المقدمــــــــة
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار التنزيل، وصلى الله على محمد الذي أكرمه بنزول جبرئيل عليه بتبيان كل شيء وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس تشريفاً ورحمة بالأمة .
لقد إقترن الوحي بهبوط الإنسان إلى الأرض، فكان آدم عليه السلام أبو البشر نبياً رسولاً وليس معه في الأرض إلا زوجته ثم أولاده وأحفاده، وهو من فضل الله على الناس، فإذا كان شخصان يأتي الوحي لأحدهما وكان ولا زال أهل الأرض في إزدياد مطرد , فمن باب الأولوية أن يستمر الوحي والتنزيل وحضوره بين الناس .
وعندما إنقطعت النبوة والرسالة معاً، بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى بقى القرآن والسنة النبوية منار التنزيل وصرح الوحي إلى يوم القيامة، وهو من أسرار حاجة الناس إلى القرآن، وعدم طرو التحريف عليه، ومن مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
ليكون من بيان القرآن توالي إشراقات العموم المستحدثة من ذخائر ذات القرآن وبيانه , وتأكيد سلامته من الرفع أو التغيير أوالتحريف ببعض كلماته وآياته .
وهذا الجزء هو الخامس بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) وهو خاص بتفسير الآية(138) من سورة آل عمران، ومع قلة كلمات هذه الآية فإنها تدل على أن الدنيا رحمة ونعمة ورياض بهيجة تتصف بخصائص وهي:
الأول : الدنيا دار البيان والكشف لأمورها وأحوال الناس في الآخرة.
الثاني : الدنيا طريق الهدى والسلامة، قال تعالى[فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى]( ).
الثالث : الحياة الدنيا وعاء مكاني وزماني للموعظة.
الرابع : الدنيا وعاء التقوى ومندوحة لإقتباس سننها.
وتتجلى هذه الخصائص بالقرآن وعلومه والتي جاءت آية البحث شاهداً عليها , ودليلاً على عظيم فضل الله على الناس في حياتهم الدنيا، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
ترى لماذا لم تقل آية البحث (هذا البيان للناس) الجواب من وجوه:
الأول : مجيء الأنبياء السابقين بالبينات.
الثاني : كل آية كونية هي بيان للناس في باب عظمة مخلوقات الله ولزوم عبادته.
الثالث : تعدد صيغ البيان من عند الله، ومنه ما يكون لفرد مخصوص أو جماعة أو أهل قرية ومصر، أو لأهل ملة، وقد فضّل الله عز وجل القرآن بأن جعله بيانا لأجيال الناس المتتابعة إلى يوم القيامة فجاء مناسباً لطبائع مختلف الشعوب وملائماً لمداركهم مع التباين بينها.
وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي لفظه المتحد ملائماً للمفترق والمتباين للمدارك والأذهان ليتغشاها ويصل إليها ببيان الغايات السامية منه، وهو من الشواهد على إعجاز القرآن الغيري وأن إعجازه لا يختص بالبلاغة ويشمل الدلالة والأثر.
الرابع : تفرع السنة النبوية عن الوحي، فمن البيان للناس في القرآن الإخبار بأن قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحي، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: القرآن أصل علم الشريعة نصه ودليله)( ).
وقوله تعالى (هذا بيان للناس) من اللامتناهي في الموضوع والحكم والدلالة، لأنه إنحلالي في أفراده ومضامينه من وجوه:
الأول : كثرة آيات القرآن.
الثاني : تعدد البيان في الآية القرآنية، فقد تكون الكلمة الواحدة بياناً كما في آية البحث ونعت القرآن بأنه (هدىً).
وليس من حصر لمعاني ودلالات هذا الوصف الكريم للقرآن.
الثالث : ذكر الناس على نحو العموم الإستغراقي، وتتجلى في آية البحث مصاديق اللامتناهي في كنوز القرآن , فليس من حد من جهة الكثرة لمضامين آية البحث في كل من:
الأول : بيان القرآن.
الثاني : صيغ الهداية وسبل الرشاد في القرآن.
الثالث : المواعظ والعبر في القرآن.
وعدد كلمات الآية التي جاء هذا الجزء خاصاً بتفسيرها ست كلمات، وكل واحدة منها مدرسة وعلم متكامل , فصار هذا الجزء سياحة في فيوضاتها , وغوص في دررها حيث يشق علي مغادرة ضياءها , وكأنها تدعو لعدم الخروج عن تأويلها وإستنباط الحكم ودلائل الإعجاز منها في جزء واحد لما فيها من الذخائر والمفاهيم القدسية التي تبين أن القرآن سر ديمومة الحياة في الأرض.
وبآيات القرآن إهتدى المسلمون للوقوف بين يدي الله كل يوم مجتمعين في صلاة الجماعة ومتفرقين فراداً وكل واحد منهم يقول:[ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، ليكون قولهم هذا من منازل العبودية والخضوع لله علة لدوام الحياة في الأرض وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) .
ونعمة أداء المسلمين كل فريضة من فرائض الإسلام رحمة بالناس جميعاً، وسبباً لنزول وتوالي النعم والبركات عليهم، ويحتمل الإنتفاع من القرآن بلحاظ آية البحث وجوها:
الأول : يختص المسلمون بالإنتفاع من القرآن.
الثاني : ينتفع الناس جميعاً من بيان وهدى وموعظة القرآن , تقيداً بمنطوق الآية بقوله تعالى(هذا بيان للناس).
الثالث : ينتفع المسلمون من بيان وهدى وموعظة القرآن، ولا ينتفع الناس إلا من شطر من بيانه وظاهره.
الرابع : ينتفع غير المسلمين من بيان القرآن على نحو الحصر
الخامس : ينتفع غير المسلمين من بيان القرآن ومن الهدى الذي فيه، أما الموعظة فهي خاصة بالمسلمين.
السادس : بين المسلمين والناس في الإنتفاع من القرآن ومضامينه القدسية نسبة العموم والخصوص المطلق، إذ ينتفع المسلمون من بيانه وهداه ومواعظه , وينتفع الناس من فرد واحد منها وهو البيان، قال تعالى[شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ]( ).
السابع : تتعلق النسبة أعلاه بالكم والكيف في مراتب الإنتفاع، فينهل المسلمون من بيان القرآن بالأوفى والأتم.
والصحيح هو الثاني والسابع، وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فكون القرآن موعظة للمتقين لا يمنع من كونه موعظة لغيرهم بالإضافة إلى مسألة وهي إتعاظ الناس من القرآن بالواسطة أي بواسطة أتعاظ المسلمين منه.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)( )، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فالمسلمون خير أمة بإتعاظهم الأمثل من القرآن، وخشيتهم من الله وهم يخرجون للناس بمواعظ القرآن وإهتدائهم بما فيه من الأحكام والسنن، لتكون آية البحث شاهداً على نزول القرآن من عند الله , ومن مصاديق قوله تعالى[وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ]( ).
والآية دعوة للمؤمنين والناس جميعاً لشكر الله عز وجل لنسبته الهداية إلى نفسه وأنه تفضل وجعلها في القرآن الكتاب القريب من الناس جميعاً وإلى يوم القيامة، ويدل على قربه الدلالة عليه في آية البحث بحرف الإشارة للقريب[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ].
وما في القرآن من الهدى ملائم لطبائع وأمزجة الناس مع إختلافها بما يؤدي إلى قبولهم لأنوار القرآن، وتلقي عقولهم وقلوبهم وأرواحهم سنن القرآن، وليكون من وجوه الهدى في آية البحث الهدى إلى معرفة الله وحبه والتطلع إلى رحمته وفضله، والشوق إلى لقائه.
ومن دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إستفتاح صلاة الليل: اللهم اهدني لأحسن الاعمال وأحسن الاخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت وقني سيء الاعمال وسيء الاخلاق لا يقي سيئها إلا أنت)( ).
ويدل قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، على أن القرآن وما فيه من المواعظ يصل للناس طوعاً أو قهراً، وليس من قوة تمنع من بلوغ آيات القرآن لأي فرد من أهل الأرض لترشح لغة العموم من الآية أعلاه، لتكون كل آية من القرآن مدداً للمسلمين من جهات:
الأولى : الثبات في منازل الإيمان.
الثانية : الهداية إلى مناهج التقوى واليقين.
الثالثة : موعظة الذات والغير.
الرابعة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامسة : الوقاية من الأعداء لأن مواعظ القرآن إحتراز ذاتي، وزاجر عن التعدي على المسلمين.
ومن منهجية هذا التفسير الإبتداء باللغة والإعراب ثم باب سياق الآيات ويتضمن صلة آية البحث بالآيات الثلاث السابقة لها، وكذا اللاحقة بها، وفيه إثارة لكنوز علم جديد من ذخائر القرآن، وهو الذي تصل فيه أجزاء التفسير إلى لغة المليون بفيض من الله والجهود المباركة للعلماء العاملين من الأجيال اللاحقة، فهذا الباب من تفسيرنا تأسيس لهذا العلم بإشراقة تبين أن خزائن القرآن من اللامتناهي.
لقد نعتت آية البحث القرآن بثلاث صفات أخبر الله عن كل صفة منها بكلمة واحدة، لتتجلى فيها مسائل :
الأول : كل كلمة في آية البحث مدرسة للأجيال.
الثاني : إنها شاهد على الإعجاز في بلاغة القرآن بلحاظ تعدد المعاني القدسية للفظ القرآني وبما تتيه به عقول الرجال وهو الذي يتجلى في بحور العلم التي تستقرأ منها في علم التفسير والتأويل أمس واليوم وغداً، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ] ( ).
الثالث : جزالة اللفظ القرآني، وبديع نظمه وصيرورته مدرسة لإستنباط العلوم كعلم المعاني والبيان والبديع، وتأسيس المدارس النحوية والبلاغة وسياحة أرباب الإشارات، وأهل الحقيقة في كنوزه ودقائق معانيه إلى جانب ما فيه من علوم الرياضيات والهندسة والجبر والهيئة وطب الأجساد والقلوب والمجتمعات، قال تعالى في العسل[شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ]( ).
وفي القرآن لوائح من الجدل وعلم البرهان والمناظرات مثل مناظرة إبراهيم عليه السلام لنمرود [فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ] ( ).
لقد خصّ الله المتقين في آية البحث بالموعظة لتكون كنزا ينهلون منه لأمور الدين والدنيا , قال تعالى[فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ] ( ).
ولا تنحصر مضامين الموعظة القرآنية بالترغيب والترهيب بل تشمل الأوامر والنواهي وقصص الأنبياء، وفي خطاب من الله عز وجل لنوح بخصوص إبنه [فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ]( )، وعن الفضيل بن عياض قال بلغني أن نوحاً عليه السلام بكى على هذه الآية أربعين سنة، وعن وهيب بن الورد الحضرمي، قال لما عاتب الله نوحاً عليه السلام في ابنه وأنزل عليه[إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ] بكى ثلاثمائة حتى صارت تحت عينيه مثل الجدول من البكاء( ).
ومن خصائص الموعظة في القرآن بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : أنها بيان وفضل من عند الله.
الثاني : مواعظ القرآن سبيل هداية وإمام يقود إلى الجنة.
الثالث : إرادة إكرام المسلمين، وأختصاصهم بإشراقات من الموعظة لينتفعوا منها، وليقتدي ويتأسى بهم الناس، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] الآية 138.
الإعراب واللغة
هذا: ها: حرف تنبيه، ذا: اسم إشارة مبني في محل رفع مبتدأ.
بيان : خبر مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره.
للناس: جار ومجرور متعلق بمحذوف نعت لبيان.
وهدىّ: الواو حرف عطف، هدىً: معطوف على بيان , مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الألف.
ويصح أن يكون (هدىً) عطف بيان إلى جانب كونه عطف نسق بتقريب من جهتين:
الأولى : ذات القرآن هدى، والتقدير: هذا هدى.
الثانية : البيان القرآني هدى، والتقدير: هذا البيان هدىً أو هذا بيان هدىً .
موعظة: معطوف على بيان، مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
للمتقين : جار ومجرور، ويحتمل تعلقه وجوهاً، وبكل من:
الأول : موعظة.
الثاني : هدىً وموعظة.
الثالث : بيان وهدى وموعظة.
بيان : مصدر سماعي لفعل بان.
والمصدر السماعي هو الذي ليس له قاعدة معينة أو ضابطة في صياغته ويعرف بالرجوع إلى أمهات الكتب واللفظ الشائع مثل كتب: كتابة.
والمصادر قسمان:
الأول : المصدر السماعي وهو مصدر الفعل الثلاثي وليس له قاعدة.
الثاني : المصدر القياسي وهو الذي يشتق من الفعل الرباعي والخماسي والسداسي وله قواعد محددة.
ولبيان فضل الله في صبغة البيان في القرآن , قال سبحانه[خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ] ( )، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من البيان لسِحْراً، وإن من الشِّعْر لحكمة( )، وروي الحديث بصيغ أخرى.
والبيان هو الجلاء والإيضاح والشرح والملاك في البيان أنه يتبين ويتضح به الأمر فيمتنع عن الإجمال واللبس، ومن مصاديق بيان القرآن وجوه:
الأول : إنه حجة على الناس.
الثاني : إنه دلالة وضياء ومصباح هداية.
الثالث : بيان القرآن برهان.
الرابع : من معاني بيان القرآن أنه تفسير لذاته ومضامينه القدسية لذا ذكرت الآية أن القرآن بيان للناس أي أنه يفسر ذاته للناس من المسلمين وأهل الكتاب والملل الأخرى، وهو من مفاهيم كونه المصدر الأول للتشريع بأن يأتي بالحكم ثم يأتي بتفسيره للناس جميعاً، وكأن الآية تنفي الحاجة إلى الوسائط بين القرآن والناس جميعاً وهم فيه شرع سواء ينهلون منه ما يكفيهم لأمور الدنيا والآخرة من غير عناء، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
والهدى الإستقامة وحسن القصد، والنور والبصيرة في الأمور، وهو ضد الضلالة، قال تعالى[إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ]( )، فتجلى هدى الله بالقرآن.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إن الهدى الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة( ).
وقد وردت مادة (هدى) في القرآن نحو ثلاثمائة وخمس عشرة مرة وهذا العدد بذاته وكثرته عون ومدرسة في الصلاح والتقوى , ويتلو المسلمون في الصلاة اليومية وعلى نحو الوجوب [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، لإلتماس الهدى والإستقامة من عند الله، فتفضل الله عز وجل بالقرآن وبقائه بين ظهرانيهم إماماً وقائداً وكتاباً سماوياً سالماً من التحريف والتبديل والتغيير، وفي الجمع بين الآية أعلاه وذكر الهدى في آية البحث وجوه:
الأول : تقدير الآية أعلاه بلحاظ آية البحث على جهات:
الأولى : إهدنا الهدى.
الثانية : إهدنا الطريق إلى الهدى.
الثالثة : الصراط المستقيم هدىً.
الثاني : الهدى أمر لا يقدر عليه إلا الله.
الثالث : نيل الهدى بتلاوة القرآن والدعاء وإن جاء بصيغة القرآنية.
الرابع : إقامة الحجة على الناس من جهتين:
الأولى : الهدى أمر حسن ذاتاً وأثراً.
الثانية : بيان رحمة الله عز وجل بالناس بهدايتهم إلى سبل الرشاد.
الخامس : لم يجعل الله عز وجل الإنسان حائراً في الدنيا، وما يلاقيه فيها من صنوف الإبتلاء بل تفضل ورزقه البيان والهدى والموعظة السماوية , ويحتمل وجوهاً:
الأول : ملازمة الهدى للإنسان.
الثاني : إختصاص مصاحبة الهدى بالمؤمن الذي يعمل الصالحات، وفي يوسف عليه السلام , قال تعالى[كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
الثالث : ليس من ملازمة بين الإنسان وسبل الهدى.
الرابع : الهدى من الكلي المشكك، ويكون عند الناس على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً بلحاظ الكسب والسعي في مسالك الإيمان.
الخامس : الهدى من فضل الله عز وجل وينهل الناس منه، كما في آية البحث التي جعلت القرآن هدى وتفضل الله وجعل الوصول والإستماع له متاحاً ومباحاً للناس جميعاً.
السادس : قرب الهدى من كل إنسان، وإنعدام الحواجز التي تحول دون أخذه وإقتباسه ضرب من إمامة القرآن وهداه ومصاديقه.
والصحيح هو الخامس والسادس.
ويقال وعظته أعظه عظة وموعظة أي نصحته وهديته إلى سبل الخير بما يرق معه قلبه.
ومن أمثالهم المعروفة : لا تعظيني وتعظعظي أي إتعظي أنتِ ودعي موعظتي( ).
وقيل (الموعظة هي التي تلين القلوب القاسية، وتدمع العيون الجامدة وتصلح الأعمال الفاسدة) ( ).
ولكن الموعظة على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً وبحسب الموضوع والحكم يقال (السعيد من وعظ بغيره، والشقي من اتعظ به غيره) ( ).
لتدل آية البحث على قانون وهو أن المسلمين هم السعداء لتلقيهم الموعظة وقصص الأمم من عند الله، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ]( ), ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : السعيد الذي يتعظ بغيره.
الصغرى : المسلم يتعظ بغيره.
النتيجة : المسلم هو السعيد.
الموعظة على أقسام ومراتب ولكن موعظة القرآن تتصف بخصوصية من جهات:
الأولى : نزول الموعظة من عند الله.
الثانية : قيام جبرئيل عليه السلام وهو من أكبر ملائكة الله بحمل هذه الموعظة كأمانة قدسية.
الثالثة : تلقي سيد الأنام محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمواعظ القرآن وحياً من عند الله، وتلاوته لآيات القرآن وما فيها من المواعظ على المسلمين والمسلمات.
الرابعة : تتصف موعظة القرآن ببعث الخشية من الله في النفوس، والتنزه عن المعاصي، والخوف من الله من نزول البلاء في الدنيا والإقامة في العذاب في الآخرة، إذ أن ذكر الجنة والنار في القرآن من مصاديق الموعظة.
الخامسة : موعظة القرآن تذكرة تلين لها القلوب، وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى* إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى]( ).
السادسة : موعظة القرآن سكينة ومواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وقوارع تفزع قلوب الكفار.
السابعة : تتصف موعظة القرآن بالكمال بذاتها وأثرها إذ تؤجل القلوب منها، وتقوم الحجة على الناس بها.
الثامنة : موعظة القرآن طريق إلى التوبة والإنابة فهي مدد وعون للمسلمين ورحمة بالناس إلى يوم القيامة.
التاسعة : ليس من إنسان إلا ويقتبس من مواعظ القرآن وما فيها من الحكمة والعبرة وبيانها لفناء الدنيا وحسن الزهد فيها، وهذا الإقتباس من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متباينة في الأثر والتأثير.
ويدل قوله تعالى[وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] على إتعاظ المسلمين من القرآن من وجوه:
الأول : الآيات الكونية التي يذكرها القرآن، ويبين أنها من صنع الله عز وجل , قال تعالى[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
وفي الآية أعلاه بيان وتحد من جهة أن الله عز وجل له المشيئة الدائمة والمتجددة في السموات والأرض وإحداث وجوه من التغيير والتبديل في طبقاتها وثناياها وأجرامها وسير الكواكب , ليدعو المسلمون الله عز وجل ويرجوا الخير والبركة من موجودات السماء والأرض، ويخاف الكفار والمنافقون الآفات التي تنزل عليهم من السماء.
الثاني : نزول القرآن موعظة، وكل آية منه مدرسة في العقيدة والصلاح.
الثالث : بيان القرآن موعظة ودعوته الناس للإيمان والتصديق بالنبوة والتنزيل موعظة.
الرابع : آية البحث تحد في باب الموعظة ومدرسة في العبرة بأخذ الناس منها بغيتهم وفيها ترغيب بالإنشغال بالتدبر في القرآن عن الخصومة والإقتتال بينهم , وهو من مصاديق العموم المستديم في قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة على شعبتين:
الأولى : صلة هذه الآية بالآيات السابقة، وفيها وجوه:
الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ…..]( )، وفيها مسائل:
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : قد خلت من قبلكم سنن هذا بيان للناس.
الثاني : قد خلت من قبلكم سنن هذا هدىً.
الثالث : قد خلت من قبلكم سنن هذا موعظة للمتقين.
الرابع : هذا بيان للناس فسيروا في الأرض.
الخامس : هذا هدىً فسيروا في الأرض.
السادس : هذا هدىً فسيروا في الأرض.
السابع : هذا موعظة للمتقين فسيروا في الأرض.
الثامن : هذا بيان للناس فأنظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
التاسع : هذا هدىً فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
العاشر : هذا موعظة للمتقين فأنظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
المسألة الثانية : جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية التي تفيد التصديق والقطع لملازمتها للخبر القرآني، أما آية السياق فهي على قسمين:
الأول : الخبر عن تقدم أقوام وأمم، فإن قلت القدر المتيقن من الآية هو إنقضاء السنن وليس أقواماً، والجواب من وجوه:
الأول : ذكرت السنن من باب الإتيان باللازم وإرادته والملزوم، قال تعالى[وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا]( ).
الثاني : من أظهر غايات آية السياق ذكر سوء عاقبة الذين كذبوا بالنبوة والتنزيل فجاءت الآية للدلالة على قبح فعل وسنة الكفار.
الثالث : ذكرت آية البحث أن القرآن بيان للناس، ومن البيان الإخبار عن تعاقب السنن في الأرض، وفيه مسائل:
الأولى : بيان علم الله بالسنن والمذاهب التي مرت على الأرض.
الثانية :تأكيد لطف الله عز وجل على الناس في سننهم وطرائقهم بتقريبهم إلى منازل الهداية.
الثالثة : بطش الله عز وجل بالظالمين لقبح سنتهم وسيرتهم ومخالفتهم لعلة خلق الإنسان، وعزوفهم عن الفطرة والعقل والتنزيل.
الرابعة :بيان فضل الله عز وجل على المسلمين إذ جعلهم ورثة الأرض بسنن الإسلام والهداية.
الخامسة : بيان ومصاديق مما جاء بعد آيتين[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
السادسة : دعوة المسلمين للشكر لله سبحانه على نعمة البيان والإخبار عن تعاقب السنن في الأرض.
السابعة : حث المسلمين لتعاهد سنن الإسلام في الأرض، وتوارثها وعدم مغادرتها الدنيا وأهلها، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثامنة : موضوعية السنن والمذاهب في معرفة الناس وقراءة التأريخ، وبيان أحوال الأمم.
الرابع : لم تقل آية السياق (قد خلت من قبل سنتكم) إنما أرادت الآية المسلمين بالذات وبالضمير(الكاف) الدال عليهم (قد خلت من قلبكم)وفيه إشارة وإخبار وتذكير بالأقوام والأمم التي إنقرضت.
الخامس : تأكيد حقيقة في سنخية الناس وهي إنقسامهم بحسب السنن والطرائق التي إتخذوها إلى جانب تقسيمات أخرى سابقة كاختصاص كل أمة بإتباع نبي , قال تعالى[إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
وتبين الآية أعلاه ذكر الناس بلحاظ إنتسابهم مع التأكيد على السنن والتباين والتشابه والترتيب بينها بحيث يكون إكرام الناس بلحاظ التقوى والخشية من الله والتنزه عن النفاق والكفر.
السادس : بيان أمر وهو أن المسلمين يلتقون مع الأمم السابقة بلحاظ الإنسانية والحياة على الأرض، ولكنهم بلحاظ السنن يلتقون مع شطر منهم وهم المؤمنون ويختلفون مع آخرين وهم الكفار.
السابع : معنى الآية أنه قد عمّر الأرض أمم قبلكم , وكانت لهم طرائق وعقائد ومذاهب.
الثامن : بيان موضوعية السنة والدين في ذكر عاقبة وتركة الأمة.
التاسع : دعوة المسلمين لتوثيق المذاهب والسنن التي مرت على الأرض، والصدور أولاً عن القرآن والسنة لمعرفتها وتعيينها وتقسيمها تقسيماً إستقرائياً .
العاشر : إرادة إكرام المسلمين من جهة ذكرهم وخطابهم كأمة متحدة، بينما ذكرت الأحقاب الماضية بلحاظ السنن والدين، وهو من وجوه ومصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الحادي عشر : البشارة ببقاء المسلمين على ذات ملة الإسلام فلا تأتي أمة غيرهم وتخاطب بأن سنناً قد سبقتكم، فكما أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، فالمسلمون هم خاتمة الأمم وحفظة تأريخها وتراثها.
الثاني عشر : تفقه المسلمين وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية، وأخذهم الحائطة في الدين والحذر من سنن الكفر والجحود، وفي التنزيل[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ]( ).
لتدل الآية أعلاه على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته من وجوه:
الأول : صيرورة مكة في أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلداً آمناً وبقاؤها بذات الصفة المباركة إلى يوم القيامة، وفيه إستجابة من عند الله لدعاء إبراهيم.
الثاني : لم ينحصر دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذريته وأبنائه بل جاهد ليدخل الناس في الإسلام، ولم يغادر إلى الرفيق الأعلى إلا وقد زالت الأصنام، وتنزهت الأمم عن عبادتها إلا القليل الذي تولى المسلمون والقرآن محاربته والقضاء عليه.
الثالث : بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم صارت بلاد وأمصار المسلمين كلها آمنة يتغشاها ذكر الله، ونزل قوله تعالى[وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ]( )، بخصوص موسم الحج وأحكامه، ولكن هذا الذكر والتكبير يأتي به المسلمون في جميع أنحاء الأرض .
وإجماع علماء الإسلام على أن التكبير في هذه الأيام سنة ومستحب و( كان عبد الله بن مسعود يكبّر من صلاة الغداة من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق .
كان ابن عبّاس وزيد بن ثابت يكبران من صلاة الظهر من يوم النحر إلى (مدة) العصر من آخر أيام التشريق وهو قول عطاء وهو الأظهر والأشهر من مذهب الشافعي إنه يبتدأ التكبير من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق هذا بالحاج آخر صلاة يصليها الحاج بمنى والناس لهم تبع .
وأما لفظ التكبير فكان سعيد بن جبير يقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر نسقاً وهو مذهب الشافعي وأهل المدينة وكان ابن مسعود يكبر (إثنتين) وهو مذهب أبي حنيفة وأهل العراق، وروى عن مالك إنه كان يقول الله أكبر الله أكبر ثمّ يقطع فيقول الله اكبر لا إله الاّ الله) ( )، وعن الإمام الصادق عليه السلام في الآية أعلاه قال: التكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من يوم الثالث وفي الأمصار عشر صلوات)( ).
والأيام المعدودات هي أيام التشريق الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة لأن ذكرها جاء بعد أداء مناسك أما الأيام المعلومات في قوله تعالى[وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ]( )، هي الأيام العشر الأوائل من شهر ذي الحجة وهو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام وعن ابن عباس والحسن( ).
ليكون هذا الذكر وقاية متجددة كل سنة من عبادة الأوثان وحرزاً من الغفلة والجهالة.
المسألة الثالثة : تتجلى معاني البيان الذي أخبرت عنه آية البحث بلحاظ آية السياق من وجوه:
الأول : مضي وتقدم أمم وأجيال متعاقبة على الأرض ووجود وسائط كثيرة من الآباء بين آدم وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : لم تكن الأجيال السابقة بلا سنة وطريقة في الإعتقاد والعمل العبادي، بل كانت لهم طرائق في العمل تتصف بأنها تتغشى الأمة , ليكون من الخصائص التي ينفرد بها بيان القرآن أنه توثيق سماوي لأحوال ومبادئ الناس في الأحقاب السابقة، بادوا وإنقضت أيامهم , ولكن القرآن مرآة للوقائع والأحداث، وهو من نعم وهبات الله عز وجل على المسلمين.
الثالث : ذكرت السنن بصيغة الجمع مما يدل على التعدد والتباين بينها.
الرابع : ذكرت آية السياق السنن على نحو الإجمال وفيه إشارة إلى علم الله عز وجل بها وحضورها عنده في جميع أفراد الزمان المقدرة وغير المقدرة.
الخامس : من البيان أمر الله عز وجل للمسلمين بالسير في الأرض، ويترشح عن هذا البيان مسألة وهي إحاطة الناس علماً بقدرة المسلمين على السير في الأرض وأن الله عز وجل هو الذي أمرهم بالسفر وشد الرحال، وفيه أمور:
الأول : ضمان إستمرار هذا السير من جهات:
الأولى : البركة في هذا السير لأنه إمتثال لأمر الله، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثانية : التخفيف والتيسير في هذا السير، فمن قوانين الإرادة التكوينية أن الذي يأمر به الله يكون يسيراً.
الثالثة : إستقراء العبر والمواعظ من الذهاب في الأرض.
الرابعة : صيرورة هذا السير إرثاً علمياً وأخلاقياً وموعظة للأجيال اللاحقة من المسلمين، ليتراكم هذا الإرث مع تقادم أجيال المسلمين.
الثاني : إنكشاف الناس وأحوالهم للمسلمين، فإذا أراد المسلمون محاربة قوم أو الدفاع وحفظ الثغور منهم فإن عددهم وعدتهم معروفة ولو بالإجمال عند المسلمين، وكذا أمصارهم وقراهم والثغرات وأسباب القوة أو الضعف عندهم.
السادس : صحيح أن أول آية السياق جاء بخصوص الأمم السابقة إلا أنه جاء في ثنايا الخطاب للمسلمين ومضامين تأديبهم وإصلاحهم لإمامة الناس, ومن وجوه الإمامة في المقام السير في الأرض.
وتلك آية في إعجاز القرآن، بأن نبين بلحاظ هذه الآية علماً جديداً وهو من أفراد إمامة المسلمين للناس سيرهم وذهابهم في الأرض بصفة الإيمان وبما هم مسلمون لذا وردت آيات السفر لأغراض التجارة ونحوها بصيغة الضرب، قال تعالى[وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ]( )، مما يعني أن للسير في آية السياق معنى إصطلاحياً جامعاً يتقوم بأمور:
الأول : سير المسلمين بصبغة الإسلام وتعاهد الصلاة والفرائض أثناء السير.
الثاني : أداء المسلمين لوظائفهم العبادية في السير بما ينفعهم في النشأتين وينتفع منه الناس، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( )، ليتصف المسلم أثناء سيره بخصال حميدة منها:
الأول : الدعوة إلى الله والتصديق بالقول والعمل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : بذل الوسع في جذب الناس إلى فعل الخيرات.
الثالث : القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيه دلالة على تعدد وظائف المسلم في زمان واحد وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فتراه يؤدي عباداته العينية، ويسير في الأرض طاعة لله، ويأتي الناس في قراهم وبلدانهم ليدعوهم إلى الله ووجوه الصلاح، ولو بالسمت الحسن.
الثالث : تشريع آية السياق لوظيفة عبادية للمسلمين وهي السير في الأرض فعندما يدخل الإنسان الإسلام تأتيه الفرائض دفعة واحدة، ولكن شطراً منها لا يجب إلا في زمن مخصوص من السنة مثل فريضة الصيام وهو واجب عيني مؤقت ومحصور بين هلالين وفي شهر رمضان على نحو التعيين.
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية أن شهر رمضان هو الشهر الوحيد الذي ذكر الذي إسمه في القرآن ويتصف بأسباب الهداية من وجوه:
الأول : نزول القرآن في شهر رمضان، وبلحاظ آية البحث يكون نزول البيان للناس في ذات الشهر، قال تعالى[شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ .
الثاني : إقتران الصيام بشهر رمضان على نحو التعيين والحصر والملازمة بينهما إلى يوم القيامة , وهو من بيان القرآن العبادي والزماني قال تعالى[ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
الثالث : ذكرت آية البحث أن القرآن هدى للمتقين، ووردت الآية أعلاه بالمعنى الأعم بقوله تعالى(هدى للناس) وفيه مسائل:
المسألة الأولى : إرادة ذات القرآن كتاباً سماوياً جامعاً للأحكام.
المسألة الثانية : المقصود آيات القرآن مجتمعة ومتفرقة.
المسألة الثالثة : كيفية نزول القرآن نجوماً وعلى نحو تدريجي ولحاظ أسباب النزول.
المسألة الرابعة : نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو خاتم الأنبياء وسيد المرسلين.
المسألة الخامسة : إرادة واسطة نزول القرآن وهو الملك جبرئيل.
المسألة السادسة : نزول آيات القرآن بعد أن كانت في اللوح المحفوظ ثروة سماوية تنتظر إشراقة الأرض بالطلعة البهية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لتكون هدىً لهم وللناس بواسطتهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من صيغ ومصاديق هداية القرآن للناس.
الثالث : دعوة الناس للرجوع إلى آيات الصيام( )، والتدبر في مضامينها، والتقيد بأحكامها، والعمل بما فيها من الرخصة كما في إفطار المريض والمسافر ثم القضاء عند زوال العارض، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه)( ).
الرابع : بيان القرآن للناس إمتثال المسلمين لما فيه من الأحكام والسنن، ليكونوا دعاة للناس للصدور عنه.
الخامس : شهر رمضان الوعاء المبارك الذي تجلت فيه للناس بينات ودلالات باهرات من الهدى، ليكون تقدير آية البحث بلحاظ آية (شهر رمضان) أمور:
الأول : شهر رمضان بيان للناس، وهذا البيان على وجوه:
الأول : إنه ذو صبغة عبادية بلحاظ وجوب الصوم فيه.
الثاني : إتصاف شهر رمضان بقدسية بين أشهر السنة وأيامها الثلاثمائة والخمسة والخمسين.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إذا كان أول ليلة في شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك عند كل ليلة”)( ).
الثالث : شهر رمضان هدى للناس عامة وللمسلمين خاصة بنزول القرآن فيه وقيام المسلمين بصيامه وإجتهادهم بصيام جوارحهم فيه.
الرابع : نزول القرآن من عند الله هدى وموضوع للصلاح.
الخامس : لقد أنزل الله عز وجل القرآن في شهر رمضان ليميز الناس بين الحق والباطل، ويفرق بين أهل الإيمان والكافرين، وتقوم الحجة على الناس بلزوم عبادة الله عز وجل ونبذ الكفر والأوثان.
السادس : لما قالت آية البحث (هذا بيان للناس) تضمنت آية الصيام البعث على الإستهلال، والذي يدل على رجوع أهل الأرض إلى الآيات الكونية في عباداتهم ومعاملاتهم، قال تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( )، وفيه دلالة على أن التطلع لهلال شهر رمضان على الأرض وملاقاتهم له بالمعصية سبب لنزول العذاب.
الجواب من وجوه:
الأول : يتوجه الخطاب التكليفي بالصيام إلى الناس جميعاً لأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم جميعاً , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثاني : لقد جعل الله شهر رمضان وعاءً لرحمته، ومن أظهر مصاديقها نزول القرآن، ومنها فتح باب المغفرة والتوبة والظاهر أن منها الإمهال المقرون بالجذب إلى سبل الإيمان.
الثالث : صيام المسلمين شهر رمضان برزخ دون نزول العذاب بأهل الأرض، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السادس : من البيان للناس بخصوص آية (شهر رمضان) الإستثناء والتخفيف في حكم الصيام وإفطار المريض والمسافر.
السابع : قضاء الصوم للمكلف الذي فاته وهو قادر على القضاء، كما في المريض الذي شافاه الله بعد شهر رمضان، أو المسافر الذي يعود إلى الحضر.
الثامن : من البيان في القرآن القانون الكلي الذي يتجلى ليكون هدىً للناس كلهم وفي الميادين المختلقة وإلى القيامة ويتجلى بكلمتين[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
ومن منافع البيان القرآني أنه يسر وتخفيف وخال من العسر والتشديد ليكون من بركات القرآن الإخبار عن رحمة الله بالتيسير والتخفيف في العبادات والمعاملات.
التاسع : من البيان القرآني بخصوص شهر رمضان قوله تعالى (وأتموا العدة) وفيه مسائل:
الأولى : الشهر القمري تام العدة، سواء كان ثلاثين أو تسعة وعشرين يوماً.
الثانية : لزوم صيام شهر رمضان كله، وعدم التفريط في يوم أو أيام منه.
الثالثة : تجلي الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية في صيام شهر رمضان وبداية ونهاية صومه كل سنة بلحاظ عناية وتقيد المسلمين والمسلمات بقانون تمام عدة الشهر، فإن قلت إن المسلمين يختلفون في تعيين أول وآخر شهر رمضان فهل يضر هذا بوحدتهم، الجواب لا، لأنه إجتهاد وإختلاف في مبنى ذات الأصل , وإن كان الأولى توحيد مبنى وحكم رؤية الهلال.
الرابعة : إتمام صيام شهر رمضان دليل على تغشي القدسية لكل يوم من أيام شهر رمضان.
الخامسة : الأمر الإلهي بإتمام عدة شهر رمضان توكيد لوجوب الإبتداء بالصيام من أول شهر رمضان.
العاشر : قيام المسلمين بالتكبير والتهليل شكراً لله على نعمة الهداية لأداء فريضة وإتمام الصيام طاعة لله سبحانه وقد جاء الذكر والتكبير أيضاً عند أداء مناسك الحج، كما في قوله تعالى[فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ]( ).
وجاء الأمر بالذكر والتكبير في أيام الحج بعد إنقضاء أعمال عرفة ومزدلفة ومنى[وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ]( )، لبيان موضوعية الذكر والتكبير في مصاديق شكر الله على أداء الفرائض، إذ تبين الآيات أعلاه مجتمعة ومتفرقة حقيقة من وجوه:
الأول : إختتام أداء الفرائض بالشكر لله سبحانه.
الثاني : تجلي الشكر لله بذكره وتسبيحه.
الثالث : إتيان وإشتراك المسلمين جميعاً بالشكر لله عز وجل، رجالاً ونساءً، ومن أدى منهم فريضة الصيام أو كان معذوراً في عدم أدائها كالتخلف عن الحج لعدم الإستطاعة أو الذي حج في عام سابق فانه مأمور بذكر الله في أيام الحج، وكذا بالنسبة للتكبير بعد أداء فريضة الصيام فيشمل الأمر المريض والمسافر والرجل الكبير والحامل المقرب والنفساء وغيرهم.
وكما أمر الله عز وجل المسلمين بإتمام العدة فانه سبحانه ندبهم إلى ذكره وتسبيحه والإقرار اللساني بربوبيته المطلقة كما يأتيهم الثواب تاماً كاملاً، وتتغشى منافعه كل مسلم ومسلمة وإن لم يوفقوا لأداء تلك الفريضة، وليكون الأمر بالذكر في خاتمة الفريضة من مصاديق آية البحث من وجوه:
الأول : الأمر بالذكر بيان وتعليم وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثاني : دعوة الناس لذكر الله فإن فيه خيرهم في الدارين.
الثالث : معرفة الناس بحب المسلمين لله، وإنقطاعهم لطاعته، وعدم إختتام الفريضة بالإعراض عن العبادات أو التوجه إلى الدنيا، بل يختتم المسلمون الفريضة والتكليف بالذكر والتكبير لتنمية ملكة الذكر وإستدامة حب الله في نفوسهم.
الرابع : بيان كيفية ومصداق الشكر لله عز وجل عند إتمام الفريضة والواجب العبادي.
الخامس : تعاهد المسلمين للذكر والتكبير شاهد على أنهم [خَيْر أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس : البيان وإخبار الناس عن قانون في الإرادة التكوينية وهو إتيان المسلمين بالشكر لله مجتمعين ومتفرقين بعد إتمام الفريضة وهو من مصاديق إقرار المسلمين بأن الله[غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( )، وأنه سبحانه غير محتاج لعبادتهم.
السابع : الذكر والتكبير نوع توسل بالله عز وجل لإتمام فضله على المسلمين وإعانتهم على أداء الفريضة صياماً أو حجاً في القابل والقادم من السنين والأعوام.
وقد لبث نوح في قومه[أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا]( )، يدعوهم إلى الإسلام، وينذرهم من بطش الرحمن , بينما عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه وقومه ثلاثاً وعشرين سنة فترة النبوة، فحافظ ويحافظ المسلمون على الفرائض كما أداها رسول الله وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثامن : إقامة الحجة على غير المسلمين ممن يتخلفون عن أداء الفرائض وإختتامها بذكر الله.
التاسع : ذكر الله عند إنتهاء العمل العبادي ترغيب للناس بأدائها، وبعث للشوق في نفوس المسلمين بتجدده بطرو زمانه من جديد ليكون كل من رؤية هلال شهر رمضان وإطلالة ذي الحجة عيداً عبادياً للمسلمين جميعاً، وهو من مصاديق الهدى في قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى]( ).
العاشر : إتمام أداء المسلمين العبادة والإخلاص فيها بالذكر والتكبير والتسبيح، ليأتيهم الثواب تاماً بخصوص ذات العبادة والذكر، وفيه شاهد على بركة ونفع تلك الأيام للمسلمين وأهل الأرض.
الحادي عشر : الأمر بالذكر موعظة للمسلمين بأن الدنيا دار عبادة وصلاح وتقوى وإن ذكر الله لا ينقطع بإتمام الفرض العبادي بل يتجدد بمصاديق من الذكر والدعاء والتسبيح، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث(وموعظة للمتقين).
الثاني عشر : إتعاظ الناس من حسن سمت المسلمين، وإعتبارهم من إخلاصهم العبادة لله، وتفانيهم في طاعته، وهل أداء الفرائض من مصاديق قوله تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو النفر والخروج إلى ميادين القتال والقتل في سبيل لله.
الجواب هو الأول بلحاظ أن شراء النفس في المقام من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة وأسناها هو الشهادة وله مراتب ودرجات في عالم القول والعمل، ومنها أداء الفرائض وإختتامها بالذكر والتكبير والتهليل والتسبيح.
السابعة : القرآن هدىً للناس لدلالة آياته على صدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهدايتهم في المقام أي دعوتهم للإسلام، وأداء الفرائض العبادية أبهى مصاديق الهداية، وتحتمل هداية القرآن للناس وجوهاً:
الأول : إنه هدىً أيام نزوله، وكان بعض المسلمين ينتظر نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليرى حاله أثناء نزول الوحي وكيف أنه يتصبب عرقا في اليوم البارد عندما ينزل عليه جبرئيل بالوحي , قال تعالى[إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً]( ).
الثاني : القرآن هدى للناس عندما يؤدي المسلمون الصيام والفرائض الأخرى، يدرك الناس قانون وجوب عبادة الله وفي نوح عليه السلام من الرسل الخمسة أولي العزم، قال تعالى[وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ….]( )، ليلاقيه قومه بالصدود والعناد والإستكبار ويحل بهم وبالأرض الطوفان بينما جاءت بعثة النبي محمد ليقف خلفه المهاجرون والأنصار بسيوفهم ودمائهم وتبقى أمته تسير سائحة في الأرض لرؤية آثار الأقوام الذين جحدوا بالأنبياء الذين بعثوا لهم، وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكون أمته[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : هداية القرآن للناس متجددة في كل مكان من الأرض , وفي كل يوم من أيام الدنيا وإلى يوم القيامة، فمما يختص به القرآن أن كل آية منه تكون هدىً للناس حال نزولها وتبقى بذات الصفة لا يطرأ التغيير والتبديل والتحريف.
والصحيح هو الوجه الثالث، ويكون الأول والثاني في طوله.
المسألة الثالثة : من وجوه البيان في آية البحث وبلحاظ آية السياق توجه خطابات خاصة للمسلمين تتصف بأمور:
الأول : الإخبار عن أحوال الأمم السابقة.
الثاني : إحاطة المسلمين بعلوم من الغيب لا يعلمها الناس من قبلهم، قال تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( ).
الثالث : قد تطرأ أمور على أمم لم تلتفت لها، أو تكون عندها سنة ضلالة وهي لا تعلم بأنها تجلب لها الخزي في الآخرة فجاء القرآن بالبيان والفضح لها في الدنيا قبل الآخرة.
الرابع : خطابات القرآن حجة على الناس بذكر حال مشابهة لهم من قبل وكيف كانت عاقبة الكفار، وتكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : عاقبة المكذبين الهلاك.
الصغرى : هناك مكذبون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
النتيجة : عاقبة المكذبين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الهلاك.
الخامس : من الدلالة التضمنية لإخبار القرآن للمسلمين بأنه خلت من قبلهم سنن أمور:
الأول : البيان للناس جميعاً ببلوغ المسلمين مرتبة الشهادة عليهم وإنقراض سنن ومذاهب عديدة, قال تعالى[وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]( )، وفيه دعوة للناس للحذر من رؤية المسلم لهم وهم في حال معصية وفسق، وحال مواجهة وقتال مع المسلمين وتعد على ثغورهم.
الثاني : الإعلان السماوي للناس بأن المسلمين أمة باقية إلى يوم القيامة وإن[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ) ففي كل يوم من أيام الدنيا تتلى آية السياق وتضئ الأرض لتتضمن خطاب المسلمين بإنقراض أمم قبلهم كانت لهم مذاهبهم وعقائدهم منهم الموحدون ومنهم المشركون.
الثالث : هل يصح تقدير أول آية السياق بتوجه الخطاب لكل جيل من الناس بأنه قد مرّت قبله بخصوصية وهي إتحاد الخطاب لأجيالهم المتعاقبة لأنهم على ملة واحدة وشريعة غير منسوخة، ليكون من معاني البيان في آية السياق تذكير الناس بحقيقة من جهات:
الأولى : كان الأمم السابقة ديانتها وشرائعها.
الثانية : حث الناس جميعاً على التفقه بأحوال الأمم السابقة وإقتباس الدروس منها، فجاءت آية البحث: (هذا بيان للناس)، وكأن تقدير آية السياق بلحاظ البيان العام في آية البحث هو[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ]( ).
ومن الإعجاز في إشراك عامة الناس بالخطاب الخاص للمسلمين في آية السياق أنها جاءت بعد ثلاث آيات تتصف بصيغة الجملة الخبرية وبيان صفات أهل الجنان، بينما جاء العطف في الآيات السابقة على التوالي[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، ثم أعقبها قوله تعالى[وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( ).
ثم قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ثم قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
وكل آية من الآيات الثلاثة الأخيرة أعلاه تبدأ بحرف العطف الواو، للدلالة على إكرام المسلمين والعناية الإلهية بهم بتقريبهم إلى منازل الطاعة وبعثهم على التفقه في الدين ومدّهم بمسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلهم يتخذون الدنيا مزرعة للآخرة.
وقد رجعت الآيات المتعقبة لآية البحث إلى ذات لغة الخطاب للمسلمين[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، وهذا الرجوع من البيان , ولو كان الخطاب في آية السياق موجهاً إلى الناس جميعاً أي قد خلت من قبلكم أيها الناس لجاءت آية البحث بلفظ(هذا بيان لكم) ولكنها جاءت بلفظ(هذا بيان للناس).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه سئل على السائحين فقال: هم الصائمون)( ) .
وعن أبي أمامة أن رجلاً إستأذن رسول في السياحة فقال: إن سياحة أمتي ورهبانيتهم الجهاد)( ).
ولا تعارض بين الأمرين، وبين الجهاد والصيام عموم وخصوص مطلق، فالصيام عبادة وجهاد للنفس الشهوية وقهر لحب زينة الدنيا ، وفيه بعث للفزع في قلوب أعداء الإسلام من شوق المسلمين للصبر وتحمل الأذى في مرضاة الله، ليكون الصيام على وجوه:
الأول : إنه جهاد أصغر.
الثاني : الصوم جهاد في حالم السلم والحرب، فعندما تضع الحرب أوزارها بالإسلام أو الصلح والسلم وتنقضي محنتها وبلاؤها، وتخف أثقالها فإن المسلمين مواظبون على الجهاد بالصيام والحج وأداء الفرائض , وفيه تنمية وتعاهد لملكة الصبر ومقومات الجهاد .
الثالث : ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيان صبغة الجهاد في أداء التكاليف (وعن الإمام الصادق عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث بسرية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر فقيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر قال: جهاد النفس)( ).
وذكر البغوي من غير سند ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال حينما رجع من تبوك أنه قال: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)( ).
والمراد بالجهاد الأصغر في الحديث قتال الكفار، والجهاد الأكبر مجاهدة النفس، والإنزجار عما نهى الله عنه، ومنه طلب الحلال للذات والعيال.
والسائحون جمع سائح وهو الذي يسير في الأرض، مأخوذ من السيح وهو السير والإنتشار، يقال: ساحَ الماءُ يَسيحُ سَيْحاً وسَيَحاناً جَرَى على وجْهِ الأرضِ)( ), وأستعمل في الضرب في الأرض مطلقاً، ولكنه في الإصطلاح يخص الذهاب في الأرض طاعة لله، ومنه سُمي عيسى عليه السلام المسيح، قال تعالى[وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ]( ).
وقد ورد ذكر عيسى في القرآن باسم المسيح إحدى عشرة مرة، وورد بإسم(عيسى) خمساً وعشرين مرة، ليكون تعدد تسمية عيسى بالمسيح وبهذه الكثرة والنسبة آية من بيان القرآن وهداية لموضوعية السياحة في رسالته وإتخاذها صبغة لجهاده فتؤدي به إلى القتل فيأتي الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون سياحته وأمته الدعوة إلى الله المقترنة بالسيف عند الحاجة إليها وعند الدفاع.
وقد قامت قريش بمحاولة قتله فأوحى الله إليه بالهجرة إلى يثرب ، ثم زحفت بخيلها وخيلائها لقتله وأصحابه من المهاجرين والأنصار، فكان دليلاً وشاهدا على حاجة المسلمين للدفاع عن الإسلام وليكون من مراتب السمو التي إنفردوا بها هي الإقتران والتداخل بين وظائف عبادية وعقائدية منها :
الأولى : حماية بيضة الإسلام( ).
الثانية : التفقه في الدين، ومعرفة أحكام وحدود الإسلام ببيان القرآن وأخبار السنة النبوية، قال تعالى[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ]( ).
الثالثة : حفظ القرآن رسماً وتدويناً وتلاوة وتفسيراً.
الرابعة : تعاهد حضور النبوة بالذب عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه قوام دولة الإسلام، وتوالي مضامين السنة القولية والفعلية.
وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وحملهم السلاح للدفاع عن الإسلام وعن القرآن وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن أنفسهم وذراريهم ووراثة الإيمان.
وهل ما ورد في الآية السابقة [فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( )، من البيان والسياحة في الأرض.
الجواب نعم من جهات:
الأولى : إنتشار المسلمين في الأرض بلباس الإيمان والتقيد بأداء الفرائض وأظهرها الصلاة اليومية.
وعن أبي برزة الأسلمي قال: لما نزلت هذه الآية {الذين هم عن صلاتهم ساهون}( ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الله أكبر هذه الآية خير لكم من أن يعطى كل رجل منكم جميع الدنيا، هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته، وإن تركها لم يخف ربه)( ).
الثانية : بيان ماهية سياحة المسلمين في الأرض وأنها جامعة لضروب الجهاد، وتتضمن الآية أعلاه أخذ المسلمين الحائطة والتوقي أثناء السير والضرب في الأرض.
الثالثة : تقييد السير في الأرض بالنظر في آيات الإنتقام والبطش الإلهي بالذين كذبوا بالآيات والتنزيل، ليكون سير المسلمين في الأرض على وجوه:
الأول : إنه طاعة لله عز وجل بنص وشهادة آية البحث.
الثاني : النظر والتدبر في ضروب من حكمة الله وسخطه على المكذبين والجاحدين بالربوبية والنبوة , بعد توالي وجوه البيان والبراهين الساطعة بلزوم التحلي بسنخية الإيمان وأنوارها.
الثالث : ضرب المسلمين في الأرض مناسبة لزيادة الإيمان وتثبيته في الجوانح والأركان.
المسألة الرابعة : أمر الله عز وجل للمسلمين في الآية السابقة (فسيروا في الأرض) من البيان الذي ذكرته آية البحث من وجوه:
الأول : صيرورة المسلمين في مقامات من العز والشأن بحيث يخبر القرآن الناس عن سيرهم في الأرض.
الثاني : عجز الكفار عن منع المسلمين من الضرب في الأرض، والسير فيها بتدبر وتفكر.
الثالث : المسلمون أمة واحدة في سيرهم في الأرض، فلا يفرق بينهم التباعد عن الأوطان وصروف الزمان.
الرابع : من البيان في القرآن الإخبار بأن الأرض ملك لله عز وجل، وهو سبحانه أمر المسلمين بالسير في الأرض مما يدل بالدلالة التضمنية على أنه وعد كريم بالأمن والسلامة والكسب في السير في الأرض، قال تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الخامس : يسير المسلمون في الأرض بما هم مؤمنون وحاملون للواء التوحيد، ليكون ذات سيرهم بياناً للناس.
السادس : يمكن تأسيس قانون وهو كل أمر للمسلمين هو بيان للناس جميعاً يأخذون منه ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم.
المسألة الخامسة : تضمنت آية السياق أمرين:
الأول : فسيروا في الأرض.
الثاني : فأنظروا…..) ولم تتضمن آية البحث أمراً ولا نهياً وبالنسبة للأمر بالنظر يحتمل وجوهاً:
الأول : تعلق الأمر والإمتثال له يتحقق السير في الأرض، وكأنه من ترتب المعلول على علته، فإذا سار المسلمون في الأرض نظروا في آيات عاقبة المكذبين، وإذا لم يسيروا في الأرض لم ينظروا فيها , ويدل عليه ورود الأمر(فأنظروا) بحرف الفاء الذي يفيد السببية وأن ما قبله سبب لما بعده.
الثاني : النظر والتدبر في عاقبة المكذبين أعم من أن تنحصر مقدماته بإمتثال المسلمين للسير في الأرض، ويمكن إستقراؤها من القرآن وبتلاوة آياته التي تؤكد نزول العذاب والإستئصال بالكفار تصبح تلك العاقبة حاضرة عند المسلمين ويدركونها بحواسهم.
الثالث : من البيان في آية السياق أن سير المسلمين في الأرض رحمة بهم وبالناس جميعاً، ومن رشحات هذه الرحمة النظر في سوء عاقبة المكذبين.
الرابع : المراد من الأمر في قوله تعالى (فأنظروا) أعم من النظر الحسي والبصري إذ يشمل التدبر والتبصر بعواقب الأمور، وهل يشمل قوله تعالى(فأنظروا) النظر والتمعن في الألفاظ بلحاظ دلالتها على المعاني أم أن القدر المتيقن هو رؤية الأطلال والقبوروالآثار ونحوها، الجواب هو الأول.
ويفيد الجمع بين آية البحث وآية السياق إقتباس الدروس من الجمع بين بيان القرآن والشواهد التي تدل على سوء عاقبة الظالمين وإتعاظ الناس من العبر والقصص التي بينت في القرآن , وإن لم ير المسلمون والناس آثارها، (ويقال للرجل إذا أحسن النظر وجاء برأي جَيدٍ: قد أغْمَضْتَ في النظَر إغماضاً حَسَناً)( ).
ومن الإعجاز في آية السياق أنها لم تذكر كيفية عاقبة المكذبين , وهل هي على خير وعمارة، أم على شر وفناء مع أن آية البحث أخبرت بأن القرآن بيان للناس، الجواب من وجوه:
الأول : ذات الأمر بالنظر بيان.
الثاني : ورود السؤال (كيف) دعوة للناس لتوظيف الحواس والعقول في معرفة الحال التي صارت عليها دول وإمارات وتجارات الذين أنكروا التوحيد، وكذّبوا بالرسالات.
الثالث : مجيء الآيات القرآنية التي هي بيان وتفصيل في ذكر عاقبة المكذبين، مثل آل فرعون، وقوم نوح وقوم صالح وقوم هود، وقوم لوط.
وعن ابن عباس في قوله تعالى[كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ]( )، قال : كانوا أصحاب غيضة بين ساحل البحر إلى مدين، وقد أهلكوا فيما يأتون. وكان أصحاب الأيكة مع ما كانوا فيه من الشرك استنوا سنة أصحاب مدين فقال لهم شعيب{إني لكم رسول أمين}، {فاتقوا الله وأطيعون}( )، {وما أسألكم} على ما أدعوكم عليه أجراً في العاجل في أموالكم{إن أجري إلا على رب العالمين}، {واتقوا الذي خلقكم والجبلة} يعني وخلق الجبلة {الأولين} يعني القرون الأولين الذين أهلكوا بالمعاصي ولا تهلكوا مثلهم {قالوا إنما أنت من المسحرين} يعني من المخلوقين{وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين}، {فأسقط علينا كسفاً من السماء} يعني قطعاً من السماء{فأخذهم عذاب يوم الظلة} أرسل الله عليهم سموماً من جهنم، فأطاف بهم سبعة أيام حتى انضجهم الحر، فحميت بيوتهم، وغلت مياههم في الآبار والعيون .
فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين والسموم معهم، فسلط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم فتغشتهم حتى تقلقلت فيها جماجمهم، وسلط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم، ثم أنشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء، فلما رأوها إبتدروها يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا تحتها جميعاً؛ أطبقت عليهم فهلكوا ونجَّى الله شعيباً والذين آمنوا به)( ).
الرابع : السنة النبوية مرآة للبيان القرآني وهي تفسير وكاشف عن سننه، والمصدر الثاني للتشريع، وإذا كان القرآن بياناً للناس فالسنة النبوية على وجوه:
الأول : السنة بيان وتفسير بالقول والفعل للقرآن.
الثاني : السنة تأكيد لبيان القرآن.
الثالث : السنة حجة إضافية وتعضيد لما بينهُ القرآن من الأحكام والسنن.
روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه يعني الواشمة و المستوشمة و الواصلة و المستوصلة فقرأت المرأة التي سمعت ذلك منه جميع القرآن ثم أتته و قالت يا ابن أم عبد تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم أجد فيه لعن الواشمة فقال لو تلوتيه لوجدتيه قال الله تعالى: ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وإن مما آتانا رسول الله أن قال لعن الله الواشمة والمستوشمة)( ).
الرابع : السنة بيان قائم بذاته، بلحاظ أنها من أقسام الوحي، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ). وتلك آية في بديع صنع الله ورحمته بالناس، ومن عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فينزل الله البيان ويجعل نبيه يوضحه للناس بتفضيل يمنع الإجمال , وإخبار يحجب دبيب الشك إلى النفوس. المسألة السادسة : تقدير الجمع بين خاتمة الآية السابقة وأول آية البحث[عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ].
ومن إعجاز القرآن أن التدبر في معاني الجمع بين خاتمة كل آية وأول الآية التي تليها مدرسة في البيان ومناسبة لإستنباط المسائل، وتجليات من فيوضات القرآن بحيث يلتفت المسلم إلى وحدة الموضوع بينهما من غير أن تتعارض هذه الوحدة مع الفاصلة بين الآيتين , فمرة تأخذ كل آية على نحو مستقل وأخرى إرادة المعنى المتصل والمتداخل من الآيتين المتجاورتين، ليكون المعنى أن عاقبة المكذبين ذاتها هي بيان للناس.
لذا وردت آية البحث بصيغة التنكير فلم تقل هذا هو البيان للناس، بلحاظ أن فضل الله عز وجل على الناس متعدد المصاديق كثير الوجوه وسوء عاقبة المكذبين ورد ذكره في آيات أخرى من القرآن سواء تلك التي ذكرت قوماً كافرين بعينهم أو ذكرت المكذبين كجنس وفريق من الناس، وهو من البيان القرآني.
فإن قلت إذا كانت الوقائع والحوادث والكتب السماوية الأخرى كل فرد منها بيان للناس، فماذا يميز القرآن عنها.
الجواب من وجوه:
الأول : نال القرآن اسم ومسمى البيان حقيقة، عن ابن مسعود قال: “إِنَّ الله أنزل في هَذَا الْكِتَاب تبياناً لكل شيء، ولقد علمنا بعضاً مما بين لنا في القرآن، ثُمَّ تلا: “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَاب تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ”، قَالَ: بالسنة)( ).
الثاني : شهد الله عز وجل للقرآن بأنه جامع لخصائص البيان للناس جميعاً.
الثالث : تقدير الآية على شعب:
الأولى : بيان سالم من المعارض، وخال من التناقض.
الثانية : القرآن بيان لا يطرأ عليه التحريف والتبديل إلى يوم القيامة.
الثالثة : القرآن بيان بذاته لا يحتاج إلى غيره من الكتب.
الرابعة : كشف طريق الهدى، قال تعالى[وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ]( )، وعن ابن عباس في الآية: يقولون البيان)( ).
الخامسة : القرآن بيان لما فيه لآيات محكمات وأخر متشابهات.
السادسة : هذا بيان خاتم ليس بعده بيان أو تنزيل من السماء.
المسألة السابعة : ذكرت آية البحث أن القرآن (هدىً)، وفيه بلحاظ آية السياق وجوه:
الأول : الإخبار عن سبق وتقدم سنن في الأرض من سبل الهداية للناس جميعاً من جهات:
الأولى : دعوة الناس للأخذ بسنة الرشاد، والنفرة من سنة الضلالة.
الثانية : إخبار الناس بأن الله يعلم تلك السنن المنقرضة.
الثالثة : تنمية ملكة العز والمنعة في نفوس المسلمين، لأن الآية تتحدث عن إنقضاء السنن الأخرى، وهلاك المكذبين بالتوحيد والتنزيل ونزول القرآن بياناً للأحكام، وهداية للناس , وبرزخاً دون طغيان الكفر ومفاهيم الضلالة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة، وعمل بعمل الملائكة، فصيره إلى ما بدئ إليه خلقه من الكفر قال الله{وكان من الكافرين})( ).
ولكن لفظ (كان) وإرادة الماضي منه أعم من تعلق سنخية الخلق، ولم يثبت أن الله عز وجل خلق إبليس على الكفر، لأن الكفر إختيار ذاتي قبيح.
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم: إن الله أمر آدم بالسجود فسجد فقال: لك الجنة ولمن سجد من ذريتك، وأمر إبليس بالسجود فأبى أن يسجد , فقال : لك النار ولمن أبى من ولدك أن يسجد) ( ).
أي أن إبليس بإختياره إمتنع عن الإمتثال لأمر الله بالسجود لآدم.
الرابعة : موضوعية السنة والمذهب في معرفة الأمة والشعب، وتلك آية في مدرسة القرآن بأن الأمم تعرف بملتها ودينها ليكون من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
الخامسة : تبين الآية الغاية من التأريخ، بأن يكون التوثيق بالسنة والملة، وأثرها في عاقبة الأمم، والشأن العظيم للعاقبة في تأريخ كل أمة، وذكرها وموضوعية السنة والمذاهب بذكر الأمم السابقة من أسباب الهداية والرشاد للمسلمين بأجيالهم اللاحقة، وفي التنزيل[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
السادسة : في الآية دعوة للمسلمين لبيان وذكر الملل السابقة التي كانت تتصف بالهداية وعاقبتها وكيف أنها نوع مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : ذكرت آية السياق إنقضاء سنن في الأرض مع بقاء الهدى بالإسلام وسنة الضلالة بكفار قريش ونحوهم، فهل المراد من السنن الأمم السالفة بالإتيان باللازم وإرادة الملزوم.
الجواب لا، إنما المراد السنن والأمم في آن واحد من جهات :
الأولى : ذكر السنن يدل على الأمم، لأن السنة محمول بينما ذكر الأمم لا يدل على تعاقب وتباين السنن.
الثانية : لم ينزل العذاب بالكفار بلحاظ أنهم أمة من الأمم، بل نزل لكونهم ذوي سنة ضلالة.
الثالثة : إخبار المسلمين بأنهم معروفون عند أهل الأرض والسماء بملتهم وسنتهم، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]( )، لما في الجمع بين آية البحث والسياق من الدلالة على وجوب تعاهد أحكام الإسلام، وفيها نصر وغلبة المسلمين، ونزول شآبيب الرحمة عليهم.
الثالث : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء، ولم يترك الناس وشأنهم، ولم يخل بينهم وبين الشيطان، بل تفضل وقرّبهم إلى منازل الهدى، وتعاهد هذا القرب كيلا يدّب الشك إلى نفوسهم، وجعلهم ينتقلون في مراتب الهداية بالقرآن، وما فيه من أسباب الهدى، ومنها ذكر تأريخ الأمم السابقة بلحاظ عاقبتها.
الرابع : تفقه المسلمين في الدين بمعرفة أثر السنة في العاقبة، فلا يأتي البلاء لأمة إلا لسوء إختيارها الملة والمذهب، وفيه دعوة للمسلمين للنهوض بأعباء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجذب الناس للسنة التي تقيهم سوء العاقبة.
وروي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بن كعب وهو في الصلاة فلم يجب وأسرع في بقية صلاته ، فلما جاءه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما سمعت فيما يوحى إلي {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} فقال أبيّ: لا جرم يا رسول الله لا تدعوني أبداً إلا أجبتك)( ).
وفي صحيح البخاري ومسلم أن الأمر حدث مع أبي سعيد بن المعلى، وذكر أنه وقع مع حذيفة بن اليمان في كتيبة الخندق وهذه الواقعة تأديب ومقدمة للدعوة إلى الجهاد والنفر الجماعي عن الإسلام وعدم الإنشغال بالأمور الخاصة وإن كانت عبادية، خصوصاً وأن قريشاً كررت غزو المدينة.
الخامس : من وجوه تقدير الجمع بين الآيتين الخطاب للمسلمين: قد خلت من قبلكم سنن فحافظوا على سنة الهدى التي أنتم عليها، والخطاب لغير المسلمين قد خلت من قبلكم سنن فأتركوا سنن الضلالة وإختاروا سنة الهدى التي تتجلى في القرآن.
السادس : من إعجاز الآية أنها لم تحصر في وصف القرآن بالهدى بل وصفته بأن بيان وأنه موعظة للمتقين.
السابع : لقد جعل الله عز وجل عند الإنسان حاسة البصر، وهي أعظم الحواس وأكثر نفعاً، وقيل السمع هو الأهم، وتقدم البيان وأن المختار هو تقدم البصر رتبة في النفع والأهمية، ولو سألت الأصم أن يمنح السمع وتعمى عيناه لما رضي به، بعكس الأعمى الذي لو خير بين إعادة بصره وإصابته بالصم أو بقاءه أعمى لإختار الأول.
وقد يتم إكتشاف علاجات نافعة لآفة الصمم ولكن البصر يستلزم جهوداً وزماناً وأموالاً أكثر فتضمنت الآية السابقة (فأنظروا) ليكون هذا النظر من الشكر لله على نعمة البصر، وتوظيفها في مرضاة الله، وبما يثبت المسلمين في منازل الهدى، ويجعل نفوسهم تنفر من سنن الضلالة والتي لا تجلب إلا الخزي والعذاب والفناء.
الخامس : من بيان القرآن ودلائل الهداية فيه أن الله عز وجل رزق الأنسان الحواس لتكون عوناً له في طاعة الله، وعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض، رد الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، لبيان أنه من علم الله تعالى في المقام تفضله بجعل الحواس للإنسان، وبالمقدار الذي تكون معه نوع طريق لعبادة الله.
ومن الهدى الذي تذكره آية السياق تسخير المسلمين حاسة البصر لرؤية آيات الله الحادثة والتي تدل عليها الآثار ليكون من بديع صنع الله وإطلاق ملكه للأرض بقاء تلك الآثار والأطلال حجة وموضوعاً لتدبر وتفكر المسلمين وغيرهم، فملكية الله عز وجل تتضمن الإطلاق في المشيئة في الأرض وأهلها فصار حفظ تلك الآثار والأبنية والشواهد من ملك الله عز وجل فلا أحد يجرأ على تغييرها وطمسها بل أصبحت مصدر ثروة في باب السياحة تعيش عليها الأسر والمؤسسات وتنتفع منها الدول , ويقصدها الناس من أقطار الأرض ويلتقطون الصور التي تكون ذكرى وتذكرة وعبرة متجددة لهم ولأبنائهم وغيرهم.
وإذا ما تعرضت زيارة تلك الآثار للحجب، فسرعان ما تنتشر البطالة والكساد في المصر ويعلن عن خسائر فادحة تضرب إقتصاده، ليكون قوله تعالى(فأنظروا) سبباً لإزدهار التجارة وعمارة البلدان وهو من مصاديق ملك الله للأرض بأن يرزق أهلها بما يؤدي بهم إلى العناية بتلك الآثار إستجابة لأمر الله في آية السياق وترتب الثواب على صرف طبيعة هذا النظر.
فإن عموم الناس ينظرون إلى تلك الآثار طوعاً وقهراً، لتكون من أفراد البيان والهدى والموعظة التي ذكرتها آية البحث، وهو من أسرار إبتداء آية البحث باسم الإشارة(هذا) والذي يفيد معنى القرب.
المسألة الثامنة : لقد جاءت آية السياق بالأمر بالنظر في عاقبة المكذبين، فهل يمكن شموله لمضامين آية البحث الجواب نعم لوجوب تسخير النظر في طاعة الله، وهو من أفراد قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، إن الله عز وجل جعل الحواس عند الإنسان لتكون على وجوه:
الوجه الأول : فـأنظروا هذا بيان للناس) ليكون النظر من جهات:
الأولى : النظر لذات القرآن.
الثانية : أنظروا إلى اسم القرآن وترتيب سوره، والفواصل بين آياته، وفي الحديث النظر إلى القرآن.
الثالثة : إنظروا إلى منافع بيان القرآن للأحكام، وإخباره عن الوقائع والأحداث، والبيان من الحسن في قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
فذكر القصص في القرآن بيان للناس عن السنن التي مرّت على الأرض وإنقرض أهلها ولكن القرآن حفظها إخباراً بأنها حاضرة عند الله عز وجل، ليكون من معاني البيان في الآية السابقة أن القرآن إخبار عن علم الله عز وجل بأهل الأرض وأجيالهم وسننهم وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، فلا يحصل فعل أو يحدث أمر في الأرض إلا يعلمه الله عز وجل منذ الأزل وهو حاضر عنده في الدنيا والآخرة، فجاءت كل من آية البحث والسياق للتدبر والتبصر في علم الله عز وجل بمخلوقاته.
وفي قوم فرعون ورد قوله تعالى[وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ]( )، أي خراب ما يبنون من الدور والمنازل الواسعة وما يعرشون من الأعناب والثمار، ولم تشر الآية للأهرامات التي هي قبور لملوكهم وهو من إعجاز القرآن لبقاء تلك القبور تحكي سوء عاقبة الطواغيت الذين إدعّوا الربوبية , وذكر أن خوفو ترك الديانة المصرية ونصب نفسه إلها, وفي التنزيل حكاية عن فرعون[فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( ) وقال بعض علماء الآثار : لبناء الإهرامات غايات أهم وأكبر من القبور .
لقد جعل الله عز وجل القرآن مرآة لشهادة السماء على أهل الأرض لينتفع المسلمون منه ومن تلك الشهادة على عاقبة الظالمين وما لحقهم من الدمار ونزل بهم من العذاب , قال تعالى في الكفار من قوم النبي صالح[فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
الرابعة : إنظروا إلى الناس في أخذهم من البيان القرآني فقد جاء القرآن رحمة للناس وسلامة لهم من سوء العاقبة ومن الدلائل لوصف القرآن بالبيان أنه دعوة للناس جميعاً للإيمان، لما في البيان من الحجة وأسباب النظر والتدبر.
الخامسة : النظر إلى الهدى في القرآن والتدبر في آيات القرآن لإستنباط أدلة الهدى منه، وتقدير الجمع بين الآيتين:
الأول : فأنظروا هدىً في القرآن.
الثاني : هذا هدى فأنظروا .
وليس من حصر لوجوه الهدى في القرآن، وهي توليدية يتفرع عنها اللامتناهي من مصاديق الهدى.
وفي تقدير الجمع أعلاه مدرسة لإقتباس العلوم بالنظر في آيات القرآن وما فيها من الهدى، خصوصاً وأن لفظ النظر أعم من أن يختص بالبصر فيشمل التفكر والتبصر، وورد في التنزيل بخصوص إبراهيم[فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ]( )، وكل إنسان ينظر إلى النجوم كل ليلة وتلك آية في خلق الإنسان وجذبه إلى منازل التدبر في الآيات الكونية والربط بينها وبين البيان في القرآن.
ولكن نظرة إبراهيم ذات معان عديدة منها التدبر والتفكر وإرادة إعلان محاربة الكفر والضلالة في عبادة النجوم والكواكب وما هو أدنى منها من باب الأولوية القطعية كعبادة الأوثان لذا توجه إبراهيم الإحتجتاج العملي على الكفار بكسر الأصنام، وليكون في النظر في عاقبة المكذبين بلحاظ الآية أعلاه وبيان القرآن أمور:
الأول : تدبر إبراهيم في النجوم عن بيان القرآن، ولولا فضل القرآن في نزوله لما علم الناس هذه الحقيقة الجهادية والتي تبين قانوناً كلياً وهو أن فعلاً شخصياً قد يغير مسار الوقائع والأحداث، لذا إستحق إبراهيم مقام الإمامة بفضل الله، وفي التنزيل[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]( )، لتكون الإمامة وتجددها في الذرية من مصاديق كل من البيان والهدى والموعظة في القرآن.
الثاني : إحصاء وجمع ودراسة الموارد التي ورد فيها النظر والأمر بالنظر والتبصر في القرآن، ومعاني البيان فيها.
الثالث : لقد كان إبراهيم عليه السلام رحمة من الله لقومه بأن كسر أصنامهم ودعاهم إلى التوجه وزجرهم عن الكفر والتكذيب بالنبوة، وأراد اله عز وجل به دفع العذاب عنهم، ويمكن تأسيس قانون كلي في المقام وهو أن سوء العاقبة والعذاب لا ينزلان بالمكذبين إلا بعد أمور:
الأول : إقامة الحجة على الكفار.
الثاني : الإنذار.
الثالث : الوعيد.
الرابع : رؤية الكفار لمصاديق ومنافع للإيمان.
الخامس : وجود أسوة يتحلى بالإيمان من بين ظهراني الكفار وقومهم، أو هو قريب منهم يمكن لهم معرفة وجوب التوحيد وعبادة الله، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى]( ).
السادس : صيرورة عذاب الكفار وخراب عمارتهم موعظة وعبرة للناس، وإتخاذ المسلمين حجة في التبليغ والدعوة إلى الهدى، وكما أمدّ الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالملائكة في معارك الإسلام الأولى: بدر، وأحد، والخندق، فكان النصر حليفهم مع تخلفهم عن العدو في العدة والعدد فإن الله سبحانه أمدّ وعضد المسلمين بالحجة والبيان في مواضع ومراتب نزول نعمته وسخطه بالظالمين.
السابع : وفي نعت الكفار الذين نزل بهم العذاب بالمكذبين في آية السياق، وبلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى : هذا النعت بيان قائم بذاته.
الثانية : تحذير الناس من التكذيب بالآيات.
الثالثة : تعدد مصاديق التكذيب من ذات الأمة والجماعة وإشتراكهم فيه، وإصرارهم على الباطل.
الرابعة : من البيان في القرآن ثبوت صفة المكذّبين على الكفار، ومغادرتهم الدنيا بالجحود والعناد، فلا يعرفون يوم المحشر إلا بهذه الصفة والعنوان.
الخامسة : نعت الكفار بالمكذبين عند نزول البلاء والسخط الإلهي بعد موتهم على الكفر وتخلفهم عن منازل التوبة، وفيه إشارة إلى إستحقاقهم العذاب الأخروي، قال تعالى[الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ]( ).
الوجه الثاني : هذا هدىً وهو بلحاظ آية السياق وجوهاً:
الأول : الإخبار السماوي عن تقدم أمم لها سنن وطرائق هدى بلطف من الله.
الثاني : دعوة الناس لمعرفة منازل الأمم والأفراد بلحاظ السنة الطريقة التي يعملون بها لذا ورد قوله تعالى[وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
الثالث : يهدي القرآن إلى سنن الصلاح والرشاد، وفيه ترغيب بالإيمان وسننه وحسن خاتمته ، وذم للكفار والمكذبين وإخبار عن سوء عاقبتهم، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الرابع : بيان سوء عاقبة المكذبين هداية للناس بإجتنابه والوقاية منه، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ]( )، ففي بيان القرآن منافع منها:
الأول : إنه حرز وشفاء من درن النفاق.
الثاني : فيه وقاية من الكفر.
الثالث : إنه علاج للشك والريب.
الرابع : هذا القرآن هدىً وعلم لمعرفة بعظيم قدرة الله، وسعة سلطانه، ترى لماذا لم يمهل الله الكاذبين إلى يوم القيامة، الجواب من جهات:
الأولى : قيام الحجة والبرهان على المكذبين.
الثانية : التكذيب بآيات الله من أشد وأكبر المعاصي في الحياة الدنيا.
الثالثة : يدل نعت المكذبين على أمور :
الأول : وجود موضوع حق وصدق يكذب به الكفار.
الثاني : إختيارهم التكذيب والعناد.
الثالث : تعدد البراهين والحجج التي يكذبون بها، فتأتيهم الآيات دفعة وتدريجاً وليس عندهم إلا التكذيب والإجتهاد فيه.
الرابع : رحمة الله عز وجل بالناس بمنع صيرورة المكذبين في ميادين الولاية وقد ورد في التحذير من تولية المنافقين قوله تعالى[وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ]( )، وحتى على القول بأن المراد من التولي في الآية أعلاه الفرار والمغادرة فإنه يدل على المندوحة والفسحة التي تتهيأ له ليظهر ما يضمره من الكفر بالإضرار بالناس في أموالهم وأنفسهم، وفيه حجة على الأجيال اللاحقة بأن الله أهلك المكذبين لإزاحة البرزخ بينكم وبين الهدى والتدبر في بيانات القرآن.
ولو كان المكذبون بالنبوة والآيات موجودين بسلطانهم وكثرتهم أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحصل أذى وضرر للمؤمنين لا يعلمه إلا الله عز وجل، فجاء قوله تعالى[فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ليتوجه الناس والمسلمون خاصة بالشكر لله عز وجل على إنتفاء الحواجز بينهم وبين الإيمان، وإنعدام المانع من رؤساء الكفر والضلالة الذين يصرون على التكذيب بالآيات حباً بالدنيا وزخرفها وإتباعاً للنفس الشهوية , قال تعالى[وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الخامس : في القرآن هدىً للسير في الأرض، وتقييد هذا السير بأمور:
الأول : السير طاعة لله عز وجل وإن لم يكن بقصد القربة.
الثاني : النظر والتدبر أثناء السير بالشواهد الأرضية، وعمارة الناس للأرض وتوارثهم الإقامة فيها .
الثالث : إقتباس سنن الهدى من السير في الأرض، وهو من دلالات تعقب الإخبار عن كون القرآن هدى لآية السياق ومضامينها القدسية.
الوجه الثالث : ذكرت آية البحث أن القرآن (موعظة للمتقين) وفيه بلحاظ آية السياق مسائل:
الأولى : توجه الخطاب في آية السياق للمسلمين الذين يتصفون بالتقوى، وقد جاء قبل آيتين بيان خصال المتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة وتبدأ بقوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( ).
الثانية : القرآن مدرسة التقوى، وفيه أحكامها وسننها وكيفية بلوغ مراتبها، ومن الموعظة بلحاظ آية السياق قطع القرآن بأن أمماً سبقت وجود المسلمين في الأرض، وأن هذه الأمم لم تكن على ملة واحدة، قال تعالى[وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا]( ).
ولقد حصل الإختلاف من السنين الأولى لهبوط آدم إلى الأرض، إذ إختلف ولداه الصلبيان هابيل وقابيل، فقتل الثاني الأول، وتحقق مصداق قول الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، لينزل القرآن موعظة للمتقين وإصلاحاً للنفوس وينحسر القتل , لينقطع الناس إلى طاعة الله والسعي في مرضاته والنفرة مما يبغضه.
وإذا كان المقتول من ولدي آدم هو سدس البشرية آنذاك بلحاظ أن مجموعهم ستة هم آدم وحواء وقابيل وهابيل وأختاهما فإن القتل بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنحسر وقلّ في الأرض ولو أجريت إحصائية لعدد المقتولين ظلماً وعدواناً على نحو الخصومة والقضية الشخصية ونسبتهم إلى مجموع أهل الأرض كل سنة لكانت بنسبة الواحد إلى المائة ألف ونحوه، وحتى على القول بضرب هذه النسبة بعشرة فإن التباين يبقى كبيراً، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : تنبيه المسلم إلى حقيقة وهي معرفة الناس بسنخية سننهم ومذاهبهم في الإيمان أو الجحود، وإجتناب المعاملة الطويلة الأمد وإدانة المنكرين للتوحيد، المكذبين بالنبوة والتنزيل لأن عاقبتهم إلى خسارة وهوان، ويتعذر على الناس معرفة أوان هذه العاقبة، فصالح عليه السلام مع نبوته وعظيم منزلته علم بالعذاب بقومه قبل ثلاثة أيام من وقوعه، وفي التنزيل[تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ]( )، وأكد صالح عليه السلام الوعد بأنه حق وصدق ولا يصح تكذيبه لإفادة نكتة وهي التذكير بتكذيبهم بالآيات والبراهين.
ولو ألح قوم صالح بالدعاء والتوسل وجاهروا بالإستغفار وإلتمسوا من صالح أن يستغفر الله لهم وأظهروا حسن الإسلام والتصديق بالنبوة، فهل ينكشف عنهم العذاب أم أن عقر الناقة وإخبار النبي صالح بالقطع بوقوع العذاب أمران يؤكدان وقوعه، الجواب إن الله واسع كريم.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تنف النسخ والمحو عن العذاب غير المكذوب ليشمله قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، ومن رحمته أنه يدفع البلاء وقد قضي قضاء مبرماً، قال تعالى في قوم يونس[إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ]( ).
لتكون الآية أعلاه من البيان والهدى في إمكان التدارك ودفع العذاب وإن تدلى فوق الرؤوس , قال تعالى[وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ]( )، فمن مصاديق تفضيل بني إسرائيل هدايتهم إلى سبل دفع العذاب القريب، وقد فضّل الله عز وجل المسلمين فجعل التوبة لا تصل إلى دنو العذاب منهم بل أمدّهم بالقرآن وما فيه من البيان والهدى والموعظة، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بجعلهم منزهين من التكذيب بالآيات وما يترشح عنه من العذاب، وصبغة التقوى هذه هي الحلة التي خرج ويخرج بها المسلمون إلى الناس ليتعظوا منهم ويجتنبوا التكذيب بالآيات والمعجزات.
الرابعة : إخبار آية السياق عن تقدم وسبق سنن في الأرض موعظة للناس بأنكم مغادرون للدنيا ولكن السنة والطريقة التي تعتقدون باقيةُ من بعدكم بذاتها ووراثة قوم لها، أو بذكرها وتوثيقها في القرآن والقصص الواردة في السنة النبوية، فإن قلت وصفت آية البحث القرآن بأنه موعظة للمتقين وليس الناس مطلقاً.
الجواب من وجوه:
الأول : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فإخبار الآية عن كون القرآن موعظة للمسلمين لا ينفي كونه موعظة لغيرهم من أهل الكتاب والناس جميعاً.
الثاني : جاء في أول آية البحث أن القرآن بيان للناس، ومن خصائص البيان القرآني أنه موعظة ونوع طريق للصلاح.
الثالث : مجيء آيات القرآن بالإخبار بأنه بلغة للتقوى والهداية والإنابة.
الرابع : الجمع بين آية البحث الخاصة بالمسلمين والعامة بالناس.
الخامس : يتعظ المسلمون وأجيالهم من الآية القرآنية فيقتبس ويتعلم منهم الناس
الخامسة : الأمر الإلهي في آية البحث للمسلمين بالنظر والتدبر (فأنظروا)موعظة للمتقين من وجوه:
الأول : تشريف المسلمين بهذا الأمر.
الثاني : إنعدام الفراغ في سفر المسلم، لإنشغاله بالنظر في الشواهد, وصيرورة هذا النظر مقدمة لذكر الله وتسبيحه وتهليله.
الثالث : صيغة الأمر في آية السياق وموضوعها وما تقدمها من الإخبار عن تقدم أجيال وسنن والأمر للمسلمين بالسير والذهاب في الأرض، وتأخر عنها من ذكر موضوع النظر وهو الآثار الدالة على بطش الله بالقوم الكافرين، قال تعالى[وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الرابع : توالي وإتصال إمتثال وعمل المسلمين في قوله تعالى(فأنظروا) وهو من أسرار وراثتهم الأرض بأن تتعدد مصاديق نظرهم في عاقبة المكذبين كل يوم وإلى يوم القيامة، وتلاوة القرآن من مصاديق هذا النظر.
لذا قالت آية البحث (هذا بيان للناس).
السادسة : أطراف آية السياق أربعة وهي:
الأول : إنقضاء سنن في الأرض.
الثاني : سير المسلمين في الأرض طاعة لله وتعظيم شعائره، ومناسبة للثواب.
الثالث : إقتباس المسلمين الدروس وإستنباط المسائل في خواتيم الأمور بسيرهم وذهابهم في الأرض.
الرابع : سوء عاقبة الذين كذّبوا بالنبوة والتنزيل، وكل طرف منها يكون بلحاظ آية البحث على وجوه:
الأول : إنه بيان.
الثاني : إنه هدىً.
الثالث : إنه موعظة للمتقين، بالإضافة إلى أن إجتماع أطراف آية السياق تكون أيضاً بياناً وهدى وموعظة وكذا إجتماع كل طرفين أو ثلاثة منها مثل:
الأول : إجتماع إنقضاء سنن سابقة وسير المسلمين في الأرض بيان للناس، ودعوة للتدبر.
الثاني : إجتماع إنقضاء سنن سابقة وسير المسلمين في الأرض هدىً لهم ولغيرهم.
الثالث : إجتماع إنقضاء سنن سابقة وسير المسلمين في الأرض موعظة للمتقين، وإعتبار وتعلم الناس منهم.
الرابع : إجتماع سير المسلمين في الأرض بقيد النظر والتدبر بيان للناس من جهات:
الأولى : بيان حقيقة وهي أن المسلمين ورثة الأرض وقادة الأمم في سبل الهداية، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ]( ).
الثانية : جاء أمران متعاقبان للمسلمين والمسلمات في كلمتين (فسيروا في الأرض فأنظروا) مما يدل على تلقيهم التكاليف العامة والخاصة، وأهليتهم للإمتثال لها.
الثالثة : تأديب المسلمين وإرشادهم إلى حقيقة تعبدية وهي لزوم وجود غاية حميدة لعملهم وفعلهم، وعدم ذهاب أوقاتهم وجهودهم سدىً فعندما يضربون في الأرض يجعلون النظر والتفكر جزء من سفرهم وإن كان لأغراض الحج أو العمرة أو التجارة أو الجهاد أو طلب الرزق، وكأن هذا النظر من مصاديق قوله تعالى[وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ]( ).
الرابعة : تعدد تكاليف المسلمين والأوامر المتوجهة لهم بيان للناس يحكي صبرهم في طاعة الله ويبعث على الذم للذين كذبوا بالآيات، وإمتنعوا عن قبول تلك الأوامر.
الخامسة : إذا كان المكذبون بالنبوة والتنزيل لاقوا سوء العاقبة، فإن الذين يصدقون بالتنزيل يلاقون الثواب العاجل في الدنيا، ويتجلى في حفظهم وسلامتهم وذراريهم من البطش الإلهي.
ومن الشواهد أن أهل يثرب نصروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فصارت مدينتهم صرحاً إسلامياً ومزاراً لملايين المسلمين كل عام ومن جميع أنحاء الأرض.
السادسة : إنتفاع المسلمين جميعاً من قيام بعضهم وجماعات منهم في السير في الأرض، ومن نظر وتدبر طائفة منهم في آثار وأطلال الظالمين الذين جحدوا بالربوبية، وفيه هدىً لهم وإتعاظ من أحوال الأمم وباب لأخذ الحائطة من المكذبين بالآيات والشؤم الذي يصاحبهم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ).
السابعة : نعتت آية البحث القرآن بأنه (موعظة للمتقين) وليس من حصر لمصاديق الموعظة في القرآن بأنه (موعظة للمتقين) وليس من حصر لمصاديق الموعظة في القرآن، ومنها ما يأتي في أخبار القرآن ومنها في أوامره، وآية السياق جامعة للأمرين معاً.
فمن بديع صنع الله تعاقب الأجيال والأمم في الأرض، وتحديد أعمار الإنسان بمؤقت موسع في ظاهره، مضيق في حقيقته، إذ يكون لمدة حياة أي إنسان في الأرض طرفان، حد أدنى، وحد أعلى، وفي الحقيقة له يوم مخصوص يغادر فيه الدنيا، قال تعالى[إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( )، وفيه موعظة وعبرة للمسلمين بالإستعداد للموت كل يوم بالعمل الصالح، وهذا العمل باب لتأجيل الأجل وأوان الموت.
وهل فيه تعارض مع الآية أعلاه، الجواب لا، فللّه المشيئة المطلقة، وليس من موضوع أو حكم لا يتغشاه فضل الله، والهبات المستحدثة منه سبحانه ومنها الآجال، قال تعالى[وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ]( )، ليفوز المسلمون بالفضل الإلهي في الآجال , والسلامة من إنعدام العقب الذي يبتلى به المكذبون، ليكون من معاني الموعظة وإختصاصها في الآية إرتقاء المسلمين في سلم المعرفة، ونيلهم الرزق الكريم.
وتحتمل النسبة بين السير والسفر وجوهاً:
الأول : التساوي، فالسير في الأرض هو ذاته السفر فيها.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وينقسم إلى شعبتين:
الأولى : السفر أعم من السير.
الثانية : السير أعم من السفر.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الرابع : نسبة التباين وأن السفر غير السير.
والصحيح هو الشعبة الثانية من الوجه الأول أعلاه، لذا جاءت الآية بالمعنى الأعم لينتفع المسلمون منها , وينالوا الثواب بالتدبر في الآيات الكونية وعواقب الأمور مع تعدد مقاصد السير والسفر.
الثامنة : قد تقدم في الجزء السابق قانون (سافروا تغنموا)( )، وبلحاظ بيان القرآن تحتمل الغنيمة وجوهاً:
الأول : الغنيمة في الدنيا.
الثاني : الغنيمة في الآخرة.
الثالث : الغنيمة في الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الثالث، من وجوه:
الأول : أصالة الإطلاق في معاني الغنيمة.
الثاني : من بيان القرآن أن الثواب أعظم الغنائم.
الثالث : غنيمة الدنيا طريق للغنيمة والفوز من الآخرة، فإن قلت قد تكون الغنيمة في الدنيا مالاً وبهجة، قال تعالى[فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ]( )، والجواب من وجوه:
الأول : أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قيد الغنيمة بأنها تأتي للمسلمين بصبغة الإيمان التي يتحلون بها لأنه خاطبهم بصفة وحلية الإسلام، والتقدير: سافروا أيها المسلمون تغنموا.
الثاني : أصالة الإطلاق في قوله تعالى محمد صلى الله عليه وآله وسلم: سافروا تصحوا، سافروا تغنموا)( ) والمراد منه.
الثالث : الغنيمة في الآخرة وهي أعظم نفعاً وأثراً، قال تعالى[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( ).
وإن قلت إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ)( )، فهل من تعارض بين الحديثين، الجواب لا، إنما يكون العناء والأذى في السفر مقدمة للغنيمة الدنيوية والأخروية، وبياناً لحقيقة أن من الغنائم لا تنال إلا بالجهد والمشقة والضرب في الأرض.
وكل فرد من الوجوه الثلاث أعلاه مصداق من الأمر الإلهي بالسير والذهاب في الأرض، وتوظيفه في تقوى الله والإخلاص في عبادته والتدبر في الآيات بما يكون فرعاً لعلوم القرآن ومرآة لمضامين البيان والهداية والموعظة فيه، ولو سار الإنسان لغرض النظر والتدبر في الآيات.
فهو من الإتعاظ والتزود للمعاد كما في حديث النبي لأبي ذر الذي هو بيان وتفسير للقرآن وباب للهداية ووصية له وللصحابة والمسلمين جميعاً، (قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله : كم كتاباً أنزل اللهُ؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قال: قلت: يا رسول الله: ما كانت صُحف إبراهيم عليه السلام؟
قال: كانت أمثالاً كلها، أيها الملك المسلّط المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكن بعثتك لِتَرُدّ على دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو من كافر. وكان فيها: وعلى العاقل أن تكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، وساعة يُفكر في صنع الله عزّ وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألاَّ يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزور لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومَن حسب كلامه من عمله قَلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه
قلت: يا رسول الله؛ فما كانت صُحف موسى عليه السلام؟ قال: كانت عِبَراً كلها؛ عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبت لمَن أيقن بالقدر ثم هو ينصب أي يتعب ، عجبت لمَن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها ثم اطمأن إليها، وعجبت لمَن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل قلت: يا رسولَ الله؛ وهل في الدنيا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى، مما أنزل الله عليك، قال: نعم، اقرأ يا أبا ذر: {قد أفلح مَن تزكى..} الآية إلى السورة ثم قال : قلت: يا رسول الله، أوصني.
قال: أوصيك بتقوى الله عزّ وجل ، فإنه رأس أمرك: قلت: زدني، قال: عليك بتلاوة القرآن وذكرِ الله عزّ وجل، فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال: إياك وكثرة الضحك، فإنه يُميت القلب، ويذهب بنور الوجه، قلت: يا رسول الله؛ زدني قال: عليك بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي، قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال: عليك بالصمت إلاَّ مِن خير، فإنه مطردة للشيطان، وعون لك على أمر دنياك)( ).
الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ….]( )، وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم هذا بيان للناس.
الثاني : أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم هذا هدىً.
الثالث : أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم هذا موعظة للمتقين.
الرابع : جنات تجري من تحتها الأنهار هذا بيان للناس.
الخامس : جنات تجري من تحتها الأنهار هذا هدىً.
السادس : جنات تجري من تحتها الأنهار هذا موعظة للمتقين.
السابع : خالدين فيها هذا بيان للناس.
الثامن : خالدين فيها هذا هدىً.
التاسع : هذا بيان للناس ونعم أجر العاملين.
العاشر : هذا هدى ونعم أجر العاملين.
الحادي عشر : هذا موعظة للمتقين ونعم أجر العاملين.
الثانية : يدل قوله تعالى في آية البحث (هذا بيان للناس) وبلحاظ آية السياق على شمول البيان القرآني لأمور الدنيا والآخرة على نحو الإجتماع والتداخل، إذ تدل آية السياق على أن الدنيا مزرعة للآخرة، وأن الثواب والجزاء يوم القيامة يكون على ماهية العمل في الدنيا.
وفي الجمع بين الآيتين نكتة وهي أن آية البحث ترغيب بإتيان الصالحات، وندب لفعل الخيرات، وبعث للشوق في النفوس لحسن العاقبة والمثوى.
الثالثة : من البيان في القرآن بلحاظ الجمع بين الآيتين أمور:
الأول : إمكان مغفرة الذنوب، وإنعدام الملازمة بين العبد وذنبه.
الثاني : التقوى وعمل الصالحات طريق للمغفرة، وسبيل لمحو الذنوب وآثارها.
الثالث : المغفرة أعظم هبة وكنز يفوز به الإنسان في الدنيا، ومن البيان بخصوصه ظهور هذا الكنز وعدم إستتاره، وإنتفاء البرزخ بين العبد وبينه، وهو الكنز الوحيد في الدنيا الذي لا يتنافس أو يختصم ويتقاتل الناس عليه، لأن عدد كنوز المغفرة أكثر من عدد الناس، وأي فرد يستطيع أن يصل إلى كنزه بالتقوى والعمل الصالح والإستغفار، وفيه نكتة وهي أن بيان القرآن رحمة للناس، ويكون موضوع الجمع بين الآيتين وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : بيان القرآن رحمة.
الصغرى : بيان المغفرة في القرآن.
النتيجة : بيان المغفرة رحمة.
الرابعة : من الإعجاز في الجمع بين آيات القرآن التفصيل في كيفية الفوز بالثواب، ونفي الجهالة والغرر بخصوص عالم الجزاء، وقد جاء في الآية السابقة[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ]( )، ولم يختلف إثنان من المليين من أيام أبينا آدم وإلى يومنا على كل من:
الأول : سنخية الأعمال التي تقود إلى السلامة في الآخرة، واللبث الدائم في النعيم.
الثاني : ماهية الأفعال التي تسوق العبد إلى النار ليكون من معاني قوله تعالى في الثناء على القرآن وإنذاراته(هذا بيان للناس) على وجوه:
الأول : القرآن رحمة بالناس.
الثاني : هذا سبيل نجاة للناس.
الثالث : هذا إخبار عن علوم الغيب.
الرابع : القرآن جنة وطريق إلى الجنة.
الخامس : القرآن واقية وتخويف من النار.
السادس : هذا هداية إلى مغفرة.
السابع : هذا ترغيب بالإستغفار وبعث للسعي إلى نيل المغفرة.
الخامسة : إبتدأت كل من آية البحث والسياق باسم إشارة، فآية البحث تبدأ باسم الإشارة (هذا) وآية السياق تبدأ باسم الإشارة (أولئك) ومع أن الأول منهما للمفرد القريب والثاني للجمع البعيد فإن كلاً منهما يتضمن صيغة الثناء والمدح، وتلك آية في بديع القرآن والذخائر المترشحة عن ألفاظه، والجمع(أولئك) ودلالاته رشحة من رشحات القرآن.
والإشارة إلى القرآن بلفظ(هذا) لبيان حقيقة وهي أن القرآن هو الكتاب السماوي الجامع الذي يذكر أحوال الدنيا والآخرة، ويبين عواقب الأعمال ويهدي الناس إلى سبل نجاتهم في الدنيا والآخرة، وكل آية منه خير محض.
ومن معاني (هذا بيان للناس) جذب الناس لتلاوته، ومن البيان القرآني في المقام إظهار عذوبة أسماء الإشارة إذا كانت تدل على الأمور الحسنة وسبل الخير والفلاح لتكون الدنيا بالقرآن حديقة ناضرة، ورياضها بهيجة يتنقل المسلم في ظلالها ويكون من معاني قوله تعالى (فسيروا في الأرض) وجوه:
الأول : فسيروا في الأرض بسلاح الإستغفار.
الثاني : فسيروا في الأرض فأنظروا رجاء نيل المغفرة.
الثالث : فسيروا في الأرض بالطرق التي تؤدي إلى الجنة.
ومن الآيات في الشريعة الإسلامية قراءة المسلم والمسلمة كل يوم وعلى نحو الوجوب العيني في الصلاة[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ومع صيغة القرآنية فإنه يتضمن معنى الدعاء والسؤال ليكون من مصاديق البيان في القرآن بعث الناس إلى الدعاء وإرشادهم إلى ما فيه نفعهم وخيرهم.
ومن دلالات الجمع بين إسمي الإشارة في آية البحث السياق أمور:
الأول : إكرام المسلمين بهدايتهم إلى موارد الخير.
الثاني : إرشاد المسلمين إلى ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم.
الثالث : طرد الغفلة ومنه دبيب الجهالة، ففي كل يوم يطل على المسلمين والناس اسم إشارة في القرآن يدعوهم إلى التدبر والتفكر فيه , وفي خبره ومضمونه.
الرابع : مع أن أسماء الإشارة (هذا) دلالة وإخبار عن القرآن فإن اسم الإشارة ذاته بيان للناس، ودعوة للتوجه إلى القرآن .
السادسة : الثواب بالمغفرة في الآخرة أعظم النعم التي يتلقاها الإنسان في دنياه وآخرته، وهي الغاية الحميدة التي يسعى إليها العقلاء ويجتهدون لبلوغها، فجعلتها هذه الآيات قريبة وسهلة يسيرة، تنال بطاعة الله عز وجل، ليكون من مصاديق قوله تعالى(هذا بيان للناس) بلحاظ آية السياق وجوه:
الأول : الإشارة إلى أهل التقوى باسم الإشارة للجمع والمدح(أولئك).
الثاني : تقوم الحياة الدنيا بالجزاء على الحسنات وعمل الصالحات.
الثالث : بيان قانون كلي وهو أن الدار الآخرة دار جزاء.
الرابع : بالمغفرة أعظم الجزاء، ولا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
الخامس : المغفرة ومحو الذنوب جزاء وثواب.
السادس : بيان طريق الجزاء بالعفو والمغفرة، فما دامت المغفرة من أعظم النعم فإن الله عز وجل تفضل ببيان السبيل إليها وهل ينحصر الطريق إلى المغفرة بالتقوى وعمل الصالحات التي ذكرتها الآيتان السابقتان(134-135) الجواب لا، وتلك آية في فضل الله على الناس فتأتي المغفرة من جهات منها:
الأولى : مجيء العفو إبتداء من عند الله.
الثانية : بذل المسلم الوسع في سبيل الله، قال تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]( ).
الثالثة : اللطف الإلهي بتقريب العبد إلى الفوز بالمغفرة من حيث يحب الله عز وجل.
الرابعة : التوجه إلى الله بالدعاء وسؤال المغفرة وليس من حد في طرف الكثرة للإستغفار، قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الخامسة : عمل الصالحات.
السادسة : حسن الخلق والتحلي بالصبر وكظم الغيظ.
السابعة : الإجتهاد في التسبيح والإكثار منه، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من قال: حين يصبح: سبحان الله وبحمده، مائة مرة، وإذا أمسى مائة مرة، غفرت ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر)( ).
الثامنة : تعاهد الصلوات في أوقاتها، وعن بريدة الأسلمي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِى الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( ).
التاسعة : التوبة النصوح والإنتقال إلى رياض الإيمان، قال تعالى[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ]( ).
العاشرة : أداء الفرائض الأخرى كالصيام والحج وفيها نصوص عديدة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من حج لله ولم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه)( )، ولا تتوقف المغفرة في المقام على أداء تمام الفريضة والنسك بل يتفضل بها الله حتى في إتيان جزء الفريضة وفي العمل المستحب والمندوب كالطواف في الحج، وورد عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطاً)( ).
الحادية عشرة : ما يبتلى به المؤمن من الأذى والضرر والمرضى.
الثانية عشرة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة عشرة : الإجتماع على ذكر الله، وبيان كنوز القرآن.
الرابعة عشرة : من البيان في آية السياق تقييد المغفرة بأنها من الله عز وجل ولا يقدر عليها غيره وجاءت الآية بصفة الربوبية (مغفرة من ربهم) ولم تقل(مغفرة من الله) وفيه نكتة بأن فوزهم بالمغفرة جزاء ليس عن إستحقاق وبدلية ومساواة الجزاء للفعل بل لأنه جاء من مقامات الربوبية وما تدل عليه من الرأفة والرحمة.
الخامسة عشرة : من البيان في آية السياق أن المغفرة وعد كريم من عند الله، خص به أهل التقوى، ولكن بلاغه وبيانه موجه للناس جميعاً، وفيه وجوه:
الأول : إنه من مصاديق قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( )، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول في خطبته (اللهم هل بلغت)( ).
الثاني : دعوة المسلمين للتفقه في الدين وإظهار العبودية والخضوع والخشوع لله عز وجل إلها ورباً.
الثالث : دعوة الناس للتوحيد، وحثهم على ترك الشرك والنفاق.
الرابع : بيان حقيقة وهي أن أعظم الحاجات لا يقدر عليها إلا الله، ولا تنال إلا من عنده، وفيه ترغيب بطاعته والتصديق بالنبوة والتنزيل , قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الخامس : الآخرة ملك طلق لله عز وجل فالجزاء بالثواب أو العقاب بيده سبحانه وكذا وسائط الثواب ومصاديق الشفاعة والنصرة، قال تعالى[وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( ).
السادسة عشرة : يفيد الجمع بين الآيتين أن الإخبار عن جزاء المؤمنين بالجنة بيان وترغيب ولطف بالناس جميعاً، وفيه وجوه:
الأول : الثواب العظيم بالمغفرة باب مفتوح للناس جميعاً.
الثاني : من البيان الحجة على الناس في إمكان كل فرد بلوغ مرتبة المغفرة بفعل الصالحات.
الثالث : البيان والإعلام بحتمية ترتب الجزاء على الأعمال في الدنيا، وأن الثواب واللبث الدائم في الجنة هو جزاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات.
السابعة عشرة : يحتمل نيل المغفرة وجوهاً:
الأول : المغفرة في الدنيا.
الثاني : الفوز بالمغفرة في الآخرة وعند مواطن يوم القيامة , ومن أسماء الله الغفور، الغفار، الغافر، وعن أنس بن مال قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ قَالَ اللَّهُ يَا ابن آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِى يَا ابن آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِى يَا ابن آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)( ).
الثالث : العفو والمغفرة في الدنيا والآخرة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من البيان الذي يستقرأ من القرآن والسنة النبوية الشريفة، وما ينال من المغفرة في الدنيا ينفع العبد في الآخرة، وهل ما يفوز به من المغفرة في الآخرة ينفعه بالدنيا.
الجواب قد ثبت في علم الأصول عدم جواز الإستصحاب القهقري، فلو علمنا أن زيداً متزوج في شهر رجب، فهل هو متزوج في الشهور التي قبله أو لا، الجواب لابد من دليل آخر أو قرينة تدل عليه، بينما نستصحب زواجه في الشهور اللاحقة , إلا مع ورود دليل آخر بتغير الحال بالطلاق أو الفسخ أو موت الزوجة وغيره.
أما في المعارف الإلهية فلا يمكن نفي الإستصحاب القهقري، فقد يمهل وينعم الله عز وجل على عبد في الدنيا لأنه سوف يدرك المغفرة فيما بعد من أيام حياته أو في مواطن الآخرة وقبول الشفاعة فيها، وهو من أسرار إمهال شطر من الناس مع فعلهم المعاصي لذا تقدم الإخبار عن المغفرة وأنها من عند ربهم الله قبل ذكر الجنات للحاظ التقدم الزماني للحياة الدنيا على الآخرة , فالدنيا دار بيان وعمل ومغفرة، والآخرة دار جزاء ومغفرة.
ترى لماذا في الدنيا بيان دون الآخرة، الجواب من وجوه:
الأول : يتضمن البيان في الدنيا أمور النشأتين كما يدل عليه الجمع بين آية البحث والسياق وبيان الجزاء الحسن في الآخرة للمتقين.
الثاني : في الآخرة أيضاً بيان لنعم الله عز وجل على المؤمنين، وشدة عذاب الكافرين.
الثالث : لقد جعل الله عز وجل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) .وهو من الرزق الكريم المصاحب لأيام الدنيا ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيوضاتها
الثامنة عشرة : بيان فضل على الناس بإخبارهم جميعاً بأن المغفرة والجنة الواسـعة هي عاقبة المحسنين لتأتي الآية السـابقة والتـي تقـع بين آية السياق والبحث بالوعيد للكافرين[فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( )، فيدرك كل إنسان التضاد والتباين المطلق بين نوعي الجزاء، وجاءت الآيات السابقة لبيان ماهية العمل الذي يقود إلى الجزاء الحسن.
ومن الإعجاز في البيان القرآني أن الآية الواحدة منه بيان متكامل في موضوع أو حكم مخصوص، وأن الجمع بين الآيات المتجاورة بيان لمعان ضرورية يقتبس منها الناس جميعاً على إختلاف مشاربهم ومذاهبهم، وهل الإنسان مخير على نحو الإطلاق، ومفوض له إختيار الطريق والغاية في الآخرة.
الجواب لا، فإن المدد والرحمة الإلهية تتغشى الناس جميعاً، وكل من آية البحث والسياق لطف منه تعالى في جذب الناس لصيغ التوبة والمغفرة وفيه حجة إضافية على الناس لذا وصفت الحجة في المقام بأنها بالغة، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث بأن آية البحث وما فيها من البيان حجة على الناس، وأن الإخبار في آية السياق عن عظيم ثواب المتقين في الآخرة حجة بالغة.
ومن أبهى ضروب اللطف الإلهي في الدنيا وصف القرآن بأنه هدى , ويحتمل وجوهاً:
الأول : كل آية قرآنية هدىً.
الثاني : القرآن بمجموع آياته وسوره هدىً، وهو ظاهر قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى].
الثالث : يتحصل الهدى بالجمع بين كل آيتين أو أكثر بلحاظ إتحاد الموضوع أو الحكم.
الرابع : يتجلى هدى القرآن في آيات الأحكام.
الخامس : القرآن هدى في تفسيره وبيان تأويله وإستنباط مسائل الهداية منه، وبإستثناء الوجه الرابع فإن الوجوه أعلاه كلها من مصاديق الهدى في القرآن لحمل الآية على الإطلاق، وفضل الله بالإعطاء بالأتم والأحسن.
التاسعة عشرة : يمكن تأسيس قانون كلي وهو : كل إخبار في القرآن عن أحوال الناس في عالم الآخرة هدىً ودعوة للصلاح والتقوى ونبذ للشرك ومفاهيم الضلالة , وأيهما أكثر هدىً للناس الإخبار عن أحوال أهل الجنة أم أهل النار.
الجواب فيه وجوه:
الأول : ذكر أهل الجنة وحسن الإقامة فيها زيادة لهدى المسلمين.
الثاني : ذكر أهل النار وستره عذابهم أكثر أثراً في سبل الهدى والزجر للكفار.
الثالث : الكشف عن علم الغيب فيما يخص جزاء المتقين أكثر هدى للناس مسلمين وأهل كتاب وكفاراً.
الرابع : الإخبار عن الإقامة الدائمة للكفار في النار السبب الأقوى في تقريب الناس إلى الهدى وزيادة المؤمن منهم هدى وتقوى.
الخامس : نسبة التساوي في التقريب إلى الهدى.
السادس : ليس من قاعدة كلية في المقام فقد يزداد المؤمن هدىً في تلاوته أو إستماعه لآيات القرآن التي تتضمن ذكر أهل الجنة وتمتلأ نفسه شوقاً وطمعاً للخلود فيها، قال تعالى[ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً]( )، أو يزداد هداه عند ذكر النار وما فيها من أسباب الخوف والرهبة وكذا بالنسبة للكافر، لذا وصفت آية البحث القرآن بأنه(بيان للناس).
والصحيح هو الأخير، والوجوه الأخرى أعلاه في طوله وليست معارضة له، ويتباين الناس في ميولهم ومشاربهم ويختلفون في المواضيع التي تكون أكثر جذباً لهم وعناية عندهم، فجاء القرآن بما يلائم كل إنسان ويكون علة لإصلاح حاله وتقريبه إلى سبل التوبة , وهو من مصاديق الرحمة والبيان في قوله تعالى (هذا بيان للناس) بلحاظ حقيقة وهي أن صبغة البيان القرآني إنحلالية بحسب مدارك كل إنسان العقلية ومزاجه، والأمر الذي يلفت نظره، ويجعله أكثر تدبراً.
العشرون : من البيان في آية السياق الوعد الإلهي الكريم بالمغفرة والعفو، ولأن آية البحث جاءت بالإطلاق في الجهات التي يتوجه لها البيان وهم الناس جميعاً.
قيدت آية السياق المغفرة بأنها جزاء على أعمال حسنة مخصوصة وأفعال للخير مذكورة في هذه الآيات لعموم الفائدة، ولمنع الجهالة والغرر، ولجذب الناس لمنازل الهداية والصلاح، فصحيح أن المغفرة في الآية خاصة بالمتقين الذين يعملون الصالحات، ولكن الآية تجعلها قريبة من الناس، من جهات:
الأولى : تزيين المغفرة بالذات والأثر.
الثانية : بعث الشوق في النفوس لنيل المغفرة.
الثالثة : البيان والدلالة على المغفرة وسبلها.
الرابعة : من اللطف الإلهي تقريب الناس إلى منازل التوبة وإصلاح الناس لها.
الحادية والعشرون : من البيان للناس ذكر آية السياق لجنات النعيم في الآخرة من وجوه:
الأول : الإقامة في الجنة ثواب وجزاء على الإيمان وعمل الصالحات، ولم تذكر آية السياق الإقامة واللبث الدائم في الجنة على نحو التعيين بل ذكرتها بالمعنى الأعم وتقدير الآية: جزاؤهم جنات) ويحتمل وجوهاً:
الأول : الجنات هبة من عند الله للمتقين.
الثاني : تسمية المتقين بأنهم أصحاب الجنة إنما هو مجاز، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ]( ).
الثالث : ملكية المؤمن لقصره في الجنة على نحو متزلزل من غير جواز تصرفه فيه.
الرابع : المراد من الجزاء بالجنة أي الإقامة فيها، وتقدير الآية: جزاؤهم اللبث الدائم في الجنة.
والصحيح هو الرابع وهو القدر المتيقن وبخصوص يوم القيامة قال تعالى[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( )، لقد جعل الله عز وجل ملك وتصرف الإنسان في الأرض أيام حياته الدنيا فضلاً منه سبحانه، وهو من مصاديق الإبتلاء والإختبار والإمتحان في الدنيا ليكون حسن سمته وفعل الخيرات وإجتنابه الظلم والتعدي طريقاً للإقامة بالنعيم الدائم لذا ورد قبل ثلاث آيات قوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ]( ).
وكما أمر الله آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض ليكون العمل الصالح طريقاً إلى اللبث الدائم في الجنة التي تتصف بالخلو من وسوسة وإغواء إبليس الذي يكون يومئذ في النار خالداً فيها، وجعل الله عز وجل حياة الإنسان في الأرض مؤقتة وقصيرة ومحدودة بأجل خاص وعام.
أما الخاص فهو مغادرة الإنسان للحياة الدنيا , وأما العام فهو على قسمين:
الأول : أدنى، وهو إنقطاع أمة وإنتهاء سنة وطريقة، لذا ورد قوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ]( )، وقد يتباين أوان الإنقطاع بين الأمة والسنة التي عليها، قد تنتقل الأمة دفعة أو تدريجاً إلى سُنة أخرى وقد تنقرض أمة تبقى ذات السنة لترثها أمة أخرى وهو من مصاديق قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
الثاني : الأجل الأقصى والأخير وهو زوال أيام الدنيا وإنقطاع الحياة على الأرض بالنفخ في الصور، قال تعالى[فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ]( ).
وجاءت آية البحث ليكون الناس على بينة من أمرهم ويعلمون أن الدنيا مزرعة للآخرة وأنها تتصف بالحرث في كل يوم منها، والإنسان يختار نوع الزرع الذي يريد بذره , وهو على قسمين متضادين:
الأول : فعل الصالحات إذ ينميه ويضاعفه الله أضعافاً كثيرة.
الثاني : إرتكاب السيئات فإن الإنسان يستطيع العمل على إزالته ومحو أثره بالإستغفار والتوبة والإنابة، قال تعالى[قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ]( ).
الثانية والعشرون : ذكرت آية السياق الجنات بصيغة الجمع، وفيه بلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى : البيان والإخبار للناس بتعدد الجنات، وفي هذا التعدد في الجنان وأسمائها وصفاتها مسائل:
الأولى : إنه رحمة بالمسلمين والمسلمات.
الثانية : ترغيب الناس بالسعي للفوز بالجنان.
الثالثة : تلاوة آيات القرآن ومعرفة خصائص تلك الجنان وأسرار التعدد والكثرة فيها.
الرابعة : ذكرت الجنات بصيغة التنكير (جزاؤهم جنات) فهل فيه دليل على أنها لم تخلق بعد، الجواب لا، بل المراد المندوحة والسعة في عدد وخصائص الجنان ، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لمّا خلق الله سبحانه جنّة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)( ).
الخامسة : خلق الجنات وقصورها وأنهارها وجعلها جزاءً للمتقين رحمة من الله بالناس أجمعين , خصوصاً وأنه ليس من برزخ دون بلوغ الإنسان مراتب التقوى.
السادسة : منع حصول جدال ومغالطة من أهل الريب وأرباب الضلالة .
السابعة : الإخبار بأن الجنان فيها فضل وسعة وهي في زيادة وإتساع، قال تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وفيه بيان لحقيقة وهي لو آمن الناس كلهم وإستحقوا الجنة جزاء لكانت جنات النعيم والخلد كافية لهم , وكما أن فضل الله في الدنيا يسع الناس وأرزاقهم ومعاشاتهم فإن الفضل الإلهي في الآخرة يكون أعظم وأعم ومنه تعدد وكثرة الجنات.
الثامنة : لما ذكرت آية البحث أن القرآن بيان للناس أخبرت آية السياق بعظيم قدرة وسلطان الله , فيرى الناس في الحياة الدنيا الآيات الكونية وبديع صنع الله، وأخبر القرآن عن فوز المتقين بالجزاء الحسن والجنات المتعددة، وأيهما أكبر وأعظم الآيات الكونية في الدنيا أم خلق الجنات وإستدامتها الأبدية، الجواب هو الثاني، قال تعالى[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( ).
التاسعة : بيان القرآن لتعدد الجنات التي يقيم فيها المؤمنون يوم القيامة هدىً للناس عامة، وزيادة في هدىً المسلمين، وهو من اللطف الإلهي في ترغيب الناس بالإيمان وتقريبهم إلى منازل الهداية والتوبة.
العاشرة : كل اسم من أسماء الجنة مدرسة في الصلاح والهداية.
الحادية عشرة : تأكيد القرآن على الجزاء بالنعيم الدائم من بيان القرآن وفيه مسائل :
الأولى : بيان القرآن حجة وبرهان.
الثانية : إنتفاع الناس من بيان القرآن.
الثالثة : القرآن جنة ورحمة وهبة للناس جميعاً بذكر الجزاء الحسن في الآخرة وترغيب الناس فيه وبعث الأمل في نفوسهم لغاية عظيمة من وجهين:
الأول : الخلود وبقاء الروح والجسد معاً، ليكون الموت واسطة الإنتقال إلى عالم آخر ذي بهجة وغبطة وسعادة للمؤمنين على نحو التعيين.
الثاني : اللبث في النعيم الدائم، فليس من شقاء أو ضنك أو بؤس في الجنان وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الرابع : من بيان القرآن أن الطريق إلى النعيم الدائم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “ما من الأنبياء نبي إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة”)( ).
الثالثة والعشرون : من بيان القرآن تعدد أفراد الجزاء الأخروي للمؤمنين من وجوه:
الأول : خلق الله عز وجل جنات للمتقين.
الثاني : إتصاف الجنات بجريان ماء الأنهار بين أشجارها.
صلة قوله تعالى[َخَالِدِينَ فِيهَا] بآية البحث، وفيها مسائل :
الأولى : من إعجاز القرآن بيان ما خصّ الله عز وجل به المؤمنين يوم القيامة من الخلود والبقاء من وجوه:
الأول : الدوام والخلود في الجزاء الأخروي، فالذي يدخل الجنة لا يغادرها أبداً، وبقاء الكفار دائم في النار، ومن إعجاز القرآن أن لفظ (خالدين فيها) ورد بخصوص المؤمنين ودوام إقامتهم في النعيم، وجاء في ذم ووعيد الكفار ولبثهم الدائم في النار قوله تعالى[قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ]( )، فهم لا يموتون ولا يخرجون من النار، ويحتمل حال أبواب جهنم وجوها:
الأول : تغلق أبواب جهنم عند دخول الكفار النار وفيه عذاب إضافي لهم يتمثل ببعث حال اليأس في نفوسهم وإتصال الخصومة بينهم، ومن خصائص غلق أبواب جهنم إشتداد حرها وعودة لهيب النار على أهلها فيزداد عذابهم.
الثاني : بقاء أبواب جهنم مفتوحة، وفيه أيضاً عذاب للكفار بالعجز كل يوم عن الخروج منها، ورغبتهم بالإقتراب منها، وسؤالهم وحسرتهم عما وراء تلك الأبواب.
الثالث : غلق بعض أبواب جهنم، وبقاء بعضها لدخول الملائكة.
الرابع : غلق أبواب جهنم في الآخرة في شهر رمضان خاصة ليكون تذكيراً للكفار بتفويت المصلحة على أنفسهم في الحياة الدنيا، وتركهم العبادة والصيام فيه.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة و غلقت أبواب جهنم و سلسلت الشياطين( ).
ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات وذلك أسباب لدخول الجنة، وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار، وتصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات)( ).
ولكن الكلام العربي يحمل على الحقيقة والظاهر، ولا يصرف إلى المجاز إلا مع القرينة، وما ذكره السيوطي أعلاه من مصاديق فتح الجنة وغلق النار، وهو في طوله ولايختص معنى الحديث به .
ويرى الملائكة في كل سنة حال تبدل في الجنة والنار يتعلق بأبوابها، تفتح أبواب الجنة مع أنها مغلقة، قال تعالى[حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا]( )، وتغلق أبواب النار، إشعارا ببدء شهر الصيام وإجتهاد المسلمين في طاعة الله حبا وقربة إليه.
وهل الحديث أعلاه خاص بأيام الإسلام ومن حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الجواب لا، لأنه من الإرادة التكوينية وفضل الله على الناس.
لذا ورد حكم وجوب الصيام على الأمم السابقة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وفي الإخبار النبوي عن فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النار السبعة في شهر رمضان من كل سنة مسائل:
الأولى : دعوة للناس للصيام والترغيب بالعبادة والنسك.
الثاني : الندب إلى سبل التقوى.
الثالث : الإشعار بإمكان غلق أبواب النار، وإشارة إلى خلقها ووجودها.
الرابع : البيان والإخبار عن المغيبات.
الخامس : الإخبار عن حقيقة من العالم الآخر وهو أن المخلوقات العظيمة ليست في سكون ثابت بل يطرأ عليها التغيير والتبدل المؤقت.
السادس : موضوعية الزمان وتوالي الأيام على العالم الآخر، وترتب الأثر الحسن الحال لأداء المسلمين للعبادات في الحياة الدنيا، فصحيح أن غلق أبواب النار بسبب حلول شهر رمضان بالذات إلا أن تلقي المسلمين له بالصوم ومصاديق الطاعة لله عز وجل إشراقة تسر الملائكة.
الثانية : من أسرار الآية السابقة إخبارها عن إنقضاء سنن في الأرض وليس أجيالاً متعاقبة وهو من البيان والوضوح للناس بأن الثواب والعقاب في الآخرة جزاء على الأعمال، فيثيب الله عز وجل المؤمن بالإقامة في الجنة، والكافر باللبث الدائم في النار.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مات فقد قامت قيامته( )، وأخبرت آية السياق عن ثواب الذين إختاروا الإيمان وإجتهدوا في سبل التقوى، وإستجاروا بذكر الله والإستغفار رجاء المغفرة والعفو, وفيه شاهد على التسليم بالحساب وعالم الجزاء يوم القيامة وحسن إستعدادهم له، وهل فيه بيان للناس , الجواب نعم من وجوه:
الأول : بيان جزاء فعل الصالحات.
الثاني : الجزاء على الإيمان وعمل الصالحات هو الإقامة الدائمة في الجنة، قال تعالى في الإحتجاج على الكفار وبيان عظيم منزلة أهل الإيمان[ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ]( )، ويتعلق الخوف بما هو آت في المستقبل، ليكون من مصاديق نفي الخوف عنهم هو الأمن من الخروج من نعيم الجنة.
الثالث : تأكيد عالم الحساب وأنه آت وليس ببعيد، قال تعالى[إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا* وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
الرابع : صحة إختيار المسلمين وتغليبهم العقل على الشهوة.
الخامس : زجر الكفار عن التعدي عل المسلمين.
الثالثة : في الجمع بين قوله تعالى(خالدين) وآية البحث تأكيد حقيقة وهي أن الدنيا دار الرحمة بالناس بإخبارهم عن المكوث الدائم للمؤمنين في الجنة وترغيبهم به، وهذا الإخبار رأفة عامة لا يختص بها المسلمون، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى (هذا بيان للناس) .
وهل ينحصر بيان هذا القانون الأخروي بالقرآن من بين الكتب السماوية ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين نبوات الأنبياء السابقين الجواب لا، فإن كل الأنبياء السابقين جاءوا بالبشارة والإنذار، البشارة بسكن الجنة والإنذار من العذاب في النار، ولكن القرآن يتصف في المقام بأمور:
الأول : القرآن هو الكتاب الباقي إلى يوم القيامة.
الثاني : سلامة القرآن من التحريف والتبديل.
الثالث : عدم نسخ القرآن بكتاب آخر وأخبار الجنة والنار في الكتب السابقة لم تنسخ بالقرآن بل جاء بتأكيدها.
الرابع : البيان والوضوح في القرآن، وتفصيل أخبار الآخرة فيه.
الخامس : مصاحبة البشارة بالجنة للمسلمين.
السادس : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرآة للبيان القرآني.
الرابعة : البيان القرآني مدرسة في أمور الآخرة والسياحة في عرصات الجنة، وحضورها في الوجود الذهني وإنعكاس هذا الحضور بالرغبة بالعمل الصالح، والحرص على أداء الفرائض والعبادات.
الخامسة : صيرورة البيان القرآني إماماً للمتقين يوم القيامة , وموضوعاً لشكرهم لله عز وجل بلحاظ أن هذا البيان نعمة ورحمة، قال تعالى في الثناء على أهل الجنة[وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وفيه شاهد على أن المسلمين هم أهل الجنة بفضل من الله عز وجل إذ يتلون كل يوم في أيام التكليف من حياتهم الدنيا ولعدة مرات وعلى نحو الوجوب العيني قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ]( ).
السادسة : الجمع بين الوعد للمؤمنين بالخلود بالجنة والوعيد للكفار بالنار من أبهى مصاديق البيان القرآني من وجوه:
الأول : مصاحبة لغة البشارة والإنذار للناس في الحياة الدنيا، وعدم إختصاص فريق منهم بلغة واحدة منهما، ليكون الناس في دأب وإجتهاد لمعرفة الطرق المؤدية إلى الجنة، وما يسوق العبد إلى النار، وكل فرد منها موجود في القرآن وهو من البيان الذي يحتج به المسلمون على كون القرآن بياناً وهدىً , ويحتمل البيان القرآني وجوهاً:
الأول : ذات البيان واقية من النار.
الثاني : البيان القرآني مقدمة حرز من النار.
الثالث : إنه سلاح لنهي الناس عما يكون سبيلاً إلى النار.
الرابع : تلاوة آيات البيان القرآني والإنصات لها سلامة وأمن من النار.
الخامس : بيان القرآن إنذار وتخويف من النار.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق ومنافع البيان القرآني، قال تعالى[كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
السابعة : إرشاد المسلمين إلى الدعاء وسؤال الخلود في النعيم، والتنزه مما يكون حائلاً دون الفوز بهذا الخلود، ليكون من معاني وصف القرآن في آية البحث بأنه (هدى) دعوة الناس جميعاً إلى اللجوء للدعاء بسؤال الخلود في النعيم بفضل ولطف من عند الله.
وهل الخلود في النعيم حاجة للإنسان أم أنه أمر مندوب ومستحب، الجواب هو الأول، إذ أن عاقبة الإنسان في الآخرة تتصف بأمرين:
الأول : الخلود.
الثاني : الإقامة أما في الجنة أو النار , إذ لا ثالث لهما، فالخلود أمر حتمي للفريقين أهل الجنة وأهل النار مع التضاد والتباين بينهما، وهذا الخلود بمشيئة وإرادة من عند الله جعله ثواباً وجزاء على عمل الإنسان في الدنيا، وتفضل سبحانه , وأنزل آية البحث لتكون على وجوه:
الأول : الآية شاهد على الناس في الدنيا والآخرة.
الثاني : الآية حجة بأن الله لم يجعل الإنسان في حيرة من أمره إلى حين الموت ومفاجئته بالموت وعالم الحساب بعد الموت بل بعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية التي تضمنت التأكيد بأن الجنة حق والنار حق.
ومن سنن الإبتلاء في الحياة الدنيا أن بعض الأنبياء قتله قومه لأنه يدعوهم إلى الحلول في الجنة وينهاهم عما يؤدي بهم إلى النار، وهذا القتل لم يمنع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالإجتهاد في الحرب على الشرك وإنقاذ الناس من الضلالة.
وهل همّ كفار قريش بقتله كما فعلوا بأنبياء سابقين، الجواب نعم وعلى نحو التعدد وإرادة إغتياله قبل البعثة وبعدها، وقبل الهجرة وأثناءها وبعدها وكانت العاقبة صيرورة الذين همّوا بقتله وأعانوا عليه على شعب:
الأول : الذين قتلوا على الكفر إذ قتل في معركة بدر رجال من كبراء قريش ومواليهم، منهم حنظلة بن أبي سفيان وعبيدة بن سعيد بن العاص، والعاص بن سعيد بن العاص، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس، والوليد بن عتبة.
وقتل رجال كثيرون من بني مخزوم منهم أبو جهل بن هشام، والعاص بن هشام بن المغيرة، ويزيد بن عبد الله وكان شجاعاً، وآخرون من بني نوفل، وبني أسد، وبني عبد الدار وبني تيم بن مرة، وبني جمح، وبني عامر، ومن التوثيق في تأريخ الإسلام ذكر هؤلاء القتلى، والذين قتلوهم من أهل البيت والصحابة، ويحتمل هذا التأريخ وجوهاً:
الأول : إنه من البيان القرآني.
الثاني : لا صلة له بالبيان القرآني.
الثالث : إنه من رشحات البيان وتفسير له.
والصحيح هو الأول والثالث، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الثانية : الذين آمنوا وتابوا إلى الله وأحسنوا إسلامهم، ومنهم من إستشهد في سبيل الله.
الثالثة : المنافقون الذين أخفوا الكفر مع إظهارهم الإيمان، وجاء البيان القرآني بالإخبار عن إنفراد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالإقامة في الجنة، وإجتماع الكفار والمنافقين في النار، وفيه نكتة أن الله عز وجل يعلم بما في القلوب ويحاسب عليه إذا كان في باب العقيدة، وليس هو من الهم بالفعل وعدم إتيانه، فلو همّ المسلم بالحسنة ولم يفعلها تصير له حسنة، ولكن الأمر في المقام مختلف.
لذا جاءت آيات القرآن بتأكيد قبح النفاق وفضح المنافقين، ودعوتهم للتنزه من درن النفاق وما يترشح عنه من الأضرار على الذات والمسلمين والناس جميعاً، وفي ذم المنافق ورد قوله تعالى[وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها جاءت بين آيتين تكشف عن ماهية النفاق وتحذر المسلمين منه ومن أهله، وتتضمن الوعيد بالخلود في النار على الإصرار على النفاق وإتلاف الأموال، والدواب.
الثامنة : إخبار القرآن عن خلود المؤمنين في الجنة وإقامتهم الدائمة في النعيم(هدىً) من وجوه:
الأول : هداية المسلمين إلى المسالك والسبل التي تقود إلى دخول الجنة، وقد جاءت الآيات السابقة ببيانها على نحو يدفع الإجمال والإيهام وهي:
الأول : البذل والعطاء في حال السعة والرخاء.
الثاني : الإنفاق في حال الشدة والضيق.
وهل يشترط كون البذل والإنفاق في سبيل الله، الجواب نعم بدليل الآية السابقة لها وتحقق الإنفاق من منازل التقوى كما في قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ]( )، وكذا بالنسبة لكظمهم الغيظ والعفو عن الناس فانهما يصدران من مقامات التقوى والخشية من الله، ليكون من البيان القرآني والهداية في الآيات السابقة أن المؤمنين ينفقون من أموالهم خشية وطاعة لله، وبقصد القربة ورجاء عفوه.
ومن معاني التقوى في المقام بذل الوسع للفوز بالخلود في الجنات، وتلك آية في هداية المسلمين وتأديبهم لما فيه نفعهم في النشأتين.
الثالث : حبس المؤمنين الغضب، وتلقيهم الأذى بالصبر قربة إلى الله، وعدم الرد بالإساءة بمثلها، قال تعالى[وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ]( )، وهذه المرتبة لا تنال إلا ببيان وهدىً من عند الله، فجاء القرآن ضياءً ونبراساً وإماماً للمسلمين في سبل الهدى.
الرابع : إتصاف المسلمين بخصوصية وهي إتخاذهم العفو عن الناس لباساً يعرفون به من بين أهل الأرض، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، والأصل هو عفو العام عن الخاص، والكثرة من الناس عن القلة، ولكن الإعجاز تجلى قبل ثلاث آيات بعفو المسلمين عن الناس جميعاً بقوله تعالى(والعافين عن الناس) وفيه مسائل:
الأولى : الآية شاهد على منعة وقوة المسلمين , وصدور العفو من مقامات العز والرفعة.
الثانية : عفو المسلمين عن الناس رشحة من رشحات التقوى التي يتحلون بها لأن الإخبار عن عفوهم عن الناس جاء صفة للمتقين مما يدل على أنهم يعفون عن الغير قربة إلى الله، وهذا القصد لم يتم إلا بالبيان والهداية القرآنية.
الثالثة : دعوة الناس للتوبة والإنابة، وإقتباس صيغ الهدى من المسلمين، ليكون من آيات ومصاديق قوله تعالى (وهدىً) في آية البحث أن المسلمين يهتدون بالقرآن , وتكون سيرتهم وإهتداؤهم بالقرآن هداية لغيرهم من الناس لتكون سلسلة الهداية بالقرآن من اللامنتهي في الأفراد والجماعات والموضوعات والأحكام، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( ).
الرابعة : إشاعة حال العفو والمغفرة بين الناس، وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل بأهل الأرض بأن يتراحمون بينهم ويعفو بعضهم عن بعض.
وفيه مناسبة للتدبر بالآيات الكونية، ودعوة للإسلام وإدراك الحاجة لرحمة الله يوم القيامة، وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته)( ).
الخامسة : تتضمن الآية إرادة القضية الشخصية بعفو المسلم عن غيره مسلما كان أو غير مسلم .
وكما يقتدي المسلمون بهدى القرآن فيحاكيهم الناس ولو على نحو الموجبة الجزئية فإن المسلمين يعفون عن الناس فتتفشى وتتغشى الرحمة والتراحم عموم الناس سواء بلحاظ الإنتماء الديني أو النسبي أو القبلي أو الوطني أو البلدي أو مطلقاً بصبغة الإنسانية وموضوعية الإقتباس في العادات والسيرة والنهج الأخلاقي، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
ليكون من مصاديق التقوى والإكرام في الآية أعلاه التدبر في بيان القرآن، وإتباع ما فيه من الهدى وأسباب ومقدمات الصلاح، وإظهارهم معاني العفو والرحمة بينهم، وكذا بينهم وبين الناس، والنسبة بين الرحمة والعفو هي العموم والخصوص المطلق، فالرحمة أعم، وكل فرد منهما طريق للآخر ومرآة له، ولأن المسلمين يتخذون من العفو بلغة للخلود في الجنان ليكون من معاني ختم آية الكاظمين بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] وجوه:
الأول : إحسان المسلمين لأنفسهم بإتباعهم هدى القرآن.
الثاني : يستحق المسلمون صفة المحسنين لإتصافهم بالتقوى وإتيانهم الصالحات بقصد القربة إلى الله عز وجل.
الثالث : عفو المسلمين عن الناس إحسان لهم.
الرابع : من رشحات العفو عن الناس دعوتهم إلى الإسلام، لأن المسلمين يعفون بصفة الإسلام عن الناس وقصد الثواب من عند الله.
الخامس : فعل الفاحشة وظلم النفس خروج عن هدى القرآن آناً ما، فجاء القرآن بالبيان لسبل التوبة والتدارك، ولولا آية السياق لأصاب بعض المسلمين القنوط عند فعل الفاحشة ليتجلى هدى القرآن باللجوء إلى ذكر الله والإستغفار وبهما تمحى السيئات، وتتجلى البشارة بأن هذا اللجوء طريق إلى الخلود في النعيم ليحمل قوله تعالى(خالدين فيها) نوع الوعد والعهد من عند الله لأهل الإستغفار، قال تعالى[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
السادس : جاء قوله تعالى (ولم يصروا على ما فعلوا) بصيغة الجملة الخبرية وفيه شائبة الجملة الإنشائية، لبعث النفرة في نفوس المسلمين من فعل السيئة والإقامة عليها.
وبيان عدم الإصرار على الفاحشة نوع أمر بالإقلاع عن السيئات وندب إلى التوبة وإخبار بأن التنزه والنجاة من مستنقع المعصية أمر يقدر عليه الإنسان، وجاء الإخبار عن الخلود في النعيم ثواباً له لبيان الحاجة إليه، وهداية الناس إلى سبله.
التاسعة : بيان آية السياق لخلود المتقين في جنات النعيم هدىً من وجوه:
الأول : الإخبار عن العالم الآخر وإتصافه بالدوام والخلود.
الثاني : التباين بين الدنيا والآخرة من جهات:
الأولى : قصر أيام الإنسان في الدنيا , وبقاؤه الدائم في الآخرة.
الثانية : يتلقى الناس جميعاً الفضل الإلهي في الدنيا، وتتغشاهم شآبيب رحمته , قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( )، أما في الآخرة فإن المؤمنين الذين عملوا الصالحات يختصون بالفضل والثواب من عند الله.
الثالثة : الدنيا دار إبتلاء وإمتحان وإختبار، أما الآخرة فليس فيها إلا الحساب والجزاء.
الرابعة : عالم القبر فاصل بين الدنيا ويوم القيامة، وإن كان من الآخرة.
الخامسة : يقيم المؤمن والكافر في الدنيا في قرية أو مصر واحد، وربما في بيت واحد كما في فرعون وإمرأته، والشباب ذكورا وأناثا من قريش الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في بيوت آبائهم الكفار , أما في الآخرة فهناك تضاد وتناقض وتباعد بين سكن المؤمنين وسكن الكفار، وفي ذم المنافقين وحجزهم وحجبهم عن المؤمنين ونورهم، قال تعالى[فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ]( ).
السادسة : الدار الآخرة خير للمؤمن، والدنيا أقل شراً وأذى على الكافر.
السابعة : لو رد المؤمن إلى الدنيا لإجتهد في عبادة الله، ولو رد الكافر لتمادى في الغي.
الثامنة : يتلقى الناس البشارة بالجنة والوعيد بالنار في آيات القرآن ويكون المصداق الواقعي لكل منهما في الآخرة , فليس من نسخ أو تغيير بين البشارة والوعيد وبين مصداقهما الأخروي، نعم التباين بينهما في الوجود الذهني مدى الحياة الدنيا، وكلما تصور الإنسان في نعيم الجنة فإنه أكبر وأعظم، وكذا بالنسبة لعذاب جهنم فإنه أشد وأمرّ مما في الوجود الذهني، أما الخلود الذي ذكرته آية السياق فإنه ظاهر وبيّن ونص لا يقبل تعدد التأويل.
السابع : تقدير الجمع بين قوله تعالى (خالدين فيها) وبين قوله تعالى في آية البحث (هدىً) على وجوه:
الأول : الهدى إلى معرفة خلود المؤمنين في النعيم.
الثاني : الهدى إلى فعل الصالحات.
الثالث : الهدى إلى بيان القرآن.
الرابع : الهدى إلى إجتناب ما يحرم العبد من الخلود في النعيم.
الخامس : الهدى إلى دعوة الناس للخلود في النعيم بشرطه وشروطه.
السادس : الهداية إلى التسليم باليوم الآخر وعالم الجزاء، قال تعالى[وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
السابع : الهداية إلى أداء الفرائض والعبادات بأوقاتها بلحاظ أنها الطريق المبارك إلى الخلود في الجنات، وفي الصلاة قال تعالى[وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ]( ).
الثامن : الهدى للإقتداء بالأنبياء والرسل في إجتهادهم في طاعة الله، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
التاسع : الهدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو منهاج الأنبياء والسبيل للفوز برحمة الله بالرأفة بعباده، والوسيلة المباركة لجذب الناس لمنازل التقوى وما يقودهم إلى اللبث الدائم في النعيم.
العاشر : الهدى لتعاهد مبادئ الإسلام والعمل بأحكام الشريعة.
الحادي عشر : الهداية إلى صيغ زجر الناس عن الكفر والضلالة.
الثاني عشر : الهداية للتنزه من الظلم والجور والتعدي وما يكون برزخاً دون الفوز برحمة الله، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ).
الثالث عشر : الهداية إلى تلاوة القرآن والتدبر في معانيه.
فهو الإمام الذي يقود حامليه إلى الخلود في النعيم، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الرابع عشر : الهداية إلى ما يميز ويفصل بين الذين يخلدون في النعيم وبين الذين يحرمون منه ويلقون أشد العذاب.
الخامس عشر : هداية المؤمن إلى معرفة أصحابه وأخوانه الذين سوف يجتمعون معه في الجنة بلحاظ أعمالهم وطاعتهم لله ورسوله والتعاون معهم لإستدامة إقامتهم على الفرائض، قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
التاسعة : صلة قوله تعالى (خالدين فيها) مع خاتمة آية البحث (وموعظة للمتقين) وفيها وجوه:
الأول : من فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً إخبار آية السياق عن خلود المؤمنين الذين يعملون الصالحات في النعيم، وفيه موعظة وسبيل هدىً.
الثاني : أخبرت آية البحث عن كون القرآن بياناً للناس، ومن مصاديق هذا البيان تأكيد خلود المؤمنين في النعيم , وإدراك الناس لحقيقة كونه حقا وصدقا .
الثالث : مع بلوغ المؤمنين منزلة التقوى واليقين فإن آية البحث تخبر بأنهم محتاجون إلى رحمة الله، وما في القرآن من البيان والهدى.
ومن إعجاز القرآن أن كل إخبار فيه يؤكد ذاته موضوعاً أو حكماً, ويبعث المسلمين والمسلمات على التصديق به، قال تعالى[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ]( ).
الرابع : ليس من حصر لصيغ الموعظة في القرآن، وكل آية منه مدرسة في الموعظة والعبرة، ومن صيغها البشارة والإنذار، وأراد الله عز وجل بالإخبار عن خلود المؤمنين في النعيم هداية الناس جميعاً، وجذبهم لمنازل الإيمان، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا]( ) أم أن القدر المتيقن هو نعم الدنيا وخيرات الأرض.
الجواب هو الأول إذ أن الإخبار عن خلود المؤمنين في الجنان من رحمة الله عز وجل ولا يستطيع أحد حجبه عن الناس، وهو من أسرار إتصاف القرآن بخصائص مباركة منها:
الأولى : بقاء القرآن سالماً من التحريف ليخبر الناس بأن المؤمنين خالدون في الجنات.
الثانية : وصول آيات وبيان القرآن إلى الناس جميعاً، وفي وصف القرآن والثناء عليه قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ]( ).
الثالثة : إستدامة تلاوة المسلمين للقرآن والعمل بأحكامه إلى يوم القيامة، وقد تفضل الله عز وجل وجعل قراءة القرآن في الصلاة اليومية واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة في مشارق ومغارب الأرض ليردد المسلمون قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ولا يؤدي الصراط المستقيم إلا إلى الخلود في النعيم.
الخامس : لقد أمر الله عز وجل نبيه الكريم بالدعوة إلى التقوى وعبادة الله، وصيرورة الموعظة صبغة لهذه الدعوة، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، وجاء قوله تعالى(خالدين فيها) موعظة للناس جميعاً وللمسلمين خاصة.
وفي الجمع بين الآية أعلاه وآية السياق والبحث مسائل:
الأولى : إن الله عز وجل يدعو الناس إلى الجنة بصيغ الموعظة.
الثانية : من أبهى معاني الحسن في الدعوة إلى الله الإخبار عن خلود المؤمنين في الجنات.
الثالثة : يتعظ الناس من بشارات القرآن، ويتخذونها نبراساً وعبرة.
الرابعة : الإخبار عن خلود المؤمنين في الجنان برهان سماوي وحجة على الكفار، وموضوع للجدال والإحتجاج عليهم.
الخامسة : يمكن تأسيس قانون كلي، وهو كل آية قرآنية موعظة للمتقين، وهذه الموعظة متعددة بلحاظ شطر الآية، كما أنها تتوجه للمسلمين خاصة والناس جميعاً.
السادسة :ذكرت آية البحث أن القرآن موعظة للمتقين , وأخبرت آية البحث عن خلود المتقين في الجنان، ويحتمل هذا الإخبار وجوهاً:
الأول : إنه موعظة للمتقين خاصة.
الثاني : إنه موعظة وعبرة للمسلمين والمسلمات عموماً.
الثالث : إنه موعظة للناس جميعاً.
والصحيح هو الأخير إذ أنه بشارة للمسلمين وإنذار للكافرين، وكل من البشارة والإنذار حكمة وموعظة وسبيل هدىً لسبل الصلاح، وزجر عن المعاصي.
العاشرة : صلة (ونعم أجر العاملين) بآية البحث، وفيه وجوه:
الأول : تقدير الجمع بين الآيتين: قد خلت من قبلكم سنن ونعم أجر العاملين) لبيان أن السنن التي مرت على الأرض متعددة ومتباينة، وفيها سنة الهدى وسنة الضلالة، وأن المؤمنين إجتهدوا في تعاهد سنن الهداية والصلاح بالتقوى والصبر على العبادة.
وهل إبتدع المؤمنون هذه السنن الجواب لا، إنما هي ميراث النبوة ومصاديق التنزيل، لبيان حقيقة بتقدير متعلق لفظ العاملين من جهات:
الأولى : نعم أجر العاملين بطاعة الله.
الثانية : نعم أجر العاملين بتقوى الله، بلحاظ أن هذه الآيات أخبرت عن إصلاح الجنة لأصحاب الخشية من الله بقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالثة : نعم أجر العاملين بمرضاة الله.
الرابعة : نعم أجر العاملين بسنن الصلاح التي قد خلت من قبلكم.
الخامسة : نعم أجر العاملين لجنات تجري من تحتها الأنهار.
السادسة : نعم أجر العاملين الذين ينفقون في السراء والضراء.
السابعة : نعم أجر الكاظمين الغيظ.
الثامنة : نعم أجر العافين عن الناس.
التاسعة : نعم أجر العاملين الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله.
العاشرة : نعم أجر العاملين الذين إستغفروا لذنوبهم.
الحادية عشرة : نعم أجر العاملين الذين لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
الثانية عشرة : نعم أجر العاملين أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
الثالثة عشرة : نعم أجر العاملين أولئك جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
الثاني : قوله تعالى (نعم أجر العاملين) بيان للناس جميعاً يبعث البهجة في نفوس المؤمنين، والحسرة في نفوس الكافرين، لإفادة حقيقة وهي أن البيان القرآني المتحد في موضوعه متعدد في حكمه وأثره، ومن خصائص أثر بيان الثواب العظيم الذي ينتظر المؤمنين أمور:
الأول : زيادة إيمان المسلم، قال تعالى[وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا]( ).
الثاني : بعث الشوق والرغبة في نفوس المسلمين للجنة.
الثالث : إجتهاد المسلمين بعمل الصالحات وتوقيهم من السيئات.
الرابع : قيام المسلمين والمسلمات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه طريق سالكة إلى الجنان، قال تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
الخامس : زجر الكفار والمنافقين وبيان قبح فعلهم ولزوم لجوئهم إلى التوبة والإستغفار واللحوق بالعاملين في مرضاة الله وما أعدّ الله لهم من الثواب العظيم، قال تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ]( ).
الثالث : من خصائص الإخبار القرآني أنه هدىً للناس جميعاً ليبقى القرآن النبع السماوي الذي جعله الله قريباً من أهل الأرض ينهلون منه متى شاءوا وكيفما شاءوا بما يقودهم إلى سبل الفلاح والنجاح، فقوله تعالى(نعم أجر العاملين) ترغيب للناس بالتقوى والعمل بالسنن التي تذكرها الآيتان السابقتان، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد أين اهل الفضل فيقوم ناس وهم يسير فينطلقون سراعا الى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون كنا اذا ظلمنا صبرنا واذا أسيئ الينا غفرنا واذا جهل علينا حلمنا فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم اجر العاملين)( ).
وهل النطق بالشهادتين من العمل الذي تذكره هذه الآية , الجواب نعم، ولكن الآية تبعث على التتابع والإتصال في العمل بطاعة الله، وتأكد لزوم النهج القوي في القول والعمل وأن الخلود في الجنات لا ينال إلا بالجد والمثابرة والتفاني في طاعة الله.
الرابع : من أبهى معاني وأسباب الهدى الإخبار الذي يتفضل به الله عز وجل والذي يقود إلى الجنة.
ومن رحمته تعالى أن جعل القرآن كتاباً باقياً في الأرض إلى يوم القيامة لا تمسه يد التحريف أو التبديل، فأنزل به الإخبار والبشارة التي تبعث السكينة في نفوس المؤمنين.
وعن أبي ذر قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله: أرايت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن)( ).
ومن بيان القرآن بلحاظ خاتمة آية السياق أمور:
الأول : إقامة المؤمنين في الجنان أجر وثواب لهم.
الثاني : تأكيد عظيم الثواب الذي يفوز به المؤمنون.
الثالث : بيان إستحقاق ذات ثواب المؤمنين الثناء والمدح من عند الله.
الرابع : بيان فضل ولطف الله بالمؤمنين بالثواب العظيم الذي تغبطهم عليه الخلائق والذي تم بمشيئة الله وقوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الخامس : بيان قانون وهو أن الثواب الذي يناله المؤمنون في الآخرة هو ثمرة لعملهم في الدنيا، وهذا العمل ثمرة ورشحة من رشحات البيان والهدى والموعظة التي جعلها الله جلية في القرآن.
السادس : دعوة المؤمنين لشكر الله تعالى على ما أعدّه لهم في الآخرة ليكون هذا الشكر مقدمة وإستباقاً للشكر في الآخرة، قال تعالى[وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
السابع : يفيد الجمع بين الآيتين بيان قانون وهو أن تلاوة القرآن والتدبر في آياته عمل ينال العبد عليه الثواب العظيم.
الثامن : دعوة المسلمين إلى التفقه في علوم الآخرة وعواقب الأمور، وثواب الصالحات لبعث الشوق في النفوس لعملها، ولدفع الجهالة وطرد الغفلة.
وعن سعيد بن المسيب جاء رجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة , قال : هم الخائفون الخاضعون المتواضعون الذاكرون الله كثيرا , قال يا رسول الله : أفهم أول الناس يدخلون الجنة ؟ قال : لا , قال : فمن أول الناس يدخل الجنة ؟ قال: الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة فيخرج إليهم منها ملائكة فيقولون : إرجعوا إلى الحساب فيقولون على ما نحاسب والله ما أفيض علينا من الأموال في الدنيا شيء فنقبض فيها ونبسط وما كنا أمراء نعدل ونجوز ولكنا جاءنا أمر الله فعبدناه حتى أتانا اليقين , فيقال : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين)( ).
الثامن : الثناء على المؤمنين والشهادة لهم بكونهم (العاملين) وفيه مسائل:
الأولى : بيان الملازمة بين العمل والإقامة الدائمة في الجنة، وهل المراد أي عمل , الجواب لا، إنما المقصود هو العمل بمضامين هذه الآيات، وما هو أعم من الصالحات والدلالة على أن التقوى عمل وجد ومثابرة، وتقدير الآية على وجوه:
الأول : نعم أجر العاملين الذين ينفقون في السراء والضراء.
الثاني : نعم أجر العاملين الكاظمين الغيظ.
الثالث : نعم أجر العاملين العافين عن الناس.
الرابع : نعم أجر العاملين الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم.
الخامس : نعم أجر العاملين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون.
السادس : نعم أجر العاملين بتقوى الله.
السابع : نعم أجر الذين يسارعون إلى مغفرة من الله.
الثامن : نعم أجر العاملين في مرضاة الله.
التاسع : نعم أجر العاملين بالصالحات.
العاشر : نعم أجر العاملين في طاعة الله.
الحادي عشر : نعم أجر العاملين ببيان القرآن.
الثاني عشر : نعم أجر العاملين بهدى القرآن.
الثالث عشر : نعم أجر العاملين بمواعظ القرآن.
الثانية : من البيان القرآني بعث الناس إلى الإيمان والعمل الصالح, وكأن قوله تعالى (هدى) في[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى] عطف بيان على البيان وأن ذات البيان القرآني هدىً.
الثالثة : تدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الله عز وجل يحب الذين يعملون في طاعته ويسارعون بالقول والفعل إلى سبل مغفرته , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( )، و[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، ليكون من معاني الإحسان بلحاظ آية السياق أن عمل الصالحات إحسان للذات في الدنيا والآخرة، فمثلاً ينفق المؤمن القليل الزائل ليعيش في غبطة وبهجة بالوعد الإلهي له بالثواب العظيم , وينال الأجر العظيم في الآخرة.
الرابعة : من بيان القرآن قانون وهو أن شهادة الله عز وجل على العباد حاضرة في ميزان الأعمال ,وبها يتقوم الحساب يوم القيامة، وهذا القانون من الإرادة التكوينية، ويحتمل إنبساطه وموضوعه وجوهاً:
الأول : ترتب الأثر على شهادة الله للعباد وعليهم في الحياة الدنيا.
الثاني : تجلي أثر شهادة الله في عالم الآخرة.
الثالث : إرادة المعنى الأعم والجامع وهو أثر ونفع شهادة الله في الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الوجه الأخير من جهات:
الأولى : أصالة الإطلاق.
الثانية : عظيم فضل الله ,قال تعالى[فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( ).
الثالثة : نزول النعم في الدنيا ثواباً وشكرا من عند الله.
الرابعة : اللبث الدائم في الجنات في الآخرة، ويحتمل قوله تعالى(ونعم أجر العاملين) وجوهاً:
الأول : إرادة الإقامة الدائمة في الجنة.
الثاني : إضافة الأجر والعفو في الدنيا للبث الدائم في الجنة.
الثالث : شمول عالم البرزخ بالأجر وتدلي ثمار الثواب ,عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إن المؤمن إذا قُبض، أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي إلى روح الله. فتخرج كأطيب ريح مسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا يشمونه حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون ما هذا الريح الطيبة التي جاءت من قِبل الأرض؟ ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك، حتى يأتوا به أرواح المؤمنين، فَلهُم أشدّ فرحًا به من أهل الغائب بغائبهم، فيقولون: ما فعل فلان؟ فيقولون: دعوه حتى يستريح، فإنه كان في غمّ! فيقول: قد مات، أما أتاكم؟ فيقولون: ذُهب به إلى أمه الهاوية)( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية، لتكون خاتمة آية السياق أعم من أولها في الموضوع مع الإتحاد في الحكم، ليكون من بيان القرآن تقدير قوله تعالى: نعم أجر العاملين) بخصوص الدنيا على وجوه كثيرة ,وله مصاديق تفوق الإحصاء، قال تعالى[وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
وجاءت الآية أعلاه من باب المثال الأمثل والبيان للناس بأن العمل الصالح في الدنيا له ثواب عاجل من عند الله وأن أجره يوم القيامة أعظم وأكبر، فقوله تعالى(ونعم أجر العاملين) وعد كريم شامل للدنيا وعالم البرزخ والآخرة، وفيه بخصوص الدنيا بلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى : الترغيب بعمل الصالحات.
الثانية : الشكر لله عز وجل على بيان القرآن للأحكام الشرعية والواجبات والمحرمات.
الثالثة : إتخاذ بيان القرآن طريقاً مباركة للأجر والثواب في النشأتين.
الرابعة : هدى القرآن صلاح للفرد والجماعة وعصمة للسان وتنزيه للمجتمعات.
الخامسة : إتخاذ قصص القرآن موعظة، ليترشح نفعها على الجوارح والأركان فيزداد المسلم هداية، ويحرص على الإقتداء بسنن الأنبياء والصالحين، وإجتناب سنن ومذاهب الكافرين، وهو من مصاديق الإنشاء والأمر والزجر في الآية السابقة (قد خلت من قبلكم سنن) والتقدير: فأعملوا بسنن الهدى والصلاح وإجتنبوا سنن الضلالة , وجاء قوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، جامعاً لمعنى البيان في آية البحث، وإرادة المعنى الأعم للسنن في الآية السابقة ليكون من إعجاز القرآن مجيء الآية القرآنية بياناً وتفسيراً لآيتين أو أكثر على نحو التداخل والإشتراك والإستقلال.
السادسة : تأكيد حقيقة وهي أن الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وجرى ويجري الحرث فيها بلطف من الله وإعانته للعباد في تقريبهم لفعل الصالحات وأدائهم لها , ودفعهم عن مستنقعات الفجور والفسوق , ومنعهم منها وحجبها عنهم، وهو من مصاديق وصف الله للقرآن بأنه هدىً وموعظة.
السابعة : دعوة المسلمين والناس لتلاوة القرآن والصدور عنه , وعن السنة النبوية في بيان وتعيين الصالحات وإتيانها وعظيم ثوابها، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وتدعو الآية إلى الإستعداد لعالم البرزخ والتدبر بما فيه من حسن الإقامة واللبث في الجنة للذين يعملون الصالحات، (وعن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر. ثم يجيء ملك الموت ، ثم يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال: فتخرج… تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، وإن كنتم ترون غير ذلك، فيأخذها .
فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟… فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى تنتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى . فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه .
فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإِسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت. فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح ، فيقول: أبشر بالذي يسرك… هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير . فيقول له: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة…رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي)( ).
الخامس : من وجوه تقدير الجمع بين خاتمتي الآيتين هو(أجر المتقين) وفيه مسائل:
الأولى : من بيان لأجر وثواب الذين يخشون الله، ويقومون بأداء الوظائف العبادية، ويتنزهون عن المعاصي والسيئات.
الثانية : ذكر القرآن لأجر المتقين ترغيب به ودعوة للإجتهاد في طاعة الله، وبيان حقيقة وهي أن طاعة العبد لله، لن تذهب سدى، وفيه ترغيب بالتقوى وحث عليها، وإستحضار العبد لها في كل قول وفعل يعمله في حياته الدنيا.
الثالثة : الإخبار عن أجر التقوى تنمية لملكتها عند العبد، وواقية من فعل السيئات.
الرابعة : البشارة للمسلمين بأن نطقهم بالشهادتين له أجر وأداءهم الفريضة له أجر، وحرصهم على إجتناب السيئات له أجر وثواب بلحاظ أن هذا الإجتناب أمر وجودي وليس عدمياً.
الخامسة : أخبر القرآن عن حسن عاقبة المتقين بقوله تعالى[َاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وفيه شاهد بأن صبر العبد في طاعة الله من مصاديق التقوى وإن لم يذكر بالنص في صفاتهم في الآيات الثلاثة السابقة لأن كل خصلة ذكرتها هذه الآية تتقوم بالصبر، وتلك آية في تأديب المسلمين,وتنمية ملكة الصبر عندهم مع عدم طلبها بالذات.
السادسة : لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين خاصة وعلى الناس عامة ببيان جزاء المتقين وبما يمنع الجهالة والغرر وينفي الإجمال والترديد، ويقطع دابر المغالطة والجدال، قال تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ]( ).
وذكرت الآية أعلاه العيون معطوفة على الجنات، وذكرت الآية السابقة الجنات وجريان الأنهار من تحتها مما يدل على أمور:
الأول : تأخذ الأشجار غذاءها من الماء.
الثاني : جريان أنهار الجنة من عيون نابعة.
الثالثة : عيون الماء نعمة مستقلة في الجنة، وسبب لبعث الحسرة في قلوب الكافرين في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلتخلفهم عن السير في الصراط المستقيم الذي يؤدي إليها، وأما في الآخرة فلإقامته في العذاب وحرمانه نفس من الجنات والعيون والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
وقد ورد قوله تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ]( )، ويحتمل المراد من النعيم في الآية أعلاه وجوها:
الأول : الأشجار والعيون التي في الجنة.
الثاني : القصور التي يسكن بها المؤمنون.
الثالث : الطيبات من الأكل.
الرابع : جريان الماء من تحت قصور المؤمنين وحواليها.
الخامس : الأمن وعدم الخوف أو الفزع.
السادس : إرادة عطف العام على الخاص في قوله تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ]( )، فبين النعيم والجنات عموم وخصوص مطلق، لأن الجنات من النعيم.
السابع : الجنات هي المسكن والمحل الذي يقيم فيه المؤمنون، أما لنعيم فهو حالهم يومئذ، لذا تسمى الجنة(دار النعيم).
الثامن : من الجنات جنة تسمى (جنة النعيم) وقيل هي بين الجنة ونضرة النعيم التي تتغشاهم.
عن علي عليه السلام: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده، إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون بنوق لها أجنحة عليها رحال الذهب، شرك نعالهم نور تلألأ، كل خطوة منها مد البصر، فينتهون إلى شجرة، ينبع من أصلها عينان، فيشربون من احداهما، فيغسل ما في بطونهم من دنس، ويغتسلون من الأخرى، فلا تشعث أبشارهم، ولا أشعارهم بعدها أبداً، وتجري عليهم نضرة النعيم، فيأتون باب الجنة، فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب، فيضربون بالحلقة على الصفحة، فيسمع لها طنين فيبلغ كل حوراء: أن زوجها قد أقبل، فتبعث قيمها فيفتح له، فإذا رآه خر له ساجداً
فيقول: ارفع رأسك إنما أنا قيمك وكلت بأمرك، فيتبعه ويقفو أثره، فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه ثم تقول: أنت حبي وأنا حبك، وأنا الخالدة التي لا أموت، وأنا الناعمة التي لا أبأس، وأنا الراضية التي لا أسخط، وأنا المقيمة التي لا أظعن، فيدخل بيتاً من أسه إلى سقفه مائة ألف ذراع، بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق: أصفر وأحمر وأخضر، ليس منها طريقة تشاكل صاحبتها، في البيت سبعون سريراً، على كل سرير سبعون حشية، على كل حشية سبعون زوجة، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ ساقها من باطن الحلل، يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه ، الأنهار من تحتهم تطرد:{أنهار من ماء غير آسن}( ) قال: صاف لا كدر فيه، {وأنهار من لبن لم يتغير طعمه} قال: لم يخرج من ضروع الماشية، {وأنهار من خمر لذة للشاربين} قال: لم تعصرها الرجال بأقدامها{وأنهار من عسل مصفى}
قال: لم يخرج من بطون النحل فيستحلي الثمار، فإن شاء أكل قائماً وإن شاء أكل قاعداً ، وإن شاء أكل متكئاً. ثم تلا{ودانية عليهم ظلالها}. فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض وربما قال: أخضر، فترفع أجنحتها فيأكل من جنوبها أي الألوان شاء، ثم يطير فيذهب فيدخل الملك فيقول: {سلام عليكم} {تلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون})( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من ضروب فضل الله على عباده المؤمنين يوم القيامة.
الحادية عشرة : صلة (فنعم أجر العاملين)بقوله تعالى(وموعظة للمتقين) وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين: أجر العاملين موعظة للمتقين.
الثانية : من فيض القرآن أن منافعه وكنوزه لا تنقطع عند نعمة وبركة واحدة فمع الوعد والبشارة والثناء من الله على المؤمنين وما ينالونه من الأجر فإن القرآن تضمّن الثناء على ذاته وأنه موعظة للمتقين وسبيل صلاح لهم، وفيه دليل بأن كل إنسان يحتاج القرآن وما فيه من البشارات والإنذارات التي هي من أبهى مصاديق الموعظة بلحاظ كبرى كلية وهي إذا كان المتقون محتاجين لموعظة القرآن وينتفعون منها فمن باب الأولوية القطعية أن يحتاجه سائر الناس، قال تعالى[مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا]( ).
الثالثة : ليس من حصر لوجوه ومصاديق الموعظة التي يتلقاها في الحياة الدنيا، فتأتي بالبشارة والإنذار والوعد والوعيد، والمدح والذم، والأمر والزجر، والتذكير بعالم القبر والنشور والحساب ومقامات المؤمنين في الجنان، ومنازل الكفار في النار، وإذ جعل الله القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فإنه الكتاب الجامع للموعظة وأفرادها المتعددة والمختلفة في موضوعها وحكمها ومن الموعظة في قوله تعالى(ونعم أجر العاملين) أمور:
الأول : الثناء والمدح من الله للذين يعملون في طاعته فمع أن هدايتهم وفعلهم الصالحات برحمة ولطف منه تعالى فإنه سبحانه تفضل وأثنى عليهم، أي أنه يهديهم ليثني عليهم ويثيبهم باللبث الدائم في الجنة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، أي أن عبادتهم لله لنفعهم والفوز بمدح الله لهم ونيلهم الثواب العظيم، وإذا كان الثواب بالجنة في عالم الآخرة فهل يختص مدح الله للمؤمنين في الدنيا وبالكتب السماوية المنزلة والوحي.
الجواب أن ثوابهم لا ينحصر بعالم الآخرة وإن كان هو الأكبر والأعظم والذي يتصف بصبغة الدوام والإطلاق في كثرة النعم، وكذا مدح الله للمؤمنين فإنه يستمر في الآخرة ويسمعون ثناء الملائكة عليهم، قال تعالى[الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ]( ).
الثاني : وجود أجر وثواب للناس على أعمالهم.
وهل يفيد قوله تعالى (ونعم أجر العاملين) الإجمال في أمرين:
الأول : الأجر ومقداره وزمانه وكيفيته.
الثاني : العمل والفعل في سنخيته وماهيته.
الجواب لا، فليس من إجمال في الآية ولا تستلزم الرجوع إلى الآيات الأخرى في موضوعها وبيانها وإن كان هذا الرجوع نعمة وتوكيدا وتصديقا وتفسيرا لآية البحث.
ومن بيان الأجر في الآية هو ما ورد قبل آيات بقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، ومن بيان العمل الإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والإحسان، وما ورد قبل ثلاث آيات، وفيه منع للجهالة والغرر، وموعظة للناس وترغيب لهم بالعَمل الصالح، وجعل الأجر العظيم حاضراً في الوجود الذهني لا يغيب عنهم.
الرابعة : ذكرت آية السياق وجوهاً من الثواب:
الأول : المغفرة من عند الله.
الثاني : جنات تجري من تحتها الأنهار، أعدت للمتقين.
الثالث : الخلود في الجنات والنعيم.
ويحتمل بلحاظ آية البحث وجوها:
الأول : كل قسم من الأقسام الثلاثة أعلاه موعظة.
الثاني : هذه الأقسام مجتمعة موعظة متحدة لأن آية السياق وصفتها مجتمعة بأنها (أجر).
الثالث : المراد من الأجر مضامين آية السياق وغيرها من النعم وضروب الجزاء الحسن للمتقين.
والصحيح هو الثالث، وهو من مصاديق آية البحث من وجوه:
الأول : تعدد وكثرة وإستدامة أجر المؤمنين من البيان الذي ذكره القرآن.
الثاني : إنه من أسباب الهدى والجذب لمنازل الإيمان.
الثالث : في كثرة مصاديق الأجر وأنه من اللامتناهي موعظة للمؤمنين والناس جميعاً.
الخامسة : يتكون قوله تعالى (ونعم أجر العاملين) من ثلاث كلمات، وقوله تعالى(وموعظة للمتقين) من كلمتين، والجمع بين كل كلمتين منها له دلالات وفيه حجة وبرهان من وجوه:
الأول : يدل الجمع (نعم موعظة) أن ذات الموعظة القرآنية تستحق الثناء والمدح من عند الله عز وجل، مما يعني بالأولوية إستحقاقها الثناء والمدح من الملائكة والناس.
الثاني : ويدل الجمع (نعم المتقين) بأن بلوغ مرتبة التقوى تفيد الثناء على بلوغها وتفضل الله عز وجل ببلوغ المسلمين مراتبها، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أي رزقهم الله عز وجل التقوى والخشية منه، لتصبح تقواهم موعظة لأنفسهم وللناس جميعاً.
الثالث : في الجمع بين (أجر وموعظة) مسائل:
الأولى : بين الأجر والموعظة عموم وخصوص من وجه إلا على إعتبار الموعظة رشحة من رشحات الأجر ومصداقاً من مصاديقه فتكون النسبة هي العموم والخصوص المطلق، ومادة الإلتقاء من وجوه:
الأول : كل من الأجر والموعظة من فضل الله.
الثاني : الأجر والموعظة من رشحات القرآن وتلاوته.
الثالث : في كل من الأجر والموعظة نفع للفرد والجماعة.
الرابع : فوز المسلمين بالأجر وبالموعظة.
الخامس : كل من الأجر والموعظة حاجة للإنسان والأمة في الدنيا والآخرة.
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول : الأجر جزاء حسن، أما الموعظة فهي طريق إلى الأجر.
الثاني : تأتي الموعظة في الدنيا، أما الأجر فهو بالإقامة في الجنة فهو في الآخرة.
الثالث : تزجر الموعظة عما يمنع من الأجر والثواب.
الرابع : التباين بين مصاديق كل من الموعظة والأجر.
الثانية : كل من الموعظة والأجر خير محض، ورحمة من عند الله عز وجل ومن عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : بيان القرآن للأجر العظيم للعاملين موعظة وذكرى، وهداية إلى سبل الحق، قال تعالى[فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ]( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: أنزل الله القرآن موعظة للخائفين، ورحمة للمؤمنين، وأنساً للمحبين)( ).
الرابعة : كل من الأجر والموعظة من فضل الله عز وجل ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه شاهد بأنها خير محض ونفع للناس جميعاً.
الخامسة : جاء الأجر في آية السياق في الثناء على المؤمنين، ومدح الله عز وجل لما أعدّه لهم من الثواب العظيم، أما الموعظة فأنها وردت في آية البحث مدحاً للقرآن وبيانا لما يتصف به من الحكمة العالية.
ومن الآيات أن كلاً من الجنة والقرآن نعمة لا يقدر عليها إلا الله، وأنزل الله القرآن هدىً للناس جميعاً، أما الجنة فهي لمن آمن بالله وأنبيائه وكتبه وعمل صالحاً، وفي هبوط آدم وحواء وإبليس إلى الأرض، قال تعالى[اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادسة : إذا كانت الموعظة خاصة للمتقين كما في آية البحث فإن الجنة خاصة بهم كما في وصف الله عز وجل للجنة قبل آيات بأنها(أعدت للمتقين) لبيان حسن النسق الموضوعي بين آيات القرآن ومن معانيه ودلالاته أمور:
الأول : جذب الناس إلى مقامات الإيمان والهدى.
الثاني : ترغيب الناس بالإسلام.
الثالث : بيان ضرورة التقوى والحاجة إليها في الدنيا والآخرة والتأكيد عليها.
الرابع : إقامة الحجة على الناس.
الرابعة : تقدير الجمع بين (موعظة العاملين) وجوه:
الأول : عمل العاملين في مرضاة الله موعظة وعبرة، فمن فضل الله على الناس أن جعل أمة منهم يعملون الصالحات ويكونون أسوة حسنة لهم، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( )، ليقترن الفعل بالقول، ويكون كل واحد منهما مصداقاً للآخر.
الثاني : من مفاهيم الجمع أعلاه أن العاملين يتعظون من آيات القرآن وما فيه من البيان والأحكام فيزدادون إيماناً، قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث : يحتمل إتعاظ العاملين من القرآن في مراتبه وجوهاً:
الأول : الموعظة في المقام من الكلي المتواطئ، وكل عامل يتعظ من القرآن بنفس المرتبة والأثر.
الثاني : الموعظة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، فمن العاملين من يتعظ من القرآن أكثر من غيره.
الثالث : تكون ماهية وكيفية الإتعاظ من القرآن بحسب إرتقاء المؤمن في المعارف الإلهية، وإكتسابه للعلوم.
الرابع : تتعلق درجة الإتعاظ بلحاظ إجتهاد المؤمن في العمل في مرضاة الله، فالعاملون المجدون في سبل التقوى أكثر من غيرهم، قال تعالى[لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
الخامس : لا ملازمة بين التباين في مراتب التقوى والإتعاظ من القرآن، فقد يكون أقل عملاً وجهاداً ولكنه أكثر إتعاظاً وكسباً.
والصحيح هو الثاني والخامس وقد يكون الإتعاظ متحداً أو متعدداً، ويأتي دفعة فيرتقي العبد سلم التقوى ويبذل نفسه في طاعة الله، وقد يكون الإتعاظ تدريجياً , وكل له الأجر والثواب.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير ساره ، إذ عرض له أعرابي فقال: والذي بعثك بالحق لقد خرجت من بلادي وتلادي لأهتدي بهداك وآخذ من قولك فاعرض علي، فأعرض عليه الإِسلام فقبل ، فازدحمنا حوله فدخل خف بكره في ثقب جردان ، فتردى الأعرابي فانكسرت عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسمعتم بالذي عمل قليلاً وأجر كثيراً هذا منهم؟ أسمعتم بالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم هذا منهم)( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن بكر بن سوادة قال: حمل رجل من العدوّ على المسلمين فقتل رجلاً ، ثم حمل فقتل آخر، ثم حمل فقتل آخر ، ثم قال : أينفعني الإِسلام بعد هذا؟ قالوا: ما ندري، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: نعم. فضرب فرسه فدخل فيهم، ثم حمل على أصحابه فقتل رجلاً، ثم آخر، ثم قتل قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيه{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم})( ).
الثانية عشرة : الصلة بين آية البحث وقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً….]( )،وفيه مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله هذا بيان للناس.
الثاني : فأستغفروا لذنوبهم هذا بيان للناس.
الثالث : ومن يغفر الذنوب إلا الله هذا بيان للناس.
الرابع : ولم يصروا على ما فعلوا هذا بيان للناس.
الخامس : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله هذا هدىً.
السادس : موعظة للمتقين الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فأستغفروا لذنوبهم.
السابع : ولم يصروا على ما فعلوا هذا بيان للناس.
الثامن : ولم يصروا على ما فعلوا هذا هدى.
التاسع : موعظة للمتقين لم يصروا على ما فعلوا.
العاشر : ومن يغفر الذنوب إلا الله هذا هدىً.
الحادي عشر : ومن يغفر الذنوب إلا الله.
الثانية : من خصائص بيان القرآن صيغة العموم والشمول الموضوعي والحكمي، ومنها ذكر ما يطرأ على المتقين من كدورة أو إتباع للنفس الشهوية وكيفية تداركهم لها باللجوء إلى ذكر الله والإستغفار، والذي يدل بالدلالة التضمنية على أمور:
الأول : الإقلاع عن ظلم النفس ومقدماته.
الثاني : التنزه عن فعل الفاحشة.
الثالث : لوم الذات على فعل الفاحشة، قال تعالى[وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( ).
الرابع : اللجوء إلى سلاح الإستغفار.
الخامس : إمتلاء النفس بالسكينة عند الإستغفار، وكأنه من عمومات(إذا تبدل الموضوع تغير الحكم).
الثالثة : من بيان القرآن عدم خروج المؤمن عن مقامات التقوى وإن حدث أمران:
الأول : فعل المؤمن الفاحشة، وعن يحيى بن أبي كثير: أن رجلاً قال : يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه عليَّ . فجلده ثم صعد المنبر والغضب يعرف في وجهه ، فقال : أيها الناس إن الله حرم عليكم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فمن أصاب منها شيئاً فليستتر بستر الله ، فإنه من يرفع إلينا من ذلك شيئاً نقمة عليه)( ).
الثاني : ظلم المؤمن نفسه، ويحتمل وجوهاً:
الأول : إجتماع الأمرين بأن يفعل المؤمن الفاحشة ويظلم نفسه في آن واحد.
الثاني : الترتيب، بأن يرتكب المؤمن الفاحشة ثم يظلم نفسه.
الثالث : فعل أحد الأمرين، أما الفاحشة وأما ظلم النفس.
الرابع : صيرورة أحد الأمرين مقدمة للآخر، فيأتي الإستغفار متعقباً لهما معاً.
الخامس : بين ظلم النفس وفعل الفاحشة عموم وخصوص مطلق, فظلم النفس أعم وأشمل، ولكن قبح فعل الفاحشة ظاهر وهو أشد أنواع ظلم النفس لذا قدم في الآية.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية، وأسرار كنوزها.
الرابعة : إدراك المؤمنين مجتمعين ومتفرقين لموضوعية الإستغفار في تحصيل السلامة من المعصية وآثارها.
أما السلامة من المعصية فلعدم إجتماع الضدين وهما الفاحشة والإستغفار، فمن يختار الإستغفار ويلجأ إليه فإن نفسه تنفر من الفاحشة وركوبها، وهو من مصاديق المخرج في قوله تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
ومن البيان القرآني الإخبار عن فضل الله عز وجل في هداية المؤمن إلى سبل الصلاح.
الخامسة : مع تعلق موضوع آية السياق بأهل الإيمان والتقوى وحالهم وإستجارتهم بالذكر والإستغفار عند فعل الفاحشة فإن آية البحث أخبرت عن كونه بياناً للناس، وتلك آية في فلسفة الإخبار القرآني وأنه أعم من أن يختص بأهل الآية من وجوه:
الأول : في الجمع بين الآيتين شاهد على أن بيان القرآن مدرسة في التقوى والهدى.
الثاني : ترغيب الناس بالإيمان وسننه والخشية من الله سبحانه ، وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “الإسلام علانية، والإيمان في القلب” قال : ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ، ثم يقول : “التقوى ها هنا، التقوى ها هنا”)( ).
الثالث : بيان المائز والتباين بين المؤمن والكافر في حال فعل الفاحشة من جهات:
الأولى : لا يأتي المؤمن الفاحشة إلا نادراً بدليل لغة الشرط (إذا فعلوا فاحشة….) بينما ذات الكفر أقبح وجوه الظلم للنفس، قال تعالى[إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ).
الثانية : الملازمة بين التقوى وبين ذكر الله.
الثالثة : تفقه المؤمنين في المعارف الإلهية وإدراكهم لحقيقة من وجوه:
الأول : الحاجة إلى ذكر الله.
الثاني : ترتب الأثر الرجعي على ذكر الله، إذ لا يختص نفعه في قادم الزمان بل له الأثر والنفع الرجعي فيما تقدم من الزمان وعالم الأفعال، وهو من فضل الله عز وجل ورحمته بالناس بالحياة الدنيا، فيظلم المؤمن نفسه ويكون هذا الظلم مقدمة لدخول الجنة لتعقبه له بذكر الله والإستغفار، أما الكافر فإنه يرتكب المعصية ويصر عليها ولا يلتفت إلى الحاجة إلى الإستغفار.
الثالث : تفقه المتقين في الدين، وبيان القرآن لقانون كلي وهو أنهم لم يبلغوا درجة التقوى إلا عن فقاهة وعلم، ومن مصاديق العلم في المقام ضرورة اللجوء إلى الذكر والإستغفار عن الذنب والمعصية.
السادسة : تأكيد قانون كلي وهو: بيان القرآن تثبيت للمؤمنين في منازل الإيمان، وهداية لهم لكيفية عدم مغادرتها ويتلو كل مسلم عدة مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ويحتمل بلحاظ البيان في آية السياق وجوهاً:
الأول : الذكر والإستغفار من الهداية إلى الصراط المستقيم.
الثاني : الذكر والإستغفار من مصاديق وأفراد الصراط المستقيم.
الثالث : الذكر والإستغفار عند فعل الفاحشة أجنبي عن قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، بلحاظ التباين والتضاد بين فعل الفاحشة والصراط المستقيم.
الرابع : ذكر الله والإستغفار عند فعل الفاحشة من مقدمات الهداية إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، وبإستثناء الوجه الأول فإن الوجوه الثلاثة الأخرى من مصاديق الآية الكريمة , وفيها ندب إلى الذكر والإستغفار وعن النبي صلى الله عليه وآله ما من الذكر شئ أفضل من قول: لا إله إلا الله، وما من الدعاء شيء أفضل من الاستغفار ثم تلا “فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك”)( ).
وفي الآية أعلاه أطراف ثلاثة:
الأول : السائل، وهم المسلمون على نحو الإجتماع والتفرق.
الثاني : المسؤول وهو الله عز وجل , مع إقرار العباد بعجز الخلائق عن الهداية إلى الصراط إلا بفضل الله ومنه بيان القرآن.
الثالث : المسؤول عنه وهو الصراط المستقيم .
السابعة : من بيان القرآن تأكيد قبح فعل الفاحشة والظلم وما يقود الإنسان إلى النار، فجاءت آية السياق سبيل نجاة بقيد التقوى، وهل تشترط آية البحث تقدم التقوى زماناً على فعل الفاحشة كما هو ظاهرها، الجواب لا، إنما جاءت الآية لبيان الفرد الأهم والأعم، فمن تاب وآمن وإلتحق بالمؤمنين في سبل التقوى فإنه يصبح من أهل آية السياق، لذا جاءت آية البحث بالإطلاق في متعلق البيان بأنه للناس جميعاً.
الثامنة : لولا البيان القرآني لوقع الناس في حرج وشدة، ولإمتلأت نفوسهم بالقنوط واليأس عند إرتكاب معصية وعند ظلم النفس، فجاءت آية السياق بياناً لسبل النجاة وحرزاً وإدخاراً ليوم فعل الفاحشة إذا طرأ على المؤمن طوعاً أو قهراً.
التاسعة : من مصاديق البيان في آية السياق أمور:
الأمر الأول : إخبار القرآن عن حال المتقين وإكرام الله عز وجل لهم.
الأمر الثاني : بيان عفو الله عن المؤمنين وإن أذنبوا وظلموا أنفسهم.
ومن إعجاز القرآن ودقة الأحكام فيه حصر الآية بظلم المؤمن لنفسه على نحو عرضي طارئ، ويحتمل بلحاظ الآخرين وجوهاً:
الأول : لا يظلم المؤمن غيره.
الثاني : يدخل ظلم المؤمن للآخرين في مفهوم الآية من باب الأولوية، لأن ظلم النفس هو الأشد، قال تعالى[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ]( ).
الثالث : ظلم الإنسان لغيره هم ظلم لنفسه أيضا ، ليكون من مصاديق البيان في آية السياق مجيؤها بالمعنى الأعم والأشمل.
والصحيح هو الثاني والثالث مع الإقرار بتنزه المؤمن عن ظلم الغير لتحليه بالتقوى وإستحضاره الخوف من الله في قوله وفعله، وإن حصل منه ظلم للغير فإن آية السياق تدعوه للجوء إلى الذكر والإستغفار وإعادة الحقوق لأهلها.
الأمر الثالث : مع الترديد في آية السياق بين فعل الفاحشة وظلم النفس فإن التدارك جاء على نحو الإجتماع بين أمرين:
الأول : ذكر الله.
الثاني : الإستغفار.
ترى لماذا لم تذكر آية السياق وجهاً واحداً أما الذكر أو الإستغفار خصوصاً مع ورود آيات بكفاية الإستغفار كما في قوله تعالى[وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا]( )، والجواب من وجوه:
الأول : إبتناء الإستغفار على ذكر الله.
الثاني : ذات الإستغفار ذكر لله، لمضامينه القدسية، ولتقومه بأمور:
الأول : إستحضار العبد لذكر الله وإدراكه بأن الله هو الذي يغفر الذنوب.
الثاني : الإستغفار سؤال مخصوص في موضوع معين، وهو رجاء محو الذنوب وآثار المعصية.
الثالث : لابد في الإستغفار من ذكر الله بقول: أستغفر الله.
ومع هذا جاءت آية السياق بوجوب ذكر الله على نحو مستقل ومتقدم على الإستغفار ولا يعني هذا الإكتفاء بذكره تعالى في الإستغفار، بل يستحضر المؤمن سعة سلطان الله، وعظيم قدرته، وسعة رحمته، ومن رحمته تعالى جذب المؤمنين إلى منازل التوبة والإستغفار، قال تعالى[وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ]( ).
وهل يحتمل الذكر المقصود في آية السياق هو ذات الذكر الذي يتضمنه الإستغفار، الجواب لا، لأن الآية ذكرتهما على نحو التعاقب والعطف (ذكروا الله فأستغفروا لذنوبهم) فيأتي الذكر قبل الإستغفار وفيه إعانة للعلماء في إستقراء مصاديق ووجوه ذكر الله المقصودة في آية السياق، وشاهد على صبغة مباركة من بيان القرآن، وهي أنه دليل هدىً لإستنباط المعاني القدسية للفظ القرآني وموضوعيته في الإرتقاء في سلم المعارف الإلهية.
العاشرة : جاءت آية السياق بقانون في البيان القرآني يتغشى أهل الأرض إلى يوم القيامة قوله تعالى(ومن يغفر الذنوب إلا الله) وفيه تحد ودعوة للإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل على الخلائق كلها، فإن قلت يشفع الأنبياء والصالحون للمؤمنين كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ( ) والجواب من وجوه:
الأول : الشفاعة نوع طريق لتفضل الله بالمغفرة.
الثاني : لا ملازمة بين الشفاعة والمغفرة فقد تحصل الشفاعة ولا تتم المغفرة.
الثالث : الشفاعة مشروطة بالإذن الإلهي في ذاتها وموضوعها، قال تعالى[وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( ).
الرابع : يدل موضوع الشفاعة في الآخرة ورجاء قبولها على إدراك الشفيع أموراً:
الأول : نهي الله عز وجل عن إرتكاب المعصية والذنب.
الثاني : التسليم بأن الله عز وجل يعلم بالذنوب التي يرتكبها شطر من الناس، وحضورها عنده سبحانه في الأزمان المقدرة وغير المقدرة وهل غفرانها ومحوها يقطع حضورها عند الله.
الجواب لا، فيقع المحو في قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )، في الواقع وفي المصحف وعند الملائكة وفي أذهان الناس، ولكن الوقائع والأحداث باقية في علم الله قبل وبعد وقوعها، وعند محوها وبعده، وتلك آية في فضل الله سبحانه .
ومن أسماء الله التسعة والتسعون(المنان) وهو سبحانه كثير النعم، ونعمه متصلة ليس لها إنقطاع وإن ظلم العبد نفسه أو غيره، وسئل الإمام علي عليه السلام عن الحنان والمنان , فقال: الحنان هو الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنان هو الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال)( ).
الثالث : عبودية وإنقياد الشفيع لله عز وجل وتضرعه له، إذ أن الشفاعة نوع خشوع وخضوع لله عز وجل وتسليم بحكمه ورجاء عفوه.
الحادية عشرة : من البيان للناس في آية السياق أن المؤمن قد يفعل الفاحشة أو يعتدي ويظلم نفسه لكن هذا الفعل القبيح لا يخرجه عن الإيمان، ومن فضل الله عز وجل أنه لا يطرده عن مقامات التقوى بل يهديه إلى التدارك بالذكر والإستغفار، ويتفضل بإخباره والمؤمنين والناس جميعاً بأنه يغفر الذنوب ويعفو عن السيئات وهذا الإخبار مقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان لسبله، ومن الشواهد على ترتب النفع على صبغة الإيمان إن المسلم إذا فعل الفاحشة لا يصر على فعلها، فهو يقر ويعترف بأمور:
الأول : نهي الله عز وجل عن فعل الفاحشة وبغضه للفساد، وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ]( ).
الثاني : قبح فعل الفاحشة، وذم الذي يظلم نفسه.
الثالث : التنافي والتباين بين الإيمان وفعل الفاحشة.
الرابع : لزوم إجتناب تكرار المعصية.
الخامس : الحاجة إلى تجديد ذكر الله، والفزع إلى الإستغفار عند فعل المعصية.
الثانية عشرة : أخبرت آية البحث بأن القرآن هدىً، ويتعذر حصر مصاديق الهدى في القرآن وهو من عمومات قوله تعالى[قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ]( )، ومن وجوه الهدى في آية السياق أمور:
الأول : مجيء فعل المؤمن الفاحشة على نحو الشرط والإحتمال وبعد ذكر خصال حميدة يشترك بها مع سائر المؤمنين وعلى نحو القطع وليس الإحتمال , ومنها الإنفاق وكبح جماح الغضب والعفو عن الناس وكأنه خزينة وحرز لساعة فعل الفاحشة إذا وقع عرضاً وغفلة وعند غلبة النفس الشهوية.
الثاني : ذكر الله عز وجل هدى وخير محض، ومن بيان القرآن أن ذكر الله سلاح يأتي على الذنوب فيسترها، ويمنع من ترتب الأثر عليها، ولولا هذه الآيات قد لا يعلم الناس بأن ذكر الله هو سبيل نجاة مما إرتكب من الذنوب , وواقية من حدوث القادم منها.
الثالث : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء وتفضل، وجعل ذكره مدداً للعباد في حالات:
الأولى : بعث الخوف والخشية من الله في النفس لذا جاءت البشارة في هذه الآية بالجنة لخصوص المتقين.
الثانية : نزول شآبيب الرحمة على المسلمين بذكرهم لله، لذا ذهب بعض الفقهاء في قوله تعالى[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
وقيل أوقات الصلاة أسباب لها، أي بسبب زوال الشمس عن كبد السماء يجب أن يقيم المسلمون والمسلمات الصلاة، ولا دليل عليه إنما هو مظهر من مظاهر تجليات الفيض الإلهي وعظيم قدرة الله , وبيان أن العباد مسخرون لطاعته في أوقات مخصوصة مثلما هي الكواكب في جريانها والله عز وجل يحب أن يذكره عباده ليجزيهم بمغفرة الذنوب، قال تعالى [إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي]( ).
الثالثة : مصاحبة الأمل لذكر الله، فيأتي الأمل ويدّب في النفس مع الذكر، وهل الأمل سبب للمواظبة على الذكر أم العكس هو الصحيح.
الجواب لا تعارض بين الأمرين، وكل فرد طريق وسبب للآخر من غير أن يستلزم الدور بينهما.
الرابعة : ذكر الله مقدمة للإستغفار وسؤال العفو عن المعصية.
الخامسة : ذكر الله باعث على فعل الصالحات، وإشراقة يصطبغ بها القلب والجوانح.
الرابع : من خصائص ومنافع ذكر الله أمور:
الأول : إنه طريق للهدى.
الثاني : ذات الذكر هدىً.
الثالث : ذكر الله سبب للهدى، وتحتمل السببية هنا ثلاثة وجوه:
الأول : الذكر سبب خاص لهداية ذات الذاكر بلحاظ أنه فعل شخصي حسن.
الثاني : ذكر العبد لله هدى ونفع لغيره من الناس، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ]( ).
الثالث : إهتداء ذات العبد بذكره لله، وإهتداء غيره به.
والصحيح هو الثالث لأصالة الإطلاق، وعموم نفع الذكر وأثره في النفوس.
الرابع : ذكر الله واقية من الأذى والإبتلاء وضنك العيش ودبيب الحسرة والكآبة إلى النفس، قال تعالى[وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا]( ).
الثالثة عشرة : من الهدى في القرآن اللجوء إلى الإستغفار، فبينما تبتنى المعاملات بين الناس على القبول والإيجاب والبدلية والعوض، وإنتزاع الحقوق والقصاص والصلح، قال تعالى[وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( )، وجاء القرآن بالإخبار عن سلاح الإستغفار وكونه الواقية والعلاج والسبيل إلى تغطية الذنوب ومحو أثرها، لذا ورد في الحديث بأن الإستغفار أعظم كفارة.
ليكون الإستغفار فريدة وآية في الصلة بين الله والعبد، لقد تقدم الوعيد للعبد , وبعث الله الأنبياء وأنزل الكتب السماوية، فأقام الحجة المتعددة على الناس، ثم تفضل وفتح باب الإستغفار للندم والإنابة، وإذ إنقطعت النبوة والوحي بإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى فإن آية السياق تخبر عن أمور بلحاظ آية البحث وهي:
الأول : فتح باب الإستغفار للناس.
الثاني : بقاء سلاح الإستغفار متدلياً وفي متناول الناس، وإنتفاع خصوص المسلمين منه لا يمنع من إستدامة قربه من الناس جميعاً.
الثالث : الإستغفار من ثمرات النبوة والكتاب المتجددة إلى يوم القيامة، ففي كل يوم تجد شطراً من الناس يستغفرون الله ويسألونه العفو، ويمكن تسمية الدنيا بأنها (دار الإستغفار) لأنه ملازم لها في كل يوم من أيامها إبتداءً من أيام آدم وإلى قيام الساعة , قال تعالى [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض قام وجاء الكعبة فصلى ركعتين، فألهمه الله هذا الدعاء: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي. اللهم أسألك إيماناً يباشر قلبي، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي ، وأرضني بما قسمت لي، فأوحى الله إليه: يا آدم قد قبلت توبتك، وغفرت ذنبك، ولن يدعوني أحد بهذا الدعاء إلا غفرت له ذنبه، وكفيته المهم من أمره، وزجرت عنه الشيطان، واتجرت له من وراء كل تاجر، وأقبلت إليه الدنيا راغمة وإن لم يردها)( ).
الرابعة : من الهدى القرآني تنزه المسلمين عن أمور:
الأول : الرغبة في فعل المعصية.
الثاني : الإصرار على المعصية.
الثالث : الإبتعاد عن مقامات التقوى.
ومن بيان القرآن بلحاظ آية السياق أمور:
الأول : تأكيد قبح المعصية.
الثاني : زجر الناس عن العناد والإستكبار.
الثالث : بيان الأضرار المترتبة على الإصرار على المعصية.
الرابع : الشهادة عند الله للمسلمين بإتصافهم بخصلة حميدة وهي عدم الإصرار على المعصية، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامسة عشرة : يتضمن قوله تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا] إخباراً عن تفقه المسلمين في الدين، وبلوغهم مرتبة العلم بقبح المعصية وأضرار الإصرار عليها، وتم هذا التفقه ببركة بيان القرآن مما يدل على أنه سبب وموضوع للإرتقاء في سلم المعارف وتوظيفه للنفع الذاتي والغيري في النشأتين.
السادسة عشرة : هل في قوله تعالى (ولم يصروا على ما فعلوا) تلقين للمسلمين، وتأديب لهم وتقديره: لا تصروا على ما تفعلون من القبح).
الجواب نعم، وهو من مصاديق الهدى بآيات القرآن وسبل الصلاح التي جاء بها والتي أراد الله عز وجل أن تتغشى الناس جميعاً، ومن الهدى الغيري في المقام أن الناس يتعلمون من المسلمين كيفية إجتناب المعصية وعدم الإقامة عليها، بلحاظ أن هذا الإجتناب أمر وجودي وليس عدمياً، وهو من مصاديق قوله تعالى(وموعظة للمتقين).
السابعة عشرة : إختصت آية السياق في منطوقها بذكر حال المتقين، وسعيهم في السبل المؤدية إلى الإقامة الدائمة في الجنة، أما آية البحث، فمتعلق مضامينها على قسمين:
الأول : الناس جميعاً، وأن القرآن بيان وإخبار لهم وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الثاني : الهداية والموعظة للمتقين.
الثامنة عشرة : أخبرت آية البحث بأن القرآن (موعظة للمتقين) وفيه بلحاظ آية السياق وجوه:
الأول : الثناء على المؤمنين، وعدم قطع أو زوال هذا الثناء وعظيم نفعه، وفضل الله عز وجل في مجازاة المؤمنين في الدنيا بأن تبقى صفة التقوى لا تغادرهم حتى في حال فعلهم الفاحشة.
الثاني : إرتكاب الفاحشة وظلم النفس أمر قد يطرأ على فعل المؤمن، ولكن تداركه مصاحب له، وتلك آية في رحمة الله بالمسلمين بأن يكون فعل وإثم ومعصية خارجية قد يشترك فيها أكثر من طرف ولكن إستغفار المؤمن يمحو عنه تبعات أثرها، وكل طرف فيها تدعوه كل من آية البحث والسياق إلى الإستغفار.
الثالث : بعث الفطنة واليقظة عند المسلمين، والإخبار بأن المعصية لا تختص بفعل الفاحشة بل تشمل ظلم النفس أيضاً وهو عنوان شامل يتعلق بالتقصير بالعبادات وفروض الطاعات وإيذاء النفس وجلب الضرر لها، إلى جانب الإساءة للغير وما يترتب عليها من الإثم وسيبقى قوله تعالى (أو ظلموا أنفسهم) موعظة وإنذاراً وتحذيراً من ظلم الإنسان لنفسه، وجلبه الضرر لها بإختياره، وإن حدث هذا الظلم فلا يظن الإنسان بعدم زواله وأن أثره وعقابه مترتب عليه كترتب المعلول على علته بل تفضل الله وجعل زوال هذا الأثر بأمرين:
الأول : ذكر الله.
الثاني : الإستغفار مما حدث من الظلم.
الرابع : مجيء الإستغفار على الأعم من فعل الفاحشة وظلم النفس، سواء بذكر الذنوب على نحو التعيين أو سؤال الله العفو عما يستحضره العبد منها وما لا يذكره لأن الله عز وجل يعلم بها , ليكون علم الله عز وجل بها رحمة بالناس ومقدمة لمحوها والعفو عنها، ولا يأتي مدع يوم القيامة على المؤمن بظلم إلا وقد غفر الله عز وجل هذا الظلم إذا إختار التوبة، والله سبحانه هو الذي يجازي المظلوم بالعوض والبدل.
الخامس : إنحصار مغفرة الذنوب بالله عز وجل شاهد على التوحيد ونفي الشريك , وفيه دعوة لنبذ الضلالة والإقامة على المعاصي.
السادس : من خصائص القرآن إنقطاع زمان الإصرار على الذنوب بنزوله وإبتداء الحرب الهجومية على هذا الإصرار وأهله، وهو من الدلائل والبيان لقوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، ليكون في هذا الحفظ دفع للناس عن مستنقع الإصرار على الذنوب وما فيه من الأذى والضرر على الذات والغير.
السابع : من خصائص المؤمن عدم الإصرار على المعصية بل يلجأ إلى الذكر والمواظبة على العبادات وإتيان الفرائض، ويكون هذا اللجوء واقية من الإصرار على المعصية من غير أن يستلزم الدور بينهما.
الثامن : تقدير الجمع بين آية السياق وخاتمة آية البحث هو: موعظة للمتقين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فأستغفروا لذنوبهم) وكأن الآية خطاب لهم وندب للذكر والإستغفار وإخبار بأن أيام الإنسان في الدنيا قصيرة ومحدودة ولابد من حسن العاقبة ومغادرة الدنيا بمفاهيم التقوى وسنن الصلاح.
الشعبة الثانية : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية، وفيها وجوه:
الأول : صلة هذه الآية بالآية التالية[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : لا تهنوا ولا تحزنوا هذا بيان للناس.
الثاني : أنتم الأعلون هذا بيان للناس.
الثالث : هذا بيان للناس إن كنتم مؤمنين.
الرابع : هذا هدى ولا تهنوا ولا تحزنوا.
الخامس : هذا هدىً وأنتم الأعلون.
السادس : هذا هدىً إن كنتم مؤمنين.
السابع : هذا بيان للناس إن كنتم مؤمنين.
الثامن : هذا موعظة إن كنتم مؤمنين.
التاسع : هذا بيان للناس ان كنتم مؤمنين.
الثانية : من بيان القرآن للناس جميعاً توجه الخطاب القرآني إلى المؤمنين وحثهم على الصبر والبذل في سبيل الله، ليكون فيه بعث للفزع والخوف في قلوب الكفار وزجر لهم عن التعدي على ثغور الإسلام، وحرمات المسلمين.
الثالثة : حينما أمر الله المسلمين بأن لا يفشلوا ولا يخافوا فإنه سبحانه جعل القرآن بياناً ليكون من مصاديق البيان إحتراز المسلمين من الضعف والحسرة على ما مضى، وبعد وصف آية البحث القرآن بأنه بيان للناس فإنها وصفته بأنه هدىً ليكون من معاني الجمع بين الآيتين عدم وقوف المسلمين عند حال عدم الضعف والحزن بل عليهم بالعمل والجد والمثابرة في أمور الدين والدنيا بحسب لحاظ آية البحث والسياق:
الأول : أداء الوظائف العبادية.
الثاني : الدفاع عن بيضة الإسلام، خصوصاً وأن آية السياق نزلت حينما أصابت المسلمين خسارة يوم أحد وأشيع ساعة المعركة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد قُتل، وهذه الإشاعة وحدها تثبيط للعزائم ومقدمة للإنكسار وواعز للفرار لولا فضل الله.
وقال نافع بن جبير: سمعتُ رجُلا من المهاجرين يقول: شهدت أحُدًا فنظرت إلى النَّبْل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كُلُّ ذلك يُصْرَف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دُلّوني على محمد، لا نَجَوتُ إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه أحد، ثم جاوره فعاتبه في ذلك صَفْوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع. خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك)( ).
وشاع خبر قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين وبين المشركين، وسببه أنه لما قتل ابن قمنة مصعب بن عمير، وكان فيه شبه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ابن قمنة: قتلت محمداً، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقبل إلى المسلمين فعرفه كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأشار إليه النبي أن أصمت، لئلا يعرف المشركون مكانه، فلاذ المسلمون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجمع نحو ثلاثين رجلاً منهم لينسحب الجيش إلى شعب الجيل في طريق بين المشركين وهو ينادى: إلي عباد الله.
وعن ابن جريج قال: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشعب يوم أحد، فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وما فعل فلان؟ فنعى بعضهم لبعض، وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فكانوا في هم وحزن. فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل، وكان على أحد مجنبتي المشركين وهم أسفل من الشعب
فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا قوّة لنا إلا بك، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر ، فلا تهلكهم وثاب نفر من المسلمين رماة، فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله{وأنتم الأعْلَوْنَ إن كنتم مؤمنين})( ).
الثالث : الصبر في المرابطة في الثغور، وفي ميادين القتال وصد الأعداء عن بلاد المسلمين.
الرابع : التحلي بخصال التقوى وتعظيم شعائر الله.
الخامس : التعاون والتعاضد في مسالك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة : من البيان للناس جميعاً الذي جاء في القرآن أن المسلمين لا ينشغلون بالحزن على قتلاهم، أو يأسفون على ما فاتهم من الغنائم، أو ما فقدوه من الأموال وتعطيل الأعمال في الجهاد في سبيل الله.
وهل في القرآن بيان لعوض وخلف للمسلمين على ما خسروه، الجواب من جهات:
الأولى : العوض في الآخرة بالجزاء بالجنة كما جاء قبل آيتين بأن جزاء المتقين الذين ينفقون في السراء والضراء لهم[جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا]( ).
الثانية : الخلف والبدل في الدنيا، بأن يعوضهم الله عن الخسارة، ويحتمل هذا العوض وجوهاً:
الأول : يكون العوض بقدر الخسارة.
الثاني : يأتي العوض أقل من الخسارة.
الثالث : العوض ضعف الخسارة.
الرابع : يكون العوض والبدل أضعاف الخسارة.
الخامس : ليس من حد ثابت للعوض فمرة يكون أقل من الخسارة وأخرى أكثر منها.
والصحيح هو الرابع، والشواهد عليه أكثر من أن تحصى، قال تعالى[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ]( )، ويحتمل هذا العوض في كيفيته وجوهاً:
الأول : مجيؤه دفعياً ومرة واحدة.
الثاني : التدريج والتتابع في مجيء العوض.
الثالث : تعليق العوض على الإجتهاد في سنن التقوى.
والصحيح هو الأول والثاني ويكون الوجه الثالث من مصاديق العوض والبدل بلطف من عند الله، ويحتمل العوض في جهته وجوهاً:
الأول : إختصاص ذات المنفق بالعوض، فلا تنقضي أيام حياته في الدنيا إلا وقد إستوفى العوض.
الثاني : إنبساط العوض على المنفق وعلى ذريته من بعده.
الثالث : إنفراد الذرية بالعوض، ليكون تركة كريمة وإرثاً للذرية ووديعة عند الله الذي لا تضيع عنده الودائع.
والصحيح هو الثاني لأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى , وفي دعاء إبراهيم وإسماعيل[رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ]( ).
الرابعة : من البيان للناس في الآية التالية أن الله عز وجل ينهى المسلمين عن أمرين، وكل فرد منهما فيه أذى وضرر عليهم، مما يعني أن القرآن هدىً ورحمة بهم، وهل في نهي المسلمين عن الضعف والأسى رحمة بالناس.
الجواب فيه وجوه:
الأول : إنه رحمة بأهل الكتاب خاصة.
الثاني : إنه رحمة بالذين لم يحاربوا المسلمين.
الثالث : إنه رحمة بالناس جميعاً.
والصحيح هو الأخير، من وجوه:
الأول : نهي المسلمين عن الضعف والحزن سبيل هدى وصلاح للناس.
الثاني : فيه زجر عن التعدي على المسلمين.
الثالث : بيان إكرام الله للمسلمين ترغيب للناس بالإسلام، وهو من مفاهيم الخطاب القرآني بأن يتوجه لفريق وأمة من الناس تجمعها خصال مخصوصة لينتفع الناس جميعاً منه، وهل يصح القول بأنه كما خاطب الله المسلمين بأن يقتدوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما ورد في التنزيل[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )، أن يكون المسلمون أسوة حسنة للناس.
الجواب صحيح أن المسلمين في تقواهم أسوة للناس، ولكن الأصل هو أن النبي محمداً أسوة حسنة للناس جميعاً، ويجب أن يقتدي به الناس مباشرة من غير واسطة , ويصح الإقتداء إلى الكتاب والسنة بواسطة المسلمين أيضاً وهو شاهد على عظيم منزلتهم وحاجة الناس لهم، قال تعالى[يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا]( ).
الخامسة : من البيان في القرآن شهادة الله عز وجل للأنبياء والمسلمين والصالحين من عباده، وكل فرد من أفراد الشهادة رحمة بالناس جميعاً ودعوة للصلاح وبعث على الهدى، وفيه دلالة بأن بيان القرآن حاجة للناس في أمور دينهم ودنياهم وحجة عليهم يوم القيامة بلحاظ أن هذا البيان يأتي يوم القيامة شاهداً عليهم.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أنه إذا كان في سفر وأسحر يقول سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذا بالله من النار)( )، أي ليسمع الناس وليشهدوا بأن نحمد الله عز وجل على ما أولانا من النعم وحسن البلاء وعظيم النصر.
السادسة : أخبرت آية السياق عن كون المسلمين هم الأعلون، وفيه نوع تحد فلابد من مصاديق لهذا العلو، وهي موجودة في القرآن، لتكون موضوعاً للإستقراء والإستنباط، قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السابعة : يفيد الجمع بين الآيتين دعوة الناس للإسلام لإخبار الآية التالية عن كون المسلمين هم الأعلون، وهو من المقاصد السامية لجعل القرآن بياناً للناس جميعاً ليعرف غير المؤمن تخلفه عن مراتب العلو والرفعة.
الثامنة : بيان حقيقة وهي الملازمة بين أمور هي:
الأول : الإيمان.
الثاني : السمو والعلو.
الثالث : عدم الهوان وعدم الحزن.
التاسعة : جاءت آية السياق بصيغة الجملة الإنشائية والخطاب للمسلمين بما فيه عزهم وفخرهم في النشأتين، أما آية البحث فوردت بصيغة الجملة الخبرية والبيان، ومع هذا التباين في الصيغة فإن كلاً منهما قانون دائم وإلى يوم القيامة، وقواعد كلية تستنبط منها المواعظ والعبر، وتقتبس منها الدروس ومفاهيم البشارة والإنذار.
العاشرة : لما أخبرت آية البحث عن كون القرآن بياناً للناس جميعاً، أختتمت آية السياق بصيغة الجملة الشرطية (إن كنتم مؤمنين).
وفي الجمع بينهما وجوه:
الأول : دعوة المسلمين للتصديق بقانون (القرآن بيان).
الثاني : رحمة الله بالمسلمين والناس جميعاً بمجيء البيان من عند الله عز وجل.
الثالث : من خصال المؤمنين التصديق بأن القرآن بيان، والتسليم بالإطلاق والعموم في بيانه وإرادة الناس جميعاً.
الرابع : دعوة المسلمين للإجتهاد في جذب الناس إلى منازل الهداية والإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس : من أفراد الإيمان التصديق بأن القرآن بيان للناس جميعاً، وليس للمسلمين وحدهم، ومن منافع تصديق المسلمين هذا أمور:
الأول : بعث الشوق في نفوس المسلمين لدخول الناس في الإسلام.
الثاني : صبر المسلمين على الأذى في مرضاة الله، وكم من عدو للمسلمين دخل الإسلام وحسن إسلامه بعد رؤيته الآيات وحسن سمت المسلمين.
الثالث : السعي باللسان واليد في الدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : وجوب حفظ وتعاهد المسلمين للقرآن لأنه بيان للناس بأجيالهم المتعاقبة إلى يوم القيامة.
الحادية عشرة : إمتناع المسلمين عن الضعف والحزن هدى لهم وللناس، وسبيل للصلاح، لإقتران هذا الإمتناع بالإيمان وترشحه عنه وتقدير الآية: ولا تهنوا ولا تحزنوا أيها المؤمنون.
الثانية عشرة : يبين القرآن علة خلق الإنسان وهي عبادته تعالى بقوله[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ولابد من وجود أمة مؤمنة تواظب على عبادة الله في كل زمان، ومفهوم الآية: ومن لم يعبد الله فله عذاب جهنم .
وبينت آية السياق حاجة المسلمين إلى القوة والمنعة، وكأن هناك نوع ملازمة بين التقوى والمنعة وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة عشرة : من خصائص البيان القرآني أنه أعم من الإخبار، ففيه الموعظة والعبرة والبشارة والإنذار، ومن الآيات فيه أن يتضمن اللفظ القرآني منطوقاً ومفهوماً، وكل فرد منهما ذو شعب، فجاء الخطاب في آية السياق للمسلمين ليبعث الفزع والرعب في قلوب الكفار، ويكون سبباً لزجرهم عن الإضرار بالمسلمين والتعدي عليهم.
وهل هو مقدمة ومناسبة لجذبهم لمنازل الإيمان ونبذ الكفر، الجواب نعم، لأن منعة المسلمين آية من عند الله خصوصاً، وأنها ملازمة لهم حتى في حال الذل والضعف، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
فالله عز وجل هو الذي نصر المسلمين في المعارك وهم في حال الضعف فمن باب أولى أن يمنعهم ويحيطهم بواقية في حال السلم، وتكون هذه الإحاطة على وجوه:
الأول : إنها رحمة بالمسلمين وسبب لحفظهم بجماعتهم وعقيدتهم وأفعالهم العبادية.
الثاني : دفع الله عن المسلمين حجة على الناس.
الثالث : فيه ترغيب ودعوة للإسلام وهو من عمومات قوله تعالى(هذا بيان للناس).
الرابعة عشرة : نهي الله عز وجل المسلمين عن الوهن والضعف والخوف من الأعداء والحزن على ما فات من الغنائم ونحوها موعظة لأجيال المسلمين المتعاقبة في لزوم إتخاذ ذات النهج لأنه حاجة لهم في أمور دينهم ودنياهم.
الخامسة عشرة : كل آية من القرآن هي موعظة، ويتلقاها المسلمون بالقبول والتدبر، ومنها مجيء آية السياق بنهيهم عن الضعف والخور والجبن، وهو موعظة من وجوه:
الأول : ذات النهي موعظة.
الثاني : في هذا النهي بيان لقبح كل من الضعف والجبن والإنشغال بالحزن على ما فات من الغنائم.
الثالث : وجوب كون المسلمين على حال من المنعة والسلامة والرضا بأمر الله، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( ).
السادسة عشرة : الخشية من الله واقية من الضعف والوهن، وحرز من الندم والخوف على ما فات، ومن التقوى سؤال الرزق من الله، واليقين بأنه تعالى يخلف ما فات، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
وتقدير الآية: ولا تهنوا ولا تحزنوا أيها المتقون، وفي قصة موسى وقومه لما تحيروا وذُهلوا وكان فرعون خلفهم والبحر أمامهم، قال لهم موسى[قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِي]( )، فأوحى إليه الله[أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ]( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل فقال {أسر بعبادي ليلاً} فأمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط، وأمر أن لا ينادي أحد منهم صاحبه، وأن يسرجوا في بيوتهم حتى الصبح، وأن من خرج منهم أمام بابه يكب من دم حتى يعلم أنه قد خرج، وأن الله قد أخرج كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وأخرج كل ولد زنا في بني إسرائيل من القبط حتى أتوا آباءهم.
ثم خرج موسى ببني إسرائيل ليلاً والقبط لا يعلمون، وألقى على القبط الموت فمات كل بكر رجل منهم، فأصبحوا يدفنونهم فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس، وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألفاً. لا يعدون ابن عشرين لصغره، ولا ابن ستين لكبره، وإنما عدوا ما بين ذلك سوى الذرية.
وتبعهم فرعون على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ماذيانة وذلك حين يقول الله{فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، إن هؤلاء لشرذمة قليلون} فكان موسى على ساقة بني إسرائيل، وكان هارون أمامهم يقدمهم فقال المؤمن لموسى: أين أمرت؟ قال: البحر. فأراد أن يقتحم فمنعه موسى.
فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم قالوا: يا موسى{إنا لمدركون} قال موسى{كلا إن معي ربي سيهدين} يقول: سيكفين. فتقدم هارون فضرب البحر فأبى البحر أن ينفتح وقال: من هذا الجبار الذي يضربني؟ حتى أتاه موسى، فكناه أبا خالد وضربه{فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم} يقول: كالجبل العظيم، فدخلت بنو إسرائيل وكان في البحر اثنا عشر طريقاً في كل طريق سبط، وكانت الطرق إذا انفلقت بجدران فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا. فلما رأى ذلك موسى عليه السلام دعا الله، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطبقات ينظر آخرهم إلى أولها حتى خرجوا جميعاً، ثم دنا فرعون وأصحابه فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقاً قال: ألا ترون إلى البحر منفلقاً قد فرق مني، فانفتح لي حتى أدرك أعدائي فاقتلهم.
فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم، فنزل على ماذيانة، فشامت الحصن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم. أمر الله البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم وتفرد جبريل بفرعون يمقله من مقل البحر، فجعل يدسها في فيه)( ).
السابعة عشرة : من بيان القرآن الإخبار بأن المسلمين (هم الأعلون) وفيه نوع فخر وعز لهم، ودعوة لهم لتعاهد هذه المنزلة بعدم الخوف والحزن.
وهل من تضاد بين الخوف من الأعداء والحزن على ما فات وبين العلو والرفعة بين الناس، الجواب لا، فهذه المرتبة فضل من الله فاز به المسلمون وأراد لهم سبحانه تعاهدها وإقامة شرائطها والإنتفاع الأمثل منه للذات والغير.
الثامنة عشرة : من بيان القرآن الإخبار عن فوز المسلمين بمرتبة العلوم والرفعة بين الناس، وفيه وجوه:
الأول : دعوة المسلمين لشكر الله على بلوغ مرتبة العلو.
الثاني : حث المسلمين على تعاهد مقامات الرفعة والسمو بالتقوى وعدم الوهن أو الخوف.
الثالث : بعث السكينة في نفوس المسلمين، لأن الأهم ليس الخسارة في معركة مخصوصة بل الأهم هو بقاء المسلمين في مراتب العلو بفضل الله عز وجل.
التاسعة عشرة : بيان الملازمة بين التقوى والعلو، فالأمة التي تختار التقوى وتتقيد بأحكام النبوة والتنزيل تكون لها الرفعة والعلو في الدنيا، ويكون جزاؤها في الآخرة هو اللبث الدائم في الجنة، وفيه أيضاً مرتبة من العلو، وفي حال المؤمن وأخذه كتابه بيمينه يوم القيامة قال تعالى[فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ]( ).
العشرون : يدل الجمع بين آية البحث وآية السياق على قانون ثابت ومتجدد وهو نيل الرفعة بالتقوى والخشية من الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من نقله الله من ذل المعاصي إلى عز الطاعة أغناه بلا مال وأعزه بلا عشيرة وآنسه بلا أنيس)( ).
الحادية والعشرون : لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالخشية من الخوف منه تعالى، فتفضل وأمرهم بعدم الخوف والخشية من غيره، ليكون من بيان القرآن أن قوله تعالى(ولا تهنوا ولا تحزنوا) من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ]( )، ليكون إنذار المؤمنين رحمة بهم من عند الله، وموضوعاً لتفقهم في الدين.
الثانية والعشرون : من خصائص البيان القرآني أنه نوع تحد للناس بالحقائق والوقائع، إذ تخبر آية السياق بأن المسلمين هم الأعلون من بين الناس، ومع إعراب الواو في (وأنتم الأعلون) بأنها حالية فيمكن أن تعرب بأنها للإستئناف، ليكون تقييد العلو بالإيمان في قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، أي ما دمتم مؤمنين بالله وفيه بيان لقانون وهو الملازمة بين الإيمان والعلو، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : المؤمنون هم الأعلون.
الصغرى : المسلمون هم المؤمنون.
النتيجة : المسلمون هم الأعلون.
الثالثة والعشرون : بيان الغنيمة والجزاء العاجل في الدنيا ثواباً على الإيمان، وفي نيل المسلمين مرتبة العلو في الدنيا مقدمة لبلوغهم منازل الرفعة في الآخرة، وشاهد على أن الله عز وجل يجازي المؤمنين، وهل مرتبة العلو في الدنيا من مصاديق الجزاء في قوله تعالى[وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى]( ).
الجواب إنه مقدمة للجزاء الأوفى وهو النعيم الدائم، لذا ورد بلفظ (ثم) وما فيه من معاني العطف والتراخي.
الرابعة والعشرون : ذات الإيمان، وأداء المسلمين للفرائض والعبادات بيان عملي للناس، وهل هو من مصاديق قوله تعالى(هذا بيان للناس).
الجواب القدر المتيقن من الآية هو آيات القرآن ومضامينه القدسية ومنها الأمر بأداء الصلاة والواجبات العبادية الأخرى كما في قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الخامسة والعشرون : الصلة بين قوله تعالى (هدى) وبين خاتمة آية السياق على وجوه:
الأول : إيمان المسلمين هدى بالذات فالذي يبلغ درجة الإيمان هو مهتد.
الثاني : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هدىً وموعظة، قال تعالى في خطاب للنبي محمد: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ) أي على الحق والنهج السليم.
الثالث : إختيار دخول الإسلام والنطق بالشهادتين هدى فتأتي آيات القرآن وتلاوتها في الصلاة على نحو الوجوب اليومي والعيني بياناً وتبصرة، وفي أهل الكهف ورد قوله تعالى[إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى]( )، ليفوز المسلمون من بعدهم بزيادة الهدى ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن لطف الله أنه سبحانه إذا أنعم بنعمة على أهل الأرض فإنه أكرم من أن يرفعها.
الرابع : تقدير الجمع بين الآيتين على شعب:
الأولى : إن كنتم مؤمنين فإنه هدى، أي الإيمان شاهد على الإهتداء إلى الصراط المستقيم وحسن لقاء الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم من آمن بك وشهد أني رسولك فحبب إليه لقاءك وسهل عليه قضاءك وأقلل له من الدنيا ومن لم يؤمن بك ويشهد إني رسولك فلا تحبب إليه لقاءك ولا تسهل عليه قضاءك وأكثر له من الدنيا)( ).
الثانية : هذا هدى إن كنتم مؤمنين) لبيان حقيقة وهي أن المؤمنين يعلمون من أسرار القرآن ويستظهرون من كنوزه ما لا يعرفه غيرهم من الناس، وفيه دعوة لهم للتوبة والإنابة، قال تعالى[وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ]( )، ليكون كل من الإيمان والتوبة والفلاح من مصاديق الهدى التي تقود إلى الجنة وما فيها من النعيم.
الثالث : إن كنتم مؤمنين بالقرآن، بلحاظ أن القرآن هو الهدى كما تصفه آية البحث , فالإيمان به واجب شرعي وعقلي لأنه هدى، وبلوغ مرتبة الإيمان عيد عبادي وهو درجة سمو في منازل التقوى.
فلذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى (للمتقين) وآية السياق بقوله تعالى(مؤمنين) فمن رشحات القرآن أن المسلم في رفعة وعلو، لأنه لا يغادر منازل الإيمان والتقوى.
الخامس : دعوة المسلمين للسعي لهداية الناس للإيمان، فمن مصاديق نعت القرآن بأنه هدى صدور المسلمين عنه وإتخاذهم له بصرا وسمعا وسلاحاً.
السادسة والعشرون : لما أختتمت آية البحث بالإخبار عن كون القرآن موعظة للمتقين إبتدأت الآية التالية بزجر المسلمين عن الضعف والحزن، ويحتمل وجوهاً:
الأول : هذا الزجر من الموعظة.
الثاني : القدر المتيقن من الموعظة هو الأمر , أي الأمر بالبقاء في حال القوة والمنعة.
الثالث : إرادة المعنى الأعم الشامل للأمر والزجر.
والصحيح هو الثالث، بلحاظ أن الزجر أمر وجودي في مفهومه فلابد أن يكون الإنسان على حال وكيفية نفسانية، وتحتمل الحال التي يكون عليها المسلمون وجوهاً:
الأول : حال من العز والرفعة نقيض لحال الوهن والضعف.
الثاني : البرزخ بين القوة والضعف وبين الغبطة والحزن.
الثالث : الترديد والتنقل بين حال العز والقوة وحال البرزخ بينها وبين الضعف بحسب الشأن وحال التقية.
والصحيح هو الأول، وهذه القوة مقيدة بالإيمان والخشوع لله عز وجل , وفي الحديث القدسي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله تبارك وتعالى: الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قصمته ثم قذفته في النار)( ).
لقد سخّر المسلمون عزهم في مرضاة الله وإنقطعوا للخضوع له تعالى بأداء العبادات في أوقات مخصوصة والصبر عليها، فرزقهم سبحانه العز والهيبة والأمن والتي تترشح من ثنائهم على كبرياء الله وإقرارهم بجبروت ربوبيته، وتسبيحهم بحمده وهي الفضائل التي بالتلبس بها تدرك السعادة.
السابعة والعشرون : من بيان القرآن أن الزجر عن الضعف والحزن لا ينحصر بمواطن القتال والدفاع عن بيضة الإسلام، بل يشمل موارد تهذيب الأخلاق وإصلاح النفوس، وقد يستلزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع غلظة ومنعة خاصة إذا كان باليد، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا ظهر فيكم المنكر فلم تغيروه يوشك أن يعم الله الكل بعذاب).
الثامنة والعشرون : يفيد الجمع بين الآيتين بلوغ المسلمين مرتبة العلو بين الناس بالتقوى وتلقي مواعظ القرآن بالقبول والعمل، لينالوا مرتبة العلو والرفعة بين الناس، فهم الأعلون بتكامل الشريعة، وسلامة النهج والسيرة، وصحة العقيدة، والتقيد بأداء الفرائض، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( )، ووصل المسلمون إلى مراتب التقوى ببيان وهدى ومواعظ القرآن، وهي لم تتوقف عنهم لبلوغهم هذه الدرجة الرفيعة بل تتوالى عليهم للإرتقاء في سلمها، والثبات في مناهجها فإن الدنيا دار إمتحان وبلاء , تداهم المؤمن ضروب الإفتتان والبلوى والمصائب فيحترز بالتقوى ويلوذ بالصبر ليبقى في منازل العز، وتحول مواعظ القرآن بينه وبين مغادرة منازل التقوى.
ومن إعجاز القرآن في المقام الإخبار عن إعداد الجنة للمتقين[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، وفيه حلم ووعد من الله بأن المؤمن إذا إرتكب معصية فإنه لا يغادر مقامات التقوى ما دام يتعقب الإثم بذكر الله والإستغفار بينهما وجاء ذم المنافق في قوله تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ]( ).
الصلة بين خاتمتي الآيتين: وفيها مسائل:
الأولى : أختتمت آية البحث بقانون كلي وهو أن القرآن موعظة وعبرة للذين يخشون الله، وأختتمت آية السياق بصيغة الجملة الشرطية (إن كنتم مؤمنين).
الثانية : النسبة بين الخاتمتين على الظاهر العموم والخصوص المطلق، ولكن عند التدبر يتجلى التساوي بينهما، لأن المتقين هم الذين يؤمنون بالنبوة والتنزيل، ويصدقون بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين: إن كنتم مؤمنين فالقرآن موعظة لكم، لتكون كل آية من القرآن هبة من الله عز وجل للمسلمين والمسلمات لإختيارهم الإيمان ونبذهم الشرك والكفر والضلالة وهو من مصاديق قوله تعالى[وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( )، بتقريب أن كل آية كنز ينهل منه المسلمون من غير أن يصيبه النقص، وإذا كان التغيير والبلى يصيب الجواهر والأعراض وتتغير وتقل قيمتها مع تقادم السنين، فإن ذخائر القرآن تتجدد مع الإرتقاء العلمي والتداخل بين الأمم، والتقارب بين الحضارات وأهل الملل.
الرابعة : يفيد الجمع بين الآيتين بعث المسلمين إلى الدعوة إلى تقوى الله، والإجتهاد في الموعظة لجذب الناس لسبل الهداية والإيمان، وهذا الإجتهاد ليس مطلقاً إذ أن مادته وموضوعه آيات القرآن، فكل آية منه سلاح في الموعظة والعبرة وتنزيل تتجلى فيه معاني الحكمة.
الخامسة : القرآن موعظة للمؤمنين بلحاظ التداخل بين الإيمان والتقوى وأن المسلمين يخشون ويتجنبون المعاصي طاعة لله عز وجل.
السادسة : من الغايات الحميدة للموعظة في القرآن صيرورة المسلمين هم الأعلون، وتعاهدهم لمراتب التفضيل بين الناس، وترغيب الناس بالإسلام.
السابعة : من خصائص المؤمنين التصديق بأن القرآن موعظة لهم، ويتجلى هذا التصديق بالتدبر في آيات القرآن ودلالات ألفاظه، والعمل بأوامره، وإجتناب نواهيه، ليكون قوله تعالى(وموعظة للمتقين) دعوة للمسلمين لتلقي سنن القرآن بالقبول والرضا والعمل، وهو من الشواهد على وراثة المسلمين للأنبياء وقوله تعالى[يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ]( ).
الثامنة : تلقي المسلمين وبصبغة الإيمان مواعظ القرآن برزخ دون إحداث البدعة وتفشي أمرها بين الناس، (عن أبي البختري الطائي قال أتى علي عليه السلام على رجل في مسجد الكوفة وهو يقص فقال من هذا قالوا رجل يحدث ثم أتى عليه يوما آخر فإذا هو يقص فقال من هذا قالوا رجل يحدث فقال اسألوه يعرف الناسخ من المنسوخ فسألوه فقال لا فقال إن هذا يقول اعرفوني اعرفوني أنا فلان ثم قال لا تحدث أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي قال أخبرنا عمر بن عيبد االله البقال قال أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال أخبرنا إسحاق بن أحمد الكاذي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الملك بن عمرو قال حدثنا يزيد يعني ابن إبراهيم بن العلاء الغنوي أن سعيد بن أبي الحسن لقي أبا يحيى
فقال يا أبا يحيى من الذي قال له علي عليه السلام اعرفوني إعرفوني فقال إني أظنك عرفت أني أنا هو قال قال ما عرفت أنك هو قال فإني أنا هو مر بي وأنا أقص بالكوفة فقال من أنت فقلت أنا أبو يحيى قال لست بأبي يحيى ولكنك اعرفوني هل عرفت الناسخ من المنسوخ قلت لا قال هلكت وأهلكت قال فلم أعد بعد ذلك أقص على أحد)( ).
التاسعة : تلاوة المسلمين لآية البحث وتصديقهم بمضامينها وأنها موعظة للمتقين شاهد بأن المسلمين هم المؤمنون، أي جاءت آية السياق على نحو الصيغة الشرطية (إن كنتم مؤمنين) وسبقتها آية البحث لتأكيد حقيقة وهي الشاهد من عالم التصديق والفعل المتجدد بأن المسلمين هم المؤمنون مما يدل على بلوغهم مرتبة الأعلون بفضل ولطف من عند الله عز وجل.
العاشرة : موضوعية التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو إمام المتقين ورائد الإيمان بالله والتوحيد وبالإقرار بنبوته والعمل بسنته نيل مرتبة الأعلون والتفضيل بين أهل الملل.
وعن عبد الله بن مسعود قال: إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَأَحْسِنُوا الصَّلاَةَ عَلَيْهِ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ. قَالَ فَقَالُوا لَهُ فَعَلِّمْنَا. قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاَتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ)( ).
الثاني : الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم مثله هذا بيان للناس.
الثاني : تلك الأيام نداولها بين الناس هذا بيان للناس.
الثالث :هذا بيان للناس ليعلم الله الذين ظلموا.
الرابع : يتخذ الله منكم شهداء هذا بيان للناس.
الخامس : الله لا يحب الظالمين هذا بيان للناس.
السادس : هذا بيان للناس والله لا يحب الظالمين.
السابع : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله هذا هدىً.
الثامن : تلك الآيات نداولها بين الناس هذا هدىً.
التاسع : هذا هدىً ليعلم الذين آمنوا.
العاشر : هذا هدىً ويتخذ الله منك شهداء.
الحادي عشر : هذا هدى والله لا يحب الظالمين.
الثاني عشر : الله لا يحب الظالمين هذا هدىً.
الثالث عشر : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم مثله هذا موعظة للمتقين.
الرابع عشر : تلك الأيام نداولها بين الناس هذا موعظة للمتقين.
الخامس عشر : هذا موعظة للمتقين ليعلم الله الذين آمنوا.
السادس عشر : ويتخذ منك شهداء موعظة للمتقين.
السابع عشر : موعظة للمتقين الله لا يحب الظالمين.
الثامن عشر : الله لا يحب الظالمين موعظة للمتقين.
الثانية : من بيان القرآن الإخبار عما لحق المسلمين يوم أحد من الخسائر ومقتل بضع وسبعين رجلاً منهم إلى جانب الجراحات التي أصابتهم، وفيه بيان من وجوه:
الأول : إنه دليل على نزول القرآن من عند الله بحيث يخبر عن الوقائع والحوادث كما هي وإن كانت تؤذي المسلمين في ذاتها وفي الإخبار عنها.
الثاني : إخبار الناس بأن المسلمين قد يتعرضون للخسارة ويقع منهم شهداء ولا يغير هذا من شأنهم وإيمانهم وكونهم الأعلون بين الناس في النشأتين، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : توثيق واقعة أحد وظلم المشركين لأنفسهم والناس بتعديهم على المسلمين وهجومهم على المدينة المنورة.
وأخرج إسحق وعبد بن حميد وابن جرير عن جماعة(لم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس لامته وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم. وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف رجل من أصحابه ، حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد تحوّل عنه عبدالله بن أبي بثلث الناس ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة ، فذب فرس بذنبه فأصاب ذباب سيفه فاستلَّه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف لصاحب السيف: شمَّ سيفك فإني أرى السيوف ستستل اليوم.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وتعبَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل، وأمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير والرماة خمسون رجلاً فقال: انضح عنا الجبل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فأنت مكانك لنؤتين من قبلك وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين)( ).
الرابع : دعوة المسلمين في أجيالهم المتعاقبة إلى عدم إنكار ما حصل للمسلمين من الخسارة والضرر مع وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة إماماً وقائداً ومقاتلاً، ومن منافع هذا البيان ما ورد في الآية التالية لآية السياق[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( ).
وهل هذا المحص والإختبار والتنزيه من العيوب والسيئات خاص بأيام النبوة والصحابة الذين حضروا معارك الإسلام الأولى أم المراد المعنى الأعم وأجيال المسلمين المتعاقبة إلى يوم القيامة.
والصحيح هو الثاني، وهو من أسرار كون القرآن بياناً للناس في كل زمان ومكان.
الخامس : بيان التباين والفصل بين المسلمين والذين يقاتلونهم , وتقدير آية السياق: إن يمسسكم أيها الأعلون قرح، ونعت العدو بالقوم ولغة الغيرية في المقام دلالة على أنهم إشتروا الضلالة وإجتمعوا على الكفر، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]( ).
الثالثة : من بيان القرآن أن القرح والجرح والخسارة أمور مصاحبة للقتال والدفاع عن المبدأ والعقيدة، مع التباين في الأثر والعاقبة، فينال المسلمون الأجر والثواب على الجرح والخسارة، ويفوز قتلاهم بالنعيم الدائم، قال تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ…]( )، أما الكفار فإن جروحهم حجة ووبال عليهم بالإضافة إلى سوء العاقبة الذي ينتظرهم، وفي فرعون وقومه قال تعالى[فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ]( ).
الرابعة : تذكر آية السياق ما أصاب المسلمين وما أصاب الكفار من الخسارة ليكون من منافع البيان القرآني جعل الناس يختارون بين الحق والباطل، بين الجرح والضرر مع الثواب , وبين الجرح والضرر مع الإثم، وهو من مصاديق قوله تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]( ).
الخامسة : يبين القرآن حقيقة مركبة من علة ومعلول، فأما المعلول فهو تبدل أحوال الناس، وتقلبهم في أيام الدنيا، وتعاقبها في أيديهم، وأما العلة فهي المشيئة الإلهية، ليكون من بيان القرآن أن الأمرة والسلطنة لا تؤخذ عن قهر وقدرة ذاتية، إنما تكون الغلبة والنصر والإستيلاء بأمر الله، ليكون بيان القرآن على وجوه:
الأول : دعوة المؤمنين لتكون الدولة والسلطنة لهم.
الثاني : توجه المسلمين بالشكر والحمد لله سبحانه على نعمة الدولة قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الثالث : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين في حال فقدهم الدولة، وحصول الجرح والخسارة في المعركة.
الرابع : صيرورة جرح المسلمين في المعركة دعوة للناس لدخول الإسلام، لأنه جرح في طريق الحق وإرادة النفع العام للناس في النشأتين، فمن غرائب ما يقع في الأرض أن المسلمين يقاتلون لجذب عدوهم إلى منازل النعيم في الدنيا والآخرة بتوبته وصلاحه، والكفار يقاتلونهم عناداً وإصراراً على الجهالة وإرادة دخول النار.
الخامس : وقد إجتمع بيان هذه الآية , وحسن التوكل على الله ورجاء الثواب والنهي عن الوهن والضعف , والإخبار عن القرح والألم في آية السياق في قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ]( ).
السادس : من منافع وغايات البيان القرآني بعث السكينة في نفوس المسلمين، والفزع والخوف في قلوب والكفار، وتقدير آية السياق (إن يمسسكم قرح) فأصبروا فلكم الأجر والثواب (فقد مس القوم قرح مثله) فلا صبر لهم ، ويلاحقهم الإثم.
السادسة : من بيان القرآن أن تعاقب الناس في الأيام وتداول النصر والغلبة بينهم إنما هو إختبار وإمتحان لهم، ويكون هذا التداول حجة لأهل الإيمان لحسن إختيارهم، وحجة على الكفار بسبب كفرهم وجحودهم، لذا ذكرت آية السياق العلة الغائية بقوله تعالى(وليعلم الله الذين آمنوا).
السابعة : من بيان القرآن شهادة المسلمين على الناس، ويدل عليه قوله تعالى[لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]( )، وتتجلى فيه معاني الحجة والبرهان على الناس، وتلك آية في ميادين القتال، فإلى جانب تحمل المسلمين أعباء القتال في سبيل الله، فإنهم يشهدون على الكفار يوم القيامة.
الثامنة : من بيان القرآن عدالة المسلمين إذا إجتمعوا في شهادتهم، وإستدل البلخي والرماني وغيرهم بالآية أعلاه أن الإجماع حجة لأن الله وصف المسلمين بأنهم عدول، ويدل عليه ما ورد عن أبي نضرة الغفاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “سألت ربي، عَزَّ وجل، أربعًا فأعطاني ثلاثًا، ومنعني واحدة. سألت الله ألا يجمع أمتي على ضلالة، فأعطانيها.
وسألت الله ألا يظهر عليهم عدوا من غيرهم، فأعطانيها. وسألت الله ألا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم، فأعطانيها. وسألت الله، عَزَّ وجل ألا يلبسهم شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعنيها”)( ).
التاسعة : من بيان القرآن بمحيص الناس وعلم الله الذي يؤمنون به تعالى ويصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن الكتاب الذي جعله الله بياناً للناس ليكون هذا الإيمان جسراً وصراطاً إلى النعيم الدائم.
(وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، قال: أفلك عذر، أو حسنة؟” قال: فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب. فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك. فيخرج له بطاقة فيها: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله”
فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، قال: “فتوضع السجلات في كفة [والبطاقة في كفة]، قال: “فطاشت السجلات وثقلت البطاقة” قال: “ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم”)( ).
وفي الحديث بيان لعظيم الأجر والثواب وترشح البركة عن أمرين:
الأول : الشهادتان، وما فيهما من الدلالة على الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : النطق بالبسملة وإتخاذها شعاراً، ليدل الحديث على مجيء السنة النبوية بأمور:
الأول : تأكيد البيان القرآني.
الثاني : إيضاح سبل الهداية بما يمنع من اللبس أو الجهالة.
الثالث : البشارة للمسلمين والمسلمات بالأمن والسلامة والفوز عند الميزان يوم القيامة.
الرابع : بعث الحسرة في قلوب الكافرين.
الخامس : تأكيد رجحان كفة الصالحات للمسلم والمسلمة بالنطق ببسم الله الرحمن الرحيم.
السادس : التذكير بعظيم الأجر والثواب بأداء الصلاة اليومية وتلاوة القرآن فيها والترغيب بها.
العاشرة : من خصائص القرآن أنه رحمة بالناس جميعاً، والمؤمنين منهم خاصة، ويدل عليه قوله تعالى(ويتخذ منكم شهداء) لبيان حقيقة وهي أن الناس على قسمين:
الأول : الشهداء وهم المسلمون يشهدون على الناس.
الثاني : المشهود عليهم وهم غير المسلمين.
ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يشهد بتبليغ الرسالة، قال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ]( )، لتكون شهادته يوم القيامة تزكية للمسلمين لتصديقهم برسالته، ومقدمة لشهادتهم على الناس، ولتجتمع شهادته وشهادة أمته على الكفار بالتكذيب بالرسالة والزحف لقتال المسلمين والتعدي عليهم في المدينة المنورة.
وفيه دليل بأن القرآن بيان للشهادة في الآخرة من جهة الشهود العدول والموضوع لإتمام الحجة على الناس، فلم ينحصر موضوع الشهادة بالجوارح والأركان بقوله تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
الحادية عشرة : يحتمل قوله تعالى(ان يمسسكم قرح) بلحاظ إخبار القرآن(هدىً) وجوهاً:
الأول : الهدى القرآني مقدمة لخوض المسلمين المعارك، وإصابتهم بالجروح.
الثاني : يقاتل المسلمون بهدى القرآن.
الثالث : بعد أن قاتل المسلمون في بدر وأحد والخندق وأصابتهم الجراح فانهم يزدادون هدى بالقرآن .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة وإهتداء المسلمين بضياء القرآن وما فيه من البشارات.
الثانية عشرة : لما أخبرت آية البحث عن كون القرآن (هدىً) تضمنت آية السياق حقيقة وهي مصاحبة هدى القرآن للمسلمين حتى في ميادين القتال، وهو من الشواهد على قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ). فمن أفراد تفضيل المسلمين قتالهم على هدىً وتتجلى صبغته بأنه في سبيل الله، ويخرجون للناس بسيوفهم لجذبهم إلى ذات الهدى الذي يقاتلون به ومنه وله.
الثالثة عشرة : من الدلائل على أن القرآن هدى للناس جميعاً قوله تعالى في آية السياق[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] من جهات:
الأولى : إرادة بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين أنهم على الحق.
الثانية : مواظبة المسلمين على القتال والمرابطة في الثغور.
الثالثة : بيان التضاد بين الهدى والضلالة في ميادين القتال، قال تعالى[فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ]( ).
الرابعة : القتال مناسبة لهداية الكفار الذين في ميدان المعركة، وكم من أفراد وجماعات دخلوا الإسلام أثناء المعركة أو بعد إنقضائها لما أدركوا قبح الباطل، وأنهم على ضلالة وأن واجبهم يقتضي إختيار الهدى، وليس من دور بين هذا الإختيار وبين إتخاذ الهدى طريقاً له لتعدد أفراد الهدى.
الرابعة عشرة : من بيان القرآن إخبار المسلمين بأن الكفار تلقوا ويتلقون الأذى ويصيبهم الضرر والجراحات، فقد يحاول الكفار التعتيم على خسائرهم واللبس والتمويه للظهور بهيئة الغالب، فجاء البيان في آية السياق لفضحهم، ويدل على ثبوت خزيهم في المعركة وما بعدها قوله تعالى[قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] هدى للمسلمين والناس من وجوه:
الأول : تطلع المسلمين الأوائل إلى أيام دولة الإسلام.
الثاني : صبر المسلمين عند الخسارة وعدم الحزن على ما أصابهم وما فاتهم.
الثالث : حسن سمت المسلمين في أيام دولتهم، وإتخاذ الدولة والشأن مناسبة لتعظيم شعائر الله وإقامة الفرائض.
الرابع : عدم إصابة المسلمين باليأس أو القنوط عند الخسارة، وفي المثل الشائع: الحرب سجال وعثراتها لا تقال( )، وسجال أي مرة سّجْل على هؤلاء وأخرى سجل على أولئك (والمسجالة: المباراة في العمل أيهما يغلب صاحبه)( ).
الخامس : منع الكفار من الظن بالنصر والغلبة، وإخبارهم بأن أيامهم قصيرة، وإن الظفر لابد وأن يكون للمؤمنين لأن الله عز وجل هو الذي يدير ويصرف الأيام بين الناس، ويقال(تدويل المدينة: جعل الأمر فيها لدول مختلفة)( ).
السادسة عشرة : في إخبار آية السياق عن علم الله بالذين آمنوا بأشخاصهم وأفعالهم وجوه:
الأول : بعث الغبطة والسرور في نفوس المسلمين لأن الله يعلم بإيمانهم.
الثاني : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة الهدى وبلوغ مرتبة الإيمان.
الثالث : ترغيب الناس بالإيمان، للفوز بعلم الله بهم بهذه الصفة وما يترشح عن علم الله بالإيمان من نزول البركات والرزق الكريم.
السابعة عشرة : فضل الله على المسلمين بإرتقائهم إلى مراتب الشهادة وما تستلزمه من العدالة والتقوى، ومن الهدى في المقام تقدم موضوع ومرتبة الإيمان على الشهادة , فلم يتخذ الله المسلمين شهداء إلا بعد بلوغهم مرتبة الإيمان والهدى وحسن الصبر في جنب الله.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المؤنة و إن الصبر يأتي من الله على قدر المصيبة)( ).
الثامنة عشرة : قد يتساءل بعضهم لماذا لا تكون الغلبة والنصر دائماً للمسلمين، والجواب ليس من هزيمة للمسلمين حتى في معركة أحد وإن أصاب المسلمين الخسارة والضرر لتكون هذه الخسارة موعظة من جهات:
الأولى : توجه المسلمين بالدعاء والسؤال بالنصر والغلبة.
الثانية : لم تذكر آية السياق هزيمة للمسلمين وقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] أعم من الهزيمة وتعلقها بالمسلمين، ويمكن النظر لها من جهة أنها بشارة للمسلمين بإنقضاء دولة قريش وبزوغ دولة الإسلام وبناء صرح الإيمان وتثبيت العمل بأحكام الحلال والحرام في الأرض إلى يوم القيامة بدليل الآيات التي تخبر عن نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وهزيمة الكافرين، قال تعالى[مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ]( ).
الثالثة : إنذار الكفار والمنافقين بأن أيامهم لا تدوم.
التاسعة عشرة : أختتمت آية البحث ببيان قانون وهو أن القرآن(موعظة للمتقين) وفيه بلحاظ آية السياق أمور:
الأول : إصابة المؤمنين بالجروح وتعرضهم للخسارة في معركة أحد موعظة وعبرة لأجيال المسلمين إلى يوم القيامة.
الثاني : جاءت آية السياق بصيغة الخطاب والشرط ولغة المضارع (إن يمسسكم) وفيه إشارة إلى إحتمال تجدد ذات الإصابة والضرر، وفيه آية في تحصيل الإستعداد النفسي عند المسلمين لتلقي الأذى والخسارة بصبر وتحد وثبات على الإيمان وتتوجه لغة الخطاب في الآية إلى المسلمين جميعاً وإلى يوم القيامة.
الثالث : إخبار آية السياق عن الضرر الذي لحق الكفار برد لغليل المؤمنين، وجعلهم يتوقون للنصر للضعف والوهن الذي لحق الكفار في معركة بدر وأحد والخندق، وإلى الآن ينشغل بعض أهل التفسير والتحقيق بخسارة المسلمين في معركة أحد، فأخبر القرآن عن خسارة الكفار، ليكون من أسرار بيان القرآن مسائل:
الأولى : التنبيه إلى أسباب ومقدمات الظفر عند المسلمين.
الثانية : مواساة المسلمين بذكر خسارة عددهم.
الثالثة : التخفيف عن المؤمنين في جراحهم.
الرابعة : إرتقاء المسلمين في سلم المعرفة ببيان المقارنة بينهم وبين عدوهم.
الخامسة : من معاني العلو الذي بلغ مرتبته المسلمون أن العاقبة والظفر لهم ما داموا لم يغادروا مقامات الإيمان، وجاء قوله تعالى(وليعلم الله) بالعطف ولام التعليل وتسمى لام (كي) أي من أجل العلم بالذين آمنوا، لبيان أن النصر أوالهزيمة , والربح أوالخسارة في معركة للمسلمين إمتحان وإختبار للمؤمنين، وفيه آية بأن من شرائط الإيمان الصبر في ميادين القتال.
وعن ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قلت: بلى: قال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإن الخلائق لو اجتمعوا على أن يعطوك شيئاً لم يرد الله أن يعطيكه لم يقدروا على ذلك، أو أن يصرفوا عنك شيئاً أراد الله أن يعطيكه لم يقدروا على ذلك، وأن قد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، فإذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وإذا اعتصمت فاعتصم بالله، واعمل لله بالشكر في اليقين، واعلم أن الصبر على ما تكره خير كثير، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)( ).
الرابع : من يطلع على تاريخ الغزوات والوقائع وما جرى يوم أحد قد يظن أن خسارة المسلمين يومئذ هي الأكبر بينما جاءت آية السياق بالمثلية في خسارة الكفار بقوله تعالى[قَرْحٌ مِثْلُهُ] مما يدل على أمور:
الأول : بيان القرآن دفع للوهم.
الثاني : في القرآن وتلاوة آياته حصانة ومنع من الشبهات.
الثالث : بيان الوقائع في القرآن وبرزخ دون الشماتة بالمؤمنين بغير حق.
الرابع : جهاد وقتال المسلمين موعظة وعبرة للناس.
ولم يدع كبراء قريش الظفر والنصر يوم أحد , كيف وقد بقيت دولة الإسلام قائمة في المدينة المنورة، وأقروا بعجزهم عن الوصول الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الخامس : تعاقب الناس على الرياسة والشأن، وتبدل أحوالهم أمور لا تتم إلا بمشيئة الله، وفيه موعظة وتذكرة لأرباب العقول وأهل النظر، وقد جعل الله سبحانه نزول الكتاب على موسى عليه السلام وإتباع بني إسرائيل له [هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ) ولا أحد يظن أن آل فرعون الذين إضطهدوا بني إسرائيل وأذاقوهم أشد العذاب يهلكون في ساعة من النهار بآفة مائية، ويغرقون دفعة بآية بحرية، وموسى عليه السلام وبنو إسرائيل ينظرون إليهم على الضفة الأخرى من البحر الأحمر، قال تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( ).
السادس : أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ] ( ) واختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : من أسباب عدم حب الله للظالمين إعراضهم عن الموعظة السماوية، وما في هذا الإعراض من الجهالة والغفلة وجلب للضرر للنفس.
الثانية : بيان التباين بين التقوى والظلم، وترشح مكارم الأخلاق وحسن السمت عن التقوى، ومن خصائص الذين يخافون الله بالغيب الإتعاظ من آيات القرآن .
الثالثة : دعوة الظالمين لنبذ الظلم وترك التعدي لأن الحياة لا تتقوم وتستديم إلا بحب الله، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ]( )، وكذا الآخرة فان المصير فيها يتعين بحب الله للعبد وأفعاله أو بغضه له ولأعماله، وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله ، فأما الذين يحبهم الله فرجل أتى قوماً فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة فتخلف رجل من أعقابهم فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم نزلوا فوضعوا رؤوسهم فقام رجل يتملقني ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية فلقي العدو فهزموا فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له وثلاثة يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم)( ).
الرابعة : الحسن الذاتي للتقوى لأنها وعاء مبارك ومقدمة لتلقي الموعظة، والقبح الذاتي للظلم وصيرورته سبباً لبغض الله للظالم لنفسه ولغيره .
وفي قوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] قيل أي المشركين، ولكن الآية أعم موضوعاً وحكماً ودلالة , قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : هذا بيان للناس وليمحص الله الذين آمنوا.
الثاني : هذا بيان للناس ويمحق الكافرين.
الثالث : هذا هدى وليمحص الله الذين آمنوا.
الرابع : هذا هدى وليمحص الكافرين.
الخامس : هذا موعظة للمتقين ليمحص الله الذين آمنوا.
السادس : هذا موعظة للمتقين ويمحق الكافرين.
الثانية : في الجمع بين آية البحث والسياق إخبار عن سنخية بيان القرآن, وأنه فيصل وفصل بين الذين آمنوا والذين كفروا , وتلك آية في بديع صنع الله بأن التمايز بين الناس يكون بتنزيل من السماء، وهو من أسرار بقاء القرآن سالماً من التحريف، فإن قلت إنما يكون التمييز في المقام بالقتال بدليل قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ].
والجواب هذا صحيح ولكن القتال أحد مصاديق الإمتحان والتمحيص والفصل والتمييز، وموضوع آية السياق أعم ويشمل ميادين الحياة المختلفة، وهل أداء الفرائض والعبادات من سبل الفصل والتمحيص، الجواب نعم، بلحاظ أن الفصل بين المؤمنين والكفار مستمر ومتصل إلى يوم القيامة فينقطع القتال، ويعيش المسلمون في أمن ورخاء ولكن التمحيص متجدد.
الثالثة : من بيان القرآن أن الإمتحان والإختبار يأتي بعد الإيمان، قال تعالى[أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( )، لقد أنعم الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون طريقاً إلى الجنة والنعيم الدائم بالتصديق برسالته والعمل بالأحكام التي جاء بها من عند الله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابعة : لقد جعل الله عز وجل القرآن حجة على الناس بمضامينه القدسية وأحكامه وسننه، قال تعالى[لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ]( )، فجاءت آياته بصيغة البيان لما جاء به الرسل ليفوز المسلمون بتطهيرهم من الذنوب والأدناس لإخلاصهم في إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله، ونفرهم إلى ميادين القتال دفاعاً عن الإسلام.
الخامسة : ذكرت آية البحث أن القرآن بياناً للناس، وجاءت آية السياق بالتفصيل في الناس وتقسيمهم إلى مؤمنين وكفار، ومن الإعجاز في بيان القرآن أنه لم يقف عند التفصيل بل بيّن حال المؤمنين وما ترد عليهم من الزيادة في الهدى والفضل والثواب، وحال الكافرين وما يصيبهم من النقص والخسارة.
السادسة : مع إخبار الآية السابقة عن تبادل الناس للأيام بأذن ومشيئة من عند الله، بقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] فقد أخبرت آية السياق عن النقص والخسارة التي تصيب الكافرين، مما يدل على عدم تحقق النصر والغلبة للكفار حتى في معركة أحد، وعلى فرض تحقيقهم النصر في المعركة فإن الآية تدل بأن الخسارة تلاحقهم وتأتيهم فيما بعد , إن إنتصار المسلمين في معركة الإسلام الأولى (بدر) لها موضوعية وأثر في حالات وهي:
الأولى : الخروج إلى معركة أحد لقتال الكفار.
الثانية : إمتلاء نفوس المسلمين بالعز ومبادرتهم إلى طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج لمعركة أحد، قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، وفي الآية أعلاه دلالة على أمور:
الأول : تهيء المسلمين للقتال بعد صلاة الصبح وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حينما خرج من بيته وجدهم على أهبة الإستعداد للتوجه إلى ميادين القتال , وقيل أن الخروج كان بعد صلاة الظهر , وهو ضعيف.
الثاني : تدل الآية بأن النبي محمداً صلى الله وآله وسلم لم يرسل الوفود ويكثر من الخطاب وصعود المنبر يومئذ لندب المسلمين للقتال، ولم تدق طبول المعركة في المدينة المنورة وهو من مصاديق نعت الصحابة وأهل البيت بالمؤمنين في الآية أعلاه ومن الشواهد الجهادية على قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : إستدامة إمتثال الصحابة لأوامر النبي في تنظيم صفوفهم ومنازلهم في القتال، وكان الجيش يسمى (الخميس) لأن الجَيْشُ الجَرَّارُ لَهُ خَمْسٌ : الْمُقَدِّمَةُ وَالقَلْبُ وَالْمَيْمَنَةُ وَالْمَيْسَرَةُ وَالسَّاقَةُ .
قالت ليلى:
حتى إذا رفع اللواء رأيته تحت اللواء على الخميس زعيما)( ).
وفي ترتيب وأسماء العساكر ورد عن ابن خالويه: أقل العساكر الجريدة وهي قطعة جردت من سائرها لوجه ثم السرية، وهي من خمسين إلى أربعمائة ثم الكتيبة، وهي من أربعمائة إلى الألف ثم الجيش، وهو من ألف إلى أربعة آلاف وكذلك الفيلق والجحفل ثم الخميس، وهو من أربعة آلاف إلى اثني عشر ألفاً والعسكر يجمعها)( ).
وعلى هذا التقسيم يكون جيش المسلمين يوم أحد كتيبة وهذا لأنه أقل من ألف، وجيش كفار قريش جيش لأنه ثلاثة آلاف فرد , وهذه العصبة من المؤمنين غيرت وجه التأريخ بإشراقة إيمانية وخسارة للكفار.
الثالثة : لقد أخبر القرآن عن نصر المسلمين في معركة بدر وهم في حال من الذل والقلة ونقص المؤون، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وفيه وجوه:
الأول : بقاء المسلمين في منازل الذلة حتى بعد إنتصارهم في المعركة.
الثاني : إنتقال المسلمين إلى مراتب العز بالنصر في معركة بدر.
الثالث : إزدياد حال النقص والقلة عند المسلمين بلحاظ تترتب الخسارة على الطرفين في المعركة، وقد تكون خسارة الطرف المنتصر هي الأكثر سواء في الأفراد أو المعدات والمؤون أو فيها مجتمعة.
الرابع : إنتفاء وإنقطاع حال الذل التي كان عليها المسلمون دون أن ينتقلوا إلى حال العز.
والصحيح هو الثاني من جهات:
الأولى : موضوعية النصر في تغيير حال المسلمين إلى الأحسن.
الثانية : مجيء النصر من عند الله[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] وإذا وهب الله فإنه يهب بالأتم والأكمل لذا كانت خسارة المسلمين قليلة وغنائمهم كثيرة.
وليكون الإنتقال إلى منازل العز والقوة والمنعة من مصاديق تمام النصر الإلهي.
الثالثة : ذكر الآية لحال الذل بصيغة الزمن الحال (وأنتم أذلة)ليدل بالدلالة التضمنية على إنقطاع حال الذل بالنصر، وأن الآية توثيق وتذكير للمسلمين بأجيالهم المتعاقبة لحال الذل في معركة بدر ولولا الآية أعلاه لأنكر بعضهم حال الضعف والقلة عند المسلمين يوم المعركة ولإستدل على هذا الإنكار بقوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وإن كان التضاد أو التعارض منعدماً بين عز المؤمنين وحال الذل التي يراد منها القلة والنقص.
ويحتمل متعلق الذلة عند المسلمين وجوهاً:
الأول : الذلة والنقص بالمقارنة إلى كثرة الكفار ومؤونهم وكان عدد المسلمين يوم بدر ثلاثمائة عشر رجلاً ولم يكن معهم إلا فَرَسان، وقيل فرس واحد، وكان عدد المشركين أكثر من تسعمائة وعندهم مائة فرس فسقط سبعون من المشركين، وأسر مثلهم.
الثاني : الذلة الذاتية وإدراك المسلمين لقلة عددهم ونقص مؤونهم.
الثالث : إرادة بدايات الإسلام وتأسيس صرح الدولة الإسلامية.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة لتكون مجتمعة ومتفرقة من مصاديق آية البحث من وجوه:
الأول : بيان التباين في حال المسلمين قبل وأثناء وبعد معركة بدر.
الثاني : دعوة العلماء والباحثين لدراسة الإنتقال النوعي للمسلمين في معركة بدر نحو مقامات الرفعة والقوة وتثبيت العقيدة في الأرض .
الثالث : بيان موضوعية وأثر وبركة نزول الملائكة لنصرة المسلمين يوم بدر، وإشتداد قلوب المسلمين إلى هذا المدد المعجزة وكيف أنهم نزلوا يومئذ بعمائم بيضاء إلا جبريل فإنه كانت عمامته صفراء وقيل كانت عمائمهم صفر)( ).
الرابع : البيان والكشف لأحياء العرب بصيرورة المسلمين في حال العز وذهاب حال الضعف عنهم، وفيه ترغيب للقبائل العربية لدخول الإسلام وهو الذي تجلى بعدها واضحاً بشواهد عديدة منها, خاصة بعد صلح الحديبية.
الخامس : البيان لأهل الكتاب في المدينة والجزيرة العربية بعز ومنعة ونصر المسلمين , وكان في المدينة المنورة من اليهود كل من قبيلة بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع , لقد كان نصر المسلمين يوم بدر زيادة في إيمان المسلمين، وسبباً لهداية كثير من الناس، فإن قلت القدر المتيقن من موضوع الآية هو إرادة القرآن من اسم الإشارة في قوله تعالى(هذا بيان للناس) والجواب نعم .
ومن البيان والهدى آية (ببدر) أعلاه ومدرسة توثيق إنتصار المسلمين فيها، وصيرورة موضوعها ونتائجها موعظة وعبرة للناس.
السادس : لقد كانت معركة بدر موعظة للمسلمين من جهات:
الأولى : إن الله عز وجل ناصرهم وممدهم بالملائكة.
الثانية : معركة بدر ونتائجها شاهد على صدق نبوة محمد لتحقيق النصر بالمعجزة.
الثالثة : بعث السكينة في نفوس المسلمين.
الرابعة : دعوة المسلمين للإستعداد للمعارك القادمة كما في معركة أحد والخندق.
الخامسة : صدور المسلمين عن القرآن , وما يتضمنه من الأوامر والنواهي.
السادسة : حث المسلمين على طاعة الله ورسوله، وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته القولية والفعلية، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( ).
السابعة : من خصائص البيان القرآني تعدد مصاديقه ومضامينه ومجيؤها بصيغة العطف ب(الواو) الذي جاء في هذه الآيات على النحو الآتي:
الأول : ورود(الواو) مرتين في آية البحث مع قلة كلماتها.
الثاني : مجيء حرف العطف (الواو) ثلاث مرات في الآية التالية.
الثالث : مجيء الواو أربع مرات في آية (ان يمسسكم قرح).
الرابع : ورود حرف العطف (الواو) مرتين في آية السياق.
الثامنة : من الهدى الذي يتصف به القرآن أن آية السياق مدرسة في الصلاح وجذب الناس لمنازل الإيمان بإخبارها عن تفضل الله بإبتلاء المسلمين ليكون هذا الإبتلاء مقدمة ونوع طريق لتطهيرهم من الذنوب وتبعاتها، وفي التنزيل[وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً]( ).
التاسعة : يأتي تمحيص وتخليص وتطهير المؤمنين بلحاظ آية البحث والآيتين التاليتين على وجوه:
الأول : بيان القرآن.
الثاني : ما في القرآن من الهدى.
الثالث : مواعظ القرآن تنقية لأفعال المسلمين، وتنزيه لمجتمعاتهم ودعوة لهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : منع المسلمين من بلوغ مرتبة الضعف والوهن، بقوله تعالى(ولا تهنوا)( )، والذي يدل بالدلالة التضمنية على بعث الشجاعة في نفوس المسلمين، وإمتلائها بعزائم التضحية والفداء دفاعاً عن كلمة التوحيد.
الخامس : تفضل الله بنهي المسلمين عن الحزن والحسرة على ما فاتهم، وفيه دعوة لهم للعمل للمستقبل وكيفية مواجهة الأعداء، فلو إنشغل المسلمون بخسائر أحد فقد لا يستطيعون مواجهة الكفار في معركة الخندق.
فأراد الله عز وجل تنزيه المسلمين من العقود والإنشغال بالبكاء على القتل، ومن الآيات أن الحمزة من القتلى يوم أحد، ليكون صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على عمه وإنقطاعه إلى العبادات وبناء صرح دولة الإسلام دعوة للمهاجرين والأنصار وعوائلهم للصبر، وبناء صرح الدولة الإسلامية.
وعن نافع وعن ابن عامر: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ بِنِسَاءِ عَبْدِ الأَشْهَلِ يَبْكِينَ هَلْكَاهُنَّ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَكِنَّ حَمْزَةَ لاَ بَوَاكِىَ لَهُ فَجَاءَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ يَبْكِينَ حَمْزَةَ فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: وَيْحَهُنَّ مَا انْقَلَبْنَ بَعْدُ مُرُوهُنَّ فَلْيَنْقَلِبْنَ وَلاَ يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ)( ).
فقد ذكّر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمصيبته بعمه ثم دعاهم للصبر والتأسي ورجاء الثواب ليجتهد المؤمنون والمؤمنات في تعاهد دولة الإسلام، ليكون من معاني آية السياق تمحيص المسلمين وتطهيرهم من الضعف والحزن وآثارهما مجتمعين ومتفرقين وإرادة المعنى الأعم للتمحيص وليصير هذا التطهير مقدمة لسلامتهم منهما يوم القيامة بقوله تعالى[وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادس : نعت المسلمين بأنهم الأعلون تطهير لهم من المراتب الأدنى في المجتمع وبين أهل الملل، وروى شداد بن آوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله”)( ).
السابع : بلوغ المسلمين مرتبة الإيمان تطهير لهم من دنس الشرك والضلالة، وكانوا يزدادون إيماناً مع الجراح في المعركة، ويتفانون في سبيل الله، وتتجلى بينهم روح الإيثار المقترنة بحب الشهادة.
الثامن : إصابة المسلمين بالجراح، وسقوط بعضهم شهداء في ساحات معركة بدر وأحد والخندق تمحيص للمسلمين، وإبتلاء وإمتحان وشاهد
على ثبوتهم في منازل الإيمان، لذا ورد قوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
وخوض المسلمين معارك الجهاد تنمية لملكة الإيمان عندهم ، وتنزيه لهم من الإرتداد والنكوص والغواية.
التاسع : إصابة الأعداء من الكفار بالخسارة والإنكسار في سوح المعارك تطهير للمسلمين من الشك، لأن هذه الإصابة معجزة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتباين في العدد والمؤون ورجحان كفة الكفار فيهما.
العاشرة : في دوران السلطان والنصر والغلبة بين الناس سواء بقتال أو بدون قتال أمور:
الأول : تمحيص وإمتحان المسلمين.
الثاني : حث للمسلمين على الدعاء والصبر والشكر لله على كل حال.
الثالث : بعث المسلمين للسعي للظفر والغلبة وعدم اليأس والقنوط، ليكون عدم هوان أو ضعف أو حزن المسلمين مقدمة وطريقاً لعز المؤمنين في أيامهم وما فيه من أسباب الهدى لهم وللناس وتطهيراً من الذنوب بسيادة سنن التقوى والصلاح.
الرابع : تقلب وتصريف السلطان والشأن بين الناس مناسبة لإظهار المسلمين الصبر والتحمل والرضا والتسليم بأمر الله.
الخامس : ترتب الثواب للمسلمين في حال الغلبة والنصر أو الخسارة وإنصراف النصر عنهم والإدالة عليهم، وسمع بعض العرب الأَقحاح قارئاً يقرأ هذه الآية، فقال: إنما هو، وتلك الأيام نداولها بين العرب، فقيل له: إنما هو بين الناس فقال: إنّا لله، ذهب ملك العرب ورب الكعبة)( ).
وبين آية البحث والآية أعلاه في نظم القرآن آية واحدة، ليكون لفظ(الناس) في كل من الآيتين من إعجاز القرآن وشاهداً على اللغة العالمية في خطابات القرآن ودعوة المسلمين مجتمعين ومتفرقين إلى السعي لمراتب العز والظفر، قال تعالى[أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
السادس : رجحان كفة المسلمين بالإيمان والصبر والمثابرة والأمل والتي كان لها موضوعية في إنتصار المسلمين يوم بدر وأحد والخندق خصوصاً وأنها خصال يفتقر لها الكفار ومن مصاديق قوله تعالى[كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
السابع : عدم ركون المسلمين إلى الدنيا لإتصاف أيامها بالتقلب بمشيئة الله، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)( ).
الحادية عشرة : تجلي منافع الإيمان والهدى بقوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] أي ليبارك لهم في معاشاتهم ويكتب لهم السكن الدائم في النعيم، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا]( ).
الثانية عشرة : لقد أدرك المسلمون أن الله عز وجل يراهم وما يعملون من الصالحات لذا فهم يبادرون إلى فعل الخيرات، ويتسابقون فيها , حباً لله وإرادة لقصد القربة، قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
الثالثة عشرة : تفضل الله عز وجل بإختيار المسلمين للشهادة على الناس دليل على بلوغهم مرتبة الهدى والعدالة التي تؤهلهم لقول الحق والفصل بينه وبين الباطل.
الرابعة عشرة : إخبار القرآن عن بغض الله عز وجل للظالمين دعوة للناس للهدى والصلاح، وتبين آيات القرآن قانوناً وهو أن الظلم برزخ دون دخول الجنة، فلا يدخلها الذي باء بغضب وسخط من الله.
ومن أسرار خلق الإنسان أن النفوس تنفر من الظلم والظالمين، قال تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ),
وتدل الآية أعلاه على سوء عاقبة الظالمين، وفيه مسائل:
الأول : بغض الله للظالمين سبب لدخولهم النار.
الثاني : من القوانين في الإرادة التكوينية الملازمة بين الظلم ودخول النار.
الثالث : لا يبغض الله العبد إلا بعد تلقيه البيان وأسباب الهدى وإصراره على الظلم والتعدي.
ولا تعارض بين هذه الوجوه لقبح الظلم ولأنه خلاف علة خلق الإنسان وآداب العبودية في ذاته وأثره.
الخامسة والعشرون : إخبار آية السياق عن تمحيص وإختبار وتطهير المسلمين يبعث المسلمين على المسارعة في سبل الصلاح، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
ومن وجوه تمحيص المسلمين بلحاظ هذه الآيات وجوه:
الأول : تداول الأيام بين الناس، ومن مصاديق التمحيص التوجه إلى الدعاء خاصة وإن الآية ذكرت تداول الأيام على نحو الإجمال، مما يدل على إمكان حصول السعة والزيادة في أيام سلطان وعدد مرات ظفر المسلمين، ووقوع الخسارة والنكسة عند الكفار والنقص في أيام سلطانهم , قال تعالى[َيمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثاني : سقوط الشهداء إصابة عدد من المسلمين بالجراح في المعركة.
الثالث : الأضرار التي لحقت الكفار حين تعديهم على الإسلام والمسلمين.
الرابع : تمحيص وتطهير المسلمين ببيان القرآن وما فيه من الهدى.
الخامس : من فضل الله عز وجل أن جعل القرآن موعظة لتكون عوناً للمؤمنين في مناهج الهدى، ومدداً في معرفة سبل الصلاح والفصل والتمييز بينها وبين مسالك الضلالة التي يتنزه عنها المؤمنون.
وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على فترة وفتور في الحق والدعوة إليه، وسمي زمان الفترة قبل الإسلام الجاهلية الجهلاء، وقيل فيه مبالغة ويكفي وصف الجاهلية ولكن الجهالة المطبقة تترشح من الإقامة على الكفر والجحود وعادات الوأد والغزو ونحوها.
وإبتدأت آية السياق[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ]( ) بلغة الجملة الخبرية، ثم إنتقلت إلى صيغة الجملة الإنشائية، ومن أسرار إخبار الآية عن إنقضاء سنن وملل في الأرض أنها تؤدي ذات وظيفة الإنشاء والأمر، مع فارق وهو إنتفاع المسلمين من صيغة الخبر في الآية من غير أن يبذلوا جهداً بدنياً أو ينفقوا أموالاً لإقتباس الدروس من حقيقة تعاقب الأمم على الأرض.
صلة (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ( ) بآية ( كنتم خير أمة..) وفيها مسائل :
المسألة الاولى : تقدير الجمع بين الآيتين وبيان المائز بين المسلمين والذين كفروا بالتنزيل على وجوه:
الأول : كنتم خير أمة ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون .
الثاني : تأمرون بالمعروف ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
الثالث : تنهون عن المنكر ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
الرابع : تؤمنون بالله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
الخامس : يقولون على الله الكذب , ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراَ لهم.
وإذ يعلم الذين يحرفون الكتاب بأن نسبته إلى الله غير صحيحة, فإن الجمع بين الآيتين يفيد أن المسلمين صاروا يعلمون بهذه الحقيقة, وأن الناس جميعاَ في معرض العلم بها , وهو من إعجاز القرآن الغيري بأن تتجلى للناس الأمور على حقيقتها, وفي فضح الكذب على الله رحمة بالناس جميعاَ من وجوه :
الأول : ما يتعلق بأهل الكتاب وهو على شعب :
الأولى : التنزه مما يفتريه فريق منهم على الله.
الثانية : حث أهل الكتاب على الإخبار عما هو حق وصدق ,وبيان ما تضمنته التوراة والإنجيل من البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم .
الثالثة : بعث الناس لدخول الإسلام , والوفاء بالميثاق والعهد بالتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم , قال تعالى (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ) ( )
الثاني : ما يتعلق بالذين يكذبون على الله , وهو على وجوه :
الأولى : إنذار الفريق الذي يكذب على الله .
الثانية : زجرهم عن الإقامة على التحريف.
الثالثة : دعوتهم للتوبة والإنابة, وتأتي هذه الدعوة تصريحاَ وكناية وإشارة, ومن مصاديقها آية البحث.
الرابعة : بعث الوهن في نفوسهم, وجعلهم يدركون أضرار هذا التحريف على الذات, وعدم حصول إفتتان الناس بهذا الكذب , قال تعالى (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ( ) .
وفي الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث بيان لرحمة الله عز وجل بالظالمين بالحياة الدنيا, وإقامة الحجة عليهم, ودعوة المسلمين وإمهالهم للسعي في هدايتهم, فالذين يزاولون الظلم لا يتركهم الله وشأنهم بل تفضل وأخرج (خير أمة) ليكون من وظائفها في المقام أمور:
الأول : إظهار التصديق والنصرة للنبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم.
الثاني : توكيد البشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل عن نبي آخر زمان , وإنها موافقة للنبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم.
الثالث : قيام (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ( ) بأمر أهل الكذب والتحريف بالمعروف, ودعوتهم للتوبة والإنابة .
الرابع : زجر المسلمين لأهل الكذب عن الفسوق والمعصية .
الخامس : جهاد المسلمين في سبيل الله.
السادس : تحذير المسلمين الناس من الإصغاء للذين يكذبون على الله وهو من عمومات قوله تعالى (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) ( )فمن مصاديق الآية أعلاه تعدد صيغ الدعوة والخطاب الرسالي للناس في الموضوع الواحد, فالموضوع هو قيام فريق من أهل الكتاب بالكذب على الله, أما الخطاب فمتعدد ومتباين وجامع لصيغ البشارة والإنذار والتحذير وكشف الحقائق .
وهل كل صيغة خاصة بفريق وطائفة من الناس , فمثلاَ إختصاص الفريق الذي يكذب على الله بلغة الإنذار.
الجواب : لا , فإن كل فريق وجماعة وأمة تنتفع من تلك الصيغ على نحو الإجتماع والتفرق, نعم تتباين درجة النفع من كل صيغة بين كل فريق وآخر لذا قال الله تعالى في وصف القرآن وبيان إعجازه وتعدد منافعه (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) ( ).
لذا فإن الآية تكون بياناَ وموعظة وإنذاراَ وحجة في ذات الوقت, وهو من إحاطة كلمات القرآن المحدودة باللامتناهي من الوقائع والأحداث .
الثالث : ما يتعلق بالناس من غير أهل الكتاب من جهات :
الأولى : تحذير الناس من الكذب على الله , وبيان أمر وهو وجود كذب على الله بين الناس , فلابد من الحيطة والحذر منه .
الثانية : تذكير الناس بالله عز وجل , ولزوم التنزه عن الكذب عليه .
الثالثة : دعوة الناس للرجوع إلى القرآن , فهو الفاضح للكذب على الله عز وجل .
الرابعة : وقاية الناس من الإنصات لأهل الكذب , فمن الآيات في المقام تعيين الذين يكذبون على الله , وفيه نفي للجهالة والضرر. وبرزخ دون اللبس على الناس, ولم يأت القرآن برمي فريق من المسلمين بتحريف الكتاب, وفيه مسائل :
الأولى : سلامة القرآن من التحريف, فقد جعل الله عز وجل القرآن (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ( ) ومنه بيان عصمة القرآن من التحريف.
الثانية : الإخبار عن تنزه(خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ( ) من تحريف القرآن, وهذا التنزه يتغشاهم مجتمعين ومتفرقين, وفيه زجر ومنع من رمي بعضهم بتحريف القرآن .
الثالثة : تسليم الناس بصدق ما يتلوه المسلمون من الكتاب والتنزيل, وهو أمر يحتاجه المسلمون والناس جميعاَ , ليقتفي المسلمون أثر النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم الذي كان يسمى قبل البعثة (الصادق الأمين) فحينما بعثه الله عز وجل إستصحب الناس صدقه وأمانته ,وتلقوا إعلان نبوته بالتصديق , ولم يأت هذا الإعلان مجرداَ بل إقترن بتتابع المعجزات , والإستصحاب أمر عقلي يلجأ له الناس بالفطرة , قبل أن يكون مبحثاَ أصولياَ .
الرابع : ما يتعلق بالمسلمين والمسلمات , وهو من جهات :
الأولى : تفقه المسلمين في الدين ومعرفة وجود فريق من الناس يحرف الكتاب وينسب ما يأتي به الى الله عز وجل.
الثانية : بعث المسلمين لحفظ القرآن والخشية عليه من يد التحريف, ليكون تعاهد كلمات وآيات القرآن جهاداَ في سبيل الله , ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومن الآيات في سيرة (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)( ) أنك لم تجد من يترك العناية بالقرآن بحجة أنه محفوظ وفي مأمن مع إدراكهم جميعاَ أنه كذلك, وأنى يأتي الترك وهم متقيدون بوجوب تلاوته خمس مرات في اليوم, وليس من آية في القرآن تستثنى من التلاوة.
الثالثة : إكتفاء المسلمين بما في أيديهم من التنزيل , وقيامهم بالعمل بأحكام القرآن وما فيه من السنن , وترك أهل الكذب على الله , على النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقاً لم تكذبوهم، وإن كان باطلاً لم تصدقوهم)( ).
ليكون هذا الحديث تفسيراَ عملياَ لآية السياق, لأن الكذب لم يصدر من عموم أهل الكتاب وإنما جاء من فريق منهم, فكانت الحيطة مما يقولون وقاية من الكذب على الله , ومنعاَ من الإفتتان بأهله والإنشغال بالجدال فيه , ورد لمغالطات أهل الشك.
المسألة الثانية : قد تقدم في تفسير آية السياق ذكر خمسة عشر وجهاَ لقوله تعالى[وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ) , وبلحاظ آية البحث تتجلى معان أخرى منها:
الأول : يعلم الذين يقولون الله على الكذب أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وأنهم نالوا هذه المرتبة بالتنزه عن الكذب على الله.
الثاني : يعلمون أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم كاشفة للكذب على الله عز وجل.
الثالث : إنقطاع حبل الكذب على الله بنزول القرآن وبقائه كتنزيله مع تعاقب الدهور.
الرابع : يعلمون بتلاوة المسلمين والمسلمات لآية السياق , والذم الصريح للكذب على الله.
السادس : يعلمون أن المسلمين يأمرون بالمعروف , ولزوم الرجوع الى التنزيل والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم الواردة في الكتب السماوية السابقة .
السابع : يعلمون أن المسلمين ينهون عن المنكر, ومنه تحريف الكتب السابقة , قال تعالى [يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ]( ) وليس من إنقطاع نهي المسلمين عن المنكر أو حصول فتور في هذا الباب, فهم دائبون في النهي عن المعاصي والذنوب والإفتراء على الله.
الثامن : يعلمون أن فريقاَ من أهل الكتاب يعترفون بالبشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم في التوراة والإنجيل, ويتنزهون عن الكذب على الله لقوله تعالى (مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ) ( ) ويدركون حقيقة وهي أن الكذب على الله عداوة له وأنه سبحانه يفضح أعداءه وينتقم منهم في الدارين .
إعجاز الآية
لما وصفت الآية الكريمة القرآن بأنه بيان للناس فقد يقول القائل بأن البيان هو التوضيح والكشف والإخبار ولا يدل بالنص على الصدور عن القرآن، والجواب من وجوه:
الأول : جاءت الآية بعطف الهدى على البيان، والتقدير: هذا هدىً، وفيه نكتة بأن القرآن بذاته هدىً ويقود إلى الهدى ويمنع من الضلالة، فلو لم يقصد الإنسان الهداية بالإستماع إلى القرآن، أو أنه يسمع عرضاً وقهراً فإن الهدى يأتيه طوعاً أو كرهاً , وفي المقصود من قوله تعالى (هذا هدى ) أنه القرآن وقد ورد مطلقا لإفادة أن المراد عموم الناس , ولكن الكافرين حجبوا عن أنفسهم الإنتفاع منه لدنياهم وآخرتهم.
ومن إشراقات الآية القرآنية التي جعلها الله تتصف بخصوصية مخالطة شغاف القلب والحضور في الوجود الذهني.
الثاني : بيان القرآن أعم من التوضيح والكشف عن الوقائع، فيدل بالدلالة التضمنية على إرادة هداية الناس إلى سبل الصلاح والصدور عن القرآن.
الثالث : إرادة الإطلاق في معاني البيان التي يفصح عنها القرآن في أحكام الشريعة وطريق النجاة في النشأتين، وكنوز البيان في القرآن على وجوه:
الأول : كل آية من القرآن بيان مستقل بذاته.
الثاني : مجموع آيات القرآن بيان.
الثالث : كل سورة من القرآن بيان.
الرابع : كل شطر من آية بيان، وكلمات كل شطر تنقسم من جهة الإضافة إلى المتعدد من الشطر ففي آية البحث مثلاً يأتي اسم الإشارة مع كل طرف منها فيصح أن يقال: هذا بيان للناس، هذا هدىً، هذا موعظة للمتقين.
الخامس : البيان في الجمع بين كل آيتين من القرآن.
السادس : البيان والدلالة في الجمع بين شطرين من آيتين من آيات القرآن , كما في مبحث سياق الآيات الذي أسسناه في تفسير كل آية في هذا السفر المبارك.
السابع : الجمع بين ثلاث آيات أو أكثر من القرآن، ليكون ذات الجمع من المتعدد الذي يصعب إحصاؤه بلحاظ الجمع الثنائي بين ستة آلاف وثلاثمائة وست وعشرين آية.
وجمع الآية منه مع كل آية من آيات القرآن الأخرى، وإستقراء وجوه البيان وإستخراج كنوز الدلالة من كل وجه من الوجوه أعلاه، كنز علمي باهر، وهو من الشواهد العملية على إمكان بلوغ أجزاء التفسير وفق هذه المنهجية الملايين لبيان أن ذخائر القرآن من اللامنتهي، ودعوة الناس للنهل من علومه وأن يأخذوا ما يتزودون به لحاجات الدنيا والآخرة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
ومن الإعجاز في آية البحث أن وصف القرآن بالهدى جاء متعقباً لنعته بأنه بيان للناس، وهو آية في اللطف الإلهي من وجوه:
الأول : إن الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم فلم يجعل الآية القرآن بياناً للمؤمنين وحدهم ولا خصوص عموم المسلمين والمسلمات، بل جاء بياناً للناس جميعاً , وهل يشمل المعاصرين من المكذبين الذين ذكرتهم الآية السابقة[فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( )، الجواب نعم.
ومن فضل الله عز وجل بآية البحث على قريش والذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فواجه ظلمهم وتعديهم وزحفهم على المدينة أمور:
الأول : البيان القرآني بأن عاقبتهم هي الفناء والهلاك، وتركهم منتدياتهم وأموالهم قهراً مع الذل والخزي لهم كما حصل في معركة بدر، فلا أحد من قريش يظن أن أبا جهل وأقطاب الكفار يقعون قتلى في بدايات معركة بدر، وتكون مصارعهم موعظة وعبرة.
قال ابن هشام: وَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَئِذٍ يَرْتَجِزُ وَهُوَ يُقَاتِلُ وَيَقُولُ:
مَا تَنْقِمُ الْحَرْبُ الْعَوَانُ مِنّي بَازِلُ عَامَيْنِ حَدِيثٌ سنى
لِمِثْلِ هَذَا وَلَدَتْنِي أُمّي)( ).
وقال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة( ) وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، أي لما يمكن الوصول إليه وإصابته لأنها محاط بالحراس والجند.
وقال عبد الرحمن بن عوف: إني لواقف في الصف يوم بدر . فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال أي عم هل تعرف أبا جهل قلت نعم فما حاجتك إليه يا ابن أخي. قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فو الذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا فتعجبت لذلك .
قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه قال فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: هل مسحتما سيفكما؟
فقالا: لا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال كلاكما قتله وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لهما والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء)( ).
الثاني : مبادرة الصحابة لتلبية نداء الجهاد والدفاع عن بيضة الإسلام، مع قلتهم والنقص في أسلحتهم وعدتهم ورواحلهم، وبخصوص معركة أحد قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
الثالث : يأتي البيان في القرآن من وجوه:
الأول : مجيء القرآن بالبيان الواقي من الفتنة والضرر، وبالحرز من إتباع الطغاة الماردين والعتاة المستكبرين.
الثاني : تفضل الله وجعل ذات القرآن بياناً يوضح بما لا يقبل الإجمال أو اللبس سنخية الأفعال وما يترتب عليها من الجزاء والثواب.
الثالث : ترشح البيان والوضوح عما في القرآن من البيان بما يجعل سلسلة البيان من العلوم المتجددة والكنوز التي تفيض بينابيع الحكمة من لفظه الوجيز، (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوتيت جوامع الكلم)( ).
ويولي العرب عناية خاصة بالشعر وهو الكلام الموزون الذي ينتهي كل بيت منه بقافية تشبه السابقة وقيدناه بأكثر من بيت لجواز مجيء سطر واحد بوزن، والشعر ديوان العرب وبه وثّقت الوقائع والأيام وحفظت الأنساب، وأخبر عن المآثر، وهو الحجة في اللغة، وكلام العرب: شعر منظوم وكلام منثور.
وكل واحد منهما على مراتب، فإذ تساوت المرتبة في البلاغة والبيان فإن الشعر هو الأحسن ومع كثرة المنثور في الخطب والمنابر والمعارك وكلام العرب فإن الشعر الأكثر حفظاً وتداولاً بين الناس، مما جعل العرب تولي عناية بالشعر وتذكره في منتدياتها وتتخذه شاهداً ومثلاً، فتفاخرت القبائل العربية بالشعراء من أبنائهم لأنهم يذبون عن أعراضهم، ويبالغون في كرمهم وشجاعتهم ويذكرون سجاياهم الحميدة بأبيات من الشعر طارت بها أسماؤهم تتلقى بذاتها القبول عند الناس.
وقال ابن رشيق: وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنَّأتها بذلك وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبْن بالمزَاهر كما يصنعن في الأعراس وتتباشر الرجال والولْدَان لأنه حماية لأعراضهم وذَبٌّ عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادَةٌ لذكْرهمْ وكانوا لاَ يهنئون إلاّ بغلام يولد أو شاعر ينبغ فيهم أو فرس تُنتج)( ).
وجاء القرآن في لغته منثوراً لكنه من سنخية سماوية يفوق في بلاغته وبيانه أشعار العرب مجتمعة إذ أصبح العرب في إندهاش وذهول وإنقياد عند سماع آيات القرآن.
ولعل كثيراً من القصائد لعرب الجاهلية سقطت وأعرض الناس عن ذكرها والإستشهاد بها لعشقهم وإنقطاعهم للقرآن وحتى المعلقات السبعة فأنها جمعت في منتصف القرن الثاني الهجري , جمعها حماد الراوية وهو مولى لابن زيد الخيل الطائي , وسمي الراوية لكثرة الشعر الذي يرويه (كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها واشعارها ولغاتها وهو الذي جمع السبع العلقات الطوال)( ).
وتوفى حماد سنة خمس وخمسين ومائة للهجرة، وعن ابن خلكان إنه أدرك أول خلافة المهدي في سنة ثمان وخمسين ومائة للهجرة.
ومن معجزات القرآن إنفراده بخصوصية بأن يكون منثوره أفضل وأسمى من الشعر بمراتب لا تحصى فالقرآن ليس من جنس المنثور في مقابل الشعر، بل هو نظم سماوي ليس له نظير أو مثيل في لغته ونظمه وبيانه ودلالته ومعاني الحكمة فيه لذا وصفته آية البحث بصفات ثلاثة يتخلف الشعر عنها وهي:
الصفة الأولى : القرآن بيان للناس مطلقاً مع إختلاف وتعدد ألسنتهم، والشعر يتذوقه العرب بل شطر منهم , أما القرآن فتنصت له باصغاء وتدبر الشعوب والأمم المختلفة.
الصفة الثانية : القرآن هدى، وهذا الوصف ينبسط على كل آية ولفظ من القرآن، ومن خصائص هدى القرآن وجوه:
الوجه الأول : تغشي الهدى القرآني لأفراد الزمان، فحالما ينزل به الملك بالتنزيل ويتلوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكون ضياء هداية وطريق صلاح، وهل القرآن هدى قبل نزوله , الجواب نعم من جهات:
الأولى : بشارة الأنبياء السابقين بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وورد عن موسى عليه السلام في العهد القديم: يُقِيمُ لكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لهُ تَسْمَعُونَ. حَسَبَ كُلِّ مَا طَلبْتَ مِنَ الرَّبِّ إِلهِكَ فِي حُورِيبَ يَوْمَ الاِجْتِمَاعِ قَائِلًا: لا أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِي وَلا أَرَى هَذِهِ النَّارَ العَظِيمَةَ أَيْضًا لِئَلا أَمُوتَ، قَال لِيَ الرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلمُوا. أُقِيمُ لهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلكَ وَأَجْعَلُ كَلامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الذِي لا يَسْمَعُ لِكَلامِي الذِي يَتَكَلمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ)( ).
والمراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس عيسى عليه السلام لوجوه:
الأول : مجئ النبي من غير بني إسرائيل لقوله(من وسط أخوتهم) وعيسى عليه السلام ملحق ببني إسرائيل السلام بواسطة أمه مريم، وإلى الآن يحسب اليهود الإنسان منهم نسبا إذا كانت أمه منهم، وكما في كعب بن الأشرف فهو من قبيلة طي ولكنه بلغ الرئاسة في بني إسرائيل لأن أمه يهودية.
الثاني : إتصال البشارة بواسطة عيسى عليه السلام كما ورد على لسانه في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
الثالث : الدلالة على نزول القرآن (وأجعل كلامي في فمه) وإختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلقيه وتلاوته.
الرابع : قول موسى عليه السلام (فيكلمهم بكل ما أوصيه به) وفيه وجوه:
الأول : تجلي المصداق الخارجي لهذا القول بتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكل آيات القرآن على المسلمين.
الثاني : إنه من الشواهد على أن القرآن بيان للناس، لما فيه من تفسير وتصديق لقول موسى عليه السلام، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
الثالث : إرادة الحديث القدسي والسنة النبوية القولية مع التنزيل، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الرابع : دعوة بني إسرائيل لتلقي ما يخبر عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن وما يتجلى في السنة بالقبول والتصديق , وفي الجن وإنصاتهم للقرآن وإنبهارهم بآياته ودلالاته[قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ]( )، شاهد على صدق نبوته.
وكان اليهود ينكرون مجئ نبي بعد موسى عليه السلام فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمتعدد من المعجزات العقلية والحسية، وأكرم الله بني إسرائيل في القرآن بذكرهم وما أصابهم في مواضع متعددة من القرآن ليكون بياناً وهدى وموعظة، وأخرج عن ابن عباس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهود إلى الإسلام ، فرغبهم فيه وحذرهم فأبوا عليه ، فقال لهم معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة، ووهب بن يهودا: ما قلنا لكم هذا، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده، فأنزل الله{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة..}( ).
الجهة الثانية : ذكر الكتب السماوية والصحف التي أنزلت على الأنبياء للقرآن وحاجة الناس إليه، ولزوم تصديقهم به.
الجهة الثالثة : تطلع أتباع الأنبياء والصالحين والأمم إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول القرآن الذي هو بيان لكل شئ , وفي قوله تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، ورد عن ابن عباس قال: كان يهود أهل المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد، وغطفان، وجهينة، وعذرة، يستفتحون عليهم ويستنصرون، يدعون عليهم باسم نبي الله فيقولون: اللهم ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك وبكتابك الذي تنزل عليه، الذي وعدتنا إنك باعثه في آخر الزمان( ).
الوجه الثاني : بلوغ الهدى القرآني إلى أصقاع الأرض المتباعدة، فمن إعجاز القرآن أن الملك جبرئيل ينزل به على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يسمعه غيره، فيتلوه على من حضره من أهل بيته وأصحابه ولا تمر دقيقة من ليل أو نهار إلا وهناك المئات بل الآلاف ممن يقرأونه في الصلاة وخارجها ويتدارسونه ويتدبرون في تفسيره.
الوجه الثالث : إقتباس كل إنسان ذكراَ أو أثنى من هدى القرآن وهو من معاني العموم في قوله تعالى[شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ]( ).
الصفة الثالثة : القرآن موعظة، فبينما كان العرب في تيه وضلالة وإنشغال بالحاجات اليومية وبذل الوسع لتحصيل القوت والطعام ولو بالغزو والنهب والقتال، ويتخذون من الشعر والقصائد غطاء ووسيلة لذكر المآثر والمفاخر، جاء القرآن بفيض سماوي ونهر متدفق من العلوم ونقل أذهان الناس إلى عالم الآخرة وحتمية ملاقاة الله ولزوم الإستعداد لها بالعمل الصالح، مما يعني الثورة والتغيير التام في السنن والسيرة، ولم يمت الشعر ولم يهجره الناس ولكنه لبس رداء الموعظة والهداية والحكمة وتناقل الناس شعر حسان بن ثابت وقصائد مخصوصة في التوحيد والثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قصيدة كعب بن زهير الذي جاء متخفياً بعد أن أهدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دمه لأنه كان يهجوه ويتشبب بنساء المسلمين فأسلم كعب وألقى لاميته المشهورة فعفا عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وألقى عليه بردته التي أخذ الخلفاء يلبسونها في المناسبات وإلى زمان سقوط بغداد على يد المغول.
ومطلع القصيدة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول( )
وفيه شاهد على أن مواعظ القرآن سبب في تهذيب القول والفعل وهداية إلى حسن الإختيار.
ومن معاني الهدى في آية البحث حث الناس على الإستغفار، وتقريبهم إلى منازل التوبة، وفي التداخل بين أطراف الآية وجوه:
الأول : البيان في القرآن هدى للناس.
الثاني : القرآن هدىً إلى التدبر في بيانه.
الثالث : بيان القرآن موعظة للمتقين.
الرابع : هدى القرآن موعظة للمتقين.
الخامس : الموعظة في القرآن بيان للناس.
السادس : القرآن موعظة للتدبر في بيان القرآن.
السابع : مواعظ القرآن هدىً للمسلمين , قال تعالى[وَزِدْنَاهُمْ هُدًى]( ).
الثامن : بيان وهدى القرآن مجتمعين موعظة للمتقين.
التاسع : بيان ومواعظ القرآن هدى للمؤمنين.
العاشر : هدى وموعظة القرآن بيان للناس جميعاً.
وهل ينتفع المسلمون من الخطابات الموجهة لغيرهم في القرآن منها:
الأول : الخطابات الموجهة إلى بني إسرائيل كما في قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ).
الثاني : النداء الموجه إلى أهل الكتاب عموماً، قال تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ]( ).
الثالث : الخطابات الموجهة إلى الناس جميعاً، وهي على قسمين:
الأول : ما يدخل فيه المسلمون بلحاظ أنهم فريق وشطر من الناس، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( ).
الثاني : الخطابات التي قد تتضمن الوعد والذم يخرج منها المسلمون بالتخصص أو التخصيص لأنهم أخلصوا العبادة للناس عز وجل.
وينتفع المسلمون من كل خطاب قرآني موجه لهم أو لغيرهم من أهل الملل والنحل ويقتبسون منه، فهم جنود الله الذين يتلون هذه الخطابات ويوصلونها إلى أهلها وإلى الناس جميعاً، وتحفظ بتلاوتهم وتعاهدهم لها رسماً وقراءة وحفظاً وتفسيراً بنضارتها وأثرها، وليس للمسلمين فيه فضل على القرآن وخطاباته وما فيها من البلاغ، إنما هو مناسبة للثواب وفوزهم بالأجر، وهو من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، وفيه وجوه:
الأول : كل خطاب قرآني بيان وهدى للناس قائم بذاته.
الثاني : خطابات القرآن مجتمعة بيان للناس.
الثالث : التقسيم الموضوعي لنداءات القرآن، فكل خطابات ونداءات خاصة بموضوع معين هي بيان للناس.
الرابع : لحاظ جهة الخطاب في نداءات القرآن فالخطابات للمسلمين بيان والخطابات لأهل الكتاب بيان آخر وهكذا.
الخامس : لا ملازمة بين جهة الخطاب وإرادة البيان فقد يتوجه الخطاب لأمة ولكن المراد أمة أخرى.
والصحيح هو الأول، فكل خطاب قرآني مدرسة وبيان سماوي، ومناسبة لإقتباس المواعظ والعبر.
ويحتمل موضوع الهدى سعة وضيقاً في الخطاب القرآني وجوهاً:
الأول : كل خطاب قرآني هو بيان لذات الجهة التي يتوجه لها بالنداء والموضوع.
الثاني : الخطاب الخاص في القرآن بيان للناس جميعاً.
الثالث : التفصيل فهناك خطابات تكون بياناً لشطر من الناس، وهناك خطابات تكون بياناً للناس جميعاً.
الرابع : ليس من خطاب عام للناس في بيانه ووضوحه إلا النداءات العامة التي تتوجه للناس جميعاً كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ]( ).
ويدخل فيها النداء الموجه بلفظ(يا بني آدم) وإن كان لفظ الناس أعم من بني آدم، لدخول آدم وحواء فيه، ولكن اللفظين متحدان موضوعا فيما بعد البعثة النبوية.
والصحيح هو أن كل خطاب خاص أو عام هو بيان للناس وذخيرة مدخرة للأجيال المتعاقبة من المسلمين وغيرهم من أهل الملل والنحل وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف , فكما يحفظ الله[السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ]( )، فإنه تعالى يحفظ كنوز القرآن من الضياع والتفريط والتحريف والتبديل ليبقى خزائن للعلوم والأحكام تنهل منه الأمم من غير أن ينتقص من ذخائره شيئاً، وهو من مصاديق آية البحث[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، إذ يحتمل البيان كماً وكيفاً وجوهاً:
الأول : البيان للمسلمين أكثر منه لغيرهم لأن المسلمين هم أهل القرآن الذين صدّقوا به.
الثاني : البيان لأهل الكتاب والملل الأخرى أكثر منه للمسلمين.
الثالث : الناس متساوون في إرادة البيان.
والصحيح هو الثالث لأصالة الإطلاق في قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] وهذا التساوي من رحمة الله بأهل الأرض في الدنيا ومصاديق الحجة عليهم، ومثلما جعل الله عز وجل المطر ينزل من السماء على البِر والفاجر فإنه سبحانه جعل القرآن نهراً جارياً من العلوم ينهل منه الناس، ولكن إغترافهم منهم من الكلي المشكك فيأخذ بعضهم منه البلغة لأمور الدين والدنيا، وبعضهم ينتفع منه لخصوص الدنيا أو في موارد مخصوصة.
فإن قلت المسلمون هم الذين ينهلون من القرآن بينما جاءت الآية البحث بالعموم في إرادة النفع والغاية (هذا بيان للناس) ويحتمل وجوهاً:
الأول : المراد من الناس في آية البحث هم المسلمون، من جهات:
الأولى : الإتيان بالكل وإرادة الجزء.
الثانية : المسلمون هم الأمة التي تنتفع من بلاغات القرآن.
الثالثة : موضوعية الإنتفاع من البيان القرآني والتدبر فيه بصدق عنوان الناس عليهم.
الثاني : المراد الناس من غير المسلمين بلحاظ أمور:
الأول : إثبات البرهان والحجة على الذين تخلفوا عن دخول الإسلام.
الثاني : الإنذار للذين يحاربون الإسلام، ويمكرون بالمسلمين، قال تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ]( ).
الثالث : دخول المسلمين الإسلام تصديق لبيان القرآن، لتبقى بياناته موجهةٍ إلى غيرهم دليلاً وترغيباً بالإسلام.
والصحيح هو إرادة المعنى الحقيقي لعموم الناس، فالبيان القرآني كلي طبيعي يتلقاه الناس بعرض واحد بما هم بشر، وهو من مصاديق مجيء رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً قال صلى الله عليه وآله وسلم: وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَة وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)( ).
ومن إعجاز القرآن أن آية البحث التي تخبر عن كون القرآن بياناً للناس هي بذاتها بيان وجلاء , وتتصف بخلوها من الإجمال ولغة التنكير ومجموع كلماتها ستة كلمات، وعدد حروفها الظاهرة تسعة وعشرون حرفاً بعدد الحروف المقطعة في القرآن.
وفيه إشارة إلى أن الحروف المقطعة هي أيضاً بيان وبلاغ للناس جميعاً ليس فقط بلحاظ الإتحاد والتشابه في عدد حروفهما بل لأن قوله تعالى(هذا بيان للناس) ينبسط على عدد آيات القرآن، فكل آية منها بيان، ومنها آيات الحروف المقطعة مثل[المر]( )، و[كهيعص]( )، ويحتمل جزء الآية القرآنية وجوهاً:
الأول : إنه بيان قائم بذاته.
الثاني : إنه جزء وشطر من بيان.
الثالث : جزء الآية القرآنية بيان ولكن على نحو الموجبة الجزئية، فيحتاج إلى بيان من ذات الآية أو من غيرها ينضم إليه ليتمم البيان وإن كان معنى كل جزء منها تاماً.
الرابع : جزء الآية القرآنية بيان مستقل في موضوع أو حكم، وجزء بيان في موضوع أو حكم آخر.
الخامس : بعض أجزاء الآيات تكون بياناً مستقلاً وبعضها يلزم ضمه إلى غيره لتحصيل البيان.
السادس : من وجوه البيان في آية البحث بلحاظ آية السياق إتصاف المسلمين بالسياحة في الأرض طاعة الله، فقد يسافر الناس للنزهة والصيد واللهو، أما المسلمون فسياحتهم تدبر وتفكر بالآيات، قال تعالى[التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين]( )، ويختص المسلمون في سفرهم بالثواب وإن كان لأغراض التجارة ونحوها، ولم يضم إليه قصد القربة، لترشح الثواب عن التفكر في عاقبة المكذبين، وهو من إعجاز آية السياق ومنافع الآية القرآنية للمسلمين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وبإستثناء الوجه الخامس فإن الوجوه الأربعة أعلاه من مصاديق البيان القرآني وقوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ].
وإذ جاء القرآن بالتحدي في سورة واحدة منه بقوله تعالى[فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ]( )، فانه سبحانه يتحدى الناس في آية البحث لبيان حقيقة وهي أن ذكر السورة للبيان وإنكشاف الحجة وتعدد آيات القرآن التي يتحدى الله الناس بها , وليس هو من ذكر الحد الأدنى للتحدي وإختصاصه بالسور دون الآيات، إذ تتحدى آية البحث الناس وعلى نحو متعدد من وجوه:
الأول : القرآن بيان وإيضاح وكشف للناس جميعاً وإخبار عن ماهية الدنيا ومغيبات عالم الآخرة.
الثاني : القطع بأن القرآن هدى وسبيل للصلاح، وبامكان الناس رؤية آثار الهداية التي تترتب على تلاوته وتفسيره والتدبر في آياته والعمل بمضامينه والتقيد بأحكامه.
الثالث : القرآن موعظة وعبرة للمسلمين، وكنز سماوي ينهلون منه لبلوغ مراتب اليقين، وتعاهد منازل التقوى وسبب بجذب المنازل للإيمان، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
وتتضمن هذه الآية ثناء القرآن على ذاته وهو من مصاديق نزوله من عند الله بلحاظ أن هذا الثناء نوع تحد، ومن مصاديق البيان في القرآن بخصوص الآية الواحدة أمور:
الأول : بيان الآية لذاتها ولمصاديقها الخارجية.
الثاني : كل شطر من الآية مبين لنفسه.
الثالث : كل جزء من الآية يبين ويفسر الأجزاء الأخرى منها.
الرابع : تأكيد كل جزء من الآية لذاته ولمضامين الأجزاء الأخرى منها، ويتجلى قسم من هذا العلم المبارك في باب (الصلة بين أول وآخر الآية) الذي هو علم جديد أسسناه في تفسيرنا هذا وفيه شذرات من أسرار هذا العلم وفيوضاته( ).
ويمكن تسمية الدنيا بأنها (دار الموعظة) بلحاظ أن القرآن هو كتاب الله الخالد والذي هو بلاغ للناس جميعاً، وفيه مصاديق الموعظة وبيان سبل الهداية والصلاح.
ويدل نعت القرآن على أنه (موعظة للمتقين) على حقيقة وهي دوام وجود أفراد وأمة يتصفون بالتقوى والخشية من الله ففي كل زمان لابد من أمة تتلقى الخطاب القرآني والبشارة من عند الله.
إن قوله تعالى(هذا بيان للناس) أمارة على حاجة الناس جميعاً للقرآن، ويحتمل المراد من لفظ الناس وجوهاً:
الأول : أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته.
الثاني : الناس المعاصرون لأوان نزول القرآن وأيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : إرادة المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
الرابع : المراد غير المسلمين من أهل الكتاب والكفار.
الخامس : المقصود الناس جميعاً مسلمين وأهل الكتاب وغيرهم.
السادس : أهل مكة والمدينة.
والصحيح هو الخامس، لوجوه:
الأول : لغة العموم في لفظ الناس.
الثاني : هذا البيان نعمة عظيمة.
الثالث : لأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس جميعاً.
وقيل(الإنسان سمي إنساناً لنسيانه)( )، ويحتمل بخصوص القرآن وجوهاً:
الأول : ينسى الإنسان بيان القرآن بعد سماعه.
الثاني : بيان القرآن من سنخية سماوية لا يمكن للإنسان نسيانه.
الثالث : قد ينسى الإنسان بعض البيان القرآني.
الرابع : ينسى شطر من الناس البيان القرآني ومنهم لا ينساه، قال تعالى[سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى]( ).
والصحيح هو الثاني خصوصاً وأن الدلالات والغايات الحميدة من القرآن أعم من البيان كما تؤكده آية البحث فهو هدى وموعظة، قال تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ]( )، والمدار على العمل بالقرآن وإتخاذه إماماً.
ويتعلق النسيان بلحاظ الموضوع ويتناسب عكسيا بعناية الإنسان به وإلتفاته إليه، وتعدد طروه عليه، وكثرة مزاولته له، وقد تفضل الله عز وجل وجعل الصلاة واجباً عينياً متعدداً في اليوم ليتعاهد المسلم الذكر وضروب العبادة , وينصرف عنه النسيان والغفلة حتى في حال اللهث وراء الدنيا وجمع الأموال، وفي التنزيل[رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا]( ).
ومن بيان القرآن الحرب على النسيان ومنع صيرورته داءً وحالة مصاحبة للإنسان، لقد جاءت آيات القرآن بالخطاب العام(يا أيها الناس) لتذكير أهل الأرض بوظائفهم العبادية، ومن أسرار القرآن أن تلاوته وبيانه متجددان كل يوم ومنه جهر المسلمين به في الصلاة لتثبيت ألفاظه ومعانيه في الأذهان، والمنع من نسيانه ومن ترك العمل بأحكامه.
ويمكن إستقراء أسماء للقرآن من آية البحث، وهي:
الأول : هذا بيان.
الثاني : البيان.
الثالث : الهدى , قال تعالى في وصف القرآن[هَذَا بَيَانٌ].
الرابع : موعظة للمتقين.
ليكون من إعجاز القرآن إستظهار المتعدد من أسماء القرآن من آياته وكلماته وألفاظه، لتصبح مدرسة (أسماء القرآن)( ) علماً مستقلاً قائماً بذاته , وفيه من الإشارات والدلالات ما تستنبط منه المسائل.
إن قوله تعالى(هذا بيان للناس) نوع تحد لأهل الكتاب وغيرهم، ولقريش التي كان رجالاتها يسافرون إلى اليمن والشام للتجارة، وكانوا يستعملون ميناء جدة، قال تعالى في وصف قريش وتجارتهم[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
وعن الهروي: أن أصحاب الإِيلاف هاشم ، وإخوته الثلاثة الآخرون عبدُ شمس، والمطلب، ونوفل، وأن كل واحد منهم أخذ حبلاً، أي عهداً من أحد الملوك الذين يمرون في تجارتهم على بلادهم وهم مَلِك الشام، وملك الحَبشة، وملك اليمن، ومَلِك فارس، فأخذ هاشم هذا من ملك الشام وهو ملك الروم ، وأخذ عبد شمس من نجاشي الحبشة وأخذ المطلب من ملك اليمن وأخذ نوفل من كسرى ملك فارس،
فكانوا يجعلون جُعلاً لرؤساء القبائل وسادات العشائر يسمى الإيلاف أيضاً يعطونهم شيئاً من الربح ويحملون إليهم متاعاً ويسوقون إليهم إبلاً مع إبلهم ليكفوهم مؤونة الأسفار وهم يكفون قريش دفع الأعداء فاجتمع لهم بذلك أمن الطريق كله إلى اليمن وإلى الشام وكانوا يسمَّوْن المُجِيرين)( ).
وجعلت آية البحث قريشاً وغيرهم من الذوات ذات الشأن يتدبرون القرآن والمائز بينه وبين فصاحة وبلاغة وأشعار العرب، وأدركوا أن لغتهم سماوية وأن الله عز وجل أراد حفظها وسلامتها بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن , فآمن فريق منهم وإنتصروا للحق , وعملوا بأحكام التنزيل .
لقد تجلت مصاديق البيان والهدى والموعظة التي ذكرتها الآية في الأيام الأولى لنزول القرآن ووسط مجتمع قريش الذي يجمع اللهجات العربية ويقام موسم الحج كل سنة في مكة فيحضر كبار الشعراء وأساطين البلاغة فأشرقت عليهم شمس البيان القرآني لتجعلهم منبهرين منجذبين إليها لفظاً وبلاغة ودلالة.
وكأن آيات القرآن ناسخة لأشعارهم وبلاغتهم لتكون حجة عليهم وعلى أهل مكة ومن خلفهم من القبائل، وتصبح آيات القرآن حديث الركبان، ويتسابق الناس في حفظها بالنص لتلاوتها على غيرهم والتدبر فيها، وإنصات الناس لها وإظهارهم الشوق للإستماع إلى المزيد منها , ورسوخ الرغبة والعزيمة في النفس لحفظها وقراءتها في المنتديات والأسواق والبيوت وهو من مصاديق البيان القرآني وشاهد على أن بيانه يختلف عن غيره ويمتاز بخصائص إعجازية بأن يتطلع الناس له ويكون حديثهم في حال السفر والحضر ليدخل الإيمان في نفوسهم ببركة بيان القرآن وهو من مصاديق قوله تعالى[خَلَقَ الإِنسَانَ *عَلَّمَهُ الْبَيَانَ]( ).
وبلحاظ آية البحث يكون المعنى على وجوه:
الأول : علّمه القرآن.
الثاني : علمه البيان بالقرآن.
الثالث : علّمه البيان للتدبر في القرآن.
ويمكن تسمية آية البحث بآية (هذا بيان) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية، وورد لفظ(بيان) في القرآن مرة ثانية في الآية أعلاه من سورة الرحمن.
الآية سلاح
ويحتمل إنتفاع المسلمين من صفات القرآن الثلاثة في آية البحث وجوهاً:
الأول : نهل وإقتباس المسلمين من كل صفة على نحو الإستقلال فيتبصرون بأمور دينهم من صفة البيان في القرآن، ويتدبرون في أمور الدين والدنيا من صفة الهدى، ويتعظون من كل آية من آيات القرآن وما فيها من الأوامر والنواهي والبشارة والإنذار، قال تعالى[وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني : إنتفاع المسلمين من صفات القرآن المذكورة في هذه الآية على نحو الإشتراك والتفرق في آن واحد على شعب:
الأولى : يأخذ المسلمون من كل آية من القرآن البيان والهدى والموعظة.
الثانية : يغترف المسلم من كل آية ما فيها من البيان والهدى والموعظة.
الثالثة : ينهل المسلمون من بيان القرآن مصاديق الهدى والموعظة.
وهل يمكن القول بأن يأخذ المسلم من القرآن البيان وحده دون الهدى والموعظة، الجواب تدل الآية البحث على الملازمة بين كل من البيان والهدى والموعظة في آيات القرآن وهو من إعجازه الذاتي والغيري، إذ يتجلى إكتساب الفقاهة والعلوم والصلاح من آيات القرآن.
الثالث : التبعيض في النهل والإقتباس والإستقراء من الآية القرآنية، فيأخذ المسلمون شطراً من بيانها وهداها ومواعظها.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وهو من مصاديق الآية الكريمة، ويحتمل بيان القرآن وجوهاً:
الأول : يأتي بيان القرآن على نحو دفعي مرة واحدة.
الثاني : التكرار في بيان القرآن سواء إتحد موضوعه أو تعدد.
الثالث : قيام المسلمين ببيان القرآن وآياته , وهذا البيان على وجوه:
الأول : تلاوة المسلمين لآيات القرآن لأن هذه التلاوة إخبار وإعلان.
الثاني : تأكيد المسلمين لبيان القرآن بالتصديق والإقرار به.
الثالث : عمل المسلمين ببيان القرآن هدىً وخير محض، وتجديد له.
الرابع : دعوة الناس للتدبر في بيان القرآن والإنتفاع منه والنهل من إشراقاته، التي تضئ طرق الرشاد للقلوب المنكسرة.
وهل يدعو أو يجذب القرآن الناس لبيانه والهدى الذي يفيض منه الجواب نعم، وتجلت هذه الدعوة بإنصات الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو القرآن وإقرارهم بإعجازه وأنه فوق كلام البشر وأيهما أكثر وأعظم مدداً للمسلمين نزول القرآن أم نزول الملائكة يوم بدر وأحد والخندق.
الجواب هو الأول وإن كان هناك تباين موضوعي , ولو كان على نحو الموجبة الجزئية في موضوع المدد، فالملائكة نزلوا لنصرة المسلمين في ساحات القتال للمسلمين الذين دخلوا الإسلام بمدد القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين وهو باق في بيانه وهداه وموعظته إلى يوم القيامة.
فالقرآن أسمى وأبهى وأحسن مدد ينزل من السماء، ويمكن القول أن الملائكة نزلوا مدداً له فسبحان الله الذي يصل المدد بمدد آخر , وكل فرد منها ذو إعجاز باهر.
وفي قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ]( )، ورد عن عكرمة قال: كان بين هذين الحيين من الاوس والخزرج قتال في الجاهلية، فلما جاء الإسلام إصطلحوا وألف الله بين قلوبهم، وجلس يهودي في مجلس فيه نفر من الآوس والخزرج، فأنشد شعرا قاله أحد الحيين في حربهم، فكأنهم دخلهم من ذلك، فقال الحي الآخرون: وقد قال شاعرنا في يوم كذا كذا وكذا.
فقال الآخرون: وقد قال شاعرنا في يوم كذا كذا وكذا، فقالوا: تعالوا نرد الحرب جذعا كما كانت، فنادى هؤلاء يا آل أوس، ونادى هؤلاء يا آل خزرج، فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال، فنزلت هذه الآية، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته أنصتوا وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون)( ).
مفهوم الآية
إبتدأت آية البحث باسم الإشارة للقريب (هذا) ويحتمل وجوهاً:
الأول : إخبار الآية عن ذات آيات القرآن وما بين الدفتين.
الثاني : الدلالة على قرب القرآن من الناس.
الثالث : التحدي بتأكيد إنتفاء البرزخ بين القرآن والناس إلى يوم القيامة، ليكون من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
أنزل الله القرآن بياناً للناس وهو سبحانه يحفظ ويتعاهد وصوله لهم جميعاً، وتلك آية في عظيم قدرة الله عز وجل , وعدم وجود الحواجز بين كتبه وعباده مثلما ينعدم المانع بين الوحي والنبي.
ومن إعجاز القرآن أن مادة (وحى) ومفردات الوحي مع كثرتها في القرآن فإنها جاءت بصيغة المفرد في إرادة الأنبياء، وبيان إتحاد سنخيته وماهية جنسه، وأنه من عند الله كما في قوله تعالى[كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ]( )، [كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )، ومن مفاهيم الآية تأكيد رحمة الله بالناس بأنه لم يتركهم من غير بيان وأن هذا البيان يتصف بخصائص مباركة منها:
الأول : بيان القرآن إمام في سبل الهداية وعمل الأحسن والأتم، قال تعالى[وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً]( ).
الثاني : لم يختص بيان القرآن بالمسلمين بل يتوجه للناس جميعاً، وفيه ترغيب للناس بالإستماع له والتفكر في دلالاته.
الثالث : بيان القرآن طريق وصراط مستقيم يهدي إلى الجنة، وبرزخ دون دخول النار، وفي التنزيل [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، فتفضل الله عز وجل بالبيان القرآني ليكون صراطاً مستقيماً ويهدي إلى الصراط المستقيم في النشأتين.
الرابع : بالبيان القرآني طرد للغفلة والجهالة عن الناس، ومنع من شيوع وتمدد مفاهيم الضلالة والكفر، لذا تتجلى أبهى سنن التوحيد في آيات القرآن ومنها قصص الأنبياء وصبرهم في جنب الله وتحملهم الأذى وتعرضهم للقتل لإعلاء كلمة التوحيد وجعل الناس يتدبرون في المعجزات التي جاءوا بها، لقد جعل الله عز وجل الناس محتاجين، وهذه الحاجة ملازمة لعالم الإمكان إبتداء وإيجاداً وإستدامة.
وجاء آية البحث لتبين أموراً:
الأول : حاجة الناس للبيان النازل من السماء في أمور الدين والدنيا، ولولا هذا البيان لصار الناس في تيه وضلالة، وهو من أسرار حفظ القرآن وسلامته وآياته من جهات:
الأولى : السلامة من التحريف والتبديل.
الثانية : إنتفاء المانع الذي يحول دون بلوغ آيات القرآن للناس وعدم الحاجة لوجود واسطة وإختصاص في تفسير آياته وقوانينه الكلية.
الثالثة : تجلي معاني ألفاظ وآيات القرآن للناس وعدم الحاجة لوجود واسطة وإختصاص في تفسير آياته وقوانينه الكلية.
الرابعة : إختصاص بيان القرآن بأثر وتأثير عام ومستديم بين الناس.
الثاني : حضور البيان القرآني مع الناس في حياتهم اليومية، وتحلي المسلمين بسننه الرشيدة ليكون عملهم زينة للأرض، وعلة لإستدامة حياة البشر بعيداً عن ضنك العيش، فليس من سبيل لجلب الرزق مثل الإيمان، قال تعالى[فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ).
الثالث : إقامة الحجة على الناس بوجود البيان السماوي بين ظهرانيهم.
الرابع : دفع الأضرار التي تصيب الأفراد والمجتمعات بالبيان السماوي وقربه منهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
الخامس : إن الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأكمل والأحسن، وحينما تفضل بالبيان فانه سبحانه قرنه بالهدى والموعظة في ذات القرآن ليكون النفع متعدداً من التنزيل المتحد , وفيه دلالة على إنتفاع الناس إلى يوم القيامة من القرآن وبيانه الذي هو كالنهر الجاري القريب من كل إنسان مع إنعدام البرزخ دون إغترافه منه والتزود منه لبراري ومفازة الحياة الدنيا.
السادس : في آية البحث تنزيه للقرآن، وتأكيد لإنتفاء التعارض فيه، قال تعالى[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( )، ليكون من إعجاز القرآن تضمنه الثناء عليه، ويدل مفهومه على الذب عن القرآن والدفاع عنه.
السابع : تبين الآية النعم التي ينالها المؤمنون بإيمانهم وخشيتهم من الله، وليس من إنقطاع لهذه النعم، ففي الدنيا جاء القرآن نعمة وبشارة وموعظة لهم , وفي الآخرة يفوزون بالسعادة الأبدية، قال تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية باسم الإشارة (هذا) وفيه أمور:
الأول : إرادة القرب للموضوع والخبر الذي يدل عليه اسم الإشارة ويدعو إلى الإلتفات إليه.
الثاني : صدور اسم الإشارة من رب السموات والأرض، وفيه حث للناس على العناية بما يشير إليه الاسم (هذا).
الثالث : بعث الشوق في النفوس لمعرفة المقصود باسم الإشارة (هذا) إذ لا يعرف معناه والمقصود منه إلا بالخبر الذي يتعقبه.
الرابع : الحجة على المخاطبين لتسليمهم بالعلم بالمشار إليه.
الخامس : حضور القرآن بين الناس وعدم خفائه أو حجب مضامينه القدسية.
السادس : بيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه بعجز الخلائق عن ستر آيات وأحكام القرآن عن الناس، وفي دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)( ).
السابع : علم الله عز وجل ببلوغ الإشارة والمشار إليه إلى المخاطبين.
الثامن : دعوة الناس للتصديق بنزول القرآن من عند الله , قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ]( ).
التاسع : جعل الناس يدركون أن المراد من اسم الإشارة (هذا) هو القرآن لتكون معرفته والعلم بمضامينه ولو في الجملة من البديهيات وهي القضايا التي لا يستلزم تصورها وجود وسط حسي بل يحصل تصور طرفيها بإيقاع نسبتها كما تقول الواحد نصف الإثنين.
العاشر : بعث الشوق في النفوس للإحاطة والعلم بما يشير إليه اسم الإشارة النازل من السماء، خصوصاً وأن (هذا) يفيد الإشارة للقريب وليس للبعيد، مما يدل على قرب القرآن من الناس، ويحتمل وجوهاً:
الأول : هذا القرب من اللطف الإلهي بالناس.
الثاني : إمتلاك القرآن أسرار القرب من الناس بفضل من الله.
الثالث : نزول آية البحث جعل القرآن قريباً من الناس.
الرابع : إقتراب ودنو الناس من القرآن بالفطرة، وهو من رشحات نفخ الروح في آدم، قال تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من دلالات اسم الإشارة (هذا) وما يفيد القرب العقلي والحسي من الناس.
لقد أجاب الله عز وجل الملائكة الذين إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، قال سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فمن علم الله عز وجل أن جعل القرآن بياناً حاضراً عند الناس، وسماه الله عز وجل الحديث ليفقه الناس مضامينه وأحكامه التي جاءت بصيغة الأمر المقترن بالبشارة والوعد الكريم، والنهي الذي يصاحبه الإنذار والتخويف، قال تعالى[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ]( )، ليكون من أسماء القرآن (أحسن الحديث) مع بيان خصائص الحسن في آيات القرآن والتي تفوق الحصر وهي توليدية في ذاتها , وفي إستنباط وإستقراء العلوم منها.
واسم الإشارة على أقسام:
الأول : (هذا) اسم الإشارة للقريب.
الثاني : اسم الإشارة للمتوسط (ذاك).
الثالث : (ذلك) اسم إشارة للبعيد.
ومنهم من إكتفى ب(ذلك) للمتوسط والبعيد، وفي الإشارة للقرآن باسم الإشارة للقريب(هذا) مسائل:
الأولى : الترغيب بالإنصات للقرآن.
الثانية : التدبر في آياته ومعانيها.
الثالثة : فوز المسلمين بإدراك هذا القرب وقطف ثماره وحفظهم لآياته وتلاوتهم لها عن ظهر قلب.
الرابعة : اسم الإشارة في آية البحث وعد كريم من عند الله للناس جميعاً بأنه سبحانه يتفضل ويبين لهم طرق الهداية وأحكام الحلال والحرام وسبل النجاة في الآخرة , ويجعلها قريبة منهم بالقرآن وآياته.
الخامسة : إقامة الحجة على الذين يسمعون القرآن ولا يتدبرون آياته ودلالاتها، فخطاب الله عز وجل للناس بواسطة النبي وقرب القرآن منهم رحمة وبرهان على لزوم الإنتفاع الأمثل منه وعدم التفريط بآياته، ( وعن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يوشك أن يقرأ القرآن قوم يشربونه كشربهم الماء، لا يجاوز تراقيهم)( ).
عن الإمام محمد الباقر عليه السلام: قال سليمان بن داود: أوتينا ما اوتي الناس وما لم يؤتوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا، فلم نجد شيئا أفضل من خشية الله في المغيب والمشهد، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والتضرع إلى الله عز وجل على كل حال)( ).
بعد اسم الإشارة ورد المشار إليه ليكون بياناً وتفصيلاً ، ومن الإعجاز أنه جاء بذات لفظ البيان(هذا بيان) ليكون إسماً ومسمىً دليلاً على عظيم شأن القرآن عند أهل السماء والأرض، ويحتمل بيان القرآن وجوهاً:
الأول : القرآن بيان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وضياء له في سنته وتبليغه الأحكام للأمة.
الثاني : القرآن بيان لأهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار في تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإذا همّوا بفعل رجعوا إلى السنة النبوية في معرفة الأحكام.
الثالث : إنه بيان وكشف للمسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة.
الرابع : القرآن كشف وتوضيح لأهل الكتاب، قال تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ]( ).
الخامس : بيان القرآن لغير المسلمين، بلحاظ أن المسلمين آمنوا بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن والمعجزات الحسية التي جاء بها.
السادس : بيان القرآن إيضاح لما فيه من الهدى.
السابع : يعلم الناس بمواعظ القرآن.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة لذا جاءت الآية بسور الموجبة الكلية (للناس).
وإختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء بإجتماع المعجزة العقلية والحسية , ومن معجزاته الحسية :
الأولى : الإسراء والمعراج، قال تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ]( ).
الثانية : إنشقاق القمر.
الثالثة : نبع الماء بين أصابع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحضور جمع من الصحابة.
الرابعة : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور ووقائع مستقبلية من الغيب وتحقق مصاديقها القريبة مثل إخباره عن موت ملك الحبشي وإخباره عن رسالة حاطب بن بلتعة، وعن عير قريش وغيرها، وهو مقدمة ودعوة للتصديق بما أخبر عنه من المغيبات الأخروية.
الخامسة : إتصاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصية وهي أنه يرى من وراء ظهره من غير أن يلتفت كما يرى من أمامه.
السادسة : تهشيم الصخرة الكبيرة بضربة واحدة ساعة الضرورة والحاجة يوم الخندق، وجيوش قريش على مداخل المدينة المنورة.
السابعة : نزول الملائكة نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتال المشركين والإجهاز عليهم، قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الثامنة : إضاءة العرجون وتوظيف المعجزة النبوية لنفع الصحابة وأهل البيت.
بالإسناد عن قتادة بن النعمان قال: كانت ليلة شديدة الظلمة والمطر فقلت لو أني اغتنمت هذه الليلة شهود العتمة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففعلت فلما انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبصرني ومعه عرجون يمشي عليه فقال: ما لك يا قتادة ههنا هذه الساعة؟ قلت: اغتنمت شهود الصلاة معك يا رسول الله فأعطاني العرجون فقال: إن الشيطان قد خلفك في أهلك فأذهب بهذا العرجون فأمسك به حتى تأتي بيتك فخذه من وراء البيت فاضربه بالعرجون
فخرجت من المسجد فأضاء العرجون مثل الشمعة نورا فاستضأت به فأتيت أهلي فوجدنهم رقودا فنظرت في الزاوية فإذا فيها قنفذ فلم أزل أضربه بالعرجون حتى خرج)( ).
التاسعة : إنتقال الشجرة من مكانها ثم رجوعها.
العاشرة : تسليم الحجر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الحادية عشرة : الشفاء في مسح وبصق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية عشرة : عصمة النبي عن الناس، وسلامته من محاولات الإغتيال، قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
وسنتعرض لهذه المعجزات على نحو التفصيل والبيان في جزء لاحق إن شاء الله.
وبعد أن أخبرت آية البحث عن كون القرآن هدىً إنتقلت وبصيغة العطف بالواو إلى الإخبار بأن القرآن موعظة وسبيل صلاح وعبرة للمتقين الذين يخشون الله بالغيب ليكون إماماً ومصاحباً لهم، ومؤنساً لهم في أيامهم ولياليهم فتأخذ مواعظه بأيديهم إلى مقامات السعادة في الدنيا والآخرة، وفي إبتداء الآية بأن القرآن بيان للناس وإختتامها بأنها موعظة للمتقين مسائل:
الأولى : بين البيان والموعظة عموم وخصوص مطلق وذات النسبة بين الناس والمتقين.
الثانية : بيان فضل الله عز وجل بأن جعل البيان مقدمة للموعظة.
الثالثة : تأكيد النفع العام ببيان القرآن ووجود أمة تتلقاه بالقبول والإستجابة وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الرابعة : بعد البيان للناس جميعاً وظهور أثره على المسلمين بالتقوى والخشية من الله، تتجلى معاني هذه التقوى بخروج المسلمين للناس ببيان وهدى القرآن، وفيه آية عظمى وحجة باهرة من عند الله بأن يتكرر البيان على الناس، وهو من مصاديق تفضيل المسلمين ومعاني الحسن في خروجهم للناس بقوله[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فانهم يخرجون بأمور:
الأول : تلاوة آيات القرآن.
الثاني : صبغة التقوى وطاعة الله عز وجل في الواجبات، والإمتناع عما نهى الله عنه.
الثالث : الإحتجاج ببيان القرآن.
الرابع : ثبوت حاجة الناس لبيان القرآن.
الخامس : صيرورة آيات وبينات القرآن حاضرة بين الناس.
السادس : من مصاديق خروج المسلمين للناس الموعظة , فقد إقتبسوا الموعظة من القرآن ليكونوا مرآة لها ودعاة للناس للعمل بمواعظ القرآن، والدخول في صفوف المتقين في النشأتين، قال تعالى[وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا]( ).
السادس : تجديد المسلمين العهد بالبيان القرآني بدعوتهم الناس للتقوى بلحاظ كبرى كلية وهي أن صيغ الموعظة في القرآن مصداق من مصاديق البيان القرآني.
ويحتمل الهدى والموعظة القرآنية وجوهاً:
الأول : يأتي كل منهما للمتقين بعد بلوغهم مراتب التقوى والحرص على طاعة الله.
الثاني : كل من الهدى والموعظة نوع طريق للتقوى فيبلغ بهما الإنسان مراتب الفلاح، فورد ذكر المتقين للبيان والتفضيل.
الثالث : الملازمة بين الموعظة والتقوى.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة.
وفي الآية شاهد على موضوعية التكليف والإختيار في الحياة الدنيا، إذ يهتدي المسلم بآيات القرآن ويتعظ بأحكامها وقصصها وما فيها من البشارة والإنذار والوعد والوعيد وذكر الإعجاز الكوني في القرآن ودلالته على عظيم قدرة الله ولزوم إتخاذه موعظة ودرساً، قال تعالى[يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( ).
وأختتمت الآية بأن القرآن موعظة وعبرة وإصلاح للمتقين، وتدل على حاجتهم للموعظة مع بلوغهم منازل المتقين ما ورد قبل ثلاث آيات في وصفهم[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، ليكون من مواعظ القرآن اللجوء إلى الإستغفار عند ظلم النفس فيكون القرآن طريق التدارك والنجاة وستر العيوب، ومن الإعجاز مجيء الهدى قبل الموعظة لأن الهدى يقي الإنسان الزلل والظلم، وهو واقية من الشرك والضلالة والذنوب كبائرها وصغائرها، وتأتي الموعظة فضلاً وزيادة في العلم ومناسبة للعفو ونزول شآبيب الرحمة.
وبعد الثناء على القرآن بأنه بيان للناس ذكرت الآية صفة كريمة للقرآن وهي أنه (هدى) وفيه تأكيد رحمة الله عز وجل بالناس عامة والمسلمين خاصة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقدمت الآية البيان على الهدى، وفيه مسائل:
الأولى : البيان مقدمة للهدى.
الثاني : بين البيان والهدى عموم وخصوص مطلق , فالبيان أعم.
الثالث : إعجاز القرآن بذكر البيان أولاً لأنه طريق ومقدمة للهداية والرشاد.
الرابع : يقتبس الناس من البيان السماوي فيكون هدى لهم.
الخامس : ببيان القرآن يستطيع الناس التمييز والفصل بين الحق والباطل.
وتعددت صفات القرآن في آية البحث , وفيه إبطال ورد على مغالطة الكفار بخصوص نزول القرآن.
وعن السدي قال: كان النضر بن الحارث بن علقمة، أخو بني عبد الدار، يختلف إلى الحيرة، فيسمع سَجْع أهلها وكلامهم. فلما قدم مكة، سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، فقال: “قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إنْ هذا إلا أساطير الأولين”، يقول: أساجيع أهل الحيرة)( ).
وقد أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل النضر حينما وقع بالأسر ( قال المقداد: أسيري يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللَّهُمْ أَعِنِ المِقْدَادَ، فقال: هذا أردت)( ).
إفاضات الآية
وصفت آية البحث القرآن بالقرب والدنو من الناس (هذا بيان للناس) وهذا القرب لا يمنع من الخصوص والأدنى منه، وهو مخالطة بيان القرآن لعقول وعواطف المسلمين، فهو حاضر في جوانحهم وقلوبهم، وظاهر على حواسهم وفي كلامهم ومنطقهم ويتجلى في الصلاة من جهات:
الأولى : وقوفهم بين يدي الله طاعة وإمتثالاً لأمره سبحانه[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ]( ).
الثانية : تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات وسور القرآن في الصلاة.
الثالثة : حفظ المسلمين لآيات وسور من القرآن عن ظهر قلب.
الرابعة : أداء المسلمين الصلاة بقصد القربة إلى الله تعالى.
الخامسة : رجاء المسلمين للثواب العظيم الذي ذكره وبيّنه القرآن للذين (يقيمون الصلاة) ومن معاني إقامتها وجوه:
الأول : أداء الصلاة.
الثاني : تعاهد أوقات الصلاة.
الثالث : إتيان الصلاة في أوقاتها.
الرابع : إسباغ الوضوء والعناية بمقدمات الصلاة.
الخامس : الحرص على أداء الصلاة جماعة، والفوز بثوابها المضاعف وقراءة الإمام للقرآن وإنصات المأمومين له، وفي قوله تعالى[يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ]( )، ورد عن الحسن البصري أنهم المحافظون على صلاة الجماعة)( ) والآية أعم.
ولتلاوة القرآن في صلاة الجماعة منافع بلحاظ آية البحث من جهات:
الأولى : البيان العام للقارئ والمستمع، قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثانية : وجوب تلاوة القرآن في الصلاة سبب لجني الحسنات.
الثالثة : تدبر القارئ والمستمع بآيات القرآن، وتجلي معاني خشوع الجماعة في إنصاتهم للآيات.
الرابعة : تجديد المسلمين اليومي لذكرهم للقرآن وما فيه من البيان، وتعاهدهم للآيات بالتلاوة والحفظ والتدبر.
الخامسة : إتيان الصلاة جماعة هدىً للذين يقيمونها والذين يطلعون عليهم ويعلمون بأمرهم.
السادسة : صيرورة قراءة المسلمين الآيات موعظة لأنفسهم وللناس وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( )، فبالنسبة للآفاق فإن أداء الصلاة في أوقات مخصوصة في اليوم وليلته، أما في الأنفس فإن خشوع وإنقياد المسلمين لأوامر الله تثبيت لدعائم التوحيد في الأرض.
السابعة : وراثة المسلمين لصلاة الجماعة من بيان القرآن وثمراته بإخلاص المسلمين العبادة لله.
السادس : المداومة على الصلوات الخمس، وأداؤها بإركانها وواجباتها ومستحباتها من بيان القرآن وتحقيق مصداقه العملي المبارك.
السابع : من أبهى أسباب الهدى فعل الخيرات على نحو العموم الإستغراقي، وأداء الصلاة جماعة زيادة لهدى المصلين، وباب لجذب الناس لمنازل الهدى والصلاح.
الثامن : إقامة الصلاة في أوقاتها رجاء نيل رحمة الله، وكسب الثواب والأجر، قال تعالى[أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الآية لطف
من أبهى صيغ اللطف مجيء آيات القرآن بمعاني الرحمة بالعباد والرأفة بهم، وجذبهم إلى منازل الإيمان بسبل وكيفية تدل على الإعجاز في القرآن، فمن مصاديق اللطف في آية البحث أمور:
الأول : إبتدأت الآية بنعت القرآن بأنه بيان، وليس من مدرسة في التأديب والإصلاح أفضل من البيان المناسب لمدارك ومزاج الذي يراد تعليمه وإصلاحه.
ومن إعجاز القرآن إنه صلة وحبل ممتد بين الله وبين كل إنسان وهو من مصاديق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( )، لدلالة الآية على وجود حبل الله بين الناس وإمكان ووجوب التمسك به.
الثاني : من اللطف الإلهي أن القرآن فيه بيان الأحكام الشرعية، وما تتضمنه من العدل والإنصاف ومنع التعدي ودفع الظلم , قال تعالى[لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ]( ).
ويمكن تسمية الدنيا بأنها (دار اللطف) لأن الله عز وجل يتغشى الناس مجتمعين ومتفرقين بلطفه ورحمته، قال تعالى[وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ]( )، ويقترن الإمهال الإلهي للناس في الدنيا بأمور:
الأول : نزول بيان الأحكام والسنن من السماء.
الثاني : هداية الناس إلى سبل الصلاح.
الثالث : إمتلاء الدنيا بالآيات والبراهين التي هي موعظة للناس.
الرابع : العفو والمغفرة بقصد العبد لها أو بفضل من الله عز وجل، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا حَزَنٌ، ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله عنه بها من خطاياه)( ).
ومن مصاديق صيرورة الدنيا دار اللطف أنها مزرعة الآخرة , والعمل الصالح القليل فيها ينميه ويضاعفه الله عز وجل ليكون واقية يوم القيامة من العذاب الأليم.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل عليه السلام : يا محمد إن الله يخاطبني يوم القيامة، فيقول: يا جبريل ما لي أرى فلان ابن فلان في صفوف أهل النار؟ فأقول يا رب إنا لم نجد له حسنة يعود عليه خيرها اليوم. فيقول الله: إني سمعته في دار الدنيا يقول: يا حنان يا منان، فأته فاسأله فيقول وهل من حنان ومنان غيري؟ فآخذ بيده من صفوف أهل النار، فادخله في صفوف أهل الجنة)( ).
ومن اللطف الإلهي في آية البحث إبتداؤها بقوله تعالى(هذا) لتأكيد قرب القرآن من الناس , وفيه إعجاز وتحد من وجوه:
الأول : جعل التنزيل السماوي قريباً من الناس.
الثاني : نهل المسلمين والناس من القرآن ضروب البيان في أمور الدين والدنيا.
الثالث : ترغيب الناس بالقرآن وبيانه.
الرابع : إنتفاء الكلفة والمشقة في الوصول إلى البيان السماوي وأسباب الهدى التي جعلها الله في القرآن، فيضرب طالب العلم والمال في الأرض ويجتهد في التحصيل وقد لا ينال بغيته، أما القرآن وعلومه فانها لا تحتاج أدنى ضرب أو سفر، مع أن البرهان والكسب العلمي والمالي فيه.
وقوله تعالى(هذا بيان) رحمة بالناس وإخبار بتجلي العلوم والأحكام في القرآن، وأنه ليس سيفاً أو سوطاً على الناس، وفيه دلالة بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف والغزو والقتال، نعم حدث الغزو دفاعاً عن بيضة الإسلام وبعد أن هجم الكفار وعلى نحو متكرر ومتوال على المدينة المنورة التي هي نواة الدولة الإسلامية وعن الإمام علي عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تلك الليلة ليلة بدر، ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد)( ).
وتحتمل موعظة القرآن للمسلمين في نفسها وجوها:
الأول : إرادة نفع المسلمين والمسلمات في دنياهم.
الثاني : نفع المسلمين في أنفسهم وذراريهم.
الثالث : الموعظة مطلوبة بذاتها، ويمكن تشريع قانون وهو كل فرد محتاج للموعظة بدليل نص آية البحث، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : كل إنسان محتاج إلى الموعظة.
الصغرى : القرآن موعظة.
النتيجة : كل إنسان محتاج إلى القرآن.
وقد يقال أن ميادين ومصاديق الموعظة أعظم من أن تنحصر بالقرآن، والجواب من جهات:
الأولى : القرآن جامع للأحكام وأسرار التنزيل.
الثانية : الوقائع والأحداث مرآة لآيات ومضامين القرآن.
الثالثة : القرآن كتاب الموعظة الباقي إلى يوم القيامة بسلامة ووقاية من التبديل والتغيير.
الرابعة : ينفرد القرآن بخصوصية وهي أنه بيان لكل شيء، ومنها الموعظة بأبهى حلة وصيغة.
الخامسة : نعت القرآن بأنه (موعظة للمتقين) برهان وحجة ودعوة للناس للإقتباس من القرآن والتزود من علومه.
الرابع : إنتفاع المسلمين في الآخرة من مواعظ القرآن.
الخامس : إهتداء الناس جميعاً بموعظة القرآن ، وهذا الإهتداء من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
ولا تعارض بين هذه الوجوه الخمسة، وكلها من مصاديق آية البحث ومفاهيم الموعظة القرآنية.
وفي الآية ندب إلى الموعظة وحث على الإنصات إليها، وتأسيس لمقامات الموعظة في الإسلام, ويمكن تسمية الدنيا دار الموعظة لمصاحبة التنزيل والآيات الكونية للإنسان , وتجلي أسباب العبرة والإتعاظ في العبادات والمعاملات والأحكام والصلات بين الناس .
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : تفضل الله عز وجل بوصف القرآن في آياته، وهو من مصاديق قوله تعالى[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ]( ).
الثانية : تحدي القرآن للناس بخصائص وصفات حسن ظاهرة جلية فيه وهي:
الأول : القرآن بيان للناس جميعاً، ولم يستطع أحد من الناس أن ينفي صبغة البيان التي في القرآن وإدراكه وفهمه لها ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الثاني : الإخبار بأن القرآن هدى، ولغة التنكير في المقام (هدى) تفيد الإطلاق , وفيها مسائل:
الأولى : كثرة وجوه الهدى في القرآن.
الثانية : إكرام القرآن والثناء عليه.
الثالثة : دعوة للناس لتعاهد القرآن وحفظه للإنتفاع من هداه لأنفسهم وذراريهم، والناس جميعاً، إذ أن هداية الغير تعود عليك وعلى أبنائك بالنفع لما فيها من الأمن من جانبه ودفع أذاه ، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ]( ).
وذكرت أربع تأويلات للهدى وهي:
أحدها : الهدى هو البيان ودين الحق الإسلام، قاله الضحاك.
والثاني : أن الهدى الدليل، ودين الحق المدلول عليه.
والثالث : معناه بالهدى إلى دين الحق.
والرابع : معناهما واحد , وإنما جمع بينهما تأكيداً لتغاير اللفظين)( ).
ولكن آية البحث تتضمن تفسيراً للآية أعلاه ومعنى الهدى بلحاظ الجمع بين الآيتين على جهات:
الأولى : نسبة التساوي بين القرآن والهدى.
الثانية : الهدى في الآية أعلاه أعم من آية البحث.
الثالثة : نسبة التساوي بين الهدى في آية البحث والآية أعلاه.
والهدى في الآية أعلاه هو الأعم لأنه شامل لآيات القرآن والسنة النبوية وأصل البعثة النبوية والمعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإضافة إلى مسألة هي أن آية البحث لم تختص بوصف القرآن بالهدى بل أخبرت بأنه بيان للناس وموعظة للمتقين.
وبلحاظ الآية أعلاه فإن الهدى مقدمة وبيان لدين الحق، وبينهما عموم وخصوص مطلق لأن دين الحق أعم، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
الثالث : الدلالة السماوي على مجيء القرآن بالموعظة، والإخبار عن إنتفاع المسلمين والناس من هذه الموعظة إلى يوم القيامة، لتكون المواعظ السماوية شكراً من الله للعبد على إيمانه , وفي التنزيل[وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا]( ).
فالله سبحانه هو الذي يهدي إلى التقوى ويمد المسلمين بسنن التقوى ما داموا في الدنيا , ليجازيهم في الآخرة بالإقامة في الجنة.
وعن زيد بن أرقم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصاً دَخَلَ الجَنَّةَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إخْلاَصُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَحْجِزَهُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ)( ).
الثالثة : الدلالة على كنوز القرآن، ودعوة الناس للنهل من ذخائره مع بيان مصاديقها في آية البحث , وفيه حث على عدم التفريط بأي من علوم القرآن، وهو أمر يملي على الناس تقسيمها تقسيمات عديدة بحسب المتعلق، كالموضوع أو الحكم، والنفع، والأثر، والحجة، والغاية وقانون العلة والمعلول، والسبب والمسبب وصيغ البيان.
الرابعة : إن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى، وينعم بأعظم النعم، وتدل عليه آية البحث إذ تفضل وأنزل من السماء البيان والهدى والموعظة بما يفي بحاجة الناس جميعاً ويقودهم إلى الفلاح في الدنيا وعظيم الثواب في الآخرة.
ومن تمام النعمة في المقام أن جعل الله عز وجل سبل النجاة والفلاح هذه كلها بين دفتي القرآن، وجعله قريباً من الناس جميعاً بدليل قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] الذي يدل بالدلالة الموضوعية على بلوغ آياته للناس، وإتخاذهم له بلغة للغايات الحميدة من غير أن يكلفهم مالاً وإنفاقاً, فإن لم يطلبوا البيان فإنه يطلبهم .
ويحتمل حال الناس بالنسبة للبيان وجوهاً:
الأولى : طلب البيان السماوي للناس من السماء.
الثانية : حاجة الناس للبيان القرآني.
الثالثة : البيان فضل وأمر زائد يتلقاه الناس، إذ رزقهم العقل وتجلت الآيات الكونية للموعظة والعبرة.
والصحيح هو الثاني، فهو زاد الدنيا والآخرة، لذا تفضل الله ببيان القرآن وجعله واضحاً جلياً عند الناس جميعاً على إختلاف ألسنتهم وأقطارهم ومشاربهم، فهو يتعدى قيود اللغة والمكان والزمان لأن الله عز وجل أبى إلا أن يقضي حاجات الناس، وييسر لهم أمور دينهم، ويأخذ بأيديهم إلى سبل الحق، قال تعالى[قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ]( ).
الخامسة : ذكر الآية للناس عموماً بمرتبة وعرض واحد من غير تمييز بينهم، وفيه شاهد على عدم صيرورة اللغة واللسان غير العربي برزخاً دون الإنتفاع الأمثل من بيان وهدى ومواعظ القرآن، خاصة وأن لفظ المتقين أعم من المسلمين العرب، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
الخامسة : في الآية ترغيب بمجالسة المؤمنين، والإقتباس من سيرتهم في الصالحات، وهل في الآية دعوة للرجوع إلى العلماء.
الجواب نعم بلحاظ أنهم من أئمة الناس في الإيمان، وعلوم الحلال والحرام وبيان كنوز القرآن، قال تعالى[فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ويقتبس العلماء من القرآن البيان , ومن السنة النبوية ضياءه وأنواره، وعن عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا هذا الكلام: “اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم بارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قائليها وأتمها علينا”)( ).
التفسير
قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]
إبتدأت آية البحث باسم الإشارة هذا ثم تعقبه الخبر بالصفة والعلامة فلابد من اسم لذات الموصوف كما تقول هذا مؤمن، وذاك كريم.
ويحتمل المراد من اسم الإشارة وجوه:
الأول : الإشارة إلى كتاب الله القرآن وهو المشهور والمختار.
الثاني : المراد الإشارة إلى الآية السابقة[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ]( )، ونسب هذا القول إلى ابن إسحاق( ).
الثالث : (هذا بيان للناس) أي: هذا تفسير للناس إن قبلوه , ونسب إلى ابن إسحاق أيضاً( ).
الرابع : (هذا بيان) إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرين( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه والنسبة بين الوجه الأول والوجوه الأخرى هي العموم والخصوص المطلق، إذ أنها من مصاديقه ومن آيات وفيوضات القرآن , ولو دار الأمر بين طرفين:
الأول : إرادة القرآن من اسم الإشارة.
الثاني : إرادة مضامين الآية السابقة.
فالأظهر والأنسب هو الأول لإرادة الإطلاق ولأن كل آية من القرآن بيان وهدى وموعظة وكذا إجتماع كل آيتين من القرآن وإجتماع آيات القرآن وتلاوتها، وجاء اسم الإشارة (هذا) وصفاً وثناء على القرآن في آيات عديدة منها:
الأولى : [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ]( ).
الثانية : [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ]( ).
الثالثة : [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ]( ).
الرابعة : [وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ]( ).
الخامسة :[ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ]( ).
السادسة : [وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ]( ).
السابعة : [وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ]( ).
الثامنة : [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
التاسعة : [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا] ( ).
العاشرة : [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ] ( ).
الحادية عشرة : [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ]( ) وكل مثل قرآني بيان وهدى وموعظة.
الثانية عشرة : [وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ]( ).
الثالثة عشرة : [وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا]( ).
الرابعة عشرة : [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ]( ).
الخامسة عشرة : [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ]( ).
السادسة عشرة : [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ…]( ).
السابعة عشرة : [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرًى]( ).
الثامنة عشرة : [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
التاسعة عشرة : [هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ]( ).
العشرون : [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ]( ).
الحادية والعشرون : [وَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ]( ).
الثانية والعشرون : [وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ]( ).
الثالثة والعشرون : [هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ]( ).
الرابعة والعشرون : [هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]( ).
الخامسة والعشرون : [وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا]( ).
السادسة والعشرون : [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا]( ).
وفي الآية أطراف :
الأول : ذات القرآن كتاب نازل من السماء.
الثاني : إتصاف القرآن بأنه بيان.
الثالث : القرآن بيان للناس جميعاً.
يتكلم الناس لغات شتى، وأكثرهم لا يعرف إلا اللغة التي يتكلم بها قومه ولغة القرآن هي العربية ويحتمل وجوهاً:
الأول : كفاية عربية القرآن لفقه الناس لمعانيه ومقاصده.
الثاني : أهلية القرآن للترجمة لأي لغة، ووضوح معانيه بالترجمة في الجملة.
الثالث : ترشح الهدى في القرآن عن بيانه للأحكام الشرعية.
الرابع : القرآن هدى لأنه الكتاب السماوي النازل على خاتم النبيين وسيد المرسلين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : كل كتاب سماوي هدى، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الكتاب السماوي هدىً.
الصغرى : القرآن كتاب سماوي.
النتيجة : القرآن هدىً.
السادس : إرادة الهداية بالواسطة، فسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية هدىً للناس، وكذا إجماع وسيرة المسلمين العبادية.
السابع : آيات البشارة والإنذار والوعد والوعيد.
الثامن : ترجمة الإعجاز في بلاغة القرآن بتصديق العرب له، وإقرارهم بأن فوق كلام البشر، وهذا التصديق حجة على الناس.
ومن الآيات أن هذا التصديق لايخص المسلمين منهم وحدهم بل يشمل رؤساء الكفر من قريش ولكن العناد والإستكبار منعهم من الإيمان والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوه لك، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً. قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر أو أنك كاره له
قال : وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده مني ، ولا بشاعر الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ، ووالله إن لقوله : الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله ، وإنه ليعلوا وما يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته . قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه . قال : فدعني حتى أفكر . ففكر . فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت { ذرني ومن خلقت وحيداً}( ).
وقد جاء التحدي بالقرآن كله بقوله تعالى[قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( )، ويعشر سور منه، ثم سورة واحدة[قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ]( ).
ومنهم من أشكل على هذا الترتيب بلحاظ تأريخ نزول الآيات والجواب لابد من جعل موضوعية لحال الناس في ملاك التحدي، فحينما يكثر عدد المسلمين ويزدادون تفقهاً في الدين يأتي التحدي بالأقل من الآيات والسور لأنهم أصبحوا في مأمن من جدال ومغالطات الكفار، لتبقى كل مراتب التحدي تواجه مجتمعة الكفار وتدعوهم إلى الإسلام.
والمدار في لحاظ الآية ونفعها على عموم أفراد الزمان دون زمن النزول وحده، وليس من زمان طويل بين مراتب التحدي بسور القرآن، ليكون هذا التحدي من مصاديق آية البحث من وجوه:
الأول : إنه بيان للناس من جهات:
الأولى : إن الله عز وجل يدافع عن القرآن .
الثانية : بيان القرآن لتخلف الناس عن مقابلة تحديات القرآن.
الثالثة : زيادة إيمان المسلمين بعلمهم عن عجز الكفار وإن إجتمعوا وإجتهدوا عن الإتيان بسورة قصيرة واحدة من القرآن , مع أن سوره هي مائة وأربع عشرة سورة، وقيل كفاية ثلاثة آيات للتحدي لأن أقصر السور هي سورة الكوثر وهي ثلاث آيات.
الرابعة : دعوة الناس لدخول الإسلام بسلاح التحدي الذي هو حجة وبرهان.
الخامسة : بيان سمو رفعة القرآن وإمتناعه عن المحاكاة والشبه.
السادسة : هداية الناس للإحتجاج بالقرآن والرجوع إليه لدفع الوهم والجدال.
الثاني : إنه من الهدى الذي يصطبغ به القرآن من جهات:
الأولى : هداية الناس إلى قانون كلي وهو عجزهم عن المجيء بسورة من القرآن.
الثانية : دعوة الناس للتدبر في آيات القرآن بعد إدراك حقيقة عدم قدرتهم عن الإتيان بمثله، قال تعالى[فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ]( ).
الثالثة : هداية الناس إلى حقيقة وهي أن الله يتحدى بالقرآن، وهذا التحدي رحمة بالناس وخير محض، لأنه دعوة إلى الإسلام، وبرزخ دون البقاء على الشرك والضلالة.
الرابعة : التحدي بسورة من القرآن هدى للناس بالنظر والتدبر في كل سورة من القرآن، ووجوه الإلتقاء بينها في الإعجاز.
الخامسة : التحدي بسورة من القرآن هدى للناس عامة، وللذين يجحدون بتنزيله ويجادلون في أحكامه.
السادسة : الهداية للتدبر في كل سورة من القرآن على نحو مستقل.
الثالث : القرآن موعظة للمتقين من جهات:
الأولى : بيان عظمة وفيوضات القرآن.
الثانية : إن الله عز وجل يجادل عن المؤمنين وعن القرآن في الدنيا، وهو مقدمة للثواب الحسن الذي ينتظرهم يوم القيامة، قال تعالى[اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
الثالثة : ثبات المؤمنين في منازل التقوى بالتحدي السماوي بالقرآن.
الرابعة : بعث الشوق في نفوس المسلمين لتلاوة القرآن والإنصات له.
الخامسة : التخفيف عن المسلمين في دفع وصدّ أفراد كثيرة من الجدال، ومنع المنافقين من إثارة الشك والريب في التنزيل.
السادسة : موعظة المسلمين في بيان القرآن لمقاماتهم الكريمة، وسوء عاقبة الكفار يوم القيامة.
السابعة : قصص الأنبياء والأمم السابقة موعظة للمسلمين وموضوع للهداية والإتعاظ والإرتقاء في سلم المعارف، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثامنة : علوم الغيب فيما يخص الآخرة وأحوال الناس هدىّ وموعظة.
وأخبرت الآية بأن القرآن بيان للناس، ولابد من متعلق وموضوع لهذا البيان، ليكون تقديره على وجوه:
الأول : هذا بيان للناس في ربوبية الله المطلقة على الخلائق كلها.
الثاني : في القرآن أخبار الأولين والآخرين.
الثالث : هذا بيان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه مبعوث للناس جميعاً، لتكون لغة العموم وإرادة الناس جميعاً في رسالته وفي القرآن ككتاب سماوي.
ليكون في الإشتراك بلغة العموم بين رسالته والكتاب الذي جاء به مسائل:
الأولى : رحمة الله بالناس جميعاً.
الثانية : عدم وجود تضاد أو تباين بين رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن.
الثالثة : إقامة الحجة على الناس، قال تعالى[قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، وبيان حقيقة وهي أن التخلف عن دخول الإسلام إمتناع عن إختيار.
الرابع : كل آية من القرآن بيان للناس.
الخامس : في القرآن بيان لأحكام الحلال والحرام.
السادس : بيان خصال المؤمنين وسبل الهداية والرشاد.
السابع : بيان مكارم الأخلاق والترغيب فيها، وذكر الأخلاق المذمومة ولزوم نبذها.
الثامن : بيان أهوال عالم القبر والبرزخ، قال تعالى[وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
التاسع : بيان عداوة الشيطان للإنسان ، وإتصاف هذه العداوة بالوضوح في شدتها، والظهور في قبحها، قال تعالى[إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
العاشر : كل نهي في القرآن بيان في الزجر والتأديب والإنذار , وليس من حصر لأفراد وموضوعات مدرسة النهي في القرآن.
الحادي عشر : بيان حقيقة وهي أن القرآن من عند الله وأنه نور، قال تعالى[قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ]( ).
الثاني عشر : بيان الثواب العظيم الذي ينتظر المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ومن اللطف الإلهي أن هذا البيان جاء في آيات وصيغ عديدة لموضوعيته في إصلاح النفوس وللبيان والبلاغ والحجة وثناء الله عز وجل على نفسه بأن يهدي شطر من الناس لعمل الصالحات ثم يثيبهم عليه بالخلود في النعيم، قال تعالى[جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا]( ).
الثالث عشر : بيان قصص الأنبياء، وما لاقوه في جنب الله من الأذى، وصبرهم في دعوتهم قومهم إلى الإيمان، وصيرورة قصصهم موعظة وأسوة، قال تعالى[فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ]( ).
الرابع عشر : بيان حقيقة وهي أن الأنبياء جاءوا بالبينات الواضحات لقومهم، وأن الذين كذبوا بهم خسروا النشأتين، وفي الآية السابقة[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ].
الخامس عشر : بيان حسن منزلة المسلمين، وعظيم شأنهم، وإكرام الله عز وجل لهم، لذا جاء في الآية التالية قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
السادس عشر : ذكر القرآن للآيات الكونية، ودعوة الناس للتدبر فيها والتفكر في عظيم خلق الله، قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
السابع عشر : بيان شهادة الله على الناس في تصديقهم للنبوة وجحود شطر منهم بها، قال تعالى[وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ).
الثامن عشر : التأكيد على صلة الرحم وبيان منافعها في الدنيا والآخرة، وذكر أضرار قطع الرحم والإمتناع عن إعانته، وعن حجر بن بيان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما أعطاه الله إياه فيبخل عليه إلا خرج له يوم القيامة من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه. ثم قرأ{ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله})( ).
ويكون النبأ والخبر القرآني على وجوه:
الأول : إنه بيان من علم الغيب تتجلى فيه بركة ومنافع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : إطلاع الناس على علوم الغيب بنزول القرآن.
الثانية : التجلي والتفصيل في أخبار الآخرة بما يدفع اللبس , ويمنع من الوهم.
الثالثة : تكرار ذكر مواطن يوم القيامة وذكر الجنة والنار في القرآن.
الرابعة : الخبر القرآني موضوع للإحتجاج، وبرزخ دون الجدال، وفضح لمفاهيم الضلالة والغواية.
الخامسة : بيان الإطلاق الزماني في قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس في الدنيا والآخرة.
الثاني : تقريب المدركات العقلية بأمور حسية في القرآن وسيلة لتفقه الناس في الدين، وإستحضار وقائع يوم القيامة وكأنها ماثلة أمامهم.
الثالث : كل إخبار في القرآن هدى وموعظة وطريق للفلاح.
الرابع : إرادة العموم في المصاديق في قوله تعالى(هذا بيان للناس).
قانون التبيان
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان إذ جعله خليفة في الأرض قبل أن يهبط إليها , مما يدل على أن شأن وسلطان الإنسان في الدنيا بإرادة ومشيئة الله، ولم يتوقف هذا الإكرام أو ينحصر بمقام الخلافة فهو متجدد ومستمر بصيغ متعددة كل واحدة منها رشحة من فضل الله وشاهد على حكمته.
فقد تفضل الله وإحتج به على الملائكة، قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]( )، وأمر الله الملائكة بالسجود لآدم ثم تفضل وجعله رسولاً نبياً، وتعاقب الأنبياء من ذريته وينزل عليهم الوحي من السماء , وهو عنوان إكرام إضافي وشاهد على إستدامة الصلة بين السماء والإنسان بوجوده في الأرض بأبهى صبغة وكيفية وواسطة وهي نزول الملك بالوحي، وبوجوب تعاهد أمانة حفظ سنن التوحيد في الأرض، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا]( ).
وتفضل الله عز وجل وأكرم أهل الأرض بنزول القرآن كاشفاً ومبيناً لسنن الشريعة وأحكام الحلال والحرام، وهادياً إلى المصلحة والنفع في الدنيا والآخرة، وتتجلى فيه سبل الفلاح بأبهى بيان، وأظهر حجة وبرهان وفيه البشارة بالإقامة بالنعيم، والإنذار من العذاب الأليم والفرقان بين الحق والباطل.
وأخرج أبو يعلي وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: أنزل الله صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزل التوراة على موسى لست خلون من رمضان ، وأنزل الزبور على داود لاثنتي عشرة خلت من رمضان، وأنزل الانجيل على عيسى لثماني عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان على محمد لأربع وعشرين خلت من رمضان)( ).
ويمكن تسمية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم(بعثة البيان) لإجتماع وجوه البيان فيها وبخصوص الأفعال والأحكام والعواقب والعوالم والفصل بين الحسنات والسيئات، وتجلى التبيان بآيات القرآن وهو الكتاب الجامع المانع، والحضور السماوي المستديم في الأرض والباقي في الوجود الذهني للناس وإلى يوم القيامة لا يفارقهما أبداً لأن هذا الحضور من مصاديق قوله تعالى[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
لقد أراد الله عز وجل للناس الإعتصام بالقرآن والصدور عنه، وإتخاذ العمل بمضامينه القدسية بلغة للنعيم في الدنيا والآخرة، وفي الدعاء عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: قولك الحق ووعدك الحق)( ).
والمراد من القول القرآن وقضاء الله عز وجل في النشأتين وإرادته التي تتجلى بالكاف والنون والوعد هو الثواب بالإقامة في الجنة على الإيمان وفعل الصالحات، وإنتفاء الفزع والخوف من قلوب المؤمنين يوم القيامة وفي قوله تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا]( )، ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله)( ).
لقد إزدانت الأرض وصارت ذات بهجة ونضارة بنزول القرآن وما فيه من آيات الكمال والتمام في الأحكام وسبل الهداية، ومن مصاديق الفضل الإلهي في القرآن أن جعل الله فيه الكفاية في البيان فيستغني أهل الإيمان بقواعده وقوانينه( )، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وفيه أحكام النكاح والميراث وخصال البر والإحسان بما يمنع من اللبس والترديد.
ومن الآيات إقتران الهدى بالتبيان في الآية أعلاه من سورة النحل كما إقترنا في آية البحث , وفيه مسائل:
الأولى : إقامة الحجة على الناس على صدق نزول القرآن من عند الله، والمائز بينه وبين علم البيان والخطاب والشعر، فالقرآن لا يقف عند البيان بل يصاحبه الهدى ونهر الموعظة التي ليس لها ظمور أو إنقطاع .
الثانية : يمكن تأسيس قانون وهو كل آية من القرآن بيان وهدىً ومع إتحاد الآية القرآنية الواحدة فإن مصاديق البيان والهدى فيها من المتعدد والإنشطاري.
الثالثة : تجلي البركة والفيض الإلهي ببيان القرآن، وأنه خير محض، ونفع متجدد.
الرابعة : صيرورة بيان القرآن موضوعاً ومادة لصلاح الناس.
الخامسة : الترغيب ببيان القرآن وبعث الشوق في النفوس للتدبر في دلالاته وعلومه.
السادسة : تأكيد قانون في الإرادة التكوينية وهو أن البيان القرآني رحمة بلحاظ كبرى كلية وهي تجدد البيان والكشف القرآني سواء من طرف إعجاز القرآن الذاتي أو الغيري ومصاديق البيان والحكمة في القرآن.
بحث منطقي
من مصطلحات علم المنطق القضية وهو الخبر، والمركب التام الذي يصح وصفه بالصدق بلحاظ مطابقته للواقع، أو الكذب لمخالفته الواقع، والقرآن منزه عن التنافي وعوارضه في ذاته ومدلولاته الإلتزامية، ومع أن القرآن بيان لكل شيء فليس فيه إلا الصدق والحق، وبه تتقوم الحياة الدنيا، وفيه دلالة على تخلف الكذب عن مراتب وشأن الصدق عند الناس، وملائمته للفطرة الإنسانية، إذ تميل النفوس إلى الصدق وتنفر من الكذب عن مراتب وشأن الصدق عند الناس، وملائمته للفطرة الإنسانية، إذ تميل النفوس إلى الصدق وتنفر من الكذب والباطل، هذا الميل من رشحات قوله تعالى[وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، وأمره تعالى للملائكة بالسجود لآدم بلحاظ حب الإنسان للعبادة وغلبة العقل على الشهوة.
وتنقسم القضية إلى قسمين:
الأول : القضية الحملية، وتتكون من ثلاثة أطراف بلحاظ الحكم فيها وهي:
الأول : المسند إليه أو المحكوم عليه ويسمى الموضوع.
الثاني : المسند ويسمى المحمول.
الثالث : النسبة بين الطرفين.
وهي على شعبتين:
الأولى : الإتحاد بين الطرفين كما تقول الحج نسك.
الثانية : نفي الإتحاد بين الطرفين: الربا ليس حلالاً.
وسميت هذه القضية حملية لأن أحد طرفيها وحديهما محمول على الآخرة وكأنه من الذات والعرض.
الثاني : القضية الشرطية، وهي التي يحكم فيها بوجود نسبة بين الطرفين أو نفيها، وتكون قائمة بالإتصال أو التعليق أو النفي، وبذا نختلف عن القضية الحملية التي تتقوم بإتحاد الطرفين أو نفي الإتحاد بينهما، ومن الأمثلة على القضية الشرطية قوله تعالى[إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا]( )، ومفهومها إذا لم يأت الأجل وأوان مغادرة الدنيا فإن الملائكة لا يقبضون روح الإنسان.
وتتألف القضية الشرطية من ثلاثة أطراف هي:
الأول : المقدم.
الثاني : التالي.
الثالث : الرابطة، وهي التي تدل على النسبة بين الطرفين الأول والثاني، كنسبة الإتصال أو الملازمة أو التعليق أو النفي والتعاند بينهما، قال تعالى[وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ]( )، بتقريب وهو الإنفصال بين النعمة والشكر، والإتصال والمصاحبة بين مداهمة الضرر واللجوء إلى الدعاء، ومثل قوله تعالى[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه]( )، فالمقدم هو: عمل الصالحات، والتالي الخير والثواب الذي يراه والرابطة هي الفاء في(فمن)
وتنقسم القضية الشرطية إلى قسمين:
الأول : القضية الشرطية المتصلة وهي التي يحكم بالإتصال بين المقدم والتالي أو تعليق أحدهما على الثاني مثل صل عند الزوال، أو نفي الإتصال والتعليق، بينهما ليس كلما رؤي الهلال لزم الصوم لأن الهلال يطل على الأرض أثنتي عشرة مرة في السنة، ومرة واحدة هي التي يصوم بها المسلمون، وقد أكرم الله عز وجل شهر رمضان بأمور:
الأول : إختصاصه بالذكر بالاسم في القرآن من بين أشهر السنة.
الثاني : نزول القرآن في شهر رمضان.
الثالث : ذكر هلال شهر رمضان على نحو التعيين بقوله تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، مع وجود قرائن تدل على إرادة شهر رمضان.
الثاني : القضية الشرطية المنفصلة، وهي على شعبتين:
الأولى : هي التي يحكم فيها بالإنفصال والتعاند بين طرفي القضية أو نفي الإنفصال بينهما مثل قوله تعالى في الأسرى[فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً]( ).
الثانية : وهي نفي الإنفصال بين أطراف القضية، ليس الجو إما أن يكون شمساً أ وممطراً.
فقد ينزل المطر والشمس طالعة، فنفينا الإنفصال بينهما، وهذا القسم قليل الإبتلاء لغة وعلماً، وكثير من الموضوعات ينتقي الإنفصال بينهما مثل: الإنسان إما مؤمن وإما كافر، الوقت إما نهار أو ليل وتنقسم كل من القضية الحملية والشرطية بلحاظ الكيف إلى قسمين:
الأول : الموجبة.
الثاني : السببية.
وبالنسبة لقوله تعالى في آية البحث(هذا بيان) فهو قضية حملية موجبة يثبت فيها المحمول للموضوع وليس بينهما فصل أو تعاند أو تعليق أو مفارقة، وتلك آية في فضل الله على الناس وتقريبهم إلى منازل الإيمان وتنحيتهم عن مستنقع الضلالة والغواية.
ويمكن أن نضيف تقسيماً جديداً للقضية بلحاظ البيان والوضوح وهو:
الأول : ما تكون القضية جلية ظاهرة.
الثاني : القضية التي تستلزم الواسطة القريبة والمتحدة، كما في المحسوسات التي يحكم بها العقل بواسطة الحسن.
الثالث : القضية التي تحتاج المتعدد من الوسائط، مثل التي تحتاج إلى التصور والحس والتجربة.
وجاء بيان القرآن في بيانه وهداه ومواعظه من القسم الأول، ونسبته للناس جميعاً من الكلي المتواطئ، لينهل الناس من علوم السماء بما يعينهم في الأرض، فمن كرم الله عز وجل أنه حينما أمر بهبوط آدم وحواء إلى الأرض لم يتركهما وإغواء إبليس، بل أنعم عليهما وعلى ذريتهما بالتنزيل والنبوة والوحي وما فيه من الكشف والبيان، قال تعالى[أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى]( ).
ثم بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتكون رسالته الفيصل بين الحق والباطل، والبيان الجلي القريب من أذهان الناس على تباين مداركهم، فهو الرسول الدائم الذي لا يحتاج إلى واسطة بينه وبين أي إنسان فكلما أنه لس من حاجب أو برزخ بين بعد الإنسان والسماء، فكذا ليس من برزخ ومانع بين بصيرة الإنسان والبيان السماوي في القرآن.
بحث أصولي في أسماء الإشارة
اسم الإشارة موضوع للدلالة بما يتوجه معه الذهن إلى معنى حاضر مخصوص من بين معاني متعددة في عالم التصور واللحاظ، فينتقل الذهن إلى المشار إليه ليشترك اسم الإشارة مع الحروف بالمعنى الآلي.
وأطراف الإشارة هي:
الأول : المشير.
الثاني : آلة ووسيلة الإشارة كاللفظ باسم الإشارة ونحوه أو الإشارة باليد أو حركة العين.
الثالث : المشار إليه، وتدل الإشارة ب(هذا) على حضوره قال ابن مالك: بذا المفرد مذكر أشر) ( )، ويمكن تقسيم الإشارة تقسيماً إستقرائياً جديداً إلى أقسام:
الأول : الإشارة اللفظية وصيغ الدلالة الإجمالية أو لغة الوصف.
الثاني : الإشارة اللفظية التعيينية كما في قوله تعالى(هذا بيان للناس) فإنه يتضمن قرب وتجلي ووضوح المضاف إليه.
الثالث : الإشارة اللفظية المقترنة بالتعضيد العملي مثل حركة اليد أو العين، ويحتمل إقتران الإشارة العملية في المقام وجوهاً:
الأول : تأكيد الإشارة اللفظية.
الثاني : تدارك النقص وإتمام الإشارة اللفظية.
الثالث : طبعية زائدة.
الرابع : منع الإجمال ودفع الجهالة والغرر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكل بحسبه من جهة القرب والبعد ولغة الخطاب والغائب كما في: ذلك، هم، هنّ .
ومن إعجاز القرآن تجلي البيان والوضوح في أسماء الإشارة الواردة فيه ولا يحتاج المستمع إلى تعضيد عملي من التالي للآية.
الرابع : الإشارة العملية المحضة التي لا يصاحبها لفظ أو اسم إشارة كالإشارة بحركة اليد أو الرأس أو العين ونحوها.
ولما سئل الإمام علي عليه السلام عن الوحي في كتاب الله تعالى فقال: منه وحي النبوة، ومنه وحي الالهام، ومنه وحي الاشارة، ومنه وحي أمر، ومنه وحي كذب، ومنه وحي تقدير، [ومنه وحي خبر] ومنه وحي الرسالة. فأما تفسير وحي النبوة والرسالة فهو قوله تعالى[ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ….]( ).
وأما وحي الالهام فقوله عز وجل ” وأوحى ربك إلى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون”( ) ومثله ” وأوحينا إلى ام موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم”( ) وأما وحي الاشارة فقوله عز وجل: ” فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا “أي أشار إليهم لقوله تعالى: “ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا “( )
وأما وحي التقدير فقوله تعالى: “وأوحي في كل سماء أمرها وقدر فيها أقواتها وأما وحي الامر فقوله سبحانه: ” وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ” وأما وحي الكذب فقوله عزوجل: “شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض”( ).
وأما وحي الخبر فقوله سبحانه” وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة وكانوا لنا عابدين”)( ).
الخامس : الإشارة التنزيلية وهي الإشارة التي وردت في التنزيل والتي لا يصاحبها لفظ آخر أو فعل وحركة من الجوارح، وهذا القسم أفضل وأسمى أقسام الإشارة من جهات:
الأولى : إنه حق وصدق.
الثانية : النزول من عند الله هبة للناس.
الثالثة : بقاء إشارة التنزيل القرآنية إلى يوم القيامة لا يطرأ عليها تحريف أو تغيير.
الرابعة : إنتفاء الإجمال وأسباب الجهالة والغرر في اسم الإشارة الواردة في التنزيل.
الخامسة : الأجر والثواب في كل إشارة قرآنية , وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لاَ أَقُولُ الم َحرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ)( ).
بحث نحوي
جاءت الآية بحرف الإشارة (هذا بيان) مع أن مشهور النحويين أن اسم العلم أعرف من اسم الإشارة، وهو المختار، لأن موضوع الآية أعم من النسبة بين اسم الإشارة واسم العلم في الصناعة النحوية والعلم لفظ يدل بنفسه على معين من غير واسطة، وهو على ثلاثة أقسام:
الأول : الاسم هو الذي وضع لمعنى مخصوص، ويصح الإبتداء به ولا يحتاج مقدمة له.
الثاني : الكنية وتصدر باب وابن وأم، قال تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
الثالث : وهو الذي ينبئ عن مدح أو قدح، وإذا إجتمع الاسم واللقب قدم الاسم وأخر اللقب، أما الكنية فلا ترتيب بينها وبين الاسم أو اللقب، واسم الإشارة اسم معرفة والمعارف هي:
الأول : اسم الجلالة والأسماء الحسنى وهي توقيفية.
الثاني : الضمير وهو اسم يتبين مسماه عن طريق التكلم أو الخطاب أو الغيبة.
الثالث : العلم: وهو الاسم الذي يعين المعنى المقصود منه ومسماه بدون واسطة.
الرابع : اسم الإشارة، وهو الذي يحدد مسماه والمراد منه بالإشارة اللفظية أو الفعلية أو التدوين أو الجمع بينها أو بين بعضها , ويمكن أن نضيف لها وجهاً وهو التنزيل كما في قوله تعالى(هذا بيان للناس) وليس من اسم إشارة في الدنيا وتأريخ أهلها أعظم أثراً ودلالة وموضوعاً مثل التنزيل، وإن لم يذكره النحويون على نحو التعيين.
وأسماء الإشارة هي هذا: للمفرد المذكر، ذه وته، هذان للمثنى المذكر، هاتان للمثنى المؤنث، أولاء، وأولوا، وهؤلاء مع هاء التنبيه لجمع المذكر والمؤنث، قال تعالى[إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً]( ).
الخامس : الاسم الموصول وهو الاسم الذي يتعين المسمى المراد منه بجملة تأتي بعده وتسمى صلة الموصول، والأسماء الموصولة هي:
1- الذي: ويراد منه المفرد المذكر.
2- التي: للمفردة المؤنث.
3- اللذان: للمثنى المذكر.
4- اللتان: للمثنى المؤنث.
5- الذين: لجماعة الذكور العقلاء.
6- اللاتي، اللائي، اللواتي: الجمع المؤنث.
7- ما: للعاقل وإذا جاءت صفة لله عز وجل فهي علم.
8- ما: لغير العاقل .
والأسماء الموصولة جميعها مبنية.
السادس : المقترن بأل وهو الاسم الذي يعين معناه ومسماه بواسطة (أل) كما في لفظ الكتاب في قوله[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ]( ).
السابع : المضاف إلى معرفة وهو الاسم النكرة يأتي مضافاً إلى واحد من المعارف الستة أعلاه كما في قوله تعالى في خطاب لإبراهيم عليه السلام بخصوص قوم لوط[إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ]( ).
الثامن : المعرف بالنداء: وهو كل نكرة تقدمتها أداة نداء.
التاسع : المعرف بدلالة الإشارة إليه، ويكون مشاراً إليه.
وهو على قسمين:
الأول : ما يأتي إخباراً عن اسم الإشارة كما في آية البحث، وقوله تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ]( ).
الثاني : ما يكون مضافاً للمعرفة , وورد في التنزيل حكاية عن لوط[وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ]( )، وقيل المضاف إلى العلم بقوة العلم كما تقول: صلاة الجمعة، وكذا المضاف إلى اسم الإشارة بقوة اسم الإشارة، كما تقول: هلال هذا الشهر، والمضاف إلى الاسم الموصول بقوة الاسم الموصول كما في قوله تعالى[صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ]( ) يطلبه بذاته أو يأتي به مقدمة وبلغة.
بحث كلامي
لقد جعل الله الدنيا دار العمل، يدرك الإنسان فيها حاجته للعمل , وقد يداهمه العمل ويحمله على الفعل، وفيه إمتحان للإنسان ودعوة للتقوى وإصلاح السريرة وإختيار الإيمان والتوكل على الله، والشوق على الأعمال التي هي ذخيرة في الآخرة، وتفضل الله عز وجل وجعل القرآن ذكرى وموعظة، قال تعالى[فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى]( )، وقيدت الآية أعلاه الذكرى بالنفع، وفيه مسائل:
الأولى : إذا لم تنفع الذكرى فلا حاجة لها.
الثانية : إرادة سقوط وجوب الذكرى في حال عدم النفع، أما الندب والإباحة فهي باقية على حالها.
الثالثة : إرادة التذكير مطلقاً وإن لم ينفع، إنما إقتصر على النفع لبيان حقيقة وهي لابد من حصول النفع في الذكرى من وجوه:
الأول : ترتب الأثر عند الطرف الآخر ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الثاني : عدم إقتصار النفع على متلقي الذكرى لتعدد أطراف الذكرى وهي:
الأول : الذي يقوم بالتذكير.
الثاني : المتلقي للتذكير.
الثالث : السامع للذكرى، لذا قال تعالى[سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى]( ).
الرابع : ذات الذكرى.
ومن منافع الذكرى النفع العظيم والثواب الجزيل للذي يتولى الذكرى والموعظة، وتتصف الذكرى في الآية أعلاه بأمرين:
الأول : الأمر والخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته الأمة.
الثاني : تقييد الذكرى بالنفع.
أما آية البحث فجاءت مطلقة في ذات البيان وعموم الناس(هذا بيان للناس) وفيه دلالة على أمور:
الأول : موضوعية البيان في حياة الناس.
الثاني : البيان فضل ورحمة بالناس جميعاً فكما ينزل المطر من السماء ويصيب البر والفاجر فإن بيان القرآن يأتي للناس جميعاً، ولا يختص بموسم وأيام محدودة كالمطر ولا يستلزم صلاة إستسقاء، فالبيان القرآني قريب من الناس وهو خير محض ونفع متعدد ومتجدد، ويمكن التدبر في الفارق بين البيان القرآني وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتذكير بأن البيان أعم من الذكرى موضوعاً وسعة وأثراً لذا فإن القرآن هو المصدر الأول للتشريع , وفي البيان القرآني مسائل:
الأولى : إنه ذكرى من عند الله باقية في الأرض إلى يوم القيامة.
الثانية : الأصل في النسبة بين البيان والذكرى في القرآن هي العموم والخصوص المطلق، فكل ذكرى هي بيان وليس العكس، ولكن المقام مختلف في فلسفة التنزيل من وجوه:
الأول : إذ تكون النسبة بينهما هي التساوي، فكل بيان هو ذكرى وكذا العكس.
الثاني : كل من البيان والذكرى تعليم وإرشاد للناس، ونبذ لحب الدنيا.
الثالث : البعث على رقة وخشوع القلب وإلى فعل الخيرات والإنابة والصلاح، وكل من البيان والذكرى من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى[وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع : في البيان والذكر مجتمعين ومتفرقين طرد للوهن والعجز والتفريط والتسويف والضعف والعجز، ومن إعجاز القرآن مجيء الآية التالية بالنهي عن الوهن والحزن[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الخامس : تعدد مصاديق الحكمة والحجة والإرتقاء في سلم الكمال في البيان والذكرى القرآنية.
الثالثة : طرد الجهالة والغفلة عن الناس، على نحو متكرر ومتجدد، فكل من الجهالة والغفلة أمر عرضي طارئ يزول بوجود المانع أو مجيء الكاشف للحق والحقيقة الذي يتجلى بأبهى حلة بالبيان القرآني، قال تعالى[لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ]( ).
الرابعة : الذكرى بخصوص عالم الآخرة وأهوال الحساب فيها.
الخامسة : التفصيل في البيان القرآني بما يشمل الذكرى وأسبابها ورشحاتها، وأختتمت الآية السابقة بقوله تعالى[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
السادسة : البيان في الدنيا رحمة وخير محض، ومن صفات الله عز وجل الرحيم، الرحمن، وهو الذي يستعان به على فعل الخيرات والإهتداء إلى سبل النجاة في الآخرة.
السابعة : إغاظة المشركين بالتذكير بالجنة والنار، ومن رحمة الله في المقام أن الجنة ذكرت في القرآن بصيغة المفرد والجمع , أما النار فلم تذكر إلا بصيغة المفرد، مع التقارب في عدد ذكر كل منهما، وورد ذكر جنة الآخرة في القرآن بصيغة المفرد(جنة) نحو أربعاً وستين مرة أو نحوه، وورد ذكر جنات الآخرة نحو ستين مرة في القرآن، وورد بصيغة المثنى ثلاث مرات.
وورد ذكر نار الآخرة بلفظ (النار) نحو مائة وستة مرات، إلى جانب ورودها بأسماء أخرى وهي جهنم، سجين، سقر، الهاوية، الحطمة، قال تعالى[كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ]( ).
والسعير، قال تعالى في الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً[وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا]( ).
والجحيم قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ]( ).
وإذا كانت أسماء النار تبعث الفزع والخوف والنفرة من الحرام فإن جنة الآخرة ذكرت بأسماء في القرآن تبعث الشوق إليها وإلى مقدمات وأسباب الدخول إليها منها:
الأول : دار السلام , لأنها دار الأمن والسلامة والنجاة , قال تعالى[لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( ).
الثاني : دار المقامة للبث الدائم في النعيم الأبدي وقطع أهلها بسكنهم الدائم فيها كما ورد في التنزيل[وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ* الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ]( ).
الثالث : الفردوس، وقيل لفظ الفردوس: أعجمي معرب، ولكن ذكر أن(بستان الكرم يقال له الفردوس)( )، والفردوسة: السعة، وصدر مفردس: واسع)( ) , ولو دار الأمر بين كون اللفظ القرآني عربيا أو أعجميا فالأصل هو الأول .
قال تعالى[أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )، وأخرج البخاري عن أنس قال: أصيب حارثة يوم بدر فجاءت أمه , فقالت : يا رسول الله قد علمت منزلة حارثة مني ، فإن يكن في الجنة صبرت، وإن يكن غير ذلك ترى ما أصنع؟ فقال: إنها ليست بجنة واحدة ، إنها جنان كثيرة ، وإنه في الفردوس الأعلى)( ).
الرابع : المقام الأمين لخلود أهلها في حال الأمن.
وتتضمن أسماء الجنة وعداً من الله عز وجل في مضمون معنى الاسم ودلالته على المسمى الذي يتبادر إلى الذهن على نحو الحقيقة وليس المجاز، ومن فضل الله عز وجل وجود شواهد في الحياة الدنيا هي في الأصل من رشحات نعيم الجنة لتذكير الناس بها وترغيبهم بالسعي الحثيث لها.
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “الريح الجنوب من الجنة، وهي الريح اللواقح، وهي التي ذكر الله في كتابه، وفيها منافع للناس”( ).
قانون السنة النبوية بيان للناس
جاءت السنة النبوية بأخبار عديدة تحكي قصص الأمم السالفة وكيفية نزول العذاب بالكفار، ومن مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، إتصاف الخبر النبوي بأمور: الأول : البيان والعذوبة. الثاني : يبعث الخبر النبوي الشوق في النفس للإستماع والإنصات له. الثالث : يتصف حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه حق وصدق لا يخالطه وهم أو شك. الرابع : يبقى الإخبار النبوي عن عاقبة المكذبين في الوجود الذهني للمسلم وغيره بحال وزمان يميزه عن غيره من الأخبار. الخامس : أهلية الحديث النبوي لإقتباس الدروس والمواعظ منه، ترى هل الحديث النبوي من البيان الذي ذكرته آية البحث , الجواب نعم من جهات: الأولى : دعوة القرآن لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته القولية والفعلية والتدوينية، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ). الثانية : الآيات التي تبين سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسن سمته وإمامته للناس في طاعة الله. الثالثة : دعوة القرآن المسلمين للإقتداء بالنبي، قال تعالى[ولَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )، ويحتمل ما أصاب الكفار الذين آذوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه وحاربوه برسالته وأرادوا الفتك بأصحابه وأهل بيته وجوهاً: الأول : إنه من البيان القرآني. الثاني : إنه من السنة النبوية. الثالث : هو أمر مستقل وعلم للمغازي والتأريخ قائم بذاته . وكل هذه الوجوه صحيحة، ويكون ما أصاب كفار قريش ونحوهم منها، وهو من مصاديق خاتمة آية السياق[فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ). ويشهد على خزي وإندحار الذين كذبوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنسحابهم من ميدان المعركة إلى مكة بعد أن قُتل منهم إثنان وعشرون وأستشهد من المسلمين سبعون , وأظهر المسلمون الصبر والعزم على مواصلة الجهاد ومحاربة الكفار وقالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب ونزل قوله تعالى[وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ]( )، فعفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصبر ونهى عن المثلة. وتجلت المواساة وتنمية ملكة الصبر بالبيان القرآن وتذكير التنزيل للمسلمين بعد واقعة أحد بالمدد والنصر الذي تحقق بفضل الله يوم بدر وكأن فيه وعداً لتحقق مثله في الأيام القادمة والذي حصل واقعاً. ومن الآيات في خاتمة معركة أحد أن النبي محمداً وأصحابه هم الذين بقوا في ميدان المعركة وتوجهوا إلى الله بالدعاء والثناء، وعن رفاعة الزرقي(لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ اللَّهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ . اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنْ الرَّاشِدِينَ اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)( ). وتتصف الوقائع والحوادث التي واجهها المسلمون في بداية الدعوة بالقرب الزماني مقارنة مع قصص الأمم السابقة، ولكن هذه القصص صارت قريبة هي الأخرى بطي الزمان والفترة بذكرها في القرآن، وتلاوة المسلمين لها كل يوم ليكون من خصائص البيان القرآني أمور: الأول : تقريب البعيد والمندثر من الوقائع والأحداث. الثاني : ذكر أحوال الأمم السالفة والمنع من نسيانها وضياعها، فكما حفظ القرآن وبيانه اللغة العربية وأرسى قواعدها وزادها بلاغة وبهاء فانه حفظ قصص الأمم السالفة، وهذا الحفظ مطلوب لذاته وللمسائل والدروس والمواعظ التي تستنبط منه. الثالث : بيان القرآن لسنن الأمم السابقة في القرآن شاهد على إعجازه، وفيه هدىً للناس، ودعوة لإقتباس السنن الحميدة، والنفرة من سنن الكفر والجحود. وكما أخبرت آية البحث عن كون القرآن بياناً للناس، فإن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيان نبوي موجه للناس جميعاً، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، ليكون من معاني لفظ كافة في المقام أمور: الأول : تكف وتمنع رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس عن الكفر. الثاني : تزجر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس عن فعل المعاصي. الثالث : جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبيان الذي ينفع الناس جميعاً، ويكف أيدي بعضهم عن بعض، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ). الرابع : كفاية البيان القرآني للناس في أمور حياتهم الخاصة والعامة، وفيما يخص دنياهم وآخرتهم، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ). الخامس : ترشح البركة من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق المسلمين بها , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء)( ). علم جديد(علم البيان القرآني) وبيان القرآن على وجوه كثيرة منها: الأول : آيات البيان في القرآن. الثاني : فضل الله على الناس بالبيان القرآني. الثالث : الهداية في البيان القرآني. الرابع : بيان القرآن طريق للتوبة وبعث لمنازلها. الخامس : دعوة الناس للصدور عن البيان القرآني، قال تعالى[ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]( ). السادس : بيان رحمة الله بالناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجيء البيان والوضوح في الأحكام والعاقبة معها، قال تعالى[رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ]( ). السابع : بيان القرآن مادة وموضوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبرزخ دون شطط المسلم فيه. الثامن : وحدة المسلمين من رشحات بيان القرآن وصيغ الأمر والنهي فيه، كما في قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ). التاسع : علوم الغيب في البيان القرآني. العاشر : البيان القرآني تحد للكفار وأهل النفاق في ذاته وموضوعه وأثره. الحادي عشر : ضروب الإعجاز في البيان القرآني. الثاني عشر : بيان القرآن لأمور الآخرة، ومنازل الناس فيها. الثالث عشر : قصص القرآن من علم البيان القرآني. الرابع عشر : مدرسة البيان في القرآن. الخامس عشر : إنتفاع الناس عموماً من البيان القرآني. السادس عشر : بيان القرآن صراط مستقيم، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ). السابع عشر : بيان القرآن لعداوة الشيطان للناس جميعاً وللمؤمنين خاصة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ). الثامن عشر : إيضاح القرآن لسبل الإيمان، والتضاد بينه وبين الكفر. التاسع عشر : بيان القرآن لبداية الخلق، وإحتجاج الملائكة على جعل خليفة في الأرض ورد الله عز وجل عليهم. العشرون : مواطن الآخرة وأهوالها من أبهى علوم الغيب التي جاءت في القرآن. الحادي والعشرون : البيان القرآني نفع وخير محض. الثاني والعشرون : كل آية من القرآن بيان متعدد ومنهل متجدد، وكنز دائم تستخرج منه الأحكام، وتستنبط منه المسائل. الثالث والعشرون : تجلي الرخصة والتيسير والتخفيف في آيات القرآن، قال تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ). الرابع والعشرون : السياحة العلمية في إشراقات بيان القرآن والسنة النبوية. الخامس والعشرون : السنة النبوية القولية والفعلية والتدوينية والتقريرية بيان للقرآن ومرآة له. السادس والعشرون : إنتفاع المسلمين الأمثل من البيان القرآني. السابع والعشرون : البيان القرآني حجة وبرهان. الثامن والعشرون : بيان القرآن رحمة ورأفة من عند الله وهو من الشواهد السماوية على قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ إنتفاع الناس جميعاً من البيان القرآني. علم جديد(آيات التدبر) لقد جعل الله سبحانه الحياة الدنيا دار (الكتاب السماوي) إذ إقترن الوحي مع هبوط الإنسان إلى الأرض، فكان آدم نبياً رسولاً يأتيه الوحي من عند الله ولم يتوقف الوحي إلا بإنقطاع النبوة ونزول تمام القرآن , فحفظ المسلمون آياته في صدورهم، وكتبوه في المصاحف واللحف وجريد النخل، ليكون من مصاديق قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ). والبيان القرآني من كمال الدين وتمام النعمة على المسلمين، وفيه دلالة على إكرام المسلمين بتلقيهم البيان القرآني بالقبول والرضا والتفقه في مضامينه القدسية ويحتمل حفظ المسلمين لآيات وسور القرآن عن ظهر قلب وجوهاً: الأول : جاء حفظ المسلمين للقرآن بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى. الثاني : كان المسلمون الأوائل يحفظون آيات القرآن أيام نزولها. الثالث : من الآيات ما حفظها الصحابة أيام التنزيل والنبوة، ومنها ما حفظوه بعد إنقطاع الوحي. الرابع : كان حفظ القرآن قليلاً في أيام النبوة لإنشغال الصحابة بالدفاع عن بيضة الإسلام وجعلوا عنايتهم بآيات الأحكام، وتوجه المسلمون لحفظ القرآن في أيام التابعين وعند إتساع رقعة البلاد الإسلامية وتعدد أمصار المسلمين. والصحيح هو الثاني لوجوه: الأول : تلقي المسلمين التنزيل بشوق ورغبة. الثاني : كثرة الأمية بين المسلمين آنذاك، فيلجأون إلى الحفظ عن ظهر قلب وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: إنّا أُمّة أُميّة لاتحسب ولا تكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة والشّهر هكذا وهكذا وهكذا ( ). وقوله (هكذا وهكذا) شاهد على ورود الحديث للثناء على المسلمين والإخبار بأنهم أمة تعتمد الحفظ ومتابعة ضروب الحساب شفوياً، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن موسى لما نزلت عليه التوراة وقرأها فوجد فيها ذكر هذه الأمة قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون فاجعلها أمتي. قال تلك أمة أحمد. قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم فاجعلها أمتي. قال تلك أمة أحمد. قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونه ظاهراً فاجعلها أمتي. قال تلك أمة أحمد. قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يأكلون الفيء فاجعلها أمتي . قال تلك أمة أحمد. قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم يؤجرون عليها فاجعلها أمتي. قال تلك أمة أحمد . قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة إذاً هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها كتبت له عشر حسنات فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد . قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والعلم الآخر ، فيقتلون قرون الضلالة والمسيح الدجال فاجعلها أمتي . قال تلك أمة أحمد . قال : يا رب فاجعلني من أمة أحمد، فاعطي عند ذلك خصلتين {فقال: يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} قال: قد رضيت يا رب( ). الثالث : قيام المسلمين الأوائل بالتبليغ في القبائل وعند موسم الحج وحاجتهم للإستدلال بالقرآن وإعجازه. الرابع : تلاوة المسلمين لآيات القرآن، فقد فاز الصحابة بخصلة كريمة وهي إنفرادهم بتلاوة الآية القرآنية في الصلاة حال نزولها. الخامس : إنشغال أهل البيت والصحابة بكتابة القرآن وتفسير آياته مناسبة كريمة لحفظها، وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل( ). السادس : مبادرة الإمام علي عليه السلام وعدد من الصحابة لجمع القرآن أيام النبوة وبعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، وبالإسناد عن عبد خير عن علي قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقسمت أو حلفت أن لا أضع ردائي عن ظهري حتى أجمع ما بين اللوحين فما وضعت ردائي عن ظهري حتى جمعت القرآن( ). قال ابن حجر : علي عليه السلام أحد من جمع القرآن وعرضه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرض عليه أبو الأسود الدؤلي وأبو عبد الرحمن السلمي، وعبدالرحمن ابن أبي ليلى( ). وقوله تعالى(هذا بيان للناس) شاهد على تفضيل المسلمين لإستقبالهم البيان السماوي بالإيمان والتصديق والجهاد لتثبيته في الأرض وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وكل آية منه هدىً، وهي هدىً وتعليم للناس بإجتماعها مع غيرها من آيات القرآن، وهل آية القرآن هدى بإجتماعها مع الآية الكونية وأن كل واحدة منهما تهدي إلى طاعة الله على نحو مستقل. الجواب هو صحة الأمرين معاً، وفيه مسائل: الأولى : القرآن مرآة لعظيم قدرة الله وداع إلى التدبر فيها، ويمكن أن تؤلف مجلدات بخصوص علم جديد نطلق عليه (آيات التدبر) وتقسيمه إلى أبواب منها: أولاً : التدبر في الآيات السماوية، وقد فاز المسلمون بإستنباط المسائل منه، وصاروا أئمة للناس فيه، قال تعالى في الثناء عليهم[وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً]( ). ثانياً : التدبر في الآيات الأرضية المستقرة والمتزلزلة والطارئة. ثالثاً : إتخاذ التدبر طريقاً ومقدمة لشكر الله عز وجل على النعم، وكل نعمة هي آية من عند الله. رابعاً : آيات الله خير محض ونفع دائم، قال تعالى[وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ]( ). خامساً : آيات الله وسيلة تقريب المسائل العقلية بالشواهد الحسية. سادساً : التدبر في آيات القرآن وكيف أنها هدىً للناس. سابعاً : فلسفة العبادات والفرائض ونفعها النوعي والشخصي في الدنيا، وثوابها العظيم في الآخرة. ثامناً : موضوعية وإشراقات التدبر في السنة النبوية فهي أحسن مصداق للتدبر بالآيات سواء السنة القولية أو الفعلية أو التقريرية، وكذا السنة التدوينية بدراسة مصاديق التدبر في آيات الله برسائله المباركة إلى الملوك والأمراء ومنهم: الأول : هرقل عظيم الروم. الثاني : كسرى ملك فارس. الثالث : النجاشي ملك الحبشة. الرابع : المقوقس حاكم مصر. الخامس : الحارث الحميري حاكم اليمن. السادس : المنذر بن ساوى أمير البحرين. السابع : ملك عمان. الثامن : هوذة الحنفي أمير اليمامة. التاسع : الحارث الغساني أمير الغساسنة. وكلها تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى ….. ويأتي بعده في أغلبها السلام على من إتبع الهدى( ). تاسعاً : التدبر في ذات السنة النبوية لأنها من الوحي، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
عاشراً : التدبر في سنن الأمم السابقة إذ تدل آية السياق[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ]( )، على تعدد المذاهب والملل في الأرض، وأن الله عز وجل تعاهد ملة التوحيد وبعث الأنبياء متعاقبين لإقامة الحجة على الناس وجذبهم إلى منازل الهداية، ورمي سنة الكفر والضلالة بالضعف.
الحادي عشر : تجلي الآيات والبراهين على بديع صنع الله من الإكتشافات العلمية والفلكية التي تطل على أهل الأرض كل يوم , ولم ينحصر العلم بها بذوي الإختصاص.
الثانية : من رشحات البيان القرآني (التحدي) وهو علم قائم بذاته مقتبس من بيان القرآن وفيه هدى للناس ودعوة للصلاح، ويحتمل التحدي في بيان القرآن وجوهاً:
الأول : الإتحاد وأن القرآن يتضمن تحدياً واحداً بكل موضوع أو علم.
الثاني : التعدد في ذات الموضوع والعلم.
الثالث : الإنشطار في وجوه التحدي القرآني.
والصحيح هو الثاني والثالث.
الثالثة : الآية القرآنية تعضيد للآية الكونية في هداية الناس، لذا ورد لفظ(هدى بصيغة التنكير فلم تقل الآية(هذا البيان للناس والهدى) بل أخبرت بأن القرآن، بيان وأنه هدى مما يدل على تعدد مصاديق البيان الإلهي للناس، مع إختصاص القرآن بكونه[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابعة : مجئ الإكتشافات الكونية في زمان الفضاء بنتائج تؤكد دقة ألفاظ القرآن إذ اكتشف العلماء في القرن العشرين أن بداية الكون إنفجار هائل وأنه كان كتلة واحدة ومن العلماء من يستعمل لفظ تباعد وإنفصال أجزاء الكون ليكون من مصاديق قوله تعالى[أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا]( )، ليكون من التحدي في الآية لغة مخاطبة الكفار وأنهم سيرون بالبرهان العلمي كيف أن الكون كان كتلة واحدة، أي أن الآية أعلاه تخبر عن هذه الإكتشافات وما يلحقها في المستقبل من البيان والتفصيل العلمي والتأريخي كما تحدى القرآن العلم الحديث بالإخبار عن توسعة الكون والزيادة فيه قال تعالى[وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( )، وهذه الزيادة لاتكون إلا بمشيئة وقدرة الله إذ تعجز الخلائق عنها.
ويكتشف العلماء في ذات الوقت أن الكون وحده لا يمتلك القدرة الذاتية على الإنشطار والتوسع.
وتطل علينا علوم الفلك كل يوم بأخبار أقرب إلى الخيال ولكن أهل الأرض باقوا يقرون بأنها حقيقة وصدق، وهذا اليوم وأنا أكتب هذه السطور نشر خبر بأن علماء الفلك في دول عديدة يرصدون كوكباً جديداً ومنذ عام يضئ بلمعان ذيله في الليل اسمه(أيسون) ولقبوه (مذنب القرن) وعلمياً باسم (Cl2012 SI) وأنه مولود قبل نحو أربعة مليارات وخمسمائة مليون سنة ليصل إلى المجموعة الشمسية هذا اليوم فيختفي متشرذماً متبخراً عندما جذبته الشمس وصدته بشدة حرارتها، وكان يسير نحوها بسرعة تزيد على مليون كيلو متر في الساعة أي أنه بسرعته هذه يقطع المسافة بين الأرض والقمر، بخمس وعشرين دقيقة والمسافة بين بغداد ومكة بست ثوان.
علم نحوي جديد
تنقسم الجملة المفيدة إلى قسمين:
الأول : الجملة الخبرية: وهي الجملة التي تتضمن إخباراً عن أمر أو حال بالإيجاب أو النفي، ويراد منها وجود مصداق خارجي للمعنى المترشح عن كلماتها.
الثاني : الجملة الإنشائية: وهي التي تأتي لإنشاء طلب أو إرادة حدث وفعل كما في قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، ويمكن أن نضيف لهذا التقسيم قسيمين هما:
الثالث : الجملة الخبرية التي تتضمن شائبة وصبغة الإنشاء، ولعل هذا المعنى يتجلى في كل جملة من جمل وآيات القرآن، وبه يفتح كنز من علوم القرآن.
الرابع : الجملة الإنشائية التي تتضمن شائبة الخبر والإعلام، ويترشح هذا المعنى عن كل آية من آيات القرآن.
قوله تعالى[وَهُدًى]
ومن مصاديق الهدى في آية البحث:
الأول : الهداية إلى سواء الصراط المستقيم.
الثاني : الهداية إلى الحق والنجاة من الإختلاف والشقاق، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح صلاة الليل بالدعاء: اللَّهُمَّ اهْدِنِى لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)( ).
الثالث : الهداية إلى تلاوة القرآن والتدبر في آياته.
الرابع : الهدى إلى بيان القرآن.
الخامس : القرآن هدى إلى مكارم الأخلاق , وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق)( ).
وأصل الهدى من الكلي المتواطئ الذي يتوجه للناس جميعاً بمرتبة واحدة وهو من فضل الله عز وجل وحبه عباده، فالقرآن بيان للحق وسبل الصلاح، قال تعالى[إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى]( )، والله سبحانه هو الذي يقرب الناس لطاعته، وعن بعضهم الهداية هدايتان:
الأولى : هداية بيان الحق وتتوجه للناس جميعاً وأن الله أوجبها على نفسه.
الثانية : هداية الفلاح وقبول الحق والرضا به، وهي خاصة إختص الله بها من يشاء من عباده.
ولا دليل على التقسيم والتفصيل في الهداية، والله ذو الفضل العظيم، نعم من يهتدي إلى الحق يزيده الله من فضله.
ومن الهدى في القرآن المنع من دبيب البدعة إلى أفعال المسلمين العبادية وحياتهم اليومية بلحاظ تضمن القرآن للأحكام التكليفية الخمسة الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة في العبادات والمعاملات والأحكام.
وفي كل آية من القرآن هدى من وجوه:
الأول : ذات الآية القرآنية هدى.
الثاني : النظر إلى الآية القرآنية ورسمها وكلماتها هدىً.
الثالث : تلاوة الآية القرآنية هدى وصلاح، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )، بلحاظ أن قراءة القرآن واجب في الصلاة.
الرابع : العمل بمضامين الآية القرآنية هدى لتكرار ذات العمل، وتنمية ملكة الهدى في النفس.
الخامس : تلاوة الآية القرآنية والعمل بمضامينها واقية من الضلالة، وبرزخ دون إستحواذ النفس الغضبية أو إتباع النفس الشهوية.
السادس : التدبر في الآية القرآنية ومضامينها القدسية هدى ورشاد.
السابع : يترشح عن الجمع بين كل آيتين من القرآن هدىً وفلاح، ولمّا إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض، أجابهم الله بحجة وإحتجاج[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل أنه تعالى ينزل أسباب الهدى على الناس بما يمنعهم من الفساد في الأرض وسفك الدماء، وظهر هذا الهدى جلياً بأهل الإيمان والتقوى من بدايات سكن الإنسان في الأرض.
وفي ولدي آدم قال هابيل[لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ]( )، ليستمر الهدى ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتنزيل والأوامر والنواهي كما في قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، وكف وإمتناع الناس عن القتل خشية القصاص بالقتل والإعدام إلى جانب العقاب الأخروي الذي يبينه القرآن، قال تعالى[مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا]( ).
بحث بلاغي
ومن وجوه البديع وضروب الإطناب عطف الخاص على العام كما في قوله تعالى[حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى]( )، ومن فوائده التأكيد على فرد مخصوص والتنبيه على موضوعيته , وله أسرار خاصة في القرآن بحسب الحال والقرائن ونظم الكلام وسياق الآيات.
ومنهم من سمّى هذا العطف بالتجريد، كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر تفصيلاً( )، وقد لا يناسبه هذا الإصطلاح وما يعنيه لفظ التجريد إذ أن الخاص يبقى في عموم العام ولا يخرج عنه إلا ببيان زائد وخصوصية ذات دلالة في نفس الموضوع أو الحكم.
ومن وجوه البيان عطف العام على الخاص، ويسمى عطف الأعم على الأخص وإفراد الأخص بالذكر للعناية به ووجود خصوصية وشأن له في المقام وأستدل عليه بقوله تعالى[إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي]( )، وتكرر العطف في آية البحث مرتين:
الأولى : عطف الهدى على البيان.
الثانية : عطف الموعظة على البيان.
وهل يصح القول بعطف الموعظة على البيان والهدى , الجواب نعم، وهو الظاهر من علوم القرآن , وفيه نكتة وهي أن العطف بينها مجتمعة يعطي معنى آخر مغايراً للعطف المفرد.
ومن إعجاز القرآن أن العطف في آية البحث يجمع الوجوه الآتية:
الأول : عطف الخاص على العام.
الثاني : عطف العام على الخاص.
الثالث : العطف بين المترادفين.
الرابع : عطف النسق.
والأصل في العطف في الآية هو الوجه الرابع أعلاه، وتكون الوجوه الثلاثة الأخرى في طوله، وتكون أداة عطف النسق وفق الصناعة النحوية على وجوه:
الأول : العطف بالواو وهو لمطلق الجمع.
الثاني : العطف بالفاء لإفادة الجمع المقترن بالترتيب والتعقيب.
الثالث : العطف ب(ثم) ويفيد الجمع والترتيب والتراخي.
الرابع : العطف ب(حتى) للجمع والغاية، وقيل أن القرآن خال من حتى العاطفة، وهذا العطف قليل، وتنكره مدرسة الكوفة، ويحملون العطف في نحو: صليت الصلوات حتى الصلاة الوسطى، إستلمت الحجر الأسود حتى الركن اليماني على أن حتى هنا إبتدائية، وما بعدها على إضمار عامل.
الخامس : أم المتصلة وهي التي يتصل ما بعدها بما قبلها ويشاركه في الحكم، قال تعالى[وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]( )، وتعرب(أم) هنا حرف عطف مبني على السكون لا محل له من الإعراب، وتكرر العطف في آية البحث بالواو ويحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة مطلق الجمع أي لا يفيد الترتيب أو ما هو عكس الترتيب، بل يأتي البيان والهدى والموعظة معاً بعرض وآن واحد , كما يقال : صام زيد وإبنه شهر رمضان، والمراد أنهما معاً صاما وفي وقت واحد بلحاظ أن الصوم من الواجب العيني المضيق , إلا مع القرينة الصارفة.
الثاني : إفادة الترتيب، وأن البيان مقدم على الهدى، وكلاً من البيان والهدى مقدمان على الموعظة.
ومن العطف الترتيبي بالواو قوله تعالى[وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ]( )، فيعقوب بن إسحاق، وإسحاق بن إبراهيم.
الثالث : أن يكون الهدى متقدماً على البيان، وهو بعيد لغة ومعنى ودلالة.
الرابع : إرادة الإجتماع خاصة إذا كان المقصود فعلا فيه طرفين أو أكثر كما يقال إجتمع فلان وفلان , ومشهور النحويين أن الواو لمطلق الجمع، وذهب جمع إلى القول بأنها للترتيب منهم قطرب، وثعلب وهشام، وقال الفراء: أنها للترتيب ويستحيل الجمع.
الخامس : إرادة التعدد والتباين في الترتيب والجمع، من جهات:
الأولى : يكون البيان في آية معينة مقدماً على الهدى وسبباً له.
الثانية : يكون الهدى في آية أخرى هو المقدم فحالما يسمع الإنسان القرآن يمتلأ قلبه بالإيمان من ذات اللفظ القرآني وما جعل الله فيه من أسرار الأثر والتأثير، قال تعالى[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ]( ).
الثالثة : يأتي البيان والهدى معاً في آية ثالثة، فحالما يقرأ أو يستمع الإنسان الآية يتبين له معناها ويدخل في ذات الوقت الهدى في نفسه.
وأخرج أحمد والطبراني والبيهقي عن (جرير بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا، فانتهى إلينا فسلم ، فقال له النبي صلى الله وعليه وآله وسلم من أين أقبلت؟ فقال: من أهلي وولدي وعشيرتي أريد رسول الله.
قال: أصبته. قال: علمني ما الإِيمان؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. قال: قد أقررت. ثم إن بعيره دخلت يده في شبكة جرذان( ) فهوى ووقع الرجل على هامته فمات.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من الذين عملوا قليلاً وأجروا كثيراً، هذا من الذين قال الله{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}( ) إني رأيت حور العين يدخلن في فيه من ثمار الجنة، فعلمت أن الرجل مات جائعا)( ).
الرابع : مجيء البيان والهدى والموعظة دفعة واحدة إلى الإنسان بتلاوته الآية أو الإستماع إليها، وهو من الغايات الحميدة في قوله تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، بتقريب أن كلاً من بيان القرآن وهداه ومواعظه رحمة وفضل من الله، وأن إكتساب العبد منها دفعة واحدة رحمة أخرى ولطف يكرم به الله عبده.
وعن الإمام علي عليه السلام قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أتاني جبرئيل فقال: يا محمد سيكون في أمتك فتنة، قلت: فما المخرج منها؟ فقال كتاب الله فيه بيان ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من وليه من جبار فعمل بغيره قصمه الله.
ومن التمس الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، لا تزيغه الاهواء ولا تلبسه الالسنة، ولا يخلق عن الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء هو الذي لم
تلبث الجن إذ سمعته، أن قالوا: “إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد” من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم، هو الكتاب العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)( ).
وجاء الحديث النبوي أعلاه تفسيراً وبياناً ومرآة لآية البحث وكأنها حاضرة أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ينطق بهذا الحديث الذي هو أيضاً وحي.
قانون (المنافع الدنيوية والأخروية للآية القرآنية)
الآية القرآنية كنز سماوي في الأرض، أراد الله عز وجل للناس أن ينهلوا ويغترفوا منه، وهذا النهل على قسمين:
الأول : ما سعى إليه الناس ومن مصاديق السعي في المقام طاعة الله عز وجل.
الثاني : تناثر الدرر والجواهر من ذات الكنز على الناس، وليس من كنز ينثر جواهره إبتداءً ولا تنفد خزائنه إلا القرآن، فتأخذ الأجيال العلوم من ذات الآية , وينتفع المتأخر مما إقتناه منها المتقدم، أي أن الدرر والعلوم التي تستنبط من ذات الآية القرآنية لا تغادر الأرض بل تبقى ثروة بيد أجيال المسلمين.
ومنها تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن، وأسباب نزول الآية القرآنية، وعمل الصحابة والمسلمين الأوائل بها، وهو من الأمور التي تشهد بأن الآية القرآنية كنز مفتوح للناس وليس بينه وبينهم برزخ.
ومن الآيات أن الجحود والكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن ليس مانعاً دون إنتفاع الناس من الآية القرآنية , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) ( )، بأن تكون كل آية من القرآن على وجوه:
الأول : إنها بيان للناس، كما ذكرت آية البحث.
الثاني : تجذب الآية القرآنية أهل الأرض إلى حب الله، وتجعلهم يتطلعون إلى فضله، ويطعمون برأفته.
الثالث : كل آية من القرآن دعوة لعبادة الله، والإخلاص في طاعته.
الرابع : الآية القرآنية خير محض، ونفع دائم وبركة متصلة.
الخامس : كل آية من القرآن جندي من جنود الله، وتحتمل وجوهاً:
الأول : الآية القرآنية من جنود السماء بلحاظ نزولها من السماء بواسطة الملك جبرئيل.
الثاني : الآية القرآنية من جنود الأرض لأن القرآن موجود بين الناس وفي قلوب المسلمين، ويتلونه في صلواتهم، ويتخذه المسلمون إماماً.
الثالث : المعنى الجامع، وكل آية قرآنية هي من جنود السماء والأرض.
والصحيح هو الثالث، وتلك آية تنفرد بها الآية القرآنية، فينزل الملائكة مدداً للمسلمين في معارك الإسلام الأولى، كما في قوله تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، ويرتفع الملائكة إلى محل سكناهم في السماء، ولكن الآية القرآنية نعمة باقية في الأرض.
لقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بنزول آيات القرآن ونزول الملائكة لنصرتهم، فهل إنتفع التابعون وأجيال المسلمين من نزول الملائكة أيضاً وإن لم يردهم، أم إنحصر نفعهم بآيات القرآن.
الجواب هو الأول لنصرة الملائكة للمؤمنين وإنتفاع المسلمين وإلى يوم القيامة من هذا النصر، ولأن آيات القرآن وثّقت نزولهم , فيمتلأ المسلم ثقة بالنصر ويدرك أن المدد الإلهي قريب منه بواسطة آيات القرآن والملائكة وغيرها من الوسائط المباركة، والنعم المتعاقبة، وتأتي الآية القرآنية في باب العبادات مثلاَ ولكنه منافعها تشمل المعاملات والأحكام وكذا يكون الشمول بالنسبة لآيات المعاملات والأحكام.
فلا ينحصر نفع الآية بموضوعها بل يتغشى الميادين المختلفة، وهو من إعجاز القرآني والذخائر الموجودة في ثنايا آياته ومنه أنه كلما أستنبطت علوم، وأخرجت مسائل من الآية القرآنية فإن علوما أخرى تبقى تتدلى منها أعظم وأكبر، وإستقراؤها وإظهارها يبهر العقول، ويكون سبباً في دخول الناس للإسلام، وهذا الدخول من منافع الآية القرآنية في الدنيا والآخرة.
ليكون من وجوه البيان في القرآن أن الآية القرآنية نزلت لتكون حديقة ناضرة كلها أشجار مثمرة[لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ]( )، ينهل منها الناس وإلى يوم القيامة، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف إذ أراد الله عز وجل أن ينتفع المتأخر في زمانه من الآية القرآنية مثلما إنتفع المتقدم، وهو من مصاديق رحمة الله بالناس.
وحينما إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض بأنه[ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، أبطل الله هذا الإحتجاج بقوله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليقوم الملائكة فيما بعد بالنزول بستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية، وكل آية علم قائم بذاته وسلاح يدفع الناس عن الفساد في الأرض ويحجبهم عن سفك الدماء ومقدماته، بما فيها آيات الزجر والنذر والعقاب، قال تعالى[وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ]( ).
ومن منافع آية البحث في الدنيا أمور:
الأول : الثناء على القرآن بأنه بيان للناس، لتكون ذات الآية بياناًوتفسيرا للقرآن، وإخباراً بأنه سِفر سماوي يتضمن الخبر والحكم والموعظة.
الثاني : دعوة الناس للصدور عن القرآن، إذ أن بيان القرآن أعم في موضوعه من الكشف.
الثالث : إخبار الآية بأن القرآن هدىً ودعوة سماوية للصلاح، وهل ذات آية البحث هدى أم أن القدر المتيقن هو مجموع آيات القرآن.
الجواب هو الأول، فوصف القرآن بأنه هدى أمر إنحلالي ينحل بعدد آياته، فكل آية هي هدى.
الرابع : الغنى والتوفيق والسؤدد بالصدور عن القرآن.
الخامس : حث الناس على الإحتكام إلى القرآن، والإحتجاج به.
السادس : ترغيب الناس بالإيمان، ومنع دبيب النفرة إلى نفوسهم من التنزيل.
السابع : بيان القرآن فضل من عند الله على الناس جميعاً.
الثامن : زجر الناس عن محاربة الإسلام وتجهيز الجيوش على المسلمين، فحينما يسمع الناس الآيات التي تحكي إنتصار المسلمين في معاركهم الأولى مع قلة عددهم وعدتهم كما في قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، يجتنب الناس قتالهم، ولعله من أسباب عزوف ملك الروم قيصر، وملك فارس كسرى عن نصرة قريش , ومن لجأ إليهم يستعديهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مثل أبي عامر الراهب الذي ذهب إلى الروم .
ومن البيان القرآني للناس إخبارهم بأن الله عز وجل ندب المسلمين للقتال في سبيله وزجرهم عن القعود والجبن والوهن، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، وفيه شاهد بأن المسلمين ورثة الأنبياء وحفظة ميراثهم وأن النصر حليفهم لأن الله هو الذي فرض عليهم القتال، فيتفضل ويمدهم بالغيب والمحسوس والظاهر والخفي ، ويثيبهم في النشأتين لذا نال الذين قتلوا في سبيل الله أعظم الدرجات.
التاسع : الإخبار بأن المتقين محتاجون إلى القرآن فهو موعظة لهم، مما يدل بالأولوية القطعية على أن الناس جميعاً محتاجون له , ويحتمل وجوهاً:
الأول : المسلمون أكثر حاجة من غيرهم للقرآن ومواعظه.
الثاني : غير المسلمين هم الأكثر حاجة إلى مواعظ القرآن.
الثالث : التساوي في حاجة المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً لذا وردت الآية بالإطلاق (هذا بيان للناس).
والجواب ليس من حد أعلى لحاجة المسلمين , وحاجة الناس للقرآن فهي تفوق التقسيم الإستقرائي للكليات، وإنقسام الكلي إلى قسمين:
الأول : الكلي المتساوي (ويسمى المتواطئ) إذ تتشابه مصاديقه في الخارج كما في إنطباق لفظ إنسان على الذكر والأنثى والصغير والكبير من غير فرق بينهم في صدق الكلي وأفراده وكذا في عبوديتهم لله عز وجل، وإذا أخذ ونظر للناس بلحاظ آخر يتغير الموضوع كما في قوله تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ) فيختص النبي بصفة مباركة وهي الوحي والتنزيل .
الثاني : الكلي المشكك وهو الكلي الذي تتفاوت صفات وخصال مصاديقه وأفراده كما في مراتب الإيمان والتقوى، ومفهوم العدد والإختلاف بين القليل والكثير منه، وقد يكون ذات الموضوع من الكلي المتواطئ والكلي المشكك بحسب اللحاظ والحال فالصلاة من الكلي المتواطئ كما في قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
أما بالنسبة لعدد ركعات كل فريضة منها فهي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في عددها، فصلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر أربع ركعات، وصلاة المغرب ثلاث ركعات .
وغالباً ما يكون التباين والإختلاف في الأعراض وليس الأصل.
إن حاجة كل إنسان وأهل ملة للقرآن متجددة ومتصلة وهو من أسرار قراءة القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني على كل مكلف، والتعييني في حال القيام من كل ركعة، ليكون من فلسفة إقتران قراءة القرآن في الصلاة بحال القيام دون الركوع أو السجود وجوه:
الأول : إنه مصداق للبيان الوارد في آية البحث.
الثاني : يتلو المسلمون آيات القرآن، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث : قراءة المسلمين للقرآن في الصلاة تبليغ وبلاغ وحجة على الناس.
الرابع : من بيان القرآن أن المسلمين يعلنون إسلامهم وهم في حال تحد وقيام، لأن القراءة في الصلاة حال القيام.
الخامس : بعث الفزع والخوف في قلوب أعداء الإسلام.
السادس : القراءة في الصلاة مقدمة للجهاد في سبيل الله، ومرآة له.
السابع : القيام عنوان النهوض وتحمل أعباء الوظائف الجهادية في ثنايا أسمى العبادات وهي الصلاة وكأنه نوع نفر، قال تعالى[انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً]( ).
ومن منافع آية البحث في عالم الآخرة أمور:
الأول : يتخذ الناس البيان القرآني صراطاً مستقيماً.
الثاني : الدنيا مزرعة الآخرة، فجاء البيان القرآني عوناً على الكسب والسعي فيها.
الثالث : تصف الآية القرآن بأنه هدى، وليس من حصر لمصاديق ووجوه الهدى في القرآن منها إتيان ما هو بلغة للخلود في النعيم.
الرابع : من البيان القرآني أن الناس يعلمون بتفاصيل عن علوم الغيب الأخروية بواسطة آيات القرآن , قال تعالى[جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ]( ).
الخامس : يحتمل البيان القرآني وجوهاً:
الأول : إنه بيان لخصوص أيام الدنيا، وما فيها من ضروب الإبتلاء والإختبار والتكاليف والبشارات والإنذارات.
الثاني : آيات القرآن بيان لأحوال الناس في الآخرة، ومواطن يوم القيامة ليستعد الناس لها وتقوم عليهم الحجة.
الثالث : القرآن بيان وكشف لأمور الدنيا والآخرة، فهو الكتاب الجامع والمانع، الجامع للأحكام وحاجات الناس في النشأتين، والمانع من الغفلة والجهالة وعداوة الشيطان.
والصحيح هو الثالث لذا وردت الآية بصيغة الإطلاق وتقدير الآية: هذا بيان للناس في أمور الدنيا والآخرة.
السادس : من بيان القرآن تأكيد التوحيد ووجوب عبادة الله عز وجل، وإنعدام الشريك ولزوم نبذ الكفر والضلالة.
السابع : بيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدلائل الباهرات التي جاء بها، ومنها آية البحث التي هي شاهد في كل زمان على تلقيه الوحي من عند الله عز وجل، وفي الثناء على القرآن قال تعالى[وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
قوله تعالى[وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]
هذه هي الصفة المباركة الثالثة للقرآن التي وردت في آية البحث، ومن إعجاز الآية أنها وصفت القرآن بمفردات جامعة مانعة، جامعة لخصال الحسن ودلائل الإعجاز والتحدي، ومانعة من الغفلة والجهالة، لتكون الدنيا (دار الموعظة) ولا تنحصر الموعظة بآية البحث بل تأتي من وجوه متعددة منها:
الأول : آيات القرآن.
الثاني : صيغة البشارة والإنذار في القرآن وآيات العبرة ، قال تعالى[طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى]( ).
الثالث : الآيات الكونية، وجريان الشمس والقمر والكواكب لتكون تذكرة ودعوة متجددة كل ساعة لعبادة الله، فلو كان بدل الشمس والقمر كوكبا واحدا يصير شمساً في النهار، وقمراً في الليل فيزداد ضياؤه ويملأ الأرض ثم يخفت حتى يكون كالقمر والهلال لما كان نفعه وأثره مثل جريان الشمس والقمر , إلى جانب موضوعية دوران الأرض , لذا ورد قوله تعالى[فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ]( ).
الرابع : الآيات في ذات الناس من جهة حياتهم ورزقهم والتزاوج والتكاثر بينهم، ولزوم إتخاذها موعظة ومناسبة لصيرورة التقوى منهاجاً، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً]( ).
الخامس : الإستقامة والسمت الحسن الذي يتحلى به المسلمون فإنه موعظة لهم ولغيرهم من الناس.
السادس : الدعوة إلى الله بالصيغ التي تلائم طبائع الناس، وتسبب لهم المغفرة وبلغة الترغيب والترهيب وبالدليل من الكتاب والسنة ولغة البرهان، وهو مصاديق قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
فوصفت آية البحث القرآن بأنه موعظة وأمرت الآية أعلاه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالدعوة إلى الله بالموعظة المقيدة بالحسن الذاتي والعرضي للتأكيد على إرادة القرآن وأنه كنز الموعظة والجامع لسنن الحكمة.
وجاء لفظ(الموعظة) بصيغة التنكير التي تدل على الإجمال والعموم وما من مجمل في القرآن إلا وقد بينته آيات القرآن الأخرى ووصف الله القرآن بأنه موعظة على نحو عام وخاص , من وجوه :
الأول : القرآن موعظة للناس جميعاً، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
الثاني : دلالة آية البحث على أن القرآن موعظة للمتقين، ويحتمل الجمع بينهما وجوهاً:
الأول : نسبة التساوي وأن موعظة القرآن للناس هي ذاتها الموعظة التي تأتي للمسلمين.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهي على شعبتين:
الأولى : الموعظة التي تأتي للناس من غير المسلمين أكبر وأعظم من الموعظة التي تأتي للمؤمنين.
الثانية : ما يأتي من الموعظة للمؤمنين أكثر وأكبر من الموعظة التي تأتي للناس جميعاً من غير المسلمين.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء ومادة للإفتراق، بين الموعظة القرآنية التي تتوجه للناس عامة، والموعظة التي تتوجه للمسلمين خاصة.
الرابع : نسبة التباين في كيفية وذات الموعظة التي تتوجه للمتقين والناس، والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه من جهات:
الأولى : يلتقي المسلمون مع الناس في تلقي الموعظة التي تأتي للناس جميعاً .
الثانية : يستقل المسلمون بالموعظة التي تأتيهم كمتقين، ويتلقونها بالقبول والرضا والإمتثال.
الثالثة : بيان حاجة الناس لصيغة الخضوع والخشوع في تلقي الموعظة، وما يتعقبها من الثواب العظيم على حسن التلقي والإمتثال.
وفي الجمع بين آيتي الموعظة أعلاه بيان لنعمة الله ورحمته على المؤمنين بأن تأتيهم الموعظة على نحو متعدد ومتكرر، فتأتيهم بصفتهم أناس مرة وأخرى ببلوغهم مرتبة التقوى، وتحتمل مصاديق الموعظة العامة للناس والخاصة للمؤمنين وجوهاً:
الأول : التشابه بين أفراد الموعظة بين العامة والخاصة.
الثاني : الإجمال في الموعظة العامة والتفصيل في الخاصة.
الثالث : إتصاف موعظة المتقين ببيان فروع الدين وأحكام الحلال والحرام.
الرابع : إقتران موعظة المتقين بالهدى بدليل ذات آية البحث (وهدى وموعظة للمتقين).
الخامس : فوز المسلمين بتكرار الموعظة، وهو الأمر الذي يتجلى بأدائهم الصلاة وتلاوتهم الآيات فيها وخارجها والتدبر في معانيها ودلالاتها، وكل فرد من أفراد الإمتثال للأوامر الإلهية موعظة لهم.
السادس : صيرورة المسلمين أسوة للناس، والذكرى والموعظة دعوة لهم للإقتداء بهم، وهم حاملوا ميراث النبوة، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من دلالات الموعظة في القرآن، وقربها من الناس جميعاً، فخصائص التقوى التي يتصف بها المسلمون ظاهرة للناس وبمقدورهم النهل منه بدخول الإسلام، ويحتمل تكرار الموعظة للمتقين وجوهاً:
الأول : ذات الموعظة العامة تأتي للمسلمين مكررة.
الثاني : ليس من تكرار في الموعظة بل التكرار في الإخبار القرآني.
الثالث : الموعظة الأخرى التي ترد للمسلمين أمر إضافي وهبة خاصة غير التي ترد لعامة الناس.
والصحيح هو الأول والثالث، فإن المواعظ العامة التي تأتي للناس جميعاً ومنهم المسلمون ترد للمسلمين مرة أخرى، وتنزل مواعظ أخرى مصاحبة للتقوى، وتلك آية في النعم الإلهية على المسلمين في الحياة الدنيا، وإصلاحهم للإمامة بين الناس، وهو من مصاديق[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وفي الآية إعجاز وهو أن بيان القرآن للناس ترشح عنه وجود أمة من المتقين فذات القرآن يكون لهم هدىً وموعظة وعبرة وسبيل صلاح، وتأكيد حقيقة وهي أن بيان القرآن علم قائم بذاته لم ولن يذهب هباء بل يؤدي إلى تثبيت الإيمان في النفوس والمجتمعات، فالدنيا (دار البيان) وفيه النجاة والصلاح وكنز الموعظة.
ومن أسرار القرآن أنه في كل زمان بيان وهدىً وموعظة، مما يدل على وجود أمة مؤمنة في كل زمان، وإستدامة قانون كلي يتقوم بتوجه البيان والهداية والموعظة لهم ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بتقريب الناس لمنازل التقوى وتعاهد المسلمين لسنن التقوى وتلقيهم المدد السماوي بياناً ومواعظ ، وتعيين لطرق الهداية بجلاء وكيفية متعددة، وكل آية من القرآن طريق قائم بذاته للهداية يتصف بالوضوح ويترشح البيان والهدى والموعظة منه وإلى يوم القيامة.
لقد إبتدأت الآية بذكر الناس ومجيء البيان لهم، وأختتمت بذكر المتقين , وفيه مسائل:
الأولى : تأكيد صبغة الإبتلاء والإمتحان التي تتصف بها الحياة الدنيا.
الثاني : التحدي بالإخبار عن إتصال رحمة الله بالناس جميعاً، وبالمؤمنين خاصة، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( )، ومن الآيات في خلق الإنسان أن قرب رحمة الله من المحسنين ينتفع منها المحسن وغيره من الناس وحتى عدوه لما يراه من الدلالات الباهرات على البركة التي تترشح على المحسن.
ترى لماذا صار القرآن موعظة للمتقين على نحو التعيين، الجواب من وجوه:
الأول : إمتلاء نفوس المسلمين بالخشية من الله.
الثاني : تصديق المتقين بنزول القرآن، وتلقيهم الآيات بالقبول والتدبر، قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( ).
الثالث : إرادة إرتقاء المتقين في سلم المعارف وبلوغ مراتب اليقين.
الرابع : مواعظ القرآن هبة للمتقين وشكر لهم لإختيار الهداية والإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الخامس : من خصائص التقوى الإتعاظ بالتنزيل.
بحث بلاغي
من وجوه البديع وجوه:
الأول : عطف أحد المترادفين على الآخر، والمراد منه التأكيد والزيادة في البيان والوضوح، وأستدل عليه بآيات منها[إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ]( )، وقال السيوطي: والقصد منه التأكيد)( ).
ولكن النسبة بينه وبين التأكيد هي العموم والخصوص من وجه، فقد يتحد مع التأكيد بالبيان ولكن المترادف يختلف بأن يكون المراد من أحد طرفيه الذات والآخر الصفة فقد يأتي المراد من البيان وشرح المرادف الآخر ويفيد التأكيد تقوية الآخر.
أما المرادف فإنه يفيد التقوية مع بيان الموضوع آخر، ومنهم من أنكر وجود المترادفين في القرآن كالمبرد، ومنهم من أنكره في اللغة العربية مطلقاً( ).
ولكن علم الترادف ظاهر في اللغة العربية وفي القرآن وهو من ذخائر البلاغة فيها، وقد يكون هناك تشابه وتساو بين المترادفين أو تباين جهتي، أما في القرآن فيكون التباين الجهتي ظاهرا في أكثر المترادفات , فيلتقي المترادفان في مادة ويتفرقان في مادة أخرى , ويتساويان بالذات والأصل ويختلفان في الأعراض وهو من أسرار إحاطة القرآن باللامحدود من الوقائع والأحداث، بالإضافة إلى حقيقة وهي إفادة إجتماع المترادفين معنى زائداً لا يتحصل بإنفراد أي منهما أو إجتماعه مع غيره، وأستدل على المترادفين وإرادة التأكيد فيها بقوله تعالى[لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى]( ).
ولكن المعنى في الخشية أعم خاصة وأن الآية لم تذكر متعلق الخشية مما يدل على سعته وتعدده وإمتداد زمانه فلا ينحصر بعبور البحر بل يشمل ما بعده من الأيام وتقلب الأحوال , وموضوع الآية أعلاه موسى عليه السلام وبنو إسرائيل إذ تركوا مصراً وذهبوا على وجوههم لا يعلمون ماذا يصيبهم وهم يرون البحر , وليس من أسباب لعبوره وإجتياز عقبته والنجاة من آل فرعون , ويجهلون ما الذي ينتظرهم وكيف يكون رزقهم وطعامهم خاصة مع كثرتهم في مكان واحد وإنتقالهم إلى أرض جرداء لا زراعة ولا عمران فيها، وعن ابن عباس: {لا تخاف دركاً} قال: من آل فرعون {ولا تخشى} من البحر غرقاً)( ).
وهل هناك ترادف في آية البحث بين كل من:
الأول : البيان والهدى.
الثاني : البيان والموعظة.
الثالث : الهدى والموعظة.
الجواب ليس بينها ترادف بمعناه في الإصطلاح البلاغي، نعم تلتقي هذه الصفات في جانب منها ويكون كل فرد منها تأكيداً للفرد الآخر، ويستقل بمعاني أخرى وتكون تقوية وجلاء له، كما يترشح بعضها عن بعض، فلا يعني تقديم البيان على الهدى أن ترشح المعاني والمنافع من جهة الأول على الثاني فقط، بل إنها تترشح من الهدى على البيان، وكذا بالنسبة لترشح منافع الموعظة وتسبيبها البيان والهدى في آية إعجازية ينفرد بها القرآن، وتتولد عنه الدلالات العقائدية والدروس الإيمانية.
إن إجتماع صفات الحسن للقرآن في آية البحث من البيان والهدى والموعظة شاهد على عصمة الذي يأخذ ويعمل به ولا يصدر إلا عن أحكامه , وسننه لتتضمن الآية في مفهومها أموراً:
الأول : الإخبار عن كفاية القرآن للناس، ففيه الغنى والمندوحة.
الثاني : بيان رحمة الله عز وجل في نزول القرآن.
الثالث : تأكيد عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه سيد ولد آدم إذ أنزل عليه الله سبحانه الكتاب الذي فيه النجاة والأمن في الدنيا والآخرة عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين)( ).
ويحتمل الهدى في الحديث وجوهاً:
الأول : إرادة نزول القرآن هدىً للمتقين، كما تدل عليه آية البحث، وتقدير الشطر الأخير من الحديث: بعثني بالقرآن هدى للمتقين.
الثاني : المراد ذات البعثة، فبعث خاتم النبيين بذاته هداية للمتقين.
الثالث : سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية هدى ومصباح صلاح.
الرابع : سيرة المسلمين وطاعتهم لله ورسوله هدىً لهم بالذات ولغيرهم من الناس، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الحديث النبوي الذي هو مرآة وتفسير لآية البحث.
بحث كلامي
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار الحاجة إلى رحمة الله، إذ تحتاج الخلائق رحمة الله إبتداء وإستدامة ويختص الإنسان بالحاجة لرحمة الله في الحياة الدنيا وما بعد الموت فليس من زوال وفناء للروح ولا الجسد إذ يبعث الله الناس للحساب يوم القيامة بأرواحهم وأجسادهم التي فارقوا بها الدنيا , وفي التنزيل[قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ]( ).
وتحتمل حاجة الإنسان وجوهاً:
الأول : الإطلاق والتجدد في حاجة الإنسان.
الثاني : بلوغ الحاجة إلى حد محدود تكون فيه الكفاية.
الثالث : التعدد والتباين في حاجة الإنسان، فيصل الإنسان في بعض الأمور إلى الكفاية والتوقف كما في الغذاء وبلوغ الغاية في سفر أو إرادة فعل.
والصحيح هو الأول، ويدل عليه آية البحث والشواهد الواقعية في حياة الناس، إذ أخبرت آية البحث بأن القرآن موعظة للمتقين أي أنهم وإن بلغوا مراتب التقوى والصلاح وإستحضار الخوف من الله عند إتيان فعل وفيه دلالة على أن المؤمن إذا بلغ التقوى يبقى بحاجة إلى البيان والهدى والموعظة التي تأتيه مجتمعة ومتفرقة.
فتفضل الله عز وجل بتوالي بنزول القرآن وشمولها لمختلف المواضيع وفيه شاهد بأن الدنيا(دار الحاجة المستديمة) وأن القرآن غذاء الروح ومصباح سبل النجاة، وليس من حصر لمواعظ القرآن، فكل آية علم مستقل في باب الموعظة ويبين القرآن حاجة الكبير إلى الصغير في المشورة والرأي والفعل , وفي قصة سليمان عليه السلام الذي سخر الله له الريح والشياطين قال له الهدهد وهو طائر صغير[أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ]( ).
وكان سليمان عليه السلام قد توعد الهدهد أمام جنوده من الطير والإنس والجن، لحاجته له لمعرفة عمق الماء، وحينما حضر الهدهد أضاف التحدي لسليمان بحضرة جنوده بأنه يعلم أمر لا يعلمه سليمان فلم يغضب سليمان وتراجع عن وعيده وإرادة معاقبة الهدهد ونتف ريشه وسعى لنشر مبادئ الإسلام وجذب الناس للتقوى.
وأخرج ابن جرير وابن شيبة في المصنف وغيرهما عن عبد الله بن شداد: كان سليمان عليه السلام إذا أراد أن يسير وضع كرسيه ، فيأتي من أراد من الانس والجن، ثم يأمر الريح فتحملهم، ثم يأمر الطير فتظلهم. فبينا هو يسير إذ عطشوا فقال: ما ترون بعد الماء؟ قالوا: لا ندري. فتفقد الهدهد وكان له منه منزلة ليس بها طير غيره فقال{ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنه عذاباً شديداً}( ) وكان عذابه إذا عذب الطير نتفه، ثم يجففه في الشمس{أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين} يعني بعذر بين.
فلما جاء الهدهد استقبلته الطير فقالت له: قد أوعدك سليمان فقال: هل استثنى؟ فقالوا: نعم. قد قال: إلا أن يجيء بعذر بين. فجاء بخبر صاحبة سبأ، فكتب معه إليها{بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا عليَّ وائتوني مسلمين} فأقبلت بلقيس، فلما كانت على قدر فرسخ قال سليمان {أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} فقال سليمان: أريد أعجل من ذلك.
فقال الذي عنده علم من الكتاب {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} فأتى بالعرش في نفق في الأرض، يعني سرب في الأرض قال سليمان: غيروه. فلما جاءت{قيل أهكذا عرشك} فاستنكرت السرعة ورأت العرش {فقالت كأنه هو..، قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته} لجة ماء {وكشفت عن ساقيها} فإذا هي امرأة شعراء فقال سليمان : ما يذهب هذا؟ فقال بعض الجن : أنا أذهبه وصنعت له النورة . وكان أول ما صنعت النورة ، وكان اسمها بلقيس)( ).
وأظهر كليم الله موسى حاجته إلى التعلم من صيغ التقوى والهداية من الخضر وهو ليس بنبي، كما ورد في التنزيل[هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا]( )، لقد سأل موسى عليه السلام بعض العلم عند الخضر ليتخذه سبيلاً للرشد والذي يدل بالدلالة التضمنية على إجتناب طريق الغي والضلالة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الناس عالم ومتعلم، وسائر الناس همج رعاع)( ).
ويحتاج كل من العالم والمتعلم الموعظة لتسخير العلم في النفع الخاص والعام وفي النشأتين، فجعلها الله قريبة منهم بالقرآن وتلقي المسلمين مواعظ القرآن بالقبول والرضا وإتخاذهما سلماً مباركاً للإرتقاء في مقامات المعرفة الإلهية وإمامة الناس في ميادين التقوى والصلاح.
بحث بلاغي
من مصطلحات البلاغة (الرتبة البلاغية) والمراد بها الترتيب بين المتعاطفات واللحاظ الذي يتقوم به هذا الترتيب إلا أن تكون النسبة بين المتعاطفين التساوي فيكون الترتيب على نحو التخيير، ومن بديع صنع الله في الخلائق أن الترتيب ظاهر بينها ولو على نحو جهتي بما فيه الترتيب بين أجزاء الذات المتحد كما في جوارح الإنسان وتقديم اليمين على الشمال، أو اليدين على الرجلين.
ولكل تقديم بين المتعاطفات في القرآن صفحة إعجازية تتفرع عنها الدروس والعبر، ويكون التقديم بحسب الفضل أو الزمن أو الأهمية والشأن كما في قوله تعالى[وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ]( )، فقدمت الآية الجبال وذكرت تسبيحها على نحو التعيين لما فيه من الإعجاز فهي أوتاد الأرض ومن الجماد وتذليلها , وتسبيحها إمتثالاً وملازمة مع داود معجزة عظمى، ويتقدم الأهم على المهم بحسب اللحاظ، فالأولاد أهم من الأموال، ولكن تقدمت الأموال في قوله تعالى[وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ]( )، لتعلق المقام بالتكاثر والتباهي تقدمت الأموال وبذل الوسع في جمعها.
وتتقدم الصفة العامة على الخاصة( )، كما في قوله تعالى[وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ]( )، لأن التعدي باليد أعم وأكثر ضرراً من اللسان، فجاءت الآية لتحذير المسلمين، وبعثهم على الإستعداد وأخذ الحائطة والتوقي والتصدي للظلم والتعدي، وقيل أن الأصل هو تقدم الصفة الخاصة على العامة.
نعم يحصل التقديم والتأخير بحسب الشأن والموضوع , وكل فرد تترشح عنه مسائل عقائدية وجاءت آية البحث بالتقديم من جهات:
الأولى : تقديم البيان على الهدى، فجاء اللفظ والموضوع العام على الخاص .
بلحاظ أن البيان نوع طريق وسبب للهدى فقد خلق الله عز وجل الإنسان وجعل عنده العقل ليتلقى البيان ويهتدي بضيائه.
الثانية : تقديم الهدى على الموعظة لأن الهدى أعم .
الثالثة : تقديم الناس على المتقين (هذا بيان للناس) وفيه مسائل:
الأولى : بيان فضل الله على الناس جميعاً.
الثانية : ترغيب الناس بالإنصات للقرآن.
الثالثة : إن الناس شرع سواء في نزول القرآن.
الرابعة : دعوة المسلمين للدعوة إلى الله بالقرآن تلاوة وبيانا وتفسيراً, وقراءة في الصلاة وخارجها.
الخامسة : تأديب المسلمين والناس لإدراك قانون وهو ترشح العلوم والمنافع من بيان القرآن وترغيبهم بمضامينه القدسية.
السادسة : حث المسلمين على الشكر لله عز وجل على نعمة الهدى والموعظة التي تترشح عن البيان, وكأنها توائم ، قال تعالى[وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ] ( ).