناب ضده.
الخامسة : من منافع التدبر في قصص الأمم السابقة تعاهد عمل الصالحات والشوق إلى الجنة , قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
السادسة : جاء موضوع آية البحث بخصوص عالم الآخرة وثواب المؤمنين فيها، أما آية السياق فانها تتعلق بآثار الأمم السابقة ودعوة المسلمين للإطلاع عليها وإستقراء الدروس والعبر منها، لتكون المسائل المستقرأة منها عوناً لهم للسعي نحو الإقامة الدائمة في الجنة.
السابعة : يفيد الجمع بين الآيتين إنذار الكفار والمشركين بأن عاقبتهم هي الفناء والزوال وذم الأجيال اللاحقة لهم، قال تعالى[فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ]( ).
الثامنة : أصل السنة هي الطريقة والفعل المتتابع على نحو الصفة الملازمة وجاءت آية السياق بذكرها بالنص، أمّا آية البحث فتضمنت الثواب العظيم
في الدنيا والآخرة للسنة الحسنة والنهج المستقيم الذي يتقوم باللجوء إلى الله عز وجل وإرتداء جلباب الإستغفار الواقي من آثار الذنوب والمعاصي.
التاسعة : من الإعجاز في نظم الآيات أن الآية التالية لم تنتقل إلى موضوع آخر مختلف عن موضوع آية البحث والآيات الستة السابقة لها والتي تتعلق بالثناء على المؤمنين وبيان حسن عاقبتهم، بل جاءت بالمعنى الأعم في النظر والتدبر بأحوال الأمم السابقة والتي تشمل السيرة الحسنة وما هو ضدها من صيغ الكفر والضلالة، وتلك آية في النقل التدريجي للأذهان إلى مواضيع متعددة مع إتحادها في لغة الخطاب وإرادة المسلمين لتكون سياحتهم في الأرض مناسبة كريمة للعمل بمضامين الآيات السابقة، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن ينتفع المسلمون من قصص الأمم السالفة ويتخذوها موعظة وعبرة.
العاشرة : تضمنت آية البحث البشارة للمؤمنين بالعفو والمغفرة، ودخول الجنة.
الثاني : الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وفيه مسائل:
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : هذا بيان للناس أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الثاني : أولئك جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار هذا بيان للناس.
الثالث : ونعم أجر العاملين هذا بيان للناس.
الرابع : أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم هذا هدى.
الخامس : نعم أجر العاملين هذا هدى.
السادس : أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وموعظة للمتقين.
السابع : أولئك جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار هذا بيان للناس.
الثامن : هذا هدى ونعم أجر العاملين.
التاسع : أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم هذا هدى.
العاشر : أولئك جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار هذا موعظة للمتقين.
الحادي عشر : ونعم أجر العاملين هذا موعظة للمتقين.
الثاني عشر : أولئك لهم مغفرة من ربهم هذا موعظة للمتقين.
الثالث عشر : أولئك لهم مغفرة من ربهم هذا بيان للناس وهدىً.
الرابع عشر : أولئك لهم مغفرة من ربهم هذا بيان للناس وهدىً وموعظة للمتقين.
الخامس عشر : أولئك لهم مغفرة من ربهم هذا بيان للناس وهدىً وموعظة للمتقين.
السادس عشر : أولئك لهم جنات تجري من تحتها الأنهار هذا بيان للناس وهدىً وموعظة للمتقين.
المسألة الثانية : يحتمل اسم الإشارة في قوله تعالى(هذا بيان للناس) أن المراد هو القرآن، والآية إنحلالية , والمراد أن كل آية من آيات القرآن تكون بلحاظ الآية أعلاه على وجوه:
الأول : إنها بيان للناس جميعاً، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ), بلحاظ أن البيان السماوي رحمة عامة وخير محض.
الثاني : الآية القرآنية هدىً للناس.
الثالث : كل آية قرآنية موعظة للمتقين، ويحتمل البيان وجوهاً:
الأول : الإختصاص بتمام الآية القرآنية.
الثاني : كفاية الشطر من الآية في البيان والدلالة والبرهان.
الثالث : في الجزء من الآية تحقق جزء من البيان.
والصحيح هو الثاني والثالث، فكل جزء من الآية القرآنية بيان وإيضاح ودلالة ودعوة للصلاح والتقوى، وهو من إعجاز القرآن , لذا وردت أقوال في معنى البيان في الآية الكريمة منها:
الأول : الإشارة إلى ما تقدم ذكره في قوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ….] قاله ابن إسحاق .
الثاني : ما ذكر في هذه الآيات.
الثالث : ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده وذكره لأنواع البينات والآيات)( ).
و بلحاظ الآيات السابقة يمكن إضافة وجوه أخرى:
الأول : ذكرت الآيات السابقة صفات المتقين.
الثاني : جاءت الآيات الثمانية السابقة بلغة الخطاب المتوجه للمسلمين، بينما وردت آية السياق بلغة البرهان للناس جميعاً بقوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ].
الثالث : أختتمت آية السياق بالإخبار عن كون مضامين هذه الآيات موعظة للمتقين.
وجاءت الآيات السابقة التي إبتدأت بالخطاب التشريفي[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا…..]( )، بذكر خصال المتقين , وفيها بيان للناس من وجوه:
الأول : ترغيب الناس بالإيمان، وجذبهم إلى مقامات الإيمان، والفوز بالإكرام الحال بالشمول بهذا الخطاب المبارك، فقوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) بيان للناس بوجود أمة مؤمنة، ومعجزات نبوة صدّق بها المسلمون، وإخبار عن أحكام نازلة من السماء، وتباين بين الناس.
الثاني : زجر المسلمين عن الربا بيان للناس بحرمة أكل الربا وقبحه الذاتي.
الثالث : إقامة الحجة على الناس بإمتناع المؤمنين عن أكل الربا، وحرصهم على الإعراض عن المعاملات الربوية، وعزمهم على نحو العموم المجموعي على التنزه منه، وفيه موعظة للناس بإمكان تعاطي التجارات وإجراء العقود وتحصيل المكاسب من غير اللجوء إلى الربا.
الرابع : من مصاديق البيان للناس في المقام إقامة الحجة على الناس بالمسلمين وإستغنائهم عن الربا والتنزه عنه وتقيدهم بالأوامر والنواهي القرآنية من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، حينما إحتجوا على جعل خليفة في الأرض وما فيه من الإفساد في الأرض وسفك الدماء، بلحاظ أن أكل الربا فساد وقد يؤدي إلى القتل والحروب فجعل الله عز وجل المسلمين وصلاحهم حجة في لزوم التنزه عن أكل الربا وما يترشح عنه من الفساد.
وينزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتثبيت حرمة الربا في الأرض إلى يوم القيامة، وتعاهد المسلمين لآيات وأحكام القرآن وعصمته من طرو التحريف عليه، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الخامس : إمتناع المسلم عن أكل الربا من عمومات قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ومع كثرة أعداد المؤمنين والمؤمنات في كل زمان فكل واحد منهم حجة على الناس في التنزه عن أكل الربا وما يتولد عنه من الأضرار في المعاشات والتجارات .
السادس : يدل قوله تعالى(واتقوا الله) بالدلالة التضمنية على ضرورة طاعة الله وإجتناب معاصيه بلحاظ حمل الأمر في الآية على الوجوب.
السابع : إختتام الآية أعلاه بقوله تعالى(لعلكم تفلحون) بيان للناس جميعاً بلزوم السعي للفلاح والنجاح في أمور الدين والدنيا.
وتدعو الآية الناس إلى التفقه في المعرفة الإلهية، وإدراك حقيقة وهي مع الشهادة من الله عز وجل للمسلمين بالإيمان فإنه سبحانه جعل إجتنابهم أكل الفائدة الربوية، ولزوم تقيدهم بسنن التقوى والخشية من الله طريق رجاء وأمل لبلوغ الفلاح مما يدل على التكليف ولزوم السعي لبلوغ مراتب النجاح، فمع التقوى والخشية من الله والإحتراز من أكل المال بالباطل وإجتناب المعاملات الربوية تذكر الآية فلاح المؤمنين على نحو الرجاء والإحتمال، وهو من مصاديق الإبتلاء والإفتتان في الحياة الدنيا، ويحتمل قوله تعالى(لعلكم تفلحون) وجوهاً:
الأول : فيه أمارة ودلالة على ترجيح الفلاح للمؤمنين على نحو العموم الإستغراقي.
الثاني : تساوي طرفي ترجيح الفلاح وعدمه , والملاك هو الإجتهاد والإقامة على فعل الصالحات بقصد القربة إلى الله.
الثالث : الأصل هو رجحان عدم الفلاح ويتغير الموضوع ويحصل ترجيح الفلاح مع التقيد بالأحكام الشرعية والمواظبة على فعل الصالحات.
الرابع : أوان الفلاح والفوز هو الآخرة , وفي حديث أبي الدحداح: بَشَّرَك الله بخير وفَلَحٍ)( ).
الخامس : الآية إنحلالية، فمن المسلمين من يصل إلى مراتب الفوز بالتقوى ومنهم من يحتاج إلى بذل الوسع في عمل الصالحات.
السادس : بيان الآيات التالية لموضوع تعليق الفلاح لذا جاءت بصيغة العطف على آية الربا أعلاه.
والصحيح هو الوجه الأول والرابع والسادس.
وتفيد الآية التالية لزوم الجمع بين تقوى الله وإتقاء النار، وهو مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا , قال تعالى(واتقوا النار…..) وجاءت الآية التي بعدها بوجوب الإنصياع والإمتثال للأوامر الإلهية وإتباع السنة النبوية بقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وتحتمل طاعة الرسول بلحاظ قوله تعالى(واتقوا الله) وجوهاً:
الأول : إنها مصداق من مصاديق تقوى الله.
الثاني : طاعة الرسول أمر آخر غير تقوى الله فلذا وردت بصيغة العطف.
الثالث : التباين الموضوعي بين تقوى الله وطاعة الرسول.
الرابع : طاعة الله والرسول مجتمعتان من تقوى الله.
الخامس : طاعة الرسول فرع ورشحة من طاعة الله بلحاظ أن قوله وفعله وحي من الله، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
والصحيح هو الأول والرابع والخامس، وجاءت السنة النبوية القولية والفعلية في أمور الدين والدنيا، وأحوال المسلم المختلفة مما يدل على لزوم إستحضاره للتقوى والخشية من الله في ساعات يومه وليله وقوله تعالى(واتقوا الله لعلكم تفلحون) من البيان السماوي وعمومات قوله تعالى(هذا بيان للناس) وهل هو بيان متحد أم متعدد.
الجواب هو الثاني، وكل فرد من الأمر بالتقوى ورجاء الفلاح يتضمن مصاديق ووجوهاً متكثرة من البيان تتعلق بالعبادات والمعاملات والأحكام والشرائط والموانع، وفيه شاهد على المسؤوليات الجسام التي يتحملها المسلمون في عمارة الأرض بسنن الإيمان والصلاح، وتوارثهم السعي نحو السعادة الأبدية التي ذكرتها آية البحث.
المسألة الثالثة : مع إخبار الآية عن إختصاص المؤمنين بالمغفرة من الله عز وجل فإن هــذا الإخبار بيــان للناس جمــيعاً، وتــلك آية في رأفة الله عز وجل بالناس بأن يخبرهم جميعاً عن محل المغفرة وأسباب نيلها ومقدمات الفوز بها وكيفية إصلاح الذات لبلوغ مراتب العفو والمغفرة من الله، فإن قلت تتحقق إرادة عموم الناس في الخطاب الخاص في القرآن بشارة أو إنذاراً، فهل يكون ذات المعنى في الجملة الإنشائية الخاصة مطلقا كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
الجواب نعم فانه بيان للناس جميعاً بتقوم الإيمان بالتكاليف البدنية والمالية، ومن إعجاز الآية في المقام ورود قوله تعالى[كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ].
ومن أسرار البيان القرآني أنه حجة وبلاغ عظيم وترغيب للناس في الإسلام، وتخفيف عن المؤمنين في التكاليف وبعث الشوق في نفوسهم على أدائها وإقترانه بإدراك وقوع الحسرة والندامة عند الذين يتخلفون عن أدائها إستكباراً وعناداً، قال تعالى[وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ]( ).
الرابعة : إخبار القرآن عن جزاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات ويتصفون بخصال التقوى التي تذكرها هذه الآيات من البيان للناس وآية إعجازية للقرآن تتضمن التحدي والإشعار والبرهان، وهي حرب على أهل العناد الذين يختارون الجدل إستكباراً وإصراراً على المعصية.
وقد أثنت الآية السابقة على المؤمنين بقوله تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( )، لتكون من وظائف آية البحث جعل الناس يعلمون بعالم الجزاء وأن الوقوف بين يدي الله للحساب أمر حتم.
الخامسة : أخبرت آية البحث عن جريان الأنهار من تحت الجنات التي أعدّها الله جزاء في الآخرة للمؤمنين، وفيه بيان من وجوه:
الأول : تأكيد عالم الآخرة وما فيه من الجزاء.
الثاني : بيان عظيم قدرة الله وسعة ملكه وسلطانه لذا جاء وصف الجنة قبل ثلاث آيات باللامتناهي من النعيم الذي تعجز العقول عن درك سنخيته إذ ذكرت عرض الجنة وأنها بعرض السموات والأرض، على تقدير وتحقيق إيصال أطرافها بعضها ببعض، أما الطول فهو من عمومات قوله تعالى للملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليكون من علم الله تعالى آية البحث وتلاوة المسلمين لها، وسعيهم الدؤوب بأداء الفرائض والنوافل لبلوغ الجزاء الحسن الذي تذكره، وصيرورة آية البحث زاجراً عن الفساد في الأرض وسبيلاً إلى التوبة والإنابة بالإضافة لما يدل عليه مفهومها من حرمان المفسدين والضلال والكفار من جريان الأنهار من تحتهم وعلى نحو الدوام.
السادسة : بين بدايتي آية البحث والسياق عموم وخصوص مطلق، فمادة الإلتقاء إبتداء كل آية منهما باسم الإشارة، ومادة الإفتراق ورود اسم الإشارة في آية البحث للبعيد(أولئك) بينما جاء في آية السياق للمفرد القريب(هذا بيان) وفيه إعجاز من وجوه:
الأول : تجلي البيان لأهل الدنيا.
الثاني : ليس ثمة فترة بين نزول القرآن وظهور البيان للناس.
الثالث : إقامة الحجة على الناس بالإخبار عن إعداد الجنة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
الرابع : إطلاق صفة البيان على القرآن مطلقاً , وآيات البحث خاصة من اللطف الإلهي بالناس بتقريبهم إلى منازل الهدى والإيمان، وإيصال البشارات والإنذارات إليهم بلحاظ كبرى كلية، وهي أن كل آية من القرآن نعمة عظيمة على الناس على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي.
فتفضل الله عز وجل وجعلها قريبة منهم تصل أسماعهم وتعيها أنفسهم وتدركها عقولهم، ليكون من معاني قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، مصاحبة أسباب الرحمة والبركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين بعثته ونزول القرآن، وهل تغادر أو تعلق هذه الرحمة لفترات أو تختص بالدنيا.
الجواب لا هذا ولا ذاك، فهي رحمة دائمة وشاملة لأيام الحياة الدنيا والآخرة، والله أكرم من أن يرفع رحمة قرنها بنعمة إذ تبين الآية أعلاه الملازمة بين الرسالة الخالدة والرحمة الإلهية المطلقة، ومن مصاديقها قرب وتجلي مصاديق البيان في لفظ ورسم وتلاوة آيات البحث والإنصات لها والتدبر في معانيها.
السابعة : أخبرت آية البحث عن إختصاص المؤمنين بالنعيم الأخروي والخلود فيه، بينما أطلقت آية السياق صيغة البيان وإرادة عموم الناس منه، وفيه شاهد على حب الله للناس من جهات:
الأولى : مجيء آية البحث بالبيان للناس عن أحوال المؤمنين في الآخرة.
الثانية : إرشاد الناس لطرق النجاة والأمن، قال تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثالثة : إتصاف البيان بلغة البشارة والوعد الكريم.
الرابعة : إقتران البيان بسبل الهداية إلى الفلاح لقوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى]( ).
الخامسة : صيرورة التقوى وعمل الصالحات علة وسبباً لنيل للفوز بالأمن في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
السادسة : تقريب الناس إلى منازل الإيمان وطرد الغفلة عنهم.
السابعة : طر الغفلة والجهالة عن الناس بلحاظ أن البيان كشف وطريق للتفقه ومادة للعلم والمعرفة.
الثامنة : يبين الجمع بين مضامين آية البحث وقوله تعالى(وهدىً) حقيقة وهي أن الآية القرآنية من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، فآية السياق إمام تقود الناس للعمل بمضامين آية البحث ليكون من إعجاز نظم الآيات أن كل واحدة منها تهدي وتقود للعمل بمضامين الآية الأخرى من غير أن يحصل الدور بينهما للتباين الجهتي في الأثر والتأثير وأفراد الإمامة الخاصة أي أن موارد وإمامة أي آية من القرآن تختلف عن الأخرى في الموضوع والبلغة والحكم والفصل والغايات القريبة وإن إتحدت معها في الغاية الأخيرة وهي الفوز بمضامين آية البحث التي هي أمل وهدف كل عاقل.
التاسعة : تبين آية السياق مسألة وهي أن مضامين آية البحث زاجر عن المآثم والسيئات، ليكون الإخبار عن الجزاء الحسن للمؤمنين تأكيداً لفضل الله عز وجل على الناس بالبيان والوضوح وإزاحة أسباب الجهالة والغرر عنهم، لذا لا ترى أحداً من الناس ينكر العدل الإلهي في ترتب الجزاء على نوع الأعمال في الدنيا، وترشح هذا المعنى في أذهان الناس من منافع وخصائص البيان في آية البحث.
العاشرة : تضمنت آية البحث الوعد الكريم للمتقين الذين يعملون الصالحات بدليل عطفها على قوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ….]( ).
وأخبرت آية السياق بأن هذه الآيات هدىً وموعظة للمتقين، ويحتمل وجوهاً:
الأول : المقصود ذات المتقين الذين ذكرتهم هذه الآيات.
الثاني : إرادة المعنى الأعم من المتقين في هذه الأمة والأمم السالفة.
الثالث : موضوع آية البحث هم الذين يدخلون سبل الإيمان ويرتقون إلى منازل التقوى.
الرابع : آية السياق هدىً للذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أيام بعثته المباركة وإلى يوم القيامة.
والصحيح هو الأخير.
ومن مفاهيم الخلافة في الأرض أن الذين يدخلون في مقامات الإيمان وينالون مرتبة التقوى لا يغادرونها، وهم يسعون لوراثتها لذراريهم، بينما ترى الذين في منازل الكفر يهجرونها وينشغلون بالإستغفار من التلبس به ويطوون صفحة الكفر عن ذراريهم وإلى الأبد لحرمة الإرتداد ونبذه ونفرة النفوس منه بالأصل.
الحادية عشرة : من إعجاز القرآن مخاطبته للمعقول، ومن بديع صنع الله للإنسان وجعله عاقلاً تدبره في آيات القرآن والإتعاظ منها وإتخاذها إماماً وسبيلاً للنجاة، قال تعالى[وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثانية عشرة : قبل خمس آيات أختتمت آية (وسارعوا) بقوله تعالى(إعدت للمتقين) وأختتمت آية السياق بجعل القرآن(موعظة للمتقين) وبين الآيتين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول : ذكر المتقين بصيغة الثناء والمدح.
الثاني : دعوة الناس للإقتداء بالمؤمنين.
الثالث : بيان عظيم منزلة الذين يخشون الله بالغيب.
الرابع : مجيء كل من خاتمتي الآيتين بصيغة الجار والمجرور.
ومادة الإفتراق من وجوه:
الأول : تتعلق خاتمة آية(سارعوا) بالدار الآخرة.
الثاني : آية السياق فتتعلق بالحياة الدنيا.
الثالث : خاتمة آية السياق مقدمة لخاتمة آية(وسارعوا) وتلك آية في نظم القرآن، أما آية البحث وقوله تعالى[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ…]( )، فهي بيان لحسن عاقبة العمل بمضامين آية المسارعة إلى المغفرة وإتخاذ القرآن موعظة وسبيل هدىً .
فمن إعجاز القرآن جعل الثواب قريباً مدركاً محسوساً تطل أشجار وأنهار الجنة على المؤمن كل يوم كإطلالة الشمس والقمر، وإذ يكون تعاقب الشمس والقمر على الإنسان إلى نقص في عمره، وإقتراب لمغادرة الليل والنهار والدنيا مطلقاً فإن إطلالة نعيم الآخرة يقترب ويدنو منه طوعاً وقهراً بينما يبتئس الكافر لحجبه النعيم عن نفسه بإختياره ولإحساسه بحال الغبطة التي عليها المؤمن وسياحته بمضامين آية البحث.
الثالثة عشرة : يفيد قوله تعالى(هذا بيان للناس) أن إخبار آية البحث عن حسن ثواب المؤمنين إخبار وإشعار للناس جميعاً، ودعوة لهم للإيمان والفوز بهذا النعيم، فليس بين الإنسان مطلقاً وبين الجنان إلا حسن الإختيار، وتدل الآية على حقيقة وهي أن الله عز وجل يجعل آيات القرآن وسنن التنزيل تصل إلى الناس جميعاً، ويفقهون مضامينها.
الرابعة عشرة : تبين آية البحث السعادة والغبطة التي عليها المؤمنون في الآخرة، وما ينتظرهم من النعيم في جنة الخلد، أما آية السياق فموضوعها على قسمين:
الأول : عام وهو البيان والإعلان التفصيلي للناس جميعاً.
الثاني : أسباب هداية ورشاد للمؤمنين خاصة، وهل من برزخ بين القسمين، الجواب لا، فإن البيان العام دعوة للناس للإنتقال إلى منازل التقوى وتلقي الخطاب الخاص الذي يتضمن أسباب الهداية والموعظة.
الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : ولا تهنوا أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الثاني : ولا تحزنوا أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الثالث : أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وأنتم الأعلون.
الرابع : جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأنتم الأعلون.
الخامس : ولا تهنوا ولا تحزنوا ونعم أجر العاملين.
السادس : وأنتم الأعلون ونعم أجر العاملين.
السابع : أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم إن كنتم مؤمنين.
الثامن : جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها إن كنتم مؤمنين.
التاسع : ولا تهنوا ولا تحزنوا ونعم أجر العاملين.
الثانية : تضمنت آية البحث البشارة بالسعادة المطلقة والنعيم الدائم، وجاءت آية السياق بصيغة النهي عن أسباب الكدورة ومقدمات الفشل(ولا تهنوا ولا تحزنوا) ومن إعجاز القرآن أن هذا النهي طريق لذات البشارة فإن الفوز بها يترشح عن الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية.
الثالثة : سبب وأوان نزول آية السياق هو واقعة أحد، (قال ابن عباس: أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ لا يعلون علينا. فأنزل الله{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)( ).
وموضوع الآية أعم من سبب النزول ويتغشى أيام الحياة الدنيا، لتنمّي عند المسلمين ملكة الصبر وإرادة التحمل والرضا بقسم الله، وتأتي آية البحث لتكون عوناً للمسلمين في التغلب على أسباب القهر، وتطرد اليأس من النفوس.
بحث كلامي
ذكرت الجنة قبل ثلاث آيات بصيغة المفرد (وجنة عرضها) بينما ذكرتها آية البحث بلغة الجمع والتعدد (وجنات) وفيه وجوه:
الأول : إتحاد اللفظ ، وإرادة المعنى المتعدد، واسم الجنس من لفظ(الجنة) في آية(وسارعوا) بدليل ذكر الآية لسعة الجنة وأن عرضها وحده يسع السماوات والأرض ولم تذكر طولها وهو الحد الأكثر.
الثاني : جاء خطاب (سارعوا) في آية السياق إلى المسلمين والمسلمات على نحو التعيين، أما ذكر الجنات في آية البحث فالمراد عموم المؤمنين والمسلمين من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة، ليكون بين الآيتين من جهة الحال عموم وخصوص مطلق مع إتحاد المحل.
وهل يمكن إستقراء حقيقة وهي أن الجنة التي يسكنها المسلمون غير الجنان التي يسكنها أتباع الأنبياء من الملل الأخرى كما لو كانت الجنان مقسمة بلحاظ الترتيب الزماني، أو أن كل رسول وأنصاره وأتباعه من المؤمنين في جنة خاصة، ومنه دلالة قوله تعالى[وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( ).
الجواب لا، فلا برزخ وفيصل وتقسيم بين أهل الجنان بلحاظ أفراد الزمان والشريعة، والآية أعلاه أعم ولا يكفي تأويلها للإستدلال في المقام وفي تفسير الآية أعلاه، وعن أبي سعيد الخدري. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة: فو الذي نفسي بيده لأحدهم أهدى لمنزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا)( ).
الثالث : ذكرت الجنات في آية البحث بلغة التعدد للتفصيل بعد الإتحاد الذي ورد في آية (وسارعوا) ولترغيب المسلمين بالإقامة فيها .
وهل يعتبر لفظ (الجنة) في آية (سارعوا) من المجمل بلحاظ أنه متحد , ولم يبين الخلود الدائم فيها ولا جريان الأنهار كما بينت في آية البحث، الجواب لا، فآية السياق ذاتها مبينة ومفصلة ولفظ الجنة ذاته تفصيل وآية البحث بيان إضافي وتفسير.
ولكن لماذا هذا التباين للإتحاد بلفظ الجنة في آية (وسارعوا) وبيان خصائص الجنة في آية البحث، الجواب من وجوه:
الأول : جاءت آية البحث موعدة وعهدا من الله عز وجل.
الثاني : فيه نكتة وهي أن الله عز وجل يظهر بعهده الوعد بأبهى حلله لبيان عظمة مخلوقاته.
الثالث : الإخبار عن سعة فضل الله وواسع رحمته بالمؤمنين في الآخرة.
الرابع : شمول الآيتين بقانون التفسير الذاتي للقرآن، وأن آيات القرآن يفسر بعضها بعضاً.
الخامس : ذكرت آية (وسارعوا) صفة عظيمة للجنة وهي تغشيها في سعتها للدنيا والآخرة، لذا يمكن إعتبار آية (وسارعوا) هي الأخرى مبينة لآية البحث من جهات:
الأولى : سعة الجنة وصيرورة السموات السبع والأرض من الجنة الواسعة في الآخرة، وهذا التبعيض وذكرهما في مورد عرض الجنة دون طولها دلالة على بديع صنع الله وعظيم قدرته.
الثانية : أبى الله تعالى إلا أن تكون رحمته في الآخرة أكبر وأعظم منها في الدنيا من تسخير السموات والأرض بل تكون الزيادة والسعة في كل شيء بما فيه سعة الجنة وأن طولها من اللامتناهي بالقياس إلى عرضها على فرض حضور السموات والأرض في الوجود الذهني، كما في قوله تعالى[مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ]( )، فذكرت البطانة بأبهى زينة، للدلالة على أن ظاهرها يفوق حد التصور بلحاظ قاعدة كلية وهي أن الظاهر أبهى وأجمل من الباطن , وفي ذكر العرض دون الطول نكتة أخرى وهي إستدامة الزيادة والسعة في الطول.
الثالثة : إخبار آية البحث عن كون الجنة معدّة وحاضرة وتنتظر أهلها وسكانها.
وفي خلق الجنة وأوانه وجهان:
الأول : الجنة والنار مخلوقتان الآن، ويدل عليه قوله تعالى قبل ثلاث آيات[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] وحديث الإسراء المستفيض وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم دخل الجنة.
ذكر الخطيب البغدادي بسنده عن ابن عباس قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليلة عُرج بي الى السماء رأيت على باب الجنة مكتوباً لا إله الا الله، محمــد رســـول الله، علي حبيب الله، والحسن والحسين صفوة الله، فاطمة خيرة الله، على باغضيهم لعنة الله)( ).
الثاني : لم تخلق الجنة والنار بعد فإذا طوى الله السموات والأرض خلق الجنة والنار بلحاظ أنهما دار جزاء، فلا تجتمع دار الجزاء مع دار التكليف في الدنيا، ولا دار التكليف مع دار الجزاء في الآخرة.
والأول هو المشهور والمختار وفيه دلالة على غاية سعة ملك الله، وترغيب بالجنة وإتخاذ الدعاء والعمل الصالح بلغة للإقامة فيها، ويقال: بلاد عريضة لإفادة الإنفساح والإتساع، وقال الشاعر:
كأن بلاد الله وهي عريضة …. على الخائف المطلوب كفة حابل( ).
ولكن المعنى مختلف في الآية إذ أن ذكر العرض شاهد على إرادة الطول بالملازمة والتبادر وهو من علامات الحقيقة، نعم يمكن أن يقال أن السماوات والأرض تصلح عرضاً وشطراً من الطول فتكون الزيادة والإتساع في الطول من المخلوقات ومما يخلق الله يوم القيامة فإن قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، دائم ومتجدد بذاته ومصاديقه , ولا يختص بالحياة الدنيا، ولا الحصر بالآخرة وخصوص سعة المخلوقات .
وذكر العرض وحده باللامتناهي من الأبعاد وأطوال السموات والأرض عندما يوصل بعضها ببعض خلق آخر من بديع صنعه، فالقدرة الإلهية لا تختص بعالم الإيجاد بل تشمل الإيجاد والإستدامة والتوسعة والزيادة في الفضل الإلهي في ذات الموضوع وغيره وتستقرأ أيضاً من قوله تعالى[وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( ).
فكل سعة في السموات ذاتا أو شبها وإلى يوم القيامة تدخل في عرض الجنة، ويشمل قوله تعالى(وإنا لموسعون) التوسعة في ذات الجنة بمعنى أنه غير مقيد بالسماء بل يكون تقديره متعددا، على جهات:
الأولى : إنا لموسعون في السماء.
الثانية : إنا لموسعون في الأرض، كما قد يجري من جفاف أجزاء كبيرة من البحار أو الأنهار.
الثالثة : لموسعون في الجنة.
الرابعة : لموسعون في الخلق مما يعلمه الإنسان وما لا يعلمه.
الخامسة : التوسعة في الرزق على العباد، قال تعالى[اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ]( )، وهل تشمل التوسعة النار، الجواب لا، فقد جاءت آية قرآنية تخرجها بالتخصص من هذه التوسعة، بقوله تعالى[يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ]( )، فتجيب بأنه ليس فيها زيادة وسعة في المكان أي أن عدم إتساعها أمر بديهي ومسلم به.
السادسة : بيان كمال صفات الذات , وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
السابعة : بعث المسلمين للدعاء وسؤال التوسعة في دار القرار , وتلك آية فمع إخبار القرآن عن سعة الجنة بما لا يخطر على البال تتضمن الآية في مفهومها الدعوة للسعة في الجنة واللجوء إلى الله بالتسبيح والثناء والحمد على سعة الجنة.
الثامنة : تأديب المؤمن بخصوص الآخرة، إذ تبعث سعة الجنة الرغبة والطمأنينة في نفسه أنه سوف يكون من الداخلين إليها، ويأتي موضوع إعدادها لخصوص المتقين ليحثه على لزوم منهج التقوى والخشية من الله عز وجل.
إعجاز الآية
لقد جاء القرآن بذكر الله وندب إلى الإستغفار، ومن أبهى صيغ الترغيب بالذكر والإستغفار آية البحث وتعقبها للآية التي تتضمن فعل الفاحشة وظلم النفس والإقلاع عنهما، ومن اللطف الإلهي أن الآية لم تشترط المبادرة إلى هذا الإقلاع والتوبة، وأن من يتأخر عنها أو يسوف ويتباطئ في التوبة ويرجئ الإستغفار لغلبة النفس الشهوية عليه سوف يحرم من نعيم الجنة.
ولم تحجب مضامين آية البحث عمن يعرض عنها، فإن قلت إن الآية السابقة قيدت الفوز بالجنة التي عرضها السموات والأرض بعدم الإقامة على المعاصي لقوله تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا]( ).
والجواب مضامين الآية متجددة، والآية بلاغ سماوي يومي لدفع العبد عن منازل الإصرار والعناد، وحالما يترك المعصية يصدق عليه أنه غير مصر على المعصية وهو من عمومات قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )، بلحاظ أن مغفرة الذنوب سترها ومحوها، وكل شيء غطيته فقد غفرته، ويقولون أصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ أي أستر له، والغفارة: سحابة رقيقة دون معظم السحاب)( ).
ويتجلى في الجمع بين آية البحث والآية التي قبلها الفضل الإلهي العظيم في الجمع بين المغفرة وبين الثواب بدخول الجنة واللبث الدائم في النعيم، فمن الإعجاز في المقام أن الثواب بالنعيم لم يقيد بفعل الصالحات إنما جاء متعقباً للذكر والإستغفار وإجتناب الإقامة على الذنوب والإصرار على المعاصي، نعم الظاهر أن المراد هو الجمع في صفات التقوى التي جاءت بها هذه الآيات , ومنها أداء العبادات والفرائض الذي يدل عليه قوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، ومنها الإنفاق في سبيل الله في حال الرخاء والشدة لقوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( ).
ومن الآيات أن الإيمان سابق للكفر، وهو يحول ويمنع من مقدمات الكفر، وإن تلبس إنسان بالكفر فإن الآيات ودلائل التوحيد تلاحقه وتسعى لطرده من سويداء القلب ومن الجوارح ويكون الإيمان برزخاً دون ظهور وإستدامة آثار الكفر على اللسان في عالم الأفعال.
ومن إعجاز هذه الآية أنها فرد من أفراد الإيمان وسبب لنمائه وصيرورته ملكة عند المسلم، ورشحة منه، وفيه برهان على تعدد منافع البشارة القرآنية بالجنة، وأنها واقية من رذائل الأخلاق والعادات المذمومة.
ومن الإعجاز في آية البحث إجتماع أمور:
الأول : بيان قانون ثابت بالتدارك والكف عن الظلم بالإستغفار والإنابة.
الثاني : حرص المسلم على إجتناب الظلم وإمتناعه عن فعل الفواحش.
الثالث : رؤية المسلمين بعين البصيرة للعاقبة الحميدة لزجر النفس والجوارح عن الظلم بالخلود بالأمن والغبطة.
الرابع : سعي المسلمين للثواب العظيم الوارد في آية البحث وكأن أجله وأوانه قريب , فيدركون خصائص الجنة بعقولهم وحواسهم ووجدانهم، قال تعالى[إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
الخامس : عصمة المسلمين من الحيرة واللبس والتردد والترديد في سبل النجاة من تبعات الذنوب وأوزار الخطايا.
السادس : بعث الحسرة والندامة في نفوس الكفار لحجبهم النعيم عن أنفسهم.
ولأن الله عز وجل هو الواسع الجواد الذي يجازي بغير حساب وينبسط ثوابه على اللامتناهي من أفراد الزمان المقدرة وغير المقدرة أخبرت آية البحث عن جزاء المتقين في الدنيا والآخرة من وجوه:
الأول : المغفرة في الدنيا بمحو الذنوب وستر العيوب للمؤمن وهو لا يزال في الحياة الدنيا.
الثاني : إتصال المغفرة موضوعاً وحكماً وأثراً إلى عالم البرزخ ويوم القيامة.
الثالث : الجزاء بالإقامة في الجنان في دار الخلد، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها)( ) (لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب)( )، وقاب قوس: أي مقدار وطول قوس الرماية.
ومن عظيم إحسان وكرم الله عز وجل أن جمع غفران الذنوب كلها وللمؤمنين في أجيالهم المتعاقبة بلفظ مفرد من جهتين (جزاؤهم مغفرة).
وإذا كانت المغفرة اسم جنس ينبسط ويتغشى المؤمنين جميعاً فهل الجنات وصيغة التعدد فيها إنحلالية والمقصود هو كل مؤمن في موضع وقصر من إحدى الجنان بلحاظ القياس على سنخية الحياة والسكن والإقامة في الدنيا إذ يتعذر على الإنسان السكن في دارين وموضعين متباعدين في آن واحد، الجواب لا، فإن أنظمة وسنن الحياة الدنيا تتخلف عن مراتب القياس بالجزاء في الآخرة في الثواب الباهر وحتى في العقاب فإن أستحضار معاني قوله تعالى بخصوص أهل النار[كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا]( ) في الوجود الذهني بلحاظ الحياة الدنيا يعني الموت والهلاك من شدة النار والألم قبل تبديل الجلود أو بعدها بينما أخبرت آيات القرآن عن خلود الكفار في النار.
وتتضمن خاتمة آية البحث (ونعم أجر العاملين) ترغيب الناس جميعاً ومنهم الكفار بالتقوى والصلاح ونبذ مفاهيم الضلالة وبيان حقيقة وهي ضرورة العمل والسعي في مرضاة الله، وإتخاذ هذا العمل بلغة للنعيم الدائم، ولو إجتهد المؤمن في العمل بطاعة الله ليله ونهاره فإنه لا يستحق معشار الثواب العظيم الذي ينتظره.
وإبتدأت الآية بثلاثة أسماء وجاءت متتالية[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ] وفيه إعجاز في نظم كلمات القرآن , وأسرار تعاقبها وترتيبها وكل كلمة منها تبين ماهيتها وتدعو إلى أختها لفظاً وموضوعاً، ويتضمن لفظ(أولئك) إشارة متعددة من وجوه:
الأول : الإشارة الخارجية إلى المؤمنين.
الثاني : التنبيه إلى الخبر الذي بعده.
الثالث : الدلالة إلى متعلق(أولئك) موضوعاً وحكماً مما ورد في الآيات السابقة.
وحتى لفظ (جزاؤهم) فإنه يتضمن الإخبار على نحو الموجبة الجزئية عن الموضوع الذي ذكرته الآية، ولكنه دعوة للتطلع إلى ما بعده من ضروب وجنس الجزاء الذي أخبرت عنه الآية.
ويمكن تسمية هذه الآية الكريمة آية (أولئك جزاؤهم).
ومن إعجاز هذا اللفظ في القرآن أمور:
الأول : لم يرد في القرآن إلا مرتين.
الثاني : ورد في آية البحث والثناء على المؤمنين وبيان حسن عاقبتهم، وجاء في ذم الكفار وبيان حسن عاقبتهم، وجاء في ذم الكفار وبيان سوء عاقبتهم بقوله تعالى[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
الثالث : بيان الإتحاد في الوقوف للحساب وتلقي الجزاء، مع التباين والتضاد في سنخيته وماهيته.
الآية سلاح
يلبس المقاتل السلاح والبزة الكاملة للقتال وتسمع له خشخشة وصوتاً لملاقاة العدو هجوماً أو دفاعاً، وجاءت آية البحث بلزوم إتخاذ السلاح لا لهذا ولا ذاك بل هو وسيلة وطريق للفوز بالمقام الرفيع يوم القيامة، نعم قد يقال العدو موجود كالشيطان , قال تعالى[إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، الجواب نعم، والرجاء وبلوغ مقامات الجنة الرفيعة الذي تؤكده هذه الآية سلاح خاص وواقية من مستنقع الرذيلة، وظلمات المعصية.
ويدرك المسلمون بهذه الآية المائز الذي يفصلهم عن غيرهم من الناس في عالم الآخرة وبما يترشح على سجاياهم وأخلاقهم وشمائلهم في الدنيا، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ويتبارى الناس في ميادين الحياة الدنيا وليس من حصر لكيفية هذا التباري أو موضوعاته، فجاءت آيات القرآن ببيان مضمار السباق , قال تعالى في الترغيب بالإقامة الجنة[خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ]( )
ومن صيغ التكامل في القرآن وصيرورة الآية القرآنية مدداً لأختها ولعمل المسلم في الخيرات مجيء آية البحث بتأكيد إنحصار موضوع الآية الكريمة لأهل الجنة بذكر ما ينتظرهم من الثواب.
فمع أن الآيتين السابقتين ذكرتا صفات المتقين فان هذه الآية تأكيد لها ودعوة للعودة إليهما والتدبر في معانيهما وكيفية إجتياز الإختبار والإرتقاء إلى مراتب التقوى وتعاهد البقاء فيها .
وفي صيغة الجمع التي جاءت بها الآية بعث للمسلمين على التعاون والتآزر في سبل الطاعة وعمل الصالحات ( وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)( ).
ليكون هذا التعاون سجية وملكة عامة عند المسلمين تتجلى في باب المعاملات والصلات والأحكام والتقوى بجعل مضامين آية البحث بلغة وغاية لذا جاءت الآيتان السابقتان بالمعنى الأعم من العبادة فذكرتا العفو عن الناس والإحسان لهم وهو يتعلق بالمعاملات والأحكام , وذكرت الإحسان وهو عام يشمل التجارات والمكاسب والإعانة وصلة الرحم والمواساة وحق الجار والصديق ومواضيع الإحسان تداهم الإنسان في ليله ونهاره وفي المنزل وخارجه فأراد الله عز وجل أن يستثمر المؤمن كل آن من آنات أيامه في مرضاة الله وإتخاذها مناسبة وبلغة لدخول الجنة.
هناك تباين في الجزاء عند الله بحسب اللحاظ , وهو على قسمين:
الأول : تأخر الجزاء بالعقوبة، وإمهال العبد عسى أن يتوب.
الثاني : إطلاق الجزاء بالثواب الحسن فتتعاقب مصاديق من عمل الصالحات كما يطل على الإنسان الجديدان , وتلك آية في بديع صنع الله عز وجل بأن يأتي اليوم الجديد للمؤمن بأفراد من الجزاء على فعله الحسن مع مضاعفة ذات الثواب ومضاعفة تلك المضاعفة المستحدثة وهو من مصاديق قوله تعالى[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
ومن إعجاز القرآن الغيري أن آية البشارة بالجنة عون ومدد سماوي لإتيان مقدمات دخول الجنة وكأنه من قاعدة وجوب المقدمة لوجوب ذيها في علم الأصول.
فيدرك الإنسان بأدنى تأمل وتدبر تعلق دخول الجنة على إتيان البلغة وسلوك الطريق المؤدي إليها الذي ينحصر بفعل الصالحات ويملي عليه حب الذات وجلب المنافع إليها وجوب فعلها ويفوز المؤمن بالعمل بهذه القاعدة الكلية ويتخذ من الدنيا مزرعة وداراً لتشييد صرح وبناء من الصالحات ليحاكيه يوم القيامة قصر تجري من تحته الأنهار.
عن أبي الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم: لما اسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها قيعان بيضاء ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وربما أمسكوا، فقلت لهم: ما لكم ربما بنيتم وربما أمسكتم؟ فقالوا: حتى تجيئنا النفقة، فقلت لهم: وما نفقتكم؟ فقالوا: قول المؤمن في الدنيا: “سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر”، فإذا قال: بنينا، وإذا أمسك أمسكنا)( ).
وآية البحث سلاح مبارك في الجدال والإحتجاج والدعوة إلى الإسلام ونشر الفضائل والأخلاق الحميدة، فكل خصلة من خصال المتقين التي ذكرتها الآيتان السابقتان تتضمن النفع والخير فيتحلى بها المؤمن , ولكن منافعها لا تختص به بل تشمل غيره من الناس من جهات:
الأولى : ابتدأت الآية قبل السابقة بذكر صفة الإنفاق فتشمل منافعها أطرافاً متعددة منها:
الأول : الذي ينفق المال من جهات:
الأولى : التحلي بصفة التقوى.
الثانية : إخراج الزكاة والحق الشرعي، وفي الحديث المشهور (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)( ).
الثالثة : الإنفاق مصداق للجهاد في سبيل الله بالمال وقد يكون من الفرد الجامع للجهاد بالمال والنفس.
الرابعة : إستحقاق البشارة الكريمة التي جاءت بها آية البحث.
الثاني : الذي يصل إليه المال وتقع في يده النفقة.
الثالث : الشفيع والوسيط في هذه النفقة.
الرابع : الذي يقتبس ويتعلم من مدرسة الإنفاق.
الخامس : الفقير الذي يرجو وصول نفقة مثلها إليه.
السادس : من يسعى في الدنيا ليكون عنده ما ينفقه في سبيل الله.
ومن الآيات في الإنفاق تغشي الشكر لله لمراتبه وأطرافه كلهم، ومن خصائص قصد القربة في الفعل العبادي أو تلقيه مع العلم بأن فعله بقصد طاعة الله، ومع أنه مصداق للتقوى فإنه طريق لأفراد أخرى منها.
وتلك آية من بديع صنع الله، وأسرار خلافة الإنسان في الأرض بأن يقربه الله إلى منازل التقوى والفلاح بأفراد التقوى ذاتها , وكأنها من المتداخل والمتصل بعضه ببعض , ويتجلى في نظم هذه الآيات بأن إجتمعت مصاديق التقوى التي تؤدي الى الثواب العظيم في آيتين من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية في القرآن من غير أن يتعارض مع ذكر التقوى في آيات أخرى من القرآن ليكون هذا التعدد سبباً للهداية والرشاد، وعوناً للمسلمين بجعل التقوى ولباسها وثوابها قريبة منهم .
وإذا كانت آية البحث سلاحاً في الدنيا فهل هي سلاح في الآخرة أم أن الأمر مختلف لقاعدة إذا تبدل الموضوع تغير الحكم.
الجواب صحيح أنه ليس من سلاح يوم القيامة وقد سلبت المقدرة والقدرة على الملك ونحوه من الخلائق إلا أن آية البحث ظهير للمؤمن في السلامة من الخوف يوم تعاقب وتدافع الأهوال , ويدل عليه قوله تعالى[لاَ يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ]( ).
وفي الفزع الأكبر أقوال ووجوه :
الأول : إرادة الخروج من القبور.
الثاني : الانصراف إلى النار عن الحسن البصري
الثالث : الخوف الأعظم وهو عذاب النار إذا اطبقت على أهلها عن سعيد بن حبير وابن جريج( ).
الرابع : عند النفخ الأول , قال تعالى[وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ]( ).
وعن ابن عباس قال: النفخة الأولى يموت فيها إبليس، وبين النفخة والنفخة أربعون سنة. قال: فيموت إبليس أربعين سنة)( ).
الخامس : الفزع الأكبر دخول النار( ).
السادس : قيل المراد الموت، عن عطاء( ).
الثامن : عن ابن عباس: يعني النفخة الآخرة( ).
التاسع : حين يذبح الموت بين الجنة والنار( ).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ثلاثة على كثبان المسك لا يهولهم الفزع الأكبر يوم القيامة: رجل أمَّ قوماً وهم به راضون، ورجل كان يؤذن في كل يوم وليلة، وعبد أدى حق الله وحق مواليه)( ).
مفهوم الآية
ومن مفاهيم الآية بعث الحسرة في نفوس الكفار والذين يفسدون في الأرض وهو من عمومات رد الله على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، أي أن بيان ثواب المؤمنين يجعل المفسدين في الأرض في حال من الندامة والفزع والخوف، وفيه تقريب لهم إلى منازل التوبة والإنابة، وهو من اللطف الإلهي العام الذي يتغشى أهل الأرض جميعاً.
ومنها تنغص الكفار في أسباب النعيم التي يملكون ويعيشون في الدنيا، إذ أن الآية الكريمة تذكير لهم بأن هذا النعيم إلى زوال [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( ).
وتدل آية البحث في مفهومها على أن الكفار الذين يأتون بالإحسان لا ينالون المغفرة فيكون مصيرهم النار والعذاب الأليم، لأنهم يصرون على الجحود ولم يبادروا إلى التوبة والإنابة .
فإن قلت إن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره وهو ظاهر الآية الكريمة ولسعة فضل الله فلم تقل الآية(أولئك جزاؤهم المغفرة من ربهم) بل جاءت بصيغة التنكير(مغفرة من ربهم) والله عز وجل هو الرؤوف الرحيم , وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والانس والبهائم، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده)( ), والجواب جاء القرآن والسنة بأن الكفار مصيرهم إلى النار, قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
وتتجلى رحمة الله في الدنيا والآخرة بآية البحث وما فيها من الوعد المتعدد والثواب المتجدد والمتصل للمؤمنين على فعل الصالحات، والمغفرة ومحو الذنوب العظام بسبب الإستغفار في الحياة الدنيا ولو في الأيام الأخيرة للإنسان فيها، وتلك نعمة أخرى بأن التوبة المتأخرة واللاحقة تأتي على الذنوب المتقدمة، وعلى هذا المعنى الذي يستقرأ ويستنبط من مضامين الآية أعلاه مع آية البحث وفيه مصداق للحديث النبوي أعلاه وبلحاظ نسبة الرحمة في الدنيا إلى الأفراد المتكثرة والمضاعفة منها في الآخرة.
فالبشارة في هذه الآية من الرحمة التي في الدنيا، أما تعليق العذاب على المشيئة الإلهية، بعد ثبوت إستحقاق الكافر والظالم له في الآخرة فهو من الرحمة الإلهية في الدنيا والآخرة، ويستنتج منه أن الملائكة لا تسوق الذي مات على الكفر إلى النار إلا بعد المشيئة الإلهية، قال تعالى[خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ]( )، [خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ]( )، أي شدوه بالأغلال، وقيل(يبتدره مائة ألف ملك ثم تجمع يده إلى عنقه)( ).
أي أن هؤلاء الملائكة لا يقودون الكافر إلى النار حال ثبوت وإستحقاق العذاب الأليم ولكنهم ينتظرون أمر الله عز وجل، للإمتثال له عفوا أو عقوبة أو إمهالا إلى بعض مواطن الآخرة اللاحقة , قال تعالى في وصف الملائكة القائمين على النار[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
ولقوله تعالى (أولئك جزاؤهم) مفهوم من جهات:
الأولى : لزوم التسليم بيوم القيامة، وأن الناس جميعاً ينشرون من القبور ليقفوا بين يدي الله للحساب.
الثانية : حضور أعمال العباد معهم يوم القيامة، والتمييز بين الناس بلحاظ الأعمال، ويدل عليه اسم الإشارة (أولئك) فمن بين الخلائق يشار بالإكرام إلى المسلمين الذين عملوا الصالحات في حياتهم.
الثالثة : يحتمل حال الناس يوم القيامة عندما يخاطب المؤمنون بإشارة الإكرام وجوهاً:
الأول : الإحتجاج على كون أعمالهم القليلة في الدنيا لا تستحق هذا الإكرام.
الثاني : الجدال بأن من المؤمنين من فعل الفاحشة والمعصية بدليل قوله تعالى في الآية السابقة[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ….]( ).
الثالث : الحسد للمؤمنين.
الرابع : الدعاء وسؤال الله أن يكونوا في زمرة المؤمنين وأن يشملهم خطاب الإكرام، وفي التنزيل[قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
الخامس : التوسل بالملائكة لجعلهم مع المؤمنين في تلقي أسباب الكرامة.
السادس : سؤال المؤمنين بأن يكونوا في مرتبتهم، أو ينالوا شطراً مما أنعم الله عليهم، وجاء القرآن ليبين حال المنافقين وقولهم للمؤمنين[انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ]( )وليس من فترة أو إبطاء للرد عليهم , ليكون فيه توبيخ إضافي لهم.
السابع : إصابة الكفار بحال اليأس والخيبة والحسرة.
الثامن : إمتلاء نفوس الكفار بالخوف، وظهور التلاوم بينهم.
التاسع : توجه الإشارة للكفار والمنافقين بالتوبيخ وإستحقاق العذاب الأليم، وبإستثناء الوجه الأول والثاني أعلاه إذ لا يقدرون على الجدال يومئذ فإن الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة.
الرابعة : تدل الآية أعلاه على وجود مائز للمؤمنين يتجلى بإشراقة ونور على وجوههم يغبطهم عليه الخلائق، ويكون مقدمة وشاهداً على عظيم منزلتهم، وهل هو سبب لتلقيهم التهنئة من الملائكة , الجواب هو من أسباب بشارة وإكرام الملائكة، قال تعالى[لاَ يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ]( ).
الخامسة : ترغيب الناس بالجزاء الحسن الذي ينتظر المؤمنين، وهو سبيل لجذبهم لمنازل الإيمان لشرطية التلبس بالتقوى وعمل الصالحات للفوز بمرتبة الجزاء الذي تذكره آية البحث ليكون من مصاديق قوله تعالى[لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ]( )، أي لمثل الفوز بنزول الإشارة من السماء بآيات الفخر والعز.
السادسة : دعوة الناس جميعاً لإكرام المؤمنين لأنهم سوف يفوزون بالمرتبة العالية، وهل تنحصر هذه الدعوة بغير المؤمنين , الجواب هي مطلقة وتشمل المؤمن في إكرامه لأخيه في الدنيا، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، ليكون من أظهر معاني الأخوة الإلتقاء بفعل الصالحات ونيل درجة التقوى.
وفي قوله تعالى(مغفرة من ربهم) مسائل :
الأولى : بيان مصداق حاضر من مصاديق الجزاء، وهو الشهادة والإشارة السماوية بالعز والفخر على عمل الصالحات، ويمكن إستقراء قاعدة كلية حسب الإرادة التكوينية وهي وجود شاهد وفرد حال يكون مرآة للجزاء الأخروي إن كان ثواباً أو عقاباً والإشارة (بأولئك جزاؤهم مغفرة).
ومن الجزاء الحال قوله تعالى في وصف عاقبة التقوى وأنها تجارة لن تبور أو تبيد ومن رشحاتها الحاضرة بفضل الله [وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومن الإعجاز أن الجزاء الحال في الآية أعلاه يخص المسلمين كأمة حاملة للواء التوحيد، وفيه أمن وسعادة لهم كأفراد، فمن خصائص النعمة العقائدية العامة تغشي الأفراد بالغبطة والرضا وهي مناسبة لفعل الصالحات والإستعداد للآخرة برداء العز والكرامة.
الثانية : بيان موضوعية السعي إلى المغفرة في الدنيا، وجاءت الآيتان السابقتان في بيان طرق الوصول إلى المغفرة.
الثالثة : هناك عفو ومغفرة معروضة من الله للناس جميعاً، ولا ينالها إلا المؤمنون الذين يعملون الصالحات.
وهل المغفرة سابقة لخلق الإنسان أم العكس، الجواب هو الأول وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد إحتجاج الملائكة بأن الله عز وجل تفضل بالمغفرة للإنسان قبل خلقه، ويغنمها الذي يذكر الله ويستغفره ويعمل الصالحات.
الرابعة : إن الله عز وجل رب الخلائق كلها، ولكن إختصاص المؤمنين في الآية بالإخبار بأن الله عز وجل هو ربهم ترغيب للناس بالإيمان , وهل يعني هذا أن المؤمنين ينالون حصة زائدة، بأن يشتركوا مع الناس بالربوبية المطلقة لله عز وجل، ويختصوا بأن الله رب المتقين.
الجواب لا دليل عليه, فربوبية الله للخلائق مطلقا بلحاظ الخلق والإيجاد , ويختص المؤمنون بحسن العبودية لله والفوز بحصة زائدة من الرأفة والرحمة في الدنيا تكون فضلاً منه تعالى متعلقاً بالتقوى والخشية منه سبحانه ونوع طريقية لمضاعفة الثواب في الآخرة.
ويدل قوله تعالى[وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( )، على أن الثواب في الآخرة له شواهد ومصاديق في الدنيا ولكن الفارق من وجوه:
الأول : جنات وبساتين الدنيا لا تأتي إلا بجد وبذل للمال وعمل، وحراثة وسقي وتعاهد للأشجار أما بخصوص جنات الآخرة فهي بالأمر الإلهي[كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الثاني : إنقطاع جنات الدنيا بتعاقب الأيام والسنين ، أو تبدل أحوال السكن، أما جنات الآخرة فتتصف بالدوام والخلود.
الثالث : يدخل جنات الدنيا البر والفاجر، ويأكل منها المالك وغيره، أما جنات الآخرة فهي خاصة للمؤمنين لا يشم رائحتها الكفار والمنافقون، قال تعالى[أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ]( ).
الرابع : جنات الدنيا ملك للناس، وقد تحصل بسببها الخصومة والقتال، أما جنات الآخرة فهي ملك لله عز وجل، وليس فيها نزاع، قال تعالى[وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( ).
الخامس : قلة مساحة البساتين والجنات في الأرض بينما جاء وصف جنات الآخرة في آية البحث باللامتناهي بلحاظ سعة عرضها وشمولها للسموات والأرض.
السادس : أصحاب جنات الدنيا في الغالب الأغنياء وأرباب المال والجاه , أما جنات الآخرة فهي للمؤمنين وشطر منهم من الفقراء، وعن أبي سعيد الخدري إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إفتخرت الجنة والنار، فقالت النار: يدخلني الجبابرة، والملوك، وقالت الجنة: يدخلني الفقراء والضعفاء، والمساكين، فقال الله تعالى للنار: أنت عذابي، أصيب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي، وسعت كل شيء، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار، فيلقى فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يأتيها، فيضع ما شاء عليها، فتزوى( )، وتقول: قدني)( ).
السابع : يغادر أهل الدنيا جنانهم وزراعاتهم طوعا بالبيع ونحوه أو قهرا بالموت بينما تتصف جنان الآخرة وأهلها بالخلود والدوام .
الثامن : تتقوم البساتين والأشجار والجنات في الدنيا بالماء والأمطار أو المياه الجوفية أو السقي بمشقة وجهد وشراء للماء، وأخبرت آية البحث عن صفة في جنات الآخرة وهي جريان الأنهار من تحتها، وتحتمل الأنهار في موضوعيتها من الجنات وجوها:
الأول : الأنهار جزء من ذات الجنات في الآخرة.
الثاني : إنها عرض ملازم للجنات.
الثالث : الفرد الجامع للأمرين أعلاه.
والجواب هو الأخير فالجنة أعلى مراتب النعيم، ومن خصائصها أن الأنهار نعمة يتنعم بها المؤمنون , وأشجارها لا تحتاج إلى السقي وجريان الأنهار الكثيرة، ومن مصاديق الفرد الجامع في المقام وصف الأنهار بأنها تجري من تحت الجنات والبساتين، فقوله تعالى(من تحتها) يفيد التعدد والمغايرة وأن الأنهار غير الجنات.
لذا أختتمت الآية بقوله تعالى (فنعم أجر العاملين) أي أن هذا التعدد بنعم الآخرة من الأجر الذي إدّخره الله ثواباً وجزاءً للمؤمنين والذي يدل في مفهومه على حرمان الكفار من الأجر، وخسارتهم وذهاب أعمالهم هباء يوم القيامة، فتدل آيات القرآن بالنص والدلالة على أنه ليس من أجر وثواب إلا للمؤمنين الذين يعملون الصالحات , وآية البحث من عمومات قوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، فمن الحق في المقام الإخبار القاطع عن حال المؤمنين في الآخرة.
ومن البشارات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإخبار عن طول وسعة الجنة بما يفوق حد التصور الذهني، وما ينتظر الذين إتبعوه ويتبعونه إلى يوم القيامة من السعادة الدائمة.
ومن الإنذار دلالة الآية في مفهومها على إنذار الكافرين لحرمانهم من النعيم ولعدم ترك إنسان بلا حساب وجزاء، قال تعالى[يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا]( )، وفي الآية أعلاه إنذار للكفار من فضح قبائحهم بين الخلائق يوم القيامة، ولحوق الخزي بهم على رؤوس الأشهاد.
الآية لطف
من الآيات في خلق الحياة الدنيا أن الإنسان ذكراً أو أنثى يدرك من صغره وقبل أن يصل سن التكليف بأن بقاءه فيها متزلزل وغير دائم بلحاظ وفاة ومغادرة أناس ممن حوله من الأرحام وذوي القربى والأحبة والأعداء إذ لم يستثن منهم الموت أحداً، ويخالطه وهو صغير تفكر بأن عدم عودة الميت حقيقة هو؟ ويرجو بعاطفته أن يكون فيه إستثناء يصيب أباه أو أمه أو أخاه ولكن نزول الموت بالناس على نحو العموم الإستغراقي من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
ويدرك الإنسان من صباه أن الموت لا يختص بكبار السن، فقد يصيب الكهول والشباب والصغار ليدخل في نفسه خوف من مداهمته وليس من مهرب إلا اللجوء إلى ذكر الله، فكان القرآن نعمة الله في الأرض، وكنز السكينة والأمان بإختيار سبيل الإيمان ورؤية ما بعد مغادرة الدنيا من النعيم الدائم الذي يفوق عالم البديع في ميدان التصور.
ومن اللطف الإلهي في آية البحث أنها مدد في الحياة الدنيا لجعل الآخرة هي الأمل والغاية وإدراك أن الحياة الدنيا دار إجتياز ومرور يتزود منها الإنسان لآخرته وسعادته الأبدية، فيهون عنده موضوع الموت، ويدخل عالم التكليف بقصد وعزم على أداء الفرائض والعبادات التي هي البلغة والصراط المستقيم، الذي يؤدي إلى دار النعيم.
ومن عمومات ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: خطب النبي صلى الله عليه وآله بمنى فقال: أيها الناس ما جاء كم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله)( ).
وصيغة البلاغة والفصاحة في الحديث النبوي وما يتجلى في مضامينه من معان تسمو على كلام البشر بإعتبار أنها من أفراد الوحي، من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).أي يمكن جعل موضوعية لطبقة البلاغة في الحديث في الرض بإعتباره من رشحات الوحي إذا حصل إختلاف في وثاقة رجال السند أو دلالة المتن .

بسنده من طريق بشر بن نمير عن حسين بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنه سيأتي ناس يحدثون عني حديثا فمن حدثكم حديثا يضارع القرآن فأنا قلته ، ومن حدثكم حديثا لا يضارع القرآن فلم أقله . قال البيهقي : هذا إسناد ضعيف لا يحتج بمثله ، حسين بن عبد الله بن ضميرة قال فيه ابن معين : ليس بشيء، وبشر بن نمير ليس بثقة .
وأشكل عليه لأن ذم حسين بن عبد الله جاء لتشيعه، وقيل برد هذا الجرح بشائبة الإختلاف والخصومة وإحتمال موضوعيتها في الجرح، وللتباين موضوعاً وحكماً بين التشيع والغلو، أما بشر بن نمير فقيل إعتمد ابن ماجه روايته في سننه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اعرضوا الحديث إذا سمعتموه على القرآن فما كان من القرآن فهو عني وأنا قلته، وما لم يكن على القرآن فليس عني ولم أقله وأنا برئ منه).
وعن الإمام علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ستكون عنى رواة يروون الحديث فاعرضوه على القرآن فإن وافق القرآن فخذوها وإلا فدعوها)( ).
وأخرج بطريق صالح بن موسى عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه سيأتيكم مني أحاديث مختلفة فما أتاكم موافقا لكتاب الله وسنتي فهو مني ، وما أتاكم مخالفا لكتاب الله وسنتي فليس مني .
وعن عبد الله بن جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إني سألت قوما من اليهود عن موسى فحدثوني حتى كذبوا عليه، وسألت قوما من النصارى عن عيسى فحدثوني حتى كذبوا عليه، وإنه سيكثر علي من بعدي كما كثر على من قبلي من الأنبياء، فما حدثتم عني بحديث فاعتبروه بكتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو من حديثي، وإنما هدى الله نبيه بكتابه، وما لم يوافق كتاب الله فليس من حديثي)( ).
وعن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا إن رحى الاسلام دائرة قال: فكيف نصنع يا رسول الله؟ قال: أعرضوا حديثي على الكتاب فما وافقه فهو مني وأنا قلته)( ).
عن الامام الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ان على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه)( ).
وقال القاضي عبد الجبار من علماء المعتزلة: إن خبر الواحد لا يقبل إذا خالف الكتاب والسنة المقطوع بها).
وعن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)( ).
ومنهم من شكك بحديث العرض كالذهبي وقيل: إنه من وضع الزنادقة، إنما العرض لحفظ السنة التي هي بيان وتفسير للقرآن والمصدر الثاني للتشريع .
وقال الشوكاني: حديث العرض يحتاج إلى عرض، وقيل السنة حاكم على القرآن، وقبول حديث العرض يجعل القرآن حاكماً على السنة، ولا دليل على حكومة السنة .
وقال عيسى بن أبان من علماء الحنفية بعرض خبر الواحد على القرآن حتى وإن كملت شروط صحته، وقيل بوقوع الخلاف بينه وبين الشافعي في قبول خبر الواحد إذا خالف ظاهر الكتاب.
وإحتج الآمدي بأحاديث العرض وقال كل حديث مخالف للقرآن مردود وعليه رد جملة من الأحاديث، وقال الخطيب البغدادي: يُرد خبر الثقة إذا خالف نص الكتاب أو السنة المتواترة.
وروي أن التركاني قال لأبي علي: ما تقول في حديث أبي الزناد؟ فقال: هو صحيح، قال التركاني: فبهذا الإسناد حديث “حج آدم موسى” ، فقال أبو علي: هذا باطل، فقال التركاني: حديثان بإسناد واحد صححت أحدهما، وأبطلت الآخر!! .
فقال أبو علي: ما صححت هذا الإسناد وأبطلت ذلك لإسناده؛ وإنما صححتُ هذا لوقوع الإجماع عليه، وأبطلت ذلك ؛ لأن القرآن يدل على بطلانه، وإجماع المسلمين ودليل العقل، فقال: كيف ذلك؟
فقال أبو علي: أليس في الحديث أن موسى لقي آدم في الجنة فقال:يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، أفعصيته؟ قال له : يا موسى أفترى هذه المعصية فعلتها أنا، وكان كتب عليَّ قبل أن أخلق بألفي عام؟ قال: بلى، ربي قد كتب عليك، فقال: فكيفي تلومني على شيء قد كتب علي، فحج آدم موسى .
فقال أبو علي للتركاني: أفليس الحديث هكذا؟ قال: بلى، قلت: أفليس إذا كان ذلك عذرا لآدم ، يجب أن يكون عذرا لكل كافر وعاص، وأن يكون من لامهم محجوجا، قال: فخرس وإن كنت أنت الذي لم تنطق نطقت، فقد نطق هو)( ).
وليس في الحديث عذر للكافر للتباين الموضوعي ولمجئ الآيات والسنة بالعقاب الأليم للكافر والفاسق .
ومنهم من إشترط عرض خبر الواحد على الكتاب، وفيه ردع للأهواء والبدع، ورد عن الإمام علي عليه السلام حديث معقل بن يسار الأشجعي وقال: لا ندع كتاب ربنا لقول إعرابي).
ورد عمر بن الخطاب حديث فاطمة بنت قيس في شأن النفقة وفقال: وقال لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة لا تدري هل حفظت أم نسيت)، أخرج البخاري عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: “هل وجدتم ما وعد ربكم حقا” ثم قال: “إنهم الآن يسمعون ما أقول” ، فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق”. قال السهيلي في الروض: “وعائشة لم تحضر، وغيرها ممن حضر أحفظ للفظه صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له: يا رسول الله، أتخاطب قوما قد جيفوا أو أجيفوا؟ فقال: “ما أنتم بأسمع لما أقول منهم” ( ) وقيل إستدلت في رد الحديث بقوله تعالى[وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ]( ).
ولكن لا تعارض من جهة الدلالة بين الآية أعلاه والحديث للتباين بين الذين قتلوا يوم بدر ومناداتهم في الحال وبين الذين دفنوا وقبروا، لورود الآية بذكر القبور كأوعية لمجيء حرف الجر(في) الذي يفيد الظرفية، ولو قلنا بالجمع بين الآية والحديث في الموضوع وأن الآية تشمل قتلى بدر فإنه يكون قضية عين تتضمن معنى التخصيص وإرادة البيان للأمة والناس وإقامة الحجة على الكفار وأنهم لا يدخلون القبور إلا بتوبيخ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم الذي أذن الله له بإسماعهم للأذى الذي لاقاه منهم وهو في مقام النبوة وتبليغ الرسالة.
والأصل في المقام هو النظر بإمكان الجمع بين الآية القرآنية والحديث النبوي، ثم النظر للحديث من جهة آيات أخرى، وكتب المسلمين تذكر هذا الحديث ويتدبر المسلمون في دلالته ومعانيه السامية، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات تجلي اللطف الإلهي بلحاظ الثواب العظيم على أعمال قليلة موضوعاً وزماناً وأثراً، فالتقوى والإنفاق والإستغفار أمور يتعقبها الخلود في الجنات، ويحتمل الجزاء الوارد في الآية وجوهاً:
الأول : إرادة الثواب في الآخرة، قال تعالى[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( ).
الثاني : الجزاء في الدنيا، وفي هذا الحال تحمل الجنات على البساتين والنعم في الملبس والمأكل.
(والجنات جمع جنة وهي الحديقة والبستان ذو الشجر والنزهة)( )، ولكن معنى الجنة الأخروية أعم وأعظم, وتفوق التصور الذهني في ماهيتها وسعتها، وتتخلف أمثلة الدنيا عن وصفها، لذا تقدم قبل ثلاث آيات تعلق حد الكثرة بعرضه (وجنة عرضها السموات والأرض) ولم تذكر الطول وهو الطرف الأطول لبيان أنه أعظم وأوسع من السماوات والأرض وفيه ترغيب بالعمل بمضامين آية البحث، والمسارعة إلى منازل التقوى والذكر وإخراج الزكاة واللجوء إلى الإستغفار , وكظم الغيظ ورد الغضب ومنع ظهور موضوعه وأثره على اللسان والجوارح،.

الصلة بين أول وآخر الآية
تبدأ آية البحث باسم الإشارة (أولئك ) مما يدل على تعلق موضوعها بالآية السابقة وصلتها وتداخلها معها, والجمع بين خاتمة الآية السابقة وأول هذه الآية هو (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم) وجاء اسم الإشارة (أولئك) بصيغة جمع المذكر الغائب، ويحتمل وجهين:
الأول : إرادة جماعة الذكور من المؤمنين.
الثاني : أراد المؤمنون والمؤمنات جميعاً.
والصحيح هو الثاني، ووردت صيغة التذكير للتغليب والمراد المعنى الأعم، قال المتنبي:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
وقيل (إنه إحتجاج عقلي صحيح )( ).
وليس هو بإحتجاج عقلي، فيمكن أن تكون صيغة التذكير فخراً للهلال وغيره من غير أن يتعارض مع فخر الشمس بذاتها وضيائها، ولا تصل النوبة إلى مسألة التذكير والتأنيث , وكل من الشمس والقمر ممكن محتاج مبتلى بالخفاء والإضمحلال ثم الظهور، والهلال يزداد حتى يصبح قمراً ثم ينقص فيختفي ليالي المحاق ليطل على الأرض معلناً بداية شهر جديد.
وقد أكرم الله عز وجل الهلال إذ أطلق عليه اسم الشهر كله، وبذات شهر رمضان الذي إنفرد من بين الشهور بذكره في القرآن بإسمه , وكأن هذا الذكر أمارة على كونه أفضل الشهور بلحاظ إجتماع الصيام والصلاة فيه، فإن قلت في شهر ذي الحجة تجتمع فريضة الصلاة والحج , الجواب تتغشى فريضة الصيام شهر رمضان كله بعبادة بدنية يؤديها المسلمون والمسلمات إلا ذوي الأعذار الذين يقضي فيما بعد شطر منهم ذات الصيام لقوله تعالى[فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( )، وقد شرّف الله عز وجل شهر رمضان بليلة القدر ونزول القرآن فيها، قال تعالى[شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ]( ).
وهل تنحصر علة التذكير في (أولئك) بتغليب المذكر أم هناك معنى أعم، الجواب هو الثاني من وجوه:
الأول : الرجال أكثر إمتحاناً في باب الإنفاق في السراء والضراء.
الثاني : يحتاج الرجال كظم الغيظ أكثر من النساء بلحاظ ميادين العمل.
الثالث : الرجال أسوة للنساء في العمل في ميادين الخير والصلاح ولو بلحاظ الترتيب والتعاقب الزماني.
الرابع : غالباً ما تلزم المرأة بيتها، وفيه راحة لها، أما الرجل فيكون في العمل السوق وهو مرتع الشيطان،والإختيار عنده أعم وأوسع.
وقد يقال تأتي أزمنة على الناس تكون فيها النساء بعرض واحد مع الرجال في العمل والإبتلاء وقد تكون المرأة المؤمنة الأسوة في الصالحات ، والجواب هذا صحيح وهو لا يمنع من رجحان كفة الرجال بلحاظ مجموع أفراد الزمان الطولية والأماكن العرضية ، وفيه آية من الثناء على النساء المؤمنات وتجلي سعي الواحدة منهن إلى الجنة ومسارعتها في الخيرات لذا جاءت الولاية والأمر بالمعروف مشتركاً بين الرجال والنساء ، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
إن قوله تعالى (أولئك) سبب قهري للعودة إلى الآيات السابقة والتدبر في معانيها ، وتلك آية إعجازية في القرآن بأن تكون الآية سبباً للتفكر في دلالات ومضامين الآيات السابقة خصوصاً وان آية البحث تتضمن أعظم بشارة للخلائق ، وقد رزق الله عز وجل الإنسان الخلافة في الأرض بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وهذا الإكرام في الدنيا، أما في الآخرة وبلحاظ أن النعم فيها أعظم وأكبر بما ينعدم معها القياس والنسبة، فان نعم الدنيا مع عظمتها وكثرتها واستدامتها وتواليها وتعلق قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ) بها ، تتخلف بمراتب عن نعم الآخرة التي تفوقها باللامتناهي من الأضعاف .
وجاءت آية البحث دعوة لاستحضار الطريق إليها إذ أنه محصور بالحياة الدنيا وسنخية العمل فيها، ومن اللطف الإلهي في الآيتين أمور:
الأول : إيجاز الأفعال التي تؤدي إلى الجنة بآيتين قصيرتين.
الثاني : تعقب آية الجزاء وهي آية البحث لهما.
الثالث : كلمات وجمل الآيتين من جوامع الكلم أي تضمن الألفاظ القليلة للمعاني الكثيرة والمتعددة، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن من الشعر لحكمة ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: أُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلَمِ)( )، (وقال الفيروز أبادي أنها القرآن)( ).
ولكنه أعم إذ يكون جوامع الكلم التي آتى الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : القرآن.
الثانية : الحديث القدسي.
الثالثة : السنة القولية.
الرابعة : كتب ورسائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : سهولة ويسر وقرب السبل المؤدية إلى الجنة مما تذكره الآيتان السابقتان، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
الخامس : كل مضمون وحكم مما في الآيتين السابقتين من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وعند دوران الإنفاق بين الأقل والأكثر يكفي فيه الأقل والأدنى , ولو كان الإنسان ذا سعة وأنفق القليل فهل يجزيه؟ الجواب المدار على إخراج الحق الشرعي وما تعلق في المال من الزكاة والنصاب المعلوم ثم تأتي بعدها الصدقة المندوبة والمستحبة.
السادس : الترغيب بإتيان الصالحات التي تقود إلى الجنة بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه الإخبار عن محبة الله عن تعلق حب الله بلحاظ التلبس بالإحسان، فلم تقل الآية (إن الله يحب المتقين) وإن ورد هذا اللفظ قبل آيات( )، ولكن الآية جاءت بلفظ الإحسان من جهات:
الأولى : إرادة عموم الناس، وليس المسلمين وحدهم.
الثانية : إقامة الحجة على الناس سواء في موضوع حبه تعالى للمؤمنين أو لحجب هذا الحب عن الذين يتخلفون عن الإحسان.
الثالثة : بيان حقيقة وهي فوز المسلمين بأعظم مصداق للإحسان، وهو إختيارهم الإسلام وما فيه من الإحسان لأنفسهم وأهليهم.
الرابعة : تبين الآية رحمة الله وعظيم إحسانه وكرمه بأن فتح باب محبته للناس جميعاً بميلهم إلى الإحسان، وهو أمر ممدوح عقلاً وتسكن إليه النفوس بفطرتها.
الخامسة : هداية وإرشاد الناس إلى قانون كلي في الإرادة التكوينية وهو الفوز بحب الله للعبد كطريق مبارك للجنة.
السادسة : الإخبار عن الحسن الذاتي للصالحات التي تؤدي إلى الجنة، وكل فرد منها إحسان محض للنفس والغير كالإنفاق وكظم الغيظ ودفع الغضب وما يترشح عنه، (وعن عطية السعدي أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار والنار تطفأ بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)( ).
السابعة : إطلاق وكثرة وتعدد السبل الكريمة التي تؤدي إلى الجنة وأنها أعم من أن تنحصر بما ورد في الآيتين السابقتين.
الثامنة : بيان الملازمة بين الإحسان والتقوى.
التاسعة : المندوحة والسعة للمسلم في المبادرة في ميادين ومواضيع الإحسان، وتلمس مصاديقه في الكتاب والسنة والواقع اليومي.
السادس : ذكرت إحدى الآيتين السابقتين مصاديق متعددة من الصالحات وسبل الإحسان، وإختصت الثانية بالإستغفار مما يدل على موضوعيته وكأنه يعادل فعل الصالحات كلها، في إتخاذه بلغة للوصول إلى الإقامة الدائمة في الجنة، وليكون الإستغفار هوية المسلم والخصلة التي يتصف بها في الدنيا، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد إبتدأت الآية الكريمة بثلاثة أسماء متتالية (أولئك جزاؤهم مغفرة) وتلك آية بلاغية في ألفاظ القرآن بأن تتعاقب أسماء ثلاثة في باب الوعد الإلهي وفيه توكيد للوعد بالثواب العظيم، ولطف من الله تعالى لما في هذا التعاقب من دعوة الناس إلى منازل التقوى والصلاح بلحاظ قرب أوان الجزاء، قال تعالى[قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى]( ).
وبعد اسم الإشارة والجزاء وكل منهما أمر حسن يشد الأبصار ويجذب الأسماع جاء قوله تعالى(مغفرة) وهي الهبة الأعظم والأكبر في حياة الإنسانية، فيفرح الإنسان بالرزق الكريم والأولاد والجاه والسلطان، ولكن الفوز بنعمة المغفرة ترجح كفته عليها مجتمعة.
ومن الآيات أن المغفرة لا تحتاج إلى رأس مال وكثرة تدبير وطول سعي وتزاحم مع الناس وإجتناب لأهل الحسد والخصومة وأسباب الكيد، بل هي صلة بين العبد والخالق عز وجل ليس من واسطة أو برزخ أو شرط فيمن يريد أن ينتهج سبلها.
وهو من الشواهد بأن الدنيا (دار النعم) إذ لا تستلزم النعمة العظمى التي تتغشى حياة الإنسان في الدنيا والآخرة الإنتظار والصبر وتقديم القرابين والنذور والهدايا.
وجاءت آية البحث لتبين أن الطريق إلى هذه النعمة يتمثل بالعمل بمضامين الآيتين السابقتين، وكل فرد منها فعل شخصي لا يأتيه قيد وعائق من الغير، وبإستثناء البذل والعطاء في قوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( )، فإن المضامين الأخرى كلها ملكات نفسية تتقوم بالتقوى والخشية من الله عز وجل، وكل فرد منها يبعث السكينة والطمأنينة في القلب وهو عون لفرد مثله أو أسمى منه من ذات جنسه أو من غيره من الصالحات.
وجاء لفظ الرب بالإضافة إلى الغائب فلم تقل الآية (مغفرة من ربكم) وفيه مسائل:
الأولى : موضوعية سياق الآية ولغة العموم المستقرأة من صيغة التنكير ولغة الغائب فيها.
الثانية : تأكيد البشارة للمتقين بأن الله عز وجل هو ربهم الذي يتغشاهم برحمته.
الثالثة : إستدامة صفة الربوبية للمؤمنين في الآخرة بإحاطتهم بأسباب الكرامة ومصاديق الغبطة والسعادة، قال تعالى في الثناء على الشهداء وبيان عظيم ثوابهم[بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الرابعة : إخبار الآية بأن الله عز وجل هو رب المتقين نوع جزاء لهم لإيمانهم وتصديقهم بالتنزيل والنبوة في الحياة الدنيا، قال تعالى[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ…..]( ).
الخامسة : جاءت الآية في موضوع العفو والمغفرة ومحو الذنوب، فتضمنت النسبة في الربوبية ما يبعث الشوق في نفوس الناس جميعاً إلى المنزلة التي يفوزون بها بصدق إنتمائهم لمقامات العبودية لله عز وجل.
السادسة : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، والله عز وجل رب الناس والخلائق كلها، ويتصف المسلمون بالشكر له المقرون بالإقرار بربوبيته المطلقة وهذ ا الشكر رداء المؤمن، والبلغة إلى النعيم، والصراط إلى العفو والمغفرة لذا يتلو كل مسلم ومسلمة عدة مرات في كل يوم وعلى نحو الوجوب قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
ومن إعجاز لغة الضمائر في القرآن أن لفظ(ربهم) ورد في مواضع منه مطلقاً للناس جميعاً بخصوص الحياة الدنيا ووجوب التصديق بالآيات وإجتناب الكفر ، أما فيما يخص الآخرة فالنسبة خاصة بالمؤمنين، لأن الكفار جحدوا بالربوبية ولم يؤمنوا باليوم الآخر فصاروا إلى العذاب الأليم، قال تعالى[بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ]( ).
وبعد الوعد الكريم بالمغفرة جاءت بالبشارة بالجنات وتقدير الآية(أولئك جزاؤهم جنات من ربهم….) ولكن لماذا لا يظهر هذا التقدير, الجواب من جهات:
الأولى : دلالة حرف العطف الواو في (وجنات) على هذا التقدير.
الثانية : الجنات أمر حسي وعقلي , وتدرك الخلائق أنه لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، ولا يهب الجنات ونعيمها الدائم غيره تعالى في يوم تكون الخلائق كلها محتاجة لرحمته وعفوه.
الثالثة : جاءت الآيات بالإخبار عن كون الإقامة في الجنة إنما هي من عند الله، قال تعالى[فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ]( ).
لقد ذكرت الآية المتقين بلفظ متحد واسم للجمع (أولئك) بينما تعددت أفراد الجزاء من وجوه:
الأول : المغفرة.
الثاني : نزول المغفرة من الله عز وجل رب العالمين، مما يدل على أنها بأبهى صورة، وأعظم مرتبة وصيغة فليس بعد المغفرة ذنوب عالقة، فهي تستر القبائح كلها.
وتبين الآية حقيقة وهي أن المغفرة مطلوبة بذاتها وهي مقدمة ونوع طريق إلى الفوز بالجنة، وأخبرت الآية السابقة عن إستغفار المؤمنين من ذنوبهم، وإقتران الإستغفار بذكر الله عز وجل , ويحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة الملازمة بين الإستغفار والمغفرة.
الثاني : تعقب المغفرة للإستغفار.
الثالث : المغفرة فضل ولطف يأتي إبتداء من عند الله عز وجل.
الرابع : ترشح المغفرة عما هو أعم من الإستغفار، فتأتي نتيجة الإستغفار والذكر عمل الصالحات.
الخامس : التحلي بالخصال الحميدة التي تضمنتها الآيتان السابقتان.
السادس : تأتي المغفرة من جهات مجتمعة ومتفرقة هي:
الأولى : التقوى والخشية من الله.
الثانية : الإستغفار.
الثالثة : الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية.
الرابعة : العمل بمضامين الآيتين السابقتين , والمبادرة إلى الإنفاق وأعمال البر، وإرتداء لباس الصبر والتحمل طلباً لمرضاة الله، وإن كان مصدر الأذى من الكافر والمنافق.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من فضل الله , وأبواب جعلها الله مقدمة وطريقاً للإقامة في الجنة والنعيم الدائم، وهل في هذا التعدد مشقة وتكليف على المؤمنين أم أنه موضوع للتخفيف عنهم، الجواب هو الثاني وفيه آية في فلسفة الخلق وتقريب الناس لمقامات النعيم الأخروي، وإقامة الحجة عليهم في النشأتين.
ومن مصاديق التخفيف بعث الشوق في النفوس لبلوغ مقامات المغفرة والفوز بالعفو من الله عز وجل، وقد ورد موضوع المغفرة في آية البحث كموعدة من الله، ورشحة من رشحات الذكر، وتقريب للوعد بالجنة، وتحتمل الصلة بين المغفرة ودخول الجنة بلحاظ أفراد الزمان وجوهاً:
الأول : التباين الزماني، إذ ينال المؤمن المغفرة في الدنيا، بينما لا يدخل الجنة أصحابها إلا في الآخرة.
الثاني : زمان المغفرة من الكلي المشكك فقد تقع في الدنيا، وقد لا تحصل إلا في الآخرة.
الثالث : المغفرة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً وبلحاظ آنات الزمان الطولية الثلاث:
الأول : الحياة الدنيا.
الثاني : عالم البرزخ.
الثالث : يوم القيامة.
الرابع : الجنة ثواب دائم ومستديم، قال تعالى[وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ]( )، والمغفرة تأتي في الدنيا وعلى المؤمن أن يتعاهدها بالعمل الصالح والإستغفار.
الخامس : الملازمة الزمانية بين المغفرة ودخول الجنة، فتأتي المغفرة في الآخرة دفعة واحدة وتكون مقدمة وسبباً مباشراً وحاضراً لدخول الجنة.
السادس : ليس بين المغفرة ودخول الجنة زمان يذكر، ومصداق المغفرة هو[فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا]( ).
السابع : تعلق المغفرة بالشفاعة، قال تعالى[وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( ).
الثامن : إنما المغفرة عنوان دخول الجنة، فمن دخل الجنة فقد نال المغفرة.
التاسع : تعقب المغفرة لدخول الجنة، لبيان عظيم فضل الله عز وجل، وبإستثناء الوجوه الثلاثة الأخيرة فلا تعارض بين الوجوه الستة المتقدمة، وكلها من مصاديق الآية وهي مجتمعة ومتفرقة من فضل الله في نعمة المغفرة وجعلها قريبة من المؤمنين.
وتضمنت الآية جزائين كل فرد منهما يعدل الدنيا وما فيها وهما :
الأول : مغفرة وستر الذنوب .
الثاني : الإقامة في الجنة .
ونسبت الآية المغفرة الى الله عز وجل لبيان حقيقة وهي أنه لا يقدر عليها غيره سبحانه ، وأنها بيده وحده ثم ذكرت الجنات لإفادة حقيقة وهي كونها جزاء ونعمة من عند الله ، فلا يملك العفو والمغفرة ولا يأمر بالإقامة في الجنة إلا الله عز وجل , وفيه مسائل :
الأول : تنمية لملكة العبودية عند المسلم.
الثاني : حصانة المسلم من الغلو.
الثالث : إنه برزخ دون الإستعانة بغير الله.
ولم يكن هذا المعنى بالمفهوم المترشح من دلالة الآية القرآنية بل جاء صريحاً في القرآن بالجمع بين طرفي العبادة والإستعانة ووجوب تلاوة المسلم لها كل يوم بقوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
لتتجلى البشارة على هذه التلاوة بآية البحث بلحاظ وجوب السعي والعمل بسنن التقوى التي تذكرها هذه الآيات وهو من معاني العبادة في الآية أعلاه ولتكون تلاوتها نوع طريق لتقريب المسلم لتلك السنن وما يترشح عنها من مصاديق البشارة.
عن محجن بن الاذرع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد إذا رجل قد صلى وهو يتشهد فقال اللهم إني أسألك يا الله الواحد الاحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ثلاثا)( ).
ترى لماذا لم تقدم آية البحث الجزاء بالجنات على الجزاء بالمغفرة، الجواب إن تقديم المغفرة من إعجاز القرآن بلحاظ إنبساطها على الدنيا والآخرة ولأنها مقدمة لدخول الجنة.
قانون نحوي جديد
تتصل دلالات مضامين اسم الإشارة بذات آية البحث لذا يكون تعريف (أولئك) وفق الصناعة النحوية بأنه مبتدأ ويدل بالدلالة التضمنية عن حاجته إلى خبر والذي جاء مركباً ولفظاً متعدداً، ومن الآيات أن ذات الخبر في هذه الآية يستلزم خبراً، وكأنه من باب المطلق والمقيد، وأن الأخير يكون مطلقاً بلحاظ تقييد آخر، لذا صار وفق الصناعة النحوية أن(أولئك جزاؤهم) جملة من مبتدأ وخبر في محل خبر للمبتدأ (أولئك)، ولا يخلو من تكلف.
والمراد من صيغة هذا الإعراب البيان والتفصيل, والمبتدأ الثاني (جزاء) يحمل صفات الخبر ولو على نحو الموجبة الجزئية، وكونه جزء من الخبر أقرب إلى معنى المبتدأ الثاني، إذ أن معنى الإخبار لا يتم به لتبقى الأعناق تشرئب والنفوس تتطلع إلى عظيم الفضل الإلهي في ذكر ماهية الجزاء الحسن للمتقين الذين يعملون الصالحات .
ولو أوجدنا إصطلاحاً آخر في النحو غير لفظ المبتدأ الثاني بلحاظ تأسيس قاعدة عقلية في النحو وهي أن الجملة الواحدة تمتنع عن قبول مبتدأين في آن واحد مع إصلاح في إصطلاح خبر المبتدأ الثاني سواء في هذه الآية أو آية أخرى فإن المعنى لا يتغير ويفتح أبواباً من الدراسات في علوم متعددة تتفرع عن المعنى النحوي أو لا أقل عدم الوقوف عند صناعته وحدها خصوصاً , وإنها إستقراء وتتبع دقيق لنظم الكلام العربي ويمكن توسعتها بتعدد قراءة النحو وإيجاد قواعد أخرى إلى جانبها من غير تعطيل لها لأنها صرح علمي, وذات نفع عظيم في معرفة كيفية التركيب بين الكلمات وتعيين أصل المعنى بقوانين يُحترز معها من الخطأ في تركيب الكلمات بالإضافة إلى المنافع في إجتماعه مع علم الصرف وعلم المعاني وعلم البيان.
ومعاني كلمات القرآن أعم من القوانين الوضعية التي وضعها النحويون وهذا لا يمنع من ضرورة إعتماد القواعد والقوانين النحوية التي هي أصل في معرفة هذه المعاني وعدم التوسعة والخروج عنها إلا مع الأمارة والدليل والقرائن الظاهرة والتي تكون في طول تلك القواعد وليس في عرضها إذ أنها ثروة وتراث وعلم قائم بذاته وأصل لعلوم عديدة , وضابطة علمية للفظ العربي.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أنا من قريش ونشأت في بني سعد فأنى لي اللحن)( ).
إن أول من رسم للناس النحو واللغة أَبو الأسود الدؤلي وكان أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كان من أعلم الناس بكلام العرب)( ).
أخرج البيهقي عن صعصعة بن صوحان: جاء أعرابي إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف لا يأكله ألا الخاطون كل والله يخطو فتبسم عليّ وقال: يا أعرابي {لا يأكله إلا الخاطئون} قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان الله ليسلم عبده، ثم التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إن الأعاجم قد دخلت في الدين كافة فضع للناس شيئاً يستدلون به على صلاح ألسنتهم، فرسم له الرفع والنصب والخفض)( ).
لتؤسس مدرسة النحو كواقية مما لحق أو يلحق كلام العرب من الإضطراب، وإختيار خفة اللسان والسليقية أي التي يسترسل فيها المتكلم من غير إلتفات إلى الإعراب أو ضبط الحركات.
وذكر أن كاتباً لأبي موسى الأشعري كتب إلى عمر فلحن، فكتب إليه عمر: أن اضرِبْ كاتبك سوطاً واحداً)( ).
وعن الأصمعي قال: كان غلام يطيف بابي الاسود الدؤلي( ) يتعلم منه النحو فقال له يوما: ما فعل ابوك قال: اخذته حمى, فضخته فضخا وطبخته طبخا وفتحته فتحا فتركته فرخا, قال: فما فعلت امرأة ابيك التي كانت تشاره وتجاره وتضاره وتزاره, وتهاره وتماره؟ قال: طلقها وتزوج غيرها فحظيت عنده ورضيت ونظيت.
قال: وما نظيت يا ابن أخي؟ قال: حرف من العربية لم يبلغك, قال: لا خير فيما لم يبلغني منها)( )، أي أترك الشاذ النادر في اللغة.
بحث كلامي مستحدث
قال الليث: الخلُودُ: البقاء في دارٍ لايُخرج منها، والفِعْلُ: خَلَد يَخْلُد)( ).
ولكن الخلود أعم من أن ينحصر بالتقييد بالبقاء في دار، بل يتعلق بذات الشئ وبقائه المؤبد، لذا فمن الإعجاز في خلود أهل الجنان التعدد والتداخل في النعم الإلهية بحيث تعم الحال والمحل من جهتين:
الأولى : الخلود والبقاء المؤبد للمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
الثانية : خلود ودوام النعيم الذين يحلون فيه قال تعالى[لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ]( )، ويتجلى هذا التعدد في النعيم بالبيان الوارد في السنة النبوية لأفراد ثواب قراءة القرآن مثلا.
عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ، ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوّة ، ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة ، ومن قرأ القرآن كله أعطي النبوّة ، ويقال له يوم القيامة : اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينجز ما معه من القرآن . فيقال له : اقبض . فيقبض فيقال له : هل تدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد ، وفي الأخرى النعيم( ).
وظاهر الحديث أن المؤمن يقبض كتاب خلوده في يده اليمنى، ويصاحبه في اليد اليسرى ماهية وصبغة هذا الخلود وهو النعيم واللبث الدائم في الجنة.
ويبين هذا التعدد فضل الله عز وجل على الناس جميعاً في الدنيا، وعلى المؤمنين خاصة في الآخرة بأن تأتي البشارة لهم جميعاً في الدنيا، ومنها هذه الآية وما فيها من جذب الناس إلى منازل الإيمان كوسيلة وصراط مستقيم وبلغة لبلوغ مراتب الثواب الدائم الذي يختص به المؤمنون من بين الناس.
وذهب واصل بن عطاء إلى القول بالمنزلة بين المنزلتين بخصوص الفاسق الخارج عن أمر الله، ممن يرتكب الكبيرة، فهو بلحاظ نطقه بالشهادتين يكون مؤمناً فيناكح ويوارث، ويغسّل ويصلى عليه، وأنه كالكافر في ذمه ولعنه، ولا تقبل شهادته، وعدد من الفقهاء منعوا من الصلاة خلفه، وأشار إليه الزمخشري في تفسير قوله تعالى[وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ] ( ).
ومن إعجاز آيات القرآن أن لفظ (الجنة) يأتي على وجوه:
الأول : صيغة المفرد والتعريف (الجنة) كما في آية البحث لإفادة اسم الجنس وإرادة جميع الجنات، وأنه ليس من جنة غيرها، وأن الناس جميعاً يدركون هذه الآية من الإرادة التكوينية.
الثاني : صيغة الجمع مع التعريف، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ]( )، ومع مجيء لفظ الجنات في القرآن تسعاً وستين مرة فانه لم يرد بصيغة التعريف إلا في الآية أعلاه، وجاء الإخبار بالإقامة في الروضات وهي جمع روضة، وتجمع على رياض وريضان أيضاَ( )، والروضة الأرض ذات الخضرة، والبستان الزاهر، ولم يرد لفظ روضة في القرآن إلا مرة واحدة وتتعلق بالجنة أيضاَ( )، ووردت بصيغة الجمع مرة واحدة وفي الآية أعلاه.
الثالث : التعريف بالإضافة كما في قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ النَّعِيمِ]( )، قيل: معكوس، أي لهم نعيم الجنات)( )، ولكن الكلام العربي يحمل على ظاهره، ولا يؤول على خلافة إلا مع الراجح والقرينة الصارفة، وهي معدومة في المقام، والقول نعيم الجنات أعم وقد يفيد في مفهومه وجود وجوه وضروب من الأثر والصفات للجنات غير النعيم، ولكن المؤمنين ينفردون بالنعيم ويتركون غيره لغيرهم، فجاءت الآية أعلاه إعجازاً يتضمن البيان والترغيب بالجنان وأن سكنها يبعث الغبطة والسرور في النفس ولا ينحصر بالبساتين والأكل والشرب، وفيه تأكيد لسعة النعيم، وتعدد وكثرة أفراده.
الرابع : إقتران ذكر الجنات بالأنهار التي تجري من تحتها، والنهر: مجرى الماء الواسع فوق الجدول ودون البحر، كما في النيل، والفرات، وفي قوله تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( )، فذكرت الآية الجنات بصيغة التنكير بينما ذكرت الأنهار بلغة التعريف، ولعل فيه إشارة إلى جفاف بعض أنهار الدنيا وأنها متزلزلة في بقائها، فليس لها حقيقة دائمة إلا في جنات النعيم، ويحتمل هذا الجفاف وجهين:
الأول : عند النفخ في الصور وطي الأرض وهو جفاف عام، قال تعالى[تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتْ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً] ( ).
الثاني : الإخبار عن تعرض الأنهار في الدنيا إلى الجفاف ولو على نحو السالبة الجزئية، كما تحصل مقدمات لنقص ماء بعضها في هذا الزمان.
الخامس : ذكر الجنات بصيغة التنكير، قال تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : تنكير الجنات لغة في إتصال الزيادة والسعة في فضل الله، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :الجنة مائة درجة : فأولها من فضة أرضها فضة ومساكنها فضة وآنيتها فضة وترابها مسك والثانية من ذهب أرضها ذهب ومساكنها ذهب وآنيتها ذهب وترابها مسك والثالثة لؤلؤ أرضها لؤلؤ وآنيتها لؤلؤ وترابها مسك وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر( ).
الثانية : موضوعية التفسير الذاتي للقرآن، فكما أن المجمل في آية يأتي مفصلاً في آية أخرى، والمطلق يأتي مقيداً، فان التنكير يأتي معرفاً ومبيناً في آية أخرى.
ومن إعجاز القرآن كثرة الآيات التي تتضمن ذكر الجنة وبصيغة التعريف.
الثالثة : دعوة المسلمين للدعاء للإقامة في الجنة الواسعة، وبذل الوسع في فعل الصالحات، وعن أنس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله جعل مائدة عليها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لا يقعد عليها إلا الصائمون( ).
الرابعة : جاءت الآية بعطف العيون على الجنان، وهو من عطف الخاص على العام، وفي قوله تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ]( )، عن ابن عباس قال: قال النهر الفضاء والسعة ليس بنهر جار( ).
من إعجاز القرآن أن اسم (الأعراب) جاء عشر مرات في القرآن، وفيه مسائل:
الأولى : لم يرد في القرآن بصيغة المفرد (إعرابي).
الثانية : اكثر ما ورد في الأعراب بصيغة الذم، قال تعالى [وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا].
الثالثة : ورد في مدح فريق من الأعراب قوله تعالى[وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ] ( )، وفيه ثناء عليهم وشهادة لهم بالإيمان وحسن الإعتقاد والسعي في مرضاة الله، والإنفاق في سبيل الله، والإجتهاد للفوز بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم في أمور الدين والدنيا، وعن ابن عباس في قوله تعالى[وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ] إستغفاره( )( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين حقيقة وهي أن ذم الأعراب مقيد بالكفر والنفاق، أما إذا كان الأعرابي أو الجماعة من الأعراب مؤمنين فان الثناء على المسلمين يشملهم، ومنه قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لذا فان قوله تعالى[الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا]( )، أي أشد كفراً من الكفار الذين في المدينة والحضر.
والأعراب المنافقون أشد نفاقاً من منافقي المدينة والحضر، لأنهم أبعد عن التنزيل ومعجزات النبوة، وفيه تحذير للمسلمين ولزوم أخذهم الحيطة من أهل النفاق، وعدم الغفلة عنهم لأنهم خارج المدينة أو كونهم أعراب، قال تعالى[وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ]( )، وقد تجلى هذا التحذير من الأعراب الكفار بمصاديق ووقائع منها إرادة أحدهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الله أنجاه بآية من عنده.
عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزو قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قفل معه وأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا وإذا عنده أعرابي، فقال: “إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله “ثلاثا”، ولم يعاقبه وجلس( ).
وفي مسند أحمد: فقال الرجل مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ قَالَ أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ لَا وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ فَخَلَّى سَبِيلَهُ قَالَ فَذَهَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ( ).
وأخرج ابن سعد ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي قال: كان زيد بن صوحان يحدث فقال أعرابي : إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني( )، فقال : أما تراها الشمال ؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال ؟ قال زيد : صدق الله الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ( ).
ولعل إستدلال زيد بالآية ليس لتبكيت الأعرابي لأن المراد من الآية أعلاه الأعراب الكفار، وليس الأعرابي المسلم الذي حضر ليستمع لحديثه الفقهي ولما سأل أعرابي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وناداه بصوت جهوري يا محمد، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاء على نحو من صوته -قال: يا محمد، متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ويحك إن الساعة آتية، فما أعددت لها؟” قال: ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المرء مع من أحب”. فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث( ).
ويمكن تأليف مجلد وإعداد دراسات حول أمور:
الأول :السنة القولية والفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الأعراب.
الثاني :خطاب وقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأعراب من عمومات قوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الثالث : أسباب نزول الآيات التي للأعراب وأسئلتهم شأن وموضوعية فيها، وعن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله وهو يقسم قسما فأعرض عنه وجعل يقسم قال : أتعطي رعاء الشاء؟ والله ما عدلت فقال : ويحك ! من يعدل إذا أنا لم أعدل؟ فأنزل الله هذه الآية (إنما الصدقات للفقراء …) ( ).
وعن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أنسب لنا ربك فأنزل الله قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ( ).
الرابع : المسائل التي إنتفع منها المسلمون بأسئلة الأعراب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب العبادات أو المعاملات، وكان الصحابة يرجون أن يأتي أعرابي يسأله فينتفعون من مسألته ولا ينحصر هذا النفع والأثر المترتب على مثل هذه الأسئلة بزمان التنزيل والصحابة، بل هو باق إلى يوم القيامة ، فقد جاء أعرابي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن امرأتي وَلَدت غُلامًا أسودَ؟. قال: “هل لك من إبل؟”. قال: نعم. قال: “فما ألوانها؟” قال: حُمر. قال: “فهل فيها من أورَق( )” قال: نعم. قال: “فأنى أتاها ذلك؟” قال: عسى أن يكون نزعة عِرْق. قال: “وهذا عسى أن يكون نزعة عرق( )، فمنعه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من نفي إبنه، وجاء في بعض المصادر أنه جاء رجل بدل أعرابي ويدل على إرادة وترجيح الأعرابي أنه صاحب إبل.
وفي الحديث دعوة لعدم الأخذ بالتحليلات المختبرية والحامض النووي إن كانت مخالفة لقاعدة الولد للفراش ) المستقرأة من حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مادام الزوج وطئ زوجته في المدة المحتملة للحمل أي قبل الولادة بستة أشهر إلى تسعة أشهر فانه يلحق بأبيه وهو الزوج.
الخامس : التخفيف عن المسلمين الذي يأتي بالسّنة النبوية بسؤال وإلحاح وإحتجاج أعرابي وإظهاره الرضا بالتخفيف وإختياره الجهاد والشهادة في سبيل الله، وأخرج البيهقي أنه: أتى أعرابي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : نبئني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار . قال : تقول العدل ، وتعطي الفضل ، قال : هذا شديد لا أستطيع أن أقول العدل كل ساعة ، ولا أن أعطي فضل مالي . قال : فاطعم الطعام ، وأفش السلام ، قال : هذا شديد والله! قال : هل لك من إبل؟قال : نعم . قال : انظر بعيراً من ابلك وسقاء فاسقٍ أهل بيت لا يشربون إلاَّ غبا فلعلك أن لا يهلك بعيرك ، ولا ينخرق سقاؤك ، حتى تجب لك الجنة . قال : فانطلق يكبر ، ثم أنه إستشهد بعد( ).
السادس : أسئلة الأعراب عن الآخرة، وتلقيهم أخبار الخلود في الجنة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق , وقال الغزالي: وفي الحديث الطويل لأنس: أن الأعرابي قال يا رسول الله من يلي حساب الخلق فقال الله تبارك وتعالى قال هو بنفسه قال نعم فتبسم الأعرابي فقال صلى الله عليه و سلم مم ضحكت يا أعرابي فقال إن الكريم إذا قدر عفا
وإذا حاسب سامح , فقال النبي صلى الله عليه و سلم صدق الأعرابي ألا لا كريم أكرم من الله تعالى هو أكرم الأكرمين ثم قال فقه الأعرابي ( )، وقال الحافظ العراقي لم أجد للحديث أصلاً، وذكره السبكي في الأحاديث التي لم يجد لها أصلاً( ).
السابع : إستنباط الدروس والمسائل من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية مع الأعراب، وعن معمر بن خلاد أنه قال للإمام الرضا عليه السلام: جعلت فداك الرجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون ويضحكون؟ فقال: لابأس ما لم يكن، فظننت أنه عنى الفحش، ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يأتيه الأعرابي فيهدي له الهدية ثم يقول مكانه: أعطنا ثمن هديتنا فيضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان إذا إغتم يقول: ما فعل الأعرابي ليته أتانا( ).
إفاضات الآية
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار للناس مجتمعين ومتفرقين، وتفضل بإبانة ووضوح التكليف بالأوامر والنواهي بواسطة الأنبياء والكتب النازلة من السماء، فلابد من بذل الوسع لنيل المقصود الذي جعله الله خلوداً في النعيم وهو من عمومات قوله تعالى[فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ]( )، فلا يستطيع الإنس والجن وإن إجتمعوا تصور أمور:
الأول : الجنة ونعيمها وسعتها.
الثاني : دوام البقاء في الجنة عموما من غير إستثناء بلحاظ مراتب التقوى ، وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنّة والنار فيقال: يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت فيؤمر به فيذبح ثمّ ينادي المنادي : يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم)( ).
الثالث : صيرورة الجنة ثواباً دائماً على أعمال محدودة ومدة قليلة في الدنيا، فلا بد من الإجتهاد في سبل الوصول إلى منازل النعيم وألا يكون الإنسان كساع إلى الهيجاء بغير سلاح.
وجاءت هذه الآيات كمقدمة لدخول الجنة، تحمل بعض خصائصها لما تبعثه والعمل بمضامينها من السكينة في النفس لذات العمل وللبلغة، ولأنها واقية من التعدي وظلم النفس والغير، ومن أمارات الجنة في الدنيا التي تدل عليها هذه الآية الوعد الإلهي الكريم بالمغفرة التي هي أعم في موضوعها وزمانها من الآخرة فتشمل الحياة الدنيا بما يترشح عنها من أسباب الرزق والصلاح والإكتناز من الحسنات، والمغفرة مقدمة وطريق إلى الهداية وزيادة الإيمان , قال تعالى[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]( ).
والناس على درجات ومراتب في الإستماع والتفكر والتدبر والإعتبار، وجاءت هذه الآية لجذب الناس إلى منازل العلم والعمل، وهو من عمومات قوله تعالى[أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى]( )، بمعنى أن هذه الآية مطلقة تشمل أيام الحياة الدنيا والآخرة.
ومن الحكماء من قسّم العقل الى مراتب اربعة: وهي العقل بالملكة لإدراك البديهيات من التصورات والتصديقات، والعقل بالقوة الى جميع الصور، والعقل بالفعل لادراك النظريات ولو بتوسط البديهيات، اما الرابع فهو العقل المستفاد من البديهيات والنظريات واستحضارها وادراكها وعقلها.
ومراتب العقل متداخلة وهي مجتمعة ومنفردة توصل العبد الى التوحيد والاقرار بالشهادة، باعتبار انه قضية يقينية ومبنية على الاعتقاد المطابق للواقع والصدق الذي يأبى النقيض، وقد جعل الله عز وجل الآيات الكونية والمعجزات النبوية كافية للناس مطلقاً في هدايتهم وإقامة الحجة عليهم.
وقد ثبت ان التفكر والكسب والتدبر يؤدي جزماً الى اليقين.
وآية البحث قاهرة للنفس الشهوية، ومانعة دون السياحة الذهنية والجهد البدني في المتعدد من الرغائب وفيه تخفيف عن المؤمن وطمأنينة حاضرة ومصاحبة له وظاهرة عليه، فلا يغتر بأهل الدنيا ولهثهم وراء زينتها ومباهجها ليكون في راحة وغبطة تنعكس على أدائه لعباداته بانشراح صدر وأمل بالنعيم الدائم.
وتجعل آية البحث المسلم لا يستوحش في الدنيا وتصبح دار بهجة وإدخار لأعظم ثروة وهي الصالحات وإذ تظهر معاني الثروة والمال والجاه على الإنسان في هيئته وملبسه ومأكله فان النور الذي يكسي وجه المؤمن مرآة لثروة الصالحات وإكتنازها، وبشارة تحقق مصاديق مضامين آية البحث وزجر الناس عن التعدي على المؤمن أو التطاول عليه بالمال والثروة والجاه.
وقد تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين متساوين في الفرائض مع صبغة الأداء الجماعي لها والثواب العظيم في الجماعة، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحث الناس مطلقاً حتى العميان وذوي الأعذار لحضور صلاة الجماعة.
(وعن ابن أم مكتوم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: لقد هممت أن آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن هذه الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم، فقام ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، لقد علمت ما بي، وليس لي قائد قال: أتسمع الإقامة؟ قال: نعم , قال: فاحضرها، ولم يرخص له )( ).
وفيه وجوه:
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حضور المسلمين الصلاة جماعة.
الثاني : تنمية ملكة المودة والمحبة ومفاهيم الأخوة بين المسلمين.
الثالث : هذا الحث النبوي على الصلاة من مصاديق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
الرابع : المواظبة على حضور صلاة الجماعة تثبيت لها في الواقع اليومي لتكون سجية وعادة عقائدية كريمة.
الخامس : بأداء المسلمين للصلاة مجتمعين إزاحة للكدورات وأسباب الغضاضة بينهم.
السادس : توارث المسلمين لأداء صلاة الجماعة.
السابع : إتقان المسلمين والمسلمات لكيفية أداء الصلاة.
الثامن : حضور صلاة الجماعة مناسبة للتفقه في الدين، وفرصة لسؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أحكام الحلال والحرام، وفيه شاهد على صدق نبوته وكأنه يدعو الصحابة لسؤاله والإستماع لأجوبته والصدور عن القرآن والسنة.
التاسع : حب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإصحابه لإحرازهم الثواب العظيم بحضور الصلاة , وهو حجة عليهم والتابعين.
العاشر : صلاة الجماعة مناسبة لخلاص القلوب العبودية لله وتخليص المنافقين من درن المكر والكيد والنفاق.
الحادي عشر : تثبيت قانون كلي وهو موضوعية أداء المسلمين الصلاة في أول أوقاتها .
وإذا كانت الجماعة مستحبة في الصلاة فإن وفد الحاج يجتمعون طوعاً ووجوباً في زمان ومكان مخصوصين من أقطار الأرض، فان قلت فريضة الحج خاصة بالأغنياء لقيد القدرة والإستطاعة على أدائه لقوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، والجواب من وجوه:
الأول : الحج فريضة وتكليف بدني ومالي واجبة على الناس جميعاً ويؤديها المسلم القادر على الأداء.
الثاني : لو تنزلنا وقلنا بأنه فريضة على الأغنياء فانه يدل على حسن إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية وأن الأغنياء منهم يتصاغرون ويؤدون بذل وخشوع فريضة الحج ، وتاركين محل إقامتهم وسكانهم , ومعطلين لتجاراتهم طاعة لله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : قيد الإستطاعة في الحج أعم من أن يختص بالأغنياء من المسلمين فيشمل كل من يملك الزاد والراحلة. ويشمل الحج البذلي بأن يبذل لك شخص مؤونة الحج فيتحقق وجوبه عليك لصدق تحقق الإستطاعة ، سواء كان البذل بقصد التمليك أو لا، جاء تطوعاً أو عن نذر ولا يشترط الرجوع إلى كفاية عند تحقق الإستطاعة بالحج البذلي ، والمراد من الكفاية وجود نفقة كافية لمؤونته ومؤونة عياله.
وهذا الحج مجز عن حجة الإسلام، فلا يجب عليه مرة أخرى وان حصلت عند المكلف الإستطاعة( ).
الرابع : الحج طريق إلى المغفرة التي وعدت بها آية البحث ، ومصداق جلي من مصاديق التقوى ومناسبة لذكر الله والإستغفار من الذنوب على نحو الجمع الكبير المتعدد.
بحث أخلاقي
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال(بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)( ) وفيه نوع تحد متجدد في كل زمان وتأكيد لنبوته وحاجة الناس لها لأن الحديث يدل بالدلالة التضمنية على أن الأخلاق الحميدة لم تكن تامة إلا ببعثته وتدل على سعة رحمة الله عز وجل وأنه سبحانه أكرم بني آدم فجعل عندهم أحسن الأخلاق، وأسمى العادات والسجايا ويتجلى تمام الأخلاق في آيات القرآن.
وجاءت السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية مصاديق كريمة لها، وسبيلاً لتثبيتها في النفوس والمجتمعات والوجود الذهني للأجيال المتعاقبة للمسلمين وغيرهم، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إذ يقتدي المسلمون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته الحميدة ويتبعون نهجه ويمتثلون لأوامره ونواهيه في ميادين الأخلاق كما هي إستجابتهم في ملاك العبادات وفعل الصالحات.
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس خلقاً)( ) ويتجلى هذا المعنى في السنة النبوية وفي دخول الناس في الإسلام أفواجاً، إذ تأتي الرسل من القبائل وأطراف الجزيرة، ويبقون أياماً في المدينة المنورة يلحظون قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيدركون أنه الوحي، ويقتبسون منه، ويعودون إلى قومهم بالدعوة إلى الإسلام.
ومن حسن الخلق إنتفاء السلوك المذموم، والقول الفاحش، والأفعال القبيحة، والتحذير منها وبيان ضررها وسوء عاقبتها، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته يختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة)( ) وفيه تذكير بالآخرة وشدة العذاب فيها، وترتبه على الفعل السيء في الدنيا.
ومن السبل التي جاهد النبي فيها لتحصيل تمام الأخلاق التذكير بدار الجزاء وإن الفعل المذموم شرعاً يؤدي بالإنسان إلى الخلود في النار، وجاء الحديث أعلاه بحقيقة وهي الضرر والعقاب الإبتدائي في عالم البرزخ وأوان ما قبل النشور ويدل في مفهومه على الغبطة والهناء للمؤمنين فيه، فلا ينحصر الأمر في عالم البرزخ بالألم والعذاب الأولي بالكفار بل يشمل السكينة للمؤمنين.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)( ).
بحث فلسفي
في الآية بعث للأخلاق الحميدة لتكون سبيلاً للسعادة وفي النشأتين، وبرزخاً دون العذاب في القبر، والحسرة والندم يوم النشور، وهل تتعلق مضامين الآية بعالم البرزخ أم أن القدر المتيقن منها هو يوم القيامة وأوان الجزاء ودخول الجنة.
الجواب هو الأول، وهو من أسرار هذه الآية للإطلاق الزماني والموضوعي الذي يدل عليه قوله تعالى[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ]( )، ليدخل المؤمن القبر وقد غفر الله له ذنبه فلا يؤاخذ ويعاقب على ذنوب قد سترها الله بفضله وهدايته إلى الذكر والإستغفار والإقلاع عن تلك الذنوب وجنسها، وقسمت القضية في علم النطق إلى قسمين:
الأول : القضية الحملية وهي التي يحمل فيها حكم على موضوع مخصوص كما ورد في الحديث: الصيام جنة.
الثاني : القضية الشرطية: وهي القضية المركبة من مقولتين حمليتين على الأقل يكون وجود إحداهما لوجود الأخرى، كما في قوله تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، ويسمى القسم الأول منهما مقدماً والثاني تالياً، وتنقسم القضية الشرطية إلى شعبتين:
الأولى : المتصلّة وهي التي يكون فيها المقدم شرطاً في وقوع وتحقق الثاني، وكأنها من العلة والمعلول وعدم تخلف المعلول عن علته، كما في قوله تعالى[إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ]( )، وتقول: إذا طلعت الشمس فالنهار موجود.
الثانية : القضية الشرطية المنفصلة: وهي التي يكون فيها وجود المقدم سبباً لإنتفاء التالي وعدم وجوده، ومنها مانعة الخلو ومانعة الجمع وتسمى إنفصال الضد ويستدل عليه بمثال في علم المنطق بأن العدد إما زوج أو فرد، بلحاظ أن القضية في الأصل هي إذا كان العدد زوجاً فلا يكون فرداً وكذا العكس، ولا يخلو من تكلف وإرادة المفهوم وقلة الإبتلاء في الواقع العملي بمثل هذا المعنى .
وجاءت آية البحث بقسمي القضية سواء الحملية أو الشرطية، أما الأولى فإن المؤمن الذي يعمل الصالحات يغفر له الله عز وجل، وكذا الذي يرتكب الفواحش ثم يتوب إلى الله توبة نصوحاً يغفر له الله عز وجل، ليكون الجامع المشترك بين أهل الجنة هو الصلاح والموت على الهدى والإيمان، قال تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( )، لتكون مغادرة الدنيا جسراً وطريقاً مباركاً للفوز بمضامين آية البحث وكل فرد فيها وعد كريم، لذا جاء البعث على ذكر الموت في السنة القولية.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات، حائل بينكم وبين الشهوات)( )، ليتجنب المسلم تحديث النفس بطول البقاء في الدنيا والسياحة الذهنية والإشتغال الفعلي في مباهجها ومصالحها والبناء والجمع فيها، ولكن الدنيا حلوة بذاتها بزينتها , فكيف يستطيع الإنسان التنزه عن الركون إلى الدنيا وعدم الإنقياد وراء لذاتها.
الجواب جاءت آية البحث واقية وسلاحاً للنجاة من هذا الركون بالسعي إلى الضد من مباهج الدنيا، وبجعل مضامين الآيات السابقة سبيلاً للتوفيق لنيل الوعد الكريم في آية البحث , فالتقوى وعمل الصالحات والإنقطاع إلى الذكر والإستجارة بالإستغفار طريق وسبب لتحقق التالي وإن كان في عالم الآخرة .
أما بخصوص القضية الشرطية المنفصلة فإن تعاهد العمل بمضامين الآيات السابقة نجاة من النار والعذاب الأخروي بلحاظ قانون ثابت وهو أن الإنسان في الآخرة أما أن يكون في الجنة وأما في النار، وطريق كل منهما جلي ومبين ولا يمكن الترديد أو الخلط بينهما وتلك آية من أسرار الخلافة في الأرض بأن جعل الله عز وجل الإنسان قادراً على التمييز بين الوسائل والطرق وما يؤدي إليه كل نهج وسجية وفعل، وبينما تنحصر العاقبة والغاية بأمرين أما الجنة وأما النار، فليس من حصر للأفعال والطرق التي تؤدي وتقود إلى الجنة.
ومن إعجاز القرآن أنه جاء ببيان هذه الطرق، وهو من الدلائل على إحاطة القرآن بكلماته المحدودة باللامتناهي من الأمور والوقائع والأحداث، فلا ينحصر دخول الجنة بمضامين الآيات الثلاثة السابقة التي جاء الوعد الكريم بدخول الجنة عليها، وفيه مندوحة وسعة للمسلمين بكثرة سبل الفوز وأيهما أكثر الطرق المؤدية إلى الجنة أم الطرق إلى النار، الجواب هو الأول، وتأتي الصالحات على السيئات لتمحوها بما هو أعظم وأكبر من قانون الناسخ والمنسوخ، ويأتي الإستغفار فيغطي ويستر الذنوب والمعاصي، ويمنع من أثرها وضررها في النشأتين.
وقيل أن كل غاية وراءها غاية وهو وإن كان يقف عند حد دون التسلسل، ففيه دلالة على تعدد الغايات والسبل إليها وأن الله عز وجل جعل الدنيا دار العمل والكسب، قال تعالى[فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا]( )، وتتناهى العلة الصورية أو تتجدد ولكن العلة الغائية للصالحات التي تبعث إليها آية البحث ليست متناهية، فالهدف من العمل بمضامين الآية أعظم من أن تدركه الحواس أو العقول، وجاءت آية البحث لذكره والترغيب فيه وإلا فإن قوله تعالى(تجري من تحتها الأنهار) دليل على أن أنهار الجنة أعظم وأبهى من أنهار الدنيا، وتمتاز عنها بالكيف والكم والسعة، فلم تقل الآية(وجنات من تحتها الأنهار) أو(جنات فيها أنهار) بل وصفت الآية ذات الأنهار بالجريان وليس الماء وحده.
وقد ورد ذكر أنهار الجنة إحدى وأربعين مرة في القرآن كلها بذكر جريانها بالذات، بإستثناء ما ورد في أنواع أنهار الجنة بقوله تعالى[مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى]( )، والآية أعلاه ذكر فيها اسم أربع مرات وهو الأنهار , وبذات العدد ورد لفظ (مؤمن ) في قوله تعالى[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا]( )، وتلك آية إعجازية بأن تمتاز أنهار الجنة بخصوصية في القرآن مع بيان فضل الله على المؤمنين وهم أهل الجنة، فأربعة من أصناف الأنهار مما لذّ وطاب في الجنان وعلى نحو التعدد في كل نوع منها جزاء لهم يوم القيامة.
فإن قلت قد ورد في فرعون أنه قال[يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي]( )، فقد وصف جريان الماء بأنه جريان للنهر، بذكر المحل وإرادة الحال.
الجواب من جهات:
الأولى : كان فرعون يوهم قومه ويضلهم بقوله وإدعائه الربوبية.
الثانية : قد يدل قول فرعون على حقيقة وهي أن موسى عليه السلام كان يذكر في دعوته إلى الله جريان أنهار الجنة من تحت الجنان , وكان فرعون يدعي الربوبية، كما ورد في التنزيل حكاية عنه[أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( )، كذا فانه لم يقل لقومه تجري من تحتكم لعموم النفع من النهر، بل ذكر نفسه على نحو الإنفراد، ولعله يريد حفر الأنهار الصغيرة المتفرعة عن النيل وإستحداثها، وبما يجعلها تمر من تحت قصره، وكأنه يحتج كما إحتج من قبل فرعون إبراهيم إذ ورد في التنزيل (قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)( ).
الثالثة : قد يتحد اللفظ ولكن يتعدد المعنى بحسب اللحاظ ومناسبة الموضوع والحكم، ونواميس الآخرة غير أنظمة أهل الأرض.
الرابعة : جاء ذكــر الأنهار في الدنيــا بالإحتجاج ولغة البرهان من الله عز وجل وبمعنى تسخيرها[وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ]( )، للإنتفاع الأمثل منها في الشرب والزراعات والصيد والنقل ، ولا يحيط الإنسان بالنعم الكثيرة من الأنهار مع أنها أمر حسي ظاهر بلحاظ أن كل نعمة توليدية تتفرع عنها نعم عديدة.
قانون الزيادة في الفضل الإلهي
لقد جعل الله الخلائق محتاجة إليه في إستدامة بقائها مثلما أنها لم تنشأ وتوجد إلا بمشيئته سبحانه، وفيه نفي وإبطال لما قاله بعض الفلاسفة من أن الله عز وجل خلق العالم ثم تركه وشأنه إذ رأوا النظام الكوني الدقيق[وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ]( )، فإن الكائنات تخبر بذاتها وهيئتها أنها طائعة ومتخلفة عن الإختيار، وتتساوى في الإنقياد والمعلولية لعلة فاعلية عظمى إذ تحكمها إرادة الله عز وجل، قال تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
والكينونة هنا أعم من الإبتداء فتشمل البقاء وديمومة الشيء سواء بالأمر الأول أو أمر آخر لاحق، أو أوامر متجددة ومتكثرة بعدد آنات بقاء الشئ سماوياً كان أو أرضياً أو غيرهما لتكون الأوامر المتوجهة والأثر المترتب عليها في بقاء أي كائن من اللامتناهي لاسيما وأن الأشياء لا تبقى على حال ثابت وهيئة مخصوصة وهو من بديع صنع الله، وفيه دعوة للناس للتدبر في الخلق فاذا كانت الأشياء على حالها قد يغفل شطر من الناس عن أسرار وجودها، فجعلها الله عز وجل في حال من التغير والتبدل، كما ترى القمر يخرج هلالاً وخيطاً رفيعاً في الليلة الأولى من الشهر تم يتسع ويزداد نوره ويدرك الناس نفعه.
وجاء القرآن ليبين عظيم هذه النعمة، ويجذب الأبصار لها عن حاجة عبادية إذ جعله الله عز وجل إعلاناً سماوياً لبدء فريضة الصوم , قال تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، وكأنه إخبار عن دعاء وصلوات أهل السماء للصائمين، كما يعتمد الهلال في الآجال والديون لبيان أنه مسخر للناس , قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ]( ).
ومن العرب من يذم الهلال بانه يقرب الأجل وأوان قضاء الديون ويطوي سن الشباب ويُنسي ذكر الأحباب، ويعتبر القمر فاضحاً للسارق، وهاتكاً للعاشق، ودأبهما وإطلالة كل منهما بإنتظام دقيق من التسخير المذكور في الآية، وتعدد مصاديقه فهما يدأبان في جريانهما وتعاقبهما وضيائهما وأثرهما في إصلاح الأبدان والأرض والعزائم، وقهرهما للظلمة.
والشمس والقمر مستمران في طاعة الله والإنقياد لأوامره من غير كلل أو ملل , ولم ولن ينقطعا عن الحركة والجريان إلا عندما يشاء الله، وهل من فترة بين توقف الشمس والقمر عن الجري والتنقل في المنازل وبين إضمحلالهما وسقوطهما من مواضعهما , قال تعالى[وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ]( )، الأقوى عدم وجود فترة بينهما فليس من مهلة وإنذار قبل النفخ في الصور إذ أن إنذارات القرآن تطل على الناس كل يوم وهو من الأسرار في إجتماع أمور باقية إلى آخر الزمان وهي:
الأول : أداء المسلمين الصلاة.
الثاني : تلاوة المسلمين القرآن جهراً وعلانية.
الثالث : سلامة القرآن من التحريف.
الرابع : تعاهد المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبالإسناد عن أبي بن كعب قال: ست آيات قبل يوم القيامة، بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واختلطت، ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن، واختلطت الدواب والطير والوحوش، فماجوا بعضهم في بعض: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} قال: اختلطت، {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}
قال: أهملها أهلها، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} قال: قالت الجن: نحن نأتيكم بالخبر. قال: فإنطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج، قال: فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى وإلى السماء السابعة العليا، قال فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم)( ).
والإمتثال لمصاديق وأفراد التسخير هو طاعة لله عز وجل، ليكون حجة على الناس وتعاقب النهار والليل بلزوم إلتزام نهج الطاعة لله عز وجل من باب الأولوية القطعية من وجوه:
الأول : إكرام الله عز وجل للإنسان بجعله خليفة في الأرض، وتسخير الشمس والقمر والنهار وغيرها هو من مصاديق هذا الإكرام، وشأنية الخلافة.
الثاني : لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل، ليتخذه آلة ذاتية ووسيلة للإقرار بالتوحيد والتسليم بصدق النبوة إذ أنها إقترنت بالمعجزات التي تخاطب العقول وان كانت حسية كعصا موسى وإبراء عيسى عليه السلام للأكمه والأبرص.
وإختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجمع بين المعجزة الحسية والمعجزة العقلية وهو القرآن، وكان بها حفظ معجزات الأنبياء والدلالات الباهرات على صدق نبوتهم ووجوب التصديق بهم.
لقد جاء التحدي وبيان اللامتناهي في النعمة الإلهية بقوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( )، ولا يمكن للخلائق أن تحصي فضل الله عز وجل وإن إجتمعت، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ]( ).
الجواب إنما هو أمر آخر إضافي تعجز الخلائق عن إحصائه وليس هو ذات التخلف عن الإتيان بمثله ، وفيه آية في عظيم قدرة الله وبديع صنعه، ويمكن تقسيم فضل الله تقسيماً إستقرائياً عدة تقسيمات منها:
الأول : التقسيم بلحاظ التقوى والعبادة وفضل الله على الناس بالإسلام.
الثاني : موضوعية وزمان النبوات.
الثالث : حسب التنزيل وموضوعه وأثره.
الرابع : البشارات والإنذارات من الله.
الخامس : الرزق السماوي والأرضي.
السادس : الخلق والحياة والإختيار.
السابع : الإنجاب والولد.
الثامن : الإمهال للناس.
التاسع : العفو والمغفرة.
العاشر : تقسيم الفضل الإلهي إلى الدنيوي والأخروي.
الحادي عشر : زيادات ذات الفضل الإلهي.
الثاني عشر : رشحات الفضل الإلهي وما يتفرع عنه.
الثالث عشر : مواضع ذكر الفضل الإلهي في القرآن.
الرابع عشر : الحجة والبرهان في الفضل الإلهي على الناس.
الخامس عشر : مراتب الفضل الإلهي، وإن كل فرد منها عظيم، فقوله تعالى[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( )، يراد منه بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسباب التقريب إلى دخول الإسلام.
السادس عشر : الفضل الإلهي في تفسير ودلالات كل آية قرآنية.
السابع عشر : مقدمات الفضل الإلهي بما هوي نعمة ورحمة منه تعالى.
الثامن عشر : اللطف الإلهي في تقريب الناس للتقوى والصلاح.
التاسع عشر : أقسام فضل الله في نزول القرآن وسلامته من التحريف وكل قسم من أقسام الفضل الإلهي يعجز الناس عن إحصائه، وأنّى لهم إحصاؤه وهم لا يستطيعون بلوغ منتاه والوصول إلى أفراده ومصاديقه الظاهرة والخفية عنهم.
وآية البحث فضل عظيم ومنّ كريم من الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً، وهي فرد جامع للفضل في الدنيا، والفضل في الآخرة، فمن فضله تعالى التداخل والتوالي والتعاقب والزيادة في الإنعام بخصوص موضوع واحد، ومن تجلياته بهذه الآية في الدنيا أمور:
الأول : التأكيد على مضامين الآيات الثلاثة السابقة التي تتضمن مقدمات وطرق الفوز بالجنة، فإن قلت إنما هما آيتان السابقة والتي قبلها إذ تتضمنان خصال الذين يدخلون الجنة، الجواب جاءت الآية التي قبلها بذكر المتقين، في المسارعة إلى الجنة بقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وصفة التقوى هي الأصل في إتيان الصالحات وقبولها وترتب الثواب عليها، لذا يشترط قصد القربة إلى الله بإتيان العبادات.
الثاني : مجيء الآية بصيغة الجمع فلو عمل أهل الأرض كلهم بمضامين هذه الآيات لدخلوا الجنة من غير تزاحم أو تشاح بينهم ولو على نحو السالبة الجزئية في بعض مواطن الجنة أو مشتهياتها وثمارها.
الثالث : جاءت آية البحث بلغة الإكرام في اسم الإشارة(أولئك) ويشمل الرجال والنساء , ولا يصح فرض أنه للمذكر بلحاظ لغة التذكير في الآيات السابقة وللإشارة لجمع المؤنث بأولات كما في قوله تعالى[وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ]( )، وورد التذكير للتغليب ولأنه وصف يدل على الجمع فيقال القمران والمراد الشمس والقمر، والإبوان للأب والأم، وقد تكون موضوعية للخفة على اللسان عند الجمع، بين إثنين كما يقال الحسنين، أما إذا كان أحدهما مذكراً والآخر مؤنثاً، فتقدم قاعدة التذكير، ولا موضوعية حينئذ للأخف.
وفي الآية فضل على الرجال ودعوة لهم ليكونوا الأسوة والقدوة في السعي في سبل الصلاح والرشاد، وحث للنساء للإقتداء بهم وإتخاذ ذات النهج.
وصلاح النساء وإلتقاؤهن في وجوب إتخاذ الحياة الدنيا بلغة للآخرة حجة على الرجال في المقام إذ وردت هذه الآيات بصيغة التذكير ومجيء الخطاب لهم على نحو التعيين، وتجد أحياناً المرأة تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإصلاح زوجها أو أبنها أو أخيها وهي تتحلى بمعاني التقوى ويدل على إرادة النساء في آية البحث قوله تعالى[وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا]( ).
وورد لفظ المؤمنات في القرآن إثنتين وعشرين مرة , وحتى على القول بأنه لا مفهوم للعدد فكثرته وإستقلال كل فرد منه موضوع ومدرسة عقائدية وأخلاقية ، وورد العطف والإجتماع بين لفظ المؤمنين والمؤمنات إثنتي عشرة مرة، وفي كل واحدة منها يقدم لفظ المؤمنين، قال تعالى[وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ]( )، وتتضمن الثناء عليهن وإكرامهن وجذب النساء إلى منازل الإيمان وإلى التلبس بالتقوى وجعلها ملكة دائمة في الليل والنهار والبيت وخارجه وحصانة من إتباع النفس الشهوية.
الرابع : تقريب الناس جميعاً إلى منازل التقوى ببيان حسنها الذاتي ومنافعها الدنيوية والأخروية، فصحيح أن الآية تتضمن الإخبار عن مقامات المتقين الرفيعة في الآخرة إلا أنها تدل بالدلالة التضمنية على عدم بلوغ هذه المراتب إلا بالتقوى والصلاح في الدنيا، وهو من أسرار مجيء اسم الإشارة (أولئك جزاؤهم) في بداية الآية الكريمة وما فيه من معاني الدلالة على أهل الإيمان والتقوى في الدنيا وإن الآية في مقام الوعد الكريم والبشارة العظيمة.
قانون الهدى
آية البحث وما فيها من الوعد العظيم مادة وسلاح لترسيخ أقدام المسلمين في مسالك الإيمان، وسبيل هداية للناس جميعاً.
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من يكون لك حمر النعم)( ).
ويُذّكر العرب لفظ (الهدى) إلا بني أسد فانهم يؤنثونه، ويقولون: هذه هُدى محمودة، قال تعــالى [إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى]( ) وقد هداه يهديه هدى وهداية: بصَّره سبيل الرشاد وقاده باتجاه الصواب، وهو ضد الضلال، ويأتي الهدى بمعنى الدلالة والدعوة والبينة، وتفرد الله عز وجل بالهدى الذي يفيد معنى التوفيق.
وقد فرّق بعضهم بين الهداية التي تفيد معنى الدلالة الموصلة الى المطلوب تلك التي تتعدى بنفسها الى المفعول الثاني، وبين التي تفيد معنى ما يُوصل وهي التي تتعدى باللام او الى كنوع طريق ، والأول يؤدي الى الغاية بخلاف الثاني، والحق ان الهداية عنوان شامل للأمرين خاصة عندما يتعلق الأمر بسعة رحمته تعالى)( ).
لقد أثنى الله عز وجل على القرآن بما يتضمن تأكيد إعجازه , قال تعالى[تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ* هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ]( )، ويحتمل متعلق الهدى في آيات وعلوم القرآن وجوهاً:
الأول : إرادة وكفاية آيات السورة الواحدة من القرآن.
الثاني : يتحصل الهدى بمجموع الآيات التي تخص موضوع مستقل.
الثالث : المراد آيات الأحكام في القرآن.
الرابع : كفاية الآية الواحدة في الهداية والصلاح.
الخامس : إجتماع آيات القرآن كلها لتصير سبباً للهداية وزيادة البصيرة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهي مجتمعة ومتفرقة من مصاديق الهدى، وأسباب جذب الناس إلى منازل الإيمان والصلاح، وهو أمر ظاهر للوجدان، فقد يهتدي الإنسان ويتوب إلى الله بالإستماع إلى آية واحدة من القرآن من غير أن تخرج بعض آيات القرآن عن هذه القاعدة، ومضامين الأثر فيها.
وتتجلى معاني الهداية في آية البحث من وجوه:
الأول : الآية من آيات الجزاء الحسن.
الثاني : في الآية بشارة عامة للمؤمنين، وهي دعوة لهم للثبات في منازل التقوى والمسارعة في فعل الخيرات.
الثالث : بيان حقيقة وهي عدم إستحالة المغفرة، فليس من ملازمة بين فعل الفاحشة وبين بقاء أثرها وما يترتب عليها من العقوبة ، مع أن الله عز وجل يعلم بها قبل وقوعها[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ]( ).
الرابع : تأكيد إنحصار أسباب نيل المغفرة الشخصية بالحياة الدنيا، فمن شاء الفوز بها فعليه أن يبادر إلى مقدماتها وسبل الفوز بها في الحياة الدنيا، ومن مصاديق قوله تعالى في الثناء على القرآن[هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ]( )، إمامته للناس في سبل الهداية.
ومع أن العفو والمغفرة بيد الله وحده، ولا يقدر عليها غيره فإنه سبحانه بيّن في آية البحث والآيتين السابقتين كيفية تحصيل المغفرة المطلقة في الدنيا والآخرة بإختيار الإنفاق في سبيل الله والصبر على الأذى والمبادرة إلى ذكر الله عند فعل الفاحشة والإستغفار، والعفو عن الناس، من منازل التقوى وليس عن تفريط بالحقوق أوترك للواجبات.
وقد خفّف الله عن المسلمين والمسلمات بأن جعلهم يسلكون سبل المغفرة بأداء الفرائض في وقتها لتتضاعف حسناتها وثوابها وتأتي على الذنوب فتسترها.
الخامس : الإطلاق في المغفرة في قوله تعالى(مغفرة من ربهم) من غير تعيين في ماهية المعصية التي تأتي عليها المغفرة، أو وضع شرط لتحصيلها في بعض الكبائر، فإن قلت قد جاء التقييد بقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
والجواب هناك تباين موضوعي بين الآيتين , وليس هو من المطلق والمقيد، والله يعطي بالأتم والأوفى، إذ إختصت آية البحث بالمتقين الذين يخشون الله بالغيب والعلانية، (وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في معنى تقوى الله قال: يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى)( ).
وجاء الأمر قبل ثلاث آيات إلى المسلمين والمسلمات جميعاً بالمبادرة إلى المغفرة بقوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ]( )، بدليل عطف الآية أعلاه على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( ).
مما يدل على عدم حجب المغفرة عن أي مسلم أو مسلمة، ويدل لفظ (سارعوا) على أنها قريبة منهم ويتعلق أوان وكيفية الوصول إليها بفعل المسلم ، وجاءت الآيتان السابقتان لتأكيد حقيقة وهي أن مضامين الآيتين أبهى وأحسن سبل المسارعة إلى المغفرة وإلى الجنة وهو من الشواهد على تعدد مصاديق الهداية في المقام بشمولها لكيفية وصيغ المسارعة إلى المغفرة وعدم الإبطاء أو الفتور فيها ، وجاءت آية البحث لتكون حرباً على التسويف في أسباب المغفرة.
وهل يدل الأمر الإلهي بالمسارعة إلى المغفرة بالدلالة التضمنية على فضل الله بتهيئة أسباب هذه المسارعة , الجواب نعم، ومنها آية البحث وما فيها من بيان لحسن الثواب للذين يبادورن إلى الإستغفار ويعملون الصالحات.
وهل ينحصر موضوع الهداية في آية البحث بمضامنيها من المغفرة وحسن العاقبة الجواب لا، فإنها تتضمن أمور :
الأول : إصلاح الذات.
الثاني : بعث السكينة في النفس.
الثالث : زيادة البصيرة وحسن إختيار القول والفعل في أمور الدين والدنيا.
الرابع : الإنبعاث في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس :الهداية إلى مصاديق الإيمان والتقوى , قال تعالى [يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( )،.
إذ كانت كلمات الآية القرآنية معدودة فإن ضروب الهدى المستقرأة منها كثيرة في ذاتها وموضوعاتها ومنافعها، وتدل عليه لغة التبعيض في قوله تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وبين الرحمة والهدى من الله عموم وخصوص مطلق، فكل هدىً هو رحمة وليس العكس وكما تأتي الهداية للمؤمنين بالآية القرآنية فإنها تأتي للناس بالآيات الكونية والتدبر فيها، وببعث الأنبياء والمرسلين قال تعالى في الثناء عليهم وبيان عظيم منزلتهم وموضوعتيهم في جذب الناس إلى العمل بآية البحث[وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ]( ).

من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : جذب الناس لدخول الإسلام لما فيها من ذكر للثواب العظيم الذي ينتظر المسلمين.
الثانية : زجر الكفار والناس جميعاً عن صدّ المسلمين عن عباداتهم ومناسكهم لأنهم يسعون إلى غايات أخروية ليس فيها منافسة لمصالح الناس بل هي رحمة لهم جميعاً، وباب لنزول الرزق الكريم للناس جميعاً، ودرء العذاب عنهم في الحياة الدنيا.
وتدل الآية في مفهومها على أن هذه الغايات الحميدة مفتوحة وقريبة من الناس بشرط القصد والعمل لها لذا أختتمت بقوله تعالى[وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]( ).
الثالثة : الثناء على الله عز وجل لعظيم فضله وإحسانه على المؤمنين في الدنيا والآخرة.
الرابعة : تأكيد حسن عاقبة المؤمنين والمؤمنات , وأن الآية من البشارات لهم.
الخامسة : تنمية ملكة الصبر والتوجه إلى العبادات بشوق ورغبة، إن أداء الصلاة خمس مرات في اليوم ، وعلى نحو متجدد سني العمر كلها إبتداء من يوم البلوغ أمر ليس سهلاً من جهة الجهد البدني وما تقتطعه الصلاة ومقدماتها من الوضوء وأسباب الطهارة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ]( )، فجاءت آية البحث لتجعل المسلم والمسلمة يقبلان على الصلاة بفرح وتسليم بأنها غنيمة وليس غرماً، وإدخار وحفظ للبدن والروح في النشأتين، ليكون من إعجاز الآية تثبيت معالم الدين في الأرض.
السادسة : تأهيل المسلمين لمراتب عالية من الصبر والقدرة على تحمل أذى الكفار والمنافقين مع الثبات في منازل الإيمان من غير جزع ذاتي أو إنتقام غيري .
وفي قوله تعالى[وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا]( ) وعن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق، يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم. فأنزل الله هذه الآية( ).
والشنآن: البغض، ليكون من مصاديق التقوى ترك الثأر والإنتقام من الخصم والمقابل مطلقاً وهو من عمومات قوله تعالى قبل آيتين[وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، بالظفر وتحقيق الغاية الحميدة، فقد إنكفأ الكفار وحرموا من زيارة البيت الحرام مع ذمهم وتوبيخهم لقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا] ( )، إلى جانب خزيهم يوم القيامة، (وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : العار والتخزية يبلغ من ابن آدم يوم القيامة في المقام بين يدي الله ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار( ).
ولم يبق مانع أو حاجز بين المسلمين وبين عمارة وحج البيت الحرام وهو من منافع العفو والإحسان والتلبس برداء التقوى في الحياة الدنيا، لتكون تلك المنافع مقدمة وأمارة على النعيم الدائم في الآخرة.
السابعة :تحتاج التقوى إلى جنود ينهضون بها، وإذ سقط الجهاد في ميادين القتال عن المرأة فلا عفو عنها في الجهاد في سبل التقوى وليس من حصر لمواضيعها وميادينها بالنسبة لكل من الرجل والمرأة، فجاءت آية البحث لإستنهاض الهمم وعدم فتور العزائم في التسابق في التقوى لما فيه جلب المصلحة للمؤمنين أنفسهم ولغيرهم، ودفع البلاء والنقمة والمفسدة عن الناس .
لتدل آية البحث على حقيقة وهي أن الدنيا دار الصلاح وأن المسلمين يحملون لواء الإصلاح فيها لوقاية أنفسهم وإتعاظ القلوب والإقبال على الوظائف العبادية والتذكير بالجنة ونعيمها وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثامنة : التأكيد والبيان التفصيلي لما وعد الله به المؤمنين من الثواب على عملهم الصالحات، قال تعالى[أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى]( ).
التاسعة : بعث المسلمين والناس جميعاً للسياحة بالحدائق الناضرة الأخروية، وكأنهم يعيشون فيها ويقطعون من ثمارها، ومع أن الآية وردت لوصف ثواب المتقين، فان من غاياتها أموراً :
الأول : إمامة المسلم في منازل الإيمان، رغبة وطمعاً في الجنان كفضل ونعمة من عند الله يدرك العقل لزوم عدم التفريط بها.
الثاني : لقد جعل الله الحياة الدنيا محلاً للإختبار وداراً للإبتلاء، فجاءت آية البحث مدداً للناس جميعاً والمسلمين خاصة بلزوم تعاهد سنن التقوى، وعدم مغادرتها إلى حين مفارقة الدنيا كي تكون لهم شفيعاً وسلاحاً للعبور على الصراط وواقية من لهيب النار.
وعن يعلى بن منبّه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي( ).
الثالث : الآية سيف سماوي يطل على هامات الكفار كل يوم بلزوم التوبة قال تعالى[وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ]( ).
العاشرة : ذكر صفات الجنان يملأ النفس بأنوار المعارف، ويجعلها تزكو وترتقي في سلم التقوى واليقين .
الحادية عشرة : إصلاح المسلم نفسه للتوبة، وتسخير المسلمين انفسهم في تثبيت مبادئ وقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعاونهم وإخلاصهم في سبل التوبة والإنابة، قال تعالى[وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثانية عشرة : بعث المسلمين والعلماء منهم خاصة لإستظهار أفراد النعيم في الآخرة وأنها لا تقف عند جريان الأنهار، ففيها القصور والثمار والظلال، قال تعالى[وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ]( ).
وفي بيان صفات ماهية طهر الأزواج في الجنة قال تعالى[وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ] وورد عن أبي سعيد الخدري عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: من الحيض، والغائط، والنخامة، والبزاق)( )، وفي تعدد الجنان ومراتب الثواب ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس)( ).
الثالثة عشرة : تأكيد عالم لجزاء وأن من خصائصه الخلود والبقاء الدائم، ولا يختص المؤمنون بالخلود بل هو عام شامل لكل الناس، ومصاحبة النعيم له إنما هو أجر وثواب للعاملين في مرضاة الله، فجاء الثناء عليهم في دار العمل المؤقتة بخاتمة الآية (ونعم أجر العاملين) لبيان أنها وأيامها مزرعة للآخرة , وأن الإنسان يعلم بالقرآن وآياته ماذا يزرع وما هو حصاده.
ومن صفات الزراعة التباين في النتيجة والحاصل , فقد يحصد الفلّاح ما يزرعه مع قلة أو وفرة الحاصل، وقد تصاب الزراعة بآفة سماوية أو أرضية، أما الزراعة للآخرة فهي عامة تشمل الناس جميعاً وليس الفلاحين وحدهم، وما من فعل حسن يقوم به المؤمن إلا ويكون حاصله مضاعفاً يوم القيامة.
وورد عن الإمام الكاظم: وعليكم بالقصد في الغنى والفقر، والبر من القليل والكثير فإن الله تبارك وتعالى يعظم شقة التمرة حتى يأتي يوم القيامة كجبل احد)( ).
الرابعة عشرة : زيادة البصيرة عند المؤمن وإضاءة سبل الهداية له وجعله يدرك الغاية التي يسعى إليها ويعلم بالعاقبة الحسنة التي تترتب على إتيان سنن التقوى ، وفيه تهذيب للنفوس، وإصلاح للمجتمعات، إذ يكون المسلمون أمة تتولى إمامة الناس في سبل الفلاح وطرق جلب الرزق الكريم.
وهل في آية البحث دفع للمضار والمفاسد عن الناس كافة أو عن المؤمنين خاصة، أو ليس في الآية ما يدل على هذا الدفع، والجواب هو الأول فهي رحمة ونعمة على الناس كافة من جهات:
الأولى : التسليم والرضا بقضاء الله، والشكر له سبحانه على النعم الدنيوية والأخروية , فإن قلت نعم الدنيوية ظاهرة ومحسوسة فكيف يكون الشكر على النعم الأخروية ولم ينتفع منها العباد بعد.
والجواب من وجوه:
الأول : آية البحث بيان صدق للنعم الأخروية.
الثاني : تبعث آية البحث المؤمنين على الإجتهاد في عمل الصالحات.
الثالث : آية البحث مدد للناس لدخول الإسلام، وسبب لتخلي الكفار عما يؤدي بهم إلى النار.
الرابع : تدل آية البحث على حقيقة وهي إنتفاع المسلمين والناس في الدنيا من نعيم الآخرة , لما فيها من الترغيب في فعل الصالحات , ووجود أمة مؤمنة في كل زمان تقود إلى فعل الخيرات .
الخامسة عشرة : نفرة نفوس المسلمين من الذنوب والمعاصي وإدراكهم لقانون وهو التنافي بين الإيمان والإصرار على الذنوب، ( وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا صغيرة مع الإصرار و لا كبيرة مع الإستغفار)( ).
السادسة عشرة : تفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم لعظيم قدرة الله وأن الأمور كلها بيده سبحانه، وإتحادهم وتعاونهم في السعي الدؤوب والإلحاح في الدعاء طلب المغفرة من عند الله عز وجل، وفي الحديث القدسي بقول الله تعالى: ومن علم أني ذو قدرة على المغفرة فأستغفرني بقدرتي، غفرت له، ولا إبالي)( ).
التفسير
قوله تعالى[أُوْلَئِكَ]
تتضمن الآية الكريمة الوعد الكريم باللبث الدائم في الجنة مع بيان الذين ينالون هذا الوعد بالصفة، وليس الأشخاص بلحاظ أن الدنيا دار التوبة والإنابة , وذات الآية تبعث على المبادرة إليها، والإسراع في إرتداء لباسها، لأن الآية السابقة تندب الناس إليها، قال تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، ويحتمل متعلق الآية أمرين:
الأول : إرادة الذين تابوا إلى الله بعد فعل الفواحش وإرتكاب الظلم للنفس.
إبتدأت الآية باسم الإشارة للبعيد (اولئك) لبيان التشريف وعلو منزلة المؤمنين الذين يخشون الله عز وجل بالغيب سواء من المؤمنين أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو من مسلمي الأمم السالفة , وفيه نكتة عقائدية وهي أن المتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة أعزة وظاهرون للملأ يمكن معرفتهم بالحواس ورؤيتهم بالعين وسماعهم والإستماع لهم، وفيه مسائل :
الأولى : أعمال المتقين بينة واضحة في هذه الآيات مستعصية على الإجمال ولا تقبل الترديد.
الثانية : لا يفاجئ الناس يوم القيامة بأن هذا كان مؤمناً في الدنيا وهذا كافراً بل كل كان معروفا عند الناس بفعله.
الثالثة : المؤمنون دعاة إلى الجنة من وجوه :
الأول : الدعوة فيما بينهم.
الثاني : دعوة الناس إلى الإيمان.
الثالث : دعوة أنفسهم لتعاهد مصاديق التقوى.
الرابع : إبقاء سنن التقوى ميراثاً وثروة.
الرابعة : وجود المؤمنين بين الناس بخصال التقوى من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون معنى اسم الإشارة دلالة وطريقاً للأخذ بالمعروف الذي يفعله المسلمون ، وإجتناب المنكر الذي تنفر منه نفوسهم ويهربون منه أمام الملأ ، ويعلنون الإمتناع عنه ، ويتجلى هذا الإعلان مثلاً بتلاوتهم القرآن وإلى يوم القيامة في الصلاة وخارجها لقوله تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
الخامسة : تحبيب المسلمين ومناسك التقوى إلى الناس جميعاً ، وطرد النفرة من النفوس من أداء العبادات والتكاليف من جهة ذات الأداء ومقدماته وشروطه ووقته، فقد يرى غير المسلم أن الإمساك عن الأكل والشرب نهاراً لثلاثين يوماً متتالية في شهر رمضان أمر شاق وصعب قد لا يطاق .
وحينما يسمعون هذه الآية وهي تشير إلى مقامات المؤمنين في الجنة العالية ينزاح عن نفوسهم الظن بثقل التكاليف وتكون الأولوية بالتفكر والتدبر السعي الحثيث إلى مقدمات وأسباب الخلود في النعيم .
السادسة : إنه من الثناء المتقدم على المؤمنين لحسن الجزاء الذي ينتظرهم وهو من عمومات قوله تعالى[ فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى ]( )، بتقريب أنه كما يكون الثواب العظيم للمؤمنين في الآخرة من الشواهد على ملك الله المطلق لها فان ثناءه عليهم في الدنيا والإشارة اليهم بالبنان من سلطان وملك الله عز وجل وهو من الدلائل على إتصال الدنيا بالآخرة بلحاظ الأعمال والثواب.
السابعة : تذكير الناس باليوم الآخر وحتمية يوم القيامة بالإشارة إلى المسلمين بلحاظ إيمانهم وفعلهم الصالحات وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فيعلم الناس بوجود الجنة والنار باجتهاد المسلمين في الطرق التي تؤدي إلى الجنة وتكون واقية وحرزاً من النار.
بحث بلاغي
من وجوه البديع(الإستتباع) وهو الكلام لغرض وقصد ظاهر، كالمدح أو الذم أو البعث لفعل ومخصوص ثم يتبعه بمقاصد أخرى، أو بيان مقدمات الفعل، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ….]( )، إذ تبين الآية وجوب التوجه إلى الصلاة ثم بينت الوضوء وتفاصيله وسننه، والفعل الذي يلجأ إليه المسلم عند تعذر الماء من التيمم بالتراب لبيان غرض آخر وهو أن الصلاة لا تترك بحال.
وذكرت الآية قاعدة كلية بقوله تعالى[مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ]( )، لبيان مسألة سيالة في الشريعة من باب الطهارة إلى باب الديات وهي نفي الحرج في الدين، وأن قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، لبيان حاجة الناس للعبادة وأن الله سبحانه غني عنهم وعن عباداتهم، ولكنها مناسبة لشكرهم القولي ومصداق لشكرهم الفعلي.
ويذكر في هذا الباب قول المتنبي في الثناء والإطراء على شجاعة سيف الدولة:
نَهَبْتَ من الأعمارِ ما لو حويتَهُ ……. لهُنيتِ الدُّنيا بأنكَ خالدُ ( )
أي لو أنك حويت ما إنخرم من أعمار الذين قتلتهم وأضيفت إلى عمرك وأيامك في الدنيا، لأصبحت خالداً، ولصار خلودك نعمة للدنيا وأهلها، ليبين كثرة الأعداء الذين قتلهم، وأن هذا القتل لصلاح الناس وإستقرار الحياة، وفي البيت إعلان شخصي عن كون قتله للأعداء لم يكن ظلماً لهم.
وقال أبو الفتح: لو لم يمدحه إلا بهذا البيت لكان أبقى له ما لا يمحوه الزمان، ولكنه قول شاعر وفيه حجة عليه من وجوه , إنما يتجلى الخلود في العمل بسنن التقوى التي جاءت بها هذه الآية من ملايين المؤمنين الذين لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ويغادرون الدنيا بحرص من إيذاء الآخرين أو الإضرار بهم .
فجاء الإستتباع في آية البحث بما ليس فيه أذى وضرر ونهب للمال أو إنتقاص العمر لأحد من الناس، إذ تتجلى فيه أسباب السعادة الحقيقية التي تتتابع على المؤمنين في دنياهم وآخرتهم سواء في ذات الأفعال التي تؤدي إلى الجزاء الحسن بالإقامة في الجنة، أو بالآثار المترشحة عنها من نشر المودة ومعالم الإحسان والرأفة بين الناس، كما في الإنفاق والعفو وحبس الغضب.
وتدعو آية البحث المسلم ليستتبع الفعل الصالح بآخر مثله سواء من جنسه مع إتحاد الحال أو تباينه، كما في إستتباع الإنفاق في حال الرخاء بالبذل والإنفاق في حال الشدة والضراء، أو من جنس آخر من الصالحات إذ جعل الله عز وجل الدنيا مناسبة لفعلها.
ومن الآيات أن شطراً منها يتعلق بالذات ولا يستلزم المفاعلة مع طرف أو أطراف أخرى، لذا جاءت الآيات بالتأكيد على الأصل في الجزاء وهو التقوى.
وقد تقدم في أجزاء سابقة القول بعدم إنحصار إعجاز القرآن بالبلاغة وكونه يفوق كلام البشر، ونبين في هذه الجزء وجهاً آخر من وجوه إعجاز القرآن وهو إنفراد بلاغة القرآن برشحات مباركة على الواقع العملي، فالتتابع في ألفاظ آية البحث وذكر صفات المتقين يعصم المسلم من آفات السلوك ويقوده إلى إتيان الخصال الحميدة والسنن الرشيدة التي تؤدي به إلى الجنة والنعيم الدائم.
قانون رشحات الجمع بين الإنشاء والخبر في القرآن
يفيد الجمع بين آية البحث وآية السياق[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ…]( ) معاني المدد للمسلمين وتهيئة مقدمات الجهاد، وأسباب الظفر على الكفار، وسبل تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات بلحاظ العموم في مواضيع الإنفاق , ولأن زمان السلم أكثر من أيام الحرب والقتال ,وأعم في متعلقه من الأفراد.
ولما جاء قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، جاءت كل من آية البحث والسياق للترغيب بهذا الإعداد والبعث على الإمتثال لما في الآية أعلاه من لغة الأمر والوجوب، ليكون من صيغ إعجاز القرآن أمور:
الأول : مجيء الآية بصيغة الجملة الخبرية تعضيداً للآية بالجملة الإنشائية.
الثاني : البشارة بالجنة باعث للإمتثال للأوامر الإلهية في ذات موضوع البشارة ومقدماتها والسبل لبلوغها.
الثالث : الجملة الإنشائية مناسبة للتدبر بمضامين الآية التي تأتي بصيغة الجملة الخبرية والعمل بمضامينها.
الرابع: التداخل بين الإنشاء والخبر في آيات القرآن، وإقتباس الدروس والمواعظ والمسائل الإضافية منه، فقد جاء قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ…] بلغة الأمر والإنشاء ثم إنتقلت الآية الثانية إلى صيغة الجملة الخبرية[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ…..] وفيه نكتة وهي مجيء الدعوة إلى المسارعة إلى المغفرة بلحاظ النطق بالشهادتين والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى قبل آيتين[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا….]( )، وعطف آية وسارعوا عليها، بينما جاء قوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ…..] ببيان وذكر حال المتقين , والثناء عليهم بالدلالة التضمنية.
وبين المسلمين والمتقين عموم وخصوص مطلق، فكل متق هو مسلم وليس العكس، بالشهادتين يأتي إتيان الفرائض وعمل الصالحات مطلقاً.
الخامس : الإنتقال من صيغة الإنشاء إلى الخبر يبين حال الثبوت والإستقرار للمسلمين في منازل التقوى وعمل الصالحات، وأن هذا الثبوت شرط لدخول الجنة، وكأن اللبث الدائم فيها يستلزم الثبات على التقوى والتحلي بخصال الإيمان التي ذكرتها الآيتان السابقتان من حيث الإنفاق مطلقاً وحبس الغضب , وحمل لواء العفو عن الناس , واللجوء إلى الذكر والإستغفار عند إرتكاب معصية.
السادس : أخبرت آية السياق عن حقيقة وهي أن كظم الغيظ من صفات المتقين، وجاءت آية البحث بالعهد بالمغفرة، ترى ما هي طرق المغفرة في حبس الغضب وعدم صدور الغيظ والإنفعال إلى الخارج , الجواب من وجوه:
الأول : كظم الغيظ برزخ دون مغادرة التقوى، وهو من الإعجاز في نظم هذه الآيات، وتقدم قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، إذ أن الإنقياد للغضب قد يجعل الإنسان يبتعد عن سبل التقوى وهي لباس بهي وزينة أخلاقية , ومناسبة للإستغفار والخشية من الله سبحانه.
الثاني : إستيلاء الغيظ على الإنسان صارف للذهن عن ذكر الله عز وجل، وكيفية إنفعالية تجعل الإنسان في ضيق وصدره في حرج.
الثالث : كظم الغيظ مناسبة واقية من الإنشغال عن ذكر الله، إذ جاءت الآية السابقة بشرط التقوى وهو ذكر الله كطريق إلى التوبة والإنابة.
الرابع : التنزه من الإنتقام والبطش مناسبة للإستغفار، لقوله تعالى في الآية السابقة [فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ] وقد يحتاج كظم الغيظ والتلبس به إلى ذكر الله والإستغفار، ويكون كل منهما حرزاً من إظهار الغضب والشدة والقسوة في اللسان واليد.
ولما جاء قبل ثلاث آيات بلغة الحث والترغيب والوعد الأمر الإلهي إلى المسلمين بالمبادرة والتعجيل والتسابق في طلب العفو والمغفرة وإتخاذ الحياة الدنيا بلغة لمقامات الخلود في النعيم، جاءت كل من آية البحث والآيتين السابقتين دعوة للمغفرة، وسبيلاً من سبلها، وكيفية عملية للفوز بالمغفرة، قال تعالى[إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]( ).
وعن أبي أمامة قال بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد و نحن قعود معه إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي، فقال هل شهدت الصلاة معنا قال نعم يا رسول الله، قال فإن الله قد غفر لك حدك أو قال ذنبك)( ).
ويمكن قراءة هذه الآيات مجتمعة بصيغة الجملة الإنشائية تارة، وأخرى بصيغة الجملة الخبرية مع إستنباط المسائل والمواعظ من كل منهما، وتقديرها بلغة الإنشاء: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وأنفقوا في السراء والضراء وأكظموا الغيظ وأعفوا عن الناس وإذا فعلتم فاحشة أو ظلمتم أنفسكم فأذكروا الله فأستغفروا لذنوبكم……. ولا تصروا على ما فعلتم وأنتم تعلمون ليكون جزاؤكم مغفرة من ربكم وجنات تجري من تحتها الأنهار…..).
ومن فيوضات القرآن وبركاته على النفوس تلقي المسلم لصيغة الخبر بمعنى وإرادة الإنشاء، وقصص الأمم السالفة بمفاهيم الإتعاظ والإعتبار وكأنها حاضرة في زمانه فيأخذ بالحسن والصالح، وتنفر نفسه من القبيح والسيئ منها.
ولما تفضل الله عز وجل بأمر المسلمين بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، فإنه سبحانه جعل خزائن الأمر والنهي في آيات القرآن لينهل منها المسلمون , وتحضر الصلاة وتتلى آيات على نحو الوجوب لتكون مناسبة للجهاد بين الناس في الدعوة إلى الصلاح، وتكون الآيات والعمل بمضامينها طريقاً سالكة لهم ولغيرهم من أهل الأرض للفوز بالمغفرة دخول الجنة، وهو من مصاديق الآية أعلاه وما فيها من التحدي في خروجي المسلمين للناس بصفة الأفضلية والحسن الذاتي والغيري ليأتي الأمر والنهي وفق المشيئة الإلهية وبما ينفع المسلمين والناس كصراط إلى الجنة.
ومن الآيات تلاوة كل مسلم ومسلمة في كل يوم مرات عديدة وعلى نحو الوجوب قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ومن معانيه المسارعة إلى المغفرة بالإستغفار وإتيان الصالحات والمواظبة على الذكر لأن الآية أعلاه تتضمن أموراً:
الأول : الدعاء وطلب المسألة من الله عز وجل وهو القائل [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثاني : تأكيد حب المسلمين للهداية والرشاد، وتجافيهم عن المعاصي والسيئات.
الثالث : بيان حاجة المسلمين والناس للصراط المستقيم في الدنيا والآخرة.
الرابع : تعدد معاني الصراط آية في الندب للسعي إليه وفي منهاجه.
الخامس : تقييد الصراط في الدعاء بأنه المستقيم الذي يتضمن السلامة ويؤدي إلى الأمن في النشأتين، وتقدم ذكر أثني عشر وجهاً للصراط( ).
السادس : قصد القرآنية في قراءة هذه الآية وسورة الفاتحة بآياتها السبعة (عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب، ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول ألم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة)( ).
وتبين الآية أعلاه حقيقة وهي أن الطريق إلى الجنة جلي وواضح، فليس من شيء أكثر إستبانة من إستقامته وأنواره الذاتية والضياء الذي على جنباته , إنما يكون التيه والضلالة والغشاوة والعمش في الإعوجاج والطرق الملتوية، والإستقامة ملائمة للفطرة وكأنها من البديهيات في السعي.
وجاءت آية البحث لتأكد هذه الحقيقة إذ أنها تبين أن طريق الجنة يتجلى في مضامين الآيتين السابقتين في عالم القول والفعل، وتدل في مفهومها على الزجر مما هو خلاف للأفعال المحمودة وصفات المتقين التي ندبت إليها وليكون معنى الجمع بينها والآية التي بعدها من سورة الفاتحة وآية البحث هو : إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار).
علم المناسبة
ورد لفظ (أولئك) في القرآن مائتين وأربع مرات، ويصدق عليه أنه مدرسة بذاته لكثرته وتعدد وبيان الجهات والأشخاص الذين يتوجه إليهم، فيأتي بالمدح والثناء كما في وصف المتقين [وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( )، وتطل آية البحث ببيان سنخية هذا الفلاح وهو اللبث الدائم في جنات تجري من تحتها الأنهار على نحو الأجر والثواب من عند الله على عمل الصالحات .
ومرة يأتي بصيغة الذم وإرادة توبيخ وذم الكفار وبيان سوء عاقبتهم وهو الأكثر في لفظ (اولئك) من جهة العدد، قال تعالى[وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( )، لبيان أن الخسارة هي الحرمان من النعيم الذي تذكره آية البحث، وأن قاعدة إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره لا تعمل في المقام، فذكرت آية البحث الثواب العظيم للمؤمنين وسكتت عن غيرهم، ولكن آيات أخرى ذكرت سوء عاقبة الكفار والمنافقين وأرباب الشرك والضلالة.
ومن الآيات أن ذات اسم الإشارة (أولئك) يأتي لإرادة الثناء والإكرام للمؤمنين، ويأتي لمعاني البعد والذم للكافرين.
ومثلما يأتي فيما يتعلق بعالم الآخرة، فانه جاء بخصوص الدنيا وسنخية الأعمال فيها، وجاء بلغة الإنذار والتحذير والذم [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ] ( )،[فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( )،[فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( )، واسم الإشارة أولئك مبهم يأتي على وجوه:
الأول : جمع الذكر.
الثاني : جمع المؤنث.
الثالث : جمع المذكر والمؤنث، وهو المقصود في آية البحث.
قال تعالى في بيان حال الذل والخزي التي عليها الكفار يوم القيامة[أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ]( )، أي حجبوا عن قلوبهم صبغة الإصغاء وأعرضوا عن التنزيل فكأن الدعوة تأتيهم من مكان وموضع بعيد فلا ينتفعون منه إلا على نحو القليل والإجمال ، وفي التنزيل[وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن عائدية وعلة البعد لا ترجع إليهم أنفسهم، بل ذات النداء يأتيهم من بعد، ليكون من معانيه أن هذا البعد في النداء عقوبةُ وإزدراء لهم فيتعذر عليهم سمع الدعوة بجلاء ووضوح، وكأن مكان وموضع الدعوة واحد، ولكن الكفار إبتعدوا عن خصال التقوى وزهدوا بمنافع القرب من المؤمنين والبقاء بالقرب من جهة صدور الدعوة.
وعن قتادة قال: قال موسى: رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة ، الآخرون في الخلق والسابقون في دخول الجنة فاجعلهم أمتي : قال : تلك أمة أحمد . قال : رب أني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله فاجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ويقاتلون فضول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور والكذاب فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في قلوبهم يقرأونها . قال: فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد( ).
قال قتادة : وكان من قبلكم إنما يقرأون كتابهم نظراً ، فإذا رفعوها لم يحفظوا منها شيئاً ولم يعوه .
وليس من كلمة أو فاصلة بين اسم الإشارة والجزاء في آية البحث[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ] وكأنه من البيان لحال المؤمن وأنه لا يفصله عن نعيم الآخرة إلا الموت، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مات فقد قامت قيامته)( ).
بحث بلاغي
من وجوه البلاغة (المذهب الكلامي) بأن يثبت الأديب دعواه بحجة عقلية وبرهان , أو جدل يرد به المعاند ولتوطئة الأسماع للبرهان ومقدماته بما يفيد تحقق الفهم والقبول.
ليتكلم البليغ بلسان أهل الكلام، وأطلق الجاحظ هذا المصطلح، ويمكن إقتباس مصاديق له من القرآن، قال تعالى[أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
إذ أن عدم إتخاذهم عهداً عند الله من اليقينيات التي تستغني بذاتها ومقدماتها عن البيان مما يدل أيضاً على أنهم يفترون على الله، وفيه دعوة لأهل الملل والنحل أن يتجنبوا القول على الله بغير علم.
وقال ابن المعتز: وهذا باب ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئاًَ، وهو ينسب إلى التكلف، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً( ).
ولغة البرهان ظاهرة في كل آية من آيات القرآن منطوقاً أو مفهوماً، ومنها قوله تعالى[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ] لما فيها من بيان حسن الثواب للمؤمنين، وحث الناس على رياضة الذهن وتحصيل مقدمات الثواب.
وكأن الآية تقول للكافرين: هذا جزاء المؤمنين الذين يتسابقون في فعل الصالحات، فما هو جزاؤكم وما ينتظركم، ليتفكروا بحقيقة وهي وجود العالم الآخر الذي يتقوم بالحساب والجزاء بحسب سنخية وأفراد العمل في الدنيا، وتتجلى لغة البرهان بصيغة الغائب (أولئك.) ليكون المخاطبون والمقصودون بالبلاغ عنواناً جامعاً للمؤمنين والكفار، وأن الناس قريبون من البلاغ القرآني وفيه حجة إضافية عليهم.
ولا يقول جماعة من أهل الشك والجحود أنهم لم يعلموا بالبعث والنشور وحضور أعمالهم معهم في الآخرة للحساب، قال تعالى[فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، أي حينما يرى الكفار قيام القيامة وحضورهم المحشر ومواطن الآخرة وهم قد كذّبوا بها فتسود وجوههم ويتغشاهم الحزن المقرون بالألم حيث لا مفر من العذاب الأليم.
إن حب الإنسان للبقاء أمر فطري يدل على أن بذرة الخلود موجودة فيه بالذات، فجاءت هذه الآية لتخبر عن كونه حقيقة وأن الله عز وجل جعل الخلود يتقوم بعالم الأفعال والجزاء.
التفسير الذاتي
تبين الآية عظيم الهبات التي تفضل الله عز وجل بها على المؤمنين بأن فتح لهم باب العفو والمغفرة، وجعلها جزاء وثواباً لهم على حسن فعلهم , وتؤسس الآية قانوناً وهو ترك المؤاخذة على المعاصي وفعل الفواحش إذا تعقبها ذكر الله وطراوة اللسان بالإستغفار مع الوجود المادي لذات المعصية وأثرها ووجودها الذهني عند مرتبكها وغيره ممن أبصر أو سمع حاضرا أو غائبا قريبا أو بعيدا في النسب والجوار والسكن معاصرا أو متأخرا في زمانه أو إدراكه عن أوان المعصية، ولا موضوعية لها عندما يأتي الإستغفار لأن محوها يتقوم به .
فإن قلت قد يأخذ بعض الناس منه فعل الفاحشة ويكون لهم أسوة في المنكرات وفعل السيئات فهل تأتي المغفرة عليها أم أنها أمر مستقل بإعتباره سنّ سنة سيئة.
الجواب تدل الآية على الإطلاق في العفو والمغفرة على الفاحشة وتبعاتها وآثارها الخاصة والعامة ليس لأنه بتوبته يقتدي به أناس أخرون سواء ذات الأشخاص الذين صار سببا أو جزء علة في فعلهم الفاحشة أو غيرهم بل لأن الله ذو الفضل العظيم , والمغفرة رحمة وجود منه سبحانه , أما موضوع الإقتداء المبارك أعلاه فهو موضوع لصفحات مشرقة من الثواب الإضافي .
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات تعقب الجزاء لخصال المتقين ، فليس بينهما آية فاصلة تتعلق بموضوع آخر أو تتضمن مقدمات وشرائط المغفرة، لتفسير آية البحث نفسها بأن تكون برهاناً على غنى الله عن العالمين واللامحدود في فضله وإحسانه، وحجة على الناس في لزوم ولوج باب العفو والمبادرة إلى الإستغفار لأمور:
الأول : حاجة الناس جميعاً متحدين ومتفرقين للإستغفار.
الثاني : إقتران البركات بالإستغفار , قال تعالى[وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا]( ).
الثالث : إزاحة الكدورة عن نفوس المؤمنين من فعل بعضهم الفاحشة، للعلم واليقين بأن محوها أمر سهل قريب لا يحتاج مؤونة وجهدا إلا أموراً ثلاثة:
الأول : ذكر الله.
الثاني : الإستغفار.
الثالث : الإقلاع عن المعصية وعدم العودة إلى مستنقعها لقوله تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا]( ).
لقد أخبرت الآية السابقة بأن الله غفار الذنوب ، وغفرانها محصور به سبحانه ، فلا يقدر عليه غيره ، ولا يقوم به ملك مقرب أو نبي مرسل فهو سبحانه لا يمنح هذا الأمر لغيره مما يدل على أن مغفرة الذنوب من خصائص الربوبية المطلقة لله لأنها نعمة عظيمة لا يقدر على هبتها للناس غيره سبحانه بلحاظ أمور :
الأول : مقدار وكثرة الذنوب التي يفعلها العبد ، فلو كانت المغفرة بيد ملك مقرب لتوقف أحياناً ورجع إلى الله عز وجل حينما يجد صفحة سوداء قاتمة من الذنوب لبعض الناس .
ولقد إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بسبب فساد الانسان ، وفي التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، فهم لم يحتجوا على جعل آدم خليفة وهو نبي معصوم بل تأذوا من إفساد شطر من الناس، والملائكة دائبون في طاعة الله فيفزعون من فعل الإنسان الفاحشة في الدنيا, وهي دار إختبار فلم يجعل الله بأيديهم حساب العباد يوم القيامة, فحساب الناس بيد الله ومن إكرامه لهم أن وقوفهم بحضرة الجلال والقدس وهو من رحمته بالناس لأنه تعالى يهب المغفرة ويقبل الشفاعة ويمحو الذنوب العظام , إنما يجمع الملائكة الناس ويحشرونهم للحساب , قال تعالى[وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
وكما أعدّ الله عز وجل الجنة للمؤمنين فانه سبحانه أعد وهيء المغفرة لتكون في إنتظارهم يوم القيامة ، ويستقبلهم الملائكة بالبشارة والسلام قال تعالى[وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ]( )، وفيه تذكير بآية البحث وما فيها من الموعدة بالمغفرة والجنة وجريان الأنهار من تحتهم والخلود في النعيم .
وإذ إبتدأت آية البحث بالإشارة إلى المؤمنين بلفظ (أولئك) فان الملائكة يرحبون بهم ويخاطبونهم بأسمى آيات الاكرام وما فيه بعث السكينة في نفوسهم والدخول في عالم الثواب الذي ذكرته آية البحث ، ومن رحمة الله يوم القيامة الإنعام على المؤمنين بغير حساب .
قوله تعالى[جَزَاؤُهُمْ ]
بعد أن أختتمت الآية السابقة بالثناء على المؤمنين بوصفهم بالعلم والمعرفة بقوله تعالى (وهم يعلمون) إبتدأت هذه الآية بالوعد الكريم لهم وهل يرقى هذا الوعد إلى مرتبة التنجيز , الجواب نعم ، فان الوعد من الله يخلتف عنه من البشر من جهات تفوق الإحصاء , منها :
الأولى : الوعد من الله حق وعهد كريم.
الثانية : الآية الكريمة إخبار عن أحوال المؤمنين في الآخرة.
الثالثة : لا تعارض بين كون الآية إخبارا ووعدا وعهدا من الله، وهو من الإعجاز في اللفظ القرآني وإحاطته باللا محدود من الوقائع والأحداث فذات اللفظ له معان متعددة في ميادين ومواضيع متباينة , كل فرد منها في طول الآخر.
ويمكن تسمية الحياة الدنيا الدنيا دار الوعد , وهو من خصائص الخلافة في الأرض , وقبل أن يصل آدم إلى الأرض جاءه وحواء قوله تعالى[قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، ليصاحب هذا الوعد الناس بالقرآن وآياته إلى يوم القيامة , وتكون آية البحث مصداقا ونعمة ورشحة من فضل الله على الناس .
وجاء لفظ الجزاء بصيغة الجمع (جزاؤهم) وفيه وجوه:
الأول : الآية إنحلالية , والمراد جزاء كل فرد من المؤمنين المغفرة والإقامة الدائمة في النعيم.
الثاني : يشترك المؤمنون في الجزاء على نحو الإشاعة في التصرف والإقامة والسكن إلا ماخرج بالدليل مثل الزوجات والحور العين والقصور.
الثالث : الجنة هبة من الله للمؤمنين يتصرفون ويتنعمون فيها.
وهل تختص الآية بالذين يتوارثون التقوى ويرتدون لباسها , ولم يغادورا إلى منازل الكفر آنا ما أم هي مطلقة , فتشمل أهل التوبة والإنابة الذين هجروا الكفر ودخلوا في الإسلام.
الجواب هو الثاني، وفي الوقت الذي ورد ذم وإنذار الكفار ونزول اللعنة الدائمة بهم , جاء إستثناء أهل التوبة، قال تعالى[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ]( ).
وفي الآيات أعلاه ورد عن مجاهد قال: جاء الحارث بن سُوَيد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه. فقال الحارث: إنك والله ما علمتُ لصدوق، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة. قال: فرجع الحارث فأسلم فحَسُنَ إسلامه) ( )، وورد مثله عن الأمام جعفر الصادق عليه السلام.
وفي رواية أن الحارث قتل المجدر بن زياد البلوي غدراً فهرب وإرتد عن الإسلام، وعن ابن عباس: أن الحارث بن سويد قتل المجدر بن زياد ، وقيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد ، ثم لحق بقريش فكان بمكة ، ثم بعث إلى أخيه الجلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه . فأنزل الله فيه { كيف يهدي الله قوماً } إلى آخر القصة .
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي صالح مولى أم هانئ، أن الحرث بن سويد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لحق بأهل مكة، وشهد أحداً فقاتل المسلمين، ثم سقط في يده فرجع إلى مكة، فكتب إلى أخيه جلاس بن سويد يا أخي إني ندمت على ما كان مني، فأتوب إلى الله وأرجع إلى الإسلام؟ فاذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن طمعت لي في توبة فاكتب إليَّ فذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم} فقال قوم من أصحابه ممن كان عليه يتمنع ثم يراجع الإسلام)( ).
وتختص البشارة في هذه الآية بذكر المتقين وأن الجنة جزاء لهم، وجاءت آيات أخرى بالإخبار عن الموعدة من الله بالجنة للمؤمنين بقوله تعالى[وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا]( ).
وجاءت آيات بذكر الذين آمنوا بالله وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصلحوا , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي…]( ).
لبيان السعة في رحمة الله وأن مصداق التقوى يكون على مراتب متعددة ومتفاوتة قوة وضعفاً ويرضى الله عز وجل بالقليل منه الذي يتقوم بأداء الفرائض والمقرون بعمل الصالحات.
قانون(عصر القرآن)
يمكن تسمية الزمان بعد نزول القرآن بأنه (عصر القرآن) وهو أطول عصر وزمان لعلم وحكم في تأريخ الإنسانية بالإضافة إلى حقيقة من جهات:
الأولى : معرفة بداية عصر القرآن وعجز الناس عن معرفة أو تعيين أو حصر إنتهائه مع التسليم بكبرى كلية وهي أنه مصاحب للحياة الدنيا, ليكون من خصائص العلم في عصر القرآن نفي الجهالة.
الثانية : ليس من علم أو كتاب يأتي بعد القرآن يصلح أن يسمى زمان وعصر بإسمه.
الثالثة : من خصائص عصر القرآن عرض أي ظاهرة علمية عليه وتقييمها ونظر الإنسانية لها وفق قواعد وقوانين القرآن، لذا لم يصبح أثر عملي يذكر بين الناس لمنطق أرسطو وغيره.
الرابعة : من صفات عصر القرآن الملازمة بينه وبين المتبقي من أيام الدنيا.
الخامسة : تأكيد فضل الله عز وجل على الناس بجعل هذه الأزمنة عصراً متحداً للقرآن وتخلف الناس عن الإتيان بمثله في المضمون والمعاني والأحكام وترتب الأثر عليها في النفوس والمجتمعات، قال تعالى[قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ).
وهل يمكن إعتبار الزمان عصر (آية البحث) أم أنه من المبالغة والإفراط, الجواب هو الأول فكل آية قرآنية صرح علمي ينير الدرب لسالكي سبل الهداية والرشاد، ويفتح هذا المعنى باباً للدراسات العلمية للتدبر في أسرار وماهية الحياة الدنيا وبديع صنع الله في إيجاد عالم الآخرة وخلق الجنة والنار من باب الأولوية في قوله تعالى[وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، والتفكر هو سياحة مقصودة للذهن في مقدمات معلومة للوصول إلى مطلوب مجهول، وصيرورته معلوماً , ويمكن تعريف التفكر أيضا بأنه إتخاذ المعقول بلغة للمجهول.
وجاءت آية البحث لإعانة العقول في تفكرها ومنع النفوس من البقاء في حيرتها إذ أخبرت عن وجود عالم الجزاء الحسن الذي يخص المتقين الذين يعملون الصالحات، لتبعث الناس إلى إدراك وجوب عبادة الله ولزوم عدم إرتكاب المعاصي والسيئات ٍوالحرام، وليس من عصر أطول مدة وزماناً وأكثر بهجة وغبطة من عصر القرآن وعلومه الظاهرة للناس جميعاً وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ أمور:
الأول : بقاء وتوارث أفراد الرحمة التي كانت موجودة قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : مضاعفة ذات أفراد الرحمة الموجودة.
الثالث : إقتران نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بمصاديق جديدة من الرحمة.
الرابع : إتساع ذات الأفراد من الرحمة وشمولها للناس جميعاً، وهل يكون زمان العولمة من الشواهد على الآية أعلاه , الجواب نعم من جهات:
الأولى : تعاهد المسلمين للفرائض وأحكام الشريعة، وسط التداخل الحضاري والتقارب الفكري بين أهل الملل.
الثانية : إنتشار المسلمين في أقطار الأرض المختلفة بصيغة الإيمان والمحافظة على الشعائر.
الثالثة : دخول المسلمين مدرسة الإحتجاج العالمية، وتصديهم للجدال بمصاديق التأديب والتعليم التي تتجلى بقوله تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن التفضيل والأحسن في الجدال مطلق وجلي, يكون متجدداً مباركاً الزمان والمكان والموضوع والحكم والوسائل المقروءة أو المسموعة، وإذ كان مرتبة الأحسن متبدلة بحسب الحال والقرآن فإن تفضيل المسلمين وكونهم أحسن الأمم ثابت في كل زمان وهو من عمومات قوله تعالى[لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]( ).
قوله تعالى[مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ]
جاءت الآية بفردين من الجزاء لا يقدر عليهما مجتمعين ومتفرقين إلا الله عز وجل، وهما المغفرة والجنة، وكل واحد منها أفضل وأسمى من الدنيا وما فيها، وإذ كانت نعمة الجنة لا تفارق أصحابها ، ولا يفاجئ أهل الجنة أبدا بطرد بعضهم وإخراجه من الجنة لإخلاله بسننها وآدابها مثلا أو لظهور ذنوب ومعاصي عملها في الدنيا لم يتم كشفها في مواطن الحساب أو إنقطعت مدة مغفرتها .
فمن دخل الجنة يطمئن إلى قانون وهو تنزه أهلها من الخطأ عدم خروجهم ومغادرتهم لها،, وهو من عمومات قوله تعالى[فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
(عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة . فيقولون : لبيك يا ربنا وسعديك والخير في يديك . فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : ربنا ، وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحداً من خلقك؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟! قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)( ).
أما المغفرة ومصاحبتها للذين آمنوا فتحتمل وجوها:
الأول : إذا نالها المؤمن تبقى ملازمة له ولا تغادره وان إرتكب سيئة.
الثاني : التقييد في ملازمة المغفرة لخصوص المؤمن الذي يتنزه عن المعصية[الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ]( ).
الثالث : المغفرة أمر متزلزل وليس مستقراً، فحالما يذنب المؤمن تعود عليه ذات الآثام التي غفرت له.
الرابع : من فضل الله على الناس جميعاً وعلى المؤمنين خاصة أن الذنوب التي تمحى لا تعود. للمبادرة والفرار إلى الإستغفار , وورد حكاية عن لوط في التنزيل[إِنِّي مهاجراً إِلَى رَبِّي]( ).
الخامس : التفصيل في ماهية وأثر الذنوب المستحدثة، من جهات:
الأولى : من الذنوب ما يؤدي إرتكابها إلى عودة أوزار الذنوب المغفورة كلها.
الثانية : الذنوب التي يسبب فعلها عودة شطر من أوزار الذنوب التي تم محوها.
الثالثة : صغائر الذنوب التي لا يؤدي فعلها إلى رجوع الآثام والأوزار التي تم محوها.
السادس : ليس من قاعدة كلية في عودة الذنوب أو عدمها، فالأمر كله راجع إلى الله عز وجل , فعندما يرتكب المؤمن ذنباً جديداً , لله عز وجل أن يعيد عليه الذنوب السابقة وله ألا يعيدها، قال تعالى[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ) , هذا صحيح ولكن من كرم ورأفة الله وغناه المطلق أنه إذا عفا لا يرجع فيما عفا عنه.
السابع : مغفرة الذنوب مقيدة بلزوم عدم العودة إليها، وهو على قسمين:
الأول : عدم العودة إلى ذات المعصية التي إستغفر عنها , وإن كانت متعددة في فعلها وأفرادها.
الثاني : لزوم عدم إتيان أي فرد من جنس المعصية مطلقاً، وإن لم يفعلها سابقاً.
الثامن : المدار على الآية السابقة ومضامينها القدسية ، فمن بادر إلى ذكر الله ولجأ إلى الإستغفار عند فعل الفاحشة فإن الله عز وجل لا يعيد عليه كتابة الذنوب السابقة وهو سبحانه يمحو عنه أثر الفاحشة المستحدثة، ومن ترك الذكر والإستغفار عند فعل الفاحشة فإن الذنوب التي تم محوها عنه تعود من جديد، ٍوهذا الترك على قسمين:
الأول : الذي ترك الذكر والإستغفار عن عمد.
الثاني : الذي نسي أو سهى عن ترك الإستغفار .
وعن أبي إمامة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات ، فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيئاً ، وإن لم يستغفر الله كتب عليه سيئة واحدة)( ).
التاسع : ما يمحى من الذنوب لا يعود أبداً لا في الدنيا ولا في عالم البرزخ ولا يوم القيامة , فتبقى صفحة المؤمن بيضاء إلا أن يسودها بيده وبمعصية جديدة لا يعالجها بالذكر والإستغفار فلا تكتب فيها غيرها , وقد يأتي عليها الثواب المضاعف لكل من التقوى والذكر وحسن الإنابة.
والصحيح هو الوجه الرابع والسادس والتاسع أعلاه وهو من فضل الله على المؤمنين خاصة والناس جميعاً , فإذا غفر الله عز وجل ومحى الذنوب فإنه أكرم من أن يرجع بوزره على عبده المؤمن.
ويحتمل من متعلق المغفرة في الآية وجوهاً:
الأول : إرادة فعل الفاحشة وظلم النفس الذي ذكرته الآية السابقة لتعقبه بالإستغفار، (عن عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تُتْلَى هَذِهِ الآيَةُ: “وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ” إِلَى قَوْلِهِ “جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ” قَالَ: نِعْمَ مَا جَازَاكَ عَلَى الذَّنْبِ”)( )، ولكن الآية أعم وتتضمن الموعدة الكريمة.
الثاني : موضوع المغفرة أعم ،للملازمة بينها وبين التقوى، فمن كان خاشعاً لله عز وجل فإن المغفرة تأتيه هبة ورحمة من الله.
الثالث : تأتي المغفرة أيضاً على صغائر الذنوب وعلى المعاصي والسيئات التي يقترفها الإنسان من غير أن يلتفت لقبحها الذاتي أو حكمها وعقوبتها.
الرابع : في المقاصد السامية والمضامين القدسية للمغفرة في آية البحث مسائل :
الأولى : الآية وعد كريم للمؤمن وإن لم يفعل الذنب وتقدير الآية بصيغة الخطاب ولغة الوعد: ولكم مغفرة من ربكم).
الثاني : إرادة الذنوب والمعاصي التي إرتكبها المؤمن الذي مات وإنقضت أيامه وهل فيه سكينة للمؤمن الحي بالنسبة لآبائه وذويه المؤمنين ممن غادر الدنيا.
الجواب نعم وتلك آية في إعجاز القرآن الغيري , قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث : العفو عن الذنوب التي فعلها المؤمن الحي في أيام حياته الماضية فيستقبل التالية منها بغبطة وسعادة وسكينة وأمل ورجاء وتلك خصوصية ينفرد بها المؤمن في نفسه مما تكون معه رشحات على بدنه وصحته وطول عمره وحسن خلقه مع الناس، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وبلحاظ أن الآية وعد كريم من الله فليس فيها أغراء بفعل الذنوب من جهات:
الأولى : إختصاص الآية بالمتقين الذين يخشون الله بالغيب ،ومن التقوى الحرص على التنزه عن المعاصي، والإحتراز من مقدماتها، والحيطة والحذر من الشبهات.
الثانية : الآية حجة على الكفار , فمع أن الله عز وجل يعد المؤمن بالمغفرة فإنه يجتهد في الإبتعاد عنها، بينما تأتي الإنذارات والوعيد للكافر وهو يتمادى في ضلالته وغيّه.
الثالثة : التقوى ملكة تنفر معها النفس من المعصية ، وصرح في ذات الإنسان روحاً وبدناً يمتنع عن قبول ضدها.
الرابعة : لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إختيار ذي صبغة الإختبار ويترتب عليه الإبتلاء والحساب.
وتفضل الله وجعل المسلم يتفقه في الدين بما يجعله في حرز من المعصية وفي قوله تعالى[جَنَّاتِ النَّعِيمِ]( )، ورد عن مالك بن دينار قال (جنات نعيم) بين جنات الفردوس وجنات عدن ، وفيها جوار خلقن من ورد الجنة . قيل فمن سكنها؟ قال: الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا عظمة الله جل جلاله راقبوه)( )، ولم يرفع الحديث .
وقيل: إسقاط العقاب عند التوبة تفضل منه وأما استحقاق الثواب بالتوبة فواجب لا محالة عقلا لأنه لو لم يكن مستحقا بالتوبة لقبح تكليفه التوبة لما فيها من المشقة)( ).
أما الشــطر الأول من القول أعلاه وأن إسقاط العقاب تفضل من الله عز وجل فصحيح وتام، وأما الشطر الثاني وهو وجوب إستحقاق الثواب عقلا , فيرد عليه من وجوه:
الأول : لا دليل عليه خصوصاً وأن الوعد الإلهي أكبر وأعظم من إسقاط العقاب، فيكون تفضلاً من الله من باب الأولوية القطعية.
الثاني : لا ملازمة بين التوبة والثواب عليها.
الثالث : لا ينحصر التكليف بالتوبة بذاتها، بل لأن ما سبقها من فعل المعاصي خلاف الأصل والواجب.
الرابع : ليس من برهان على المشقة بالتوبة، فهي مادة وموضوع للسعادة والبصيرة، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الخامس : جاءت آية البحث ليكون في ترك التوبة مشقة وأذى للإنسان لأن هذا الترك تخلف عن المصلحة وسبب لجلب الأذى والضرر للذات والغير .
قانون الحاجة
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً ، ولا تختص الحاجة به بل هي ملازمة للخلائق كلها ، ومن فضل الله وعظيم قدرته أنه سبحانه قيض اسباب قضاء تلك الحاجة مع أنها من اللامتناهي في ذات وشخص الإنسان الواحد ، لتكون شاهداً في كل آن على سعة رحمة الله به وهي حجة متجددة ودائمة ، قال تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
وإذ رزق الله عز وجل الإنسان منزلة عظيمة من بين الخلائق ومنحه مرتبة الخلافة من الأرض بقوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فإنه سبحانه جعل حاجة الإنسان تنبسط على العوالم الطولية كلها , وهي:
الأول : الحياة الدنيا.
الثاني : عالم البرزخ، والفترة ما بين مغادرة الروح للجسد وبين يوم البعث قال تعالى[وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ]( ).
الثالث : مواطن الحساب يوم القيامة مع تعددها وطول مدتها.
الرابع : عالم الجزاء الذي ينحصر بأمرين أما الجنة وأما النار.
وآية البحث حاجة للإنسان من جهات :
الأولى : يبحث الإنسان عن البشارة في الدنيا , ويفرح بها حتى بخصوص الصغائر والجزئيات من أمور المعيشة والصلات الإجتماعية ، فتأتي آية البحث لتكون البشارة العظمى التي ليس من بشارة تصل إلى معشارها موضوعاً ومحمولاً .
الثانية : الآية مؤازر للمسلم في عمله الصالحات ، تمده بالعون لأنها تبين له قرب الجزاء .
الثالثة : تحبب الآية للمسلم سبل التقوى لما فيها من النفع وتجليات الرحمة من عند الله .
الرابعة : الآية برزخ دون الشك والريب النوعي والشخصي من مصاديق وأفراد التقوى ، وهو من عمومات قوله تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ) بتقريب أن الآيات أعم من أن تختص بالكونية والفلكية لتشمل بلحاظ آية البحث أموراً:
الأول : بيان مضامين الثواب الأخروي .
الثاني : الجنة آية من آيات الله لا يطلع عليها أهل الدنيا، فأخبرت عنها آية البحث بصيغة البيان عن تفاصيل الجنة وكون الأنهار تجري من تحتها.ٍ
الثالث : إختصاص الجزاء بالجنة للمتقين الذين يخشون الله على نحو الحصر والتعيين.
الرابع : إمكان تدارك السيئات بالإستغفار.
الخامس : الموعظة والتذكير بحقيقة وهي أن الإنفاق في سبيل الله في حال الرخاء والشدة واقية من عذاب النار.
السادس : من البيان في آية البحث أن الجنة تحتاج إلى علم وعمل , وقد تفضل الله بآية البحث وجعلها علماً قائماً بذاته. وتبصرة في أمور الدين والدنيا، ويحتاج الإنسان معها الإيمان والعمل الصالح، ولم تكتف آية البحث ببيان هذا القانون، بل ذكرت مصاديق ووجوه الجزاء الحسن بما يبعث السكينة في نفس المسلم ويجعله يسارع في فعل الخيرات.
السابع : ليس من حد أعلى للأمل عند الإنسان وأقصاه الخلود بعد الموت بالبقاء الدائم , فجاءت آية البحث لتبشر الإنسان بالبقاء المؤبد بالنعيم ولكن هذه البشارة مقيدة بأنها خاصة بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات .
ويكون بين المؤمن والكافر في المقام عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء شمول الطرفين بالخلود والحياة التي لا موت بعدها , أما مادة الإفتراق فهي المغفرة واللبث الدائم في النعيم للمؤمنين وآية البحث إخبار ونص سماوي في الدلالة عليه.
أما الكفار فلا يستطيعون إدراك سبل ودرجات المغفرة , قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا]( ). وكل من الإيمان والعمل الصالح حاجة للإنسان في الدنيا والآخرة ويحتاج الإنسان إلى الرشد والعلم في معرفة حاله في المستقبل , مما يجعل عمله حكيماً ويتصف بالصواب ويقود للوصول إلى الغاية الحميدة الجلية الظاهرة , فجاءت آية البحث ببيان تلك الغاية والبلغة المؤدية إليها وهي لباس التقوى , وفي الخبر: العقل رسول ظاهر، والرسول عقل باطن. وجاء القرآن لمخاطبة العقول وتسخير الجوارح والعزائم في طاعة الله وبما يقضي حاجات الإنسان في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق الرحمة العامة للناس في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فليس من كتاب يكون إماماً للعقول والحواس في الميادين المختلفة بما فيه صلاحها ونجاتها في الدارين مثل القرآن ، وهو من أسرار لغة البيان فيه وسلامته من التحريف إلى يوم القيامة وهذه السلامة من إعجاز الآية أعلاه ومعاني بيان وتجليات ودلالات القرآن ٍلأن المراد من الألف واللام في الناس الجنس . والآية وعد كريم فيحمل على العموم والإطلاق في أفراد الزمان الطولية بالإضافة إلى معاني التشبيه في قوله تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ]( ) أي أنه سبحانه في كل زمان يبيّن آياته للناس بأبهى صيغة وأوضح الكلمات، وأسمى الحجج، وأظهر البراهين ومنها آية البحث التي هي باقية برسمها ولفظها وتلاوتها إلى يوم القيامة. قوله تعالى[وَجَنَّاتٌ] بينما ذكرت آية (سارعوا )( ) الجنة بصيغة المفرد[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] ( ) جاء ذكرها في آية البحث بلغة الجمع (وجنات) وفيه بيان لعظيم فضل الله في الآخرة، وهل الجمع بين الآيتين من المجمل والمفصل، وأن الجنة ذكرت في الآية أعلاه بالمفرد والإتحاد على نحو الإجمال , الجواب لا، فكل من الآيتين في مقام الترغيب بالسعي إلى الجنة والثناء على الله تعالى لإحسانه وسعة رحمته. ومن إعجاز القرآن أن وصفه للجنة باعث للناس لدخول الإسلام، ومدد للمسلمين لأداء الفرائض، وهو من الشواهد على وجود المدد السماوي في القرآن وإستدامة أثره، وبلوغه شغاف القلوب، وهو مناسبة كريمة لجعل المؤمن يحب الجهاد ويسعى في سبل مرضاة الله من غير تعب أو ملل، وعن جابر بن عبد الله قال: ندب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين الأنصار)( ). وفي صيغة الجمع(الجنات) ترغيب بالعمل الصالح، وطرد للشح من النفوس فإذ يتشاح الناس في الدنيا وتحصل الخصومة في المكاسب والحقوق فإن الجنات في الآخرة متعددة , وعن ابن عباس: جنةُ الفردوس، وجنة عدْن، وجنة النعيم، ودارُ الخلد ، وجنةُ المأوى، ودارُ السلام، وعِلِّيُّون)( ) وقيل ثمانية وقيل أكثر بلحاظ مضاعفات الكتاب والسنة. ولئن أُهبط آدم وحواء من الجنة بأمر من الله، فإنه سبحانه يتفضل بخلودهما والأنبياء والصالحين من ذريتهما في جنات تسع السموات والأرض، وليس ثمة أرض يهبط إليها الإنسان فأما إلى النعيم وأما إلى الجحيم . (وعن ابن عباس قال: قال الله عز وجل لآدم: ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟ قال: بلى يا رب وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا، قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كدا فأهبطا من الجنة وكانا يأكلان فيها رغدا فعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث فيها وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم داسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء)( ). وجاءت السنة النبوية بالإخبار عن مصاديق عن الجنة تكون في الدنيا للتذكير بنعم الآخرة والترغيب بها، وعن قتادة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدبور، والجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح)( )، وفيه إشارة إلى قوله تعالى[وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً]( )، أي أن الله عز وجل يبعث الريح على السحاب فيمتلئ ماءً، ومنافع هذه الريح للناس أعم وتكون لمزاج وصحة أبدانهم ومعاشاتهم وزراعاتهم، لتكون حسرة الكافر في الآخرة كبيرة، لحرمانه من النسيم العذب الذي كان يشمه في الدنيا. علم المناسبة ورد لفظ (جنات) في القرآن تسعاً وستين مرة ، منها تسع مرات بخصوص الدنيا ومباهجها والنعم التي جعلها الله فيها ليكون ذكرها ورؤيتها والسعي إليها والعناء والمشقة في تحصيلها مناسبة لإستحضار جنان الآخرة ولزوم العمل من أجلها ، قال تعالى[وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ]( ). وتتجلى معاني الرحمة والإعجاز بالتباين الموضوعي والكمي الذي تؤكده آية البحث في اللامتناهي في قصور وبساتين الجنة ، وقبل ثلاثة آيات ورد في سعتهابقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، والذي إتصل بها موضوع هذه الآية في بيان ثواب المتقين . وإذ ذكرت آية البحث جريان الأنهار تحت الجنات , وجاءت آيات أخرى في وصف الجنان , قال تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ]( )، فهل هناك تباين في الرتبة والدرجة بحيث يفوز المؤمن الذي على درجة عالية من التقوى بالنعم الأخروية الكثيرة ، والذين أدنى درجة ينال مراتب أخرى وكل على خير.
الجواب ان نعمة القصور والعيون والأمن والإستقرار والخلود عامة لكل أهل الجنان , ويفسر أكثر العلماء العيون بإعتبار أنها الأنهار, ولكنها أخص ولها معنى آخر وهو الماء النابع من الأرض وسيلان الماء في شغفات الجبال وما يسمى بالشلالات، ومنها ينابيع الماء والعيون المتفجرة،ولم يذكرالقرآن في الجنة الآبار لأن العيون أعم وأبهى منها، وللتباين بين جنات الآخرة والدنيا, نعم ورد عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول: إن الجنة مائة درجة، كل منها ما بين السماء والأرض، وأعلاها الفردوس وعليها يكون العرش، وهي أوسط شيء في الجنة ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس)( )، وقيل الفردوس بستان بالرومية عن مجاهد وذكر أن ابن عباس سأل كعباً عن الفردوس قال: هي جنات الأعناب بالسريانية)( ) .
وفي الحديث النبوي أعلاه بيان لموضوعية الدعاء كسلاح مبارك لأمور الدنيا والآخرة , وأنه من خصال التقوى التي تشير إليها آية البحث.
ومن السعة والعظمة في رحمة الله بالمؤمنين يوم القيامة قوله تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ]( ).
و في معنى النهر في الآية أعلاه وجهان:
الأول : إرادة الضوء والفسحة وبهجة النور , وقال الثعالبي : وهو كلام المفسرين)( ). وتشع الجنة بالأنوار في كل الأوقات ، وليس فيها ليل أو ظلام .
الثاني : إرادة معنى الأنهار وجريان الماء، وأستدل بقوله تعالى[يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً]( ).
ورد لفظ (أعدت) أربع مرات في القرآن، ومن الإعجاز في المقام مجيؤه مرتين بخصوص الجنة ومرتين فيما يتعلق بالنار مع والبيان الخالي من الترديد، والنص الممتنع عن الإجمال إذ ذكرت آية (وسارعوا) إن إعداد الجنة للمتقين، بقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ]( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين مسائل:
الأولى : يشمل موضوع الذين أعدّ الله لهم الجنة المتقين من الأمم السابقة.
الثانية : وجوب التصديق بالأنبياء والرسل من أبينا آدم والى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : بيان سمو مرتبة الذين يؤمنون بالأنبياء على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
الرابعة : تقوم التقوى بالتصديق بالأنبياء والرسل.
الخامسة : إكرام الله عز وجل للرسل بجعل التصديق بهم علامة التقوى والخشية من الله , وليبقى هذا التصديق في تجدده مع الأجيال مدخلا كريماً إلى الجنة والإقامة فيها، ويحتمل شرط دخول الجنة بلحاظ آية البحث والآية أعلاه وجوها :
الأول : كفاية خصال التقوى في دخول الجنة.
الثاني : الإجزاء بالتصديق بالله ورسله في دخول الجنة.
الثالث : الإكتفاء بأحد الأمرين أعلاه.
الرابع : تتعلق الآية أعلاه بالمسلمين من الأمم السابقة وإفادة معنى الإتقياء التسليم من الإسلام.
أما الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنة بقوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ]( )، فهي خاصة بالذين جعلهم الله[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس : بين الآيتين عموم وخصوص مطلق، فآية ( سارعوا )هي الأعم وقد تضمنت لزوم الإيمان بالله ورسله بقوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، فلا يصدق على الإنسان أنه متق إلا بالإيمان بالله ورسله وبه جاء القرآن والإيمان ركن التقوى.
ومن الآيات أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر من ذكر الأنبياء السابقين وتصديقهم وبما يفيد إكرامهم وإجلالهم وبيان جهادهم في سبيل الله لبناء صرح التوحيد.
قانون المصلحة
في علم الأصول قاعدة هي (تقديم الأهم على المهم) وهي أيضاً قاعدة عقلائية عامة يلجأ إليها الإنسان في مواطن الإختيار والترديد.
ومن إعجاز آية البحث أنها تتضمن هذه القاعدة، وتجعلها مصاحبة للإنسان بفطرته وسنخيته الإنسانية من غير اللجوء إلى التدبر والوسائط العقلية والحسية , فحتى مع التباين الرتبي في مدارك الناس عامة فإن للآية رشحات ومنافع منها:
الأولى : جذب المسلمين إلى مواطن المصلحة الدائمة , وإرادة المعنى الأعم من قوله تعالى[وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ]( )، بالسلامة من الآفات والوقاية من الأمراض , وبالنجاة وتلقي السلام من الملائكة يوم القيامة.
الثانية : الأخذ بأيدي المسلمين إلى الصراط السوي في أمور الدين والدنيا.
الثالثة : المنع من الترديد والتردد والإرتباك, قال تعالى[وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ]( ).
وتبعث الآية في مفهومها على دفع المفسدة , وليس من حصر للمفاسد التي تدفعها وترفعها هذه الآية، إذ أنها سبيل للتوبة والإنابة، وبرزخ دون التعدي والضلالة، لقد أراد الله عز وجل بالقرآن إصلاح المجتمعات وصيرورة هذا الصلاح سبباً للخلود في النعيم، والوعد بهذا الأمر العظيم وهو الخلود مناسبة للصلاح من غير أن يستلزم الأمر الدور بينهما للتباين الجهتي ولخروج الموضوع عن قواعد الدور بين شيئين أو أكثر فالخالق هو الله عز وجل لا يستطيع غيره الخلق، ولا يقدر على الوعد بالجنة أحد من الخلائق، ويتبين فيه التباين بين الخالق والمخلوق.
وكما إحتج إبراهيم عليه السلام على نمرود بالقول[فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ]( )، فكذا يحتج على الكفار مطلقاً بأنه لا يقدر على البشارة والوعد بالجنة إلا الله عز وجل، ويدرك الناس أن كل إنسان محتاج إلى هذا الوعد يوم القيامة، فجاءت آية البحث بموضوعه وحكمه لتبين قرب مصداقه الخارجي، وقد يأتي هذا الوعد الكريم جزاءً لفعل مخصوص من أفعال التوكل والإنقياد إلى أمر الله، (وفي الحديث القدسي المروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ، ثم إحتسَبَه إلا الجنة)( ).
وفيه بيان لقاعدة أخرى وهي أن الله عز وجل يهب الكثير المستديم على قضية في واقعة وحدث مكتوب في أجل مخصوص، لتكون المصيبة والفاجعة المؤلمة مناسبة للجوء إلى ذكر الله، وباباً للعفو والمغفرة، لتأتي مقدمات النفع الأخروي للإنسان على نحو قهري وإنطباقي.
ويمكن تأسيس قانون جديد باسم ( المصلحة الشخصية والنوعية في الآية القرآنية) وتتضمن كل آية من القرآن مصلحة للعبد وتدفع عنه مفسدة، وكذا بالنسبة للجماعة والأمة، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة بأن من علمه تعالى إنزال القرآن, وفيه مسائل :
الأولى : تأكيد تجلي معاني التقوى والأخلاق الحسنة على الألسنة والأركان والمعاملات.
الثانية : الحرب على المفاسد وبعث النفرة من القتل وسفك الدماء.
الثالثة : حضور التنزيل والنبوة بين ظهراني الناس, وتوارثهم لحفظهما وسننهما بالتصديق والعمل من قبل المسلمين, وورد الثناء عليهم في قوله تعالى[وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( ).
الرابعة : وجود أمة عظيمة في كل زمان وإلى يوم القيامة تحفظ القرآن رسما وتلاوة وحفظا وعملا .
الخامسة : تفضل الله سبحانه بالمصلحة في الآية القرآنية من وجوه:
الأول : بيان المصلحة.
الثاني : البعث للعمل بما فيه المنفعة.
الثالث : عدم تفويت فرص وأسباب المصلحة.
الرابع : المبادرة إلى العمل بما يجلب المصلحة، كما في قوله[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
الخامس : البشارة بالنفع العظيم كما في آية البحث.
السادس : الهداية إلى سبل الفوز بمواطن المصلحة.
السابع : إزاحة الموانع التي تحول دون تحقيق الغايات الحميدة .
الثامن : إتخاذ مصاديق المصلحة لإكتساب الحسنات والأمن من النار.
التاسع : تلاوة الآية القرآنية مصلحة قائمة بذاتها لما فيها من التدبر والثواب وأسباب الصلاح وتهذيب النفوس .
والمصلحة نقيض المفسدة، والجمع المصالح، ولم يرد لفظ المصلحة في القرآن مع قولنا بأن في كل آية مصلحة ومنفعة.
كما في آية السيف إذ يسمى عدد من آيات القرآن بآية السيف أو أنه أختلف في تعيينها ضمن آيات معينة تتضمن القتال مع أنه لم يرد لفظ السيف في القرآن.
وهل من تعارض في المصالح التي جاء بها القرآن بحيث تعمل قاعدة (تقديم الأهم على المهم) التي وردت في بداية البحث الجواب لا، فليس من تزاحم أو تعارض بين أفراد المصالح التي جاءت بها آيات القرآن وإن تلك المصالح متكثرة ومتجددة في موضوعها وماهيتها وزمانها مع أنه ليس من حصر للمصالح التي جاء بها القرآن، وتتخلف العقول عن إحصائها فضلاً عن بيانها وهو من أسرار تجدد علوم التفسير، وإستمرار الإقتباس من ذخائره.
والإخراج من كنوزه والإستنباط من درره ومسائله الفقهية والكلامية والعقائدية والأخلاقية.
وجاءت آية البحث بالمصالح الدنيوية والأخروية بالعهد من الله عز وجل بالجنة على التوبة والعمل الصالح، قال تعالى[وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ]( )، ليتعظ المسلمون من قصص الأمم السابقة ويحرصوا على العمل بمضامين هذه الآيات ويتعاهدوا سنن التقوى التي تؤدي إلى البقاء السرمدي.
بحث عرفاني
ومن إعجاز الآية أنها تجمع بين الأمل وإتباع الحق في أمر واحد، وهو حب الخلود في النعيم الذي لا زوال ولا إنقطاع له، وتلك آية في إصلاح النفوس وجعلها تنفر من إتباع الشهوات فيكره الإنسان اللذات المحرمة لأن فيها حجباً للمصلحة المتجددة، ولا يميل لشراء اللذة المؤقتة بسلامة وأمن دائم.
فإن قلت جاء القرآن بالنهي عن إستحواذ الهوى على الإنسان بقوله تعالى إلى داود عليه السلام[وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( )، والجواب تزجر الآية أعلاه عن الإنقياد إلى الهوى، وجاءت آية البحث بذات المضمون وصيرورة الهوى والرغائب تفنى وتندك في السعي لنيل البشارة التي جاءت بها الآية الكريمة.
وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كيفية إنشراح الصدر الوارد في قوله تعالى[فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ]( )، قال: نور يقذف فيه، فيشرح له وينفسح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال : الإِنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت)( ).
ومن الإعجاز في هذه الآية أنها تجمع الأفراد الثلاثة أعلاه، إذ تجعل الآية المسلمين يتسابقون في الخيرات لولوج عالم الآخرة بطمأنينة وسكينة، ويدركون أنه لا وفاء للدنيا مع أهلها ومريديها ومحبيها، ومن مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن الإستعداد للموت وليس السعي وطلبه بالذات أو الرغبة فيه، وفيه شاهد بأن الحديث أعلاه من تفسير وبيان قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ).
وهل من فرق بين السعي إلى الموت والسعي إلى الجنة الوارد في الآية أعلاه، الجواب نعم، لإرادة المؤمن إكتناز الحسنات من بقائه في الدنيا وإطالة أيامه في السعي إلى الجنة، وتكون الزيادة في أيامه في الدنيا مناسبة لفعل المزيد من الحسنات والذي يعني مضاعفتها بفضل الله عز وجل كما جاء في الإنفاق قوله تعالى[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
ومن رحمة الله وفضله العظيم أنه ذكر سبعمائة ضعف ثم تفضل بذكر المضاعفة، وإذ ذكر بالتفصيل عدد السبعمائة وهو زيادة عظيمة لا تطرأ على ذهن الإنسان وخياله الخصب وتمنياته، ولكن الله عز وجل جعلها حقيقة، ثم تفضل وجعل المضاعفة نكرة بقوله تعالى[يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ].
ولا يعلم أحد بخصائص ومنافع المغفرة والبلغة والطرق المؤدية إليها إلا الله عز وجل، فجعلها كنوزاً وذخائر بيد المسلمين يغترفون منها بالليل والنهار مجتمعين ومتفرقين.
ومن الإعجاز في البشارة القرآنية أنها تبعث الشوق في النفس للعمل بمضامينها والسعي لمقدماتها برغبة وحرص على طاعة الله عز وجل واليقظة لإستدامة الإمتناع عن معصيته والتي تصير فقاهة فطرية في التمييز بين الحق والباطل، وسبل الطاعة وظلمات المعصية .
ليكون من رشحات آية البحث تنمية ملكة الإيمان في نفس المسلم وجعله مهتدياً ومتوقياً بآية البحث من التفريط بالحقوق والواجبات ومتحصناً بها من تضييع صفات المتقين التي تذكرها الآيتان السابقتان لإدراك قانون في الإرادة التكوينية وهو أن خير الدنيا والآخرة بالعمل بما فيها من السنن، قال تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
بحث فلسفي
تتعلق معاني البشارة والأمن بمضامين الآية السابقة والتي إبتدأت بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً] وقد يكون طرف واحد وهو المرتكب للفاحشة , والطرف الآخر يقع عليه التعدي كما لو كان مظلوماً أو مكرهاً أو غافلاً.
وجاءت البشارة بالعفو مطلقة للمتحد والمتعدد من الفاحشة سواء من ذات الجنس والفصل أو مع الإختلاف ، ولو إستغفر آكل الربا ودافعه وشاهده وكاتبه عن ذات الفعل القبيح وتابوا إلى الله فهل تقبل توبتهم.
الجواب نعم، فعمومات المغفرة تشملهم , وإطلاق آية البحث ظاهر وعام ولا بد لآكل الربا من إعادته لصاحبه لأنه مال سحت وحرام وليس له إلا أصل القرض ، ومع عدم ووجود صاحبه فإلى ورثته، ومع تعذر معرفتهم والوصول إليهم فإلى الحاكم الشرعي والتصدق به بإعتباره مالاً مجهولاً، ليكون من منافع الإستغفار والتوبة ترشح البركة وعودة الحقوق إلى أهلها، وقطع طريق الحرام , والتنزه عن جمع المال الباطل والتعضيد والمؤازرة فيه، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
إذ فاز المسلمون بإصلاح ما يفسد في المعاشات والمكاسب بسلاح التوبة والإنابة إلى الله، والإقلاع عن الأسباب التي تحدث الخلل في المجتمعات والمقدمات التي تؤدي إلى الخسارة في النشأتين، لذا فلا يعلم منافع آية البحث والمصالح المترشحة عنها إلا الله عز وجل، فتفضل سبحانه ورد على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليكون ومن باب الأولوية عدم علم وإدراك الناس لأسرار ومنافع خلق آدم وصيرورته خليفة في الأرض إلا بالتنزيل والنبوة , وهو من [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
ومن خصائص الخلافة في الأرض تقومها بالإستغفار والتوبة التي هي سلاح لتعاهد مضامين الخلافة وعدم حدوث البينونة والبرزخ بين الإنسان وبينها، وتفضل الله عز وجل بوجود أمة مؤمنة في كل زمان تتجلى في أعمالها مصاديق ومعاني الخلافة وفيها وجوه:
الأول : إنها حجة على الناس.
الثاني : بيان فرد ومصداق زماني لقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فلو دار أمر الخلافة بين أمور:
الأول : حصوله في زمان مخصوص.
الثاني : وجود الخلافة في أزمنة متفاوتة بينها فترات قصيرة أو طويلة.
الثالث : إستدامة الخلافة في الأرض، وتحتمل قسمين:
الأول : إنحصار الخلافة بالقضية الشخصية كما في آدم عليه السلام، وقوله تعالى[يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ]( ).
الثاني : الخلافة أعم من القضية الشخصية، وقد تكون للإمامة والأمة المؤمنة .
والأرجح هو القسم الثاني من الوجه الثالث أعلاه , وفي إبراهيم عليه السلام ورد قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]( ).
وتتعدد في هذا الزمان الرئاسات والممالك والدول، وتستقل الشعوب بعاداتها والدول بأنظمتها وقوانينها فلا بد أن تكون خلافة الله حاضرة فيها ولو على نحو الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ولكن معاني الخلافة فيها تتجلى بقصد الخير والصلاح والسعي للحفاظ على القيم الأخلاقية التي تكون وعلى نحو الموجبة الجزئية مقدمة لتثبيت مفاهيم التوحيد وتترشح عنها من غير أن يلزم الدور بينها.
الرابع : دعوة الناس للإرتقاء إلى مراتب الإمامة ومحاكاتها والتقيد بسننها.
الخامس : بيان فضل الله عز وجل على الإنسان وإكرامه بنيله الدرجة السامية والرفيعة هي الخلافة.
لقد قسّم الفلاسفة اليونانيون الناس إلى خواص وعوام ورعاع وغوغاء، وجاء الإسلام بالإخبار عن مفهوم الخلافة والإكرام للإنسان مطلقاً، وتوجه القرآن لكل مكلف بالإنضمام إلى[خَيْرَ أُمَّةٍ]( )، ليكون بمرتبة الشرف والمثل العليا التي تترشح عن أحكام الشريعة الإسلامية والسيادة المطلقة على المخلوقات الأرضية، وتجرأ الإنسان بالسياحة في عالم الفضاء، والرحيل إلى الكواكب والأجرام السماوية.
وأولى مفكروا الغرب عنايتهم بالمنطق الأرسطي وإتخذوا منه أصلاً وقاعدة، وكأن تمييز العالم عندهم بحسب معرفته بآراء وأقوال الفلاسفة السابقين وكانت الكنيسة هي الحاكمة في باب الأفكار والنظريات، فسعت لجعل همّ المفكرين تعاهد الأحكام والسنن التي تقول بها، وحالت دون الإرتقاء الفكري بإستعمالها سلاح الرمي بالإلحاد أو مشابهة المسلمين كعدو لهم وهو الذي أفرزته الحروب الصليبية وما لحقهم من مصيبة الإنهزام أمام جيوش المسلمين.
وإذا أنعم الله عز وجل بنعمة على أهل الأرض فإنه سبحانه أكرم من أن يرفعها، ويتجلى في القرآن من وجوه:
الأول : إخبار الله عز وجل لصيرورة خليفة في الأرض.
الثاني : إحتجاج الملائكة على وجود من يفسد في الأرض ويقتل غيره بدون حق، مع أن آدم عليه السلام لم يعص الله عز وجل مما يدل على تعلق الإحتجاج بوجود وسوء فعل غير آدم، ولم يكن على ذات الخليفة على المعنى الأعم لما ورد حكاية عنهم [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ). أي أن الأصل هو إستدامة الخلافة وعدم إنقطاعها إلا أن يدل دليل يعتبر على هذا الإنقطاع كما لو تبين حصر الخلافة بآدم والأنبياء، والأرجح مصاحبة الخلافة للوجود الإنساني في الأرض، ويدل عليه إطلاق الآية أعلاه، ومضامين إحتجاج الملائكة بخصوص الخلافة.
ومن أسرار الخلافة في الأرض إمكان بذل الإنسان الوسع لبلوغ الغايات الحميدة، والتصدي لأفكار الضلالة، ومنع الفوضى، لتكون آية البحث من مصاديق الخلافة في الأرض من جهات:
الأولى : البعث لفعل الصالحات ونشر مفاهيم الصلاح والتقوى في الأرض.
الثانية : صيرورة مضامين التقوى عند المسلمين سبباً لجذب الناس إلى الإيمان وإشاعة مضامين الود والرأفة بين الناس.
الثالثة : لزوم السعي إلى المغفرة موضوع ومادة للنفرة من السيئات وإرتكاب الذنوب لإدراك حقيقة قبحها الذاتي وترتب الضرر على بقاء تبعاتها عالقة بالإنسان إذا لم يبادر إلى التوبة.
الرابعة : تؤكد الآية قانوناً كلياً في الإرادة التكوينية وهو حتمية الجزاء وتقومه على نوعية وجنس الأعمال في الدنيا.
الخامسة : البشارة بالجنة الواسعة دعوة وترغيب للناس للإيمان والتحلي بسنن التقوى، وهو آية من اللطف الإلهي بأن تتضمن الآية الإخبار عن الجزاء الحسن للمؤمنين، فيكون هذا الإخبار سبباً دائماً ومتصلاً لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات وهو من مصاديق علم الله عز وجل في تقويم وإصلاح ذات الخلافة في الأرض بضرب مستديم ومتجدد بتلاوة المسلمين لآية البحث بصبغة الوجوب في الصلاة وعلى نحو الإستحباب خارج الصلاة للتدبر في معانيها والتحصن بها.
وهذه التلاوة بقسميها من خصائص الخلافة في الأرض بأن تتلو أمة عظيمة جهرا وخفية آيات كلام الله الذي جعله عضداً وعوناً للخليفة في الأرض وطريقاً للهداية وهي من مصاديق الصراط ومقدماته الواردة في قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، فيسأل المسلمون الهداية إلى الصراط وهم قد بلغوا بعض مراتبه بذات تلاوة الآية أعلاه، وتلك آية في الرحمة الإلهية وأسرار الخلافة في الأرض ليكون العمل بمضامين آية البحث مقام إرتقاء ورفعة أخرى في مراتب الصراط المستقيم وتعاهداً لمنازل الخلافة في الأرض وتأكيداً لوراثتها وتوريثها للأبناء والذرية وهو من عمومات خاتمة آية البحث[وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]( )، الذين يعملون على تعاهد الخلافة في الأرض بالتقيد بأحكام النبوة وسنن التنزيل إلى يوم الدين.
قوله تعالى[تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]
من فضل الله عز وجل على المسلمين وتبيان حجبه على الناس إخبار آية البحث بوصف إضافي كريم للجنة، وذكر آية في بديع خلقها، وحسن حال أهلها ونعمها التي يفوق الواحدة منها نعم الدنيا مجتمعة، وقد نزل القرآن في الجزيرة العربية وليس من جداول أو أنهار، فدعت الآية من يدخل الإسلام إلى الصبر والسعي إلى الجنة حيث تجري الأنهار تحت أهلها وقصورهم، ولو جفت ونضبت بعض أنهار الدنيا وتصحرت بعض القرى والأمصار .
فهل يكون في آية البحث تذكير للناس بنعمة الأنهار في الدنيا، الجواب نعم، والآية إخبار عن مقامات المؤمنين في الآخرة من الذين كانوا في الدنيا في بلاد ذات أنهار أو لا.
قال الله تعالى في وصف مساكن المتقين في الجنة[لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( )، في بيان ثواب المؤمنين لصبرهم في مرضاة الله وأدائهم الفرائض، وتحملهم المشاق والأذى من المشركين، وقهرهم للنفس الشهوية والإمتناع عن المحرمات، وجهادهم في إصلاح الذرية لوراثتهم سنن التقوى وأمنهم من زلل الخطيئة والإنقياد للهوى لتكون الغرف عل هيئة الطوابق العالية.
وبالإسناد عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن في الجنة لغرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى والناس نيام”)( )، وروي مثله عن أبي مالك الأشعري يرفعه.
وصارت في هذه الأزمنة مصاديق لمثل هذه الغرف وللبناء العمودي بينما نزل القرآن في زمان لا يطرأ على ذهن الإنسان مثل هذا الإرتقاء العلمي لتكون مساكن الجنة من عمومات قوله تعالى[هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ]( ).
ويحتمل جريان الأنهار بالنسبة لطوابق البناء وجوها:
الأول : تجري الأنهار تحت كل طابق.
الثاني : لا تجري الأنهار ألا تحت الطابق الأرضي منها.
الثالث : صحيح أنها تجري تحت الطابق الأرضي لكن ليس من ثمة مسافة إضافية بين الطوابق العلوية والأنهار.
ويبين الحديث آداب للتقوى وأخلاقاً كريمة يتحلى بها المؤمنون وما للإنفاق والإطعام والكلام الحسن وقيام الليل من منافع عظمية وجزاء حسن في الآخرة.
و(قيل الغرف المبنية بعضها فوق بعض إشارة إلى العلوم المكتسبة المبنية على النظريات وأنها تكون في المتانة واليقين كالعلوم الغريزية البديهية)( )، ولكن الآية وعد كريم وإخبار عن الثواب العظيم الذي ينتظر المؤمنين في الآخرة وترغيب بالتقوى والصلاح، ودعوة للتسابق في فعل الخيرات.
والبحث المتبادر إلى الذهن تعلق الجريان بالماء، وليس ذات الأنهار تجري ، والتبادر من علامات الحقيقة وهو طارد للمجاز، ولكن الموضوع مختلف فهذا السبق إلى الذهن والتصور عند الإنسان مستقرأ من أنهار الحياة الدنيا وكونها أخاديد في الأرض يشق الماء طريقه فيها ويقع التباين من وجوه:
الأول : إذا إختلف الموضوع تبدل الحكم , فنعم وفيوضات الجنة أعظم وأكبر و(عن سهل بن سعد قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصف الجنة حتى إنتهى، ثم قال فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قرأ {تتجافى جنوبهم عن المضاجع…})( )، وقد يكون جريان ذات الإنهار من أفراد الحديث أعلاه وبديع صنع الله يوم القيامة.
الثاني : إختلاف أنهار الجنة عما هو في الحياة الدنيا أنها تجري في غير أخاديد وهو المروي عن مسروق( ) ولم يرفعه، أي أن مستوى ماء النهر أعلى من الأرض ولا يتجاوز الماء في حافتيه وطرفي العرض حداً معيناً وكأن حاجزاً شفافاً ومتيناً على طول النهر ومن جانبيه يمنع فيضانه.
والأخاديد: جمع أخدود وهو الشق المستطيل في الأرض كالنهر، والجمع أخاديد، يقال: خددت في الأرض خداً أي شققت وحفرت.
الثالث : جريان ماء الأنهار من غير أخدود يصدق عليه حركة ذات الأنهار ، إذ لا وعاء أرضي وأخدود وشق في الأرض لماء النهر ، فان قلت جاء قوله تعالى[أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا]( ).
الجواب الآية أعلاه جاءت من باب الإحتجاج والتأديب والمثال ، وإلا فانها تذكر الإطلاق في أنواع الثمار مع التباين في صلاح التربة والمناخ والطقس للثمار ، نعم الآية أعلاه بشارة الزراعة المغطاة وتهيئة المقدمات والتربة والأسباب لزراعة الثمار التي تحتاج إلى البرودة في المناطق الحارة وبالعكس، وفيه تذكير بجنة الآخرة.
الرابع : من نعم الله عز وجل على المؤمنين في الآخرة أن الأنهار على نوعين أنهار تجري في أخاديد وحفر من الأرض، وأخرى تجري على سطح الأرض، وقد تكون أنواع وكيفيات أخرى لجريان الماء، فلا غرابة أن تختص أنهار الجنة بورودها في آية واحدة أربع مرات وبأنواع متعددة من الأشربة ومنها محرم في الدنيا وهو الخمر.
الخامس : من خصائص الجنة تحقق رغائب أهلها، قال تعالى[لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ]( ).
السادس : ليس من دليل يمنع من العمل بظاهر الكتاب في المقام خصوصاً مع القول بحجته.
وجاءت آية البحث لتبين أن جريان الأنهار وكثرة الثمار ليس عن جهد أو مقدمات وإنفاق أموال طائلة بل هو أجر وجزاء من الله عز وجل.
وأخرج عن أسامة بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى حمزة بن عبد المطلب يوماً فلم يجده فسأل امرأته عنه؟ فقالت: خرج آنفاً أو لا تدخل يا رسول الله؟ فدخل فقدمت له حيساً فأكل فقالت: هنيئاً لك يا رسول الله ومريئاً لقد جئت وأنا أريد أن آتيك فأهنيك وأمري، خبرني أبو عمارة ( ) أنك أعطيت نهراً في الجنة يدعى الكوثر فقال: أجل وأرضه ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ)( ).
قوله تعالى[خَالِدِينَ فِيهَا]
الخلود هو طول المكث والتأبيد وبينه وبين البقاء عموم وخصوص مطلق، فكل خلود هو بقاء وليس العكس، ومن خصائص الخلود أنه بقاء له إبتداء .
وبين الدوام وبينه عموم وخصوص مطلق، فكل دوام هو خلود، وليس العكس، لأن الدوام ينبسط على أفراد الزمان المقدرة وغير المقدرة، لذا يقال أن الله عز وجل دائم، ولا يقال: إنه خالد.
وجاءت آية البحث بالإطلاق في أمور:
الأول : إرادة المؤمنين والمؤمنات الذين يعملون الصالحات.
الثاني : خلود وإستدامة بقاء المؤمنين والمؤمنات.
الثالث : حصر بقائهم الدائم في الجنة فلا يغادرونها إلى غيرها.
والأصل في الحال أنه ملازم لعامله من جهة الوقت وأفراد الزمان، كما في قوله تعالى[وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ]( )،
فيكون وقت خروجه من البيت هو نفسه وقت كونه قاصدا الهجرة والفرار بدينه ، ليكون من معاني الحال الفوز بالثواب على هيئة الإرتحال إذا كان في سبيل الله، وقصد مرضاته، وإرادة الهرب بالدين، والحفاظ على النفس والإعراض عن الكفار، قال تعالى[يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : قد تتفرع عن الحال حال أخرى مثلها وإن لم تعرب حالاً، كما لو كان تقديره: ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله صابرا) ويكون في إصطلاح علم الأصول من المطلق والمقيد.
الثانية : يكون الحال لفظاً متحداً ومتعدداً.
الثالثة : يأتي إعراب اللفظ مردداً بين أن يكون حالاً أو تمييزاً أو مفعولاً ثانياً، وفي لفظ(هادياً) في قوله تعالى[وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا]( )، قيل هو حال أو تمييز.
الرابعة : قد يتأخر الحال عن عامله في أفراد الزمان الطولية كما في قوله تعالى[سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ]( )، فإن الخلود متأخر عن زمان الدخول أي أمرنا بالخلود فيها.
الخامسة : قد يستمر الحال مع تغير العامل والموضوع، وكأنه من المصدر واسم المصدر، كما في قوله تعالى[وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا]( ).
السادسة : تقديم زمان الحال على عامله، كما في قوله تعالى في الزينة والطيبات من الرزق[قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( )، وفي هذا التعدد آية بأن تتخلف القواعد النحوية عن الإحاطة بدلالات اللفظ القرآني، مع الإقرار بأن هذه القواعد طريق مبارك، ونهج سليم لمعرفة معاني ألفاظه.
ويحتمل الخلود في الآية وجوهاً:
الأول : الخلود والبقاء الدائم في الجنة.
الثاني : إرادة الخلود في الجنة التي تحتها الأنهار.
الثالث : اللبث الدائم في المغفرة لقوله تعالى[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ] وبلحاظ أن الفوز بالجنة فرع المغفرة.
الرابع : إرادة الخلود في المغفرة والجنة والأنهار التي تحتها.
الخامس : الخلود في رحمة الله عز وجل ليشمل الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فتتجلى الرحمة الإلهية بالمغفرة , وأما في الآخرة فالجنة الواسعة، فإن قلت كيف يكون الخلود في المغفرة، الجواب انه ليس من حساب آخر ولا تجدد للمؤاخذة بالذنوب التي في الدنيا.
وليس من تعيير أو تذكير بها، أو إطلاع لأهل الجنة على بعض معايب وذنوب بعضهم وليس من همس في الجنة على ما إرتكبه أقران وأفراد منهم في الدنيا من الفواحش والذنوب وإنه لم يدخل الجنة إلا بفضل الله ورحمته, والكل منقطع إلى التسبيح والشكر لله, وفي التنزيل[وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
ويحتمل ذكر الذنوب بين أهل الجنة وجوهاً:
الأول : بعد إستقراره في الجنة يذكر ويعدد المؤمن ذنوبه والفواحش التي إرتكبها في الدنيا لبيان أن الله عز وجل قد تفضل وغفرها له.
الثاني : ذكر شطر من تلك الذنوب بما يؤكد أنه لولا رحمة الله لما دخل الجنة.
الثالث : لا يذكر المؤمن من الذنوب إلا ما أذن الله عز وجل له به بالذات والحال والأوان.
الرابع : الحصر في الذين يذكر المؤمن أمامهم الذنوب كما لو كان بخصوص الأزواج والحور العين، أو الغلمان في قوله تعالى[يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ]( ).
الخامس : يأذن الله عز وجل للملائكة البوح ببعض ذنوب المؤمن وفيه صور:
الأولى : بحضرة ذات المؤمن.
الثانية : في حضور المؤمن وأمام أزواجه وذويه.
الثالثة : عند الملائكة الآخرين.
الرابعة : أمام المؤمنين الآخرين من أهل الجنان.
السادس : يذكر المؤمن ذنوبه التي غفرها الله عندما يأمره الله به.
الســابع : ليــس من ذكر لتلك الــذنوب أو إســتحضار لها، لأن الله عـز وجل ستر عورات وعيوب المؤمنين يوم القيامة، وهو المائز بينهم وبين الكفار الذين يتبرأ بعضهم من بعض , قال تعالى[الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا]( ).
الثامن : التباين الموضوعي في ذكر الذنوب يوم القيامة فليس فيها فضح أو أذى لصاحبها إنما هي مناسبة لشكره لله سبحانه .
والصحيح هو السابع , وهو من فضل الله وعمومات قوله تعالى[فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
قوله تعالى[وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]
إبتدأ هذا الشطر من الآية بحرف العطف (الواو) وفي الأجر في الآية وجوه:
الأول : إرادة الجزاء بالجنة الواسعة.
الثاني : المراد من الأجر هو الخلود في النعيم.
الثالث : جريان الأنهار تحت الجنان.
الرابع : الجامع المشترك من الجزاء المذكور في هذه الآية، من الجنان وجريان الأنهار تحتها والخلود فيها.
الخامس : الأجر أمر مبارك آخر غير أفراد الجزاء المذكورة في هذه الآية.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة والشواهد على فضل الله على المسلمين في النشأتين , فإن قلت يتجلى في الآية مصداق الفضل العظيم في الآخرة، فما الدليل على إرادة فضل الله في الدنيا في ذات الآية , الجواب من وجوه:
الأول : نزول القرآن بالإخبار عن الجزاء الحسن للمتقين.
الثاني : الشهادة من الله عز وجل للمسلمين بأنهم عاملون في مرضاته.
الثالث : البشارة بالجزاء العظيم، وكل فرد من أفراد البشارة المذكورة في الآية فضل ونعمة عظيمة من الله لما فيها من صبغة العهد.
الرابع : ذات البشارة باعث على المبادرة إلى التوبة.
الخامس : تعدد ضروب البشارة، وهذا التعدد بذاته من فضل الله على المسلمين، ومصاديق البشارة في الآية على وجوه:
الأول : اسم الإشارة(أولئك) بما يفيد الثناء والمدح وعلو المنزلة.
الثاني : الجزاء العظيم على نحو المتعدد والكثرة والجمع.
الثالث : البشارة بالمغفرة ومحو الذنوب كلها لأصالة الإطلاق، قال تعالى[قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( ).
الرابع : صدور المغفرة من الله عز وجل (مغفرة من ربهم) وهذه النسبة وعد كريم وتشريف للمسلمين، ودعوة لهم للجوء إلى الله عز وجل بالدعاء والإستغفار فهو وحده القادر على العفو والمغفرة.
الخامس : مجي الآية بأعظم وعد في الوجود تفضل الله عز وجل بجعله خاصاً بالمؤمنين وهو من عمومات قوله تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ]( )، لما في الوعد بالجنة من اللطف الإلهي والإكرام في الجنة بجهد وسعى وإدخار.
فكل مرة يستغفر المسلم ربه أو يعمل عملاً صالحاً يأتيه الجواب من عند الله(نعم أجر العاملين) وهل ينحل الخطاب في الآية وتقديره(ونعم أجر العامل).
الجواب نعم، من وجوه:
الأول : قد يأتي الإستغفار ثمرة لجهد شخصي، وتدبر من العبد في الآيات الكونية، وعند الإنصات لآية البحث.
الثاني : من رشحات الإستغفار أنه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر في أثره ، والإنصات له وتلقيه بالقبول حسنة.
الثالث : في الإستغفار دعوة للناس لمحاكاة صاحبه والإتيان بمثله، قال تعالى[قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي]( ).
الرابع : الإستغفار مقدمة وطريق لعمل الصالحات، وبرزخ دون ركوب السيئات.
والآية من ثناء الله عز وجل على نفسه وبديع صنعه وحسن الجزاء الذي ينفرد به سبحانه وكما أن الربوبية المطلقة على الموجودات والخلائق لله عز وجل فإنه وحده القادر على الجزاء بالجنة، والذي يستحق من العباد السعي إليه بجد ودأب وإخلاص، قال تعالى[لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ]( ).
وفي الآية شكر للمتقين الذين يعملون الصالحات، فهي وثيقة سماوية خالدة بخصوص مدح ذات الأجر الذي يتفضل الله عز وجل به على المؤمنين , وفي الآية مدح وثناء بدلالة (نِعم) وهو اسم يأتي للمدح، وفيه وجوه :
الأول : مدح الله عز وجل لنفسه، فهو الذي يجازي المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ولا يقدر على هذا الجزاء إلا الله عز وجل.
الثاني : تحقيق الوعد الإلهي في الآخرة، وتنجز مضامين آية البحث بالمصاديق الواقعية يوم القيامة.
الثالث : الثناء على ذات الأجر من جهات:
الأولى : عظمة هذا الأجر والثواب.
الثانية : إستدامة وتأبيد الأجر في الآخرة.
الثالثة : إنعدام الفترة والإنقطاع فيه.
الرابع : مدح المؤمنين الذين يعملون الصالحات , لذا ذكر تعلق الأجر بالعمل بقوله تعالى (أجر العاملين).
الخامس : البهجة والبهاء والهناءة التي تتغشى أهل الجنات.
السادس : حسن عاقبة المؤمنين وغبطة أهل المحشر والخلائق لهم.
السابع : الثناء على المؤمنين لصبرهم وجهادهم في سبيل الله، وإطلالة الملائكة عليهم كل آن , قال تعالى [وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
الثامن : إختصاص المؤمنين بالنعيم الأخروي وإنفرادهم بسكن قصور الجنان .
التاسع : المدح للذين ذكرتهم هذه الآيات ومجيؤها معطوفة وبيانا لقوله تعالى[ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ) إذا إختار المتقون الجهاد في مرضاة الله وإتخذوا من الدنيا مزرعة للآخرة ، قال تعالى[وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ]( ).
أختتمت الآية بثلاث كلمات، وردت كل واحدة منها بموضوع ودلالة مستقلة تتضمن الإطلاق في الصفة والحكم مع التداخل بذات الصيغة مع مضامين الكلمتين الأخيرتين، وتلك آية في إعجاز القرآن بأن تكون معاني الكلمة الواحدة كثيرة ومتعددة ثم تأتي الدلالات والمعاني التي تترشح عن إجتماعها بغيرها في ذات الجملة لتكون بالذات والمفهوم مما يصعب إحصاؤه, وهذه الكلمات هي:
الأولى : صيغة المدح والثناء (نِعم) التي تجعل النفوس تشرئب وتتطلع إلى معرفة الذين فازوا بمرضاة الله، ونالوا الثناء منه تعالى للعمل في زمرتهم والتحلي بأخلاقهم وإتيان ذات السنن التي تفضل الله عز وجل بالثناء عليها وعلى أهلها.
وهل في فعل المدح والثناء (نعم) دعوة للعمل والسعي في سبيل الله الجواب نعم، إذ أنها تبعث الهمم وترقى بالإنسان إلى مراتب الكمال في العمل الهادف بقصد القربة إلى الله.
الثانية : لفظ(الأجر) وما فيه من الدلالة على أن الدنيا دار إختبار وأن وراءها جزاء على نحو الحتم والقطع، وأن الأجر بيد الله، فهو الخالق والباعث للناس من جديد ليقفوا للحساب.
الثالثة : لفظ(العاملين) وما فيه من الدلالة على إرادة عمل الصالحات، وهل الإستغفار الذي ذكرته الآية السابقة من العمل أم أنه قول محض، الجواب هو الأول، وهو سعي وقصد للتوبة والإنابة.
علم المناسبة
وردت جملة (نعم آجر العاملين ) ثلاث مرات في القرآن كل مرة تأتي خاتمة للآية الكريمة ، وجاءت في هذه الآية بالثناء من الله عز وجل على المؤمنين الذين يتنعمون بالإقامة في الجنة جزاء وفضلاً من الله ، ويدل عليه ما ورد في سورة العنكبوت في وصف عاقبة المؤمنين الذين يعملون الصالحات[لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]( ).
إذ أخبر الله عز وجل بأنه هو الذي ينزل المؤمنين غرفاً وقصوراً في الجنة، مما يدل على أن سكنهم ومواضع إقامتهم في الجنة ليس بيد الملائكة بل بيد الله عز وجل سبحانه .
وتحتمل خاتمة الآية[وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]( ) وجوهاً:
الأول : إنها ثناء من الله عز وجل على نفسه في حسن مجازاة المؤمنين، لإستصحاب ذات المعنى في آية البحث والآية المتقدمة.
الثاني : إنه دعاء وثناء وشكر من أهل الجنة لله عز وجل، بلحاظ نظم الآية وسياق الكلام فيها.
الثالث : إرادة المعنى الأعم ، فالله عز وجل هو الذي يقول يوم القيامة مثلما قال في آية البحث (ونعم أجر العاملين) ويقولها المؤمنون أيضاً ليعلم المؤمنون من جميع الأحقاب ومن الأمم السالفة بآية البحث ومضامنيها.
ولتنبسط شهادتهم بأن القرآن حق وصدق على الدنيا والآخرة، وإذا كانت تلاوة المسلمين لآية البحث في الحياة الدنيا عبادة وإكتنازا للحسنات فان تلاوتهم لها في الآخرة شكر لله وحمد له على عظيم نعمته ، وإنجاز وعده.
بحث أعجازي في بلاغة القرآن
من البديع(المبالغة) وهو في اللغة: بلوغ حد الإستعقاء والغاية، والمغالاة: الزيادة في الشيء الذي له وجود وحقيقة , والمبالغة في الإصطلاح هي بلوغ المتكلم في كلامه حداً مبايناً للواقع أو مستحيلاً، ومن الناس من يرفض المبالغة لمنافاتها للحق ولإنعدام مصداقها الواقعي ومنهم من يمضيها ويجيزها , ومن صيغها : أعذب الشعر أكذبه.
ومشهور العلماء والأدباء ذهب إلى التفصيل، فرضيوا من المبالغة بما هو حسن وجميل ، ورفضوا المستهجن منه أو الذي يتقوم بالكذب أو يبتنى على الخيال المحض.
ومن الحسن المبالغة في الخلق الكريم وإقراء الضيف والعفو والصفح عن الجرم البالغ.
وقال التفتازاني(وتنحصر المبالغة (في التبليغ والاغراق والغلو) لا بمجرد الاستقراء بل بالدليل القطعي. وذلك (لان المدعى ان كان ممكنا عقلا وعادة فتبليغ كقوله فعادى كقوله فعادى عداءً بين ثور ونعجه دراكاً، فلم ينضح بماء فيغسل) ( )،أي أن فرسه أدرك ثوراً ونعجة في مضمار واحد ولم يعرق، وهو أمر ممكن عقلاً وعادة.
ولكن ورد التبليغ بمعنى آخر وهو أقرب مما في المقام وأظهر منه وإرادة المصدر فيما يتوصل به إلى الغايات الحميدة المتعددة والتبليغ من البلاغ، كالتسليم من السلام . قال تعالى[هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
والمبالغة غير التبليغ ولا بأس بإيجاد إصطلاح آخر لقسم المبالغة هذا
ومن البلاغيين من إستدل على الغلو المقبول بقوله تعالى في شجرة الزيتون[يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
وإن فعل المقاربة (يكاد) جعل المبالغة في موضوع إضاءة الزيت ببريقه اللامع أمراً مقبولاً.
والمختار أنه ليس من مبالغة في آيات القرآن ، فليس من معنى من معاني ألفاظ وكلمات القرآن إلا وهو مقبول ، ووردت الآية أعلاه كمشبه به والمشبه هو نور الله ، باعتبار أن العقول تعجز عن تصور نور الله عز وجل والمشبه به عادة يكون أظهر وأبين .
وتذكر الآية مسألة الشجرة التي لا شرقية ولا غربية كأنها في سفح من الجبل لا تطلع عليها الشمس من جهة المشرق ، ولا تصلها خيوط شعاعها من جهة الغرب، ويكاد زيتها وهو مخ الزيتون من شدة صفائه وضيائه يضىء وإن لم يصله مصدر لهب .
ومع أن علماء التفسير ذكروا وجوهاً منها إرادة قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها أن القرآن هو نور الله.
وفي هذا الزمان جاءت زراعة المختبرات والتناسخ النباتي وقد يتم تحسين الحاصل والزيت حتى يكاد يقارب درجة الإشتعال الذاتي , وهل في الآية دعوة للإرتقاء في الزراعة وتوظيف العلم فيها , الجواب نعم . وتلك آية في أمثلة القرآن والخالية من المبالغة بمعناها اللغوي والإصطلاحي وما تتضمنه من الجهاد الإنساني العام لتوظيف العلم لأمور :
الأول : أكل الطيبات .
الثاني : تحسين الغذاء وكأن فيه إشارة إلى إقتراب أوان الدخول إلى الجنة ، وأكل المؤمن من ثمراتها ، فان قلت نِعم الإرتقاء في علوم الزراعة عام ويتصف بالإنتشار السريع بين الناس والدول والشعوب فيتنعم به البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، والجواب إنه دعوة للناس للتوبة والإنابة وحمل النفس على السعي إلى الجنة .
الثالثة : هداية الناس لعدم الخوف من زيادة النسل . وحثهم على محاربة الفقر والجوع ، قال تعالى[نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ]( ).
بحث بلاغي
من سنن الخطاب عند العرب مخاطبة الحاضر، ثم تحويل الخطاب إلى الغائب أو بالعكس، من غير أن ينصرف ذهن السامع إلى إرادة البعيد أو الغير مطلقاً، ويسمى(الإلتفات) واللفت ليّ الشيء عن جهته، (ولَفَتُّ فلاناً عن رأيه أي صَرفتُه عنه، ومنه الإلتفات)( )، وهو من أسرار لغة القرآن، فتتغير جهة الخطاب في القرآن ولكن السامع يدرك إتحاد المعنى والجهة.
وفي حديث حذيفة: إِنَّ مِن أَقْرَإِ الناسِ للقرآن مُنافِقاً لا يَدَعُ منه واواً ولا أَلِفاً يَلْفِتهُ بلسانه كما تَلْفِتُ البَقرةُ الخَلى بلسانها)( )، ومن خصائص الإلتفات أن تغيير وتحول لغة الخطاب بين المتكلم والمخاطب والغيبة يزيد من بلاغته ويجذب الأسماع ولا يبدل المعنى، ومنهم من يعرف الإلتفات بمعنى أعم من صيغة الخطاب، فذكروا مثلاً قول أبو الشغب من البسيط:
فارَقْتُ”شَغْبا”وقد قُوِّسْتُ من كِبَرٍ
لَبئْسَتِ الخَلَّتانِ الثُّكلُ والكِبَرُ)( ).
إذ ذكر مصيبته بفقد إبنه وصيرورته محدودب الظهر، ثم بين قاعدة كلية بغزو الأذى والمشقة عند إجتماع صفة الثكل والشيخوخة.
وعلى المعنى الأعم للإلتفات تكون خاتمة الآية منه , فبعد إقتران الثناء بالثواب العظيم للمؤمنين جاءت خاتمة الآية ببيان قانون كلي من وجوه:
الأول : الأجر الكريم في الآخرة لأهل التقوى والخشية من الله.
الثاني : التقوى ومصاديقها عمل حسن مبارك.
الثالث : بعث المؤمنين لعمل الصالحات .
الرابع : بيان عظيم الرحمة الإلهية في الآخرة .
وعلى فرض أن الآية ليس فيها من الإلتفات بالمعنى الإصطلاحي بلحاظ المعنى الأخص له، وهو المختار فإن كل كلمة منها تجعل الإنسان تالياً أو مستمعاً ملتفاً إلى مواضيعها سابحاً في رياضها، متدبراً في دلالاتها ومعانيها، وتطرد الآية الكريمة بذاتها ودلالاتها الملل عن النفوس، وتمنع من تسرب الغفلة إلى النفوس.
بحث كلامي
تذكر آيات القرآن خلق آدم بالبيان والخصوص من جهة تفضيله وكيفية خلقه وتضمنه آيات تدل على إكرام الله عز وجل له، ثم أسكنه جنته , وفي التنزيل[وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ]( ).
وترشح الإكرام على ذرية آدم بالأثر والذات وبلحاظ الآية أعلاه وخلق الناس وتصويرهم قبل الأمر للملائكة بالسجود، ويأتي إكرام إضافي للناس على نحو الإجتماع والإفتراق بلحاظ التقوى وأسرار الخلافة.
لبيان تعدد وكثرة النعم التي تفضل الله عز وجل بها على الناس وقدرتهم على السعي في أقطار الأرض وقهر أمواج البحر باتخاذها سبباً للكسب والإنتقال إلى أطراف أخرى من الأرض , وقد تجلت آيات في هذا الزمان باكتشاف وإستخراج ثروات من تحت مياه البحار العميقة .
وهل الناس أكثر أم ما سخّر لهم الله عز وجل من البهائم والدواب والزراعات والجمادات وكنوز السماء كالأمطار , والثروات المعدنية من باطن الأرض.
الجواب هو الثاني سواء بلحاظ العدد أو الكم أو كفاية وحاجة الناس وهو أمر يتجلى للحواس والعقول، وهو من تقدير الله للأقوات والزيادة فيها، ومن عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( )، إذ أن الآية أعم من إختصاص كل طرف أعلاه من الأنفس والآفاق بآيات معينة، فمن مضامين الآية أمور:
الأول : الدلالات الباهرات التي تترشح عن إجتماع الأنفس والآفاق.
الثاني : إنتفاع الناس من آيات الآفاق، بما يقودهم إلى مسالك التقوى لتترك بدائع الخلق آثاراً مباركة على الناس في أخلاقهم وأفعالهم، ومن بديع صنع الله في المقام وقوع آيات كونية طارئة خلاف النظام والنسق الثابت لها في الوجود الخارجي والذهني كما في ظاهرة الكسوف والخسوف والزلازل والصواعق ليلتفت الناس أن نظام الكون بأمر وآية من عند الله ، فالكسوف مثلاً من عمومات الآية أعلاه، وكذا إنتظام الكون.
وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهُِيمُ ابن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالُوا: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَلاَ وَإِنَّهُمَا لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا كَذَلِكَ، فَافْزَعُوا إِلَى الْمَسَاجِدِ، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ فِيمَا نَرَى بَعْضَ:? الر. كِتَابٌ? ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ اعْتَدَلَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ، فَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الأُولَى)( ).
الثالث : أثر آية البحث في إصلاح النفوس ودخول الناس في الإسلام جماعات وأفواجاً، وما يترتب على هذا التحول من النعم والرزق الكريم من السماء والأرض، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الهداية والصلاح سبب لنزول ضروب الرزق.
الصغرى : العمل بآية البحث هداية وصلاح.
النتيجة : آية البحث سبب لنزول ضروب الرزق.
وهل قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا] خاص بالدنيا بلحاظ مجئ حرف الإستقبال للقريب(السين) وأن الآية لم تقل (سوف نريهم) أم أنها عامة مطلقة الجواب هو الثاني من جهات:
الأولى : إرادة المعنى الأعم لأمور الدنيا والآخرة.
الثانية : من الآيات ما يتعلق بعالم البرزخ، وموت الإنسان ذاته آية من عند الله بالذات والتباين في كيفية الموت، ومن يزوره الموت من جهة الصغر والكبر والفجأة والمرض.
الثالثة : جاءت آية البحث لتجعل عالم الآخرة ليس بعيداً، وتضمنت البشارة لترغيب الناس بالتفكر في قربه ودنو أوانه، ولطرد الغفلة عن الناس بخصوص الإستعداد له ومقدمات الفلاح فيه، قال تعالى[يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا] ( ).
وبالإسناد عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال : ما أحسنها! إلا موضع اللبنة، فأنا موضع اللبنة فختم بي الأنبياء( ).
ومن الإعجاز في التعدد في الآية أعلاه بذكر آيات الآفاق وآيات الأنفس بصيغة العطف التي تدل على المغايرة وهو لا يمنع من الجمع بينهما، وهو من أسرار العطف في الكلام وبقرينة الجامع المشترك بينها، من جهات:
الأولى : إن الله عز وجل هو الذي يري الناس الآيات، وهو من لطفه سبحانه بهم جميعاً، وأسباب تقريبهم إلى منازل الطاعة.
الثانية : جاءت الآية بحرف الإستقبال للقريب (سنريهم) وفيه بيان لعظيم قدرة الله وفضله على الناس بحضور الآيات وقربها زماناً ومكاناً من الناس.
الثالثة : مجيء الآية أعلاه ضمن سياق الإنذار والتحذير للكفار مع هذا فإنها جاءت بشآبيب الرحمة , ولم يرد لفظ (آفاق) بصيغة الجمع في الآية أعلاه من سورة فصلت.
الرابعة : صيرورة الآفاق والنفوس محلاً لآيات الله لقوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا] وذات الآفاق والنفوس هي من آيات الله، وتأتي آيات إضافية يدرك الناس معها وجوب عبادة الله عز وجل وأن الأشياء في وجودها وإستدامتها بمشيئة الله.
وهذه الآيات رحمة للناس، وهي إنذار للكفار مما قد يتعقبها من العذاب العاجل أو الآجل، قال تعالى[وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ]( )، وتلك الآيات مناسبة ومقدمة للفوز بمصاديق البشارة الواردة في آية البحث باللبث الدائم في الجنة.
ويحتمل مجيء الآيات في(سنريهم آياتنا) وجوهاً:
الأول : مجيء الآيات على نحو دفعي.
الثاني : التعدد والكثرة في الآيات في كل زمان ومكان، وفي الليل والنهار.
الثالث : إيصال وتتابع الآيات.
الرابع : توالي الآيات على نحو الإنفراد.
الخامس : مجيء الآيات بلحاظ مناسبة الموضوع والحكم والناس، وغيابها أحياناً.
والصحيح هو الأول والثاني والثالث، لأن قوله تعالى(سنريهم) وعد كريم من الله عز وجل ويفيد الإطلاق والكثرة.
وهل الآيات تنجيزية أو تعليقية الجواب إنها فضل من عند الله فتأتي منجزة غير معلقة على سبب مخصوص وكل آية جذب لمنازل الإيمان، ومن لم ينتفع بعدد منها تتوالى عليه الآيات.
ولماّ كانت الآيات الكونية وآيات النفوس طريقاً إلى الجنة والخلود في النعيم، ففي آية البحث أمور:
الأول : إنها طريق إلى التدبر في هذه الآيات , وليس من دور في المقام للتباين الجهتي.
الثاني : ذات آية البحث من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( )، وهل هي من آيات الآفاق أو آيات النفوس.
الجواب إنها من الجامع المشترك بينهما، أما بالنسبة للنفوس فهي إصلاح لها، ودفع للأخلاق المذمومة ومفاهيم المعصية، وأمّا بالنسبة للآفاق فإن السعي إلى الجنة سبب لنزول الرزق الكريم وتغشي البركات للناس في أبدانهم وأرزاقهم وأعمالهم، وفي وصف الجنة، ورد قبل ثلاث آيات قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث : من الآيات في الأنفس قوله تعالى في آية البحث (مغفرة من ربهم) فالمغفرة آية عظمى تتغشى فيوضاتها العبد في الدنيا والآخرة، وهي من عمومات قوله تعالى(سنريهم آياتنا) من جهات:
الأولى : فوز العبد بالمغفرة رحمة به وآية وهبة من الله.
الثانية : إنتفاع الغير من نيل المؤمن المغفرة.
الثالثة : إتخاذ المغفرة سبيلاً لإكتساب الحسنات.
الرابعة : التوفيق لمرتبة المغفرة مدخل كريم لرؤية الآيات وإدراك ماهيتها وأسرارها.
ومع أن الآيات من اللامنتهي فكل واحدة منها جذبة إلى الإيمان ودلالة إلى الجنة , وهو من مصاديق اللطف الإلهي بتقريب الناس لسبل الهداية، بلحاظ توالي النعم على الإنسان، وقيام المسلمين بالإجتهاد في عبادة الله وفيه إصلاح لأنفسهم ودعوة لمنازل الإيمان والتقوى، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، بدفع وتنحية الناس عن منازل الخزي والذل والهوان بإرشادهم للإيمان ونبذ الكفر والضلالة والشقاق.
وهل الخزي الذي ينزل بالكفار في الدنيا من رحمة الله، الجواب نعم، وإذ يتعلق الخزي بفرد وموضوع متحد وعرض غير مستقر وهو الكفر فإن الرحمة الإلهية والنفع منه متعدد ومتجدد لما فيه من أسباب التوقي والحيطة من الذنوب والمعاصي.
ومن الإعجاز في القرآن أن تأتي آية تتضمن الإنذار والتوبيخ للكفار والظالمين، فتعقبها آية في البشارة والثواب العظيم على الإيمان والعمل الصالح، أو العكس، إذ جاءت آية البحث بالبشارة بالجنة واللبث الدائم في النعيم للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ويبادرون بشوق وتدبر إلى التوبة والإنابة.
وقد تقدم في الجزء الرابع عشر أن الحياة الدنيا لا يصلح أن تسمى (دار الخزي)( ) لوجوه:
الأول : لا يصيب الخزي في الدنيا إلا فريقاً من الناس بالعرض وسوء الفعل، وهم الذين ينقضون الميثاق والعهد الإلهي، والذين يصرون على الكفر والضلالة.
الثاني : الخزي أمر متزلزل بخصوص الأشخاص والجماعات والزمان، لأن باب التوبة مفتوح لو إجتمع أهل الأرض والسماء على غلقه لعجزوا، وتلك آية في الوحدانية والإطلاق في ربوبية الله للخلائق وفي سعة رحمته بالناس جميعاً , فليس من برزخ وحاجب بين رحمة الله والعباد.
الثالث : ليس من إستقرار للخزي فقد يطرأ على الفرد والجماعة ثم يرفعه الله عز وجل بفضله , قال تعالى[إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ]( )، وعن ابن مسعود عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إن يونس دعا قومه فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب فقال: إنه يأتيكم يوم كذا وكذا
ثم خرج عنهم وكانت الأنبياء عليهم السلام إذا وعدت قومها العذاب خرجت فلما أظلهم العذاب خرجوا ففرقوا بين المرأة وولدها، وبين السخلة وأولادها، وخرجوا يعجون إلى الله علم الله منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب، وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر، فمر به رجل فقال: ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم. وانطلق مغاضباً يعني مراغماً)( ).
وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وان الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها)( ).
الرابع : الخزي من جهة الكيف والمقدار والزمان والمكان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة متفاوتة، فقد يكون قليلاً وإن كان الذنب عظيماً وقد يكون كبيراً وإن كانت المعصية من صغائر الذنوب، في آية من بديع صنع الله، فمن الناس من يتعظ بالخزي القليل ويغلب عليه الحياء ويبتعد عن المعصية كعلة وسبب للخزي.
ومن اللطف الإلهي في أحكام الشريعة السماوية أن الغيبة لا تصح إلا بخصوص المعصية التي يتجاهر بها دون غيرها، فإذا كان يتعاطى السرقة ويتجاهر بها، ويرتكب معصية أخرى سراً وخفية عن الناس، فتجوز غيبته في موضوع السرقة دون الأخرى، ليكون من منافع غيبته في المقام إصلاحه وزجره عن المعصية، وتحذير الناس منه وما يرتكب من الذنب، وهذا التحذير من خصائص وأسرار الخزي في الحياة الدنيا الذي يبتلى به صاحب المعصية.
بحث منطقي
المنطق علم يتجلى بسنن فطرية لتوجيه الفكر، ومنهم من صاغها بقواعد وقوانين جعلها مقياسا ونوع آلة وطريقة للتقييم كما يقيس أهل الصناعات أعمالهم وفق أدق قواعد الإستقامة كالمهندس للجدار أو أنظمة السلامة كالمركبات البرية والجوية والبحرية ، لذا عرف علم المنطق بأنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر .
وأظهر سقراط (469-399 ق.م) فن الحوار والمنطق التركيبي وجاء تلميذه أفلاطون ( 427-347 ق.م) بصيغة التحليل العقلي.
وتصدى أرسطو(384-322 ق.م) للسفسطة وحارب إثارة الفوضى وطلب الجدل لذاته في الأمور الفكرية بحد أوسط ، وكبرى وصغرى ونتيجة، ولعل كثيراً من العلماء والمناطقه ساهموا على نحو متعاقب ومتراكم في وضع مثل هذه القواعد , ولكن إشتهرت أسماء بعض منهم خاصة مع تقادم الأزمان وتعاقب الأمم وإختلاف اللغات والألسنة وقلة سبل التواصل بين الأمم وأخطأ ارسطو إذ جعل منهجه الطريق الوحيد للعلم السليم والصحيح، لذا كان أهل الفكر بين مؤيد ومعارض له .
ومال إلى قوله الفارابي الذي جعل المنطق مقدمة للصنائع التي تستلزم الفكر، وابن سينا الذي جمع وأظهر علوم اليونان ووصف منطق أرسطو بأنه: أكمل المعارف وأجلها شأناً وأصدق العلوم، وأحكمها بياناً، وبالغ ابن رشد بشأن علم المنطق وما له من الموضوعية وجعله طريقا للسعادة، وقال تعالى[قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى]( ).
وعارض منطق أرسطو أصحاب المدرسة الرواقية من اليونان، أما في الإسلام فان عدداً من العلماء الذين تعرضوا لمنطق أرسطو عارضوه وذموه ونقل عن المعتزلة تكفير صاحب المنطق وعارضته مدارس أوربية حديثة وقال برتراند رسل : من أراد في عصرنا الحاضر أن يدرس المنطق فوقته ضائع سدى لو قرأ لارسطو أو لاحد تلاميذه، ونسب إلى الغزالي القول الشائع : من تمنطق تزندق، والأصل هو لا إفراط ولا تفريط إذ تفضل الله عز وجل وجعل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنه تتفرع العلوم وعنه تصدر وعليه تعرض .
وجعل الله في التنزيل النجاح والسعادة في النشأتين , وبيّن القرآن أقسام الجدل وذم القبيح منه الذي يبتنى على الكفر وأسباب الضلالة، وأثنى على الجدل الذي يكون مقدمة لإقامة البرهان ودعوة الناس للإيمان، قال تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، وجاءت آية البحث مدرسة في المعرفة والحكمة وواقية من الذين يجادلون بالباطل، إنها خير آلة مباركة تعصم الذهن من الخطأ، وتبين للناس في كل زمان آية في إعجاز القرآن بتحديه للأفكار السابقة لتنزيله ويمنع من سلطان ما يتعارض معه على الناس سواء جاء باسم المعرفة أو الفلسفة أو التأريخ أو المنطق.
وجاءت آية البحث عصمة الذهن من الإنحراف في التفكير، وزاجراً عن اللهث وراء اللذات وإرتكاب المحرمات , وتجلى في مفهومها فن الحوار ولغة الإحتجاج، كما تضمنت لغة التحليل العقلي الذي يتقوم بالمطابقة بين التصور وذات الصور المعقولة والذي ليس فيه موضع للرغبات النفسية سواء كان تصورياً وهو الذي يتعلق بالمفاهيم الكلية والماهية، أو تصديقاً يتعلق بصيغ الإستدلال والإستنباط والإستنتاج، بلحاظ التحليل أو التركيب العقلي كما في مباحث القياس المنطقي.
إن ذكر الجنة ومباهجها تعصم الفكر من الضلالة وأسباب الجحود، وتقود والجوارح إلى الصلاح.
بحث عرفاني
جاءت آية البحث بالترغيب بحبس الغضب، وترك الإنقياد للنفس الغضبية، ليكون هذا الكظم أمراً وجودياً متقوماً بالقصد والنية وإرادة طاعة الله ليترشح عنه الثواب والأجر الذي بينته بوضوح آية البحث بأنه الجنة والإقامة الدائمة في النعيم، فإن قيل إن المسلم لا يكظم غيظه بإختياره بل بمدد وعون من الله بالبشارة بالجنة عليه، والجواب هذا صحيح , وهو مدد قريب من كل إنسان.
وهو من اللطف الإلهي في تقريب العباد لسبل الطاعة، وهذا اللطف عام للناس جميعاً وهم فيه شرع سواء , فليس من حواجز وبرزخ دون فرد أو جماعة من الناس والإنتفاع من البشارة في آية البحث، ولكن الكفار إختاروا الصدود عنها وعن كظم الغيظ، فصارت قلوبهم في ضيق وحسرة، وفيه دلالة على أن البشارة بالجنة سبب لإنشراح الصدر، وإمتلاء القلب بالسكينة، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ففي آية البحث رحمة للناس وموضوع للصلاح ومادة لتهذيب السلوك.
فإن قلت البشارة في الآية خاصة بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات، والجواب إن تحلي المسلمين بالأخلاق الحميدة إشاعة لحسن الخلق، ودعوة لنبذ البخل والشح والصدود عن آيات الله عز وجل، ولتكون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة تظل وتطل على الناس جميعاً فبإمكان كل فرد وجماعة أن ينهلوا منها وأن يتزودوا من السنن التي تتضمنها وتدل الآية أعلاه على بقاء أحكام الإسلام إلى يوم القيامة، وعلى سلامة القرآن من التحريف والتبديل.
ترى ما هي النسبة بين آية البحث والآية أعلاه , الجواب هو العموم والخصوص من وجه، فآية البحث بشارة النعيم الدائم في الآخرة، والآية أعلاه بيان لشآبيب الرحمة التي تتغشى الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة , فأمة عظيمة من الناس وهو المسلمون تلقوا رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق والنصرة والإمتثال وهم الذين وصفتهم هذه الآيات بالمتقين , وبينت خصالهم وحسن السمت الذي بلغوه بتوجيه وهداية القرآن لهم، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وعن ابن عباس في قوله تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}( ) قال: من آمن تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب؛ من المسخ والخسف والقذف)( ).
ومن مصاديق الرحمة والإمتنان في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأكيد بقاء باب التوبة والإنابة مفتوحاً للناس جميعاً، لينتفع منه كل إنسان ذكراً كان أو أنثى , من ولجه ورأى بهجته ومن ينتظره هذا الباب وهو مفتوح.
وقد إجتهد النبي محمد صلى الله وآله وسلم في الدعاء لقومه وجذبهم للإسلام ، وإذا كان الذي يدخل الإسلام ويعمل الصالحات يفلح وينجو فماذا إستفاد الذي جحد بنبوته والذي يحصد الخيبة والخسران , الجواب هذا صحيح، ولكن الرحمة تأتيه برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول : إقتران نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات الباهرات، وإتصال وتجدد مصاديق وذات أفراد هذه المعجزات إلى يوم القيامة، وهو من سنن الفضل الإلهي بترغيب الناس بالإسلام، واللطف بتثبيت المؤمنين في منازل التقوى.
الثاني : بقاء معجزة القرآن العقلية إلى يوم القيامة مناراً وضياء يهدي إلى مصاديق التقوى التي جاءت بها هذه الآية، وفي كل يوم تدعو نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى بلوغ مرتبة التقوى والخشية من الله عز وجل.
ومن الآيات فيها وجوب الصلاة خمس مرات في اليوم وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة، والإمتثال هذا الوجوب لا يترك بحال، وهو رحمة للمسلم بتثبيته في مقامات الإيمان، ورحمة للكافر بدعوته للإسلام , وحجة يومية عليه.
الثالث : الرحمة خير محض، ونفع بذاتها وأثرها , وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما أنا رحمة مهداة) ( )، وجاءت الآية أعلاه بأمرين:
الأول : الإطلاق في معاني ومضامين الرحمة لأصالة الإطلاق , ولأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى.
الثاني : العموم في المواطن والجهات التي تبلغها الرحمة سواء الأفراد أو الجماعات أو أهل الملل.
الرابع : هل تختص الرحمة الإلهية بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمور الدين والعقيدة , الجواب لا، فتشمل نزول البركات والخيرات على الناس، وإخراج الأرض لكنوزها والثروات الكامنة في جوفها.
الخامس : إمهال الذين يجحدون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من مصاديق الرحمة، وعدم تعجيل العذاب لهم، وفي دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(اللهم أغفر لقومي فانهم لا يعلمون)( )، لما يصاحب المغفرة من العفو وشآبيب الرحمة الخاصة بالذي يفوز بها، والعامة لمن في دويرته وعموم أهل ناحيته , وليس من حدّ أو حصر لرزق الله عز وجل.
وتمنع الآية من الميل إلى الشهوات والإعراض عن الطاعات، لأن العزيمة على التقوى سوط لدرء التواني والتفريط بالفرائض، ولجام آداب التقوى كابح للغفلة , والبشارة بالعفو والمغفرة وطاردة لجنود الهوى من ساحة النفس.
لقد أراد الله عز وجل للمسلم أن يسبح في شواطئ أنهار التقوى التي تقربه كل يوم إلى الأنهار التي تجري من تحت الجنان، ويقيم في مخيم العز في رياض الإيمان، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
في آية السيف
وفي قوله تعالى[قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ]( )، أي يعفون ويتجاوزون عن سيئات الذي لا يظنون مجيء النصر والفتح للمؤمنين ونزول البلاء والنقمة بأعداء الإسلام(وقال ابن عطية: إنَّ الأُمور العظام، كالقتل والكُفْرِ مُجَاهَرَةً ونحو ذلك قد نَسَخَتْ غفرانَهُ آيةُ السَّيْفِ والجِزْيَةِ، وما أحكمه الشَّرْعُ لا محالة، وأَنَّ الأُمورَ الحقيرةَ كالجَفَاءِ في القول ونحوِ ذلك تحتملُ أنْ تبقى مُحْكَمَةً، وأنْ يكونَ العفْوُ عنها أقربَ إلى التقوى)( ).
ولكن إستحضار قوله تعالى في صفات المتقين(والعافين عن الناس) يدل على الإطلاق والسعة في معاني الرحمة التي يتعامل بها المسلمون مع الناس، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وإتباعهم ومحاكاتهم لسيرة النبي إذ أثنى عليه الله عز وجل[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( )، إذ يجتهد المسلمون بالسعي لإدراك هذه المنزلة بالعمل وفق أحكام القرآن والتأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
وقيل لما نزلت هذه الآية سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبرئيل، ما هذا؟ قال: لا أدري حتّى أسأل، ثمّ رجع فقال: يا محمد إن ربّك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك)( ).
وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمكارم الأخلاق ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية)( ).
وقيل أن آيات الموادعة والمهادنة والجدال , ومنها مثلاً[فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] و[وَإِنْ جَادَلُوكَ] نسختها آية السيف من سورة براءة، ومع أن سورة المائدة من آخر سور القرآن نزولاً،وأخرج عن ابن عباس قال : آيتان نسختا من هذه السورة – يعني من المائدة – آية القلائد ، وقوله[فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ]( )، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً ، إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم ، فنزلت[وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ] ( ) ( ).
وقد أختلف في آية السيف على وجوه:
الأول : [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( )، وهو المشهور وقيل إنها نسخت كل عهد بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين، وكل عهد وكل مدة , وقال العوفي عن ابن عباس: لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة، منذ نزلت براءة وإنسلاخ الأشهر الحرم، ومدة من كان له من المشركين قبل أن تنزل أربعة أشهر، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر.
الثاني : قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ).
الثالث : قال سفيان قال علي ابن أبي طالب عليه السلام : بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأربعة أسياف: سيف في المشركين من العرب , قال الله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ[وَخُذُوهُمْ]}
هكذا رواه مختصرا، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب في قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} , والسيف الثالث: قتال المنافقين في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]} والرابع: قتال الباغين في قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ})( ).
الرابع : آية السيف هي[وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً]( )، قاله ابن حجر( )، وقال الضحاك والسدي: آية السيف منسوخة بقوله تعالى[فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً]( )، وقال قتادة بالعكس في النسخ بين الآيتين أعلاه.
وقد تكون الآية ناسخة لغيرها ومنسوخة بآية أخرى، قال مقاتل: [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ] أي أينما وجدتموهم في الحل أو الحرام، صارت منسوخة بقوله تعالى[وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( )، فهي ناسخة ومنسوخة، وقيل: هذه الآية غير منسوخة، وهي محكمة ولا يجوز الإبتداء بالقتال في الحرم.
ومع أن القرآن ليس فيه لفظ(السيف أو المسايفة)، وأن آية السيف مختلف فيها على أقوال متعددة، فإن المفسرين أوصلوا الآيات التي نسختها آية السيف إلى أكثر من مائة آية , ومنها آيات الصفح والعفو والصبر والمسالمة والجدال، ولم يثبت هذا النسخ.
وجاءت هذه الآيات التي تبين صفات المتقين الذين يخشون الله والذين وعدهم الله بالمغفرة والعفو والإقامة الدائمة في الجنة بقوله تعالى[وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، وكأن خاتمة الآية أعلاه وما فيها من الإخبار عن حب الله للمحسنين تأكيد لعدم النسخ لمضامين هذه الآية خصوصا وأنها بيان لصفات المتقين فلا يقال أن هذه الصفات في تبدل وتغير وناسخ ومنسوخ.
وهل يمكن أن يقال المراد من (الناس) في الآية أعلاه التقييد وإرادة العهد بالألف واللام وخصوص المؤمنين، الجواب لا دليل عليه , والأصل هو الإطلاق والعموم وإرادة اسم الجنس من الألف واللام خصوصاً كل فرد من العفو هو إحسان، وقد يكون إحساناً للذات والنفس أيضاً لما فيه من قصد الإمتثال لأمر الله، ورجاء الثواب.
ومن إعجاز آية البحث إنتفاء التعارض بينها وبين مضامين آية السيف في أسباب الصلاح العامة , ومن خصائص التقوى دفع البلاء عن الناس بالمؤمنين , عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله قال الله إن من أحب أحبائي إلي المشائين إلى المساجد المستغفرين بالأسحار المتحابين في أولئك الذين إذا أردت أهل الأرض بسوء فذكرتهم صرفته عنهم بهم)( ).
بحث أصولي
الفقه المقارن هو إختلاف العلماء , مع بيان دليل كل واحد ويضاف له في هذه الأزمنة الإختلاف بين المذاهب لإستقلال العلماء كل مذهب بقول, ويعرف بأنه القواعد المتعددة التي إتخذها الفقهاء طريقاً ومرتكزاً لإستنباط الأحكام الشرعية الفرعية.
وعدّ هذا العلم من مبادئ الإجتهاد لأنه علم يكون فيه حفظ الأحكام الشرعية المختلفة، أو إبطالها بالحجج الشرعية.
ويراد من الفقه المقارن أمور:
الأول : الأقوال والفتاوى الفقهية.
الثاني : دراسة ومقارنة وموازنة الأقوال الفقهية.
الثالث : ترجيح بعض الأدلة الفقهية على البعض الأخر، وهو المسمى قديماً علم الخلاف ولا يؤدي هذا الإختلاف إلى الفرقة والخصومات وما فيها من ضعف الأمة بل هذه الخلافيات نوع تدبر وإستعمال للفكر في التفسير والتأويل والإجتهاد في اللغة، وهو مأخوذ من الجهد في الأمور التي تستلزم بذل الوسع , كما يقال: إجتهد فلان في رفع حجر، أما في الإصطلاح فهو على قسمين:
الأول : البدل عن النص عند غيابه أي الرجوع الى العقل والرأي ليصبح الإجتهاد مصدراً من مصادر الحكم الشرعي والفتوى ومنه مدرسة الرأي.
الثاني : خاص وهو إستفراغ الوسع في طلب الظن بشئ من الأحكام الشرعية، بما يدرك معه بذل الطاقة والعجز عن المزيد ومن خصائص الجهد في المقام أنه إكتساب للعلوم لمعرفة أحكام الشريعة (وتحصيل الحجة على الحكم وأصبح وظيفة للفقيه في إستخراج الحكم من أدلته، وليس هو مصدراً مستقلا)( ).
والفقه المقارن من العلوم التي تساهم في حفظ الأحكام الشرعية الفرعية , وكان يسمى(علم الخلاف) و(علم الخلافيات) ومع أن الاسم غير المسمى فإن تسميته بالفقه المقارن هي الأحسن لما فيها من مجانبة الفرقة وأسباب الخصومة خصوصاً , وأن الغاية من هذا العلم بيان الأحكام بالدليل والبرهان، أو إظهار الخلل والنقص في بعضها مما يكون فيه الخلاف والذي يزاول المقارنة بين الأحكام أما أن يكون مجيباً يتعاهد وضعاً وقاعدة شرعية، أو سائلاً يحتج على قول أو فتوى.
وهل يلحق علم الخلاف هذا بصناعة الجدل , الجواب لا، فليس الأهم عند الخلافي هو الغلبة وإفحام الخصم وإن جاء بمغالطة التي هي منتفية في المقام لخلوص النية عند الفقهاء بالسعي لإستنباط الحكم من أدلته الشرعية، ويجمع طرفي الخلاف قصد تثبيت معالم الدين والوصول إلى الحكم الشــرعي وفق الدليل وحســب البرهان من الكتاب والسنة وتلك آية في سـلامة الفقه الإسلامي من التــبديل والتــحريف والتغــيير.
إذ جــعل الله عــز وجل ما يحتاجه الإنسان في باب العبادات والمعاملات والأحكام في أصل شريعة الإسلام وحفظه من يد التغيير، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وليس في الفقه المقارن هوى وتعصب، بل هو تأكيد للدليل أو توهين له في موضوع مخصوص ، وبلحاظ زمان العولمة هذا وتقارب الأفكار وإطلاع العلماء والناس على الرأي الآخر وحجته ودليله فمن المرجح حدوث تداخل المذاهب الإسلامية وعدم الإصرار على القول والفتوى بلحاظ الإنتساب إلى المذهب وما يسمى عندهم بلفظ الأصحاب.
ومال أحد كبار المفسرين وفي الصفحة الأولى من تفسيره في باب البسملة وهل هي آية من سور القرآن كلها أو من سورة الفاتحة إلى قول وقال(وهو المشهور من مذهبنا وعلى المرء نصرة مذهبه والذب عنه وذلك بإقامة الحجج على إثباته وتوهين أدلة نفاته) مع أنه قريب عهد بمذهب آخر يقول قولاً مغايراً في هذا الباب، وهناك تباين بين ذات المذهب وبين قوله في مسألة مخصوصة في موضوع النصرة والذب .
وليس في علم التفسير إستقلال للمذاهب, وهو سابق في زمانه وموضوعه لها وما ترشح عنها من الإبتلاء ,( ) والسنة النبوية هي أول تفسير للقرآن , وتولدت المذاهب في أواخر القرن الثاني , ولم تتسع إلا بعده بقرون , والمسلمون شرع سواء في علوم التفسير والنهل من خزائنه , وقد تجد إختلافاً بين أرباب وعلماء المذهب أنفسهم , وفي مسائل فقهية متعددة.
ومن منافع الفقه المقارن أمور :
الأول : الوصول إلى وجوه الفقه الإسلامي من غير واسطة، فلا يقول المحقق حكي عن، ونقل عن، وقيل، وذكر، بل يرجع إلى صاحب القول والجهة.
الثاني : ذكر مختلف الأقوال والفتاوى بخصوص مسألة أو موضوع متحد أو متعدد.
الثالث : إستحضار الأدلة , والمقارنة بينها وعرضها وفق قاعدة التعادل والتراجيح.
الرابع : بيان الإرتقاء في الفقه الإسلامي.
الخامس : منع روح الخصومة والعداوة بين المسلمين، مذاهب وعلماء وأصحاب قول ورأي.
السادس: التقريب بين المذاهب الإسلامية.
السابع : معرفة المسلمين لأقوال وأراء عموم العلماء.
الثامن :منع التقول والإفتراء على العلماء والمذاهب الأخرى، إذ تبين المقارنة والخلاف أقوالهم وفتاواهم , ومنه التحقيق الذي قد يظهر أنهم لم يقولوا بها، وان وجد القول فهو شاذ وصادر عن فرد منهم، فمثلاً في قوله تعالى[فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ]( ).
قال الرازي: ذهب قوم سدى إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد، واحتجوا بالقرآن والخبر , وقال بأن من وجوه إحتجاجهم: أن الواو للجمع المطلق فقوله: {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} يفيد حل هذا المجموع ، وهو يفيد تسعة، بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر، لان قوله: مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط، بل عن اثنين إثنين وكذا القول في البقية)( )، ولكن عند البحث عن هؤلاء القوم لم نجد لهم أثراً وإن نسبه الرازي إلى أهل البدعة , ومن نسب القول لبعض علمائهم أنكروه , ولم يعثر عليه في كتبهم.
التاسع :تنمية ملكة البحث والتحقيق عند علماء المسلمين والشباب الرسالي مطلقاً.
العاشر : إنصاف الطرف أو المذهب الآخر فيما يقوله لدليله الخاص، ومناقشة هذا الدليل ومحاولة هدمه وإبطاله لا تتعارض مع إستدامة هذا الإنصاف والإكرام.
الحادي عشر : كما في الحج قال أحدهم للنبي: قدمت الذبح قال لاضير، قدمت الحلق لاضير، ولكنه لايصلح لأنه عن جهل ونسيان.
الثاني عشر : عرض كل المصادر والأقوال للبحث والتقييم.
الثالث عشر : منع التعصب والإنحياز الأعمى , وقد أنعم الله على المسلمين بالكتاب والسنة , والعلماء ورثة الأنبياء.
الرابع عشر : الفقه المقارن من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لما فيه من الضبط للأحاديث وتعاهد الأحكام وحفظ السنن وفق الكتاب والسنة , وفي قوله تعالى[أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] حجة وبشارة ومدد في المقام .
الخامس عشر : الفقه المقارن وسيلة للتقارب بين المسلمين ونبذ النفرة فيما بينهم، ومقدمة لإندماج المذاهب الإسلامية.
السادس عشر : إنه وسيلة لجذب الناس للإسلام فهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، وتتصف مباحث الفقه المقارن بأنها مقيدة وليست مطلقة، فلابد من الصدور عن الكتاب والسنة، وعرض الأقوال والفتاوى عليهما، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف إلى يوم القيامة.
وهل من دليل على علم الفقه المقارن من القرآن الجواب نعم وهو من عمومات قوله تعالى[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( )، ومن سنة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إختلافُ أمتي رحمةٌ)( ) ولكن ليس مطلق الإختلاف فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم القول (يأتي على الناس زمان المتمسك فيه بسنتي عند اختلاف أمتى كالقابض على الجمر)( ) .
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ)( ).
ويبحث علم الفقه بفتاوى المجتهدين وأقوال علماء الإسلام، ودراستها من جهة علم الرجال والدراية والدلالة.أما موضوع علم الأصول فهو العلم بالقواعد الكلية المهمة لإستنباط الأحكام الشرعية الكلية.
وأما موضوع علم الفقه فهو فعل المكلف وفق الأحكام التكليفية الخمسة وما فيها من الأوامر والنواهي، وهي لواحق ذاتية لما فيها من الإستحباب والتخيير والترك والوجوب والحرمة، فلا يلزم الفقيه عرض أقوال الفقهاء سواء من مذهبه أو غيرهم، ولكنه يكتفي بالإتيان بفتواه ويبين دليله.
ومن أسباب الخلاف بين الفقهاء أمور:
الأول : وجود روايات متعددة فيما الموضوع متحد، وإختلاف نظر وتأويل الفقهاء بخصوصهما.
الثاني : باب الخاص والعام، والمطلق والمقيد.
الثالث : الإختلاف في وثاقة الراوي، ولو بفرد واحد من سلسلة رجال الحديث، بلحاظ القاعدة وهي أخذ سند الحديث على أضعف رجاله، فاذا كان رجال الحديث كلهم ثقات، وواحد منهم ضعيفاً يكون الحديث ضعيفاً في سنده.
الرابع : الحيلولة دون إستقلال المذاهب مع تقادم الأيام، فيصبح الفقيه لاينظر ولا يأخذ إلا من مذهبه، وهذا الأمر لاضير فيه، ولكنه يقوم بتضعيف رجال وروايات المذاهب الأخرى، ومنهم من يرميهم بالوضع.
الخامس : الإجتهاد في الفتوى فيما لا ينص فيه.
السادس : التباين في فهم وتأويل النص، لذا يشترط في الفقيه أن يتقن علوم العربية بما يميز معه معنى ودلالة اللفظ , ومعرفة طرقها كعلم النحو والصرف في الجملة.
السابع : ثبوت النسخ أو عدمه لخصوص آية أو حكم ولا ينحصر علم الناسخ والمنسوخ بالقرآن فقد يشمل السنة أيضاَ، وورد عن بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إني كنت نهيتكم عن ثلاث عن زيارة القبور فزوروها ولتزدكم زيارتها خيرا ونهيتكم عن لحوم الاضاحي بعد ثلاث فكلوا منها وأمسكوا ما شئتم ونهيتكم عن الاشربة في الاوعية فاشربوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكرا وأمسكوا ( ).
الثامن : الإشتراك اللفظي أو المعنوي، كما في لفظ القرء وهل يراد منه أيام الحيض أو الطهر بين حيضتين، قال تعالى[وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ]( )، والمختار والمشهور هو إرادة الطهر.
التاسع : الإختلاف في أحكام الأصول، ومنه لفظ الأمر وصيغة إفعل وفيها وجوه:
الأول : الوجوب , وهو المتبادر من الطلب وصيغة الأمر.
الثاني : المعنى الأعم للوجوب والإستحباب , والإشتراك في طلب الفعل.
الثالث : إرادة الإستحباب إلا مع القرينة على الوجوب .
العاشر : الخلاف في خبر الواحد.
ولا يستلزم الدور , لأن الدور الباطل هو تبيان الشئ لنفسه بعينه , أما إذا كان ذات الشئ يرجع إلى فرد آخر ولو على نحو جهتي، فانه ليس بدور للتباين بين العلة والمعلول في الجهة والفرد.
والنسبة بين الفقه المقارن وعلم الأصول ظاهرة من التباين في الإسم، بلحاظ ما تستلزمه المقارنة من التعدد والمقابلة بين طرفين أو أكثر , وبينهما عموم وخصوص مطلق، لأن الأول أعم لإرادة الفقه ومقارنة أقوال الفقهاء في الفقه المقارن، ويشمل أيضاَ أقوال الأصوليين.
وموضوع الفقه المقارن هو الأدلة ومدى صلاحها ومناسبتها للحكم والموضوع , وإعتماد الإستقراء والتحقيق، وحتى بالنسبة للأصولي المقارن فانه أعم من الأصولي، لأن الأول يحتاج التمييز والمقارنة بين الأقوال وهو أمر لا يتحصل إلا بعد بلوغ مرتبة الأصولي وتحصيل الملكة والقدرة على معرفة الأدلة .
وتصور ذات الشئ من المبادئ الضرورية لكل علم، كما أن الغاية من الفقه المقارن أعم، ومنها تثبيت أدلة الأحكام ومنع طرو التبديل فيها، ومنها منع تجدد الإختلاف بين علماء المسلمين وصيرورته سبباً للفرقة والشقاق، فمن وظائف الفقه المقارن تعاهد وحدة المسلمين في أهم باب وهو الأحكام الشرعية وأدلتها.

رد على إشكالات الرازي بخصوص آية واحدة
في تفسير آية المحرمات[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ……الآية]( )، أورد الفخر الرازي في تفسيره(مفاتيح الغيب)( )، ستة إشكالات ولا أصل لهذه الإشكالات في الجملة، نذكرها مع جوابنا عليها وهي:
إشكاله الأول : إن قوله تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ] مذكور على ما لم يسم فاعله ، فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى، وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر، ولا سبيل اليه إلا بالاجماع، فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا، بل لا بد معها من الاجماع على هذه المقدمة)( ).
والرد عليه من جهات:
الأولى : ليس من تحريم في القرآن إلا وهو من عند الله إلا مع القرينة الصارفة وهي مفقودة في المقام، كما في قوله تعالى[وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا] أي لا تركب ولا يحمل عليها كسنن عند العرب، وظاهر أن هذا التحريم ليس من عند الله عز وجل من وجوه:
الأول : أصالة الإباحة في ركوب الدواب.
الثاني : مجيء الآية بصيغة التوبيخ والذم لمن قام بالتحريم.
الثالث : دلالة نظم الآية على أن المشركين هم الذين حرموا وشددوا على أنفسهم.
الرابع : عطف التحريم على قول المشركين أي أنهم هم الذين سنوا وشرعوا التحريم (وقالوا: {هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ}وعن ابن عباس {حَرَجٌ} وهو من الضيق، وكانوا إذا عينوا شيئاً من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا: {لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء} يعنون خدم الأوثان، والرجال دون النساء)( ).
الخامس : تأكيد أن هذا التحريم إفتراء وكذب على الله.
السادس : إختتام الآية أعلاه بالإنذار والوعيد على هذا التحريم، وكيف أنهم ينسبونه إلى الله.
الثانية : ذكر لفظ(حرمت عليكم) مرتين في القرآن، إحداهما الآية المتقدمة، والأخرى قوله تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ]( )، والقرآن يفسر بعضه بعضاً وقد بينت آية أخرى أن تحريم الميتة وأخوانها من الله عز وجل بقوله تعالى[إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ]( ).
الثالثة : بيان قانون كلي في الإرادة التكوينية وهو أنه لا يحرم أحد على المسلمين إلا الله عز وجل، فحينما يرد في القرآن خطاب للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي يتعلق بالتحليل والتحريم، فإنه أمر مولوي من عند الله، وهو من معاني التوحيد ولابد أن تتجلى مفاهيم التوحيد بأبهى حلة وأبين دلالة في القرآن، وجاء الخطاب في الآية (حرمت عليكم) والله وحده هو الذي يحرم على المسلمين.
ويمكن تأسيس قانون وهو إذا جاء الأمر أو التحريم في القرآن متوجهاً للمسلمين فإنه من عند الله، وإن أضمر الفاعل، والشواهد عليه كثيرة وظاهرة بالتبادر.
الرابعة : مجيء الآية بصيغة نائب الفاعل من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إذ يتوجه الخطاب التكليفي في القرآن للمسلمين من غير ذكر الفاعل فيتلقونه بالقبول والإمتثال المقرون بالتسليم بأنه من عند الله عز وجل.
وقول الرازي: فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى، وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر، ولا سبيل اليه إلا بالاجماع، فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا)( )، وفيه مسائل:
الأولى : لا يصح القول بعدم إفادة الآية شيئاً آخر، فكل آية من آيات القرآن لها دلالات متعددة، ومعاني متكثرة، ووجوه متجددة، لا تخرج عن ذات ألفاظها.
الثانية : لا تصل النوبة في معرفة الفاعل والآمر للحكم الشرعي إلى الإجماع، وقد جعل الله القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ومنه بيان الفاعل والآمر في ذات الآية.
الثالثة : تقدم السنة النبوية رتبة على الإجماع في معرفة المراد من الآية القرآنية , والإجماع رشحة من رشحات القرآن والسنة.
الرابعة : يمكن تأسيس قانون كلي وهو حاجة وتقوم الإجماع بالآية القرآنية دون العكس، فالآية ومضامينها القدسية لا تحتاج الإجماع , وهو متأخر عنها زمانا ثم أن القرآن بين أيدينا، وكذا الإجماع، والذي يقول العكس عليه الإتيان بالشواهد والمصاديق لمناقشتها وبيان بطلانها.
الخامسة : تجلي مضامين ودلالات الآية القرآنية حال نزولها، فمن إعجاز القرآن أن معانيه لا تنتظر حصول الإجماع بل تتبين حال نزولها، مع بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها.
السادسة : تعدد معاني الإجماع في الإصطلاح , منها الإجماع عقب الخلاف الذي ذهب الرازي إلى حجته( )، وذكر أن الشافعي سئل عن آية في كتاب الله تدل على أن الإجماع حجة، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجد هذه الآيةوَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ، أي أن الإمام الشافعي المتوفى سنة204 هجرية لم يكن عنده نص أو أثر على حجية الإجماع، بينما يعمل المسلمون بآية البحث من ساعة نزولها، وقراءة أحد العلماء القرآن ثلاثمائة مرة بحثاً عما يدل على حكم مخصوص أمر ملفت للنظر، وقد ورد عنه أن الشافعي كان جالساً في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله)( ).
وإذا كان الرازي يقول بحجة الإجماع , فقد ثبت الإجماع بأن القرآن(منزل على الكل بمعنى أنه خطاب للكل)( )، وإستدل القائلون بالقياس بقوله تعالى[فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ]( )، وإن العمل بالقياس عمل بما أنزل الله.
وإصطلاح الإجماع والعمل به لم يكن معروفاً أيام النبوة إذ كان المسلمون يتلقون الأوامر والنواهي من القرآن والسنة النبوية، والأصل إستصحاب هذا المعنى أيام الصحابة.
وفي ذات تفسير الآية ذكر الرازي قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)( )، وهذا الحديث متواتر، ويدل بالدلالة الإلتزامية على أن المحرمات من النسب معلومة بالكتاب والسنة ولا تصل التوبة إلى الإجماع.
من علامات الحقيقة أمور:
الأول : التبادر وإنسباق المعنى إلى الذهن وخطوره في البال سواء بواسطة العلقة اللفظية بين اللفظ والمعنى أو من جهة ذات ودلالات الموضوع، أو القرائن الخارجية أو الإطلاق.
الثاني : الإطراد أي إستعمال اللفظ في المعنى الموضوع له على نحو العموم الإستغراقي وتعدد المقامات، فلا يستعمل في مقام دون آخر وهيئة دون غيرها كما في إطلاق لفظ الأسد حقيقة على ذلك الحيوان المفترس للإتصافه بالقوة في كل أحواله، أما إطلاق لفظ الأسد على أحد الأشخاص فهو من المجاز، لأنه قد لا يكون شجاعا في بعض المواطن , ولم يوضع هذا اللفظ للرجل الشجاع وإلا لكان مشتركاً.
وقد يؤخذ الإطراد بمعنى المنع، أي وجود حد يمنع من دخول غير المحدود فيه، ولا يقبل إندراج غير الموضوع له اللفظ فيه ولكنه بعيد، وقد يستعمل العام في معنى خاص كما لو قلت: مررت بإنسان وكنت تقصد شخص بعينه .وفرد من الطبيعة .
الثالث : عدم صحة السلب عن المعنى الحقيقي، فلا يصح سلب صفة الحاج بالمعنى الأعم عمن أدى فريضة الحج وإن إنقضى موسم الحج من غير أن تصل النوبة إلى مبحث المشتق وتلبس الذات بالمبدأ بعد إنقضاء أوان التلبس، نعم يمكن القول بصحة السلب بعد إنقضائه في موارد أخرى, ولكن معنى الحقيقة في مقابل المجاز لا يختص بهذه الصفات بل يشمل الذوات والعرض اللازم.
وفي الإنتقال إلى المجاز لابد من قبول العرف لإستعمال اللفظ، وعدم إنكاره في المخاطبات أو إستهجانه في الأذهان، وهو من الكلي المشكك في الموضوع والحكم إذ يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، فقوله تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، ينصرف إلى إرادة رؤية هلال شهر رمضان، والإتيان بالجزء وإرادة الكل، لكن لا يقال فمن شهد منكم الفجر فليصم ذلك اليوم، لأن الهلال إعلان سماوي وآية كونية تدل على إبتداء الشهر.
وقوله تعالى[فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ]( )، بذكر الفرد الأهم في الإنسان، لكن لا يقال جاء رقبة، أو مات رقبة.
الإشكال الثاني للرازي: إن قوله تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ] ليس نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأييد، فان القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه الى المؤبد، والى المؤقت ، كأنه تعالى تارة قال: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الى الوقت الفلاني فقط، وأخرى: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا، واذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين، لم يكن نصا في التأبيد، فإذن هذا التأبيد لا يستفاد من ظاهر الآية، بل من دلالة منفصلة)( ) ويرد عليه من وجوه:
الأول : لم يجرأ أحد على القول بهذا التقسيم من ظاهر اللفظ القرآني، وأدلة ونظم الأحكام فيه، وفي ذات آية التحريم ذكر الرازي أنه لما سئل ابن عباس عن قوله تعالى[وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ] أن الله تعالى لم يبين أن هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها. أو غير مخصوص بذلك، فقال ابن عباس: أبهموا ما أبهمه الله، فليس مراده من هذا الابهام كونها مجملة مشتبهة، بل المراد من هذا الابهام التأبيد. ألا ترى أنه قال في السبعة المحرمة من جهة النسب: انها من المبهمات، أي من اللواتي تثبت حرمتهن على سبيل التأبيد، فكذا ههنا، والله أعلم)( ).
والمختار والظاهر أن المراد بالإبهام هو إرادة الإطلاق لتشمل:
الأولى : زوجة الابن المدخول بها.
الثانية : المرأة التي عقد عليها الابن وإن لم يدخل بها.
الثالثة : حليلة الابن من الإماء.
الرابعة : زوجة الحفيد بلحاظ أنها حليلة الابن الصلبي وأن الحفيد هو ابن صلبي، وليس مراد ابن عباس من الإبهام خصوص التأبيد لأن تحريم حلائل الأبناء من المسلمات والأمور الجلية الظاهرة في هذه الآية، وهو باق إلى يوم القيامة وليس من المبهمات .وجاءت آية البحث[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ] لحث المسلمين على تعاهد أحكام آية المحرمات
الثاني : ذكر الفخر الرازي ذات التقسيم الذي لا أصل له في قوله تعالى[وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ]( )، وأنه(لا يفيد إلا حل من عدا المذكورات في ذلك الوقت، فأما ثبوت حلهم في سائر الأوقات فاللفظ ساكت عنه بالنفي والاثبات، وقد كان حل من سوى المذكورات ثابتا في ذلك الوقت، وطريان حرمة بعضهم بعد ذلك لا يكون تخصيصا لذلك النص ولا نسخا له، فهذا وجه حسن معقول مقرر. وبهذا الطريق نقول أيضا: إن قوله:{حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} ليس نصا في تأبيد هذا التحريم، وإن ذلك التأبيد إنما عرفناه بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم، لا من هذا اللفظ)( ).
وقوله التواتر من دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة أعلى في الحكم من القول بالإجماع إلا أنه ليس بتام لترشح هذا التواتر من ذات الآية الكريمة وإدراك الصحابة ثم التابعين لها من حين التنزيل وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الثالث : تفيد الآية التأبيد في حرمة نكاح المذكورات فيها على نحو القطع بلحاظ بقاء خطابات القرآن غضة طرية وأحكام القرآن باقية إلى يوم القيامة، وهو الكتاب الناسخ للكتب والشرائع السماوية السابقة وليس من ناسخ له أبداً.
الرابع : بطلان التقسيم إلى المؤبد والمؤقت على ذات الموضع واللفظ المتحد، ويتجلى التهافت والتعارض في قول الرازي(كأنه تعالى تارة قال: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الى الوقت الفلاني فقط، وأخرى: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا، واذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين، لم يكن نصا في التأبيد، فاذن هذا التأبيد لا يستفاد من ظاهر الآية)( ).
والنقاش في الكبرى وهذا التقسيم لذات المضامين والأحكام في الآية باطل لغة وعقلاً وشرعاً، فلا يصح إبتناء الحكم عليه، إن لغة التأبيد والإطراد ظاهرة في منطوق الآية بلحاظ إنطباق صفة الأمومة على الأمهات، والبنوة على البنات، والأخوة على الأخوات، والعمومة على العمات، والخؤولة على الخالات وهكذا في أفراد الآية فانتساب البنت للأب مثلاً باق في حياتهما وبعد مماتهما , ويترتب عليه نظام المواريث والأنساب وحرمة النكاح في الذرية، وكذلك في الأم وغيرها من الأرحام فذات الصفات ملازمة لمصاديقها في أفراد الزمان والمكان على نحو الإطلاق.
الخامس : قد لا تكون موضوعية لمسألة التأبيد بلحاظ أن الحرمة تتجدد مع كل جيل وطبقة من الناس ,وكذا حال البلوغ عند الإنسان .
ومن إعجاز القرآن ورود الأسماء والأمثلة فيها بما يتضمن معاني الثبات والتأبيد، فاسم ومسمى الأم والأخت والبنت مثلاً معروف وثابت عند كل الأمم وأهل الملل.
الإشكال الثالث: قال الرازي إن قوله تعالى(حرمت عليكم إمهاتكم) خطاب مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين، فإثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل)( )، والرد عليه من وجوه:
الأول : إجماع المسلمين على أن خطابات القرآن متجددة وباقية إلى يوم القيامة ولو تنزلنا وقلنا بدوران الخطاب بين إرادة المشافهة ولغة العموم فإن الأصل هو الثاني، وهذا القرآن بين أيدينا فهل فيه خطاب مشافهة لا يحتاجه المسلمون خاصة والناس عامة في أجيالهم المتعاقبة الجواب لا , وما من خطاب محصور بهذا المعنى، مما يدل على إنبساط موضوع وحكم كل خطاب قرآني على أفراد الزمان الطولية المتعاقبة.
الثاني : تتلقى كل طبقة وجيل من المسلمين خطابات القرآن على أنها موجهة لهم، وأنهم المقصودون بها.
الثالث : يحتمل الخطاب القرآني في جهته وجوهاً:
الأول : إرادة الصحابة أيام التنزيل.
الثاني : المقصود أهل البيت عليهم السلام.
الثالث : المسلمون أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقبل مغادرته الدنيا إلى المقام المحمود.
الرابع : المقصود الصحابة والتابعون.
الخامس : إرادة المسلمين في كل زمان وإلى يوم ينفخ في الصور.
السادس : توجه الخطاب القرآني للناس جميعاً بلحاظ وجوب تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والصحيح هو الوجه الخامس والسادس أعلاه، إذ يتوجه الخطاب القرآني إلى المسلمين والناس جميعاً ولكن غير المسلم حجب عن نفسه العمل بمضامين هذه الآية ولو على نحو السالبة الجزئية بلحاظ تقيده بحرمة نكاح المحارم من الأمهات والبنات والأخوات، وإن لم تتقيد بعض الملل بالحرمة في باب الرضاع، ولا عبرة بتجاوز وتعدي بعض أفراد الملل الأخرى على ما عندهم من سنن التحريم في المقام كما ذكر عن المجوس مثلاً .
وورد في قوم فرعون ما يدل على تعاهد سنن الزواج وحرمة الزنا، كما في قصة يوسف، قال تعالى[وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امرأة الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
وفي الآية أعلاه مسائل:
الأولى : لم تقل الآية (قالت نسوة) بتاء التأنيث بل ذكرت قولهن بصيغة التذكير مما يدل على الإجهار به وأنه إنكار للباطل، وقد ورد بصيغة التأنيث قوله تعالى[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا]( )، لبيان لزوم عدم التخلف عن مراتب الإيمان خصوصاً وأن الآيات القرآنية تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته ظاهرة للحواس، مدركة بالعقول.
الثانية : شيوع خبر مراودة ومحاولة امرأة العزيز ليوسف عن نفسه في أنحاء المدينة يقال (راوَدَ فلانٌ جاريتَه عن نفسها، وراوَدَته هي عن نفسه إذا حاوَل كلٌّ منهما من صاحبه الوَطْءَ والجماعَ، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ: “تُراوِدُ فَتاها عن نفسه”، فجَعَل الفعل لها)( ).
الثالثة : دلالة الآية على الإستغراب والنفرة بين النساء من هذه المراودة مما يدل في الجملة على التنزه العام بين نساء المدينة من مراودة ربة البيت للغلام الذي يعمل عندها في البيت.
الرابعة : بيان قاعدة كلية وهي أن الأسوار العالية للبيوت لا تستر العيوب والمسـاوئ التي تكــون داخلها، إنما يسـترها ويخفيها ويمحوها الله عز وجل لذا بينّت آية البحث أن هذا الإخفاء كرامة ونعمة ينفرد بها المؤمنون الذين يعلمون الصالحات لمبادرتهم إلى الإستغفار بدليل قوله تعالى(أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم) وعلى فرض ستر شطر من عيوب الناس بعموم رحمته عليهم، فإن عيوب الكفار مطلقاً ظاهرة للخلائق يوم القيامة وهي سبب ومادة لعقابهم الأليم.
الخامسة : نسبة المرأة إلى العزيز كزوجة له، وحرمة بيته وعلو شأنه بين قومه وفي المدينة خاصة وهي بلاد مصر لم تشفع له بين النسوة بالصفح والإعراض والستر مما يدل على حصول الجناية في مراودة المتزوجة لرجل أجنبي على الفاحشة , ولم يمنعهن من التحدي له ولعياله بلغة الذم والتبكيت لفعل إمرأته.
السادسة : تحكي القصة أحكام وآداب الزوجية عند قوم مشركين، مما يدل على أن عقد الزوجية نوع عهد جعله الله عز وجل بين الناس وهو من أسرار خلق حواء ونزولها مع آدم إلى الأرض، ومن عمومات قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا]( ).
السابعة : بيان الحجة والدلالة بلزوم تنزه المسلمين والمسلمات عن محاولة فعل الفاحشة , فإذا كانت نساء المشركين ينكرن هذه المحاولة، فمن باب الأولوية القطعية تعفف نساء المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثامنة : بيان الموضوعية في أحاديث نساء المشركين، وعدم التعدي في الخير والإشاعة، إذ أظهرت النسوة الإقرار بأن الفاحشة لم تحدث وأنها مجرد مراودة ومحاولة ولكنها مستمرة ومتجددة بدليل أن الآية لم تذكر المراودة بالفعل الماضي(راودت فتاها) بل ذكرته بصيغة المضارع(تراود فتاها) وفيه آية أن حديث النسوة لإرادة نجاة يوسف من فعل الفاحشة وسلامة شخصه لدلالة الفعل المضارع وما فيه من التجدد على عصمة وعفة يوسف، بالإضافة إلى تجلي معاني هذه العصمة في قوله تعالى[فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ]( ).
ليدل حديث النسوة على عدم مبادرة امرأة العزيز للكف عن ذنبها ومحاولتها فعل الفاحشة مع يوسف، وأن الأمر المستحدث من مصاديق المراودة غير الفرد الذي أمره العزيز بالإعراض عنه وإن ملكة العصمة عند يوسف ثابتة.
لقد جاهد وقاوم يوسف عليه السلام مراودة امرأة العزيز بمفرده بسلاح ذكر الله[وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ]( )، وقد تكررت تلك المراودة مع علم العزيز وبعض أهل امرأة العزيز بالفرد السابق منها لقوله تعالى[وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا]( )، على القول الأرجح(بما ورد عن ابن عباس: كان رجلاً ذا لحية)( )، فإن الله عز وجل سخّر نسوة في المدينة لتناقل خبر المراودة بصيغة الإستهجان والرفض ليدل على فضل الله على الناس في توارثهم لسنن الزواج والنفرة بالفطرة من الزنا وفعل الفاحشة.
لقد جاء القرآن بتحريم الزنا بقوله تعالى[وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً]( )، وفرض حدوداً على الزنا على تفصيل بلحاظ العصمة بالزواج وعدمه.
التاسعة : لقد أرادوا طي المسألة وعدم إشاعتها في المدينة بدلالة ما ورد في التنزيل[يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا]( )، أي أصرف النظر عن الأمر وأطوي صفحته وقد بانت براءتك كيلا يشيع الخبر في المدينة ولأن الفاحشة لم تحصل، ولكن مزاولة امرأة العزيز المراودة من جديد منسبة لإنكار تلك النسوة فعلها أوله وآخره , فيوسف فتى كالعبد عندهم إشتروه بثمن بخس، وهو غريب بين ظهرانيهم ولكن الله عز وجل أكرمه وجعل حتى نسوة المدينة تنتصر له وتثني عليه، وتقر وتعترف بعصمته وتشهد بصبره , قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وآية المحارم موضوع مستقل يشمل أهل الأرض جميعاً من جهات:
الأولى : نسخ الشريعة الإسلامية للشرائع السابقة.
الثانية : لزوم العمل بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب ما نهى عنه.
الثالثة : توجه الخطاب القرآني في الأصل إلى الناس جميعاً، ولكن الكفار حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة، فقوله تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ]( )، الأصل فيه هو: يا أيها الناس حرمت عليكم أمهاتكم) بلحاظ أن هذه الحرمة من الإرادة التكوينية الشاملة للناس جميعاً، وإمتناع الكفار عن دخول الإسلام ليس برزخاً دون العمل بالأوامر والأحكام التكوينية الخاصة بأصل المعاملات، وقد ذم الله كفار الجاهلية في إصرارهم على الربا[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
الرابع : ليس من دليل منفصل أعظم وأكبر من الآية القرآنية في إثبات الحلية أو نشر الحرمة المستديمة في كل زمان، فقد يتخلف الدليل المنفصل ولكن دلالة الآية القرآنية باقية إلى يوم القيامة.
الخامس : لم يذكر الرازي مصاديق الدليل المنفصل ولو على نحو الإحتمال فقد يكون هذا الدليل فرع آية التحريم ذاتها ومترشحاً عنها أو معلقاً عليها موضوعاً وحكماً.
وهل يمكن إعتبار الآية خطاب مشافهة للحاضرين، ويلحق بهم التابعون وتابعوهم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، الجواب لا، إذ تتلقى أجيال المسلمين الخطاب بعرض ومرتبة واحدة، فليس من تفضيل وتقديم لجيل دون آخر .
فمن إعجاز القرآن أن خطاباته غضة حية تتوجه لكل إنسان ذكراً أو أنثى حالما يبلغ سن التبليغ ويتوجه لكل أهل زمان وسكان أي مصر من الأمصار ومنه أن قارئ وسامع آياته يدرك أن هذه الخطابات موجهة له ولقومه، ويعلم كل مسلم أن قوله تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ….] أن أمه محرمة عليه، وأن كل مسلم محرمة عليه أمه، وهو من أسرار صيغة الجمع في خطابات القرآن بأن يتلقى المسلم مضامين الخطاب بمعنى الإفراد والجمع.
ومن منافع هذا التلقي أمور:
الأول : التقيد الشخصي بمضامين وأحكام الخطاب القرآني.
الثاني : إمتثال الجماعة والأمة للأوامر والنواهي الواردة في القرآن.
الثالث : قيام المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإدراكه بأن الخطاب القرآني يتوجه له ولأفراد الأمة جميعاً، ويفهم من قوله تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ….] لزوم سعيه في إمتثال الناس لمضامين هذه الآية وتقيدهم بأحكامها وسننها القريب منه والبعيد.
الرابع : تعاهد المسلمين مجتمعين ومتفرقين لأحكام الآية القرآنية وتعاونهم على العمل بها وتنمية ملكة الإيمان عندهم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
إذ تبين الآية حقيقة وهي وجود سنخية التعاون بين المسلمين وهذا التعاون يجب أن يكون في الخير والصلاح وتثبيت سنن التقوى وبناء صرح الإسلام، ويدرك كل مسلم بأن منه التعاون في الإقرار والعمل بمضامين آية البحث في كل زمان وإلى يوم القيامة والتسليم بتوجه الخطاب التكليفي في الآية لكل مسلم إلى يوم القيامة.
لقد جاء الخطاب في الآية القرآنية بصيغة المذكر[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ…] فهل يشمل الأمهات المحرمات بالنسب والسبب مطلقاً، الجواب نعم،وإن جاءت حرمة الأمهات بالرضاعة بقوله تعالى[وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ]( ).
وتقدير الخطاب للنساء في الآية: حرم عليكن آباؤكن وأبناؤكن وأخوانكن وأعمامكن وأخوالكن وأبناء الأخ وأبناء الأخت وآبائكن بالرضاعة وأخوانكن من الرضاعة وآباء أزواجكن وأبناء أزواجكن من رجالكن الذين دخلوا بكن فإن لم يكونوا دخلوا بكن فلا جناح عليكن وأزواج بناتكن اللاتي من أصلابكن وأن تجتمع الأختين عند زوج إلا ما قد سلف).
ويبين هذا التفسير والبيان والمفهوم الإعجاز في اللفظ والخطاب القرآني ونظمه وأثره في النفوس وتلقي المسلمين لأحكامه بما يشمل المذكر والمؤنث والفرد والجماعة خصوصاً وأن النكاح نوع مفاعلة بين طرفين ويترشح عنه النسب وصلة الرحم والميراث , قال تعالى[وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ]( ).ويبين تخلف المفهوم عن إفادة ذات المعنى والإعجاز وان لم يكن معارضا لمنطوق الأصلاب.
فالمراد في الآية من الأصلاب الرجال , قال تعالى[فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ]( )، وعن ابن عباس قال: هذه الترائب. ووضع يده على صدره)( ).
وليس من حصر للأدلة التي تستفاد وتستنبط من آية المحرمات، ولا برهان على حاجتها لدليل خارجي، وهل إنتفاء الحاجة هذا من عمومات الغنى المطلـق لله عز وجل أم أنه أمـر مختــلف بلحــاظ أن القــرآن هو كــلام الله عز وجل , الجواب لا مانع من الجمع بين الأمرين بدليل قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فما يكون تبياناً وبياناً لغيره ويكون غيره محتاجاً له حتى على القول بعدم تحقق الدور في المقام فإن قلت جاءت السنة النبوية بياناً وتفسيراً للقرآن وهي دليل منفصل في معرفة أحكام آية المحرمات.
والجواب من وجوه:
الأول : السنة النبوية أمر من عند الله عز وجل وإن لم ترق إلى مرتبة القرآن، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثاني : تفسير السنة للقرآن تتمة لبيان ذات القرآن وتأكيد له، ودعوة للسياحة في كنوز علومه.
الثالث : يتجلى الوضوح والبيان في أحكام آية التحريم بذاتها وكلماتها، ومن الإعجاز فيها أن ترجمتها لا تغير فيها ذات الموضوع والحكم والدلالة.
الرابع : تأتي السنة النبوية للتفسير والتثبيت العملي لأحكام الآية القرآنية، ومنع الإختلاف في تفسير مضامينها.
الإشكال الرابع للإمام الرازي قال: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل)( ).
وفيه مسائل:
الأولى : منطوق الآية ليس إخباراً محضاً بل هي من أظهر وأهم آيات الأحكام خصوصاً بلحاظ عموم موضوعها وشموله للناس جميعاً , فلا ينحصر التعدد بأفراد الأرحام التي يحرم نكاحها بل يشمل الصلات اليومية بين ذوي الأرحام بزيادة المودة النسبية وإنتفاء موضوع الشهوة واللذة الجنسية ليكون حسن الخلق فيه من أبواب الثواب وسبباً لنزول الرزق والبركة.
الثانية : من إعجاز القرآن مجيء شطر من الأوامر والنواهي بصيغة الجملة الخبرية التي يشع منها ضياء التكليف ليصل إلى شغاف القلوب , قال تعالى في فريضة الحج[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الثالثة : قيل : الفعل الماضي لا يكون حالاً إلا بقدر مظهراً أو مضمراً، وأستدل عليه بآيات ألا ترى أن قوله في سورة يوسف: (إنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ منْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ)، أن المعنى فقد كذبت)( ).
ولا يستلزم الأمر إضماراً على نحو الإطلاق فقد يكون المعنى ظاهراً في ذات اللفظ , ومنه الآية أعلاه من سورة يوسف، فيتضح المعنى من غير تقدير مضمر، وعلى فرض التقدير فهو أعم من(قد) فيصدق عليه: فأنها كذبت بالإضافة إلى حقيقة أخرى وهي أن تقدير(قد) في الآية قد يؤدي إلى تفسير آخر مغاير للمقاصد السامية والإخبار الغيبي في الآية الكريمة بلحاظ أن (قد) تشبه(ربما) أي بما يفيد الشك والإحتمال، أي أنه يحتمل أنها كذبت وإن كان قميصه قد من قبل، ومع ورود الشك يبطل الإستدلال خصوصاً وأن العزيز يميل إلى الحكم إلى صالح زوجته ويحاول تنزيه سمعته وبيته.
ومن معاني (قد) التوقع والإجمال على وقوعه مع الفعل المضارع كما تقول قد يهل هلال العيد الليلة، وقال جماعة بثبوته مع الفعل الماضي قال الخليل(قد فعل) لقوم ينتظرون الخبر، وعن قول المؤذن: قد قامت الصلاة، لأن الجماعة منتظرون ).
وتفيد (قد) التقليل كما تقول: السيف ينبو، والجواد يكبو، والأثر يعفو، والحليم يهفو، وتفيد التحقيق والتقريب والتكثير.
الرابعة : جاءت آية التحريم بالبيان الذي لا يتوقف على تقدير إضافة حرف أو كلمة، ليكون من وجوه وأفراد إعجاز اللفظ القرآني إنتفاء طرو أسباب الإجمال والترديد عليه، وهو من مقومات وأسرار بقاء الحكم القرآني إلى يوم القيامة ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
فمن معاني حبل الله في الآية أعلاه الأوامر والنواهي التي جاءت في القرآن، ولما نهى الله عز وجل عن الفرقة والإختلاف بقوله تعالى(ولا تفرقوا) فانه تفضل ومنع مقدمات الفرقة بأن ذكر المحرمات في النكاح بلغة البيان وبما يفيد القطع والتأبيد وتجدد خطاب التحريم بكل آن بأوجز وأقل الكلمات وأظهر الدلالات ومنها صيغة الماضي التي جاءت بها الآية وما فيها من معاني الإمضاء والثبوت.
الخامسة : يأتي الفعل الماضي بمعنى الإستمرار والدوام مع إنتفاء الدليل على الإنقطاع المؤقت والطارئ، ومن مصاديق إرادة الدوام في الفعل الماضي قوله تعالى[وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( )، [وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا]( )، أي لم يزل ولا يزال يتصف بالمغفرة والرحمة والقدرة المطلقة.
السادسة : تأتي كان بمعنى صار أي صرتم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة لتكون مجتمعة ومتفرقة إعجازاً متجدداً للقرآن، وتأكيداً لحقيقة قرآنية وهي تعدد المعاني المباركة للفظ القرآني وبما يتسع لأفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل وإن ورد باحدى هذه الصيغ، وذكر الرازي أربع إحتمالات للفظ(كان) في قوله تعالى[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، منها أنها زائدة (وقال بعضهم قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} هو كقوله {واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} وقال في موضع آخر {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ} وإضمار كان وإظهارها سواء إلا أنها تذكر للتأكيد ووقوع الأمر لا محالة: قال ابن الأنباري: هذا القول ظاهر الاختلال، لأن (كان) تلغى متوسطة ومؤخرة، ولا تلغى متقدمة)( ). ولابد للمفسر أن يعتمد قانوناً ثابتاً في تفسير كل آية وهو أن الوجه النحوي المحتمل لقراءتها لا يمنع من الوجوه الأخرى فهو في طولها، فلا يتبنى ويقف عند حكم على إعتبار (كان ) زائدة.
وقوله تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( )، وردت الآية أعلاه حكاية عن شعيب وهو يعظ وينذر قومه مدين , وذكرت في الآية وجوه:
الأول : كثر عددكم بعد القلة، عن ابن عباس: وذلك أن مدين بن إبراهيم تزوج زينا بنت لوط وولد آل مدين منها)( ).
الثاني : كثركم بالغنى بعد الفقر.
الثالث : كثركم بالقوة بعد الضعف عن الزجاج.
الرابع : كانت الكثرة بإطالة أعمارهم بعد قصرها.
أما قوله تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ]( )، فوردت خطابا للمسلمين، وعطفت على نداء الإكرام والتشريف[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ]( )، وتبين الآية أن الله عز وجل آوى المسلمين الأوائل فهاجروا إلى يثرب، وأيدهم بنصره مع قلتهم كما في معركة بدر , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، وكان عدد المشركين نحو ألف من المقاتلين ولا يبلغ جيش المسلمين إلا مقدار ثلثهم، لذا ورد في تفسير قوله تعالى[وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ]( ) عن السدي أنه يوم بدر( ).
ولكن المعنى مختلف موضوعاً وحكماً، فقد جاءت الآية أعلاه بالإخبار عن نصر الله بقوله تعالى(ولقد نصركم) والتأييد بالنصر أعم في موضوعه ومدة زمانه وأثره.
وجاءت الجملة إسمية (أنتم قليل) لبيان إستدامة حال القلة والإستضعاف عند المسلمين ومع هذا نصرهم الله عز وجل ليكون من الشواهد على أن المسلمين (خير أمة) بأن إجتمعت فيها أمور:
الأول : بيان ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الأوائل من الأذى في جنب الله لإستدامة حال قلتهم بالنسبة والقياس لكثرة الكفار.
الثاني : الشهادة السماوية لمراتب صبر المسلمين.
الثالث : الإخبار عن نصر المسلمين في معاركهم اللاحقة من باب الأولوية القطعية، فإذا كانوا وهم قلة صابرين ومؤَيدين بنصر من الله فإن الله سبحانه ينصرهم أيضا وهم كثرة وأعزة ليسوا مستضعفين , وذات النصر الأول مقدمة لصيرورتهم أعزة ولنصرهم .
الرابع : جاء الخطاب والتذكير بقلة وضعف المسلمين من الله عز وجل وليس من النبي، كما في لومقوم شعيب حكاية عنه .
الخامس : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على تعدد النعم التي تبينها الآية أعلاه من سورة الأنفال.
السادس : بيان عظيم قدرة الله عز وجل في نصر المسلمين وهم في حال قلة ونقص وفق قواعد ومستلزمات القتال، قال تعالى[كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً]( ).
والنسبة بين قوله تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً]( )، وقوله تعالى(إذ أنتم قليل) هي العموم والخصوص من وجه، وهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق، وهو من أسرار التباين في اللفظ بين الآيتين.
وهل يختص قوله تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ]( )، بالصحابة في بداية الإسلام , الجواب لا، فهو خطاب عام يشمل المسلمين والمسلمات وعليهم أن يذكروا حالهم من القلة والضعف في السنين الأولى للإسلام فيزدادون شكراً لله، ويتعاهدون الإيمان ويتوارثون العمل بسنن الشريعة.
السادسة : لا أصل لقول الرازي: ظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل) .
فلا يؤخذ اللفظ من جهة الفعل الماضي وحدها وإن كانت تدل على الإستمرار بل تلحظ لغة الخطاب وإرادة الزمن الحاضر والمستقبل منها ولغة الإطلاق فيها، ففي كل يوم يتوجه الخطاب الإلهي للمسلمين بأنه[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ…..]( ).
وتقديره حرمت عليكم أمس واليوم وغداً، ومن الإعجاز بلغة الماضي في الآية أن الأمومة والعمومة والخؤولة مصاحبة للولادة فحالما يقع الطفل تكون له أم وعمة وخالة، ليكون النسب سابقاً للوعي والإدراك عند الطفل فما أن يفتح عينيه على الدنيا حتى يعلم أن حكم المحارم سابق وحالّ ولاحق.
السابعة : كرر الرازي الحاجة إلى دليل منفصل في إشكاله الثاني والثالث والرابع المتقدمات، ولم يذكر مثل هذا الدليل كي يشكل عليه فالأصل عدم الحاجة إليه، والأمة تعمل بمضامين هذه الآية من حين نزولها لتجلي الحكم بمنطوق الآية الكريمة ذاتها، وهو من المسلمات عند القارئ والسامع من المسلمين وغيرهم .
(وروي: أنّ النضر بن عبد الدار بن قصي قال: إن الملائكة بنات الله فنزلت، فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقني. فقال له الوليد بن المغيرة: ما صدقك ولكن قال: ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة: أن لا ولد له)( ).
ولم يشكل المشركون والمجوس وغيرهم على مضامين آية المحرمات أو يقولوا أنها خاصة بالزمن الماضي , بل تفيد الآية أن تعيين المحارم من المتسالم والمتوارث بين الناس وجاء الإسلام لتثبيتها إلى يوم القيامة، ومن العرب من تزوج امرأة أبيه قبل الإسلام منهم صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاخته بنت الأسود بن المطلب بن أسد , ومنهم عمر بن أمية بن عبد شمس تزوج امرأة أبيه أمية , ومنهم منظور بن ريان بن سيار نكح زوجة أبيه مليكة بنت خارجة ، وخلف أبو قيس ابن الأسلت تزوج أم عبيد الله بنت صخر وكانت تحت أبيه الأسلت.
وتزوج الأسود بن خلف زوجة أبيه خلف وهي إبنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وتزوج كنانة بن خزيمة امرأة أبيه فأولدها إبنه النضر بن كنانة (عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يُحَرِّمون ما حرم الله، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ})( ).
فجاء الإسلام ليحرم هذا النكاح ويمنع من إستدامته (وأخرج عن البراء قال: لقيت خالي ومعه الراية قلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله)( ).
وفي قوله تعالى[إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً] { وَمَقْتًا } أي: بُغْضًا، أي هو أمر كبير في نفسه، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله، ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة، لأنهن أمهات، لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو كالأب [للأمة] بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه)( ).
ولكن لم تحرم إمهات المؤمنين لأن زوج المرأة يبغض من كان زوجها قبله، وإن أقر ابن كثير بأنه الغالب ويأتي سبب للحب أقوى منه، لذا إستدرك فقال لأنهن أمهات .
فتترشح الحرمة من كونهن أمهات المؤمنين جميعاً بقوله تعالى[النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن يذكر الأمهات على نحو الإطلاق[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ]( )، ثم ذكر الأمهات اللاتي قمن بالرضاعة، في ذات الآية، بينما أخبرت آية مستقلة بأن أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمهات المؤمنين، ليكون فرعاً ومصداقاً من مصاديق قوله تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ]( )، وهو لا يتعارض مع كونه أمراً مستقلاً في دلالته وسنخيته ومنافعه.
وظهرت في هذا الزمان مسألة إبتلائية وهي نقل البويضة الملقحة والجنين من رحم الأم إلى غيرها وكأنه من الحقيقة والمجاز، وقد يأتي زمان الإستنساخ وأخذ خلية من الرجل أو المرأة.
الإشكال الخامس الذي ذكره الرازي بخصوص آية المحرمات هو(أن ظاهر قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم ، ومعلوم أنه ليس كذلك، بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد ، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة، وبنته خاصة، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر)( ).
والجواب لا تصل النوبة إلى العدول عن الظاهر الذي يقتضي ظهور معنى في الذهن كالشبهات البدوية , ولكنه سرعان ما يزول بلحاظ القصد والقرينة، والأمارة الصارفة عن المعنى الظاهر وما ذكره الرازي بأنه ظاهر الآية ليس بتام فحتى على فرض موضوعية صيغة الجمع في التحريم فأنها تبين حرمة نكاح أمهات المخاطبين، فكل ذكر تكون أمه و إبنته ونوهن من المحرمات محرمة عليه.
وليس من مصداق خارجي لقوله هذا فهو ليس من الظاهر، فلا تكون النساء كلها أمهات لكل واحد من المسلمين، أو تكون كلها بنات له، وقد يصدق على المرأة أنها أم وبنت في آن واحد مع التباين الجهتي , فعندما يكون أبوها وإبنها من الأحياء، أي أن التعدد ملازم للصفة، فلا يجمع أحد بين الأبوة والبنوة لفرد واحد من النساء.
ومن إعجاز لغة الجمع في الآية تعدد الأمهات بلحاظ أن أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هن أمهات المؤمنين، بالإضافة إلى الإرتقاء العلمي والطبي في هذا الزمان، ونقل الحمل بين الأرحام ونحوه، لذا لو جاءت الآية بصيغة المفرد(حرمت عليك أمك) لصارت قاصرة عن الإحاطة بالموضوع لأن المؤمن له أكثر من أم ومنهن أزواج النبي وقد إنتقل إلى الرفيق الأعلى عن تسع زوجات ، وورد قوله تعالى(وبناتكم) لتعدد البنت عند الفرد الواحد، وقد لا يكون عند الإنسان بنت من وجوه:
الأول : الذي لم يتزوج بعد.
الثاني : من تزوج ولكن لم ينجب.
الثالث : من كان أبناؤه كلهم ذكور حتى في الأحفاد.
وكذا بالنسبة للأمهات من الرضاعة، فالذين أرضعتهم نساء بما ينشر الحرمة ويترتب على الرضاعة الأثر والحكم نسبة قليلة من المسلمين، ومع هذا ذكرت الآية الأمهات والأخوات بالرضاعة.
الإشكال السادس الذي أورده الرازي: (إن قوله: {حرمات} يشعر ظاهره بسبق الحل ، إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله:{حرمات} تحريماً لما هو في نفسه حرام، فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال ، فثبت أن المراد من قوله: {حرمات} ليس تجديد التحريم حتى يلزم الاشكال المذكور، بل المراد الاخبار عن حصول التحريم، فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب، والله أعلم)( ).
والظاهر هناك تصحيف من النساخ، إذ تكرر لفظ(حرمات) ثلاث مرات، والمراد(حُرمت) مع الضبط والدقة في تنقيح كتابه , ولم يرد لفظ(حرمات) في القرآن إلا مرتين أحداهما تتعلق بالقصاص( )، والأخرى في قوله تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ]( )، لبيان خصال المتقين إتيان الفرائض والواجبات وإجتناب المعاصي وما فيه سخط الله، والآية أعلاه تقريب للناس إلى الجنة والخلود في نعيمها.
وصحيح أن إيجاد الموجود محال لأنه تحصيل لما هو حاصل، لكن النقاش في الكبرى وهي دعوى الشعور بسبق الحل والإباحة من ظاهر قوله تعالى(حرمت) وليس هو من إيجاد الموجود بوجود آخر بل يتعلق الأمر بالتشريع والإخبار عن سبق سنن التوحيد وقواعد النكاح في الأمم السابقة وإن حرمة نكاح المحارم إنما تتوجه للمسلمين بما أنهم من الناس أولاً، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ويمكن تأسيس قاعدة وهي لو دار الأمر في التشريع الوارد بصيغة الماضي بين كونه موجوداً بالأصل مع أنه مستحدث , فالجواب هو الأول قال تعالى[سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]( ).
ومن إعجاز آية المحرمات لحاظ مراتب الإرث فيها , وموضوعية القرب والرحم والصلات اليومية، إذ بدأت بالأمهات والأم أقرب الناس للولد ويصل إلى سن البلوغ وهو في حجرها، ثم البنات إذ ينشأن ويكبرن في بيت الأب وتربيته وعنايته، وكل من الأم والبنت من المرتبة الأولى للإرث، ثم ذكرت الآية الأخوات وهن من المرتبة الثانية في الإرث ، يشاركهن الأخوان والجدات والأجداد، ثم جاءت حرمة العمات والخالات وهن من المرتبة الثالثة , ولكنهن جميعا في حكم مرتبة واحدة في حرمة الوطئ والنكاح, لأن هذه الحرمة من الكلي المتواطئ الذي تتساوى أفراده , ويدرك هذه الحقيقة كل مسلم والحمد لله رب العالمين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطـائي
صاحــــــــب أحســـــــــــــن تفســـــــــير للقرآن
وأستاذ الفقه والأصول والتفســير والأخــلاق العدد: 539
___________________ التاريخ: 24/7/2012 /
5/ رمضان 1433هـــ
م/ جواز تولي المرأة القضاء وفق قوانين ومواد منصوصة
الحمد لله الذي جعل المسلمين حكاماً وأمراءً، ولهم دولهم وأمصارهم، وثغورهم التي يدافعون عنها، ويتولون القضاء والحكم بين الناس فيها وفي غيرها ، وهو مقام رفيع، ومن رشحات النبوة، وأغصان التنزيل وهو واجب كفائي لمن أحرز شرائطه , وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى انه لم يقض بين اثنين في تمرة قط) .
والقاضي والفقيه والحاكم والمفتي والمجتهد أسماء ومصاديق لمسمى واحد، فيسمى قاضياً لأنه يقضي في الخصومات، وفقيها لإحاطته بالأحكام كالحل والحرمة والصحة والفساد، وإستقرائها من القرآن والسنة وحاكماً لأنه يحكم بين الناس، ومفتياً لأنه يبين الأحكام والقواعد الكلية لتنطبق على مصاديقها، ومجتهداً لإستنباطه الأحكام من أدلتها التفصيلية ولكن موضوع القضاء في الدولة هذا الزمان مختلف، إذ أن القاضي مقيد بنصوص ومواد لا يحق له تجاوزها، والإفتاء بما هو خارج عنها.
وإجماع علماء الإسلام على عدم جواز تولي المرأة القضاء، وهو المختار وخالف أبو حنيفة بجواز توليها له في الأموال دون القصاص والحدود، ولكن هناك تباين في الموضوع، فالقضاء في هذا الزمان عمل بمواد قانونية ومسائل وضعية مبينة ولها حد أعلى وحد أدنى في الحكم والغرامة وقد تكون مادة الحكم تعيينية وليس تخييرية بما يخفف الأمر فلا يجوز للقاضي تجاوزها إنما هو أجير مختص يعمل بعقد ويعرض حكمه على من هو أعلى منه من محاكم الإستئناف والتمييز والإدعاء العام ونحوها، ويكون حكمه قابلاً للطعن والنقض.
وأستدل على عدم جواز تولى المرأة للقضاء بأدلة هي:
الأول: قوله تعالى[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ] وهو عمدة الأدلة , وإذا كانت المرأة منعت من الولاية الأسرية وهي أصغر الولايات فمن باب الأولوية منعها من القضاء والوزارة، ولكن ورد في أسباب نزول الآية أعلاه(قال مقاتل نزلت الآية في سعد بن الربيع بن عمرو، وكان من النقباء , وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير و هما من الأنصار و ذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي فقال أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي لتقتص من زوجها فانصرفت مع أبيها لتقتص منه , فقال النبي ارجعوا فهذا جبرائيل أتاني وأنزل الله هذه الآية وقال: أردنا أمراً وأراد الله أمراً، والذي أراد الله خير، ورفع القصاص)( ).
وصحيح أن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول إلا أن الآية خاصة في الحكم داخل الأسرة وتنظيم شؤونها بما يكفل الإستقرار ويبعث السكينة في المجتمعات الإسلامية ، ويخفف عن المحاكم ودوائر القضاء فلا تصل الخلافات داخل الأسرة إليها، بل تبقى ضمن أسوار عالية شيدت صرحها الآية أعلاه وآية[وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً]( ) فتنقض آية المودة الخلاف، وتأتي عليه، ولو رفع الزوجان كل خلاف بينهما إلى المحاكم لغصت بهم، وعجزت عن خصومات كثيرة، وصار من الصعب رجوع الزوجين إلى حال المودة والوئام، ولماذا لم يستدل القائلون بعدم تولي المرأة للقضاء بإنحصار الطلاق بيد الزوج دون الزوجة ولكن ذات الزوج والطلاق عقد بقبول وإيجاب , وللمرأة الخيار التام في عقد النكاح والرضا بالزوج وعلمها بدلالة هذا العقد بالدلالة التضمنية أن الطلاق بيد الزوج ولا بد من التفكيك بين الصلة الزوجية وأحكامها، وبين عمل المرأة أو الرجل خارج المنزل، ولزوم تقيدهما بشرائطه.
وقبل بضع سنوات عقدت ندوة في الإمارات لرجال قضاء من أوربا ودول عربية فقالت أحدى المحاضرات الأوربيات : لماذا يأمر القرآن بضرب المرأة؟ أي أنها تشير لقوله تعالى(وأضربوهن)( ) من الآية أعلاه , وقلت لبعض الحاضرين فاضل من القضاة آنذاك : هل رددتم عليها بالبيان والحجة. إذ تضمنت الآية أمرين:
الأول: علة الضرب فلا يصح الضرب إلا بخصوص التي يخاف كراهيتها لزوجها ومعاشرته.
الثاني: الترتيب، فلا يأتي الضرب إلا بعد مرتبتين وهما:
الأولى: الموعظة والنصح للزوجة والتذكير بوظائفها الشرعية.
الثانية: هجران الزوج للزوجة في الفراش وعلى نحو متكرر , وليس مرة واحدة للغة الجمع[وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ] وإن كانت بلحاظ خطاب الجماعة , والمشقة على الزوج ظاهرة للوجدان في مثل هذا الهجران واوانه, وكأن الآية تقول له إن لم تقدر على هذا الهجران المؤقت والقليل زمانا وموضوعا فاصبر حلما في معاملة الزوجة وإتجه للغة الإصلاح , وتأخير المؤاخذة , وعدم الوقوف عند أمر مخصوص وهو خشية النشوز ولزوم لحاظ قاعدة تقديم الأهم على المهم .
ولو حصل الضرب بعدها فيكون بالمسواك وهو عود تدلك به الأسنان مأخوذ من فروع شجر الآراك بطول الأصبع، مما على يدل على إنعدام الأذى بالضرب فيه , وفي رواية الضرب لا يكون مدمياً ولا مبرحاً، أي لا يخرج معه الدم، ولا يكون شديداً بالعصا.
لقد أراد الله عز وجل التخفيف عن المحاكم بالإصلاح الذاتي للأسرة، وتولي الرجل المسؤولية فيها، ولو نشزت القاضية عن زوجها فهل تشملها أحكام الآية أعلاه الجواب نعم، وقد يكون النشوز من الرجل قال تعالى[وَإِنْ امرأة خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ).
الثاني: ما ورد في حديث أبي بكرة قال: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى فقال : “لن يُفلِح قومٌ وَلَّوا أمْرَهُم امرأة”)( ).
وقيل أن الحديث يثبت الكراهة التحريمية، على المبنى بتقسيم الكراهة إلى تحريمية وتنزيهية , ولم يثبت التحريم إلا بدليل قطعي وقد بينا في البحث الخارج لعلم الأصول أن الأحكام التكليفية خمسة وهي الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم .
ويبين الحديث معنى التولية وهي الإمامة ورئاسة الدولة وشؤون الحكم المطلق، وأما موضوعنا فهو القضاء المقيد بنصوص ومواد ليس للقاضي تجاوزها أو الخروج عنها وقد يحكم وفقها ولكن يأتيه الطعن والنقض بسبب ضعف ووهن الأدلة.
الثالث: أستدل بقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار ورجل عرف الحق فجار فهو في النار).
ووجه الإستدلال لفظ الرجل، وأنه يدل بمفهوم المخالفة على خروج المرأة من الأهلية للقضاء , ولكن لفظ(الرجل) يأتي لتغليب المذكر كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( )، مع أن الصوم مفروض على الرجال والنساء بعرض واحد، ويقال القمران ويراد الشمس والقمر، والتثنية أخت العطف , ولو قلنا أنه خاص بالرجال فإنه يحمل على القضاء المطلق المبني على إستنباط القاضي إبتداء.
الرابع: يحتاج القضاء إلى كمال الرأي والفطنة وتمام العقل، والمرأة معرضة للنسيان، إذ جعل الله شهادة إثنتين من النساء بشهادة رجل واحد، قال تعالى[فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ]( ).
ولكن يتقوم القضاء في المحاكم الوضعية بالتدوين سواء لمواد القانون أو للدعاوى والشهادات وأصول المرافعات.
الخامس : ما يعتري المرأة من أمور النساء كالحيض والحمل والولادة)، وفيه لا دليل على تأثير هذه الأمور التكوينية الجسدية على ماهية الحكم وإقتباسه من أدلته المنصوص عليها في القانون، بالإضافة إلى الإطلاق بأن القاضي لا يحكم إذا كان في مزاج غير ملائم.
السادس: غلبة العاطفة على المرأة ),
ولكنها مقيدة بقوانين ومواد ليس لها أن تتجاوزها، وطول مزاولة المرأة للمحاماة والقضاء ينمي عندها ملكة التقيد بالضوابط القانونية من دون أثر زائد للعاطفة وقد تكون هذه العاطفة أمراً حسناً في ظل أحكام وضعية تبتعد عن الحكم الشرعي وحصول حالات إحباط بين السجناء وأهليهم , وعدد من الجنايات ليس فيها سجن مرسوم , وما يسمى بالحق العام , مع إعتبار لزوم عدم التفريط والتخفيف والتهاون المخل والضار.
وفي الوقت الذي نقول بعدم جواز تولي المرأة للقضاء الذي عليه الإجماع الذي تستنبط فيه الفتوى والحكم فيه من الأدلة التفصيلية ,فإنه يجوز أن تتولى المرأة القضاء في المحاكم التي تعمل بالقوانين الوضعية ونصوص العقوبات الثابتة تلك التي تخضع وفق نظامها للنقض والإبرام ولغة الجدل والبرهان التي يقوم بها المحامون( ) لتبدل الموضوع فهذه المحاكم والقوانين لا تكون فيها يد القاضي مطلقة بل هي مقيدة قبل إصدار الحكم بالأنظمة والقوانين، وبعد الحكم بالإستئناف، وإمكان العرض على مواد وقوة القانون.
وقد يقال بكراهة تولي المرأة للقضاء لوجوه:
الأول: وظيفة القاضي في المحاكم الوضعية كفائية، والمؤهلون من الرجال للقضاء كثيرون.
الثاني: الجواز أعم من الوقوع.
الثالث: الأفضل للمرأة إجتناب منازل وأسباب الفتنة والإفتتان.
الرابع: عدم الخروج عن الإجماع.
قال تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، في إشارة لموضوعية الإستغفار والندم في تخفيف الحكم في قانون العقوبات وأروقة المحاكم، نرجو إجراء دراسة مقارنة في هذا الباب بين الحكم الشرعي والوضعي، والإقتباس من أثر الندم وموضوعية الإعتذار في حيثيات وماهية الحكم في القوانين الأوربية وغيرها أيضاً ومطابقتها للتشريع الإسلامي , وجاء قوله تعالى[خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( )، لبعث الحكام والقضاة على الرأفة في الأحكام والتخفيف في العقوبات , وعدم توجيه اللوم للقاضي إن تسامح في ماهية ومقدار العقوبة , والمراد من العرف أي الأمر المعروف.
وينبغي أن تكون موضوعية للقيادة السياسية بالتخفيف في قوانين العقوبات بما يتناسب والتغييرات في سنخية وحال وتأثير الشعوب وزمان العولمة، وحاجة تلك القيادات وبقائها في دفة الحكم لإجتناب التشديد والغلظة في الأحكام, فلا أحد يتوقع سقوط سريع لنظام حكم شمولي بسبب صفعة شرطية لبائع متجول بمدينة تبعد عن العاصمة التونسية 265 كيلو متراً، ولا هجوم المتظاهرين على السجون وخروج آلاف السجناء حال إستقالة رئيس الدولة ليس تحت قوة القانون، بل تحت إرادة وقهر الشعب ووطأة الجور .
وينبغي في زمن العولمة إعادة قراءة أحكام العقوبات والأمر بالحجز والسجن , وإجراء تغييرات فيها بلحاظ تبدل الأحوال ، بعيدا عن الغايات السياسية , وإدراك حقيقة وهي إتصاف الشريعة الإسلامية بالسماحة , والشواهد كثيرة ، وقصة ماعز مشهورة إذ أخبر النبي بأنه فعل فاحشة (فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلامه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان معه: أبصاحبكم مس؟ قال ابن عباس: فنظرت إلى القوم لأشير عليهم فلم يلتفت إلي منهم أحد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك قبلتها قال: لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمسستها قال: لا، قال: ففعلت بها ولم تكن؟ …..الحديث) ( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال يا رسول الله إني أصبت ذنبا فأعرض عنه , فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة قام الرجل فأعاد القول فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أليس قد صليت معنا هذه الصلاة و أحسنت لها الطهور قال بلى قال فإنها كفارة ذنبك)( )، وأخرج مثله أحمد والبخاري ومسلم عن أنس يرفعه( ).
وعن يحيى بن أبي كثير: أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه عليَّ. فجلده ثم صعد المنبر والغضب يعرف في وجهه، فقال: أيها الناس إن الله حرم عليكم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فمن أصاب منها شيئاً فليستتر بستر الله، فإنه من يرفع إلينا من ذلك شيئاً نقمة عليه)( )، أي لم يحكم على الرجل بالسجن , والتوبة ندامة وستر وتدارك ورجاءً للرحمة والعفو.
وستتجلى للمشرعين مناسبة الحكم الشرعي قرآناً وسنة لأحوال المجتمعات وصلاحها، قال تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى].

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn