المقدمــــــــة
الحمد لله حمداً كثيراً متوالياً متتابعاً ملء السموات وملء الأرض، الحمد لله عدد خلقه الذين لا يعلمهم إلا هو، ومداد كلماته التي ليس لها نفاد، الحمد لله ما أشرقت شمس وطلعت النجوم في ظلمة الليل.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي قال(سبقت رحمتي غضبي)( )، لتكون الحياة الدنيا دار الرحمة والعفو ونزول البركات والتي تتجلى بأبهى مصاديقها بنزول القرآن وإتصافه بالإعجاز باللامتناهي لمعانيه ودلالاته الحمد لله الذي جعل القرآن هدىً للناس في رسمه وكلماته وتلاوته، وتضمنه أحكام الحلال والحرام وأخبار الأمم السابقة وعالم الآخرة.
الحمد لله الذي جعل القرآن بياناً من وجوه:
الأول : بيان صفات الله الحسنى.
الثاني : بيان عظمة مخلوقات الله عز وجل للتدبر فيها، وجعلها بلغة لمرتبة التقوى وصيغة اليقين.
الثالث : الإطلاق في بيان القرآن من جهات:
الأولى : موضوع البيان وشموله للموجود والمعدوم وأفراد الزمان الطولية، والمكان العرضية.
الثانية : البيان في ذات القرآن وتقسيمه إلى آيات وسور، وعدم حصر التقسيم بموضوع أو حكم مخصوص ويكون أول الآية في موضوع، ووسطها في موضوع أو حكم مخصوص وآخرها في قانون كلي.
الثالثة : العموم في جهة البيان القرآني، وعدم إختصاصه بالمسلمين دون غيرهم.
لذا وردت آية البحث بقوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى] لتكون هذه الآية حجة وبرهاناً حاضراً في كل واقعة وإن تعاقبت الأيام وإختلفت العادات والأعراف والأمزجة.
الرابع : تعدد وجوه ومعاني الكلمة القرآنية بما يجعلها تفي بحاجات الناس في كل الأزمنة، تبدل أحوال الناس بقول الله[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، فجعل الله سبحانه القرآن نوراً سماوياً يضيء لأهل الأرض في الليل والنهار مسالك الهداية في كل أمر من أمورهم، قال تعالى[وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ] ( ).
الخامس : يحتمل قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] في سعته وجوهاً:
الأول : القرآن بإجماله بيان.
الثاني : إرادة البيان في آيات الأحكام والعبادات.
الثالث : تجلي البيان في الآيات المحكمات دون المتشابهات.
الرابع : يتحقق البيان عند الجمع بين آيتين أو أكثر.
الخامس : البيان في القضاء بين الناس والحكم بالعدل.
السادس : المراد أخبار السماء والأرض وقصص الماضين.
السابع :بيان علوم الآخرة وأسرار يوم القيامة وعالم الجزاء.
الثامن : إرادة الإطلاق والعموم في آيات القرآن , فكل آية من القرآن بيان وتجلى ووضوح من جهات:
الأولى : الآية القرآنية بيان لذاتها.
الثانية : بيان الآية القرآنية لآيات أخرى من القرآن.
الثالثة : بيان الآية للأحكام والسنن.
الرابعة : شهادة الآية القرآنية على صدق نزولها وآيات القرآن الأخرى من عند الله.
الخامسة : كل آية قرآنية بيان للصراط المستقيم الدنيوي والأخروي.
السادسة : تبين الآية القرآنية الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة.
السابعة : كل آية قرآنية فيصل بين الحق والباطل , وبين الصدق والكذب.
الثامنة : تبين الآية القرآنية وجوب تلاوة القرآن طاعة لله عز وجل.
ومن الإعجاز الغيري للقرآن تجلي هذا الوجوب بالتكليف العيني كل يوم على كل مسلم ومسلمة بتلاوة آيات القرآن في الصلاة وفيه درس عقائدي وبيان للناس بتلاوة المسلمين للقرآن وهم في حال خشوع وخضوع الله ويتغشى هذا الخشوع التالي والمستمع والسامع منهم لتكون التلاوة مناسبة للتدبر في كل آية من القرآن فلا ينتقلون إلى غيرها إلا وقد نفذت إلى شغاف القلوب , وتركت أثراً مباركاً في الوجود الذهني.
وهو من فضل الله لتعاهد القرآن في رسمه وكلماته وتلاوته، وتلمس المسلمين والناس جميعاً وجوه البيان فيه.
التاسع : الآية القرآنية بيان في علم الفقه , وضابطة كلية في معرفة الحلال والحرام.
العاشر : لقد أنعم الله عز وجل على الناس فجعل مصاديق الحجة في الدنيا من اللامتناهي، وليس من برزخ بين آية حجة وبين أفراد البشر في أجيالهم المتعاقبة، ومن هذه الحجج آيات القرآن.
وتحتمل الآية القرآنية وجوهاً:
الأول : الآية القرآنية حجة منفردة سواء في الموضوع أو الحكم.
الثاني : الجمع بين عدة آيات قرآنية لتصبح حجة.
الثالث : من الآيات ما تكون حجة بذاتها كآيات الأحكام، ومنها ما تستلزم الجمع بينها وبين غيرها في الحجة.
الرابع : تعدد مصاديق الحجة ووجوه الإحتجاج بالآية القرآنية.
الخامس : كل جمع بين آيتين من القرآن يكون حجة متعددة وبراهين قدسية بحسب الموضوع أو الحكم.
السادس : التفصيل فمن الآيات ما تكون حجة ومنها ما يكون موضوعها بحجة.
السابع : كل آية قرآنية تعضيد للإحتجاج بآيات أخرى من القرآن.
والصحيح هو الرابع والخامس والسابع، ليشمل معنى البيان في آية البحث[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، إقامة الحجة والبرهان الساطع على وجوب عبادة الله عز وجل والتصديق بالنبوة والتنزيل , والزجر عن مقدمات ومفاهيم الضلالة.
وجاء هذا الجزء وهو السادس بعد المائة من ( معالم الايمان في تفسير القرآن) بخصوص الوجه الرابع أعلاه، وستأتي أجزاء تالية متعددة في ذات الموضوع والبيان في الآية أعلاه بفيض وفضل من عند الله في آية علمية وإثارة لدرر القرآن ونهل من خزائنه , وموائد البيان فيه التي تدعو الناس كل يوم وليلة للنهل منها لأمور الدين والدنيا.
قال تعالى[وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ] ( )، فاضاف الله الحق إلى اليقين وهو خالصه وأسمى مراتبه والجلي منه , ومن إضافة الخاص إلى العام، لذا فان البيان المترشح عن القرآن يبعث الطمأنينة في النفوس ويزيح الشك واللبس عنها لتفنى في ذات الله عز وجل , ويقتبس الناس العلوم من الكتاب السالم عن المعارضة والتحريف وهو القرآن.
أما الوجهان الخامس والسابع أعلاه فنتطلع إلى العلماء في الأجيال القادمة لإصدار آلاف المجلدات بخصوصهما لأن صيغ الحجة المتعددة في الجمع بين آيات القرآن , وفي تعضيد بعضها بعضاً من الكنوز غير المنقطعة والذخائر اللامتناهية والفيوضات العلمية التي هي رشحة من رشحات قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *.
فاتحة الكتاب : فاتحة الشئ أوله ، وسميت سورة الحمد لله رب العالمين بالفاتحة لإفتتاح القرآن بها ، وهو نوع تشريف لهذه السورة ونيلها مرتبة قدسية خاصة في القرآن ، وفيه بيان للناس من وجوه :
الأول : إبتداء نظم القرآن بسورة معينة .
الثاني : تقيد المسلمين بترتيب سور القرآن بتوفيق من عند الله وهو بترتيبه هذا في اللوح المحفوظ فضل منه سبحانه.
وعن حذيفة الثقفي قال: كنت في الوفد الذين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمر معهم بعد العشاء فمكث عنا ليلة لم يأتنا، حتى طال ذلك علينا بعد العشاء. قال: قلنا: ما أمكثك عنا يا رسول الله؟ قال: “طرأ على حزب من القرآن، فأردت ألا أخرج حتى أقضيه”)( ).
وذهب شطر من العلماء بأنه ترتيب سورة القرآن باجتهاد من الصحابة.
الثالث : فاتحة الكتاب مفتاح للتلاوة وباب للمسألة والدعاء .
الرابع : في الإنصات للفاتحة دعوة للتدبر في آيات القرآن ، وإبتداء دخول الإيمان في النفس .
الخامس : تعدد فضائل سورة الفاتحة نوع هداية للناس .
السادس : كثرة أسماء سورة الفاتحة مدرسة في معرفة الإلهية ، وهذه دعوة للناس للإلتفات إلى كنوز القرآن , وقد ذكرتُ لها أربعة وأربعين إسماً ( ).
ويمكن تقسيمها إلى :
الأول : الأسماء التوقيفية وهي السماء الواردة في السنة النبوية القولية مثل سورة ( فاتحة الكتاب ) وسورة الفاتحة ، وأم القرآن.
وعن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي)( ).
الثاني : الاسماء المقتبسة والمستقرأة من السنة النبوية القولية والفعلية ، فتسمى سورة الفاتحة بسورة الشفاء , كما ورد في حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : فاتحة الكتاب شفاء من السمّ) ( )
الثالث : الأسماء الواردة عن أهل البيت والصحابة .
الرابع : الأسماء التي ذكرها التابعون والعلماء وشكا رجل للنبي وجع الخاصرة فقال الليل بأساس القرآن ، قال : وما أساس القرآن ، قال فاتحة الكتاب)( ).
الخامس : الأسماء المستحدثة في تفسيرنا هذا ، وعددها ستة عشر إسماً منها :
1- سورة الثناء ، لثناء الله عز وجل على نفسه فيها .
2- السورة المنجية وسورة الأصول والفروع لما فيها من الأحكام ومبادئ الإرادة التكوينية والتشريعية
3- الواقية .
4- سورة الذِكر ( ).
إن تعدد أسماء سورة الفاتحة هداية للناس وسبب للإصلاح ، وفيض يضئ للناس دروب الرشاد وعلى ضوء قاعدة زيادة المباني دليل على زيادة المعاني ، فان تعدد وزيادة أسماء سورة الفاتحة شاهد على أهلية هذه السورة لقبول هذا العدد من الأسماء والذي يفوق عدد كلمات السورة نفسها والبالغة تسعاً وعشرين كلمة ، ويمكن بلوغ أسماء هذه السورة إلى ضعف كلماتها بلحاظ منتطوق آياتها والنصوص الكريمة الواردة بخصوصها وقدسيتها.
البيان في فضل سورة الفاتحة
إن إبتداء القرآن بسورة الفاتحة بيان لموضوعيتها في حياة المسلمين العبادية وحضورها ومنافعها يوم القيامة ، وفيه ترغيب بقراءتها في الصلاة وإيمانه للمسلمين على حفظها وتلاوتها في الليل والنهار ، وفي كل آية منها بيان وموعظة للناس , ومن الإعجاز في آيات سورة الفاتحة أنها تلح على الإنسان بالتفكر في موضوعاتها التي تتعلق بأمور :
الأول : سعة رحمة الله .
الثاني : وجوب الشكر لله عز وجل والإقرار له بالربوبية , لقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، على وجوب ملازمة التسليم بالربوبية لله مع الشكر والثناء عليه لأن كل نعمة من عنده تعالى .
الثالث : سؤال الهداية إلى سواء السبيل من عند الله ، وأخذ الحائطة للدين ، ولزوم إجتناب أسباب ومقدمات الضلالة .
البيان في آية [بسم الله الرحمن الرحيم ]
وهذه أول آية في ترتيب القرآن ، وكذا فان أول آية نزلت من القرآن هي [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ).
ليقرأ كل مسلم ومسلمة القرآن كل يوم بالبدء بالبسملة على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية ولعدة مرات , ويتحقق مصداق الإمتثال للآية أعلاه، وفيه بيان للناس لوجوب إستحضار اسم الله في إبتداء التلاوة وإستقبال أعمال الصلاح والفلاح .
ومن البيان في البسملة أمور :
الأول : للبسملة معان عبادية وهي شعار إسلامي معروف عند الأمم وهي سور الموجبة الجامع لأهل التوحيد .
الثاني : من إعجاز القرآن أن البسملة وما لها من منزلة في العبادات والمعاملات في الشريعة الإسلامية لا تؤدي إلى نفرة أي من أهل الملل في الأرض والى يوم القيامة .
الثالث : من خصائص البسملة أنها حث للناس لذكر اسم الله في بدايات الأعمال .
الرابع : البسملة واقية من الآفات والنكبة الطارئة .
الخامس : البسملة شاهد على إمامة المسلمين للناس في الذكر .
السادس : الإتيان بالبسملة مفتاح للرزق الكريم .
السابع : النطق بالبسملة وسيلة لصرف البلاء .
الثامن : في البسملة سكينة وطمأنينة , وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
التاسع : إبتداء القرآن بالبسملة دليل على نزول القرآن من عند الله فهو سبحانه أبى إلا أن يبدأ أسمى كتاب سماوي باسمه .
العاشر : بداية القرآن بالبسملة نوع ثناء من الله عز وجل على القرآن والذين يتلونه .
الحادي عشر : في البسملة وعد من الله عز وجل للمسلمين بالثواب على تلاوتهم للقرآن وتعاهدهم له .
الثاني عشر : البسملة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) بتقريب بأن إبتداء القرآن باسم الله حفظ له ولتاليه , ومستمعه.
لتكون البسملة حرزاً ومن عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثالث عشر : من البيان في البسملة أن إبتداء القرآن بها دعوة للمسلمين كي يبدأوا أعمالهم باسم الله تعالى ، وهل تتوجه ذات الدعوة للناس جميعاً .
الجواب نعم لوجوه :
الأول : العموم في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( )
الثاني : الإطلاق في الرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم إنحصارها بخصوص المسلمين ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )
الثالث: القرآن الكتاب السماوي الخالد إلى يوم القيامة .
الرابع . لقد جعل الله القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )
الخامس : إنقياد الناس للربوبية المطلقة لله عز وجل ، والبسملة من الشواهد على هذا الإنقياد , وبرزخ دون مفاهيم الضلالة.
الرابع عشر : في البسملة إعلان لنبذ الشريك والند لله عز وجل ، وهي حرب على الأوثان .
الخامس عشر : ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنقطع إدعاء الربوبية من الطواغيت ، وجاءت البسملة زاجراً لهم ودعوة لهم وللناس لإعلان العبودية لله في بدايات الأعمال .
السادس عشر : في البسملة بيان للناس بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول لهم من عند الله ، ولا يأتي إلا بما يأمره تعالى ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( )
السابع عشر : من وجوه البيان في البسملة مجيؤها بثلاثة أسماء من أسماء الله عز وجل مع أن مجموع كلماتها أربع كلمات [بسم الله الرحمن الرحيم] لتكون غنيمة لأهل الأرض وكنزاً نازلاً من السماء ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للناس للنهل من فيوضاته .
الثامن عشر : مجئ أسماء الله التي تدل على الرحمة والعفو بالناس جميعاً وليس من حصر لرحمة الله، قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] ( ).
التاسع عشر : في الآية دعوة للمسلمين لنشر الإسلام بصيغ الإحسان والعفو والرحمة , وليس السيف والقتال .
وهل الإحتجاج بالبسملة وإبتداء القرآن بها على صدق نزول القرآن من عند الله من الرحمة في المقام , الجواب نعم .
العشرون : دلالة اسم سورة الفاتحة على بدء القرآن بها ، جاءت البسملة لإفتتاح هذه السورة بها , ولتكون فاتحة الفاتحة ، وفيه نوع خصوصية وقدسية خاصة لها .
الحادي والعشرون : من البيان في البسملة تأديب للناس بالإبتداء باسم الله وذكره تعالى .
الثاني والعشرون :في الآية دلالة على أن [الرحمن الرحيم]من أحب الأسماء الى الله عز وجل . ومن رحمة الله عز وجل نزول القرآن وإبتداؤه بالبسملة .
الثالث والعشرون : في الآية بشارة سيادة معاني الرأفة والرحمة بين الناس وبداية عهد جديد في الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتقوم بنبذ مفاهيم البطش والجور والطغيان .
الرابع والعشرون : من البيان للناس في البسملة أنها سور جامع للمسلمين والمسلمات بأن يتلوها كل واحد منهم كل يوم وعلى نحو متكرر، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ].
الخامس والعشرون : لما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، أقام الله عز وجل عليهم الحجة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ].
وجاءت البسملة من مصاديق علم الله في عمارة المسلمين الأرض بالتسبيح بذكره وتقديسه وذكر صفات الرحمة والعفو والمغفرة التي يتصف بها سبحانه ، ولا تمر طرفة عين من أفراد الزمان الطولية إلا وطائفة من المسلمين يتلون قوله تعالى [بسم الله الرحمن الرحيم]سواء في الصلاة أو التلاوة أو الذكر مطلقاً أو في الشروع بأمر من أمور الحياة الدنيا .
السادس والعشرون : البسملة سلاح من البلاء، ووسيلة لدفع شرور الفتن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
بلحاظ كبرى كلية وهي أن ذكر الله واقية .
السابع والعشرون :في البسملة وتلاوتها ثواب عظيم ليكون فيها بيان للناس لمصداق من مصاديق الثواب وإحرازه .
الثامن والعشرون : البسملة نوع دعاء وتوسل وسؤال حاجة من الله عز وجل , وأدب في العبودية.
التاسع والعشرون : بعد البسملة يأتي قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وتلك آية في تقوى المسلمين وإنقطاعهم إلى التسبيح والتقديس وهو من رد الله عز وجل أعلاه على الملائكة , فيأتي المسلمون بالبسملة ليقولوا الحمد لله , ويقرون له سبحانه بالربوبية المطلقة على الخلائق.
الثلاثون : في الآية بيان لعز وقوة المسلمين وزجر للكافر والظالم عن التعدي عليهم، إذ أنهم يبدأون أعمالهم ببسم الله، وفي التنزيل [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
الحادي والثلاثون : يحب الناس معرفة أول سورة في القرآن ودلالاتها فجاءت البسملة لتكون كالشجرة التي يتفيئ بظلالها ويستطيع أن يتوصل إلى أصل أغصانها كل إنسان .
الثاني والثلاثون : البسملة حبل مبارك نازل من السماء إلى الأرض يدعو الناس للتمسك والإستجارة به ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
الثالث والثلاثون : من خصائص البيان الوضوح وسهولة النطق لتكون البسملة قريبة من الناس ،حاضرة في الوجود الذهني بكثرة تلاوتها من قبل المسلمين .
الرابع والثلاثون : البسملة دليل على وجود الخالق ووجوب عبادته وعشق إسمه وبديع صفاته .
الخامس الثلاثون : إلتقاء واجتماع الخلائق بالبسملة والذكر إذ يسمع أهل السموات المسلمين كل يوم وهم ينادون مجتمعين ومتفرقين باسماء الله في حال خشوع أثناء الصلاة وعند المعاملات بما يدل على عدم إنشغالهم بالدنيا عن ذكره تعالى .
السادس والثلاثون : من البيان في البسملة أنها برزخ دون الكبرياء ونزع لرداء الإستعلاء لما فيها من معاني الخضوع لله عز وجل .
السابع والثلاثون :المجئ بالبسملة شاهد على حاجة الناس لإستحضار ذكر الله عند البدء بأمر أو فعل معين ، إذ أن التلاوة والصلاة أبهى وأحسن أعمال الإنسان وهي خير محض ونفع في الدنيا والآخرة .
الثامن والثلاثون : البسملة من الشواهد الجلية على قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فبلغ المسلمون هذه المرتبة السامية بالبسملة وإبتداء التلاوة والفعل بها ، ويخرجون للناس بها سلاحاً مباركاً وموعظة وأمناً ليكون خروجهم سبيل هداية ودعوة للصلاح .
التاسع والثلاثون : قد تشتهي النفس التقهر والعلو والزهو فجاءت آية البسملة لتنزيه المسلم عن الخصال القبيحة .
الاربعون : البسملة ميراث الأنبياء ، ونزولها تشريف للمسلمين وشاهد على تعاهدهم لهذا الميراث الكريم الذي تترشح عنه المنافع الدنيوية والأخروية ويمتنع عن أسباب البلى والنقص .
الحادي والاربعون : من البيان للناس في البسملة كونها أمارة على سلامة القرآن من التحريف والتغيير وفيها لجوء وإستجارة بالله من هذا التغيير أو طرو التبديل في آيات القرآن .
الثاني والأربعون : الإتيان بالبسملة وسيلة لطرد الحزن والكدورة، سواء عن قصد باتيان البسملة لطردها ، أو عن غير قصد ، وتلك آية في فضائل القرآن ، فحتى لو لم ينو المسلم ترتب أثر مخصوص على التلاوة فان الله عز وجل يصرف عنه البلاء بالقراءة .
الثالث والاربعون : بالجهر بالبسملة أو اتيانها خفية تتنزل البركات على ذات القارئ ومن حوله ، وتأتي النعم من عند الله عز وجل .
الرابع والأربعون: البسملة من مصاديق التقوى والخشية من الله عز وجل وهي نوع توكل عليه سبحانه ، ورجاء لرفده وفضله ، وهي من عند الله للناس جميعاً وجذب لهم لمنازل الإيمان، قال تعالى [وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] ( ).
الخامس والأربعون : تبين البسملة للناس كيفية تعلم المسلمين ودفع الجهالة والغفلة عنهم لأن ذات الآية الكريمة مدرسة للمعارف ، وهي مقدمة لإكتساب العلوم والتزود منها ،وقد جعلها الله تفيض بمعاني الرحمة .
السادس والأربعون : ورد ذكر اسم الله عز وجل والأمر به في القرآن في مواطن عديدة منها :
الأول : التلفظ باسم الله عند إرادة صيد حيوان، وعن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستأذن عليه فأذن له، فأبطأ فأخذ رداءه فخرج، فقال: قد أذنا لك قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت، وجاء الناس فقالوا: يا رسول الله، ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله{يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوراح مكلبين} فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أرسل الرجل كلبه، وذكر اسم الله فأمسك عليه، فليأكل مالم يأكل)( ).
السابع والأربعون : ورثة المسلمين للأنبياء في الإتيان بالبسملة وتلك آية في إكرام المسلمين ، وشاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين , لأن أمته هي التي تتعاهد مواريث الأنبياء ورفع لواء البسملة في الأرض .
وورد لفظ ( بِاسم اللَّهِ) حكاية عن نوح في قوله تعالى [وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاسم اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا]( ).
وورد عن الإمام الحسين بن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا: بسم الله الملك الرحمن{بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم} وما قدروا الله حق قدره)( ).
وعن الشعبي كان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم فكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما كتب : باسمك اللهم حتى نزلت { بسم الله مجراها ومرساها} فكتب (بسم الله) ثم نزلت {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} فكتب(بسم الله الرحمن) ثم أنزلت الآية التي في{طس… إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } فكتب (بسم الله الرحمن الرحيم( ).
وجاءت البسملة كاملة في آية من آيات القرآن وعلى لا نبي من الأنبياء لتقطع الخلاف .هل البسملة من القرآن أو لا .
وورد حكاية عن بلقيس ملكة سبأ بخصوص ما نقله الهدهد من كتاب نبي الله سليمان في التنزيل [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
ولما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسائل إلى ملوك الأرض يدعوهم للإسلام مثل كسرى وقيصر ، وكان فيه البسملة ، قال قيصر : إن هذا الكتاب لم أره بعد سليمان بن داود)( ).
الثامن والأربعون : تقدير الباء في البسملة : ابدأ باسم الله قراءة القرآن وبعد اسم الجلالة وردت صفتان لله عز وجل هما [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] والصفة غير الاسم لانها تبين خصوصية ومع أن صفات الله تتداخل مع أسمائه فهناك وجهان :
الأول : حصر صفات الله بما ورد في الكتاب والسنة .
الثاني: الإطلاق فيجوز ذكر الصفات القدسية التي تليق بجلال قدسه تعالى .
ونشرع هنا وجهاً ثالثاً وهو: إقتباس الصفات المناسبة من الكتاب والسنة، وهو أضيق من الإطلاق في الثاني أعلاه وأقرب للضبط مثلا قوله تعالى [ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ]( )، فنقول من صفاته تعالى :المبشر ، المعبود.
التاسع والأربعون : في إفتتاح المسلمين للتلاوة والأعمال بالبسملة بيان للناس لموضوعيتها ، وتذكير بوجوب جريان ذكر الله تعالى على الألسن .
الخمسون: بالبسملة تذكير للناس بعالم الآخرة ، وحاجة الناس اليها في عالم البرزخ وفي العبور على الصراط وقد تقدم في الجزء الأول كيف أن عيسى عليه السلام مرّ على قبر يتولى ملائكة العذاب تعذيب الميت الذي فيه ، ولما رجع رأى ملائكة الرحمة معها أطباق من نور ، فتعجب ودعا الله عز وجل فأوحى اليه أن هذا الميت ترك امرأة حبلى فولدت ولداً ولما كبر سلّمته للكتاب فلقنه المعلم بسم الله الرحمن الرحيم( ).
الحادي والخمسون : ذات البسملة توسل وحرز في عالم الغيب , وسؤال لنزول الرزق، وستر العيوب وهو من معاني مجئ صفة الرحمن الرحيم في البسملة، ليكون النطق بها إستجارة وإستعانة وإستغاثة بالله تعالى، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ).
الثاني والخمسون : عناية المسلمين بكيفية كتابة بسم الله الرحمن الرحيم وتقديسها , ومنع وضع الرقعة المكتوبة عليها على الأرض بيان للناس بخصوص صيغ التقوى وأن عبادة المسلمين لله عز وجل لا تختص بأداء الفرائض بل تشمل تنزيه أسماء وصفات الله عز وجل وإصطباغ حياتهم بالخشية والخشوع لله عز وجل .
الثلث والخمسون : صيرورة البسملة لغة عالمية ، يسمعها الناس جميعاً بلفظها العربي وترجمتها . وفيه بيان وتذكير للناس بوجوب عبادة الله تعالى .
الرابع والخمسون : من أسرار إخبار القرآن عن نطق الأنبياء السابقين بالبسملة جذب قلوب أتباعهم إلى الإسلام ، وعدم النفرة من أحكامه وسننه، قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى] ( ).
الخامس والخمسون : عدد حروف البسملة تسعة عشر حرفاً، وورد هذا العدد في القرآن بخصوص عدد الملائكة القائمين على النار، قال تعالى [عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ] ( ).
وكأن فيه دلالة بأن تلاوة وتكرار البسملة في الدنيا واقية من النار وشدة وغلظة خزنتها في الآخرة.
وعن ابن عباس في قوله تعالى [وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ] قال : كانوا تسعة عشر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسلاً إلى قومهم)( ).
السادس والخمسون : البسملة من أسرار الغيب ، ونوع صلة به وخزينة سماوية تتعدى حواجز المادة وقانون السببية الظاهرية الذي هو أعم إذ يكون سنامه المشيئة الإلهية بتقريب البعيد الحسن ومحو القريب السيء ، وجمع المتفرق وتفريق المجتمع بما فيه نفع الناس عامة والمؤمنين خاصة .
السابع والخمسون : يلزم إعداد دراسة خاصة إلى المواطن التي يستحب البدء بها بالبسملة وأثرها ، كما في زيادة ثواب المتوضأ إذا جاء بالبسملة ، وقد ذكرنا في الجزء الأول فتوى لنا عنوانها ( التحذير من تضييع البسملة كتابة وخطاً وفاتحة ) ( ).
الثامن والخمسون : النسبة بين البسملة والتسمية في المقام على وجوه:
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق بين البسملة والتسمية ، فالبسملة هي الأعم ، وكل بسملة هي تسمية وليس العكس.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق بين ذكر الله والتسمية أي (بسم الله)، فالتسمية ذكر وليس كل ذكر هو تسمية .
الثالث : بين الذكر والبسملة عموم وخصوص مطلق ، فالذكر هو الأعم، ليفوز المسلم بثواب التسمية والبسملة خاصة عند الإتيان بها ويقوى معه بثواب ذكر الله ، فيكون إتيان المسلم للبسملة من مصاديق الإمتثال لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
الموطن الثاني : النطق باسم الله في الذباحة ،وعند الإبتداء بتناول الطعام ، ويجزي التسمية وان لم يؤت بالبسملة ، أي يكفي قول بسم الله، وفيه دفع للداء والسم ، وفي ذكر التسمية على الذبيحة وجوه :
الأول : يجب التسمية على الذبيحة، ولا تحل من دون التسمية سواء كان تركها سهواً أو عمداً، ونسب إلى عبد الله بن عمر، وعامر الشعبي، وهو رواية عن مالك، وأحمد بن حنبل، وداود الظاهري وغيرهم .
الثاني : التسمية على الذبيحة مستحبة وليست واجبة وتركها عمداً أو سهواً لا يضر، وهو مذهب الشافعي وأصحابه، ورواية عن مالك وأحمد، ونسب هذا القول إلى ابن عباس وأبي هريرة
الثالث :وفي قوله تعالى [وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسم اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ]( ).
قال الشافعي إنها تخص ما ذبح لغير الله ، وورد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية أعلاه قال: هي الميتة، وأستدل بالمرسل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “ذَبِيحَة المسلم حلال ذُكِر اسم اللهِ أو لم يُذْكَرْ، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله( ).
وذكر البيهقي حديث عائشة بان ناساً قالوا: يا رسول الله، إن قوما حديثي عهد بجاهلية يأتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: “سَمّوا أنتم وكُلُوا”)( ).
وأنه لو كانت التسمية شرطاً لم يأذن لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأكل إلا بعد الإتيان بها .
ويرد عليه من جهات :
الأولى : الحديث بخصوص قضية عين ، ومسألة في واقعة معينة .
الثانية : أصالة الصحة في عمل المسلم.
الثالثة : صيانة مال المسلم وعدم التفريط فيه ، وكان المسلمون في ضائقة ، ولا يتلف اللحم مع الشك بعدم الإتيان بالبسملة .
الرابعة: يدل الحديث بأن المسلمين متقيدون بشرط التسمية ، وأن هذا الأمر ، وإحتمال عدم ذكرها على الذبيحة من قوم دخلوا الإسلام حديثاً فرد نادر حملهم على سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي أن ذات الحديث يدل بالدلالة التضمنية على التسالم بين المسلمين على ذكر اسم الله على الذبيحة .
الخامسة : لو شككنا هل جاء الذابح بالبسملة أو لا , فالأصل هو إتيانه بها
الرابع : تجب التسمية ، وتركها سهواً لا يضر وتحرم مع تركها عمداً، وهو مشهور علماء الإسلام والمختار.
وعن ابن عباس قال: لما نزلت [وَلاَ تَأْكُلُوا] أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمداً. فقالوا له: ما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله بمسمار من ذهب يعني الميتة فهو حرام، فنزلت هذه الآية {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} قال: الشياطين من فارس وأوليائهم من قريش)( ).
وعن الإمام جعفر الصادق بخصوص حلية ذبيحة المرأة والغلام قال: إذا كانت المرأة مسلمة وذكرت اسم الله حلت ذبيحتها وإذا كان الغلام قويا على الذبح وذكر اسم الله حلت ذبيحته، وإن كان الرجل مسلما فنسي أن يسمي فلا بأس بأكله، إذا لم تتهمه)( )، أي لا تتهمه بالنفاق وترك البسملة عن عمد وليس سهواً ونسياناً , والأصل في المقام هو عدم العمد .
الموطن الثالث : ذكر اسم الله عز وجل في أيام الحج , طاعة له سبحانه ، وتجديد لعرى الإيمان ، وإخبار الناس والخلائق أن المسلمين يتعاهدون ذكر الله في أيام عبادية مخصوصة مع إقترانها بالمنافع الدنيوية كالتجارة والمكاسب والآداب وحسن السمت والصلات الإجتماعية وأسباب المودة بين المسلمين، وذات الإجتماع في الحج من أصقاع الأرض له دلالات، ومنافع أخروية تتجلى بأداء فريضة الحج والاتيان بالمناسك، وتكرار البسملة في موضع جعله الله عز وجل[ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
الرابع : إخبار القرآن عن تخصيص بقع مباركة للعبادة وهي المساجد يدفع الله عز وجل عن عمارها أسباب الفتن ، قال تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم اللَّهِ كَثِيرًا]( ).
الخامس: تمجيد وتبجيل وتعظيم اسم الله , قال تعالى [تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( ).
السادس : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى التسبيح والتقديس لاسم الله والإكثار من ذكره , وفيه العز والأمن في الدنيا والآخرة، قال تعالى[سَبِّحْ اسم رَبِّكَ الأَعْلَى]( ).
جاء القرآن بقصص الأنبياء لتكون عبرة وموعظة للناس جميعاً وكل قصة منها رحمة خالصة من الله للمسلمين خاصة والناس جميعاً ومناسبة للتزود من المعارف والفضائل التي حازوا السبق فيها ، ودعوة لإتخاذ سنتهم أسوة مباركة ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
وفيه رحمة متعددة ومن مصاديق التعدد قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] إذ تتعدد معاني الرحمة والبيان في المقام , من وجوه :
الأول : نيل الأنبياء مراتب الوحي والتنزيل السامية .
الثاني : صدور الأنبياء في القول والفعل عن الوحي والتنزيل .
الثالث : توثيق هذا الصدور وصيرورته كنزاً بيد المسلمين يتجلى برحمة الله في نزول القرآن .
الرابع : فعل الأنبياء ، وإقتداء المسلمين بسيرتهم المباركة بيان للناس وشاهد على وراثة المسلمين لهم ، وحفظهم لميراث النبوة إلى يوم القيامة ، ليكون هذا الحفظ بياناً ورحمة أخرى للناس ، ومناسبة لفوز المسلمين بالأجر والثواب .
ووردت التسمية على لسان نوح عليه السلام عند ظهور علامات الطوفان وجريان الماء بغزارة ، وفي التنزيل [وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاسم اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
فجاء نوح بالتسمية وذكر رحمة الله عز وجل وأنه هو الغفور للعباد من ركب ومن تخلف وقيل (إذا اراد السير قال: بسم الله مجراها، فتجري، وإذا أراد الوقوف، قال: بسم الله مرساها، فتثبت واقفة)( ).
لقد لاذ نوح بالله عز وجل وسأله أن يرحمهم وألا يهلكهم بذنوبهم، وجاء نوح بالتسمية بنفسه ونيابة عمن ركب معه ، وفي حال الشدة والفزع والخوف .
ونوح نبي من الرسل الخمسة أولي العزم، ومن خصائص الأنبياء المواظبة على التسمية في كل أمر ذي بال ، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعل كل فرد منهم ذكراً أو انثى يأتي بالبسملة على نحو الوجوب العيني عدة مرات في اليوم الواحد، لتكون بياناً لهم بحسن مقالهم عند الله وكونهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بالبسملة وتسابقهم وحرصهم على النطق بها وهو من مصاديق قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
بتقريب من جهات :
الأولى : يسارع المسلمون إلى مغفرة سبل، بإتيانهم البسملة، وفيه بيان للناس بمعرفة طريق من طرق المغفرة .
الثاني : إقرار المسلمين بأن الله عز وجل هو ربهم ، وأنهم يستجيرون باسمه في رجاء عفوه ومغفرته ، وفيه بيان وتعليم لمعاني العبودية .
الثالث : البيان للناس بأن من وجوه تسمية المسلمين أنهم يسلمون بالمعاد والثواب والعقاب في الآخرة ، وأن الجنة جزاء المؤمنين الذين يواظبون على قول [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] .
الرابع : ترغيب الناس بالإتيان بالبسملة لأنها طريق للبث الدائم في النعيم ، لذا إتخذها الأنبياء منهاجاً وسنة .
ومن فيوضات البسملة أنها مانع من التحريف والتغيير في كلمات وآيات القرآن إذ جاءت البسملة في بداية كل سورة ، لتعلن عن إنتهاء السورة السابقة إلا بسملة الفاتحة فانها تعلن عن إفتتاح سورة الفاتحة من غير أن تكون خاتمة لسورة أخرى .
ومنذ نزول القرآن منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة فان علماء المسلمين يختلفون في جزئية البسملة من سوره أو عدمها مع إجماعهم على لزوم وجودها في أول كل السورة وتلاوة البسملة عند قراءتها لتكون موعظة للناس وشاهداً بأن المسلمين يحرصون على تعاهد كتابة وترتيب سور القرآن مثلما هو في أيام النبوة من غير زيادة أو نقصان .
وكأنهم ينطقون بالبسملة كتوسل وحرز لحفظ وسلامة القرآن وعصمتهم من أسباب الشك والريب .
والبسملة مائز للمسلمين يبين أنهم يشتركون بخصلة حميدة وهي إتخاذ البسملة صاحباً وعضداً في أمور الدين والدنيا ، وهو من أسرار تكرارها في أول كل سورة ، وصيرورتها كنزاً سماوياً يجري على الألسن فينزهها من درن الأخلاق المذمومة وفاحش الكلام.
البيان في آية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]
وفيه وجوه :
الأول : من فضل الله عز وجل إفتتاح القرآن بالحمد والثناء عليه سبحانه بعد ذكر إسمه .
الثاني : إنه دليل على توجه القرآن للناس جميعاً في خطاباته وأحكامه وبيانه ، ودعوتهم للشكر لله عز وجل، وفيه تذكير لكل إنسان بأن يشكر الله على ما عنده من النعم .
الثالث : البيان للناس بأن الله عز وجل أراد للمسلمين الفوز بمرتبة إمامة الناس في الحمد والثناء على الله، وفيه ترغيب للناس بالإقتداء بالمسلمين في سبل الحمد، وما فيه من النفع العظيم في الدنيا والآخرة .
الرابع: إنفراد المسلمين بقول (الحمد لله ) بقصد القرآنية وقصد القربة إلى الله عز وجل ليكون علة للإرتقاء في الدنيا والعز والسعة في الرزق وطول العمر ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
الخامس : يجد المسلم كل يوم السلامة بقول الحمد لله رب العالمين ، ويعترف بالربوبية المطلقة له سبحانه وانه مالك الخلائق كلها .
السادس : الحمد نقيض الذم، وتلهج ألسنة المسلمين بالحمد والثناء على الله عز وجل بالليل والنهار ، وفيه تهذيب لهم في النطق وعالم الفعل ، وهو من مصاديق إصلاح المسلمين لمنزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
السابع : لقد جعل الله عز وجل عبادة الناس له علة خلقهم وإنتشارهم في الأرض ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
فيأتي قول المسلمين [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]مصداقاً حاضراً للعبادة . ومناسبة لإستدامة الحياة ونزول البركات وفيه بيان للناس بأن قول المسلمين الحمد لله نفع لأهل الأرض جميعاً وذراريهم وأنه برزخ دون نزول البلاء، وسبب لمحو أفراد منه.
الثامن : إبتدأ القرآن بقول [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] وتعقبه قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ]وفيه مسائل:
الأولى : ثناء الله على نفسه في الكتاب السماوي الخالد ،وهذا الثناء من مصاديق الربوبية المطلقة لله عز وجل ، فالحمد كله لله عز وجل ، وهو الذي جعل الخلائق تشكره على نعمه المتتالية ، وان كان قوس الصعود للحمد من العباد محدوداً لفظاً وزماناً .
الثانية : فيه نوع ملازمة بين البسملة والثناء على الله والشكر له سبحانه.
الثالثة : الحمد لله من أبهى مصاديق التقوى والعبادة والتقرب إلى الله عز وجل.
الرابع : حرز وشعار المسلمين هو البسملة والحمد لله، وبه ينصرون ويأتيهم الرزق الكريم .
الخامس : تأديب المسلمين بالإبتداء بالبسملة ثم الشكر لله عز وجل .
التاسع : لقد خلق الله عز وجل آدم خليفة في الأرض، قال تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ليكون من خصائص الخليفة الشكر لله عز وجل على نعمة الخلافة في الصباح والمساء ،وفي حال خشوع وخضوع أثناء الصلاة.
العاشر : في تلاوة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ، فلم ترتق أمة إلى ما بلغه المسلمون في مراتب الحمد لله والثناء عليه .
الحادي عشر : لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )ومن مصاديق هذا التفضيل أن الحمد لله حاضر في الوجود الذهني لكل مسلم ومسلمة وهو سور الموجبة الكلية ولواء يجتمع تحت ظله المسلمون ليكون الجزاء حمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لواء الحمد يوم القيامة، وقال صلى الله عليه وآله وسلم(لواء الحمد بيدي) ( ).
الثاني عشر : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إبتلاء وإمتحان فجاءت آية الحمد بياناً للناس لسبيل من سبل الوقاية من الإفتتان بزينة الدنيا، وحرز من إغواء الشيطان لأنها تسليم بانقياد الخلائق وإمتثالها لأوامر الله ، قال تعالى[فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ]( ).
الثالث عشر : آية الحمد لله مدرسة في الأخلاق الفاضلة، وصيغ الثناء على الله عز وجل ، وتلاوتها والتدبر في معانيها سبب لبعث النفرة من الرذائل ، وبرزخ دون فعل السيئات ، ليكون من معاني البيان في آيات القرآن إصلاح النفوس وتهذيب العادات وسنن المجتمعات .
الثالث عشر : مواظبة المسلمين على قول ( الْحَمْدُ لِلَّهِ) عمل وفعل عبادي ، وشعار يرفعونه بين الملأ يدعو الناس إلى الإقرار بالربوبية المستديمة لله عز وجل في السموات والأرض.
الرابع عشر : تلاوة المسلمين لآية الحمد بيان للناس بارتقاء المسلمين في مراتب العلم ومسائل الكلام، من جهات :
الأولى : مبادرة المسلمين للشكر لله عز وجل .
الثانية : بيان حاجة العباد للشكر لله عز وجل سبحانه .
الثالثة : الحمد لله إحتراز من الشرك ومفاهيم الضلالة .
الرابعة :إقرار المسلمين بأن الله عز وجل رب ومالك العوالم كلها .
الخامسة : النطق بالحمد لله من أعظم النعم على الإنسان ، وتزول الدنيا ولكن ثواب وأجر الحمد لله باق إلى يوم القيامة.
الخامس عشرة : لقد أصبح لفظ [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]شعيرة إسلامية ومائزاً للمسلمين برداء التقوى وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
السادس عشر: لم تقف الآية عند قول الحمد لله بل جاءت بالصفة التي تجمع بين انفراده بتوجه الحمد المطلق له وحده، وإنقياد الخلائق كلها له، ففي قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ).
يتجلى التكامل الذي يفيد الأمن والغبطة بالمعجزة ولو قال سبحانه كوني برداً لجمد إبراهيم ، وكذا بالنسبة لآية الحمد فلو قلت [الْحَمْدُ لِلَّهِ] لأحتمل وجود منعم غير الله يستحق الحمد .
ولم تقل الآية ( الحمد لله الرب ) لرفع وهم بأن ربوبيته تعالى تتعلق بالبشر وعالم الحس . بل جاءت بالعنوان الجامع المانع الذي يدل على إستحقاقه تعالى وحده الحمد وأنه سبحانه رب الخلائق كلها لتدخل الملائكة والإنس والجن والسموات والأرض والأفلاك والكواكب .
ليكون تكرار كل مسلم لقول[رَبِّ الْعَالَمِينَ] عدة مرات في الصلاة اليومية، أمارة على إختصاص المسلمين بالتفقه في الدين وإتخاذ هذا الإطلاق في العبودية لله حرزاً من الغلو وحرباً على الطواغيت الذين يدّعون الربوبية ومنعاً للناس من إتباعهم أو نصرتهم.
ومن الشواهد على صدق هذا المعنى إنتفاء مدع الربوبية بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جميع أنحاء الأرض، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وإختلفت الأقوال في معنى [الْعَالَمِينَ]في قوله تعالى [رَبِّ الْعَالَمِينَ]مع أن مضمونها واحد وهو التوحيد .
ولفظ العالمين جمع عالم مشتق من العلم بفتح اللام ، وهو الدليل ونؤسس هنا لعلم جديد في المقام , وهو أن لفظ [الْعَالَمِينَ] في القرآن من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً , فيأتي في القرآن على وجوه :
الأول : إرادة الناس جميعاً , قال تعالى [أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ] ( ).
الثاني : إرادة طائفة أو جيل من الناس.
الثالث : المقصود الإنس والجن كما في قوله تعالى[تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
وعن عكرمة عن ابن عباس : رب العالمين: الجن والأنس) ( ).
الرابع : نسبة التساوي بين العالمين والمخلوقات ، فكل موجود سوى الله عز وجل هو من العالمين ويقر بالربوبية المطلقة لله عز وجل طوعاً أو قهراً في الدنيا أو الآخرة , قال تعالى[ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ]( ).
واذا ورد لفظ( رب العالمين ) من غير تقدير , فالمراد به الوجه الأخير أعلاه ، وهو مضمون قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] .
وورد لفظ [الْعَالَمِينَ] في القرآن إحدى وستون مرة , وفيه مدرسة وموعظة ودعوة للثناء عليه سبحانه ، والتدبر في عظيم سلطانه، وكل مرة منه بيان للناس ولطف يقربهم إلى منازل الهداية والإيمان، وهو من مصاديق إفتتاح سورة البقرة بخصوص القرآن[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
السابع عشر : لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، وتتبين هذه الحاجة للإنسان في كل آن ، ولكنه قد يغفل عن علتها وفلسفتها ، وانها دعوة لعبادة الله ، واللجوء إليه سبحانه ، ومن مصاديق الحاجة الخاصة والعامة التي تتجلى للناس بلحاظ قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] وجوه :
الأول : أيها الناس قولوا الحمد لله .
الثاني : أقروا بالشكر لله على النعم , لأن في هذا الإقرار إستدامتها وزيادتها.
الثالث : بيان حاجة الإنسان لقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ].
الرابع : لزوم تجديد الإنسان الإقرار بالعبودية لله عز وجل .
الخامس : بيان وجوب التسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل لتستبين للناس حقيقة وهي قبح الشرك ، ولزوم النفرة من الضلالة والغواية .
السادس : دعوة الناس للتسابق في إعلان الإقرار بأن الله رب العالمين وأن النعم كلها منه سبحانه وأنه يستحق الثناء المتجدد وغير المنقطع .
السابع : بيان معاني الربوبية التامة والمنجزة لله عز وجل ،ومنها :
الأول :خلق الله عز وجل لكل الموجودات ، وبيان إتحادها في أصل الخلق لبيان قدرة الله عز وجل بقوله تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( ).
الثاني : إطلاق المشيئة الإلهية ، وعدم تقييدها أو حصرها , قال تعالى في الثناء على نفسه وترغيب الناس بعبادته[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثالث : فضل الله عز وجل في تعاهد الخلائق وإستدامة وجودها كلاً إلى أجله .
الرابع :حفظ الخلائق .
الخامس : بيان حقيقة وهي : من معاني الربوبية توالي الرزق الكريم بتقدير الحمد لله رب العالمين الذي يرزقهم ويفيض عليهم .
السادس : من صفات الربوبية أن الله عز وجل يهدي الناس إلى سبل الإيمان، وفي التنزيل[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّه]( ).
السابع : بيان كفاية الله عز وجل للخلائق وهو أمر لا يقدر عليه إلا هو سبحانه , ويترشح عنه وجوب شكره تعالى على نعمة الكفاية هذه .
الثامن : غنى الناس بالله عز وجل وربوبيته , وعدم حاجتهم إلى سواه ، ولو كانت حاجة للناس عند غيره سبحانه فلا يدفع الأذى الذي يلحقهم إلا هو سبحانه فتفضل ودعاهم إلى شكره والثناء عليه .
التاسع : من معاني الربوبية لله سبحانه أنه يرث الأرض والسماء ، فتزول الملكية المتزلزلة للناس ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
العاشر : البيان للناس بأن الله عز وجل رب العالمين هو الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بهم ، وهذا البيان لمفهوم الربوبية من مصاديق قوله تعالى [وما أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الحادي عشر : البيان للناس بأن من معاني ربوبية الله علمه تعالى بما يفعلون ومآل أفعالهم وأحوالهم إليه سبحانه ، ومنها قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، فلا يترك الناس وشأنهم ولا يجعل الأحداث تجري بمشيئتهم وسعيهم، قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ]( ).
الثاني عشر : في الآية بيان للناس بأن المؤثر في الوجود والموجود هو الله عز وجل وفيه نفع للخلائق بدليل نص الآية التالية [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] فان ربوبية الله المطلقة رحمة بالخلائق ومانع من الإصطدام والتزاحم بينها , قال تعالى [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا]( ).
الثالث عشر : من ذخائر القرآن كثرة ورود لفظ [الْحَمْد] وإختصاصه بالله عز وجل ، فقد جاء ثلاثاً واربعين مرة في القرآن كلها في الثناء عليه إذ أبى الله عز وجل أن يحمد في كتابه غيره، وورد ذكر الخلائق كلها وهي تحمد الله، ففي الملائكة ورد في التنزيل [وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ]( )، والأمور الكونية الثابتة والمتغيرة وسريعة الزوال تلتقي كلها في الحمد لله, والرعد والبرق الذي يطرأ في حالات نادرة لا ينسى الحمد لله . قال تعالى[وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ]( ).
لتكون الآية أعلاه بياناً للناس بلزوم الحمد لله والخشية منه .
التاسع عشر : تدل الآية على الإشتراك بين المسلمين والملائكة في آداب العبودية واللجوء إلى الثناء على الله عز وجل في تجلي نعمه ظاهرة ومطلقاً بلحاظ أن وجود الخلائق ذاته نعمة عظيمة متجددة في كل آن , وقد فاز الإنسان بأبهى النعم بين الخلائق، قال تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
وفيه بيان للناس بأن نعمة الخلق والعافية والخلافة في الأرض تستلزم الحمد والشكر لله من كل إنسان ذكراً كان أو انثى ، ومن الآيات أن النعم الشخصية التي ينتفع منها الفرد تترشح منافعها وآثارها عليهم، وجاء نطق المسلمين بآية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]رحمة بهم وبذرياتهم وعلة لدوام نعمة الإكرام وتوالي الخيرات ، وكل مرة يقول بها المسلم [الْحَمْدُ لِلَّهِ] هي نعمة مستحدثة يبلغها بفضل الله ، ويأبى الله إلا أن يشكره عليها بنعم جديدة وهو من مصاديق إكرام الله عز وجل للإنسان .
العشرون : البيان للناس بأن حمد المسلمين لله عز وجل من الدائم والمتصل إلى يوم القيامة ، وأن نطقهم المتعدد بالحمد لله في اليوم الواحد لا يحصيه إلا الله عز وجل وهو حاصل مجموع أمور :
الأول : عدد المسلمين .
الثاني : عدد مرات قراءة المسلم لسورة الفاتحة في الصلاة اليومية الواجبة.
الثالث : قراءة المسلم لسورة الفاتحة في صلاة النافلة والمستحبة كالنوافل اليومية ، والصلاة الواجبة بالعرض كالنذر واليمين.
الرابع : نطق المسلم والمسلمة بالحمد لله عند إستحضار نعمة أو صرف بلاء.
والحمد لله هو الصبغة الإيمانية التي يتعاهدها ويتوارثها المسلمون ويخرجون بها الى الناس لتكون دعوة إلى الوئام ونشر شآبيب الرحمة وآداب العبودية بينهم، وعن الإمام علي عليه السلام أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نزل عليه جبرئيل عليه السلام , فقال له: إن ربك يقول لك: إذا اردت أن تعبدني يوما وليلة حق عبادتي فارفع يديك إلي وقل: “اللهم لك الحمد حمدا خالدا مع خلودك ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون علمك ولك الحمد حمدا لا أمد له دون مشيئتك ولك الحمد حمدا لا جزاء لقائله إلا رضاك)( ).
البيان في قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]
وفيه وجوه :
الأول : من الشواهد على أن نزول القرآن رحمة وخير محض إبتداؤه بالأسماء الحسنى التي تدل على الرحمة النازلة من عند الله على نحو الدوام والتجدد ، وفيه بيان للناس من جهات :
الأولى : الوعد من الله لرحمة الناس في الدنيا والآخرة .
الثانية : النفع الدائم والمتجدد للناس في الحياة الدنيا .
الثالثة : إن خلق الإنسان رحمة به , ومنها صيرورته خليفة في الأرض وفي التنزيل [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الرابعة : تشريع دراسات ومسائل للإستنباط في علوم مستقلة في آيات القرآن من وجوه :
الأول: آيات الوعد .
الثاني : آيات الرحمة.
الثالث : إحصاء آيات الوعد الإلهي .
الرابع : إحصاء وبيان آيات الرحمة الإلهية .
مع تقسيمها إلى أقسام منها :
الأول : رحمة الله بالمسلمين .
الثاني : رحمة الله باهل الكتاب .
الثالث : رحمة الله بالناس جميعاً .
الرابع : رحمة الله في الدنيا .
الخامس : رحمة الله في الآخرة .
السادس : رحمة الله بالأمم السابقة .
السابع : رحمة الله ببعث الأنبياء .
الثامن : تعدد الالفاظ التي تدل على رحمة الله في الآية الواحدة .
وكل قسم من هذه الأقسام يتفرع إلى فروع عديدة، يكون كل واحد منها موضوعاً لرحمة الله في باب مخصوص، وفيه ترغيب للناس بالنهل من رحمة الله ، وهذا النهل وحده علم مستقل تتعلق موضوعاته بكيفيته وصيغه وطرقه العبادية وإتخاذ الدعاء سبيلاً وكيفية دائمة للفوز بهذا النهل، ومن رحمة الله أنه جعل الناس يدركون اللامتناهي في أفراده ومصاديقه.
الثاني : من مصاديق رحمة الله بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسائل:
الأولى : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ونفع ومن سنته نشر مفاهيم الرحمة حتى بخصوص الحيوان والطير ، وأخذ بعض الصحابة فرخي حمّرة وهي من أنواع الطيور تتصف باللون الأحمر، فجعلت الحمرة ترفرف بجناحيها ، فلما جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأبصرها ، قال : مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا)( ).
وقال له رجل : يا رسول الله اني لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن رحمتها رحمك الله)( ).
وبينما كانت العرب تأد البنت فيقتلها أبوها أو أمها ويغزو بعضهم بعضاً ويأسرون العيال والأولاد ، جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة والترغيب بالعناية والرفق بالحيوان والدعوة إلى تكاثره .
ونهى عن تصبيره أي حبسه وجعله هدفاً للرمي حتى يموت ، وفي هذا النهي أمور :
الأول : حفظ الثروة الحيوانية .
الثاني : منع التبذير والإسراف .
الثالث : الزجر عن اللهو .
الرابع : إيجاد أهداف للرمي لا تودي إلى الضرر وتلف المال .
الخامس : النهي مصداق لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام .
السادس : وجوب العناية بالأطفال ذكوراً وأناثاً من باب الأولوية القطعية.
فان قلت إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قطع يد السارق وجلد ورمى الزناة ، وقتل المحاربين ، وأسر الأسرى وأخذ الغنائم ، وأمر بقتل جماعة يوم فتح مكة وان كانوا متعلقين باستار الكعبة .
والجواب عفى النبي على أكثر هؤلاء وبأدنى سبب وشفاعة, ولا تعارض بين الرحمة وإقامة الحدود ، وإقامتها من مصاديق الرحمة وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
الثالث : من وجوه البيان في آية [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]مجيؤها مستقلة بذاتها تتضمن صفتين لله عز وجل مع إتحاد الموضوع وترشح البركة والفضل المتصل عنهما مجتمعتين ومتفرقتين ، وفيه دعوة للناس للتدبر في وجوه الرحمة التي تتغشاهم من عند الله ، وحاجتهم لها في الآخرة .
ومن الإعجاز في الآية الكريمة أن ذات اللفظ فيها لا يتضمن المعنى والدلالة وكأنه من البديهيات , وفيه مسائل :
الأولى : نفي البرزخية بين اللفظ القرآني وحضوره ودلالته الإجمالية في الوجود الذهني لكل إنسان .
الثانية : عدم حاجة الإنسان إلى وسط وتفسير لدلالات الأسماء الحسنى وصفات الله عز وجل .
الثالثة : كل صفة لله عز وجل دعوة للإيمان ، والثبات في منازله .
الرابعة : إقامة الحجة للمؤمنين في الدعوة إلى الله عز وجل بقوله [َرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] ( ).
الرابع : من الشواهد على نزول القرآن من عند الله، هو ثناؤه على نفسه في القرآن ومجئ هذا الثناء بصيغة الوعد اللا محدود الحال والمستقبل القريب والبعيد، والرأفة المطلقة التي تتغشى الخلائق كلها ، والرحمة المتصلة والدائمة وبما يمنع من التأويل بما يحجب بعض معاني رحمته ، فهو الرحمن في الدنيا والرحيم في الآخرة.
الخامس : من البيان في الآية ترغيب الناس بالإستغفار والتوبة إذ أن الآية تغلق سبل اليأس عن رحمة الله ، وتجعل الإنسان يتعلق برحمة الله على كل حال .
وفي الحديث القدسي : عبدي إنك ما دعوتني ورجوتني فإني سأغفر لك على ما كان فيك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة)( ).
السادس : لم يبدأ القرآن بآية تتضمن الوعيد والتخويف ، ولم يجعل الآية الثانية أو الثالثة أو الرابعة في القرآن تتضمن هذا المعنى أو تشير إليه بالدلالة المطابقية أو الإلتزامية ، بل جاءت هذه الآيات بفيوضات الرحمة والعفو ، وهو من أسرار صيرورة الإنسان خليفة في الأرض بفضل الله من وجوه :
الأول : بسط الله عز وجل ضروب الرحمة للإنسان .
الثاني : جعل رحمة الله طريقاً للهداية والصلاح .
الثالث : إنعدام البرزخ والحاجب بين الخليفة وبين التوبة ، وتلك آية في رحمة الله , فعندما تفضل الله وجعل الإنسان بهذه المرتبة السامية بين الخلائق فانه سبحانه أبى أن يغلق عنه أبواب التوبة ، ولم يجعل لتلك الأبواب حداً أو رسماً ، بل هي متسعة ومتكثرة ، ومنها آية البحث التي تدعو الناس للتوبة والإنابة والنهل من رحمة الله .
وهل تدخل الدعوة إلى التوبة في معاني آية [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]الجواب نعم لذا جاءت الملازمة بين صفتي [الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] في آيات متعددة.
السابع : من رحمة الله عز وجل بالناس أنه لا يرضى للعبد أن ييأس من رحمته وأن لا ينتفع منها الإنتفاع الأمثل لذا تفضل سبحانه وجاءت الآيات الأولى من القرآن بتأكيد رحمته المطلقة موضوعاً وزماناً ومكاناً وحكماً ، إذ أنها تحيط بملكه، قال تعالى [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ] ( ) أي وسعها برحمته وعفوه .
وفي الحديث القدسي : يقول الله عز وجل ما غضبت على أحد كغضبي على عبد أتى معصية فتعاظمت عليه في جنب عفوي)( ).
فمن رحمة الله عز وجل أنه بجذب عباده إلى سبل الرحمة ويحثهم عليها ويزجرهم عن الغفلة عنها ،ومن مصاديق الزجر هذه آية البحث بوصف الله عز وجل لأسمى صيغ الإطلاق في الرحمة وأنه [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ].
الثامن : تتصف هذه الآية بخصوصية وهي إنفرادها بأن مجموع كلماتها إسمان، وفيه مسائل :
الأول : أبى الله إلا أن يكون هذان الإسمان من صفاته الحسنى .
الثانية : تتجلى أبهى معاني الرحمة والرأفة في هذين الإسمين .
الثالث : إن الأرض وما فيها ملك لله عز وجل ، فاراد أن يخبر الناس بأنها وعاء رحمته وأن الشر لا يأتي للناس منها أو من السماء ، والجمع بينها وبين السماء في بيان ملك الله لهما من الشواهد بأن الضرر لن يأتيهم من السماء وأسباب الفناء الطارئة في هذا الزمان وما يسمى باسلحة الدمار الشامل .
قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، ومنها نزول رحمة الله عز وجل من السماء لأهل الأرض وطرد الخوف عن نفوسهم برجحان نزول النعمة، فان قلت يتجلى التقييد في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) من وجوه :
الأول : وجوب طاعة الله عز وجل .
الثاني : وجوب طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة من عند الله .
الثالث : تعليق الرحمة وذكرها على نحو الرجاء بقوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ].
الرابع : إختصاص الخطاب بالمسلمين والمسلمات على نحو الحصر والذي يتجلى بصيغة الخطاب في الآية وعطفها على الآيات التي تخاطبهم بالذات كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )
والجواب هذا التقييد المتعدد بيان للناس في المنافع العظيمة لدخول الإسلام ومجئ مصاديق إضافية من الرحمن للمسلمين وهو من مفاهيم قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ].
بمعنى أن الرحمة للناس تكون على أقسام :
الأول : الرحمة التي تأتي للناس كخلق لله عز وجل .
الثاني : شأبيب الرحمة التي تأتي للناس كعبيد لله عز وجل .
الثالث : وجوه الرحمة المصاحبة للخلافة في الأرض .
الرابع : ضروب الرحمة التي تنزل من السماء لتعاهد الناس عبادة الله في الأرض .
الخامس : صيغ الرحمة التي تستمر معها الحياة البشرية على الأرض .
السادس : مصاديق الرحمة التي تأتي للمؤمنين الذين يطيعون الله ورسوله.
ومن الآيات أن المسلمين يشاركون الناس في وجوه الرحمة الخمسة المتقدمة مع مائز رتبي لهم فيها ، وينفردون بالقسم السادس أعلاه الذي يختص بطاعة الله ورسوله ولا يحرم الناس من هذا القسم وعلى نحو السالبة الكلية بل تترشح عليهم آيات الفضل الإلهي بتقوى وصلاح المسلمين ، ومن الرشحات في المقام البيان للناس بحلاوة الإيمان ونزول البركات والفيض معه على الذات والغير ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
التاسع : جاء القرآن بالأحكام التكليفية والوضعية ، والمترشحة عن ذات الخطاب الإلهي ، وموضوعه وأثره وقد يظن الإنسان بأن فيها مشقة وعناء ، فجاءت آية البحث بياناً للناس جميعاً بانتفاء المشقة فيها ، وأنها من مصاديق رحمة الله بالناس سواء بذاتها أو بما تجلبه معها من الخيرات وما ينصرف بها من الإسقام ومن ضروب من البلاء والفتن .
وأداء المسلمين العبادات كالصلاة والصوم والزكاة بشوق ورغبة من البيان من وجوه :
الأول : إدراك المسلمين للتيسير في أداء العبادات .
الثاني : تلمس الإفاضات في أداء كل فرد من أفراد العبادات .
الثالث : حرص المسلمين على أداء العبادات .
الرابع : تعاهد المسلمين العبادة بالكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبالإسناد عن جابر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول لتأخذوا عني مناسككم، فاني لا ادري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)( ).
الخامس : رؤية أهل الكتاب والناس جميعاً المسلمين كيف يقبلون على العبادات والتكاليف برضا وشغف وغبطة ، وهو شاهد عملي ، وهو من معاني الرحمة بالمسلمين وبالناس في باب العبادات ،وفيه تأسيس لقانون في علم البيان وهو أن الإسلام دين الرحمة ، وتتجلى فيه الملازمة بين رحمة الله وأداء التكاليف ، فالأمر الإلهي بعبادته رحمة بهم ، وأداؤهم رحمة أخرى يترشح عنها الثواب المتجدد في النشأتين وهو رحمة تعجز الأذهان عن درك كنهها .
ليكون ذات الأداء للعبادات من الرحمة الإلهية حجة في الدنيا ، وثوابها حجة لهم في الدنيا والآخرة ، وهو من رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً في الدنيا ، ومن رحمته بالمسلمين خاصة في الآخرة .
العاشر : في الإبتداء بالبسملة وتكرار صفتي [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] في البسملة ثم في آية البحث , وليس بينهما إلا آية الحمد هداية وتعليم للمسلمين بعدم وصول النوبة لإتخاذ السيف سلاحاً مصاحباً ، وسبيل إرشاد للناس لدخول الإسلام ، بل يجب أن تكون الرحمة هي الوسيلة الأصل والمادة والغاية في الهداية والدعوة إلى الله عز وجل .
إنه باعث للمسلمين للثقة بالله ورحمته ومنها في المقام جذب الناس للإسلام وفي التنزيل [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ] ( ).
الحادي عشر : من البيان في هذه الآية الإعجاز في التحدي برحمة الله موضوعاً وكيفية وكماً وزماناً وموضوعاَ وأثراً ، وقربها من الناس ، وفيه ترغيب لهم بالإنتفاع الأمثل منها.
وفيمن يزهد برحمة الله وجوه :
الأول : إعراض رحمة الله عنه .
الثاني : إنما رحمة الله قريبة من الناس ومن لا ينتفع منها فانما يضر نفسه .
الثالث : مجئ رحمة الله للإنسان وإن أعرض عنها وزهد فيها .
والصحيح هو الثالث وهو من مصاديق الآية الكريمة ولغة الإطلاق فيها .
الثاني عشر : تقدم قول [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] على [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] وفيه دلالة بأن رحمة الله مطلقة وشاملة للعوالم الطولية الحياة الدنيا وعالم البرزخ والآخرة ، وفيه مسائل :
الأولى : لما كانت الدنيا مزرعة للآخرة أحاطها الله سبحانه برحمته، وجعل أيامها ولياليها وعاء للرحمة والرأفة منه سبحانه لتكون عوناً للناس في العمل للآخرة .
الثانية : دعوة الناس للإستعداد للحساب وعالم الجزاء بالنهل من رحمته وجعلها وسيلة للنجاة يوم القيامة .
الثالثة: حث الناس على التدبر في رحمة الله في الدنيا وإتخاذها سبباً للخشية منه تعالى .
الرابعة : من رحمة الله تقريب الناس إلى عبادته والنهل من رحمته ، وهل آية البحث من مصاديق هذا التقريب الجواب نعم ، وقد بادر المسلمون للإنتفاع منه والتزود من فيوضات الآية ، وهذا التزود من رحمة الله عز وجل بهم وبالناس جميعاً لما فيه من أسباب الهداية والموعظة .
الخامسة : فيه أمارة بأن ملك الله ليوم الدين والجزاء هو من رحمة الله بالناس والخلائق كلها .
(جاء أعرابى إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم فقال من يحاسب الخلق يوم القيامة يا رسول الله فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم الله فقال الأعرابى نجونا ورب الكعبة فقال وكيف يا أعرابى فقال إن الكريم إذا قدر عفى ) ( ).
البيان قوله تعالى[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]
إبتدأ القرآن بآيات الرحمة وبيان فضل الله عز وجل في سعة رحمته وانعدام الحصر في مواضيعها وحكمها .
ولم ينتقل القرآن إلى لغة الوعيد والتخويف أو بيان شدة الغضب الإلهي، ولكنه إنتقل إلى مصاديق أخرى من الرحمة وما يدل على إطلاقها، وأنها من رشحات عظيم سلطان الله عز وجل وبيان حقيقة وهي أن الأخرة ملك طلق لله عز وجل لا يشاركه فيه غيره .
ومن البيان في هذه الآية موضعها في القرآن ومجيؤها بعد آيات الرحمة والترغيب فيها، وبعث الأمل في القلوب المنكسرة باللجوء إلى رحمة الله للنجاة من بلاء الدنيا وما فيها من الشدائد والأذى، ولشكر الله تعالى على النعم المتوالية فيها.
فمن رحمة الله في ماهية الدنيا أن النعم على الفرد والجماعة متصلة ومتجددة وأكثر من أن تحصى , أما البلاء والمصيبة فهي فرد طارئ وسرعان ما يزول ومع هذا أبى الله إلا أن يُذكره العباد حتى في ساعة الشدة والأذى، قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( )، لتكون المصيبة مناسبة للأجر والثواب والعوض والبدل الحسن ولتجديد تسليم المسلمين باليوم الآخر وعائدية كل شئ لله عز وجل، وهذه العائدية من مصاديق آية البحث وملك الله ليوم القيامة، وفيه بيان للناس بضعف وقصور الإنسان عن المحافظة على ملكه من الأعيان في الدنيا واستبانة حقيقة وهي أنه مملوك غير مالك لشئ ولا يصاحبه في الآخرة إلا عمله , وهو من مصاديق قوله تعالى[فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ).
وفي الآية مسائل بيانية منها:
الأولى : الإخبار عن يوم القيامة وأنه حق وحتم، مع بيان خصوصية فيه وأن الملك لله فيه ولا ينحصر ملك الله بعالم الآخرة فيشمل الدنيا أيضاَ، ولكن آية البحث جاءت بياناً للناس جميعاً باتصاف عالم الآخرة بأمور:
الأول : الآخرة كاليوم الواحد المتصل مع التباين في الطول وآنات الزمان بينه وبين أيام الدنيا، وعن أبي سعيد: قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده إنّه ليخفف على المؤمنين حتّى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة ( ).
الثاني :ليوم القيامة أسماء عديدة، وكل اسم مدرسة عقائدية وموعظة
تستقرأ منها المسائل والمواعظ وإن كان الاسم غير المسمى , والشيء العظيم تكثر أسماؤه ومعانيه، ومن أسماء يوم القيامة يوم التلاقي لإلتقاء الناس فيه، فيلتقي آدم وآخر جيل من ذريته، ويتلاقي الظالم والمظلوم، والقاتل والمقتول، والمؤمن والكافر , قال تعالى[يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِي]( )، ويوم الحاقة لتحقق موضوعه وما فيه من الوعد والوعيد.
ويوم الآزفة لقرب وقوعه وسرعة مغادرة الإنسان الدنيا إلى الآخرة، ويوم الحساب حيث يحاسب كل إنسان عما فعله وإكتسبه وما أداه من الوظائف العبادية , ويسمى يوم الغاشية لما يغشى الناس من العذاب، ويوم الخلود، ويوم الحسرة وغيرها.
وقد يحتمع إسمان ليوم القيامة في آية واحدة كما في قوله تعالى[يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ]( ).
وآية البحث من أول آيات القرآن التي ذكرت يوم القيامة وملك الله عز وجل له وبعد آيات الرحمة والعفو من الله، وفيه مسائل :
الأولى : بيان إتصال رحمة الله في الدنيا والآخرة.
الثانية : عدم التعارض بين سعة رحمة الله في الدنيا والآخرة وبين الحساب والجزاء في الآخرة.
الثالثة : دعوة الناس للإنتفاع من رحمة الله في الدنيا بالتوبة والعمل الصالح وإتخاذه ذخيرة ليوم القيامة.
الرابعة : موضوعية الإقرار بيوم القيامة في حياة الناس اليومية، لأنه مقدمة لإتيان الفرائض، والتنزه عما نهى الله عنه.
الثاني : تأكيد وجود عالم آخر بعد الموت، ويتصف باختصاص الملك فيه لله عز وجل، لذا جاءت الآيات التي تدل على أن الموت أمر وجودي قال تعالى[خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ]( )، فالموت أمر حي ومخلوق في دلالة على أنه إنتقال إلى عالم آخر لامتصرف فيه إلا الله عز وجل، فان قلت أن الإنسان يمتلك يومئذ عمله الذي يصاحبه في القبر ويكون حاضراً معه يوم القيامة، والجواب من وجوه:
الأول : عمل الإنسان ليس ملكاً طلقاً إنما هو حجة له أو عليه.
الثاني : في الآية إشارة إلى حضور الأعمال لتسمية يوم القيامة بأنه يوم الدين والجزاء.
الثالث : ليس للإنسان التصرف في عمله زيادة أو نقصاناً , أوإضافة وتحريفاً أو نسخاً أو محواً.
الرابع : يتصف يوم القيامة بأنه حساب من غير عمل، ومن سعة رحمة الله عز وجل تأكيد يوم القيامة وذكر خصائصه في أول آيات القرآن ليتخذ الناس الحيطة ويستعدوا له بالعمل الصالح، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
الثالث : في الآية نفي للجهالة والغرر، وهو من رحمة الله، فعندما إبتدأ القرآن بقوله تعالى[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] جاءت كل آية بمصاديق من الرحمة الإلهية، ومنها بيان حتمية يوم القيامة وخصائصه , وفيه مسائل:
الأولى : إن الملك فيه لله عز وجل وحده لا أحد يتكلم يومئذ إلا باذن من الله.
الثانية : من رحمة الله تعالى أن الإستيلاء والقدرة المطلقة له وحده يوم القيامة.
الثالثة: البيان ومنع اللبس عن الناس فيوم القيامة هو يوم حساب الناس جميعاً، ولا يمكن الفرار من الوقوف بين يدي الله عز وجل.
الرابعة : الإنسان من ملك الله فلابد أن يكون حاضراً يوم القيامة.
الخامسة : من مصاديق البيان القرآني التذكير والذكرى , ومنه التذكير بيوم القيامة والجزاء بالجنة أو النار حسب عمل العبد في الدنيا.
وفيه دعوة لكل إنسان ليكرم نفسه ويشتري سلامته يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح، قال تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]( ).
وآية البحث تذكير للناس بانقطاع ملكهم، وإرثهم، فالإنسان يغادر الدنيا ويترك الميراث لمن يرثه إلى أن يأتي اليوم الذي يغادر بقية الناس الدنيا وليس من إرث ولا وارث، وهو خاتمة الحياة الدنيا، وكما جعل الله عز وجل آدم خليفة في الأرض وهبط لها ولم يكن معه فيها إلا حواء فان الخاتمة هي عودة ملكية الأرض والسماوات للأرض.
ومن خصائص هذه الملكية الحساب للعباد على ما جعله الله عز وجل عندهم نوع أمانة وإمتحان وإختبار.
السادسة : تدعو الآية إلى الزهد في الدنيا وزينتها، وتحث على السعي للنهل من ملك الله يوم الدين بالثواب العظيم وليس الزهد هو تحريم الحلال أو ترك الرزق الكريم، إنما هو الثقة بما عند الله والإعراض عن اللذات وإجتناب إتباع الهوى، ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أصبح وهمه الدنيا شتت الله تعالى عليه همه وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلى ما كتب له ، ومن أصبح همه الآخرة جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة( ).
وهل يهب الله عز وجل من ملكه يوم القيامة للناس أو الملائكة، الجواب تدل الآية على النفي لأن قوله تعالى[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] متصل وجلي في كل آن من آنات الآخرة، والثواب حينئذ فضل من الله عز وجل وفي التنزيل[وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ]( )، وذات الجزاء هو ملك لله عز وجل , وفيه دعوة للناس للإقرار بالربوبية المطلقة له سبحانه.
ولا تعني هذه الآية ترك الطيبات والحلال من الدنيا وإن كان كثيراً وافراً بل إنها تجعل الآخرة حاضرة في عمل الإنسان، وبرزخاً دون الأمل العريض الذي قد يكون سراباً.
وعن الإمام علي عليه السلام: المال والبنون حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد يجمعهما الله لأقوام( ).
السابعة : من البيان والدلالة الحاضرة في ملك الله ليوم القيامة وأنه عالم الحساب والجزاء فضح الطواغيت ورؤساء الشرك إذ تخبر الآية عن إنعدام نصيبهم في الآخرة. وفي ذم آل فرعون ورد قوله تعالى[وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ]( ).
الثامنة : دعوة الناس للتدبر في مصاديق ملك الله يوم القيامة، وفي وصف الجنة وسعتها , قال تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، لبيان حقيقة وهي أن أمتلاك الناس في الدنيا متزلزل , وتعود إلى الله عز وجل لتكون مقاماً خاصاً للمتقين فقراء كانوا أو اغنياء في الدنيا، فالله سبحانه هو الكريم الذي يجعل يوم القيامة أواناً لإكرام المؤمنين على رؤوس الأشهاد.
البيان في قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]
بعد صيغة الغائب إنتقلت هذه الآية إلى لغة الخطاب، وهي أول خطاب في القرآن ، ومن الإعجاز أن يبين هذا الخطاب إخلاص العبودية لله ويظهر الإنقطاع إليه في حاجات الدنيا والآخرة ، فلغة الغائب بدأت باسم الله والثناء عليه لأنه [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ثم بالحمد لله عز وجل فجاء الخطاب في هذه الآية باعلان الإمتثال لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ]( )، وفي الآية وجوه :
الأول : الآية عقد وميثاق من المسلمين تفضل الله بتلقينه المسلمين .
وهل هذا التلقين السماوي مدد للمسلمين في مسالك العبادة ، الجواب نعم، وتلاوة هذه الآية عبادة ومن مصاديق التقوى .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الثبات في منازل الإيمان فجاءت هذه الآية باعثاً على تعاهد سنن العبادة وبرزخاً دون الضلالة ، وفيه حجة وبرهان متجدد بين الناس جميعاً يدعوهم لعبادة الله ونبذ الأوثان .
الثانية: الآية من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، بلحاظ كبرى كلية وهي أن أخوتهم باتحادهم في عبادة الله عز وجل ، لتكون أبهى أخوة في تاريخ الإنسانية من جهات :
الأولى : الجامع المشترك للعبادة هو عبادة الله .
الثانية : يتكلم المتعدد من المسلمين بصيغة الجمع فلا يقول المسلم : اياك أعبد بل يتكلم عن نفسه وعن غيره من المؤمنين، وكأنه يشهد لهم بعبادة الله وتسليمهم له بالربوبية المطلقة . ويكون وكيلاً عنهم في إعلان العبودية الخالصة لله سبحانه .
الثالثة : المناجاة بين المسلمين بعبادتهم لله ، وفيه بيان للناس بأن صلات المودة بين المسلمين تتقوم بعبادتهم لله عز وجل.
الرابعة : ترغيب الناس بدخول الإسلام ورشحات وشائج الأخوة العبادية عنه عقيدة وأحكاماً ومنهاجاً.
الخامسة : دعوة الناس لنبذ المناجاة بالباطل وأسباب الشرك والضلالة.
السادسة : بيان منافع العبادة ومنع الجدال بالباطل.
السابعة : إعلام الناس بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول : الإعجاز في نبوته بصيرورة المسلمين أخوة في عبادة الله .
الثاني : تقوم هذه الأخوة بالإستعانة بالله في أمور الدين والدنيا .
الثالث : تقدم أخوة الإيمان على النسب والقومية وصلة القبيلة.
الرابع : ترشح البركات والإفاضات عن هذه الأخوة .
الخامس : عمارة الأرض بأخوة المسلمين في سبيل الصلاح والرشاد .
السابعة : زجر الكفار عن التعدي على ثغور الإسلام ، لأن المسلمين أخوة يتعاونون في رفع الظلم والأذى وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الثامنة : لما جاء الأمر الإلهي بالتمسك بعرى الإيمان بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، فان المسلمين إتحدوا بعبادة الله والإستعانة به سبحانه واستغنوا عن غيره، وليس من حصر لوجوه الإتحاد في عبادة المسلمين عز وجل ومنها:
الأول : أداء الصلاة في أوقاتها سواء الموسع منها كوقت الصلاة أو المضيق كصيام رمضان .
الثاني : أداء المسلمين الأفعال العبادية بكيفية واحدة .
الثالث : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابع : إتيان المسلمين العبادة بقصد القربة إلى الله.
الخامس : إجماع المسلمين على تعيين المحرمات وإجتنابهم لها.
السادس : إيمان المسلمين بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر.
وإنتقلت هذه الآية إلى لغة الخطاب وعلى لسان المسلمين والمسلمات بأن عبادتهم خالصة لله عز وجل وإستعانتهم به دون سواه ، وفي جهة صدور الخطاب وجوه :
الأول : صدور الخطاب من المسلمين مجتمعين بدلالة صيغة الجمع في [نَعْبُدُ]و[نَسْتَعِينُ].
الثاني : كل فرد من المسلمين تنطبق عليه صيغة الجمع .
الثالث : إرادة صدور الخطاب من المسلمين متفرقين .
الرابع : عند تلاوة كل مسلم لهذه الآية يكون نائباً عن جميع المسلمين.
الخامس : إرادة الأجيال المتعاقبة من المسلمين .
السادس : إذا تلى المسلم هذه الآية إحتسبها الله عز وجل صادرة من كل المسلمين لعمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
السابع : إرادة مواظبة المسلمين على عبادة الله مجتمعين ومتفرقين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه في مقام الحجة في قول وتقوى المسلمين والبيان للناس بفضل الله عز وجل في نيل المسلمين مرتبة العبادة لله عز وجل .
ليكون من ميراث المسلمين للأنبياء أن أحدهم كالأمة في ميادين العبادة والتقوى ، قال تعالى في الثناء على إبراهيم عليه السلام [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ).
وفي الصحابي أبي ذر ورد عن محمد بن كعب القرظي عن عبد الله بن مسعود قال لما نفى عثمان أبا ذر الى الربذة وأصابه بها قدره ولم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه فأوصاهما أن اغسلاني وكفناني وضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمر بكم فقولوا هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعينونا على دفنه فلما مات فعلا ذلك به ثم وضعاه على قارعة الطريق.
وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق عمارا فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطأها فقام إليه الغلام فقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعينونا على دفنه فاستهل عبد الله يبكي ويقول صدق رسول الله تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ثم نزل هو وأصحابه فواروه ثم حدثهم عبد الله بن مسعود وما قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسيره الى تبوك.
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالخلق والهداية إلى عبادته تعالى وإعلان المسلمين عبادتهم جميعاً لله عز وجل من الإعجاز في بديع خلق الإنسان ، ومن مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، حين انكروا خلافة الإنسان في الأرض فمن علم الله عز وجل عمارة الخليفة الأرض بعبادة الله .
وهل قوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( )، أنه سبحانه غني بعبادة المسلمين عن الكفار وجحودهم خصوصاً وأن الآية أعلاه جاءت في وجوب حج البيت الحرام لمن كان مستطيعاً . الجواب لا، إنما غنى الله بذاته مطلق، فهو سبحانه ليس محتاجاً، وأخبرت الآية أعلاه بغنى الله عز وجل عن العالمين مطلقاً، إنما ينفع العبد والجماعة والأمة أنفسهم بعبادتهم لله وإستعانتهم به سبحانه، قال تعالى[وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ]( )، وفيه شاهد بأن الله مع غناه فإنه رحيم بالناس والخلائق مطلقاً، ومن رحمته هداية المسلمين لعبادته والتوكل عليه ليكون فيه بيان للناس بوجوب العبادة والصلاح.
وإذ أعلن المسلمون عن عبادتهم لله عز وجل فإن الناس يسألون ويتطلعون لمعرفة كيفية عبادة المسلمين لله عز وجل، فتفضل الله عز وجل وجعلها ظاهرة جلية تتقوم بالصلاة التي تتكرر خمس مرات في اليوم وبهيئة متحدة في ماهيتها وأجزائها الإرتباطية كالركوع والسجود ومتباينة أحياناً في عدد الركعات فصلاة الصبح مثلاً تتكون من ركعتين، وصلاة الظهر من أربع ركعات والمغرب من ثلاث ركعات مع التشابه في أفعال وأجزاء الركعة الواحدة، ويؤدي المسلم الصلاة ليحارب الشرك لما في الصلاة من دعوة للناس للتوحيد ونبذ ومفاهيم الضلالة وهو من مصاديق قوله تعالى للمسلمين[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بتقريب أن صلاة المسلم جهاد في سبيل الله وبيان للناس بوجوب عبادته تعالى، ودعوة للصلاة وطلب الرزق بالعبادة فلذا ذكرت الآية الإستعانة بالله بعد عبادته سبحانه.
ومن البيان للناس في آية البحث وراثة أجيال المسلمين لآبائهم في عبادتهم لله عز وجل , وفيه ترغيب بعبادة الله، وبيان حقيقة وهي أن عبادة الله مصاحبة لأهل الأرض فإن أعرضت طائفة من الناس عن عبادة الله فإن المسلمين يدعونهم إليها، وهذه الدعوة على ثلاثة وجوه:
الأول : الدعوة القولية.
الثاني : الدعوة الفعلية.
الثالث : الدعوة القولية الفعلية.
وكل فرد من هذه الوجوه يكون على قسمين:
الأول : توجه الدعوة من المسلمين إلى الناس مباشرة كما في مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني : قيام المسلمين بصيغ العبادة القولية كتلاوة القرآن ،والفعلية كحج بيت الله الحرام.
وكل فرد من صيغ عبادة المسلمين بيان للناس في وجوب عبادة الله، وماهية هذه العبادة، وعدم التفريط ببعضها ،وكأنه من عمومات قاعدة إنتفاء الشروط بإنتفاء شرطه، ويتجلى بقوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في عبادة الله، وهو من الشواهد على صدق نبوته وإخلاصه في طاعة الله، سواء على القول بأن العبادة هي طاعة المعبود أم أنها أعم من الطاعة وهو المحتار لأنها تسليم وإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل وإقامة على حبه، وتفان في مرضاته وصبر في جنبه، وشوق إلى لقاء وجهه الكريم ،وتضمن القرآن ضروب العبادة وهو من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ).
والسنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع وهي تفسير للقرآن،ومن البيان للناس في ذاتها وموضوعها وكونها مرآة للقرآن ومصداق عملي لآياته، وفيه رحمة بالناس بأن يروا أشرف الخلائق في حال خضوع وخشوع تامين لله عز وجل ويقود الناس في مسالك العبادة لذا بقي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( )، خالداً في عمل المسلمين يتعاهدونه قولاً وعملاً.
وقد نهى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الغلو فيه، لحرمته ذاتاً وعرضآ ،وكيلا يكون برزخاً دون إنقطاع المسلمين إلى عبادة الله، وفي التنزيل[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ]( ).
عن أنس بن مالك: أن رجلا قال: محمد يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “يا أيها الناس، عليكم بقولكم، ولا يَسْتَهْويَنَّكُمُ الشيطانُ، أنا محمدُ بنُ عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللَّهُ عز وجل”)( ).
لقد جاءت آية البحث حرباً على الرياء والتزلف والتقرب لغير الله وهو من أسرار تقديم المفعول بقوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ]( )، لتكون تلاوة المسلمين لهذه الآية نوع تعاضد بينهم للتنزه عن الرياء، ودعوة للناس لإجتنابه وإرشاد لعدم صيرورته برزخاً ومانعاً من إخلاص العبادة لله عز وجل، وجاءت السنة النبوية بما يؤدي إلى نفرة النفوس من الرياء، وفيها بعث لمراقبة النفس وبذل الوسع لإجتناب قصد إرضاء غير الله في العمل العبادي .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله عز وجل : أنا خير شريك، فمن أشرك معي أحداً فهو لشريكي. يا أيها الناس، أخلصوا الأعمال لله فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له، ولا تقولوا هذا لله وللرحم، فإنه للرحم وليس لله منه شيء)( ).
ولقد إستقبل أهل الكفر الإسلام بالعداوة والبغضاء ،ولسان الشك والجدال والمغالطة ،وترشح عنه نمو وظهور النفاق فيكون عدواً وعدواناً على النبوة والإسلام ويترشح عنه أذى إضافي وأعباء طارئة على المسلمين، فجاءت آية البحث حرباً على النفاق وفضحاً للمنافقين ودعوة لهم للتوبة والتنزه من داء إخفاء الكفر في ذات الوقت الذي يظهر فيه الإيمان، أو بادعاء الإيمان باللسان وترك العمل بأعلان إنحصار العبادة بالله وتأكيد إنتفاء الشريك له.
ولتعمل هذه الآية على تخلية القلوب من الندبة السوداء للنفاق ويكون من
مصاديق وقاية المسلم منه ، تكرار تلاوته سورة الفاتحة في الصلاة اليومية
الواجبة ، فلا منفذ معه للنفاق إلى القلوب والألسن أو عالم الأفعال ، ولا يجد الشيطان غفلة عند المسلم ليجذبه إلى منازل الهوى والشهوة .
وآية البحث من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة حينما [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، من جهتين :
الأولى : عمارة المسلمين الأرض بعبادة الله ، وفي الآيات أن هذه العبادة تتصف بأمور :
الأول : إنها عبادة جلية وظاهرة للناس جميعاً ، وليست هي عبادة نفسية أو باطنية .
الثاني : تعدد ضروب العبادة ، وعدم إختصاصها بوجه واحد فتشمل الصلاة والصيام والزكاة والحج والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث : تغشي العبادات بصيغ الفعال البدنية والمالية والعقائدية والأخلاقية ، وإذا كانت الصلاة عبادة بدنية ، والزكاة عبادة مالية ، فان الحج عبادة بدنية مالية .
الرابع : التشابه والتباين الزماني في عبادات المسلمين لتنبسط على آنات الزمان المتتالية .
الخامس : شدّ المستطيع من المسلمين الرحال إلى البيت الحرام مرة في السنة ليرى الناس في أصقاع الأرض المختلفة قصد المسلم إلى البيت الحرام بشوق ورغبة ليبلغهم قوله عندما يصل الحرم ( لبيك اللهم لبيك .لبيك لا شريك لك لبيك ) .
وفيه بيان للناس وجذب لهم لمنازل الإيمان ،ومن إعجاز القرآن في المقام توجه الخطاب والتكليف بالحج للناس جميعاً وبصيغة الجملة الخبرية [وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )، لبيان أمور :
الأول :أن الأصل في وجوب الحج يتغشى الناس كلهم ، وجاء التقييد لاحقاً ، ليتدبر الإنسان نفسه في كل سنة وعند قدوم أشهر الحج يسأل نفسه ويرى حاله : هل تحققت عنده الإستطاعة .
الثاني :وجوب عدم صدّ ومنع الناس عن حج البيت ،لأنه فعل عبادي بين العبد وخالقه .
الثالث: بعث الناس لإعانة المؤمن على أداء الحج ومدّه بمستلزماته وتهيئه مقدماته ، وتذليل العقبات فلم تقل الآية (ولله على الإنسان حج البيت إن كان مستطيعاً)، بل جاءت الآية بصيغة الجمع لإفادة حقيقة وهي التأزر والتعاون لتحقق الإستطاعة عند بعضهم ، والتخفيف وإرجاء الدَين المتعلق بذمة الذي يروم الحج مثلاً ، وحفظه في عياله وماله ، والمبالغة في الإكرام عند عامة المسلمين باطلاق لفظ (الحاج) على الذي يؤدي الفريضة بلحاظ المشقة وملاقاة الأخطار عند أدائها في العقود السابقة .
الرابع :معرفة الناس جميعاً لقانون كلي وهو لزوم أداء طائفة من المسلمين حج بيت الله الحرام.
الخامس : إرادة قصد القربة في الحج لتأديته خالصاً لله بقوله تعالى ( ولله على الناس ), ومن الآيات في الشريعة الإسلامية أن الحج ومقدماته تقع في أشهر حرم وهي شوال وذو العقدة وذو الحجة ولا يجوز فيها الإبتداء بالقتال .
ومن معاني تفضيل المسلمين , وسمو رتبة وفد الحاج لزوم , تنزههم
عن الأخلاق المذمومة ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ]( ).
مما يدل بالأولوية القطعية على نهي المسلمين عما هو أشد وأظهر من الجدال والكلام القبيح ليكونوا ائمة في الدعوة إلى الله عز وجل ويتحلوا أيام الحج بأخلاق الأنبياء وصفات الصالحين ويرى الملائكة تقواهم وإنقطاعهم إلى العبادة وتقوم الحجة على الناس في وجوب عبادة الله عز وجل .
وتحتمل الصلة بين العبادة والإستعانة بالله وجوهاً :
الأول : العبادة طريقة ووسيلة للإستعانة بالله عز وجل .
الثاني : الإستعانة بالله بلغة ومقدمة لعبادته تعالى .
الثالث : إستقلال كل من العبادة والإستعانة بذاتها.
الرابع :الملازمة والتداخل بين العبادة والإستعانة بالله .
الخامس : الإستعانة طريق للعبادة وليس العكس ، لأن العبادة هي الغاية .
السادس : العبادة طريق ووسيلة للإستعانة بالله والإستعانة مطلوبة بذاتها .
وباستثناء الوجهين الأخيرين فان الوجوه الأخرى صحيحة وهي في طول بعضها , ويمكن القول بين العبادة والإستعانة عموم وخصوص مطلق ، فكل إستعانة هي عبادة وليس العكس ، لتعمل في المقام قاعدة دخول الغاية التي من جنس المغيى فيه .
والغاية( ) هي آخر الشئ المقصود .
وفيه وجهان :
الأول : إذا كانت الغاية من جنس المغيى فانها تدخل فيه وينتفي ما بعدها ، واختلف مثلاً في قوله تعالى [فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ]( ).
والإجماع على أن المرفق تغسل ليس للقاعدة أعلاه إذ أنها مستحدثة وعقلية مستقرأة ، ولكن للنصوص والسيرة وظاهر الآية ، وكما تكون [إِلَى] لإنتهاء الغاية فأنها تأتي بمعنى [مَعَ] كما في قوله تعالى [وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ]( ).
وقال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن المرافق فيما يغسل”، كأنه يذهب إلى أن معناها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى أن تُغْسَل المرافق ) ( ).
الثاني : إذا كانت الغاية من غير جنس المغيى فانها لا تدخل فيه ،كما في قوله تعالى [أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]( ).
إن إجتهاد علماء الإسلام في ضبط أحكام الشريعة بالصدور عن القرآن والرجوع إلى آياته من مصاديق وتفسير قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ أن آيات القرآن والسنة النبوية تهدي العلماء والناس إلى سنن الشريعة ، وتمنع من الإختلاف والفرقة ، وفيه بيان ودعوة للناس للتدبر في الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن معجزاته لا تختص بشخصه الكريم وأيام حياته بل تتجدد بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى باثارة كنوز آيات القرآن والضبط في أحكام الشريعة .
وإجماع المسلمين على إتحاد كيفية أداء العبادة وهو من مصاديق قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، فمن وجوه الإستعانة بالله الإتحاد في ضروب العبادة وعدم الفرقة والشقاق فيها ،أو التخلف عنها ، وافتتنت أمم أخرى بالأصنام وعبادتها والطواغيت والوهم زوراً بالإرتقاء بشأنها إلى مراتب الإلوهية , فنزل القرآن بالتوحيد وحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لواءه وفيه بيان للماس لبطلان الشرك وزيف عبادة الأوثان والتزلف إليها والخشية منها .
وهل كانت عبادة الأوثان والتوسل إليها من أسباب انتشار الإسلام وسطوع شمس الوحدانية .
الجواب نعم لأنه برهان وحجة دامغة , ومن أسرار الإعجاز في القرآن جعل الناس يدركون وجوب التنزه من عبادة الطواغيت والأوثان ، وإجتناب إعانة الظالمين في الباطل ، فكانت الآية القرآنية تنزل لتغير الواقع وتستحدث أخلاقاً فاضلة هي ضد لما للعرف السائد والأفعال القبيحة ، فمثلاً نزل قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ]( )، من ثلاث كلمات لينحسر القتل ويجتنب الناس القتل ظلماً وغيلة وتعدياً ، ويكون من مقدمات ومصاديق قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]، من جهات :
الأولى : يتوجه المسلمون إلى عبادة الله.
الثانية : السعادة والغبطة في الحياة لملازمة السكينة للأمن والسلامة .
الثالثة : تفكر المسلمين بالآيات الكونية والتدبر في آيات القرآن التي تدل على بديع صنع الله ، وحاجة الناس إلى رحمته ووجوب عبادته تعالى.
الرابعة : تفقه المسلمين في الدين .
الخامس : عمارة الأرض وإزدهار التجارات والصناعات .
ومن الإعجاز والتداخل بين نزول القرآن والفرائض أن المسلمين يقولون بالسنتهم [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] ويقومون جماعات في صفوف عدة مرات في اليوم بين يدي الله في خشوع وخضوع ويتلون القرآن ومنه قوله [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ) فلا تكون للناس عليهم حجة ولا شبهة ولا مادة للجدال والمغالطة.
ومن وجوه البيان في آية البحث أن عبادة المسلمين على وجوه :
الأول : العبادة بالقلب وحسن النية والإخلاص في عقيدة التوحيد .
الثاني : العبادة القولية بتلاوة هذه الآية وآيات القرآن الأخرى .
الثالث : العبادة الفعلية بأداء الصلاة والفرائض الأخرى , قال تعالى [وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( ).
الثالث : تعاهد المسلمين لسنن التوحيد بالقول والفعل .
ومع أن العبادة أمر بين العبد وربه فان المسلمين أضافوا فرداً أخر وهو العبادة الجامعة بينهم كأمة وبين الله عز وجل بأن يأتوا الفرائض مجتمعين وفي وقت واحد على نحو التعيين الثابت بالكتاب والسنة مما ليس فيه كأداء الصلاة اليومية ، والصيام في شهر رمضان ، والحج في شهر ذي الحجة ، ومن يتخلف عن الفريضة لعذر كالمريض بالنسبة للصيام ، أو لعدم توجه الخطاب لغير المستطيع بخصوص الحج فانه يشارك الذين يؤدونها بالإيمان والشوق للحوق بهم وعبادة الله في الفرائض الأخرى والدعاء وحسن الإستعانة بالله .
ويترشح الثواب عن كل فرد من أفراد العبادة أما بخصوص الإستعانة ففيه وجوه محتملة :
الأول : التشابه مع العبادة في ذات الأجر والثواب .
الثاني : نيل الثواب بالإستعانة ولكن بمرتبة أدنى من مراتب العبادة .
الرابع : التفصيل في الإستعانة بأن ينال المسلم الثواب بخصوص الإستعانة في الأمور العبادية وما يكون مقدمة لطاعة الله ولا ينال شيئاً بخصوص حاجاته الدنيوية ومتاعه فيها .
الخامس : ثواب الإستعانة أكبر وأكثر من ثواب العبادة .
والصحيح هو الأول ، ويكون الثاني في طوله لدلالة الإستعانة على أمور :
الأول : إن مقاليد الأمور بيد الله .
الثاني : التسليم بأن الله عز وجل هو الرؤوف الرحيم ، ولذا جاءت الآية السابقة ببيان صفة الرحمة [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ليكون من معانيها بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : ترغيب المسلمين بالإستعانة بالله .
الثانية : الوعد الكريم من الله عز وجل بقضاء حاجات المسلمين .
الثالثة : حث المسلمين على الإكثار من ضروب الإستعانة بالله ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) .
الرابعة : بعث السكينة في نفوس المسلمين .
الثالثة : الآية مدد للمسلمين للتنزه من الشرك والضلالة، ويأتي الثواب على تلقي هذا المدد بالثبات في منازل التقوى.
الرابعة : الإستعانة بالله ذكر له تعالى .
الخامسة : الإستعانة بالله مقدمة للعبادة ، ورجاء لفضل الله للتوفيق في أدائها، ( وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز) ( ).
السادس : إستعانة المسلمين بالله دعوة للناس لدخول الإسلام والنهل من ذخائر الإستعانة وخزائنها التي لا تنفد .
السابعة : الإستعانة بالله حرز من الغواية والإنقياد للهوى وهي حرب على الشيطان ووسوسته بين الناس .
الثامنة : الإستعانة بالله عز وجل سلاح في ميادين المعارك ووقاية من الهزيمة ، ومادة للنصر على الأعداء .
ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أن المسلمين يمتازون عن عدوهم بخصلة وهي الإستعانة بالله ، وهي الفيصل في تعيين الغالب إذ أن النصر مصاحب لأهلها .
ولما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بأن الإنسان يفسد في الأرض ويباشر القتل أجاب الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، لتكون إستعانة المسلمين بالله مما إحتج به تعالى على الملائكة لأنها تنزيه للأرض من الفساد ووقاية من سفك الدماء .
التاسعة: كما أن الإستعانة مقدمة للعبادة فهي ذاتها عبادة إذ تشمل التوكل على الله والإستعاذة والإستغاثة والرضا بفضل الله ، ليكون بين العبادة والإستعانة عموم وخصوص مطلق ، وأن العبادة أعم في موضوعها وكيفيتها ، مع أن كلاً منهما بقصد الطاعة والقربة لله عز وجل .
والإستعانة هي سؤال الإعانة والمدد لجلب نفع يرتجى ، أو دفع مفسدة وإزاحة كربة وتكون الإستعانة بالله عز وجل بالقلب والقول والفعل .
وتفضل الله عز وجل وقرنها بالعبادة في السؤال والتضرع ، كما إقترنت الزكاة بالصلاة في الفرائض , فمن مصاديق حاجة الإنسان المصاحبة له هي الإستعانة بالله للحاجات المنظورة وغير المنظورة ، قال تعالى [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ]( ).
والإستعانة من الدلائل على التوحيد فلا أحد يستطيع أن ينفع أو يضر الإنسان على نحو الإطلاق إلا الله عز وجل ، وتحتمل الإستعانة وجوهاً :
الأول : إنها نوع طريق للعبادة ومقدمة لها.
الثاني : تطلب الإستعانة بذاتها ، كما تكون مقدمة لغيرها .
الثالث : الأمر الجامع ، فالإستعانة عبادة ، وهي طريق ومقدمة للعبادة .
والصحيح الإستعانة الثالث ، من جهات :
الأولى :الإستعانة عبادة قلبية وقولية وفعلية .
الثانية:تبعث الإستعانة الطمأنينة في النفس .
الثالثة :تزيد الإستعانة المسلم بصيرة وتهدي إلى سبل الخير .
الرابعة: الإستعانة إعلان بأن المشيئة والقوة لله عز وجل ، وهو مدبر الأمور ومالك الملك الذي يهب من غير حساب .
الخامسة: إستعانة المسلمين بالله بيان للناس للصراط المستقيم وطريق النجاة والواقية من المكاره .
وفي حديث قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل (أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة ان تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)( ).
والإستعانة واقية من اليأس والقنوط ، ولما قال تعالى [لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( )، تفضل وهدى الناس بالإستعانة وهي الوسيلة التي تنفي عنهم اليأس وأضراره الدنيوية والأخروية ،لتكون الإستعانة بالذات وإتخاذ المسلمين لها سلاحاً وحلية يومية بتلاوة آية البحث في الصلاة بياناً للناس للإستعانة بالإستعانة بالله في قضاء الحوائج .
ومن خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أن الفرد الواحد منها يبين للناس حقيقة إنقطاع الأمة لعبادة الله ، وحصرهم العبادة به سبحانه ، ومحاربتهم للشرك والضلالة .
ويتوجه المسلم لمخاطبة الناس ودعوتهم للتوحيد بصيغة التضرع والخطاب إلى الله تعالى فيقول [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]فيسمع الناس قوله ويتدبرون في دلالاته ومعانيه طوعاً وقهراً ، ويدركون منعة هذه الأمة بأن الشخص الواحد منها يشهد ويعلن النهج المتحد لأفراد الأمة الذين في المشرق والمغرب وكأنه نائب عنهم ، وهذه النيابة جعلها الله عز وجل له بآية البحث ، وهو من لطف الله عز وجل بالمسلمين والناس .
وأخبرت الآية عن إختصاص إستعانة المسلمين مجتمعين ومتفرقين بالله عز وجل , وفيه بيان للناس من وجوه :
الأول: إذا كان المسلمون يحصرون استعانتهم بالله وحده دون غيره ، فان الإستعانة به تعالى لا تنحصر بالمسلمين ، فهو أمر مباح للناس جميعاً ، وجاءت آية البحث لترغيب الناس بها ليكون من وجوه البيان في أفعال المسلمين أنهم أئمة للناس في الصالحات .
الثاني : من خصائص الاستعانة بالله الثقة بفضله وإنجاز المطلوب وتحقيق الغاية .
الثالث : الخلائق كلها محتاجة إلى الإستعانة بالله ففي آية البحث هداية وبيان بان الحاجة لا تطلب من المحتاج ، وتدل الآية في مفهومها على الإنذار من إبتغاء الحاجات من غير الله .
الرابع : في الإستعانة تذلل لله عز وجل .
لقد فتحت آية البحث باب الإستعانة بالله عز وجل ، وهو من شكر الله عز وجل للمسلمين على عبادتهم لله في قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
ليقترن المدد الإلهي بالإستعانة مع العبادة فضلاً من عند الله عز وجل ، فمن يعبد الله ويخلص في عبادته يهديه الله إلى كنوز الدنيا والآخرة بمفتاح الإستعانة وما تضفيه على النفس من السكينة والرضا .
ولما إشتد أذى فرعون على بني اسرائيل قال لهم موسى عليه السلام ، كما ورد في التنزيل [اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]( )، لتأتي نجاتهم وهلاك فرعون في آن واحد ، ومن الآيات أن هلاكه وجنوده كان بآية حسية عظيمة وغرقهم بماء البحر الأحمر وبنو إسرائيل ينظرون فتفضل الله عز وجل ولقن المسلمين الإستعانة وجعلها ملازمة لإعلان عبادتهم له تعالى ، مع تكرارهم لها كل يوم ولمرات متعددة ، ليكون من مصاديق وراثتهم الأرض المذكورة في القرآن أعلاه ، وفيه بيان لقانون كلي وهو أن وراثة الأرض تكون بأمرين متلازمين وهما العبادة والإستعانة , وفي كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانذاره إلى مسيلمة (مِنْ مُحَمَّد رَسُولِ الله إلى مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ . أمَّا بَعْدُ فَإنَّ الأرْضَ لله يُورِثُها مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)( ).
ومن البيان في هذه الآية أنها ثناء على الله , وفي تلاوتها جواب لإستفهام الملائكة عندما مدحوا أنفسهم باتصافهم بالتسبيح بحمد الله ، كما ورد في التنزيل [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ]( ).
فقد بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لينبعث أريج من أرجاء الأرض إذ أن كلاً من العبادة والإستعانة ثناء وتسبيح يؤدي بفضل وتوفيق من الله عز وجل ، ومن وجوه الإستعانة في المقام أن المسلمين يسألون الله عز وجل الهداية إلى شكره والثناء عليه والتسبيح بحمده بطلب الإستعانة بصيغ التقوى والرجاء ، ومن وجوه البيان في الآية أنها أمان لأهل الأرض ،قال تعالى [مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا]( ).
بحث إعجازي
تحتمل النسبة بين علوم القرآن وإعجازه وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي إذ أن علوم القرآن هي ذاتها إعجازه .
الثاني : نسبة التداخل مع إستقلال كل فرد بذاته وموضوعه وهما مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا .
الثالث : نسبة التباين والإختلاف فكل منهما علم قائم بذاته وقسيم للآخر.
الرابع : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وأن بينهما مادة للالتقاء وأخرى للإفتراق .
الخامس : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهي على شعبتين :
الأولى :إعجاز القرآن أعم من علومه .
الثانية : علوم القرآن شعبة من إعجازه .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الخامس .
وقد قسمتُ إعجاز القرآن إلى أقسام :
الأول :إعجاز ذاتي
الثاني :إعجاز غيري .
الثالث :إعجاز جامع للذاتي والغيري .
الرابع: الإعجاز المترشح عن الجمع بين الإعجاز الذاتي والغيري .
ولا تخلو كل آية من الفرد الجامع وعلى نحو متعدد في موضوعه وحكمه .
ومن الإعجاز الغيري للقرآن أثر الآية القرآنية وموضوعاتها وميادين هذا الأثر والإطلاق الزماني والمكاني له ، ليكون علم أثر الآية متجدداً في رشحاته ، فان غلق الشطر الأكبر من المسلمين باب الإجتهاد ، فأنهم يعملون بإفاضات الآية القرآنية التي لن تتوقف عن السيل والتدفق والجريان بكنوز تطل على أهل الأرض ، فتجعلها روضة ناضرة متصلة بالسماء بأنوار القرآن التي تمتاز عن أشعة الشمس أنها متصلة ودائمة في الليل والنهار وتدخل إلى البيوت وتزدان بها القلوب وتجذبها إلى منازل التقوى والشكر لله عز وجل ،قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
ويحتمل الأثر القرآني في جهة صدوره وجوهاً :
الأول : آيات القرآن ذات أثر متحد .
الثاني :كل سورة من القرآن لها أثر مخصوص .
كما وردت النصوص في ثواب سورة الفاتحة وغيرها من السور ، أو الآيات.
والأخبار التي تذكرلما لبعض آيات القرآن من الثواب والشأن وما تبعثه من الشوق لقراءة القرآن وعشقها،(وأخرج الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاعي قال : قال رجل : يا رسول الله أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال : آية الكرسي [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ).
قال : فأي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك؟ قال : آخر سورة البقرة ، فإنها من كنز الرحمة من تحت عرش الله ، ولم تترك خيراً في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه( ).
وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة أعطاه الله قلوب الشاكرين ، وأعمال الصديقين ، وثواب النبيين ، وبسط عليه يمينه بالرحمة ، ولم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت فيدخلها) ( ).
وإذا كان أثر الآية مترشحاً عنها تنزيلاً ورسماً وتلاوة وتأويلاً فهل للأثر من نفع في ذات الآية القرآنية ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : أثر الآية القرآنية شاهد على صدق نزولها من عند الله .
الثانية :أثر الآية القرآنية دعوة لتلاوتها وحفظها .
الثالثة : التدبر في آثار الآية باب للإقرار بإعجازها الذاتي .
الرابعة : التوجه بالشكر لله عز وجل على نزول الآية القرآنية عند تجلي أثرها.
الخامسة : إستحضار الآية عند وضوح الأثر .
السادسة : الأقرار بنوع ملازمة بين الآية القرآنية وبين أثرها ، وهو من الأسرار في تأسيس علم (قانون الأثر) ، ليكون مناسبة للثناء على الله عز وجل وشكره على النعمة العظيمة في نزول كل آية قرآنية ، وعلى النعمة في كل أثر مبارك لها .
ومن الآيات أن وجوه ومصاديق أثر الآية كلها خير محض ، ونفع متجدد وهو من مصاديق البركة في قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
ويمكن دراسة التفسير بلحاظ الأثر العملي لكل لآية سواء جاءت إنشائية وتضمنت الأمر والنهي ، أو خبرية ،ونسميه (تفسير ترتب الأثر ) لتتجلى آيات بحسب أمور :
الأول : العلم .
الثاني : الموضوع .
الثالث :الأثر الحال .
الرابع : الأثر اللاحق .
الخامس : ترتب الأثر الأخلاقي عن الآية .
السادس : أثر تلاوة الآية .
السابع : النفع العام من سلامة القرآن من التحريف .
الثامن : أثر الآية القرآنية على النفوس والمجتمعات .
التاسع : الآية القرآنية سلاح وطريق لدخول الناس الإسلام .
العاشر :إنحسار مفاهيم الكفر والجحود بنزول وتلاوة الآية القرآنية .
الحادي عشر :أثر الآية القرآنية في المعارك والحروب .
الثاني عشر : الآية القرآنية طريق لدخول الناس الإسلام .
الثالث عشر : الآية القرآنية مدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته ودعوته لعبادة الله .
الرابع عشر : أثر الآية القرآنية شاهد على أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين .
الخامس عشر : إعانة الآية القرآنية للمسلمين في أمور الدين والدنيا .
السادس عشر : الآية القرآنية لطف وتقريب للعبد إلى منازل الطاعة .
السابع عشر : الآية القرآنية سبب لزيادة الهدى ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]( )، وبلحاظ المقام تكون الآية القرآنية على وجوه :
الأول : الآية سبب هداية .
الثاني : تزيد الآية المسلم هدى .
الثالث: الآية القرآنية مادة وموضوع للتقوى وبلوغ مراتبها .
الرابع : الآية القرآنية حرز وبرزخ دون فتور الإيمان .
الثامن عشر : الآية القرآنية سلاح في الإحتجاج على الكفار ،قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )
التاسع عشر : من أثر الآية القرآنية التدبر في الآثار والأطلال وإقتباس العبر والمواعظ منها قال تعالى [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
العشرون : من آثر الآية القرآنية أنها واقية من الشك وأسباب الريب.
الحادي والعشرون : بعث مفاهيم الأخوة بين المسلمين .
الثاني والعشرون : الآية القرآنية مادة الصلح والوفاق بين المسلمين فتختلف أو تتخاصم طائفتان من المسلمين ،فتكون الآية القرآنية هي الفيصل والحكم سواء بذات وموضوع الآية أو بما تندب إليه ،قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ]( ).
الثالث والعشرون :تجديد التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : تجلي إعجاز الآية القرآنية .
الثانية : المنافع الظاهرة من الآية القرآنية .
الثالثة : تخلف الناس عن درك كنه ومضامين الآية القرآنية .
الرابعة : العلوم المستنبطة من الآية القرآنية .
الخامسة :إمتناع الآية القرآنية الذاتي عن التحريف والتبديل .
السادسة : حاجة الناس للآية القرآنية .
السابعة : تعاهد المسلمين لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن .
الرابع والعشرون : نزول البلاء والضرر بمن يحارب القرآن ، ويستخف بآياته.
الخامس والعشرون : صدور المسلمين عن آيات القرآن ، وتجلي معاني التوفيق بهذا الصدور .
السادس والعشرون :نشر الآية القرآنية لوجوه الصلاح بين الناس .
السابع والعشرون : تصديق الآية القرآنية للكتب السماوية السابقة .
الثامن والعشرون :توثيق الآية القرآنية لقصص الأنبياء .
التاسع والعشرون : الدعاء وأثره في الآية القرآنية .
الثلاثون : هداية الآية القرآنية الناس لصيغ الدعاء .
الحادي والثلاثون : منزلة الآية القرآنية في أفراد العبادة .
الثاني والثلاثون :حضور الآية القرآنية عند المصيبة والبلاء كما في قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
فالآية أعلاه وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها ندب وبعث للمسلمين للإسترجاع عند المصيبة .
الثالث والثلاثون : أثر الآية القرآنية في مسالك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقبول الناس للأمر الذي يقترن بالآية القرآنية ، وإنزجارهم عن القبيح الذي تنهى عنه الآية القرآنية بلحاظ أنها حجة للقائل وحجة على السامع ، فليس من قانون أو كتاب أو عمل ترك أثراً متجدداَ عند الناس في موضوع النفرة من الربا مثل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفةًَ]( ).
الرابع والثلاثون :حضور النبوة بين ظهراني الناس وفي منتدياتهم بتلاوة الآية القرآنية .
الخامس والثلاثون : شكر المسلمين لله عز وجل على وجود التنزيل عندهم وهدايتهم لتلاوته .
السادس والثلاثون : الآية القرآنية سلاح لثبات المسلمين في ساحات القتال ، ومانع من توليهم عنها .
السابع والثلاثون :تنفي الآية القرآنية وتلاوتها الضعف والوهن والحزن عن المسلمين ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
السابع والثلاثون : أثر صيغ الرجاء في القرآن على المسلمين والناس جميعاً .
الثامن والثلاثون : حال التمني الزائف التي يعيشها الكفار ، وهي على قسمين :
الأول : في الدنيا ،ومجئ آيات القرآن ببطلان أحلامهم ، وتحقق وثبوت هذا البطلان في الواقع العملي .
الثاني : في الآخرة وخيبة أملهم ، وعدم فتور أو تخفيف العذاب عنهم، وفي التنزيل [لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا]( ).
التاسع والثلاثون : موضوعية الآية القرآنية في سعي المسلمين للغلبة والنصر .
الأربعون : الآية القرآنية مدد في محاربة النفاق من جهات :
الأولى : فضح النفاق وبيان قبحه .
الثانية : محاربة النفاق والمنافقين .
الثالثة :إنحسار النفاق ، ووهن وضعف صوت النفاق .
الرابعة : الفرقة والفصل بين الكفار والمنافقين ، ومنع مؤازرة بعضهم لبعض .
الخامسة : بعث النفرة في النفوس من النفاق .
السادسة : منافع إخبار القرآن عن سوء عاقبة المنافقين، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
السابعة :بقاء واستدامة الآية القرآنية التي تحارب النفاق مع إنحساره وزواله .
الحادي الأربعون : موضوعية الآية القرآنية في نزول الرزق من عند الله وصيرورة النماء في المال .
الثاني والأربعون : صرف البلاء بالآية القرآنية .
الثالث والأربعون : إلتماس العافية وطول العمر والولد الصالح بالآية القرآنية وتلاوتها والعمل بمضامينها ، وعن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إن لقمان قال لابنه : يا بني عليك بمجالسة العلماء ، واسمع كلام الحكماء ، فإن الله يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر( ).
الرابع والأربعون : منزلة الآية القرآنية في بناء صرح التوحيد في الأرض وإستدامة مفاهيم الإيمان .
الخامس والأربعون :جذب الآية القرآنية الناس للإيمان .
السادس والأربعون :تنمية الآية القرآنية للأخلاق الفاضلة بين الناس .
السابع والأربعون : الأثر الواضح للآية القرآنية في دخول الملأ والرؤساء من الناس في الإسلام .
الثامن والأربعون : دخول الناس جماعات وأفواجاً بالآية القرآنية ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
التاسع والأربعون : المواعظ والعبر المستقرأة من الآية القرآنية .
الخمسون : تحلي المسلمين بصيغ الصلاح والتقوى باستحضار وتلاوة الآية القرآنية .
الحادي الخمسون : تعيين المناهج الإقتصادية للمسلمين بالآية القرآنية أمراً ونهياً ، كما في بيان محبوبية البيع , وحرمة الربا وتنزه المسلمين عنه لقوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
الثاني والخمسون : حسن صلات المسلمين مع أهل الكتاب ،وتعيين سنن المعاملة معهم أثر من آثار الآية القرآنية ، قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]( ).
الثالث والخمسون : إيمان المسلمين بعلوم الغيب الواردة في القرآن ، وإقتباس المواعظ منها .
الرابع والخمسون : تأسيس قواعد وأنظمة القتال وحال الجيش والتخفيف عن المجاهدين ، كما في قوله تعالى [وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ]( ).
الخامس والخمسون : من أثر الآية القرآنية إمتلاء نفوس المسلمين بالثقة بالنصر والغلبة بفضل الله ، قال تعالى [إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا]( ).
السادس والخمسون : كل آية قرآنية خزينة ومناسبة للعبرة والإتعاظ وإستنباط المسائل ، فاراد الله عز وجل أن يكون أثرها متجدداً إلى يوم القيامة .
السابع والخمسون : أثر الآية القرآنية العملي ، وموضوعيتها في الإكتشافات وبحوث علم الفلك والفضاء ،قال تعالى [يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ]( ).
الثامن والخمسون : من أثر الآية القرآنية إستعداد المسلم لحياة البرزخ وعالم القبر ، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (من كثرت ذنوبه ولم يجد ما يكفرها به ابتلاه الله عز وجل بالحزن في الدنيا ليكفرها به فان فعل ذلك به، وإلا عذبه في قبره فيلقى الله عز وجل يوم يلقاه وليس شئ يشهد عليه لشئ من ذنوبه)( ).
التاسع والخمسون : تثبيت الآية القرآنية لقوانين توارث المسلمين لبر الوالدين والسعي لجلب الحسنات بتعاهد صلة الرحم.
الستون : بهدى الآية القرآنية يتوارث المسلمون الفرائض والعبادات، وأداءها في أوقاتها بشوق.
الحادي الستون : القرآن مدرسة الإستغفار وذخائر التوبة والترغيب فيها وقربها من المسلم ، ويسر وسهولة جريان الإستغفار على اللسان ، وعن عبد الله ابن مسعود كان الرجل – أحسبه قال – في بني إسرائيل إذا أذنب أصبح على بابه مكتوبا : أذنب كذا وكذا ، وكفارته من العمل كذا ، فلعله أن يتكاثره أن يعمله . قال ابن مسعود : ما أحب أن الله أعطانا ذلك مكان هذه الآية[وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
الثاني والستون : في الآية القرآنية تشريع لقوانين الإحسان إلى الفقراء والمحتاجين ، إذ فرض الله عز وجل الزكاة على المسلم والمسلمة ممن يملكون النصاب ،قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ولم تختص إعانة الفقراء وأصحاب الحاجات الخاصة بمن يملك النصاب بل رغّبت الآية القرآنية بالصدقة المستحبة ، كما أكدت على الإحسان إليهم بالقول والفعل ، قال تعالى [قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى]( ).
الثالث والستون : موضوعية الآية القرآنية في تعيين مساكن الناس يوم القيامة، وهو من إعجاز القرآن الغيري ، فيصلح المسلم نفسه باتخاذ التقوى رداء ومنهجاً ، والسعي في ضياء الوعد الإلهي بحسن العاقبة ،قال تعالى [وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ]( ).
الرابع والستون : الآية القرآنية دعوة سماوية للصبر والحلم ، والصبر مطلوب بذاته وهو علم تتحصل منه كيفية نفسانية ، تمنع من طرو الغشاوة على البصيرة ، وتبين آيات القرآن أن الأنبياء أئمة الناس في مسالك الصبر .
الخامس والستون : من أثر الآية القرآنية منع الفرقة والخلاف بين المسلمين من جهات :
الأولى : بيان ضروب العبادة ، الواجبة منها والمستحبة .
الثانية : تعيين أوان ومكان العبادة ،أو الإطلاق المكاني فيها كما في تعيين أداء مناسك الحج في البيت الحرام ومنى وعرفة والمشعر الحرام ،قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ]( )، وأما الإطلاق فكما في الصلاة في أي بقعة من الأرض .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراَ) ( ).
الثالث : هداية المسلمين إلى الصراط المستقيم بقوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( ).
الرابع : منع وحرمة الإقتتال بين المسلمين .
الخامس : وجوب المبادرة إلى الإصلاح بين المسلمين عند الخصومة والإقتتال بينهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالاً أو أحل حراماً)( )، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أخبركم بأفضل من درجات الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا : بلى . قال : إصلاح ذات البين( ).
السادس : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيه ندب للعمل الصالح وزجر عن الفعل السيء.
السابع :الأجر والثواب على الصبر وعدم الأذى الصادر من المسلم .
الثامن : حرمة الأفعال المذمومة وبعث النفرة منها في نفوس المسلمين كما في قوله تعالى [وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ]( ).
السادس والستون : يتصف أثر الآية القرآنية بالإستدامة والإستقرار في ذاته وموضوعه فلا يغادر الأثر المبارك منازله سواء في النفوس أو المجتمات أو الأنظمة وهو في تجدد وإزدياد ، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، فمع بلوغ المسلمين التقوى بالقرآن فان الله عز وجل جعل القرآن سبباً لزيادة هداهم وثباتهم في مراتب الإيمان ، ومن مصاديق زيادة الهدى في المقام فعل الصالحات والمواظبة على العبادات وإخلاص النية فيها .
ومن أثر الآية القرآنية تعاون المسلمين في باب التوقي من الشيطان وإغوائه ، ودعوتهم للناس لأخذ الحائطة من حبائله ، لتكون هذه الحائطة مناسبة للتدبر بآيات الكون ومعجزات النبوة التي تدل على التوحيد .
ويبين الحديث حقيقة وهي أن الحلال من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً كما في الأحكام التكليفية فان الأمر بالفعل له وجوه منها أمران :
الأول : الوجوب وعدم جواز الترك .
الثاني :إستحباب إتيان الفعل والرخصة في تركه .
ليكون الواجب أسمى مراتب الحلال ، وقد تدخل معه بعض مصاديق المستحب كما في النكاح.
ويكون المنهي عنه المبغوض على مراتب متفاوتة أيضاً فمنه الحرام الذي يجب تركه وليس من رخصة في إتيانه , والمكروه الذي جاء الأمر بتركه مع الرخصة في إتيانه.
وكأن أدنى الحلال يكون قريباً من أدنى الحرام ، ولكن التباين بينهما جلي وظاهر في ذات الأفعال وفي عالم الثواب بالنسبة للحلال والعقاب بالنسبة للحرام .
السابع والستون : من أثر الآية القرآنية ضبط التأريخ وحساب الأيام والشهور برصد سير القمر والكواكب وحاجة المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم لإطلالة الهلال أما في العبادات فتتعلق بداية ونهاية فريضة الصيام بهلال مخصوص من بين مجموع الأهلة في السنة وهو هلال شهر رمضان ، ولم يرد اسم شهر مخصوص في القرآن إلا شهر رمضان ، وفي التنزيل [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، وكذا بالنسبة لفريضة الحج فيما يخص هلال ذي الحجة.
وأما في المعاملات فيقترن نشر الحرمة ووقف القتال بهلال كل من شهر شوال ، وذي القعدة ، وذي الحجة وهي سرد ومتتابعة ، وشهر منفصل هو شهر رجب ، ويحتسب الهلال في عدة المطلقة وفي الديون والآجال ، ومع موضوعية الهلال في حياة المسلمين الخاصة والعامة فانه لم يرد بصيغة الفرد في القرآن إنما ورد بصيغة الجمع ومرة واحدة بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( ).
الثامن والستون : أثر الآية القرآنية في حفظ المرأة من الوأد والقتل كما يقطع القرآن هذه المأساة الإنسانية بقوله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( )، وبيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سلامة المجتمعات الإسلامية وغيرها من قتل البنات في المهد وعند الصبا .
ومن الإعجاز في آيات القرآن الجمع بين تنزه المجتمعات من الوأد ومن ظلم المرأة في أفراد الزمان الطولية اللاحقة لأيام البعثة النبوية فيما إرتقت القوانين الوضعية في إنتزاع حقوق المرأة فانها لا تبلغ مراتب القواعد الشرعية التي أسسها الإسلام لحماية المسلمين ونفعها في إقامة شعائر الله وإعداد أجيال تتوارث التقوى .
وفي إحدى الدول المتقدمة رصد قبل بضع سنوات قلة عدد حالات الطلاق بالقياس إلى ما قبلها ،ولما درست هذه الظاهرة تبين أن سببها عزوف الأزواج والزوجات عن طلب الطلاق بسبب كثرة النفقات التي يستلزمها من أجور المحاماة ورسوم المحاكم ، بينما صاحبت الإسلام قاعدة قلة عدد حالات الطلاق بقواعد تنظيم الأسرة في القرآن ورجاء المصلحة والنفع في الصبر على المرأة ،وتحمل الطرفين الأذى لأجل إستدامة صرح الأسرة في مرضاة الله ،وهو من الأثر المبارك للآية القرآنية ، قال تعالى [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا]( ).
وورد في الحديث عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(أبغض الحلال إلى الله الطلاق ) ( )، ليكون فيه دعوة نبوية لدفع الطلاق وبعث النفرة منه ، ومنهم من ضعّف هذا الحديث ، كابن الجوزي ففي سنده عبيد الله بن الوليد الوصافي وهو ضعيف ، ولكنه لم ينفرد به ، كما وردت نصوص عديدة تدل على مبغوضية الطلاق ، وإلى جنب كونها بياناً لآيات القرآن التي تبين محبوبية إستدامة الحياة الزوجية , قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
وتترشح الكراهية في الطلاق عن الآثار المترتبة عليه أيضاً ، ليكون من إعجاز قوانين أثر الآية القرآنية إجتناب المسلمين للفعل التي تترشح عنه الأضرار وفيه رد على من ضعّف الحديث أعلاه في دلالته وقال: كيف يكون حلالاً ومبغوضاَ عند الله .
إنما يبين الحديث مراتب الحسن في الحلال وأنه من الكلي المشكك ، والطلاق بذاته حلال لكن فيه ترك للأولى والأحسن وما فيه نفع وثواب جلي , وهو إستدامة الحياة الزوجية وإتخاذه وسيلة لإنجاب الأولاد ونزول البركات ولم يحرز بأن ما بعد الطلاق خير من تركه والإعراض عنه ،إلا بفضل الله عز وجل .
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق ما من شيء مما أحله الله أبغض إليه من الطلاق وإن الله عزّ وجلّ يبغض المطلاق الذواق( )، ويحتمل وجوهاً:
الأول : تعلق كراهة الطلاق بكراهة فعل المطلاق .
الثاني : كراهة تعدد صدور الطلاق من المتحد أمر مستقل يضاف للكراهة الذاتية للطلاق .
الثالث : ترشح كراهة فعل المطلاق من كراهة ذات الطلاق ، إذ ان المرة الواحدة منه مكروهة ، فمن باب أولى كراهة المتعدد منه .
والصحيح هو الثاني ويكون الأول والثالث أعلاه في طوله وقد قيد الحديث كراهة فعل كثيرالطلاق بأنه مذواق كالذي يتزوج المرأة بشغف وشوق وسرعان ما يمل منها ، ويرغب عنها ، ويرغب في غيرها على نحو التعيين أو التخيير أو مطلقاً ، وتبين آيات القرآن تفقه المسلمين بخصوص حقوق المرأة وما للزوج وما عليه أزاءها ، وما لها وما عليها ، قال تعالى [وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ]( )، وفيه دلالة على أن أحكام النساء في الشريعة الإسلامية من عند الله وهو من آثار ومنافع الآية القرآنية وأنها حاضرة في الواقع اليومي.
البيان في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]
تتضمن الآية بياناً للناس من وجوه :
الأول : الخطاب من المسلمين والمسلمات إلى الله عز وجل .
الثاني : مضمون الخطاب هو السؤال .
الثالث : تقييد الهداية بأنها للصراط المستقيم .
وبعد مجئ الآية السابقة بالإخبار عن عبادة المسلمين لله عز وجل وحده ، واستعانتهم به دون غيره في أمور دنياهم وآخرتهم ، جاءت آية البحث بذات صيغة الخطاب ولكنها ليس بصيغة الجملة الخبرية بل بصيغة الجملة الإنشائية، وفيه بيان للناس على صدق إنقياد المسلمين لله وإخلاصهم في طاعته ورجائهم النهل من فضله الواسع .
وبلحاظ الجمع بين الآيتين [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]وجوه محتملة : الأول : موضوع إستعانة المسلمين بالله عز وجل هو الهداية إلى الصراط المستقيم على نحو الحصر . الثاني : الهداية إلى الصراط هي الموضوع الأولى والأهم في الإستعانة. الثالث : النسبة بين الإستعانة والهداية إلى الصراط عموم وخصوص مطلق ، إذ أن مواضيع الإستعانة أعم . الرابع : الهداية إلى الصراط بلغة لنيل الغايات الحميدة الأخرى . الخامس :إرادة المعنى الأعم من الصراط المستقيم وعدم إنحصاره بحال الدنيا أو حال الآخرة . ولا تعارض بين هذه الوجوه بلحاظ المعنى الأعم للصراط وأنه الأفضل والأحسن في الإختيار والتعيين ،ولقد أراد الله عز وجل للمسلمين تفويض أمورهم له سبحانه ، وهذا التفويض أمر وجودي يتقدم بالإلحاح في الدعاء ، والإجتهاد في العبادة. وسؤال المسلمين الهداية عن حاجة عامة وخاصة ، فكل فرد منهم محتاج الهداية إلى الصراط ، وهم مجتمعون محتاجون إليها . وفيه بيان لحقيقة وهي أن الله يعلم إحتياج المسلمين لها فأنزل هذه الآية لتكون ضياء ينير لهم دروب الهداية ، ولطفاً يقربهم من منازلها ، وبياناً للناس بأن الناس جميعاً يحتاجون لها وأن المسلمين لم ولن يستكبروا عن سؤالها من عند الله بلسان الخضوع والخشوع ليكونوا أسوة وقدوة للناس وحجة عليهم في الدنيا والآخرة ، من جهات : الأولى : تلاوة المسلمين لآية البحث بقصد القرآنية . الثانية : توسل المسلمين ودعاؤهم بالفوز بالهداية من عند الله . الثالثة : شكر المسلمين لله عز وجل على نزول آية البحث وما فيها من التعليم للنهل من كنوز الهداية ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ). الرابعة : تجلي المنافع العظيمة والغنائم في العلم والعافية والرزق والجاه التي يفوز بها المسلمون في تلاوتهم لهذه الآية . الخامسة : عدم وجود برزخ بين أي إنسان وبين سؤال الهداية من الله. السادسة : مواظبة كل مسلم ومسلمة على تلاوة هذه الآية عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية . السابعة : رؤية الناس للإرتقاء الذي ناله المسلمون ، وحال العز التي يتنعمون بها ، فبعد أن كانوا قبائل متناثرة في الصحراء ، واتباعاً للطواغيت في الأمصار ، أصبحوا سادة وأمراء ، يعمرون الأرض بتلاوة [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] في سؤال متجدد لإستدامة النعم التي عندهم ، ونعم أخرى مستحدثة تتقوم بفعل الصالحات وعدم الخروج عن جادة السواء . الثامنة : توظيف المسلمين عقولهم وجوارحهم للعمل بمضامين هذه الآية بهداية من الله عز وجل لهذا التوظيف . التاسعة : من الصراط المستقيم الذي يسأل المسلمون الله عز وجل الهداية إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودعوة الناس للإسلام وجذبهم إلى مقامات تلاوة هذه الآية الكريمة ، وفي التنزيل [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ]( ). وسئل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية (قالوا :كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال : نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح له . قالوا فهل لذلك من إمارة يعرف بها؟ قال : الإِنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت( ). العاشرة : تذكيرالناس بأن اللبث الدائم في الجنة العالية يأتي عن طريق تلاوة هذه الآية بقصد القربة ، وفيه بيان لموضوعية كل آية من القرآن. الحادي عشرة : تدل الآية على حقيقة وهي وجود طرق ومناهج متعددة تتزاحم أمام بصر وعقل الإنسان وأن الواجب هو إختيار النهج القويم وأن الإنسان قاصر بنفسه عن معرفته لذا تقدم سؤال الإستعانة في الآية السابقة [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ). وجاء رجاء الهداية متعقباً لإعلان إخلاص ،العبادة لله وحصر الإستعانة به تعالى ، وفي ورود لفظ [الصِّرَاطَ] في القرآن بيان للناس من جهة العدد ومضامينه القدسية , وفيه مسائل : الأولى : عدد المرات التي ذكر فيها الصراط في القرآن هي خمس وأربعون مرة كلها في الهداية الى سبل معرفة الله باستثناء موضع واحد( ). الثانية : إقترن قيد ووصف [الْمُسْتَقِيمَ] بالصراط في ثلاث وثلاثين آية. الثالثة : الملازمة بين العبادة والصراط المستقيم . الرابعة : تأتي الهداية إلى الصراط بفضل الله ونعمة منه ، وفي الثناء على نفسه وبيان أن الخير كله بيده تعالى [وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ). الخامسة : بيان التضاد والتباين بين إتباع الصراط المستقيم وعدمه ، فليس من برزخ ووسط بين الأمرين ، قال تعالى [أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ). السادسة : تفضل الله عز وجل بوجوب الشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصدق نبوته وجهاده في سبيل الله , قال تعالى [وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ]( )، وفيه تزكية لعمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسبل وكيفية دعوته إلى الله لترشح معاني الإستقامة على ذات الدعوة والطريق إليه وتؤكده الآيات الأخرى والسيرة النبوية ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، وتكون بياناً لماهية الصراط الذي يتخذه المسلمون بلغة ويسعون إليه كفاية . وتتضمن آية البحث سؤالاً متعدداً ،من وجوه : الأول : إشتراك المسلمين بالدعاء وسؤال الحاجات من عند الله . الثاني : توجه دعاء وسؤال المسلمين إلى الله عز وجل . الثالث : تعيين موضوع الدعاء وهو الهداية والإرشاد والتوفيق . الرابع : بيان سنخية الهداية وهو الصراط والطريق . الخامس : تقييد الصراط بأنه مستقيم ونهج قويم ، وفيه إقرار بأن الله عز وجل هو العليم الخبير الذي يهب المحسوس والمعقول ، ولو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد في مصاديق الهداية بخصوص عالم الأفعال وأفراد الزمان ، فالصحيح هو الإطلاق ،إذ يسأل المسلمون والمسلمات الله عز وجل الهداية في الفعل الشخصي والنوعي وفي القول والنية والعزم ، وأن يتفضل الله عز وجل عليهم بمصاحبة الهداية إلى الصراط المستقيم في كل أمور حياتهم . إذن لماذا لم تقل الآية (اهدنا الصراطات المستقيمة) بلحاظ تعدد مواضيع الصراط ، وكثرة السائلين ، والجواب فيه وجوه : الأول :إفادة اسم الجنس من لفظ الصراط . الثاني :مجئ السؤال جامعاً لسبل وموضوعات الهداية ، ومانعاً من الخطأ والضلال . الثالث : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم بأن في كل أمر هناك طريقاً سليماً ونهجاً قويماً متحداً، وأن الله عز وجل هو الذي يعلمه ويهديه إليه ، وفيه بيان للناس بلزوم اللجوء إلى الله عز وجل في الأمور الصغيرة والكبيرة , قال تعالى [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( )، ونسب إلى أكثر المفسرين القول بأن المراد من قربه تعالى بملائكته الذين وكّل إليهم حفظ أعمال العباد ، ولكن الآية ظاهرة بقربه سبحانه بالذات ، وتحمل على علمه تعالى بأعمال العباد وحضورها عنده سبحانه , وقرب رحمته من الإنسان . الرابع : دعوة المسلمين لسؤال الأوفى والأتم والأحسن . الخامس : صيرورة دعاء المنفرد من المسلمين والمسلمات دعاء صادراً منهم جميعاً , لأن الآية جاءت بصيغة الجمع . السادس : تجلي معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين التي تتقوم بسؤال أحدهم خير الدنيا والآخرة لهم جميعاً ، وفيه بيان للناس بنعمة الدعاء التي فاز بها المسلمون ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم . ويشمل سؤال الصراط التوسل والدعاء بالبلغة إليه ، وتحصيل السبل والمقدمات المؤدية إلى الصراط القويم ، وتلك السبل لها صراط مستقيم أيضا ،فأراد المسلمون سؤال الصراط في المقدمة وذي المقدمة دنيوياً كان أو أخروياً ، وفيه بشارة إرتقاء الناس في سبيل المعرفة والصلاح لأن أجيال المسلمين تواظب كل يوم على سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم ويدل هذا السؤال في مفهومه على أمور : الأول : طلب النجاة من سبل الضلالة والغواية وهو من مصاديق الإمتثال لقوله تعالى [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ]( ). الثاني :القبح الذاتي لصيغ الضلالة والفسوق . الثالث : إدراك المسلمين وجوب التنزه والإبتعاد عن سبل الغواية والضلالة . الرابع : هداية المسلمين إلى الصراط المستقيم حرب على الكفر والشرك ، لقد سأل المسلمون ما ناله الأنبياء من مراتب الهداية كما في قوله تعالى في موسى وهارون عليهما السلام [وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينوَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالقرآن مصاحباً لهم في الليل والنهار وجعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومن وجوه البيان سؤالهم الهداية والرشاد إلى صراط الأنبياء ، ومنه سلامة سنخية المسلمين وسعيهم في مناهج الأنبياء .
ومنهم من قسم الصراط إلى قسمين :
الأول : معنوي وهو دين الله واحكام الشريعة .
الثاني : الصراط الحسي وهو الجسر الذي يوضع على جهنم ويكون عبوره بالإيمان وعمل الصالحات.
وهذا التقسيم إستقرائي ، لا يخلو من إشكال إذ أن أحكام الشريعة في الدنيا أكثر من الحسي والبدني , قال تعالى في الثناء على المتقين [يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ]( )، ولم يرد الصراط المنصوب على جهنم في القرآن ولكنه ورد في السنة النبوية الشريفة ، وورد ذكر صراط وطريق جهنم في الآخرة بقوله تعالى [احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ]( ).
ويمكن تقسيم الصراط المستقيم إلى قسمين :
الأول : الدنيوي وهو الكتب السماوية وما جاء به الأنبياء .
الثاني : الصراط الأخروي ، الذي هو جزاء وإجتيازه والعبور عليه نوع ثواب على إنتهاج سبل الصراط المستقيم في الدنيا .
ترى لماذا لم تقل الآية ( اهدنا صراطاً مستقيماً ) .
الجواب فيه وجوه :
الأول : جاءت الآية بالتعريف بالألف واللام مما يدل على وجود صراط يشار إليه يعرفه المسلمون .
الثاني : إن الله عز وجل يحب أن يدعوه العبد ويكثر من الدعاء والسؤال وطلب الحاجات ، وجاء الدعاء والسؤال في الآية بالفرد الأمثل والأتم وهو خصوص صراط الأنبياء الذين خصهم الله بأبهى المقامات في الدنيا والآخرة .
وكأن الآية تقول للمسلمين والناس إذا سألتم فاسألوا النعم التي تفضل الله عز وجل على الأنبياء التي جاءت مصاحبة للوحي والتنزيل ، وفي قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( )، ترغيب بالدعاء وسؤال ما أنعم الله عز وجل على الأنبياء مع الإقتباس من الوحي والعمل بأحكامه وسننه .
الثالث : بيان تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم بأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى .
الرابع: إقرار المسلمين بالحاجة للهداية للطريق المستقيم ، وفيه تأديب للناس ودرس في صدق العبودية .
الخامس : حتمية البعث والحساب وعالم البرزخ .
السادس : ليس من برزخ بين الإيمان والكفر في الحياة الدنيا ، وليس من وسط في الآخرة بين الجنة والنار ، فلذا جاء السؤال لخصوص صراط مستقيم معين ومعلوم .
السابع : تتجلى في المقام قاعدة نفي الحرج في الدين ،وقاعدة نفي الجهالة والضرر ، فليس من صراط فيه السعادة والصلاح والنجاة في النشأتين إلا صراط واحد يعلمه الله , فسأله المسلمون ليبين لهم في القرآن ومطلق الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكأن نزول القرآن إستجابة لدعاء المسلمين الذي يشمل الهداية الفعلية في سبل الفلاح والتوفيق للعمل بالواجبات وترك المحرمات، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثامن : من الصراط المستقيم الذي سأله المسلمون حسن العاقبة ، ومغادرة الدنيا بصيغ التوبة والإنابة والإيمان .
البيان في قوله تعالى [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ] ( )
لقد جاءت الآية السابقة بالبيان في ماهية الدعاء والسؤال من عند الله، وعموم هذا السؤال بما يشمل أمور الدين والدنيا وحال المسلمين في الأولى والآخرة، وإظهار إيمانهم بأن مقاليد الأمور بيده تعالى ، وأنه لا يرضى للعباد إلا بعبادته وفعل الخيرات فسألوه التوفيق إليها وتعاهد منزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
فكان السؤال في الآية السابقة هو الهداية إلى النهج القويم والصراط المستقيم الذي لا إعوجاج فيه عن جادة الحق ، ولا يميل عن سبيل الأنبياء ، ليكون من وجوه البيان في هذه الآيات والإنذار، البشارة للذين يسألون الهداية . والإنذار للذين يعرضون عنها ويتبعون أهوائهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
وورد لفظ [خُطُوَاتِ] خمس مرات في القرآن ، كلها في ذم الشيطان وسعيه في الضلالة والإغواء ، منها مرتان في آية واحدة جاءت لتحذير المسلمين ، وانذار الكافرين ، وبيان قبح فعل الشيطان ، إذ ورد قول الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
ليكون من فضل الله بلحاظ الآية أعلاه تلاوة المسلمين لآية البحث والآية السابقة ، ومن الهداية سؤال فضل الله الذي يكون واقية من مكر شياطين الإنس والجن .
ومن الإعجاز في القرآن بيانه الذي يتجلى في كل موضوع وحكم فيه .
ومنه التحذير من خطوات الشيطان ، والذي يدل على أن المسلمين والناس جميعاً يجب أن يحذروا من المكر والكيد لأن الله عز وجل يخاطبهم جميعاً في الآيتين أعلاه وينهاهم عن إتباعها , ومنها إمتناع إبليس عن السجود لآدم ،ومبادرة الملائكة للسجود طاعة لله عز وجل .
لقد رزق الله سبحانه المسلمين وراثة الأرض المقيدة بضروب العبادة ومحاكاة الأنبياء في سنن التقوى ، فعندما تعدى أفراد وجماعات من الأمم السابقة على الأنبياء بالتكذيب والإيذاء وأحياناً القتل ، تفضل الله عز وجل وأخرج للناس أمة وهم المسلمون لا يحصي عددهم إلا الله بذات منهج الأنبياء ، لذا فمن الإعجاز في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) وجوه :
الأول : الآية أعلاه وعد للأنبياء والصالحين من الأمم السابقة بأنه ستأتي أمة تعمر الأرض بذكر الله .
الثاني :التخويف والوعيد للكفار بأنكم إن تحاربون الأنبياء والصالحين فان الدعوة إلى الله عز وجل لن تنقطع بل تستمر بأمة عظيمة لا يستطيع هؤلاء الأفراد والجماعات الذين إعتدوا على الأنبياء الإضرار بها أو منعها عن تعظيم شعائر الله , وفي التنزيل [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
الثالث :البشارة بخروج أمة المسلمين التي هي المصداق والفرع المتحد لتوارث الأنبياء وأتباعهم البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وفي قوله تعالى [وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) ،ورد (عن ابن عباس قال : كان يهود أهل المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد ، وغطفان ، وجهينة ، وعذرة ، يستفتحون عليهم ويستنصرون ، يدعون عليهم باسم نبي الله فيقولون : اللهم ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك وبكتابك الذي تنزل عليه ، الذي وعدتنا إنك باعثه في آخر الزمان ) ( ).
الرابع : بعث اليأس في قلوب الكفار من عودة عبادة الأوثان وطغيان الظلم والتجبر , ومن الآيات في بعث نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنقطاع أيام الطواغيت ، وليس من مدع للربوبية أو النبوة وهو من رشحات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ، وهل هو من البيان في آية البحث وسؤال المسلمين التنزه عن صراط الظالمين والذين باءوا بغضب من الله عز وجل .
الجواب نعم ، لأن الآية تبعث المسلمين على تعاهد الخضوع لله عز وجل والحرص على إظهار معاني العبودية له سبحانه في القول والعمل وفيه موعظة للناس ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن من مصاديق الصراط المستقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة رؤساء الكفر ،ومنع إستبدادهم بالحكم والسلطنة وإتخاذها وسيلة لمحاربة الإيمان وأهله مع الإمكان ووفق قواعد دفع الضرر مع عدم الخروج عن آداب التقية. وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : الصراط على ثلاثة أقسام وهي :
الأول : الصراط المستقيم الظاهر للناس بجلاء في التنزيل وسنن الأنبياء والصالحين .
الثاني : الصراط والنهج الذي جلب لأصحابه غضب وسخط الله .
الثالث : طريق الضلالة والغواية .
وهل تخص الطرق ومسالك الأعمال بهذه الطرق الثلاثة ، الجواب الأصل هو صراط واحد ، وهو طريق الحق الذي لا إعوجاج فيه .
أما طرق الضلالة والغواية فهي أمر عرضي ومعصية تتصف بالقبح الذاتي والعرضي ، وجاء القرآن بفضحها وذم أهلها , وهو من البيان القرآني.
ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تذكر إلا الصراط المستقيم , ومن الآيات أنه بسيط لا يقبل التعدد والتباين الموضوعي ، وتجعله الآيات الكونية والتنزيل مضيئا بهيجاً في ساعات الليل والنهار , وإلى جانب وصفه بالمستقيم ، وصف في القرآن أيضاً بأنه [السَّوِيِّ].
أما طريق الضلالة فانه متعدد في صيغه ، لذا جاء البيان في القرآن بقبح السوء والفحشاء والإثم والموبقات مطلقاً وأم الكبائر هو الكفر والشرك .
ومن وجوه البيان في خاتمة سورة الفاتحة تذكير الناس بسوء عاقبة الظالمين ، ودعوتهم للمناجاة بإجتناب نهج الظلم والتعدي بالإستجارة بالله واللجوء إليه ورجاء رحمته والتصديق بانبيائه وإتباع سنتهم ، وتتصف سورة الفاتحة بأنها بيان للصلة بين العبد والله عز وجل من غير واسطة أحد ، وكأنها فاتحة لأمور :
الأول : فاتحة الحياة الدنيا برحمة الله .
الثاني : فاتحة وجود الإنسان على الأرض ببسم الله ورحمته .
الثالث : فاتحة العبادة وأن المسلم يقر بأن مقاليد الأمور بيد الله وأن شكره واجب .
الرابع : إبتداء القرآن وقراءته بسورة الفاتحة .
الخامس : إبتداء دخول الإسلام بتلاوة سورة الفاتحة وتعلم مضامينها لذا جاءت مضامينها قوانين كلية جلية وبسيطة .
السادس : إبتداء الصلاة بسورة الفاتحة ، وكأن تسميتها هذه دعوة للمسلمين لتعاهد أفعال الصلاة كما أداها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فحفظ التلاوة ووجوب تكرار الفاتحة في كل ركعة من الصلاة مقدمة وسبب لحفظ وتعاهد أجزاء وأفعال الصلاة الأخرى وكيفيتها.
السابع : إنها فاتحة دخول الإنسان العالم الآخر عند مغادرته الدنيا إذ أنه يقدم على رب العالمين الذي وسعت رحمته كل شيء .
الثامن : هذه السورة فاتحة ظهور الدولة الإسلامية وإنتصار المسلمين في ميادين القتال .
وجاء الثناء على المسلمين بقوله تعالى [وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ]( ).
ومن خصائص القرآن تقريب المعنوي والمدرك العقلي والإتيان به بصيغة المحسوس فتجعل آية البحث الصراط موضوعاً جلياً مدركاً بالبصائر وكأن أقسامه ظاهرة في ذاتها والغايات والعواقب التي تؤدي إليها .
لو جاء القرآن بقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] لكان المعنى جلياً وواضحاً ، ولكن الله عز وجل أراد البيان والتفصيل رحمة بالعباد ، وتأكيداً لإنعدام البرزخية في النهج والعمل في الدنيا التي جعلها الله عز وجل دار إمتحان وإختبار وليعلم الذي ينهج الصراط المستقيم بحسنه الذاتي وسلامة عاقبته ، ومن يأتي صراط الباطل والعناد فانه يعلم ضلالته وخسارته.
لقد أراد الله إمتلاء نفوس المسلمين بالرضا على نعمة الإيمان والهداية إلى فعل الصالحات .
وفي الآية مسائل :
الأول : تزيين الإيمان وأنه نهج مستمر خال من الضرر .
الثانية :تفقه المسلمين في الدنيا ، ومعرفتهم بعواقب الأمور وأن الله عز وجل يسخط على الذي لا يتبع نهج الصالحين ولا يسير في سواء السبيل قال تعالى [وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ) .
الثالثة : تدل الآية في مفهومها على ذم الكفار والظالمين والمنافقين ، وتبين لهم سوء إختيارهم ، وما يجلبه لهم من الغضب الإلهي .
الرابعة : في الآية تحذير من ترك مناهج الإيمان ، وإخبار بأن هذا الترك سبب للحرمان من رحمة الله عز وجل .
الخامسة : دعوة الناس لشكر الله عز وجل على النعم والإنتفاع الأمثل منها .
السادسة : جاء القرآن بقصص الأمم السابقة لتكون موعظة وعبرة للمسلمين والأجيال المتعاقبة من الناس ، وبينت عاقبة المغضوب عليهم والضالين في الحياة الدنيا ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
وإبتدأت سورة الفاتحة بالبسملة وصفات الرحمة والجلال والعظمة لله عز وجل وأختتمت بذكر المغضوب عليهم والضالين لبيان حقيقة للناس أن رحمة الله لا تنال الظالمين لأنفسهم بالكفر والجحود ولا يقف الأمر عند حرمانهم من رحمة الله بل إن غضب الله عز وجل يطالهم وينزل عليهم في الآخرة ، أو في الدنيا والآخرة معاً .
ومن أسرار نظم السورة إقامة الحجة على أهل الكفر والضلالة بأنهم لم ينتفعوا من رحمة الله في الدنيا , وحجبوا عن أنفسهم الفضل الإلهي ، خاصة وأن آيات سورة الفاتحة تذكرهم بأمور :
الأول : مفاتيح الرحمة بيد الله .
الثاني : الإطلاق والعموم برحمة الله وتغشيها للخلائق في الدنيا والآخرة.
الثالث : وجوب شكر الله عز وجل بالقول والفعل لقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
ويجب أن يصدر هذا الشكر من منازل الإيمان والعبودية والخضوع لله عز وجل .
الرابع : تذكير سورة الفاتحة الناس بيوم القيامة وأن الأمر والحكم بيد الله ومن خصائص ملك الله ليوم الدين أن لا ينطق ولا يفعل ولا يشفع أحد إلا باذنه تعالى , وفي التنزيل [يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا]( ).
عن أبى معمر السعدى قال : قال على بن أبي طالب عليه السلام في صفة يوم القيمة يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق فلا يتكلم أحد الا من اذن له الرحمن وقال صوابا ، فيقام الرسل فيسئل فذلك قوله لمحمد عليه السلام ” فكيف اذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ” وهو الشهيد على الشهداء ، والشهداء هم الرسل)( ).
وتدل الآية أعلاه على أمور :
الأول : قلة عدد المتكلمين من الملائكة يوم القيامة لأنهم يعلمون معاني ملكية الله عز وجل ليوم القيامة ولإنقطاعهم للتسبيح والتهليل ، ولهول يوم القيامة.
الثاني : الملائكة في حال قيام وفزع وإستعداد لتلقي الأوامر من عند الله بخصوص حال الحساب ومواطن الناس يوم القيامة ، والفصل بين أهل الجنة والنار .
الثالث : ظاهر الآية أن الملائكة يسألون الإذن لهم بالكلام .
الرابع : جاء اسم الله عز وجل في الآية أعلاه بصفة [الرَّحْمَنِ], وفيه مسائل :
الأولى : إنه دليل بأن الملائكة يسألون الشفاعة والعفو والمغفرة للناس .
الثانية : يأذن الله عز وجل للملائكة بالشفاعة وسؤال العفو والرحمة وفيه دعوة للتصديق بنبوتهم ، وثناء ووعد وحرز للمسلمين بقوله تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ] ( ).
الثالث : إن مجيء صفة [الرَّحْمَنِ] بيان للناس لموضوع الإذن وأنه يتعلق برحمة الله .
الرابعة : الوعد بأن الله يستجيب للملائكة لأنه سبحانه أرحم بعباده وخلقه أي أن الملائكة يشفعون للناس رحمة بهم ، والله عز وجل يستجيب لهم ويدفع العذاب عمن يشفعون له برحمته وفضله .
الخامسة : إعانة الله للملائكة لقول الصواب وما فيه مرضاته .
الخامس : حال الذي يتكلم من الملائكة يحتمل وجوهاً :
الأول : ورود قيدين في المقام ،وهما الإذن من الله وقول الصواب .
الثاني : تعدد حصول الكلام من الملائكة ،فيتكلم الذي يأذن له الله ، ويتكلم الذي ينطق صواباً ، فيستأذن أحد الملائكة بالكلام ، فيأذن له الله عز وجل فيسأل الإذن للملائكة الآخرين كلاً أو بعضاً , ولا يعلم عددهم إلا الله ليتوسلوا ويتضرعوا ويسألوا العفو عن الناس يوم القيامة ، ليكون قوله تعالى [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] ، خيراً محضاً ورحمة عظيمة بالناس لا يدرك كنهها إلا الله تعالى .
وإذا كان إبليس يطمع برحمة الله يوم القيامة ، فان الملائكة أولى بأن يطمعوا بها لنيل العفو من الله عز وجل عن الناس ،فمن يأذن الله عز وجل بسؤال العفو عنه يناله بلطف وفضل منه تعالى ، وهو من مصاديق التقييد بالإذن في الآية الكريمة .
ومن الإعجاز في البيان القرآني ذكر الحسنة وضدها من السيئات ، فلا يكتفي القرآن بالأوامر وموضوعاتها وثوابها بل جاء بالنهي وموضوعاته وفيه دلالة بأن ذكر النواهي في القرآن لا يؤدي إلى إرتكابها وتهييج دواعي اللذة لفعل الممنوع من جهات :
الأولى : مجئ القرآن ببيان العقاب على فعل المعاصي والسيئات، وفيه زجر عنها .
الثانية : ذكر العقاب في الدنيا على فعل المعصية كحد الزنا وشرب الخمر، وفي السرقة قال تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا]( ).
الثالثة : إدراك العقل لقبح المعاصي ولزوم إجتناب نزغ الشيطان .
الرابع :ذكر القرآن للواجبات ، والمندوبات والتي هي بالضد مع المعاصي والسيئات .
الخامس : الثواب العظيم على قهر النفس الشهوية ومحاربة الشيطان .
السادس : الثناء على المسلمين في القرآن والشهادة لهم بالإيمان والأصل هو ترشح فعل الصالحات عن الإيمان .
السابع :مجئ آية البحث بالسؤال للهداية إلى النهج الذي كان عليه الأنبياء ، وفيه لجوء إلى الله واقية من السيئات وتبعاتها في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
ويحتمل الصراط من جهة إستدامته وجوهاً :
الأول: إنه خاص بالمسلمين .
الثاني : إنه عام شامل للصالحين من الأمة السابقة .
الثالثة : الصراط المقصود في الآية هو صراط الأنبياء والمرسلين والذي تجلى مع نزول آدم وحواء إلى الأرض وإخلاصهما العبادة لله عز وجل .
مما يعني أن هذا الصراط معلوم ومعروف عند الناس بسنن الآباء ، لذا كان قتل قابيل لأخيه هابيل فعلاً منكرا وظاهر القبح .
وتحتمل آية البحث وجوهاً :
الأول : الصراط هو ذاته النعمة في قوله تعالى [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ].
الثاني : إرادة التعدد وأن الصراط غير النعمة المذكورة في آية البحث .
الثالث : الصراط القويم هو رشحة من رشحات النعمة ،ومصداق لها،وسبيل هداية لإستدامتها، قال تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) .
الرابعة :لما أنعم الله على المؤمنين فانهم شكروا الله عز وجل باتباع الصراط المستقيم , فاراد إتباع نهجهم في الشكر لله عز وجل فلا يحيدوا عن صراطهم .
وباستثناء الوجه الأول فإن الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة، وفيه بيان لفضل الله عز وجل على المسلمين .
والصلة بين النعمة والصراط المستقيم على وجوه :
الأول :النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق , فالصراط نعمة ولكن النعم أعم .
الثاني : الهداية إلى الصراط المستقيم نعمة عظيمة .
الثالث : سؤال الهداية إلى الصراط نعمة من عند الله .
الرابع : ترشح النعم عن سؤال الهداية ، وعن بلوغ مرتبة الهداية إلى الصراط المستقيم .
الخامس :كل نعمة على المسلم هي بيان للناس ، وهذا البيان نعمة على المؤمن أيضاً ومن الإعجاز في بيان القرآن تذكير القرآن بالنعم ، وهو على أقسام :
الأول : التذكير بالنعم والحث على إتخاذها عوناً لإتباع سنن الأنبياء موعظة للناس جميعاً ، ويأتي الخطاب بذكر لفظ النعمة على نحو التعيين أو بذكر موضوعها ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثاني : مجيء التذكير بالنعمة بصيغة الإنذار والتخويف من الحرمان منها أو الإبتلاء على الجحود وعدم الشكر عليها ، وفي قوله تعالى في دعاء عيسى إستجابة لسؤال قومه المعجزة , ورد في التنزيل [اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا]( ).
وروي عن سعيد بن جبير قال : نزلت المائدة وهي طعام يفور ، فكانوا يأكلون منها قعوداً ، فأحدثوا فرفعت شيئاً فأكلوا على الركب ، ثم أحدثوا فرفعت البتة( ).
الثالث : الترغيب بالنعمة بالتذكير بها ، وبيان فضل الله عز وجل على الأمم السابقة .
الرابع : الوعد الكريم على حسن تلقي النعمة ، والشكر عليها وتجلي مصداق هذا الشكر بطاعة الله ورسوله ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الخامس : تذكير أهل الكتاب بما أنعم الله عز وجل عليهم وجعل هذه النعم والتذكير بها مقدمة وطريقاً للتصديق بالنبوة والتنزيل ، قال تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي]( ).
السادس : التذكير بخصال الإيمان ولزوم تعاهد المسلمين لها .
والقرآن هو مدرسة الذكرى , وبتلاوته تطرد الغفلة عن النفوس ، قال تعالى [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ]( ).
وعن ابن مسعود قال : قرأت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فهل من مذكر) بالذال ، فقال { فهل من مدكر } بالدال )( ).
وفيه مسائل :
الأولى : الضبط في تلاوة القرآن والتقيد بالحرف والنقط، وان معناها موجود من أيام التنزيل.
وان كانت من النظائر أو المتقارب ، لافادة مدكر معنى أعم من مذكر، وفيه زجر عن المعصية وإشارة إلى قبح الذنوب.
الثاني : قراءة الصحابة القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقصد الدقة والإحكام في وراثة آيات القرآن.
الثالثة : إصلاح أهل البيت والصحابة لتلاوة آيات القرآن على الناس .
الرابع : تلقي التابعين والأجيال اللاحقة لهم آيات وسور القرآن بالرضا والقبول لأن أهل البيت والصحابة أخذوها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتلا الآيات عليهم وقرأوا عليه وهو ينصت لهم ويصحح حتى الحرف .
(عن علقمة قال: كنا بحمص، فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا أنزلت، فقال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “أحسنت” ووجد منه ريح الخمر، فقال: أتجترئ أن تكذب بكتاب الله وتشرب الخمر؟ فجلده الحد ) ( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 من يشفع شفاعة حسنة أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو دلّ على خير أو أشار به فهو شريك. ومن أمر بسوء أو دلّ عليه أو أشار به فهو شريك ) ( ).
ومن البيان في هذه الآية أنها قسمت الناس إلى ثلاثة أقسام :
الأول : المسلمون الذين يسألون الله عز وجل نعمة الهداية والرشاد .
الثاني : الذين فازوا بنيل النعمة من أهل الملل السابقة .
الثالث : الذين حرموا أنفسهم من رؤية الصراط مع تجلي أنواره للأبصار والبصائر ، وهم على شعبتين .
الأول : الذين غضب الله عز وجل عليهم بسوء فعلهم وإصرارهم على المعصية .
الثاني :الذين ضلوا طريق الهداية وامتنعوا عن إتباع النهج المستقيم .
وذكر كل قسم من هذه الأقسام مدرسة في البيان القرآني ، وفيه موعظة وعبرة وهو سبيل صلاح .
ومن الإعجاز في الآية إتحاد صراط النعمة والهداية وتعدد سبل الضلالة والغواية ، فالذي يسأله المسلمون هو ذات صراط الذين تغشتهم نعمة الله ، وتدل الآية بأن النعمة إذا وردت مطلقة من غير تقييد أو قرينة صارفة فانها تدل على نعمة الهداية والتوفيق لبيان حقيقة وهي أنها أعظم النعم ، وفي قوله تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ]( )، يراد نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم ونعمة الإقامة في الجنة ، أما قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( )، فهي جلية بارادة نعمة الخلق والرزق الكريم.
وجاءت بالنداء للناس جميعاً في بيان فضل الله عليهم , فحتى المغضوب عليهم يتمتعون بالنعم العظيمة من عند الله لتكون حجة عليهم في النشأتين ، وهل آية البحث وتلاوة المسلمين لها حجة على الكفار .
الجواب نعم وهي مدح للمسلمين , وتدل بالدلالة التضمنية على التوبيخ والذم للكفار , فان قلت : الآية لا تدل على إرادة وخصوص الموحدين من الملل السابقة في قوله تعالى [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] .
والجواب تؤكد الآية السابقة حقيقة وهي أن هذا الصراط هو مستقيم بمعنى أنه متحد ولا يقبل التعدد والميل والإنحراف والإلتواء .
ومن خصائص المستقيم التي تتجلى للناس أمور :
الأول : هو أقصر مسافة بين نقطتين .
الثاني : إمكان إمتداد المستقيم إلى طول لا نهائي من النقاط إن لم يكن حقيقياً معلوم الطرفين ، وقد يكون نهائياً بنقطة من طرف وغير نهائي من الطرف الآخر ، أما عرض المستقيم فهو متناه وقد يصل إلى ما يقارب الصفر.
وبلحاظ هذه التعريف يكون المستقيم في الآية الكريمة على وجوه :
الأول : إنه أقصر الطرق إلى الخلود في النعيم .
الثاني : هو المنجي من طول الوقوف في مواطن الآخرة.
الثالث :يختلف الصراط المستقيم في الآية عن تعريف علماء الرياضيات والهندسة للمستقيم ، فهو صراط حقيقي ولكنه في أحد طرفيه من اللامتناهي ، لأنه يؤدي إلى الخلود في النعيم ، وهو من أسرار ذكره في الآية السابقة بالتعريف بالألف واللام [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ، ومجيئه بالتعريف في هذه الآية بالإضافة [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ].
ولأن القرآن تبيان لكل شئ فقد ذكرت آياته الذين أنعم عليهم الله عز وجل بالهداية إلى الصراط ، قال تعالى في موسى وهارون [وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ *وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ويتجلى مصداق التناهي في عرض المستقيم في التعريف في آية البحث وأنه ليس من طريق مستقيم إلا منهج واحد سواء في الدنيا أو الآخرة .
وذكرت الآية الذين أنعم الله عليهم، وفيه مسائل :
الأول : الإخبار بأن الله عز وجل أنعم على طائفة من البشر بنعمة الصراط المستقيم .
الثاني : تأكيد قانون كلي وهو في كل زمان هناك أمة على النهج القويم والصراط المستقيم .
الثالث : تعدد النعم الإلهية على العباد والصراط المستقيم أحداها وليس كل النعم، وهو مقدمة وطريق لنعم عظيمة أخرى .
الرابعة :سؤال الصراط المستقيم ليس أمراً متعذراً فيمكن للإنسان الهداية إليه وعدم الخروج عن جادته ليكون الأنبياء والصالحون من الأمم الأخرى أسوة وقدوة ، وفرطاً سابقاً للمسلمين ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الخامسة : تقدير الآية على وجوه :
الأول :صراط الذين أنعمت عليهم بالصراط المستقيم .
الثاني : صراط الذين أنعمت عليهم بالنبوة .
الثالث : صراط الذين أنعمت عليهم بإتباع نهج الأنبياء .
الرابع : صراط الذين أنعمت عليهم بالأمن في الدنيا والآخرة .
الخامس : صراط الذين أنعمت عليهم باللبث الدائم في الجنة .
السادس : صراط الذين أنعمت عليهم بالعمل بأحكام التنزيل ، وإتيان الفرائض وإجتناب المحرمات.
السابع :صراط الذين أنعمت عليهم بلباس التقوى وفعل الخيرات ، والصبر في مرضاة الله .
الثامن : صراط الذين تعاهدوا النعم ، ولم يطغوا ويجحدوا بها وبالمنافع المتفرعة عنها ، قال تعالى [وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
التاسع : صراط الذين أنعمت عليهم وهديتهم إلى شكر النعمة ، وفي التنزيل حكاية عن سليمان حين مّر على وادي النمل وسمع كلام النملة تدعو النمل إلى الاختفاء في الملاجئ هرباً من سليمان وجنوده [فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ]( ).
العاشر :صراط الذين أنعمت عليهم بالإسلام ، وفي قوله تعالى [صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( )، ورد في الخبر أنه (الإٍسلام ، رواه النواس بن سمعان الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم)( ).
الحادي عشر : صراط الأمن من الغواية ومن وسوسة إبليس ، قال تعالى [قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ ]( ).
الثاني عشر : صراطنا نحن المسلمون الذين أنعمت علينا وجعلتنا [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث عشر : صراط الذين أنعمت عليهم بأن يعبروا على الصراط كالبرق يوم القيامة لحسن سمتهم وعملهم في الدنيا .
وهل يمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها الصراط، وأنه على قسمين متضادين فيها :
الأول : الدنيا هي الصراط المستقيم.
الثاني : الدنيا هي الصراط غير المستقيم , والذي يكون على وجوه متحدة في الأصل والعاقبة وإن تباينت في الكيفية ومنها صراط المغضوب عليهم، وصراط الضالين.
ويصدق أن نقول دنيا الإستقامة والإيمان ودنيا المغضوب عليهم، الجواب لا، فأبى الله عز وجل إلا أن تكون الحياة الدنيا دار الصراط المستقيم والرحمة والضياء والهداية، فلا يصح تسمية الدنيا بأنها صراط الضلالة، إنما أمر الله عز وجل الناس بانتهاج الصراط المستقيم ولكن شطراً من الناس إختار الضلالة والغواية لذا ذكرت سورة الفاتحة الصراط المستقيم مرتين، مرة بالاسم وأخرى بالصفة، ولم تذكر للظالمين والكفار صراطاً إنما ذكرت المغضوب عليهم والضالين كضد للمؤمنين وأهل الصراط.
لقد ورد ذكر الصراط المستقيم متعدداً ولم تجعل للكافرين كرامة، فلم تذكر لهم صراطاً ومن بين ثمان وثلاثين مرة ذكر فيها لفظ الصراط في القرآن لم يذكر صراط للكفار إلا قوله تعالى[احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : هذا الصراط لا يعود إلى الكفار وأعمالهم، إنما هو من عالم الجزاء.
الثانية : جاءت الآية أعلاه خطاباً للملائكة في بيان النظام الدقيق في عالم الآخرة، وهو من مصاديق قوله تعالى[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
وهل يسمع أهل النار خطاب الله عز وجل للملائكة هذا , الجواب نعم ليكون زيادة في عذابهم، وليكون شاهداً على صدق نزول القرآن وآياته من عند الله.
الثالثة : بعث الحسرة في قلوب الكفار من تضييعهم نعمة الصراط المستقيم في الدنيا.
الرابعة : البيان للناس بأن طريق النار يوم القيامة لا يقبل التعدد فيساق فيه الكفار زمراً وأفواجاً.
الخامسة : من وجوه الثواب يوم القيامة أن الصراط المستقيم في الدنيا واحد وثوابه في الجنة تعدد الصرط والسبل التي تؤدي إلى الجنان الثمانية، أما طريق النار في الدنيا فهو متعدد بالشرك والضلالة والظلم والفسوق والنفاق والإصرار على المعصية ولكن صراطهم إلى جهنم متحد، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
البيان في سورة البقرة
يتجلى البيان للناس في سورة البقرة من وجوه :
الأول : إنها أول سورة بعد سورة الفاتحة مع أنها سورة مدنية .
الثاني : سورة البقرة أكبر سور القرآن في عدد الآيات ، والكلمات ، والحروف ، وعدد آياتها هو( 286) آية ، وعدد كلماتها (6144) كلمة وعدد حروفها (25613) وفي قراءة كل حرف منها ومن غيرها من السور عشر حسنات ، وفيه بيان للثواب العظيم في قراءتها .
الثالث : تسميتها بسورة البقرة بلحاظ قصة البقرة وهي تخص موسى عليه السلام وبني إسرائيل , ولعلها أكثر سور القرآن التي تضمنت الأحكام .
الرابع : كل آية في سورة البقرة بيان للناس في موضوعها وحكمها .
الخامس : النصوص الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فضل سورة البقرة ، ومصاديقها الواقعية في كل زمان .
السادس : سلامة كلمات وآيات سورة البقرة من التحريف مع كثرة عددها ، وفيه شاهد على ضبط المسلمين لآيات القرآن .
وإبتداء نظم القرآن بسورة الفاتحة وهي مكية ثم سورة البقرة وهي مدنية مما يدل على التباين بين نظم القرآن والأفراد الزمانية لنزوله .
البيان في قوله تعالى [الم] ( )
تعددت الأقوال في [الم] والحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية ( )
ومن البيان فيها التحدي لبلغاء العرب والدعوة للتدبر في معانيها ودلالاتها في ذاتها ومجيئها في أول السور بالذات ، وورودها في بداية بعض السور دون الأخرى ، وأختلف فيها على وجوه منها :
الأول : إنها حروف كحروف التهجي .
الثاني : إنها أسماء لله عز وجل .
الثالث : هي أسماء للسور التي تفتتح بها .
الرابع : إنها أفعال .
الخامس : إنها إشارات .
السادس : إنها أسماء للقرآن .
السابع : إنها أسماء للملائكة .
الثامن : إنها إشارة للجامع من الأسماء ، فقوله تعالى [الم] الألف إشارة ورمز من اسم الجلالة , والسلام من جبرئيل ، والميم من محمد ، وهذا المعنى لا دليل عليه .
التاسع : المركب والجامع من بعض هذه الأسماء اسم من أسماء الله .
العاشر : كل واحد منها قسم من اسم لله عز وجل .
الحادي عشر : فيها تعليم لحروف الهجاء .
الثاني عشر : نزلت الحروف المقطعة للتنبيه , وهي مقدمة لنزول الآيات الأخرى التي تتألف من جمل متعددة .
الثالث عشر : تتعلق هذه الحروف بحساب الجمل .
إن آية الحروف المقطعة في ذاتها وإبتداء السور بها ودلائل الإعجاز فيها وفي تلاوتها كتنزيل من عند الله وخشوع القلوب عند قراءتها والحرص على تلاوتها في مواضعها من السور ومجيئها بعد البسملة مباشرة مفاتيح للعلوم , فالسورة التي ليس في أولها حروف مقطعة لا تجد في وسطها أو آخرها حروفاً مقطعة .
الرابع عشر :الحروف المقطعة من علم الغيب .
ومن البيان في هذه الحروف المقطعة صبغة الإحتجاج على الكفار التي تتجلى في ثناياها ، والنطق بها ، وهو المستقرأ من حال العرب عند سماعهم وتناقلهم لها ، وعجز أساطين الفصاحة عن معرفة كنهها إلا أن هذا المعنى ليس مجرد اً بل كانت العرب تدرك أن لهذه الحروف معاني ودلالات وأنها مقدمة لعلو راية الإسلام .
ونضيف وجوهاً للمعاني الدقيقة والإشارات المترشحة عن الحروف المقطعة:
الأول : تشير الحروف المقطعة إلى بداية الدعوة الإسلامية , وكما تبدأ بعض السور بالحروف المقطعة ثم تأتي البشارة والإنذار وآيات الأحكام وعلوم الغيب ، فكذا الدعوة الإسلامية تبدأ ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرة أفراد من أهل البيت والصحابة ثم تتسع لتنفذ إلى شغاف قلوب الناس .
وتكون صفوف صلاة الجماعة للفريضة الواحدة لو جمعتها من مشارق ومغارب الأرض وجعلتها صفاً واحداً لكانت من اللامتناهي طولاً في آية بهيجة تدخل السرور على الملائكة وأهل السموات وتكون فخراً وأمناً وعزاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم القيامة ووثيقة عبور على الصراط المستقيم .
الثاني : هذه الحروف عنوان وإشارة بأن الأصل هو عدم وجود الإنسان في الأرض إذ هبط آدم وحواء إلى الأرض ليس معهما أحد من البشر , قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
فكذا نزول آيات القرآن فانها تنزل حروفاً مقطعة ثم تتوالى الآيات .
وليس من حصر لدقائق المعاني والمسائل التي تستنبط من الحروف المقطعة .
الثالث : التطلع لبيان يستحدث لمعاني هذه الحروف سواء في الزمن الحاضر أو في الأحقاب التالية خاصة مع الإرتقاء في العلوم المختلفة .
الرابع : إحتج الله عز وجل في القرآن في باب المثال باصغر المخلوقات كالبعوض والنمل والذباب كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا] ( )
فكذا في القرآن فانه سبحانه إحتج بالحروف المقطعة لبناء لغوي قائم بذاته يتضمن معاني من علم الغيب .
الخامس : من خصائص الآية التي تأتي إحتجاجاً على الكفار أن معناها لا ينحصر بهذا الإحتجاج بل هي مناسبة لتثبيت المسلمين في منازل الإيمان ، وحجة في أيديهم .
السادس : الحروف المقطعة مدد من عند الله للمسلمين ووسيلة لتفقههم في الدين ، وإتخاذهم لها حرزاً في حال السلم والحرب ، قال تعالى[وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا] ( ).
السابع : تبعث هذه الحروف الفزع والخوف في قلوب الكفار،لأمرين:
الأول : تخلف الكفار عن درك معاني الحروف المقطعة .
الثاني : تجلي حسن سمت المسلمين بها وتلقيهم لها والتصديق بها والشكر لله عز وجل على نعمة نزولها والإقامة عليها عن عقيدة وفقاهة والتدبر في البيان والوضوح الذاتي الذي تتصف به آيات القرآن.
الثامن : تلقي المسلمين الحروف المقطعة بالقبول والتصديق إعلان عام بأنهم يتلقون الأوامر القرآنية بالعمل بها ، والنواهي باجتناب ما نهى الله عز وجل عنه .
التاسع : دعوة الناس إلى إكرام القرآن ، وإجتناب الطعن فيه ليكون الناس بخصوص الحروف المقطعة على قسمين :
الأول : المسلمون الذين يؤمنون فيما يخص الحروف المقطعة بأمور :
الأول : إنها تنزيل من عند الله تعالى .
الثاني : الحروف المقطعة جزء من القرآن ، لأن كل ما بين الدفتين قرآن ووحي وتنزيل .
الثالث : الحروف المقطعة علم مستقل .
الرابع : إستدامة التحقيق في معاني ودلالات الحروف المقطعة .
الخامس : الثواب العظيم في قراءة كل حرف من الحروف المقطعة .
السادس : وجوب تعاهد الحروف المقطعة بصيغتها القرآنية ،وموضعها من السور التي جاءت فيها .
الثاني : أهل الكتاب وعموم الناس بأن ينظروا إلى الحروف المقطعة كجزء من القرآن الكتاب المعجز ، وأنها تفيد معنى إعجازياً مستقلاً ، وفيها ترغيب للتدبر في آيات القرآن .
السابع : موضوعية رسم الحروف المقطعة في القرآن .
الثامن : دخول الحروف المقطعة القرآنية في الحساب ،وحياة الأمم بالمعنى الأعم .
وعدد الحروف الهجائية في اللغة العربية تسعة وعشرون حرفاً ، أما الحروف الأبجدية فعددها ثمانية وعشرون حرفاً، والفارق أن الأبجدية تحتسب الألف والهمزة حرفاً واحداً .
بالنسبة للترتيب الأبجدي المشهور للحروف وهو ( أبجد ،هوز ، حطي ، كلمن ،صعفص ،قرشت ،ثخذ ، ضظغ ).
وذات الترتيب في اللغة العبرية ، إلا أنها تنتهي عند الحرف (ت) من قرشت .
وتزيد عليها العربية بالحروف (ث، خ، ذ، ض، ظ، غ ) لذا تسمى اللغة العربية لغة الضاد لإنفرادها به وصعوبة نطق غير العربي به ، وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: انا أفصح من نطق بالضاد)( )، وقال جمع من المحققين، كابن الجوزي وابن كثير لا أصل لهذا الحديث .
وهو صحيح دلالة بلحاظ نزول القرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوحي والحديث القدسي وإحاطة النبي بعلوم التنزيل وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ] ( ).
وهو من إسرار الإعجاز في المعنى والدلالة في لغة القرآن ونزوله باللغة العربية ومن مصاديق قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
وأسرار الحروف المقطعة أعم من أن تقف عند الحساب المتعارف للحروف وهو بالنسبة لآية البحث [الم]الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والآية كنز في حسابها وفي موضوعها ولا تختص بأيام مخصوصة .
ولعل لحساب الحروف أصلاً في خزائن وميراث النبوة ،ولكنه يحتاج إلى دليل وأستخدم في اللغات السامية ، وعند الهنود القدامى وإعتمده بعض علماء اليهود كما في قصة حي بن أخطب عندما سمع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتلو هذه الحروف ( ).
وإستخدمه الشعراء للإشارة في بيت الشعر فيؤرخوا واقعة أو موت ذي شأن .
ولجأ إليه أهل الكهانة والسحر .
والقيمة العددية لكل حرف من الحروف الأبجدية كالآتي :
الألف : 1 ،الباء : 2 ،الجيم : 3 ،الدال : 4 ،الهاء : 5 الواو: 6 ،الزاء : 7 ،الحاء : 8 ،الطاء : 9 ،الياء: 10 ،الكاف : 20 ،اللام: 30 ،الميم: 40 ،النون : 50 ،السين : 60 ،العين: 70 ،الفاء: 80 ،الصاد: 90 ،القاف: 100 ،الراء : 200 ،الشين: 300 ،التاء: 400 ،الثاء : 500 ،الخاء: 600 ،الذال : 700 ، الضاد: 800 ،الظاء: 900 ،الغين: ألف .
ومن إعجاز القرآن تعدد وتباين معني الحروف المقطعة بالذات والموضوع ، ومن البيان فيها أن بعضها قد يكون خطاباً خاصاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعضها للمسلمين وبعضها للناس جميعاً وتكون حجة أو مفتاحاً للعلوم وأنها سر من أسرار التأريخ وأيام الدول والملوك ، أو واقية من الأذى والضرر وسلاحاً في نشر معالم الدين ، ولا ينحصر موضوع الإنتفاع منها بالعلماء .
ولما إبتدأت سورة الفاتحة بصفات الرحمة من عند الله فان سورة البقرة إبتدأت الحروف المقطعة ولابد ان من معانيها ما يتعلق برحمة الله وعفوه ومغفرته ورضوانه لذا فان تلاوتها والتدبر فيها صلة مباركة بين العبد وبين الله عز وجل .
البيان في قوله تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( )
إبتدأت الآية باسم الإشارة للبعيد [ذَلِكَ] وكأنه في مقام البيان دعوة للناس جميعاً البعيدين عن الإيمان بالتدبر في معانيه ، أي ليس علوم الكتاب وحدها البعيدة في سمّوها وذخائرها ولكنهم إبتعدوا بأنفسهم عن القرآن والإيمان ، فلحقهم القرآن بدلالته وعلومه ويخبرهم الله عز وجل بأن القرآن من عنده سبحانه فينقضي الشك والريب ، قال تعالى [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
لقد نزل القرآن رحمة للناس ، وآية سماوية لإصلاح النفوس ونجاتها من داء الشك والريب الذي إذا إستولى على النفس ظهر بصيغ العناد والجدال ليكون من البيان في الآية الكريمة أمور :
الأول : بعث النفرة في النفوس من الكفر والضلالة .
الثاني : دعوة الناس للتدبر في آيات القرآن وجذبهم إلى الإسلام .
الثالث :إرادة حصول الوهن والضعف عند الكفار .
الرابع :فضح الذين يثيرون الريب والشك في نزول القرآن وتسفيه عقولهم ، وتحذير الناس منهم ومن إحتجاجهم على عمل المسلمين بالتنزيل والناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد ، وفي التنزيل [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ]( ).
الخامس : اسم إلاشارة للبعيد الدال على أن القرآن عون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في محاربته للكفر والشرك وعبادة الأوثان ، وهو من مصاديق ما ورد عن ابن عباس (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي . بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود ، وإنما كان النبي يبعث إلى قومه ، ونصرت بالرعب يرعب مني عدوّي على مسيرة شهر ، وأطعمت المغنم ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)( ).
فاسماء الإشارة الدالة على القرآن وعلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى البشارة بالجنة والوعيد بالنار رسل الإسلام إلى القبائل والأمصار ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ومن البيان في آية البحث أنها جاءت في أول سورة البقرة وهي أكبر سور القرآن وجاءت الأولى في نظم القرآن بعد سورة الفاتحة التي يتلوها كل مسلم ومسلمة مرات متعددة في اليوم الواحد وإبتدأت سورة البقرة بالحروف المقطعة لتجذب الأسماع للقرآن ليأتي بعدها اسم الإشارة , ويدل على البعيد الذي يفيد الإكرام والشأنية والتفخيم [ذَلِكَ الْكِتَابُ] .
ترى لماذا لم تقل الآية (هذا الكتاب ) خاصة وأن هذه الآية من ذات الكتاب.
الجواب من وجوه :
الأول : القرآن هو الكتاب المنزل من عند الله بلحاظ أن اسم الإشارة لحقيقة وهي أن الألف واللام للعهد وأن القرآن هو الكتاب المنزل وهو الجامع للأحكام .
الثاني : لو جمعت بين الكتب السماوية المنزلة لوجدت القرآن هو الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( ).
الثالث : دعوة الناس القاصي والداني للرجوع إلى القرآن والصدور عنه في أمور الدين والدنيا .
الرابع : لقد جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض وإن أختلف في مصداق الخلافة هل يتعلق بخصوص آدم أو إرادة معنى أعم , وفي التنزيل [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ومن خصائص الخليفة أن لا يستقل بالأمر بل يكون أميراً وإماماً تابعاً ، فجاءت آية البحث لتخبر بأن حاجة الخلافة والإنسان مطلقاً للقرآن وبالقرآن ، وفيه بيان للناس لماهية الخلافة وحاجتها للكتاب الذي جاء تاماً وجامعاً وقائماً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
الخامس :الثناء على المسلمين لأنهم إتبعوا الكتاب الذي أنزله الله عز وجل وهو القرآن ، وإستغنوا عن البعيد والقريب من الكتب ، (وعن عطاء بن يسار قال : كانت اليهود يحدثون أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسبحون كأنهم يعجبون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا { آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } ( ).
السادس : قد تقدم أن سورة الفاتحة إبتدأت بمضامين الرحمة والجلال لله عز وجل ، وفيه بعث للسكينة والأمل في نفوس المسلمين وجاءت بداية سورة البقرة بذات المعنى في اسم الإشارة [ذَلِكَ الْكِتَابُ] لما فيه من معاني الكفاية في القرآن ، ودفع الشك والوهم في أصل نزوله ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
السابع : في القرآن الأحسن والأكمل والأسمى ، وهو السلاح في الجدال والإحتجاج ، قال تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
وتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية أن الحجة والأحسن عند المسلمين على نحو العموم الاستغراقي بدليل لغة الخطاب فيها ، وما عند عموم المسلمين لا يتحصل إلا بالقرآن الذي يدخل كل بيت من بيوت المسلمين ، ويأخذ مساحة في قلب وذاكرة كل واحد منهم خصوصاً مع تلاوته على نحو الوجوب كل يوم في الصلاة .
الثامن : في القرآن أقسم الله عز وجل ببديع آياته الكونية , تعظيماً لبديع خلقه وللإستدلال بها على واسع قدرته وقديم سلطانه كما في قوله تعالى [وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا *وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا *وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا *وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَاوَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا]( ).
وتفضل الله وأقسم بأمور كونية عرضية ليس لها وجود مادي ثابت وهي أفراد الزمان في قوله تعالى [وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ *وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ *وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ *هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ]( )، وأثار بعضهم شبهة وهي كيف يقسم الله تعالى , والحالف على قوله متهم في صدقه ،وفي الإجابة عليها أمور :
الأول : القسم من عند الله في الآيات أعلاه ليس من القسم الإصطلاحي في علم الفقه وموضوعيته في حل النزاعات وفك الخصومات ، وهو أعم في دلالته وموضوعه إذ أن للقسم أربعة أركان وهي :
الأول : المقسم .
الثاني :المقسم به .
الثالث : المقسم عليه .
الرابع : أداء القسم .
وجاءت الآيات أعلاه بصيغة القسم ولكنها ليست منه حقيقة إنما هي للعبرة والموعظة ولبعث الرهبة ومعاني التعظيم في النفوس ، والتذكير بآيات الله عز وجل وأنه سبحانه الذي خلق هذه الآيات كشاهد حسي في الإخبار عن يوم القيامة.
ومن الأمثلة في كلام العرب ( قولُ هِجْرِسِ بنِ كُلَيْب حين رأى قاتلَ أَبيه : أَمَا وسَيْفِي وغَرَّيْهِ ورُمْحي ونَصْلَيْه وفَرَسِي وأُذُنَيْه لا يَدَعُ الرجلُ قاتِلَ أَبيه وهُوَ يَنْظُر إِلَيْه)( ).
والقسم واليمين والحلف بمعنى واحد ، وهو لفظ يعضد به الحالف قوله وشهادته وعزمه على الفعل والترك ، ولا ينعقد القسم إلا بذكر اسم من أسماء الله تعالى .
الثاني : لله عز وجل أن يقسم بمخلوقاته وفيه تذكير للناس بها كآيات بينات ، وليس للخلق أن يحلفوا بغيره سبحانه .
الثالث : في القسم القرآني إخبار عن إعجاز كوني وأن هذه المخلوقات التي يقسم بها الله عز وجل باقية يراها ويتدبر في أسرار وبديع خلقها كل جيل من الناس ليكون في ذكرها بصيغة القسم نوع تحد لبقائها وقهر لأعداء الله والذين يتبعون الطاغوت .
الرابع : قد وردت في الكتب السماوية السابقة صيغة القسم وجاء في مواضع من التوراة منها (حلف الرب بيمينه وبذراع عزته) ( )ومنه (بذاتي أقسمت ) ( ) وفي الزبور : {اقسم الرب ولا يندم إنك أنت الكاهن المؤيد تشبه مملكي صادق ، وقيل شبه المسيح برجل كاهن في زمن إبراهيم }( ) .
الخامس : من الآيات في القسم في القرآن أن الله عز وجل لم يقسم بحياة أحد من البشر إلا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ]( )،وفيه تشريف وإكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودلالة على أنه سيد البشر .
السادس : نزل القرآن بلغة العرب ، وجاء القسم في القرآن وفق منهج العرب بجعل موضوعية للقسم وإحضار لبيان صدق القول وإظهار المعنى وتعظيم المقسم به ، وإلا فالعرب يدركون أنهم كبشر أفضل وأسمى من الصنم الذي يقسم به .
السابع :كل الخلائق مستجيبة لله عز وجل ، وهو سبحانه [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
وجاء ذكر بديع مخلوقاته تعالى في القرآن بما يشبه القسم للتفكر في خلقها وإتخاذها واسطة لتسبيح الله وتقديسه والإستجارة به من الآفات وطوارق الليل والنهار ، وإدراك وجوب إجتناب الشرك بالله .
الوجة التاسع : اسم الإشارة في الآية الكريمة وسيلة سماوية لجذب الناس إلى الإيمان ، وهو ضياء مبارك للذين ركبوا جادة الضلالة والغواية ليعودوا إلى الصراط المستقيم ، وكل آية هي من فضل الله عز وجل لهداية الناس للتوبة والإنابة والصلاح .
العاشر : ورد في تفسير هذه الآية في هذا السفر : وتفيد مضامين التفخيم في اسم الإشارة[ذَلِكَ] ولغة التعريف في [الْكِتَاب] عدم بلوغ أي كتاب إلى منزلة القرآن السامية، وإن الكتب السماوية الأخرى أدنى رتبة منه وتلك حقيقة يدل عليها العقل والسمع والوجدان.
كما تدعو الآية في مفهومها إلى التوجه إلى القرآن ونبذ ما هو مخالف له في الغايات والمقاصد، إنها لغة سماوية في إكرام القرآن وتثبيت مفاهيمه وترسيخ أحكامه بين الناس) ( ) .
الحادي عشر : جاءت بشارات الأنبياء بالقرآن وأنه الكتاب الباقي إلى يوم القيامة ، فجاءت فاتحة سورة البقرة بالإخبار عن مصداق البشارة وتحقق الوعد الذي تطلع إليه الإنبياء والصالحون من أنصارهم وأتباعهم .
الثاني عشر :من الإعجاز البياني في الآية أن ذات الكتاب وهو القرآن يتضمن الإشارة إلى نفسه وذاته باسم الإشارة للبعيد لما فيه من الأسرار الملكوتية والذخائر السماوية التي يعجز الناس عن بلوغ مرتبة الإحاطة بها، بلحاظ أن ذات اسم الإشارة باق إلى يوم القيامة ، وهذا لا يمنع من التحقيق والتأويل وطلب الذي أكد عليه القرآن .
وورد ذكر القرآن باسم [الْكِتَابَ]وليس من كتاب غيره من جهات :
الأولى : جمع القرآن لأحكام الحلال والحرام .
الثاني : بيان القرآن لكل شيء، ولقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً ، وتفضل وأنعم عليه بالقرآن لقضاء حاجاته وفق الشريعة .
الثالث: ذلك الكتاب الذي يقود المصدقين بنزوله من عند الله ويعملون بأحكامه إلى جنان الخلد .
الرابعة : القرآن هو الإمام الذي يمنع من الخصومة والشقاق بين المؤمنين، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
الخامسة : ذلك الكتاب السماوي الذي يكون في كل زمان شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : في تلاوه القرآن كل حرف منه بعشر حسنات ، ففي لفظ [ذَلِكَ الْكِتَابُ]تسعون حسنة .
السابعة : ذلك الكتاب السماوي الذي يتضمن التصديق بالكتب السماوية السابقة ويدعو أهل الكتاب إلى تلقيه بالقبول والتدبر ،قال تعالى [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ] ( ).
الثامنة : القرآن هو البشارة التي يتوارثها أهل الكتاب ، ويتطلعون إلى زمانها حتى أشرقت الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسعة : القرآن ذلك الكتاب السالم من التحريف والتغيير والتبديل في كلماته وحروفه وآياته رسماً وعدداً وتلاوة .
العاشر : ذلك الكتاب الفيصل بين الناس في المنازعات , والسبب الذي يحول دون كثير من الخلافات والشقاق، والمانع من الفتن والإفتتان ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ]( ).
الحادي عشر : لقد ختم الله عز وجل النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضل وجعل القرآن هو الإمام الذي يلجأ إليه الناس ، وينير لهم سبل العمل ويهديهم إلى جادة السواء ويمنع من الزيغ وأسباب الهلكة ، قال تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ]( )، وفي لفظ النور في الآية أعلاه وجوه :
الأول : المراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإفادة الواو في الآية العطف والمغايرة والتعدد ،ومحق ببعثته الشرك .
الثاني : المراد الإسلام وأحكام الشريعة .
الثالث : القرآن ، لتكون الواو لعطف البيان .
الثاني عشر : القرآن هو الكتاب الذي لا يختلف فيه المسلمون مع أنهم أكثر الأمم.
وتتجلى موضوعية عدم الإختلاف في الكتاب المنزل من جهات :
الأولى : وقوع الخلاف بين الأمم السابقة من المسلمين ، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ] ( ).
الثانية : كان بين ظهراني الناس النبوة والكتاب فان إختلفوا في الكتاب المنزل على النبي السابق بعث الله عز وجل نبياً لاحقاً ، يرد الناس إلى الصراط المستقيم ، ويبين لهم منهج الحق ، ويرفع الشبهات ، ويمنع الخصومة والخلاف في الكتاب ، فلما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين أراد الله عز وجل عدم وقوع الخلاف بين المسلمين في القرآن وأحكامه .
الثالثة:غلق باب المغالطة على الكفار وإحتجاجهم بالخلاف بين المؤمنين في حال وجوده
الرابعة : التخفيف عن المسلمين وتقريبهم إلى منازل الهداية والإيمان وطرد الشك عن نفوسهم بالتنزيل .
الخامسة : ترتب الوهن والضعف والنقص في الأنفس والأموال على الفرقة والشقاق والحروب المترشحة عن الخلاف وشدته ، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوحيد في الربوبية والفناء في العبودية والخضوع له تعالى بما يمنع من الكفر والضلالة والخسارة المتفرعة عن الخصومات .
وعلة إنعدام الخلاف في المقام على وجوه :
الأول : تقديم المسلمين الأهم على المهم ، وأن أخوتهم في الله هي الأهم.
الثاني : تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات القرآنية ، ومجئ سنته القولية والفعلية مرآة للقرآن وبما يمنع الإختلاف فيه من بعده .
الثالث :من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] عدم حدوث خلاف بينهم في التنزيل وأحكامه .
الرابع : إمتناع القرآن بالذات عن حدوث الخلاف فيه .
الخامس: عصمة القرآن وتيسير بيانه للناس .
السادس: تفسير آيات القرآن بعضها لبعض .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق عدم وقوع الخلاف في القرآن ،قال تعالى [وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الرابع عشر : ذلك الكتاب الذي ينفرد بخصوصية وهي أنه لا يغادر تلاوة المؤمنين إلى يوم القيامة .
وهل تعاهد القرآن من مصاديق العبادة في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) .
الجواب نعم ، ليكون القرآن مصدر بركة وفيض على المسلمين والناس جميعاً .
الخامس عشر : ذلك الكتاب الذي يحفظ اللغة التي نزل بها من الضياع والتحريف والتبديل ، إذ تطرأ على اللغات تغييرات في الكلمات ونقل معانيها وغلبة إستعمال المجاز ، وتبدل أسماء كثير من الأشياء بتعاقب الأيام.
أما لغة القرآن وهي العربية فهي باقية بقواعدها وضوابطها ومعانيها إلى يوم القيامة ، وهو من رشحات أن اللغة التي علم الله عز وجل بها آدم في قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )هي اللغة العربية وهو المختار لأن الله عز وجل إذا أنعم على الناس بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها فتبقى ذات اللغة في القرآن .
وعلى هذا هل يبقى القرآن بين الناس بسبب أن لغة تعليم الله لآدم هي الوعاء اللغوي لحروفه ورسمه والنطق به ، أما بخصوص العلة التامة فلا يصح هذا القول ، وكذا لا دليل عليه حتى على نحو الموجبة الجزئية ، وجزء العلة ، لأنه باق لكونه كلام الله الذي جعله إماماً للناس ودستوراً للخلافة فيها .
السادس عشر : هو الكتاب الذي يجعل الذي يعمل به من الأبرار ويرزق حسن العاقبة ، قال تعالى [كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ]( )، ليكون قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ] ، ترغيباً بالجنة ، ودعوة للسعي إليها بالعمل بسنن القرآن .
السابع عشر : القرآن هو البينة التي جاءت إلى الناس ففضحت الشرك وأماتت البدعة وحجبت الناس عن إعانة الطاغوت وأرباب الكفر ، لقد جاءت قريش في معركة أحد بثلاثة آلاف مقاتل ، وخاضت معركة ضارية مع المسلمين ولم تتحمل فيها الخسائر الجسيمة مثل معركة بدر ، ثم عادت قريش بعد أقل من سنتين بعشرة آلاف مقاتل وأحاطوا بالمدينة المنورة وإمتلأت قلوبهم بالذعر والخوف من إقتحامها وعادوا منكسرين خائبين ، ويرجح أن الجنود فيها لم يكونوا مؤمنين بالمعركة ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فقد دخل أولاد ونساء المشركين الإسلام ، وصارت آياته تتلى في منتدياتهم وبيوتهم .
وجاء كبراء قريش بالناس بصيغ المكر والحيلة والطمع وإحياء الأحلاف والعهود لتنكسر وتذهب أدراج الرياح على مشارف المدينة من غير أن يظهر للملأ سبب مادي جلي يجعلهم يرجعون خائبين إلا المدد من عند الله ،وهو في المقام على وجوه :
الأول : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( ).
الثاني : إظهار المسلمين أعلى مراتب الطاعة لله ورسوله عند حصار قريش للمدينة الذي إستمر أكثر من عشرين يوما ً.
الثالث: بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين وإلا فان المسلمين في شدة وضيق وعناء ومشقة وإرهاق من الحصار إلى جانب شدة البرد .
الرابع : خفوت أصوات المنافقين ، وسكوت الذين كانوا قد تواطئوا مع قريش في هجومهم مع أنهم يسكنون أطراف المدينة .
ويدل على عدم إندفاع جيش المشركين للقتال أنهم إنسحبوا من غير علة ، و ارتحلوا وولوا الأدبار بعد أن تركوا خلفهم فارسهم عمرو بن ود العامري جثة هامدة وقد قتله الإمام علي عليه السلام ، وعن حذيفة بن اليمان الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عيناً على المشركين : قال أبو سفيان: إنكم والله لستم بدار مقام؛ لقد هلك الخف والكراع، وأجدب الجناب، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، وقد لقينا من الريح ما ترون! والله، ما يثبت لنا بناءٌ ولا تطمئن لنا قدر، فارتحلوا فإني مرتحل. وقام أبو سفيان، وجلس على بعيره وهو معقول، ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائم، فما أطلق عقاله إلا بعد ما قام. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلي: ” لا تحدث شيئاً حتى تأتي ” ثم شئت، لقتلته. فناداه عكرمة ابن أبي جهل: إنك رأس القوم وقائدهم، تقشع وتترك الناس؟ فاستحيى أبو سفيان فأناخ جمله ونزل عنه، وأخذ بزمامه وهو يقوده، وقال: ارحلوا! قال: فجعل الناس يرتحلون وهو قائمٌ حتى خف العسكر، ثم قال لعمرو ابن العاص: يا أبا عبد الله، لابد لي ولك أن نقيم في جريدةٍ من خيلٍ بإزاء محمدٍ وأصحابه، فإنا لا نأمن أن نطلب حتى ينفذ العسكر. فقال عمرو: أنا أقيم. وقال لخالد بن الوليد: ما ترى يا أبا سليمان؟ فقال: أنا أيضاً أقيم. فأقام عمرو وخالد في مائتي فارس، وسار العسكر إلا هذه الجريدة على متون الخيل.
قالوا: وذهب حذيفة إلى غطفان فوجدهم قد ارتحلوا، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره. وأقامت الخيل حتى كان السحر، ثم مضوا فلحقوا الأثقال والعسكر مع ارتفاع النهار بملل، فغدوا إلى السيالة. وكانت غطفان لما ارتحلت وقف مسعود بن رخيلة في خيلٍ من أصحابه، ووقف الحارث بن عوف في خيلٍ من أصحابه، ووقف فرسان من بني سليم في أصحابهم، ثم تحملوا جميعاً في طريقٍ واحدة، وكرهوا أن يتفرقوا حتى أتوا على المراض ، ثم تفرقت كل قبيلةٍ إلى محالها.
الثامن عشر : القرآن هو الكتاب الذي يثبت إيمان المؤمنين ويفضح المنافقين ، ويزيد في عدد المؤمنين ، ويجعل عدد المنافقين في نقص مستمر وإنحسار لذات النفاق ، ولو كانت هنا إحصائية لعدد المنافقين سنوياً أيام النبوة ، أو أجريت دراسة إجمالية في هذا الموضوع لتجلت حقيقة وهي أن المنافقين كانوا في تناقص متصل كل سنة وكل شهر أيام النبوة وهو من أسرار إخفاء أسمائهم في القرآن ، وحتى النصوص وردت بخصوص رؤوس النفاق خاصة .
ففي سبب نزول قوله تعالى [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )،ذكر أنها نزلت في بن أبي سلول. رُوِيَ أن جَهْجَاهَ بنَ سعيدٍ أَجيرَ عمرَ نازعَ سِناناً الجُهْنَيَّ حليفَ ابن أبيَ واقتَتلا فصرخَ جَهجاهُ يا للمهاجرينَ وسنانٌ يا للأنصارِ فأعانَ جهجاهاً رجالٌ من فقراءِ المهاجرينَ ولطمَ سناناً فاشتكى إلى ابن أُبيَ فقالَ للأنصارِ لا تُنفقُوا الخ والله لئِن رجعنَا إلى المدينةِ ليُخرجَنَّ الأعزُّ منهَا الأذلَّ عَنَى بالأعزِّ نفسَهُ وبالأذلِّ جانبَ المؤمنينَ وإسنادُ القولِ المذكورِ إلى المنافقينِ لرضاهُم بهِ فردَّ عليهِم ذلكَ بقولِه تعالَى : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } أي ولله الغلبةُ والقوةُ ولمنْ أعزَّهُ من رسولِهِ والمؤمنينَ لا لغيرِهِم { ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } من فرطِ جهلِهِم وغرورِهِم فيهذُونَ ما يهذُون .
رُوِيَ أنَّ عبدَ الله بنِ أُبيَ لما أرادَ أن يدخلَ المدينةَ اعترضَهُ ابنُهُ عبدُ الله بنُ عبدِ الله بنِ أُبيَ وكان مخلصاً وقالَ لئِن لم تُقِرَّ لله ولرسولِه بالعزِّ لأضرِبَنَّ عنقَكَ فلمَّا رَأى منه الجِدَّ قال أشهدُ أنَّ العزةَ لله ولرسولِه وللمؤمنينَ فقالَ النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لابنهِ جزاكَ الله عن رسولِهِ وعن المؤمنينَ خيراً ) ( ).
و صيغة الجمع في الآية أخص ،وتحتمل وجوهاً :
الأول : صدور القول من أكثر من شخص .
الثاني : تكلم وتوعد ابن أبي سلول نيابة عن المنافقين .
الثالث : تعدد الواقعة التي قال فيها المنافقون بأنهم يخرجون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من المهاجرين والأنصار او المهاجرين وحدهم من المدينة .
الرابع : تصديق وتأييد المنافقين لقول أبي بن أبي سلول .
الخامس : تكرار القول من المنافقين في أزمنة متعاقبة خاصة وأن الآية جاءت بصيغة المضارع [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ] ( )، وقد يرد هذا القول بتقييد صيغة المضارع وتعيين أوان الإخراج بأنه عند الرجوع إلى المدينة.
والصحيح هو الثاني والرابع والخامس ، ويكون الأول في طوله ، وفيه شاهد بأن عدد المنافقين ليس كثيراً ولكن الله عز وجل بيّن بالتفصيل حالهم وقبح فعلهم ولزوم أخذ الحذر والحيطة منهم .
التاسع عشر : وجود حذف في الآية وتقديره على وجوه منها :
الأول : ذلك كتاب الفرائض ، لأن فيه بيان العبادات وشرائطها ، وفي الصلاة ورد قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ) .
الثاني : ذلك كتاب أصول وفروع الدين وأحكام الشريعة .
الثالث: ذلك كتاب الهداية .
الرابع : ذلك الكتاب المبارك .
الخامس : ذلك الكتاب الذي يحفظه المسلمون في صدورهم .
السادس : ذلك الكتاب الموصى به من عند الله .
السابع :ذلك الكتاب الذي أورثه الله عز وجل للمؤمنين لتبقى أجيالهم تتوارثه تركة علمية يداً بيد .
العشرون : ذلك الكتاب المعروف بين أهل الأرض قبل نزوله من جهات:
الأول : إخبار الأنبياء عنه .
الثانية : تصديق الكتب السماوية السابقة له .
الثالث : توارث أتباع الأنبياء للأخبار الخاصة بالقرآن وإحاطته بالعلوم والوقائع .
الحادي والعشرون : من البيان في [ذَلِكَ الْكِتَابُ] أن الأمم تنتظر القرآن فجاء بتحد وإعجاز يفوق المتصور في الأذهان ، ليكون مقدمة للنعم العظيمة التي ينالها المؤمنون في الآخرة بقوله تعالى [فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ] ( ).
الثاني والعشرون : لقد جعل الله الحياة الدنيا دار الحمد والثناء على الله عز وجل ، ونزول القرآن من أعظم النعم في تأريخ الإنسانية ليكون تقدير الآية ( ذلك الكتاب الذي يحمد الناس الله على تنزيله ) ومن الآيات أن منافع هذا التنزيل من اللامتناهي في أبواب متعددة مما يستلزم الثناء والحمد المتصل لله على نزول القرآن، وهو من وجوه البيان للناس ومصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ كبرى كلية وهي أن بيان القرآن لا يختص بالغير من الناس والجواهر والأعراض وعالم الأفعال، بل يشمل بيانه لنفسه ولآياته ومنه التفسير الذاتي و تفسير آيات القرآن بعضها لبعض .
ومن الإعجاز في التفسير الذاتي تعاضد عدة آيات في تفسير الآية الواحدة من القرآن .
الثالث والعشرون : تقدير الآية (ذلك الكتاب فيه آيات محكمات هن أم الكتاب ) وفيه ترغيب للناس بالقرآن وإقتباس العلوم منه والتدبر في آياته ودلالات كل آية .
وينحل اسم الإشارة (ذلك) إلى:
اولاً: ذا: اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
ثانياً : اللام: وهو حرف يفيد معنى البعد مبني على الكسر، لا محل له من الأعراب وإفادته البعد إصطلاحي نحوي مجمل، وإلا فانه في المقام يشير إلى الذات، فمن إعجاز القرآن أن معانيه اللغوية أعم من الإصطلاح النحوي، من جهات:
الأولى : دنو وقرب المشار إليه.
الثانية : اسم الإشارة من ذات المشار إليه، فالأصل هو الغيرية والتعدد بين اسم الإشارة والمشار إليه، إلا في القرآن فقد يكون اسم الإشارة من ذات المشار إليه، فلفظ (ذلك) من قوله تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ] من ذات الكتاب المشار إليه.
الثالثة : هذه الذاتية لا تتعارض مع معنى البعد في الصناعة النحوية لإرادة قصور الأوهام عن درك معاني الكتاب وكنوزه القدسية، والأصل في اسم الإشارة أنه يعود إلى ذات أو عرض مشاهد إلا أن العرب تتوسع فيه ويخرجون عن الأصل , فيؤتى بصفات البعيد بما يجعله كالمحاضر القريب وهل القول بإتحاد المشير والمشار إليه ، الجواب لا , لأن القرآن كلام الله عز وجل .
ثالثاً : الكاف: وهو حرف للدلالة على تضمن اسم الإشارة لغة الخطاب، وهو مبني على الفتح لا محل له من الإعراب.
ومع قلة كلمات الآية فان البيان فيها على أقسام :
القسم الأول : الإشارة بصيغة التفخيم للقرآن.
القسم الثاني : تسمية القرآن بأنه الكتاب وتحتمل النسبة بين الكتاب والقرآن وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي فالكتاب هو القرآن .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وأن الكتاب أعم من القرآن وأخرج الترمذي عن زيد بن أسلم « أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم ، لما هاجروا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أرملوا من الزاد ، فأرسلوا رجلاً منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله ، فلما انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمعه يقرأ هذه الآية { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين } فقال الرجل : ما الأشعريون بأهون الدواب على الله . فرجع ولم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال لأصحابه : أبشروا أتاكم الغوث ولا يظنون إلا أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوعده فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءة خبزاً ولحماً ، فأكلوا منها ما شاؤوا.
ثم قال بعضهم لبعض : لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته ، فقالا للرجلين : اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنا قضينا حاجتنا ، ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا رسول الله ما رأينا طعاماً أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به . قال : ما أرسلت إليكم طعاماً؟ فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم . فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ما صنع وما قال لهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ذلك شيء رزقكموه الله ) ( ).
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بين الكتاب والقرآن ، فالكتاب غير القرآن .
والصحيح فيما يخص آية البحث هو الأول ،وتقدير الآية هو ( ذلك القرآن لا ريب فيه ).
ترى لماذا جاءت الآية باسم الكتاب ،والجواب من وجوه:
الأول : إستحضار البشارات بنزول القرآن لورود بعضها بلفظ الكتاب .
الثاني : موضوعية الآيات والأحكام المكتوبة في القرآن .
الثالث : كفاية القرآن ككتاب يحتاج إليه الناس .
الرابع : الإشارة إلى صبغة السماوية للقرآن ، وتقدير الآية (ذلك الكتاب السماوي ).
الخامس : تأكيد صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل .
السادس : دعوة الناس للتدبر في آيات التنزيل والعناية بالمسمى وهو الكتاب المنزل من عند الله على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الإنشغال بالاسم .
السابع : لقد كان فريق من المليين يتوارثون البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما بعث من غيرهم كفروا بنبوته ، قال تعالى [وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ]( )، فجاء وصف القرآن باسم الكتاب ليكون الاسم الجامع للتنزيل .
الثامن : بيان فضل الله عز وجل على الناس بأن ما غاب عنهم من الكتب السماوية السابقة ، وما وصلته يد التبديل والتغيير ، ورد كاملاً من غير نقص أو زيادة في القرآن ، وهو من مصاديق قانون إذا أنعم الله على أهل الأرض نعمة فإنه أكرم من أن يرفعها .
التاسع : بيان رجحان القرآن رتبة على الكتب السماوية السابقة إذ ورد ذكره في آية البحث بصيغة الإطلاق ولغة العهد ، وقد ورد ذكر الكتب الأخرى مقيدة في آيات منها، قوله تعالى [قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ] ( ).
العاشر : من مصاديق بشارة الكتب السماوية السابقة بالقرآن أنها مقدمة له ، وتتضمن الشهادة برجحانه وكفايته وأنه جامع للأحكام .
الحادي عشر : من معاني لفظ الكتاب وجوه :
1-كل ما بين الدفتين .
2-الرسالة .
3-الصحف التي يضم بعضها إلى بعض ،قال تعالى [وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ] ( ).
4-الحكم .
5-التوراة.
6- الإنجيل .
7- الأجل والميقات .
8- صحائف الأعمال يوم القيامة ، قال تعالى [وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ] ( ).
9-ما فرض وما كتب ويجب العمل والتقيد به ، كما في قوله تعالى بخصوص أحكام عدة النساء [حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ] ( ).
10- الأجل ، والأوان المرتقب ، قال تعالى [وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ] ( ).
11- الكتاب هو اللوح المحفوظ .
القسم الثالث : نفي الريب والشك عن القرآن ليكون من إعجاز القرآن إجتماع التحدي والتخفيف في موضع واحد وموضوع أو حكم تتعلق به الآية ، فليس من كتاب سماوي مبشر به وجامع للأحكام إلا القرآن ، فلا يتسرب إلى نفوسكم الشك بتنزيله .
ويتجلى دفع الشك والريب عن النفوس بالإعجاز الذاتي في هذه الآية من جهات :
الأولى : مجيء اسم الإشارة بخصوص القرآن [ذَلِكَ الْكِتَابُ] .
الثانية : القطع والجزم بأن القرآن هو الكتاب الموعود والتنزيل السماوي الباقي بين الناس إلى يوم القيامة .
الثالثة : مجيء الإخبار السماوي عن كون القرآن هو الكتاب في أول سورة البقرة .
الرابعة : التحدي والإعجاز بكون القرآن هدى للمتقين ، وتجلي مصاديق هذا الهدى وزيادته في حياة المسلمين اليومية العامة .
لأن البشارات جاءت بالكتاب ، فان تعلق نفي الشك في الآية يكون في موضوعه ، فلا يأتي المعنى الخاص في المقام (ذلك القرآن لا ريب فيه ) بل يأتي العام وفيه مسائل :
الأول : التخفيف عن أهل الكتاب والناس جميعاً .
الثاني : تجلي لغة الوضوح في الموضوع والحكم .
الثالث: بيان قانون كلي في البشارة القرآنية وهو تغشيها وتوجهها للناس جميعاً لينتفعوا منها .
الخامسة : موافقة المصداق العملي بتنزه القرآن لما هو حاضر في الوجود الذهني عند أهل الكتاب والناس جميعاً فأخبار النبوة الخاتمة ونزول القرآن لم تكن محصورة باليهود والنصارى ، فقد كان فريق من مشركي قريش يعلمون بها ، وهذا العلم من جهات :
الأولى : بقايا الحنيفية الإبراهيمية .
الثانية : ما يخبر به أهل الكتاب وفعلهم الذي يدل على هذه البشارة كما في مجئ اليهود من الشام للسكن في يثرب إنتظاراً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : إكتساب قريش لأخبار النبوات من الأمم والشعوب التي يتصلون بها , كما في سفرهم للشام واليمن للتجارة , قال تعالى رحلة الشتاء والصيف.
موضوعية القرآن بتسمية [أَهْلَ الْكِتَابِ]
يتوارث المليون البشارة بالكتاب ،فيكون من إعجاز الآية ورود اللفظ بما يوافق الثابت عندهم في الوجود الذهني لتطابق الحقيقة مع عالم التصور المترشح عن وحي الأنبياء بنزول القرآن وبيان خصائصه ، وهذا الإعجاز من بيان القرآن ويتعلق اسم أهل الكتاب بالمليين من أتباع الأنبياء مثل النصارى وكتابهم الإنجيل ، واليهود وكتابهم التوراة ، وهل من موضوعية لتلقي البشارة بالقرآن في تسميتهم هذه ، وليكون مصداقها والمسمى أعم , ويشمل الموحدين ممن نسخ كتابهم أو لم يبق له أثر ويكون معنى تسميتهم أهل الكتاب على وجوه :
الأول : لأنهم أتباع الأنبياء ممن نزل عليهم كتاب من السماء ، وهذا هو أصل وموضوع التسمية .
الثاني : إيمانهم بالكتاب السماوي ، وأن الله عز وجل تفضل وأنزل الكتب السماوية من السماء ، وكأن لفظ (أهل ) وما فيه من العموم يفيد التعدد في ذات الكتاب .
الثالث :إنهم يعملون بالكتاب السماوي .
الرابع : تحمل أهل الكتاب مسؤولية توارث الكتاب السماوي والعمل به، بمعنى أن تسميتهم بأهل الكتاب لم تنحصر باتباعهم للكتاب الذي جاء به نبيهم بل لتلقيهم وتوارثهم البشارة بنزول القرآن، الجواب نعم.
الخامس : تلقي البشارة بالكتاب السماوي ، وهو على وجوه :
الأول : كل أمة من الموحدين تتلقى البشارة بالكتاب المنزل على النبي الذي يتبعون بتقريب وهو إرادة مراتب الوحي ، أو نزول شطر من الكتاب والتطلع للشطر الآخر .
الثاني : تتلقى كل أمة البشارة بالكتاب اللاحق لكتابهم وما عندهم من التنزيل فأهل التوراة يبشرون بالإنجيل ، وحملة الإنجيل يبشرون بالقرآن ، وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
الثالث : توارث الأمم البشارة بنزول القرآن .
الرابع : تبليغ كل أمة من المليين البشارة بالكتاب اللاحق وبالقرآن مع بيان خصوصية القرآن وأنه الجامع للأحكام .
والصحيح هو الأخير ، وتكون الوجوه الأخرى في طوله .
والقرآن هو الإمام في تسمية اليهود والنصارى أهل الكتاب لتبنى الصلات بين الناس على أسس عقائدية ، ولسلامة أتباع الأنبياء وبقائهم في ذمة الإسلام وعناية المسلمين بهم .
ويدل عليه قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ] كخطاب للناس جميعاً ، فلابد أن خبر نزوله عندهم ويتطلعون إليه ، وينتظرون نزوله ، وكأن الآية تقول لهم لقد تجلت نعمة الله وحلّ الزمان الموعود ، ونزل ما كنتم تنتظرون ولأن آيات سورة الفاتحة بدأت ببيان صفات الرحمة والعفو من الله عز وجل ، فان قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ] من مصاديق الرحمة بالناس جميعاً من وجوه :
الأول: تضمن لغة الإشارة في الآية معنى الخطاب والنداء ، وأطراف الإشارة هي :
الأول : الذي يقوم بالإشارة قولاً أو فعلاً أو كتابة ، وبالدلالة المطابقية أو التضمنية أو الإلتزامية ، وبالتصريح أو الكناية.
وعن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم الفتح ركب عكرمة بن أبي جهل البحر هارباً ، فخب بهم البحر فجعلت الصراري أي الملاح يدعون الله ويوحدونه . فقال : ما هذا؟ قالوا : هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله ، قال : فهذا إله محمد الذي يدعونا إليه فارجعوا بنا ، فرجع فاسلم .
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين ، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة( )، وفيهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي إختبأ عند عثمان، الذي جاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: يارسول الله بايع عبد الله، فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى فبايعه بعد الثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقدم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله، قالوا: وما يدرينا يارسول الله ما في نفسك، ألا أو مات إلينا بعينك؟ قال: إنه لايتبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين( ).
الثاني : أداة الإشارة والتي تتضمن البيان ومعنى العلامة والدلالة مثل هذا ،هذه ،ذلك ،هؤلاء .
الثالث : الموضوع المشار إليه من الذوات والجواهر والأعراض والأمور الحسية أو العقلية .
الرابع : الذي يتلقى الإشارة ،وقد يكون الموضوع مبهماً أو مجملاً عنده وكل اسم إشارة في القرآن رحمة من عند الله سواء كان المراد منه البشارة أو الإنذار ، وهو مناسبة للتفقه في الدين ، ويمكن تأسيس علم يسمى (علم الإشارة في القرآن.
ومن إعجاز القرآن وإكرامه أن أول اسم إشارة فيه جاء بخصوص ذات القرآن وبالاسم الجامع للتنزيل وهو الكتاب وكما جاءت أول الأسماء في القرآن خاصة بالله عز وجل كما في سورة الفاتحة فان آية البحث جاءت بأمور هي الأولى في موضوعها في القرآن ،وهي :
الأول: الحروف المقطعة وهي (الم ) كما في الآية السابقة .
الثاني : اسم الإشارة ، وتعلقه بالقرآن تنزيلاً وموضوعاً .
الثالث : معنى التفخيم في اسم الإشارة .
الرابع : إرادة القرآن باسم الكتاب ودلالاته أنه ليس من كتاب بعده ، وانه لا يحتاج إلى كتاب آخر غيره.
الخامس : إنتفاء الشك والريب في القرآن .
السادس : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الهدى)وكل آية فيها تهدي إلى الإيمان والصلاح ، وتفضل وجعل الآيات في الدنيا من اللامتناهي والذي لا يحصيه إلا الله عز وجل ، ومنها الآيات الكونية التي يعجز البشر عن معرفتها والإحاطة بها وبعددها وأسرارها ، ومن الآيات ما يكون حالاً أو عرضاً طارئاً أو قضية شخصية ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( )، وكل آية في القرآن تتضمن مصاديق متعددة من الهدى ،وإبتدأت الآيات التي تتضمن لفظ (الهدى ) بخصوص القرآن وأنه رشاد وصلاح وإرتقاء في منازل الإيمان والتقوى .
وكأن الآية تتضمن في بيانها عاماً وخاصاً معطوفاً عليه ، بتقدير توجه الخطاب والإشارة وما فيها من النفع إلى الناس جميعاً في قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ]ثم جاء الخاص بالإخبار عن هداية القرآن للمتقين .
وهل يدل قوله تعالى [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] على إختصاص المتقين بالهداية بالقرآن وآياته ،الجواب لا .
فمن أسرار الإشارة للقرآن بأنه الكتاب بيان إنفراده بهداية المتقين في ذاته وآياته ورسمه وتبيانه لكل شيء ، فليس من كتاب يهدي المتقين مثل القرآن ، وكما حاربت النبوة الطواغيت، وفضح الأنبياء كذبهم وعتوهم ، وبيّن التنزيل سوء عاقبتهم ،جاءت هذه الآية لتؤكد أن كل كتاب لا يرقى إلى القرآن في الهداية والإصلاح ، لأن القرآن يهدي الذين بلغوا مرتبة التقوى ولا يهديهم غيره وإلى يوم القيامة ، فمن باب الأولوية أنه الكتاب الذي يهدي الناس جميعاً .
عندما تاب الله عز وجل على آدم عليه السلام بعد إستغفاره عن الأكل من الشجرة ، أمر الله عز وجل بهبوط آدم وحواء وإبليس ، وقال الله تعالى [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى] ( )، وقد تفضل الله عز وجل ووفى بوعده وأنزل القرآن .
وجاءت الآية بلفظ الكتاب لتأكيد حقيقة وهي أن الهدى بالكتاب متصل منذ أيام آدم عليه السلام والأنبياء من بعده ، ثم نزل الكتاب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليستقر صرحاً سماوياً إلى يوم القيامة في الأرض .
لذا وقف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة قائماً على باب مكة ، وقال : (لا إله إلا الله وحده وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ) ( ) ،لتدل آية البحث [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( )، على إنجاز وعد الله عز وجل في إتيان الكتاب والهدى الذي وعد الله عز وجل آدم وحواء ليكون وعداً لذريتهما إلى يوم القيامة تجلى ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن ، وهو من الدلائل على سلامته من التحريف لأنه هدى من الله تعجز الخلائق عن تبديله أو تغييره .
القسم الرابع : بيان الآية لقانون وهو أن القرآن هدى للمتقين، وفيه ثناء على القرآن وعلى الذي يتلقونه بالتصديق والعمل بأحكامه.
البيان في[ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]
يقال هدَى يهدي ، إهد، هَدىّ وهدياً وهداية فهو هاد، وفي التنزيل[ووَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى] ( )، والمفعول هو مهدي ليكون تقدير الآية (المتقون مهديون ) وفي الآية شهادة للمسلمين بالفوز بالهداية والإرشاد من عند الله عز وجل .
ويقال هداه إلى الطريق وللطريق أي بينّه له ، وأرشده إليه .
وبينما جاءت بذكر الهدى كحال يحل في محل ، وصبغة مباركة تأتي للمتقين فان ذات مرتبة التقوى نالها المؤمنون بالقرآن وأحكامه وحسن الإنقياد لله ورسوله .
وجاء الهدى في آيات أخرى محلاً وعنواناً للإيمان كما ورد في التنزيل [وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا]، (وعن ابن عباس : أن ناساً من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن نتبعك يتخطفنا الناس ، فأنزل الله تعالى[وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا] ( ) ( ).
وقد هَداه هُدًى وهَدْياً وهِدايةً وهِديةً وهَداه للدِّين هُدًى وهَداه يَهْدِيه في الدِّين هُدًى( ).
وورد بصيغة الاسم في القرآن (125) مرة أولها في نظم القرآن آية البحث وورد بصيغة الفعل الماضي (37) مرة أولها قوله تعالى [وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ]. وورد بصيغة الفعل المضارع في (49)موضعاً ، أولها قوله تعالى [يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ] ، وجاء بصيغة فعل الأمر في ثلاث مواضع أولها [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم]
ليكون من إعجاز القرآن من وجوه :
الأول : مجيء مادة الهدى في فاتحة الكتاب
الثاني : ورود أول ألفاظ الهدى بصيغة الدعاء والمسألة .
الثالث : ورود لفظ [اهدِنَا] بصيغة الجمع ، وفيه شهادة بانقطاع المسلمين إلى الله عز وجل ورجائهم لرحمته ، وأنهم لم يسألوا الدنيا وزينتها ، ولكنهم سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم ، فجاءت آية البحث بالاستجابة لدعاء المسلمين وزيادة من فضله ، إذ أن بلوغ مراتب التقوى يتجلى بالصراط المستقيم ، فكما نال المسلمون مرتبة المتقين فقد صدق عليهم أنهم إهتدوا وأن الله عز وجل إستجاب لهم دعاءهم ، وتفضل الله عليهم في آية البحث وأخبر فيها عن أمور :
الأول : بلوغ المسلمين مرتبة التقوى
الثاني : مجيء القرآن بالهدى للمسلمين بعد نيلهم التقوى ، ليكون القرآن واقية من دبيب ما هو ضد التقوى والصلاح
الثالث : الوعد الإلهي بتجدد مصاديق الهدى للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي والبدلي بالقرآن الكريم
ويحتمل لفظ المتقين في الآية وجوهاَ:
الأول : إرادة خصوص أهل التقوى ومراتب الإخلاص في الإيمان من المسلمين لتكون النسبة بين المسلمين والمتقين هي العموم والخصوص المطلق، فكل متق هو مسلم وليس العكس .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين المسلم والمتقي .
الثالث: إرادة نسبة التساوي بين المسلمين والمتقين في آية البحث .
الرابع : بين المتقين والمسلمين عموم وخصوص مطلق، فالمتقون هم الأكثر ليشمل أهل الكتاب والذين يروق لهم الإسلام أو يرومون دخوله ممن تملأ نفوسهم الخشية من الله عز وجل عند سماع آيات القرآن والتدبر في دلالتها، قال تعالى [لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (المائدة/82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ]( ).
والصحيح هو الثالث ، وتقدير الآية( هدى للمسلمين ) وقد جعل الله الإنتماء للإسلام ميسراً، فالنطق بالشهادتين والتصديق بالتنزيل من مصاديق التقوى، التي تحمل في المقام على صرف الطبيعة في الأهلية لتلقي الهدى.
وفيه بيان وحجة على الناس بأن الذي يخشى الله عز وجل يطيعه ويصدق بأنبيائه وكتبه ، وفي خطاب للمسلمين قال تعالى [وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
وأخبرت آية البحث عن هداية القرآن للمسلمين على نحو التعيين ، وتحتمل بخصوص غير المسلمين وجوهاً :
الأول : تشمل الهداية بالقرآن أهل الكتاب .
الثاني : القرآن هدى للناس جميعاً .
الثالث : يفيد الإخبار في آية البحث التعيين وحصر هداية القرآن بالمسلمين ،ويخرج أهل الكتاب بالتخصص للمائز الذي يتصفون به وهو وجود كتاب عندهم وإتباعهم لأحد الأنبياء ، كما في إتباع اليهود لموسى عليه السلام ، والنصارى لعيسى عليه السلام ، ويخرج غيرهم بالتخصيص فليس من كتاب سماوي عندهم .
الرابع : ليس من ضابطة كلية في إنجذاب الناس للإيمان وإنصاتهم للقرآن وتدبرهم في معانيه ودلالاته ، فقد يهتدي بالقرآن جماعة من أهل الكتاب أو من غيرهم ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ). وتدل الآية أعلاه على تعليق دخول الناس الإسلام بالنصر والفتح على نحو الحصر لعمومات تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، والجواب فيه وجوه: الأول : دخول الناس جماعات وأفواجاً للإسلام مترشح عن نصر الله والفتح جموداً على النص . الثاني : دخول الناس أفواجاً بتحقق فتح مكة وغيره من أسباب الهداية، ومنها نزول القرآن والمعجزات النبوية. الثالث :الوارد لا يخص المورد فدخل ،ويدخل الناس جماعات وأفواجاً قبل الفتح وبعده . والصحيح هو الثاني والثالث ، وجاءت سورة النصر لبيان فضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار والمسلمين جميعاً باعلان قبائل وأفواج من الناس الإسلام على نحو دفعي ومرة واحدة لتكون بداية تغيير نوعي مبارك في إعتقاد وحياة الناس ، وهذا الدخول الدفعي من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بأن تكون خلافة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض سبباً ووسيلة لجذب الناس إلى الإسلام والتسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وإختيارهم الأخوة الإيمانية ، ولم يأت النصر والفتح للمسلمين إلا بفضل الله عز وجل وتأييده ونزول المدد الملكوتي لهم ، قال تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ). وليس من حصر لأسباب نصر المسلمين ، وذات النصر وكل سبب ومقدمة له بيان للناس وموعظة وسبيل هداية ،ويحتمل أثر وموضوعية القرآن في النصر ودخول الناس أفواجاً وجوهاً : الأول : سور القرآن مجتمعة سبب للنصر . الثاني : كل آية من القرآن لها أثر في تحقيق النصر ودخول الناس جماعات في الإسلام . الثالث : كل آيات متعددة في موضوع متحد لها أثر مستقل في نصر المسلمين ودخول الناس أفواجاً . الرابع : آيات القرآن لها موضوعية في تحقيق النصر دون دخول الناس في الإسلام افواجاً. والصحيح هو الثاني ،وهو من معاني البيان لكل آية قرآنية ،ولفظ البيان اسم فاعل وأثره عام ومتجدد ، ومصاديق آية البيان وإخبارها عن كون القرآن هدى للمتقين بتقريب من جهات : الأول : الآية إنحلالية وتقديرها بخصوص الآية الواحدة من القرآن ( هذه الآية هدى للمتقين ) ( ). ويحتمل هدى القرآن المذكور في قوله تعالى [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] وجوهاً : الأول : إنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فمنهم من يتلقى تمام الهداية بالقرآن وآياته ، ومنهم يهتدي بالقرآن على نحو الموجبة الجزئية لتأتي الآيات الكونية ونصر المسلمين والفتح المذكور في سورة النصر المذكورة أعلاه ليكتمل إيمانه . الثاني : الهدى بالقرآن من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة ، لينال المسلمون أعلى مراتب الهدى بآيات القرآن وتلاوتها . الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق بين المسلمين وغيرهم ، فالمسلمون يهتدون كمؤمنين ومتقين ، وغيرهم من الناس يهتدون إلى الإسلام . والصحيح هو الأول والثالث ويتعلق سبب التباين بالتلقي وإلا فان الهداية التي يختص بها القرآن ليس لها حد ، وهو من مصاديق نعت القرآن بأنه الكتاب، وإرادة المعنى الأعم في الهداية والإصلاح . ومن أسرار آية البحث التناسب الطردي في حالات : الأول : توالي نزول آيات القرآن . الثاني : تعاقب الأيام والسنين على المسلم وهو يؤدي الفرائض ويعمل بأحكام القرآن . الثالث : الإرتقاء في مراتب التقوى بآيات وأحكام القرآن . ومن مفاهيم قوله تعالى [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] إنعدام الأذى والضرر من القرآن ، سواء بخصوص الذين يعملون به أو الناس جميعاً وهو من مصاديق التحدي والإعجاز في آية البحث إذ تخبر بأن القرآن خير محض ، ونفع متجدد ، إذ أن الهدى مطلوب بذاته وهو مقدمة ونوع طريق للإرتقاء في مراتب الرفعة ونيل حاجات الدنيا والآخرة ، فالهدى كنز تنفتح به خزائن المعرفة ،ويأتي به الجاه والمال والشأن والأهم منها وهو السعادة الأبدية في الآخرة . ولقد جاء الأنبياء السابقون بالمعجزة الحسية , وأتى نوح عليه السلام بالسفينة آية للطوفان ، وموسى بالعصا ، وكان عيسى يحيى الموتى ويبرء الأكمه والأبرص ، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاء بالمعجزة العقلية الخالدة وهو القرآن ، وفيه بيان معجزات الأنبياء الحسية ، ففي ناقة صالح ورد قول الله تعالى خطاباً لصالح [إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ] ( ). وجاءت السنة النبوية بياناَ وتفسيراً للقرآن وقصصه لتكون عبرة وموعظة ورد عن الإمام الباقر علية السلام قال : ان رسول الله صلى الله عليه وآله سأل جبرئيل : كيف كان مهلك قوم صالح ؟ فقال : يا محمد ان صالحا بعث إلى قومه وهو ابن ست عشر سنة فلبث فيهم حتى بلغ عشرين ومائة سنة لا يجيبوه إلى خير ، قال : وكان لهم سبعين صنما يعبدونها من دون الله ، فلما رأى ذلك منهم قال : يا قوم انى قد بعثت اليكم وانا ابن ست عشر سنة ، وقد بلغت عشرين ومائة سنة ، وانا أعرض عليكم امرين ان شئتم فسلونى حتى اسأل الهى فيجيبكم فيما تسئلونى ، وان شئت سألت الهتكم فأجابتنى بالذى اسئلها خرجت عنكم فقد شنئتكم وشنئتمونى فقالوا : قد انصفت يا صالح فاتعدوا اليوم يخرجون فيه ، قال : فخرجوا بأصنامهم إلى ظهرهم ، ثم قربوا طعامهم وشرابهم فاكلوا وشربوا ، فلما ان فرغوا دعوه إلى ظهرهم ، ثم قربوا طعامهم وشرابهم فاكلوا وشربوا ، فلما ان فرغوا دعوه فقالوا : يا صالح سل فدعا صالح كبير أصنامهم فقال : ما اسم هذا ؟ فأخبروه باسمه ، فناداه باسمه فلم يجب فقال صالح : ما له لا يجيب ؟ فقالوا له : ادع غيره فدعاها كلها باسمائها فلم يجبه واحد منهم فقال : يا قوم قد ترون قد دعوت أصنامكم فلم يجبنى واحد منهم فسلونى حتى ادعو الهى فيجيبكم الساعة ، فأقبلوا على أصنامهم فقالوا لها : ما بالكم لا تجبن صالحا ؟ فلم تجب ، فقالوا : يا صالح تنح عنا ودعنا وأصنامنا قليلا ، قال : فرموا بتلك البسط التى بسطوها وبتلك الآنية وتمرغوا في التراب وقالوا لها : لئن لم تجبن صالحا اليوم لنفضحن قال ثم دعوه فقالوا : يا صالح تعال فسلها فعاد فسئلها فلم تجبه ، فقال : انما اراد صالح ان تجيبه وتكلمه بالجواب : فقال لهم : يا قوم هو ذا ترون قد ذهب ـ صدر ـ النهار ولا أرى الهتكم تجيبنى فسلونى حتى أدعوا الهى فيجيبكم الساعة ، قال : فانتدب له منهم سبعون رجلا من كبرائهم وعظمائهم والمنظور اليهم منهم فقالوا : يا صالح نحن نسئلك ، قال : فكل هؤلاء يرضون بكم ؟ قالوا : نعم فان أجابوك هؤلاء أجبناك ، قالوا : يا صالح نحن نسئلك فان اجابك ربك اتبعناك واجبناك وتابعك جميع أهل قريتنا فقال لهم صالح : سلونى ما شئتم ، فقالوا : انطلق بنا إلى هذا الجبل وكان الجبل جبل قريب منه حتى نسئلك عنده قال : فانطلق ـ معهم الصالح ـ فانطلقوا معه ، فلما انتهوا إلى الجبل قالوا : يا صالح سل ربك أن يخرج لنا الساعة من هذا الجبل ناقة حمراء شقراء وبراء عشراء، قال : قد سألتمونى شيئا يعظم على ويهون على ربى ، فسأل الله ذلك فانصدع الجبل صدعا كادت تطير منه العقول لما سمعوا صوته ، قال : فاضطرب الجبل كما تضطرب المرأة عند المخاض ، ثم لم ثم خرج ساير جسدها ثم استوت على الارض قائمة ، فلما رأوا ذلك قالوا : يا صالح ما أسرع ما أجابك ربك ، فسله أن يخرج لنا فصيلها قال : فسأل الله ذلك فرمت به فدب حولها فقال لهم : يا قوم أبقى شئ ؟ قالوا : لا انطلق بنا إلى قومنا نخبرهم ما رأينا ويؤمنوا بك ، قال : فرجعوا فلم يبلغ السبعون الرجل اليهم حتى ارتد منهم أربعة وستون رجلا وقالوا سحر وبقيت الستة وقالوا : الحق ما رأينا ، قال : فكثر كلام القوم ورجعوا مكذبين الا الستة ; ثم ارتاب من الستة واحد ، فكان فيمن عقرها ( ). ومن الإعجاز في قوله تعالى [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] بلحاظ آية البحث أمور: الأول : بيان سعة رحمة الله بالناس، فيعرض الكافر عن الدعوة إلى الإسلام ولكن الله عز وجل لم يتركه وشأنه بل جعل البيان يأتيه في كل آية من القرآن، والإبتلاء يحيط به ذكرى وموعظة وبياناً. الثاني : الوجوب العيني على كل مكلف ومكلفة بالتصديق بالكتاب ونزوله من عند الله ، ومن الآيات أن القرآن بذاته يتضمن الدلائل العقلية على صدق نزوله ، ويدعو الناس إليه وإلى الصدور عنه ،وهو من عمومات البيان في آية البحث . الثالث : إستدامة حاجة المؤمنين والناس جميعاً للهداية من عند الله ، وتوالي فضله فليس من مرتبة في الكمال العقائدي يبلغها العبد إلا بفضل من الله وإن بلغها كما في حال الأنبياء فان إستدامة بقائه فيها بفضل وهداية من عند الله . وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ). فلم تقل الآية أعلاه (أوحى إلي) بل جاءت بصيغة المضارع لبيان إستدامة الوحي وما فيه من الرأفة والرحمة بالناس لأنه بيان محض وهدى للمؤمنين . الرابع : الهدى في آية البحث أعم من المعنى العقائدي وإمتلاء النفس بالإيمان ، فقوله تعالى [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] يشمل وجوهاً : الأول : التفقه في الدين ومعرفة الحلال والحرام . الثاني : تعاهد مفاهيم وسنن التقوى وصيرورة الإيمان أمراً مستقراً في النفس وعالم الأفعال . الثالث : التقيد بأداء الفرائض من جهة أوانها وكيفيتها وتفاصيلها . الرابع : إتخاذ المتقين القرآن إماماً في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . الخامس : التنزه عن مفاهيم الضلالة . السادس : التآزر والتعاون والمناجاة بين المؤمنين في سبل الخير والصلاح، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)( ). السابع : إشاعة مفاهيم الرحمة والإحسان بين المسلمين والناس جميعاً، طاعة لله ورسوله وإرادة للثواب ، وليكون الإحسان مقدمة لأداء الناس للفرائض والعبادات , ولباساً في الرأفة بالعبيد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إِخْوَانُكُمْ مَلَّكَكُمُ اللَّهُ رِقَابَهُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مِنَ العَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُونَ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ، فَأَعِينُوهُمْ”)( ). الثامن : الهدى في الجهاد في سبيل الله والدفاع عن بيضة الإسلام وعن الثغور ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا]( ). التاسع : القرآن هدى إلى سبل الصلاح وفعل الخيرات وإكتناز الحسنات . العاشر : صيرورة لسان المسلم مرآة للتقوى . الحادي عشر : أراد الله عز وجل للقرآن أن يكون هدى ومخرجاً في الشدة وسبيلاً للنجاة من الفتنة . الثاني عشر : القرآن هدى إلى التوبة والإنابة وهو مدرسة الإستغفار والبعث إليه ، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( ). ويحمل الأمر في الآية أعلاه على الوجوب وهو مركب من وجوه : الأول : لزوم المبادرة الفورية إلى التوبة والإنابة. الثاني : من معاني المسارعة إلى التوبة المبادرة إلى أداء الفرائض ومقدماتها وفي ترديد فصول الأذان بشارة المغفرة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد ان لا اله الا الله قال أشهد ان لا اله الا الله ثم قال أشهد ان محمدا رسول الله قال أشهد ان محمدا رسول الله ثم قال حى على الصلوة قال لا حول ولا قوة الا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة الا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر قال لا اله الا الله قال لا اله الا الله من قلبه دخل الجنة)( )، والآية أعلاه إنحلالية ، والمراد توجه كل مسلم ومسلمة إلى صيغ التوبة. الثالث : إرادة عمل الصالحات، والإجتهاد في سبل التقوى، قال تعالى [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]( ). الثالث عشر : البصيرة في أمور الدين والدنيا ، فقد جعل الله وعز وجل القرآن جامعة للعلوم ، وأصلاً تقتبس منه القوانين ، وتستنبط منه العلوم والمسائل . الرابع عشر : لما تضمنت سورة الفاتحة الدعاء من المسلمين بسؤال الهداية بقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ). إبتدأت سورة البقرة بالإستجابة لسؤال المسلمين بنزول القرآن ليكون هدى إلى الصراط المستقيم سواء الصراط الحسي أو المعنوي والدنيوي أو الأخروي لإرادة الإطلاق في معنى الصراط . وهو من الإعجاز أن المسلمين يقرأون سورة في الصلاة لتكون هذه القراءة مصداقاً للإلحاح في الدعاء ، وتفضل الله عز وجل بالإستجابة . الخامس عشر : الهدى هو الإسلام وهو النعمة العظمى ،قال تعالى [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ] ( ) . السادس عشر : الفطنة والحكمة في تصريف أمور الحياة اليومية والمعاملات والصلات مع الناس ، قال تعالى [وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ] ( ). السابع عشر : الهداية إلى الأخلاق الحميدة بلحاظ أن الإيمان إعتقاد وملكة في النفس تعصم المسلم من الزلل وإرتكاب المعصية ، وجاء الهدى من عند الله ليتحلى المسلمون بالأخلاق الفاضلة ويتعاهدون الأرحام بالصلات الحميدة ، قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صنائع المعروف تقي مصارع السوء)( ). الثامن عشر :من الهدى الذي ينعم الله به على المتقين التنزه عن ذمائم الأخلاق كالكذب والغيبة والنميمة ، وتنفذ آيات القرآن إلى قلوب المسلمين فتمنع من طرو الندب السوداء إلى القلب المملوء بالتقوى والخشية من الله، وهو من مصاديق عدم إجتماع الضدين ببركة هدى القرآن. التاسع العشر : كل فرد من أفراد الهدى نعمة عظيمة ، والعبد يحتاج لها في كل آن من حياته ، وقد تكون حاجته للهدى في آخر أيامه في الدنيا أشد وأكثر منها في باقي الأيام ، وفي دعاء يوسف عليه السلام ورد في التنزيل [تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ]( ). الرابع : إتيان الفرائض والحرص على اقامة الصلاة وإتيان الزكاة وعدم التسويف فيها . الخامس : جذب الناس إلى منازل الإيمان والتقوى . السادس : الإكثار من قول أستغفر الله ربي وأتوب إليه، (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أحب أن تسره صحيفته، فليكثر فيها من الإستغفار) ( ). السابع : العمل بأحكام القرآن ومضامين آياته . الثامن : التحلي بالصبر والعفو عن الناس رجاء الفوز بالمغفرة والعفو من عند الله . التاسع :الأحسان وإظهار الأخلاق الحسنة . الثالث عشر : القرآن هدى للمسلمين بتنمية ملكة الحلم وكظم الغيظ عنهم. الرابع عشر : الإجتهاد بالدعاء وسؤال الحاجات من عند الله عز وجل . الخامس عشر : الإيمان بالملائكة والنبوة والإقرار باليوم الآخر ، والإستعداد له ، لذا جاءت الآية التالية في بيان صفات المتقين بقوله تعالى [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( ). السادس عشر : الملازمة بين التقوى والصدق والتنزه عن الكذب . السابع عشر : البذل والإنفاق في سبيل الله سواء كان الإنفاق واجباً أو مستحباً. الثامن عشر : من خصال المتقين الإنقطاع إلى الله عز وجل بالشكر والثناء عليه للنعم المتصلة عليهم أفراداً وجماعات . التاسع عشر : المواظبة على ذكر الله وإتخاذه سلاحاً لطرد الغفلة وبرزخاً دون الجهالة ، وحرزاَ من أسباب الشك والريب ، ليكون تقدير آية البحث ( ذلك الكتاب لا ريب فيه بذكر الله ) ، فتنزيل الكتاب علة للذكر ، والذكر علة لإنتفاء الشك في تنزيله . لقد خصت الآية المتقين من بين الناس بالهدى والموعظة بآيات القرآن وتنزيله ، وثواب التقوى في الآخرة معلوم عند المليين وهو اللبث الدائم في الجنة . ترى ما هي منافع التقوى في الحياة الدنيا ، الجواب من وجوه : الأول : الأمن والسلامة من الأعداء، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( ). الثاني : تلقي مراتب من الهدى بالتقوى ، الذي تدل عليه آية البحث [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]. الثالث : بالتقوى ينكشف الهمّ ، وتخفف العوائق التي قد تحول دون بلوغ الغايات الحميدة ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] ( ). الرابع : ملازمة القول السديد ، والنصح للمسلمين وإغاثة اللهوف . الخامس : التقوى سبيل لمحو السيئات ، ورفع المكاره والآفات ، وملجأ من الأمراض والأدران ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] ( )، بتقدير أن المسلم يسعى بالتحلي بالتقوى لدفع ومحو الضرر ولتثبيت النعم والبركة . السادس : التقوى واقية من الركون للقوم الظالمين، وسلاح لمعرفة كيدهم ومكرهم ، وحرز لإجتناب إتخاذهم بطانة . السابع : تبين التقوى لذات المتقين وللناس جميعاً القبح الذاتي للمعصية والإستكبار والجحود . الثامن : من خصائص التقوى أنها زينة وضياء يشع على الجوارح والأركان . وتظهر في عالم الأفعال بما يبعث الطمأنينة في النفوس من المتقي، قال تعالى [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ]( ). التاسع : ترشح الخشوع على سيماء المؤمن لتقوم التقوى بالخشية من الله , وإنطفاء نار الشهوة وقهر النفس الغضبية ، ويحتمل الخشوع بلحاظ بدن الإنسان وجوهاً : الأول : تعلق الخشوع والخشية من الله بالقلب على نحو الخصوص. الثاني : الخشوع هو إخبات الأركان والجوارح وإنكسارها في حضرة الربوبية . الثالث :تجلي الخشوع بالسلوك وعالم الفعل . الرابع : الخشوع ملكة ترسخ في النفس . الخامس : الخشوع صبغة في القلب وحلية تزين الجوارح، وتترشح في عالم الأفعال وخلق حميد مستقرأ من الكتاب والسنة. وعن زيد بن أرقم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعوة لا يستجاب لها( ). والصحيح هو الخامس ، وهو من رشحات البيان في القرآن ، ومنافعه في وجود أمة مؤمنة يصعد منها الدعاء بصيغ المسكنة والخضوع لله عز وجل لتنزل البركات على أهل الأرض وهذا النزول من البيان في وجوب طاعة الله والإنقياد إلى أوامره والتسليم بربوبيته ، وفيه آية بأن بيان القرآن متفرع في ذات القرآن وآياته ، وفي حياة المؤمنين والناس جميعاً ليكون سبباً لتعاهد مقامات التقوى ودعوة الناس للتدبر في بيان القرآن والإيمان بالتنزيل . وهل التدبر في القرآن واجب أم مستحب أم مباح . الجواب هو الأول ، وقد ورد موضوع التدبر بالنص في ثلاث آيات، وفيها مسائل : الأولى : كل آيات التدبر الثلاثة خاصة بفهم وفقه ذخائر القرآن والتبصرة في معانيه ودلالاته . الثانية :جاءت آيتان منها بذات اللفظ [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ] ( ) . الثالثة : يتجلى الوجوب ببيان غاية التنزيل في قوله تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ). ومصاديق التدبر أعم وأعظم من أن تحيط بها الأذهان ، وتبقى تتعدى عالم المحسوسات ومنها : الأول : منطوق كل آية من القرآن . الثاني : كل شطر وجزء من الآية , فقد يكون أول الآية في شيء ووسطها في شيء ، وخاتمتها في أمر آخر . الثالث : أسباب نزول الآيات . الرابع : نزول القرآن نجوماً وليس دفعة واحدة . الرابع: التنزيل مدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى يوم الدين. الخامس : البيان في القرآن . الخامس : إتصاف البيان القرآني بأنه من اللامتناهي . السادس : أسرار علم الغيب . السابع : التدبر في قصص الإنبياء وإتخاذها موعظة , قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ). الثامن : التدبر في منهاج المسلمين العبادي ومصاديق تفضيلهم وجعلهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ). التاسع : التدبر في البشارات والإنذارات في القرآن . العاشر : علة وغاية البشارة القرآنية ،وعلة وغاية الإنذار القرآني . الحادي عشر : هداية القرآن إلى صراط المستقيم وتجلي مصاديق الصراط . الثاني عشر : كفاية بيان القرآن بخصوص عالم الآخرة والتدبر فيه يقود الإنسان إلى النجاة من هول المطلع، بلحاظ أنه مقدمة للعمل الصالح . الثالث عشر : ذكر الآيات الكونية في القرآن ونعتها بالبينات دعوة للناس للتدبر فيها . الرابع عشر : التدبر في وجوب شكر الله عز وجل على عظيم النعم وثواب هذا الشكر وصيرورته سبباً للزيادة في ذات الأمر الذي يتعلق به الشكر وفي غيره ، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ). الخامس عشر : التدبر في عظيم قدرة الله وإطلاقها في الخلق والإستدامة والزيادة والنقصان فيه. السادس عشر : التدبر في إحياء الأرض وزراعتها وما يخرج عنها من الثمار التي تحقق رغائب كل الناس في طعمها ومذاقها وكميتها وتجددها وتعدد أنواع كل صنف منها كانواع التمور والرز والحنطة ، وقيل تصل أنواع الرز إلى أكثر من الفين واربعمائة صنف، منها في الهند وحدها ألف ومائة صنفاً. السابع عشر : نظام الحياة في الكائنات من الدواب وعالم الطير ، مع أنها فاقدة للعقل ، وفضل الله في تعاهدها في رزقها وسلامتها والحيلولة دون إنقراضها ، قال تعالى [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ]( ). الثامن عشر :حضور المشيئة الإلهية ، وقهرها للموجودات وإستجابة الخلائق لمشيئة الله . التاسع عشر : التدبر في آيات نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورة المسلمين أمة عظيمة ينتشر أفرادها في أرجاء الأرض لا يخلو مصر أو بلد منهم ، وسيأتي يوم لا تخلو قرية في الأرض من المسلمين وأفراد يؤدون الصلاة ويصومون شهر رمضان مع التآخي مع أهلها, ويتوجهون من قراهم إلى حج بيت الله الحرام ، ويعلم الناس جميعاً أنهم يهتفون في الديار المقدسة ( لبيك اللهم لبيك .لبيك لا شريك لك لبيك). العشرون : التدبر في نظام آيات القرآن التي تؤسس وتضبط نظام الأسرة وفك الخصومة بين الزوجين وتندب إلى النكاح والتيسير في أحكامه وقرب الطلاق مع بيان مبغوضيته الذاتية ، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما من شيء احب إلى الله عزّ وجلّ من بيت يعمر في الاسلام بالنكاح ، وما من شيء أبغض إلى الله عزّ وجلّ من بيت يخرب في الاسلام بالفرقة ، يعني الطلاق( ). الحادي والعشرون : التدبر في حق الحضانة في الإسلام وهو حق مركب للولد حتى يبلغ ، وللأم ، وللأب والأمة جميعاً ، على المختار , قال تعالى [لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ]( )،وما في الحضانة من سلامة للصبي ذكراً كان أو انثى ، وحصانة للمجتمع من الآفات الأخلاقية ، والحضانة مقدمة وتأهيل للجيل اللاحق ليرث الفرائض العبادية وسنن الآيات . وتتضمن الآية نعت المسلمين بثلاث صفات : الأولى : المسلمون هم الأمة التي تتلقى الكتاب والتنزيل . الثانية : إتصاف المسلمين بالهداية ، وترشح الصلاح عن هدى القرآن. الثالثة: بلوغ المسلمين مرتبة التقوى ، والتنزه عن المعصية ، وتقدير الآية ( ذلك الكتاب لا ريب فيه للمهتدين المتقين ) ليجمع المسلمون بمنطوق هذه الآية بين الهدى والتقوى ، وكل فرد منها مفقود عند الأمم الأخرى مع أنه حاجة لها ، وإذ كانت مرتبة التقوى حلّ معها الهدى وزينها وصار حصناً لها ، فهل من مرتبة أخرى غير الهدى تحل عليها منفردة أو متحدة مع التقوى ، نعم ليس من برزخ بين الناس وبين صفات الحسن المترشحة عن الإيمان. وجاء الثناء على القرآن والمسلمين في هذه الآية ترغيباً للناس ، وبين البيان والترغيب عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق . وفي البيان القرآني الكشف والترغيب والزجر ، الترغيب بسنن الهداية ، والزجر عن المعاصي والسيئات . ترى لماذا لم تقل الآية ( ذلك الكتاب لا ريب فيه تقى للمهتدين ) . الجواب من جهات : الأولى : بين الهدى والتقوى عموم وخصوص مطلق ، فالهدى أعم في موضوعه وتشمل عالم القول والفعل والتبصر في الأشياء ، وعواقب الأمور. الثانية : تتضمن آية البحث الإخبار عن الإرتقاء بالقرآن إلى مقام وراثة الأنبياء. الثالثة :لقد جعل الله عز وجل الآيات الكونية والبراهين السماوية وتعاقب الليل والنهار ، والحياة والموت سبباً للتقوى وتأتي آيات القرآن للتقوى وزيادة الهدى . الرابعة : أراد الله عز وجل هداية المسلمين إلى مناهج الفلاح وسبل الثواب والإقامة الدائمة في الجنة. وذكرت مادة (وقى) مائتين وست وثلاثين مرة تتضمن موارد الصلاح والإقرار بالعبودية لله عز وجل والعمل بطاعته وإتقاء ما يؤدي إلى الهلكة ومقدماتها من المعاصي والسيئات ، والجنة والنار من مصاديق الغيب الذي لا تكشفه الحواس , ولكنه يعلم بالدليل والبرهان , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ]( ). وإعادة الشيء أيسر من الإبتداء فيه وإيجاده , وهو الإحتجاج الذي يبينه للناس قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ]( ). ويتقوم الإستدلال العقلي بالبرهان والدليل والخطابة والجدل , وكل فرد منها يسمى في إصطلاح علم المنطق بالصناعة . ولم ينحصر الإستدلال في القرآن بها ، بل جاء بالدليل الحسي والآية الحسية وعلوم الغيب والحجة التي تخاطب النفس الإنسانية والفطرة وهو من مصاديق قوله تعالى [فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] ( )، بتقريب أن روح الإنسان تدرك ما لا تدركه الخلائق الأخرى في الأرض من وجوب عبادة الله واللجوء إليه والحاجة إلى رحمته ، فجاء القرآن لهداية الروح إلى وظائف النفس. ومن البيان للناس وهدايتهم إلى سبل الرشاد في بداية القرآن أمور : الأول : ذكر القرآن , وأنه الكتاب الجامع للأحكام . الثاني : لغة القطع والجزم وتعيين موضوع الجزم وهو أن القرآن كلام الله قال تعالى [إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌوَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ]( )، وفي لغة القطع هذه بيان للناس بأن القرآن هو إمامهم في الدنيا والآخرة ،ويجب عليهم الصدور عنه ، والرجوع إليه وليس لهم العروض أو الإعراض عنه ، وفيه رحمة بالناس جميعاً وإخبار بأن المسلمين أئمة الناس في العمل في أحكام القرآن ، ودعوتهم لإمامته .
الثالث : الثناء على الذين يخشون الله بالغيب , ومن الإعجاز أن الآية لم تذكر كأمة مخصوصة من الأمم وبالاسم ، بل جاءت الآية بصفة المتقين ليتدبر الناس في أحوال الأمم ، ومعرفة الأمة التي تنطبق عليها صفات المتقين وأن أفرادها يشتركون بكل صفة من صفات الحسن وصدق العبودية لله المذكورة في هذه الآيات .
الرابع : بيان تفضل الله عز وجل بإعانة الناس في صلاحهم ورشادهم بهدايتهم بالقرآن , وليس من حصر لوجوه الهداية بالقرآن منها :
الأول : إرادة الهدى في العبادات وكيفيتها وضروبها وأوانها .
الثاني : المقصود الهدى بخصوص عالم الدنيا والنهج القويم .
الثالث: بيان موضوعية تلاوة القرآن والإستماع له في تحصيل الهداية ، والقرآن هو الآية والمعجزة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ) .
الرابع : زيادة هدى المسلمين، وثبات الإيمان في صدورهم بالقرآن وتلاوته والتدبر فيه، وإستحضار آياته عند الحوادث والوقائع , كما في قول تعالى عند المصيبة[إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
وفي أفراد الهدى الذي يأتي بالقرآن للمتقين وجوه منها :
الأول : الهدى في سبل الإيمان .
الثاني :الهدى في ضروب البيان .
الثالث : تثبيت المسلمين في مقامات التقوى .
الرابع : التفقه في الدين .
الخامس : الصلاح في أمور الدين والدنيا .
الخامس : الهدى في معرفة أخبار الأمم السابقة والإتعاظ منها ، مع تعدد صيغ وطرق هذه الهداية .
السابع : إقتباس الهدى بالتدبر في آثار الدول والحضارات والأمصار ، قال تعالى [فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
الثامن : التوقي بالقرآن من الضلالة .
التاسع : الهدى بتلاوة القرآن .
العاشر : إقتداء المسلمين بالأنبياء ، وإتخاذ قصصهم عبرة ، قال تعالى[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ] ( )، وقال تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ]( )، وفيه آية بأن تأتي التلاوة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين والناس جميعاً وهو من مصاديق صيغة العموم في البيان القرآني .
الثاني عشر : القرآن هدى للمتقين , ليهدوا الناس إلى القرآن والتصديق به .
الثالث عشر : الهداية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابع عشر : تهدي آيات القرآن المسلمين إلى تعاهد منزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس عشر : في القرآن هدى للمسلمين لمعرفة المنافقين .
السادس عشر : من فضل الله وسعة رحمته بالناس أنه وعد الناس بالهدى، قال سبحانه [إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى] ( )، وإبتدأ القرآن بالإخبار عن هداية المتقين بالقرآن.
وبين الآية أعلاه وآية البحث عموم وخصوص مطلق ، فالهدى من عند الله أعم إذ يشمل الهداية بالآيات الكونية والشمس والقمر والليل والنهار والآيات في النفوس وغيرها ، وإن كان القرآن يذكرها ويبينها بما يجعل الناس جميعاً يتعظون منها .
السابع عشر : في القرآن هدى لأداء الفرائض وهدُى بذات الفرائض ، وهدُى مترشح عنها وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )،بتقريب أن تعدد الهداية ومصاديقها في الموضوع الواحد نعمة عظيمة من عند الله .
الثامن عشر : يهدي القرآن المسلمين لهداية الناس ، وجذبهم لسبل الفلاح والنجاح .
التاسع عشر : الهداية إلى التمسك بالقرآن وأحكامه وعدم الخروج عن أوامره ونواهيه.
العشرون : يؤدب القرآن المسلمين لحسن التوكل على الله ، واللجوء إليه ، والإستجارة به ، قال تعالى [وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
الحادي والعشرون : ما في القرآن من البشارة والإنذار هدى للمسلمين.
الثاني والعشرون : من الهدى للمتقين في القرآن زيادة تقواهم لتكون حياتهم الإيمانية بياناً عملياً وإعجازاً غيرياً للقرآن .
الثالث والعشرون : القرآن هدى وبيان لعالم الآخرة وهو الوسيلة للنجاة من أهوالها ، والبلغة للفوز بنعيمها .
المعنى المتعدد للفظ المتحد في القرآن :
ومن إعجاز القرآن أن معاني الهدى متعددة ومتشعبة، ولا يحيط بها معنى لغوي لها ، وكأن القرآن تأسيس لقواعد وقوانين جديدة في العربية ، من دون إبتعاد أو تجافي عن المعنى الأصلي واستعمال العرب لها حقيقة ومجازاً ، ويشهد الشعر والتأريخ العربي على عدم خروج كلمات القرآن عن اللسان العربي لبيان قاعدة كلية وهي إستقراء معنى اللفظ القرآني من أمور :
الأول : معنى اللفظ والكلمة في اللغة العربية .
الثاني : استعمال العرب للفظ .
الثالث : موضع الكلمة من الآية القرآنية التي تأتي فيها .
الرابع : آثر الكلمة ومفهومها الذي يتجلى في ذات الآية والآيات المجاورة لها .
الخامس : معنى ذات الكلمة في آيات القرآن الأخرى .
السادس : موضوعية أسباب نزول الآية في معرفة معنى الكلمة الواحدة منها من غير ترك للمعنى اللغوي ومفاهيم الكلمة .
السابع : الجامع المشترك لمعنى الكلمة في القرآن .
الثامن : الغايات الحميدة لذات اللفظ في القرآن والتي تتجلى بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
التاسع : بيان السنة النبوية لمعنى اللفظ والكلمة الواردة في القرآن .
العاشر : موضوعية قانون إمتناع التعارض في معاني اللفظ القرآني .
فمثلاً ورد قوله تعالى [لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (الشورى] ( )، وورد قوله تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ] ( )، وفي الجمع بينهما مسائل:
الأولى : تثبيت هداية الدلالة والإرشاد في الآية الأولى أما الآية الثانية أعلاه فتتعلق بهداية التوفيق والإلهام .
الثانية : تقييد الإطلاق الوارد في قوله تعالى [لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ) ، فلا تكون الهداية بحسب المحبة الشخصية بل بأذن الله .وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] ( ) .
الثالثة : تقييد الآية أعلاه بآية البحث ليكون تقديرها ( إنك لتهدي الى صراط مستقيم بالكتاب ) .
الرابعة : إن خلق الإيمان ، وإنشائه في النفس وإنشراح الصدر لإستقراره فيه لا يقدر عليه إلا الله ، عز وجل ،(عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . قلت : يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب؟! قال : نعم . ما من خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله ، فإن شاء الله أقامه ، وإن شاء أزاغه . فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب . قلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي . قال : بلى . قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني) ( ).
خصال المتقين بيان للناس :
لقد أنعم الله عز وجل على الأنسان وجعله خليفة في الأرض وإحتجت الملائكة [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ) ، وجاء الرد من عند الله عز وجل يتضمن الدحض والإبطال لهذا الإحتجاج [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ، ليكون وعداً كريماً من عند الله لصلاح الإنسان للخلافة وهذا الوعد بيان للناس ، ويحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة آدم عليه السلام على نحو التعيين وأن الله سبحانه يعلم أهليته وصلاحه للخلافة .
الثاني : المقصود معاشر الأنبياء وتعاقبهم في الأرض ، والوعد لهم بالمدد والإعانة على مقام الخلافة .
الثالث : مصاحبة الوعد الإلهي للمؤمنين في كل زمان ومكان وإلى يوم القيامة .
الرابع : تغشي منافع الوعد الإلهي ذراري المؤمنين (عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وذريته وولده ، فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك ، فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به) ( ).
الخامس : شمول الوعد الإلهي المستقرأ من قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] جميع أهل الأرض .
والمختار هو الأخير بخصوص الوعد بالنبوة والتنزيل والبيان كما في آية البحث [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] .
قانون كل آية هدىّ للمتقين
لقد إبتدأت سورة البقرة بعطاء وفضل من الله مفتوح وغير محدود للمؤمنين وبذات الخصلة الحميدة التي يتصفون بها وهي الهداية والتقوى لتكون الآية من إعجاز القرآن من جهات :
الأول : الوعد الكريم بالهدى .
الثاني : مجيء الهدى نافلة وزيادة من عند الله .
الثالثة : ترشح الهدى عن القرآن ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : ترشح الهدى عن نزول القرآن وبيان موضوعية ذات نزوله ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الثاني :مصاحبة الهدى لتلاوة القرآن .
الثالث : وجود القرآن بين ظهراني المسلمين هدى .
الرابع : عمل المسلمين بأحكام القرآن هدى .
الخامس : الإشارة إلى القرآن في هذه الآية بقوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ] .
السادس : تعاهد آيات القرآن وحفظ المسلمين لها وتوارثهم جيلاً بعد جيل من الهدى الذي تفضل الله عز وجل به على المسلمين .
السابع : التحلي بخصال مستحدثة من الهدى تطل على أهل الأرض ببركة نزول القرآن .
الثامن : النافلة والزيادة في ذات خصال التقوى التي يتصف بها المسلمون ، بزيادتهم إيمانأ إلى إيمانهم ، وصبراً إلى صبرهم .
التاسع : تلقي المسلمين آيات القرآن بالعمل بمضامينها وأحكامها .
العاشر : عدم صدور المسلمين إلا عن هدىّ القرآن .
الحادي عشر : تجلي معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين ، بلحاظ المعنى الأعم لمتعلق الزيادة في الهدى .
الثاني عشر : التقوى ملكة في النفس ، والهدى سيرة وفعل في سبل الصلاح ، قال تعالى [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] ( ) .
الثالث عشر : هداية المتقين بعضهم لبعض ، وهدايتهم للناس ببركة القرآن وإتباع ما فيه من الأوامر وإجتناب نواهيه .
الرابع عشر : من الهدى إنشراح الصدر بالإسلام والإرتقاء في منازل التقوى دفعة واحدة ، وعن ابن عباس قال : ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسير ساره ، إذ عرض له أعرابي فقال : والذي بعثك بالحق لقد خرجت من بلادي وتلادي لأهتدي بهداك وآخذ من قولك فاعرض علي ، فأعرض عليه الإِسلام فقبل ، فازدحمنا حوله فدخل خف بكره في ثقب جردان ، فتردى الأعرابي فانكسرت عنقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أسمعتم بالذي عمل قليلاً وأجر كثيراً هذا منهم؟ أسمعتم بالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم هذا منهم) ( ).
الخامس عشر : ما في القرآن من الفرائض والواجبات العبادية ، فكل فرد من أفراد الصلاة اليومية سبب للهداية والصلاح ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ والمنكر]( )، وكذا بالنسبة لفريضة الصيام والحج والزكاة والخمس في النهي عن الفواحش .
السادس عشر : من خصائص الكتاب السماوي أنه متجدد للذين يؤمنون به ، إذ ورد بخصوص التوراة قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ]( )
وهل البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الهدى في التوراة .
الجواب نعم ، وكذا من الهدى الذي في القرآن التصديق بنبوة موسى وهارون عليهما السلام ونزول التوراة .
السابع عشر : لقد صاحب الهدى الإنسان في وجوده في الأرض بالآيات الكونية والتنزيل ، وتفضل الله عز وجل وجعل القرآن الكتاب الباقي إلى يوم القيامة فخصه بالهدى المتجدد والدائم ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ) .
وتقدير الآية أعلاه بلحاظ آية البحث هو الذي أرسل رسوله بالقرآن ويمكن تأسيس علم جديد وتأليف مجلدات في تفسير هذه الآية بلحاظ أن كل آية من القرآن هي هدى للمتقين .
ويتم التحقيق وإستنباط المسائل والمواعظ منها بتقدير ( هذه الآية هدى للمتقين ) فتبدأ من البسملة ومضامين الهداية فيها ، ثم آية الحمد لله رب العالمين ، ثم آيات سورة الفاتحة والبقرة وآل عمران إلى سورة الناس فكلما شرعنا بهذه الأجزاء في وجوه البيان في كل آية من القرآن إقتباساً من قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) ، فكذا في آية البحث.
ومن إعجاز القرآن أن تكون أول آيات سورة البقرة إنحلالية في تفسيرها وتتغشى آيات القرآن في علومها ، ولها في كل آية موضوعية ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها جاءت في ذات المعنى فمع إخبارها بأن القرآن بيان للناس فانها أخبرت عن كونه هدىّ وموعظة للمتقين وهو الذي ورد بقوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ) .
وتضمنت الآية أعلاه من سورة آل عمران الإخبار عن كون القرآن بياناً للناس جميعاً .
ومن وجوه البيان في القرآن أنه هدىّ للمتقين ليكون فيه ترغيب بالإيمان ، ودعوة للناس للانتفاع الأمثل والتام من القرآن .
وذات آية البحث هدى للمتقين من وجوه :
الأول : معاني التنبيه وإرادة القرآن في أول اسم إشارة في القرآن ومنها دعوة المسلمين لتلقي كلام وعهد الله في الأرض ، وأمانة السماء في صدورهم وبين أيديهم ,وهل أحسن المسلمون حفظ الأمانة ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق هدايتهم بالقرآن وللقرآن ومن عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
الثاني : تسمية القرآن بالكتاب وفيه هداية للمسلمين بالإستغناء به ، وعدم التوجه إلى غيره من الكتب وسنن الأخبار .
الثالث : تأكيد عدم نزول كتاب بعد القرآن وهو من معاني ودلالات اسم الإشارة (ذلك ) .
الرابع : الإخبار عن الهداية بالقرآن هدىّ ورحمة للمسلمين وغيرهم ، وفيه تخفيف عن المسلمين في بيان دلائل التنزيل والجدال مع الناس ، وليس كل الذي يجادل يبطن العداوة والرياء ، فمنهم من يطلب الحكمة ويسعى للبرهان، وإقامة الحجة عليه، لذلك قال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ، ومن أسرار قوله تعالى [لاَ رَيْبَ فِيهِ] بلحاظ البيان للناس أمور :
الأول : الإطلاق في خلو آيات القرآن من الريب وعصمتها على الشك فكل آية خالية من الشك والريب ، وفيه شاهد على سلامة القرآن من التحريف والتغيير والتبديل .
الثاني : العموم في إنتفاء الريب من القرآن وآياته بين الناس ، فلا يدخل الريب والشك إلى نفس الإنسان من القرآن وتنزيله ، وإن دخله فانه لا يستقر بل يكون شبهة بدوية تزول بأدنى تأمل ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن .
الثالث : الإمتناع الذاتي للقرآن من أسباب الريب والشك اذا جاء ذكر الريب في القرآن بصيغة الشرط .
ولغة التحدي التي تدل بالدلالالة التضمنية على نفيه، قال تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ] ( )، واللازم باطل فكذا الملزوم فالريب في المقام لا موضوع له.
ومن الإعجاز والبيان في آية البحث أنها أول آية في القرآن تذكر صنفاً من الناس فقد ذكرت آيات القرآن المؤمنين والمسلمين ، والمنافقين ، وأهل الكتاب ، واليهود ، والنصارى ، والمجوس والصابئة والكفار وقوم الأنبياء السابقين، وقد يرد ذكر المتعدد منهم في آية واحدة كما في قوله تعالى [وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُود*وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ *وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ] ( ) .
وقد تجمع الآية الثناء على طوائف من المؤمنين في دلالة على سعة فضل الله بحيث تكون كل كلمة منها وصفاً كريماً لمصداق من مصاديق التقوى كما في قوله تعالى [التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين] ( ).
وإبتدأ القرآن بذكر المتقين في آية البحث وبقصد كفاية هدايتهم بالقرآن ، وفيه آية إعجازية , وبيان للناس من جهات :
الأولى : نزول القرآن رحمة بالناس .
الثاني : التقوى أصل الصلاح وغايته، فالمسلمون متقون ويأتيهم الهدى ليثبت أقدامهم في منازل التقوى .
الثالث : التقوى أسمى الخصال .
الرابع : دعوة الناس جميعاً لإختيار التقوى والتحلي بخصالها الحميدة في القول والفعل الشخصي والنوعي .
البيان في العطف في هذه الآية
لما إبتدأت هذه الآية بنعت المسلمين بأنهم يؤمنون بالغيب جاء قوله تعالى [وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ] متعقباً له معطوفاً عليه بحرف العطف (الواو ) والعطف لغة الشفقة والميل القلبي أو الحسي , وفي الإصطلاح النحوي اتباع لفظ بلفظ للتشريك بينهما , وفيه أطراف :
الأول : المعطوف عليه .
الثاني : حرف العطف .
الثالث :المعطوف .
الرابع : المعنى المستقرأ من العطف .
ليتبين للناس قانون من جهات :
الأولى : إقامة الصلاة من رشحات الإيمان بالغيب .
الثانية :لا يقف المسلمون عند الإيمان بالغيب , فمن أظهر خصال التقوى إقامة الصلاة .
الثالثة : الملازمة بين الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة ، وكما أن التقوى كيفية نفسانية مستقرة فكذا إقامة الصلاة فانها فعل إيماني يومي متجدد.
الرابعة :الصلاة غير الإيمان بالغيب لدلالة المغايرة بين المعطوف غير المعطوف عليه .
إلا أنه لا يمنع من وجود صلة ونسبة بينهما من وجوه :
الأول : عطف الخاص على العام كما في قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى] ( ) .
الثاني : عطف العام على الخاص .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه بين المتعاطفين ، فهناك مادة للإلتقاء بينهما ، وأخرى للإفتراق .
الرابع : التباين الجهتي .
الخامس : التباين والتغاير الكلي .
السادس : عطف الفرع على الأصل .
السابع : عطف الأصل على الفرع .
الثامن : عطف الفرع على الفرع .
التاسع : إتحاد الحكم مع التباين الموضوعي بين المعطوف والمعطوف عليه .
العاشر : الإتحاد في الموضوع مع التباين في الموضوع .
الحادي عشر : عطف الظاهر على المضمر ,كما في قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ]( ) .
الثاني عشر : عطف الفعل على الفعل ، إتحدت صيغتهما أو إختلفت ، بشرط أن يكون الزمان واحداً أو متعاقباً .
الثالث عشر : عطف الاسم على الاسم .
الرابع عشر : عطف الضمير على الضمير .
الخامس عشر : عطف الاسم على الضمير وبالعكس .
السادس عشر : العطف بين الجمع والمفرد وبالعكس .
السابع عشر : عطف الحكم على الموضوع .
الثامن عشر : عطف الموضوع على الحكم .
التاسع عشر : عطف النعوت بأن تعطف صفة على صفة كما في قوله تعالى [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ] ( ).
العشرون :عطف الترادف بأن يعطف أحد المترادفين على الآخر كما في قوله تعالى [إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ] ( ) .
الحادي والعشرون : عطف الواضح على المبهم .
الثاني والعشرون : عطف التضاد بأن يعطف أحد المتضادين على الآخر مع إتحاد الموضوع كما في قوله تعالى [يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ]( )، ففعل وأيدي الكفار هو غير فعل وأيدي المؤمنين .
الثالث والعشرون : عطف التفسير بأن يكون في الكلام نوع لبس فيعطف عليه كلام فيه تفسير وبيان له كما في قوله تعالى [فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ]( ).
ويصح القول أن العطف في الآية أعلاه من عطف الخاص على العام .
الرابع والعشرون : عطف التالي على السابق .
والواو في قوله تعالى [وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ] ،من الوجه الثالث والسادس والثاني عشر والتاسع عشر في دلالة على تعدد معاني واو العطف في اللفظ القرآني .
وتكرر العطف في آية البحث مرتين لبيان الإستقلال الموضوعي في ثلاث خصال للمتقين , وهي :
الأول : الإيمان بالغيب .
الثاني : إقامة الصلاة .
الثالث : الإنفاق في سبيل الله .
وتكرر العطف في الآية التالية ثلاث مرات وكلها في خصال المتقين .
فمن إعجاز القرآن أن العطف في نظم القرآن إبتدأ بسورة الفاتحة بتوسل المسلمين للهداية إلى الصراط المستقيم والتنزه عن نهج الضلالة بقوله تعالى [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ] ( ) .
ثم إبتدأت صيغة العطف في سورة البقرة بخصال التقوى التي يتصف بها المسلمون ويتزين سطح الأرض بها وتكون درعاً واقياً لأهلها من البلاء المتصل وكثير من الآفات .
وصيغة العطف في القرآن مدرسة عقائدية تستنبط منها المسائل ، وتقتبس منها الأحكام التي تكون برهاناً على إعجاز القرآن وصدق نزوله من عند الله ، وكل عطف في القرآن له أسرار وخصوصية تتعلق بالموضوع أو الحكم وتشع منه أنوار قدسية تكون بياناً للناس جميعاً على إختلاف مشاربهم وتجذب الأبصار وتملي على البصائر التدبر وتحث النفوس على الإيمان بالنبوة والتنزيل .
وإذا كانت هذه الآية بياناً للناس فان إقامة المسلمين الصلاة بيان من وجوه:
الأول : إنها بيان عملي لآية البحث .
الثاني : أداء المسلمين الصلاة شاهد على أنهم المتقون .
الثالث : إقامة المسلمين الصلاة من مصاديق الهدى الذي تتضمنه الآية السابقة [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
وقد يقال هناك تعارض بين الوجهين الثاني والثالث أعلاه، فاما أن تكون الصلاة من صفات المتقين ، وأما من الهدى الذي يأتيهم بالكتاب .
والجواب ليس من تعارض بين الأمرين إذ تتقوم التقوى بأداء الصلاة ، وبها يعرف المؤمنون ، بل بظهور التكاسل والتباطئ في القيام للصلاة يعرف المنافقون ، قال تعالى [وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى] ( ).
الرابع : يبين أداء المسلمين الصلاة أنهم في حال قوة ومنعة وفتوة، فيقف الشاب الذي بلغ الحلم مع أبيه وجده في صفوف الصلاة ويقومون بذات الأفعال من القيام والركوع والسجود التي تدل على تجدد القوة عند المسلمين في طاعة الله ، وفيه بعث للحزن في قلوب الكفار .
الخامس : من البيان في إقامة الصلاة تحليهم بالصبر في أداء التكاليف العبادية ، سواء في ذات الإقامة أو في تعاهد كيفيتها .
السادس : في الصلاة بيان للمصداق الأمثل لتعظيم مقام الربوبية وهي رسالة تأديبية للناس جميعاً بلزوم إظهار الخضوع والخشوع لله عز وجل .
السابع : لما أخبر القرآن بكون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، جاء قوله تعالى [وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ] للدلالة على الملازمة بين مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ] وبين إقامة الصلاة .
الثامن :الصلاة عنوان الصلاح ومصداق تهذيب الأخلاق ، فاراد الله عز وجل أن يبين للناس قانوناً وهو الملازمة بين التقوى ومكارم الأخلاق ، بتعاهد المسلمين للصلاة خمس مرات في اليوم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) .
التاسع : الصلاة بيان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذاتها والدعوة بها إلى سبل الهداية والتوفيق .
العاشر : من البيان للناس أن المسلمين يرجون فضل الله بأداء الصلاة ، ويتطلعون إلى نزول الخيرات بتعاهد الفرائض ، وهو من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
وهل من الرحمة في الآية أعلاه بيان المسلمين للناس كيفية وذات صلاتهم ونسكهم.
الجواب نعم، وفيه تعظيم الشعائر من جهات :
الأولى : مجئ البيان عرضاً إذ يؤدي المسلمون الصلاة بقصد القربة .
الثانية : خلو هذا البيان من مفاهيم الرياء .
الثالثة : في أداء الصلاة تعظيم لشعائر لله .
الرابعة : دعوة الناس للصلاة بأداء المسلمين لها .
الخامسة : دلالة إقامة الصلاة على إنتفاء الشك والريب من نفوس المسلمين .
السادسة : إقامة الصلاة من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( )، أي تزجر ذات المسلم الذي يؤدي الصلاة وتنهي غيره وتدعوه للتوبة والإنابة .
الحادي عشر: موضوعية إستقبال البيت الحرام في عبادات المسلمين من جهات :
الأولى : تعيين قبلة المسلمين بأمر من عند الله عز وجل .
الثانية : إتحاد قبلة المسلمين شاهد على وحدتهم وإستدامة الأخوة الإيمانية بينهم.
الثالثة : تحديد قبلة المسلمين بالبيت والحرام بأمر من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( ) .
الرابعة : إستقبال البيت الحرام في الصلاة دعوة يومية متجددة لأداء الحج واجباً كان أو مندوباً .
الثاني عشر : إقامة الصلاة مقدمة لفعل الخيرات ، وترغيب بالصالحات ، وبعث لأداء الزكاة والحقوق الشرعية .
الثالث عشر : الصلاة واقية من الظلم والتعدي لترشح إدراك القبح الذاتي للظلم عن حال الخضوع والخشوع لله عز وجل .
والعبادة هي علة خلق الناس ذكوراً وأناثاً ، وهذه العلة تصاحبهم في أجيالهم المتعاقبة وحياتهم اليومية، فحالما يصل الإنسان إلى سن البلوغ يتوجه له الخطاب التكليفي بوجوب عبادة الله ، والصلاة هي الفرد العبادي الذي لازم الإنسان في عمارته الأرض منذ أن هبط آدم وحواء الأرض ، والأنبياء هم أئمة الناس في أداء وتعاهد وعشق الصلاة ، وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالكيفية التامة للصلاة وجزئية قراءة القرآن منها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ) .
ومن منافع الصلاة صحة البدن وصيرورتها سبباً للوقاية من بعض الأمراض لما فيها من أفعال بدنية متناسقة تشترك فيها كل الأعضاء وما تبعثه من الصفاء والرضا والتوكل على الله .
وهو من معاني النعمة في الآية أعلاه ورشحات الفرض العبادي على البدن والنفس وعلى الفرد والجماعة ، وقد تظهر بجلاء في دراسة مقارنة بين جماعة من المسلمين يتعاهدون الصلاة ، وجماعة من غيرهم يصدون عنها .
لتكون حال الصحة والعافية التي يتمتع بها المسلمون بياناً جلياً للناس من جهات :
الأولى : ظهور الإعجاز الغيري للقرآن .
الثانية : منافع الإمتثال للفرائض في الشريعة الإسلامية .
الثالثة :جذب الناس إلى الإسلام ، ودعوتهم إلى الإيمان .
الرابعة : بيان قانون كلي وهو وجود أمة في كل زمان تتعاهد الصلاة قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) .
الخامسة : شكر الله عز وجل للمسلمين في أدائهم الصلاة وتجلي أثر هذا الشكر على أبدانهم وأرزاقهم .
السادسة : أداء المسلمين للصلاة عون لهم لتعاهدها وإتيانها في مستقبل الأيام عن قيام ، بلحاظ أن أداء الصلاة صحة في البدن وهذه الصحة مقدمة لإستمرار أداء الصلاة لذا تجد المسلم يقف مع إبنه وحفيده في الصلاة من غير أن يلقى مشقة في الأداء ، ليكون أداؤه نوع أمانة وعهد بوجوب حفظ الصلاة ليسلمه إلى ذريته من بعده .
إن رشحات الصلاة على صحة وبدن المسلم والمسلمة من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ) . وهل منه طرو الأمراض والوهن على أبدان الذين يعزفون عن الصلاة .
الجواب باب الدراسة مفتوح، ويدل عليه الإطلاق في الآية أعلاه ليكون في هذا التباين والتضاد أمور :
الأول : بيان المائز البدني الذي يتصف به المسلم ليأتي يوم يسأل فيه الطبيب المريض هل تؤدي الصلاة اليومية ويستقرأ منه أسباب صحة البدن من الصلاة.
الثاني : تذكير الناس بعقوبة ترك الصلاة في الآخرة بلحاظ كبرى كلية وهي أن الأضرار على الجسم من ترك الصلاة إنذار ومقدمة للأضرار الأخرويه الناتجة عن تركها .
الثالث : حث الناس على التدبر في موضوعية العبادة في حياة وأبدان وصحة الناس، فمن مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) ، سلامة أبدان الذين يعبدون الله ، والإبتلاء الحاضر للذين يعرضون عن العلة الغائية لخلقهم ، ومنها ضرورة معرفة الناس بوجوب العبادة والإيمان بالنبوة والكتاب والآيات ، ومنها صلاة المسلمين التي هي بيان يذكر الناس بعلة خلقهم ، أي أن المسلم يستجيب للآية أعلاه فيكون من مصاديقها ورسلها في جذب الناس للعمل بمضامينها وليأتي للمسلم شكر وثواب إضافي من عند الله غير ثواب أدائه للصلاة ، وموضوع هذا الثواب هو إتعاظ وتعلم الناس من عبادته ونسكه وتلبسه بطاعة الله ، وهذا التعلم على وجوه :
الأول : التعلم الشخصي بأن يتعلم فرد غير مسلم من المسلم في أدائه لصلاته .
الثاني : التعلم الجماعي بأن تتعلم جماعة من الناس عن جماعة وجمعة المسلمين .
الثالث : تعلم الجماعة من الناس من المسلم المنفرد .
وفي الثناء على إبراهيم عليه السلام ،قال تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ] ( ).
الرابع : تعلم الشخص المنفرد من جماعة المؤمنين .
وهذا التعدد من فضل الله على الناس وتعدد سبل الهداية وغزوها للقلوب ولا تستطيع قوة أو هيئة وضع حواجز بينها ، لتكون سبباً للتوبة والإنابة لشطر من الناس وحجة على الذين يصرون على الإقامة في مستنقع الضلالة ، فيجاهد المسلم نفسه ، ويقهر الشهوة والغضب والأنا، ويقف خاشعاً في الصلاة ليدعو الناس إلى طاعة الله ورسوله ،قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( ).
وكل من الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة موافق للفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، ومن رشحات نفخ الروح في آدم بقوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( ) ، وأداء الصلاة من الشكر لله عز وجل على نعمة الروح والجوارح والأركان في البدن ، وهل هي من الشكر القليل الذي تذكره الآية أعلاه بلحاظ أن الصلوات اليومية الخمسة لا تأخذ من العبد إلا دقائق معدودات .
الجواب لا فان الله عز وجل يرضى بالقليل ويعطي الكثير .
إشراقة البيان القرآني
يكون البيان في القرآن على وجوه :
الأول : خلافة الإنسان في الأرض بفضل ولطف من عند الله ، والذي يتجلى بقوله تعالى في خطاب لآدم [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ] ( ).
الثاني : الوعد من الله عز وجل باستدامة خلافة الإنسان في الأرض بلحاظ كبرى كلية وهي أن النعمة من الله عز وجل لا تغادر الأرض فيتجدد ويتكرر موضوعها وجهتها عبر الأجيال.
الثالث : تجدد البيان من عند الله للناس ليكون مدداً لهم في تعاهد الخلافة والقيام بوظائفها أحسن قيام ، ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار المدد) ، وكل آية كونية أو تنزيلية هي مدد للمسلمين وبيان للناس جميعاً .
لذا جاءت آية البحث [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ] بالتفصيل بأن جاء القرآن بياناً للناس كافة ، ويتلقى المسلمون صيغ الهداية والموعظة فيه ، وهذا لا يعني إنقطاع أسباب الهداية والموعظة لغير المسلمين ، بل تأتيهم من وجوه :
الأول : الآيات الكونية .
الثاني : تقلب أحوال الإنسان في الدنيا وبلوغه بعض المراتب قهراً كالتقدم في السن والدنو من الموت وعجزه عن دفعه أو إرجائه ، قال تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ) .
الثالث : حسن سمت المسلمين موعظة للناس ودعوة لهم للإيمان .
الرابع : بيان القرآن هدى وموعظة للناس ، بتقريب أن القرآن ذاته بيان للناس , وهذا البيان هدى وموعظة للناس ، وتلك آية في إعجاز القرآن بأن منافع آياته ذاتية وتوليدية .
البيان في قوله تعالى [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] ( ).
بعد أن جاءت سورة الفاتحة بتمجيد الله عز وجل والثناء عليه ، وذكر صفات الرحمة له سبحانه ، وإطلاقها وتغشيها للخلائق كلها بشارة للناس جميعاً بمناسبة نزول القرآن وصيرورته بين ظهرانيهم كتاباً سماوياً جامعاً للإحكام وفيه خبر الأولين والآخرين وأهوال يوم القيامة وما فيها من المتناقض من السعادة الدائمة لأهل الإيمان والعذاب الشديد للكفار والجاحدين ، إبتدأت سورة البقرة بالحروف المقطعة والإعلان السماوي الذي تسمعه وتشهد عليه الخلائق كلها على القرآن من جهات:
الأولى : القرآن هو الكتاب الموعود الذي تنتظره وتتطلع الملائكة إلى نزوله فعندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بسبب فساد الإنسان وسفكه الدماء ، تفضل الله وبعث السكينة في نفوس الملائكة وأثنى عليهم لمواظبتهم على التسبيح وأجابهم بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
فتفضل وأنزل القرآن بياناً للناس ليكون زاجراً عن الأخلاق المذمومة إلى يوم القيامة ، وهل صار الملائكة يعلمون ما يعلمه الله بتجلي أهلية الناس للخلافة في الأرض .
الجواب لا ، فان قوله تعالى أعلاه باق بمضامينه إلى يوم القيامة وأن الملائكة والخلائق كلها تتخلف في علمها عن الإحاطة بعلم الله عز وجل وانكشف لها إشراقة من علم الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا يدل ثناء الله عز وجل على المؤمنين في آية البحث [يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ]على أفضليتهم على الملائكة الذين إحتج الله عز وجل عليهم بأنه يعلم ما لا يعلمون الجواب لا ،خاصة وأن إحتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( )، في المعرفة بعلم الغيب على نحو الموجبة الجزئية فيما يخص أفعال بني آدم .
ومن علم الله تعالى الذي يختص به الفضل الإلهي المتعدد في قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( )
الثانية : القرآن الضياء السماوي الذي خصّ به الله أهل الأرض ، إذ أنه سبحانه حين جعل خليفة فيها تفضل وأنعم على الخليفة وذريته بحاجاتهم في الإعتقاد والرزق الكريم وتهذيب الأخلاق ، وفي قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( )، بيان لخصال الخلافة من الأخلاق الحميدة ووجوب إقتداء الناس بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : شهادة الخلائق بأن المسلمين نالوا مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بنزول القرآن وعملهم بأحكامه .
الخامس : تجلي حقيقة البيان في القرآن فقوله تعالى [بَيَانٌ لِلنَّاسِ] دليل على ملائمته لكل المدارك والأمزجة ، وقربه من الناس مع إختلاف ألسنتهم ومشاربهم .
وهل يصح أن كل أمة أو جماعة تفسر القرآن بحسب حالها .
الجواب لا ، فبيان القرآن خال من التعارض وإن كان متعدد الوجوه ، ومن خصائص القرآن خلوه من التزاحم او التعارض وهو من الإعجاز الذاتي للقرآن، وإمتناعه عن التفسير المتباين والمتضاد من قبل الناس من إعجازه الغيري، وهو من مفاهيم قوله تعالى[قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ) فحينما يأتون بكتاب فانهم يختلفون في وضعه وترتيبه ومضامينه ومعانيه ودلالاته وعمره ويتلقاه أكثرهم بالإعراض والجفاء ويكون سبباً للشقاق بينهم ويتباين تفسيرهم لظاهره، فتفضل الله تعالى بالقرآن ليكون لواء ناطقاً يجتمع الناس تحت فيئه بصبغة الإيمان .
الخامسة : تغير وجه التاريخ وحدوث الإصلاح في المجتمعات وعقائدها، وإنقطاع الطواغيت فليس من مدع للربوبية أو النبوة وإلى يوم القيامة، وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإعجاز الغيري للقرآن .
السادسة : منع فناء البشرية بالحروب بين أهل الملل والنحل، وبين الدول العظمى خاصة مع الإرتقاء والتسابق في صناعة أسلحة الدمار الشامل .
فبنزول القرآن توجه الناس للتدبر في آياته والعمل بمضامينها وصارت عناية خاصة عند أهل الكتاب لحفظ التوراة والإنجيل .
لقد تجلى البيان في أول نظم القرآن بمعجزة جلية فبعد البسملة جاء الحمد لله عز وجل وبيان أول دعاء في القرآن على لسان المسلمين وليس من قصص الأمم السابقة [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ومجئ الدعاء بصيغة الخشوع والتضرع، ثم تعقبه باكرام المسلمين للأنبياء والصالحين من الأمم بقوله تعالى [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] ( )، وإرادة الإلحاح في الدعاء وسؤال نعمة الهداية إلى السبيل القويم التي فاز بها الأنبياء والصالحون من الملل السابقة لم تغادر الأرض ، فسأل المسلمون أن تكون هذه النعمة عندهم .
وليس من حصر لعلوم الغيب ،وفي قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( )، أستدل على أن المغيبات هي :
الأول :قيام الساعة .
الثاني : الجنين في بطن أمه .
الثالث :نزول المطر وأوانه وموضعه .
الرابع : ما يأتي للإنسان من الرزق ، وفي التنزيل [وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ] ( ).
الخامس : أوان مكان وفاة الشخص .
وبالنسبة للثاني أعلاه تم إكتشاف معرفة الجنين في هذا الزمان بل قد يتحكمون بجنسه قبل ولادته ، ولكن الآية القرآنية لا تدل على حصر العلم بما في الأرحام بالله ، إنما حصرت العلم بيوم القيامة به تعالى ، وكأنه من عطف الخاص على العام أو أن الواو في [وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ] واو إستئناف ، أي أن الله ينفرد بالعلم يوم القيامة ، أما ما ذكر بعدها فيعلمه الله وهو مما قد ينكشف للإنسان ، ولو تنزلنا وقلنا بإرادة حصر الآية للعلم في الأرحام بالله سبحانه فالمراد العلم بالتفاصيل ، وهل يكون مؤمناً أو كافراً وهذا هو الأهم، وهل هو سليم أو سقيم، فلا ينحصر العلم بجنس المولود وهل هو ذكر أم أنثى.
والصحيح أن علوم الغيب من اللامتناهي حتى بالنسبة للشخص الواحد ولا تستطيع الخلائق ولو إجتمعت أن تحيط بمعشارها .
ومن الشواهد عليه قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( )، ومن وجوه وعلل عجز الجن والإنس عن المجئ بمثل القرآن مفاتيح الغيب التي في القرآن وكنوز العلوم وذخائر المعرفة التي يهدي لها القرآن والعمل بأحكامه وسننه، ويتغشى علم الغيب في المصطلح القرآني أموراً:
الأول :عالم الدنيا، وفيه وجوه :
الأول : الزمن الماضي .
الثاني : الزمن الحال.
وذات لفظ الحال متجدد ، فما يكون اليوم حالاً يكون غداً ماضياً وما يكون الآن مستقبلاً يأتي أوان يكون حالاً ثم يصبح ماضياً ليستقر في الماضي الذي يكون على مراتب في السبق والقدم والظهور والخفاء وأقلها كدعاء زماني هو الحال فهو كالقطرة في البحر بالنسبة للماضي والحاضر ولكنه هو الأهم في عالم الأفعال والذكر والأستغفار.
الثالث : القادم من آنات الزمان .
الثاني : العلوم الكونية، وأسرار الكواكب ، وأبراج السموات .
الثالث : أرزاق ومعاشات الناس .
الرابع : كنوز الدعاء، ومنافعه، والمصلحة التي تجلب به، والضرر الذي يدفع بالدعاء .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو لأمور الدنيا والآخرة ليؤدب المسلمين على الإلحاح في الدعاء، وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دعا على الجراد قال: “اللهم أهْلك كباره، واقتل صغاره، وأفسدْ بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء”)( ).
الخامس : ما يطرأ على الإنسان من الأمراض والآفات ، وما يهجم عليه من الإبتلاء والإفتتان، وهل الإيمان بالغيب دافع لهذه الأسباب.
الجواب: الإيمان بأن الله يعلم هذه الأسباب وأنها لا تحل بساحة الإنسان والجماعة إلا بمشيئه الله باب وطريق للدعاء والإستجارة بالله وهو واقية منها , ومن مصاديق قوله تعالى[الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنْ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ]( ).
السادس : جهل الإنسان لما يحدث حوله خارج فرد الزمان الحال، فهو لا يعلم ما يحصل له بعد دقيقة ، وقد يكون فيها حتفه، وأبتلى الناس في هذا الزمان بالهاتف ووسائل الإتصال الحديثة التي لا يعلم الناس ما تأتي به من الخير أو الشر في أي ساعة وبالدعاء يجلب الخير والمصلحة ويدفع الشر والأذى، وهو من عمومات الدعاء: أعوذ بك من طوارق الليل إلا طارقاً يطرق بخير).
وفي الحديث: نهى المسافر أَن يأْتي أَهله طُروقاً أَي ليلاً وكل آتٍ بالليل طَارِقٌ وقيل أَصل الطُّروقِ من الطَّرْقِ وهو الدَّق وسمي الآتي بالليل طَارِقاً لحاجته إلى دَق الباب)( )، ويبدو أن العرب كانوا لا يغلقون أبوابهم إلا عند الليل وعند الظلمة , وفتحها المتصل في النهار أمارة ودلالة الكرم وعنوان الضيافة.
السابع : ما يدور في خلد الآخرين نحوك وما يعدونه لك من صيغ الخير والفلاح أو أسباب المكر والكيد الذي لا يدفعه إلا الله عز وجل ، لذا فان من مصاديق قوله تعالى [يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ] ، التوسل إلى الله عز وجل بصرف الكيد والأذى ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ومن دلائل الإيمان بالغيب التسليم بالضعف والعجز عن الإحاطة بالأمور والعوالم المختلفة ، قال تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين إذ يتصفون بالتوكل على الله والثقة بفضله ومدده ونصره .
( وقيل لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام لما أراد لقاء الخوارج : اتلقاهم والقمر في العقرب ؟ فقال عليه السلام : فأين قمرهم ؟ وكان ذلك في آخر الشهر ،وقال له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين ! لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار فقال له علي عليه السلام : ولم ؟ قال : إنك ان سرت في هذه الساعة اصابك واصاب أصحابك بلاء وضر شديد وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت .
فقال علي عليه السلام : ما كان لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم منجم ولا لنا من بعده – في كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل – فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه ان يكون كمن اتخذ من دون الله ندا او ضدا اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير الا خيرك ،ثم قال للمتكلم : نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها .
ثم أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس اياكم وتعلم النجوم الا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر وانما المنجم كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النار والله لئن بلغني انك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان ،ثم قال : لو سرنا في الساعة التي امرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل سار في الساعة التي أمر بها المنجم ما كان لمحمد صلى الله عليه وآله و سلم منجم ولا لنا من بعده فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان – ثم قال : يا أيها الناس ! توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي ممن سواه { فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } يعني ملائكة يحفظونه عن ان يقرب منه شيطان فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء الى الكهنة) ( ).
وإن قلت إن الإيمان بالغيب كيفية نفسانية وإعتقاد في القلب فكيف يكون بياناً للناس ،والجواب من وجوه :
الأول : الإيمان بالغيب أعم من الكيفية النفسانية إذ يتجلى على الجوانح والأركان .
الثاني : وردت الآية بقول [يُؤْمِنُونَ] وهو دعوة للناس لمحاكاة المسلمين بالإيمان بعظمة مخلوقات الله ، والعجز عن الإحاطة بها .
الثالث : لا يختص البيان بحال المسلمين من الإيمان بالغيب بل يشمل ذات آية البحث وإخبارها عن حسن سمت المسلمين ، وفيه حث للناس لمعرفة وظائفهم العقائدية ، فقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) ، يتعلق بالقرآن وآياته وما تبينه للناس جميعاً من أمور الدين والدنيا.
الرابع : إيمان المسلمين بالغيب من فضل الله عليهم وعلى الناس جميعاً ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، من جهات :
الأولى : هداية المسلمين إلى ما يجب عليهم .
الثانية : إصلاح أمة عظيمة من الناس لتعاهد عله الخلق وسر البقاء .
الثالثة : ترغيب الناس بالإسلام بصيغة الإمتثال الأمثل والإخبار عن وجود أمة تعمل بمرضاة الله ، إستحقت مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الخامس : من البيان في إخبار الآية عن إيمان المسلمين بالغيب من آيات عظيم قدرة الله ، وسلطانه على القلوب ، وجذبه الناس إلى سبيل الهداية طوعاً وكرهاً .
السادس : تسليم المسلمين بالمغيبات وإنحصار العلم بها بالله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ).
السابع : من مفاهيم الآية بيان حاجة الناس للإيمان بالغيب ، وهو خير محض ، والآية من لطف الله لتقريبهم إلى منازل الإيمان وصيرورته وسيلة للعبور على الصراط والنجاة من النار يوم القيامة .
وتدل الآية في مفهومها على الثناء على المسلمين ، وحث الناس على إكرامهم وإجتناب إيذاءهم ،ومن الغيب إن هذا الأذى يرجع على أصحابه وأهله .
الثامن : تفضل الله عز وجل بالثناء على الذين يؤمنون بالغيب بيان للازم والملزوم .
ومن علم الغيب الأذى الذي يلاقيه المسلمون مجتمعين ومتفرقين وما قد تتعرض له ثغور الإسلام من التعدي ، لذا جاءت الآيات بالحث على الصبر والإسترجاع فيدل قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ) على أمور في المقام:
الأول : البيان للناس بأن المسلمين قد يأتيهم الأذى والبلاء.
الثاني : صبر المسلمين عند البلاء .
الثالث : يصبر المسلم في المصيبة الشخصية التي تصيبه ، والأذى العام قد يلحق شطراً من الأمة.
الرابع : البيان للناس جميعاً بأن ذكر الله وقول [إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ) ،سلاح من وجوه :
الأول :إنصاف المسلم باستدامة حال السكينة في نفسه حتى في حال الشدة والبلاء .
الثاني : تعذر طرو غشاوة على أبصار المسلمين عند المصيبة .
الثالث : سلامة المسلمين من غلبة الحزن عند المصيبة ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) .
الرابع : إدراك الناس لحقيقة وهي الملازمة بين الإيمان بالغيب والسلامة من الحسرة والأذى عند المصيبة .
الخامس : من منافع الإيمان بالغيب اللجوء إلى ذكر الله عند المصيبة ونزول البلاء لكبرى كلية وهي لا يحل بالإنسان من خير أو شر إلا باذن الله ، وفي التنزيل [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا] ( ) .
السادس : الإسترجاع من مصاديق التوكل على الله واللجوء إليه في حال الرخاء والشدة.
السابع : بيان منافع الإيمان بالغيب في الواقع اليومي والمائز بين المسلمين وغيرهم .
وإبتدأت الآية بالإيمان بالغيب لتكون بياناً للناس جميعاً من جهات :
الأولى : تأكيد موضوعية التصديق بعلوم الغيب وعالم الآخرة ، ومن أفراد الإيمان بالغيب التسليم بأن الله عز وجل خالق الكائنات كلها ومقاليد الأمور بيده ، وهو على كل شئ قدير ، وأن الناس يقفون بين يديه للحساب يوم القيامة ،وفي التنزيل [جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ] ( ).
الثانية : من علوم الغيب قصص الأنبياء التي وردت في القرآن فلابد من التصديق بها موضوعاً وحكماً ، والإقرار بفضل الله على الأمم السابقة وبخصوص قصة يوسف عليه السلام قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( ).
الثالثة : الإيمان بالغيب طريق لأداء الصلاة والزكاة بقصد القربة إلى الله تعالى.
الرابعة : الإيمان بالغيب جهاد مع النفس وإصلاح لها وللجوارح .
الخامسة : جاءت الآية في وصف المتقين ليكون من خصالهم التسليم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل [وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] ( ).
وتبين الآية الملازمة بين إقامة الصلاة وأداء الزكاة والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء أن كل واحدة منها فريضة وواجب ، ومادة الإفتراق من جهات :
الأولى : الصلاة واجب عيني خمس مرات في اليوم ، أما الزكاة فلا تجب إلا عند تحقق النصاب .
الثانية : الصلاة واجب بدني والزكاة واجب مالي .
الثالثة : تجب الصلاة على كل مسلم ومسلمة ولا تترك بحال ، أما الزكاة فلا تجب إلا على الذي تتحقق عنده شرائطها المالية .
وتتضمن الآية قانوناً وهو عدم الإنفكاك بين الإيمان بالله وعظيم قدرته وسلطانه وبين أداء الفرائض.
ولم تذكر الآية الفرائض الأخرى كالصيام والحج ، وفيه وجوه :
الأولى : بيان أولوية وأهمية الصلاة والزكاة ، فمن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة يصدق عليه متق وإن تخلف عن أداء الفرائض الأخرى .
الثاني : ذكرت الصلاة والزكاة في باب الفرد الأهم من خصال التقوى.
الثالث: ذكر الصلاة تذكير بالفرائض الأخرى ، وكذا في ذكر الزكاة ، عن الإمام الباقر عليه السلام قال : (الصلوة عمود الدين مثلها كمثل
عمود الفسطاط اذا ثبت العمود يثبت الأوتاد والاطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم – يثبت وتد ولا طنب) ( ).
الرابع : مجئ آيات من القرآن ببيان الملازمة بين التقوى وبين أداء الفرائض الأخرى .
الثناء على المسلمين من إعجاز القرآن
تقديم [يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ] في صفات المتقين عون لهم في إقامةالصلاة والإنفاق في سبيل الله بقصد القربة وعدم الإنشغال بالمصيبة والأذى عن الفرائض والواجبات وبخصوص معركة الخندق وإشتداد حصار قريش في أحد أيامها .
ورد عن عبد الله بن مسعود قال : حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العصر ، حتى إحمرت الشمس أو إصفرت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً ) ( ) .
والذي فات هو وقت الفضيلة , وليس وقت أداء صلاة العصر الذي يمتد إلى غروب الشمس ومع هذا دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الله عز وجل على الكفار بأشد العقاب في الدنيا وعالم البرزخ ، ولم يذكر حالهم يوم القيامة لأن مصير الكفار إلى النار .
وهل يشمل الدعاء وآثاره الذين تابوا وأسلموا من بعد .
الجواب لا ، فحالما يتوب الإنسان ينجو من أثر الدعاء لأنه مقيد بحال الكفر والضلالة وإيذاء المسلمين ،ليكون فيه بيان للناس من وجوه :
الأول : بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار .
الثاني : بيان إنفراد المسلمين بسلاح قاطع وحاسم وهو الدعاء .
الثالث : قبح فعل الذي يحول دون أداء جماعة المسلمين صلاتهم .
الرابع : بيان ترشح الفرج وإنصراف الشدة وأذى الكفار بتعاهد المسلمين الصلاة .
الخامس : مع كثرة جنود الكفار وحصارهم للمدينة فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أولى عنايته بأمرين :
الأول : إتيان الصلاة .
الثاني : أداء الصلاة في وقتها .
وفيه تأديب للمسلمين بوجوب تعاهد الصلاة على كل حال ، وأنها المنجية من كيد الكفار .
والإخبار القرآني عن إيمان المسلمين بالغيب ثناء من عند الله سبحانه عليهم ، ويمكن تأسيس قانون وهو ( رشحات ثناء الله على المسلمين ) وفيه مسائل :
الأولى : نزول الخير والبركة مع الثناء .
الثانية : الثناء من الله واقية من البلاء والأذى .
الثالثة : الثناء والشهادة من الله للمسلمين أمن لهم يوم الفزع الأكبر، قال تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الرابعة :في الثناء القرآني على المسلمين حث لهم على تعاهد الإقامة الحسنة بمنازل الإيمان .
الخامسة : في الثناء على المسلمين شكر من لله عز وجل لهم .
السادسة : هذا الثناء مدح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشهادة له بأنه بلغ رسالته ، وجاهد في سبيل الله لجذب الناس للإيمان ، وجعل أمته تتعاهد سبل الهداية .
السابعة : لا بد من علة وأسباب لثناء الله عز وجل على المسلمين،وفيه دعوة للناس لإستبيان هذه الأسباب والتدبر في معانيها والتي تقوم بفضل الله عليهم.
الثامنة : ليس من شيء في الدنيا أبهى وأحسن من الفوز بالثناء من الله عز وجل ، وتفضل الله وبينّه للناس في آية البحث ليقتدوا بالمسلمين ويتبعوا أثرهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
التاسعة : في الثناء من الله على المسلمين دعوة للناس لإجتناب محاربتهم والتعدي على ثغورهم ، فمن يمدحه الله ويرضى عنه يكون في إجارته وعهده ، قال تعالى [وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ]( ) .
العاشرة :البشارة للمسلمين بخير الدنيا والآخرة ببركة تلقيهم الثناء من الله عز وجل .
الحادي عشر : تجدد ثناء الله على المسلمين كل يوم وكل آن من آيات الزمان الطولية ، مما يدل على تعاقب وتوالي نزول البركة على المسلمين لقاعدة كلية وهي الملازمة بين الثناء من الله وبين نزول النعم .
الثانية عشر: من مفاهيم ثناء الله على المسلمين الإنذار والوعيد للكفار الذين يحاربون المسلمين ، ويكيدون لهم ، قال تعالى [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( ) .
وهل الإيمان بالله من الإيمان بالغيب ،الجواب إن الإيمان بالله مرتبة سامية لا يرقى لها الإيمان بالغيب والملائكة واليوم الآخر ، فهو أصل الإيمان ، والعلم بالغيب فرع عنه وقد وصف الله نفسه بانه [عَالِمُ الْغَيْبِ]( )وإرادة الغيرية والتباين بين العالم والمعلوم ،لذا جاءت الآية بقوله تعالى [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] بلحاظ أن ذكر التقوى شاهد على الإيمان بالله فجاء قوله تعالى [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ] تابعاً ولاحقاً للإيمان بالله عز وجل وكذا الآيات في هذا الباب تبدأ بالإيمان بالله ، قال تعالى [كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ] ( ).
فبعد الإيمان بالله جاء الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله والإيمان بالتنزيل ، وكلها من صفات المتقين أما قوله تعالى في الآية السابقة [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ) ، فيدل على أن الهدى يأتي بالقرآن بالإضافة إلى مضامين الآية السابقة وهذه الآية والآية التالية ولا يعلم إلا الله عز وجل مصاديق الهدى والفلاح والصلاح والثبات في مقامات الإيمان .
البيان في قوله تعالى [وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ]
قد يقال إن تقدير الجمع بين الآية السابقة :
الأول : ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للذين يؤمنون بالغيب.
الثاني : هدى للذين يقيمون الصلاة.
الثالث : هدىّ للذين مما رزقناهم ينفقون.
وهذه التقدير صحيح ولكنه ليس تاماً لموضوعية الإيمان بالغيب في أداء المسلمين للصلاة وهو من إعجاز نظم القرآن ومن الشواهد على سلامة القرآن من التحريف والتغيير، لعدم إمكان تبديل كلمة منه، قال تعالى[قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ]( )، ويتجلى الإيمان بالغيب في ماهية الصلاة من جهات:
الأولى : قيد قصد القربة في أداء الصلاة .
الثانية : أداء الصلاة بذات الكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ]( ).
الثالثة : إتيان الصلاة من مصاديق الإيمان بالغيب .
الرابعة : هناك نوع ملازمة بين تعاهد الصلاة في أوقاتها والإيمان بالغيب وأن الله عز وجل يعلم ما يفعله العباد .
الخامسة : ذات الصلاة ذكر لله بالإضافة إلى مصاديق الذكر في كل فعل من الصلاة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ]( ).
ومن أسرار مجئ صفة إقامة الصلاة بالنسبة للمسلمين بعد إيمانهم بالغيب البيان للناس من جهات :
الأول : بيان رشحات الإيمان بالغيب على أفعال المسلمين .
الثاني : حضور الإيمان بالغيب في أفعال المسلمين .
الثالث : الإيمان بالغيب مدد وعون لأداء الصلاة .
الرابع : من شرائط أداء الصلاة إتيانها في أوقاتها ،قال تعالى ،[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
الخامس : من بركات الإيمان بالغيب قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن يدعو المسلم إلى الصلاة ، ويحث الناس عليها ويأمر أهله بأدائها ويبين للناس منافعها وما فيها من الثواب العظيم .
السادس : من الإيمان بالغيب معرفة العقاب الإلهي الذي ينتظر تارك الصلاة والذي يستخف بها.
ليأتي أداء المسلم للصلاة حباً لله عز وجل وطاعة له ورجاء ثوابه والأمن من عقابه .
وهل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي ) ( ) .يتعلق بكيفية الصلاة أم بالمعنى الأعم .
الجواب هو الثاني من جهات :
الأول : الأمر النبوي للمسلمين بأداء الصلاة .
الثاني : حث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على أداء الصلاة بذات الكيفية التي أداها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث :في الحديث دلالة على بلوغ كيفية صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسلمين جميعاً كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الأضحى ، إذ قال في ختام خطبته : ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم ، قال أللهم اشهد ، فليبلغ الشاهد الغائب ،فرب مبلغ أوعى من سامع ، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
وجاءت الآية بصيغة الفعل المضارع [يُقِيمُونَ] وفيه إعجاز من جهات:
الأولى : كما جاءت الآية السابقة بالثناء على المسلمين ووصفهم بالمتقين ، وأن القرآن هدى لهم تضمنت هذه الآية مدحهم والثناء عليهم.
الثاني : الإخبار عن تعاهد المسلمين للصلاة وإلى يوم القيامة ، وهل هذا التعاهد بمدد من الله .
الجواب نعم بدليل الآية السابقة وأن القرآن هدى للمسلمين فهو الإمام الذي يقودهم في محاريب الصلاة ويحشرهم إلى المساجد عند أوان الصلاة لتكون مقدمة وسبباً لقوله تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا] ( )، ولتكون إقامتهم للصلاة على نحو متعدد في اليوم الواحد وعدم مغادرة المسلم الدار الدنيا إلا بالصلاة وهي مقدمة لإقامته الدائمة في الجنة ثواباً من عند الله سبحانه.
وعن الإمام علي عليه السلام قال : (يساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان ، فعمدوا إلى احداهما فشربوا منها ، فذهب ما في بطونهم من أذى أو قذى وبأس ، ثم عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن تغير أبشارهم بعدها أبداً ولن تشعث أشعارهم كأنما دهنوا بالدهان ، ثم انتهوا إلى خزنة الجنة فقالوا { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ }( ) ثم تلقاهم الْوِلْدَان يطوفون بهم كما يطيف أهل الدنيا بالحميم ، فيقولون : ابشر بما أعد الله لك من الكرامة ، ثم ينطلق غلام من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين ، فيقول : قد جاء فلان باسمه الذي يدعى به في الدنيا فتقول : أنت رأيته؟ فيقول : أنا رأيته ، فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها ، فإذا انتهى إلى منزله نظر شيئاً من أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه أخضر ، وأصفر ، وأحمر ، من كل لون . ثم رفع رأسه فنظر إلى سقفه فإذا مثل البرق . ولولا أن الله تعالى قدر أنه لا ألم لذهب ببصره .
ثم طأطأ برأسه فنظر إلى أزواجه { وأكواب موضوعة . ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة }( ) ،فنظر إلى تلك النعمة ، ثم اتكأ على أريكة من أريكته ، ثم قال { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . . . }( ). ثم ينادي منادٍ : تحيون فلا تموتون أبداً ، وتقيمون فلا تظعنون أبداً ، وتصحون فلا تمرضون أبداً) ( ).
وجاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية [َيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ] وتأتي أحياناً بصيغة الأمر بقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً :
الأول : إرادة التساوي ، إذ يدل الإخبار عن أداء المسلمين للصلاة على الأمر فقد تأتي الآية بصيغة الجملة الخبرية ولكنها تتضمن الأمر والوجوب، كما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ).
الثاني :النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه لوجود مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
الثالث : النسبة العموم والخصوص المطلق ، فالإخبار عن إقامة المسلمين الصلاة فرع الأمر الإلهي بها .
الرابع : التباين بين صيغة الخبر والإنشاء في المقام .
والصحيح هو الثالث ، ويكون الأول في طوله ، ويفيد الجمع بينهما الثناء على المسلمين بأن الله عز وجل أمرهم بالصلاة فبادروا للإمتثال لأمره باقامتها ، وهذه الشهادة متجددة كل يوم في القرآن ، وهو من ثمرات ومنافع إستدامة وجود القرآن في الأرض وعدم مغادرته لها وإلى يوم القيامة ، وفي الآخرة يأتي شاهداً لهم .
وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، والبيان في القرآن بأن تتضمن آية قرآنية أمراً للمسلمين وآية أخرى إمتثال المسلمين للأمر ، أو تتضمن نهياً لهم وتنبأ أخرى عن تقيدهم كافة بهذا النهي طاعة لله وحباً له تعالى وتأتي أخرى بذكر الثواب العظيم الذي يفوز به المسلمون بسبب عملهم في مرضاة الله عز وجل وحرصهم على إجتناب معصيته ، ويحتمل قوله تعالى [وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ] ، وجوهاً :
الأول : إقامة مسمى الصلاة وصرف الطبيعة منها .
الثاني : أداء الصلاة كتلك التي كانت تؤديها الأمم السابقة .
الثالث : إقامة الصلاة وفق ما جاء به القرآن والسنة النبوية .
والصحيح هو الثالث من وجوه :
الأول :إرادة الإطلاق في آية البحث .
الثاني : دلالة المدح والثناء على المسلمين في الآية .
الثالث : إخبار الآية السابقة عن أمرين :
الأول: القرآن هدى وصلاح .
الثاني : الثناء على المسلمين بأنهم أهل التقوى والخشية من الله ، ومن مصاديقها إتيان الصلاة بحسب ما أراد الله عز وجل به ،وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ) ، ومن تمام النعمة إعانة المسلمين على أداء الصلاة والزكاة .
والصلاة واقية للمسلمين من الظلم والتعدي، وهي برزخ دون الأخلاق المذمومة من الحسد والغيبة والكذب وغيرها ، وزاجر عن التلبس بالمعاصي كالربا وشرب الخمر والزنا لقوله تعالى [الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )، فالصلاة مطلوبة بذاتها .
وفيها بيان للناس بوجوب أداء الفرائض وأن الله عز وجل خلق الإنسان ليعبده ويظهر الخشوع له ، إذ أن الصلاة مصداق العبودية لله والوقوف بين يديه خمس مرات في اليوم بكيفية توقيفية مع حرمة الإتيان بالمنافي حتى إنقضائها والخروج منها ، لتكون ساعة أداء المسلم للصلاة من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في احتجاج الله عز وجل على الملائكة حين انكروا خلافة الإنسان في الأرض مع إتصافه بالفساد والميل إلى القتل وسفك الدماء .
فذات المائز والراجح الذي إحتج الملائكة باتصافهم به ، إذ قالوا [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ) ،يظهر في عبادة وسمت المسلمين، وتتجلى هذه الخصلة الحميدة بفعل المسلمين بأدائهم الصلاة وهي تسبيح وثناء على الله وتقديس له وفعل عبادي تؤدي كل جارحة من الإنسان نصيبها فيه .
ولتشهد الملائكة عبادة المسلمين لله , وكيف أنها تتكررعدة مرات في اليوم جماعة وفرادا ،( وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ،ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم ، كيف تركتم عبادي ؟فيقولون : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ) ( ).
وهل من إيمان المسلمين بالغيب تصديقهم بأن الملائكة منقطعون إلى عبادة الله على التسبيح والصلاة .
الجواب نعم وهو الذي تدل عليه آيات القرآن ، قال تعالى [يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ]( ) ، أي أن الليل والنهار ظرفان لتسبيحهم الذي يتغشى آنات الزمان كلها .
وهل تسبيح الملائكة محصور بأفراد الزمان الطولية ولا يشمل ما قبلها وما بعدها الجواب لا، إنما جاءت الآية لبيان الإطلاق والعموم في تسبيح الملائكة لذا أختتمت الآية أعلاه بانعدام الفترة فيها , وعن الإمام الحسن عليه السلام في الآية قال: جعلت أنفاسهم تسبيحاً( ).
لقد أراد الله عز وجل الرحمة بالناس بأن يبين لهم كيفية إنقياد الملائكة لطاعته بأداء المسلمين للصلاة ، فهذا الأداء مرآة للإنقطاع إلى الله وهو العلة الغائية لخلق الإنسان وخلافته في الأرض .
ومن مصاديق تقديم قوله تعالى [يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ] ، في الآية على إقامة الصلاة بيان لحقيقة وهي أن المسلم يقبل على الصلاة بقلبه وجوانحه ويعلم أموراً من الغيب وهي :
الأول : إن الله عز وجل يرى العبد وهو يصلي .
الثاني : الصلاة أمر أراده الله من العباد وفرضه على نحو الوجوب العيني .
الثالث : الصلاة طريق لمرضاة الله .
الرابع : إتخاذ الصلاة وسيلة لجلب المصلحة ودفع المفسدة .
الخامس : محاكاة المسلمين للملائكة في صلاتهم , وطاعتهم لله عز وجل .
السادس : إدراك الثواب العظيم الحال والآجل في أداء الصلاة .
السابع : يعلم المسلمون بأن صلاتهم دعوة للناس للإيمان .
الثامن : الصلاة حرب على الكفر والطواغيت ، وباعث للخشوع والخضوع لله في النفوس .
التاسع : الصلاة ملاك ومصداق الإيمان ، وشاهد التسليم بالغيب .
العاشر : نزول المدد من عند الله للمسلمين والمسلمات لإعانتهم في صلاتهم وتهيئة مقدماتها وتحقيق الغايات الحميدة منها ، فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ( ).
من أسباب المدد الحسية الظاهرة ، والتخفيف عن المسلمين وعدم حصر الصلاة في المساجد أو مواضع مخصوصة ، وفيه بيان للناس بانتفاء التعارض بين وجوب الصلاة على المسلمين والأمر بسياحتهم في الأرض للتدبر والتفكر كما في قوله تعالى [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( )، وهذا التدبر باعث للحرص على أداء الصلاة في أوقاتها ، وعدم التفريط بها لأنها حرز من الآفات ومن سوء العاقبة .
لما أخبرت الآية السابقة بأن القرآن هدىّ للمتقين جاءت هذه الآية لتبين للناس مصداقاً للهداية التي عليها المسلمون من جهات :
الأولى : إقامة المسلمين للصلاة كل يوم بيان للناس لمصداق خصال المتقين .
الثانية : تعاهد المسلمين للصلاة من أبهى أفراد التقوى .
الثالثة: ترشح سنن التقوى والأخلاق الحميدة عن إقامة الصلاة وعن جابر بن عبد الله قال :سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ) .
وهل زيادة التقوى بالصلاة وموضوعية التقوى في أداء الصلاة يستلزم الدور بينهما ، الجواب لا ، للتباين الجهتي ولأن كل فرد من مصاديقها إرتقاء في سلم المعارف.
البيان في قوله تعالى [وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]
بعد أن ذكرت آية البحث صفتين للمتقين هما الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة ، وكل واحدة منهما يتصف بها المسلمون ويشهد عليه الناس كل يوم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ، بلحاظ أن الإيمان بالغيب وأداء الصلاة من صفة الخير والأحسن ، وشهادة الناس لهم بالصلاح , لأن هذه الشهادة حجة على الناس وجذب لهم لمنازل الإيمان ، فمن خصائص الآية القرآنية أن لها معنى مفهوماً مغايراً للمنطوق في موضوعه ومنه في هذه الآية أن منطوقها جاء بخصوص المسلمين ولكن مفهومها يتضمن العبرة والموعظة للناس والحجة عليهم ، وتجديد فتح باب التوبة والإنابة لهم .
ثم جاءت الآية بصفة ثالثة للمسلمين وهي الإنفاق في سبيل الله ، ومن خصائص الآيات الأولى من نظم القرآن أن كل واحدة منها تأديب للمسلمين وغيرهم ، فلم تقل الآية (يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)
والذي ورد خمس مرات في القرآن ( ).
وتحتمل النسبة بين آية البحث [وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] ، الذي ورد ست مرات في القرآن( )، وبين الآية اعلاه وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي ، وأن الإنفاق في الآية اعلاه هو نفسه الزكاة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الإنفاق من الرزق أعم من الزكاة ،لأنه شامل للغني والفقير من المتقين ، وأنه صاحب النصاب يعطي أكثر من الزكاة الواجبة .
الثانية : فريضة الزكاة أعم من الإنفاق لانها مقدار مخصوص في نصاب معلوم .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وأن هناك مادة للإلتقاء ، وأخرى للإفتراق .
الرابع : التباين بينهما في المقدار والحكم والأثر.
وباستثناء الوجة الرابع أعلاه فأن كل الوجوه الأخرى من مصاديق الجمع بين الآيتين ، وجاءت آية البحث لبيان عدم وجود حد أدنى أو أعلى للإنفاق ، وليس من قيد أو حصر للذين يقومون بالإنفاق ، وفيه بيان للناس بمجاهدة المسلم نفسه في الإنفاق وتقديم المحتاج على نفسه ، وبذل المال في سبيل إعلاء كلمة التوحيد قال تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] ( ) ، وفيه بعث للفزع والخوف في نفوس الكفار من المسلمين وهو من منافع البيان والإعجاز الغيري للقرآن بأن يذكر الله صفات المسلمين في القرآن ويثني عليهم فيجتنب الكفار إيذائهم والإضرار بهم .
وجاءت الآية بأربعة أفعال , وهي على قسمين :
الأول : ثلاثة منها بصيغة المضارع ونسبة الفعل فيها للمتقين [يُؤْمِنُونَ]،[ َيُقِيمُونَ]،[ يُنفِقُونَ].
الثاني : فعل واحد منها بصيغة الماضي ، ويعود إلى الله عز وجل [رَزَقْنَاهُمْ]، وفيه آية في الثناء على المسلمين فهم يبذلون ويعطون مما سبق أن رزقهم الله به وصار في ملكهم وحوزتهم من غير أن ينظروا إلى البدل والعوض ،أو يخشوا الفاقة والفقر والجوع ، وهو من مصاديق إيمانهم بالغيب ونزول الفضل من عند الله، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ) .
ومن البيان في الآية تقديم الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة على الإنفاق وفيه مسائل :
الأولى : الإنفاق فرع الإيمان بالله عز وجل ووجوب طاعته .
الثانية : بيان حقيقة وهي أن إنفاق المسلمين في سبيل الله .
الثالثة : أولوية أداء الصلاة في الشريعة الإسلامية .
الرابعة : الصلاة واجب عيني يومي يتكرر خمس مرات في اليوم وليس للإنفاق وقت مخصوص .
الخامسة : قد يأتي يوم على المسلم ليس عنده نافلة وزيادة في المال ينفقها أو ينفق منها ، أما الصلاة فانها بذل للبدن في طاعة الله .
السادسة: الصلاة سؤال عملي لجلب الرزق والإنفاق منه .
السابعة : أداء الصلاة وتلاوة القرآن فيها تهذيب للأخلاق ،وتنمية لملكة السخاء في مرضاة الله .
الثامنة: ذات الصلاة إنفاق في البدن والوقت وصيرورة الجهاد والفعل في طاعة الله.
ومن خصائص صيغة المضارع في الآية الحث على الإنفاق في سبيل الله عز وجل.
وهو من مفاهيم الإنشاء في الجملة الخبرية في القرآن ومعاني التأديب فيها ، وفيه مسائل
الأولى :البيان للناس بأن المسلمين هم المتقون .
الثانية : دعوة المسلمين للإنفاق في سبيل الله، والنهي عن الشح والبخل ونحوها من الأخلاق المذمومة .
الثالثة : بيان موضوعية قصد القربة في الإنفاق بدليل أن الآية جاءت في صفات المتقين .
الرابعة : لا ينفق المسلمون ما يكون معصية أو مقدمة للمعصية ، وفيه شاهد على تفقه المسلمين في الدين ، وأن من خصائص المتقين الفقاهة والفصل والتمييز بين الحق والباطل ، والحلال والحرام .
الخامسة : سؤال ودعاء المسلم لله عز وجل بالرزق الكريم والإنفاق منه.
السادس : تطلع المسلم إلى التوفيق للإنفاق في المستقبل .
السابعة :بيان حقيقة للناس وهي أن المسلمين هم الأمة التي تنفق من أموالها في سبيل الله .
الثامنة : رجاء المسلمين الثواب على الإنفاق .
وإخبار آية البحث عن قيام المسلمين بالإنفاق من مصاديق الآية السابقة من وجوه :
الأول : ثبوت صدق نزول القرآن من عند الله لأن فعل المسلمين موافق لما في القرآن.
الثاني : هداية المسلمين للإنفاق في سبيل الله وهو من مصاديق قوله تعالى [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث : إستدامة وجود المصداق بين الناس للمتقين الذي ذكرتهم الآية السابقة ، ليكونوا دعاة إلى الله في كل زمان وشهوداً على نزول القرآن منه تعالى بوجود أمة تعمل بأحكام القرآن وتتعاهد سننه .
وفي الآية بيان للناس بقوة الإسلام وعز المؤمنين فمن وجوه الإنفاق تجهيز الغزاة ، وتهيئة أسباب الدفاع والإحتراز من الكيد ومباغتة العدو .
وبيان للثواب العظيم الذي ينتظر المسلمين على إنفاقهم وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال :من أنفق نفقة في سبيل الله ، كتبت بسبعمائة ضعف).
ومن الإعجاز في آيات القرآن أنها تهدي إلى الإيمان بالله والإقرار بالنبوة واليوم الآخر .
فيسلم المسلمون بان ما يأتيهم من الرزق هو من عند الله سواء كان عاماً كنزول المطر ، وإخضرار الأرض أو خاصاً كالولد والكسب المبارك فيجتهدون في الدعاء والمسألة للرزق والإيمان على الإنفاق وإخراج الصدقات منه ، وفي دعاء إبراهيم للمسلمين [وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ، فإن قلت جاءت الآية بخصوص إسماعيل وذريته عند البيت الحرام.
والجواب هذا صحيح ولكن الآية تحمل على الإطلاق من جهات :
الأولى :وصف القرآن لإبراهيم بأنه أبو المسلمين لقوله تعالى [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ] ( )، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث للمسلمين جميعاً قال : عَشْرٌ مِمَّا عَلِمَهُنَّ وَعَمِلَ بِهِنَّ أَبُوكُمْ إبْرَاهِيمُ عليه السلام خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ ، وَخَمْسٌ فِي الجَسَدِ؛ فَأَمَّا الَّتِي فِي الرَّأْسِ : فَالسِّوَاكُ وَالمَضْمَضَةُ وَالاسْتِنْشَاقُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ، وَأَمَّا الَّتِي في الجَسَدِ فَالخِتَانُ وَالاسْتِحْدَادُ وَالاسْتِنْجَاءُ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَقَصُّ الأَظْفَارِ( ).
الثانية : ورود الأخبار التي تدل على التسالم على إتصال نعمة الرزق الكريم على أهل البيت الحرام.
الثالثة : الإستجابة أعم لأنها من فضل الله.
الرابعة : إذا أنعم نعمة على أهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها.
الثالث : يستقبل المسلمون في أرجاء الأرض البيت الحرام خمس مرات في اليوم ، رجاء أن يكونوا من أهله عند الله وأن تتغشاهم الرحمة وتفيض عليهم بركاته .
والدنيا دار الإختبار وما يأتي للإنسان من رزق إختبار له في كيفية إنفاقه وبيّن في القرآن حقه وحق الفقراء فيه ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ]( ) وجاءت آية البحث مطلقة من الطرفين ، طرف الكسب ومقدار الرزق، وطرف الإنفاق والبذل من غير تقييد في أحدهما ، لموضوعية التقوى في عمل الجوارح وسبل الهداية الرشاد .
ولما جاء البيان بذكر العبادة علة لخلق الناس فهل الإنفاق عل’ للرزق بتقدير (ما رزقناهم إلا لينفقوا) .
الجواب لا ، لأن الرزق يأتي بالأصل رحمة من عند الله بذات المرزوقين ولإستدامة حياتهم وتنعمهم بالطيبات والنعم في الدنيا ، لذا جاءت الآية بالبيان للناس من وجوه :
الأول : نزول الرزق من عند الله.
الثاني : إرادة المتقين بالرزق لقوله تعالى [رَزَقْنَاهُمْ].
الثالث : التبعيض في الإنفاق ، وكونه من بعض الرزق .
الرابع : الثناء على المؤمنين لقيامهم باخراج النفقة من مالهم وملكهم .
الخامس : إرادة المعنى الأعم في الإنفاق يشمل الواجب والمستحب ، لأن تقوى الله حاضرة في الوجود الذهني للمؤمن، وهو يخشى الله عز وجل في السر والعلانية ويعشق مرضاته، ويجب التلبس بطاعته بالبذل والعطاء ، وفي دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اجعلني لك صباراً، لك شكاراً ، لك ذكاراً واجعلني اليك أواها منيباً.
والإنفاق في سبيل الله شاهد على التقوى والصلاح وفيه نشر لشآبيب الرحمة بين الناس، وهو برزخ دون التعدي والظلم وشيوع السرقة والسطو، لأن الإنفاق دعوة للناس عامة للتنزه من الطمع والحرص والأخلاق المذمومة، وحث للفقراء للتحلي بالصبر، ورجاء رحمة الله بنزول الرزق.
ومن الآيات في الرزق أنه قد يأتي بالتدبير أو بلا تدبير وبالسعي أو بلا سعي، وليس من تناسب طردي بين السعي ومقدار الكسب والرزق، فقد يجتهد الإنسان في العمل ويكدح في طلب الرزق ولكنه لا يحصل إلا على القليل، أو يكون العكس بأن يكون عمله قليلاً ولكن رزقه داخر، هذا مع إتحاد موضوع الكسب والرزق لتتجلى موضوعية التقوى وذكر الله والدعاء في جلب الرزق الكريم، وجعله بلغة للتقرب من رحمة الله، وعنواناً للشكر لله عز ورجاء للتوفيق لأمور:
الأول : بلوغ مرتبة الإيمان.
الثاني : سؤال الرزق بكيفية يحبها الله وهي الدعاء المقرون بالسعي.
الثالث : إتصاف سعي وعمل المسلمين وبالسلامة من صيغ الحرام، لأن التقوى تتغشى عملهم في العبادات والعقود والمعاملات والأحكام.
الرابع : الإنفاق والبذل ليبقى الإسلام عزيزاً ولتؤدي أجيال المسلمين الصلاة والصيام والحج وسائر العبادات بأمن وسلامة، فمن البيان في آية البحث تعاهد الأخوة الإيمانية وطلب الرزق والعافية والجاه بالإنفاق في سبيل الله الذي هو من وجوه الشكر لله عز وجل ومصاديق رجاء الزيادة في قوله تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
وفي الآية حث للمسلمين على إخراج الزكاة الواجبة ممن كان عنده النصاب، وتجب الزكاة في الأنعام الثلاثة الإبل والبقر والغنم، وفيما يخرج من الأرض من خمسة أوسق الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وفي المال من الذهب والفضة المسكوكين ، والنصاب في زكاة المال هي ربع العشر أي 2,5% وأختلف في العملة الورقية والمختار أن فيها زكاة إذا بلغت النصاب بمقدار نصاب الذهب لأنها هي عملة هذا الزمان.
وجاء القرآن بتعيين موارد إنفاق وصرف الزكاة بقوله تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا….]( )، ولا تحل الزكاة لآل محمد، وفيه أحاديث عديدة.
وروي أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كخ كخ، أرم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة).
نعم زكاة الهاشمي تصح للهاشمي، والزكاة فريضة عبادية، وجاءت آية البحث بالمعنى الأعم من الزكاة وشرط النصاب، لإرادة نماء مال المسلمين، فقد يتصدق المسلم بالمستحب، فيرزقه الله النصاب ويقوم بإخراج الزكاة.
وفيها بيان للناس بطاعة المسلمين لله عز وجل ببذل أموالهم وإظهارهم معاني الأخوة الإيمانية بالبذل والعطاء والإنفاق، ليكون الإنفاق باعثاً للسعادة في نفوس المسلمين على نحو العموم الإستغراقي الأغنياء والفقراء، الذي يخرج الزكاة والذي يتوسط فيها والذي يتلقاها وغيرهم أيضاً، ويبتهج هذا الغير من جهات:
الأولى : رؤية المسلمين يعملون بطاعة الله.
الثانية : تنزه المسلمين عن البخل والشح.
الثالثة : بذل الأموال في طاعة الله.
الرابعة : إنتفاع عموم المسلمين من أموال الزكاة، وفيه إزدهار للأسواق ومعاملات البيع والشراء لتعدد أيدي المالكين وتوزيع الأموال.
ويعطي الغني الزكاة فيحرص الفقير على صلاته، ويندفع الغل عن نفسه لتكون آثار ومنافع الزكاة من الإعجاز الغيري للقرآن، وبياناً للناس في التكامل والتكافل الإقتصادي والأخلاقي في الإسلام.
ومن مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، في المقام أمور:
الأول : صدق إيمان المسلمين وإخلاصهم في طاعة الله.
الثاني : تجلي معاني الأخوة بين المسلمين، والزكاة من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثالث : الزكاة حرب على إكتناز الأموال، صحيح أنها لا تقضي عليه، ولكنها طريق للتقليل منه، وهي مانع من الخسارة والضرر الفادح لما فيها من البركة.
والزكاة لغة طهارة ونماء وزيادة.
ومن الإعجاز أن أول ذكر في القرآن للزكاة جاء في هذه الآية وبصيغة الإطلاق في الإنفاق بما هو أعم من الزكاة ونصابها.
الرابع : الإنفاق في سبيل الله ذكر له سبحانه ووسيلة للتقرب إليه وكأنها إستغفار باليد والفعل، وبالإسناد عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سَأُنَبِّئُكَ بِأَبْوَابٍ مِنْ الْخَيْرِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَقِيَامُ الْعَبْدِ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ قَرَأَ { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ })( ).
الخامس : زيادة أموال المسلمين بالزكاة وإنتفاع الفقراء من أموال الأغنياء، وزوال الضغائن بسببها، فتأتي الزيادة من جهات:
الأولى : النماء والبركة في أموال دافع الزكاة، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال) ( ).
الثانية : مجيء الخلف والعوض من عند الله.
الثالثة : تملك الفقير للمال.
الرابعة : عمارة الأسواق وتنشيط سوق العمل والتجارات، وكل من الصلاة والزكاة والحج ركن من أركان الإسلام وأيها أكثر نفعاً في إزالة الفوارق بين المسلمين ، والجواب هو الصلاة وهو ظاهر وجلي إذ أن المسلمين يقضون بين يدي الله عز وجل خمس مرات في اليوم بصفوف متراصة ويقف الفقير بجوار الغني أو يتقدمه من غير أن تكون هناك ثغرة في نفس الغني ، وغالباً ما يكون إمام الجماعة هو الفقير ، وفقره باعث للسرور في نفس المأمومين جميعاً ، وتلك آية في النظام الإجتماعي الإسلامي ، ومن مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ].
وأيهما تأتي بالمرتبة الثانية بعد الصلاة في إزالة الفوارق بين المسلمين الزكاة أم الحج ، والمختار هو الحج فهو عيد عبادي يلتقي فيه المسلمون بكلمة واحدة هي ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك )، إذ تنتفي في الحج الفوارق بين وفد الحاج ،والزكاة عبادة مالية أما الحج فهو عبادة بدنية مالية وفيه تحل باخلاق الأنبياء وإقتفاء لأثرهم وتخل عن الأخلاق المذمومة .
وكما تتعلق الزكاة بمن يملك النصاب في ماله ، فان الخطاب التكليفي بالحج يتوجه للمستطيع بدنياً ومالياً، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا]( ).
وإذ تؤدي الزكاة على نحو فردي وشخصي فان الحج أعظم إجتماع سنوي على وجه الأرض يتجدد إمتثالاً لأمر الله ورجاء فضله وإحسانه نعم تنبسط وتتجلى الزكاة ودفعها في كل بلد من بلدان المسلمين، الغني يدفع للفقير، أما الحج فهو في موضع مبارك متحد.
وبين قوله تعالى [وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]، وبين الزكاة عموم وخصوص مطلق إذ أن الإنفاق في الآية أعلاه أعم من الزكاة من جهات :
الأولى : الزكاة قدر مخصوص في نصاب معلوم ، أما الإنفاق فهو أعم ، ويشمل الذي ليس عنده نصاب .
الثانية : مقدار الزكاة أمر ثابت بالسنة النبوية الشريفة ،أما الإنفاق فهو من الكلي المشكك الذي يقبل الزيادة والنقيصة ويصدق على الكثير والقليل ، ويتقوم بلغة التبعيض الواردة في الاية بحرف الجر (من) في قوله تعالى [َمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ]،أي انفاق بعض الذي أنعم الله عز وجل به عليهم .
الثالثة :التساوي بالأداء بين الصلاة والإنفاق فكما أن الصلاة واجب عيني عن كل مسلم ومسلمة فكذا الإنفاق واجب عيني على كل متق ومتقية والميسور قال تعالى [لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا].
البيان في قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ] ( ).
بعد ذكر ثلاث صفات للمتقين في الآية السابقة جاءت هذه الآية في بيان ثلاث أخرى لهم ، وهو إكرام وتشريف وشهادة للمسلمين بالتقوى والصلاح وإذ جاءت الآية السابقة بذكر الصلاة والزكاة كأمارة وشاهد على عبادة المسلمين وأدائهم ضروب الطاعة والإمتثال لله عز وجل ، جاءت هذه الآية بخصوص الإيمان والتصديق القلبي ، وهو تقسيم كريم يتضمن البيان للناس جميعاً في وصف المسلمين ومعرفة حسن سمتهم لتبدأ صفات المتقين بالإيمان بالغيب في الآية السابقة وتختتم بالتصديق الجازم بالآخرة وعالم الحساب.
لقد إبتدأت هذه السورة بوصف القرآن بانه الكتاب وأنه هدى من عند الله ، وجاءت هذه الآية بقوله تعالى [ِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ]، وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً :
الأول :نسبة التساوي وأن الكتاب المذكور في الآية السابقة هو نفسه ما أنزل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق وأن التنزيل أعم من الكتاب، لأنه يشمل الحديث القدسي والوحي الذي يتجلى بالسنة القولية والفعلية.
الثالث : الصلة بين الكتاب وما انزله الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
الرابع : الصلة بينهما هو التباين في المعنى والمصاديق ، وأن التنزيل صفة للكتاب وورد في المرسل (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال : أتاني الله القرآن ومن الحكمة مثليه ) ( ).
والقدر المتيقن هو الأول وتكون الوجوه الثلاثة الأخرى في طوله وليس معارضة له ، ولقد قال تعالى في خطاب لأهل الكتاب [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ) ،والمراد هو القرآن .
ويعمل المسلمون بالكتاب والسنة ويؤمنون بأن قول وفعل النبي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَىإِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ). وجاءت الآية بصيغة الماضي بخصوص التنزيل [مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ] ، وبصيغة المضارع في لفظ إيمان المسلمين [يُؤْمِنُونَ] ، وفيه بيان لقانون كلي وهو أن أجيال المسلمين المتعاقبة تؤمن وتصدق بالقرآن ،فينقطع التنزيل والى الأبد بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ولكن القرآن الإيمان به باق في الأرض وإلى يوم القيامة ، وهو من الدلائل على سلامة القرآن من التحريف والتغيير والتبديل . ولما أخبر القرآن عن علة خلق الإنسان وهي العبادة بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) ،جاءت آية البحث بالبشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت وطبقة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين من جهات : الأولى: توارث المسلمين الإيمان . الثانية :بقاء وثبات الإيمان في الأرض وإلى يوم القيامة . الثالثة: صدور إيمان المسلمين بالنبوة والتنزيل عن التقوى والخشوع لله عز وجل وفيه شاهد على تنزه المسلمين عن الغلو ، وهذا التنزه حاجة وتعضيد للإيمان وشاهد على إخلاص المسلمين في طاعة الله ليكون إيمان المسلمين بياناً للناس وحجة حاضرة من وجوه : الأول : إيمان المسلم الواحد . الثاني : إيمان الطبقة والجيل من المسلمين . الثالث: إتحاد إيمان طبقات وأجيال المسلمين على نحو العموم المجموعي ، ويتجلى باتحاد ضروب العبادات التي يؤدونها وكيفيتها التي تتصل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاكاة أجيال المسلمين اللاحقة له في صلاته وصيامه وحجه من غير إنقطاع في أولها أو أوسطها أو آخرها . قال صلى الله عليه وآله وسلم : خذوا عني مناسككم ) ( )، ليكون هذا الخطاب والأمر إنحلالياً يوجه لكل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، تعاهد المسلمين بالقول والعمل لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العبادية ليكون فعلهم العبادي دعوة للناس في كل زمان لعبادة الله ونبذ الشرك ومفاهيم الضلالة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ). وإبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) ويحتمل وجوهاً: الأول : إرادة ذات الأمة والمقصودين في الآية السابقة، وتقدير الجمع بينهما: الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ويؤمنون بما أنزل إليك….). الثاني : التعدد والغيرية، وهو الأصل في العطف بالواو كما في قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( )، وفي هذه الغيرية بيان للناس بعصمة المسلمين من الغلو. الثالث : التفصيل، فمن الناس من يجمع بين الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإيمان بما أنزل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل قبله وهم المسلمون، ومنهم من يقف عند التصديق والإيمان بنزول القرآن كما في قوله تعالى[وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ]( ). والصحيح هو الأول فذات الذين ذكرتهم الآية السابقة وهم المتقون، تذكرهم هذه الآية بصفات أخرى من خصال التقوى والصلاح، لبيان أن مجاهدة للنفس إكتساب للعلوم من التقوى وسبيل إليها. ومن الأعجاز في القرآن تكرار ورود لفظ [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ] في بدايات نظمه وفيه وجوه : الأول :إرادة خصوص المسلمين في صيغة الإيمان . الثاني : الشهادة للمسلمين وعلى نحو العموم الإستغراقي بالإيمان . الثالث: تأكيد الملازمة بين التقوى ومصاديق الإيمان . الرابع : البيان للناس بأن الإسلام يتضمن الإيمان بضروب من سبل الهداية ، أصلها التقوى والنطق بالشهادتين . السادس : لابد من الإيمان الصادق وعلى نحو الموجبة الكلية ، وليس الإيمان المتجزأ الذي يكمن في ثناياه الشك والريب ، ويظهر في ساعة الضيق والشدة كما في حال المنافقين . (عن ابن عباس قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسلمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن ، قالوا : إن ديننا هذا صالح فتمسكوا به؛ وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط ، قالوا : ما في ديننا هذا خير . فأنزل الله [ ومن الناس من يعبد الله على حرف ] ( ). ومن إعجاز نظم القرآن إفراد أول آيات سورة البقرة للثناء على المسلمين والإخبار عن صلاحهم لعمارة الأرض بتقوى الله ووظائف الخلافة التي تتقوم بالإيمان وترجمة الإيمان إلى أفعال ، ويتجلى هذا الثناء بوجوه: الأول : نعت المسلمين بالمتقين فان قلت ما هو الدليل على أن المراد من قوله تعالى [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]، هم المسلمون ، الجواب من جهات : الأولى : يتخذ المسلمون القرآن إماماً وقائداً ويصدرون عنه في أمور الدين والدنيا. الثانية : تلقي المسلمين للهدُى بالقرآن . الثالثة :إقامة المسلمين للفرائض ، وأداؤهم العبادات باوقاتها المرسومة في الكتاب والسنة . الرابعة : تقوم التقوى بالخشية من الله عز وجل والمسلمون يخافون الله عز وجل ويتعاهدون طاعته ويرجون فضله في النشأتين، والخشية من الله نوع علم وصلاح وزاجر عن المعاصي. لقد جاءت الآيات الأولى من سورة البقرة بصفات خاصة بالمسلمين هي : الأولى : تقوى الله في السر والعلانية . الثانية : تلقي المسلمين الهدى من عند الله عز وجل ، وإنعدام الواسطة بينهم وبينه سبحانه ، لذا قد يأتي الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويراد المسلمون معه في الأمر والخطاب ، وتارة يأتي الأمر في القرآن إلى المسلمين كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]، الذي ورد تسعين مرة في القرآن ، ولا ينحصر هُدى القرآن للمسلمين بآيات الخطاب الخاصة بهم ، فكل آية هي هدى للمسلمين والمسلمات وسبيل صلاح لهم وللناس . الثالثة: تفقه المسلمين في الدين ومعرفتهم بأن القرآن هُدى وخير محض ، وفيه دعوة لهم للشكر لله عز وجل على إصلاحهم لتلقي هذه النعمة بالرضا والقبول . الرابعة :حفظ المسلمين للقرآن ، وتعاهدهم له ولرسمه ولآياته لدلالة قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( )، على بقائه في الأرض إلى يوم القيامة سالماً من التحريف والتغيير. الخامسة : نيل المسلمين مرتبة [الْمُتَّقِينَ] بفضل من الله عز وجل ، وفيه تثبيت لدعائم الدين في الأرض وبرزخ دون تمادي الكفار بمسالك الضلالة والغي ، وعندما إحتجت الملائكة على نيل الإنسان شرف الخلافة [إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) . فكان من علم الله عز وجل أنه يجعل أمة عظيمة من المتقين ترث الأرض ويأتيها الهدى بالكتاب النازل من السماء كل يوم لترتقي في سلم التقوى وبما يعمر الأرض بضروب العبادة والتسبيح وتلاوة كلام الله ومن اللطف الإلهي إبتداء القرآن بالثناء على المسلمين والشهادة لهم بالتقوى والخشية من الله , قال تعالى [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ] ( ). السادسة : إتصاف المسلمين بخصلة حميدة وهي إقامة الصلاة ، وجاء الألف واللام في قوله تعالى [وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ]، لإفادة العهد لتكون الصلاة المطلوبة من العباد تعينية تتقوم بتلاوة الكتاب التي تكون فيها زيادة في الهدى . ويتجلى مصداق صيغة الجمع في الآية أعلاه بأداء المسلمين الصلاة جماعة وفرادى . السابعة : إتخاذ المسلمين الرزق من الله موضوعاً للشكر له تعالى بالبذل والإنفاق منه ، وجعله بلغة وليس غاية ، وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن بناء صرح الإيمان وتعاهده يستلزم الإنفاق والبذل . الثامنة : إبتداء السورة بتسمية القرآن بالكتاب وبعد آيتين جاءت هذه الآية لتسمي القرآن بصفة التنزيل [مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ]، وفيه خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . ومن أسرار هذه التسمية أنها جاءت بخصوص إيمان المسلمين وبيان التسليم والتصديق بكل ما يبلغ النبي محمد صلى الله عليه السلام بأنه تنزيل من عند الله. ويدل بالدلالة التضمنية على شهادة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمانة والصدق ، وفيه شاهد على عظيم منزلة النبي وأنه الواسطة بين الله وبين خلقه ، وحاجته إلى العصمة والضبط في التبليغ . التاسعة :إقرار المسلمين بالكتب المنزلة على الأنبياء السابقين لبيان حقيقة وهي أن الوحي والتنزيل حبل ممدود بين الله عز وجل وبين الأنبياء ، ينزل الملائكة بالوحي ويجتهد الأنبياء بالتبليغ ، وأخرج الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس بلواء التصديق بالكتب السماوية كلها كالتوراة والإنجيل ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى] ( ) .
ويؤمن المسلمون بصدق نزول كل كلمة مما بين الدفتين وأن القرآن خال من الزيادة والنقصان .
أما العلم بالكتب السابقة فهو بعلم إجمالي وتسليم بنزول الوحي والكتب على الأنبياء ، وجاءت مضامينها في القرآن , قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) .
لقد أكرم الله عز وجل الأنبياء بالوحي وأراد سبحانه أن يبقى ذكرهم في الأرض ويكون جهادهم وصبرهم مناراً ونبراساً للمؤمنين من وجوه :
الأول : تعدد ذكر الأنبياء وقصصهم في القرآن إذ ترد الآيات مطلقة بذكرهم بصفة النبوة أو الرسالة، ولقد تكررت الشهادة من الله عز وجل لثلاثة من الأنبياء في سورة واحدة بقوله تعالى [وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ]( )، [ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ]( )،[ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ]( ).
إن إخبار القرآن عن النبوة وثيقة سماوية باقية في الأرض إلى يوم القيامة ، ودعوة للهداية والإيمان لقد أعتدي على شطر من الأنبياء ومنهم من قُتل في دعوته إلى الله عز وجل ، وجاء ذكرهم في القرآن ثواباً عاجلاً في الدنيا .
الثاني : شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء السابقين بالنبوة ، وذكره لقصصهم بلغة العبرة والموعظة منها ما ورد (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه – والله يغفر له – حيث أرسل إليه ليستفتى في الرؤيا ، وإن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج ، وعجبت من صبره وكرمه – والله يغفر له – أتى ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره ، ولو كنت أنا لبادرت الباب ، ولكنه أحب أن يكون له العذر) ( ).
وقوله : رحم الله أخي يوسف ، لو أنا أتاني الرسول بعد طول الحبس لأسرعت الإجابة ، حين قال { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة )( ).
وقوله : (رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض ، لاستعمله من ساعته ، ولكنه أخر ذلك سنة ) ( ).
وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فتح مكة ، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أهل مكة ، ماذا تظنون ، ماذا تقولون؟ قالوا : نظن خيراً ونقول خيراً : ابن عم كريم قد قدرت ، قال : فإني أقول كما قال أخي يوسف { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)( ).
كذا ورد الحديث بصفة الأخوة في النبوة فيما يخص موسى عليه السلام، وعن رسول الله عليه وآله وسلم : لما خرج أخي موسى إلى مناجاة ربه كلمه ألف كلمة ومائتي كلمة ، فأول ما كلمه بالبربرية أن قال : يا موسى ونفسي معبراً: أي أنا الله الأكبر. قال موسى: يا رب أعطيت الدنيا لأعدائك ومنعتها أولياءك فما الحكمة في ذلك؟ فأوحى الله إليه: أعطيتها أعدائي ليتمرغوا، ومنعتها أوليائي ليتضرعوا)( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عجلان قال : كلم الله موسى بالألسنة كلها ، وكان فيما كلمه لسان البربر فقال كلمنه بالبربرية : أنا الله الكبير)( ).
وعن أبي ذر الغفاري قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم} بهاتين وإلاّ صمّتا ورأيته بهاتين وإلاّ فعميتا يقول : عليّ قائد البررة،وقاتل الكفرة،منصور من نصره مخذول من خذله أما إني صليت مع رسول اللّه يوماً من الأيام صلاة الظهر فدخل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد إني سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئاً وكان علي راكعاً فأومى إليه بخنصره اليمنى، وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة فرفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إن أخي موسى سألك،
فقال : {ربّ إشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري} الآية،
فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} اللهم وأنا محمد نبيّك وصفيّك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أُشدد به ظهري.
قال أبو ذر : فو اللّه ما استتم رسول اللّه الكلمة حتى أنزل عليه جبرئيل من عند اللّه .
فقال : يا محمد إقرأ .
فقال : وما أقرأ؟
قال : إقرأ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، إلى {رَاكِعُونَ} ) ( ).
الثالث :إستحضار المسلمين سنن الأنبياء في حياتهم اليومية وفي العبادات والمعاملات ، والإقتداء بهم لإرادة إصلاح الأهل والمجتمعات كما في قوله تعالى [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا*وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا]( ) .
الرابع : دعوة الناس لهجران طريق الضلال ونبذ مناهج أعداء النبوة الذين لم يحصدوا إلا الخسارة .
الخامس : إفتخار المسلمين بأنهم ورثة الأنبياء ، وحملة رسالتهم وأتباع نهجهم في الدعوة إلى الله عز وجل .
السادس : إشتراك الأنبياء بنعم عظيمة ينفردون بها من بين الناس مثل الوحي والميثاق الخاص والصلة مع عالم الملكوت ، قال تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ] ( ).
إن توثيق قصص الأنبياء وتكرار ذكرهم وأسماء شطر منهم في القرآن هو خير ثواب تفوز به طائفة من البشر في الحياة الدنيا من جهات:
الأولى : ذكر أسماء الأنبياء وقصصهم في الكتاب السماوي الخالد والباقي في الأرض إلى يوم القيامة .
الثانية : رشحات ذكر أسماء الأنبياء في القرآن والسنة والدروس المقتبسة منه.
الثالثة : إقتداء المسلمين بالأنبياء في نهجهم وسنتهم .
الرابعة : ترشح دروس الصبر من قصص الأنبياء ، وتحملهم الأذى في جنب الله ، ومواظبتهم على الدعوة والجهاد في سبيل الله مع ملاقاة قومهم لهم بالتكذيب ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ]( ).
الخامسة : بعث اليأس والقنوط في قلوب الكفار عند سماع المسلمين يتلون آيات النبوة بإيمان وتسليم وهذه التلاوة [وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ]، من مصاديق التصديق بالأنبياء والثناء عليهم، وبيان جهادهم، والثواب العظيم لهم في الدنيا والآخرة .
السادسة : إتخاذ المسلمين قصص الأنبياء حجة وبرهاناً في الجدال والبرهان ، وفي ذات الجدال زيادة في الهدى وثبات في مقامات الإيمان وهو من مصاديق الهدى في قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
السابعة : تجدد ذم الذين كذّبوا الأنبياء كل يوم ففعلهم قضية عين ، واقعة في مكان وزمان محدودين، ولكن ذكر الواقعة يتلوه المؤمنون في الصباح والمساء بما يبعث النفرة قي النفوس من الكفر والكفار ، وما يجلبه الصدود عن النبوة من الخزي في الدنيا ، أما في الآخرة فان العقاب أليم ، قال تعالى [الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمْ الْخَاسِرِينَ]( ).
وتحتمل الخسارة في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : الخسارة في الآخرة والخلود في الجحيم وانعدام الشفيع والنصير.
الثاني :الخسارة في الدنيا .
الثالث : المعنى الأعم ، وإرادة الإطلاق بالخسارة في الدنيا والآخرة .
والصحيح هو الأخير ، ومن الآيات أن الكافر يدرك خسارته حال قيامه بتكذيب النبوة وإيذاء الأنبياء ، ومن الخسارة فضحهم في القرآن وبيان أكرام الله والمؤمنين.
لقد أراد الله عز وجل لحياة وسيرة الأنبياء أن تكون بياناً للناس إلى يوم القيامة، وتتجلى صيغ البيان على وجوه:
الأول : نزول عدة كتب سماوية بسيرة الأنبياء.
الثاني : ترك الخيار للناس في الرجوع لأي من الكتب السماوية في معرفة نهج الأنبياء.
الثالث : الإقتداء بالأنبياء بالأخبار وكتب السير.
الرابع : الرجوع إلى أصحاب الأنبياء وأتباعهم من الأولين فيما يخبرون عن قصصهم وإعتبار أصالة الصحة في الرواية والنقل والتدوين.
الخامس : كتابة الأنبياء أنفسهم لسيرتهم، وإملاءها على أصحابهم وتوارث أتباعهم لها.
السادس : ذكر قصص الأنبياء بالكتاب السماوي الخالد إلى يوم القيامة، وهو القرآن.
والصحيح هو الأخير، وفيه نفع عظيم للمسلمين , قال تعالى[وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ]( )،وهو من مصاديق تسمية القرآن بالكتاب من جهات:
الأولى : حفظ القرآن لسنن النبوة.
الثانية : بيان القرآن لتأريخ النبوة.
الثالثة : إقامة القرآن الحجة على الناس بتشابه ومحاكاة سيرة المسلمين لسنن الأنبياء.
الرابعة : سلامة قصص الأنبياء من التحريف، لقد طالت يد التبديل والمحو والتغيير كتباً سماوية سابقة، فتفضل الله عز وجل بالهبة العظمى لأهل الأرض وهو القرآن، وحفظه بكلماته ورسمه وآياته، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الخامسة : بيان فضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين لحفظ ميراثهم وسننهم بالكتاب النازل عليه.
الثامنة : الثناء على المسلمين بأنهم يقطعون ويسلمون بوقوع يوم القيامة كما سيأتي بيانه.
لقد تكرر لفظ (صراط) في سورة الفاتحة بمعنى الطريق مع التباين في موضوعه إذ سأل المسلمون الهداية والتوفيق الى الصراط المستقيم، والسلامة والأمن من طرق الغواية.
بعد مجيء الآيات السابقة بصيغة الغائب جاءت هذه الآية بلغة الخطاب ليكون من إعجاز القرآن أن أول خطاب في سورة الفاتحة هو إستجارة وإقرار ولجوء من العباد إلى الله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( )، في سورة الفاتحة.
والخطاب الثاني بعده في نظم القرآن ، والأولى في سورة البقرة موجه من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبخصوص التنزيل [وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ] ( )، وفيه مسائل :
الأولى : الشهادة من الله عز وجل بأن القرآن كتاب نازل من عند الله.
الثانية : مجيء الآية بصيغة الإطلاق [مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ] ليشمل الحديث القدسي والسنة النبوية .
الثالثة : بيان خصوصية وهي أن تصديق المسلمين بنزول القرآن فضل من الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : الثناء على المسلمين لإيمانهم ، وإنفرادهم بالتصديق بالقرآن والكتب السماوية السابقة .
الخامسة : بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الإنبياء بأن أمته تؤمن بالكتب السماوية السابقة.
والنسبة بين الإيمان بالقرآن والتنزيل مطلقاً وبين الإقرار والتسليم بالآخرة على وجوه :
الأول : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق .
الثالث: التساوي والإيمان بالتنزيل هو ذاته يقين بالآخرة .
الرابع : نسبة التباين والإختلاف بينهما .
والصحيح هو الأول والثاني بلحاظ جهتي لكل منهما ، إذ تضمنت الكتب السماوية المنزلة الإخبار عن البعث والحياة ما بعد الموت ، والتصديق بها وبمضامينها وما فيها من الأحكام .
والإيمان بالمعاد من أركان الإيمان ، وهو موضوع قائم بذاته ، قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( )، وتدل الآية بالدلالة التضمنية على وجوب القطع والجزم بوقوع يوم القيامة ، وهذا الجزم دعوة للتفقه بخصوص عالم الآخرة وأهواله .
وعن ابن عباس جاء أُبيّ بن خلف الجمحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم نخر فقال : أتعدنا يا محمد إذا بليت عظامنا ، فكانت رميماً أن الله باعثنا خلقاً جديداً ، ثم جعل يفت العظم ويذره في الريح فيقول : يا محمد من يحيي هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم . يميتك الله ، ثم يحييك ، ويجعلك في جهنم ، ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم{وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه})( ).
لقد ورد في سورة الفاتحة ذكر يوم القيامة بقوله تعالى [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] ، في ثناء الله عز وجل على نفسه وبيان ملكه المطلق للدنيا والآخرة، وآية البحث هي أول آية من سورة البقرة تذكر عالم الآخرة ، ومن إعجاز القرآن ذكر الآخرة في سورة الفاتحة وفي هذه الآية بالبيان للناس والإخبار عن إيمان المسلمين به فليس في منطوق الآيتين تخويف أو وعيد .
وتتضمن الآية البيان للناس بأن القرآن مدد للمؤمنين في صراعهم مع أهل الضلالة الذين يصرون على الجحود باليوم الآخر ،قال تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ] ( ).
وإبتدأت هذه الآية بمثل ما إبتدأت به الآية السابقة وهو قوله تعالى[َالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ] وفيه مسائل :
الأولى : بيان شرف وسمو مرتبة الإيمان.
الثانية : التأكيد على الإيمان وموضوعيته.
الثالثة : الدلالة على النفع العظيم للقرآن وأنه يهدي إلى منازل الإيمان.
الرابعة : تحلي المسلمين والمسلمات بالإيمان حجة وبرهان على صدق نزول القرآن من عند الله.
الخامسة : لما أخبرت الآية قبل السابقة بأن القرآن هدىّ للمتقين ذكرت الآية اللاحقة لها إستجابة المسلمين وهدايتهم بالإيمان بالغيب، وتعقبتها هذه الآية لبيان إيمانهم بالقرآن والكتب السماوية السابقة.
والنسبة بين إيمان المسلمين بالقرآن والكتب السماوية السابقة على وجوه:
الأول : التساوي، وأن الإيمان وان تعدد مصداقه فهو على مرتبة واحدة.
الثاني : الإيمان على نحو الموجبة الكلية بالقرآن وعلى نحو الموجبة الجزئية بالكتب السماوية السابقة.
الثالث : الإيمان بالقرآن كله لسلامته من التحريف والإيمان بما لم تصل إليه يد التحريف من الكتب السماوية السابقة.
الرابع : الإيمان على نحو العموم الإستغراقي بكلمات وآيات القرآن، والإيمان الإجمالي بالكتب السماوية السابقة.
والصحيح هو الأول والرابع من غير تعارض بينهما، إذ يحمل الكلام العربي على الإطلاق إلا مع القرينة على التقييد، فمن جهة أصل الإيمان هو متحد ومتساو، وتتداول أيدي المسلمين القرآن بداً بيد من حين البعثة النبوية وإلى يومنا هذا وحتى [يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ] ( )، بفضل الله عز وجل.
ويؤمن المسلمون بأمور:
الأول : سبق وتقدم بعثة أنبياء سابقين على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : نزول كتب سماوية على الأنبياء السابقين.
الثالث : إتحاد سنخية الكتب السماوية من جهات:
الأولى : نزول الكتب السماوية من عند الله .
الثانية : مجئ الكتب السماوية بواسطة الملك السماوي والوحي.
الثالثة : قيام الأنبياء بالتبليغ والعمل بمضامين الكتب النازلة عليهم.
الرابع : نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة للنبوات،فليس من نبي بعده ولا ينزل كتاب بعد القرآن.
لقد ورد ذكر عدد من الكتب السماوية السابقة، وهي التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، والإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام، والزبور الذي أنزل على داود، وصحف إبراهيم,
وأخرج عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وعلى ادريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف ، وأنزل التوراة والإِنجيل والزبور والفرقان . قلت يا رسول الله : فما كانت صحف إبراهيم؟ قال : أمثال كلها أيها الملك المتسلط المبتلى المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها ولو كانت من كافر ، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ويتفكر فيما صنع ، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال ، فإن في هذه الساعة عوناً لتلك الساعات واستجماعاً للقلوب وتفريغاً لها ، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه حافظاً للسانه ، فإن من حسب كلامه من عمله أقل الكلام إلا فيما يعنيه ، وعلى العاقل أن يكون طالباً لثلاث مرمة لمعاش ، أو تزوّد لمعاد ، أو تلذذ في غير محرم . قلت يا رسول الله : فما كانت صحف موسى؟ قال : كانت عبراً كلها عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، ولمن أيقن بالموت ثم يضحك ، ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها ، ولمن أيقن بالقدر ثم ينصب ، ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل . قلت يا رسول الله: هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى……. الحديث( ).
وتبعث هذه الآيات حب الإيمان في النفس ،إذ أنها جاءت بلفظ الكتاب ، والهدى ، والمتقين ، والإيمان ، وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله ، وذكرت التنزيل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
وتحتمل النسبة بين تصديق المسلمين بالقرآن وتصديقهم بالكتب السابقة وجوهاً:
الأول: التصديق التفصيلي بكل منها.
الثاني : التصديق التفصيلي بالقرآن ، والتصديق الإجمالي بالكتب السماوية السابقة .
الثالث: التصديق الإجمالي بالقرآن ، والتفصيل بالكتب السابقة .
الرابع: التصديق الإجمالي المطلق سواء بما أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أنزل على الأنبياء السابقين .
والصحيح هو الثاني، فالآية إنحلالية وتقديرها ( والذين يؤمنون بكل ما أنزل إليك ) ويعملون به ويصدقون بنزول الكتب السماوية السابقة .
لقد جاء الخطاب القرآني متعدداً في جهته ، ويتضمن الإطلاق والتقييد،منه:
الأول : يا أيها الناس .
الثاني : يا أيها الرسل والذي ورد مرة واحدة في القرآن [يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ]( ).
الثالث: يا أيها الذين أمنوا ، ويشمل المسلمين والمسلمات ، وكل من نطق بالشهادتين وإن أخفى النفاق وأبطن الشك ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا]( )، وفي نعت المسلمين بالإيمان وزجرهم عن قول القبيح دعوة لهم جميعاً للتنزه من النفاق ، لذا كان يتضاءل ويقل عدد أصحابه مع تقادم الأيام وتوالي نزول الآيات .
الثالث: يا أهل الكتاب .
الرابع : يا بني إسرائيل .
الخامس : توجه الخطاب القرآني إلى الذين يسخرون عقولهم للتدبر والتفكر , قال تعالى [وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
السادس :الخطاب الشخصي لآدم عليه السلام كما في قوله تعالى [وَقُلْنَا يَاآدَمُ]والذي ورد أربع مرات خطاباً من عند الله له كما في قوله تعالى [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ]( ).
السابع :الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الأمر [قُلْ] ، وبصيغة النداء [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ] ، وبصفة النبوة كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ] ( ).
الثامن : توجه الخطاب للمسلمين والمسلمات بلفظ [قُولُوا] .
وتتضمن الآية الثناء والمدح على وجهين:
الأول : يتضمن قوله تعالى ( يؤمنون بما أنزل اليك ) الثناء والمدح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , من جهات:
الأولى : الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لشهادة الآية بنزول القرآن عليه.
الثانية : بيان عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكل ما يخبر عنه بأنه نازل عليه من عند الله فهو حق وصدق، وإذا كان جبرئيل واسطة بين الله عز وجل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليس من واسطة بين الله والمؤمنين الا هو.
الثالثة : جعل الله ما أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قبال كل ما أنزل على الأنبياء السابقين.
الرابعة : تقديم الآية لما أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه متأخر زماناً عن الكتب المنزلة على الأنبياء السابقين.
الخامسة : دعوة المسلمين والناس للتصديق بالوحي الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن والحديث القدسي والسنة النبوية لقوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثاني : الثناء على المسلمين والمسلمات من جهات:
الأولى : الشهادة من الله عز وجل للمسلمين بالإيمان.
الثانية : عدم تفريط المسلمين بأي مصداق من مصاديق الإيمان.
الثالثة : دلالة الآية على وراثة المسلمين لسنن الأنبياء وما كان يؤمن به الصالحون ويتلقون به البشارة، والإتحاد بين إيمان والأمم السابقة بالكتب التي سبقت القرآن، أماالمسلمون فانهم آمنوا بالقرآن وبتلك الكتب السماوية نعم كانت تلك الأمم تتوارث البشارة بالقرآن .
ومن منافع هذه البشارة التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند سماعهم آيات القرآن، وتجلي معجزات الرسالة على يديه بفيض ولطف من عند الله.
ليكون إيمان عدد من علماء أهل الكتاب بياناً للناس ودعوة لهم للإيمان وأداء الفرائض، وقيل أن قوله تعالى (يؤمنون بما أنزل إليك) نزلت في مؤمني أهل الكتاب يؤمنون بالقرآن( )، ولكن الآية ظاهرة في إرادة المسلمين خاصة وأنها جاءت بصيغة الفعل المضارع (يؤمنون) وهي فرد من صفاتهم بالعلم بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
البيان في قوله تعالى[وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( )،
لقد جعل الله عز وجل الدنيا مزرعة للآخرة أي هناك غاية يسعى لها الناس، وعالم آخر غير الدنيا لوجود مزروع له، ويستطيع الإنسان الزراعة في الدنيا ولكنه في الآخرة يتعذر عليه العمل مطلقاً.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من مات فقد قامت قيامته)( )، وفي علم الأصول قاعدة وهي(قبح العقاب بلا بيان) لتكون كل آية من آيات القرآن بياناً وحجة تذكر الناس بإتصاف أيام الدنيا بصيغة الإختبار والإمتحان وأنها طريق وصراط إلى عالم آخر.
وتتضمن الآية أطرافاً:
الأول : المسلمون، وهم الذين إختاروا الإيمان بفضل الله.
الثاني : اليقين والتصديق.
الثالث : الآخرة وهي المصدق بها.
الرابع : زمان اليقين والتصديق وهو الحياة الدنيا.
وإبتدأت الآية السابقة بالشهادة للمسلمين بالإيمان بالغيب وجاءت خاتمة هذه الآية بالإخبار عن تصديق المسلمين بيوم القيمة، وفي النسبة بينهما وجوه:
الأول : نسبة التساوي، وأن المراد من الغيب في الآية السابقة هو الآخرة.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وأن الغيب أعم من الآخرة.
الثالث : المراد نسبة العموم والخصوص من وجه، وأن هناك مادة للإلتقاء بينهما، وأخرى للإفتراق.
الرابع : إرادة نسبة التباين بين الغيب والآخرة.
والصحيح هو الثاني، لأن الغيب كل ما غاب عن الحواس، فتتعلق مصاديقه بالدنيا وما يشمل أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل، ويشمل الدار الآخرة وأهوالها ومواطن الحساب، وعالم الجزاء فيها والخلود في النعيم للصالحين، والخلود في الجحيم للكافرين، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
واليقين هو الأمر الثابت الصدق، والذي يفيد التأكيد والقطع وإنتفاء الشك والريب، واليقين في الإصطلاح الفلسفي هو سكون النفس إلى حكم، والقطع بصحته، وعند الصوفية هو فناء العبد في الحق، وموضوعه المعرفة، وأولى مراتبها علم اليقين ثم تأتي بعدها مرتبة عين اليقين ثم حق اليقين، وفي قوله تعالى[وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ]( )، ذكر أن اليقين هو الموت .
وعن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما أوحي إليّ أن أكون تاجراً ولا أجمع المال متكاثراً، ولكن أوحي إلي أن { سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين})( ).
ومن معاني اليقين إستقرار العلم بالشيء في الوجود الذهني وعدم قابليته للإنقلاب أو التحول، وتتضمن الآية الثناء على المسلمين لمجيئها بصيغة الجمع (يؤمنون) فالآية إنحلالية، وكل مسلم ومسلمة، يوقنان بحتمية حلول الآخرة وعالم الحساب، وفيه مدح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً لأن أمته بلغت مرتبة اليقين الإيمان الجازم، وفيه غاية السعادة.
وعن عبد الله بن مسعود قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تعالى بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين) ( ).
لقد خلق الله الناس لعبادته وجعلهم خلفاء في الأرض لعمارتها بالتقوى والصلاح، فأخرج المسلمين للناس أمة تتصف بصدق الإيمان وتلقي التنزيل بالقبول والرضا ويستعد أفرادها للآخرة وكأنها واقعة غداً، فمن معاني اليقين في المقام أن مواطن يوم القيامة حاضرة في الوجود الذهني للمسلمين، وعند قيامهم بأي عمل في باب العبادات أو المعاملات، وفيه بيان للناس من وجوه:
الأول : نيل المسلمين لمرتبة (خير أمة) بالتسليم بما جاء في التنزيل من الإخبار المتعدد عن عالم الآخرة.
الثاني : إستحضار المسلمين للعاقبة وصيغ الثواب والجزاء عند الشروع بالقول أو الفعل.
الثالث : بعث اليأس والقنوط في قلوب الكفار من دبيب الشك في قلوب المسلمين في حتمية الحساب ، فكأن الآية تزجر الكفار عن جدال المسلمين بخصوص الآخرة .
الرابع : دعوة الناس للتصديق بأن هذا العالم ينقطع بالفناء أو قل بإنقلاب يطوي الدنيا ليحل عالم آخر يحضر فيه الناس جميعاً يبعثون من قبورهم مرة واحدة للوقوف بين يدي الله للحساب .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( )،التصديق بأن أوان وكيفية إنقضاء عالم الدنيا أمر بيد الله وهو وحده القادر عليه وأن هذا الإنقضاء ليس نهاية , بل هو بداية لعالم آخر يتصف بالدوام وقائم على ماهية الثواب والعقاب .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن الساعة فقال : لا يعلمها إلا الله ولا يجليها لوقتها إلا هو ، ولكن سأخبركم بمشاريطها ما بين يديها من الفتن والهرج . فقال رجل : وما الهرج يا رسول الله؟ قال : بلسان الحبشة القتل ، وأن تجف قلوب الناس ، ويلقى بينهم التناكر فلا يكاد أحد يعرف أحداً ، ويرفع ذو الحجا( )، ويبقى رجراجة من الناس ، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً ) ( ).
وهل اليقين بالآخرة أمر قلبي وإعتقاد ذاتي فحسب، الجواب لا ، فهو ملكة تبعث على فعل الصالحات ، وتعصم صاحبها من إرتكاب ما يكون وبالاً وأذى عليه يوم القيامة ، وتلك منزلة تتقوم بها الدنيا وتكون علة لإستدامة الحياة فيها بفيوضات البركة والرزق الكريم .
ويحتمل الأمر وجوهاً :
الأول : اليقين والصلاح سبب لإطالة عمر الدنيا وأيامها ، فتتابع وتتوالد أجيال متعددة بسبب الصلاح ، ما كانت توجد لو هجر آباؤهم الإيمان والشعائر .
الثاني : قيام الساعة أمر محدد وقتاً وزماناً ، وليس لفعل الإنسان دخل فيه .
الثالث: أوان يوم القيامة يقبل التقديم والتأخير ، ولكن لا موضوعية لعمل الناس فيه .
والصحيح هو الأول وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، ومن عمومات قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]( ).
ليكون فيه بيان متجدد للناس بدفع أهوال الساعة عن أنفسهم , وعن أهل زمانهم وهو من مصاديق الصلات التي تربط بين الناس جميعاً ومعاني التفضيل للمسلمين بأن يدفعوا البلاء عن أنفسهم وعن أهل زمانهم لذا تفضل الله عز وجل وهيء للمسلمين أسباب الانتشار في مشارق الأرض ومغاربها ليقيموا الصلاة خمس مرات في كل موضع منها فتكون توسلاً لإرجاء قيام الساعة ، ويتلون في كل ساعة قوله تعالى [وبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ].
لتكون الساعة التي يتلون فيها هذه الآية من ساعات الدنيا وفيه دفع وتأجيل لحلول عالم الخلود ، وتكون أيام الدنيا ويقين المسلمين بالآخرة مناسبة لرزق وإنابة الناس جميعاً ، وبياناً وتذكيراً بالبعث والحساب والجزاء وبالتصديق به يتقوم الإيمان.
ومن خصائص المسلمين أنهم يدعون الناس بكرة وعشيا بالإقرار باليوم الآخر ، وهذه الدعوة من رشحات اليقين بالآخرة ، قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ] ( ).
وفي معنى اليوم الآخر وجوه :
الأول : إرادة يوم القيامة وإبتداء عالم آخر غير الدنيا وآياتها الكونية من السماء والأرض والكواكب ، قال تعالى [إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ]( ).
الثاني : المقصود اليوم الأخير من الدنيا ، وفناء عالمها وانقطاع وتعذر الحياة فيها .
الثالث: إرادة المعنى الأعم ، والمقصود اليوم الأخير من الدنيا ، وإقبال الحياة الآخرة .
والصحيح هو الأول ، والمراد عالم الآخرة على نحو الخصوص .
وفي هذا الشطر من الآية بيان من جهات :
الأولى :وجود أمة موقنة بعالم الآخرة ، وتعلم بأن الموت بداية لحياة أخرى ، يحضر فيها الناس جميعاً ، والنسبة بين الدارين هي العموم والخصوص من وجه وتتصف الدنيا بأمور :
الأول :حياة الإنسان موقتة ومقيدة بحلول أوان المغادرة النهائي ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ) .
الثاني : الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، والإنسان مخير فيها بنوع العمل والفعل الذي يقوم به .
الثالث : تعاقب الناس في الدنيا بالنكاح بين الرجل والمرأة وحصول الولد.
الرابع: مرور الإنسان بمراحل نموه في بطن أمه ثم الرضاعة ثم سن التمييز ثم البلوغ .
الخامس : يكون الإنسان في الدنيا في معرض الموت والمغادرة في أي ساعة من ساعات حياته لتكون سلامته من مداهمة الموت في كل آن من آنات حياته رحمة من عند الله تستلزم الشكر فالأصل قول الحمد لله مع كل نفس صاعد ، ولكن الله عز وجل يرضى بالقليل ويعطي الكثير .
السادس : التباين في السن والعمر بين الأب والابن ، والأم والبنت .
السابع : التباين في الرزق بحكمة وإختبار من عند الله عز وجل .
الثامن : إمكان فعل الإنسان المعصية في الدنيا .
التاسع : الدنيا دار الإستغفار والتوبة والإنابة (وعن عبد الله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) ( ).
وبهذا المعنى فسر ابن عباس قوله تعالى [يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ]( ).
العاشر : بقاء باب الدعاء مفتوحاً للعبد في الدنيا إلى حين المغادرة وإستجابة الله عز وجل للمؤمنين فيها بما ينفعهم في الدنيا والآخرة .
الحادي عشر : دلالة التسمية على التباين فاسم الدنيا مقتبس من الأدنى والأقل ، أما اسم الآخرة فانه مقتبس من الخاتمة والمستقر .
الثاني عشر : في الدنيا توجد أخلاق حميدة وأخرى مذمومة ويتلقى المؤمن الأذى والضرر .
الثالث عشر : قد يتحاسد الناس في الدنيا وتمتلأ صدور بعضهم غلاً ورغبة بالثأر والإنتقام والتطلع إلى الشماتة وأسبابها .
الرابع عشر : في الدنيا مؤمن كافر , وحاكم ومحكوم ، وقوي وضعيف، وغني وفقير , وسيد وعبد .
الخامس عشر : الدنيا دار ممر ، وتنتهي بالإنسان قهراً إلى باطن الأرض جثة هامدة .
السادس عشر : تتغشى رحمة الله الخلائق كلها في الدنيا .
السابع عشر : يتنعم بالطيبات في الدنيا البر والفاجر .
الثامن عشر : ورد التحذير في القرآن من الدنيا لأنها دار غرور وإغواء قال تعالى [فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا] ( ).
التاسع عشر :في الدنيا كتاب سماوي إمام للناس وهو القرآن ، ومن قبله كانت الكتب السماوية مصاحبة للناس ، وجاء أحد الأعراب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال : يا رسول الله عظني ولا تطل ، فتلا عليه قوله تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ).
العشرون : في الدنيا تتناهى النعمة والبلاء ، أما في أوان مخصوص من عمر وأيام الإنسان ، وأما عند الموت .
الحادي والعشرون : في الدنيا خصومات ومعارك وحروب , وقتل بعض الناس لبعض على الملة والدين أو على منافع وحقوق شخصية أو نعرة عصبية .
الثاني والعشرون : ليس من ملازمة في الدنيا بين النعمة والإيمان ، وبين الضرر والكفر .
الثالث والعشرون : الدنيا دار البشارة والإنذار .
الرابع والعشرون : الدنيا دار التكاليف والعبادات وما فيها من الجهد والمشقة.
الخامس والعشرون :في الدنيا لذات تتحد في الماهية وتختلف في القصد والأثر ، فالنكاح لذة في حلال وفيه ثواب ، والزنا إيلاج فرج في فرج محبوب طبعاً محرم شرعاً وفيه الإثم والعقاب .
السادس والعشرون : الحياة الدنيا حقيقة وواقع يعيش فيه الناس لا تستلزم الإيمان بها مثل الآخرة .
السابع والعشرون : تحصل الشفاعة والنصرة في الدنيا بحسب الأنساب والصلات وبالحق والباطل .
الثامن والعشرون : الدنيا دار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وترتب الثواب على كل منهما .
التاسع والعشرون : في الدنيا يبتلى الإنسان بابليس ووسوته، قال تعالى في خطاب للناس جميعاً[ِإنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا]( ).
الثلاثون : إتحاد الزوجة في الدنيا وجواز تعددها إلى الأربعة شرعاً.
أما الدار الآخرة فتتصف بأمور:
الأول : حياة الإنسان في الآخرة دائمة فلا فناء فيها .
الثاني : لا يستطيع الناس مغادرة الآخرة ولا الهروب من الحساب والجزاء .
الثالث : ليس في الآخرة إمتحان وإبتلاء وليس من عمل فيها .
الرابع :الآخرة دار الثواب .
الخامس : تحضر أعمال الإنسان في الدنيا معه في الآخرة ولا يحضر مقامه في الآخرة معه في الدنيا .
السادس : تتصف الآخرة بالحور العين ثواباً للمؤمنين، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يزوج المؤمن من الجنة إثنتين وسبعين زوجة، وسبعين زوجة من نساء الآخرة، وإثنتين من نساء الدنيا)( ).
السابع : خلود الناس في الآخرة.
الثامن : ليس في الوطئ والزواج في الآخرة توالد وتناسل لأنها دار ثواب على العمل في الدنيا.
التاسع : من الآيات وجود الخمر في الآخرة ولكنه يتصف بالطهارة والحلية ويختص به المؤمنون من أهل الجنان.
العاشر : ليس من مرحلة طفولة أو شيخوخة لأهل الآخرة.
الحادي عشر : أهل الآخرة على قسمين لا ثالث لهما:
الأول : السلامة من الفزع والخوف والحزن، وهم أهل الجنان.
الثاني : إمتلاء النفس بالحزن وشدة الخوف، وهذا الأمر خاص بالذين يموتون على الكفر، وفي التنزيل[وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
الثاني عشر : تنزه الدار الآخرة من فعل المعصية.
الثالث عشر : إنعدام أثر إبليس في الآخرة، إذ أنه مشغول بنفسه وما يلقاه من العذاب.
الرابع عشر : من خصال الدنيا التي تصاحب المؤمن في الآخرة الذكر والتسبيح والدعاء والثناء على الله، وفي التنزيل[وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الخامس عشر : حضور كل النعم عند أصحاب الجنة، وحرمان أهل النار من أي نعمة.
السادس عشر : ليس من تكاليف في الآخرة ولا يصيب أهل الجنة عناء أو تعب، قال تعالى[لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ]( ).
السابع عشر : ليس من معارك في الآخرة، نعم الجدال واللوم والخصومة مستمرة بين أهل النار على نحو الخصوص.
الثامن عشر : يكون العلم بالملائكة من الغيب لذا أثنى الله على المسلمين لإيمانهم بالملائكة، أما في الآخرة فإن أهل الجنة والنار يرون الملائكة ويكلمونهم، فيتلقون المؤمن بالسلام والتحية بقولهم[سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ]( )، ويلقون الكفار بالغلظة والأخذ الشديد.
التاسع عشر : من شهادة أعضاء وجوارح الإنسان عليه يوم القيامة.
العشرون : حصول الشفاعة يوم القيامة مخصوص المؤمنين.
الحادي والعشرون : ليس في الآخرة موت، وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنّة والنار فيقال : يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت فيؤمر به فيذبح ثمّ ينادي المنادي : يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم، ثمَّ قرأ رسول الله صلى اللّه عليه وسلم{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ امْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ} وأشار بيده في الدنيا)( ).
الثاني والعشرون : إجتماع أجيال المسلمين تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة.
ويحتمل قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وجوهاً:
الأول : المسلمون خير أمة في الدنيا والآخرة.
الثاني : خير أمة بخصوص الحياة الدنيا على نحو الحصر والتقييد.
الثالث : خير أمة في الآخرة.
الرابع : خروج المسلمين للناس بصفة الإيمان في الدنيا.
الخامس : خروج المسلمين للناس في حال الآخرة.
السادس : خروج المسلمين للناس في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالإيمان والدعوة إلى الله، وفي الثانية بالحجة والبرهان على الثواب العظيم على الإيمان وإتباع سيد المرسلين، وبنيل الشفاعة، وعن ابن مسعود قال: يأذن الله تعالى في الشفاعة ، فيقوم روح القدس جبريل عليه السلام، ثم يقوم إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام، ثم يقوم عيسى أو موسى عليهما السلام، ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم واقفاً ليشفع، لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع، وهو المقام المحمود الذي قال الله: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً})( ).
والصحيح هو الثالث والسادس، ليكون حال المسلمين في الدنيا وثوابهم في الآخرة موضوعاً لترغيب الناس بالإيمان، وزاجراً عن الضلالة ومفاهيم الكفر.
الثالث والعشرون : يخرج أناس من النار بشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويسمون الجهنميون ولا يخرج أحد من الجنة، قال تعالى[وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ]( ).
الرابع والعشرون : حضور الناس جميعاً في المحشر ومعهم الأنبياء والمرسلون لكم بأحسن هيئة وحال عز، ويحضر الطواغيت وأرباب الظلم أقبح وأشد الأحوال، وكل حال وخصوصية للحياة الدنيا أو الآخرة بيان للناس من جهات:
الأولى : بديع صنع الله.
الثانية : عظيم قدرة الله، وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة.
الثالثة : إنقطاع مدة خلافة الإنسان في الأرض ليبقى الملك لله عز وجل وحده.
الرابع : تجلي معاني الثواب على الخلافة بالإيمان بالخلود في النعيم.
الخامس : إرادة إنشغال الناس بالتسبيح والذكر في الحياة الدنيا والآخرة.
السادس : كل من الدنيا والآخرة شاهد على أن الملك والمشيئة بيد الله عز وجل.
السابع : بيان التداخل والأثر والتأثير بين الدنيا والآخرة.
لقد جعل الله عز وجل التصديق بالمعاد من أركان الإيمان، ليدل بالدلالة التضمنية على أمور:
الأول : الإيمان بالله عز وجل، الذي له(الآخرة والأولى).
الثاني : التنزه عن الشرك والضلالة، فكل مخلوق هو محشور وحاضر بين يدي الله يوم الحساب.
الثالث : جعل الله عز وجل الدنيا بلغة لحسن الإقامة في الآخرة.
الرابع : التصديق بالنبوة، وهل من دور بين التصديق بالنبوة والمعاد، الجواب لا، فإن الأنبياء مبشرون بحسن ثواب الإيمان في الآخرة، وسوء عذاب الكفر والجحود في الآخرة، والعمل للآخرة شاهد على التصديق بالنبوة والتنزيل.
ومن فضل الله عز وجل على الناس أن كلاً من النبوة والتنزيل بيان لأحوال الناس في الآخرة، ونعمة لجعل المدركات العقلية قريبة من الحس ببناء معرفي يتغشى المسلمين جميعاً على إختلاف درجات الذكاء واللسان ولتكون بيئتهم واحدة تعاقب أجيالهم لأن الملاك فيها هو القرآن الذي يشهد لهم بالتصديق الجازم بالعالم الآخر، ليكون في نفوس الناس جميعاً على إختلاف مداركهم ومشاربهم، وفيه مسائل:
الأولى : إنه من أسرار إمامة القرآن للناس.
الثانية : كفاية بيان القرآن من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين.
الثالثة : فيه شاهد على سلامة القرآن من التحريف بفضل الله.
كما يتساوى المسلمون في الوقوف ين يدي الله في صفوف الصلاة وفي اللباس والتلبية عند الإحرام للحج فأنهم يتساوون في الإيمان القاطع بيوم القيامة، وفي سلامة نفوسهم من الشك والريب في حضور أعمال الناس معهم للحساب إلى[يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ]( ).
ويتجلى الترتيب في مضامين هذه الآية والآية السابقة اللتين تجمعان صفات المسلمين من وجوه :
الأول : الإيمان ، إذ بدأت الآية السابقة بالإخبار عن إيمان المسلمين بالغيب بعد الشهادة لهم بالتقوى ومن مفاهيمه زجر الناس عن تفويض الأمر إلى الحس وحده ، وبناء المعتقد والمبدأ على القريب المحسوس ، إنما يأتي الثناء من الله على الذين يؤمنون بالغيب بعد أن اتخذوا المحسوس وهو القرآن المعجز طريقاً للتصديق بالغيب ، وهو من أسرار تسمية القرآن بالكتاب في قوله تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ]( )، فبالقرآن يهتدي المسلمون للتصديق بالغيب، وبه يدعى الناس للتسليم بالغيب وتقام الحجة على الذين يتخلفون عنه.
الثاني : بعد الإيمان بالغيب جاء الإخبار عن إتصاف المسلمين بأداء العبادة البدنية وهي الصلاة ، والعبادة المالية وهي الزكاة لبيان أن التقوى لا تنحصر بالإعتقاد الصحيح بل تشمل الفعل والإنقياد لأوامر الله عز وجل وتسخير الجوارح والأركان في طاعته لتشهد لصاحبها يوم القيامة بالتقوى والإيمان ، وعن بسرة وكانت من المهاجرات قالت :قال رسول الله عليه وآله وسلم (عليكن بالتسبيح ، والتهليل ، والتقديس ، ولا تغفلن واعقدن بالأنامل، فإنهن مسؤولات ومستنطقات)( ).
ترى لما أختتمت صفات المتقين باليقين بالآخرة ، فيه وجوه :
الأول : لحاظ أن الآخرة هي عالم ما بعد الموت ، وتشمل مواطن منها:
الأول : النفخ في الصور.
الثاني : بعث وخروج الناس من قبورهم .
الثالث : الحشر .
الرابع : العرض ومساءلة الناس عن أعمالهم في الدنيا .
الخامس : الحوض، (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيها الناس إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي أمرين . أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وأنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض) ( ).
السادس : عبور الصراط .
السابع : ميزان الأعمال .
الثامن :عالم الجزاء إما إلى الجنة وإما إلى النار.
لتكون هذه الآية بشارة الأمن والسلامة للمؤمنين يوم القيامة ، وأخباراً ووعداً من عند الله بأن المشقة في أداء التكاليف والصبر عليها لن يذهب سدىّ .
وعن أبي بن كعب قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء اعرابي فقال : يا نبي الله إن لي أخاً وبه وجع قال : وما وجعه؟ قال : به لمم قال : فائتني به . فوضعه بين يديه فعوّذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفاتحة الكتاب ، وأربع آيات من أوّل سورة البقرة ، وهاتين الآيتين { وإلهكم إله واحد } وآية الكرسي ، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة ، وآية من آل عمران { شهد الله أنه لا إله إلا هو } وآية من الأعراف { إن ربكم الله } وآخر سورة المؤمنين { فتعالى الله الملك الحق } وآية من سورة الجن { وأنه تعالى جدُّ ربنا } وعشر آيات من أوّل الصافات ، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، و { قل هو الله أحد } و ( المعوّذتين ) فقام الرجل كأنه لم يشك قط ( ).
لبيان حقيقة وهي أن الآيات التي يثني بها الله عز وجل على المؤمنين تكون شفاء وحرزاً من الألم والوجع، قال تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
البيان في قوله تعالى[أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ].
من أدلة البيان اسم الإشارة لأنه يدل على معين قريباً كان أو بعيداً كما في قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ]، أو يدل على أمر إجمالي بعيد ،ولا ملازمة في موضوع اسم الإشارة بين حضور المشار اليه وتعيينه .
ومن أسرار اسم الإشارة في القرآن أنه أعم من أن تحيط به حاسة البصر والسمع ولغة الإشارة باليد ، كما في الآية محل البحث إذ جاء قوله تعالى [أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ] ، ليشير إلى أجيال المسلمين المتعاقبة في أيام النبوة والرسالة وإلى يوم القيامة باحقاب لا يعلم كثرتها إلى الله عز وجل ، وأفراد من اللامتناهي يحيطون بالمتكلم والسامع من الجهات الأربعة فتعجز اليد وإشارتها على تعيين موضعهم وزمانهم ،وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ، إذ تكون الإشارة فيه معنوية ويحتمل متعلق اسم الإشارة في [أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى]، وجوهاً :
الأول : إرادة المسلمين الذين نطقوا بالشهادتين وأدوا الفرائض.
الثاني :المدار على العمل بذات الصفات المذكورة في الآية أعلاه .
الثالث : المقصود المعنى العام الجامع وهو أن يكونوا مسلمين وأن يتحلوا بالخصال المذكورة في الآيتين المتقدمتين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وتتجلى في آية البحث رحمة الله عز وجل بالناس ببيان سبل الهداية والرشاد وطرق الفوز بالمنزلة والمقام السامي عند الله عز وجل وأهل السماء ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
ومن أسرار اسم الإشارة في القرآن أن موضوعه قد يكون قابلاً للتوسعة والتضييق ، ومنه ما يقبل إلى التوسعة كما في اسم الإشارة للمؤمنين فان عدوهم في إطراد متصل بتوبة جماعة وفريق من الناس وتحليهم بآداب الإيمان ، كما في آية البحث وقد يكون المشار إليه يقبل التضييق والنقص دون الزيادة .
كما في قوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ] ( ) ، فان الآية تبعث النفرة في النفوس من الكفر وتجعل الإنسان يتدبر في الآيات ويعزف عن التكذيب بها لأن ما يترتب عليه من الضرر والعقاب شديد.
وهل تكون موضوعية لاسم الإشارة في إصلاح النفوس وجلب الناس لمنازل الهداية والإيمان .
الجواب نعم كما في آية البحث إذ يتضمن اسم الإشارة [أُوْلَئِكَ] معنى التفخيم والتعظيم للمسلمين الذي تدل عليه لام البعد في [أُوْلَئِكَ] ومن البلاغة أن يستؤنف الكلام باسم الإشارة للدلالة على ما تقدم وهو ابلغ من إعادة ذكرها وما قد يسببه من الملل ، وفيه تنمية للملكة وإستحضار المقصود في الوجود الذهني .
وبعد أن جاءت الآيات السابقة بصفات المسلمين وكيف أنهم بلغوا مرتبة التقوى وأن القرآن يزيد في هداهم جاءت هذه الآية بالشهادة لهم بالهداية والرشاد من عند الله لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين وأنهم لم يبلغوا مرتبة التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالهداية من عند الله .
وقد ذكرنا سبعة معان لحرف الجر (على ) في قوله تعالى [عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ]( ).
لقد بينت الآية حقيقة وهي مصاحبة الهدى للمسلمين ليكون المصداق الحسي والجلي للأمة التي تعبد الله في الأرض، وعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض، قال تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )
فخر الملائكة ساجدين مذعنين، ليكون من مصاديق علمه تعالى وجود أمة تتوارث الهدى في الأرض ليس بالإبتداع والإجتهاد والإبتكار إنما بأخذ الهدى وضروب الإيمان وصيغ العبادة من عند الله ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ]( )، وتلك آية في أن الهدى والعبادة توقيفيان من عند الله ويحتمل وجوهاً :
الأول : ورود معاني الهدى في سورة الفاتحة ، وهو من أسرار تسميتها [أُمُّ الْكِتَابِ] ،( وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم ” ) ( ).
الثاني : تتجلى معاني الهدى في الآيات السابقة من سورة البقرة وفيه جهات:
الأولى : دخول قوله تعالى [الم] في مصاديق الهدى خاصة وأن معانيها متعددة .
الثانية : كفاية الآيات الثلاثة السابقة التي تبدأ بقوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( )، لوضوح معانيها وبيانها لشرط التقوى في سبل الصلاح وذكرها لخصال المتقين .
الثالثة : إجتماع خصال الهدى بالآيتين السابقتين من قوله تعالى [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ]( ) .
الثالث :المقصود بالهدى آيات القرآن كلها ، وما فيها من الأوامر والنواهي وأحكام الحلال والحرام والمواعظ والبشارات والإنذارات .
الرابع : الهدى سور جامع ، وموضوع قدسي وصرح عالي ، تجد شذراته ولآلئه في القرآن والسنة.
والصحيح هو الأخير بتقريب أن الهدى في مطلق الوحي ومنه السنة قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ).
والأصل هو القرآن وكل كلمة وآية منه هي هدى للناس لذا جاء نعت القرآن بأنه [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]، وجاءت آيات أخرى من القرآن تفيد العموم وتغشي أسباب الهداية للناس جميعاً بالقرآن ونزوله، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ]( ) .
ويحتمل الهدى في التنزيل وجوهاً:
الأول : إختصاص القرآن بالهدُى من بين الكتب السماوية السابقة .
الثاني : الملازمة بين الهدُى والتنزيل ، فكل كتاب سماوي هو هدُى .
الثالث : الهدُى في الكتب السماوية المنزلة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة .
والصحيح هو الثاني والثالث وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ) .
عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : [ مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دار فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون لولا موضع اللبنة ) ( ).
ولم يرد لفظ (هدى للعالمين) إلا في قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، لتكون النسبة بين الناس والعالمين على وجوه:
الأول : التساوي وأن الناس هم العالمون.
الثاني : بين الناس والعالمين عموم وخصوص مطلق، وهو على شعبتين:
الأولى : العالمون هم الأعم من الناس.
الثانية : الناس أعم من العالمين.
الثالث : التباين بين الناس والعالمين كما لو كان المراد من العالمين الجن والخلائق الأخرى.
الرابع : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء بين الناس والعالمين، وهناك مادة للإفتراق.
والظاهر والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه لذا فمن إعجاز الآية أعلاه أن وضع البيت للناس ليحجوا إليه ويجعلوه قبلة في صلاتهم، وتتعظ الخلائق من تقوى المسلمين.
وفيه دلالة على تفضيل المسلمين وأنهم ينتفعون من القرآن الذي هو هدى للمتقين، ومن البيت الحرام الذي هو هدى للعالمين، ويكون صلاحهم باب هداية للناس جميعاً، وحجة أمام الخلائق بأن المسلمين هم ورثة الأنبياء.
ولما سأل المسلمون الله عز وجل في سورة الفاتحة الهداية جاءت هذه الآية بالبيان بأن السؤال في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )، هو ذاته هداية وأن الله عز وجل إستجاب للمسلمين ونالوا مرتبة الفلاح والنجاح .
وتكرر فيها اسم الإشارة [أُوْلَئِكَ] ، في آية البحث مع قلة كلماتها ، وفيه مسائل :
الأولى : جاء اسم الإشارة للتعظيم والتفخيم من بين الخلائق، وفي تكراره تأكيد لخصال الحسن التي يتصف بها المسلمون والتي تتقوم بطاعة الله لأن هذه الصفات متصلة بقوله تعالى [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ].
الثانية : دعوة الناس للإلتفات إلى فعل المسلمين ، والتدبر في أدائهم للعبادات من جهه العلة والمعلول ، والسبب والعاقبة .
الثالثة :يتعلق اسم الإشارة الأول بحسن سمت المسلمين، أما الثاني فيتضمن الإخبار عن المدد والتوفيق الذي رزقهم الله في الدنيا، والثواب العظيم الذي أعده لهم في الآخرة، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( )، وقد ورد لفظ الهدى في بداية السورة والمراد به القرآن وأنه [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] وأخبرت آية البحث بأن المسلمين [عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ] ، وتحتمل النسبة بين الهدى وبين الآية الثانية والخامسة من السورة هي العموم والخصوص المطلق، فقد جعل الله عز وجل القرآن هدى للمتقين، فأقتبس منه المسلمون العلوم، وتعاهد الفرائض والعبادات التي جاء بها، وعصموا أنفسهم عن المنكرات والقبائح التي أنذر ونهى عنها فجاءت الشهادة لهم بقوله تعالى[أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ]( )، ليكون تقدير الآية: أولئك المتقون على هدى من ربهم) فلذا أختتمت الآية بالبشارة لهم بحسن العاقبة واللبث الدائم في النعيم بقوله تعالى[وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ليكون الفلاح فضلاً من الله عز وجل في مقدماته وموضوعه وإبتدائه وإستدامته.
وهذه الآية أول آية يذكر فيها اسم الجلالة (الله) وفيه مسائل :
الأولى : ورد اسم الله عز وجل باسم الرب .
وفيه وجوه :
الأول : الدلالة على رحمة الله عز وجل بالناس .
الثاني : دعوة الناس إلى التسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثالث :حاجة الناس لعبادة الله .
الثانية : إضافة اسم الرب إلى المسلمين ، وفيه وجوه :
الأول : الشهادة للمسلمين بأن الله عز وجل هو ربهم وإلههم .
الثاني : بيان فضل الله عز وجل على الذين يعبدون الله وينقادون إلى أوامره.
الثالث : إيمان المسلمين بالله رباً والهاً واحداً لا شريك له ، وليس من رب سواه .
الثالثة : الله عز وجل رب الناس جميعاً طوعاً وقهراً ورب الخلائق كلها ، لذا إبتدأت سورة الفاتحة بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية على هدى من الرب , الجواب من وجوه :
الأول : ليس في القرآن لفظ (الرب ) بالألف واللام .
الثاني : بيان حب الله للمسلمين وإكرامه لهم .
الثالث : الإخبار بأن تلبس العبد بالهدى أمر لا يقدر عليه إلا الله ، وجاء في الآية على نحو العموم.
الرابع : في الآية شكر من الله للمسلمين لأنهم آمنوا به سبحانه وأقاموا على الفرائض فرزقهم الهدى.
الخامس : ترغيب الناس بالإيمان لبلوغ مرتبة الهدى من عند الله .
السادس : بيان مصادق للربوبية خاص بالمؤمنين وهو تفضل الله عز وجل بجعلهم يتعاهدون منازل الإيمان برزقهم الهداية والرشاد .
السابع : حاجة الناس لرحمة الله.
الثامن :توالي نعم الله على المؤمنين ومجيء الهدى لهم.
ومن معاني حرف الجر في قوله تعالى[هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ]، وجوه:
الأول :إرادة إبتداء الغاية بالمعنى الأعم الذي يتعدى الأمكنة والأزمنة، فالهدى من فضل الله عز وجل بدليل إبتداء السورة بالإخبار عن كون القرآن[هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثاني : بيان قانون كلي وهو أن الجمع بين التقوى والإيمان وفعل الصالحات هدى من الله عز وجل.
الثالث: تأتي (من) بمعنى (في )كما في قوله تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ]( )، أي في الأموال لتكون الآية شهادة للمسلمين بانهم على هدى وفقاهة في معرفة الله عز وجل وصفاته الحسنى وعظيم سلطانه وسعة قدرته، لتتضمن هذه الآية صفتين للمسلمين تضاف إلى الصفات في الآيات السابقة، وهما:
الأولى : الهداية والتفقه في عظمة وقدرة ورحمة الله عز وجل وأنه بديع السموات والأرض يحيي ويميت، ليفيد الجمع بين هذه الآية وقوله تعالى [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]، أن المسلمين تدبروا القرآن وأحاطوا علماً بصفات الله عز وجل إجمالاً فاخلصوا العبادة له سبحانه ولا يغادروا منازل الإيمان.
ويكون الفرق بين ذات هذه الآيات الجامعة لخصال المسلمين الحميدة أن الآيتين السابقتين إبتدأت بالاسم الموصول [الذين ] وهذه الآية إبتدأت باسم الإشارة [أُوْلَئِكَ]وتكرر فيها للدلالة على صفة ثانية في ذات الآية .
الثانية :فوز المسلمين بمرتبة الفلاح وهي مرتبة صلاح وسمو ، وأيضاً نتيجة وثواب للتقوى .
والفلاح مصدر فلح ومعناه الفوز التوفيق، وفلاح الدهر أي بقاؤه .
وحي على الفلاح : أحد فصول الأذان ومعناه : أسرع وهلم إلى الفوز بالمغفرة والرزق الكريم والنعيم الدائم باللبث في الجنة ، وكأن النداء أعلاه في الأذان مصداق عملي لإستجابة المسلمين بأداء الصلاة اليومية لقوله تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ] ( ).
الرابع : إفادة معنى الإستعلاء في[عَلَى هُدًى] وهو الأصل والأظهر من معانيها أي أن المسلمين راكبون جادة الهدى وجعلهم الله متمكنين منها، فلا يخشى عليهم الإرتداد أو الوهن أو الضعف .
ومن البيان في آية البحث أن مرتبة الفلاح خاصة بالمؤمنين الذين يجمعون خصال التقوى وأداء الفرائض والتصديق بنزول القرآن والكتب السماوية من عند الله ، ويؤمنون باليوم الآخر وفيه دلالة على عدم حصر الأمر بالمسلمين والمسلمات على نحو العين والأشخاص ، بل بلحاظ بلوغهم مرتبة الإيمان.
ليكون من وجوه البيان في الآية الحجة على الناس ودعوتهم للإيمان ، وطرد النفرة من نفوسهم من الإسلام لما ثبت من عدم إجتماع المتضادين في موضع واحد فاذا كانت هذه الآيات تجذب الناس للإسلام وتبين لهم أنهم في حال إختبار، وإمتحان وأن نفعهم في النشأتين بالإيمان فلا تحصل عندهم نفرة من المؤمنين وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
وهذه الآية وثيقة سماوية تؤكد سلامة منهاج المسلمين في الدنيا، وحسن سمتهم، وتركهم التجرأ والتعدي على حدود الله والإجتهاد في مقابل النص.
ومتعلق وموضوع (الهدى) في قوله تعالى[أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ] على وجوه:
الأول : الهدى بما تقدم في الآيات السابقة، وأنهم لم يختاروا الإيمان إلا بفضل الله عز وجل.
الثاني : بيان فضل الله على المسلمين وأنه الهادي إلى سواء السبيل.
الثالث : مجئ اسم الإشارة (اولئك) في الآية الكريمة لترغيب الناس بمنزلة الهداية.
الرابع : البيان للناس بأن الهداية من الله تتغشى أفعال الإنسان كلها، وتتجلى بالصدور عن القرآن والسنة.
الخامس : تأكيد حقيقة وهي أن إتباع المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهداية من عند الله، ودأب رؤساء الكفر والضلالة على رمي الأنبياء بالجنون لصد الناس عنهم، كما في إعلان فرعون بخصوص موسى، وورد بالمعنى الأعم في قوله تعالى[كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ] ( ).
فجاءت آية البحث لتؤكد نهج المؤمنين في كل زمان باتباع الأنبياء وأنهم كانوا على هدى من عند الله، بدليل أن المسلمين الذين يصدقون بالقرآن وبالكتب السماوية السابقة هم على هدى وتوفيق من عند الله.
وهذا المعنى في تزكية عمل الصالحين من الأمم السابقة الذين ثبتوا على إتباع نهج الأنبياء من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء، إذ حفظ القرآن مواثيق الأنبياء وذكرهم وأتباعهم ذكراً حسناً وإلى يوم القيامة، مع ملاحقة الخزي والعار لأعدائهم وأهل الإفتراء والتعدي على الأنبياء.