معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 104

المقدمــــــــة
الحمد لله الأول قبل الزمان والمكان والملك قبل الإطلاق والتقييد والآخر الأبدي بعد زوال الموجودات، الذي جعل مخلوقاته عظيمة باهرة لتدل على بديع صنعه وعظيم قدرته وسلطانه، القريب منا من غير مس وإثارة لحس , المتجلي ببهاء للوجدان.
الحمد لله الذي أتقن كل شيء بحكمته والذي عرّف نفسه للخلائق برزقه الكريم وإحسانه عليها وشدة حاجتها لرحمته في كل آن من أفراد الزمان وتفضله برسالة النبي محمد سيد الأولين والآخرين، صاحب الحوض ومفتاح الشفاعة، والفائز بالوسيلة صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين وسلم.
وفي قوله تعالى[عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا]( )، ورد عن حذيفة قال: يجمع الناس في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا قياماً ، لا تكلم نفس إلا بإذنه ينادي: يا محمد، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والشرّ لَيْسَ إليك، والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت فهذا المقام المحمود)( ).
الحمد لله الذي جعل السنن تتعاقب على الأرض وهو سبحانه يقرب الناس بلطفه إلى مناهج الصلاح، ويبعدهم عن السنن المذمومة، ومنه آية البحث وهي السابعة والثلاثون بعد المائة من سورة آل عمران التي هي لطف جلي يدعو الناس للهداية والرشاد، ويحثهم على نبذ سنن الكفار والمكذبين.
ومع أن آية البحث تتكون من عدة كلمات فقد جاء هذا الجزء خاصاً بها لأنها فيض سماوي تتزاحم في ثناياه العلوم وتترشح من مضامينها دلائل الإعجاز لتأخذ بيد المسلم والمسلمة في مسالك التقوى، وتجعلهما في حرز ومأمن من الغفلة والجهالة، فقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان يومي متجدد مع إمكان التدارك بالتوبة والإنابة.
وإبتدأت وأختتمت الآية بالخبر وبما يفيد تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا، وزيادة إيمانهم، وتوثيق بديع خلق الله بتعاقب المذاهب والطرق على الأرض وأنه تعالى يعلمها ويعلم التباين بينها إلى أن جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأخبر الله عز وجل الناس عن تلك السنن لبيان الإنعطاف نحو الإحسان فيها بصيرورة الإيمان هو الغالب وأن كلمة الله هي العليا.
وتدعو الآية المسلمين إلى نبذ الفرقة والخلاف بلحاظ أنهم أمة واحدة ومنهج متحد والناس كانوا على سنن مختلفة، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( ).
وتتضمن الآية خبرين وأمرين، أما الخبران فهما:
الأول : قد خلت من قبلكم سنن.
الثاني : عاقبة المكذبين.
وأما الأمران فهما:
الأول : فسيروا في الأرض.
الثاني : فانظروا .
ليجتمع الخبر والأمر في مدرسة القرآن بما ينفع في إرتقاء المسلمين في سلم المعارف، وإدراكهم للوظائف الشرعية الملقاة على عاتقهم مجتمعين ومتفرقين في تعاهد سنن التقوى، وهو من مصاديق[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من وجوه:
الأول : المسلمون هم الأمة التي تتعاهد تأريخ الأمم والشعوب.
الثاني : عرض المذاهب المتقدمة على ملة التوحيد، فما كان موافقاً لها فهو من الحق والصدق.
الثالث : شهادة المسلمين على الأمم السابقة، قال تعالى[وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]( ).
الرابع : بيان مصداق رحمة الله بنزول القرآن وخطاباته الخاصة والعامة، فمثلاً جاء التحذير والإنذار للناس جميعاً من الغواية في ثنايا بيان الفضل الإلهي ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ) .
وفيه حجة بأن آيات القرآن تصل إلى الناس جميعاً بتلاوة المسلمين لها وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من مصاديق التوقي والإحتراز من الشيطان، ومن أسرار بلوغ إنذارات القرآن إلى الناس وجوب القراءة في الصلاة اليومية على كل مسلم، ومنها القراءة الجهرية في صلاة الصبح والمغرب والعشاء ليسمع ويستمع لها الناس، ويقتبسوا منها العلوم، وإدراك حقيقة وهي أن دعوة التوحيد تعقبت المذاهب المختلفة.
الخامس : بيان أحوال الأمم، وإخبار المسلمين عما مرّ وإنقضى على الأرض، وتدل آية البحث على حقيقة وهي أن المسلمين أكثر أهل الأرض معرفة بتأريخ الأمم ومناهج وسنن الملل.
السادس : إقتباس المسلمين من الصالحين من الأمم السابقة، قال تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ]( ).
السابع : وراثة المسلمين للأنبياء والصالحين.
الثامن : تعاهد المسلمين لأحكام الشريعة والثوابت فيها مثل بر الوالدين، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات.
التاسع : إكرام المسلمين بصيغة الخطاب في الآية، وبعثهم للإنقطاع إلى الله، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
العاشر : إتخاذ المسلمين تأريخ الأمم والتباين في السنن موعظة وعبرة وسبيل للصلاح ومناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الحادي عشر : بيان فضل الله على المسلمين بتمكينهم من السير في الأرض بغايات حميدة بالتدبر بالآيات، وهو من مصاديق وراثتهم للأنبياء، قال تعالى[وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثاني عشر : إرتقاء المسلمين في مراتب الإيمان، لأن الشواهد والآيات في الأرض تزيدهم إيماناً بلحاظ تدبرهم وتفكرهم بها سبباً ونتيجة وموضوعاً وحكماً، وفعلاً وعاقبة.
الثالث عشر : إعانة المسلمين في الجدال والإجتجاج وإستحضارهم للآية الحسية من الأطلال والآثار وإبطال مغالطات الكفار، ليكون المسلمون جنود الله في إقامة الحجة، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وآية البحث من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فآية البحث رحمة قائمة بذاتها من وجوه:
الأول : موضوع الآية، وما فيها من السياحة في الماضي السحيق.
الثاني : أحكام الآية، والقطع بإتحاد الجزاء الدنيوي للجاحدين والظالمين بصيرورة ديارهم بلقعاً.
الثالث : الأمر الإلهي للمسلمين بعدم الإقامة في موضع واحد، فلابد من التلبس بالسفر وتحقيق الإمتثال.
الرابع : تأكيد حقيقة وهي تجلي الآيات والبراهين في الحضر ومن حول الإنسان، وعند السفر، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
الخامس : الإخبار عن التأريخ بما يفتح الباب للدراسات العلمية والتحليل والإستنباط، وفيه دعوة للناس لعدم ترك الماضي والإكتفاء بالحاضر والمستقبل.
فصحيح أن الإنسان بحاجة إلى العمل والكسب، ولكن الماضي هو الكنز الذي تقتبس منه الدروس والعبر، ويتخذ أساساً لصرح البناء والإرتقاء.
السادس : بعث النفرة في النفوس من التكذيب بالآيات، لأن عاقبته الخزي والهوان، وهو نقيض ما يحبه الإنسان وملكة الأمل التي تصاحبه في الحياة الدنيا.
السابع : إبتعاد الناس عن أرباب الكفر والضلالة والإعراض عن لغة الشك والريب والجدال بالباطل التي يتخذونها سلاحاً لمحاربة الإسلام والنبوة والتنزيل.
فمن إعجاز القرآن أن تأتي الآية في موضوع مخصوص ولكن أحكامها أعم، وليس من حصر للمسائل التي تستنبط منها، والفوائد التي تترشح عنها.
الثامن : تأكيد ملكية الله للأرض ودعوة المسلمين للإنتفاع منها، وعدم ديمومة الإقامة في المصر والبلد وما قد يترشح عنها من الخصومة والنزاع في الملكية والتنافس في الأعمال للزيادة في السكان والرغائب وبقاء ذات المكاسب المحدودة، فبدل أن يتخاصم ويتنازع أهل البلدة يتباعدون وتزداد فرص العمل والكسب لديهم، وتستمر أواصر المودة وأسباب الإعانة بينهم، كما أن التباعد في السكن والديار لا يسقط أو يحجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
وقد يسافر المسلم للحج الواجب بالذات أو العرض أو المندوب أو إمتثالاً لأمر الله في رؤية عاقبة المكذبين فيرى رزقه في موطن آخر ويميل إلى الإقامة فيه مع اليقظة والحذر من المكذبين وإستحضار سوء عاقبتهم، ليكون هذا الإنتقال والإقامة مقيداً ومتزيناً بالإيمان والصلاح.
وتتضمن آية البحث التحدي بصيرورة سلطان وعروش المكذبين أطلالاً مندرسة، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن بأن ترى الشواهد والمصاديق للآية القرآنية، فإن قلت من المكذبين من يستمر علو شأنهم في الدنيا.
والجواب تتضمن الآية الإخبار بأن هذا الشأن إلى إنحطاط وزوال، قال تعالى[وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً *سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً]( ).
وتبين الآية أعلاه حتمية الزوال والهلاك لسلطان وأشخاص المكذبين ليكون من سنة الله في الأرض وأسرار الخلافة فيها تغشي الغبطة للمؤمن لحسن إختياره ولعلمه بإنتقام الله من عدوه، وإحاطة الكآبة بالكافر لأن هلاكه لابد منه إلا أن تدركه التوبة التي يفيد مفهوم الآية الترغيب بها والحث عليها بلحاظ حرص الإنسان على إجتناب الضرر، ودفع الأذى عن نفسه سواء كان قريباً ظاهراً، أو خفياً يزحف إليه، كما هو في سوء عاقبة المكذبين والشواهد التي تؤكده.
لقد أراد الله عز وجل أن يتعظ اللاحق من السابق بأن تتدبر الأجيال بما جرى للأمم السابقة، وكيف نزل العذاب بالكافرين الذين أنعم الله عز وجل عليهم وأرسل لهم الرسل والأنبياء بالمعجزات ليعمروا الأرض بالتقوى والصلاح , وفيه شاهد على تعدد مصاديق رحمة الله وفضله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( )، وفيه حجة على الناس بأن الله جعل الدنيا مزرعة للآخرة، وفيها شواهد وأعلام منصوب تبين خسارة الذين لم يستثمروها لدنياهم وآخرتهم.
وتبعث الآية على الإستغفار، وهو من مصاديق اللطف الإلهي بالناس جميعاً والمسلمين خاصة وجذبهم إلى منازل التوبة والإنابة وهدايتهم للعمل الصالح وسبل الفلاح في النشأتين، وعن أبي ذر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن الله عز وجل أنه قال: يا عبادي أنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فأستغفروني أغفر لكم).
ويمكن تأسيس قانون يتغشى آيات القرآن، وهو كل آية من القرآن مدرسة في الموعظة الموضوعية والحكمية، ومنها آية البحث التي تجعل للمسلمين موضوعية وشأناً عظيماً في معرفة أحوال الأمم السالفة وإقتباس المواعظ منها بما فيه نفعهم والناس جميعاً.
وقال الإمام علي عليه السلام في خطبته في البصرة ووعظه لأهلها(إن رسول الله صلى الله عليه وآل وسلم قال يوماً وليس معه غيري: ياعلي إن جبرئيل الروح الأمين حملني على منكبه الأيمن حتى أراني الأرض ومن عليها، وأعطاني أقاليدها وعلمني ما فيها وما قد كان على ظهرها وما يكون إلى يوم القيامة ولم يكبر ذلك عليّ كما لم يكبر على أبي آدم، علّمه الأسماء ولم يعلّمه الملائكة المقربون).
فجاءت آية البحث دعوة متجددة للمسلمين في كل زمان لتحصين أنفسهم من أسباب الوهن والضعف في الدعوة إلى الله، إذ أن السياحة في الأرض تعظيماً لشعائر الله، وإطلاعاً على الشواهد التي تدل على عظيم قدرته وسعة سلطانه تفقهٌ في الدين وإرتقاء في مراتب التقوى وفي التنزيل[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).

قال تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]الآية 137
الإعراب واللغة
قد خلت من قبلكم: قد: حرف تحقيق، ويرد مع الفعل الماضي كما في الآية الكريمة، ومع المضارع كما في قوله تعالى[قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ]( ) .
وقد تقدم البيان بأن (قد ) تكون إسماً بمعنى حسب، واسم فعل مضارع بمعنى يكفي، وتكون حرفاً, ولها خمسة معان( ).
وتفيد معنى التوقع والتقريب والتحقيق مع كل من الفعل المضارع والماضي وتكون مع الفعل كالكلمة الواحدة مثل: قد قامت الصلاة، وقد يفصل بينهما بالقسم، وتنفرد مع المضارع بمعنى التكثير، وقد تأتي بمعنى ربما وهو في طول معنى التقليل، مثل (قد يرى الهلال) وتحمل في آية البحث مع التحقيق معنى إضافياً هو الشرط لقوله تعالى(فسيروا) ووفق الصناعة النحوية فإن الشرط مقدر تقديره: إن شككتم فسيروا) ولا تصل النوبة إلى هذا التقدير، من وجوه:
الأول : الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين خاصة والناس عامة لأصالة الإطلاق والحجة وعموم النفع .
الثاني: تجلي معنى ومفاهيم الآية في منطوقها، ومن دون تقدير.
الثالث : التعارض بين معنى التحقيق للحرف (ف) وبين تقدير الشك.
الرابع : الأمر بالسير في الأرض لا يتعلق بموضوع الشك في تقدم وتعاقب سنن في الأرض بل يتعلق بخصوص رؤية عاقبة المكذبين.
الخامس: السنن والدول والملل التي تعاقبت على الأرض فيها الصالحة التي صدقت بالنبوة والتنزيل ، وفيها المكذبة التي إختارت الجحود ، قال تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
السادس : جاءت آية البحث في نظم آيات تتضمن الخطاب للمسلمين سواء الآيات التي قبلها أو التي بعدها، وتجلى هذا الخطاب قبل سبع آيات[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا….]( )، وجاءت الآيات بعدها معطوفة عليها وتتضمن الوعد والترغيب والبشارة وعظيم الثواب على الإيمان وفعل الصالحات.
السابع : على فرض التقدير في الآية فإنه يكون في طول ذات معنى الآية (قد خلت) من غير مدخلية للشك ونحوه.
ولكن هذا المعنى لا يستقيم أيضاً لأن الأمر(فسيروا) جاء من غير تقييد بإستطاعة وقد أمر الله عز وجل بالصلاة من غير كواجب مطلق بينما أمر بالحج مع التقييد بالإستطاعة[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، فهل السير في الأرض أولى وأهم من الحج، الجواب لا، لأن الحج من أركان الإسلام، وفريضة عبادية، بينما السير والذهاب في الأرض من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ولا يختص بزمان ومكان مبارك مخصوص كالحج والخطاب في الحج عيني موجه لكل مسلم ومسلمة.
خلت: فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لإلتقاء الساكنين، والتاء تاء التأنيث الساكنة.
من قبل: جار ومجرور متعلقان بــ(خلت) والضمير(كم) مضاف إليه، سنن: فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
فسيروا في الأرض: الفاء: حرف عطف وقيل هي الفصيحة لإفصاحها عن محذوف مع بيانها لسببه وقيل لأنها تفصح عن شرط مقدر وقعت في جوابه وأعربوا الفاء هنا بأنها جواب لشرط مقدر، والمختار أن النوبة لا تصل إلى الشرط المقدر في المقام، إنما يحمل الأمر الإلهي في المقام على الإطلاق ومفهوم الوعد.
سيروا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل وقيل جملة (سيروا) جواب شرط مقدر.
في الأرض: جار ومجرور متعلقان بسيروا.
فأنظروا الفاء: حرف عطف، أنظروا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل.
كيف: اسم إستفهام مبني في محل نصب خبر مقدم ل (كان)، كان: فعل ماض ناقص.
عاقبة: اسم كان مرفوع، وهو مضاف، المكذبين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء.
وخلت بمعنى مضت وإنقرضت، يقال خلا يخلو خلاء فهو خال، والقرون الخالية أي الماضية (وفي المثل: خلاؤك أقنى لحياتك)( )، أي إقامتك في منزلك أحفظ لحياتك وسترك.
والخلاء: المتوضأ، والخلاء المكان الخالي الذي لا شيء فيه، ويقال للمرأة أنت خلية كناية عن الطلاق، وقد تأتي (خلا) حرف جر كما في قولك: أديت مناسك الحج خلا التقصير أي سوى التقصير.
والسنن جمع سنة وهي الطريقة والسيرة،رمن ر لا والنهج، (والسنة: الطبيعة)( ).
وتأتي السنة بمعنى(الطريقة المحمودة المستقيمة، قال لبيد:
مِنْ مَعشَرٍ سَـــنَّتْ لَهُمْ آباؤُهُمْ
ولِكُــلّ قَوْمٍ سُــــنّةٌ، وَإمَامُـــــهَا( )
ويأتي السنن، بفتح السين، بمعنى الطريق والنهج في الحديث: لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بالنَّعْلِ ) . الحَذْو التقدير والقطع أَي تعملون مثل أَعمالهم كما تُقْطَع إِحدى النعلين على قدر الأُخرى)( ).
والسير: الذهاب والمشي(ويقال: سارَ القومُ يَسِيرُون سَيْراً ومَسِيراً إِذا امتدّ بهم السَّيْرُ في جهة توجهوا لها ويقال بارك الله في مَسِيرِكَ أَي سَيْرِك قال الجوهري وهو شاذ لأَن قياس المصدر من فَعَلَ يَفْعِلُ مَفْعَلٌ بالفتح والاسم من كل ذلك السِّيرَةُ)( ).
وعاقبة كل شيء: آخره والخاتمة التي إنتهى إليها، (وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أنا العاقب يعني آخر الأنبياء)( ).
والمكذبون: جمع مكذب وهو الذي يكذب بالحق، وهي صفة ذم، ونقيضه المصدٍق، نعم إذا ورد بالتقييد فبحسب الحال فقد يكون مدحاً كما في قولك: هو مكذب بالباطل.
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة على شعبتين:
الأولى : صلة هذه الآية بالآيات السابقة، وفيها وجوه:
الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ….]( )، وفيها مسائل:
الأولى : جاءت آية البحث بصيغة الخطاب، بينما وردت آية السياق بلغة الغائب.
الثانية : يتعلق موضوع آية البحث بالحياة الدنيا، وتتعلق آية السياق بالجزاء في الآخرة.
الثالثة : تتجلى معاني الإطلاق في آية البحث من وجوه:
الأول : السير في الأرض.
الثاني : سنن ومناهج وأعمال الأمم السابقة في العدل أو الظلم، في الإيمان أو الكفر.
الثالث : النظر والتدبر من قبل الناس جميعاً في عاقبة الظالمين.
وجاءت آية السياق بالإطلاع في موضوع خاص، بذكر النعيم والمندوحة وعموم المغفرة من الله للمتقين فالجزاء الحسن في الآخرة خاص بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
الرابعة : تذكر آية السياق بالجنان وما فيها من الأنهار والثمار والوعد القاطع بخلود أهلها فيها، قال تعالى[مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا]( ).
وليس للجنة مثل إنما جاءت الآية أعلاه للنعت وبيان الوصف وأن ثمرها دائم ليس موسمياً ولا منقطعاً وليس من حاجب دونه، ونكهته ولذته دائمة، ولا تبعث كثرة أكله على الملل وكذا بالنسبة لظلالها وبهاء أشجارها ورونق أغصانها وتدليها على أهل الجنان.
أما آية البحث فتدعو للعبرة والموعظة.
وهل من ملازمة بين الأمرين، الجواب نعم، فإن الإتعاظ من قصص الماضين والشواهد التي تركوها من ورائهم طريق إلى الجنة لأنه سبيل إلى الهداية وزاجر عن الضلالة لتكون الموعظة من جنود الله في الأرض التي تجذب الناس إلى العمل الصالح وتجعل نفوسهم تنفر من مفاهيم الكفر بسوء عاقبته لأنه ظلم للذات.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ، ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله في النار، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة، وذلك قوله{وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون})( ).
الخامسة : إن كان التدبر والإتعاظ من عاقبة المكذبين بالحس وآلة البصر كما في آية البحث، فإن التدبر في أحوال المؤمنين وحسن عاقبتهم بالبصيرة ومن الإعجاز في المقام أن سوء عاقبة المكذبين جاءت على نحو البعث ولغة الأمر بالنظر والإعتبار، أما بالنسبة لخلود المتقين في النعيم فجاء بصيغة الجملة الخبرية التي تفيد الصدق والقطع.
السادسة : أختتمت آية السياق بثناء الله عز وجل على نفسه والوعد الكريم للمؤمنين الذين يعملون الصالحات , وبيان الثواب العظيم الذي أعدّه لهم، وأختتمت آية البحث بالخزي والذل للكافرين بسوء عاقبتهم في الدنيا.
السابعة : يفيد الجمع بين الآيتين الترغيب بالعمل الصالح وبعث الشوق في النفوس إلى الجنة، والإنذار والوعيد للكافرين في الدنيا والآخرة.
الثاني : الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ…]( )، وفيها مسائل:
الأولى : تتضمن آية السياق الثناء على المؤمنين وبيان خصالهم الحميدة، أما آية البحث فذكرت الفناء الذي حلّ بدار الظالمين , ليكون هذا التباين مقدمة ومرآة لعالم الجزاء في الآخرة , وهل التباين في العاقبة الدنيوية من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، الجواب نعم ففي شواهد حسن العاقبة والأطلال الدالة على قبح العاقبة وجوه:
الأول : إنها من مصاديق ملك الله للأرض وما عليها.
الثاني : إنها موضوع لترغيب الناس بالإسلام.
الثالث : فيها تثبيت للإيمان في نفوس المسلمين ودعوة للعمل الصالح والتحلي بالصبر، قال تعالى[لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ]( ).
الرابع : إنها عون للناس في طاعة الله، وجذب لمنازل التقوى.
الخامس : فيها حجة على الناس يوم القيامة لما تدل عليه من معاني البشارة والإنذار.
الثانية : لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وتفضل وبعث الأنبياء ومعهم معجزات التي تجذب الأسماع للإنصات لهم، والقلوب لإتباعهم , وجاءت آية السياق فيمن إتبعهم وعمل بأحكام

الشريعة، وتضمنت آية البحث الولية لمن كذبهم وأعرض عن براهين النبوة ودلائل التنزيل.
الثالثة : صحيح أن آية السياق وعد كريم , وبيان لعظيم منزلة المتقين إلا أنها تتضمن التأديب وإصلاح حال المؤمنين، وإرشادهم إلى الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة، وتدلهم على أعظم كفارة وسبيل محو الذنوب والإستغفار، وتزجر في مفهومها عن التخلف عنه والتسويف فيه.
وأخبرت آية البحث عن وجود جماعات وأقوام في الأمم السالفة أصروا على رأس الأخلاق المذمومة وهو التكذيب بالنبوة والتنزيل فنزل بهم عذاب الإستئصال.
الرابعة : بيان التباين والتضاد بين حال المؤمنين والكفار , فالذين يعملون الصالحات ويلجأون إلى الإستغفار عند الخطيئة خُلدوا في الدنيا في آية البحث والذكر الحسن بين الناس، أما الكفار فلم يبق لهم في الدنيا من أسباب الثناء والرياء والمدح عليهم.
الخامسة : التداخل وعدم التعارض بين أمور :
الأول : تلاوة آية البحث.
الثاني : الإنصات لآية البحث والتدبر في معانيها.
الثالث : إستحضار العمل الصالح للمتقين.
الرابع : تحلي المؤمنين بلباس الإستغفار الذي يعرفون به.
الخامس : السير في الأرض ومعرفة سوء عاقبة الكفار والمكذّبين.
السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين، على وجوه:
الأول : قد خلت من قبلكم سنن والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله.
الثاني : قد خلت من قبلكم سنن ومن يغفر الذنوب إلا الله.
الثالث : ومن يغفر الذنوب إلا الله فأنظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
الرابع : قد خلت من قبلكم سنن في الأرض فأنظروا الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله.
السابعة : تبين الآيتان القبح الذاتي والعرضي للتكذيب بالآيات والمعجزات، لما فيه من الإعراض عن وظائف الإستغفار، وصيغ التدارك والفرائض الواجبة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ]( ).
الثامنة : تضمنت آية البحث الثناء على المؤمنين بقوله تعالى(ذكروا الله) وهذا الذكر من مصاديق الإيمان، وهو طارد للجحود والصدود عن الآيات.
التاسعة : يمكن تسمية آية السياق بآية الإستغفار , وهو شاهد على الإقرار باليوم الآخر والوقوف بين يدي الله عز وجل للحساب ورجاء رجحان كفة الحسنات، لتخبر آية البحث بالدلالة التضمنية على حرمان الكفار من سلاح الإستغفار جحوداً وتكذيباً بيوم الحساب.
وهل في الجمع بين الآيتين دعوة للناس للمبادرة إلى الإستغفار , الجواب نعم، فالإنسان بفطرته يميل إلى سبل الأمان , ويتحرى وسائل النجاة وتنفر نفسه من المهالك ومقدماته وليس فيها ما هو أشد من التكذيب بالآيات والصدود عنها.
العاشرة : تتضمن آية البحث الوعيد للمكذبين , ويفيد الجمع بينها وبين آية السياق الوعد الكريم للمؤمنين، والتقدير: فأنظروا كيف كان حسن عاقبة الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فأستغفروا لذنوبهم)، ومن حسن عاقبة المتقين نزول آية البحث وما فيها من الثناء والوعد الكريم لهم.
الحادية عشرة : بيان التنافي بين الإنفاق في السراء والضراء وبين التكذيب بالنبوة والتنزيل، فمن خصائص الإنفاق أمور:
الأول : قصد القربة إلى الله في الإنفاق، وهو شاهد على الإيمان.
الثاني : الإنفاق باب لإكتناز الحسنات والأمن والسلامة يوم القيامة.
الثالث : البذل والعطاء في سبيل الله شاهد على التصديق بالنبوة والتنزيل.
الرابع : الإنفاق طاعة لله عز وجل سبيل مبارك للذكر الحسن والعاقبة الحميدة , وهو من مصاديق المضاعفة الكثيرة في قوله تعالى[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ]( )، بتقريب أن وجه المضاعفة والجزاء الكريم لا ينحصر بذات المال وحسناته بل يشمل الثواب الأعم والله واسع كريم، وفيه توبيخ إضافي للمكذبين وصيرورة الندم مصاحباً لهم، وفيه أيضا دعوة لهم للتوبة والإنابة.
الثانية عشرة : أثنت آية السياق على (الكاظمين الغيظ) الذين يحبسون غضبهم ويظهرون الصبر وهو مناسبة للإيمان وعدم التكذيب بالآيات، وفيه إنتفاع أمثل من السير في الأرض والإعتبار من الشواهد التي تدل على هلاك الظالمين.
الثالثة عشرة : ذكرت آية السياق خصلة حميدة من خصال المتقين والتي تكون طريقاً لدخول الجنة وهي العفو بقوله تعالى[وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ] وتحتمل ملكة العفو في المقام وجوهاً:
الأول : إنها من الفطرة والسجية , ومن رحمة الله بالعبد ومن حوله
الثاني : نمو هذه الملكة بالتجربة والوجدان وطول المزاولة.
الثالث : إنها رشحة من رشحات الإيمان، ولآية البحث موضوعية في تسابق المؤمنين في مقامات العفو.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وإن كان الرجحان للإيمان الذي يثقل الميزان في الصالحات, وفيه آية في المنافع العظيمة للإيمان، والأثر المبارك للنبوة والتنزيل في تهذيب النفوس وصلاح المجتمعات، وفيه حجة على المكذبين ودعوة لهم للتوبة.
الرابعة عشرة : جاءت آية السياق مطلقة في العفو بقوله تعالى[وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ] فهل يشمل العفو المكذبين أم أنهم خارجون بالتخصص، الجواب جاءت آية البحث بخصوص المكذبين بالنبوة والتنزيل من الأمم والأحقاب السالفة , وليس من أهل زمان الخطاب في الآية والتالين لها، وعلى فرض وجود مكذبين في زمان الخطاب والتلاوة وهو الزمان الحاضر فهل يشملهم العفو أم لا.
الجواب نعم، فالآية مطلقة في دعوة المسلمين للعفو عن الناس , والقدر المتيقن من العفو هنا القضية الشخصية، قال تعالى[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( )، ليكون التجاوز عن السيئات هو الأحسن والأمثل , وهو باب للهداية وباعث للرغبة بمحاكاة المؤمنين في أخلاقهم.
الخامسة عشرة : أختتمت آية السياق بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] وفيه ثناء على المؤمنين الذين يعملون الصالحات ويحبسون غيظهم ويعفون عن الناس، ووعد كريم بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، بينما أختتمت آية البحث بالوعيد للظالمين الذين أصروا على إنكار أصول الدين ومفاهيم التوحيد.
وتقدير مفهوم خاتمة آية البحث بلحاظ آية السياق (فأنظروا كيف كان عاقبة المحسنين) بالذكر الحسن والثناء عليهم من الله عز وجل والحفظ لهم في عملهم الصالحات وفي ذراريهم والبشارة لهم باللبث الدائم في النعيم، ليكون من معاني الجمع بين الآيتين أمور:
الأول : جذب الكفار والناس جميعاً إلى منازل التوبة.
الثاني : بعث النفرة من التكذيب.
الثالث : إدراك الإنسان بما رزقه الله من العقل أن التكذيب متباين مع الحقيقة ومكابرة وعناد لا أصل له.
الرابع : من إعجاز القرآن بأن يشترك الثناء والذم لطرفي موضوع ما بإصلاح الناس والإلتفات إلى قبح المعصية والفسوق.
الخامس : الترغيب بالتوبة والموت على الإسلام، قال تعالى[قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( ).
الثالث : الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : قد خلت من قبلكم سنن وسارعوا إلى مغفرة من ربكم.
الثاني : قد خلت من قبلكم سنن وسارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض.
الثالث : فأنظروا كيف كان عاقبة المكذبين وسارعوا إلى مغفرة من ربكم.
الثانية : بين لغتي الخطاب في الآيتين عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء توجه الخطاب في كل من الآيتين إلى المسلمين والمسلمات.
أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول : جاءت آية البحث بالوعيد للكفار والإخبار عن سوء عاقبتهم في الدنيا، أما آية السياق فتدعو المسلمين إلى المبادرة إلى فعل الخيرات وما فيه السبق والفوز بالإقامة الدائمة في جنة النعيم.
الثاني : في آية البحث وعيد للكافرين، وفي آية السياق ثناء ومدح للمؤمنين.
الثالث : ذكرت آية البحث الهلاك والفناء الذي أصاب الكفار لتكذيبهم بالآيات، أما آية السياق فإنها تبعث الشوق في النفوس لعمل الصالحات.
الثالثة : جاءت آية السياق خطاباً للمسلمين إذ أنها معطوفة على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( )، الوارد قبلها بآيتين بدليل عطفها بحرف العطف الواو، فمع إسلامهم يأمرهم الله عز وجل بالمبادرة الفورية إلى الإستغفار وعمل الصالحات الذي تترشح عنه المغفرة.
أما آية البحث فإن موضوعها يتعلق بالذين ماتوا على الكفر والتكذيب بدلائل النبوة من الأجيال والأمم السابقة.
ومن اللطف الإلهي في المقام إنذار الكفار بعد البعثة النبوية ونزول القرآن ودعوتهم للإقلاع والتوبة عن الكفر، وللمبادرة التي تتضمنها آية البحث.
الرابعة : يفيد الجمع بين الآيتين لزوم إجتناب المؤمن للكفار، وفيها تحذير للمسلمين من الإنصات لهم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ).
وكل آية من القرآن مدرسة قائمة بذاتها وهي مادة للإصلاح والصلاح، وكذا الجمع بين كل آيتين منه أي أنه موضوع إضافي للهداية والإصلاح , ووثيقة سماوية تستنبط منها مواعظ وعبر.
الخامسة : إذا كانت عاقبة المكذبين الخزي والذل والهلاك وصيرورة مساكنهم إطلالاً، فإن عاقبة المؤمنين خطاب الإكرام من الله عز وجل وبشارتهم بالجنة ودعوتهم للتعجيل للدخول إليها .
وهل يتعلق هذا التعجيل بتقريب الأجل بتقدير قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ).
الجواب لا، فآية السياق لا تتضمن الدلالة أو الإشارة على تقريب الأجل إنما تدعو إلى إحراز السبق إلى الجنان وإكتناز الصالحات التي يمر بها المسلم على الصراط، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ , فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ , حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَأْتُونَ آدَمَ , فَيَقُولُونَ : يَا أَبَانَا , اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ , فَيَقُولُ : وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ , لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ , اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي , إِبْرَاهِيمَ , خَلِيلِ اللهِ , قَالَ : فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ : لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ , إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ , اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى ( , الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا , فَيَأْتُونَ مُوسَى ( فَيَقُولُ : لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ , اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى , كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحِهِ
فَيَقُولُ عِيسَى ( : لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ , فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا, فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ , وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ , فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً , فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ , قَالَ : قُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي , أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ ؟ قَالَ : أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ , ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ , تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ , وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ
يَقُولُ : رَبِّ سَلِّمْ. سَلِّمْ. حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ , حَتَّى يَجيءَ الرَّجُلُ, فَلاَ يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلاَّ زَحْفًا , قَالَ : وَفِى حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلاَلِيبُ مُعَلَّقَةٌ , مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ , فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ)( ).
الخامسة : تبعث آية السياق على السعي للمغفرة ويدل بالدلالة التضمنية على الإيمان والإقرار بالحساب وأنه لا يقدر على مغفرة الذنوب إلا الله عز وجل بدليل ما ورد في الآية (مغفرة من ربكم) ويتلقى المسلمون ما ورد فيها من خلق الله للجنة داراً لثواب المؤمنين بالقبول والتصديق والرضا والغبطة.
أما آية السياق فإنها تضمنت الذم للكفار على إصرارهم على العناد وترك الإستغفار، والدعوة لرؤية ما حلّ بهم من البلاء وأسباب الإضمحلال وزوال دولتهم وسلطانهم في ديارهم.
السادسة : الجمع بين خاتمتي الآيتين ترغيب للناس جميعاً بالإسلام وجذب لمنازل الإيمان، وبعث للنفرة في النفوس من الكفر، وجعل الناس يعرضون عن الذين يكذبون بدلائل التنزيل ومعجزات النبوة وإن كانوا أصحاب سلطان وأموال وجاه، وتلك آية في رجحان أثر وتأثير آيات القرآن في المجتمعات هذا الأثر الذي يتصف بالتتابع الذاتي والإستمرار وعدم الإنقطاع، مع غياب البرزخ والحاجز بين آياته وبين القلوب المنكسرة.
السابعة : الجمع بين خاتمتي الآيتين من مصاديق قوله تعالى[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
ومن مفاهيمه أن الكافر يخسر النشأتين، أما في الدنيا فقد أخبرت آية البحث عن سوء عاقبة الكفار وإضمحلال ذكرهم، وأما في الآخرة فإن المثوى على قسمين وبينهما تباين دائم وقد أخبرت آية السياق بأن الله عز وجل أعدّ الجنة للمتقين الذين يخشونه ويؤدون الواجبات العبادية.
الثامنة : مضامين آية السياق من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بتقريب أنه تعالى جعل المسلمين في عمل دائب في مرضاة الله ليس عند أحدهم فترة أو إستراحة أو مهلة، وجعل الله عز وجل على هذا الدأب مصداقا ومثالاً يومياً وهو أداء الصلاة خمس مرات مقسمة على آنات وساعات اليوم والليلة بنحو إعجازي وسر ملكوتي وشمول أدائها الرجال والنساء من المسلمين، وليس في أدائها عفوا أو إحالة على المعاش، فالصلاة لا تترك بحال.
نعم فيها تخفيف بحسب الحال والمرض كما مبين في رسالتنا العملية ( الحجة )ويدل على لزوم العمل الدائم في الواجبات والمستحبات قوله تعالى(وسارعوا) وهو خطاب إنحلالي بعدد المسلمين والمسلمات.
الرابع : صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : قد خلت من قبلكم سنن وأطيعوا الله والرسول.
الثاني : قد خلت من قبلكم سنن لعلكم ترحمون.
الثالث : وأطيعوا الله والرسول فسيروا في الأرض.
الرابع : وأطيعوا الله والرسول فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
الخامس : فسيروا في الأرض لعلكم ترحمون.
السادس : فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين لعلكم ترحمون.
الثانية : تضمنت آية السياق أمراً للمسلمين بوجوب طاعة الله والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتضمنت آية البحث أمرين.
الأول : السير والسياحة في الأرض.
الثاني : النظر والتدبر في أحوال الأمم السالفة، لتستقرأ علوم ودلائل من فلسفة الأوامر القرآنية، إذ أنها لا تنحصر بالعبادات بل تشمل المستحبات والمباحات ولكن تلك المباحات تترشح مواعظ، وتستقرأ منها الدروس والمفاهيم التي تساهم في تثبيت الإيمان في نفوس المؤمنين.
الثالثة : يتوجه الخطاب في كل من آية البحث والسياق إلى المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة، وهذا الخصوص ليس برزخاً دون إرادة عموم الناس في كل من الخطابين، سواء الأمر بطاعة الله والرسول أو الأمر بالسير في الأرض والإتعاض من حال البؤس وسوء العاقبة الذي حلّ بالكفار، قال تعالى[أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ]( ).
الرابعة : جاءت آية السياق بالأمر بطاعة الله عز وجل، وهي بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : وجوب الإيمان بدليل لغة الخطاب في الآية، والمقصود بها المسلمون وإخبارهم بتقدم ملل وطرائق ومذاهب قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : الأمر للمسلمين بالسير في الأرض والتنقل في ربوعها، والكبرى فيه أن الأرض كلها ملك لله عز وجل والناس عباده، قال تعالى[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
الثالث : النظر والإعتبار وإقتباس الدروس من عاقبة الكافرين الذين ردوا على الرسول والأنبياء السابقين بالأعراض والعناد ولأن الأرض ملك لله وأن وظيفة الناس عبادته تعالى، فحينما أصروا على التكذيب متعهم الله عز وجل قليلاً ثم صيرهم إلى النار.
الرابعة : من طاعة الرسول بلحاظ آية البحث إتباع سنته، وفيه خير النشأتين، وإجتناب السنن التي قادت أهلها إلى الزوال والهلاك.
الخامسة : أختتمت آية السياق بقوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] وفيه بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : إكرام المسلمين بتوجه الخطاب إليهم، وبما يفيد التدبر والإنتفاع الأمثل من قصص الأمم السابقة.
الثاني : رحمة الله بالمسلمين في إستدامة سنن الإسلام.
الثالث : الأمن والأمان للمسلمين بالسعي والسير في الأرض مع قيامهم بذكر الله أثناء المسير، ومن منافع الذكر الإلتفات إلى آية البحث ومعاني التدبر وأخذ الدروس من حياة الإنسان في الأرض، وموضوعية طاعة الله في صروف الزمان وتقلبات الأحوال، ففي تقوى الله الإنتقال للأحسن وحصول النماء في الذرية والمال.
الرابع : جذب المسلمين للتبصر في مواضع الأرض وآثار الأمم وبقايا المدن والقرى.
الشعبة الثانية : صلة هذه الآية بالآيات التالية، وفيها وجوه :
الأول : صلة هذه الآية بالآية التالية [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى..]( )، وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : قد خلت من قبلكم سنن هذا بيان للناس.
الثاني : موعظة للمتقين قد خلت من قبلكم سنن.
الثالث : فسيروا في الأرض هذا بيان للناس.
الرابع : فانظروا موعظة للمتقين.
الخامس : هذا بيان للناس كيف كان عاقبة المكذبين.
السادس : موعظة للمتقين كيف كان عاقبة المكذبين.
الثانية : صحيح أن المراد من اسم الإشارة (هذا بيان) هو القرآن إلا أنه لا يمنع من إرادة مضامين آية البحث، وهو من إعجاز نظم القرآن بأن يتعدد معنى اسم الإشارة ليكون عاماً وخاصاً وبعيداً وقريباً مع التداخل بينهما، ليكون بين هذه المعاني عموم وخصوص مطلق.
الثالثة : بلحاظ إرادة مضامين آية البحث من اسم الإشارة (هذا) يفيد الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول : إن الله عز وجل جعل آثار وأطلال ملل الكفر عبرة للناس ودعوة لهم للصلاح.
الثاني : جاءت الآية بصيغة العموم الإستغراقي(بيان للناس) وفيه نكتة فقد جاءت آية البحث دعوة للمسلمين وغيرهم للسير والذهاب في الأرض للإتعاظ والإعتبار أما سوء عاقبة الكفار فهو درس وموعظة للناس جميعاً.
الثالث : تعدد مصاديق البيان فمنه ما يكون تنزيلاً ومنه ما يكون وقائع وآثاراً.
الرابع : تأكيد لزوم السير في الأرض والتدبر في الآثار التي تحكي عاقبة المكذبين وما حلّ بديارهم من الفناء وأسباب الزوال.
الرابعة : تبين آية السياق قانوناً مستديماً وهو أن القرآن بيان للناس، ويحتمل بخصوص الآية الواحدة وجوهاً:
الأول : المراد من البيان آيات القرآن على نحو العموم المجموعي، وليس الآية الواحدة منه.
الثاني : إرادة الموجبة الجزئية وهي أن شطراً من آيات القرآن بيان للناس إلى جانب حقيقة وهي أن القرآن بمجموع آياته بيان.
الثالث : إجتماع بعض الآيات مع بعضها الآخر بيان للناس فكل آيتين أو ثلاث أو أربع آيات تجتمع لتكون تفسيراً لمضامين آيات من أخرى من القرآن بالإتحاد الموضوعي أو الحكمي أو الربط بين مضامين الآيات أو تأويل بعضها لبعض في علم لا متناه.
الرابع : كل آية من آيات الأحكام إذا إنفردت بذاتها تكون بياناً وموعظة للناس.
الخامس : الآية القرآنية الواحدة بيان للمسلمين وليس للناس مطلقاً.
السادس : كل آية من آيات القرآن إيضاح للناس.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهو من خزائن القرآن , وتتجلى في آية البحث من جهات:
الأولى : قوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ] بيان للمسلمين والناس بأن مذاهب وطرائق وديانات تعاقبت على الأرض.
الثانية : قدرة المسلمين على السياحة في الأرض والتدبر في دلالات آثار الأمم.
الثالثة : معرفة الناس لحقيقة وهي إتصاف المسلمين بأمرين:
الأول : السير والتنقل في الأرض.
الثاني : النظر في آثار وعواقب الكفار.
ومن معاني البيان للناس في المقام إقتباس وتعلم الناس من المسلمين معاني ومفاهيم سوء عاقبة الذين كفروا بالآيات ولزوم الإتعاظ مما أصابهم وحلّ بهم.
الخامسة : في آية البحث بيان لعاقبة وخاتمة حياة المكذبين بالآيات وإندثار عمارة مدنهم وقراهم، وتلف أموالهم وزراعاتهم.
السادسة : قد يكون الذي يضرب في الأرض ويرى الآثار فرداً من المسلمين ولكنه يرجع إلى قومه فيذكر ما شاهد من الأطلال والشواهد التي تدل على محض المكذبين وزوال دولهم فيتعضون وكأنهم يشاهدون تلك الآثار، ويستحضرون آية البحث التي تحثهم على الإعتبار من الشواهد والأرض البوار.
ولعلهم لا يلتفتون إلى الدروس من تلك العبر , لولا آية البحث التي هي إمام للناس في البيان والوضوح في أحوال الأمم السالفة.
السابعة : لقد جعل الله عز وجل ذات الحياة الدنيا وأيامها مواعظ ودروساً ينتفع منها الناس لما فيه صلاحهم وخيرهم في الدنيا والآخرة، وقال ابن أبي ربيعة :
ألم تسأل الأطلال والمتربعا ……… ببطن حلياتٍ دوارس بلقعا ( ).
لتكون مصاديق البيان للناس في الحياة الدنيا من اللامتناهي ومنه بقايا وآثار المكذبين التي تدل على إنقطاعهم وخسارتهم، وهذه الخسارة مقدمة وإخبار عن ذلهم وخزيهم في الآخرة.
الثامنة : ذكرت آية السياق الهداية للناس بفضل من الله عز وجل[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى] وينصرف المعنى هنا إلى القرآن لموضوعية اسم الإشارة في الآية، قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، وآية البحث شاهد على قانون وهو أن كل آية من القرآن هدى من وجوه:
الأول : الإخبار عن كثرة الأجيال السالفة والملل المتعددة السابقة للإسلام، وبيان المائز الذي يتصف به المسلمون وهو بقاء معالم مدنهم وآثارهم، وهل بقاء القرآن إلى يوم القيامة يتلى بآياته من غير تحريف أو نقص من هذا المائز , الجواب نعم وهو أعم ، وتلك آية في التباين المتصل في الأثر والآثار، وترغيب بالفرائض والتكاليف العبادية.
الثاني : الأمر الإلهي للمسلمين للسير وقطع المسافات في الأرض.
الثالث : بيان الغاية من المشي والسعي في الأرض وهو الإتعاظ والتدبر وإتخاذه بلغة في الهداية والرشاد.
الرابع : النظر والإعتبار من سوء عاقبة المكذبين هدى وموضوع للصلاح وباب للتوبة والإنابة ، فينظر في عاقبتهم المسلم فيتعظ ويزداد إيماناً، ويعتبر ويقتبس منه غير المسلم بما يفيد وينفع في إضاءة طرق التوبة والإنابة.
التاسعة : خصائص الإيمان بقاء معالمه ومصاحبة آثاره له إلى يوم القيامة ويشار لها بالبيان وهو الذي تدل عليه آية البحث، فاذا كانت عاقبة المكذبين إلى زوال، فان ورثة المؤمنين يعمرون ديارهم بالذكر والتلاوة، وهذه العمارة المتجددة هدى للناس أيضاَ، وجذب إلى منازل الإيمان.
العاشرة : لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالهدى ومقدماته وأسبابه، فهل جاءت تلك الأسباب إلى الملل السابقة وإمتنعوا عن قبولها، أم أنهم حرموا منها.
الجواب هو الأول، فمن رحمة الله بالعباد أن الناس شرع سواء في تلقي فضل الله في التقريب إلى الهدى والدفع عن مستنقع الضلالة , وجاءت آية البحث لهداية الحاضر من الناس بالمنصرم من الأجيال والأمم، قال تعالى[إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى]( ).
وفي الآية أعلاه قيل:أخبر سبحانه أن الهدى واجب عليه) وليس من واجب على الله، ولكنه وعد كريم، وفضل عظيم جار في الخلق إلى يوم الدين، إذ يبين الله عز وجل سبل الطاعة ويزجر عن المعصية.
الحادية عشرة : أختتمت آية السياق في وصف القرآن بأنه (موعظة للمتقين) وآية البحث موعظة من وجوه :
الأول : توجه لغة الخطاب في الآية للمسلمين والمسلمات بما يفيد سلامتهم من الهلاك، ومن الزوال الذي لحق حضارات سادت ثم بادت.
الثاني : تعاقب الأيام وإختلاف الدول وتبدل الممالك.
الثالث : بيان قانون كلي وهو أن الملك كله لله عز وجل، وأنه تعالى يدعو المؤمنين للإتعاظ والإعتبار.
الرابع : مجئ الإسلام بعد ملل وطرائق عديدة في الأرض، وفيه دعوة للمسلمين للإتعاظ منها ومن عواقبها، ويتجلى الإتعاظ بحفظ القرآن من التحريف والتغيير والنقص.
الخامس : من أفراد ملكية الله للأرض صيرورة السنن والأطلال وبقايا الحضارات التي عليها موعظة لأهل الإيمان.
وصحيح أن الموعظة في الآية جاءت بخصوص المتقين إلا أنها أعم في موضوعها فتشمل الناس جميعاً من جهتين:
الأولى : إلتفات الناس بواسطة المسلمين لزوال ممالك الكفر من وجوه:
الأول : تلاوة المسلمين لآية البحث وإستماع الناس لهم.
الثاني : بيان المسلمين للناس علة إندثار سنن الذين كفروا.
الثالث : إظهار المسلمين لإتعاظهم بقصص الأمم السالفة وإقتباس الدروس والعبر منها.
الرابع : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن مصاديقه التذكير بسوء عاقبة الذين كذّبوا بالبراهين والدلائل على صدق النبوة والتنزيل.
الخامس : تجلي الغايات الحميدة في ذهاب المسلمين في الأرض، فحتى الذي يسير فيها لأغراض التجارة والكسب وطلب المعاش فانه يمتاز بالتدبر في قصص الأمم السالفة، ويلتفت إلى آثارها ويقتبس الدروس والعبر منها, وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية : بقايا وآثار الظالمين آيات حسية، يراها ويسمع عنها الناس ويتناقلون أخبارها , والإتعاظ كيفية نفسانية لا يختص بها المؤمنون، وإن كانوا اكثر إتعاظاً من غيرهم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ]( ).
الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ…]( )، وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : قد خلت من قبلكم سنن ولا تهنوا ولا تحزنوا.
الثاني : قد خلت من قبلكم سنن وانتم الأعلون.
الثالث : ولا تهنوا ولا تحزنوا فسيروا في الأرض.
الرابع : قد خلت من قبلكم سنن إن كنتم مؤمنين.
الخامس : فسيروا في الأرض وانتم الأعلون.
السادس : فسيروا في الأرض إن كنتم مؤمنين.
السابع : ولا تهنوا ولا تحزنوا فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
الثامن : فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين وأنتم الأعلون.
التاسع : فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن كنتم مؤمنين.
الثانية : تخاطب كل من آية البحث والسياق المسلمين والمسلمات بلغة الإكرام، وتبين إتصافهم بمرتبة سامية بين الناس، وكأنها من دلالات الخلافة النوعية في الأرض على القول بأنها لا تختص بآدم والأنبياء عليهم السلام، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الثالثة : تضمنت آية البحث إخباراً وأمرين إلى المسلمين، أما آية السياق فتضمنت إخباراً ونهيين للمسلمين. ويفيد الجمع بينهما معاني الثناء على المسلمين بحسن إمتثالهم للأوامر والنواهي في زمان واحد من غير ملل أو كلل.
لقد أراد الله عز وجل للناس أن يعبدوه في الأرض لتكون عاقبتهم الإقامة الدائمة في الجنة، فأبى الكفار إلا أن يحرموا أنفسهم من هذه العاقبة الحميدة فجعلهم الله موعظة وعبرة بأن إنتقم منهم وجعل ديارهم خاوية على عروشها.
الرابعة : تتضمن كل من الآيتين البشارة للمسلمين، وفي الجمع بينهما مصاديق من البشارة منها :
الأول : التباين بين أهل الملل والسنن المنقرضة وبين المسلمين بأن يتعاهد المسلمون بقاءهم وشريعتهم بعدم الضعف أو الوهن في السعي في الخيرات.
وفي التنزيل [يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ]( )، وفيه دعوة للمسلمين لبذل الوسع في مرضاة الله لأنهم ورثة الأنبياء.
الثاني : إنتفاء الحزن والخوف عن المسلمين في سيرهم وسعيهم في أصقاع الأرض.
الثالث : المسلمون هم الأعلون منزلة والأرفع شأناً عند إقامتهم , وعند سيرهم في الأرض.
الرابع : لايدخل الفزع والخوف إلى قلوب المسلمين عندما يرون ما حل بالكفار من سوء العاقبة لأن الإيمان واقية وأمن منها، وهو من عمومات قوله تعالى[فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الخامسة : نزلت آية السياق في واقعة أحد، إذ قتل سبعون من الأنصار وخمسة من المهاجرين هم حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعبد الله بن جحش، وعثمان بن شماس، وسعد مولى عقبة.
ومعنى(لاتهنوا) أي لا تضعفوا وتفتروا عن قتال الكفار بسبب ما لحقكم من الخسارة و(لاتحزنوا) على ما فاتكم من الغنيمة.
ومضامين الآية أعم من سبب النزول ويفيد الجمع بينها وبين آية البحث شدّ عضد المسلمين وبيان الشواهد في الأرض التي تجعلهم يتقيدون بالنهي الوارد في آية البحث في حال السراء والضراء، والحضر والسفر، وهو من إعجاز القرآن بأن تكون العلوم المترشحة عن الأوامر والنواهي الواردة في الآية القرآنية أعم وأشمل من أسباب النزول من غير إنتفاء لموضوع تلك الأسباب حتى في المواضيع التي تجمع بين الآيات .
وفي صلة قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا] مع قوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ] وجوه :
الأول : بيان التباين بين الأمم المنقرضة وبين المسلمين لبقاء المسلمين أمة تتلقى الخطابات من عند الله بالأمر والنهي والإخبار.
الثاني : الإخبار بزوال سنن وملل سابقة في الأرض برزخ دون دبيب الوهن والضعف إلى المسلمين لما فيه من معاني الموعظة والعبرة.
الثالث : إتحاد جهة الخطاب , وتوجهه للمسلمين إكراما وتأديبا.
الرابع : تأكيد خلافة المسلمين للأرض , وما تمليه عليهم من الوظائف العقائدية.
الخامس : لا تهنوا في إستقصاء السنن السابقة في الأرض، والثناء على ملل التوحيد السابقة وأتباع الأنبياء، إذ حفظ الله لهم ذكرهم في القرآن وقصص الأنبياء، قال تعالى[فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( )، ليبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما في الكتب الماضية وما لا قاه المؤمنون من الأذى في جنب الله.
وهل آية البحث من هذه القصص , الجواب نعم، سواء بتفصيل أحوال الأمم السابقة أو سنخية السنن السابقة، وفيه نكتة من جهات:
الأولى : تأكيد فضل الله عز وجل على المسلمين بأن خاتم النبيين يتلو عليهم قصص الأمم السابقة.
الثانية : إنفراد القصص التي يذكرها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة وهي أنها وحي وتنزيل من عند الله .
الثالثة : دعوة المسلمين والناس إلى الإعراض عن القصص والأخبار التي تتعارض مع القرآن والسنة النبوية.
الرابعة : جاء قوله تعالى[فَاقْصُصْ الْقَصَصَ] بصيغة الأمر التي تحمل على الوجوب.
الخامسة : تدل الآية على إطلاع وعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلك القصص، ومنها أخبار الذين كذبوا بآيات الله والنبوة.
السادسة : أخبرت آية البحث عن إنقضاء سنن وملل في الأرض، وجاءت الآية أعلاه لتدل على علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بها بفضل من عند الله عز وجل، وهو شاهد على أن السنة النبوية بيان للقرآن، وعدم إختصاص هذا البيان بالأوامر والنواهي فيشمل القصص والأخبار والمواعظ والعبر وغيرها.
السابعة : بيان الغاية مما يذكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القصص وهو الإتعاظ والإعتبار، وصيرورة هذه القصص حجة تنهل منها الأجيال المواعظ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، من وجوه :
الأول : أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقص للناس سنن الأمم السالفة.
الثاني : حفظ تأريخ الأمم وتقدم القرآن في علوم التأريخ على غيره من المناهج والطرائق والمدارس في هذا الباب.
الثالث : دعوة رجال التأريخ على مختلف مذاهبهم بالرجوع إلى قصص القرآن وما رواه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الأمم السالفة، ومنها عاقبة الذين كذبوا بآيات الله.
الرابع : القصص التي يرويها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عامة تشمل ما ورد في القرآن، وما أوحاه الله تعالى إليه من غير آيات القرآن، فيوحي الله عز وجل له بواسطة الملك أخبار الأمم ليخبر بها الناس وينذرهم بها ويكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ). إن الله عز وجل يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنطق والإخبار بتلك الأخبار مثلما يأمره بتلاوة الآيات على المسلمين. الخامس : آية البحث دعوة للرجوع لآيات القرآن والسنة النبوية في بيان وتأويل شطر من مصاديقها، والرجوع إلى الوقائع والأحداث، وإلى الشواهد الحسية في الأرض ومعالم الحضارات المندرسة، ومن الآيات في هذا الزمان والأزمنة اللاحقة إكتشاف مدن دفنها التراب، وقيام العلماء بمعرفة أعمار الأطلال بتحليل بقاياها وإن كان هذا الأمر أعم من مسألة التكذيب بالآيات . فان قلت بعض مدن أهل الإيمان الأوائل وأصحاب الأنبياء جاء عليها الإندثار أيضاً , والجواب يحتمل وجهين: الأول : هؤلاء المسلمون بقوا على إسلامهم وجاءهم الهلاك. الثاني : إن ذراريهم جحدوا بالآيات كما في قوله تعالى[فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا]( ) . وعلى الوجه الأول فان المسلمين ينتقلون في الأرض إلى ما هو أحسن، وذكرهم باق بتخليدهم بالثناء عليهم في القرآن. المسألة السادسة : لما أخبرت آية البحث المسلمين عن إنقضاء سنن سابقة في الأرض جاءت آية السياق لأمرهم بطرد الوهن والضعف عنهم كيلا يلحقوا بتلك السنن. ولقد زحفت قريش بخيلها وخيلائها على المدينة المنورة للقضاء على دولة الإسلام في مهدها، فنزلت آية السياق ليصبر المسلمون ويصدوا الكفار، ويواظبوا على الإمتثال لقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، وفي غلبة المسلمين في معارك الإسلام الأولى شاهد على الإعجاز في آية البحث من جهة سوء عاقبة المكذبين. السابعة : لما جاءت آية البحث بالسير في الأرض فان آية السياق تتضمن أمراً وهو أن المسلمين يسيرون في الأرض وهم أعزة ومن غير خوف وخشية من الظالمين . ليفيد الجمع بين الآيتين البشارة للمسلمين، بالإضافة إلى قانون وهو أن الله عز وجل إذا أمر بشيء هيئ مقدماته وقرب أسبابه، ومنع الموانع التي تحول دون تحقيقه، ومنها الأمر بالسير في الأرض والتدبر في سوء عاقبة المكذبين والظالمين، فمع الخوف والوهن قد يتعذر على الإنسان الإلتفات إلى الشواهد التأريخية والبراهين في الآثار المندرسة. الثامنة : أخبرت آية السياق عن حقيقة دائمة، وهي العلو والرفعة للمسلمين[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] وفيه بلحاظ آية البحث أمور: الأول : إنقراض أمم سالفة وبقاء شريعة الإسلام. الثاني : مصاحبة القرآن للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة مع خلوه من النقص أو الزيادة، وفيه موعظة للمسلمين بأن تعاهد التنزيل سبب باستدامة العلو والرفعة في الأرض. الثالث : علو المسلمين أثناء سيرهم في الأرض مناسبة لبيان أحكام الإسلام للناس. الرابع : في علو المسلمين ترغيب لأهل القرى والأمصار بالإسلام، كما في ليس الحرير فانه محرم على الرجال من المسلمين إلا أنه يصح لبسه في الحرب ليظهر المسلمون أنهم في حال غنى ورفعة وفيه ترغيب بالإسلام وزجر العدو عن مقاتلة المسلمين وإرباكه. الخامس : السير في الأرض مع العلو والرفعة مناسبة لتعاهد أداء فريضة الصلاة، وعدم الخشية من الظالمين , لذا ورد التقصير في الصلاة بصيغة الشرط، قال تعالى[وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا]( ). السادس : لما أمر الله عز وجل المسلمين بالسير في الأرض فانه تعالى ضمن لهم السلامة من آفات الطريق وأسباب الخسارة والهلكة، فمع العلو يكون الأمن. السابع : إرادة التوسعة على المسلمين، وأن يسيروا في الأرض مندوحة ودعة من غير تقتير أو ضيق وعسر أثناء السير والسياحة في الأرض. الثامن : من معاني العلو في المقام إستحضار المسلمين وهم في حال الحضر والإقامة لأحوال الأمم السالفة وسوء عاقبة المكذبين. التاسعة : أختتمت آية السياق بلغة الشرط[إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] وفيه بلحاظ آية البحث إشارة إلى موضوعية الإيمان في تعاقب أجيال المسلمين في وراثتهم للأرض، وحسن عاقبتهم. العاشرة : بيان المائز بين السنة الباقية والسنة الزائلة، فالبقاء بقيد تجلي صبغة الإيمان، وظهورها عند عموم المسلمين. الحادية عشرة : إرادة سير المسلمين في الأرض بلباس الإيمان ليكونوا داعية إلى الله في الأرض، فلا يبقى المسلمون في مدنهم خاصة يؤدون وظائفهم العبادية بل يضربون في الأرض بتلك الفرائض وسنن التقوى ليعتبر ويقتبس الناس الخصال الحميدة منهم، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ). الثانية عشرة : تتضمن خاتمة آية السياق معنى الوعد الكريم والعهد للمسلمين، وبيان قانون كلي في الحياة الإنسانية على الأر ض، وهي أن المؤمنين هم الأعلون دائماً، وأن الوهن والحزن مدفوع عنهم، لذا شاء الله عز وجل أن يبقوا بسنتهم الشريفة متعاقبين في الأرض وأن يسيروا فيها متدبرين في عاقبة المكذبين بالله ومتخذين من هذه العاقبة والنجاة منها مناسبة للشكر لله عز وجل. الرابع : صلة هذه الآية بقوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]( )، وفيها مسائل : الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه : الأول : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله قد خلت من قبلكم سنن. الثاني : قد خلت من قبلكم سنن وتلك الأيام نداولها بين الناس. الثالث : قد خلت من قبلكم سنن وليعلم الله الذين آمنوا. الرابع : قد خلت من قبلكم سنن ويتخذ منكم شهداء. الخامس : قد خلت من قبلكم سنن والله لا يحب الظالمين. السادس : فسيروا في الأرض ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. السابع : فسيروا في الأرض وتلك الأيام نداولها بين الناس. الثامن : فسيروا في الأرض وليعلم الله الذين آمنوا منكم. التاسع : فسيروا في الأرض ويتخذ منكم شهداء . العاشر : فسيروا في الأرض والله لا يحب الظالمين. الحادي عشر : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. الثاني عشر : وتلك الأيام نداولها بين الناس فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. الثالث عشر : وليعلم الله الذين آمنوا فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. الرابع عشر : ويتخذ منكم شهداء فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. الخامس عشر : فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين والله لا يحب الظالمين. الثانية : إتحاد لغة الخطاب في الآيتين بتوجه كل واحدة منهما إلى المسلمين والمسلمات مع التباين الجهتي في الموضوع، فسير المسلمين في الأرض مطلق في حال الرخاء والشدة، أما بالنسبة لآية السياق فقد ذكرت الأذى والجراح التي لحقت المسلمين يوم معركة أحد. الثالثة : لما ذكرت آية البحث سوء عاقبة المكذبين ذكرت آية السياق القرح والجروح التي أصابت المسلمين والكفار، ويفيد الجمع بين الآيتين أن الجروح والأذى الذي لحق المسلمين حرز لهم ومناسبة للتحلي بالصبر، أما القرح الذي أصاب كفار قريش فانه نوع مقدمة سوء عاقبتهم الذي ذكرته آية البحث. الرابعة : يفيد الجمع بين الآيتين بيان حقيقة وهي أن البلاء الذي يصيب الكفار لا ينحصر بسوء العاقبة والعقاب الآجل، بل يأتيهم القرح والكلوم والأذى ليتعظوا ويتوبوا، أما المسلمون فان القرح مناسبة للثواب ونزول شآبيب الرحمة عليهم. الخامسة : لما أخبرت آية البحث عن أمم قد خلوا وانقراض سنن وأمم سابقة في الأرض، وذكرت آية السياق نزول القرح بالمؤمنين والكفار، ففيه دلالة أن الصراع بين الإيمان والكفر ليس جديداً في الأرض، وأن الإيمان باق برجاله وملته وأحكامه، بينما يلاحق سوء العاقبة الكفار المشركين، فالأمم التي إنقرضت وإنطوت أيامها ودولها لم تكن في معزل عن الخلاف والصراع بين الإيمان والكفار، وهو من أسرار قوله تعالى في خطاب لآدم وحواء وإبليس[اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( ). السادسة : قد يبتلى المسلمون بالأذى والخوف ونحوه كما في قوله تعالى[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ]( )، فانهم مأمورون بالصبر والتحمل، أما الكفار فان ذات البلاء يأتيهم ولكنهم لا يملكون سلاح الصبر، فسرعان ما تضعف قواهم وتشتت مؤونهم، وتتفرق جنودهم وهو من أسباب ومصاديق سوء عاقبتهم، إذ أن سوء العاقبة أعم من أن ينحصر بخواتيم الأعمال بل يصدق على الخسارة التي تكون خاتمة لعمل من أعمالهم، كما في هزيمتهم في معركة بدر ورجوعهم خائبين يوم أحد إذ تعذر عليهم الوصول إلى شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل أو أسر أصحابه كما كانوا يرجون وإن لحقت المسلمين خسارة فادحة يوم أحد، والتي هي من مصاديق قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس: في الآية أعلاه قال : فانه أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين رجلاً، عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين ، وكان عدد الأسارى ثلاثة وسبعين رجلاً( ). السابعة : تأكيد قانون كلي وهو أن الدنيا (دار الإبتلاء) فيتلقى المؤمن والكافر صنوف البلاء، ويبتلى كل واحد منهما، ولكن بلاء المؤمن تثبيت لسنن الإيمان في الأرض بدليل آية البحث وما فيها من البشارة بالسير في الأرض، والتدبر في الهلاك والفناء الذي لحق الجاحدين بالنبوة والتنزيل. الثامنة : من معاني قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )، ما ورد في آية البحث [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ] مما يدل على أن الأيام تتعاقب على الناس بسننهم ومذاهبهم المختلفة، أما المؤمنون فان الأيام تتعاقب بتغير أشخاصهم مع بقاء سننهم ومبادئ الإسلام ذاتها. ليفيد الجمع بين الآيتين أن تداول الأيام بين الناس على قسمين: الأول : ما يكون فيه تباين في الملل والمذاهب. الثاني : التعاقب بين المسلمين في أجيالهم، وكل جيل منهم يتلقى قوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ] وهو من فضل الله عز وجل على الناس باستقرار الإيمان في الأرض، ومن مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ). التاسعة : تضمنت آية البحث ما يفيد البيان والمصداق لآيات أخرى، فسير المسلمين في الأرض يظهر لهم بجلاء كيف يصرّف الله الدولة والشأن والجاه بين الناس مع توالي الأيام لتكون حجة ومدرسة للإتعاظ، ومناسبة للصلاح والدعاء. وليرى المسلمون أطلالاً تدل على حضارات سادت ثم بادت وقد تفضل الله عز وجل وحفظهم بدولتهم وإيمانهم وسلامة القرآن من التحريف إلى يوم القيامة، ليحكي للمسلمين والناس حقيقة وهي أن تعاقب الدول بمشيئة وإذن من الله عز وجل. وليس لدولة أن تبقى أطول مما كتب لها، أو أن تأتي في غير زمانها، وكل فرد منها بحكمة منه تعالى ، قال سبحانه[وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ]( ). العاشرة : تجتمع آيتا البحث والسياق بعلة غائية، وهي تمحيص المؤمنين وتأكيد ثباتهم في مقامات الإيمان إذ يعتبرون من سوء عاقبة الكفار كما في آية البحث. ويتبين صدق إيمانهم بتعاقب الناس في الحياة الدنيا وفي منازل الحكم. الحادية عشرة: ذكرت آية السياق إتخاذ الله عز وجل شهداء من المؤمنين، ومن مصاديق الشهادة بلحاظ آية البحث أمور: الأول : تعاقب السنن في الأرض، مع التباين النسبي بين تعاقبها وتعاقب الناس، فقد تتوارث أجيال ذات السنن والدولة والحكم، وقد تبقى السنة ونزول الدولة أو العكس. الثاني : بقاء المؤمنين بدولتهم وشأنهم وأن تعاقبت أجيالهم، وهو من المصاديق المتجددة لقوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ). الثالث : شهادة المسلمين بأن سنناً ومذاهب تقدمت على زمانهم لإخبار الآية الكريمة. الرابع : إطلاع المسلمين على معالم الدول المنقرضة عند سيرهم في الأرض، وتقدير الجمع بين الآيتين:فسيروا في الأرض لتشهدوا على الناس. الخامس: دعوة الناس للإلتفات إلى سير وسياحة المسلمين في أقطار الأرض وصيرورتها شهادة عليهم. السادس : ما في قوله تعالى[فَانْظُروا] من معاني التدبر لأغراض الشهادة يوم القيامة والإستعداد لها بحفظ رسوم الآثار، والشواهد التي تدل على قبح التكذيب والجحود بالتنزيل. السابع : الشهادة على أهل الكفر والنفاق الذين حاربوا الإسلام كما في كفار قريش، وزحفهم بالجيوش على المدينة لوأد الإسلام وتعديهم على حرمات البيت الحرام والزحف لإجهاض الإسلام بينما إضطر الكفار للشهادة بصدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله، وقد سأل المسور بن مخزمة أبا جهل قائلاً: يا خالي، هل كنتم تَتَّهِمُون محمدًا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: يابن أختي، والله! لقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم فينا وهو شابٌّ يُدْعَى الأمين، فما جَرَّبْنَا عليه كذبًا قطُّ. قال: يا خال، فما لكم لا تَتَّبِعُونه؟ قال: يابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأَطْعَمُوا وأَطْعَمْنَا، وسَقَوْا وسَقَيْنَا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا( )، على الرُّكَبِ كُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ( )، قالوا: مِنَّا نبي. فمتى نُدْرِكُ مثل هذه. وعندما إلتقى الجمعان يوم بدر قال الأخنس بن شريق، لأبي جهل( ): يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد ، أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له : والله إن محمداً لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوّة ، فماذا يكون لسائر قريش( ). الثامن : شهادة المسلمين على زوال دولة الكفار والمكذبين بالآيات وسوء عاقبتهم. الثانية عشرة : أختتمت آية البحث بذم المكذبين وسوء عاقبتهم، وأختتمت آية السياق بذم الظالمين والإخبار عن عدم حب الله عز وجل لهم، وبين الظالمين والمكذبين عموم وخصوص مطلق، فكل مكذّب بالآيات والنبوة هو ظالم وليس العكس. إعجاز الآية تبعث الآية السكينة في النفوس بالسير والسياحة في الأرض والتدبر فيها، فالأرض ملك طلق لله عز وجل، قال تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، لتتجاوز آية البحث الحدود الوضعية والحواجز البلدية. ومن دلالات الآية النصر والغلبة للمسلمين وإمكان إبتعادهم في الأرض جماعات وإفرادا ، فبعد أن كانت قريش وثقيف وهوازن تحاصر المسلمين في المدينة المنورة وتجهز الجيوش، وتتخطف بعضهم جاءت آية البحث لتدل بالدلالة التضمنية على تحقق الأمن للمسلمين في أسفارهم وعدم وجود عدو يأخذهم ويؤاخذهم على الإيمان , وهو من مصاديق سوء عاقبة كفار قريش لمكذبين بالنبوة والتنزيل ومن الشواهد على مصاحبة العز والأمن للإيمان والتقوى، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ). ويحب الإنسان البقاء والخلود والذكر الحسن في حياته وبعد مماته، ويتطلع إلى الولد ليتعاهد إسمه ومقامه وليس من حصر لأسباب البقاء الذكري، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اذا مات الانسان انقطع عنه عمله الا من ثلاث صدقة جارية او علم ينتفع به او ولد صالح يدعو له)( ). وهذه الوجوه الثلاثة من الأثر الكريم، وهو نقيض عاقبة المكذبين فالصدقة الجارية إحسان وخير محض وباب للذكر الحسن والثواب العظيم، والعلم الذي ينتفع منه الناس رحمة للمورث والوارث، وهو من معاني التصديق بالتنزيل ودعوة للهداية والرشاد، والولد الصالح خلف مبارك، ودعاؤه باب للعفو والمغفرة ونيل الثواب، وهذه الوجوه الثلاثة حجبها الذين يكذبون بالحق والتنزيل عن أنفسهم. ومن إعجاز الآية أنها تطرد اللهو والغفلة عن المسلم عند السفر والسير في الأرض بإنشغاله بالتدبر في الآثار، وهذا التدبر مقدمة لتعاهد فريضة الصلاة وذكر الله، كما أن أداء الفرائض وتلاوة القرآن مقدمة للتفكر في آيات هلاك الظالمين. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه لما وصلوا الحجر ديار ثمود: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم)( ). ومن إعجاز الآية بشارة بقاء الشريعة الإسلامية والفرائض والسنن التي يؤدونها إلى يوم القيامة بلحاظ قانون ثابت وهو أن الخطاب في الآية الكريمة(قد خلت من قبكم سنن) موجه لأجيال المسلمين المتعاقبة وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ). وفيه نكتة وهي إذا كانت الأجيال الأولى من المسلمين ترى أطلال وبقايا الأمم السالفة فهل تراها الأجيال اللاحقة بعد مئات أو آلاف السنين، الجواب نعم من وجوه: الأول : إن رؤية الآثار والتدبر في معانيها أعم من بقائها، ومنها ما تكون شواهدها من القرآن كما في قصة فرعون بقوله تعالى [وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا]( ). الثاني : وراثة المسلمين لمنازل الذين كفروا وعاثوا في الأرض فساداً، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ). الثالث : ما يذكره القرآن والكتب السماوية السابقة عن الكفار وشأنهم ودولهم وكثرة أموالهم في زمانهم. الرابع : التسالم على سوء عاقبة الكفار وما ينتظرهم من العذاب الأليم في الآخرة، قال تعالى[قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ]( ). الخامس : إنقراض دول الكفر والضلالة، ومحو شأن ومقامات الأمم التي قابلت الأنبياء بالصدود والجحود في الأرض، قال تعالى[لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا]( )، ولم يبقوا هم ولا ملتهم، وكانت كلمة التوحيد هي الباقية. السابعة : الهلاك الذي حل دفعة واحدة ببعض الأمم من الكافرين، كما في ثمود قوم صالح، قال تعالى[فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا]( ). الثامن : الإنتفاع من العلوم الحديثة وإرتقائها بإكتشاف آثار أمم سابقة، وأطلال بقت خاوية يستطيع علماء الإختصاص تلمس معالم تلك الحضارات وتأريخها وكيفية إندثارها ومنها مدن قديمة تشهد على وجود أمم منقرضة، لتنشأ بجوارها مدن عامرة بذكر الله وأداء الصلاة، بينما بقي البيت الحرام شامخاً في كل زمان وشاهداً على رحمة الله بالناس بدعوتهم في كل يوم لعبادته، قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ). التاسع : إعراض الناس في الأجيال السابقة عن آثار الأمم السابقة للسعة في الأرض، قال تعالى[إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( )، ومجيء هذه الأجيال بالإعتناء بالآثار وشهادتها على التأريخ. وهل تدعو آية البحث إلى العناية بالآثار وإن كانت للكفار وعدم هدمها لتكون موعظة وعبرة حتى تلك التي في بلاد المسلمين لأنها دليل وشاهد على فضل الله بوراثة وشيوع الإيمان في الأرض، وبلوغ الإسلام أصقاع وأطراف الأرض. ولم تقل الآية(قد خلت من قبلكم أمم) بل ذكرت تقدم السنن مع التباين الموضوعي بين السنن والطرائق والمذاهب وبين الناس، وفيه آية إعجازية تفيد مخاطبة المسلمين كأصحاب سنة وشريعة، وهم متحدون في التمسك بها، والعمل بمضامينها وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ). وجاءت آية البحث لتبين المسؤوليات العقائدية للمسلمين ولزوم بذلهم الوسع في جذب الناس إلى منازل الإيمان، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ). وأختتمت الآية بالخبر الذي يتضمن الوعيد للمكذبين، وهو من إعجاز القرآن في جملته الخبرية ودلالتها من وجوه: الأول : التحدي بالمصاديق التي تؤكد صدق إخبار القرآن. الثاني : يتصف خبر القرآن بأنه لا يحتمل الكذب أبداً، فكل ما فيه صدق وحق. الثالث : تعدد وكثرة الشواهد والمصاديق الكونية والإنسانية التي تؤكد صدق الخبر القرآني، كما في آية البحث فهناك ملازمة بين كثرة السنن في الأرض والفناء الذي أصاب الذين كذبوا بآيات الله. وإذ تتضمن خاتمة الآية الإنذار والوعيد للكفار فإن خاتمتها تتضمن البشارة للمسلمين وما فيه الغبطة والسعادة بإخبارها عن إنقضاء السنن السابقة وبما فيه مندوحة وسعة للمسلمين في أداء الوظائف العبادية ونشر مبادئ الإسلام. فإن قلت قد هجمت قريش ومن معها بجيوش عظيمة على المدينة المنورة لإجهاض الإسلام في أيامه الأولى , والجواب ذات الهجوم ونتائجه مصداق لمضامين آية البحث من جهات: الأولى : عجز كفار قريش عن تحقيق الأغراض والغايات التي جاءوا من أجلها. الثانية : هزيمة الكفار في معركة بدر وأحد والخندق مع أنهم في كل مرة نحو ثلاثة أضعاف عدد المسلمين، أما الفارق في السلاح والمؤون فأكثر وأظهر. الثالثة : لحوق الخزي بالكفار بالهزيمة والخسائر بالأرواح والأسرى، وصيرورة مؤونهم غنائم للمسلمين، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ). الرابعة : خروج المسلمين من معارك الإسلام الأولى أكثر قوة ومنعة وبصيرة في عواقب الأمور. الخامسة : تسليم المسلمين وكثير غيرهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما في نصره من الإعجاز الظاهر الذي لا يستطيع أحد إخفاؤه أو إدعاء حصوله وفق السياق التأريخي وقوانين السببية المادية والعلة والمعلول وأما هذا النصر فلم يأت مجرداً بذاته بل صاحبته معجزات أخرى عقلية وحسية، ونزول آيات القرآن وما فيها من الدلالة على صدق نزوله من عند الله عز وجل , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ). السادسة : زوال سلطان رؤساء الكفر من قريش على أهل مكة والقرى التي حولها وإزاحة البرزخ الذي يحول دون رؤية الناس لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون من معاني (فأنظروا كيف كان عاقبة المكذبين) ذهاب دولة الكفر والظلم وإن بقي الكفار بأشخاصهم. فإن قلت أخبرت الآية عن تقدم السنن والمذاهب وإن زوال الدولة مع بقاء الأفراد يعني بقاء ذات السنة، والجواب إن ذهاب السلطان يعني ضعف وهدم ذات السنة، وإنعدام المانع دون السير وإمكانه وتحققه مما أمر الله به المسلمين من النظر في عاقبة المكذبين. ليكون تقدير ومفهوم الآية فأنظروا كيف كان عاقبة المكذبين بزوال سلطانهم وقدرتكم على السير والنظر في آيات الأرض وتعاقب الدول من غير خوف أو خشية منهم. وهل صلح الحديبية من مصاديق الآية وسوء عاقبة المكذبين , الجواب نعم فبعد أن كان كفار قريش يؤذون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويعذبون أصحابه، ثم يسّيرون الجيوش إلى المدينة المنورة، إضطروا إلى عقد صلح الحديبية، ودخول النبي محمد والمهاجرين والأنصار مكة معتمرين، ليكون هذا الدخول من عمومات قوله تعالى(فسيروا في الأرض) ومقدمة للإمتثال للأمر الوارد في الآية. وهذه المقدمة فضل من الله عز وجل على المسلمين، فهو سبحانه أزاح الموانع التي تحول دون سير المسلمين في الأرض وهيئ لهم الأسباب والرواحل ليتنقلوا في الأرض يدعون إلى الإسلام ويتخذون من آثار وعواقب الظالمين موعظة لأنفسهم وغيرهم من الناس. وفيه آية ببيان صفة وصبغة خاصة بالأوامر الإلهية وهي تهيئة مقدمات وأسباب الإمتثال بلطف من الله عز وجل كي يفعل المسلمون ما يأمرهم الله به، ويتخذوا هذا الفعل وسيلة لتثبيت الإيمان وتوارثه، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بتقريب بأن الله جلت قدرته يهيئ مقدمات هذه العبادة ويمحو الموانع التي تحول دون الفرد والجماعة في طرق الصلاح والتقوى. قد ينزوي المسلمون في بلدهم يتجنبون السفر لأسباب طارئة أو خشية الوقائع وإحتمال الهلكة خصوصاً وأن السفر كشف للإنسان وتخلية بينه وبين بيته وأهله وعمومته وأنظمة الأمن في مدينته، فجاء آية البحث لمنع الإنزواء ولطرد التردد في السفر عن المسلمين ولكن هذا لا يعني تعريض النفس للأخطار لأن قانون (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) له الحكومة في المقام وتقدير الآية (فسيروا في الأرض مع الأمن والسلامة). ومن إعجاز الآية أنها تصدّق بذاتها موضوعها، أي حتى لو لم يسر المسلم في الأرض فانه يسلّم بحقيقة هلاك الظالمين وزوال سلطانهم، وتركهم للنعم من خلفهم قهراً. ومن إعجاز الآية في المقام أنها جاءت بصيغة الجمع(فسيروا) ليسافر المسلمون جماعة وأن يزداد عدد أفراد الجماعة بما يأمنون معه من التعدي لذا وردت النصوص بإستحباب معرفة المصاحب، والبذل والإطعام في السفر، وكراهة سفر الإنسان وحده. وهل في الآية بعث على الجهاد وطرد للنفرة والتكاسل منه، الجواب نعم، وهو من إعجاز القرآن بأن تأتي الآية بصيغة الجملة الخبرية وتنبأ عن إنقضاء سنن سابقة في الأرض، وتدعو إلى السياحة لرؤية آثار الظالمين لتنمي ملكة الخروج للجهاد والدفاع عن الإسلام، والمرابطة في الثغور والصبر والتحمل لوعثاء السفر الذي يأتي بقصد القربة إلى الله، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ). من دلالات الآية إرادة المتحد والمتعدد من آيات البطش بالكفار، فقد يشهد وضعان متباعدان أو أكثر على سوء عاقبة قوم متحدين، وقد يشهد موضع واحد على البطش الإلهي بأقوام متعددين حلوا في ذات الوضع في زمان واحد أو أزمنة متعددة، فجاءت آية البحث للإتعاظ والإعتبار على نجو الإطلاق كما في كفار قريش إذ تشهد مواضع عديدة على الخزي والذل والهوان الذي لحق بهم مثل موضع معركة بدر وأحد والخندق إلى أن جاء فتح مكة لتطوى صفحة الكفر في الجزيرة العربية وإلى يوم القيامة ويكون كل فرد منها حرب على الكفر ومرتبة في إجتثاثه من الأرض. ومن أسرار لغة الجمع في الآية (فسيروا) (فأنظروا) وتوجه الخطاب إلى المسـلمين والمسـلمات دعوة للحكومات بعدم منع المسـلمين من السـفر إلى الأمصار مع إنعدام الضرورة للمنع، فالله عز وجل يدعو عباده المؤمنين إلى السياحة في أرضه، وفيه بالدلالة الإلتزامية زجر لأصحاب السلطان من حجب هذه النعمة عنهم وما يترشح عنها من التدبر في الآيات والبراهين . وتتجلى الشواهد التأريخية بأن الذي يضع الموانع دون ذهاب المسلمين في البلاد من غير ضرورة لا تدوم أيامه كشخص أو كقانون أو كنظام وسلطة , وهو من عمومات قوله تعالى[فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ]( ). ويمكن تسمية الآية آية (قد خلت) وقد ورد هذا اللفظ خمس عشرة مرة في القرآن ولم يرد في أول الآية إلا في آية البحث. الآية سلاح ويتضمن الإخبار عن سوء عاقبة المكذبين حقيقة وهي الجزاء والعقاب جاءهم في الدنيا بسوء العاقبة، والآية مناسبة لتوجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على نعمة الهداية والإيمان، والتسليم بأن خواتيم الأمور بيد الله عز وجل وهي حجة على الظالمين. وتحتمل الآية وجهين: الأول : عاقبة المكذبين، وتحول ديارهم إلى أطلال، وإستحواذ الغير على أموالهم من سنن الحياة الدنيا، فأشارت الآية إلى الإتعاظ منها. الثاني : سوء عاقبة المكذبين بمشيئة الله وأمر من عنده تعالى، لتكون موعظة وعبرة لمن بعدهم. ولا تعارض بين الوجهين، لذا تجد الظالمين يبنون صرحاً ودولاً وتنمو أموالهم ويكتنزون الذهب وسرعان ما تضمحل ثروتهم ويتلاشى شأنهم، وتذهب دولتهم بأيدي أو بأسباب خارجة عن إرادتهم وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بتحذيرهم من الفرقة والشقاق وما يحتمل معه من الأذى والضرر، قال تعالى[وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( ). وصحيح أن الآية جاءت بصيغة الجمع إلا أنها تنحل بعدد الأفراد ويكون فيها إخبار عن عاقبة الظالم متحداً مع غيره بالظلم تابعاً أو متبوعاً، أو أنه منفرد بظلمه ,وهذه العاقبة مقدمة وإنذار من حمل أوزار الذنوب يوم القيامة، قال تعالى[وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ]( )، لتكون آية البحث رحمة بالناس جميعاً وموضوعاً للتذكير بيوم القيامة، وهذا التذكير موضوع لزحزحة الكافر عن منازل التكذيب باليوم الآخر , وبعث الخوف في نفسه من شدة الحساب على الظلم، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا كان يوم القيامة لم تزل قدما عبد حتى يسأل عن أربع: لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به)( ). ومن إعجاز القرآن أنه يخاطب الناس جميعاً بالبينة والبرهان، ويبين غنى الله عز وجل عن العالمين، ويتحدى الظالمين، ومن بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن قصص الأمم السابقة، والسنن التي مرت على الأرض صارت بالقرآن والسنة مدرسة في الأخلاق الحميدة وزاجراً عن محاكاة الظالمين , قال تعالى[فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً]( ). ليكون التفكر فيما مضى مقدمة للصلاح رجاء السلامة والبقاء والظفر. وتنمي الآية ملكة الصبر عن الظلم والطغيان ، وتبعث على الحياء والإرتداع مما يكون سبباً وعلة لسوء العاقبة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: يا ابن آدم إذا لم تستح فأصنع ما شئت)( )، وليس في الحديث إغراء بإرتكاب المعصية، ولكن الحديث يبين الملازمة بين الحياء والإيمان وأن الخشية من الخزي يوم القيامة زاجر عن فعل السيئات، وإقتبس الشاعر من هذا الحديث فقال: إذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي وَلَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ( ) فَلَا وَاَللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ وَلَا الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ وتخبر الآية بأن النعم في الدنيا كالصحة والولد والمال تكون مصدراً للقلق والفزع والخوف عند الكافر، لأنها تخبر عن تزلزلها وتعرضها للتلف في أي وقت وإحتمال صيرورتها نقمة ووبالاً أو أن يبتلى بالفوز والفقر والخوف بعد الغنى والسعة ورغد العيش والأمن. ومن اللطف الإلهي أن الآية تدعوه لتعاهدها ولشراء السكينة بالإيمان والتصديق بالقرآن خصوصاً وأن كل آية بينة وحجة في ذاتها وتدعو إلى التصديق بها وبآيات القرآن الأخرى. وعن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا رأيت الله يعطي العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له ثم تلا رسول الله {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين})( ). مفهوم الآية إختصاص المسلمين بالخطاب والإخبار البياني من الله تشريف وإكرام، ومناسبة للصلاح والفخر، إذ أن الناس تبع له في تلقي الخطاب والإنصات للآية القرآنية ومحاكاتهم في الذهاب في الأرض والتدبر في الآثار والشواهد التي تدل على سوء عاقبة المكذبين , وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، بلحاظ أن هذا الخطاب تعليم وهداية ورشاد , قال تعالى[وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ]( ). ومن مفاهيم الآية دعوة المسلمين للصبر والتحمل أسوة بالأنبياء والصالحين من الأمم السابقة الذين لاقوا الأذى من قومهم. لقد جاءت الآية بأمور: الأول : تعدد وكثرة السنن والمذاهب التي مرت على الأرض وعملت بها أجيال من الناس. الثاني : إختصاص المسلمين بالسير في الأرض بأمر الله عز وجل فليس من دليل يبين أن الله أمر أمة أخرى بالسير في الأرض. الثالث : ذكر الغايات الحميدة من هذا السير، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وهل ينحصر النظر برؤية آثار المكذبين، الجواب لا، فالآية أعم وفيها تأكيد على إستدامة منازل الرفعة للمؤمنين, وتتجلى هذه الإستدامة بلحاظ المقام بأمور: الأول : عطف آية البحث على خطاب الإكرام والتشريف في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا….]( ). الثاني : إخبار الآية المسلمين عن الوقائع والسنن التي حدثت في الأرض فإن قلت هذا الإخبار بعمل. الجواب جاءت آيات أخرى ببيانه وتفاصيله وتضمنت السنة النبوية التفصيل بما يبعث الشوق في النفوس لتلاوة وحفظ ذات الآيات والإمتثال لما في آية البحث من الأمر. الثالث : الأمر الإلهي بالسير في الأرض، وما يدل عليه مفهومه من العز والمندوحة للمسلمين وبسط الأمن في ربوع الأرض ليمشوا فيها، بدليل أن المشي مقرون بالنظر والتدبر والتفكر وهي أمور تستلزم الأمن، فلو كان الفرد أو الجماعة يسيرون في الأرض مع الخوف والفزع يتعذر عليهم التفرغ. وذكرت الآية الكريمة السير , وفيه وجوه: الأول : السير في الأرض، وقطع المسافات والفراسخ من الأرض. الثاني : النظر في الآثار التي خلّفها وتركها الإنسان. الثالث : التفكر وإقتباس المواعظ وإستنباط المسائل من النظر في آثار وأطلال الذين كذبوا بالآيات، وفي الآية مسائل: الأولى : أهلية المسلمين لتلقي الخطاب من الله في الكتاب السماوي الخالد وهو القرآن وهذا التلقي من أبواب الهداية والرشاد، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ). الثانية : حلم الله عز وجل على الناس وذراريهم بأن تتعدد وتتباين السنن، وهو سبحانه يرزق وينعم على البر والفاجر، وعلى أهل سنة الهدى وسنة الضلالة، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ]( )، أي أن الله عز وجل يرزق الناس جميعاً، سواء من أراد الدنيا وزينتها وعمل بالمعاصي، أو أراد الآخرة وإختار سبيل التقوى. وليس من تعارض بين الآية أعلاه وآية البحث بل يفيد الجمع بينهما إقامة الحجة على الكفار، إذ يأتيهم الرزق من عند الله بعرض واحد مع المؤمنين، ولكن الكفار يقابلونه بالجحود والإستكبار والتكذيب بالآيات لذا تحل النائبة في ديارهم فتكون بلقعاً كالتراب الأملس الذي لا يثبت فيه قدم ليكون شاهداً على إسئصال وفناء أهلها. الثالث : بيان حقيقة وهي تجلي أسباب الموعظة والعبرة في أحوال الأمم إذ تبقى أطلال الكفار شاهدة عليهم، وعلى فضل الله عليهم والنعم التي كانوا يتنعمون بها، قال تعالى[كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ]( ).
وفي الآية أعلاه شاهد بعدم إختصاص عاقبة المكذبين بالأطلال والخرائب والمساكن المهجورة التي تلجأ إليها الغربان، بل تشمل البساتين والجنان والقصور وصروح الحكم والحصون والقلاع والسلاح والدواب والمال والعروض ولكنها لم تبق لهم ولم تكن تركة لأبنائهم من بعدهم.
فقد جعل الله حواجز بينهم وبينها ولأنه سبحانه أكرم من أن يرفع نعمة تفضل بها على الناس أو شطر أو فريق منهم، فتبقى النعمة في الأرض ولكنها تنتقل إلى غيرهم، وهذا الغير على وجوه:
الأول : أمة تكذب بالآيات أيضاً، كما لو كانوا أبناء الذين كفروا ورثوا عنهم الكفر والنعم في آن واحد.
الثاني : مؤمنون بالله والنبوة والتنزيل.
الثالث : قوم يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
الرابع : يرث النعم فريقان، أحدهما مؤمن ويتبع الأنبياء، والآخر كافر يجحد بالمعجزات.
فجاءت آية البحث لتبين حقيقة وهي إنقطاع الوراثة إلا من أهل الإيمان بلحاظ كبرى كلية وهي أن السير في الأرض والتدبر في آياتها من مصاديق الورثة، وهو من عموما قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن مفاهيم قوله تعالى[كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] أمور:
الأول : الإنذار والوعيد للكفار.
الثاني : الإخبار ببداية عهد جديد ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتقوم بإنقطاع أثر الضلالة وزوال دولة الكفار.
الثالث : سياحة المسلمين في الأرض دليل على إنحسار سلطان الكفار في الأرض، فلم يبق لهم إلا الأطلال والشواهد التي تدل على فنائهم قال تعالى ذم وتهديد الذين يكذبون بالقرآن[فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ]( )، فجاءت آية البحث لتبين وجهاً من وجوه الوعيد الإلهي للذين كذبوا بنزول القرآن بأن غادروا مقاماتهم بذل وخزي.
وعن أنس بن مالك أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ثم قام عليهم فناداهم فقال :
يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله كيف يسمعون وأنى يجيبون وقد جيفوا ؟ قال : والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في القليب قليب بدر)( ).
الرابع : فتح باب الدراسة المقارنة بين حسن ثواب أهل الإيمان قال تعالى[وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]، وبين سوء خاتمة حياة الكفار.
ومن خصائص الإنسان في حياته الدنيا الأمل والإعداد لمستقبله القريب والبعيد، والأمل من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوته قوة وضعفاً في ذاته وموضوعه ومدته.
وعن أبي سعيد الخدري قال: اشترى أسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر ، فسمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر ، إن أسامة لطويل الأمل… ! والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي وظننت أن شفري يلتقيان حتى أقبض، ولا رفعت طرفي وظننتوا إن إسامة حتى أقبض، ولا لقمت لقمة فظننت أني أسيغها حتى أغص بالموت يا بني آدم إن كنتم تعقلون فَعِدُوا أنفسكم في الموتى، والذي نفسي بيده{إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين})( ).
فجاءت آية البحث لتبين التباين بين المؤمن والكافر في تحقيق الأمل إذ يأتي البطش الإلهي على ما إتخذه الكافر قبله لا مله، ليحول دون بلوغ غايته وتحقيق منيته، وهو من معاني ملك الله عز وجل للأرض ومن عليها بأن يقطع طريق الأمل على الكفار ويصيبهم بالخزي والهوان، ويجعلهم بأطلالهم محل شماتة للغير، وهذه الشماتة رحمة بالناس لما فيها من صيغ الموعظة ولم تخاطب الآية النبي محمداً ( فسر في الأرض) ليلحق به المسلمون بالتبعية، ولم تتضمن الأمر له بأن يأمر المسلمين (قل سيروا في الأرض) ولم تأت الآية بصيغة الجملة الخبرية أو الجملة الشرطية مثل(من يسر في الأرض ينظر كيف….) بل جاءت بالأمر المباشر للمسلمين بالسير في الأرض ليكون الأمر في الآية أنحلالياً متوجها إلى كل مسلم بالغ عاقل مختار والناس بأن يسيروا في الأرض وينظروا في الآفات التي لحقت بالكافرين من الأمم السابقة في أشخاصهم وزراعتهم ودوابهم وعقاراتهم، قال تعالى[كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَكَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ* فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ]( ).
ويبين قوله تعالى أعلا بأن قوم فرعون لم ينظروا بعد مجيء موسى بالآيات حتى أغرقوا في اليم، فلم يؤخر الله عذابهم إلى عالم البرزخ أو يوم القيامة ولم يمهلوا رجاء التوبة والصلاح، في الوقت الذي جاء فيه الثناء على المؤمن، وتضمنت الإخبار بأن البقعة التي صل فيها تبكي عليه يوم موته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيد المكتب، عن إبراهيم، قال: ما بكت السماء منذ كانت الدنيا، إلا على اثنين. قيل لعبيد: أليس السماء والأرض تبكي على المؤمن؟ قال: ذاك مقامه وحيث يصعد عمله. قال: وتدري ما بكاء السماء؟ قال: لا. قال: تحمر وتصير وردة كالدهان إن يحيى بن زكريا لما قتل، احمرت السماء وقطرت دماً. وإن حسين بن علي يوم قتل احمرت السماء)( ).
وعن سفيان الثوري قال: كان يقال : هذه الحمرة التي تكون في السماء، بكاء السماء على المؤمن)( ).
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين السياحة في الأرض بقيود وشروط منها:
الأول : التفقه في الدين.
الثاني : جعل غاية حميدة للسير في الأرض منها التفكر في سوء عاقبة الكفار والجاحدين.
الثالث : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : تأكيد الإقرار بأن الأرض ملك لله، وأن ملكه تعالى أن يدعو المسلمين للسير فيها، وفيه مسائل:
الأولى : من ملكية الله للأرض الأمر للمسلمين بالسير فيها , وتأكيد الإطلاق في هذه الملكية.
الثانية: عدم رضا الله عن الذين يفسدون في الأرض.
الثالثة : وراثة المؤمنين لعقارات وديار الكفار.
الرابعة : مضامين الآية مقدمة وتذكير بأن الدار الآخرة خالصة لله في ملكيتها.
الخامس : إستنباط المسائل والمواعظ من الوقائع والحوادث التي جرت لأهل الأرض وإتخاذها دروساً في الحياة العامة والخاصة للمسلمين لذا قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، لبيان موضوعية قصص القرآن والغايات الحميدة منها، وتأهيل المسلمين لمرتبة أولي الألباب والعقول كي ينتفعوا الإنتفاع الأمثل من سنن الأنبياء ومناهج الأولياء فلا تغادر الأرض بل يتجلى بها المسلمون في كل زمان إلى يوم القيامة، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).

إفاضات الآية
وجاء قوله تعالى(فأنظروا) بلغة الأمر العام الشامل لجميع الناس للدلالة على عظيم النفع في هذا النظر والتدبر، وتنمية ملكة الإتعاظ عند الناس مطلقاً، وإذا كان النفع من هذه الآية في الأصل خاصاً بالمسلمين فلماذا جاء الأمر بالنظر بصيغة العموم الإستغراقي، الجواب إن النفع من هذا النظر رحمة تتغشى الناس جميعاً، وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
وقد يكون باباً للتوبة والإنابة والصلاح، وهو من المقاصد السامية في سوء عاقبة الذين ظلموا أنفسهم بالتكذيب بالحق والصدق.
وهل الكفر والجحود علة تامة للهلاك وزوال الأثر أم هناك أفراد أخرى معلولة له الجواب هو الثاني، وهذه الأفراد منها ما يكون عاجلاً ومنها ما يكون آجلاً، ومنها ما يكون دنيوياً ومنها ما يكون أخروياً.
ومن إفاضات الآية بيان مصاديق ملكية الله عز وجل للأرض منها:
الأول : الأمر للمسلمين بالسير في الأرض، قال تعالى[فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا]( )، أي السير في أطراف الأرض، لأن الأصل في المنكب هو ملتقى الكتف مع العضد، وأستعير هنا للأرض وجهاتها المترامية.
وجاء لفظ المناكب هنا بصيغة الجمع لإرادة التعدد والسعة في الأرض والمشي فيها.
الثاني : تعاقب أهل الملل والنحل على الأرض، وتباين السنن فيها، وإختتامها بمبادئ التوحيد وأداء المسلمين للفرائض وتعاهد أجيالهم لها من غير تحريف أو تغيير وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أي أن هذا التعاقب ووراثة المؤمنين للأرض من مصاديق وأفراد ملك الله للأرض ومشيئته في سكن الناس فيها مع التباين وصيغ الإمتحان في الطرائق والمذاهب والسنن.
الثالث : الأمر للمسلمين بالسير والمشي في الأرض بلحاظ أنها ملك لله عز وجل، وأن المؤمنين أولى بالإنتفاع منها والتصرف فيها.
الرابع : الهلاك والفناء الذي لحق الكفار لأنهم عاشوا على الأرض التي هي ملك لله عز وجل فلم يشكروه على هذه النعمة العظيمة.
والقرآن كتاب نازل من عند الله، كل ما فيه حق وصدق، حفظه الله من الزيادة والنقيصة وصيره في أيدي المسلمين، وتلك آية في إعجازه، وليكون من الشواهد على كون المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أن الله حفظ بهم ولهم القرآن من التحريف ليكون سلاحاً سماوياً متجدداً في محاربة المكذبين بالنبوة والتنزيل.
وهل يدخل معهم المنافقون أم أنهم خارجون بالتخصيص من مضامين آية البحث لإظهارهم الإيمان ونطقهم بالشهادتين.
الجواب هو الأول لوجوه:
الأول : تكذيب الكافر في قرارة نفسه بالآيات.
الثاني : أصالة الإطلاق في إرادة المكذبين.
الثالث : شمول الآية للتكذيب على نحو السالبة الكلية والجزئية.
الرابع : مع أن الآية إخبار عن حال وحوادث وبلاء نزل بقوم أصروا على الجحود فإنها موعظة وباب للهداية والرشاد.
الخامس : يمكن تأسيس قانون كلي وهو كل آية قرآنية إنذار للمنافقين في منطوقها ومفهومها.
السادس : في الآية دعوة للناس للتنزه من التكذيب بالآيات ترى ما هي النسبة بين الكذب والتكذيب.
الجواب الكذب قول ما ليس بحق، وذكر ما ليس بواقع سواء تعلق بالماضي أو الحاضر أو المستقبل، أما التكذيب فهو إنكار الحق والواقع , لتكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فالتكذيب أعم، فهو قول بالباطل وجحود بالحق وإبتعاد عن الصدق، فجاءت الآية للتحذير والإنذار من الكذب ودعوة الناس للتوبة منه.
ولم يكتف القرآن بالوقائع والنوازل والدواهي التي حلت بالمكذبين من الأمم السابقة بل جاء بذكر الوقائع والمعارك في بداية الإسلام التي لحق فيها الخزي للكافرين من قريش ليس فقط لتكذيبهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل لإجهازهم عليه وعلى المسلمين، وإرادتهم وأد الإسلام، قال تعالى بخصوص هجومهم بخيلهم وخيلائهم في السنة الثالثة على المدينة المنورة ووقوع معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وفي بداية الدعوة الإسلامية وحيث كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ويلاقي الأذى من قريش نزل القرآن بذم وتوبيخ أبي لهب مع أنه عم النبي قال تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
والتب: الخسران، وليس من خسران أشد من الذم في القرآن بالاسم والتعيين لأن القرآن باق إلى يوم القيامة، يتلوه المسلمون في مشارق ومغارب الأرض.
(وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: مرت درة ابنة أبي لهب برجل فقال: هذه ابنة عدو الله أبي لهب، فأقبلت عليه فقالت ذكر الله أبي لنسابته وشرفه وترك أباك لجهالته، ثم ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، فخطب الناس فقال: لا يؤذين مسلم بكافر)( ).
ولم ينحصر إيذاء أبي لهب وزوجته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتكذيب وإنكار الرسالة بل تعداه إلى السعي في الإضرار به والتحريف عليه، وطلاق بناته ووضع الشوك في طريقه، وإذا آذاه أقرب الناس إليه فهو دعوة للأبعد بالصدود عن رسالته لا أقل من باب الأولوية.
وأخرج الطبراني عن قتادة قال: تزوّج أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عتيبة بن أبي لهب، وكانت رقية عند أخيه عتبة بن أبي لهب، فلما أنزل الله {تبت يدا أبي لهب} قال أبو لهب لابنيه عتيبة وعتبة: رأسي من رأسكما حرام إن لم تطلقا بنتي محمد، وقالت أمهما بنت حرب بن أمية، وهي حمالة الحطب: طلقاهما فإنهما قد صبتا، فطلقاهما.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أن امرأة أبي لهب كانت تلقي في طريق النبي صلى الله عليه وسلم الشوك، فنزلت {تبت يدا أبي لهب، وامرأته حمالة الحطب} فلما نزلت بلغ امرأة أبي لهب أن النبي يهجوك، قالت: علام يهجوني؟ هل رأيتموني كما قال محمد أحمل حطباً في جيدي حبل من مسد؟ فمكثت ثم أتته فقالت: إن ربك قلاك وودعك، فأنزل اللهوَالضُّحى * وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى( ).
وقد ذمّ الله عز وجل زوجة أبي لهب بقوله تعالى[وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ]( )، وهي أم جميل أخت أبي سفيان، وكانت عوراء، ونعتها بحمل الحطب فيه وجهان:
الأول : كانت تحتطب الشوك فتلقيه في طريق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً، قاله ابن عباس.
الثاني : كانت تحتطب الكلام وتمشي بالنميمة قاله الحسن والسدي( ).
ووصف الحطب هنا مجاز لأن النميمة تؤدي إلى العداوة تبعث في النفوس البغضاء، وكأنها تشعل ناراً بحطب.
وتبين هذه الآية أنها مدد للمسلمين في جهادهم في سبيل الله، وكل آية دعوة للناس للتوبة والإنابة والصلاح وصفحة مشرقة توثق ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأهل بيته من الأذى من المكذبين الجاحدين بالنعم.
إن التكذيب بالآيات ظلم للنفس والغير، لذا فإن نزول البلاء بالمكذبين رحمة بهم وبالناس، وبرزخ دون سيادة وشيوع أفكار الضلالة ومفاهيم الإنكار والإقامة على الجحود، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( )، وهل سرعة نزول البلاء بهم من ظلمهم لأنفسهم.
الجواب إنه نتيجة وأثر لهذا الظلم ومظهر له، وبين الظلم والتكذيب عموم وخصوص مطلق، فالتكذيب ظلم، والمكذبون ظالمون، ولكن الظلم أعم في موضوعه وحكمه من التكذيب.
ومن القوانين الثابتة في الحياة الدنيا أن التكذيب بالتنزيل والجحود بالنبوة أشد وجوه الظلم، لذا لم يمهل المكذبون في الدنيا، ولم يرجأ عذابهم إلى الآخرة بنار تتوهج لهباً وتسعر غضباً في إنتظارهم ليجتمع عليهم بلاء الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، إذ أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران , وفي آل فرعون ورد قوله تعالى[النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ]( ).
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده من الغداة والعشي. إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار. يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة. زاد ابن مردويه {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً})( ).
وفي الآية أعلاه قال الفراء في الكلام تقديم وتأخير وتقديره: إدخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً)( )، ولكنه خلاف نظم ومعنى الآية والنصوص البيانية، وتجلي التباين بين العرض على النار ودخولها والإكتواء بشدة حرها، وقال عكرمة ومحمد بن كعب: هذه الآية تدل على عذاب القبر)( ) .
ويدل الحديث النبوي أعلاه على أن ذكر آل فرعون من باب المثال الأمثل وليس الحصر.
وكما تعاقبت أجيال الناس على الأرض فإن الأنبياء والرسل تعاقبوا عليها وفيه رحمة للناس وحجة عليهم بأن يكون في كل أمة رسول يأتي بالمعجزة ويدعو إلى الله وكما خاطبت آية البحث المسلمين والناس (قد خلت من قبلكم سنن) .
وتوالي بعث الأنبياء والرسل من بين البشر وكل بلسان قومه يدل بالدلالة التضمنية على إتصال وإستمرار التبليغ والوحي عن الله ومجئ البشارة والإنذار بحلة البيان وصبغة الإعجاز، قال تعالى[مَا الْمَسِيحُ ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( )، وفيه آية بأن المراد من السنن في آية البحث المعنى الأعم الشامل لسنن النبوة والهداية الحسنة , وضدها من سنن الضلالة ذات القبح .
إنما يطيب المنزل إذا خلى من الغرباء والأراذل، فأراد الله عز وجل للأرض أن تكون للمؤمنين روضة من رياض الجنة خالية من أهل الحسد والضلالة الذين يقابلون قيام المسلمين بضروب العبادة بالإستخفاف والإيذاء، وليسعى المسلمون في هداية الناس إلى سبل الهداية ويشيدون صرح الإيمان، ويتوارثوا سنن الرشاد.
وعندما أهلك الله آل فرعون بالغرق دفعة حلا العيش لبني إسرائيل وزالت عنهم أسباب الخوف والفزع والمانع من العبادة وصاروا أسياداً وملوكاً في أنفسهم وعوائلهم ومجتمعاتهم، كما قال الله تعالى[إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ]( ) , وتجلى مصداق هذا القانون بإندحار مشركي قريش وفتح مكة.
ولم يرد لفظ الملوك في القرآن إلا مرتين، إذ ورد في ذم الملوك في تعديهم وغزوهم، قال تعالى[إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( )، مما يدل على إرادة معنى أخص من صفة الملوك في الآية أعلاه من سورة المائدة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كان له بيت يأوي إليه وزوجة وخادم فهو ملك)( ).
وعن ابن عباس: أنهم جُعِلُوا ملوكاً بالمَنِّ والسَّلْوَى والحَجَر)( )، وعن الحسن: لأنهم ملكوا أنفسهم بأن خلصهم من إستعباد القبط لهم، ويدل على المعنى الأخص للملك وأنه يتعلق بحال الشخص وأسباب العز في بيته ما ورد في التنزيل حكاية عن موسى[إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ]( ).
ويتجلى التباين بين الإيمان والكفر في خاتمة حياة الإنسان في الحياة الدنيا فيصبح المؤمن ملكاً وينزل البلاء والعذاب بالكافر بما يكون موعظة للأجيال، ومن خصائص ملك الله للأرض وما عليها صيرورة النفوس تنفر من الظلم والجور، والتكذيب بالآيات من أقبح وجوه الظلم للذات والغير، وقد لا يلتفت المسلم لهذه الحقيقة لأن الذين يحيطون به مسلمون ويحضرون معه صلاة الجماعة ويصومون شهر رمضان.
فجاءت الآية بالتذكير بالأمم السابقة بما فيه خزي الكافرين وإستمرار فضحهم، إذ إنقضت أيامهم ونزل العذاب بهم، ولكن خزيهم متجدد بين الأجيال من المسلمين وغيرهم بالشواهد والأطلال التي تشارك في ذمهم وفضحهم وكأن لها لساناً ينطق باللوم على القوم الكافرين لأنهم أُخذوا بالإسراف والتعدي على أنفسهم فزال ما عندهم من النعم.
وتبين الآية أن الدنيا دار إمتحان وإختبار، وأن زخرفها معروض للناس جميعاً، فأما أن يكون وسيلة للإيمان ومناسبة للشكر لله، وأما أن يكون باباً للجحود والطغيان، قال تعالى[إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( ).
وجاءت آية البحث لجذب الناس لمنازل الإيمان وإرادة إنحسار مفاهيم الكفر والضلالة في الأرض بالإتعاظ من الشواهد وحياة الأمم السابقة، وكيفية مصاحبتهم للنعم الإلهية وتقيدهم بحدود الله.
وتضمنت الآية ذم الكفار، وما فيه خزيهم إلى يوم القيامة، فقد أظهروا الكفر والعناد وآذوا الأنبياء وإمتنعوا عن تصديق الرسل الذين بعثهم الله لهم بالآيات البينات، فجعلهم الله عبرة بآثارهم الدالة عليهم، وبالأخبار الواردة في الكتاب والسنة، ليسير المسلمون في الأرض شاكرين لله عز وجل بما تفضل به من هدايتهم ورشادهم.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بحرف التحقيق والتأكيد (قد) لإحاطة الله علماً بالوقائع والحوادث، وكل شيء مضى أو هو آت حاضر عند الله عز وجل ولا يكون إلا بمشيئته وإرادته، قال تعالى[أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( ).
وفي هذا الإبتداء مسائل:
الأولى : جعل السكينة في نفوس المسلمين، وأن ما في القرآن من الأخبار حق وصدق.
الثانية : حصانة المسلمين من الشك والريب في مضامين آيات القرآن.
الثالثة : بعث الشوق في قلوب المسلمين لتلاوة الآية الكريمة.
الرابعة : تأكيد صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل.
الرابعة : اليسر والتخفيف في القراءة.
الخامسة : الأصل هو ميل النفوس للخبر الذي يتصف بالقطع والصدق، فجاءت بداية الآية لتأكيده.
فاخبرت الآية عن إنقضاء دول وإنقطاع مذاهب وطرائق، وزوال ممالك وإنقراض أمم في الأرض، لأن السنن جمع سنة وهي نوع عرض وفكر يتبناه الناس ويعملون بنهجه، ويحتمل الأمر وجوهاً:
الأول : إنقطاع السنة، وبقاء الأمة وإنتقالها إلى سنة أخرى.
الثاني : إنقراض الأمة وهلاك أفرادها وبقاء السنة التي كانوا يعملون بها لترثها أمة أخرى.
الثالث : إنقطاع السنة وإنقراض الأمة.
الرابع : تعدد السنن وإتحاد الأمة.
الخامس : إتحاد السنة وتعدد الأمم التي عملت بها.
وكل هذه الوجوه من دلالات ومعاني الآية الكريمة ومصاديق الواقع وما جرى على الأرض من الشواهد.
وجاءت آية البحث بالتعريف والتنكير في قوله تعالى[خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ]( )، فالتعريف بالخطاب للمسلمين إذ أنه لا يقبل الترديد والتعدد في الملة والمذهب، وهل فيه دعوة للمسلمين لتعاهد الوحدة ومفاهيم الأخوة بينهم، الجواب نعم، وتلك آية في إعجاز القرآن بأن تدعو آياته لسنن الصلاح ويكون بعضها ترجماناً وتفسيراً لبعضها الآخر إذ أن آية البحث تعضيد وتفسير لقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
أما التنكير فبلفظ (سنن) فلم تقل الآية (السنن) وفيه شاهد بأن أهل الأرض وأجيالهم المتعاقبة لهم سنن ومناهج، ومنها سنن الإسلام، لتتضمن بداية الآية البشارة للمسلمين وتقديرها: قد خلت من قبلكم سنن وسننكم هي الباقية) فمع تلاوة أول كلمات الآية يستلزم الأمر من المسلمين والمسلمات الشكر لله على هذه النعمة، ويتجلى الشكر بتعاهد الفرائض وأحكام الحلال والحرام التي جاء بها القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وبعد إخبار الآية عن إنقضاء سنن في الأرض جاءت بالأمر للمسلمين بالسير في الأرض والسعي في أقطارها لرؤية آيات الله الكونية، والبراهين القاطعة في خلق ورزق وحياة الناس، وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة حين[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فمن علم الله بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : تعاقب السنن المتشابهة والمتقاربة والمتباينة على الأرض.
الثاني : إختتام السنن بالإسلام وأحكامه.
الثالث : عدم بقاء أهل الإيمان في مصرهم وبلادهم بل يسعون في الأرض بلباس التقوى وأداء الفرائض، فلابد للمسافر والذي يسير في الأرض من طرو فرائض الصلاة اليومية عليه إذ أنها تتغشى اليوم كله باطرافه ووسطه، لتأتي صلاة العشاء بعد مضي شطر من الليل حيث يسكن المسافر ويميل إلى الراحة، فيسير المسلمون في الأرض بالصلاة والذكر وهو من علم الله، وفيه حرب على الفساد وسفك الدماء.
الرابع : تنفي الآية شماتة أهل الفساد بأهل الصلاح، إذ أن المؤمنين هم الذين يرون عاقبة المفسدين والكافرين، وفيه شفاء لصدور المؤمنين.
وهل تَلَقي ملائكة العذاب للكفار عند الإحتضار وساعة الموت من سوء العاقبة الذي ذكرته آية البحث أم لا، قال تعالى[وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ]( )، الجواب هو الثاني، لذا جاءت الآية أعلاه بحرف الإمتناع (لو) وعدم تحقق رؤية أهل الدنيا لكيفية تلقي الملائكة الكافر وقبضهم لروحه، بينما أخبرت آية البحث عن رؤية المسلمين بالحس والنظر لدلائل سوء العاقبة .
وأيهما أشد عذاب الدنيا ومفارقتها المريرة التي تنتظر الكافر أم قبض الملائكة لروحه , الجواب هو الثاني ليكون خاتمة لعذاب الدنيا وبلوغه أشد مراتبه عند مغادرتها، بعكس المؤمن الذي تقبض الملائكة روحه بكل عناية ولطف وتخفيف.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن المؤمن إذا احتضر أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون : أخرجي راضية مرضية عنك إلى روح الله ، وريحان ، ورب غير غضبان فتخرج كأطيب ريح المسك حتى أنهم ليناوله بعضهم بعضا يشمونه حتى يأتوا به باب السماء فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض ؟ فكلما أتوا سماء قالوا ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين . قال : فلهم أفرح به من أحدكم بغائبه إذا قدم عليه .
قال : فيسألونه ما فعل فلان ؟ قال : فيقولون : دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم الدنيا ، فإذا قال لهم : أما أتاكم ؟ فإنه قد مات . قال : فيقولون ذهب به إلى أمه الهاوية ، قال : وأما الكافر ، فإن ملائكة العذاب تأتيه فتقول : أخرجي ساخطة مسخوط عليك إلى عذاب الله ، وسخطه فيخرج كأنتن ريح جيفة فينطلقون به إلى باب الأرض فيقولون : ما أنتن هذه الريح كلما أتوا على الأرض قالوا ذلك حتى يأتوا به أرواح الكفار( ).
والقدر المتيقن من آية البحث هو آثار الظالمين، والدلائل التي تشهد على النعم التي كانوا عليها وإنصرافها عنهم ومغادرتهم لها قهراً، وهذه المفارقة القهرية بين النعم وأصحابها من خصائص ورشحات التكذيب بالآيات، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : لا تدوم ولا تزداد النعم عند الذي لا يشكر الله.
الصغرى : المكذبون بالآيات لا يشكرون الله.
النتيجة : لا تدوم ولا تزداد النعم عند المكذبين بالآيات.
وتدعو الآية المسلمين للتوجه بالشكر لله عز وجل على بقائهم وإستدامة سنتهم، وهل تدل الآية على خصوصية في سنة المسلمين بلحاظ لغة التنكير في السنن السابقة ، الجواب نعم فسنة المسلمين هي الباقية لأنها مترشحة عن القرآن وقول وعمل خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد الخبر جاء الأمر إلى المسلمين بالسير والسفر في أقطار الأرض، ولم تقيد الآية جهة الأرض التي يسير فيها المسلمون , وفيه بشارة الفتح وإنتفاء المانع من السير في الأرض.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على زوال حكم الطواغيت الذين يصدون المسلمين عن السياحة في الأرض، وهل تتضمن الآية الإشارة إلى زمان العولمة والتقارب بين البلدان وسرعة وكثرة وسائط النقل البرية والبحرية والجوية.
الجواب نعم، للغة الإطلاق فيها وإرادة العموم من لفظ الأرض , ليس هذا فقط بل إنها تنبأ عن التسهيلات ووسائل الترغيب التي تبذلها الدول لجذب السواح والزائرين إلى بلادهم وبما هو أوسع وأعم مما في هذا الزمان وهو من الإعجاز الغيري لآية البحث، وأفراد النعمة التي يتفضل بها على المسلمين ليكون من غايات الآية أمور :
الأول : إتخاذ المسلمين الحيطة والحذر من الأضرار العرضية للسياحة.
الثاني : لزوم إجتناب أسباب الغفلة واللهو وما ينسي ذكر الله عز وجل.
الثالث : موضوعية الإيمان في السفر خصوصاً وأن الآية تأمرهم أن يسافروا كمسلمين مع الإلتزام بسنن الحلال والحرام ووجوب التقيد بالفرائض.
الرابع : تجلي معاني الأخوة والمحبة بين المسلمين في السفر , لقد أراد الله لهم السفر بشغاف القلب مع ظاهر البدن , وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : إظهار مفاهيم التقوى والإلتقاء في العقيدة بين الحاضر والمسافر، بين السائح والمقيم كما في إشتراك الجميع في أداء صلاة الجماعة.
السادس : تبادل المعارف بخصوص السفر في الأرض ورؤية الشواهد التي تدل على سوء عاقبة الكفار.
لقد تكررت لغة الجمع في الآية الكريمة (من قبلكم) (فسيروا) (فانظروا) وكل فرد منها متوجه للمسلمين ثم الناس ، وهل يشمل المسلمات , الجواب نعم لوجوه:
الأول : أصالة الإطلاق في الخطاب، فيأتي الخطاب للمسلمين بصيغة جمع المذكر ويكون شاملاً للمسلمات أيضاً كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( )، ومن باب الأولوية أن يكون الخطاب العام غير المقيد بلغة التذكير وغلبتها شاملاً للنساء أيضاً.
الثاني :عمومات التكليف في الشريعة الإسلامية.
الثالث : التدبر والتفكر أمر عام للرجال والنساء، وهو طريق لزيادة الإيمان.
الرابع : المرأة عون للرجل في السير والتفكر في سوء عاقبة المكذبين، وكذا العكس أي الرجل عون لها أيضاً , فيشمل الخطاب النساء كافة , وكم من امرأة آمنت قبل زوجها وأخيها , وكانت نبراسا لهداية أسرتها وداعية إلى الله.
نعم لابد أن يكون سير المرأة وفق الضوابط الشرعية، وأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأولوية الحجاب والستر لها ورفقة المحرم ، وسير وسياحة الرجال هو الأكثر والأغلب فراداً وجماعات وسرايا، وهم يوثقون ما يرون من شواهد يتجلى فيها الخزي الذي لحق الكفار بعد رغد عيش وشأن وجاه , وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول : الآية دعوة لنقل المسلم لما شاهده من الآثار , وهذا النقل من جهات:
الأول : النقل للعيال وأفراد الأسرة ولتوارث هذا العلم.
الثاني : إطلاع المسلمين في ناحيته على ما شاهده من الأطلال.
الثالث : إخبار الناس جميعاً عن آثار المكذبين وصيرورتها موعظة وعبرة.
الرابع : مشاهدة المسلم للآثار خاصة به .
الخامس : تدعو الآية جميع المسلمين للسير في الأرض , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا]( ).
السادس : لفت إنتباه المصاحب في السفر إلى الآثار، والتدبر في كنهها، وإستعراض تأريخها , وكيف آلت إلى سوء العاقبة.
وكل هذه الوجوه صحيحة باستثناء الوجه الرابع أعلاه.
ولقد أخبر القرآن بأن كل كافر يأتي يوم القيامة بمفرده ليس معه ناصر أو شفيع أو ولد أو تابع أو متبوع أو مال أو أملاك ، قال تعالى[وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ]( ).
والتخويل تمليك المال، وظاهره أنه تمليك متزلزل ومؤقت وليس بدائم وهو الذي تدل عليه الآية أعلاه باعتباره إمتحاناً ومناسبة للعمل الصالح والإحسان في مرضاة الله.
وفي المحكم: الخَوَلِيُّ مُحرَّكةً : الرّاعِي الحَسَن القِيامِ على المال والغَنَمِ( ).
قال ابو النجم:
الحمدُ للَّهِ الوَهُوبِ المُجْزِلِ أَعْطَى فلم يَبخَلْ ولم يُبَخَّلِ( ).
وفي لفظ خولناكم إعجاز قرآني لما يتضمنه من التذكير بسلب النعم من المال والأولاد والعبيد وغيرها من النعم على نحو قهري بالموت، أو بأمر طارئ قبل حلول الأجل وان كان موضوع الآية هو الأول، وهل يختص بملك الإنسان ساعة مغادرته الدنيا أم هو أعم، الجواب هو الثاني فيشمل ما ملكه واستولى عليه ثم فارقه ويشمل النعم المعنوية والاعتبارية من الجاه والنسب والشأن.
ومضامين الآية أعلاه من مصاديق آية البحث إذ يتبادر إلى ذهن المسلم أن الكافر يقف وحيداً بين يدي الله (وعن جابر بن عبد الله قال: إذا كان يوم القيامة حشر الناس حفاة عراة غرلاً ( )( ).
وتتضمن بداية الآية الإخبار عن تعاقب السنن، التي هي من عالم الفعل مما يعني زوال مادة وصورة هذا الفعل لأن الآية أخبرت عن إنقضائها بقوله تعالى[قَدْ خَلَتْ] ومع هذا جاء الأمر للمسلمين بالسير في الأرض، وفي موضوع يتعلق بتلك السنن ليكون من إعجاز القرآن الثناء على المسلمين باستقرائهم المسائل من الآثار والأطلال التي في الأرض، لتكون حاضرة بالوجود الذهني , فهي تشير إلى تقدم السنن والطرائق والمذاهب إلى جانب أن القرآن لم يترك الأمر لخصوص الشواهد الخارجية بل جاء ببيان تلك السنن وتعددها وجمعها للمفترق والمتناقض .
ترى لماذا لم يكتف القرآن بالإشارة إلى تلك الآيات ويخفف عن المسلمين التكليف بالسير في الأرض، خصوصاً وأن آياته تتضمن أبهى وأحسن القصص، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( )، الجواب من وجوه :
الأول : أراد الله عز وجل إجتماع البرهان العقلي والحسي في بلوغ المسلمين مرتبة التدبر والتفكر في بديع صنعه في الناس وبما يؤدي إلى إستنباط الدروس والحكمة.
الثاني : صيرورة الشواهد الحسية دليلاً ومصداقاً للبرهان العقلي ومضامين الآية القرآنية.
الثالث : إجتماع الإعجاز الذاتي والغيري في الآية القرآنية، فهي بذاتها حجة في موضوعها، وتكون الشواهد على الأرض مصداقاً عملياً لها، ودعوة للتصديق بها والعمل بمضامينها ، قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا]( ).
الرابع : لحاظ التباين بين الناس في المدارك وإكتساب المعارف، فينتفع الناس من البرهان العقلي ودلالات الآية القرآنية، ومنهم من يكون أكثر ميله إلى الظواهر الحسية فترسخ في ذهنه.
الخامس : من إعجاز القرآن أن الآيات الكونية شاهد على صدق نزوله من عند الله.
لقد جاء الأمر بالسير في الأرض مطلقاً في طرفيه في الذين يسيرون، وفي الدعاء والمواضع التي يسيرون فيها، فليس من حصر أو تقييد في الآية مما يدل على أن الإنسان عمّر الأرض وأن مواضع منها غير مأهولة في هذا الزمان كانت عامرة بأهلها في الأزمنة الغابرة، وهناك حضارات سادت ثم بادت قد لا يعلم بها الناس إلا بالتنقيب والحفر وإزاحة الموانع الطارئة من الأتربة ورشحات السيول والعواصف والزلازل وغيرها.
وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على أن سير المسلمين في الأرض لن يلحقهم بالسنن والأمم السابقة من جهة إنقراضها وإنقطاعها لما في الأمر الإلهي بالسير في الأرض من الوعد الكريم للمسلمين بالأمن والسلامة وإستدامة تلقي الأمر الإلهي بالذهاب في الأرض.
وهو من فيوضات رحمة الله التي يستحدث منها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، إن مصاديق رحمة الله مما يفوق التصور الذهني للناس مجتمعين ومتفرقين، ومنها دلالات هذه الآية ورشحات ما فيها من الأوامر.
فان قلت ليس في الآية إلا أمران هما (فسيروا) و(فانظروا) والجواب من وجوه :
الأول : الإثنان أقل الجمع.
الثاني : كل أمر في الآية إنحلالي ومتفرع بعدد المسلمين.
الثالث : كل مسلم يتوجه له الأمر في الآية على وجوه :
الأول : أن يسير المسلم في الأرض ويقطع المسافات.
الثاني : نظر وتدبر المسلم في الشواهد التي على الأرض وتدل على إنقضاء آجال أمم منصرمة.
الثالث : إجتماع المسلمين في السير في الأرض، وخروجهم جماعات، وإتحاد النظر، أي كل واحد ينظر ويتفكر بنفسه في دلائل الحكمة الإلهية بذهاب سنن وإنقراض أمم.
الرابع : إنفراد المسلم في السير في الأرض، وإشتراكه مع غيره من المسلمين في التدبر بآثار الأمم السابقة، كما لو استحضروا عند إجتماعهم ما رأوه، فيذكرون معالم مخصوصة من آثار الظالمين، ويخبر أحدهم أنه مرّ عليها قبل عام ويخبر آخر أنه مرّ قبل ثلاثة أعوام، ويقول ثالث: أنه لم يرها إلا حديثاً وتواً.
الخامس : إجتماع المسلمين في السير في الأرض وسفرهم جماعة، وقيامهم بالتدبر والتفكر في الأطلال والآثار.
والوجه الأخير هو ظاهر منطوق الآية الكريمة، والوجوه الأربعة السابقة تكون في طوله ولا تتعارض معه، وهو من إعجاز القرآن وسعة رحمة الله في نزول الآية وإحتمال لفظها للمتعدد من المعاني والمشتركات اللفظية بما يجلب المنفعة للمسلمين، ويجعل مندوحة وسعة في أفراد ومصاديق الإمتثال ويما يترتب عليه الثواب العظيم.
ومن سعة رحمة الله في المقام أن تجلي آثار عاقبة الظالمين والمكذبين منتشرة في الأمصار، ولم تنحصر في بلد واحد، وقد جاء القرآن بذكر آل فرعون وكيف أنهم غرقوا في البحر الأحمر(القلزم) في ذات الوقت الذي عبره بنو إسرائيل كأرض يابسة، قال تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( )، ليفوز بنو إسرائيل لإيمانهم وصحبتهم لموسى عليه السلام وطاعتهم لأمره بالخروج من مصر بنجاة وسلامة ورؤية عاقبة المكذبين من آل فرعون رؤيا العين.
وفاز المسلمون بأن إجتمعت هذه الأخبار عندهم مع قصص قوم عاد، وثمود، وقوم لوط، ونمرود، وغيرهم مع رؤيتهم لعاقبة رؤساء الشرك من قريش وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن تجتمع عند المسلمين قصص الأولين، ويحصل معهم ذات الأمر، مع مائز وهو أن المسلمين واجهوا بالسيف القوم الكافرين، وخاضوا غمار الحرب ونزلت الملائكة مدداً لهم من عند الله.
وفي معركة أحد جاءت البشارة للمسلمين بقوله تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
ترى لماذا لم تقل (قد خلت من قبلكم سنن في الأرض فسيروا) أي لم تقدم الآية الوعاء للسنن وهو الأرض على الأمر للمسلمين بالسير فيها مع إمكان التقدير أعلاه وصحته، والجواب إن تأخير الجار والمجرور ( في الأرض) من إعجاز القرآن، وفيه مسائل :
الأولى : ذات السنن أفعال وأقوال وأغلبها ما لا يكون للمحل موضوعية فيه، بل تتعلق بالحال عليها والفاعل.
الثانية : إنقراض وإنقطاع السنن، ولم يبق في الأرض إلا الآثار التي تتعلق بذات الأمم والجماعات.
الثالثة : إرادة تأكيد حقيقة وهي أن الأرض لله عز وجل، وقد أنعم على المسلمين بوراثتها، قال تعالى[إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]( ).
الرابعة : زيادة البيان والوضوح في الأمر الإلهي فلو قالت الآية ( قد خلت من قبلكم سنن في الأرض فسيروا فيها) لكان خلاف بلاغة القرآن، ولأحتمل إنحصار السير في المواضع التي تقدمته فيها سنن وسكنتها أمم، ومع الشك في موضع وبلد هل كان معموراً من قبل أو لا، فالأصل البراءة ولا يستلزم الأمر السير فيه.
الخامسة : دعوة المسلمين للشكر لله على نعمة السير في الأرض.
السادسة : إرادة صيغة العموم في السير والمشي في الأرض من غير تقييد بزمان أو موضع مخصوص، أو خروج بعض أطراف وأقاليم الأرض بالتخصص أو التخصيص.
السابعة : بيان موضوعية التكليف ولغة الخطاب، ويمكن انتزاع قاعدة من الآية وهي أنه إذا دار الأمر بين جعل البيان في الخبر أو الإنشاء، في ذكر الماضي أم الحاضر والمستقبل فالصحيح هو الثاني أي تجلي الوضوح في الإنشاء ولغة القادم والتالي وليس الماضي.
وبعد الأمر الإلهي للمسلمين بالسير في الأرض جاء الأمر بالنظر، وكل منهما مقترن بحرف العطف الفاء (فسيروا) ( فانظروا) مما يدل على إنتفاء التراخي والفترة بين الأمرين، وبين كل فرد منهما والإمتثال له كما يقال(دخل زيد فعمر) أي دخل بعده مباشرة من غير فاصلة زمانية.
إن تأكيد الأمر الفوري بالسير في الأرض وإلحاق النظر به من غير فترة بينهما دعوة للمسلمين للعناية بمضامين هذه الآية، وترجمة أحكامها وسننها في الواقع العملي، وفيه شاهد بأنه حالما يسير المسلمون في الأرض سيرون الدلائل على سوء عاقبة الظالمين، قال تعالى[وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ]( )، فلا يستلزم الأمر قطع المسافات الطويلة حتى ينجلي لهم الأمر ويتحقق مصداق البطش بالظالمين وإن تجلت هذه الحقيقة في بدايات الدعوة الإسلامية وظهور الآثار في معركة بدر وأحد والخندق الذي يحيط بالمدينة المنورة إذ لم تكن هناك مدينة أخرى على الأرض للمسلمين، فهل يصدق على أمصار الأرض الأخرى.
الجواب نعم , وفيه مسائل:
الأولى : أينما يسكن المسلمون فان الآثار وأطلال المكذبين قريبة منهم.
الثانية : في أي موضع من الأرض يقيم المسلمون يستطيعون الإمتثال لمضامين الآية الكريمة.
الثالثة : تيسير رؤية الشواهد التي أخبر الله عنها، وهو من الإعجاز في آية البحث وعموم حكمها لأفراد المكان العرضية والزمان الطولية.
الرابعة : الأرض زاخرة بالشواهد التأريخية التي تدل على تعاقب أجيال وأمم على الأرض .
الخامسة : التخفيف عن المسلمين بسهولة الإستجابة للأمر الإلهي الذي يتضمن الموعظة فرؤية عاقبة المكذبين من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وتحث الآية على العناية بعلم الآثار، والسعي في إكتشافها وفق سبل الهداية في الكتاب والسنة، وبما يفيد تعظيم شعائر الله، والخروج بالناس من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية والإيمان.
وتبين الآية أن الأمر يستلزم التنقيب ونحوه وهو الذي يدل عليه قوله تعالى في قوم فرعون وخطابه لوزيره[فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ]( )، ولم يكن التنقيب عن الآثار وعلم الحفريات معروفاً في القرون السابقة من حياة المسلمين والناس عموماً.
وجاءت الآية بكفاية الشواهد الظاهرة على زوال دولة المشركين الذين يصرون على الكفر والجحود، وهل عمارة المسلمين لتلك الديار من هذه الشواهد , الجواب نعم، ليكون تقدير الآية فانظروا عاقبة المكذبين بقيام سلطان دولة الحق والإيمان على أنقاض دولة الكفار، قال تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
وتبين الآية حقيقة وهي أن الآثار التي تدل على إنقضاء أيام الكافرين بعقاب وأمر من السماء باقية إلى يوم القيامة لكبرى كلية وهي بقاء أحكام الآية القرآنية إلى يوم القيامة , وفي كل يوم تطل آية البحث على المسلمين تأمرهم بالسير في الأرض والنظر في سوء عاقبة الذين كذبوا بالنبوة والتنزيل، ليكون من إعجاز القرآن أمور:
الأول : الإخبار عن عناية الدول والمؤسسات العالمية والناس بالآثار والمحافظة عليها وكأن هذه العناية مقدمة لعمل المسلمين بمضامين آية البحث وإنتفاعهم والناس جميعاً منها.
الثاني : إتخاذ الناس الآثار مزاراً ومقصداً في السياحة.
الثالث : تجدد الشواهد التي تدل على سوء عاقبة الذين يكذبون بالآيات من أهل كل زمان.
الرابع : بعث الناس على إجتناب التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : دعوة الناس للتصديق بنزول القرآن، والتدبر في آياته ودلالاتها، ومنها آية البحث.
السادس : صيرورة آثار الظالمين آية حسية تتضمن الدعوة إلى الإقرار ببطش الله عز وجل بالكافرين، إذ تمنع آية البحث النظر والسياحة في الآثار للإطلاع وحده، أو للتدبر في الشأن والسلطان الذي تدل عليه تلك الشواهد، وما فيه من الإفتتان بهم والشوق إلى أيامهم، بل تبعث الآية على إستحضار بطش الله عز وجل أثناء الإطلالة على تلك الأطلال.
وفي حديث سعيد بن جبير: وسئل عن المكاتَب( )، يَشْتَرِطُ عليه أهلُه أن لا يخرُجَ من بلدهِ، فقال: أثَقَلْتُم ظهْره وجعلتم الأرض عليه حَيصَ بَيصَ أي ضيقتم الأرض عليه حتى لا مَضْرَب له فيها ولا مُتَصَرَّفَ للكَسْبِ( )، والمكاتبة مستحبة مع رجحان صلاح العبد، قال تعالى[فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا]( )، ليسير في الأرض وينظر في آثار الظالمين.
وقد تكون هذه الآثار أمراً حادثاً وتلك آية بتجدد مصاديق المشيئة الإلهية في الناس، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في إجابته ورده على الملائكة حين انكروا خلافة الإنسان للأرض بسبب فساده وسفكه الدماء، إذ أن الله عز وجل يقطع هذا الفساد والسفك بالفتك بأهله وصيرورتهم عبرة للمسلمين والناس جميعاً، قال تعالى[وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً]( ).
فالإعتبار في المقام أمر عقلي وطريق للإيمان وهو أيضاَ رشحة من رشحات الإيمان، لتكون آية البحث دعوة للهداية والرشاد بذاتها وبمصاديقها الخارجية ليجتمع فيها الإعجاز الذاتي والغيري وكل فرد منها يدل على الآخر إلا أن أثر الذاتي هو الأولى والأظهر.
لقد جاءت خاتمة الآية بأمر وتساؤل بقوله تعالى[فَانْظُروا] وفيه دعوة للمسلمين للتحقيق وإستقراء المسائل من الشواهد التي تبين البلاء الذي نزل بالمكذبين أفراداً وجماعات ودولاً، إذ أن الآية جاءت بصيغة الإطلاق لتتضمن العموم، فقد يسير المسلمون في الأرض فيروا قصة شخص واحد جامد نزلت به المصائب من بين أهله وجيرانه وأقرانه، سواء كانت في البدن أو الحال أو المتعلقين.
وفي ذم الذين يقابلون الرسالات والتنزيل بالجحود والكفر قال تعالى[قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
وفي الآية قال قتادة: شر والله، أخذهم بخسف وغرق، ثم أهلكهم فأدخلهم النار( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث إقامة الحجة على الكفار باعلانهم الصريح للكفر بما جاء به الأنبياء فقد أبلغهم الرسل الدعوة إلى الله مع إقترانها بالمعجزة التي تفيد في المقام أموراً:
الأول : صدق الرسالة والنبوة.
الثاني : عصمة النبي من الكذب على الله.
الثالث : لزوم إستجابة الناس لما جاء به الرسول.
الرابع : تنزه الناس عن إيذاء الرسول وأنصاره واتباعه.
الخامس : لم ينزل البلاء إلا مع ثبوت الإنكار وإظهاره.
وجاءت الآية أعلاه بالخطاب الموجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو القضية الشخصية (فانظر) ليشمل الأمة أيضاَ بواسطة الرسول وتقدير الآية (فانظروا) ولكن لابد من نكتة إعجازية في التباين في لغة الإفراد والجمع بين الآية أعلاه وآية البحث وفيه مسائل :
الأولى : أن الآية أعلاه لا تستلزم السير في الأرض لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يوحى إليه.
الثانية : يقص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحياناً من قصص وسنن الأنبياء السابقين ما لم يذكر في القرآن.
ومن مصاديقها قوله: غزا نبي من الأنبياء فقال : لقومه لا يتبعني رجل قد ناكح امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما بنى , ولا آخر قد بنى بناءاً له ولما يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر ولادها.قال : فغزا فدنا من القرية حين صلّى العصر أو قريباً من ذلك. فقال للشمس : أنت مأمورة وأنا مأمور، اللّهم احبسها عليّ ساعة فحبست له ساعة حتى فتح اللّه عليه.
ثم وضعت الغنيمة فجمعوا فجاءت النار ولم تأكلها فقال : إنّ فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة منكم رجل فبايعوه فلصقت يد رجل بيده.فقال : فيكم الغلول( )، أنتم غللتم، قال : فأخرجوا مثل رأس بقرة من ذهب فألقوه في الغنيمة وهو بالصعيد( )، فأقبلت النار فأكلته قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا وذلك لأن اللّه تعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا ( ).
وقيل أن النبي الذي غزا هو يوشع بن نون لحبس الشمس عليه، وفي كيفيته وجوه:
الأول : رد الشمس على أدراجها.
الثاني : وقوف الشمس في موضعها ولم ترد.
الثالث : السير البطئ للشمس وكأنها ثابتة في موضعها.
وإبتدأت الآية بلغة الإطلاق في السنن وكثرتها والتعدد في ماهيتها، والتباين في سنخيتها فقد إختصت خاتمة الآية بموضوع العقاب والبلاء الذي نزل بالمكذبين، وهناك تباين بين السنة وهي الطريقة وبين أهلها، ليدل ذكر سوء عاقبة المكذبين على زوال وإندثار سنتهم وطريقتهم وهو من إعجاز القرآن بدلالته على إنقراض سنة الضلالة والشرك بانقطاع أهلها، فاذا إنعدم الملزوم إنتفى لازمه معه.
وهل المكذبون على سنة واحدة أم متعددة، الجواب هو الثاني إذ تشمل الآية الظالمين والكافرين بالربوبية، ومنكري النبوة والذين يصرون على عدم التسليم بالوحي والتنزيل.
ويفيد الجمع بين أول وآخر الآية أن السنة سبيل للبقاء أو للفناء، لبقاء الجماعة بذاتها ثم بذريتها وحسن ذكرها حال السنة الحسنة، والفناء والإنقراض بالإقامة على السنة السيئة والإصرار على التكذيب بالآيات.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على إندثار وزوال سلطان وشأن المكذبين من وجوه :
الأول : إخبار الآية عن مضي وانقضاء السنن السابقة.
الثاني : تعاهد المسلمين لسنن الإيمان، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[مِنْ قَبْلِكُمْ].
الثالث : مجيء آيات القرآن بالإخبار عن عاقبة المكذبين والظالمين، قال تعالى[وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً]( )، وفيه إنذار ووعيد لأولي الشأن والجاه والمال من الكفار، فبدل أن يشكروا الله على النعم العظيمة إختاروا الجحود مظهراً قبيحاً وشاهداً على الطغيان، وفي قوله تعالى[وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً] ورد عن ابن جريج إلى السيف( ).
وعلى المختار بأن أول الآية عام في السنن والمذاهب التي مرت على الأرض فان آخرها إختص بسوء عاقبة الظالمين المكذبين , وفيه مسائل :
الأولى : بيان التباين بين سنن الهداية وسنن الضلالة.
الثانية : تفقه المسلمين في الدين بمعرفة العام المطلق ثم عاقبة الفرد الخاص.
الثالثة : جريان السنن والطرائق على الأرض وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أي أن تلك السنن مناهج للناس.
الرابعة : دلالة الآية على الإختلاف والتضاد بين حال المؤمنين وعاقبة المكذبين، إذ يرى المسلمون أثناء سيرهم في الأرض عمارة أمصار المؤمنين من أتباع الأنبياء والعاملين بالتنزيل وبين إنقراض الكافرين، ويحتمل ذهاب دولة وأيام الكافرين وجوهاً:
الأول : إنقطاع سنة التكذيب مع ذهاب أهلها.
الثاني : يأتي البلاء على المكذبين ولكن سنتهم تبقى في الأرض.
الثالث : نسخ وزوال سنة التكذيب قبل إنقضاء أيام أهلها.
والصحيح هو الأول والثاني مع إمتناع الثالث، لأن المكذبين لهم طريقة وسنة تكون حجة عليهم، وسبباً لنزول البلاء بهم، فمن إعجاز الآية التباين بين العموم في أولها والخصوص في خاتمتها بما يفيد سلامة أهل الإيمان من سوء العاقبة وأن المسلمين هم ورثتهم والذين تعاهدوا سنتهم وحافظوا عليها.
الآية لطف
تبين الآية حقيقة وهي أن الإنسان يعجز عن إكتشاف آثاره ومراحل عمارة الناس للأرض، والسنن والمذاهب التي كانوا عليها مع تدبره فيها، فمن باب الأولوية القطعية أنه يعجز عن إستظهار الآيات الكونية، وان كان التأريخ فيها مضى محدوداً في زمانه ومكانه، فان التأريخ المستقبلي من اللامتناهي في زمانه وفي سعته ويشمل أفراد الزمان الطولية:
الأول : الحياة الدنيا وتعاقب الأحقاب التالية فيها.
الثاني : عالم البرزخ وحياة القبر، وفي التنزيل[قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ]( ).
الثالث : مقدمات النشور كالنفخ في الصور .
الرابع : اليوم الآخر، ومواطن يوم القيامة، كالحوض، والصراط، والشفاعة.
الخامس : عالم الجزاء واللبث الدائم للمؤمنين في الجنة، ودخول الكفار النار.
تتضمن الآية الذم والتوبيخ على الإنكار الإطلاقي وتكذيب السماوي الكلي أو الجزئي، والأول أي الإطلاق ما يتعلق بالجحود بالربوبية، والثاني وهو السماوي الكلي ما يخص النبوة والتنزيل، أما الجزئي فهو التكذيب ببعض النبوات أو بعض الكتب السماوية المنزلة، فمن شرائط الإيمان الإقرار بالعبودية لله عز وجل والتصديق بالملائكة والأنبياء والكتب السماوية المنزلة على نحو العموم الإستغراقي .
فجاءت الآية للإنذار من التفريط بالجحود ببعضها وما فيه من سوء العاقبة، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ]( )، وتتجلى طاعة الأنبياء والرسل بعمارة الأرض بعبادة الله، وتنزيه المجتمعات من القبائح والعادات المذمومة.
وتدعو آية البحث إلى تعاهد سنن الشريعة، وأحكام الحلال والحرام والشعور بالغبطة والسعادة بأداء الفرائض وإتباع الأنبياء وتحث على إبطال البدعة وسنن الكفر والشرك لأنها مقدمة وطريق للهلاك والزوال.
وتهزم الآية في مفهومها الهوى لأنه برزخ دون التدبر بالآيات الكونية، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِمَا ابْتَدَعُوا فِي دِينِهِمْ وَتَرَكُوا سُنَنَ أَنْبِيَائِهِمْ وَقَالُوا بِآرَائِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا .وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” إذَا مَاتَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ فَقَدْ فُتِحَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتْحٌ( ).
وجاءت الآية بلفظ السنن، وليس الأمم لتأكيد موضوعية النهج ودعوة المسلمين للسيرة الحسنة، والثبات على السنة المحمودة وبيان أن الأمة الواحدة قد تتعدد سنتها بلحاظ الموضوع والخصال.
وصحيح أن الآية جاءت بلغة الذم والوعيد إلا أنها تتضمن الدعوة إلى التوبة والصلاح، وهي في المقام بسيطة وليست مركبة إذا أن التوبة تعني الإقرار بالتوحيد والتسليم بالنبوة والكتب السماوية المنزلة على نحو العموم المجموعي، لقد جاءت الآية في ذم المكذبين لتدل في مفهومها على مدح المصدّقين وتدعو إلى التوبة من التكذيب بالآيات والمعجزات.
وتتضمن الآية الوعد بالأمن للمسلمين في أمصارهم وما حولهم وأدائهم العبادات والفرائض، قال تعالى[فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
ومن مصاديق فضل الله المذكور في الآية أعلاه التدبر في قصص الأمم السالفة، والوهن الذي لحق الكفار ليكون السير في الأرض بعد أداء الصلاة نوع أمان لهم وباعث للسكينة في نفوسهم لإدراك حقيقة وهي أن سوء العاقبة لحق بالكفار لتكذيبهم بالمعجزات والبراهين بالإضافة إلى إقتران المشي بإقتباس الدروس وزيادة المعارف.
من غايات الآية
وفي الآية مسائل:
الأولى : بيان فضل الله على المسلمين بإخبارهم عن الأمم الماضية.
الثانية : تأكيد رحمة الله بالناس في أجيالهم المتعاقبة، فهم على قسمين:
الأول : أهل الرشاد وسنة الهدى.
الثاني : أرباب الكفر والجحود .
وقد رحم الله أهل القسم الأول بجذبهم إلى منازل الإيمان وتثبيت أقدامهم في سبل الفلاح , قال تعالى[وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى]( )، ورحم أهل القسم الثاني بإنذارهم وإمهالهم وإتصال دعوتهم إلى الإيمان، فقوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ]( )، شاهد على المندوحة والسعة التي كان عليها الناس في إختيار السنة التي يعملون بها , وحلم الله عز وجل عليهم.
الثالثة : بعث السكينة في نفوس المسلمين بأن الصراع بين الإيمان والكفر ليس جديداً في الأرض، وأن الغلبة تكون للإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الرابعة : إكرام المسلمين بتوجه الخطاب لهم وبما يفيد العز والشأن، فنزلت الآية في المدينة المنورة ومع المسلمين فيها اليهود، وهناك المنافقون، وفي مدينة نجران النصارى، وفي أطراف الجزيرة الكفار الذين إقترن نزول الآية بهلاك رؤسائهم، ونجاة الباقين من الكفر بالتوبة والهداية إلى الإسلام.
وهل لآية البحث موضوعية في إسلامهم، الجواب نعم فكل آية على وجوه مباركة منها:
الأول : إنها مدرسة في الهداية.
الثاني : إنها دعوة إلى الإيمان.
الثالث : الآية القرآنية سلاح ضد الكفر والضلالة.
الرابع : من معاني تسمية الآية القرآنية أنها حجة لله على الناس جميعاً في النشأتين وإذ تنقطع الآيات الكونية بالنفخ في الصور , قال تعالى[) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( )، فان الآية القرآنية تكون حاضرة وشفيعاً وشاهداً يوم القيامة.
ومنها هذه الآية التي وان جاءت بصيغة الإخبار إلا أنها تخويف ووعيد للكفار بلحاظ أنها تذكر قانوناً كلياً يتضمن التحدي في تجدد مصاديقه في كل زمان ومكان بأن ينزل البلاء الشديد بالذين يكذبون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل.
ومن إعجاز الآية أن هذا البلاء لم يتأخر عن كفار قريش ومن تواطئ معهم وجهز الجيوش بالغزو على المدينة المنورة والذين قالوا[إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا *وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً] ( ).
الخامسة : دعوة المسلمين لبناء الدولة الإسلامية، وعدم الإنشغال بالتأريخ وسنن الماضي، فقوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ] إخبار عن طي سجل الماضي بصفحة جديدة مشرقة هي الإسلام، وسيادة مبادئ التوحيد في الأرض، ولا يعني هذا الإعراض عن الماضي خصوصاً وأن آية البحث تدعو إلى الإلتفات إليه، وتمنع من الزهد فيه، وهو من مصاديق ذات الآية[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ] فمن سنن الله في الأرض العناية بالتأريخ وإتخاذه نبراساً في المستقبل.
السادسة : دعوة المسلمين إلى التدبر والنظر بعين الحكمة بالسنن الموجودة عند أهل الأرض، وعدم الطيرة أو الإنفعال والغضب، قال تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، فقوله تعالى[قَدْ خَلَتْ] لا يدل على نفي وجود سنن مختلفة ومتباينة في الأرض أوان البعثة النبوية، وما بعدها، ونفي شئ عن شئ لا يدل على عدم وجوده مطلقاً.
السابعة : إكرام المسلمين بتوجه الخطاب لهم كأمة واحدة متحدة، بقوله تعالى[مِنْ قَبْلِكُمْ] ولأن هذا الخطاب إنحلالي يشمل أجيال المسلمين المتعاقبة ففيه آية إعجازية بأن آخر أجيال المسلمين مثل أولها في إستحقاق تلقي لغة الإكرام في الخطاب القرآني.
الثامنة : دعوة المسلمين للحيطة والحذر من سنن الضلالة التي تحمل معها مقدمات الفتنة، والتي تبدأ صغيرة ثم تتسع إذا لم تجد من يفضحها ويكشف ما فيها من الزيغ والريب لعامة الناس، وفي آية البحث بشارة للمسلمين تتجلى بحقيقة وهي كما إنقرضت السنن السابقة فان مفاهيم الضلالة لن تبقى أو تدوم في الأرض.
التاسعة : دعوة المسلمين للتفقه في علوم التأريخ العقائدي، ومعرفة تلك السنن التي تخبر عنها آية البحث، ومن إعجاز القرآن أنه جاء بالبيان والإخبار عن تلك السنن بشواهد من بديع القصص للأمم الغابرة، قال تعالى[كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ]( ).
العاشرة : لقد أخبر القرآن عن هلاك الظالمين ورؤساء الشرك قال تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى]( )، لبيان أ سنة الهدى ونهج الأنبياء يتعاقب في الأرض، أما سنة الضلالة فقد تزول وتموت، وهو من مصاديق الصراع بين الحق والباطل في الأرض بأن يكون الرجحان والغلبة للإيمان وأهله وهو من أفراد الوعد الإلهي الذي تجلى في رد الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، حينما إحتجوا على جعل خليفة في الأرض يفسد فيها، فهذا الفساد إلى إنحسار وهو مفضوح، وتنفر النفوس منه، وجاءت آية البحث لدعوة الناس للتنزه من الفساد والإفساد والتكذيب بالآيات لأنه خلاف الفطرة وعاقبته الهلاك ومصير الكفار إلى النار.
الحادية عشرة : توجه الأمر الإلهي إلى المسلمين بالسير في الأرض، ولم تكلف أو تؤمر أمة قبلهم بمثل هذا الأمر، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لما فيه من الإكرام والشهادة على الناس والتأريخ.
الثانية عشرة : في الآية دلالة على وراثة المسلمين للأرض، ومن خصائص هذه الوراثة السير في الأرض ورؤية المعالم والآثار التي تشير إلى سبق حضارات وإندثار سنن، وإنقراض أمم تعاقبت في السكن في الأرض وعمارتها.
الثالثة عشرة : بيان مصداق من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بأن يسير المسلمون في أرجاء الأرض، بما فيه النفع العام والخاص، ونشر مفاهيم الإسلام، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلك الوظيفة التي تصاحبهم في الحل والترحال، وتقدير الآية:فسيروا خلفاء في الأرض.
الرابعة عشرة : دعوة المسلمين إلى عدم تضييع الوقت أو الفعل وبعثهم على التدبر أثناء السير والسفر بما يفيد تعظيم شعائر الله ومحاربة مفاهيم الكفر والضلالة، وفي سير المسلمين في الأرض مناسبة لجذب الناس لمنازل الإيمان ونجاتهم من حبائل التكذيب بالآيات، فقوله تعالى[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا] رحمة بالناس جميعاً، ونهج مبارك للدعوة إلى الله، وسلامة المستضعفين من أفكار الجحود وأسباب العناد.
الخامسة عشرة : دعوة المسلمين للتعاون والمناجاة وتبادل الخيرات في موضوع السفر والضرب في الأرض بما ينفعهم في أمور الدين والدنيا، قال تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
السادسة عشرة : صيانة ثغور الإسلام، ومعرفة مواضع الخلل، وكيفية التدارك، وصيغ مواجهة أعداء الإسلام، والإحاطة الإجمالية بقوة وسلطان وإقتصاد غير المسلمين وسبل التوقي والأمن والإحتراز منهم.
السابعة عشرة : بيان حقيقة وهي أن الله عز وجل جعل آثار القوم الظالمين، والشواهد التي تفيد هلكة المكذبين ظاهرة للبيان في كل زمان وإلى يوم القيامة، وتدل عليه العناية العالمية في هذا الزمان بالأثار وكيف أنها مصدر للرزق لجماعات ومدن، ولها تجارات ومكاسب خاصة في خدمة السائحين، وهذه العناية والمكاسب مناسبة ووسيلة إضافية لحفظ تلك الآثار والعمل بمضامين آية البحث، ليكون من الإعجاز في علوم القرآن المقدمات التي تتيح للمسلمين العمل بمضامين الآية القرآنية وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وكأن الإعلام في أنحاء العالم لرؤية الآثار والقلاع وقصور الأقدمين خدمة عالمية للمسلمين للإمتثال لأمر الله في آية البحث وتحقيق مصداق قوله تعالى[فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( )، فلا يأتي زمان يقول فيه الناس عامة أو المسلمون خاصة أين هي آثار المكذبين التي تدعو الآية لرؤيتها، ومن فضل الله أن تلك الآثار تنتشر في أرجاء الأرض، وتوثق الكتب التأريخية قصص أهلها وسننهم.
الثامنة عشرة : السير والذهاب المأمور به في الأرض مناسبة وعلة لتجديد ذكر الله والثناء عليه لبديع صنعه وعظيم بطشه , قال تعالى[فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ]( )، ويحتمل أوان الذكر بلحاظ موضوع الآية وجوهاً:
الأول : ذكر الله عند رؤية الشواهد التي تدل على سوء عاقبة المكذبين.
الثاني : اللجوء إلى ذكر الله عند الشروع في السفر.
الثالث : ذكر الله عند تلاوة آية البحث باعتبار أنها حق وصدق.
الرابع : المراد ذكر الله باجتماع أمرين:
الأول : تلاوة آية.
الثاني : استحضار الشواهد والآثار في الوجود الذهني وان كان التالي والمنصت للآية في الحضر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق آية البحث وغاياتها المباركة.
التاسعة عشرة : إشتراك المسلمين في العمل العبادي والإستجابة للأوامر الإلهية، وفيه تثبيت للأحكام والسنن ، وتعاهد لآيات القرآن بالعمل بمضامينها، بلحاظ أن هذا العمل من أفضل وجوه حفظ آيات القرآن من التحريف والتبديل والتغيير.
العشرون : موضوعية العاقبة وخواتيم الأمور في معرفة ماهيتها فجاءت الآية ليعلم المسلمون والناس جميعاً أن عاقبة التكذيب بالنبوة والتنزيل الخيبة والخسران.
الحادي والعشرون : توجه المسلمين بالشكر لله على نعمة التصديق بالآيات فإذا كانت عاقبة المكذبين الخسران فإن عاقبة المصدقين العز والرفعة والثواب ليس فقط لعدم إجتماع المتناقضين بل للبشارات والوعد الكريم من عند الله قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثاني والعشرون : ترغيب الناس بالإسلام , وبيان المندوحة والسعة في أحكامه وسننه، وأن المسلمين يسافرون في الأرض أحياناً لأغراض السياحة العقائدية التي تزيدهم إيماناً، فكما يجوز لبس الحرير في ساحة القتال ليبدو المسلمون أغنياء مع حرمة لبسه بالأصل، فكذا يأتي السفر للتدبر لبيان مراتب الفقاهة عند المسلمين، والسعة في مواردهم وغناهم.
الثالثة والعشرون : تثبيت أركان الدولة الإسلامية، وتقوية ثغورها، ووراثة أبناء المسلمين العز والشأن بين الناس بالفقاهة والمعرفة والإتعاظ من الأمم السابقة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هاجروا تكسبوا العز لأولادكم).
الرابعة والعشرون : بيان صفحات من التأريخ تظهر عظيم قدرة الله وسلطانه على الخلائق كلها، وأن العذاب قريب من الكفار، قال تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ]( ).
وفي حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أتي بعنب، فأبى أن يأكله قال لا أدري لعله من القرون الأولى التي مسخت) وأخرج مسلم نحوه من حديث أبي سعيد مرفوعاً.
وتدل الآية أعلاه على أن المراد من القرون الأولى أمم سابقة لبني إسرائيل وبعثة موسى عليه السلام.
التفسير
قوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ]
إبتدأت الآية بصيغة الجملة الخبرية لحال أهل الأرض من الأمم السالفة، وبيان حقيقة بأن سنناً وشرائع سبقت في الأرض، ولم تقل الآية(قد خلت من قبلكم أمم…) وتلك آية في إعجاز القرآن، إذ أن المسلمين يعلمون سبق أجيال وأمم من قبلهم في عمارة الأرض، وهم الفرع في النسل لتلك الأمم خاصة وأن المسلمين ليسوا من أمة أو قومية واحدة.
ولكن جاءت الآية بخصوص السنن والطرائق التي سبق زمانها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على أن المسلمين على مرتبة عالية من التفقه في أحوال الناس.
وجاءت الآية لزيادة إيمانهم وتفقههم في الدين بأن يطلعوا على تلك السنن والشرائع ، وهناك فرق بين الأمم والسنن, فالأمم هي أجناس البشر، ومفردها أمة وهي الجماعة والطائفة من الناس التي تجتمع على أمر ما، كاللغة والدين والسكن في موضع ومصر أو إقليم مخصوص من الأرض المتحد والعادات والتأريخ المشترك.
وقد يأتي لفظ الأمة لمعنى أعم وأشمل وإرادة الجيل والأجيال، قال تعالى[كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ]( )، وسنن جمع سنة وهي الطريقة والسيرة، والسبيل المسلوك في القول والفعل عملاً وتركاً، والإعتقاد إن ذكر السنن على نحو التعيين تنمية لملكة الأخوة الإيمانية بين المسلمين وعدم غلبة القومية والقبلية والبلدية ومن غير تعارض بينها، قال تعالى[وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ]( ).
وهل تدخل البدعة في معنى السنن في آية البحث أم أنها خارجة بالتخصص أو التخصيص بلحاظ أن البدعة في مقابل السنة، الجواب هو الأول، فجاء لفظ السنن في الآية مطلقاً وشاملاً للسنة المحمودة المستقيمة، والمستحدثة المذمومة من جهات:
الأولى : إرادة المعنى اللغوي للسنن وليس الإصطلاحي بالمعنى الأخص.
الثانية : تعدد المذاهب والمشارب التي مرت وسادت في الأرض.
الثالثة : قبل البدعة على قسمين بدعة هدى وبدعة ضلالة.
ذكر خاتمة الآية لحال الذين كذبوا بالآيات وسوء عاقبتهم، إذ كان نهجهم أشد من البدعة والأمر المستحدث في الدين.
وإبتدأت الآية بحرف التحقيق(قد) لإفادة التأكيد، ويدخل(قد) على الفعل الماضي ويفيد التحقيق أو التقريب، ويدخل على الفعل المضارع ويفيد التقليل أو التكثير مثل : قد تهطل الأمطار.
وجاءت (قد) في الآية للتحقيق والقطع بمرور سنن وملل في الأرض، وهذه السنن محمول وسنخية عقائد، أما الموضوع فهو أجيال الناس السابقة في مختلف بقاع وأمصار الأرض، فحينما تقول الآية (قد خلت سنن) أي قد تقدمت أمم وأجيال من قبلكم.
وورد لفظ أمم في القرآن ثلاث عشرة مرة منها مرتان في آية واحدة في خطاب من الله عز وجل لنوح[وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ]( )، وورد لفظ أمة بصيغة المفرد إحدى وخمسين مرة.
وورد لفظ (سنن) بصيغة الجمع مرتين، إحدهما في آية البحث، والثانية في قوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين حقيقة في المقام وهي أن أول آية البحث أعم من خاتمتها، وهذا المعنى ظاهر بأدنى تدبر في آية البحث وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً]( )، بتقريب أن ذات الآية تبين نفسها وموضوعها والتفصيل الوارد فيها، وهو نوع تخفيف عن المسلم، فلا يستلزم الأمر البحث عن تفسير الآية بالرجوع إلى آيات القرآن الأخرى، وإن جمع بينها وبين آيات أخرى فإنه يفتح خزائن من التأويل والتفسير لتلك الآية تكون في طول تفسير الآية نفسها ومن غير تعارض بينها.
وهل من ملازمة بين السنة والجيل أي أن كل جيل له سنة مخصوصة، الجواب لا، فقد تتعدد السنن في الجيل الواحد، وقد تستمر السنة المتحدة في أجيال متعددة وقد يتسع أو يضيق العمل بها، لذا جاءت الآية مطلقة وبصيغة الجمع من غير تقييد بزمان أو مكان مخصوص.
ولابد أن القرآن يبين تلك السنن ولو على نحو الإجمال وهو من مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، إذ تحكي آيات القرآن أحكام التنزيل وبعثة الأنبياء وإتباع المؤمنين لهم ومحاربة الظالمين للدعوة إلى الله، وهذه المحاربة أعم من أن تختص بالأنبياء إذ تعم أشياعهم وأهل بيتهم، وأعم من أن تختص بالسلاطين الظالمين فتشمل أهل الجحود ومن له سطوة أو لا، وهو من الصراع الدائم بين الخير والشر، ووجوه الإبتلاء في الحياة الدنيا، قال تعالى[أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ]( )، وهل هذا الإفتتان من السنن وعمومات قوله تعالى(قد خلت من قبلكم سنن).
الجواب نعم إنه من عمومات آية البحث، ولكنه ليس من ذات السنن بل من مقدماتها وأسبابها والآثار والنتائج المترشحة عنها.
ولم تقل الآية (قد خلت من قبل سنتكم سنن) بل قالت(من قبلكم) وإرادة المسلمين، وفيه مسائل:
الأولى : تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا.
الثانية : الآية شاهد على ثبات المسلمين على سنة التوحيد، وتوارثهم لأحكام الشريعة.
الثالثة : ندب المسلمين إلى التقيد بأحكام الحلال والحرام.
الرابعة : بيان تفسير قاعدة تقديم الأهم على المهم في المقام، وأن المسلمين يعرفون كأمة ذات سنة وشريعة وليس كأفراد وقبائل وشعوب، قال تعالى[لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا]( ).
الخامسة : الآية مناسبة لشكر المسلمين لله عز وجل على نعمة سنن الإسلام.
السادسة : ثبات شريعة الإسلام وسنة المسلمين في الأرض بلحاظ كبرى كلية وهي أن آية البحث خطاب لأجيال المسلمين إلى يوم القيامة ففي كل زمان تتجدد مضامين آية البحث ودلالات الخطاب الذي تتضمنه، وكأنها عهد للمسلمين لقانون ثابت وهو بقاء آيات القرآن إلى يوم القيامة من غير تحريف أو زيادة أو نقيصة.
السابعة : بيان الموضوع الأهم في المقام بتأكيد حقيقة وهي أن الهلاك والفناء يأتي دفعة أو تدريجياً للذين إتخذوا التكذيب بالآيات سنة وطريقاً، نعم من صيغ دفع الهلاك العاجل والآجل الدعاء الذي هو أمضى وأطول سلاح شهده تأريخ الإنسانية، ولكن هذا السلاح محجوب إتخاذه عن الكفار بذاته أو بأثره ونفعه لقيد الإيمان في المسألة والدعاء، قال تعالى في ذم الكفار[وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن الآية أعلاه جاءت قانوناً بصيغة المثل وجاء ذات اللفظ بخصوص يوم القيامة حال سؤال الكفار للملائكة تخفيف العذاب عنهم( ), ولأن المسلمين يواظبون على الدعاء وأداء الصلاة فإن الله عز وجل تفضل عليهم ببقاء شريعة الإسلام، وتوارثهم لها.
إن قوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ] دعوة للمسلمين لتعاهد وراثة الأرض وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو منهاج الأنبياء وطريق الصلاح، وهل منه الدعوة للتدبر في عاقبة المكذبين , الجواب نعم، من وجوه:
الأول : في الآية إخبار عن تقدم سنن، ومن الأمر بالمعروف التذكير بها، وفي هذا التذكير مسائل:
الأولى : تأكيد مضامين الآية الكريمة.
الثانية : إعلان التسليم بصدق نزول القرآن من عند الله عز وجل.
الثالثة : دعوة الناس للتدبر في دلالات الآية القرآنية.
الرابعة : فيه شاهد على الإعجاز بتقسيم القرآن إلى آيات مستقلة بلحاظ أن موضوع الآية مدرسة في الموعظة.
الخامسة : الثواب العظيم بالتذكير بالإخبار الوارد في الآية الكريمة، وهل من ثواب للذي ينصت للآية والتذكير بمعانيها.
الجواب نعم مع إنه الإتصاف بصبغة الإيمان، وتلك آية في منافع التنزيل وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ أن كل آية قرآنية أنزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي رحمة في موضوعها وحكمها والعمل بسننها وإن كانت إخباراً، فالجملة على قسمين خبرية وإنشائية , وليس في الخبر عمل وفعل إلا في أخبار القرآن، فإنه مدرسة للعلوم، ودعوة سماوية للعمل والسعي في مرضاة الله.
الثانية : من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( )، إن الإنسان ينجذب للخبر السماوي وتكون إستجابته له متباينة قوة وضعفاً فيأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتجلي معاني الإستجابة في المقام بأبهى حللها، وبما يفيد الإنزجار عن أسباب الهلكة التي أودت بالقوم الكافرين، وعندما توعد الظالمون الأنبياء بالنفي من بين ظهرانيهم أخبرهم الله بالوحي والتنزيل[لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ]( ).
وتجلت هذه الحقيقة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخراج قريش له ولأصحابه وأهل بيته من مكة ولم تمر الأيام حتى دخلوا مكة فاتحين مع جيش من الأنصار والأعوان من غير الذين هاجروا من مكة، فإن قلت جاءت الآية أعلاه بهلاك الظالمين الذين أخرجوا الأنبياء من ديارهم وعامة قريش لم تهلك بل دخلوا الإسلام.
والجواب ذلك من فضل الله بنبوة محمد صلى الله عليه وآله سولم وما إختصه الله عز وجل من عظيم المنزلة وشآبيب الرحمة بأن أفراداً من رؤساء قريش قتلوا، وأكثرهم دخلوا الإسلام وفيه نهاية للظلم يومئذ، ليكون من معاني الآية الكريمة أن الهلاك أعم من القتل والزوال، فيشمل الإنتقال من منازل الكفر إلى الهداية، ومن الضلالة إلى الإيمان، وإذا تغير الموضوع تبدل الحكم.
وجاء الخطاب في الآية للمسلمين والتقدير (قد خلت من قبلكم أيها المسلمون) وفيه مسائل:
الأولى : المسلمون أمة واحدة في تلقي خطابات القرآن.
الثانية : تغشي الإكرام من السماء للمسلمين والمسلمات جميعاً.
الثالثة : دعوة المسلمين لنبذ الفرقة والخلاف.
الرابعة : تأكيد حقيقة وهي لا أصل للمذاهب والطوائف في الإسلام( ).
الخامسة : المسلمون على سنة ونهج واحد والإختلاف وصيرورتهم فرقاً في باب القول والعمل أمر عرضي طارئ لابد أن يزول وتقدير الآية:قد خلت من قبل سننكم سنن.
السادسة : ضرورة إتعاظ المسلمين مما حلّ بالأمم السابقة، والإنتفاع الأمثل من موضوع إنقراضها وزوال دولها بأن يتعاهد المسلمون وحدتهم بالصدور عن القرآن.
السابعة : إرادة الناس جميعا بواسطة المسلمين لعموم الموعظة .
وتبين الآية حقيقة وهي أن الإنسان قد لا يلتفت لإكتشاف الآثار ومراحل عمارة الناس للأرض، والسنن والمذاهب التي كانوا عليها مع تدبره فيها، فمن باب الأولوية القطعية أنه يعجز عن إستظهار الآيات الكونية، وان كان التأريخ فيها مضى محدوداً في زمانه ومكانه، فان التأريخ المستقبلي من اللامتناهي في زمانه وفي سعته ويشمل أفراد الزمان الطولية:
الأول : الحياة الدنيا وتعاقب الأحقاب التالية فيها.
الثاني : عالم البرزخ وحياة القبر، وفي التنزيل[قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ]( ).
الثالث : مقدمات النشور كالنفخ في الصور .
الرابع : اليوم الآخر، ومواطن يوم القيامة، كالحوض، والصراط، والشفاعة.
الخامس : عالم الجزاء واللبث الدائم للمؤمنين في الجنة، ودخول الكفار النار.
تتضمن الآية الذم والتوبيخ على الإنكار الإطلاقي وتكذيب السماوي الكلي أو الجزئي، والأول أي الإطلاق ما يتخلق بالجحود بالربوبية، والثاني وهو السماوي الكلي ما يخص النبوة والتنزيل، أما الجزئي فهو التكذيب بشطر من أو واحدة من النبوات أو بعض الكتب السماوية المنزلة، فمن شرائط الإيمان الإقرار بالعبودية لله عز وجل والتصديق بالملائكة والأنبياء والكتب السماوية المنزلة، فجاءت الآية للإنذار من التفريط بالجحود ببعضها وما فيه من سوء العاقبة، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ]( )، وتتجلى طاعة الأنبياء والرسل بعمارة الأرض بعبادة الله، وتنزيه المجتمعات القبائح والعادات المذمومة.
وتدعو آية البحث إلى تعاهد سنن الشريعة، وأحكام الحلال والحرام والشعور بالغبطة والسعادة بأداء الفرائض وإتباع الأنبياء وتحث على إبطال البدعة وسنن الكفر والشرك لأنها مقدمة وطريق للهلاك والزوال.
وتهزم الآية في مفهومها الهوى لأنه برزخ دون التدبر بالآيات الكونية، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِمَا ابْتَدَعُوا فِي دِينِهِمْ وَتَرَكُوا سُنَنَ أَنْبِيَائِهِمْ وَقَالُوا بِآرَائِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا مَاتَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ فَقَدْ فُتِحَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتْحٌ( ).
وجاءت الآية بلفظ السنن، وليس الأمم لتأكيد موضوعية النهج ودعوة المسلمين للسيرة الحسنة، والثبات على السنة المحمودة وبيان أن الأمة الواحدة قد تتعدد سنتها بلحاظ الموضوع والخصال.
علم المناسبة (قد خلت)
ورد لفظ (قد خلت) خمس عشرة مرة في القرآن، وهو عدد ليس بالقليل، وفيه مسائل :
الأولى : موضوعية الماضي في باب العقائد.
الثانية : إتصال الماضي بالحاضر والمستقبل.
الثالثة : إنه من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، بلحاظ أن حياة الأمم السالفة من الأمور التي ذكرها بالبيان القرآن.
الرابعة : نفي الجهالة والغرر عن المسلمين.
الخامسة : بيان أن الماضي بأحداثه ووقائعه حاضر عند الله عز وجل.
السادسة : دعوة المسلمين والناس للإقتباس من حياة الأمم السابقة بأخذ ما هو صالح وفيه الهداية والرشاد، وترك ما هو قبيح.
السابعة : دعوة المسلمين لتعاهد أحكام الإسلام، ولا تأتي أمة أخرى بعدهم، لذا جاء القرآن بتوثيق حياة الأمم السالفة.
الثامنة : البشارة للمسلمين بأنهم آخر الأمم لبقاء القرآن رسماً وتلاوة إلى يوم القيامة، فهو يخاطب المسلمين في كل يوم [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ].
التاسعة : بيان المائز الذي يميز المسلمين بوراثتهم الأرض وإطلاعهم على حياة وسنن الأمم السابقة، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وقال تعالى[تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ]( )، وفيه آية في عالم الأفعال والحساب والجزاء.
فكل أمة تحاسب على أعمالها، قال تعالى[وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( )، وفيه إنذار للناس جميعاً بأن نسبة البنوة للأنبياء ليست سبباً للعفو من الحساب ولا برزخاً دون عقاب المسيء من أبنائهم ، وفيه زاجر ودعوة للمبادرة إلى إتيان الطاعات، وإجتناب المحرمات وتحذير من الإتكال على فضائل الآباء، لذا جاءت آية البحث تأديباً للمسلمين وليتفقهوا في الدين ويعلم الناس جميعاً أن المسلمين والمسلمات لايلوذون بصالح أعمال الآباء والأجداد، بل ينهض كل مسلم بوظائفه العبادية، ويتلقى الفرائض العينية بالأداء ويقف الجد والأب والابن بين يدي الله في آن واحد خمس مرات في اليوم ويطوفون بالبيت مجتمعين ومتفرقين وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ويبين قوله تعالى[تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ] التباين فيما فرض على الأمم من فروع الشريعة مع الإتحاد في أصل التوحيد والنبوة والتنزيل والمعاد، لذا ذكرت الآية أعلاه خصوص الأعمال[لَهَا مَا كَسَبَتْ] فالمدار على الشريعة والكتاب الموجود في كل زمان، مع بشارة هذه الكتب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن قوانين الخلافة في الأرض [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ]( )، الإتحاد والترابط والتداخل في سنخية الإيمان.
لقد بدأت ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حياة عقائدية جديدة تتغشى الناس جميعاً وتتقوم بسلامة التنزيل من التحريف وتقيد المسلمين بأداء الفرائض.
وفي قوله تعالى[تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ]( )، حجة على المسلمين والناس جميعاً بأن الله عز وجل قد بيّن لكم الأحكام التكليفية الخمسة.
الأول : الوجوب.
الثاني : الندب.
الثالث : الإباحة.
الرابع : الكراهة.
الخامس : الحرمة.
والقدر المتيقن من رجوع المسلمين وغيرهم من الناس إلى الأنبياء السابقين في سننهم هو العبرة والموعظة والمحاكاة في الصالحات، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، وجاء لفظ (قد خلت) في القرآن على وجوه:
الأول : الخطاب لأهل الكتاب بأن آباءهم من الأنبياء إنقضى زمانهم وفازوا باعمالهم وجهادهم في سبيل الله ، وعملهم الصالحات( ).
الثاني : الخطاب للمسلمين بمجيء أنبياء سابقين لأممهم، وقد ماتوا وغادروا الحياة الدنيا وكذا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )، وفيه تهيئة لأذهان المسلمين لمغادرته إلى الرفيق الأعلى وعدم حصول إرتداد بهذه المصيبة العظمى.
الثالث : الزجر عن تأليه عيسى بن مريم عليه السلام , قال تعالى [مَا الْمَسِيحُ ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ]( )، ليتجلى هذا الزجر من جهات:
الأولى : إنه بشر ورسول مبعوث من عند الله.
الثانية : نسبة عيسى إلى أمه مريم وأنه مولود.
الثالثة : تقدم وسبق الأنبياء والرسل على زمانه، فلم يكن عيسى أول الرسل، بل كان آدم عليه السلام أول نبي وهو رسول، وتوالت بعده الرسل (وعن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال : نعم . كان نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً ، قال له { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة }( ).
الرابعة : الثناء على أم عيسى وأنها أصلحته للرسالة بتقواها، وطاعتها لله عز وجل.
الخامسة : أكل عيسى وأمه الطعام، وحاجتهما لافراغ الطعام.
السادسة : بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد مرور نحو ستمائة سنة على نبوة عيسى عليه السلام.
الرابع : خطاب أهل النار بأن أفواجاً دخلت قبلهم النار وتتجلى في قوله تعالى[قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ]( ).
الترتيب والتعاقب في دخول النار، وكأن السابق في إقامته في الأرض وكفره وجحوده يدخلها قبل اللاحق , أو يدخل النار أولا الطواغيت والرؤساء في الكفر ثم الأتباع , وفي موضوع التبري بين الكفار يوم القيامة يبدأ القرآن بتبري الرؤساء من أتباعهم , قال تعالى[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ]( ).
الخامس : تقدم ومضي العقوبات الأليمة لمن سبق من الكفار والمكذبين ليكونوا عبرة وموعظة، قال تعالى[وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلاَتُ]( ).
وفي الصلة بين الآية أعلاه وآية البحث أن الآية أعلاه حجة بالغة على المكذبين، وإنذار ووعيد لهم، أما آية البحث فهي رحمة بالمسلمين ودعوة لهم للتفكر والتدبر في أحوال الناس، وما نزل بالكفار من العقوبة بعد النعمة، والشقاء بعد العافية.
السادس : توجه الخطاب في (قد خلت) إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الله عز وجل قد بعثه في أمة قد تقدمت قبلها أمم عديدة مع بيان وجوب تلاوة آيات القرآن على المسلمين، قال تعالى[كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ]( ).
وفيه مسائل :
الأولى : التأكيد من السماء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : الإخبار عن كون النبي محمد نبياً رسولاً.
الثالثة : بيان الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قومه.
الرابعة : إن الصدود عن النبوة ليس مانعاً من تلاوة الآيات والوحي على الناس، فمع كفر رؤساء قريش يتلو عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات التنزيل، وما فيها من البشارة والإنذار، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا]( ).
الخامسة : إظهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسن التوكل على الله وتفويض الأمور إليه سبحانه.
السادسة : إنذار الكفار بسوء العاقبة.
السابعة : إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ وتلاوة آيات القرآن على الناس، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
السابع : إنقضاء سنة الأولين بأن أجرى الله فيهم حكمه بالعدل باهلاكهم وهدم عروشهم بعد إصرارهم على الجحود مع تجلي الآيات أمام أبصارهم، ووصولها إلى أسماعهم، قال تعالى[لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ]( )، فالأصل أن تكون تلك السنن عبرة لهم، وزاجراً عن الكفر بالتنزيل ليفيد قوله تعالى في آية البحث[فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
إن البلاء نزل بهم لجحودهم وصدودهم عن النبوة والتنزيل مع مجئ الآيات والبراهين، ومع رؤيتهم لشواهد من هلاك الكافرين، وإنقطاع أيامهم.
الثامن : مجئ العقاب الأليم للكفار والذي يتجاوز الأسباب وقانون العلة والمعلول المادي، بما لا ينفع معه إعلانهم الإيمان لأن العذاب حلّ بدارهم، قال تعالى[فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ]( )، وفيه دعوة للناس للإيمان بنزول القرآن قبل نزول العذاب.
وصحيح أن الآية جاءت بصيغة الجمع وإرادة الجماعة والأمة، إلا أنه لا يمنع من إنحلال الخطاب وإرادة الفرد الواحد من الكفار بأن يأتيه الموت على نحو مفاجئ لتتلقاه الملائكة بأنواع العذاب، وهو من سنة الله في الذين إنقرضوا.
التاسع : بيان قانون ثابت في الحياة الدنيا، ويتقوم بلحوق الخزي والذل للذين يحاربون أهل الإيمان قال تعالى[َلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا *سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ]( )، وفيه مسائل :
الأولى : بيان سنة الله في الخلق مدرسة في تفقه المسلمين.
الثانية : البشارة للمسلمين بالنصر والغلبة.
الثالثة : الإعجاز والتحدي في الواقع العملي وأحوال الناس بما يؤكد أن مقاليد الأمور كلها بيد الله، فلا يختص الإعجاز بآيات القرآن بالذات بل لها إعجاز غيري منه بيانها لسنة الله بما يفيد وجدد قوانين تحكم الصلات والمعاملات في الأرض وحتمية ظهور الإسلام، قال تعالى[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ]( ).
الرابعة : إنذار الكفار، وزجرهم عن محاربة المسلمين.
الخامسة : طرد الخوف والفزع من نفوس المسلمين، وجعلهم لايخشون الكفار وجيوشهم.
وجاء لفظ السنة في هذه الآيات لإرادة طرائق أهل الأرض مرة ولإرادة مشيئة الله في الخلق مرة أخرى كما في قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، لبيان حقيقة وهي أن ما يفعله الناس في علم الله، وأن المسلمين مأمورون باقتباس المواعظ منها، وكلما ورد لفظ (خلت) في القرآن ورد معه حرف التحقيق والتأكيد(قد) لدفع الشك وأسباب الترديد، والإخبار المسلمين بأن قصص القرآن حق وصدق وهو من عمومات قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( ).
فمن حسنها أنها أصدق الحديث وخلوها من الزيادة على الواقع وسنخية الحدث، ومن وجوه صدقها إخبار آية البحث بأن مذاهب ومناهج في العقيدة والعمل مرت على الأرض لتختتم بسنن الإيمان التي تتجلى بعمل المسلمين بأحكام القرآن وما فيه من الواجبات والتكاليف، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).

قانون السنن
هبط آدم إلى الأرض بمشيئة الله، وفيه أمور:
الأول : إنه خليفة الله في الأرض، قال تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وهو تشريف وإكرام أبهر الملائكة وهم أسمى وأقرب الخلائق إلى الله.
الثاني : سجود الملائكة لآدم طاعة لله عز وجل، وإقراراً بعظيم منزلة آدم بين الخلائق، قال تعالى[فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ]( ).
الثالث : هبوط آدم وحواء إلى الأرض بعد الإقامة القصيرة في الجنة، ومخالفة أمر الله بأكملها من الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها.
الرابع : هبوط آدم وحواء مع التباين النسبي بينهما في الوظائف والمسؤوليات والقدرة على التحمل ورجاحة العقل، إذا كان آدم عليه السلام نبياً رسولاً، وكان في نزولهما بداية السنن في الأرض.
ومن الآيات أن تلك البداية كانت قائمة على التقوى والصلاح، وإستصحب آدم وحواء معهما حياة العبادة واليقين التي في الجنة، لتكون حجة على الناس في أجيالهم المتداخلة وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الخامس : هبوط إبليس مع آدم وحواء، وتلك آية في إمتحان وإبتلاء الناس في الحياة الدنيا، ومن الآيات أن الأنبياء مع عصمتهم من الذنوب فأنهم لم يعصموا من الإبتلاء وتلقي الأذى في جنب الله، وقال سعد بن أبي وقاص: قلت لرسول الله أي الناس من أشد الناس بلاء؟ قال: النبيون، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، إن كان صلب الدين اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء على العبد حتى يدعه يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة)( )، ومع وسوسة إبليس فتح الله باب التوبة بسعة وبعد بين طرفيه لا يعلمه إلا الله، وليس من حاجب دون طرق حلقته، وذات الطرق دخول ومصداق للتوبة.
السادس : صيرورة الدنيا داراً للأجر ومناسبة للثواب وهي دار الرحمة الإلهية، وأسباب اللطف من الله بجذب العبد إلى منازل التوبة والإنابة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن عظم الجزاء عند الله مع عظم البلاء فإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط”)( )، والإبتلاء إمتحان تترشح عنه أمور محتملة وهي:
الأول : الثبات على الإيمان.
الثاني : الإستجارة بالله حبا وطلبا النجاة والأمن والسلامة.
الثالث : التوبة والإنابة، فقد يرتكب الإنسان المعاصي فيبتلى فيكون له درساً وموعظة.
الرابع : التقيد بأحكام الشريعة، والتنزه عن فعل السيئات، وقد يفشل الإنسان في الإمتحان فلا يتعظ منه ومن دلالاته ويقيم على المعصية والسنة السيئة، حينئذ يأتي البلاء وهو الذي تدل عليه خاتمة آية البحث، وتخاطب الآية الحاضرين سواء أيام النبوة الخاتمة أو ما بعدها من الأجيال ليتعظوا منها، وقد يكون فريق من المكذبين أحياءً عند تلاوة آية البحث.
وتدعو الآية الناس للإقرار بفضله بنقلهم من ظلمات الضلالة إلى سبل الهداية، ومن الخضوع للطواغيت إلى عبادة الله عز وجل، لأن شواهد النقمة الإلهية بالمكذبين برزخ دون إتباعهم أو الخوف منهم، وتلك آية في رحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي الوحي والتنزيل بما يفيد بناء النفس الإنسانية التي تقتبس أنوار العز من سنن الإيمان، وتنفر من أسباب الإنحطاط ومفاهيم الضلالة .
وهل تنفي الآية ما يسمى إصطلاحاً (صراع الحضارات) بلحاظ أن الله عز وجل يأتي على أهل الجحود فيبيدهم ويمحق حضارتهم، ويمحو سنتهم.
الجواب لا، لأن هذا الصراع ونتائجه من أسباب هذا المحو وزوال عقيدة الشرك، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، بالإضافة إلى التباين في الجزاء، إذ ينال المؤمنون الأجر والثواب، ويجتمع بالنسبة للكفار أمور:
الأول : الإنذار والوعيد.
الثاني : الخزي في الدنيا.
الثالث : سوء العاقبة.
الرابع : الهلاك والفناء والإنقراض.
الخامس : العذاب الأخروي في النار يوم القيامة.
وروي عن حمران أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ {إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً} فلما بلغ أليماً صعق)( ).
وفي رواية عن ابن حرب بن أبي الأسود عن النبي صعق لما سمع رجلاً يقرأ الآية)( ).
ترى ما هي النسبة بين السنن التي ذكرتها آية البحث وبين قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، الجواب هي العموم والخصوص المطلق بلحاظ أن قصص الأنبياء والأمم السابقة المذكورة في القرآن جزء من السنن التي مرت على الأرض، وتلك آية في مصاديق الإعجاز والصدق في قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
فلفظ السنن في آية البحث جامع للوقائع والأحداث التي مرت على الأرض، ومن الآيات أن البداية التأريخية لكل من السنن والقصص القرآنية واحدة إذ تبدأ بهبوط آدم وحواء إلى الأرض، قال تعالى[قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى]( ).
وعن ابن عباس في الآية قال: أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضلّ في الدنيا ويشقى في الآخرة)( )، وجاءت آية البحث لمنع الجهالة والغرر، ولطرد أسباب الشقاوة عن تالي القرآن إذ تبعثه الآية على التفقه في أمور الدين والدنيا، وإقتباس المسائل والحكم من السنن التي مرت على الأرض، الحسنة منها والمذمومة.
أما الحسنة فيعمل على إتباعها وفق القرآن والسنة، وأما المذمومة فتنفر نفسه منها، ويدعو الناس للإبتعاد عنها، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
قوله تعالى(فسيروا في الأرض)
تأتي الفاء على وجوه:
الأول : حرف عطف، إذ تفيد معنى التعقيب وتشرك المعطوف والمعطوف عليه في الإعراب والحكم، كما تقول: رأيت هلال رمضان فصمت) أي بلا مهلة.
(وأورد السيرافي، على قولهم: إن الفاء للتعقيب، كقولك: دخلت البصرة فالكوفة. لأن أحد الدخولين لم يل الآخر. وأجاب بأنه بعد دخوله البصرة لم يشتغل بشيء، غير أسباب دخول الكوفة)( ).
والتعقيب بالفاء كل بحسبه وبقرائنه، وقد تأتي بمعنى الواو وبمعنى ثم، كما تقول تزوج فولد له) أي بلحاظ مدة الحمل من غير فترة، وتقديره: فحملت إمرأته من ليلتها)، ومنه قوله تعالى[أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً]( ).
وقيل في هذه الآية الفاء في (فتصبح) بمعنى(ثم) معطوف على محذوف وتقديره: أنبتنا به.
ولكن الآية أعم وتفيد قدرة الله بحتمية إخضرار الأرض، وهل فيها بشارة بسرعة النبت بعد نزول المطر بالوسائط والأسمدة الصناعية والعلاج في الأزمنة اللاحقة ودعوة علماء الإختصاص للإنتفاع من العلوم الحديثة في هذا الباب , الجواب نعم، وتلك آية من إعجاز القرآن، وهذا المعنى لا يتعارض مع القول بأن تعقيب كل شيء بحسبه، ولكن التعقيب بذات الشيء والموضوع المتحد متباين بلحاظ الزمان والمكان، فالفترة بين نزول المطر وإخضرار الأرض قبل التقنية الحديثة والمعالجة الخاصة أطول بكثير مما بعدها.
وتبين لغة الخطاب في الآية وتوجهه إلى النبي محمد صلى عليه وآله وسلم(ألم تر) إلى تحقق مصاديق الآية الكريمة أيام التنزيل ولا تصل النوبة إلى التقنية المحتملة.
وقد جاء ذات الخطاب والمعنى من غير ورود فاء العطف والتعقيب بقوله تعالى[وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ]( ).
وتفيد الفاء هنا الترتيب في المعنى بأن يكون المعطوف بها لاحقاً ومتصلاً بالمعطوف عليه كما تقول: دخل الوقت فصليت.
وقد يكون الترتيب في الذكر وهو على قسمين:
الأول : عطف مفصل على مجمل كقولك: حج البيت فأدى المناسك.
الثاني : عطف الإشتراك في الموضوع أو الحكم، وهي الفاء التي بحسن الإتيان بالواو بدلها، كما تقول: جاء زيد فعمر.
الثاني : الفاء الجوابية وهي الرابطة والسببية , وقيل تفيد الترتيب أيضاً وجواب الشرط , وليس الفاء التي تكون رابطة لجواب الشرط وهي على قسمين:
الأول : رابطة لجواب الشرط بـ(إن) ونحوها، كما في قوله تعالى[أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ]( ).
الثاني : الفاء الزائدة والتي تدخل على خبر المبتدأ إذ تتضمن معنى الشرط، ولو لم تذكر لا يتغير المعنى مثل: الذي يحفظ القرآن فله ألف دينار.
وجاءت الفاء في قوله تعالى(فسيروا) للعطف والترتيب، وفي الصناعة النحوية قيل: جملة (سيروا) جواب شرط مقدر أي إن شككتم فسيروا.
وليس من شك في المقام، وعلى القول بهذا التقدير فمن لا يشك بتعاقب وإنقضاء سنن في الأرض لا يسير فيها.
الجواب لا، لأن الأمر بالسير عام للمسلمين وليس عندهم شك أو ريب، فالإنتماء للإسلام وإتيان الفرائض شاهد على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وقد أخبر القرآن عن البطش الإلهي بالمكذبين ونزول العذاب بهم.
وفي مباحث العلة وظهورها أن الفاء تفيد التعليل[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا]( )، أي لعلة قيامهما بالسرقة، وقوله تعالى[قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ]( )، أي لأن الحيض أذى ولعل مقارنته مع المقام قياس مع الفارق على نحو جهتي وجزئي وليس مطلقاً، فمن نعمة الله على المسلمين أنهم يقتبسون منها المواعظ ويتخذونها مناسبة لشكر الله وتعاهد التصديق بالتنزيل والعمل بأحكام القرآن.
ومنهم من حمل الخطاب في قوله تعالى[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ]( )، على إرادة معشر قريش( )، ولكن الخطاب موجه إلى المسلمين وبواسطتهم إلى الناس جميعاً , ويتجدد على نحو يومي وإلى يوم القيامة.
فمن فضل الله على الناس أنهم شرع سواء فيما سخّر الله لهم من الآيات الكونية والأرضية وإنتفاعهم منها، فكما جعل الله عز وجل الماء والهواء والشمس والقمر مسخرات للناس من غير إستثناء فكذا آيات القرآن وهو من أسرار وفلسفة بقائها إلى يوم القيامة .
وجاء القرآن بلزوم الإتعاظ وإقتباس الدروس والعبر منها مجتمعة , ومن كل آية على نحو الإستقلال، ولم تأت آية البحث بآية واحدة بل جاءت بذكر بديع صنع الله من وجوه:
الأول : تعاقب السنن في الأرض.
الثاني : قدرة المسلمين على السير في الأرض، وهل تشمل مضامين الآية كلاً من:
الأول : قلة عدد المسلمين في بداية الدعوة، قال تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ]( )، لإرادة قلة المسلمين وحالهم من نقص المؤون والسلاح والخيل والتدريب وإستضعاف قريش لهم.
الثاني : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأهل بيته مهاجرين من مكة إلى المدينة المنورة.
الثالث : هجرة عدد من الصحابة إلى الحبشة.
الجواب آية البحث مدنية، ونزلت بعد هذه الوقائع، وتلك آية في بديع وإعجاز القرآن بأن موضوع الآيات المدنية لا ينحصر بآيات الأحكام بل يشمل تعيين المناهج التي تؤسس لرسوخ مبادئ الإسلام، وتثبيت الإيمان في نفوس المسلمين , ومنها الأخبار والأوامر الواردة في آية البحث.
ومن اللطف الإلهي حفظ وسلامة أغلب الذين هاجروا إلى يثرب وإلى الحبشة وغيرهم من الصحابة إلى حين ظهور دولة الإسلام فقد عاد جعفر الطيار مثلا وهو من الدفعة الثانية التي هاجرت إلى الحبشة في يوم فتح خيبر في السنة السابعة من الهجرة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أدري بأيهما أنا أشد سروراً، بقدوم جعفر أو بفتح خيبر) ليرسله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدها بسبعة أشهر إلى مؤتة ليستشهد هناك ويحزن النبي حزناً شديداً عليه وأصحابه , ويتجلى عمله بمضامين الآية وكيف زادهم موضوعها إيماناً وأنهم إفتتحوا السير في الأرض إلى الأمصار البعيدة وإلى البلاد التي يحكم فيها أهل الكتاب كالنجاشي من غير خوف منهم أو خشية الإنتقام بسبب ملتهم ودخولهم الإسلام.
وتتألف الدفعة الأولى من الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة من عثمان بن عفان، ومعه إمرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي حذيفة بن عقبة بن ربيعة ومعه إمرأته بنت سهيل بن عمروا وولدت في الحبشة محمداً بن أبي حذيفة والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وابو سلمة بن عبد الأسد، ومعه امرأته أم سلمة بنت أبي أميه، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حتمه، وابو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى، وسهيل بن بيضاء، وقيل أول من قدم الحبشة حاطب بن عمرو بن عبد شمس.
ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وأمراته أسماء بنت عميس، وولدت في أرض الجبشة عبد الله، ثم خرج عدد من الصحابة وقسم منهم أخرجوا معهم أزواجهم إلى الحبشة , وقد أحسن النجاشي جوارهم واقاموا الصلاة بأمن ومن غير خشية من أحد.
وعن أم سلمة قالت لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي آمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا إليه هدية ثم بعثوا بذلك عبد الله بن ربيعة المخزومى وعمرو بن العاص.
وقالوا لهما ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي بهداياه ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم قال فخرجا فقدما على النجاشي.
فدفعا إلى كل بطريق هديته وقالا إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع.
وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فقالوا نعم ثم قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهم ثم كلماه.
فقالا له أيها الملك انه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلم بما عابوا عليهم، فقالت البطارقة صدقوا فأسلمهم إليهم فغضب النجاشي وقال لاها الله إذن لا أسلمهم إليهم ولا أكيد قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هؤلاء في أمرهم فان كان كما يقولون سلمتهم إليهما وإن كان على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني , قالت :
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم فلما أن جاءهم الرسول اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا نقول والله ما علمناه وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن.
فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في دينى ولادين من دين هذه الامم.
قالت وكان الذى يكلمه جعفر بن أبى طالب فقال له أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الاصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الارحام ونسئ الجوار يأكل القوى منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان من أمرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة
وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا وأمر بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به فعبدنا الله عز وجل ولم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الاوثان وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما نهرونا فظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لانظلم عندك أيها الملك قالت.
فقال النجاشي هل معك مما جاء به عن الله عزوجل شئ قال نعم قال فاقرأه علي فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشي حتى اخضل لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم , ثم قال إن هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقوا فوالله لا أسلمهم اليكم أبدا قالت فلما خرجنا( )، من عنده قال عمرو بن العاص لآتينه غدا أعيبهم عنده بما أستأصل به خضراءهم فقال له عبد الله بن ربيعة وكان أتقى الرجلين لا تفعل فان لهم أرحاما قال لا والله لاخبرنه انهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد قالت:
ثم غدا عليه الغد , فقال أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه قالت فأرسل إليهم فسألهم عنه قالت: ولم ينزل بنا مثلها فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم قالوا نقول والله ما قال الله عزوجل وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن فلما دخلوا عليه قال لهم ما تقولون في عيسى بن مريم قال له جعفر بن أبى طالب نقول فيه الذى جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم هو عبد الله وروحه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول قال فضرب النجاشي يده على الارض فأخذ منها عودا ثم قال ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، ثم قال اذهبوا فأنتم سيوم( )، بأرضي ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لنا بها فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكي فآخذ الرشوة أو ما أطاع الله الناس في فأطيعهم فيه.
قال فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار قالت فو الله إنا على ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه.
قالت فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك خوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي يعرف منه قالت وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل قالت : فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر قالت فقال الزبير بن العوام أنا قالوا فأنت وكان من أحدث القوم سنا فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى عبر إلى ناحية النيل التى بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم.
قالت فدعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكن في بلاده قالت فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير يسعى فلمع بثوبه وهو يقول ألا ابشروا فقد ظفر النجاشي وأهلك الله عدوه ومكن له في بلاده قالت فوالله ما علمنا فرحنا فرحة قط مثلها قالت فرجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة( ).
ويحتمل لفظ (الأرض) الوارد في الآية وجوهاً:
الأول : إرادة ما حول المدينة المنورة ورؤية آثار معركة بدر مثلاً، إذ يبعد موضعها عن المدينة المنورة نحو 160 كم.
الثاني : التنقل بين المدينة ومكة المكرمة.
الثالث : المقصود أرض الجزيرة العربية.
الرابع : البلاد الإسلامية.
الخامس : المناطق التي فيها آثار للمكذبين وأطلال للظالمين.
السادس : عموم أقطار الأرض.
والصحيح هو الأخير، من جهات :
الأولى : الإطلاق وعدم وجود مقيد في البين، قال تعالى[يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
الثانية : إتساع رقعة الإسلام، وقدرة المسلمين على الوصول للبلدان النائية، وأطراف الأرض.
الثالثة : بقاء أحكام آية البحث إلى يوم القيامة.
وإتصفت هذه الأزمنة بعمارة الإنسان لأقطار الأرض حتى التي يكسوها الجليد، وسوء عاقبة الظالمين أمر متجدد لا ينحصر بالظالمين من الفروق السابقة للإسلام، فيشمل المكذبين بالآيات والمقيمين على الكفر والجحود في كل زمان.
وهل تدل الآية على استمرار وجود أمة من المكذبين إلى يوم القيامة، الجواب لا، بل العكس هو الصحيح، أي أن الآية تتضمن البشارة بانقطاع دابر الكفر والشرك والضلالة، فلا يبقى إلا الأثر الذي يدل على هلاكهم وزوال سلطانهم، وإنتقال فريق منهم أو ذراريهم إلى الإيمان والإقرار بالتوحيد والتسليم بالعبودية لله عز وجل، بمعنى أن الأجيال الأخيرة من المسلمين الذين يرثون الأرض ينظرون إلى سوء عاقبة المكذبين بعد إنقراضهم.
فان قلت معنى الآية أعم ولا تعارض بين رؤية تلك الآثار وجيل جديد من المكذبين، والجواب تتضمن الآية الأمر برؤية آثار المكذبين في عموم الأرض، ولا يجتمع المتناقضان في موضع واحد، فلا تكون هناك آثار للمكذبين وأمة مكّذبة بالله والنبوة في ذات الموضع.
الرابعة : الأرض ملك طلق لله عز وجل، وهو سبحانه إذا وهب يهب بالأوفى، وقد أمر المسلمين بالسياحة في أرجائها من غير تقييد، وما لم يصله المسلمون من الأقطار بالأمس وصلوه اليوم، وما لا يبلغونه اليوم تطأه أقدامهم غداً ببركة آية البحث وما فيها من الوعد الكريم.
وتبذل في هذا الزمان جهود علمية حثيثة في الصعود إلى الكواكب الأخرى وتدرس إمكانية الحياة فيها وإنتقال أعداد من الناس إليها، وعلى فرض حدوثه فهل تشمل الآية المكذبين منهم أم أنها خاصة بالأرض وسكانها، الجواب هو الأول.
فجاء ذكر الأرض لأنها الأم والأصل في سكن الإنسان، وتوارثه الحياة والسكن فيها إلى يوم القيامة والذي ينتقل إلى الكواكب الأخرى تكون الحجة عليه أبلغ، لتجلي الآيات الكونية له، وكل واحدة منها تدعوه إلى الإقرار بالتوحيد، والمبادرة إلى الشكر لله عز وجل على النعم ومنها التنقل بين الكواكب والعيش الرغيد فيها.
ولم تقل الآية (وسيروا) بحرف العطف(الواو) وما يتضمنه من المعنى الأعم بالمبادرة والتراخي في الفعل بل جاءت بحرف العطف (الفاء) (فسيروا) في الأرض وقد يقال أن الأمر بالسير بقوله تعالى[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ] أمر إباحة.
والجواب إنه مندوب بنية التبصربسوء عاقبة المكذبين , ولكنه لا يمنع من التداخل بينه وبين الأصل في الأمر وهو الوجوب ولا يلزم في المقام التكرار والتعدد فيكفي السير مرة واحدة طاعة لله عز وجل لقرينة غلبة الإقامة في الحضر، وبهذا المعنى جاءت آية البحث.
ثم أن تقسيم الأمر إلى واجب، ومندوب وإباحة تقسيم إستقرائي ولإفادة البيان، الكلام العربي يحمل على ظاهره ومنه صيغة الأمر ودلالاته.
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية أن الفرائض تتضمن الإمتثال للأوامر التي جاءت في باب المعاملات , فيأتي السير في الأرض على نحو عرضي عند أداء المسلم الفريضة الحج، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )، ليكون ثواب السير في الأرض مركباً ومتعدداً من جهات:
الأولى : إرادة قصد القربة في السير في الأرض.
الثانية : السير في الأرض مقدمة عقلية لأداء الفريضة.
الثالثة : الإمتثال لمضامين البحث.
الرابعة : بعث الشوق في النفس لأداء الفرائض عند رؤية ما حلّ بالكفار من الهلاك والبواب.
السير في الأرض إدراك للمائز الذي يتحلى به المسلمون، وتشرق به البلاد الإسلامية، وفيه إطلاع على الثغور وتسليم بالحاجة إلى تعاهدها وقوتها.
ومنها معرفة وجوه الإعجاز في القرآن ولغته، وقد ذكرنا القول بوجود بعض الكلمات الأعجمية في القرآن والتحقيق فيه( )، وكانت قريش أهل تجارة وسفر إلى الأمصار , قال تعالى[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، إذ يسافرون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيجلبون المؤون في كل من الرحلتين ويستعدون لأيام الحج والتجارة فيها بحسب فصول السنة فمرة يكون في الصيف وأخرى بالشتاء فيعرضون بضاعتهم على القبائل التي تفد إلى البيت , وتأتيهم الأموال والأرزاق، ويختلطون بأهل تلك الأمصار ويعرفون صفحات من تأريخهم ويطلعون على مللهم ومذاهبهم، فاشرق الإسلام على الأرض لنفع الناس جميعاً، وليبقى الناس في عروشهم وعزهم وأموالهم بالإقرار بالتوحيد، وإظهار العبودية لله، وإجتناب التعدي على حرمات المسلمين.
والمراد من الأرض في الآية عموم أقطارها لأصالة الإطلاق والمستقرأ من السير فيها وتوجه الخطاب لعموم المسلمين وهم منتشرون في أمصارها وقاراتها، بالإضافة إلى لغة الجمع في(سنن) وإرادة الكثرة فيها، ولم تقل الآية سنن في الناس، بل ذكرت إقامة تلك السنن في الأرض لتكون الأرض وعاءً وشاهداً عليهم، وللإشارة إلى أنها ملك لله وأنه سبحانه يبتلي دولة أعدائه بالإضمحلال والفناء .
وتبين الآية حقيقة وهي أن من ملك الله عز وجل للأرض صيرورة الأمم والملل التي عاشت ومرت عليها موعظة وعبرة للمسلمين والناس جميعاً، وفيه آية وبرهان بأن ملكية الله للأرض تتضمن المشيئة فيها وساكنيها بالحكمة وأسباب الهداية والصلاح، فمن مصاديق هذه الملكية أن الذين عمروا الأرض بالأمس على قسمين:
الأول : أهل الإيمان , إذ بقيت ذكراهم وسننهم قائمة بوراثة من بعدهم لسنن التوحيد.
الثاني : الذين كفروا وكذبوا بالنبوة ومعجزاتها فأولئك خسروا الدنيا بصيرورة ديارهم خراباً، وهو مقدمة وتذكير بالآخرة، وخسارة الكفار فيها، ودرس وموعظة لأهوال البعث، قال تعالى[وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا* فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا]( ).
وسأل رجل من ثقيف النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمها، فقال: أي يجعلها كالرمل ثم يُرسل عليها الرياحَ فتُفرّقها)( ).
فمن باب الأولوية القطعية أن يجعل الله عز وجل بناء وتراث الذين أنكروا البعث والنشور في محق وتلف وزوال , وفي الآية إخبار للمسلمين بسبق أمم أخرى في الأرض، فإن قلت لابد من آباء للمسلمين وأنهم سابقون لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والجواب هذا صحيح ولكن الآية تخبر عنهم بلحاظ الطرائق والمذاهب التي كانوا عليها مما يدل على أن الأمر لا يتعلق بالأمم السالفة كآباء للأجيال اللاحقة بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن عمارة الأرض بالإسلام وأداء المسلمين الفرائض دليل على أن الأمر والذم في آية البحث لا يخص آبائهم بل يخص الذين توارثوا التكذيب بالتوحيد، وأحكام الأفعال وأحوال العباد.
وقد ورد ذم الذين أصروا على البقاء في مقامات الجحود وتعليلهم لهذا البقاء بأنه محاكاة وإتباع لنهج آبائهم في الضلالة والكفر، قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا]( )، وفيه حجة على الناس بأن الذين كذبوا ويكذبون بنزول القرآن تتوالى عليهم الدعوات للإيمان والتدبر في إعجازه والمضامين القدسية لآياته بدليل ورود الآية أعلاه بصيغة ظرف الإستقبال والتنكير(وإذا قيل لهم) والأمر الصريح بلزوم العمل بالتنزيل وإتباع ما فيه من الواجبات والأوامر وإجتناب النواهي الواردة فيه.
والآية أعلاه وصيغة المضارع فيها شاهد على حفظ وسلامة القرآن من التحريف لتجدد الدعوة للعمل بأحكامه في كل زمان إلى يوم القيامة( ).
وفي خطاب موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته للمسلمين قال تعالى[وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ]( )، وقد يقال هناك مدن إسلامية إندثرت وممالك لهم إنقرضت، ودول تقسمت، وقبائل تفرقت.
والجواب هذا الإندثار والإنقسام ونحوه لم يضر بدولة الإسلام إنما هو تحول وعمارة لمدن أخرى مع تعاهد مبادئ وفرائض الإسلام، وجاءت آية البحث بخصوص إنقراض سنن وملل وهلاك أهلها، كما في قوم فرعون مثلا وثمود قوم صالح وقوم لوط.
فالآية الكريمة بدأت بالعام وأختتمت بالخاص فقوله تعالى(قد خلت من قبلكم سنن) أعم من سنن الكفار فتشمل الآية كل المذاهب ومنها سنن التوحيد ومذاهب المسلمين من الأمم السابقة، ثم ذكرت الآية نزول الهلاك والفناء بالمكذبين بوحدانية الله عز وجل ونزول الكتب السماوية وهي رحمة لهم وللأجيال اللاحقة.
وتذكر آية البحث قسمين من الناس:
الأول : ذراري أهل الإيمان الذين يسيرون في الأرض بالتدبر بالعواقب.
الثاني : أهل الكفر الذين جاءهم البطش الإلهي وصاروا عبرة للأجيال، وفي قوم لوط ورد قوله تعالى[ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ *وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ]( ).
وهو من مصاديق تفسير آية البحث بأن المسلمين يمرون على آثار القوم الظالمين في النهار فيقتبسون منها المواعظ ويتوجهون إلى الله عز وجل بالشكر والثناء على نعمة الإيمان وما يترشح عنها من أسباب الأمن من غضبه تعالى في الدنيا وهو بشارة النجاة يوم القيامة.
وبخصوص ركوب السفن والسير في الفلك , تحتمل الآية وجوهاً:
الأول : القدر المتيقن من الآية هو السير في الأرض، خصوصاً وأن الأطلال والشواهد على عاقبة المكذبين دليل على عمارتهم لها.
الثاني : ذكر الأرض من باب الفرد الأمثل، والأظهر ولأن سير الناس غالباً يكون في البر والمراد الأعم، وشمول مضامين الآية الركوب البحر، سواء من جهة ركوب الظالمين له ونزول البلاء بهم، أو ركوب المسلمين وتدبرهم في آياته , قال تعالى[وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ]( ).
الثالث : ليس من أطلال في البحر ولكنه يكون مقدمة لرؤية آثار الظالمين.
الرابع : إرادة التفصيل بالنسبة لقوله تعالى[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ] ( )، عام يشمل البحر أيضاَ بدليل قوله تعالى[هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ]( )، أما بالنسبة للآثار التي ينظر إليها ويتدبر في أمرها فهي خاصة بالأرض.
والصحيح هو الثاني لأصالة الإطلاق ولوجود شواهد في البحر على سوء عاقبة المكذبين، كما في فرعون وقومه إذ هلكوا في البحر بعد تكذيبهم لنبوة موسى عليه السلام وإصرارهم على اللحاق والفتك به وببني إسرائيل، قال تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( )، ليبقى البحر الأحمر شاهداً على تجلي آيات نجاة المؤمنين وهلاك الظالمين بفضل الله بتوثيق هذه الواقعة العظيمة في القرآن.
فان قلت ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يركبن رجل البحر إلا غازياً أو معتمراً أو حاجاً فإن تحت البحر ناراً( ). والجواب هذا الحديث لايخرج تسخير الفلك للتدبر في آيات الله بهلاك الظالمين، لتشمل الآية ركوب البحر من وجوه :
الأول : ركوب البحر مقدمة للإنتقال إلى اليابسة ورؤية الآثار وكذا بالنسبة للنقل.
الثاني : ذكر السير في الأرض لأنه الأغلب في السفر والتنقل بلحاظ أفراد الزمان الطولية وإلى الآن ومع الإرتقاء والسرعة الفائقة في النقل الجوي لازال النقل البري هو الأغلب والأكثر منه ومن البحري في مجموع قطع المسافات القصيرة والطويلة.
الثالث : في السير في البحر تدبر في زوال دول الكفار، ولما إشتد أذى قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إختار لابن عمه جعفر الطيار ونفر من الصحابة الهجرة إلى الحبشة وقال لهم : لوخرجتم إلى أرض الحبشة فان بها ملكاً لايظلم عند أحد ،
روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف عن أصحاب رسول اللّه {صلى الله عليه وسلم} ويونس بن بكير عن محمد بن اسحاق رفعه. دخل حديث بعضهم في بعض. قالوا : لما هاجر رسول اللّه {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة،
وقالوا : إنّ لنا في الذّين عند النجاشي من أصحاب محمد ثأراً بمن قتل منكم ببدر. فاجمعوا مالاً وهدوه إلى النجاشي لعلّهُ يدفع إليكم من عنده من قومكم، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم. فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أُبي معيط بالهدايا،
الأدُم وغيره فركبا البحر وأتيا الحبشة ؛ فلمّا دخلا على النجاشي سجدا له، وسلّما عليه وقالا له : إنّ قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبّون، وإنّهم بعثونا إليك ؛ لنحذّرك هؤلاء القوم الذّين قدموا عليك لأنّهم قوم رجل كذّاب خرج فينا فزعم أنّه رسول اللّه، ولم يبايعه أحد منّا إلا السفهاء وإنّا كنّا قد ضيّقنا عليهم الأمر. وألجأناهم إلى شعب أرضنا لا يدخل إليهم أحد. ولا يخرج منهم أحد. قد قتلهم الجوع والعطش. فلما اشتد عليه الأمر. بعث إليك ابن عم له ليفسد عليك دينك وملكك ورعيّتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم. قالوا : وآية ذلك أنّهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها النّاس رغبة عن دينك وسنّتك. قال : فدعاهم النّجاشي فلمّا حضروا صاح جعفر بالباب : يستأذن عليك حزب اللّه. فقال النّجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه. ففعل جعفر. فقال النجاشي : نعم فليدخلوا بأمان اللّه وذمّته.فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه. فقال : ألا تسمع كيف يدخلون بحزب اللّه وما أجابهم النجاشي. فساءهما ذلك، ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له.
$ فقال عمرو : ألا ترى إنّهم يستكبرون أن يسجدوا لك. فقال لهم النّجاشي : ما منعكم ألاّ تسجدوا لي وتحيوّني بالتحيّة التي يُحييّني بها من أتى من الآفاق. قالوا : نسجد للّه الذّي خلقك وملكك قال وإنما كان للملك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان. فبعث اللّه فينا نبياً صادقاً، وأمرنا بالتحية التي رضيها اللّه لنا. وهو السلام تحية أهل الجنّة. فعرف النّجاشي أن ذلك حق فيما جاء في التوراة والانجيل. قال : أيّكم الهاتف : يستأذن عليك حزب اللّه؟
قال جعفر : أنا. قال : تكلّم. قال : إنّك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم، وأنا أُحبّ أن أُجيب عن أصحابي فمن هذين الرّجلين أن يتكلّم أحدُهما وينصت الآخر. فتسمع محاورتنا. فقال عمرو لجعفر : تكلّم.
فقال جعفر للنجاشي : سل هذين الرجلين. أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنّا عبيداً أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم. فقال النجاشي : أعبيد هم يا عمرو أم أحرار؟ قال : لا، بل أحرار كرام. فقال النجاشي : نجّوا من العبودية، ثم قال جعفر : سلهما هل أهرقنا دماً بغير حق ؟ فاقتصّ منّا. فقال عمرو : لا ولا قطرة. فقال جعفر : سلهما هل أخذنا أموال النّاس بغير حق فعلينا إيفاؤها.
فقال النّجاشي : قل يا عمرو. وإن كان قنطاراً. فعليّ قضاؤه قال : لا ولا قيراط. قال النّجاشي : فما تطلبون منهم؟
قال عمرو : كنّا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا، وتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره. ولزمناه نحن فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا. فقال النجاشي : ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذّي اتبعتموه؟ قال جعفر : أمّا الدين الذي كنّا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره. كنّا نكفر باللّه ونعبد الحجارة. وأما الذي تحولنا إليه فدين الإسلام جاءنا به من اللّه رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً له. فقال النجاشي : يا جعفر تكلّمت بأمر عظيم فعلى رسلك. فأمر النجاشي فضرب بالناقوس. فاجتمع إليه كل قسّيس وراهب. فلمّا اجتمعوا عنده قال النّجاشي : أُنشدكم اللّه الذي أنزل الإنجيل على عيسى. هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيّاً مرسلاً؟
فقالوا : اللهم نعم.قد بشرّنا به عيسى (عليه السلام) فقال : من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي. فقال النجاشي لجعفر : هيه : أي هات ماذا يقول لكم هذا الرّجل؟
وما يأمركم به؟ وما ينهاكم عنه؟ فقالوا : يقرأ علينا كتاب اللّه، ويأمر بالمعروف،
وينهى عن المنكر، ويأمر بحسن الجوار، وصلة الرحم، ويأمر للوالدين واليتيم، ويأمر بأن نعبد اللّه وحده لا شريك له. فقال : إقرأ عليّ شيئاً ممّا يقرأ عليكم. فقرأ عليهم سورة العنكبوت والرّوم. فغاضت أعين النّجاشي وأصحابه من الدمع. وقالوا : يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطّيب. فقرأ عليهم سورة الكهف. فأراد عمرو أن يغضب النّجاشي. فقال : إنّهم يشتمون عيسى وأُمّه. فقال النّجاشي : ما تقولون في هذا؟
فقرأ جعفر عليهم سورة مريم فلمّا أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النّجاشي نفسه من سواكه قدر ما يقذي العين وقال : ما زاد المسيح على ما يقولون. ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال : إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول آمنون مَنْ سبّكم أو آذاكم غرّم،
ثم قال : أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم (عليه السلام)قال عمرو للنّجاشي : ومن حزب إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرّهط وصاحبهم الذّي جاءوا من عنده ومن اتبعه، ولكنّكم أنتم المشركون. ثم ردّ النّجاشي على عمرو وأصحابه المال الذّي حملوه، وقال : إنّما هديّتكم رشوة إلي. فاقبضوها، ولكنّ اللّه ملّكني ولم يأخذ مني رشوة. قال جعفر : فانصرفنا فكنّا في خير دار، وأكرم بلد وأنزل اللّه ذلك اليوم في خصومتهم على رسوله وهو في المدينة {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} : على مثله. {وَهذا النَّبِىُّ} : يعني محمداً {صلى الله عليه وسلم} {والذين آمنوا والله ولىّ المؤمنين}( ).

بحث بلاغي
من ضروب البلاغة تأدية المعاني بكيفية متباينة , وهي على ثلاثة وجوه:
الأول : الإيجاز بأن يؤتى بألفاظ قليلة , ولكنها تفيد المعنى المتعدد، وهو على شعبتين:
الأولى : إيجاز القصر وهو الذي ليس فيه لفظ محذوف، كما في قوله تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ]( )، لإرادة الإطلاق في الأمن فيشمل السلامة من الآفات، والنجاة من شبح الفقر، والواقية من ظلم السلاطين، والبشارة بالأمن يوم الفزع الأكبر.
الثانية : إيجاد الحذف، وهو الكلام الذي تحذف منه كلمة أو جملة، مع قرينة تدل على المحذوف، ومع عدمها يكون لبساً في الكلام ومنه قوله تعالى[مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ]( )، والتقدير عليه إثم كفره، وما ينزل بسببه من العذاب.
الثاني : الإطناب وهو البيان بكلام زائد عن المعنى ولكن تلك الزيادة لها فائدة، وهو على أقسام وشعب عديدة منها:
الأولى : الإيضاح بعد الإبهام: للتأكيد وتقرير المعنى في الذهن.
الثانية : ذكر الخاص بعد العام للدلالة على فضل الخاص وماله من موضوعية.
الثالثة : الإعتراض: بأن يؤتى بجملة إعتراضية أثناء الكلام لا محل لها من الإعراب.
الرابعة : التأكيد المفيد.
الخامسة : الإحتراس: وهو البيان لدفع وهم بوجود إبهام محتمل.
السادسة : التذييل: وهو مجيء جملة تتضمن البيان والتأكيد لمعنى الجملة السابقة لها.
الثالث : المساواة: وهو أداء المعاني بألفاظ مساوية لها من دون نقصان أو زيادة، وإيجاز أو إطناب.
والتقسيم إلى الإيجاز والإطناب والمساواة تقسيم إستقرائي ولغة القرآن أعم منه، فذات الآية ونفس اللفظ القرآني يفيدان الإيجاز والإطناب والمساواة بحسب اللحاظ والموضوع , فمن يتلو الآية يدرك أن كلماتها موجزة وأنها تحيط بمعان ودلالات متعددة، وكذا يظن أن فيها إطناباً وبياناً يمنع الغرر ويدفع الجهالة، وأنها مساوية لمعناها.
وهو من إعجاز القرآن وعجز الناس عن معرفة كنه كلماته، وشوقهم إلى تلاوته لما فيه من البيان المستحدث في كل مرة يتلون فيها الآية القرآنية ومنه آية البحث ففيها إيجاز قصر وحذف , فمن الأول قوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ] أي سنن الصلاح وسنن الفساد وسنن الإيمان وسنن الشرك، ومن الثاني(قد خلت من قبلكم سنن منها سنن المكذبين) وأن الله عز وجل يعلم بأفعال العباد وينزل عذابه بالكافرين، بعد الإنذار والوعيد بواسطة الأنبياء والوحي والتنزيل.
ومن الإطناب في الآية مخاطبة المسلمين بصيغ الإكرام والتشريف وإخبارهم عن تقدم وإنقضاء السنن من قبلهم، فمع أن موضوع الآية هو رؤية آثار الظالمين فإنها جاءت مطلقة لبيان تعدد السنن والطرائق المتساوية والمتباينة والمتضادة , وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ]( ).
علم المناسبة
ورد لفظ (من قبلكم) في آية البحث خطاباً للمسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة، وجاء في ذات المعنى في باب العبادات وصيغ التقوى كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
لبيان وجوه التشابه والإلتقاء في العبادات والمناسك بين المسلمين والموحدين من الأمم السابقة، ويمكن تأسيس قانونين في الإرادة التشريعية وهما:
الأول : ما يؤديه المسلمون من العبادات مفروض على أهل الكتاب والموحدين من الأمم السابقة إلا ما خرج بالدليل.
الثاني : ما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العبادات والفرائض جاء بها الرسل السابقون، قال تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( ).
ويتجلى الإعجاز في الجمع بين آيتي السنن في سير المسلمين في الأرض وتدبرهم بعظيم قدرة الله , وفيه مسائل :
الأولى : ملكية الله المطلقة للسموات والأرض، وتجليها بالبطش بالكافرين.
الثانية : دعوة المسلمين للتقيد بالأحكام الشرعية.
الثالثة : بيان المائز بين المسلمين والكفار، وطاعة المسلمين لله عز وجل في أداء الفرائض والسنن.
الرابعة : سلامة المسلمين من ذات العاقبة المؤلمة التي نزلت بالكفار.
الخامسة : دعوة الناس للنجاة من سوء العاقبة ومن نزول العذاب، وهذه النجاة تنحصر بالإيمان بالله ورسله وكتبه وأداء ما فرضه من العبادات.
السادسة : أخذ الناس الحيطة والحذر من طاعة الكافرين، ومن إتباع نهجهم والعمل بسنن الضلالة التي هم عليها لأنها طريق الهلكة في النشأتين، قال تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )، وبينت آيات القرآن علة هلاك القرون السابقة وهي الجحود بالرسالات وما جاء بالتنزيل، قال تعالى[وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ] ( ).
وقيل الخطاب في الآية أعلاه لأهل مكة تخويفاً لهم لتكذيبهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الآية أعم وتشمل المسلمين بالثناء عليهم، والإخبار بفضل الله عز وجل لهدايتهم للإيمان وتصديقهم بالرسالة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله استخلفكم فيها فانظر كيف تعملون ( ).
ليكون من إعجاز القرآن الخطاب الإنحلالي الذي تتعدد وجوه البشارة والإنذار فيه، ففي الآية أعلاه وبلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى : الآية إنذار للكفار ودعوة لهم للتوبة والإنابة.
الثانية : إن هلاك وزوال ممالك الظالمين بمشيئة الله.
الثالثة : نزول البلاء وصنوف الهلاك بالظالمين من حكم الله في الأرض[أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ] ( ).
الرابعة : مضامين الآية أعلاه مادة وموضوع لإحتجاج المسلمين على الكفار مثلما يتخذ المسلمون آثار الظالمين حجة وبرهاناً على لزوم الإقلاع عن مفاهيم الكفر والشرك، ووجوب صيانة النفس والأهل والمال بواقية الإيمان وسلاح التقوى.
الخامسة : البشارة للمسلمين بحسن الثواب والأمن من أسباب الهلكة كالصواعق والزلازل التي تأتي غضباً من الله عز وجل، فان قلت قد يبتلى المسلمون , الجواب هذا الإبتلاء من الإمتحان وموارد الأجر والثواب يوم القيامة، قال تعالى[لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ]( ) .
وبينت الآية أعلاه من سورة يونس سبب هلاك أمم سابقة من جهات:
الأولى : التلبس بالظلم للنفس والغير.
الثانية : التكذيب بالرسل وعدم التصديق بهم.
الثالثة : الجحود بالمعجزات الواضحات التي جاء بها الرسل.
الرابعة : إعراض الكفار عن لغة الإنذار التي جاء بها الأنبياء.
الخامسة : مخالفة الأوامر التي جاء بها الرسل، لذا أثنى الله عز وجل على المسلمين , وقال[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لأنهم تلقوا أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والإمتثال.
السادسة : جدال الأنبياء وإيذاؤهم، وصد الناس عن دعوتهم.
ومن الإعجاز في الآية أنها عطفت التكذيب بالرسل على الظلم لقوله تعالى في علة الهلاك[لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ]( )، وحتى على فرض أن (الواو) حالية فانها تفيد معنى التعدد وأن ظلمهم مصاحب لأوان مجئ الرسل بالبينات إذ أن رشحات الكفر تظهر على العادات والطبائع والأخلاق، فلذا كان موضوع آية البحث هو السنن.
ومع مجئ آية البحث ببعث المسلمين على السير في الأرض والتدبر بالآيات والشواهد في أحوال الأمم السابقة، فقد جاء القرآن بانذار الكافرين من أهل مكة بقوله تعالى[وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، وفيه مواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لما يلاقونه من أذى الكفار، ودعوة لهم للصبر والتحمل مع السير في الأرض وذكر الآيات في هلاك القوم الظالمين من قريش وغيرهم ودعوتهم للتوبة، فلاغرابة أن تجد الناس تدخل الإسلام جماعات وأفراداً , قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
بحث نحوي
ورد لفظ (من قبلكم) في القرآن ثمان عشرة مرة، ولم يأت لفظ (قبلكم) إلا ويتقدمه حرف الجر(من) الذي يكون معناه في اللغة على وجوه:
الأول : التبعيض: ويؤتى به لإرادة الجزء والشطر من الكل، وهو أكثر موارد إستعماله مثل قوله تعالى[فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( )، وتعرف إرادة التبعيض من الحرف (من) بجواز مجيء (بعض) بدلاً عنها فتقول :فأجعل أفئدة بعض الناس تهوي إليهم وارزقهم بعض الثمرات.
الثاني : إبتداء الغاية المكانية، قال تعالى[فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ]( ).
الثالث : إبتداء الغاية الزمانية، ومنه قوله تعالى[لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ]( )، وفي الحديث عن أنس بن مالك قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت سبل الناس وفي رواية الشافعي وانقطعت السبل فادع الله فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة)( ) .
وخالف أكثر نحويي البصرة فقالوا في الآية حذف والتقدير(من أول يوم) وكذا بالنسبة للحديث والمراد فمطرنا من صلاة يوم الجمعة، وقالوا إنها لإبتداء الغاية في الأحداث , والصحيح هو جواز مجيء(من) لإبتداء الغاية الزمانية لحمل الآية على ظاهرها وهو لا يتعارض مع القول بالحذف.
الرابع : إبتداء الغاية مجازاً.
الخامس : بيان الجنس كما في قوله تعالى[وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ]( ).
السادس : التعليل: لبيان العلة التي يترشح عنها الفعل .
السابع : البدل كما في قوله تعالى[أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ]( )، أي بدلاً وعوضاً عن ثواب الآخرة وما فيها من الخلود في النعيم.
الثامن : المجاوزة وتكون بمعنى (عن) كقوله تعالى[فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا]( )، أي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يسأل عن الساعة حتى نزلت الآية بأن علمها عند الله عز وجل.
التاسع : الإستعلاء، كما في قوله تعالى[فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( )، أي على القوم.
العاشر : الفصل والتمييز كما في قوله تعالى[فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ]( ).
الحادي عشر : أن تكون بمعنى في، وبه قال الكوفيون، وأستدل عليه بقوله تعالى[مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ] ( ).
الثاني عشر : موافقة (رب).
الثالث عشر : من الزائدة، وهي التي لا يضر رفعها من الكلام وان كانت تفيد معنى التوكيد، قال تعالى[مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ]( ).
الرابع عشر : ان تكون للقسم ولا تدخل إلا على اسم الرب مثل : من رب لأصومن , إذ يكون القسم على وجوه:
الأول : أداة القسم.
الثاني : المقسم به، وينحصر شرعا بالله عز وجل.
الثالث : المقسم عليه، ويسمى جواب القسم.
وتنقسم أدوات القسم إلى ثلاثة وجوه:
الأول : الحروف مثل الباء، الواو، التاء، ووظيفتها الجر.
الثاني : الأسماء مثل وأيمن، يمين، عمر , قال ذو الأصبع العدواني:
أني لعمرك كابي بذي تحلق
عن الصديق ولا خيري بممنون( )
الثالث : الأفعال: مثل أحلف، أقسم.
وجاءت (من) في قوله تعالى[مِنْ قَبْلِكُمْ] زائدة للدلالة على العموم وتسمى الزائدة لإستغراق الجنس، ولأن مجرورها نكرة، وهو الشرط الوحيد لمشهور الكوفيين بـ(من) الزائدة، كما أنها تتضمن معنى البيان والثناء على المسلمين بلحاظ أنهم الأمة الباقية التي ورثت الأرض، وهذا المعنى لا يتعارض مع وجود سنن وأمم أخرى في الأرض خصوصاً وأن موضوع الآية هو السير في الأرض والإتعاظ من عاقبة المكذبين بالنبوة والتنزيل.
علم المناسبة(سنن)
ورد لفظ سنن في القرآن مرتين، إحداهما في آية البحث والأخرى قوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، والنسبة بين لفظي(سنن) في الآيتين هي العموم والخصوص المطلق.
فالمراد في آية البحث أعم وهو شامل لسنن الإيمان والضلالة، أما الآية أعلاه فان موضوعها هو سنن الصلاح والخير وتقدير الآية (ويهديكم سنن الذين من قبلكم من الأنبياء والصالحين) بالتقيد بأحكام النكاح وحرمة الأمهات والبنات والأخوات والتنزه من إتباع الشهوات.
وقدمت الآية أعلاه البيان من عند الله[يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ]( )، ومن البيان مضامين آية البحث من وجوه :
الأول : إخبار الآية عن تقدم زمان أمم في الأرض وإنقراضها.
الثاني : بيان حقيقة وهي أن لكل أمة سنة وطريقة.
الثالث : موضوعية المنهاج والطريقة التي عليها كل قرن وأمة من الناس، إذ ذكرت الآية السنن السابقة لتدل بالدلالة التضمنية على تقدم زمان أمم في الأرض بلحاظ إختصاص كل أمة بمنهج أو سنة، أو إشتراك بعضها بعقيدة وطريقة، قال تعالى[وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا]( ).
الرابع : تفرق الأمم في الأرض، لأن قوله تعالى[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ] دليل على إنتشار الأحقاب السابقة من الناس في الأرض، وهو الذي تدل عليه الآثار المنتشرة في أرجاء الأرض والتحليلات المختبرية التي قد تتوصل إلى تحديد فترات إنشائها وعمارتها.
الخامس : بين البيان والهداية في الآية أعلاه[لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ] عموم وخصوص مطلق، فالبيان أعم وهو شامل للسنن والطرائق المتباينة، وفي الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث مسائل:
الأولى : من مصاديق البيان المذكور في الآية أعلاه آية البحث وقوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
الثانية : رؤية ما لحق بالمكذبين من البلاء وشدة العذاب دعوة للإعتبار والهداية، ولما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء الرد من عند الله عز وجل بأنه يعلم أحوال الإنسان في الأرض بما لا يعلمه الملائكة، ومنه في المقام أمور:
الأول : الفساد باب للبلاء.
الثاني : المفسدون لا يبقون في عزهم في الأرض.
الثالث : نزول العذاب بالمكذبين، والنسبة بين المفسدين والمكذبين هي العموم والخصوص المطلق، فالفساد أعم من التكذيب.
الرابع : صيرورة ما أصاب المكذبين من العذاب موعظة وعبرة للناس.
الخامس : رؤية آثار المكذبين زاجر عن الفساد في الأرض مطلقاً.
السادس : بيان العاقبة فالذي نعتته الملائكة بالفساد لم يبق وظلت الآثار تدعو للشماتة به وإجتناب سنته، والذي يسيح في الأرض برداء التقوى هو الذي يعمرها لقوله تعالى[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ].
السابع : فتح باب التوبة للناس، وقيام الأنبياء والصالحين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وليس من حصر لصور وأفراد التوبة والتائبين، وأول من بادر إلى التوبة هو أبو البشر آدم وتلك آية في موضوع الخلافة وملازمة التوبة لها لبيان رحمة الله بالناس وجذبهم بلطف إلى منازلها وسننها.
وعن ابن قدامة قال: أخبرنا أحمد بن المبارك أنا ثابت أنا أبو علي بن دوما أنا مخلد أنا الحسن ثنا إسماعيل بن عيسى أنا إسحاق بن بشر قال: وحدثت عن ابن سمعان عن بعض أهل العلم بالكتب: أن ذا الكفل كان إليسع بن خطوب الذي كان مع إلياس وليس باليسع الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن وإليسع ذو الكفل كان قبل داود وذلك أن ملكاً جباراً يقال: له كنعان وكان لا يطاق في زمانه لظلمه وطغيانه وكان ذو الكفل يعبد الله سراً منه ويكتم إيمانه وهو في مملكته فقيل للملك: إن في مملكتك رجلاً يفسد عليك أمرك ويدعو الناس إلى غير عبادتك فبعث إليه ليقتله فأتي به فلما دخل عليه قال له الملك ما هذا الذي بلغني عنك أنك تعبد غيري؟ فقال له ذو الكفل: اسمع مني وتفهم ولا تغضب فإن الغضب عدو للنفس يحول بينها وبين الحق ويدعوها إلى هواها وينبغي لمن قدر ألا يغضب فإنه قادر على ما يريد قال: تكلم.
قال: فبدأ ذو الكفل وافتتح الكلام بذكر الله عز وجل والحمد لله ثم قال ذو الكفل: أتزعم أنك إله؟ فإله من تملك؟ أو إله جميع الخلق؟ فإن كنت إله من تملك فإن لك شريكاً فيما لا تملك وإن كنت إله الخلق فمن إلهك؟
قال له: ويحك! فمن إلهي؟ قال: إله السماء والأرض وهو خالقهما وهذه الشمس والقمر والنجوم فاتق الله واحذر عقوبته فإن أنت عبدته ووحدته رجوت لك ثواباً والخلود في جواره قال له الملك: أخبرني من عبد إلهك فما جزاؤه؟ قال: الجنة إذا مات قال: وما الجنة؟ قال: دار خلقها الله تبارك وتعالى بيده فجعلها مسكناً لأوليائه يبعثهم يوم القيامة شباباً مرداً أبناء ثلاث وثلاثين سنة فيدخلهم الجنة في نعيم وخلود شباب لا يهرمون مقيمون لا يظعنون أحياء لا يموتون في نعيم وسرور وبهجة.
قال: فما جزاء من لم يعبده وعصاه؟ قال: النار مقرونين مع الشياطين مغلغلين بالأصفاد لا يموتون أبداً في عذاب مقيم وهوان طويل تضربهم الزبانية بمقامع من حديد طعامهم الزقوم والضريع وشرابهم الحميم.
فرق الملك وبكى لما كان قد سبق له فقال له: إن أنا آمنت بالله فما لي؟ قال: الجنة قال: فمن لي بذلك؟ قال: أنا لك الكفيل وأكتب لك على الله تبارك وتعالى كتاباً فإذا أتيته تقاضيته بما في كتابك وفي لك فإنه قادر قاهر يوفيك ويزيدك ففكر الملك في ذلك فأراد الله به الخير فقال له: اكتب لي على الله عز وجل كتاب.
فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب كتبه فلان الكفيل على الله تعالى لكنعان الملك ثقة منه بالله تبارك وتعالى إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ولكنعان على الله عز وجل بكفالة فلان إن تاب ورجع وعبد الله أن يدخله الجنة ويبوئه منها حيث يشاء وإن له على الله ما لأوليائه وأن يجيره من عذابه فإنه رحيم بالمؤمنين واسع الرحمة سبقت رحمته غضبه ثم ختم الكتاب ودفعه إليه ثم قال له: أرشدني كيف أصنع
قال: قم فاغتسل والبس ثياباً جدداً ففعل ثم أمره أن يتشهد بشهادة الحق وأن يبرأ من الشرك ففعل ثم قال: له كيف أعبد ربي؟ فعلمه الشرائع والصلاة فقال له: يا ذا الكفل! استر هذا الأمر ولا تظهره حتى ألحق بالنساك قال: فخلع الملك وخرج سراً فلحق بالنساك فجعل يسيح في الأرض وفقده أهل مملكته فطلبوه فلما لم يقدروا عليه قالوا: اطلبوا ذا الكفل! فإنه هو الذي غرّ إلهنا قال: فذهب قوم في طلب الملك وتوارى ذو الكفل فقدروا على الملك مسيرة شهر من بلادهم فلما نظروا إليه قائماً يصلي خروا له سجداً فانصرف إليهم فقال: اسجدوا لله ولا تسجدوا لأحد من الخلق فإني آمنت برب السماوات والأرض والشمس والقمر فوعظهم وخوفهم.
قال: فعرض له وجع وحضره الموت فقال لأصحابه: لا تبرحوا فإن هذا آخر عهدي بالدنيا فإذا مت فادفنوني وأخرج كتابه فقرأه عليهم حتى حفظوه وعلموا ما فيه، وقال لهم: هذا كتاب كتبه لي على ربي عز وجل أستوفي منه ما فيه فادفنوا هذا الكتاب معي فلما مات جهزوه ووضعوا الكتاب على صدره ودفنوه فبعث الله تبارك وتعالى ملكاً فجاء به إلى ذي الكفل فقال: يا ذا الكفل! إن ربك قد وفى لكنعان بكفالتك وهذا الكتاب الذي كتبته له وإن الله عز وجل يقول: هكذا أفعل بأهل طاعتي فلما أن جاءه الملك بالكتاب ظهر للناس فأخذوه
فقالوا له: أنت الذي غررت ملكنا وخدعته؟ فقال لهم: لم أغره ولم أخدعه ولكن دعوته إلى الله وتكفلت له بالجنة وقد مات ملككم اليوم في ساعة كذا وكذا ودفنه أصحابكم وهذا الكتاب الذي كنت كتبته له على الله عز وجل بالوفاء وقد وفاه الله عز وجل حقه وهذا الكتاب تصديق لما أقول لكم فانتظروا حتى يرجع أصحابكم.
فحبسوه حتى قدم أصحابهم فسألوهم فقصوا عليهم القصة فقالوا: لهم تعرفون الكتاب الذي دفنتموه معه؟ قالوا: نعم فأخرجوه إليهم فقرؤوه فقالوا: هذا الكتاب الذي كان معه ودفناه في يوم كذا وكذا فنظروا وحسبوا فإذا ذو الكفل كان قد قرأ عليهم الكتاب وأعلمهم بموت الملك في اليوم الذي مات فيه فآمنوا به واتبعوه فبلغ من آمن به مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً وتكفل لهم مثل الذي تكفل لملكهم على الله عز وجل فسماه الله ذا الكفل ( ).
الثالثة : تجلي مصداق قوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ] بآية البحث من وجوه:
الأول : الإخبار عن إنقراض سنن عديدة في الأرض، وإنقطاع أهلها.
الثاني : الأمر الإلهي للمسلمين بالسير في الأرض والسفر في أقطارها لمعرفة تلك السنن وأخبارها، وإندثار سنن الضلالة منها.
الثالث : دعوة المسلمين للتدبر في شواهد الآثار والأخلال.
الرابع : رؤية المسلمين للبلاء الذي حلّ بالمكذبين، ومن الآيات أن هذا البلاء متباين في كيفيته ومقداره ومدته ولكن بضابطة الكلية التي تجمعه هي شدته ومجيؤه على المكذبين جميعاً.
الرابعة : من مصاديق فضل الله عز وجل أنه سبحانه يرزق المسلمين والناس أضعاف حاجتهم سواء في المعاش أو سبل الرشاد، لذا فان البيان الذي تذكره الآية أعلاه من سورة النساء أعم من أن ينحصر بآية البحث.
الخامسة : ذكرت الآية أعلاه توبة الله على المسلمين، وآية البحث وما فيها من المضامين القدسية صراط للتوبة والصلاح، وتأتي هذه التوبة من منازل الهداية والإيمان.
وورد لفظ(سنة) بصيغة المفرد ثلاث عشرة مرة في القرآن، منها ما يتعلق بحكم الله والقوانين التي أمضاها بمشيئته في الناس، قال تعالى[وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]( )، ومنها ما يخص طريقة ونهج الكافرين، قال تعالى[وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ]( )، أي قد جرى نهجهم بحال من الكفر والجحود وما أصابهم من الهلاك، وفي الجمع بينها تأكيد للإنذار بنزول صنوف العذاب بالذين يصرون على التكذيب بالنبوة والتنزيل.
بحث نحوي
أختلف في جواز عطف الجملة الإنشائية على الخبرية وبالعكس، وقال جمع من علماء البلاغة بعدم جوازه إذ ذهب الجرجاني إلى منع عطف الخبر على الإستفهام لأن الخبر لا يؤكده إلا الخبر، ولأن الإستفهام لا يلزمه التأكيد لما فيه من المفاجأة.
وموضوع ومعاني العطف أعم من التأكيد.
وقالوا أيضاً إن عطف الجملة الإنشائية على الخبرية بخلاف صيغ التماثل والسياق الذي هو من ضوابط الوصل خاصة بحرف العطف الواو.
ولكن عطف الخبرية على الإنشائية وبالعكس لا يتعارض مع التماثل والتناسق والتداخل بين الجمل ولا يكون مانعاً عنه , وعلى فرض حصول تعارض بين التماثل ونحوه وبين بيان وتجلي المعنى فالثاني هو المقدم , ومثل هذا التعارض معدوم في القرآن.
وجاء مصطلح (الفصل والوصل) إلى البلاغة مقتبساً من علم القراءات والمراد من الفصل قطع معنى عن معنى بأداة لغرض بلاغي ومن أدوات الفصل واو الإستئناف , ثم , بل , الإستثناء المنقطع، الجملة الإعتراضية.
أما الوصل فهو ربط معني بمعنى بأداة للوصل ولنكتة بلاغية سواء كان الربط بين المفردات أو الجمل كما في الربط بحروف العطف , وقال جمع من علماء النحو بعطف الجملة الإنشائية على الخبرية وبالعكس، ومن الأول قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ]( )، ومن الثاني أي عطف الخبرية على الإنشائية[وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسم اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ]( )، ولا أصل للتباين والتردد الذي أظهره السبكي بقوله: إن هذا يجوز لغة ولا يجوز بلاغة وقيل لم يتعرض عدد من المفسرين لمعنى الواو في الآية أعلاه وهل هي للعطف أو للحال.
ولكن لا مانع وفق منهجيتنا من إجتماع العطف والحال بحسب اللحاظ والمعنى والمختار هو جواز عطف الجملة الإنشائية على الخبرية وبالعكس، وذكر النحويون إثني عشر موضعا في القرآن لهذا العطف بقسميه، ولكن الشواهد القرآنية في المقام أكثر من هذا العدد، ومنه آية البحث فإن قوله تعالى(فسيروا) جملة إنشائية معطوفة على الخبرية.
إن قواعد البلاغة رشحة من رشحات القرآن وليس هي قانونا كليا تكون قواعده هي الأصل، ومن خصائص القرآن إيراد المعنى بأبهى حلة وأوضح وأخصب المعاني وفنون علم البديع ويسر ترجمته إلى اللغات المختلفة مع عصمة القرآن من الإيهام وأسباب الخلاف والشقاق في التفسير والتأويل , ويجمع القرآن بين البيان والجزالة والفخامة وتشعب وتفرع معنى المفرد والجملة إلى يوم القيامة فلا يصح النظر وفق قواعد القطع والوصل حصراً.
قانون(سافروا تغنموا)
هذا القانون حديث مشهور لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن وجوه تسمية السفر أمور:
الأول : إنه يسفر عن أخلاق الإنسان، ويظهر حقيقة سجاياه.
الثاني : يسفر عن آيات الله الكونية وبدائع خلق الله.
الثالث : يسفر حكم الله في أهل الأرض، ويظهر بجلاء عقوبة المكذبين بأن جعل صروحهم أطلالاً.
الرابع : الإسفار الذاتي للإنسان، بما يرى وينظر من الآيات، وقد ورد عن بشر الحافي أنه قال: يا معشر القراء سيحوا تطيبوا فإن الماء إذا كثر مقامه في موضع تغيّر)( ).
ولكنه قياس مع الفارق، فإن بقاء المؤمن في بلده تتجدد نظارته بالذكر وأداء الفرائض وتلاوة القرآن وهناك فرق بينه وبين خصوصية الماء الراكد، وتأتي الإستجابة لأمر الله عز وجل في آية البحث لتزيده إيماناً وتفقهاً في الدين.
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين في الحديث أعلاه بالسفر وتحتمل النسبة بين السفر والغزو وجوهاً:
الأول : التساوي.
الثاني : التباين وأن السفر غير الغزو.
الثالث : العموم والخصوص المطلق، وأن الغزو نوع وفرد من أفراد السفر.
الرابع : العموم والخصوص من وجه وأن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
والصحيح هو الوجه الثالث، وإن كان لفظ السفر إذا ورد مطلقاً فالمراد منه السياحة في الأرض والتدبر في الآيات وليس من حصر للنعم في الدنيا ووسائل الكسب فيها , وهو على قسمين:
الأول : الكسب العلمي والعقلي كتلاوة القرآن وأداء العبادات، والأخلاق الحميدة، وصيغ المعارف وبلغة التحصيل، وقال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
الثاني : الكسب المادي، والضرب لأمور المعيشة، قال تعالى[فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
وجاء الحديث النبوي في القسمين أعلاه معاً وهو من عمومات قوله تعالى في وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والثناء عليه[حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( )، لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسفر وهو يعلم أن فيه مشقة وأذى , وقال: السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل الرجوع إلى أهله)( ).
وفي الجمع بين آية البحث والحديثين النبويين تتجلى حقيقة وهي أن منافع السـفر أكثر من مــتاعبه، ولم يــذكر النبي في الحــديث أعلاه أضراراً لاحقة ومستديمة على المسلم في سفره بينما جاء الحديث الآخر بالغنائم وتتجلى صيغة الإطلاق في الغنيمة من السفر وقوله صلى الله عليه وآله وسلم(تغنموا) مما يدل على إرادة أمور تتجلى من الواقع وهي:
الأول : المنافع الدنيوية في البدن والصحة.
الثاني : إكتساب الأخلاق الحميدة وتنمية ملكة آداب السفر.
الثالث : معرفة سجايا الناس، وحسن المعاملة.
الرابع : الإستعانة بالصبر، وإدراك الحاجة إليه، سواء في التحمل أو العناء في السفر.
الخامس : معرفة أحوال الأمم، وحياتها اليومية، وكيفية ونوع الصلات بينهم.
السادس : الدراسة المقارنة بين البلدان والأمصار وخصائص الشعوب والجماعات.
السابع : يفتح السفر أبواب العمل والكسب للإنسان، ويؤهله للصنائع المختلفة وإمكان تعلمها.
الثامن : تخيير الإنسان نفسه بالسكن حيث الرزق والأمن ورغد العيش، وعن الإمام علي عليه السلام: اَلْغِنَى فِي اَلْغُرْبَةِ وَطَنٌ وَاَلْفَقْرُ فِي اَلْوَطَنِ غُرْبَةٌ)( ).
التاسع : من الغنيمة في السفر تحصيل الإمتثال لمضامين آية البحث من جهات:
الأولى : إدراك المسلمين لحقيقة تعاقب سنن وملل في الأرض.
الثانية : إقرار المسلم بأن الموت حق وأن مغادرة الدنيا التي ختمت حياة الأمم السالفة لا بد وأن تشمله ومن بعده أبناؤه وذريته ليترشح عنه تثبيت حال الخشوع والخضوع عند المسلم، فتلك آية في وجوه الإعتبار في قوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ].
الثالثة : تلقي المسلمين لإكرامهم بلغة الخطاب في الآية بالشكر لله عز وجل على هذا الإكرام ودلالاته بخلافة المسلمين للأرض، وفي التنزيل[إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]( ).
الرابعة : إنتفاء عنصر المفاجأة عن المسلمين عند رؤيتهم لأمة تكذب بالتنزيل وعدم الإفتتان بها لأن عاقبتها جلية في نظر وحواس المسلمين وفي أذهانهم وهي الإنقراض والزوال للمكذبين.
والأمر الإلهي للمسلمين بالسير في الأرض من مصاديق الوراثة فيها وهو آية في معاني وراثة الأرض ومصاديقها وحينما تنبأ مسيلمة الكذاب كتب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك
فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)
ومن مصاديق حسن العاقبة للمسلمين وتأكيد أنهم المتقون مضامين آية البحث للأمر الإلهي المتوجه لهم بالسير في الأرض والإتعاظ من أحوال الأمم السالفة، وقد تنبأ أفراد في أيام البعثة النبوية الشريفة مثل مسيلمة تنبأ في اليمامة وهو من بني حنيفة، وقتله وحشي أيام أبي بكر، وتنبأت سجاح وهي من تميم وتزوجها مسيلمة، وتنبأ طليحة من بني أسد فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد فقاتله، فهرب إلى الشام.
وإرتد من العرب بنو مدلج ورئيسهم الأسود العنسي تنبأ باليمن وإستولى على أرضها، فقتله فيروز الديلمي في الليلة التي إنتقل في صبيحتها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، وقد أخبر بموته، ففرح المسلمون، قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
والجواب هؤلاء المتنبئين الذين إدّعوا النبوة كذباً وزوراً والذين لم تدركهم التوبة من أتباعهم من السنن التي إنقضت في الأرض وقيدت الآية الإخبار بأمرين:
الأول : السنن وهي جمع سنة وهي الطريقة والملة وإرادة معنى الأمة.
الثاني : السبق الزماني لتلك السنن على النظر لآثارها.
ولا مانع من إنطباق عموم مضامين الآية عليهم، وكونهم من المكذبين وتجلي سوء عاقبتهم وخسارتهم النشأتين إلا من تاب منهم، سواء من إدّعى النبوة كسجاح بنت المنذر التي إتخذت مؤذناً وحاجباً ومنبراً، ثم أسلمت بعد مقتل مسيلمة، وغادرت إلى البصرة، وكذا طليحة بن خويلد الذي إرتد وتنبأ، فانهزم إلى الشام ثم تاب بآية من عند الله نصر بها المسلمين.
فلما برز شرحبيل بن حسنة وكان من النساك لقيدمون (في وقعة قياسرية من الشام، نزل المطر كأفواه القرب، فنزلا عن فرسيهما، وجعل يتصارعان في وسط الطين، واستوى قيدمون على صدر شرحبيل، وهمّ أن ينحره فناد شرحبيل يا غياث المستغيثين، فما استتم كلامه حتى خرج اليه فارس من الروم عليه لأمة مذهبة، ومن تحته جواد من عتاق الخيل، فقصد موضعهما، فظن قيدمون أنه انما خرج ليعطيه جواده ويعينه.
فلما قرب منهما ترجل ومال على البطريق فجره برجليه عن صدر شرحبيل، وقال: يا عبد الله قد أتاك الغوث من غياث المغيثين، فوثب شرحبيل قائماً ينظر اليه متعجباً من قوله وفعله، وكان الفارس متلثماً، ثم جرد سيفه وضرب قيدمون ضربة قطع رأسه ، وقال: يا عبد الله خذ سلبه، فقال شرحبيل: والله ما رأيت أعجب من أمرك، وانى رأيتك جئت من عسكر الروم!
فقال: له أنا الشقي المبعد أنا طلحة بن خويلد الذى ادعى النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذب على الله وزعم أن الوحى كان ينزل عليه من السماء، فقال له شرحبيل: يا أخي (ان رحمة الله قريب من المحسنين) ( )، وقد وسعت رحمته كل شيء، ومن تاب وأقلع وأناب قبل الله توبته، وغفر له ما كان منه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: التوبة تمحو ما قبلها
أما علمت يا ابن خويلد أن الله سبحانه وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {ورحمتي وسعت كل شيء}( ) طمع فيها كل شيء حتى ابليس)( ).
وكذا تشمل التوبة أتباعهم وأنصارهم في الردة والخروج على حكم الإسلام.
وهل رؤية آثار الذين كذبوا بالآيات والدلالات على الوحدانية من الغنيمة في السفر، الجواب نعم من جهات:
الأولى : طاعة الله عز وجل بالسير في الأرض وتوظيف هذا السير للإمتثال لأحكام آية البحث.
الثانية : المبادرة إلى شكر الله عز وجل على نعمة الإسلام وما يترشح عنها من أسباب البقاء في الدنيا بالذكر والولد الصالح، وبالخلود في الآخرة في النعيم.
الثالثة : تعدد منافع السفر، فقد يضرب المسلم في الأرض للكسب والتجارة، ولكنه يعتبر من أطلال الكفار والظالمين فيكون النفع متعدداً وشاملاً لباب العقيدة ومناسبة لترسيخ الإيمان، لتترشح عنه البركات في التجارة والكسب ومقاصد السفر.
التاسعة : قد يسافر الإنسان بقصد إرتكاب معصية كالسرقة والربا، فيرى الخرائب وصيرورتها عاقبة للظالمين والفاسقين فيتعظ ويتوب إلى الله أو لا أقل يعزف عن إرتكاب المعصية، أو يتجدد عنده لوم الذات، قال تعالى[وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( ).
أي أن الله عز وجل يقسم بالنفس التقية التي تلوم صاحبها على التقصير، وهو ثناء لها، وفيه آيات من الإعجاز لأن موضوع الآية لا يختص بالذين يرتكبون المعاصي ثم يندمون بل هي شاملة لأهل الإيمان بلحاظ كبرى كلية وهي أن المؤمن ومهما إجتهد في طاعة الله عز وجل وبذل الإحسان فإنه يشعر بالقصور ويظن التفريط وقلة الزاد ليوم النشور والظمأ الأكبر.
وأبهى وجوه الإعجاز في المقام هو أن هذا اللوم في ذات الإنسان من بديع صنع الله وفيه إشارة إلى أن عظمة خلق الله للإنسان لا تنحصر ببدنه وظاهره ونطقه، قال تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
إنما تشمل الكيفية النفسانية عند الإنسان بأن يلوم نفسه على تفويت المصلحة أو جلب المفسدة وهو من مصاديق وأسرار خلافة الإنسان في الأرض بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
فإن قلت قد يلوم الإنسان نفسه على عدم فعل معصية يظن بتهيئة مقدماتها ويتحسر على تضييعها، والجواب هذا فرد قليل، وهو إلى زوال في ذات الإنسان في الدنيا في الأعم الغالب , وهذا اللوم فرع إتباع الهوى وليس من ذات نفس الإنسان التي جعلها الله بالفطرة تندم على الفعل القبيح وهو لا يتعارض مع قوله تعالى[إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ]( )، لأن الأمر بالسوء مرتبة سابقة للفعل، وقد يقع هذا السوء أو تغلب النفس العاقلة أو تنعدم مقدمات السيئة، أو تطرأ موانع أو ينساها والعزم عليها الإنسان.
ومن العصمة إمتناع المعصية , أما اللوم النفسي فانه مرتبة لاحقة للفعل، وقد يندم الإنسان على الميل إلى السيئة حتى في حال عدم حصولها فيستغفر الله لغلبة النفس الأمارة آناً ما، ويشكر الله للبرزخ والحاجب دون فعل السيئة.
أما في الآخرة فإنه يشكر الله عز وجل على قوات تلك المعصية، ويدرك أن الله هو الذي حجبها عنه برحمته، قال تعالى[فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ).
وهل يلوم المكذبون بالآيات أنفسهم، الجواب نعم، وجاءت آية البحث لبعث هذا اللوم في نفوسهم وغيرهم من الناس، فقوله تعالى[لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( )، تنمية لملكة لوم النفس عند المسلمين والناس جميعاً، وجعلهم يتخذون من الدنيا مزرعة للآخرة، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ليسَ منْ نفسٍ برةٍ ولا فاجرةٍ إلا وتلومُ نفسَها يومَ القيامةِ إنْ عملتْ خيراً قالتْ كيفَ لَمْ أزددْ وإنْ عملتْ شَراً قالتْ ليتني كنتُ قصرتُ)( ).
وقد عطف القسم بالنفس اللوامة على القسم اليوم القيامة ولم يشرك بهما غيرهما، وفيه تأكيد لعظمة خلق حال اللوم عند النفس الإنسانية بلحاظ عظيم وإستدامة قدرة الله في صنعه وإيجاده ليوم القيامة وتعدد مواطن الحساب وأثر لوم النفس لصاحبها في ميزان الأعمال وعالم الجزاء، فحينما جعل الله عز وجل يوم القيامة أواناً للنشور والحساب تفضل وجعل نفس الإنسان في لوم دائم بما ينفعها يوم القيامة، ويطرد عنها الغفلة والجهالة ويدفعها ويزيحها عن إتباع الهوى والضلالة، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما جادلوا في صيرورة آدم خليفة في الأرض , وإن الإنسان[يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ليكون لوم النفس على وجوه:
الأول : اللوم على نحو القضية الشخصية بأن يلوم الإنسان نفسه في فعله.
الثاني : اللوم العام، حيث تذم الجماعة والطائفة نفسها على فعل وخطأ وزلل، وقد يخرج منه بالتخصص بعض الأفراد من الذين إمتنعوا عن ذات الخطأ.
الثالث : لوم الإنسان لغيره، متحدا أو متعدداً، ومنه بعض مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويلوم الوالد إبنه مثلاً على تقصير أو ذنب وبما يفيد إصلاحه.
ويمكن تقسيم اللوم بحسب اللحاظ تقسيماً آخر إلى اللوم الخفي واللوم العلني، إذ جاءت الآية مطلقة وإن كان المتبادر هو اللوم الذاتي، ومن اللوم ما كان باعثا لفعل الشيء ومتقدماً عليه، فمن لطف الله بالإنسان أن جعل اللوم مصاحباً للنفس بما ينفعه في سبل التوبة أو في ذكر الله والتذكير بلزوم شكره تعالى على النعم، كما في أكل الطيبات والتخيير الذاتي فيه.
وقد تجد نفسك تحب لوناً من الطعام أو جنساً من الفاكهة وتفضله على غيره لمدة مديدة، وعندما تأكل غيره تدرك أن الأول لم يكن هو الأفضل وأن لكل نوع من الزاد والثمار طعماً خاصاً لا تجده في غيره وربما تلوم النفس على الإفراط أو التفريط في نوع منه.
وهل يمكن القول أن كل نفس لوامة لإرادة الجنس في الآية وأن الألف واللام في[وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( )، يفيد العموم الإستغراقي الجواب نعم، خاصة وأن يوم القيامة حق وصدق، وكذا اللوم.
وجاء حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسفر لجني المكاسب ومنها لوم النفس والتخلص من اللوم من غير تعارض بينهما لتعلق كل منها بمنافع الدين والدنيا، لوم النفس على التقييد في العبادة في الحضر، وعدم اللوم لتحقق الإمتثال بالسير في الأرض وجلب المنافع، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وفي قوله عليه السلام (سافروا تغنموا) وجهان:
الأول : الوعد الكريم بالغنيمة وكسب الفوائد في السفر.
الثاني : في الحديث رجاء وأمل ورجحان , والتقدير: سافروا قد تغنموا).
الثالث : الحديث إقتباس من آيات القرآن، كما في قوله تعالى[فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
والصحيح هو الأول والثالث وكلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحي ويتضمن في دلالته التحدي والبعث أو الزجر، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وجاء الحديث بصيغة الجمع من غير إستثناء وتخصيص والمراد على وجوه:
الأول : سفر المسلم بمفرده على كراهة فيه.
الثاني : سفر جماعة من المسلمين.
الثالث : إرادة الغزو والسرايا الذي يدل بالدلالة التضمنية على كثرة عدد الأفراد.
وهل يشترط صبغة الإيمان وقصد القربة , الجواب لا، لأنه ليس عبادة وإن كان لإرادة الجهاد في سبيل الله بلحاظ أنه مقدمة عقلية للجهاد.
ليكون من الغنائم في هذه المقدمة زيادة الإيمان، والإندفاع في سوح المعارك لما في المرور على الشواهد والأطلال والآثار من المواعظ وإستنباط الدروس ومنها لابد من الرجوع إلى الله، وأن الدنيا مزرعة ومناسبة للعمل الصالح، فتمتلك النفس الإنسانية الرغبة في البقاء، وهو من رشحات وجود الروح في الإنسان وقوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]( )، فهي لا تميل إلى أسباب الفناء وتنفر من الزوال إلا زوال الأمر القبيح، والدنيا ذات بهجة وغبطة ولإستصحاب الحياة فيها أثر بتعلق النفس بها وكراهية مغادرتها , ومن الآيات أن الناس جميعاً يلاقون ذات النهاية من المغادرة بأمور:
الأول : مفارقة الروح للجسد، فليس من طول أمل، وتعلق بمباهج الدنيا بعدها، قال تعالى[الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
الثاني : تعيين أجل المغادرة من عند الله، وعجز الإنسان عن التسويف والتأجيل لعدم موضوعيته وإرادته في مغادرة الدنيا , قال تعالى[فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
الثالث : مصاحبة عمل الإنسان له في عالم البرزخ ويوم القيامة، فتغادره الروح وترجع إليه أما العمل فيبقى مصاحباً له لا يفارقه ليحضر مع عودة الروح للجسد يوم القيامة، فيكون السفر الدنيوي مقدمة للسفر الأخروي ومناسبة ومقدمة للإدخار إلى يوم البعث.
فاذا كان في السير في الأرض مغانم كثيرة، فان السير والإنتقال إلى الآخرة ليس فيه إلا نوع خاص من الغنائم التي إكتسبها الإنسان في الدنيا، وهي العمل الصالح مع زهده فيه، وغفلة بعضهم عن الحاجة إليه وإذا كانت الضرورة تبيح المحظورات التي هي خلاف المباحات، فان العمل الصالح ضرورة للإنسان في الدنيا والآخرة وليس فيه محظور بل كله خير محض وتترشح عنه البركات ومعاني الغبطة والإنشراح، قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
علم المناسبة(فسيروا)
ورد هذا لفظ مرتين في القرآن , وأمر الله المسلمين والناس بالسفر في الأرض والإتعاظ من أحوال الذين كذّبوا بالآيات ولم يصدقوا بالرسل والأنبياء وقيل لما نزلت الآية أعلاه من سورة النحل ولم يؤمنوا نزل قوله تعالى[إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ] ( ).
والآية أعم في دعوتها إذ تشمل المسلمين الذين هداهم الله وإجتنبوا إتباع وعبادة الطاغوت والقوم الظالمين.
وورد لفظ(سيروا في الأرض) من غير الفاء أربع مرات في القرآن إذ وردت آية مستقلة بذاتها بقوله تعالى[قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( )، والآية خطاب وأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأمر المسلمين والناس بالضرب في الأرض مع التدبر في الآيات والمعجزات في نزول الهلاك بالظالمين وكيف أن الله جعلها موعظة ليعتبر اللاحق من السابق.
وجاءت الآية في ذم الكفار وتوثيق جحودهم، وإصرارهم على إنكار المعاد وفي التنزيل[لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ]( ).
قال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، ثنا مُوسَى بْنُ مُحَلِّمٍ، ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، ثنا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ، عَنْ قَوْلِهِ: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ، قَالَ:”لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ ( ).
وجاء الأمر بالسير والذهاب في الأرض للتدبر في الآيات الكونية وكيفية خلق الله الناس وأسرار النشأة، وحاجة الخلائق جميعاً إلى رحمة الله في إيجادها وإستدامتها، وفي التنزيل[قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ]( ) .
ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث الإطلاق في مواضيع التدبر والتفكر وعدم إختصاصها بنزول العذاب بالكافرين، وهو الذي نذهب إليه في معاني آية البحث وأن الآثار التي تدل على خزي وهلاك الكافرين فرد ذو موضوعية ودليل ظاهر وحجة قاطعة في لزوم نبذ الكفر والإبتعاد عن مفاهيم الضلالة.
وفي سبأ وبطرهم بالنعم وعدم مقابلتها بالشكر والرضا , قال تعالى[وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ *فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ]( )، أي بارك الله فيها بالشجر والماء والزراعات وكثرة وتقارب تلك القرى، وكانوا يصبحون في قرية ويمسون في أخرى، ولا يبعث السير بينها الملل في النفس لأن النعم ظاهرة فيها وفي الطرق فيما بينها.
وقال قتادة: حتى أن المرأة تمشي وعلى رأسها مكتل فيمتلىء من الثمر( ).
فظلموا أنفسهم بتكذيبهم الرسل وعددهم ثلاثة عشر رسولاً، روى أبو سيرة النخعي عن فروة بن مُسيك الغطيفي قال : قال رجل : يا رسول الله، أخبرني عن سبأ ما كان؛ رجلاً أو امرأة، أو أرضاً أو جبلاً أو وادياً؟
فقال صلى الله عليه وسلم: ليست بأرض ولا امرأة ولكنه كان رجلاً من العرب ولد له عشرة من الولد، فتيا من منهم ستة وتشاءم أربعة؛ فأما الذين تيامنوا، فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير. فقال رجل : وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان( ).
وقوله تعالى[وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ] ( )، أي فرقناهم في الآرض لما جحدوا بالنعم فضربوا مثلاً، وكان الناس يقولون : تفرقوا أيدي سبأ، وفي الآية نكتة وهي أن الكفر بالنعم سبب للفرقة والتمزق، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد النعم وعدم غلبة أسباب الخصومة بينهم، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
وورد خطاب وأمر موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآني[قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا] أربع مرات( )، وورد مرة أخرى بلفظ(ثم) [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
وفي هذه الآية دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإقامة الحجة على الكفار بدعوتهم للسير في الأرض ورؤية الأطلال والرسوم التي تحكي ضمنا عن الهلاك الذي نزل بالقوم الكافرين.
وجاءت الآية أعلاه من سورة الأنعام بحرف العطف والتراخي (ثم) وفيه مسائل:
الأولى : يفيد الجمع بينها وبين الآيات المشابهة لها تعدد وجوه الإعتبار والتدبر.
الثانية : إرادة النظر البصري الحال والقلبي الممتد عقب رسوخ صورة الأطلال في الوجود الذهني.
الثالثة : دعوة المسلمين إلى عدم حصر مسألة عاقبة المكذبين بأوان النظر إليها.
الرابعة : بيان نكتة عقائدية وهي تجلي حقائق عن عاقبة المكذبين بعد السير في الأرض ورؤية آثارهم.
الخامسة : الإشارة إلى آيات القرآن وما فيها من البيان عن بطش الله بالمكذبين بالتنزيل.
السادسة : الدعوة إلى الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخبار السنة عن هلاك الظالمين.
السابعة : وتقدير الجمع بين الآية أعلاه من سورة الأنعام وبين آية البحث هو (قل سيروا في الأرض فأنظروا ثم أنظروا كيف……) ليكون من معاني تكرر النظر أمور:
الأول : إرادة المعنى الأعم من النظر.
الثاني : تقليب الحدقة في آثار المكذبين.
الثالث : الرحمة بالذات بإختيار التقوى وتعاهدها لإجتناب سوء العاقبة.
الرابع : إتخاذ آلة البصر وسيلة لإنتقال الذهن إلى مضمار الظن والعلم.
الخامس : النظر بالعقل والتبصر بالقلب.
السادس : طلب الصواب والحق، وإجتناب الجدال والإحتجاج والإجتهاد بالنصرة بالقول، إذ أن الشواهد الحسية مدد ومادة في الإحتجاج فلا تصل النوبة إلى الجدال وما فيه من إحتمال مواجهة الخصم بالمغالطة ونحوها.
وجعل الفقهاء (النظر) مصطلحاً يراد منه التفكر في الأدلة وشاع إستعماله عند المتكلمين، وقال أحدهم إنه عبارة عن التفكير في الأدلة على إختلافها( ).
الثامنة : بيان حقيقة وهي أن حجج الله على الناس أكثر من أن تحصى، وأن دلائل سوء عاقبة المكذبين لا تنحصر بالجمع بين السير في الأرض والنظر، فيصح من الأخبار وقصص الماضين، وأمهات الكتب والأشخاص الذين يطوفون في البلاد يخبرون عما حلّ بقومهم وآبائهم من الكفار، وتارة يأتيهم شخص أو جماعة إلى ديارهم ومصرهم وينبئهم بما لحقهم بسبب الكفر والتكذيب بالنبوة، ومنه وقوع الكافر أسيراً بيد المسلمين وبحسن إسلامه ويعتق ويكون حراً ويكون شاهداً على سوء عاقبة المكذبين وعلى حسن عاقبة الإيمان.
ومن اللطف الإلهي بالمسلمين والناس أنه سبحانه يدعو المسلمين والناس بنفسه للسير والنظر بالعواقب كما في آية البحث وأخرى يأمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الناس لذات الأمر.
وهل من دلالة ومفهوم للعدد في المقام بأن ورد[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا] مرتين كما في آية البحث وفي سورة النحل( )، بينما جاء قوله تعالى (قل سيروا في الأرض)، أربع مرات خطاباً وأمراً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه آية إعجازية بأن الأمر للنبي ليدعو المسلمين والناس جميعاً للسير في الأرض، أما المسلمون فلزيادة إيمانهم وإرتقائهم في سلم المعارف, وأما الكفار فللحجة عليهم ولإتخاذ هذه الأطلال والشواهد عوناً لجذبهم للإيمان .
وتلك آية في رحمة الله فحتى البلاء والعقاب النازل بالظالمين والمكذبين هو طريق لدخول الناس للإسلام، وزاجر لأعداء الإسلام ليكفوا أيديهم عن ثغور المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله على الملائكة الذين إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض، فان هذه الخلافة ليست مستقلة وقائمة بذاتها بل يزيح الله عز وجل الكفار عن منازل السلطان، ويمحق تراثهم.
ومن مفاهيم الأمل عند الإنسان في حياته التركة الكريمة لذريته وعدم تركهم في ضياع، وجاءت آية البحث لتخبر عن حقيقة وهي أن التكذيب بالآيات يترشح عنه بلاء الإستئصال الذي يأتي على الذرية أنفسهم.
قانون السير والسرى
سار يسير ومسيراً: أي مشى وذهب ويكون في الليل والنهار، ويأتي لازما ومتعدياً (ويقال: بارك الله لك في مَسيرِكَ)( )، وسرى أسرى ذهب في الليل، (السرى: سير الليل، سرى يسري سُرى وسَرياً فهو سار)( ), وقال تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]( ).
وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليكم بالدلجة فان الارض تطوى بالليل)( )، والدلج: السير في الليل وأختلف فيه على وجوه:
الأول : السير أول الليل.
الثاني : السير آخر الليل.
الثالث : (وادَّلَجُوا ساروا الليل كله)( ).
الرابع : إرادة الإطلاق وأي ساعة سرت من أول الليل وإلى أوان أذان الفجر فقد أدلجت ,وهو المختار .
وبين السير والسرى عموم وخصوص مطلق , فالسير أعم وهو يتغشى آنات النهار والليل لذا فإن الآية مطلقة وتشمل السفر في الليل أيضاً مما يدل على وجود بعض الشواهد والآثار يمكن رؤيتها والمرور عليها في الليل ويكفي هذا المرور للإتعاظ منها، بالإضافة إلى أن السير في الليل مقدمة لرؤية الآثار في النهار، قال الشاعر:
(عِنْدَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القَومُ السُّرَى
وتَنْجلي عَنهُم غَيَاباتُ الكَرَى)( ).
وتخاطب آية البحث المسلمين بصيغة الجمع فسيروا في الأرض لوجوه:
الأول : دوام الأخوة الإيمانية بينهم.
الثاني : إزدياد الإيمان بالرفعة والصحية.
الثالث : ظهور المسلمين بمظاهر العز والنعمة.
الرابع : التوقي من آفات الطريق والأمن من مهاجمة وغدر العدو.
الخامس : أداء المسلمين الصلاة جماعة وفي أول وقتها، إذ يُذكر بعضهم بعضاً بحلول وقتها.
السادس : تعاهد مفاهيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السابع : تعاون المسلمين على مشاق الطريق وعناء السفر، قال تعالى[فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ]( ).
الثامن : دفع المسلمين في جماعتهم أسباب الجوع والظمأ والحاجة إلى ضرورة أكل الميتة ونحوها من المحرمات والنجاة من المفاوز ومقدمات الهلكة ليكون السفر مدرسة في الأخلاق، ومناسبة لتهذيبها وإصلاح المنطق.
وعن أبي سعيد الخدري قال: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ، مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ على راحِلَةٍ، فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِيناً وَشَمَالاً، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ على مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ على مَنْ لاَ زَادَ لَهُ”،
قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ مَا ذَكَرَ؛ حتى رُئِينَا أنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدَ مِنَّا فِي فَضْلٍ)( )، أي كان الرجل محتاجاً يتطلع إلى من يساعده فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعانته وإعانة كل محتاج من الصحابة المرافقين من باب الأولوية القطعية.
التاسع : السفر في الأرض من مصاديق التنعم بالطيبات والرزق الكريم فمن الآيات في بديع صنع الله، إتصاف وإختصاص كل مصر وبقعة من الأرض بزراعة وثمار وصناعة مخصوصة، وفيه دعوة للتواضع والخشوع لله عز جل.
العاشر : تنمية ملكة الجماعة والرفقة، والتعاضد على نوائب الدهر عند المسلمين سواء في الحضر أو السفر.
وعن أبي ثعلبة , قال: انَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلاً قَالَ عَمْرٌو كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَنْزِلاً تَفَرَّقُوا فِى الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِى هَذِهِ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلاً إِلاَّ انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)( ).
الحادي عشر : حث المسلمين على الدعاء في السفر، وتأديبهم باللجوء إليه طوعاً وقهراً، ومناسبة للحال والمقال، إذ ينكشف الإنسان عن أهله ويبتعد عن بلل ولا يرى إلا السماء وما إمتد إليه بعده من الأرض، وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا إستوى على بعيره خارجا للسفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثاً ثم قال[سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ]( ).
اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى , اللهم هون سفرنا هذا واطو عنا بعده , اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد , وإذا رجع قالهن وزاد فيهم آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما خلف عبد على أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفرا)( ).
وإجماع علماء الإسلام على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر, والمغرب والعشاء في حال السفر وإن كان نازلاً في بلد غير مقيم فيه، ويصح هذا الجمع بالتقديم أو التأخير، أي تقديم صلاة العصر أو تأخير صلاة الظهر مثلاً.
وعن معاذ قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وآله وسلم عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يَجْمَعُ الصَّلاَةَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلاَةَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا)( )، وهذا الجمع من عمومات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
إن صيغة الجمع في الآية تأديب للمسلمين وتثبيت لهم في منازل الإيمان، وطرد والوحشة عنهم ومنع دبيب الشك والوسوسة إلى نفوسهم، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ أَبَدًا)( ).
بحث أخلاقي
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار ستر للعباد، فتفضل بحلمه وحجب أسرارهم، ومنع من هتك أستارهم وأمهلهم في ذنوبهم وخطاياهم عسى أن يتوبوا إليه سبحانه، فإن قلت لو كانت كل خطيئة يفعلها الإنسان تفتضح في الحال وتبدو على جبينه أو تكتب على باب داره لإمتنع الناس عن الذنوب والخطايا، والجواب من جهات:
الأولى : لا دليل على الملازمة بين كشف الذنوب وإجتناب الناس لها.
الثانية : لجوء الإنسان للتوبة إنما يكون بإختياره مع تقريبه لها بلطف من عند الله سبحانه .
الثالثة : إن الله عز وجل يحب عباده , وستره لذنوبهم من حبه لهم ورأفته بهم، قال تعالى[وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ]( ).
الرابعة : دعوة الناس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحثهم على التناجي بالتوقي من الذنوب والسيئات , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله رحيم يحب الرحيم ، يضع رحمته على كل رحيم. قالوا: يا رسول الله إنا لنرحم أنفسنا وأموالنا وأزواجنا. قال: ليس كذلك ولكن كونوا كما قال الله{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم})( ).
الخامسة : يريد الله عز وجل الخير والثواب العظيم للناس إذا ندموا ورجعوا إلى جادة الهدى.
السادسة : تجلي مصاديق قانوني الحلم والإمهال اللذين تتقوم بهما الحياة الدنيا، قال تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ]( ).
والتكذيب بالتنزيل والنبوة ظلم للنفس والغير، فجاءت آية البحث للإخبار عن حقيقة وهي إنقطاع دابر الذين ظلموا، وأن الظلم سرعان يزول وينقرض، وأبى إلا الله إبقاء شواهد تدل على قبح الظلم، وأمارات تؤكد زوال أهله وسلطانهم.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله عز وجل قال: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)( ).
إن التكذيب بالآيات خلق مذموم وإضرار بالذات والمجتمع، ونعت لئيم يورث الخصومات والعداوات، ويأتي بالنكبة والدمار ويسبب الحسرة والحرمان من النعم , بدليل قوله تعالى[فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] إذ تخاطب الآية المسلمين مع الشهادة لهم بالتنزه عن التكذيب بالآيات، وتبين لهم وللناس أن عاقبة المكذبين لم تكن وفق قاعدة السببية وقانون العلة والمعلول بل ينزل بالبلاء ببطش ونقمة من عند الله على نحو دفعي وقاهر لا تنفع معه الحيلة الفردية والنوعية.
وتؤسس آية البحث لمدرسة أخلاقية وهي عدم الأمن من بطش الله وإن التعدي والظلم والتكذيب يقرب الأجل , ويمحق النعمة فيأتي العذاب بقحط عام، وحروب طاحنة، وأمراض مميتة، وفيضان جارف، وصواعق من السماء، وغيرها من صنوف العذاب التي لا يعلمها إلا الله فقد يتقي الناس من أسباب للهلكة محتملة أو جاءت على أمم أخرى معاصرة أو منقرضة، ولكن الله يستحدث للمكذبين ما تعجز معه أوهامهم عن التدبير.
بحث بلاغي
من أنواع البديع (الإلتفات) وهو نقل الكلام من لغة الخطاب إلى الغائب أو من المتكلم إلى الخطاب أو تتحدث عن موضوع بما يفيد تمام الكلام عنه، ثم تعود لذكره، كأنك تلتفت إليه وتريد زيادة البيان فيه، ومنه قوله تعالى[لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى]( ).
وذهب السكاكي إلى معنى أعم في الإلتفات بأن يعبر بأحد الطرق الثلاث: التكلم والخطاب والغيبة عما عبر عنه بغيره، أو أن الأصل والمقتضى أن يعبر عنه بطريقة أخرى من هذه الطرق، ومنهم من إستدل بقوله تعالى[قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( ).
وقوله (مقتضى الظاهر) تجرأ وتكلف وإن بيّن العلة والدلائل إحاطتهم بمعاني الظاهر أيضاً.
وجاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية، والكلام عن أمر غائب من غير أن تغادر صيغة الخطاب وتلك آية في بديع القرآن فقوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ] يتضمن الخطاب العام والخاص، العام للناس جميعاً وللمسلمين على نحو خاص.
وفيه آية في دعوة الناس للإصغاء للقرآن والتدبر في معانيه ودلالاته، فلا يظن فريق أو طائفة من الناس أنهم غير مخاطبين في القرآن، أو أن موضوعاته وأحكامه غير شاملة لهم، بل ينصتون له فيجدون الحلاوة في ألفاظه والعذوبة في إنتقاله من صيغة إلى أخرى في الكلام ليكون هذا الإنصات مقدمة ومناسبة للتفكر في مضامين كلماته، وهو من أسرار عجز كفار قريش عن منع أبنائهم وبناتهم عن الإستماع إلى القرآن، ومفاجأتهم بدخول الإسلام، رغم عتو كبار المشركين وعناد الآباء.
فنضيف مسألة لمعاني ومنافع (الإلتفات) بأنه دعوة للناس لدخول الإسلام بالإنصات للقرآن في تنقله في ضروب.
ومن منافع الإلتفات إصغاء المأمومين إلى الإمام عند القراءة وإستحضار الذهن للإنتقال مع مضامين الآية، والملل إلى النفس.
لقد إنتقلت آية البحث من الحديث عن الماضي وقصص التأريخ الجامع لمناهج الخير والشر إلى الأمر إلى المسلمين بالسير في الأرض وهل يكون هذا السير جزءً من التأريخ وموضوع السنن الجواب نعم، فمن سنة أجيال[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، السير في الأرض والتدبر في أحوال الأمم بما تحكيه آثارهم.
فجاءت بداية الآية عن قصص الماضيين ووسطها خطاب وأمر للمسلمين، وخاتمتها عن آثار المكذبين من الأمم السابقة مع طراوة ألفاظ الآية، ولطافة الإنتقال من صيغة إلى أخرى وإستحضار الشواهد عن السنن والمناهج في الذهن والجمع بينها وبين الشواهد على أرض الواقع من الأطلال والآثار.

بحث بلاغي (الإدماج)
من البديع (الإدماج) وهو لغة الإيهام وإدخال شيء في ثنايا شيء آخر كما يقال: أدمج الشيء في ثوبه إذا لفه فيه)( )، وهو قصد ظاهر بالكلام مع إدماج كلام آخر في طياته، أو إدخال وجه من وجوه البديع في آخر، وليس من حصر لمعاني الإدماج في القرآن لإحاطة كلماته المحدودة باللامحدود من المعاني والدلائل والوقائع.
ولا تكاد آية تخلو من الإدماج ووجود أغراض ومقاصد سامية غير المعنى الظاهر من اللفظ القرآني، فتأتي الآية بالثناء على أهل الإيمان من الأمم السابقة مثلا ليكون فيه مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين لتعاهد الإيمان.
الثانية : حث الناس لدخول الإسلام ونبذ الشرك والضلالة.
الثالثة : بيان حقيقة وهي قيام الحجة على المكذبين بوجود أمم معاصرة لهم صدقت بالنبوة والتنزيل.
الرابعة : إنذار الكفار من الإقامة على الكفر.
الخامسة : البشارة للمسلمين بالفوز بذات الثناء السماوي الذي تغشى الأمم السابقة من المؤمنين
فأمرت آية البحث المسلمين بالسفر في الأرض، والتدبر في قصص الماضيين والشواهد التي تدل على صدق نزول القرآن بأخباره عن هلاك الظالمين بعذاب من عند الله , ولم يأت مثل هذا العذاب إلا بعد تخويف وإنذار ووعيد لتكون مدة الإنذار مناسبة للتوبة والإنابة وصرف البلاء، ففي قوم صالح لما عصوا أمر الله وقتلوا الناقة، نزل قوله تعالى[فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ]( )، فأخذتهم الرجفة أي إرتجاج الأرض بسبب الزلازل ونحوها وذكر أن صالحاً خرج في مائة وعشرة من المؤمنين ونزلوا رملة فلسطين وقيل تباعدوا عن قومهم بحيث أمنوا من العذاب من غير أن تغيب ديارهم عن أبصارهم، وفي قول أن صالحاً سكن مكة ودفن فيها.
وعن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر قام فخطب الناس فقال : يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات ، فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله إليهم الناقة ، فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم وردها، ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام .
وكان وعداً من الله غير مكذوب ، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلاً كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله من عذاب الله . فقيل : يا رسول الله من هو؟ قال : أبو رغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه)( ).
ولو أن قوم صالح بعد عقرهم الناقة وهي آية من عند الله لجأوا إلى الإستغفار والدعاء وأظهروا الندم فهل ينزل بهم العذاب.
الجواب إن الله هو الغفور الرحيم لذا ذكرت الآية تمتعهم بقوله تعالى(تمتعوا في داركم) وبدليل قوم يونس حينما لجأوا إلى الدعاء والإستغفار.
وأخرج ابن أبي حاتم أن الحذر لا يرد القدر وإن الدعاء يرد القدر، وذلك في كتاب الله: {إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي})( ).

وعدم التقدير في الصناعة النحوية أولى من التقدير، وعلى هذه القاعدة جمهور النحويين , ولو قلنا أن الفاء في (فسيروا) بمعنى (من أجل) فهل يصح، الجواب لا، لأن الأمر للمسلمين بالسير في الأرض والنظر في الآثار أعم من أن يختص بخلو وإنقراض سنن ومذاهب فيها من جهات:
الأولى : كفاية آية البحث بالإخبار عن هذا الإنقضاء وعلى نحو القطع والجزم والتقرير، إذ أن الخبر القرآني لا يحتمل إلا الصدق، إستثناء ورفعة وسمواً عما يذهب إليه المناطقة من التفصيل بأن الخبر يحتمل الصدق والكذب.
الثانية : الأغراض الحميدة من السفر متعددة منها: 1- الغزو، 2-الهجرة في سبيل الله، 3- التجارة والكسب، 4- الفرار من القوم الظالمين، 5- الدفاع عن الثغور الإسلامية، 6- أداء الحج والعمرة وزيارة المسجد النبوي.
الثالثة : إرادة الندب في السير والذهاب في الأرض، والمعنى الأعم منه فيشمل وجوب السير أو إباحته بحسب الموضوع ولتبعية الحكم للموضوع.
بحث أصولي
يتجلى في الأوامر الإلهية قانون كلي من وجوه:
الأول : إمكان تهيئة المحل لإتيان الفعل.
الثاني : ان الحكم مطلقاً لله عز وجل وفي التنزيل[أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ]( ).
الثالث : تأكيد وجوب عبادة الناس لله عز وجل.
الرابع : الأوامر الإلهية مصداق لفلسفة الإختيار في الحياة الدنيا.
الخامس : ترتب الثواب على طاعة الأمر الإلهي والعقاب على مخالفته.
السادس :وجود أمة في كل زمان تمتثل للأمر الإلهي وإلى يوم القيامة، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، فيتضمن قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، مسائل :
الأولى : أداء الصلاة المتعددة في كل يوم.
الثانية : الوجوب العيني للصلاة بتوجه الخطاب إلى المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
الثالثة : تعيين نصاب مخصوص للمال الذي تترتب عليه الزكاة، ليكون بين الصلاة والزكاة عموم وخصوص مطلق فالذي يدفع الزكاة يؤدي الصلاة وجوباً، وليس كل من يقيم الصلاة يخرج الزكاة لتخلف شطر من المسلمين عن إمتلاك النصاب.
الرابعة : أهلية المسلمين لتلقي الأمر المتعدد في آن واحد، وتلقيه بالعمل بأطرافه كلها من غير ملل أو ضجر.
الخامسة : إسقاط الواجب بالأداء.
السادسة : التخفيف عن المعذور بأداء الصلاة بالكيفية التي يقدر عليها.
السابعة : تجلي منافع الأمر الإلهي للمسلمين مجتمعين ومتفرقين.
الثامنة : الإمتثال للأمر الوارد في القرآن والسنة من مصاديق قوله تعالى[أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] ( )، وفي قوله تعالى[فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ]( )، قيل (إذا انقسم الامر إلى مهدد عليه، وغير مهدد، وجب اعتقاد الوجوب فيما هدد عليه، دون غيره( ).
ولا دليل على هذا التفصيل فلا ملازمة بين الوجوب والتهديد، فان قلت إن آية البحث فيها أمران [فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا] وليس فيها تهديد مما يدل على عدم الوجوب , والجواب هذا صحيح ولكنه ليس قاعدة كلية، وأين الشواهد من الأوامر التي يتضمن الواحد منها التهديد وعدمه ,ويأتي الوجوب في القرآن من غير تهديد كما في فريضة الصيام، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( )، ثم جاء الترغيب والوعد الكريم من وجوه:
الأول : بيان قلة أيام الصيام في علم الله، بقوله تعالى[أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ]( )، وإرادة التخفيف عن المسلمين في الصيام.
الثاني : إستثناء المريض والمسافر , وحضور قاعدة نفي الحرج في الدين.
الثالث : الوعد بالثواب على الفدية والبدل في شهر رمضان.
الرابع : أفضلية الصوم وتجلي النفع العظيم بالصيام بقوله تعالى[وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
الخامس : تعيين أوان الصوم بآية كونية ظاهرة للعيان وإمكان رؤية الناس لها، وعجز الناس والطواغيت عن حجبها، قال تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، ويمكن تشريع قانون في المقام وهو إنتفاء الجهالة والغرر في باب العبادات.
السادس : ترغيب المسلمين بالصيام والأخذ بالرخصة بالإفطار مع العذر، قال تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
السابع : بيان عظيم شأن الصيام في الشريعة الإسلامية.
الثامن : مجئ أوامر متعددة في ثنايا الأمر بالفريضة الواجبة كما في قوله تعالى[وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ]( ).
التاسع : نزول رحمة الله بالمسلمين باقتران الغبطة والسعادة والنفع الخاص مع أداء الفريضة إذ أخبر الله عز وجل عن حلية وطئ المسلم لزوجته ليلة الصيام وأثناء شهر رمضان كله، وكان بالإمكان بيان جوازه بالسنة النبوية ولكن الله عز وجل (رؤوف رحيم) حينما يمتثل العبد لأمره تتوالى عليه النعم.
والمراد من الندب هو مرتبة من الأمر يكون الإمتثال فيها أقل درجة من الفرض والواجب، فالمندوب هو الذي يكون فعله خير من تركه، وفي فعله الأجر والثواب، ومن تركه من غير عمد ورغبة عنه فلا إثم عليه، ويدخل في المندوب التطوع في الصالحات.
والسير في الأرض مندوب ويمكن القول أيضا أنه واجب ولكنه من الواجب الكفائي.

بحث منطقي
الدلالة لغة مصدر دله على الشئ يدله إذا هداه وأرشده إليه، والجمع الدلالات والدلائل، ومنها أشتق الدليل وهي ما يوجب إدراك شئ بسبب إدراك شئ ملازم له، ويسمى الأول دالاً والثاني مدلولاً فاذا سمعت صوت المؤذن للصلاة ينتقل ذهنك إلى أداء الفريضة وموضع أدائها كالمسجد، وفيه ثلاثة أمور :
الأول : الدال: وهو صوت المؤذن، قال تعالى[إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] ( ).
الثاني : المدلول عليه: دخول وقت الصلاة.
الثالث : الدلالة : إيجاب إدراكك وجوب أداء الصلاة والمبادرة إليها ويمكن أن يؤتى بمثل آخر بأن يجعل هلال رمضان هو الدال.
وهناك ثلاثة إصطلاحات مقتبسة من مادة واحدة وهي:
الأمر الأول : الدلالة: يقال دليل بين الدلالة، وإصطلاحاً الدلالة ما يقتضيه اللفظ من المعنى، وقد تقدم في أجزاء سابقة البيان والمثال لكل من أقسام الدلالة الوضعية اللفظية وهي:
1- دلالة المطابقة وهي التي تدل على إيفاء اللفظ بتمام المعنى الموضوع له.
2- دلالة التضمن: وهي إفادة اللفظ جزء معنى الشئ كما في ذكر الركعة للدلالة على الصلاة أو السجدتين للدلالة على الركعة الواحدة.
3- دلالة الإلتزام، وهي دلالة اللفظ على ما يلازمه في الوجود الذهني كما في ذكر الوحي للدلالة على نزول القرآن، ودلالة ذكر معركة بدر على إنتصار المسلمين وهم في حال قلة في العدد والسلاح.
ويمكن تأسيس قانون جديد في علم المنطق وهو ذات اللفظ القرآني يفيد الدلالات الثلاثة أعلاه فقوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( )، إخبار عن حقيقة مضي مذاهب وسنن في الأرض قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , أما الدلالة التضمنية لهذه الآية فهي من وجوه:
الأول : بعثة الأنبياء ودعوة الرسل للناس.
الثاني : الإختلاف في مذاهب ومشارب الناس.
الثالث : توثيق القرآن لتأريخ الأمم السابقة.
ومن الدلالة الإلتزامية في الآية أمور منها:
الأول : تفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم لأحوال الأمم.
الثاني : إنذار الكفار والمنافقين بأن الله عز وجل يعلم بهم ويفضح سوء فعلهم.
الثالث : المسلمون أمة واحدة، يتلقون الأخبار القرآنية مجتمعين ومتفرقين مثلما يتلقون الأوامر والنواهي.
الأمر الثاني : الدليل وهو المرشد، ومنه الدليل الذي يستدل به لإستبانة الطريق في الفلاة المترامية الأطراف الذي يستاق التربة أي يشمها، ليعلم أنه على هدى أم ضل الطريق قال تعالى[أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً]( )، وجمع الدليل أدلة.
كدلالة لفظ (حاتم) على شخص يتصف بالكرم كقولك (تغذينا عند حاتم).
وكلمة حاتٍم أستعملت في المعنى الملازم للمعنى الذي وضع له اللفظ وهو حاتم الطائي.
شرط الدلالة الإلتزامية: يشترط في استعمال الألفاظ للدلالة الإلتزامية أن يكون السامع عالماً بالملازمة بين المعنى الذي وضع له اللفظ وبين المعنى اللازم له الذي استعمل فيه اللفظ.
والدليل في الإصطلاح هو الذي يلزم من العلم به العلم بأمر آخر يكون مدلولاً له، وقيل هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
الثالث : الأمر الإستدلال، وهو لغة إستفعال من إستحضار الدليل، والسبيل الهادي إلى المطلوب، ويقال : إنه بحاجة إلى إستدلال أي إلى برهان وإقامة الدليل.
والإستدلال المنطقي فرع من علم الرياضيات، ويوظف لإقامة الحجة والبرهان على مسألة مخصوصة، أما الإستدلال في علم الأصول فيطلق أحياناً على ذكر الدليل سواء كان نصاً أو إجماعاً أو غيرها، ويقال: وجد السبب فثبت الحكم، وإنتفاء المشروط بانتفاء شرطه.
وبخصوص آية البحث فهي الدال , اما المدلول عليه فهو مرور أحقاب من الناس على الأرض وتعدد مشاربهم ومذاهبهم، أما الدلالة فهي كثيرة ومتعددة منها إدراك المسلمين لأمور:
الأول : نزول القرآن من عند الله.
الثاني : آية البحث من عند الله.
الثالث : القرآن علوم مستحدثة في الأرض.
الرابع : مضامين آية البحث إشراقة سماوية على علم التأريخ، وضابطة لمبادئه، وتأسيس لقواعده بما يمنع من الزيغ والتحريف والشطط فيه، إذ أنها تثبت قانوناً وهو هلاك الظالمين الذين أصروا على التكذيب بالآيات.
تنقسم الدلالة إلى :
الأول : الدلالة العقلية اللفظية مثل دلالة سماع صوت المؤذن (قد قامت الصلاة) على إقامة صلاة الجماعة.
الثاني : الدلالة العقلية غير اللفظية: مثل رؤية الدخان على وجود النار، ورؤية المنارة ودلالتها على المسجد.
الثالث : الدلالة الطبعية اللفظية مثل دلالة لفظ أخ على التألم.
الرابع : الدلالة الطبعية غير اللفظية مثل إحمرار الوجه عند الخجل والحياء، وإصفراره عند الخوف والفزع.
الخامس : الدلالة الوضعية اللفظية مثل: دلالة الألفاظ على معانيها كدلالة لفظ(قلم) على معناه.
ويندرج موضوع الدلالات ضمن طرق الإستنباط أو القواعد الأصولية وهو من مباحث أصول الفقه، وتنقسم الدلالة عند الأصوليين إلى أقسام منها:
الأول : الدلالة الواضحة ومن وجوهها النص والمحكم والظاهر.
والمحكم هو اللفظ المفرد الذي يدل على معناه دلالة واضحة ولا يحتمل النسخ، والنص هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً ولا يقبل التأويل المتعدد والمتباين، وبين المفسَر والنص عموم وخصوص مطلق، إذ أن المفسر يتضمن بذاته معنى تأويله وتفسيره وانه أظهر في الوضوح من النص، ومنهم من لم يذكر المفسر وإكتفى في المقام بذكر النص، والظاهر هو المعنى الراجح للفظ مع وجود معنى آخر له أدنى منه رتبة .
والمتشابه ما إستأثر الله عز وجل بعلمه، والذي يستقرأ مع الجمع والتداخل بين الآيات ومعانيها , والمجمل وهو الذي يحتمل معنيين أو معان متعددة.
والخفي هو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة واضحة ولكن طرأ عليه من غير صيغته ما جعل إنطباقه على بعض مصاديقه لا يخلو من خفاء ويستلزم التحقيق والتأمل لإزاحة هذا العرض أو أثره , والمشكل الذي لا تدل صيغته على المراد منه وإنما يحتاج إلى قرينة خارجية , ومنه اللفظ المشترك الذي يدل على معنيين أو أكثر
الثاني : الدلالة الخفية ومنها المتشابه والمجمل والمشكل والخفي.
ومنهم من إختصر على النص والظاهر في الأول، وعلى المجمل والمتشابه في الثاني .
ونسب إلى المتكلمين من الأصوليين تقسيم الدلالة إلى قسمين هما:
الأولى : دلالة المنطوق: التي تتجلى من ظاهر اللفظ ويكون المراد منها واضحاً بمجرد سماع اللفظ، ومنه الدلالة المطابقية والدلالة التضمنية مثل قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ).
الثانية : المنطوق غير الصريح وينقسم إلى دلالة الإقتضاء أي أن المدلول مضمر للتسالم بصدق المتكلم أو للمصداق الواقعي للملفوظ به كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ( ).
فيدل الحديث في مقتضاه على رفع المؤاخذة والعقاب على كل من الخطأ والنسيان والإكراه.
وإذا كان المدلول غير مقصود للمتكلم فتسمى الدلالة دلالة الإشارة، ومن دلالة المنطوق غير الصريح دلالة الإيماء والتنبيه وهي إقتران الحكم بوصف يكون تعليلاً له , كما في قوله تعالى[إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ]( )، أي لبرهم وصلاحهم، ومنه قوله تعالى في آية البحث [فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] وفيها بلحاظ دلالة الإيماء والتنبيه مسائل منها:
الأولى : إباحة سير المسلمين في الأرض، من مصاديق وراثتهم للأرض، قال تعالى[وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا]( ).
الثانية : الآية شاهد على نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه وظهور كلمة الحق، وعمارة المسلمين الأرض بالتقوى، وخزي وإندحار أعدائهم، قال تعالى[وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ]( ).
الثالثة : تحقق مصداق بشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعن ثوبان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: زوى( ) لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها( ).
وظاهر الحديث على أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رأى إنزواء الأرض حقيقة وفي اليقظة وليس في المنام، وهو من بديع قدرة الله وملكه للسموات والأرض، وعظيم شأن خاتم النبيين، وفيه ثناء ووعد كريم للمسلمين ليكون إنزواء الأرض هذا مقدمة لسياحة المسلمين في الأرض وهم في حال التدبر والتفكر.
قانون النجاة في السفر
من مصاديق ملك الله للأرض والسماء وقوع الأحداث فيها بمشيئته وإرادته تعالى , فلا يقع أمر خاص أو عام إلا أن يأذن الله، قال تعالى[وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ]( )، لتستنبط حقيقة في المقام وهي تجلي اللطف الإلهي بالناس في حال الحضر والسفر، ولا يختص هذا اللطف والمدد بأهل الإيمان فيشمل الناس جميعاً، ولكن المؤمنين يفوزون بالنصيب الأوفر، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
ومن اللطف الإلهي هنا دفع البلاء عن الناس، وتقريبهم إلى منازل الطاعة , وفي السياحة في الأرض بقصد التفكر والتدبر في عواقب الأمور أمور:
الأول : الإمتثال للأمر الإلهي الوارد في هذه الآية (فسيروا).
الثاني : طاعة الله في المقاصد الحميدة للسير في الأرض بالتدبر في الشواهد والأطلال كمعلول للجحود الذي أقام عليه أهلها حتى مغادرتهم لها قهراً، ولا تنحصر هذه المغادرة بترك عالم الدنيا إلى الآخرة، بل تشمل ترك النعم والجنات والقصور إلى مواضع أخرى تكون الإقامة فيها خالية من أسباب العز والغنى والجاه التي كانوا عليها، وقد تكون الدائرة على الكفار فيقعون في الأسر وتصير أموالهم غنائم للمؤمنين، وفيه موعظة وآية من عند الله في ملكه، وتدل الآية على أن الله يمهل الكفار ولكنه لا يتركهم في منازل الجاه والشأن والبسطة في المال.
نعم قد يترك المؤمن ماله وأرضه ويفارق أحبته، ولكنه بعين الله، وتتنزل عليه الرحمة بمشيئة وإرادة الله عز وجل كما في الذين يخرجهم الظالم من ديارهم أو يضطرون إلى الخروج لصيرورته طريقاً لسلامة دينهم كما في المهاجرين من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين تركوا أموالهم لقاعدة تقدير الأهم على المهم من جهات:
الأولى : إحراز سلامة دينهم.
الثانية : الشوق للقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، وتلقي الأحكام وسماع آيات التنزيل من فيه المبارك.
الثالثة : نصرة الإيمان في المدينة، والدفاع عن بيضة الإسلام فما لبثت قريش أن جهزت الجيوش وتوجهت بعصبية الجاهلية لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في يثرب، فكان للمهاجرين الأثر البالغ في تحقيق النصر خصوصاً في بداية معركة بدر، وإضطرار قريش للفرار والهزيمة يومئذ الذي إستحق اسم يوم الفرقان , قال تعالى[يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، وفي حضور المهاجرين شحذ للهمم، وطرد للخوف والجبن، وبرزخ دون تأثير أهل النفاق، ومنعهم من صد الأنصار عن القتال.
وعن رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما أصبح الناس يوم بدر اصطفت قريش، أمامها عتبة بن ربيعة، و أخوه شيبة، و ابنه الوليد، فنادى عتبة رسول الله صلى الله عليه و آله فقال: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قريش، فبدر إليهم ثلاثة من شبان الأنصار، فقال لهم عتبة: من أنتم؟ فانتسبوا له، فقال لهم: لاحاجة بنا إلى مبارزتكم، إنما طلبنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصار: ارجعوا إلى مواقفكم، ثم قال: قم يا علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قاتلوا على حقكم الذي بعث الله به نبيكم. إذا جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله، فقاموا فصفوا للقوم، و كان عليهم البيض، فلم يعرفوا.
فقال لهم عتبة: تكلموا، فإن كنتم أكفاءنا قاتلناكم.
فقال حمزة:أنا حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، فقال عتبة:كفو كريم.و قال أمير المؤمنين عليه السلام:أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب.و قال عبيدة:أنا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.
فقال عتبة لابنه الوليد:قم يا وليد، فبرز إليه أمير المؤمنين وكانا إذا ذاك أصغر الجماعة سناً، فاختلفا ضربتين، أخطأت ضربة الوليد أمير المؤمنين عليه السلام، و اتقى بيده اليسرى ضربة أمير المؤمنين فأبانته، وقتل أمير المؤمنين الوليد.ثم بارز عتبة حمزة رضى الله عنه فقتله حمزة، و مشى عبيدة ـ و كان أسن القوم ـ إلى شيبة، فاختلفا ضربتين، فأصاب ذباب سيف شيبة عضلة ساق عبيدة فقطعه، واستنقذه أمير المؤمنين وحمزة منه وقتلا شيبة، وحمل عبيدة من مكانه فمات بالصفراء.
وهذه الصفحة من واقعة بدر من مصاديق آية البحث، إذ نفى دقائق معدودات أنفنت أسرة كلمة من كبراء قريش أصروا على التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشهروا السيوف تحدياً للحق والتنزيل[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
وكان المسلمون ينظرون لهم كما كان بنو إسرائيل ينظرون إلى فرعون وقومه والماء يستولي عليهم، وكذا كانت قريش تنظر وتشاهد الحال حيث أصابهم الهلع والفزع فانهزموا أمام المسلمين والملائكة لتستنبط منها مسألة وهي أن كل واقعة وكل حال من حالات سوء عاقبة المكذبين إنشطارية تنقسم إلى وقائع وشواهد ومصاديق متعددة.
وكان عدد المهاجرين يوم بدر سبعة وسبعين رجلاً، والأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلاً ومجموع أصحاب النبي يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر، ومعهم فَرسان، وسبعون بعيراً، فكان الرجلان والثلاثة يتعاقبون على ركوب بعير واحد.
أما المشركون فكان عددهم تسعمائة وخمسين رجلا، أي ثلاثة أضعاف عدد المسلمين، ومعهم مائتا فرس وسبعمائة بعير , ومع هذا كان الغلبة للمسلمين لتكون موضوعية جلية ظاهرة، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، وكان الأخ يقاتل أخاه، والأب يقاتل إبنه، فكان حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جيش المسلمين، وأخوه العباس بن عبد المطلب مع المشركين يوم بدر , وكان علي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخوه عقيل بن أبي طالب مع المشركين.
وكان أبو بكر مع المسلمين وإبنه عبد الرحمن مع المشركين، وقال العباس: يا رسول الله، قد كنت مسلما! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا( ).
ورأى علي عليه السلام أخاه عقيلاً في اسرى المشركين، فاعرض عنه، فقال عقيل: يا ابن ام، والله لقد رأيت مكاني.
وخاطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار قائلاً: إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم”. فقالوا: أموالنا بيننا قطائع( )، وفي الحديث مسائل :
الأولى : إنها دعوة نبوية للتكافل بين المهاجرين والأمصار.
الثانية : ندب الأنصار لإعانة المهاجرين ولا غرابة أن يؤاخي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين كل إثنين منهم.
الثالثة : فيه عز للمهاجرين، وزجر عن القول بأنهم عيال على الأنصار قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابعة : جهاد الأنصار بأموالهم، وإنفاقها في سبيل الله وتنشيط العمل والتجارة في المدينة.
الخامسة :الشهادة للأنصار بأنهم جاهدوا بأموالهم مع إطلالة العدو وزحف قريش عليهم، وخروجهم لميادين القتال، قال تعالى[) لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ]( ).
السادسة : بيان صفحة مشرقة من نصرة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإعانته على أعدائه، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: لم يأت أحداً بمثل ما جئت به إلا عودي)( ).
السابعة : بيان كيفية إيواء الأنصار للمهاجرين، وأثره في نصرة وتثبيت الإسلام، وصيرورتهم أسوة في التضحية والإيثار، قال تعالى[وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ]( ).
الثامنة : الشهادة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمهاجرين بأنهم تركوا أموالهم وأولادهم في سبيل الله، أي تخلوا عن مباهج الدنيا حبا لله ورسوله وجهاداً في سبيل الله.
وتبين نصرة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين أفضليته على الأنبياء السابقين، فقد هاجر إبراهيم عليه السلام ولاقى الأذى كما ورد في التنزيل[وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ]( )، وهاجر لوط عليه السلام كما في قوله تعالى[وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي]( )، وهاجر موسى عليه السلام بقومه هرباً من فرعون، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتلقاه الأنصار في بلدهم بالإيواء والنصرة.
وتتجلى في الإمتثال لقوله تعالى[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ] الحاجة للإستعانة بالله، والإستجارة به تعالى للحفظ والنجاة وحسن الإمتثال للأوامر الإلهية، وإمتناع المانع عن أداء الفرائض ويستحب تلاوة بعض السور والآيات القرآنية في السفر منها دعاء يونس وهو في بطن الحوت كما في قوله تعالى[لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ]( )، والتوسل إلى الله بصالح الأعمال التي قام بها العبد في حياته، كما في قصة أصحاب الغار، وهم ثلاثة رجال، خرجوا في سفر، فاتفق أن هطلت أمطار غزيرة، فالتجأوا إلى غار في جبل واستمر نزول المطر بقوة ليجرف السيل الصخور من أعلى الجبل، فانحدرت صخرة كبيرة فسدت عليهم باب الغار فصار من المتعذر عليهم تحريك الصخرة والخروج , وليس من أحد يعلم مكانهم أو يسمع استغاثتهم، ولا يستمع إستغاثتهم، ولو بحث عنهم قومهم لايهتدون إلى مكانهم ، لأن الأمطار والسيول محت آثار أقدامهم فانقطع الرجاء إلا بالله عز وجل، وهو من معاني الربوبية المطلقة له سبحانه.
وهل من معاني الحصر في قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، وكأن الإستعانة لا تصح إلا بالعبادة التي هي نوع توثيق وشهادة للعبد وقضاء حوائجه، وأن من خصائص المعبود الإستعانة به في السراء والضراء، وعند الرخاء والشدة، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله، لذا يمكن الإستدلال بالآية أعلاه على بطلان الشرك.
ومن معاني الربوبية لله عز وجل والإطراد فيها، أي في كل الأحوال والأزمان والأمكنة وتعدد الأشخاص أن الله هو الرب لا شريك له، ومن مصاديق الإطراد أن العبد يدرك في حال الإضطرار والعجز أنه لا ينجيه إلا الله قال سبحانه[وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ]( ).
جلس الثلاثة في الغار يتدبرون أمرهم، فاشار أحدهم بأن يتوسل كل واحد منهم بالله عز وجل بارجى وأحسن عمل صالح عمله في حياته بقصد القربة إلى الله، عظموا شعائر الله في الرخاء فرجوه في ساعة الكرب والضيق، إذ جاء في حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم
فقال رجل منهم اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا فناء بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الآخر اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
قال النبي صلى الله عليه وآله سلم : وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون( ).
ومن أسباب التوقي في السفر والسياحة في الأرض الإستعاذة من الشيطان لمنع الإفتتان، والسلامة من أدران النفس وأسباب الغواية، ومنها التوجه إلى الله عز وجل بالشكر على نعمة السفر ووسائله، وليكون هذا الشكر واقية من الهلكة , وباباً للمزيد من النعم، وفي التنزيل[سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ]( )، ويستحب تلاوة هذه الآية عند الشروع في السفر وركوب السيارة أو القطار أو الطائرة أو السفينة ونحوها من وسائط النقل، فما كان الإنسان مقرناً ومطيقاً وآمنا وغالباً على هذه الوسائل إلا بفضل الله سبحانه.
وأختتمت الآية أعلاه بالإقرار بالمحشر لأن الإنسان في سفره عرضة للحوادث وأسباب الهلكة وهي من أفراد موت الفجأة في هذا الزمان، وعن علي بن أبي ربيعة عن علي رضي الله عنه أنه أتي بدابة ، فلما وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فلما استوى على ظهرها قال : الحمد لله ثلاثاً والله أكبر ثلاثاً { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
ثم ضحك فقلت : مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ، ثم ضحك فقلت يا رسول الله : مم ضحكت؟ فقال : يعجب الرب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ، ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري( ).
وفي الحديث إرشاد وتعليم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين من وجوه :
الأول : بيان حقيقة وهي إنتقال الإنسان من موضع الى آخر بواسطة الدواب ووسائط النقل نعمة عظيمة.
الثاني : عدم إنحصار نعم الله عز وجل بالحضر والأكل والشرب، فتشمل وسائط النقل.
الثالث : دعوة أهل هذا الزمان لشكر الله عز وجل على وسائط النقل البرية والجوية والبحرية ولزوم تسخيرها في طاعة الله , ومنها التدبر في خواتيم الأعمال وهذا التدبر من مصاديق الشكر في قوله تعالى[وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ] ( )، وهل يصح زيارة بعض المتاحف بقصد الإمتثال لأمر الله في آية البحث[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] الجواب نعم، وفيه سعة ومندوحة للمسلمين والمسلمات.
الرابع : إبتداء الشروع بالسفر بذكر الله والإستغفار، وفيه نكتة وهي بيان التباين بين المسلم وغيره ممن صار البلاء والعقاب خاتمة لحياته وسلطانه.
الخامس : تلقي جميع المسلمين هذا الحديث بالقبول والمحاكاة في كل زمان وإلى يوم القيامة.
وعندما تناجى الكفار بالصدود عن تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن كما في قوله تعالى[لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ]( )، وكان المشركون يطردون الناس عنه ويقومون بالتصفير والتخليط في المنطق أثناء قراءته، كما ورد عن ابن عباس( ).
وتدل خاتمة الاية أعلاه على أن قريشاً ينوون الإجهاز على النبوة والرسالة من بدايات الدعوة في مكة، ويهيئون المقدمات ومنها منع الناس عن دخول الإسلام كيلا يزداد عدد المسلمين ويشق على قريش محاربتهم، وهل في أداء الحج مناسبة للإمتثال للأمر الوارد في الآية ورؤية الشواهد التي تدل على خزي كفار قريش الجواب نعم، وكذا بالنسبة لقطع المسافة بين مكة والمدينة والبالغة نحو 450 كيلو متراً والذي سلكه كفار قريش للزحف على المدينة ومحاولة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثلاث مرات:
الأولى : في السنة الثانية للهجرة إذ وقعت معركة بدر.
الثانية : في السنة الثالثة حيث جرت معركة أحد.
الثالثة : في السنة الخامسة في معركة الخندق.
كما زحف إبرهة بجيوش عظيمة من اليمن عن طريق الطائف سنة ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو (570) ميلادية لهدم الكعبة، وصرف العرب إلى كنيسة عظيمة بناها في صنعاء بعد أن استولت الحبشة على اليمن بعد حمير، إذ كان ذو نواس آخر ملوك حمير مشركاً وقتل أصحاب الأخدود من النصارى، قال تعالى[قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ] ( )، وعددهم نحو عشرين وأفلت أحدهم هو دوس ذو ثعبان فهرب إلى قيصر ملك الشام واستغاث به، فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة لنصرته لأنه أقرب لليمن، ولعله خشي على جنوده من حر الصحراء ومهاجمة القبائل العربية لهم بقصد النهب والنفير لوطئهم أرض الحجاز ونجد وهذه الخشية من المقدمات في قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوته وتبليغ القبائل وتدبرهم في معجزات نبوته بعيداً عن السلاطين ومن يحرضهم على الأنبياء.
فبعث معه ملكين إرباط وإبرهة فاختلف وتقاتلا ثم إتفقا على المبارزة فحمل إرباط على إبرهة فضربه بالسيف فشرم انفه وفمه وشق وجهة، وبادر عتودة مولى إبرهة على إرباط فقتله.
وبنى إبرهة كنيسة عظيمة مزخرفة بالذهب في صنعاء لم يّر مثلها في زمانها سماها العرب(القليس) لأن الذي ينظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه لإرتفاعها وعلوها، ثم نادى إبرهة في مملكته في اليمن بأن يتوجه العرب لحجها، وأحدث بها أحدهم.
وذكر مقاتل بن سليمان أن فتية من قريش دخلوها فأججوا فيها نارًا، وكان يومًا فيه هواء شديد فأحرقته، وسقطت إلى الأرض( ).
وقيل أن إبرهة ارسل من عنده رجلاً من بني سليم كان يتودد إبرهة إسمه محمد بن خزاعي ليدعو الناس للحج إلى الكنيسة، وحينما جاء لبني كنانة رماه أحدهم بسهم فقتله فغضب إبرهة ونوى هدم الكعبة وقد جاء القرآن بالدعوة لرؤية آثار إبرهة وأصحابه بقوله تعالى[أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]( )، وقد جاءوا بفيل عظيم الجثة يقال له محمود، ليهدم به الكعبة، بان تجعل السلاسل في الأركان وتوضع في عنق الفيل، ثم يزجر ليهوى الحائط دفعة واحدة، وقيل معه ثمانية أفيال، وقيل اثنا عشر فيلاً.
وفي طريق إبرهة تلقاه العرب بالقتال ولكنه كان يغلبهم مثل(ذو نفر) من أشراف اليمن إذ دعا العرب لقتال إبرهة ولكن إبرهة أسّره، وعرض له نفيل بن حبيب الخشعمي في قومه وقاتلوه، فهزمهم إبرهة، وأسر نفيل وتركه لم يقتله، وإستصحبه ليكون دليلاً له في أرض الحجاز، ولما دنا إبرهة من الطائف خرج إليه أهلها وهم ثقيف وصانعوه خيفة على بيت صمهم اللات، فأكرمهم وبعثوا معه (أبا رغال) دليلاً، وعندما أشرفوا على مكة تهيأ إبرهة لدخول مكة وعبأ جيوشه للزحف , فارسل الله عز وجل عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجر في رجله اليمنى، وآخر في رجله اليسرى أمثال الحمص والعدس ويهلك الذي تصيبه من جيش إبرهة، قال تعالى[وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ]( ).
وفي الآية أعلاه مسائل :
الأولى : ان التكذيب أعم من أن يختص بالنبوة والتنزيل والساعة بل يشمل البيت الحرام ومعالم الدين فلا غرابة أن يسمى كل من جبل الصفا والمروة من شعائر الله قال تعالى[إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( ).
الثانية : يشمل سوء عاقبة المكذبين آثارهم في الحروب ومواقع القتال وحال السفر وليس في أمصارهم وحدها وصيرورة قصورهم خرائب، إذ غرق فرعون وجنوده في البحر بعيداً عن دار مملكتهم لتبقى نساؤهم بلا رجال فيتزوجن العبيد، ويصبح هذا النكاح من سوء عاقبتهم.
الثالثة : شواهد سوء العاقبة ظاهرة للعيان حتى في أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : هربت قريش إلى رؤوس الجبال، وقامت باخلاء مكة عندما أشرف إبرهة عليها، وهو معتد ظالم، بينما زحفت بجيوشها على المدينة المنورة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع رؤيتهم للآيات والدلالات، في كلا الحالتين وهي على قسمين بينهما تباين موضوعي:
الأول : آيات هلاك إبرهة والظالمين.
الثاني : المعجزات التي جرت على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات نصره، فكان على قريش إختيار النجاة من سوء عاقبة المكذبين، فجاءت آية البحث لإنذارهم والناس من محاربة الإسلام.
وقد جاء بعد آيتين ما يدل على إرادة المسلمين في الخطاب في آية البحث ولزوم إتخاذها دليلاً على وجوب الصبر، وبرهاناً على حتمية الظفر والنصر على الكفار، إذ قال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]( )، وفيه مسائل :
الأولى : التضاد والتباين بين الإيمان والوهن.
الثانية : مثلما أصيب المسلمون بالجراح في المعركة فان الكفار أصيبوا بالجراح وتلقوا أسباب الأذى.
الثالثة : بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين وإيمانهم وقوتهم وصبرهم الذي هو سلاح إضافي يفتقر إليه عدوهم.
الرابعة : جراح المسلمين طريق إلى النصر والغلبة، وجراح الكفار مقدمة لهلاكهم لأن آية البحث تقول [فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] فقوله تعالى[فَانْظُروا] دلالة سلامة المسلمين في عقولهم وحواسهم وخروجهم من الدنيا بأحسن متاع وهو التقوى والعمل الصالح.
قانون سير المسلمين إلى المعارك
جاءت آية البحث خطاباً للمسلمين يتضمن في دلالته الثناء والوعد والفضل والفيض الإلهي بأنهم أمة باقية في الأرض تطلع على ما جرى وإنقضى من السنن فيها، وتضمنت الآية الأمر للمسلمين بالسير والسياحة النافعة في الأرض بما يفيد إكتساب المواعظ وزيادة الإيمان ورسوخه في النفوس، وتحتمل الآية وجوها:
الأول : إرادة سير المسلمين للمعارك والقتال .
الثاني : موضوع السير إلى القتال أجنبي عن الآية الكريمة، إنما تخص الآية حال السلم والأمن.
الثالث : السير للمعارك من مصاديق الآية الكريمة.
الرابع : إذا سار المسلمون إلى المعارك يدخل موضوع التدبر والتفكر في عواقب المكذبين من ضمن أغراض هذا السير.
الخامس : السير في الأرض مقدمة للجهاد ومناسبة لمعرفة أحوال البلدان.
السادس : السياحة رشحة من رشحات الجهاد الذي يأتي بالأمن والمندوحة والسعة.
والصحيح هو الثالث والرابع والخامس والسادس، وقد جاءت آيات مخصوصة بالجهاد والدفاع عن الإسلام , أما هذه الآية فمطلقة في كل الأحوال، ولو نوى المسلم الخروج والسفر للنظر والتفكر في عواقب المكذبين قربة إلى الله عز وجل وإمتثالاً للأمر الإلهي في هذه الآية فهل يصدق أنه سفر في سبيل الله ويكون له ثواب فيه.
الجواب فيه الثواب , ولكنه ليس من السفر في سبيل الله , وهو أدنى من مراتب الجهاد والدفاع عن الثغور، وأن النصوص الواردة في الخروج في سبيل الله تتعلق بحمل السلاح تعظيماً لشعائر الله، وهو سبحانه واسع كريم.
وورد(تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي وإيماناً بي وتصديقاً برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك والذي نفسه محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فأقتل في سبيل الله ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل)( ).
وتُعرف عاقبة المكذبين بالأخبار والروايات المتواترة، وقد تكون قريبة حاضرة يحس بها المسلمون ويرونها بأبصارهم، وإذا كان موضع معركة بدر يبعد 160 كم عن المدينة المنورة، وجبل أحد لا يبعد عن المدينة، فإن معركة الأحزاب جرت حوالي المدينة المنورة وفي أطرافها وبأمكان أهلها رؤية آثار المكذبين من قريش لأنهم جاءوا بعشرة آلاف مقاتل، وهو عدد كبير آنذاك وأحاطوا بالمدينة وحاصروها وحاولوا دخولها عنوة.
قال الشافعي: وبارز علي يوم الخندق عمرو بن عبد ود لأنه خرج ينادي من يبارز؟ فقام له علي رضي الله عنه، وهو مقنع بالحديد، فقال: أنا له يا نبي الله. فقال: ” إنه عمرو إجلس ” فنادى عمرو ألا رجل يبارز. ثم جعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم يدخلها؟ أفلا يبرز إلي رجل منكم؟ فقام علي رضي الله عنه، وقال: أنا له يا رسول الله، فقال له: إنه عمرو اجلس. فنادى الثالثة وذكر شعراً فقام علي وقال: أنا له يا رسول الله. قال: إنه عمرو قال: وإن كان عمراً فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى إليه حتى أتاه، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: غيرك يا ابن أخي، أريد من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك. فقال علي رضي الله عنه: لكني والله لا أكره أن اهريق دمك فغضب، ونزل عن فرسه وسل سيفه كأنه شعلة نار
ثم أقبل نحو علي رضي الله عنه مغضباً فاستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو في الدرقة فقدها، وأثبت فيها السيف وأصاب رأس علي فشجه، وضربه علي رضي الله عنه على حبل عاتقه فسقط قتيلاً، وثار العجاج. وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرف صلى الله عليه وسلم أن علياً قد قتله.
وجاء في بعض الروايات أن علياً رضي الله عنه لما بارز عمراً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” اليوم برز الإيمان كله للشرك كله ” وكان سيف علي رضي الله عنه يقال له ذو الفقار، لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر، وكان لمنبه بن الحجاج، سلبه منه النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وأعطاه علياً رضي الله تعالى عنه وكان. من حديدة وجدت عند الكعبة من دفن جرهم، أو غيرهم، وكانت صمصامة عمرو بن معد يكرب من تلك الحديدة أيضاً)( ).
لم يكن موضع بدر وأحد وحدهما شاهدين على خزي وسوء عاقبة كفار قريش، بل كانت كل من الواقعتين وهلاك رؤساء الكفر والشرك فيهما سبباً للخزي، فأخذت قريش تشعر بالذل بين القبائل، وأدركت أن تجارتها صارت مهددة في الطريق، وأن هيبتها سقطت وأظهرت القبائل العربية وأهل مكة العناية بأخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودلائل آيات القرآن وما فيها من الأسرار والإعجاز والمعاني التي تدل على أنها فوق كلام البشر.
فقامت قريش بتجهيز العدة لغزو المدينة والقضاء على الإسلام , وأرادت إعادة المهاجرين أسرى إلى قهر وسطوة قريش، فوسعت من تحالفها، وكان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عيون في مكة يبعثون له بأخبار قريش فبلغه ما تعد له قريش من الحشود العظيمة لغزو المدينة، فشاور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأمر أصحابه ، قال تعالى[وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]( ).
فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق عميق حول المدينة مع وضع نقاط ونوع أبراج لمراقبة الخندق، وإبتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه بحفر الخندق ليتبعه الصحابة بهمة عالية مع قلة وبدائية أدوات العمل والحفر ونقص المتاع والمؤون إلا الإيمان، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( )، ووصلت جيوش قريش إلى مشارف المدينة المنورة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة والموافق سنة 627 ميلادية ويتقدمهم أبو سفيان ليجدوا أنفسهم عاجزين عن دخول المدينة بسبب الخندق الذي حفره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون، وهل حفر هذا الخندق رحمة بالمسلمين وحدهم.
الجواب لا، فهو رحمة للناس من جهات:
الأولى : إنه رحمة بكفار قريش كيلا يباشروا القتال والتعدي في معركة الخندق وصحيح أن عددهم أضعاف عدد المسلمين، ولكن النصر يأتي للمسلمين بمدد وعون من الله، وهذا المدد سماوي بنزول الملائكة كما في معركة بدر وأحد، وبالمدد المادي والبشري وقتال النساء والأطفال من أهل المدينة وسوف تبقى معركة بدر شاهداً على نصر المسلمين بالمعجزة , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثانية : إنه رحمة بأهل المدينة من الأنصار والمهاجرين واليهود وغيرهم بأن لا يستبيح الكفار المدينة، قال تعالى[إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( )، وكان الغزو والنهب سائداً في الجزيرة العربية.
الثالثة : الخندق رحمة بالروم والفرس بالإمتناع عن غزو المسلمين في عقر دارهم إذ لا طاقة لهم بالبقاء مدة شهر أو أكثر في أطراف المدينة وشدة الحر وقلة المياه والزاد.
الرابعة : في حفر الخندق رحمة بالقبائل في الجزيرة بالكفر والإمتناع عن نصرة قريش في التعدي على المسلمين.
الخامسة : في عودة قريش منكسرة ترغيب للناس بالإسلام.
السادسة : حفر الخندق نوع طريق لحفظ الإسلام، ومنع إجهاز المشركين على نواة الدولة الإسلامية.
ويحتمل حفر الخندق حول المدينة بلحاظ الآية أعلاه ووقائع معركة بدر وجوهاً:
الأول : حفر الخندق من التقوى وخشية الله.
الثاني : قيام المسلمين بحفر الخندق من الشكر لله عز وجل على نعمة النصر في معركة بدر.
الثالث : ليس من صلة بين حفر الخندق يوم الأحزاب وبين مضامين التقوى والشكر لله الواردة في آية (بدر).
والصحيح هو الأول والثاني من جهات :
الأولى : أظهر المسلمون الحكمة والعقلائية وتركوا لكفار قريش التدبر بالإمهال.
الثانية : سلامة المسلمين من خوض القتال مع كثرة العدد.
الثالثة : نجاة المدينة من إجتياح العدو والكافر لها، قال تعالى[إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( ).
الرابعة : حفر الخندق وسيلة وحرز من سفك الدماء، وعندما أخبر الله عز وجل الملائكة بجعل خليفة في الأرض إحتجوا كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، فقال الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علم الله في المقام إجتناب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سفك الدماء من الطرفين، مع إدراكهم لإستصحاب نزول الملائكة لنصرة المسلمين كما في بدر وأحد، بل من باب الأولوية إذ أنهم في معركة الخندق أكثر عزة مما كانوا عليه قبلها , فمن التقوى والشكر لله عز وجل التنزه عن الغرور بعد النصر يوم بدر وأحد.
الخامسة : في حفر الخندق آية ظاهرة، ودعوة للإتعاظ والتوبة والإنابة، فقد تحملت قريش وغطفان والأحباش أذى السفر من مكة إلى المدينة وخسروا الأموال وعطلوا الأعمال وعادوا بخفي حنين، وفيه بعث لليأس في نفوسهم.
السادسة : لم ينحصر موضوع الخندق بالمسلمين والكفار، فيشمل اليهود وأهل القبائل، فهو درس بليغ للناس، ودعوة للإسلام، وحث على عدم التعدي على المسلمين، وبعث للفزع في نفوس الكفار من تعدد صيغ مواجهة المسلمين لمن يريد قتالهم والتعدي عليهم، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
لقد أراد الله عز وجل لحفر الخندق وآثاره أن يكون من مصاديق آية البحث وقوله تعالى[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( )، وإلى يومنا هذا يشتاق المسلم الذي يأتي إلى المدينة المنورة لزيارة مسجد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرؤية الخندق وبقاياه وآثاره وكيف أن الله عز وجل أخزى الكافرين بهزيمتهم ورجوعهم خائبين.
وإلا فان الخندق الذي حفره المسلمون لا يكفي وحده لمنع عشرة آلاف مقاتل من إجتياحه لولا رحمة الله وإصابة الكفار بالوهن والفزع، وهو من مصاديق المدد الإلهي للمسلمين بأن جعل الكفار يجفلون عن العبور، وقد عبر بطلهم عمرو بن ود العامري مع عدد من الكفار فكان هلاكه من مصاديق قوله تعالى[فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ].
وليكون في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(برز الإيمان كله للشرك كله) نوع إعجاز من الوحي بأنه لن تحدث مبارزة وقتال بعد هذه المبارزة في معركة الخندق ولا بعدها، وفعلاً فبعد قتل الإمام علي عليه السلام لعمر بن ود العامري إنسحبت جيوش قريش ثم تم صلح الحديبية في السنة السادسة، ثم جاءت عمرة القضاء.
وسميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة من قريش بعد حجبهم النبي وأصحابه، وليس من قضاء ما وجب عليهم وقد تخلف عدد من الصحابة عنها من غير ضرورة، ثم فتح مكة في السنة الثامنة.
فانهزم الشرك كله من سوح القتال ساعة قتل عمرو بن ود العامري وتلك آية ومصداق لقوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، ليكون سوء عاقبة المكذبين من قريش مقدمة لسير المسلمين لرؤية الأعم من سوء عاقبة المكذبين، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
تقسيم جديد في علم الأصول
يأتي الفرض على قسمين:
القسم الأول : الواجب العيني , ويكون المكلف منظوراً إليه في ذات الأمر، ويمكن تقسيمه إلى أقسام:
الأول : الواجب الخاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كصوم الوصال بصوم يومين والليلة الوسطى التي بينهما، أو صيام ثلاثة أيام والليلتين اللتين بينهما.
الثاني : الواجب الشخصي بكفاية إتيانه مرة واحدة كما في أداء الحج، وعن علي عليه السلام : لما نزلت[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ) قالوا : يا رسول الله في كل عام ؟ فسكت . . قالوا : يا رسول الله في كل عام؟ قال : لا . ولو قلت نعم لوجبت . فأنزل الله { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم }( )، وعن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج . فقام الأقرع بن حابس فقال : أفي كل عام يا رسول الله؟ قال : لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها . الحج مرة فمن زاد فتطوّع( ) .
وفي الحديث مسائل :
الأولى : الدلالة على موضوعية السنة النبوية في تكرار الواجب.
الثانية : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يفرض على المسلمين ما لم يأمر به الله عز وجل، ولا ما فيه مشقة عليهم.
الثالثة : تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأحكام للمسلمين عند نزول الآية، وعندما يصعد المنبر ليكون صعوده للمنبر تأكيداً للتنزيل وبياناً للأحكام، وهو من مصاديق تفضيل المسلمين على غيرهم، ومن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لمجيء الكتاب والسنة لبيان ذات الحكم.
الرابعة : مع أن المخاطبين والحضور هم من المسلمين فإن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاطبهم بلفظ(يا أيها الناس) لأن التكليف بالحج يشمل الناس جميعاً، ولكن الكفار حجبوا عن أنفسهم نعمة الحج، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
الخامسة : سؤال المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإرادة التفقه في الدين والتعلم، وهو على ثبات الإسلام وإمتلاء القلوب بالإيمان.
السادسة : التفصيل في الحج بين الواجب والمندوب مع الترغيب في كل منهما.
الثالث : الواجب العيني المتكرر، الذي لا تكفي فيه المرة الواحدة , وهو على شعب منها:
الأولى : المتكرر كل يوم كما في الصلاة اليومية الواجبة كصلاة الظهر والعصر.
الثانية : المتكرر كل عام، كما في أداء فريضة الصيام، ولم يذكر في القرآن اسم شهر إلا شهر الصيام، قال تعالى[شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ]( ).
الرابع : الواجب الذي يأتي عند طرو أسبابه كما في الأمر بالمعروف على فرض صيرورته في موضوع مخصوص واجباً عينياً، وكذا بخصوص القضاء والإمامة , فكل منهما واجب كفائي ولكن قد يكون عينياً في حالات مخصوصة، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الخامس : الواجب العيني المقيد: أي أن الخطاب فيه موجه لكل مسلم مع وجود قيد كما في موضوعية الإستطاعة في الحج، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
القسم الثاني : الواجب الكفائي : وهو الواجب الذي إن أداه واحد أو طائفة من المسلمين يكفي لتحقق الإمتثال سقط عن عموم المسلمين، وأما إن لم يؤده ما فيه الكفاية يؤثم الجميع مثل رد السلام ومثل صلاة العيدين، وعن أبي بكر الصديق قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم( ).
وفرض العين أفضل من فرض الكفاية، كالحج فانه أفضل من الغزو، ومن الآيات أن فروض الكفاية أكثر من فروض العين مع إختلاف الأصوليين في تعيين بعضها هل هو فرض عين أم كفاية، وتارة يكون ذات الموضوع من القسمين كما في الفقه فمنه فرض عين كما في تعلم الفاتحة وسورة، ومنه ما يكون فرض كفاية وهو الأكثر في طلب وإكتساب العلم كأغلب أحكام الحلال والحرام، وحفظ القرآن , وعلم التفسير والتأويل والفرائض أي الميراث وسهام الورثة , ومسائل علم الأصول ونحوها مما هو بعيد الفرض.
ومعرفة سوء عاقبة المكذبين أمر مندوب، وتخبر عنه آية البحث بدلالتها التضمنية، إذ أن السير في الأرض يبين للناس زوال سلطان وعمارة الذين أصروا على التكذيب بالنبوة والتنزيل والمعاد.
وفيه بعث للنفرة في النفوس من التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ودعوة للناس للتدبر في الآيات التي جاء بها.
قانون الملازمة بين الأمن والتدبر في الآثار
لقد خلق الله عز وجل الأشياء جميعاً، وجعل وجودها وفناءها والتفاعل والتداخل بينها بقوانين ثابتة لا يتم فرد منها إلا بمشيئة منه تعالى، أي أنه سبحانه لم يتركها بعد خلقها، بل تعاهدها مع وجود نظام دقيق يحكم سيرها فقوله تعالى[لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]( )، يبين أموراً:
الأول : وجود قوانين دقيقة تحكم الكون.
الثاني : مشيئة الله وأمره المتجدد للأفلاك والأكوان بالسير وفق هذه القوانين والأنظمة.
الثالث : الإستجابة التامة من الأفلاك لأمر الله عز وجل.
الرابع : إستدامة الأكوان بلطف وعناية من عند الله، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ]( )، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وقع في نفس موسى عليه السلام هل ينام الله عز وجل؟ فأرسل الله ملكاً إليه، فأرقه ثلاثاً، وأعطاه قارورتين، في كل يد قارورة، وأمره أن يتحفظ بهما، فجعل ينام وتكاد يداه يلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة، فاصطقت يداه وانكسرت القارورتان قال: ضرب الله له مثلاً أن الله تبارك وتعالى لو كان ينام، ما كان يمسك السماء ولا الأرض)( ).
وعن ابن عباس قال: إذا أتيت سلطاناً مهيباً تخاف أن يسطو عليك فقل: الله أكبر، الله أعز من خلقه جميعاً، الله أعز مما أخاف وأحذر، أعوذ بالله الذي لا إله إلا هو، الممسك السموات السبع أن يقعن على الأرض إلا بإذنه، من شر عبدك فلان، وجنوده، وأتباعه، وأشياعه من الجن والإِنس)( ).
الخامس : السماوات والأرض من بديع صنع الله أي أنه سبحانه خلقها من غير مثال سابق، وإبتداعها أعم من خلقها فيتعلق بإيجاد السماوات والأرض وما بينهما من العدم وكذا أعراضها وحركاتها، وإقتبس العلماء والمهندسون فكرة صناعة الطائرة من تحليق الطيور وحركة أجنحتها وذيولها، وقيل أخذت فكرة أجهزة الرصد والمراقبة (الرادار) من تقليد (الخفاش) وهو طائر ليلي أعشى , إلا أن العلم لم يستطع جعل الرادار صغيراً، إذ أن وزن الخفاش نحو 5 غرامات , وعجزوا ويعجزون عن بلوغ دقة رؤيته، فالخفاش يرى الشعرة الصغيرة في الظلام الدامس ومن بُعد بضعة أمتار، ويعمر بين 20-30 عاماً.
وللخفاش منافع وهي أكل الحشرات الضارة ودون الحاجة للجوء إلى المبيدات الكيمياوية، فهو مسخر لخدمة الإنسان وقيل أنه يحوم حول رأسه لأنه محاط بالناموس والحشرات الضارة فيسعى لخلاصه منها.
ومن الآيات صيرورة خرائب وآثار المكذبين منازل لمئات الآلاف من الخفافيش، وعندما يحل الظلام تنطلق منها وكأنها تلعن المجون والفحش الذي كان يسود لياليهم، لتكون هذه الخفافيش من سوء العاقبة الذي تدعو آية البحث المسلمين للنظر فيه.
وهل الإنسان في دنياه يعمل وفق قوانين خاصة , الجواب نعم، وقد يكون من باب الأولوية القطعية بالنسبة للأفلاك لأنه خليفة الله في الأرض، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فالقوانين التي تحكم عمل الإنسان في الدنيا ظاهرة، وتتجلى في آية البحث من جهات:
الأولى : تعاقب السنن والطرائق في الأرض، والذي يدل على توالي أجيال الناس على الأرض , ترى لماذا لم يثبت الناس على سنة واحدة ويتوارثون ملة ومذهب مخصوص.
الجواب إن الدنيا دار إمتحان والإنسان في إختبار دائم يتجلى بإمكان الإختيار بين المتضادين، بين الخير والشر، والصلاح والفساد، والجنة والنار، وهذا الإختيار ليس مطلقاً بل مقيداً برجحان كفة الخير والصلاح بفضل الله ببعثة الأنبياء وإنزال الكتب السماوية وتجلي الآيات وأسباب الهداية واللطف الإلهي بتقريب الناس إلى منازل التقوى، قال تعالى[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ]( ).
وإختلف المفسرون في معنى كون الناس أمة واحدة إختلافاً كثيراً، ولا مانع من تعدد معنى وتأويل الآية، والمراد أنهم كانا على ملة الإسلام بلحاظ كبرى كلية وهي أن آدم وحواء كانوا مسلمين وتوارث شطر من ذريتهما الإسلام والأخبار التفصيلية عن الجنة والحياة فيها والرغبة والأمل في الرجوع إليها، وكيفية السبيل إليه، والذي ينحصر بالإيمان والتقوى، فبعث الله عز وجل الأنبياء لثبات المسلمين في منازل الإيمان، وجذب الناس لسبل الهداية.
ومن وجوه الإبتلاء في الدنيا والأمن أو فقدانه، فكل وجه منهما إمتحان وإختبار، وجاءت آية البحث لإقتباس دروس من الأمن من سنن الماضين، وأخرج ابن أبي شيبة والدرامي عن الإمام علي عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ستكون فتن قلت: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله. فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل وليس بالهزل، وهو حبل الله المتين، وهو ذكره الحكيم ، وهو الصراط المستقيم)( ).
فجاءت قصص الأمم السابقة للإتعاظ يما ينفع المسلمين في أمنهم ووقايتهم من الفتن، وكذا آية البحث من وجوه:
الأول : تفضل الله عز وجل بمخاطبة المسلمين بصيغة الجملة الخبرية سحابة أمن سماوية تتغشى أجيالهم المتعاقبة.
الثاني : تلاوة المسلمين والمسلمات لآية البحث في صلاتهم وخارج الصلاة أمان لهم وحرز من الفتن والظلم والجور.
الثالث : التحدي الذي تتضمنه الآية بأن سنناً متوالية مرت على الأرض قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون واقية أمن للمسلمين من شرور وآثار أهل الكفر من الأمم السابقة، وهذا الأمن يزداد ويتجلى موضوعاً وحكماً مع تقادم السنين، وبقاء شريعة الإسلام سالمة من التحريف والتبديل والتغيير.
الرابع : يدل قوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ] على حقيقة إنقضاءها أيام الإنسان في الحياة الدنيا، ومغادرته لملكه وسلطانه، وأن هذه المغادرة عامة , وحال تشمل الناس جميعاً مجتمعين ومتفرقين.
وهل سير المسلمين في الأرض أمن ووقاية من الشقاق والخصومة بينهم عند الإجتماع في الحضر وفي موضع واحد، الجواب لا، لأن الأصل هو ترشح أسباب القوة والمنعة وغلبة مفاهيم الأخوة في إجتماعهم، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وموضوع الأمن بخصوص آية البحث وسياحة المسلمين من وجوه:
الأول : الأمن في الحضر وبلد الإقامة، فإذا تعذر الأمن خشي المسلم على نفسه، وخاف من ترك أهله وماله وإنكشاف بيته وهتك ستره والتفكير والهم بالأهل والأحبة برزخ دون التفكر في آيات الأرض، يستحب بدله قراءة آية الكرسي ونحوها من الآيات.
الثاني : الأمن في الطريق أثناء السفر، فلا يصح أن يعرض المسلم نفسه للضرر والأذى وتعدي الأشرار في الأسفار، قال تعالى[وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( ).
الثالث : توخي السلامة في الحل أثناء السفر عند إنقطاع الترحال.
الرابع : الإبتعاد عن أسباب الضرر للذات والمتعلقين.
الخامس : أولوية حاجة الأهل والأبناء في التربية والإصلاح بحيث لا يتعارض معها سفر النظر والتدبر في الآثار.
السادس : الأمن النوعي العام للمسلمين في ذات المصر.
السابع : عدم إستغناء المسلمين في مصالحهم العامة عن ذات المسلم شرط في مبادرة المسلم إلى السفر للتدبر.
الثامن : السلامة والأمن أثناء النظر إلى آثار الظالمين، والشواهد التي تدل على أن هلاكهم لم يكن بالأسباب الطبيعية الظاهرة، بل بالمعجزة كما في قوله تعالى في قوم صالح[فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ]( )، ولا بد من الإحتراز في الطريق بقراءة القرآن وتلاوة آياته، والحرص على أداء الوظائف العبادية.
لقد أصبحت السلامة وقصدها في البيت وميادين العمل علماً مستقلاً توليه الأنظمة والقوانين عناية خاصة وبما يكفل حفظ الإنسان في بدنه وصحته وعقله وحالته النفسية، وجاءت آية البحث متقدمة بأكثر من ألف وأربعمائة سنة، وتأتي أسباب السلامة في السفر بذكر الله عز وجل عز وجل واللجوء إليه سبحانه[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
ومن الإعجاز أن الآية أعلاه جاءت حكاية عن يعقوب في رجائه وسلامة أولاده عن مغادرتهم إلى مصر عندما تعهدوا بحفظ بنيامين[وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، فأظهر ثقته بالله وإستجارته به، وأن حفظه تعالى خير من حفظهم، فهو الذي يحفظ يوسف وبنيامين ويحفظكم.
(وورد في الخبر أن الله سبحانه قال فبعزتي لأردنهما إليك من بعد ما توكلت علي)( ).
قانون النعمة في ثنايا الأمر الإلهي
التدبر في أحوال الأمم السالفة من الغنيمة العقائدية، وفيه زيادة للإيمان في النفس وعند الجماعة ويكون موضوعاً للحديث والإتعاظ العام، وقد يسافر ويرى الآثار شخص من المسلمين ولكنه يرويه لأهله، ويذكره لجماعة ليصبحوا وكأنهم يشاهدون تلك المعالم بذاتها وآثارها ويدركون عظيم النفع في الآية الكريمة وكيف أنها تلفت أنظارهم إلى أخذ العظات من السفر في البر والبحر.
ومن معاني ضمائر الجمع في الآية (من قبلكم) (فسيروا) (فأنظروا) إفادة العموم والتوزيع والتعدد كما تقول: أدى القوم صلاتهم، أو شهدت القرية الهلال فصاموا يومهم.
وليس من أمر ينزل من السماء إلا ويتضمن النفع الخاص والعام على نحو مركب من جهات:
الأولى : النفع الخاص بإمتثال المكلف.
الثانية : الفوائد العامة بإمتثال المكلف، أي يستجيب المكلف لأمر الله فينتفع غيره من الأفراد من إستجابته.
الثالثة : النفع الخاص من إمتثال الجماعة والأمة، إذ تترشح الفوائد على الأفراد وحياتهم اليومية بإمتثال الجماعة، كما في بعث صلاة الجماعة والمواظبة عليها الأخلاق الحميدة في المجتمع, وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
وليس من حصر لمنافع الأمر الإلهي والإمتثال له، ومنها:
الأول : النفع في ذات الإنسان وبعث السكينة في نفسه، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثاني : الحصانة من السيئات ومقدمات جلب الخزي والعقاب , فالأمر الكريم في آية البحث بأن يذهب المسلمون في الأرض لرؤية آثار المكذبين واقية للمسلمين من طريق الهلكة الذي ساروا فيها.
الثالث : مصاحبة الفضل للأمر الإلهي في نزوله، وتعقبه له مع التباين في مصاديق الفضل المصاحب والمتعقب وإذا كان الشكر لله عز وجل سبباً في زيادة النعمة بقوله تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، فهل الإمتثال للأمر الإلهي سبب لزيادة النعمة.
الجواب نعم، وهو من باب الأولوية لأن الإمتثال إستجابة وفعل عبادي وقربة إلى الله ونوع شكر له سبحانه وتسليم بربوبيته المطلقة، لذا فإن كل أمر يأتي من عند الله في القرآن رحمة وتصاحبه البركات والفيوضات فهو غنيمة، فاز بها المسلمون ومن عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وليس من حصر للنعم الإلهية التي تترشح عن آية البحث, وقد تجلت في تنمية ملكة التفكر والتبصر في الأمور وخواتيمها، وإستنباط حقيقة وهي أن العاقبة لا تنحصر بعالم الآخرة بل تشمل نوع العاقبة وصيرورتها حسنة أو قبيحة تكون في الدنيا أيضاً، ليكون دوام سير المسلمين في الأرض والتفكر فيها أمراً مستديماً يتغشى أيام المسلم ويكون جزء من عاقبته، فهو يغادر الدنيا بنعمة الإيمان ورداء التقوى والتبرأ من التكذيب بدلائل التوحيد وبراهين النبوة.
والفضل الإلهي المصاحب للنعمة مدد للمسارعة في الخيرات وباعث للشوق في النفس لأداء العبادات .
قانون(منافع السير في الأرض)
من خصائص خلافة الإنسان في الأرض عمارته لها، وتصرفه فيها، وقد تجلى في هذا الزمان موضوع تسخير باطن الأرض للإنسان لتستخرج منه كنوز وثروات تفوق عالم التصور، وتظهر في الآفاق دول جديدة سرعان ما صار لها شأن عظيم وأثر وتأثير بسبب كثرة وتدافع موارد ما تدره عليها خزائن باطن الأرض.
وجاءت آية البحث ببيان نعمة أخرى وهي السير في الأرض للدلالة بأن هذا السير مقدمة ومناسبة للفوز بالكنوز والمكاسب المادية إلى جانب إكتناز الصالحات لأنه لا يتم إلا بقيد الإيمان الذي تترشح عنه معاني نشر مفاهيم التقوى والخشية من الله عز وجل ليطلع الناس على سنن وحسن سمت[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ففي هذا السير مصداق مبارك لخروج المسلمين للناس وكأنه برزخ بين الدعوة العلنية والدعوة الصامتة حتى وإن كان خالياً من صيغ الجذب العلنية والظاهرة لمنازل الإيمان والصلاح.
وآية البحث من دلائل الرحمة الإلهية بالمسلمين خاصة والناس عامة، أما المسلمون فانهم يسيرون في الأرض فيؤدون صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح حيثما حلّوا من الأرض , وليس من مكذبين يسخرون منهم، أما الناس عامة فإن الآية إنذار وتحذير من مفاهيم الكفر والضلالة.
وفيه تأكيد لقانون سماوي وهو أن العقاب والعذاب العاجل للمكذبين رحمة بالناس جميعاً لما فيه من سبل الإتعاظ والعبرة، والدعوة الملحة للناس بترك التكذيب بالآيات , فقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل وجعل نفسه تنفر من القبيح، والتكذيب بالآيات والنبوة أشد ضروب القبح العقلي والشرعي.
وتحتمل العلة الغائية من الأمر بالسير في الأرض وجوهاً:
الأول : الحصر في موضوع عاقبة المكذبين.
الثاني : إرادة السير في الأرض بذاته , ورؤية عاقبة المكذبين أمر عرضي.
الثالث : الترغيب بالسير في الأرض ونيل المكاسب منها، ولم تذكر الآية تلك المكاسب لأنها متباينة ومتعددة في الموضوع والكم والكيف من شخص لآخر، ومن جيل لما بعده.
الرابع : سعة الإطلاع، وطرد الجهالة ومنع الغرر.
الخامس : معرفة عادات وسنن الأمم والشعوب الأخرى.
السادس : نشر أحكام الشريعة، وتلاوة آيات القرآن ورؤية الناس للفرائض التي يؤديها المسلمون، وحال الخشوع والخضوع التي يكونون عليها عند الصلاة مثلاً، وهو من أسرار شرط قصد القربة إلى الله عز وجل في العبادات.
السابع : إخبار الناس عن أحوال الأمم الأخرى وأخذ الحائطة للدين، وسلامة ثغور الدولة الإسلامية.
وفي قوله تعالى حكاية عن سليمان[وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ]( )، ( ورد عن ابن عباس: أنه سئل كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال : إن سليمان نزل منزلاً فلم يدر ما بعد الماء ، وكان الهدهد يدل سليمان على الماء ، فأراد أن يسأله عنه ففقده . وقيل كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ يلقي عليه التراب ، ويضع له الصبي الحبالة فيغيبها فيصيده؟ فقال : إذا جاء القضاء ذهب البصر)( ).
إن سير المسلمين في الأرض موضوع قوة وسبب للعز، وواقية من مباغتة العدو بجيوشه ومؤونه وأسلحته، إذ أنها بتنقل المسلمين في البلاد ورؤية الحال وسماع الأخبار وشأن الممالك تكون معلومة وبينة، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
قال تعالى[فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( )، لبيان مجيء الطلب والكسب بعد إنقضاء الصلاة , ليكون منه الشكر لله على نعمة الهداية والتبرأ من سنن الظالمين , والسلامة من سوء عاقبة المكذبين.

بحث بلاغي (الإفتان)
من وجوه البديع (الإفتان) وهو باب ذكره السيوطي( )، بأن يؤتى بفنين مختلفين كالجمع بين الفخر والتعزية في قوله تعالى[كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( )، وتضمنت آية البحث الإخبار عن قصص الماضيين، وأحوال الأمم السالفة، ومناهجهم المختلفة في الأرض، إذ جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار وأقام الحجة على الناس ببعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية، وجاء القرآن وثيقة سماوية جامعة للأحكام، مبينة للأخبار والقصص، ثم أمر الله سبحانه المسلمين بالإنتشار في الأرض، والضرب فيها من غير تقييد بجهة مخصوصة مما يدل على أن الإنسان عمّر أقطار الأرض كلها، وهو الذي تدل عليه إكتشافات الآثار في الأمصار المختلفة، لتكون هذه الإكتشافات من إعجاز آية البحث.
إن تقسيمات البلاغة الإستقرائية تتضاءل أمام علوم القرآن، فتجد أبوابها مجتمعة ومتفرقة في الآية الواحدة، فمن (الإفتان) في آية البحث أنها تجمع بين علم التأريخ وعلم الجغرافية إذ تخبر عن قصص الأمم السابقة وتدعو المسلمين للسياحة في الأرض، ومعرفة مواضع وآثار القوم الظالين، والإطلاع عليها، وفيها دروس من علم الإجتماع وإستنباط المسائل من أحوال الأمم السابقة، وإتخاذها موعظة وموضوعاً في الدعوة إلى الله والحصانة من الكفر والضلالة.
وتبعث الآية النفرة في النفوس من التكذيب بالآيات لتدل في مفهومها على لزوم التدبر بمعجزات الأنبياء وأسرار التنزيل وكنوز القرآن العلمية، ومنها التحدي بالإخبار عن وجود الشواهد على سوء عاقبة الظالمين في كل زمان.
قانون(من غايات السير في الأرض)
لم ينزل آدم إلى الأرض إلا وهو خليفة فيها بمشيئة من الله بقوله تعالى في خطاب وإخبار للملائكة[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وإحتج الملائكة على وجود الإنسان في الأرض مطلقاً بأنه يفسد فيها ويسفك الدماء، مما يدل على أن موضوع الخلافة عام، ومنه التصرف والسياحة في الأرض وظهور أسباب التنافس والخلاف والشقاق بين أهل الأرض والذي ظهر في أولاد آدم الصلبيين بقتل قابيل لأخيه هابيل مع سعة الأرض والنهل من خيراتها من غير تزاحم أو تعارض.
ومن مصاديق الإطلاق في خلافة الإنسان في الأرض بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : توجه الخطاب في الآية لأجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، فينزل الأمر والنهي من عند الله مرة واحدة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتتلقاه الأحقاب والملايين من المسلمين في كل زمان بالرضا والقبول، ليكون من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، أمور:
الأول : تضمن التنزيل الأوامر والنواهي التي تفيد الوجوب والحرمة.
الثاني : تلقي المسلمين للتنزيل بالإمتثال.
الثالث : سوء عاقبة المكذبين، وبقاء معالم هذه العاقبة ظاهرة للعيان مئات وآلاف السنين.
الرابع : خلافة المؤمنين للأرض.
الخامس : ذهاب المسلمين في الأرض، ورؤيتهم لشواهد إختتام حياة المكذبين بنزول النقمة والبلاء.
الثاني : تعدد السنن والمذاهب في الأرض، وزوالها وإندثارها ولم تبق في الأرض إلا سنن التوحيد والإخلاص في عبادة الله، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بتقدير أمور تدل عليها آية البحث وهي:
الأول : تقريب الناس إلى مقامات العبادة.
الثاني : إعانة المسلمين بزيادتهم هدىً، قال تعالى[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]( ).
الثالث : صيرورة الأرض وحياة الناس عليها موعظة وعبرة للأمم والأجيال اللاحقة.
ومن الإعجاز أن تلك الموعظة بدأت من أيام آدم عليه السلام بما جرى بين أولاده من أسباب القطيعة والقتل لإقامة الحجة على الناس، ولجعل الموعظة من أحوال السابقين أمرا ينتفع منه المتقدم والمتأخر من الناس، وفاز المسلمون بالنصيب الأوفر فضلاً من الله عليهم وعلى الناس بلحاظ جهات:
الأولى : الملازمة بين الإيمان وتوالي النعم، فمع الإيمان والصلاح ينزل الفضل الإلهي، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثانية : تكرار الدعوة في القرآن بالإتعاظ من قصص الأمم السابقة، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثالثة : صيرورة الموعظة من الأمم السابقة موضوعاً ومادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابعة : إتخاذ المسلمين حياة الناس على الأرض دعوة للصلاح مع بيان حتمية مغادرة الإنسان الدنيا إلى عالم الحساب والجزاء.
الخامسة : تلاوة المسلمين للآيات التي تتضمن المواعظ والعبر في الصلاة اليومية والتدبر في معانيها.
السادسة : موضوعية آية البحث في التدبر بأحوال الناس وتعاقبهم في الأرض وأسرار مجيء النعم أو نزول النقم.
الرابع : إتخاذ السعي والسير في الأرض مقدمة ومناسبة للعبادة والتقوى فحينما خلق الله عز وجل الناس للعبادة لم يتركهم وشأنهم، ولم يكفلهم ما لا يطيقون في تلمس سبل وكيفية العبادة، بل تفضل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية.
لقد رزق الله عز وجل الإنسان الخلافة في الأرض، ولم يأت في القرآن والأخبار أن نال صنف من الخلائق الخلافة عن الله عز وجل إلا الإنسان كما في قوله تعالى مخاطباً الملائكة[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
وكان في جوابهم وإنكارهم إشارة إلى عدم العلم بوجود خلافة لله في بعض الأجزاء من السموات والأرض فتفضل الله عز وجل وسخر للخليفة وذريته من الناس جميعاً ما يتنعمون به في أمور دنياهم ويتخذونه ذخيرة ليوم الحساب، قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ]( ).
لتبين لنا آية البحث مصاديق من هذا التسخير من وجوه:
الأول : إتخاذ الناس دولاً وطرائق ومذاهب في الأرض لقوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ].
الثاني : تعاقب الأجيال على الأرض من غير أن يحصل فيها تبدل أو تغير، ومن غير أن تنقص النعم التي تفيض منها، ويتجلى بأسرار الزراعة في الأرض وعودة صلاحها للزراعة في كل موسم أو كل سنة.
ولما إزداد عدد سكان الأرض وكثافتهم في مناطق وأمصار مخصوصة جاءت نعمة الأسمدة وتنظيم المياه، ثم هدى الله عز وجل الإنسان إلى سبل التقنية الحديثة والتناسخ في النبات والشجر ليكون من غايات السير في الأرض إدراك بديع صنع الله بإيجاد رزق كل جيل قبل أن يوجد، وطرد الفزع والخوف عن الناس من إحتمال حصول المجاعة ونقص الغذاء، وهو من مصاديق السكينة عند المؤمنين بحسن توكلهم على الله ، ومن عمومات قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثالث : من خصائص الإنتقال والتنقل في الأرض إدراك بديع صنع الله عز وجل وزيادة الإيمان والتسليم بسعة ملكه سبحانه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة ، فإن خلقاً من الملائكة يقال له إسرافيل : زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سموات ، وأنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع( ))( ).
الرابع : الإمتثال لأمر الله عز وجل في الأوامر الإلهية وإدراك حقيقة وهي أن الغايات والمنافع التي تترشح عن الإستجابة والإمتثال لها أكثر من أن تحصى.
الخامس : بيان السعة والمندوحة التي جعلها الله عز وجل للإنسان في التنقل في الأرض وتبديل محل السكن والعمل.
فقد يتردد الإنسان في هذا التبديل ويتهيب ويخاف من المجهول ولكن عندما يسير في الأرض قد يجد منافع ومصالح جلية في أماكن وبقاع غير الذي هو قاطن فيه.
السادس : تدبر ونظر المسلمين في أحوال أهل الأرض وتقلبهم فيها، وتجدد مصاديق جلية في كل زمان ومكان , لقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
لقد أجاب الله عز وجل الملائكة الذين إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فمن علم الله عز وجل وجود أمة مؤمنة تسير في الأرض طاعة لله عز وجل وتنظر في عواقب الأمم، وتأخذ منها الدروس والمواعظ والعبر بما يفيد زيادة الإيمان.
السابع : تغشي الإيمان للأرض، ليكون ذكر الله على قسمين:
الأول : ذكر مستقر في الحضر وعند أهل الإيمان.
الثاني : الذكر المتنقل بواسطة المؤمنين في تنقلهم في الأرض.
وهل هناك ذكر خاص عند رؤية عاقبة المكذبين، الجواب نعم من جهات:
الأولى : يشكر المسلمون الله عز وجل على نعمة الإيمان.
الثانية : يرى الناس أسباب العز والفخر التي عليها المسلمون في السعي في الأرض، وهذا السعي أعم من أن يختص بالنظر إلى عواقب المكذبين فيشمل التبصر والفطنة في الآيات، قال تعالى[وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ]( ).
ومما يراد من الناس في سير المسلمين في الأرض إقامتهم للصلاة، وتعاهدهم للفرائض، وهو أفضل مصاديق الذكر خصوصاً وأن الصلاة عبادة أو مقدمة لعبادة، كما في السفر إلى الحج، قال تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
وقال ابن حيان التوحيدي: سمعت بعض الصوفيّة المشهورين يقول: باطن هذا الكلام: أي قوله صلى الله عليه وآله وسلم”صوموا تصحّوا وسافروا تغنموا” أي صوموا عن الفحشاء تصحّوا بالطاعة، وسافروا إلى الله تعالى بالهمم الجامعة تغنموا رضاه عنكم ونظره إليكم)( )، ولكن الكلام العربي يحمل على ظاهره وتتجلى المعارف في ظاهر الحديث وهذا الذي يسميه الباطن معنى آخر قائم بذاته.
وجاءت آية البحث ليتدبر المسلمون في آيات الأرض بلحاظ ترشح المنافع والمسائل من السير في الأرض في كل بقعة منها آية تكوينية تتجلى فيها عظيم قدرة الله، وحضور مشيئته وسلطان أمره، وهل عاقبة المكذبين من تلك الآيات التي تذكرها الآية أعلاه أم أنها أمر مستقر.
الجواب هو الأول وليس من حصر للآيات التي في الأرض لذا جاءت الآية بلغة الإجمال وصيغة الإطلاق (آيات) وهي على قسمين:
الأول : ما تكون شواهدها كثيرة ومتعددة كالزراعات والنبت الجديد بعد صيرورة السابق هشيماً.
الثاني : ما تكون فريدة أو نادرة في ذاتها وموضوعها أو حكمها، وكل فرد من أفراد القسمين يستلزم التدبر وغوص الفكر وإقتباس الدروس منها رؤية، عاقبة المكذبين.
ويمكن تقسيم غايات السير في الأرض تقسيماً إستقرائياً إلى وجوه:
الأول : الغايات التي تتضمنها آية البحث , وفيها مسائل:
الأولى : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بنزول آية البحث , وتلك مسألة في إعجاز القرآن بأن كل آية منه فضل ورحمة على المسلمين والناس جميعاً، وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الثانية : دعوة المسلمين إلى تعاهد آية البحث بالتلاوة والحفظ وإستحضارها في حال الحضر والسفر لتكون مقدمة للسفر والرغبة فيه وصيرورتها ومضامينها القدسية من مصاديق البر والتقوى.
الثالثة : تنمية ملكة عدم التفريط عند المسلمين، بأن ينظروا ويتدبروا في الآيات والدلالات التي تعرض لهم في سفرهم.
الرابعة : الخزي اللاحق للكفار فتنقضي أيامهم، ولكن الخزي يلاحقهم في الدنيا وهو مقدمة لذلهم وهوانهم في الآخرة.
الثاني : الغايات من السير في الأرض وفيه مسائل:
الأولى : التدبر في بطش الله بالكافرين.
الثانية : التوبة والإنابة إلى الله.
الثالثة : نفرة النفوس من سنن الكفار والظالمين.
الرابعة : إخبار الناس عن الشواهد التي تبين العقوبة والبلاء الذين نزل بالكفار.
الخامسة : إنذار الظالمين من ذات العاقبة التي أختتمت بها حياة الكفار والمكذبين.
السادسة : السير في الأرض أعم في موضوعه ونفعه من النظر في عاقبة الكفار، فهو مفتاح للعلوم ووسيلة للمكاسب وجلب المنافع للفرد والجماعة.
الثالث : الغايات العامة والخاصة من السير في الأرض، وفيها جهات:
الأولى : النفع العام من السفر الشخصي فيسير المسلم بمفرده في الأرض أو مع جماعة، ويأتي النفع من سفر وسير هذا المسلم لمن معه ومن خلفه.
الثانية : النفع العام من السفر والسير الجماعي العام، فتسير سرية من المسلمين في الأرض فتكون رسولاً يبين عز المسلمين , ودليلاً على كثرتهم وقوتهم.
الثالثة : النفع الخاص من السير والسفر الشخصي، إذ يقتبس المسلم الدروس من سياحته في الأرض، وقد يسافر لغرض الإطلاع على خاتمة حياة الكفار فينوي الإنتقال في سكنه إلى حيث الأطلال والبلدة التي كان يقطنها الكفار ليعمرها المسلم بالإيمان ويكون هذا الإعمار من عمومات قوله تعالى[كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] أي أن الله أورث ديارهم للمؤمنين، قال تعالى[أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ]( ).
وفي الآية أعلاه وجهان:
الأول : إرادة أرض الجنة، وأنها تكون للمؤمنين يوم القيامة، وأستدل عليه بقوله[وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]( ).
الثاني : المقصود الوراثة في الحياة الدنيا.
والصحيح هو الثاني، لأن الأول ورد مع القرائن التي تفيد إرادة الجنة من جهات:
الأولى : جاءت الآية أعلاه قولاً للمؤمنين (وقالوا).
الثانية : توجه المؤمنين بالشكر لله عز وجل.
الثالث : وجود قرائن في إرادة الجنة بذكرها بالاسم وأنها جزاء على العمل الصالح.
قوله تعالى[فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]
النظر رؤية العين ونظر القلب، وإذا جاء مطلقاً من غير قرينة فيصرف إلى الأول، وقال تعالى[وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ]( )، أي لا تنالهم الرحمة والعفو والأمهال، وأنظرني: استمع إلي، والنظور: الفطن الذي لايغفل عن لحاظ الأمور التي تخصه، والإنظار:النسيئة، ونظير الإنسان: المساوي له) ( ).
قال الشاعر :
أتْبَعْتُهم بَصَري والآلُ يرفعهم … حتّى اسْمدرَّ بطرف العين إتآري ( ).
ويحتمل النظر في الآية وجوهاً:
الأول : النظر بالآلة الباصرة وهي العين.
الثاني : إرادة التدبر والتفكر، قال تعالى[لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ]( ).
الثالث : المعنى الأعم الشامل لرؤية العين ونظر القلب.
والصحيح هو الثالث لوجوه :
الأول : أصالة الإطلاق وعدم وجود مقيد في البين.
الثاني : دلالة الأمر بالسير في الأرض على رؤية العين.
الثالث : إستقراء الحاجة إلى التدبر والتفكر بلغة السؤال (كيف كان) والذي يستلزم إستحضار حال المكذبين أيام علو شأنهم وسعادتهم بفضل وإمهال من عند الله عز وجل.
وتدعو الآية بالدلالة التضمنية المسلمين إلى عدم الخشية من المكذبين بالنبوة والتنزيل وإن ظهر سلطانهم، وكانت الدولة لهم، فهي تخبر عن نزول البلاء بهم، وقربه منهم، قال تعالى[فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي]( )، وفي الآية حث للمسلمين للصبر وتحمل الإستطالة والجدال من المكذبين، والإعراض عنهم لأن عاقبة السوء على أبوابهم .
وتبين الآية المائز بين العاقبة والآخرة، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فالآخرة هي الأعم لغة وإصطلاحا، فالعاقبة تكون كالمعلول والمسبب لعلة وسبب سابق، أما الآخرة فهي النهاية والخاتمة في مقابل الأولى، لذا فمن الإعجاز في لفظ العاقبة مسائل :
الأولى : بيان حقيقة وهي أن الدنيا دار جزاء أيضاً، وكأنه من الجزاء الأولي ليأتي بعده الحساب الإبتدائي في القبر، ثم الحساب والجزاء في الآخرة، وهذا الجزاء خير محض لأنه في طول الإختبار والإمتحان في الدنيا، فهو برزخ دون عذاب البرزخ.
الثانية : بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من عذاب الآخرة.
الثالثة : إنذار المكذبين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل من نزول العذاب بهم، قال تعالى[أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا]( ).
الرابعة : البشارة وبعث السكينة في نفوس المسلمين، لما يلقاه الكفار، سواء بهجوم عساكرهم وسراياهم على المسلمين، أو بتبدل الحال وغزو المسلمين لهم في عقر دارهم كما حصل في كفار مكة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله سبحانه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ[وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ]( ).
الخامسة : عدم إنقطاع آيات سوء عاقبة الظالمين.
ومن أسرار الحياة الدنيا وإختصاص الله عز وجل بعلم الغيب أن عواقب الأمور لا يعلمها إلا هو سبحانه كي يسعى الإنسان في الدنيا ويجتهد في العمل الصالح، ويجتنب أسباب الضرر الدنيوي والأخروي , وتفضل سبحانه وأخبر عن عاقبة المكذبين، قال تعالى[تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ]( ).
لقد أخبرت آيات القرآن عن هلاك القوم الظالمين ونزول البلاء بهم في الدنيا لجحودهم وإصرارهم على الكفر، قال تعالى[وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى]( ).
وجاءت آية البحث للبحث عن الشواهد التي تدل على زوال ملكهم وبما يفيد إنه بآية وإهلاك من عند الله وان جاء بقانون السببية والعلة والمعلول.
وتدعو الآية إلى إبطال سنن الضلالة، وإماتة البدعة، ودرس منهاج المكذبين رجاء السلامة من سوء العاقبة الذي لاقاهم , وقد نعتت بعض فرق القدرية بأنهم المكذبون، ولكن الآية صريحة بذم الجاحدين بالربوبية، المنكرين للتنزيل، المكذبين بالأنبياء ورسالاتهم , ولم تختص برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد الرسل السابقين , قال تعالى[فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ] ( )، لأنها تضمنت الدعوة لرؤية الشواهد التي تدل على ما لحق الكفار من سوء العاقبة، أما الكلام في القدر فقد ورد النهي عنه، ولكنه لا يرقى إلى مرتبة التكذيب في هذه الآية.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ قَالَ وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنْ الْغَضَبِ قَالَ فَقَالَ لَهُمْ مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ( ).

وفي الحديث مسائل :
الأولى : بين الهلاك والتكذيب عموم وخصوص مطلق، فلا ملازمة بينهما، فقد يأتي الهلاك بسبب التكذيب , وقد يأتي بعد الإستهزاء والجحود والإستكبار والصدود والغلو وغيرها.
الثانية : حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا واقية للمسلمين من الهلاك وطرقه وأسبابه.
الثالثة : انما هلكت أمم بضرب التنزيل بعضه ببعض وإنشغالهم به وصدورهم عن هذا التباين الذي لا يعدو ظنهم ، أما المسلمون فحصل بين فريق منهم جدال ونهاهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنه.
الرابعة : الزجر الوارد في الحديث أعم من موضوع القدر إنما يتعلق بالإستدلال عليه بضرب التنزيل بعضه ببعض، والقرآن خال من التضاد والتناقض.
ولو كان للمكذبين ذرية صالحة ففيه وجوه محتملة:
الأول : يلحق المحق والذم الذرية ويؤاخذون بذنوب آبائهم.
الثاني : لا صلة للذرية الصالحة بعاقبة آبائهم المكذبين لتغير الموضوع وتحلي الذرية بالصلاح , وتبعية الحكم للموضوع.
الثالث : بالذرية الصالحة لا يلحق الآباء الكفار سوء العاقبة، لأن هذه الذرية شاهد على الخلف الحسن وعمارة الديار بذكر الله، والقدر المتيقن من قوله تعالى[فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]، هم الذين إنقرضوا وليس لهم أبناء صالحون.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إختبار، وإبتلى أهلها بصنوف البلاء، ولم يسلم منه المؤمنون مع التباين في مصداق البلاء ومقداره وموضوعه وأثره وغايته، قال تعالى في خطاب للمسلمين[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( ).
فيأتي البلاء لأهل الإيمان فيتلقونه بالصبر والتحمل والرضا بأمر الله عز وجل فيمر عليهم كالريح والسحابة، ويأتي للمكذبين بالآيات فلا يطيقونه ويحل بدارهم البوار ليكون من معاني ما لحق المكذبين إقترافهم للصبر وعدم رجائهم للثواب الذي يكون سبباً للتعاضد في تحمل الأذى.
وقال الله تعالى في ذم الكفار من الأمم السابقة وإقامة الحجة عليهم بالنبوة والتنزيل[وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
ويتضمن القرآن الإخبار عن علم الله عز وجل بأحوال الأمم الماضية والحاضرة والتي ستأتي فيما بعد , قال تعالى[وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ]( ).
لتكون آية البحث مقدمة ومناسبة لعلوم الغيب التي يطلع الله المسلمين عليها لتدبر والشواهد الحسية الظاهرة، قال تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( )، ومن اللطف الإلهي بالمسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي والناس جميعاً أن آيات هلاك المكذبين حسية بادية للعيان، ويسهل التحدث بها وتناقل أخبارها وتعزف النفوس والجوارح عن إزاحتها من رأس , ليجتمع في آية البحث الآية العقلية والحسية، والعقلية في منطوق ودلالات الآية، والحسية بالشواهد والمصاديق الظاهرة لها.
وفي الآية أعلاه وجوه:
الأول : علم الله عز وجل بالمتقدمين من أجيال الناس واللاحقين منهم.
الثاني : إن الله عز وجل يعلم بالسنن والملل السابقة واللاحقة.
الثالث : يعلم الله عز وجل بالمؤمنين والمكذبين من الأجيال المتعاقبة من الناس.
الرابع : علمنا الأولين منكم والآخرين عن الشعبي( ).
الخامس : علم الله المتقدمين إلى الصف الأول في الصلاة والصفوف الأخرى، وعن عامر بن مسعود القرشي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو يعلم الناس ما في الصف الأول، ما صفوا فيه إلا بقرعة)( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله وملائكته يصلون على الصف المتقدم فازدحم الناس وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا لنبيعن دورنا و لنشترين دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم فنزلت هذه الآية عن الربيع بن أنس)( ).
السادس : المراد من المستقدمين آدم عليه السلام ومن مضى من ذريته و(المستأخرين) من في أصلاب الرجال( ).
السابع : (المستقدمين منكم) في صفوف الصلاة والقتال عن عطاء.
وإن قلت في سير المسلمين في الأرض لرؤية عاقبة المكذبين مشقة عليهم والجواب تدل الآية على أن رؤية عاقبة المكذبين ليست العلة الغائية الوحيدة للسير في الأرض، فقد يسعى المسلم في الأرض لطلب الرزق.
وقد يخرج للجهاد، ويكون السير والمشي وقطع المسافة مقدمة عقلية لأداء فريضة الحج بالإضافة إلى قانون التخفيف المصاحب لكل التكاليف العبادية والمندوبات، وتلك آية في رحمة الله بالمسلمين وحجة على الناس وترغيب بالإيمان.
ومن أفراد هذا التخفيف أن الشواهد على زوال ملك المكذبين قريب من المسلمين، وتتجلى في إنكسار قريش بين القبائل وسقوط هيبة رؤساء الكفر منهم بين القبائل، وإصابة تجارتهم بالشلل وحصول النقص في أموالهم وهذا النقص ليس من عمومات قوله تعالى[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ]( ).
إنما الآية أعلاه( ) وردت في الثناء على المسلمين وتحملهم الأذى في مرضاة الله، وإرادة الثواب لهم على صبرهم، قال تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) .
جاء هذا الأمر الإلهي بصيغة الجمع الشاملة للمسلمين والمسلمات على مر الزمان، وفيه إعجاز بأن الإخبار الإلهي في الآية من الكلي المتواطئ الذي يكون فيه المسلمون والمسلمات على درجة واحدة في التكليف والدعوة إلى النظر والتدبر من غير أن تكون خصوصية أو مرتبة إضافية خاصة بالعلماء وأولي الحل والعقد منهم.
فكما تأتي التكاليف العبادية من الصلاة والصيام وغيرها للمسلمين عامة فكذا موضوع السير في الأرض والتدبر في آيات السكن ودلالات الإقامة في الأرض.
ويحتمل النظر في الآية من جهة القلة والكثرة وجوهاً:
الأول : كفاية السير في الأرض مرة واحدة.
الثاني : تعدد السير في الأرض وكفاية النظرة الواحدة.
الثالث : السير في الأرض مرة واحدة مع تعدد النظر بلحاظ كثرة بقاع الأرض التي يمر عليها المسلم في مسيره.
الرابع : التعدد في سير المسلم في الأرض مع النظرة الواحدة في كل مسير.
الخامس : تعدد مسير المسلم في الأرض , مع تعدد النظر في كل مسير له في الأرض.
والصحيح هو الأخير من وجوه:
الأول : إرادة التدبر في كل مرة.
الثاني : الإمتثال الأمثل لأمر الله عز وجل.
الثالث : الإنتفاع الأحسن من المواعظ والعبر التي جعلها الله في الأرض.
الرابع : تجدد الخطاب الإلهي (فأنظروا) للمسلمين مع تكرار تلاوتهم للآية الكريمة.
الخامس : إرادة الثواب العظيم من كل سفر وسير حصل فيه النظر والتدبر.
السادس : إقتباس الدروس الإضافية من كل مرة يحصل فيها السير والتدبر.
السابع : تكرار السير والنظر مناسبة للتذكر وطرد للغفلة وبرزخ دون طرد الجهالة.
الثامن : تعدد وكثرة الأماكن والآثار التي تدل على البوار والهلاك الذي لحق الذين ظلموا أنفسهم وأهليهم، قال تعالى[فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
وتبين الآية فضل الله عز وجل على المسلمين من وجوه:
الأول : إنعدام الموانع دون سير وسياحة المسلمين في الأرض .
الثاني : قدرة المسلمين على الإمتثال لأمر الله تعالى في السير في الأرض والنظر والتدبر في الدلالات والبينات الدالة على سحق ومحق الكافرين.
الثالث : الأمر الإلهي للمسلمين بالنظر في عواقب الكافرين يدل على أن سيرهم في الأرض خال من الخوف والفزع، وتلك نعمة أخرى في ثنايا الأمر الوارد في الآية.
وذكر ابن كثير أن آية البحث (جاءت خطاباً لعباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد، وقتل منهم سبعون)( )، ولكن الآية أعم موضوعاً وحكماً ويأبى سياق الآيات هذا الحصر , فالآية خطاب متجدد للمسلمين والناس جميعاً بإتخاذ الأطلال والآثار دليلاً على العقاب الذي حلّ بالمكذبين، وآيات القرآن شواهد على هذا العقاب، قال تعالى[وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ]( ).
وفي الآية أعلاه إعجاز وتحد إذ أنها تخبر عن بيان وظهور مساكن عاد وثمود باليمن والحِجر للمسلمين بمرورهم عليها، ومع أن منازلهم صارت خرائب فإن الآية أطلقت عليها لفظ المساكن مما يدل على بقاء تلك الآثار، وقال تعالى في آية أخرى بخصوص ثمود[فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً]( ).
وعن الحارث بن يزيد البكري قال: خَرَجْتُ أَشْكُو الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٌ بِهَا فَقَالَتْ لِي يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَةً فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغِي إِلَيْهِ قَالَ فَحَمَلْتُهَا فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا الْمَسْجِدُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ وَإِذَا رَايَةٌ سَوْدَاءُ تَخْفِقُ وَبِلَالٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ قَالُوا يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَجْهًا قَالَ فَجَلَسْتُ قَالَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ أَوْ قَالَ رَحْلَهُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ فَقَالَ هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ شَيْءٌ
قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ وَكَانَتْ لَنَا الدَّبْرَةُ عَلَيْهِمْ وَمَرَرْتُ بِعَجُوزٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٌ بِهَا فَسَأَلَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْكَ وَهَا هِيَ بِالْبَابِ فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ حَاجِزًا فَاجْعَلْ الدَّهْنَاءَ فَحَمِيَتْ الْعَجُوزُ وَاسْتَوْفَزَتْ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِلَى أَيْنَ تَضْطَرُّ مُضَرَكَ قَالَ قُلْتُ إِنَّمَا مَثَلِي مَا قَالَ الْأَوَّلُ مِعْزَاءُ حَمَلَتْ حَتْفَهَا حَمَلْتُ هَذِهِ وَلَا أَشْعُرُ أَنَّهَا كَانَتْ لِي خَصْمًا أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ قَالَ هِيهْ وَمَا وَافِدُ عَادٍ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ وَلَكِنْ يَسْتَطْعِمُهُ قُلْتُ إِنَّ عَادًا قَحَطُوا فَبَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ قَيْلٌ فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ
فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ جِبَالَ تِهَامَةَ فَنَادَى اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجِئْ إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيَهُ وَلَا إِلَى أَسِيرٍ فَأُفَادِيَهُ اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ فَنُودِيَ مِنْهَا اخْتَرْ فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ فَنُودِيَ مِنْهَا خُذْهَا رَمَادًا رِمْدِدًا لَا تُبْقِ مِنْ عَادٍ أَحَدًا قَالَ فَمَا بَلَغَنِي أَنَّهُ بُعِثَ عَلَيْهِمْ مِنْ الرِّيحِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَجْرِي فِي خَاتِمِي هَذَا حَتَّى هَلَكُوا
قَالَ أَبُو وَائِلٍ وَصَدَقَ قَالَ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ إِذَا بَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ قَالُوا لَا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ)( ).
وبعد أختتام آية البحث بالإخبار عن سوء عاقبة المكذبين إبتدأت الآية التالية باسم الإشارة[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، ويحتمل المراد من اسم الإشارة وجوهاً:
الأول : إرادة إنقراض أمم سابقة في الأرض.
الثاني : إنطواء سنن وطرائق، وبقاء بقية منها متوارثة.
الثالث : البيان المترشح عن سير المسلمين وغيرهم في الأرض ورؤيتهم الشواهد التي تدل على هلاك المكذبين بالتنزيل والرسالات.
الرابع : سوء عاقبة المكذبين وحكاية أطلالهم عن الوقائع والدواهي التي نزلت بهم.
الخامس : يتبين للناس سير المسلمين في الأرض طاعة لله ولرؤية الآثار التي تذم أربابها الذين خلّفوها، فذهاب المسلمين في الأرض ذاته بيان للناس وباب للهداية وموضوع للإتعاظ.
السادس : الدروس المقتبسة والمسائل المستنبطة من رؤية الأطلال والخرائب التي توثق وإلى يوم القيامة بطش الله بالقوم الذين ظلموا أنفسهم بالتكذيب بالآيات.
السابع : مضامين الآية السابقة بيان حسن لجزاء وعاقبة المتقين.
الثامن : بيان خصال المتقين التي ذكرتها الآيات السابقة والتي تصلحهم لدخول الجنة التي[عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وهذه الخصال هي:
الأولى : البذل في سبيل الله في حال الرخاء واليسر.
الثانية : الإطعام والإنفاق قربة إلى الله في حال الشدة والعسر.
الثالثة : حبس الغضب وعدم ترجل الغيظ بإنفعال ظاهر.
الرابعة : العفو والتجاوز عن السيئات.
الخامسة : الإحسان للناس مطلقاً، ليس في باب العفو وحده.
السادسة : ذكر الله عند إرتكاب الإثم.
السابعة : اللجوء إلى الإستغفار وسؤال العفو والتجاوز من عند الله.
الثامنة : العصمة من الإقامة على الذنب والإصرار على المعصية.
التاسع : إرادة التباين بين الثواب العظيم الذي ينتظر المؤمنين، والعقاب الأليم الذي نزل بالكافرين، والذي هو مقدمة لخلودهم نزل بالكافرين في العذاب، قال تعالى[وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ]( ).
العاشر : المراد القرآن وآياته.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة.
لقد أراد الله عز وجل أن تبقى آثار المكذبين في الأرض لتكون على وجوه:
الأول : بيان محسوس للناس، وآية تخاطب الناس وتدعوهم للتبصر بعين الحكمة في عواقب المعاصي.
الثاني : توضيح وجوه البيان في الحياة الدنيا، وعدم إنحصارها بالتنزيل بل إن الشواهد الحسية في الأرض هي الأخرى بيان ومدرسة في الإيضاح، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
الثالث : هي آية وقانون ثابت في أرجاء الأرض وفي كل زمان , والله يحب أن يرى الناس آياته وهو من عمومات قوله تعالى[تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الرابع : آثار المكذبين من الآيات المستحدثة في الأرض، أراد الله لها الدوام لتكون عبرة وموعظة، وهل تشهد هذه الآثار على أهلها يوم القيامة الجواب نعم، فهي حجة عليهم، وهي ضياء للذين إتخذوها موعظة ومناسبة للإعتبار .
ووقعت معركة الخندق في السنة الخامسة للهجرة وهو المشهور والمختار وبه قال ابن إسحاق، وقيل في السنة الرابعة كما ذهب إليه ابن حزم، ولعل الإختلاف بسبب سنة إبتداء الحساب الهجري وهل يبدأ من المحرم الذي جاء بعد الهجرة أم من المحرم ذات السنة التي وقعت فيها الهجرة فكتب مشركوا قريش إلى حلفائهم من بني أسد فجاءهم طلحة بن خويلد ومن تبعه وعددهم أربعة آلاف وخمسمائة.
وخرج أبو سفيان بقريش ومن لحق به من قبائل العرب وعددهم أربعة آلاف فنزلوا بمر الظهران، وهل آثار المشركين الذين حاربوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من تلك الشواهد التي تدعو آية البحث إلى النظر إليها والتدبر في دلالاتها أم أن القدر المتيقن ما كان قبل نزول القرآن.
الجواب هو الأول، لأن هؤلاء المشركين من عتاة المكذبين لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
ولحق بهم بنو سليم وعددهم سبعمائة , والحارث بن عوف في أربعمائة من بني مرة، وجاءت أشجع في أربعمائة , وجيش غطفان وفيهم بنو فزارة , ولكثرتهم وتعدد أنسابهم وإنتسابهم سماهم الله الأحزاب، قال تعالى[وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ]( )، وتحركت هذه الجيوش العظيمة ونزلت قريش ومن معها بمجتمع الأسباب من رومة، ونزلت غطفان إلى جانب أحد ومعهم بنو أسد، فلما وصل خبر هذه الجيوش إلى المدينة إستشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار، فأشار سلمان بحفر الخندق في الجهة المكشوفة التي يستطيع العدو إختراقها إذ كانت الجهات الأخرى تتداخل فيها الأبنية وأشجار النخيل ويصعب سير الأبل ونفاذ الأفراد منها , وغفلوا عن بقعة صغيرة من الخندق لم يوسعوها عبرها جماعة قليلة من قريش منهم عمرو بن ود العامري , وكان في عبورهم هذا إندحار وخزي دائم للمشركين .
وقيل كان طول الخندق خمسة آلاف ذراع، وعرضه تسعة أذرع، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة، وكان على كل عشرة من المسلمين حفر أربعين ذراعاً , وبادر المسلمون إلى حفر الخندق بجد وهمّة وتسابق مع الزمن قبل أن يصل جيش المكذبين , وأختلف في المدة التي إستغرقها حفر الخندق، وعند ابن سعد أنها ستة أيام( )، وعند ابن عقبة نحو عشرين ليلة، وعند الواقدي أربعاً وعشرين ليلة مع قلة الزاد، فكان طعامهم التمر والقليل من الشعير المخلوط بالدهن وأحياناً لا يجدون طعاماً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعصب بطنه بحجر من شدة الجوع وحمل التراب حتى أغبر بطنه ويشارك الصحابة في الأرجاز لبعث الهمة فيهم ويقول:
اللهم لولا انت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا * وثبت الاقدام ان لاقينا ان الاعداء قد بغوا علينا * وان ارادوا فتنة أبينا يرفع بها صوت)( ) .
وواجهت الصحابة أثناء الحفر صخرة وموضع هذه الصخرة معلوم في المدينة المنورة وأثرها ظاهر إلى يومنا هذا.
وعن عمرو بن عوف المزني قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ، فخرجت لنا من الخندق صخرة بيضاء مدوّرة، فكسرت حديدنا وشقت علينا، فشكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ المعول من سلمان، فضرب الصخر ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة، حتى لكأن مصباحاً في جوف ليل مظلم .
فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبر المسلمون، ثم ضربها الثانية ، فصدعها وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها، فكبر وكبر المسلمون، ثم ضربها الثالثة، فصدعها وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها ، وكبر وكبر المسلمون ، فسألناه فقال : أضاء لي في الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب ، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثانية قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب .
وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، فابشروا بالنصر , فاستبشر المسلمون , وقالوا : الحمد لله موعد صادق بأن وعدنا النصر بعد الحصر ، فطلعت الأحزاب , فقال المسلمون : { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}
وقال المنافقون: الا تعجبون! يحدثكم ويعدكم ويمنيكم الباطل، يخبر أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ، ومدائن كسرى، وإنها تفتح لكم، وإنكم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا، وأنزل القرآن {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً})( ).
قانون(سبل معرفة عاقبة المكذبين)
جاءت آية البحث بأمور:
الأول : الأمر إلى المسلمين بالسير في الأرض وقطع المسافات، ووطئ أرض وبلوغ أمصار لم يكونوا يصلون إليها، وقد كان العرب يخشون ركوب البحار حتى جاء الإسلام فحملتهم المراكب إلى بلدان وأمصار لم يسمعوا بها وإستلموا مفاتيحها أمراء وأسياداً وداعين إلى عبادة الله عز وجل وحده ونبذ الكفر والفجور، ليكون هذا الفتح سبباً مباركاً لعدم لحوق تلك المدن الزوال والدمار، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فقد أنعم الله عز وجل على كثير من الأمم وحال دون إقامتها على الكفر وهو من منافع النبوة وفلسفة تعاقب الأنبياء على الأرض، ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة لها، فقد جاءت عامة وضرب المسلمون في الأرض لنشر مبادئ الإسلام ودعوة الناس للصلاح ليكتب الله لهم السلامة في أنفسهم وذراريهم ومدنهم، فصاروا وفي كل زمان ينظرون بعز وفخر إلى أطلال غيرهم، وهو من مصاديق البشارة للمسلمين في قوله تعالى[لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( ).
الثاني : كما أن للسير في الأرض غايات مقصودة، ومواضع يريد المسلم بلوغها فقد جاءت آية البحث بجعل وظائف للمسلمين أثناء السير، وهي التدبر والتبصر بأحوال الأمم السالفة وآثارها وعواقبها.
الثالث : بين سير المسلم وغيره في الأرض عموم وخصوص مطلق، إذ يسير كل منهما للكسب والتجارة مثلاً بينما يتخذ المسلم هذا السير مناسبة للتدبر والإتعاظ من الأمم السالفة، فيمر على الإطلال والخرائب والعروش البالية فيدرك أن حضارات وأمماً وأقواماً عاشوا في الأرض لم يستطيعوا ترك سننهم إرثاً عقائدياً لمن خلفهم ويطمئن المسلم لحقيقة وهي أنه يترك لولده عقيدة الإسلام وسنن التوحيد التي يتجلى فيها إخلاص العبادة لله عز وجل .
وجاءت آية البحث لينتفع الناس جميعاً ومنهم المكذب والمستهزئ من معاني الحجة والبرهان في السير في الأرض.
الرابع : عدم تفريط المسلمين بالجهد والوقت، فالذي يغادر الوطن والسكن، ويتخلى عن المسؤوليات اليومية الراتبة، وينجو من الهموم العرضية التي تصاحبها، لا يترك التفكير والتدبر، بل يوظفهما عند رؤية عاقبة المكذبين في جهات:
الأولى : إدراك قانون دائم[إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( )، وأن أعداء الله لا يستطيعون البقاء في الأرض، أما البقاء الذاتي فهو متعذر قطعاً لأن الموت بعد أجل محدود عاقبة كل إنسان، أما غيره من الذكر والأثر فإن آية البحث تشير إليه .
الثانية : كما أن الأرض ذاتها آية عظمى فإن ما عليها آيات من بديع صنع الله عز وجل، وفيه بيان لحقيقة وهي أن آيات الله عز وجل لا تختص بالخلق والتكوين، إذ تشمل نمو الأشياء وزيادتها وفناءها في أوانها أو قبله أو بعده، ودولة المكذبين بالتوحيد مما يفنى ويزول قبل أوانه، وهو مما تدعو آية البحث إلى التدبر فيه، أي أن قوله تعالى[فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] يتضمن البطش الإلهي بالمكذبين فلم يمهلوا في حياتهم في الدنيا والنعيم الذي يتغشاهم , وفي قوم صالح لما عقروا الناقة ورد قوله تعالى[فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ]( ).
وأخرج بسند متعدد عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما نزل الحجر قام فخطب الناس يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات، فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله إليهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم وردها، ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام.
وكان وعداً من الله غير مكذوب، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلاً كان في حرم الله، فمنعه حرم الله من عذاب الله , فقيل: يا رسول الله من هو؟ قال: أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه)( ).
الثالثة : تحقق مصاديق آية البحث فمع سير المسلم في الأرض تتجلى له الآيات والمعجزات على نحو التعدد في الزمان المتحد، فحينما أمر الله عز وجل بالسير في الأرض لرؤية عاقبة المكذبين فإن الآثار التي تدل عليهم ليست بعيدة أو متعذرة، وهو من أفراد قانون عام في التكاليف الإلهية بأن يكون الإمتثال والشواهد على البراهين الإلهية ظاهرة جلية قريبة لا تستلزم العناء والمشقة.
الرابعة : زيادة الهدى، ونماء ملكة الصلاح وإجتناب السيئات، قال تعالى[وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى]( )، لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مدرسة جامعة لتهذيب النفس وإكتساب الفضائل، والتنزه من الرذائل وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض وقوله تعالى في الرد على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن أفراد التعلم فيها السير في الأرض ورؤية الآثار، فجاءت الآية الكريمة لتوجيه الأبصار والبصائر نحو الأطلال التي تدل على سوء عاقبة المكذبين.
قانون صيغ عذاب المكذبين
تتجلى في خاتمة الآية حقيقة وهي نزول البلاء والعذاب بالكفار والجاحدين بآيات النبوة والتنزيل، ويحتمل وجوها:
الأول : إتحاد نوع العذاب بالمكذبين فذات العذاب يأتي على كل الكفار كالخسف والصاعقة.
الثاني : كل ضرب من ضروب التكذيب له عذاب مخصوص وسنخية من البلاء، وبالإمكان معرفة نوع ومرتبة التكذيب بلحاظ العذاب النازل بالكفار.
الثالث : ليس من حصر لوجوه العذاب الذي يأتي إلى الكفار سواء كان سماوياً أو أرضياً فهو من مصاديق الإرادة الإلهية.
الرابع : التناسب الطردي بين التكذيب وشدة العذاب.
والصحيح هو الثالث والرابع أعلاه، وجاء القرآن بالبيان والتفصيل، وبما يتضمن إقتباس الدروس وإستنباط المسائل منها ومن الإنذارات السابقة لنزول العذاب , وفي قوم لوط ورد قوله تعالى[وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ]( ).
واهلك الله قوم لوط بالصيحة وهو صوت شديد يخلع القلب نازل من السماء بذبذبة قوية وإرتجاج في الهواء وقد ثبت في العلوم العسكرية الحديثة أنه أشد أنواع التدمير، ثم هطلت عليهم أمطار مهلكة، قال تعالى[وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ]( )، ليأتي المطر الشديد على أهل البوادي والرعاة والمسافرين منهم، أما أهل المدائن فروي أن جبرئيل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائنهم فاقتلعها ورفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ثم جعل عاليها سافلها ( ).
وعن ابن عباس قال: لما رأى إبراهيم أنه لا تصل إلى العجل أيديهم نكرهم وخافهم ، وإنما كان خوف إبراهيم أنهم كانوا في ذلك الزمان إذا همّ أحدهم بأمر سوء لم يأكل عنده , يقول : إذا أكرمت بطعامه حرم عليّ أذاه ، فخاف إبراهيم أن يريدوا به سوءاً ، فاضطربت مفاصله ، وامرأته سارة قائمة تخدمهم ، وكان إذا أراد أن يكرم أضيافه أقام سارة لتخدمهم ، فضحكت سارة , وإنما ضحكت انها قالت : يا إبراهيم وما تخاف أنهم ثلاثة نفر وأنت وأهلك وغلمانك؟
قال لها جبريل : أيتها الضاحكة أما أنك ستلدين غلاماً يقال له إسحاق ، ومن ورائه غلام يقال له يعقوب { فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها} فأقبلت والهة تقول : واويلتاه . ووضعت يدها على وجهها استحياء . فذلك قوله {فصكت وجهها وقالت أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً} قال : لما بشر إبراهيم بقول الله { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى } باسحاق {يجادلنا في قوم لوط} وإنما كان جداله أنه قال : يا جبريل أين تريدون ، وإلى من بعثتم؟ قال : إلى قوم لوط وقد أمرنا بعذابهم . فقال إبراهيم { إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته( ).
وكأن عذاب قوم لوط يشير إلى وباء وداء منتشر بينهم بما كسبت أيديهم، فاراد الله تطهير الأرض منهم ومن هذا الداء بالمطر الشديد والإغراق والحجارة الجافة , وقيل هي أحسن صيغ التطهير وفيه دعوة للناس للتوبة من عمل قوم لوط والتنزه عنه خصوصاً وأنه مقدمة للأوبئة والأمراض .
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة قال : كان قوم لوط أربعة آلاف ألف( )، أي أربعة ملايين شخص , وذكرت بعض الدراسات الحديثة في علم الآثار أن عدد سكان تلك القرى نحو ألف ومائتين وان قرية توفيرا أو جمهورا لم تسكن إلا نحو مائة سنة على فرض أنها قرية قوم لوط، وذكر أن تلك القرى إحترقت بدرجة حرارة عالية بلغت خمسة آلاف درجة مئوية فتحول كل شئ إلى رماد، وتقع عند سفح جبل سدوم في الضفة الجنوبية للبحر الميت.
وجاءت السنة النبوية بالنصوص المتعددة التي تتضمن الذم الشديد والزجر عن فعل قوم لوط، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أخوف ما أخاف على أمتى عمل قوم لوط( ).
وقد يكون العذاب متعدداً في مصاديقه ومتعاقبة أفراده، لا ينحصر بصورة وصيغة واحدة كما في قوم فرعون، لتجلي الآيات على يد موسى عليه السلام وإصرارهم على التكذيب بنبوته مع شهادة وتسليم السحرة بصدقها، وعن ابن عباس: أرسل الله على قوم فرعون الطوفان وهو المطر فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر ، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم.
فأنبت الله لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزرع والكلأ ، فقالوا : هذا ما كنا نتمنى ، فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه عليهم ، فلما رأوه عرفوا أنه لا يبقي الزرع قالوا مثل ذلك.
فدعا ربه فكشف عنهم الجراد ، فداسوه وأحرزوه في البيوت فقالوا : قد أحرزنا ، فأرسل الله عليهم القمل : وهو السوس الذي يخرج من الحنطة ، فكان الرجل يخرج بالحنطة عشرة أجربة إلى الرحا فلا يرد منها بثلاثة أقفزة ، فقالوا مثل ذلك ، فكشف عنهم فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل.
فبينا موسى عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع من نهر فقال : يا فرعون ما تلقى أنت وقومك من هذا الضفدع؟ فقال : وما عسى أن يكون عند هذا الضفدع؟ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ، وما منهم من أحد يتكلم إلا وثب ضفدع في فيه ، وما من شيء من آنيتهم إلا وهي ممتلئة من الضفادع . فقالوا مثل ذلك ، فكشف عنهم فلم يفوا.
فأرسل الله عليهم الدم ، فصارت أنهارهم دماً ، وصارت آبارهم دماً، فشكوا إلى فرعون ذلك فقال : ويحكم قد سحركم؟! فقالوا : ليس نجد من مائنا شيئاً في اناء ولا بئر ولا نهر إلا ونجده طعم الدم العبيط . فقال فرعون : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنهم الدم فلم يفوا ( ).
ومن وجوه عذاب المكذبين بالنبوة والتنزيل الخسف، وهو غيبوبة الإنسان والجماعة في الأرض قال تعالى بخصوص قارون[فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ]( )، وعن ابن عباس وكان يبتغي العلم حتى جمع علماً ، فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده . فقال له موسى عليه السلام : إن الله أمرني أن آخذ الزكاة ، فأبى فقال : إن موسى عليه السلام يريد أن يأكل أموالكم . جاءكم بالصلاة ، وجاءكم بأشياء فاحتملتموها ، فتحملوه أن تعطوه أموالكم ؟ قالوا : لا نحتمل فما ترى , فقال لهم : أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل ، فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها.
فارسلوا إليها فقالوا لها : نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك .
قالت: نعم . فجاء قارون إلى موسى عليه السلام , قال : أجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك قال : نعم . فجمعهم فقالوا له : بم أمرك ربك؟ قال : أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تصلوا الرحم، وكذا وكذا ، وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم . قالوا : وإن كنت أنت , قال : نعم.
قالوا : فإنك قد زنيت قال : أنا . فأرسلوا إلى المرأة ، فجاءت فقالوا : ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى عليه السلام : أنشدك بالله إلا ما صدقت , قالت : أما إذ نشدتني بالله فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي ، وأنا أشهد أنك بريء ، وأنك رسول الله ، فخر موسى عليه السلام ساجداً يبكي ، فأوحى الله إليه : ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض ، فمرها فتطيعك .
فرفع رأسه فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم ، فجعلوا يقولون : يا موسى . . . يا موسى . . . فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم ، فجعلوا يقولون : يا موسى . . . يا موسى . . . فقال : خذيهم فغيبتهم , فأوحى الله يا موسى : سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم ، وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم . قال ابن عباس : وذلك قوله تعالى { فخسفنا به وبداره الأرض} وخسف به إلى الأرض السفلى( ).
والخسف من وجوه البلاء التي تحدث في آخر الزمان كما ورد في السنة النبوية، وفي قوله تعالى[حم *عسق]( )، (عين) فيها عذاب، (سين) فيها مسخ، (ق) فيها قذف. يدلّ عليه ما روي في حديث مرفوع إنّ النبي {صلى الله عليه وسلم} لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجهه، فقيل له : ما هذه الكآبة يارسول الله؟ قال : أخبرت ببلاء ينزل في أمتي. من خسف ومسخ وقذف، ونار تحشرهم وريح تقذفهم في اليم، وآيات متتابعات متصلة بنزول عيسى (عليه السلام)، وخروج الدجال ( ).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم :لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، وحتى يقبض العلم وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان.
ومن وجوه العذاب النقص في الغذاء وغور الماء وإمتناع السماء، وإبتلاء الناس بالفزع والخوف , قال تعالى[وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] ( ).
ولم تذكر الآية أعلاه التكذيب بالآيات بل أخبرت عن الجحود بالنعم التي تفضل الله عز وجل بها، وهو أدنى مرتبة من التكذيب ويدل على الإعراض عن الإيمان، وعدم مقابلة النعم بالشكر لله عز وجل، مع أنها ظاهرة في ذاتها , وليس في أسبابها المادية والكسب.
وكان الأنبياء يحذرون قومهم من نزول العذاب بهم، ويستشهدون بما حلّ بالمكذبين بالرسالات والأنبياء السابقين كما في خطاب شعيب لقوله[وَيَاقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ]( ).
وهذا التحذير نوع إنذار ورحمة من الله عز وجل بالناس بواسطة الأنبياء، ودعوة لهم للإنابة والتدارك وإتباع السنن والتقيد بأحكام الشريعة, ومنهم من تلقى التحذير بالتحدي المقرون بالإستهزاء كما في شمول قوم صالح وإجهازهم على الناقة التي هي آية ونعمة من السماء، قال تعالى[فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ]( ).
وأخرج سنيد وابن جرير والحاكم من طريق حجاج عن أبي بكر عن عبد الله عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كانت ثمود قوم صالح ، اعمرهم الله في الدنيا فأطال أعمارهم حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل منهم حي ، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً فنحتوها وجابوها وخرقوها ، وكانوا في سعة من معايشهم .
فقالوا : يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله . فدعا صالح ربه فأخرج لهم الناقة ، فكان شربها يوماً وشربهم يوماً معلوماً، فإذا كان يوم شربها خلوا عنها وعن الماء وحلبوها لبناً وملأوا كل اناء ووعاء وسقاء ، حتى إذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء , فلم تشرب منه شيئاً
فأوحى الله إلى صالح : إن قومك سيعقرون ناقتك . فقال لهم : فقالوا : ما كنا لنفعل . . . ! فقال لهم : أن لا تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها . قالوا : فما علامة ذلك المولود ، فوالله لا نجده إلا قتلناه؟ قال : فإنه غلام أشقر أزرق أصهب أحمر . وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان لاحدهما ابن يرغب به عن المناكح ، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤا ، فجمع بينهما مجلس فقال أحدهما لصاحبه : ما يمنعك أن تزوج ابنك؟ قال: لا أجد له كفؤا ، قال : فإن ابنتي كفء له فانا أزوجك . فزوجه ، فولد بينهما مولود . وكان في المدينة ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فلما قال لهم صالح : إنما يعقرها مولود فيكم . اختاروا ثماني نسوة قوابل من القرية ، وجعلوا معهن شرطاً كانوا يطوفون في القرية فإذا نظروا المرأة تمخض نظروا ما ولدها؟ إن كان غلاماً قلبنه فنظرن ما هو؟ وإن كانت جارية أعرضن عنها.
فلما وجدوا ذلك المولود صرخت النسوة : هذا الذي يريد صالح رسول الله ، فأراد الشرط أن يأخذوه فحال جداه بينهم وقالوا : لو أن صالحاً أراد هذا قتلناه ، فكان شر مولود وكان يشب في اليوم شباب غيره في الجمعة ، ويشب في الجمعة شباب غيره في الشهر ، ويشب في الشهر شباب غيره في السنة ، فاجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وفيهم الشيخان ، فقالوا : استعمل علينا هذا الغلام لمنزلته وشرف جديه فكانوا تسعة ، وكان صالح لا ينام معهم في القرية ، كان يبيت في مسجده ، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم ، وإذا أمسى إلى مسجده فبات فيه .
قال حجاج ، وقال ابن جريج : لما قال لهم صالح : إنه سيولد غلام يكون هلاككم على يديه قالوا : فكيف تأمرنا؟ قال : آمركم بقتلهم : فقتلوهم إلا واحداً قال : فلما بلغ ذلك المولود قالوا : لو كنا لم نقتل أولادنا لكان لكل رجل منا مثل هذا ، هذا عمل صالح ، فأتمروا بينهم بقتله وقالوا : نخرج مسافرين والناس يروننا علانية ، ثم نرجع من ليلة كذا من شهر كذا وكذا فنرصده عند مصلاه فنقتله فلا يحسب الناس إلا أنا مسافرون كما نحن ، فاقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصدونه ، فأرسل الله عليهم الصخرة فرضختهم فاصبحوا رضخاً ، فانطلق رجال ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ ، فرجعوا يصيحون في القرية : أي عباد الله أما رضي صالح إن أمرهم أن يقتلوا أولادهم حتى قتلهم؟! فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة أجمعين ، وأحجموا عنها إلا ذلك ابن العاشر.
ثم رجع الحديث إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأرادوا أن يمكروا بصالح ، فمشوا حتى أتوا على شرب طريق صالح فاختبأ في ثمانية ، وقالوا : إذا خرج علينا قتلناه وأتينا أهله فبيتناهم ، فأمر الله الأرض فاستوت عليهم، فاجتمعوا ومشوا إلى الناقة وهي على حوضها قائمة ، فقال الشقي لأحدهم ، ائتها فاعقرها . فاتاها فتعاظمه ذلك فاضرب عن ذلك ، فبعث آخر فأعظمه ذلك ، فجعل لا يبعث رجلاً إلا تعاظمه أمرها حتى مشى إليها وتطاول فضرب عرقوبيها فوقعت تركض، فرأى رجل منهم صالحاً , فقال : أدرك الناقة فقد عقرت . فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبي الله إنما عقرها فلان إنه لا ذنب لنا .
قال : فانظروا هل تدركون فصليها؟ فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب . فخرجوا يطلبونه ، فلما رأى الفصيل أمه تضطرب أتى جبلاً يقال له القارة قصير ، فصعد وذهبوا ليأخذوه ، فأوحى الله إلى الجبل، فطال في السماء حتى ما تناله الطير ، ودخل صالح القرية فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ، ثم استقبل صالحاً فرغا رغوة ، ثم رغا أخرى ، ثم رغا أخرى.
فقال صالح لقومه : لكل رغوة أجل فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ، الا أن آية العذاب أن اليوم الأول تصبح وجوهكم مصفرة ، واليوم الثاني محمرة ، واليوم الثالث مسودة ، فلما أصبحوا إذا وجوههم كأنها قد طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم ، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل وحضركم العذاب ، فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنها خضبت بالدماء ، فصاحوا وضجوا وبكوا وعرفوا أنه العذاب فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب ، فلما أصبحوا اليوم الثالث فإذا وجوههم مسودة كأنها طليت بالقار ، فصاحوا جميعاً ألا قد حضركم العذاب فتكفنوا وتحنطوا .
وكان حنوطهم الصبر والمغر وكانت أكفانهم الانطاع ، ثم ألقوا أنفسهم بالأرض فجعلوا يقلبون أبصارهم فينظرون إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة فلا يدرون من أين يأتيهم العذاب ، من فوقهم من السماء أم من تحت أرجلهم من الأرض خسفاً أو قذفاً ، فلما أصبحوا اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض ، فتقطعت قلوبهم في صدورهم ، فاصبحوا في ديارهم جاثمين( ).
أما قوم عاد فقد أنتقم الله عز وجل منهم بالريح والعواصف فائقة السرعة لا يصاحبها أو يتعقبها المطر، قال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ] ( )، فبادروا للجوء إلى حفر عميقة في الأرض أشبه بالملاجئ ريثما تهدأ وتسكن العاصفة , وكان رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى هبوب الريح ظهر الخوف والإهتمام على وجهه.
(وعن عائشة أنه كان إذا اعصفت الريح يقول: اللهم اني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به( ).
وقد ورد ذكر الطوفان في موضعين، وقصة نبي الله نوح ونبي الله موسى وبينهما عموم وخصوص مطلق، فالطوفان أيام نوح أعم وأوسع، وقد ذكرته الكتب السماوية وأخبار الأمم السابقة، لتكون قصة الطوفان أيام نوح وتغطية الماء لعموم الأرض مما تجمع عليه الكتب السابقة سماوية كانت أو تأريخية ليكون انذاراً للأمم وجزء من تراثها , وصارت بعثة نوح ثم الطوفان بداية لتأريخ إعتمده الناس.
وعن الزهري والشعبي: لما هبط آدم من الجنة وانتشر ولده أرخ بنوه من هبوط آدم , فكان ذلك التأريخ حتى بعث الله نوحاً ، فأرّخوا ببعث نوح حتى كان الغرق ، فكان التأريخ من الطوفان إلى نار إبراهيم ، فأرّخ بنو إسحق من نار إبراهيم إلى بعث يوسف .
ومن بعث يوسف إلى مبعث موسى ، ومن مبعث موسى إلى ملك سليمان ، ومن ملك سليمان إلى ملك عيسى ، ومن مبعث عيسى إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرخ بنو إسمعيل من نار إبراهيم إلى بناء البيت حين بناه إبراهيم وإسماعيل ( ).
وعن مجاهد قال: مكث نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله يسره إليهم ثم يجهر به لهم ، ثم أعلن قال مجاهد رضي الله عنه : الاعلان الصياح : فجعلوا يأخذونه فيخنقونه حتى يغشى عليه فيسقط إلى الأرض مغشياً عليه ، ثم يفيق فيقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . فيقول الرجل منهم لأبيه : يا أبت ما لهذا الشيخ يصيح كل يوم لا يفتر؟
فيقول : اخبرني أبي عن جدي أنه لم يزل على هذا منذ كان ، فلما دعا على قومه أمره الله أن يصنع الفلك فصنع السفينة ، فعملها في ثلاث سنين كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه يعجبون من نجارته السفينة ، فلما فرغ منها جعل له ربه آية إذا رأيت التنور قد فار فاجعل في السفينة من كل زوجين اثنين وكان التنور فيما بلغني في زاوية من مسجد الكوفة ، فلما فار التنور جعل فيها كل ما أمره الله
قال : يا رب كيف بالأسد والفيل؟ قال : سألقي عليهما الحمى إنها ثقيلة ، فحمل أهله وبنيه وبناته وكنائنه ودعا ابنه ، فلما أبى عليه وفرغ من كل شيء يدخله السفينة طبق السفينة الأخرى عليهم ولولا ذلك لم يبق في السفينة شيء إلا هلك لشدة وقع الماء حين يأتي من السماء , قال الله تعالى { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } فكان قدر كل قطرة مثل ما يجري من فم القربة ، فلم يبق على ظهر الأرض شيء إلا هلك يومئذ إلا ما في السفينة ، ولم يدخل الحرم منه شيء ( ).
وعن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام قال: فار الماء من التنور من دار نوح عليه السلام ، من تنور تختبز فيه ابنته ، وكان نوح يتوقع ذلك إذ جاءته ابنته فقالت : يا أبت قد فار الماء من التنور . فآمن بنوح النجارون إلا نجاراً واحداً فقال له : اعطني أجري قال : أعطيتك أجرك على أن تركب معنا . قال : فإن وداً وسواع ويغوث ونسراً سينجوني . فأوحى الله إليه أن احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ، وكان ممن سبق عليه القول امرأته والقة وكنعان ابنه .
فقال : يا رب هؤلاء قد حملتهم فكيف لي بالوحش والبهائم والسباع والطير؟ قال : أنا أحشرهم عليك : فبعث جبريل عليه السلام فحشرهم ، فجعل يضرب بيديه على الزوجين فجعل يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيدخله السفينة ، حتى أدخل عدة ما أمره الله تعالى به،
فلما جمعهم في السفينة رأت البهائم والوحش والسباع العذاب ، فجعلت تلحس قدم نوح عليه السلام وتقول : احملنا معك . فيقول : إنما أمرت من كل زوجين اثنين ( ).
ومن وجوه العذاب المسخ وهو تغيير الصورة النوعية إلى ما هو قبيح عقوبة من الله، قال تعالى[وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ]( )، ومنها الإبتلاء النوعي بالأمراض، بأن تشكو الأمة من مرض مخصوص كالطاعون وما يصعب علاجه، وفيه إنذار ووعيد ودعوة لجذب الناس إلى منازل الإيمان، والتضرع إلى الله طلباً للنجاة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِى قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِى لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِى أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا ( ).
وهل أخبار وصنوف العذاب بالمكذبين التي ذكرت في القرآن من مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، أم أنها أمر آخر، الجواب هو الأول، إذ يتجلى حسنها من وجوه:
الأول : التوثيق السماوي لتلك الصنوف من العذاب.
الثاني : تأكيد عظيم قدرة الله وسلطانه في الأرض وفي السماء، أما في الأرض فلما ينزل بالكافرين، وأما في السماء لأن بعض ضروب البلاء تأتيهم من السماء كالمطر الغزير والريح العاصفة والحجارة، قال تعالى[وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ]( )، سدوم وهي قرية لوط والذين أتوا عليها هم قريش، فالآية لتذكيرهم ودعوتهم للإتعاظ والإعتبار منها.
قانون ضروب التكذيب
ذكرت الآية (المكذبين) وفيه ثلاثة أطراف:
الأول : الذين يكذبون بأمر متحد أو متعدد.
الثاني : التكذيب الذي خلاف وظيفة الإنسان وما رزقه الله من القدرة على الفعل بدليل منطوق الآية وما فيها من تجليات الدلائل، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى[سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ]( ).
فقد جمع الكفار بين أمرين يتصفان بالقبح الذاتي وهما التكذيب بالمعجزات والدلالات الباهرات على وجوب عبادته تعالى، وظلمهم لأنفسهم بذات التكذيب وإصرارهم على العناد وركوب الجهالة والإقامة على المعصية.
وعن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِى يَعُودُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِى قَيْئِهِ)( ).
الثالث : الأمر الذي يكذبون به.
ولم تذكر آية البحث الطرف الثالث لوجوه :
الأول : تعدد مصاديق وأفراد المكذب به.
الثاني : التباين والإختلاف في الأفراد التي كذبوا بها، فمنهم من يكفر بالربوبية، ومنهم يكفر بالتنزيل أو الرسالة.
الثالث : الدعوة للإيمان بالله ونبذ الشرك.
الرابع : ذكر القرآن لوجوه ومصاديق التكذيب وبما يفضح الكفار ويؤكد إستحقاقهم لنزول البلاء العاجل في الحياة الدنيا، وأفراد التكذيب التي جاء القرآن بذم الكفار عليها على وجوه، هي:
الوجه الأول : التكذيب بالرسل، قال تعالى[وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ]( )، والحجر مدينة، وسموا أصحاب الحجر لإرادة أمور :
الأول : انهم سكانه والمقصود ثمود.
الثاني : إرادة استيلائهم على المكان وسطوتهم فيه.
الثالث : يأتون الرسل لدعوتهم وأهل المدينة في عز وسلطان، لذا ورد قوله تعالى[وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا]( )، وعن قتادة في قوله(اصحاب الحجر) قال: أصحاب الوادي( ). ومن الإعجاز في الآية أعلاه في باب الحجة أمور:
الأول : مجئ الآية بذكر المرسلين وليس الأنبياء، وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي وليس العكس.
الثاني : يأتي الرسول بالمعجزة الخاصة به والتي تدل على صدق رسالته، كما في معجزة صالح وهي الناقة ومن الرسل من تعددت أفراد معجزاته كما في موسى عليه السلام والآيات المتكثرة التي تفرعت عن تلك العصا المباركة، وكما في معجزة عيسى عليه السلام وفي التنزيل حكاية عنه[أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ]( )، وجاءت معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن لتتغشى معجزات الرسل جميعاً، وتكون كل آية منه معجزة قائمة بذاتها ومتجددة في دلالاتها إلى يوم القيامة، ومنها آية البحث وإعجازها الذاتي في الإخبار عن الشواهد التي تدل على العقاب العاجل الذي حلّ بالكفار وديارهم، وإعجازها الغيري بصيرورة الخراب والأطلال موعظة وسبيل توبة وصلاح للناس، وآلة للذكر والإستغفار وكأنها ليست خرائب بل تنبض بالحياة بالنسبة لأهل كل زمان إنقرض أهلها بالعذاب الدفعي أو التدريجي، وبقيت تلك الأطلال تتحدث بلسان تترجمه آية البحث إذ أنها تدل على تلك الشواهد وتدعو المسلمين والناس للإعتبار منها، مما يدل على أنها أمر وجودي وليس عدمياً بدليل أنها موضوع للنظر بقوله تعالى[فَانْظُروا كَيْفَ].
الثالث : صيغة الجمع والتعدد في لفظ(المرسلين) لبيان تجدد الحجة وتوالي البرهان على الناس لرحمة من عند الله عز وجل بهم ومقدمة لنزول العذاب بهم، ومن الآيات أن تكذيبهم للرسل متباين في كيفيته وإن إتحد في ماهيته وتضمن إيذاء الرسل والإضرار بهم، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت( )، ليكون من مصاديق الأذى وزيادته تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس بوضوح.
الرابع : بيان رحمة الله عز وجل بالناس وتأكيد حقيقة وهي أن تكذيب الناس بالأنبياء لم يقطع مجئ الأنبياء عنهم، بل زاد الله عز وجل عليهم من فضله ببعثه الرسل، يكذبون الرسول فيبعث لهم الله غيره بمعجزة جديدة قال تعالى[ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ]( ).
ويحتمل لفظ الأحاديث في الآية أعلاه وجوهاً:
الأول :اسم جمع للحديث والقول.
الثاني : إرادة جمع الأحدوثة على وزن افعولة أي التي يتناقلها الناس تعجباً وإستغراباً يقال صار فلان حديثاً.
الثالث : المراد المثل الذي يستشهد به الناس.
الرابع : إرادة المعنى الجامع للوجوه أعلاه.
والصحيح هو الأخير، ومن الأول ما يترشح عن آية البحث من الإستدلال والإستقراء.
الخامس : مع الرسول يأتي الكتاب المنزل، ويكون حجة إضافية لذا وردت الآيات بذم الذين يكذبون بالتنزيل، قال تعالى[الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا]( ).
وكان بعض الأنبياء يخشى تكذيب الناس له كما ورد على لسان موسى عليه السلام[قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ]( )، وهذا الخوف ليس على نفسه، وموضوع خشية موسى في المقام على وجوه:
الأول : سأل موسى الأمن لنفسه وأهله خصوصاً وأنه كان يخشى مؤاخذته وقتله.
الثاني : سأل موسى عليه السلام الآيات والمعجزات التي تحول دون تكذيب آل فرعون له.
الثالث : أراد موسى عليه السلام مؤازرة بني إسرائيل له وإظهارهم التصديق بنبوته.
الرابع : سؤال موسى أن يكون أخوه هارون عضداً له، كما ورد حكاية عن موسى في التنزيل[وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ]( )، وقيل أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كرسالة موسى جاءته بغتة فنودي محمد في غار جبل حراء كما نودي موسى في جانب جبل الطور ، وأنه اعتراه من الخوف مثل ما اعترى موسى( ).
ولكنه قياس مع الفارق، إذ يدل الجمع والمقارنة بين هذه القصة ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على تفضيله على الأنبياء السابقين مع أن موسى عليه السلام رسول من الخمسة أولي العزم، فلم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مطلوباً بقتل، بل كان يسمى(الصادق الأمين) وبعث بين قومه وأهله، ولم يطلبوه عند ولادته وفي صغره بل كان محل عناية ورعاية بني هاشم مع تجلي بشارات وعلامات النبوة.
ولم يعتر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخوف من كبراء المشركين من قريش كحال وخشية موسى عليه السلام.
الخامس : كان خوف موسى عليه السلام متعدداً من جهتين :
الأولى : خشية قتل بني إسرائيل له [قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ]( ).
الثانية : خوف موسى من نزول العذاب بآل فرعون عندما يكذبونه خصوصاً وأنه عاش في صغره في كنفهم ورعايتهم، فالمراد من[رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ] أي الخوف مما يترشح من تكذيبهم لموسى وهو على وجوه:
الأول : هلاك آل فرعون ونزول العذاب بهم، قال تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( ).
الثاني : إتباع فريق من الناس لأل فرعون في تكذيبهم بالنبوة، وشطر من الناس على دين ملوكها.
الثالث : لحوق الأذى بموسى وأهله لأن النبوة تقويض وفضح لإدعاء فرعون الربوبية، ومحاولة إنتقامه ومنعه من بيان زيفها.
الرابع : خوف موسى على بني إسرائيل لما يصيبهم من الغدر من فرعون وقومه بسبب رسالة موسى عليه السلام.
الخامس : خشية موسى من مجئ السحرة بما يفتن الناس ويجعلهم يثورون على موسى عليه السلام.
السادس : خوف موسى من صيرورة خاتمة أيام آل فرعون من مصاديق سوء العاقبة الذي تذكره آية البحث بقوله تعالى[فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
لقد أراد موسى عليه السلام لآل فرعون الإيمان والتصديق برسالته والإخلاص في عبادة الله، فمن خصال الأنبياء الرحمة بالناس جميعاً والسعي لدفعهم عن أسباب جلب الضرر على أنفسهم.
لقد تحلى الأنبياء بالصبر في الدعوة إلى الله، وهو موضوع إضافي في الحجة على المكذبين، بالإضافة إلى رأفة الأنبياء بهم وخشيتهم من إصرارهم على التكذيب لأن الأنبياء يعلمون بسوء عاقبة التكذيب في الدنيا والآخرة.
وهذا العلم لم يخفه الأنبياء بل أظهروه للناس، وبينوه حتى للظالمين وتحملوا بسبب هذا البيان شتى صنوف الأذى وبعضهم قتل بسببه مع أنه مقرون بالمعجزة والشواهد الدالة على صدق النبوة، وكأن الأنبياء يقولون لهم:إياكم أن تكونوا من الذي سوف يصبحون عبرة وموعظة ينظر المسلمون والناس في أطلالهم وخرائبهم.
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين أمور:
الأول : إنفراد أمته برؤية آثار المكذبين بنبوته والنبوة الرسل السابقين.
الثاني : بقاء آثار المكذبين به إلى يوم القيامة لتشهد على قبح فعلهم وسوء عاقبة الذين يكذبون به.
الثالث : الإنذار والوعيد للذين يكذبون بنزول القرآن من عند الله، وتجدد هذا الإنذار كل يوم وإلى يوم القيامة.
الرابع : تلاوة المسلمين للآيات التي تدل على البطش الإلهي بالظالمين، وما فيها من تذكير الناس بهذا القانون.
الوجه الثاني : التكذيب بالآيات، ومن فضل الله عز وجل وعظيم قدرته أن آياته من اللامتناهي بالنسبة للشخص الواحد والجماعة وأهل القرية والأمة، وان لم يلتفت إليها الإنسان سهواً أو غفلة أو عن عمد تغزوه وتداهمه وتكون حاضرة عند حواسه وفي الوجوه الذهني طوعاً وقهراً.
ومن الإعجاز وتمام الحجة على الناس التداخل بين سبل الدعوة إلى طاعة الله، فبعثة الرسول آية، وهو يأتي في كل آن بآية، وتأتي الآيات مستقلة وقائمة بذاتها لطفاً من عند الله بالناس جميعاً ومنها ما هو سابق لوجود الإنسان في الأرض لتستمر ملازمة له أو تزول وتحل بدلاً عنها آية أكثر إشراقة، قال تعالى[مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( ).
ومن اللطف الإلهي في تقريب الناس للعبادة، وظهور وتجلي الآيات الكونية وكأن بينها وبين حواس الإنسان تناغماً، إذا أرادت الحواس الإعراض عنها فانها تأتيها من جهة أخرى لأنها مبينة بفضل الله، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ]( ).
ومن إعجاز القرآن تقسيمه إلى سور وآيات، وكل آية مدرسة قائمة بذاتها، قال تعالى[ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ]( )، وكما أن الآيات رحمة بالناس فهي حجة عليهم ومن أسباب نزول العذاب بالمكذبين، وتكون شاهداً على الناس يوم القيامة.
الوجه الثالث : التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تعدد وعظمة المعجزات التي جاء بها، وإختصاص نبوته بالجمع بين المعجزات العقلية والحسية ليكون من مصاديق النظر إلى عاقبة المكذبين بنبوته معرفة المسلمين لحال وشأن وسطوة هؤلاء المكذبين قبل نزول البلاء بهم، مثل كفار قريش، قال تعالى[وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ]( ).
ليأتي للناس توثيق تكذيب قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة المواساة له بأن الأنبياء السابقين لاقوا ذات الأذى فقد كذبهم المشركون، وفي نوح ورد قوله تعالى[كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ]( ).
أي قالو المكذبون غطي على عقله بآفة تصيبه، وفي معنى مزدجر وجوه:
الأولى : زجروا نوحاً بالشتم.
الثاني : رموه بالقبيح.
الثالث : إزدجر بالوعيد بالقتل , ويدل عليه قوله تعالى[لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ]( ).
ولا مانع من إجتماع هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية.
إن التحذير والإنذار من التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتذكير بعاقبة الرسل الذين من قبله من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ أن الإنذار نوع طريق لتوبة كثير من الناس، وسبب لهدايتهم وإجتنابهم لمفاهيم الكفر والضلالة.
لقد إقترنت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعرفة الناس بقانون سوء عاقبة الظالمين، وتفقههم بماهية الدنيا وزخرفها وسرعة زوالها، ولزوم إختيار التقوى للفوز بحسن العاقبة، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
الرابع : التكذيب بالدين والشريعة السماوية، قال تعالى[كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ]( ).
وفي الآية أعلاه قال ابن عباس التكذيب (بالحساب والجزاء) ( )، والمراد المعنى الأعم , فمن الناس من لا ينكر الدين والشريعة ووظائف العبودية فجاءت الآية أعلاه بالوعيد والتخويف على إنكار النبوات , وما جاء به التنزيل من القطع بيوم القيامة وذكر أهوال الحساب والإنذار من الشك في البعث وعالم الجزاء، وفي التنزيل[وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ]( ).
الخامس : تأكيد القرآن لسوء عاقبة الذين يكذبون بيوم القيامة وبعث الناس للحساب، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، فإما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد ، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً)( ).
ومن إعجاز القرآن بيان كلي وهو أن إضرار المكذبين بأنفسهم لا يختص بالحياة الدنيا بل يشمل عالم البرزخ ويوم القيامة، قال تعالى[قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ]( ).
لقد جاء القرآن بالذم للذين يكذبون بيوم القيامة ومواطنها وأحوالها، فمرة يأتي ذكر الساعة، قال تعالى[بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا]( )، وتخبر آية أخرى بأنهم يكذبون بلقاء الآخرة ويصرون على الجحود بيوم الحساب والحياة بعد الموت، ويكذبون بعذاب النار وخلود الكفار في الجحيم , وتتضمن آية البحث إنذار الكفار من الإقامة على التكذيب بالآيات ومعجزات النبوة لتكون مناسبة كريمة لهم للتدارك والتوبة وإظهار التصديق بالتنزيل.
وجاءت آيات أخرى تفيد تذكيرهم يوم القيامة بإصرارهم على التكذيب ويتجلى هذا التذكير حال البعث والنشور، قال تعالى[هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ]( )، عن عبادة بن الصامت عن كعب رضي الله عنه قال: إذا حشر الناس نادى مناد : هذا يوم الفصل أين الذين { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ }( )، أين الذين {يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} ثم يخرج عنق من النار فيقول : أمرت بثلاث : بمن جعل مع الله إلهاً آخر . وبكل جبار عنيد . وبكل معتد، لأنا أعرف بالرجل من الوالد بولده ، والمولود بوالده، ويؤمر بفقراء المسلمين إلى الجنة فيحبسون فيقولون : تحبسونا ما كان لنا أموال ولا كنا أمراء)( ).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطـائي
صاحــــــــب أحســـــــــــــن تفســـــــــير للقرآن
وأستاذ الفقه والأصول والتفســير والأخــلاق العدد: 971
___________________ التاريخ: 13/9/2013
م/عدة المطلقة اليائس
قال تعالى[وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ]
الحمد لله الذي أنعم علي بصدور الجزء المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن) في آية واحدة من سورة آل عمران، وطوبى لمن إقتنى أو إطلع على نسخة منه.
وفي سبب نزول الآية أعلاه ورد عن أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول اللَّه إنّ ناساً من أهل المدينة لما نزلت الآيات التي في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل، فأنزل اللَّه: {اللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر }، { واللائي لم يَحِضْنَ } يعني كذلك عدتهن ثلاثة أشهر)، وقيل بضعف خبر أبي وأنه منقطع، ولكن موضوع الخبر متعدد في جهته وصحيح، وقيل لما بيّن الله تعالى عدة ذوات القروء وذوات الحمل في سورة البقرة، وبقيت اليائس والتي لم تحض إرتاب أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمرهما فنزلت هذه الآية، والمشهور نزول سورة الطلاق بعد سورة البقرة، وذكر قول ثان في الآية وهو إتحاد موضوع اليأس والإرتياب فإن إرتبتم أو إرتبن هن يكون الإعتداد بثلاثة شهور ، ونسب سقوط العدة عن الآيس إلى داود الظاهري ولم تثبت هذه النسبة.
وإذا كانت المطلقة آيسا فإن الآية الكريمة لا تنفي العدة عنها، وتحتمل الآية حذفاً وتقديرها: اللائي يئسن وإن إرتبتم) لإرادة أن عدة المرتابة بالشهور وليس إنتظار الحيض الذي يغيب مدة الشهرين والثلاثة ولمرات قبل إنقطاعه نهائياً، لذا لم تقل الآية (إن إرتبتن) بل تعلق الإرتياب بالأزواج.
ومشهور الإمامية هو أن الآيس لا عدة عليها، وإجماع المذاهب الأربعة أن عليها العدة ثلاثة أشهر، وقال الشيخ الطوسي: وعدة الآيسة من الحيض ومثلها لا تحيض، فلا عدة عليها، عند أكثر أصحابنا، وقال قوم: عدتها بالأشهر)( ).
وجاء التقييد بإنتفاء العدة صريحاً في القرآن بخصوص غير المدخول بها، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا] سورة الأحزاب 49، ليكون مدار العدة على الدخول بالمرأة فإذا دخل بها يلزم طلاقها العدة إلا ما خرج بالدليل , وهي على جهات:
الأولى : عدة التي لم تبلغ الحيض، ومثلها لا تحيض. الثانية : التي تحيض وعدتها ثلاثة أقراء على إختلاف في معنى القرء والمختار والمشهور أنه الطهر الحاصل بين حيضتين. الثالثة : التي إرتفع حيضها ومثلها تحيض وعدتها ثلاثة أشهر. الرابعة : الحامل، وعدة طلاقها وضع حملها.
الخامسة : التي لا تحيض ومثلها تحيض، وعدتها بالأشهر ثلاثة أشهر، وحدد جمع من الفقهاء عمرها بأنه أقل من خمسين سنة. السادسة : المرتابة التي إنقطع حيضها قبل سن اليأس.
السابعة : طلاق الآيس المدخول بها.
وتحتمل الآية أعلاه من سورة الطلاق بالدلالة التضمنية لزوم العدة على الآيس.
واليأس هو إنقطاع الرجاء بالحيض، والمرتابة هي التي قاربت سن اليأس وترجو الحيض ولا يجتمع المتضادان أي وجود الرجاء وإرتفاعه، وموضوع اليأس والإرتياب واحد وهو حال المطلقة من الحيض، وجعل المرتضى متعلق الإرتياب هو الجهل في أصل الحكم، وقال بأن حكم اليائسة الإعتداد ثلاثة أشهر، وبه قال أيضا ابن سماعة وابن شهرآشوب وإحتاط فيه ابن زهرة.
ووردت نصوص عن الإمام الصادق عليه السلام , وهي على قسمين، قسم منها يبين لزوم العدة على الآيس منها , حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينبغي للمطلقة أن تخرج إلى بأذن زوجها حتى تمضي عدتها ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر إن لم تحض) وجاء الحديث مطلقاً وتخرج غير المدخول بها بالتخصص.
وعن داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: عدة المطلقة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر إن لم تكن تحيض)، وأستدل على إنتفاء العدة عن اليائس بنصوص منها حسنة زرارة عن الصادق عليه السلام في الصبية التي لا تحيض مثلها والتي قد يئست من المحيض ليس عليها عدة وإن دخل بها).
وفي صحيحة حماد بن عثمان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن التي يئست من المحيض يطلقها زوجها قال: بانت منه، ولا عدة عليها).
ومع التعارض بين الروايات نرجع للأصل وهو الآية القرآنية وموضوع الآيس عام البلوى من أيام التنزيل والنبوة وأيام أمير المؤمنين والحسن والحسين وزين العابدين والباقر عليه السلام، فلابد أن هناك حكماً متسالماً ومتعارفاً عليه وهو على الظاهر الملازمة بين الدخول والعدة فمن دخل بها زوجها ثم فارقها فلابد من عدة تعتدها مع موضوعية الإحتياط في الخروج في المقام التي تتجلى بالعدة.
وقد وردت النصوص بالتوارث بين الزوج والزوجة أثناء العدة الرجعية لأنها ملحقة بالزوجة، واليأس من الحيض ليس علة تامة للحرمان من هذا الحق ما دام قد حصل دخول وذاق كل منهما عسيلة الآخر، وليس اليأس مثل البينونة في الطلاق كما في التي طلقت ثلاثاً ، خصوصاً وإن الحكمة من عدة المطلقة على وجوه:
الأول : عدم إختلاط ماء أكثر من واطئ. الثاني : العدة حق للزوج بالرجوع بالمرأة بالتدارك أو الندم.
الثالث : موضوعية المهر والإنفاق والعشرة بين الزوجين.
الرابع : إطلاق وإستصحاب قوله تعالى[وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً]سورة الروم 21.
الخامس : شأن وموضوعية عقد الزواج والرابطة المترشحة عنه.
السادس : إصلاح المجتمعات وبث روح الألفة والمودة فيها، والأسرة نواة المجتمع , ودفع أبغض الحلال بالإنابة والوئام.
السابع : حق الزوجة في الرجوع مدة العدة وان كانت آيساً ما دامت مدخولاً بها، والتدارك وإزاحة أسباب النفرة، لذا يجب أن تبقى المطلقة الرجعية مدة العدة في بيتها وتتزين لزوجها.
الثامن : حق الولد إن وجد والأقارب في سلامة العلقة الزوجية خصوصاً في سن اليأس.
التاسع : تجلي التكامل في قوانين الشريعة الإسلامية وصيغ الإنصاف فيها والمختار والظاهر من الآية القرآنية وجوب العدة على اليائس، وهو موافق لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام , وقاعدة نفي الحرج في الدين وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا) وقال: إذا حدثتم الناس عن ربهم، فلا تحدثوهم بما يفزعهم ويشق عليهم)( ).
ومن الإعجاز المستحدث في قوله تعالى[وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ] الإرتقاء في علوم الطب وإمكان الحمل للآيس اليوم أو غدا، فيكون من الريب والشك إحتمال أخذها لعلاج الحمل، ولكن هذا الأمر ليس علة تامة للمختار وهو حكم بالعدة بالشهور للمطلقة الآيس، مع إكرامي للفقهاء والعلماء الذين يفتون بعدم العدة على الآيس، والعلم عند الله.
حرر في النجف الأشرف
5 ذي القعدة 1434 هـ

القنوت في صلاة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الى سماحة وفضيلة المرجع الاعلى في النجف الاشرف الشيخ الاستاذ صالح الطائي دام ظله الوارف
س: ماهو رأي سماحة المرجع الاعلى في النجف الاشرف الاستاذ الشيخ الفاضل اية الله العظمى صالح الطائي دام ظله الوارف في مسالة تعدد القنوت في صلاة الجمعة

                              ممثل سماحة المرجع الاعلى في امريكا الشمالية 
                                    الشيخ رحيم السعيدي الناصري
                امام وخطيب مركز فاطمة الاسلامي حسينية ام البنين

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
القنوت لغة على وجوه منها الطاعة والخشوع والصلاة والدعاء والقيام، وفي الإصطلاح رفع اليدين والدعاء حال القيام في الصلاة، والقنوت في صلاة الجمعة مستحب سواء كان متحداً أو متعدداً.
فيه أقوال : الأول : وهو المشهور فيها قنوتان:
1-في الركعة الأولى قبل الركوع. 2- في الركعة الثانية بعد الركوع، وفي الخلاف الإجماع عليه.
الثاني : في صلاة الجمعة قنوت واحد في الركعة الثانية , وبه قال الإسكافي والعلامة في المختلف، والسيد في المدارك.
الثالث : قنوت واحد في الأولى قبل الركوع ونسبه الشيخ البهائي وغيره إلى الشيخ المفيد وجماعة، وفي صحيحة ابن عمار قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول:في قنوت الجمعة إذا كان إماماً قنت في الركعة الأولى، فان كان يصلي أربعاً ففي الركعة الثانية قبل الركوع.
الرابع : قنوت واحد من غير تعيين الركعة وهل هي الأولى أو الثانية إذ قال ابن إدريس: الذي يقوى عندي أن الصلاة لا يكون فيها إلا قنوت واحد أي صلاة كانت، فلا نرجع عن إجماعنا بأخبار الآحاد، وظاهره إرادة الركعة الثانية ولكن النصوص القائلة بقنوتين في الجمعة مستفيضة ومتعددة.
الخامس : ممكن أن نضيف قولاً آخر وهو التخيير بين القنوت الواحد في الركعة الثانية، أو الإتيان بقنوتين بحسب الجمعة وإمامها خاصة وحال المأمومين وأن القنوت ذاته مستحب.
السادس : قنوتان قبل الركوع في كل من الركعتين، نسب إلى أبي الصلاح وابن أبي عقيل.
وسأل إسماعيل بن الفضل الصادق عليه السلام عن القنوت، وما يقال فيه , فقال عليه السلام: ما قضى الله على لسانك، ولا أعلم فيه شيئاً موقتاً، وسئل عليه السلام عن أدنى القنوت فقال: خمس تسبيحات، ويتأكد القنوت في الفرائض والصلاة الجهرية أكثر من صلاة الإخفات كالظهر وصلاة النوافل.
والمختار هو قنوت واحد قبل الركوع في الركعة الثانية أسوة بالقنوت في الصلوات اليومية لوجوه:
الأول : النصوص الواردة في المقام ومنها: صحيحة زرارة عن الباقر عليه السلام قال: القنوت في كل صلاة في الركعة الثانية قبل الركوع.
الثاني : إستحباب القنوت , وتباين الكيفية في النصوص من تعدد المطلوب في المندوب , وليس من تزاحم أو تعارض بينها .
الثالث :تضمن خطبة الجمعة الدعاء للمسلمين.
الرابع: التخفيف في الصلاة الجامعة وللحديث المشهور عند المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اني لأكون في الصلاة فأسمع بكاء الصبي فاخفف مخافة أن أشق على أمه أو قال أن تفتتن أمه).
ويجوز الإتيان بقنوتين أحدهما في الركعة الأول قبل الركوع , والثاني في الركعة الثانية بعد الركوع للمندوحة في القنوت وللنصوص وقول المشهور، وفي صحيحة زرارة في صلاة الجمعة: وعلى الإمام فيها قنوتان، قنوت في الركعة الأولى قبل الركوع، وفي الثانية بعد الركوع، والعلم عند الله.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn