المقدمة
الحمد لله اللطيف الودود ذي الفضل والإحسان الذي يأتينا جوده وشآبيب رحمته من السماء وباطن الأرض، وليس من آنة من آنات الزمان وجهة من جهات المكان إلا وهي مصدر خير وعطاء لمن فيها ، ومن حولها وغيرهم ، إذ تكون المسافات من المنتهي وما له حد ورسم فان فضل الله عز وجل من اللامتناهي سواء بلحاظ ما يأتي للفرد أو الجماعة أو الأمة .
الحمد لله حق حمده ، حمداً يتجدد مع توالي وإستدامة نعمه وصلى الله على رسوله محمد وعلى آله وجميع الأنبياء كلما نزلت نعمة ، وعندما يذكره الذاكرون.
الحمد لله الذي كفانا أمر المخادعين وتولى بنفسه فضح المنافقين إذ لا تستطيع الخلائق سبر أغوار نفوسهم فجعله الله من علم الغيب الذي أظهره لنبيه وللمؤمنين بالوحي والتنزيل ليكون وعيداً للمنافقين ، قال سبحان[فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
الحمد لله الحنان الذي جعل كل آية منّة ظاهرة على الناس إلى يوم القيامة وحفظه من الزيادة والنقصان ليظهر الإسلام على جميع الملل وينسخ به الشرائع ، وتكون تلاوة الآية موعظة وعبرة وصلاح .
ومن إعجاز القرآن أن الآية تأتي في موضوع ولكنها في دلالتها تتعداه إلى غيره من المواضيع والأحكام ، وتأتي بلغة الإنذار لتتضمن في مفهومها أموراً:
الأول : الثناء على المسلمين لصدق إيمانهم .
الثاني : الشهادة بنقاء قلوب المسلمين.
الثالث : بلوغ المسلمين مرتبة اليقين.
الرابع : بعث المسلمين لشكر الله عز وجل على نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم ،(عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : اتيت النبي صلى الله عليه وآله و سلم فقلت : يا رسول الله إن الله تعالى قد قتل ابا جهل قال : الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وأعز دينه) ( ).
لقد صدر الجزء الخامس بعد المائة من تفسيرنا (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) في آية واحدة هي [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ) وكله تأويل واستنباط للمسائل العلمية والنكات الكلامية والأصولية والعقائدية المستقرأة من ثنايا ذات الآية الكريمة.
وأنعم الله عز وجل علينا بالشروع في قراءة مستحدثة في علم زاخر ليس له حد ورسم مقتبس من هذه الآية وما في آيات القرآن من بيان ، فتوكلت على الله عز وجل وإبتدأت بسورة الفاتحة وما في كل آية من آياتها السبعة من البيان والوضوح والكشف لأمور الدين والدنيا.
فصدر الجزء السادس بعد المائة والحمد لله الذي ترشحت عن الإستعانة به تجليات تفوق عالم التصور الذهني في هذا السفر الخالد وأسأله المزيد من فضله نعمة على نعمة وجزء عقب جزء.
وقيل شكر الخواص يكون على السراء والضراء وليس هو بقانون إذ النعم متتالية في نزولها من عند الله الذي جعل الدنيا مرآة لجنة الخلد ، وهو سبحانه الذي يمحو الضراء ويدفع البلاء (عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أعطى أربعاً أعطي أربعاً ، وتفسير ذلك في كتاب الله من أعطي الذكر ذكره الله لأن الله يقول { اذكروني أذكركم}( ) ، ومن أعطي الدعاء أعطي الإِجابة لأن الله يقول { ادعوني أستجب لكم } ( )، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة لأن الله يقول { لئن شكرتم لأزيدنكم }( ) ، ومن أعطي الاستغفار أعطي المغفرة لأن الله يقول { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً } ( )) ( ).
وكنت حريصاً على إجتناب التكرار في مضامين هذا العلم وما ذكرت في تفسير ذات الآيات في الأجزاء الأولى من التفسير وأن كان في الإعادة في الإعادة نفع متجدد.
وجاء هذا الجزء وهو السابع بعد المائة ويقع في البيان الوارد في الآيات (6-13) من سورة البقرة وهي ثورة وفيوضات في تأريخ وذخائر العلوم وإشراقة لإستنباط القوانين والقواعد من القرآن ، ودعوة للعلماء للإجتهاد في التحقيق في العلوم التي تتضمنها كل آية من القرآن أذ أنها كنز من كنوز العرش خصّ الله عز وجل بها نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأمته التي جعلها [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وذات الآية القرآنية بيان جلي ولا تستلزم التوضيح فجاء هذا الكتاب لذكر هذا البيان وإنارة السبيل إليه ودلاء لإخراج اللآلئ والدرر والنهل من علوم القرآن.
وفي التنزيل وفي قصة يوسف ، قال تعالى [فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ]( )فقد تباشر القوم بيوسف عليه السلام حين استخرجوه بعد أن تعلق بالرشأ الذي أرسلوه في البئر ليتباشر المسلمون كل يوم بآيات القرآن التي بين ظهرانيهم والعلوم المستقرأة منها.
اللهم أنعم علينا باتمام أجزاء هذا التفسير بآية ولطف ورحمة منك (انك ذو الفضل العظيم ).
ويعد أن أختتم الجزء الثاني بعد المائة بالثناء على المؤمنين وإجتماع البشارة والوعد الكريم بقوله تعالى[وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( )، إبتدأ هذا الجزء بقوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ]( )، وهو أول خطاب من الله عز وجل في نظم القرآن، أبى سبحانه إلا أن يكون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تعدد صيغ الخطاب في القرآن ومجيؤه للأنبياء مجتمعين ومتفرقين وللمؤمنين وأهل الكتاب وبني إسرائيل والمنافقين والكفار والناس جميعاً، وبصيغة الأمر والنهي، والبشارة والإنذار، والوعد والوعيد وهو من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، والفتح الذي ترشح عنها في هذه الأجزاء المباركة.
ويتضمن إبتداء مدرسة الخطاب في القرآن بتوجهه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسائل:
الأولى : بيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في سبيل الله.
الثانية : من خصائص الإسلام بلوغ الإنذارات إلى الكفار.
الثالثة : دعوة للمسلمين للتأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ بلغة الإنذار.
الرابعة : إقامة الحجة على الكفار الذي يصرون على العناد والجحود والإستكبار.
الخامسة : بيان رأفة الله عز وجل بالناس وبذل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوسع لجذبهم إلى مقامات الهداية والإيمان.
ومن إعجاز القرآن في هذه الآية مسائل:
الأولى : إختتام الآية بذم الكفار وقوله تعالى[لاَ يُؤْمِنُونَ] وفيه تحد لهم وأنهم لايستطيعون مخالفة هذا الإخبار مع أن هذه المخالفة رحمة لهم ونجاة في النشأتين.
الثانية : إخبار للناس جميعاً عن مجئ القرآن بعلوم الغيب الشاملة للأكوان وأحوال الناس والأمم وقصص الماضيين والمصاحبين للتنزيل والأجيال المتعاقبة من الناس.
الثالثة : تتضمن الآية إخبار المسلمين والناس جميعاً عن إصرار الكفار على الجحود.
الرابعة : تدل الآية في مفهومها على إنتفاع الناس من الإنذارات النبوية إلا الذين أبوا إلا الإقامة على الكفر والجحود.
الخامسة : إرادة ذم الناس للذين لايتعظون من الإنذارات، ويترشح عنه إزدراؤهم وعدم الإتتان بهم، وترك الإصغاء لهم، فالآية وإن جاءت بخصوص تبكيث الكفار، وبيان صفة مذمومة لهم وهي إمتناعهم عن قبول الإنذارات وأتخاذها بلغة للهداية والإيمان فانها تحذر الناس منهم وتدعو إلى الإنتفاع الأمثل من الإنذارات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترى ما هو موضوع ووسيلة الإنذار بلحاظ آية البحث الجواب من وجوه:
الأول : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن مطلقاً، فمن القوانين الكلية في القرآن أن كل آية هي إنذار سواء بالمنطوق أو المفهوم بما فيه آيات البشارات فتدل الآية التي تبشر المؤمنين بالأمن من الخوف مما هو آت، والسلامة من الحزن على ما فات على إنذار الكفار مماينزل بهم من الخوف والفزع وشدة الحزن وفي التنزيل في ذم الكفار وتذكيرهم بساعة حضور الملائكة بقبض روحه، وبيان حاله
وآمانيه[حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( )، وتكون آيات البشارة للمؤمنين بالبشارة ساعة الموت تبكيثاً للكفار لأن الإمتناع بالإختبار لاينافي الإختيار.
البيان في قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( )
إبتدأت سورة البقرة بأمور كل فرد منها بيان للناس وهي:
الأول : عظيم نفع القرآن وأنه خير هبة من السماء إلى الأرض لأنه طريق الهدى والنجاح.
الثاني : الثناء على المؤمنين لبلوغهم مرتبة التقوى , وتلقيهم آيات القرآن بالقبول والإستجابة لقوله تعالى في وصف القرآن بأنه [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثالث : إتصاف الناس مجتمعين ومتفرقين بالعجز عن درك ما وراء الحواس، ويمتاز المؤمنون بالإيمان بالغيب لكبرى كلية وهي عدم القدرة على الإحاطة بكل المخلوقات التي خلقها الله لعظيم وسعة سلطانه.
الرابع : إقامة المسلمين الصلاة وهي مصداق العبادة والخشية منه تعالى ليبقى المسلمون أئمة للناس في كيفية الخضوع لله عز وجل، وكل فريضة صلاة يؤديها المسلم إنما هي بيان للناس بوجوب عبادة الله عز وجل.
الخامس : التسليم بنزول القرآن من عند الله عز وجل.
السادس : التصديق بنزول الكتب السماوية السابقة.
السابع : اليقين بأن البعث حق والنشور حق، وهذا اليقين بيان للناس بلزوم عدم الإنصات لأهل الجحود الذين ورد ذمهم وحكاية قولهم في القرآن[أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ]( ).
الثامن : تلقي الفضل والمدد الإلهي لبلوغ مرتبة الهدى.
التاسع : تعاهد البقاء في مقامات الهدى والصلاح بالنبوة والكتاب.
العاشر : النجاح والفلاح والخلود في النعيم.
ليكون كل وجه من الوجوه أعلاه بياناً للناس وترغيباً بالتوبة والإنابة وهو من أسرار تسمية الإنسان وأنسه بغيره من البشر، بأن يكون موضوع الإستئناس والأثر والتأثير هو خصال التقوى التي يتصف بها المسلمون.
ومن علم الله عز وجل الذي إحتج به على الملائكة حينما أنكروا نصب آدم خليفة في الأرض بسبب الفساد والقتل الذي تقوم به ذريته، قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليكون من علم الله سبحانه في المقام وجوه:
الأول : إن الأثر والتأثير من طرف واحد وأن المؤمنين يملكون زمام البيان في الإعتقاد والقول والعمل.
الثاني : إقامة الحجة على الكفار.
الثالث : أن زيغ وغرور الكفار أمر مفضوح.
الرابع : يزيح الإيمان الكفر عن القلوب ويبين للناس قبح الضلالة.
الخامس : لا يستطيع الكفار التأثير على المؤمنين وهو من الإعجاز في إختتام صفات المؤمنين بقوله تعالى[وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( ).
ليشهد لهم الله عز وجل على أنهم على هدى من ربهم، ويكون كل واحد منهم داعياً إلى الله وطاعته، ومعصوماً عن مفاهيم الضلالة والجحود.
لقد خلق الله عز وجل الأكوان وجعلها تنتظم بقوانين كلية ثابتة لا تقدر على الإنفكاك عنها، قال تعالى [لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]( ).
ليكون من مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) ،أمور :
الأول : خلق السموات والأرض .
الثاني : موضوعية الكاف والنون في خلق السموات والأرض ، وهو لا يتعارض مع قوله تعالى [خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ] ( ) ، والذي يتكرر سبع مرات في القرآن ، مما يدل على مدح الله عز وجل نفسه بآية خلق السموات والأرض ، وهذا المدح من جهات :
الأولى :عظمة خلق السموات والأرض .
الثانية : تجلي الأكوان للناس .
الثالثة : كيفية خلق السموات والأرض ، وما فيها من الأسرار أكبر من أن تحيط به عقول البشر ، ليكون عجزهم هذا دعوة لهم للتسليم بالربوبية لله عز وجل .
الرابعة : وجود والحس بالسموات والأرض وإحاطتها بالبشر حث على نبذ الشريك ، والتبرأ من دعوة الند ، وهو الذي إختاره إبراهيم في الإحتجاج على الطاغوت نمرود ، [فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ] ( ).
الخامسة : يدل خلق السموات والأرض على قدرة الله تعالى على خلق مثلهن .
السادسة : من مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] تعاهد وحفظ الله للأكوان ونظامها وعدم حدوث تزاحم وتصادم بينها يضر بحياة الناس ، وهو من فضل الله في جعل الإنسان خليفة في الأرض بخطابه تعالى للملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ليكون وعد من الله عز وجل أمام الملائكة بأنه يحفظ الناس في حياتهم في الأرض بأفضل أسباب الحفظ ، ومنه تسخير السموات والأرض لهم ، وعدم إنطباق السموات على الأرض .
السابعة: بيان القرآن لعظمة خلق السماء والأرض ، وجذب الناس للتدبر في أسراره.
الثالث : دعوة الناس للتفكر في خلق السموات والأرض، وإتخاذ هذا التفكر طريقاً إستقراء للإيمان.
الرابع : وجود عوالم ومخلوقات في الأكوان يكون إقرارها بالربوبية لله عز وجل، وإنقطاعها لعبادته حجة على الناس، وترغيباً لهم بالإسلام.
الخامس : الإتصال وعدم البينونة بين السماء والأرض، ويتجلى بنزول الوحي والكتاب من السماء وبواسطة أشرف سكانها وهم الملائكة.
السادس : حث الناس للإنتفاع من ذخائر السموات والأرض، وتسخيرها في سعادتهم.
السابع :الشكر والثناء على الله عز وجل لبديع صنعه السموات والأرض، بالذات وعند الإنتفاع من كل نعمة وكنز من كنوزها، فسبحان الله الذي يتفضل بالآيات الحسية والعقلية العظيمة ليشكره الناس عليها فيكتب هذا الشكر عبادة له تعالى، ويصير موضوعاً لتوالي النعم عليهم من ذات السموات والأرض وبواسطتها , وهذا التوالي من مصاديق قوله تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
وفيه بيان حقيقة أن الله أبدع الأكوان إبتداءً من غير مثال سابق، وأوجدها من غير شبيه لها، ولا يقدر على خلقها وحفظها وفنائها إلا هو سبحانه، لذا فمن أسماء الله عز وجل (البديع) الذي ليس له شبيه أو ند في ذاته أو صفاته.
الثامن : بيان اللامتناه في مشيئة الله عز وجل، وقدرته على الخلق والإنشاء.
لقد أراد الله عز وجل لإنتظام الأكوان في قوانين كلية أن تكون مادة وموضوعاً في انتصار الحق على الباطل في الحياة الدنيا وفق القواعد العامة التي تحكم أهل الأرض في معاملاتهم وصلاتهم وأفعالهم والخاصة بهم دون الخلائق، وتسمى (السنن الإلهية) والتي إبتدأت بتقوى آدم وحواء والإفتتان العرضي الذي جاء من طرف إبليس بالإغواء، وفي التنزيل حكاية عنه[وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ]( )، ليهبطوا إلى دار الإمتحان والإختبار.
وليس من تكافئ بين الحق والباطل في الدنيا، فأبى الله عز وجل إلا أن تكون الغلبة للحق، وليس من حصر لموضوع هذه الغلبة، إذ جعل الله السموات والأرض وما فيهن عوناً للإنسان لإختبار الحق والإيمان، ومدداً للمؤمنين لقهر الباطل، ودفع الضلالة وبيان أضرار الكفر وسوء عاقبة الشرك.
وليس من برزخ بين أي إنسان وبين أسباب الهداية ومنها آيات السموات والأرض التي لا تستطيع قوة أن تحجبها عن الإنسان، أو تمنعه من التدبر فيها قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
وإبتدأ المدد عندما كان آدم في الجنة إذ علمه الله عز وجل الأسماء كلها، وأنذره وحذره من إبليس بقوله تعالى[فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ]( ).
ومن المدد والعون أن تبدأ أول آيات سورة البقرة بذكر القرآن وترشح الهداية عنه، والثناء على المؤمنين وتذكر خصالهم وحسن الثواب الذي ينتظرهم.
ومن وجوه البيان للمدد القرآني للمسلمين مجئ الآيات الخمسة الأولى من سورة البقرة في الثناء على المؤمنين، ثم جاءت الآية السادسة في ذم الذين كفروا ،ويتجلى هذا الذم في الآية من وجوه:
الأول : نعت الذين يصدون عن النبوة والتنزيل بالكفر، وأصل الكفر هو الستر والتغطية ، يقال : كفر الليل الحقول أي سترها بظلمته وسواده فلا تُرى، ومعناه في الإصطلاح إنكار الوحدانية أو النبوة أو التنزيل وأحكام الشريعة أو الجحود بها جميعاً.
الثاني : خروج الذين كفروا من نعمة الثناء في الآيات السابقة، ومنها نعمة الفلاح والبقاء الخاصة بالمؤمنين.
الثالث : مجئ آية البحث بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي أن الكفار لم يذكروا في الآية إلا على نحو خبري وعرضي وبلغة الإنذار والوعيد والتخويف.
الرابع : الإعجاز بالإخبار عن إصرار الكفار على الشرك والضلالة.
لقد جاءت هذه الآية بياناً للناس جميعاً يتضمن قاعدة كلية وهي أن علة الكفر والجحود وذاتية تتعلق بذات الكفار وعنادهم وإمتناعهم عن الإيمان مع توالي الآيات.
وتحتمل الآيات السابقة بخصوص الكفار وإنذارهم وجوهاً:
الأول : هذه الآيات من الإنذار للكفار.
الثاني : إيمان المسلمين بالآيات السابقة من الإنذار للكفار.
الثالث : نعت المسلمين بالإيمان حجة على الكفار.
الرابع : كل فرد من أفراد مدح المسلمين بلحاظ الآيات السابقة هو إنذار للكفار، ويؤدي المسلم الصلاة خمس مرات في اليوم، وفيه جهات محتملة:
الأولى : كل صلاة إنذار للكفار قائم بذاته.
الثانية : مجموع الصلوات الخمسة إنذار متحد.
الثالثة : لايصدق الإنذار إلا باجتماع صلوات لعدة أيام.
الرابعة : يتعلق الإنذار للكفار بخصوص صلاة الجماعة دون صلاة المنفرد.
الخامسة : يتحقق الإنذار بإجتماع الصلاة ومقدماتها.
السادسة : كل فرد من مقدمات الصلاة هو إنذار للكفار من الأذان وما فيه من معاني التوحيد والشهادتين والبعث لفعل الصالحات، ومن الوضوء والطهارة بافعال مخصوصة.
السابعة : كل فعل من أفعال الصلاة هو إنذار، كتكبيرة الإحرام، والقيام بين يدي الله بخشوع والقراءة، ودلالات كل آية من الفاتحة والسورة، وحال الركوع ومعناه في التسليم والإسستعداد وبذل النفس في سبيل الله، والسجود على الأرض وما فيه من التطامن والخضوع لله عز وجل.
الثامنة : الصلاة حجة على الكفار سواء أداها المسلم منفرداً أو جماعة.
التاسعة : تقيد المسلمين بأداء الصلاة في أوقاتها.
العاشرة : مصاديق الأخوة الإيمانية والمنافع المترشحة عن أداء الصلاة، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
وباستثناء الجهة الثانية والرابعة فان الجهات الأخرى كلها حجة وإنذار للكفار مجتمعة ومتفرقة، ومن خصائص التعدد في الحجة والإنذار في الفعل العبادي الواحد أنها رحمة من وجوه:
الأول : رحمة بالمسلمين من جهات:
الأولى : دعوة المسلمين للثبات على الإيمان وتعاهد الصلاة والفرائض الأخرى.
الثانية : إرادة الثواب للمسلمين من أداء ذات الفعل العبادي.
الثالثة : صيرورة أداء المسلمين الفرائض حجة وإنذاراً على الكفار .
الرابعة: تجلي المصداق العملي لإيمان المسلمين .
الخامسة: إعلان المسلمين كل يوم عصمتهم من الشرك والضلالة بأداء الصلاة ، والإجهار السنوي بالعبادة بصيام شهر رمضان وحج بيت الله الحرام فباستطاعة المسلم أداء الصلاة اليومية في بيته ولو خارج وقت الفضيلة كما أن القراءة في بعضها بالأخفات ويقدر على أداء الصيام من غير إعلان بين الناس، ولكن الحج ومقدماته العقلية جلية ظاهر الناس.
السادسة: أداء الفرائض مدد وعون للمسلمين في قهر النفس الشهوية والسلامة من تبعات البلاء والأذى , قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( ).
الثاني : تعدد الحجة في الفعل العبادي رحمة بالناس جميعاً من جهات:
الأول : إنها رسالة أمن وسلام من المسلمين .
الثانية : بيان حقيقة وهي إمتلاء قلوب أمة من الناس وهم المسلمون بالخوف من الله ، وحرصهم على طاعته تعالى .
الثالث: توارث أجيال المسلمين أداء الصلاة من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، في وجوب عبادته تعالى .
الرابعة : ترغيب الناس بالإقتداء بالمسلمين .
الخامسة : الزجر عن إتباع الكفار في عنادهم وجحودهم والإنذار بالعذاب الأليم يوم القيامة لمن يحاكي الكفار في ضلالتهم ، قال تعالى [وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ).
الثالث : أداء المسلمين الفرائض حجة على الكفار من جهات :
الأولى : بيان المسلمين لواجبات الناس العبادية .
الثانية : كل فعل عبادي يؤديه المسلمون هو تجديد للحجة على الكفار.
الثالثة : دلالة الفعل العبادي للمسلمين على قبح إصرار الكفار على ترك عبادة الله .
الرابعة : حرمان الكفار أنفسهم من نعمة العبادة وقصد القربة إلى الله فيها ، وتفريطهم بأعظم النعم في النشأتين، وهي الثواب على أداء الفرائض.
الخامسة : بعث اليأس والقنوط في نفوس الكفار ، فعبادة الله ثابتة ودائمة في الأرض ، ولا يقدرون على محوها أو إحداث النقص فيها ، بل هي في إزدياد.
فمن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )،أن عبادة المسلمين وما فيها من البيان سبب لدخول أفواج من الناس في كل عام وكل شهر في الإسلام وإلى يوم القيامة .
فان قلت هناك تباين في نسبة الذين دخلوا الإسلام بين أول أيام الدعوة وفي الزمن الحاضر ، إذ ورد قوله تعالى [وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( )، فكانت القبيلة من أهل مصر يدخلون في الإسلام في يوم واحد أو بضعة أيام .
أما الآن فان الذين يدخلون الإسلام في هذه الأزمان فهو على سبيل الأفراد ، وهذا القول صحيح أن دخول تلك الأفواج نعمة متجددة على المسلمين كل يوم، إذ أن ذراريهم تتوارث الإسلام فانتشر في ربوع الأرض بالإضافة إلى تحقق ذات الآية أعلاه من دخول أفواج في قادم الأيام ، ثم أنه لا ملازمة بين دخولهم الإسلام وإنحصاره باليوم أو الشهر أو السنة الواحدة إنما المراد في الآية تحقق الكثرة في الإنتماء إلى الإسلام ومغادرة الدنيا عليه وعدم حصول الإرتداد عند المسلمين، قال تعالى [وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ]( ).
إن دخول الناس في الإسلام على سبيل الأفراد من مصاديق قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ] ( )، ومن البيان للناس بأن الإسلام لم ينشر بالسيف والقهر بل بالمعجزة والدليل والبراهين الساطعة.
لقد جاء الخطاب من الله عز وجل قبل آيتين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الثناء على المسلمين بانهم يؤمنون بالقرآن ويصدقون به، وفيه مدد ونصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثناء على المسلمين بأنهم يجمعون بين الإيمان بالقرآن والكتب السماوية السابقة ، وجاء بعدها بآيتين ما يتعلق بالضد من أهل الإيمان ، ويتضمن جحود الكفار وإصرارهم على الصدود عن المعجزات وإن قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانذارهم.
وهل يختص قوله تعالى في آية البحث [الَّذِينَ كَفَرُوا]، بالذين كفروا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن أم أنه يشمل الذين كفروا بالكتب السماوية ، الجواب هو الثاني ،إذ تجعل بدايات سورة البقرة موضوعية للتنزيل مطلقاً وهو من مصاديق الهدى في قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
ويحمل القرآن في آية البحث على الإطلاق ليشمل الجحود بالربوبية والنبوة والتنزيل والمعاد، لذا فإن الإنذار بالوعيد والعذاب الأخروي لن يجعل الكفار يتركون منازل الضلالة .
ولم تقل الآية ( سواء أأنذرت أم لم تنذر ) إنما وردت بالإخبار عن توجه الإنذار من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكفار ، ويحتمل وجوهاً:
الأول : الإنذار بتلاوة آيات القرآن.
الثاني : إنذار الكفار بسوء عاقبة الكفر والجحود يوم القيامة .
الثالث : تخويف وإنذار الكفار بالهزيمة والخزي في الدنيا ، كما وقع لهم في معركة بدر وأحد والخندق، قال تعالى بخصوص معركة أحد[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الرابع : قيام المسلمين بانذار الكفار، وهو ملحق بإنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكفار، لذا فان هذه الآية تبقى غضة طرية في كل زمان لحمل المسلمين لواء الإنذار والتخويف.
الخامس : الإنذار بالمفهوم، فأداء المسلمين الصلاة وتلاوتهم القرآن، وصيامهم شهر رمضان وإخراجهم الزكاة وأداؤهم الحج إنذار للمتخلفين عنه، لأن الدنيا مزرعة الآخرة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الإنذار في آية البحث , وفي الآية بيان للناس من وجوه:
الأول : الشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يقوم بالإنذار والوعيد، قال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ]( ).
الثاني : بيان عز ومنعة الإسلام إذ يتولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون وظائف الإنذار من غير خشية من أرباب الكفر والضلالة، خاصة وأن القرآن جاء بقصص الأنبياء وبطش الطواغيت بعدد منهم، وقد يشترك الناس والعامة في إيذاء النبي، كما في إبراهيم عليه السلام، إذ ورد في التنزيل[قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ]( )، قالوا: فلمّا جمع نمرود قومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنياناً كالحظيرة فذلك قوله {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ} ثم جمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول لئن عافاني لأجمعنّ حطباً لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر في بعض ممّا تطلب ممّا تحبّ أن تدرك لئن أصابته لتحتطبنّ في نار إبراهيم التي يحرق بها احتساباً في دينها.
قال ابن إسحاق : كانوا يجمعون الحطب شهراً، قالوا : حتى إذا أكثروا وجمعوا منه ما أرادوا أشعلوا في كلّ ناحية من الحطب، فاشتعلت النّار واشتدّت حتّى أنْ كان الطّير لتمرّ بها فتحرق من شدّة وهجها، ثمّ عمدوا إلى إبراهيم فرفعوه على رأس البنيان وقيّدوه، ثم اتخذوا منجنيقاً ووضعوه فيه مقيّداً مغلولاً، فصاحت السموات والأرض ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلاّ الثّقلين صيحة واحدة : أي ربنّا، إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره يُحرق فيك فائذن لنا في نصرته، فقال الله سبحانه وتعالى لهم : إنِ استَغاث بشيء منكم أودعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به، وأنا وليّه فخلوا بيني وبينه فلمّا أرادوا إلقاءه في النّار أتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النّار فإنّ خزائن الأمطار بيدي، وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيّرت النار في الهواء، فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم، ثم رفع رأسه إلى السّماء فقال : اللهمّ أنتَ الواحد في السّماء وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل ( ).
الثالث : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنذار وإستمراره به يتم بأمر من عند الله.
الرابع : اللطف الإلهي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ببيان أثر الإنذار عند الناس.
الخامس : ذم الكفار لإعراضهم عن الإنذارات النبوية.
السادس : وجود فريق من الناس مقيمون على الكفر، مصرون على الجحود، وفيه دعوة للمسلمين للصبر.
السابع : دعوة الناس لعدم الإنصات لجدال أهل الجحود وإنكارهم للآيات.
الثامن : الإخبار عن إبتعاد الكفار عن مظنة للإيمان.
التاسع : إستيفاء الإنذار النبوي شرائطه في الموضوع والحكم والبرهان والأثر والتأثير، ولكن المانع موجود عند ذات الكفار لعنادهم، وتخلفهم ن توظيف العقل والحواس للتدبر في الآيات، وعن أسامة بن زيد بن حارثة قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ يَعُودُهُ مِنْ شَكْوٍ أَصَابَهُ عَلَى قَطِيفَةٌ فَدَكِيّةٌ مُخْتَطِمَةٌ بِحَبْلِ مِنْ لِيفٍ وَأَرْدَفَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَلْفَهُ . قَالَ فَمَرّ بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَي ّ ، وَهُوَ فِي ظِلّ مُزَاحِمٍ أُطُمِهِ . قَالَ ابن هِشَامٍ : مُزَاحِمٌ اسم الْأُطُمِ .
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَحَوْلَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ . فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَذَمّمَ مِنْ أَنْ يُجَاوِزَهُ حَتّى يَنْزِلَ فَنَزَلَ فَسَلّمَ ثُمّ جَلَسَ قَلِيلًا فَتَلَا الْقُرْآنَ وَدَعَا إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَذَكّرَ بِاَللّهِ وَحَذّرَ وَبَشّرَ وَأَنْذَرَ قَالَ وَهُوَ زَامّ لَا يَتَكَلّمُ حَتّى إذَا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَقَالَتِهِ قَالَ يَا هَذَا ، إنّهُ لَا أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِك هَذَا إنْ كَانَ حَقّا فَاجْلِسْ فِي بَيْتِك فَمَنْ جَاءَك لَهُ فَحَدّثْهُ إيّاهُ ومَنْ لَمْ يَأْتِك فَلَا تَغْتُتْهُ( )، بِهِ وَلَا تَأْتِهِ فِي مَجْلِسِهِ بِمَا يَكْرَهُ مِنْهُ .
قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي رِجَالٍ كَانُوا عِنْدَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَلَى ، فَاغْشَنَا بِهِ وَأْتِنَا فِي مَجَالِسِنَا وَدُورِنَا وَبُيُوتِنَا ، فَهُوَ وَاَللّهِ مِمّا نُحِبّ ، وَمِمّا أَكْرَمَنَا اللّهُ بِهِ وَهَدَانَا لَهُ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ حِينَ رَأَى مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ مَا رَأَى : مَتَى مَا يَكُنْ مَوْلَاك خَصْمَك لَا تَزَلْ تَذِلّ وَيَصْرَعْك الّذِينَ تُصَارِعُ وَهَلْ يَنْهَضُ الْبَازِي بِغَيْرِ جَنَاحِهِ وَإِنْ جُذّ يَوْمًا رِيشُهُ فَهُوَ وَاقِعُ( ).
لقد ذكرت الآيات السابقة لفظ(يؤمنون) مرتين، كما ورد معنى الإيمان فيها متعدداً بلحاظ المعنى والدلالة من جهات:
الأولى : صفة المتقين في قوله تعالى[هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] بلحاظ أن التقوى إيمان وهدى.
الثانية : تسليم المسلمين بعالم الغيب الذي لا يحيط بكنهه إلا الله عز وجل، قال تعالى[وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الثالثة : إيمان المسلمين بنزول القرآن من عند الله، وعملهم بمضامينه، وصدورهم عنه.
الرابعة : تصديق وإيمان المسلمين بالكتب السماوية السابقة ، التي نزلت على الأنبياء.
الخامسة : اليقين والقطع بالبعث والنشور وعالم الحساب، إذ ورد قوله تعالى[وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( )، وبين اليقين والإيمان عموم وخصوص مطلق، فكل يقين هو إيمان وليس العكس.
السادسة : الشهادة من عند الله بأن المسلمين على الهدى بقوله تعالى[أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ]( ).
وأبى الله عز وجل إلا أن تكون الدنيا دار إمتحان وصراع بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر مع تجلي أسباب المدد والنصر لأهل التقوى والإيمان.
لقد إبتدأت سورة البقرة بما يجعل الدنيا حديقة ناضرة، وحرثاً للصالحات التي تأخذ بيد صاحبها على الصراط، وتبعث السكينة في نفس المؤمن بأن الناس على نهجه وسنخية الإيمان والتقوى، فجاءت آية البحث للمنع من الغرر أو الجهالة، إذ تخبر بأن فريقاً من الناس يصرون على الكفر، ويأبون إلا أن يجلبوا لأنفسهم الأذى والضرر في الدارين، وفيه آية بتفقه المسلمين في معرفة أحوال الناس ومشاربهم، وجعلهم يعلمون أن هناك طائفة تصر على الباطل، وتمتنع عن الإيمان مع تجلي البراهين الساطعة على ضرورته والحاجة إليه.
ومن الإعجاز في آية البحث أن عدم إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكفار لايغير من صفته منذراً للناس، وفيه وجوه:
الأول : تحقق مصداق النذير بنزول آيات القرآن وتبليغها، وفي التنزيل[وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ]( ).
الثاني : تحقق مصداق إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكفار بما وعظهم وأنذرهم قبل نزول هذه الآية.
الثالث : بلوغ الإنذارات المتوجهة للناس إلى الكفار، وفي نوح ورد قوله تعالى[أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ]( ).
الرابع : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات الإنذار في الصلاة وخارجها من الإنذار.
الخامس : لا تدل آية البحث على المنع من إنذار الكفار ولكنها تخبر عن حالهم وعنادهم وإقامتهم على الصدود عن الآيات.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق آية البحث وصيغ البيان فيها، فمن إعجاز الآية القطع ببقاء الكفار في منازل الكفر مع موضوعية الإنذار والأثر المترتب عليه من الجذب إلى منازل الهداية والانزجار عن الباطل.
وفي قصص الأنبياء شواهد من عناد الكفار وتلقيهم الإنذار بالإستهزاء والتحدي الذي لا أصل له، وفي قوم لوط ورد قوله تعالى[وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ]( ).
لقد إرتكب قوم لوط فاحشة إتيان الذكور، ولم يسبقهم أحد إليها، وكان لوط يعظهم ويحذرهم ويزجرهم ولم يستمعوا لنصحه، فاصابهم عذاب لم ينزل بأمة من قبل، إذ نزل جبرئيل فحمل مدائنهم بجناحه حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ثم ضرب بهم الأرض، ثم ضرب بهم الأرض وتبعها حجرة من طين مفخور متراص مضموم بعضه إلى بعض كما في قوله تعالى[جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ]( )، لم يسلم إلا لوط وإبنتاه، حتى امرإته كانتا من الهالكين.
وفي خاتمة الآية أعلاه إنذار يومي متجدد للذين يعملون عمل لوط على نحو جهري وشائع بينهم مع الإصرار على الكفر وتكذيب إنذارات الأنبياء خاصة مع إنتشار أسلحة الدمار الشامل وإحتمال إتساع صناعتها وإختزال مراحله وإمكان الحصول عليه وإقتنائه سراً وبعيداً عن عيون المراقبين والضبط الدولي العام.
وتدعو الآية أعلاه الناس إلى إنكار فاحشة قوم لوط والجهر بقبح إتيان الذكور وسوء عاقبته وجلبه للعذاب العام، ويتجلى في المقام سر من أسرار حفظ البشرية ودوام الحياة الإنسانية من جهات هي:
الأول : بيان القرآن لحرمة الفواحش مطلقاً، وخصوص إتيان المذكور.
الثاني : تنزه المسلمين عن فعل الفاحشة، ونفرتهم من فعل قوم لوط بالذات.
الثالث : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابع : تلاوة المسلمين لآيات الإنذار .
الخامس : معرفة المسلمين وأهل الكتاب بما أصاب قوم لوط وإستحضار لقصتهم بما يفيد الموعظة والإعتبار.
السادس : تضمن الشريعة الإسلامية لعقوبة الذي يرتكب فعل إتيان الفاحشة بما يؤدي للإنزجار عنها .
السابع : مجيء القرآن والسنة بالترغيب بالنكاح وإنجاب الأولاد .
الثامن : قيام المسلمين بالتحذير والإنذار من العذاب الأخروي الذي ينتظر من إرتكب هذه الفاحشة .
إن جهاد المسلمين في تنزيه الأرض من فعل قوم لوط من الدلائل على حاجة أهل الأرض لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر ، وأحصنُ للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجَاءٌ)( ).
وهل في الحديث تقييد لإطلاق إستحباب النكاح كما في قوله تعالى [فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ]( ) ، الجواب لا ،إنما أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنمية ملكة الصبر عند الشباب بالصوم لأيام ، وقد ورد عنه النهي عن صوم الوصال الأيام المتتابعة تطوعاً خاصة وأن الحديث أعطى الأولوية للنكاح.
ليكون الشباب على قسمين :
الأول : الذين عندهم مؤونة النكاح فيبادرون إلى الزواج .
الثاني : الذي تقصر أيديهم عن نفقات النكاح ومهر الزواج فعليهم باللجوء إلى الصيام مع رجاء السعة وتيسير أمر النكاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال الآخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال الآخر أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنتم الذي قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ( ).
لقد ذكرت الآية إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكفار وعدم إستجابتهم لهذا الإنذار ، ولكن الدعوة إلى الإيمان لا تنحصر بالإنذار ، إذ تشمل مصاديق غير متناهية منها:
الأول : بشارة القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة الواسعة للمؤمنين أي إن كانت صيغة الإنذار لا تنفع في هداية الكفار فان البشارة بالثواب العظيم الذي ينتظر المؤمنين قد ينفع معهم .
الثاني : بيان الحسن الذاتي للتوبة والإنابة ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوّابون) ( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (كان ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله ، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها ، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت . فقال : ما يبكيك؟ أكرهتك؟ . . . قالت : لا ، ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة . فقال : تفعلين أنت هذا وما فعلته ، اذهبي فهي لك . وقال : والله لا أعصي الله بعدها أبداً . فمات من ليلته فأصبح مكتوباً على بابه : إن الله قد غفر لذي الكفل) ( ).
الثالث : تذكير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكفار بالآيات التي تدل على التوحيد .
الرابع : تجلي المعجزات العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : آيات النصر التي صاحبت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه في بدايات الدعوة .
السادس : تجلي المدد الملكوتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وموضوعية الرعب في نصره وبعث الخوف في قلوب الكافرين منه وعن المؤمنين، قال تعالى في الثناء عليهم [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]( ) .
السابع :تدبر الكفار في هزيمتهم في المعارك مع رجحان كفتهم في العدة والعدد.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الإنذار ) وتعدد وجوه وضروب الإنذار في الدنيا بما يستحيل معه على الإنسان أن يمتنع عن تلقي الإنذارات التي تخوفه من الكفر وسوء عاقبته ، فمن يعرض عن النبوة والتنزيل يأتيه الإنذار بالآيات الكونية الثابتة والطارئة ، وبالموعظة من التأريخ وقصص الإنبياء السابقة، قال تعالى قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
ويتجلى الإنذار في ذات الإنسان وما ينزل عليه من النعم ، وما يحل بساحته من المحن والمصائب .
ويأتي الإنذار باقتطاف الموت لمن هو قريب من الإنسان ، وهل حلول الموت من حول الإنسان من مصاديق [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( )، الجواب نعم بلحاظ وحدة الموضوع في تنقيح المناط وأن كل إنسان يدرك أن عاقبته في الدنيا هي الموت ، وجاءت البراهين الساطعة بعالم ما بعد الموت ولقائم على الجزاء المحض .
ومن خصائص النبوة بيان تلك النذر للناس جميعاً ، لذا فأن آية البحث تتضمن منع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن إنذار الكفار بل تبين ماهية وسنخية الكفار وإصرارهم على الباطل ، فأن قلت من الكفار من يدخل فجأة عن سبب أو من دون سبب ، ومنهم من يدخله بعد مدة وواصل من تدبره في الإنذارات فكيف جاءت الآية بالإخبار عن عدم النفع من إنذارهم .
والجواب من وجوه :
الأول : المراد من الآية الذين يغادرون الدنيا على الضلالة والجحود قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] ( ).
الثاني : ليس في الآية ما يدل على عدم النفع من الإنذارات .
الثالث : جاءت الآية خطاباً ومؤاساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولما جاءت الآيات السابقة من سورة البقرة في الثناء على المؤمنين جاءت هذه الآية لتدل في مفهومها على الثناء عليهم ودعوتهم للشكر لله عز وجل على السلامة من مفاهيم الشرك والضلالة وداء الصدود والعناد وآفة الكفر .
وتتضمن الآية البيان للناس بعز الإسلام وقدرة المسلمين على التبليغ والإنذار وأن الكفار لم يضروا إلا أنفسهم ، وصيرورة الإسلام قوياً منيعاً ، فبعد أن كانت قريش تؤذي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه فاضطروا إلى الهجرة إلى يثرب جهزت قريش وحلفاءها الجيوش العظيمة للقضاء على الإسلام ، ووأده في أيامه الأولى، ولكن [َيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : تقسيم الكفار إلى شعبتين :
الأولى : الكفار الذين تم إنذارهم من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثانية : الكفار الذين لم يتم إنذارهم .
الثاني : إرادة إنذار الكفار جميعاً .
الثالث : تتحدث الآية عن موضوع مستديم مستغرق لأفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل ، بلحاظ قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ فريق منهم وفريق سيصل لهم التبليغ .
الرابع : جاءت الآية لبيان حال الكفار من وجود المانع الذاتي عندهم من الإيمان حتى مع الإنذار والوعيد .
والصحيح هو الرابع بدليل إبتدأت الآية بصيغة العموم الإستغراقي بالاسم الموصول [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] لأن من أظهر وظائف النبوة الإنذار قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
موضوع الإنذار
وهذه هي أول آية في نظم القرآن تتضمن الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه مسائل :
الأولى : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشهادة له من الله عز وجل بأنه نذير للناس ، إذ تدل الآية في مفهومها على إرادة إنذاره للناس جميعاً وفيه وجوه :
الأول : إمتناع الكفار عن الإنتفاع من الإنذار النبوي .
الثاني : المراد بانذار النبي على جهات :
الأولى : إنذارات القرآن .
الثانية : الإنذارات الواردة في السنة النبوية .
الثالثة : إنذارات المسلمين للكفار .
الثاني : إتعاظ المسلمين من الإنذارات الموجهة للكفار وفي قصة فرعون وما لاقاه من سوء العذاب بالهلاك غرقاً هو وجنوده بعد إدعائه الربوبية [فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالْأُولَى *إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى] ( ).
الثالث : إصرار الكفار على عدم الإنصات للموعظة .
الثانية : بلوغ إنذارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكفار وعدم وجود حاجب أمر برزخ دونها ، وفيه دلالة على قوة ومنعه الإسلام.
الثالثة : إقامة الحجة على الكفار لأن الإمتناع عن الإتعاظ من الإنذارات ذاتي .
الرابعة : الإنتفاع من الإنذارات من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فمن الناس من ينتفع منها على نحو الموجبة الجزئية أو السالبة الجزئية ، أما الكفار فأنهم [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ]( )،وتخلف الكفار عن الإتعاظ من الإنذارات مصداقاً للتقييد في خاتمة آية البحث وبأن القرآن [َمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
ويتقوم الإنذار بأطراف :
الأول : المنذر الذي يتولى التخويف والتحذير والإنذار .
الثاني : موضوع الإنذار .
الثالث : الذي يتوجه إليه الإنذار وهو المنذر ـ بالفتح ـ .
وجاءت الآية بذكر الطرف الأول والثالث أعلاه ، ترى ما هو موضوع الإنذار الجواب فيه وجوه :
الأول : الإنذار من ذات والجحود لقبحة الذاتي .
الثاني : النهي عن الإقامة على الكفر والجحود والتخويف منها .
الثالث : الآثام التي تلحق الذي يعد على الكفر .
الرابع : الزجر عن العناد والإستكبار .
الخامس : الإنذار من التكذيب بالآيات الباهرات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : الوعيد على الكذب والإفتراء على الله ورسوله ، قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ] ( ).
السابع :الإنذار من التكذيب بالقرآن والكتب السماوية النازلة من عند الله لأن أحكام العبادات والمعاملات والأحكام تتقوم بها ، وهي مرآة نفخ الروح في آدم عليه السلام ، وشاهد على العناية واللطف الإلهي بالناس قال تعالى [الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا]( ).
الثامن :الإنذار من فعل السيئات وإرتكاب الفواحش كالزنا وشرب الخمر والربا .
التاسع : التخويف من الظلم والجور والتعدي ، ومن سنن الأنبياء الإخبار عن بغض الله عز وجل للظلم ومؤاخذة الظالم ، ومن ضروب الإبتلاء في الدنيا أن الأنبياء أكثر الناس الذين تلقوا الظلم والأذى بسبب دعوتهم إلى الصلاح والإستقامة .
العاشر : الإنذار من الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف .
الحادي عشر : ذم إخفاء الكفر مع إعلان الإيمان .
الثاني عشر : الإنذار من سوء عاقبة الكفر في الدنيا والآخرة ، والتحذير من تركه إرثاً للأبناء .
الثالث عشر : التخويف من الأوزار والأثقال التي تترشح عن إغراء الأخرين بالكفر وتهيئه مقدمات فعلهم السيئات .
الرابع عشر : الإنذار من محاربة الإسلام ، وقتال المسلمين ، وتجهيز الجيوش عليهم ، والتسبب بتحريض طوائف من الناس عليهم .
الخامس عشر : الوعيد والتخويف من أهوال يوم القيامة ، وهو أعظم ضروب الإنذار ، لان الله عز وجل جعل الحياة الدنيا دار إختبار وإمتحان يتنعم الناس جميعاً بفيوضات رحمته ،قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( )،بين جعل الآخرة دار الحساب والخلود في الجزاء ، قال تعالى [وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ] ( ).
وفي الآية أعلاه إعجاز في باب الإنذار يتقوم بوجوه :
الأول :إن الله عز وجل يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنذار .
الثاني : موضوعية الإنذار في منهاج الإنبياء .
الثالث : تعيين موضوع الإنذار من عند الله عز وجل وهو من شأبيب رحمة الله بالناس .
والآزفة :الدانية ، يقال أزف الأجل أي قرب ودنا وفي الآية دلالة على الحتم والقطع بوقوعه ،ودعوة الناس للإستعداد لعالم المجازاة فيه .
السادس عشر : الإنذار من التخلف عن منازل الهداية والإيمان ، ومقامات اليقين .
السابع عشر : ترشح الندم والحسرة عن التفريط بأيام الحياة الدنيا ، باللهو واللعب ، وترك الواجبات العبادية .
الثامن عشر : الإنذار من حرمان النفس من الفلاح والتوفيق وحسن العاقبة الذي أختتمت به الآية السابقة وعداً كريماً للمؤمنين [وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
التاسع عشر :الإنذار بلحاظ آية البحث من حال التساوي في عدم ترتب الأثر على إنذار الكفار وعدم إنذارهم ، إذ أن الأصل هو هدايتهم وإتعاظهم بالإنذار .
العشرون :التخويف من زيادة العذاب على الكفار لأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي قام بنفسه بإنذارهم ونزول آيات القرآن تترى بتخويفهم ووعيدهم .
الحادي والعشرون : الإنذار من الإعراض عن البشارات في الكتاب والسنة والمقرونة بالمعجزة التي تحث على الرضا والغبطة بها ، والسعي إلى مصاديقها .
الثاني والعشرون : الإنذار بلحاظ مضامين الآية التالية وما فيها من الختم على قلوب واسماع الكافرين ، وجعل غشاوة على إبصارهم .
الثالث والعشرون : تخويف الكفار من نزول العذاب الخاص والعام الذي ينزل بهم دفعة واحدة أو على نحو التدريج ، وفي قوم لوط ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ]( )، لتتضمن الآية أعلاه التحذير من عدم الإتعاظ بالإنذارات عندما تترى على الناس ، وكل إنذار هو رحمة من عند الله قائمة بذاتها موضوعاً وآثراً ، فلم يأت العذاب لقوم لوط فجأة بل كان نبيهم يحذرهم ويخبرهم بأن العذاب يقترب منهم وهم يسعون إليه بأيديهم، فكانوا يشكون فيه ويصرون على فعل الفاحشة ولا ينصتون إلى نهي لوط عن إتيان الرجال ، فامتحنهم الله بأن بعث كبار الملائكة وهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بهيئة شباب مرو وبصورة بهيه ، فاستضافوا لوطاً ، ولكن إمرأته أخبرت قومها عن وجود ضيوف حسني الصورة عند لوط ، فاقبلوا عليه من كل صوب ، فاغلق لوط الباب ، وأخذوا بكسر الباب ولوط يدافعهم ويخوفهم ثم إتجه إلى ترغيبهم ببناته والزواج منهن فاصروا على الدخول ، فخرج إليه جبرئيل فضرب عيونهم بطرف جناحه فغارت وإرتدت في ذات وجوههم وفقدوا البصر وأخذوا يتلمسون الحيطان للعودة من حيث أتوا ، ولم يتعظوا بل أخذوا يتوعدون لوطاً وأنهم سينتقمون منه في الصباح .
وفيه آية أن الإنذارات تكون على مراتب متعددة عسى أن ينتفع الكفار منها قبل نزول العذاب .
الرابع والعشرون : الإنذار بلحاظ الآيات التالية التي جاءت في ذم المنافقين والمخادعين من وجوه :
الأول : تضمنت الآية بعد التالية تقسيم الناس تقسيماً إستقرائياً بدلالة صيغة التبعيض في أولها [وَمِنْ النَّاسِ]( )وذكرت طائفة يعلنون الإيمان بالله ويوم القيامة ولكنهم في حقيقة أمرهم كفار مشركون ، لتدل الآية بالدلالة التضمنية على تحذير الناس من النفاق والرياء وأخلاق المنافقين الذين يدّعون الإيمان زوراً ، وهذا التحذير على جهات :
الأولى : أنذار المؤمنين من المنافقين وهو على وجوه :
الأول : التحذير والإنذار من المنفرد من المنافقين .
الثاني : الإنذار من إجتماع المنافقين لأنهم يظهرون الجدال والإحتجاج وكأنهم أمة متحدة ،ويدعون إلى القعود بما يبعث على القنوط لولا هذه الآيات .
الثالث : التحذير من رؤساء النفاق مثل عبد الله بن أبي سلول وغيره التي تفضحهم (وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن عروة بن الزبير ومحمد بن كعب القرظي قالا : قال معتب بن قشير : كان محمداً يرى أن يأكل من كنز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط ، وقال أوس بن قيظي في ملأ من قومه من بني حارثة { إن بيوتنا عورة } وهي خارجة من المدينة : إئذن لنا فنرجع إلى نسائنا وأبنائنا وذرارينا ، فأنزل الله على رسوله حين فرغ منهم ما كانوا فيه من البلاء يذكر نعمته عليهم ، وكفايته إياهم بعد سوء الظن منهم ، ومقالة من قال من أهل النفاق ، { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها } فكانت الجنود : قريشاً ، وغطفان ، وبني قريظة . وكانت الجنود التي أرسل عليهم مع الريح الملائكة { إذ جاءُوكم من فوقكم } بنو قريظة { ومن أسفل منكم } قريش ، وغطفان . إلى قوله { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } يقول : معتب بن قشير وأصحابه { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب } يقول : أوس بن قيظي ومن كان معه على ذلك من قومه) ( ).
الرابع : إنذار المؤمنين من المنافقين بلحاظ سنخية الأقوال والأفعال التي يقومون بها وفيه جهات منها :
الأولى : إثارة أسباب الشك والريب بالمعجزة والتنزيل .
الثانية : الميل إلى المغالطة والإكثار من الجدال .
الثالثة :التكاسل والتسويف في اداء الفرائض والعبادات .
الرابعة : قيام المنافقين بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
الخامسة : تحريض المؤمنين على القعود ، والإمتناع عن النفير وترك الدفاع ويصل هذا التحريف إلى العوائل والآل ليكون من التسبيب والتاثير بالواسطة على المجاهدين وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ).
الثانية : إنذار عامة الناس من إتباع المنافقين أو الإقتدا ء بهم لقبح أفعالهم وسوء عاقبتهم ، وهذا الإنذار من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )ببعث النفرة في نفوس الناس من سنن النفاق وهل في تحذير الناس من المنافقين رحمة بذات المنافقين أم أنه بلاء أو عقاب لهم .
الجواب هو الأول لما فيه من عزتهم وإصابتهم باليأس .
الثالثة : إنذار أهل الكتاب من التواطئ مع المنافقين ومن أسرار فضحهم لحوق الخزي بهم .
الرابعة : التحذير الذاتي بأن تدعو الآية المنافقين ليحذر بعضهم بعضاً ويجتنبوا إتباع رؤساء النفاق والغواية .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : (يقول الله لملك الموت : انطلق إلى وليي فائتني به فإني قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب ، فائتني به لأريحه من هموم الدنيا وغمومها . فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من حنوط الجنة ومعهم ضبائر الريحان ، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لوناً ، لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه ، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك الأذفر ، فيجلس ملك الموت عند رأسه ، وتحتوشه الملائكة ويضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه ، ويبسط ذلك الحرير الأبيض والمسك الأذفر تحت ذقنه ، ويفتح له باب إلى الجنة ، فإن نفسه لتعلل عنده ذلك بطرف الجنة مرة بأزواجها ومرة بكسوتها ومرة بثمارها ، كما يعلل الصبيّ أهله إذا بكى ، وإن أزواجه ليبتهشن عند ذلك ابتهاشاً ، وتنزو الروح نزواً ، ويقول ملك الموت : أخرجي أيتها الروح الطيبة إلى سدر مخضود وطلح ممدود وماء مسكوب ، وملك الموت أشد تلطفاً به من الوالدة بولدها ، يعرف أن ذلك الروح حبيب إلى ربه ، كريم على الله فهو يلتمس بلطفه تلك الروح رضا الله عنه ، فسلّ روحه كما تسل الشعرة من العجين ، وإن روحه لتخرج والملائكة حوله يقولون : { سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } ( ) وذلك قوله : { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم }( ) قال : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم ، قال : روح من جهد الموت وروح يؤتى به عند خروج نفسه وجنة نعيم أمامه . فإذا قبض ملك الموت روحه يقول الروح للجسد : لقد كنت بي سريعاً إلى طاعة الله بطيئاً عن معصيته ، فهنيئاً لك اليوم فقد نجوت وأنجيت ، ويقول الجسد للروح : مثل ذلك ، وتبكي عليه بقاع الأرض التي كان يطيع الله عليها ، كل باب من السماء كان يصعد منه عمله وينزل منه رزقه أربعين ليلة ، فإذا اقبضت الملائكة روحه أقامت الخمسمائة ملك عند جسده لا يقلبه بنو آدم لشق إلا قلبته الملائكة عليهم السلام قبلهم ، وعلته بأكفان قبل أكفانهم وحنوط قبل حنوطهم ، ويقوم من باب بيته إلى باب قبره صفان من الملائكة يستقبلونه بالاستغفار ، ويصيح إبليس عند ذلك صيحة يتصرع منها بعض أعظام جسده ، ويقول لجنوده : الوليل لكم كيف خلص هذا العبد منكم؟ فيقولون : إن هذا كان معصوماً . فإذا صعد ملك الموت بروحه إلى السماء يستقبله جبريل في سبعين ألفاً من الملائكة كلهم يأتيه من ربه ، فإذا انتهى ملك الموت إلى العرش خرت الورح ساجدة لربها ، فيقول الله لملك الموت : انطلق بروح عبدي فضعه { في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب } ( ) فإذا وضع في قبره جاءت الصلاة فكانت عن يمينه ، وجاء الصيام فكان عن يساره ، وجاء القرآن والذكر فكانا عند رأسه ، وجاء مشيه إلى الصلاة فكان عند رجليه ، وجاء الصبر فكان ناحية القبر ، ويبعث الله عتقاً من العذاب فيأتيه عن يمينه ، فتقول الصلاة : وراءك والله ما زال دائباً عمره كله وإنما استراح الآن حين وضع في قبره ، فيأتيه عن يساره فيقول الصيام مثل ذلك . ، فيأتيه من قبل رأسه فيقول له مثل ذلك ، فلا يأتيه العذاب من ناحية فيلتمس هل يجد لها مساغاً إلا وجد ولي الله قد أحرزته الطاعة ، فيخرج عنه العذاب عندما يرى ، ويقول الصبر لسائر الأعمال : أما إنه لم يمنعني أن أباشره بنفسي إلا أني نظرت ما عندكم ، فلو عجزتم كنت أنا صاحبه ، فأما إذا أجزأتم عنه فأنا ذخر له عند الصراط وذخر له عند الميزان ، ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالرعد القاصف وأنيابهما كالصياصي وأنفاسهما كاللهب يطآن في أشعارهما بين منكبي كل واحد منهما مسيرة كذا وكذا ، قد نزعت منهما الرأفة والرحمة إلا بالمؤمنين ، يقال لهما : منكر ونكير ، وفي يد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع عليها الثقلان لم يقلوها . فيقولان له : اجلس فيستوي جالساً في قبره فتسقط أكفانه في حقويه . فيقولان له : من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول : ربي الله وحده لا شريك له ، والإِسلام ديني ، ومحمد نبي ، وهو خاتم النبيين . فيقولان له : صدقت ، فيدفعان القبر فيوسعانه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره ومن قبل رأسه ومن قبل رجليه ، ثم يقولان له : أنظر فوقك ، فينظر ، فإذا هو مفتوح إلى الجنة ، فيقولان له : هذا منزلك يا وليّ الله ، لم أطعت الله فوالذي نفس محمد بيده إنه لتصل إلى قلبه فرحة لا ترتد أبداً ، فيقال له : أنظر تحتك فينظر تحته فإذا هو مفتوح إلى النار ، فيقولان : يا ولي الله نجوت من هذا فوالذي نفسي بيده إنه لتصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبداً ، ويفتح له سبعة وسبعون باباً إلى الجنة يأتيه ريحها وبردها حتى يبعثه الله تعالى من قبره إلى الجنة وأما الكافر فيقول الله لملك الموت : ويفتح الله لملك الموت انطلق إلى عبدي فائتني به فإني قد بسطت له رزقي وسربلته نعمتي فأبى إلا معصيتي فأئتني به لأنتقم منه اليوم ، فينطلق إليه ملك الموت في أكره صورة رآها أحد من الناس قط ، له اثنتا عشرة عيناً ومعه سفود من النار كثير الشوك ، ومعه خمسمائة من الملائكة معهم نحاس وجمر من جمر جهنم ، ومعهم سياط من النار تأجج فيضربه ملك الموت بذلك السفود ضربة يغيب أصل كل شوكة من ذلك السفود في أصل كل شعرة وعرق من عروقه ، ثم يلويه ليّاً شديداً ، فينزع روحه من أظفار قدميه ، فيلقيها في عقبيه ، فيسكر عدوّ الله عند ذلك سكرة وتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط ، ثم كذلك إلى حقويه ، ثم كذلك إلى صدره ، ثم كذلك إلى حلقه ، ثم تبسط الملائكة ذلك النحاس وجمر جهنم تحت ذقنه ، ثم يقول ملك الموت : أخرجي أيتها النفس اللعينة الملعونة إلى { سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم } ( ) فإذا قبض ملك الموت روحه قالت الروح للجسد : جزاك الله عني شرّاً فقد كنت بي سريعاً إلى معصية الله بطيئاً بي عن طاعة الله ، فقد هلكت وأهلكت ، ويقول الجسد للروح مثل ذلك ، وتلعنه بقاع الأرض التي كان يعصي الله تعالى عليها ، وتنطلق جنود إبليس إليه يبشرونه بأنهم قد أوردوا عبداً من بني آدم النار ، فإذا وضع في قبره ضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فتدخل اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى ويبعث الله إليه حيات دهماء تأخذ بأرنبته وإبهام قدميه ، فتغوصه حتى تلتقي في وسطه ، ويبعث الله إليه الملكين فيقولان له : من ربك؟ وما دينك؟ فيقول : لا أدري فيقال له : لا دريت ولا تليت ، فيضربانه ضربة يتطاير الشرار في قبره ، ثم يعود ، فيقولان له : انظر فوقك ، فينظر ، فإذا باب مفتوح إلى الجنة فيقولان له عدو الله لو كنت أطعت الله تعالى ، هذا منزلك فوالذي نفسي بيده إنه ليصل إلى قلبه حسرة لا ترتد أبداً ، ويفتح له باب إلى النار ، فيقال : عدوّ الله هذا منزلك لما عصيت الله ، ويفتح له سبعة وسبعون باباً إلى النار يأتيه حرها وسمومها حتى يبعثه من قبره يوم القيامة إلى النار) ( ).
الثاني : إنذار وتخويف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكفار على نحو القضية الشخصية , وعند الإحتجاج , والدعوة إلى التوبة ودخول الإسلام ، وهو من وجوه تفضيله على الإنبياء السابقين أنه كان ينذر الكفار مباشرة وفيه مسائل :
الأولى : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في الدعوة إلى الله والإسلام .
الثانية : عدم خشية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكفار عند تسفيه أرائهم وذم آلهتهم .
الثالثة : إنذارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من عند الله قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ]( ).
الرابعة : دعوة المسلمين بالإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحمل لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الثالث: المعجزات العقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكل آية من القرآن معجزة قائمة بذاتها .
الرابع : المعجزات الحسية وهي كثيرة ، وكانت قريش تظن أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صناعته وعمله ، فارادوا معجزة كونية فسألوا إنشقاق القمر وتواعدوا معه على ليلة ، ولما حان الأجل قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انظروا ، فنظروا فرأوا القمر قد انشق شقين فقال : إشهدوا ، ولكنهم إستكبروا وقالوا: لقد سحر الأرض والسماء ، ونزل قوله تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ]( ).
وبعد أن ورد تفسير الآيات التي يتضمنها هذا الجزء من سورة البقرة في الجزء الثاني والثالث من هذا التفسير جاء هذا الجزء بخصوص البيان فيها ومصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ).
إذ يدعو الخطاب الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى هجران الكفر والنفرة منه ، والتوقي من مفاهيمه وتبين العقوبة العاجلة التي تلحق الكفار بالختم على قلوبهم وحواسهم ليصبحوا عاجزين عن دفع المفسدة وجلب المنفعة ، ومتخلفين عن المكر بالإسلام وإيقاع الضرر بالمسلمين وهذا الختم من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، بلحاظ كبرى كلية وهي أن الختم مانع من تآلف وتآزر المشركين أو نماء قوتهم .
ثم إنتقلت الآيات إلى صنف من صنوف الكفار وهم المخادعون والمنافقون بقوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] ( )لتتضمن ذكر سوء سريرتهم وقبيح أفعالهم ، وفيه موعظة وعبرة لأجيال المؤمنين المتعاقبة ، ودعوة لهم للصبر والإحتراز من المخادعة وما في ثناياها من الكيد والمكر .
وأختتم هذا الجزء المبارك بقراءة في بيان آية [آمَنَ النَّاسُ] ( )إذ تضمنت الإخبار عن إشراقة الأرض بضياء نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقي الناس لها بالإيمان وفيه شاهد على عدم ترتب الأثر والضرر على المخادعين ، وتضمنت تسميتهم بالسفهاء ، وفي هذه التسمية مسائل :
الأولى :ورود هذا النعت للمخادعين من عند الله عز وجل .
الثانية : في الآية دلالة على مصاحبة السفه وخفة العقل للمخادعين .
الثالثة :تبرأة الذين آمنوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السفه ، والعجلة في الإختيار .
الرابعة : ورد لفظ السفهاء خمس مرات في القرآن ، وهذه الآية هي الوحيدة التي ورد فيها مرتين ، وبصيغة الجدال والإحتجاج وقد أختتمت الآية وهذا الجزء بذم المخادعين والإستهزاء بهم وتحديهم ونعتهم بأنهم [لاَ يَعْلَمُونَ] لبيان أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء بها من المعجزات قائمة على العلم والتدبر ، ليكون ذم المخادعين ونعتهم بالجهالة وعدم العلم من مصاديق قوله تعالى [اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
البيان في تفسير قوله تعالى [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ]
هذه هي أول آية يذكر فيها اسم الجلالة في نظم القرآن بعد البسملة .
إذ إقترنت معه فيها صفات الرحمة والرأفة بالناس والخلائق كلها لأصالة الإطلاق في قوله تعالى [الرحمن الرحيم ]، وعدم وجود مقيد أو تخصيص أو إستثناء وذكر الله عز وجل بخصوص المؤمنين بصفة الربوبية بقوله تعالى [أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ]( )، أما هذه الآية فهي من آيات التخويف والوعيد ، وجاءت بذكر اسم الجلالة (ختم الله ) وفيه بيان من وجوه :
الأول : إن الله عز وجل هو الإله والملك في الدنيا والآخرة .
الثاني : عدم إنحصار عقاب الكفار بالآخرة فيشمل الحياة الدنيا أيضاً.
الثالث: تجلي موضوع للقانون الثابت وهو أن الله عز وجل سلطان على القلوب والحواس ، ومن يتخذها مطية للمعصية لا يسخرها في طاعة الله ، يمنعه الله عز وجل من التمادي في التعدي .
الرابع : بيان المائز بين المؤمنين والكفار في النفس والذات بانشراح قلوب المؤمنين ، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ] ( )، وورد عن ابن عباس في الآية قال : شرح الله صدره للإِسلام ( ).
ولم تقل الآية (ختم الله على عقولهم ) ، ولم يرد لفظ (العقل) في القرآن سواء بصيغة المفرد أو الجمع ،قال تعالى [وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ]( ).
ويسمى العقل اللب لأنه خالص الروح وبه تدرك المعقولات وقيل من أسمائه الحجار بكسر الحاء لمعرفة الحجة وبيانها به ، ويسمى ( حجراً) لأنه يحجر صاحبه عن فعل المنكرات والنواهي ، قال تعالى [هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ]( ).
وسمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن فعل القبيح ، ويمنعه عن الإنقياد للنفس الشهوية وقد يسمى العقل بالقلب لأنه مبدأ الفضائل الروحانية .
ولا تدل آية البحث على إرادة العقل إنما المراد هو القلب ، فمن رحمة الله في الدنيا وتقريب الناس إلى منازل التوبة والإنابة وضروب الإبتلاء فيها جعل العقول في أمن من الحجب والغشاوة لينتفي المانع والبرزح بينها وبين الآيات الكونية والقرآنية.
وكانت معجزات الإنبياء السابقين حسية ، أما معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي عقلية تخاطب العقول إلى يوم القيامة وفيه دلالة على عدم وضع حاجز على العقول لإدراك المعجزات ، ولكن الغشاوة التي على القلوب والحواس مانع من الحظ والنصيب على نحو السالبة الجزئية ، وبرزخ دون أداء الإنسان لوظائفه العبادية التي جعلها الله علة لخلقه .
ولما ذكرت الآيات السابقة المؤمنين بأنهم على هدى من ربهم ، جاءت هذه الآية ببيان أسباب تخلف الكفار عن نعمة الهداية وما يتعلق بها من الثواب العظيم في الآخرة ، والآية صريحة بأن الله عز وجل هو الذي ختم على قلوبهم، ويحتمل موضوع الختم وجوهاً :
الأول : إرادة الحجب عن التدبر في بديع صنع الله.
الثاني : المانع عن الإيمان ودخول الإسلام .
الثالث : المراد من الختم هو التعيين بسمة يعرفون بها في الدنيا والآخرة وهي علامة الكفر .
الرابع : الجزاء والعقوبة العاجلة التي تسبب الحرمان من البصيرة .
والأرجح هو الثالث والرابع .
ويأتي الختم بمعنى إتمام الشئ يقال ختم الصبي القرآن أي أكمل قراءته أو حفظه ، ويأتي بمعنى المنع كما في قوله تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ] ( )،أي تربط وتغلق ويتعذر عليها النطق ، ويقال ختم على الرسالة أي طيها بنقش الخاتم .
ويحتمل الختم في آية البحث بلحاظ زمانه وجوهاً :
الأول : تعلق الختم بالحياة الدنيا .
الثاني : هذا الختم خاص بالآخرة ويتعلق بعالم الجزاء .
الثالث : إرادة الإطلاق في الحياة الدنيا والمقصود الفرد الجامع للدنيا والآخرة.
والصحيح هو الأول فلقد إبتدأت الآية السابقة ببيان علة الختم بالغشاوة وهي تلبسهم بالكفر وإصرارهم على الجحود إذ بدأت بالوعيد للذين كفروا ختم الله على قلوبهم بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ، بسبب كفرهم ، وجاءت خاتمة الآية بخصوص عالم الآخرة، ويدل عليه قوله تعالى [فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ] ( ) وفيه بيان للناس بأن علة وموضوع الختم والغشاوة إنما هي جزاء عاجل للكفار .
وعن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا( ).
أخبرت الآية السابقة عن عموم ترتب الأثر الكريم على إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكفار وأن النتيجة سالبة كلية سواء حصل إنذار أو لم يحصل , وتحتمل علة وسبب هذه النتيجة وجوهاً :
الأول : عدم وصول الإنذار للكفار وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتلو الآيات على أهل البيت والذين يحيطون به من المؤمنين .
الثاني : عدم إجتماع شرائط الإنذار بما يترتب عليه الأثر .
الثالث: الأصل هو لزوم إنذار خاص للكفار وآخر للمنافقين .
الرابع : عدم توجه الإنذار لكل فرد من الكفار على نحو الخصوص والتعيين .
الخامس: عدم كفاية موضوع الإنذار الذي ينزجر معه الكفار عن سبل الجحود والضلالة .
السادس : إختصاص الإنتفاع من الإنذار بالمؤمنين ويخرج الكفار بالتخصص أو التخصيص وحرمانهم من الإنذارات النبوية .
السابع : وجود المانع عند ذات الكفار ، وأنهم يمتنعون عن قبول الإنذارات .
الثامن : وجود برزخ ومانع بين الإنذار النبوي وبين الكفار , وهذا البرزخ على أقسام :
الأول :يتعلق البرزخ بموضوع الإنذار .
الثاني :إنه أمر طارئ غير مستقر .
الثالث : إنه خاص بالكفار أنفسهم علة ومعلولاً .
الرابع : سبب البرزخ هم المؤمنون الذين يحولون دون وصول الإنذارات للكفار .
الخامس : يأتي البرزخ من طرف ثالث كما لو كانت طائفة من الفساق.
والصحيح هو الوجه السابع والقسم الثالث أعلاه ويدل عليه مجئ هذه الآية الكريمة لتعيين علة عدم إنتفاع الكفار من الإنذارات بتعطيلهم الحواس في أولى وأهم أمور الحياة الدنيا وسر الخلق وهو الإيمان بالله وطاعته في السر والعلانية ، قال تعالى [وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ]( ).
ترى ماهي النسبة بين عدم إنتفاء الكفار من الإنذارات النبوية وبين ختم الله على قلوبهم وسمعهم الجواب من وجوه :
الأول : نسبة التساوي بين الختم والصدود عن الإنذارات .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الختم هو الأعم .
الثانية :عدم إستجابة الكفار للإنذارات أعم من الختم .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه فهناك مادة للإلتقاء ، وأخرى للإفتراق بين الختم على قلوب وسمع الكفار وبين تلقيهم الإنذارات بالجحود والصدود .
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني ، فتفضل الله عز وجل بالختم على قلوب وأسماع الكفار وضرب غشاوة على ابصارهم هو الأعم من جهات .
الأول : نعتت الآية السابقة أهل الجحود بالكفر .
الثانية : مجئ الإنذار من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكفار عند تلبس الذات بالمبدأ حال الإنذار كما في بحث المشتق .
الثالث : الكفر والجحود مانع من التدبر في الإنذارات .
والكفر لغة هو الستر لذا يقال للمزارع كافر لأنه يستر البذور في الأرض ، ويقال الليل كافر لأنه يرخي ظلامه على الأرض .
قال لبيد
يعلو طريقةَ متنها متواتر … في ليلةٍ كَفَرَ النجومَ غَمامُها( )
والكفر في الإصطلاح إنكار التوحيد والضرورات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والقرآن يفسر بعضه بعضا قال تعالى[أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً] ( )، ويقال ختم يختم وهو إقامة حاجز وبرزخ على الشئ من التغيير فيه، والقدر المتيقن من الآية أن الختم هو الوسمة والعلامة التي يعرف بها ويفيد أيضاً الفلق والمنع من التدبر بالآيات، والسهل عن منابع وسبل الصلاح، والقفل عن الفقاهة.
وختم فعل لازم وقد يتعدى بحسب اللحاظ والموضوع، فيقال ختم الكتاب أي وصل إلى آخره وختمه يختمه ختماً وختاماً أي طبعه، وأختتم الشئ ضد افتتحه، ويقال ختم القرآن أي قرأه إلى آخر سورة فيه.
من إعجاز الآية
ولم تذكر الآية القرآنية الشيطان ولم تنسب له الختم أو سببه أو إستحواذ على الذين كفروا ، بل جاءت الآية خاصة بين العباد والخالق عز وجل مما يدل على أنه ليس من سلطان على القلوب إلا لله عز وجل (وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، فإذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه)( )، لتكون القلوب من مختصات ملك الله عز وجل .
وفيه آية أن الإنسان قد يتحكم في نفسه وجوارحه ، ولكن لا يكون له سلطان على غيره إبناً كان أو زوجة أو عبداً وأمة ، ولكن الله عز وجل له السلطان المطلق على قلوب الناس جميعاً وله جنود في الهواء والماء وهو سبحانه الذي يغير القلوب كيف يشاء.
ومع كثرة المرات التي ورد فيها لفظ (القلب ) في القرآن بصيغة المفرد والجمع فانها لا تتضمن دلالة على إستحواذ الشيطان على قلب الإنسان ، إنما ورد بأن الشيطان يفتن الإنسان، قال تعالى [لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ]( )، وتلك الفتنة أمر خارجي ، ولم يتوجه إلى القلوب إنما يتوجه لأرباب القلوب القاسية أنفسهم فتكون الغشاوة التي ختمها الله عز وجل في آية البحث من النفع الخاص والعام ، النفع الخاص للكافر كيلا يتمادى في الغي ، والنفع العام في سلامة الناس عامة وأهل الإيمان خاصة من طغيان وغرور الكافر الذي يفتتن بالشيطان ، وتلك آية إعجازية لآية البحث تكون مدخلاً لدراسات علمية في القرآن.
ولا تمنع الغشاوة التي ختمت على قلوب الكفار إنفاذ الرعب والفزع في قلوبهم من المؤمنين ، قال تعالى [وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ] ( )،وفي الآية أعلاه ورد عن السدي قال : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة ، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق . ثم إنهم ندموا فقالوا : بئسما صنعتم إنكم قتلتموهم حتى لم يبق إلا الشريد ، تركتموهم . . . ؟ إرجعوا فاستأصلوا . فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا فلقوا أعرابياً فجعلوا له جعلاً فقالوا له : إن لقيت محمداً فأخبرهم بما قد جمعنا لهم . فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد . فأنزل الله في ذلك ، فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وما قذف في قلبه من الرعب فقال { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب }( ) .
ومن إعجاز الآية أنها لم تقل ختم الله قلوبهم والذي يعني الختم التام ولو بغشاوة رقيقة ، ولكنها جاءت بحرف الإستعلاء ولم تقل (على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم )بعطف السمع والأبصار على القلوب لإحتمال تفسيرها على الإستئناف ، وقد يأتي من يقدرها بالإستقلال ويقول التقدير ( ختم الله سمعهم ) و(ختم الله أبصارهم ) بل جاءت الآية بتكرار حرف العطف (على ).
وإجماع النحويين عدم لزوم تكرار حرف الجر عند العطف على الاسم المجرور ، وإختلفوا فيما إذا كان الاسم المجرور المعطوف عليه ضميراً، فقال مشهور النحويين بوجوب التكرار كما لو قلت ( صليتها والنافلة) ولكن جواز خلافه أمر جلي بقوله تعالى [الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ]( ).
بحث بلاغي
ترى لماذا جاء تكرار حرف الجر في آية البحث ، فيه مسائل :
الأولى : بيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه .
الثانية : بيان العقاب العاجل على الكفر والجحود .
الثالثة : درء ضرر الكفار عن المسلمين ، وآية البحث من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) ، فانحسار الضرر وصيرورته أدنى مرتبة وأقل بلاء إنما بفضل الله عز وجل وأسباب التخفيف عن المؤمنين ومنها رمي الكفار بالغشاوة التي تتغشى قلوبهم وسمعهم وأبصارهم .
الرابعة : الأمر في الغشاوة على وجوه محتملة :
الأول : الغشاوة أمر متحد وهي غشاوة واحدة تختم قلب وسمع وبصر الكافر .
الثاني : كل فرد من القلب والسمع والبصر له غشاوة خاصة .
الثالث : إختصاص القلب بغشاوة وإشتراك سمع وبصر الكافر بغشاوة واحدة .
الرابع : هناك غشاوة واحدة تطبع قلوب الكفار وأسماعهم وأبصارهم .
الخامس : تطبع قلوب الكفار جميعاً غشاوة واحدة ، وغشاوة خاصة بالأسماع وأخرى للأبصار .
بلحاظ أنها حكم يتبع الكفر ، والحكم يتبع الموضوع ولوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
والصحيح هو الثاني ، وهو من بديع قدرة الله ، وفيه آية في إزاحة هذه الغشاوة في حالات :
الأولى : توبة العبد توبة نصوحاً ، فتزول الغشاوة عن قلوبهم وسمعهم وأبصارهم .
الثانية : فضل الله عز وجل في إزاحة بعض الغشاوات عند مجئ البرهان ، كما في الآيات الكونية المرئية .
الثالثة : إزاحة الغشاوة عن الآذان عند سماع آيات القرآن ، فلذا نزلت الحروف المقطعة لإنصات الكفار لها ثم تترى آيات البشارة ةالإنذار.
الرابعة : تنحية الغشاوة عند حضور الموعظة والتذكير بالآخرة والحساب .
ولقد جعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على المسلمين في الجهة التي يتوجه لها ، فيشمل الناس جميعاً ، ولا ينحصر في موضوع مخصوص إذ يكون بالبينة والحجة التي تدركها العقول والتي تراها الأبصار ، وتطرق الأسماع طوعاً وكرهاً ، لتخترق الدعوة إلى الله والزجر عن الكفر والضلالة تلك الغشاوة فيكتب للمؤمن الأجر والثواب على الأمر والنهي في مرضاة الله ، فلذا أثنى الله عز وجل على المسلمين بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( ).
هل من غشاوة على البصائر
ولم تذكر الآية البصائر، وفيه وجوه:
الأول : المراد من القلوب في الآية هي البصائر وتقدير الآية(وختم الله على بصائرهم).
الثاني : لم يرد لفظ البصائر في القرآن بخصوص فطنة ذات الإنسان، وإن ذكرت فيه خمس مرات، قال تعالى في الثناء على القرآن وعظيم نفعه[هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
الثالث : أراد الله عز وجل سلامة بصائر الناس، وإمتناعها على الغشاوة رحمة منه تعالى، وإقامة الحجة عليهم يوم القيامة.
الرابع : كفاية العقاب بالغشاوة بخصوص القلب والسمع والبصر.
الخامس : يفيد الجمع بين القلوب والأسماع والأبصار إرادة البصائر، وتقدير الآية: ختم الله على بصائرهم ولهم عذاب أليم.
والصحيح هو الثالث والرابع لوجوه:
الأول : حمل الآية الكريمة على ظاهرها، وعدم وجود قرينة صارفة إلى خلاف الظاهر.
الثاني : على المعنى الذي نذهب إليه بأن هذه الغشاوة علة لرفع ضرر الكفار، فان بصائرهم تبقى على حالها لتلقي البشارات والإنذارات ولكنهم أصروا على عدم توظيفها للإنصات للإنذارات والتدبر في معانيها، والإمتناع بالإختيار لاينافي الإختيار، والبصيرة هي الفطنة والفهم الثاقب وقوة الإدراك، لذا يقال نافذ البصيرة، وفي قوله تعالى[بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( )، قال ابن عباس: الإنسان شهيد على نفسه وحده( ).
وتحتمل النسبة بين الغشاوة على القلب وأثرها على البصيرة وجوهاً:
الأول : دبيب وإتساع الغشاوة لتطال البصيرة.
الثاني : إمتناع البصيرة على الغشاوة فلا تؤثر بها وإن وصلت إليها.
الثالث : نزول الغشاوة على القلب والسمع والبصر مجتمعات يكفي في حصول الغشاوة على البصيرة، فليس من عضو في البدن إسمه البصيرة، ولكنه اليقظة والنباهة وعقل المدركات وإعمال الحواس بالأتم والأحسن .
والصحيح هو الثاني، وهو من نعم الله عز وجل على الناس، ومن مصاديق نفخ الروح في آدم والآثار المترتبة عليه، وعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ). أقام الله عز وجل عليها الحجة بقوله[قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علمه تعالى أن بصائر الناس تبقى مستعدة للتدبر في الآيات، إلا أن الكفار يعزفون عن إنذارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إستكباراً، فجاءت الآية بوجوه:
الأول : بيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبذله الوسع في التبليغ فيقوم بالبشارة للمؤمنين، والإنذار للكافرين.
الثاني : منع الشك من الدبيب إلى نفوس المسلمين، وجعلهم في منعة وغنى عن الإستماع إلى الكفار في جدالهم.
الثالث : دعوة المسلمين للصبر والتأسي.
الرابع : التدبر في حقيقة حصول الغشاوة وأثرها في الدنيا والآخرة.
الخامس : توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على نعمة الهداية والعصمة من الغشاوة مطلقاً والسلامة من طروها على القلب أو السمع أو البصر.
وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : وقوع الختم على قلوب الكفار خاصة .
الثاني : الإطلاق في الختم فيصيب قلوب وأسماع وأبصار الكفار.
الثالث: نزول الختم بالقلوب والأسماع ، أما الأبصار فتصيبها الغشاوة.
الرابع : أصالة الإطلاق في كل من الختم والغشاوة ، والتقدير على وجهين :
الأول : ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم .
الثاني : تغشي الغشاوة لقلوب وأسماع وأبصار الكفار .
الخامس : ما ورد (عن ابن عباس في الآية قال : الختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، والغشاوة على أبصارهم) ( ).
وإذا كان القلب يقبل الختم فهل يقبل الغشاوة وإذا كانت الأسماع والأبصار تتلقى الغشاوة ، فهل عندها قابلية تلغي الختم ، الجواب لا، وهو من فضل الله ورحمته وفيه مصداق لإستدامة سنخية الإختبار في الدنيا.
لماذا الغشاوة
لقد خلق عز وجل الإنسان بأبهى وأتم هيئة , قال سبحانه[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )، وتفضل سبحانه وتغشاه برحمته من حين خروجه إلى الدنيا والى ساعة مماته ينزل عليه الرزق ، ويدخل إلى قلبه السرور والبهجة ، وأعانه باسباب السكينة والأمل ، وتفضل بالتنزيل وجعله مرآة لنفخ الروح في آدم .
وإذ تفضل الله عز وجل وعلمه الأسماء، وقال [يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ] ( )، فانه سبحانه لم يتركه وذريته في معيشتهم في الأرض فبعث الأنبياء من جنس البشر وأنزل الكتب السماوية عليه وهو من خصائص الخلافة في الأرض بالصلة المبارك ، وفي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( )،ليجتهد في دعوة الناس لعبادة الله ، ومن يدخل في الإسلام يقوم بذات الدعوة ويتلو القرآن ويؤدي الصلاة والفرائض الأخرى ليكون فعل كل مسلم حجة على الكفار ، ودعوة لهم لدخول الإسلام ، وهل تمنع هذه الغشاوة الكافر وعلى نحو السالبة الكلية من التدبر في صيغ عبادة المسلمين.
الجواب لا، وهو من الإعجاز في ورود لفظ غشاوة في الآية لأنها عبارة عن غطاء رقيق ترتب على إختيار الكفر لصرف أذى الكافر ومنعه من الإضرار بالمؤمنين .
ترى لماذا هذه الغشاوة على قلوب الكفار، الجواب فيه وجوه :
الأول : البيان للناس جميعاً بالقبح الطارئ الذي يتصف به الكفار .
الثانية : إنذار الناس من محاكاة الكفار وإتباع رؤساء الضلالة والطواغيت .
الثالثة : دعوة الكفار للتوبة والإنابة للسلامة والتنزه من داء الغشاوة ، ومن الإعجاز القرآني أن الغشاوة أدنى من الاقفال ، كما أن ذات الطبع من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً وتكون الغشاوة من أدنى وأقل مراتب الطبع ومن أرق أفراد الغطاء بحيث لا تكون حاجباً وبرزخاً لرؤية الآيات وعن سماعها.
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، فجاءت آية البحث بأمور :
الأول : الإخبار عن أمر من علم الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل وهو رمي الكفار بالغشاوة على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم .
الثاني : التخفيف عن المسلمين في جهة الدعوة إلى الله عز وجل .
الثالث : عدم تسلل الشك والريب إلى نفوس المسلمين بسبب قبح إصرار الكفار على الجحود.
إن الغشاوة التي القاها الله عز وجل على قلب وحواس الكافر عقوبة وفيها ضرر عليه إلا أنها دعوة له لهجران الكفر والمعافاة من هذه الغشاوة فانها عبئ ثقيل وجاثوم على القلب والجوارح يسبب الأذى وسوء الإختيار والفعل لصاحبها ، قال تعالى [وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا]( ).
ومن دلالات ومعاني هذه الغشاوة أنها تكون فيصلاً بين المؤمنين وبين الكفار ، فالمؤمنون في أمن من هذه الغشاوة ، ليكون من منافعها إرتقاء المؤمنين في سبل الفلاح والتوفيق إلى حسن الإختيار في أمور الدين والدنيا وترغيب الناس بدخول الإسلام للوقاية والسلامة من الختم بالغشاوة على القلوب .
ومن خصائص الإنسان أنه يسعى للعلاج والتماس الشفاء من الداء حال يصاب فيه ، ويتداعى له ذووه والمقربون منه ، فجاءت آية البحث لدعوة الكافر للسعي للشفاء من أقبح وأشرس داء وهو الكفر إذ يجعل صاحبه في غشاوة وتيه إلى أن يسوقه إلى الخلود في الجحيم ، ومن الآيات أن هذه الغشاوة وآثارها ليست بالأمر الثابت بل هي عرض متزلزل وليست هي داء مستعصياً على الشفاء فالإنسان قادر على السلامة منها بالتوبة والتنزه من الكفر بدليل أن الآية علقت وجودها على التلبس بالكفر بقوله تعالى في الآية [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] ،وعائدية الضمير في [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ] إلى الكفار وتقدير آية البحث( ختم الله على قلوب الكفار ) لذا فان قوله تعالى [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ] لا يعني ثبات الختم على الذوات والأشخاص إنما يتبع الختم الكفر ، فاذا غادر الإنسان الكفر زال هذا الختم ، وكذا إذا إندفع الكفر عنه بفضل من عند الله.
وهل القدر المتيقن من الختم هو عدم الإتعاظ من الإنذارات أم أن موضوعه أعم وأكثر ، الجواب هو الثاني ، إنما جاء ذكر الإنذارات في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلفه المسلمون في حثهم الناس للإيمان ونبذ الكفر .
ولا تمنع هذه الغشاوة إدراك الكافر لقبح الكفر ى والضلالة ، وما يجلبه من الأذى والضرر على صاحبه ، وحجبه عنه المنافع العظيمة في الدنيا والآخرة ، فهذه الغشاوة لا تحجب آية البحث عن الكفار ، وما فيها من الذم والتبكيت لهم ، وأبى الله عز وجل أن يكون هناك مانع وبرزخ بين الأسماع والأبصار والقلوب ، فان أعرض الكفار عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فان البشارات والإنذارات القرآنية تصل إليهم ، وتخترق تلك الغشاوة لتجعل الكفار على اقسام :
الأول : الذي تمتلأ نفوسهم بالنفرة من الكفر ، ويهجرون وإلى الأبد منازله .
الثاني : الذين يحصل عندهم تزاحم بين لغة الإنذارات ومفاهيم الضلالة التي هم عليها ، وهذا التزاحم لن يستمر ، إذ تكون الغلبة للإيمان ومفاهيمه.
الثالث : الذين يصرون على الكفر والجحود ، فتصاحبهم الغشاوة وجاء الذم في آية البحث مطلقاً شاملاً للذين هم في منازل الكفر ولا عبرة لموضوع التزاحم في المقام ، إذ المدار على صدق الإيمان وهجران منازل الكفر .
وتقدير الآية ( ختم الله على قلوبهم وسمعهم ، وغشاوة على أبصارهم وبلحاظ أن معنى الختم هو الطبع والعلامة فان الختم يجعل قلوبهم معروفة عند الله عز وجل بالسمة والعلامة , قال تعالى [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
وتكون هناك نوع ملازمة بين الكفر والطبع على القلوب بسمة من عند الله ، وفيه دلالة بأن الله عز وجل له سلطان على القلوب ، ويفعل بها ما يشاء , فالإنسان في ذاته وأعضائه تحت سلطان الله ،ومشيئته تعالى تنفذ للقلوب والحواس وفيه بعث للحيطة والحذر والخوف من البطش الإلهي ،وهل من صلة بين الختم على القلوب وإصابتها بالمرض كما في قوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] ( )، الجواب إن الختم لا يسبب مرض القلوب ، ولكن هذا المرض يجلب الختم عقوبة وواقية من شرور هذه القلوب والكدورات الظلمانية التي تترشح عنها .
وأيها أشد أذى على الكفار في الدنيا :
الأول :الختم على القلوب ، بلحاظ أن العذاب أمر في الآخرة ، وفيها ينشر الله عز وجل رحمته الواسعة حتى يطمع إبليس فيها.
الثاني : الغشاوة على الأبصار التي تمنع من الرؤية التامة والإحاطة بالأشياء.
الثالث :التخويف والوعيد بالعذاب العظيم يوم القيامة .
والصحيح هو الثالث ، فان هذا الوعيد يجعل الكافر في فزع وخوف ويدرك معه أنه يحجب عن نفسه أسباب الرحمة في الآخرة ، (وعن رسول الله :إن الله يُدْنِى المؤمن فيضع عليه كنفه وستره من الناس ويقرره بذنوبه فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا فيقول نعم أى رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى فى نفسه أنه قد هلك قال فانى قد سترتها عليك فى الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه , وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين)( ).
ومن خصائص الختم على قلوب الكفار أمور :
الأول : إنه مدد للمسلمين ، وعون لهم في الغلبة والنصر على الكفار.
الثاني : إرادة التخفيف عن المسلمين بالأرض من كيد وخبث الكفار.
الثالث: بيان المائز بين المؤمنين والكفار حتى في القلوب والأعضاء .
الرابع : ظهور آثار الختم على اللسان والجوارح بما يكون حجة على الكفار.
الخامس :القلب أمير الجوارح ، وإذ أبتلى بالطبع والوسمة فان الأعضاء تتداعى بينها وتتلقى الأذى الذي لا يكشفه إلا إختيار الإيمان والتنزه من الكفر .
السادس : جعل المسلمين يعرفون الكفار بما يظهر على السنتهم وأفعالهم من معاني الكفر الضلالة، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذم المنافقين [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ]( ) ، وفي الآية أعلاه ورد (عن ابن مسعود قال : ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم علي بن أبي طالب ) ( ).
بيان القرآن تنزيه من النفاق
ذكرت آية البحث القلوب والحواس بلحاظ أن الإنذار يكون على وجوه :
الإول : الإنذار القولي الذي تسمعه الآذان .
الثاني : الإنذار العملي الذي يدرك بحاسة البصر والمشاهدة .
الثالث : صيغ الإنذار التي تخاطب العقول ، ومنها علوم الغيب والتذكير باليوم الآخر، قال تعالى [فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ] ( ).
ومن إعجاز الآية أن تلقي الإنذارات الحسية يصل إلى القلب وتدركه العقول ، ولكن الكفار يصرون على الجحود وكأن قلوبهم مقفلة لا تقبل الحق والصدق ، ليكون فيه بيان للناس في معرفة حال الجاحدين لنعم الله ، وأخذ الحيطة منهم ، وجاء قوله تعالى [أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ] ( )، لبيان السبب الذاتي للختم وأن الكافر هو الذي جلبه على نفسه (عن الحسن أنه قيل له : في أهل القبلة شرك؟ فقال : نعم . المنافق مشرك ، إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله ، وإن المنافق عند هواه . ثم تلا هذه الآية { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً })( ).
ولا دليل عليه ، وهو خلاف ، إذ أن القدر المتيقن من الشرك هو جعل شريكاً لله في العبادة ، وإختيار ند له سبحانه ، وقد فرّق القرآن بين النفاق والشرك ، وأن وعد الله على النفاق بالعذاب الأليم ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
لقد جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرباً على الشرك وقطعاً لأصوله من الأرض ، فلا يقدر أرباب الشرك والضلالة على إيجاد أمة تتبعهم في أهوائهم ووجود بقايا للضلالة في نفوس الذين يخفون الكفر مع إظهارهم الإيمان ومع نطقهم بالشهادتين لا يعني أنهم مشركون .
إن إنذارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تصل إلى المنافقين وهو من أسباب إنحسار النفاق وقلة أشخاص رواده ، وحذرهم من نزول سورة أو تشير لهم بالخصوص في أسباب النزول تكون عاراً عليهم في النشأتين وقد ورد ذكر في القرآن بعض أسماء المشركين من الأمم السابقة مثل فرعون وهامان والسامري وجالوت ، قال تعالى [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابن لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ] ( ).
وكما ذكر القرآن قارون من الكفار وهو ابن عم موسى عليه السلام ، فقد ذكر القرآن أبا لهب وهو عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ]( ). ولم يذكر القرآن اسم أحد من المنافقين مع تعدد الآيات التي وردت بذمهم وموضوعاتها ، وفيه مسائل :
الأول : إكرام الله عز وجل للذين نطقوا الشهادتين وأقاموا الصلاة .
الثانية : تجدد فتح باب التوبة من النفاق، وهو يختلف عن الشرك الذي لا تصح التوبة منه إلا بالإيمان ، أمّا النفاق فتكون التوبة منه موافقة الباطن للظاهر ، وعلاج وإصلاح النفس .
الثالث : علم الله عز وجل بتوبة كثير من المنافقين .
الرابع : من إعجاز القرآن منع الفرقة بين المسلمين ، فاذا جاء ذم المنافق بعينه وإسمه فانه قد ينكر النفاق وينتصر له بعض من طائفته وقومه.
الخامس : نزل القرآن لمحاربة الكفر ، وتنزيه المسلمين عن النفاق .
السادس : توالي نزول الآيات من عند الله سبب لمداهمة النفاق في عقر داره من القلوب وعلة لشفائها ودخول الإيمان إليها .
السابع : إن إعلان الإنسان الإيمان ، ومواظبته على الصلاة حرب على النفاق وطريق للصلاح ، والتنزه من النفاق من عمومات قوله تعالى [الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
الثامن : رحمة الله عز وجل بالذين نطقوا بالشهادتين وسترهم.
قوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]
أختتمت الآية بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ، وفيه تأكيد للعقاب الأليم الذي ينتظر الكفار يوم القيامة ويحتمل متعلق العذاب وجوهاً :
الأول : ينزل العذاب بالكفار بسبب ختم الله على قلوبهم وأسماعهم.
الثاني : بيان قانون كلي وهو الملازمة بين الكفر في الدنيا والعذاب في الآخرة.
الثالث : الحكم على الكفار بالعذاب سابق لأوان الختم على قلوبهم وأسماعهم، والغشاوة على أبصارهم .
الرابع : حلول العذاب العظيم بالكفار هو سبب وعله الختم على قلوبهم وأسماعهم.
الخامس : ليس من ملازمة وصلة بين الختم على القلوب وبين العذاب الأليم ، إنما استحق الكفار العذاب على إختيارهم الكفر والجحود .
السادس :ظاهر الآية هو إستحقاق الكفار أمرين :
الأول : في الدنيا وهو الختم على قلوبهم وأسماعهم .
الثاني : نزول العذاب الأليم بهم في الآخرة .
السابع : بيان حقيقة وهي كل من يختم الله عز وجل على قلبه وحواسه ويموت من غير توبة فان النار مثواه ، قال تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ) .
الثامن : نزول العذاب العظيم بالكفار لأنهم لم يلتفتوا إلى الإنذارات ولأن الله عز وجل قال لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم [سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ).
التاسع : الختم على القلوب والأسماع والغشاوة على الأبصار مقدمة وأمارة على صيرورة الكافر إلى العذاب الأليم .
والصحيح هو الثاني والخامس والسادس والسابع والتاسع وهل آية البحث إنذار للكفار أم لا ، الجواب نعم، من باب الأولوية القطعية، فان حال وظلم الكفار لأنفسهم أشد.
والآية إنذار متعدد من وجوه :
الأول : نزول الآية وما فيها من الوعيد والتخويف .
الثاني : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الآية .
الثالث : تلاوة وحفظ المسلمين لهذه الآية والتدبر في معانيها .
الرابع : إتخاذ المسلمين لها موضوعاً للإحتجاج وشاهداً على القطع باليوم الآخر ، وبعث الناس للحساب .
الخامس : إستماع الكفار لآية البحث وبعثها الخوف في نفوسهم ، فان قلت قد ختم الله عز وجل على أسماع الكفار كما في الآية السابقة ، والجواب جاء الختم بما يشبه الغشاوة بلحاظ ما على الأبصار، أي أنها لا تمنع السمع منعاً كلياً ، ولا بد من وصول الإنذارات لهم رحمة من عند الله بعباده وحجة على الناس في الدنيا والآخرة .
ولما تفضل الله عز وجل ونفخ في آدم من روحه فانه سبحانه أبى إلا أن يصل كلامه إلى الأسماع كلها ، ليكون تجديداً للصلة بين الخالق والمخلوق ودعوة للناس لإصلاح أنفسهم للعبادة وإتخاذها لواء للحمد والشكر لله على نعمة الخلق والتنزيل والهداية.
وبعد أن جاء قبل آيتين الوعد الكريم من عند الله بالفلاح والنجاح للمؤمنين بقوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( )، جاءت هذه الآية بالوعيد للكفار .
ليعلم الناس أن هناك طريقين لا برزخ بينهما، فاما الفلاح وبقاء الغبطة والسعادة باختيار الإيمان وأما العذاب الأليم .
البيان في [وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]
لقد قطعت الآية السابقة بعدم إيمان الكفار سواء أنذرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو لم ينذرهم ، وجاءت آية البحث لرفع وهم بأن الإنذار لن ينقطع عنهم فهو متجه لهم بآيات التنزيل لقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]، الذي يتضمن غاية التخويف والوعيد ولأن الكفار لا يفقهون ولا يؤمنون باليوم الآخر فانهم قد يفسرون هذا الوعيد في الدنيا ، وموضوعه أعم وشامل للحياة الدنيا والآخرة ، ولا بد أن يروا مقدماته وآثاره.
وهل في آية البحث نوع طريق لتلقي الكفار الإنذارات الجواب نعم ، قال تعالى [انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] ( )، وتلك آية من إعجاز القرآن فما أن جاءت الآية السابقة بنفي إيمان الكفار مع إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم فان هذه الآية تنذرهم من جديد وتدفعهم بالتنزيل السماوي عن منازل الكفر ، وهو من رحمة الله بالناس في الدنيا ، فمع إن الإعراض عن الإنذار الذي يوجهه لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلم للنفس وإستكبار وعناد فان الله عز وجل يتفضل وينذرهم بنفسه وبآياته ، وان كان إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشمل الإنذار بالآيات أيضاً ، لتتضمن هذه الآية أشد أنواع الإنذار وهو الوعيد .
البيان في قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( ) .
بعد أن إبتدأت سورة البقرة بخمس آيات في مدح المؤمنين ، جاءت آيتان في ذم الكفار الجاحدين .
وفي موضوع آية البحث وجوه :
الأول : إرادة ذات الموضوع الذي ذكرته الآيتان السابقتان وهم الكفار.
الثاني : المقصود فريق ممن ذكرتهم الآية السابقة لم يتصف بالإنتساب للكفر والشرك في القول والفعل وقرارة النفس بل يكون هذا الفريق مخادعاً يدعي الإيمان زوراً .
الثالث : إرادة المنافقين الذين نطقوا بالشهادتين ممن يظهر بلسانه الحق، وينكره بقلبه.
الرابع : المراد فريق آخر قائم بذاته يدعي الإيمان زوراً وبهتاناً .
الخامس : فريق من أهل الملل من أتباع الإنبياء السابقين ، (وعن ابن عباس : أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها . هي في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ، ومن المنافقين من الأوس والخزرج( ).
السادس : إرادة أخلاط من الناس يتقوم فعلهم بالمغالطة والمكابرة لا تجمعهم ملة معينة أو صفة مخصوصة كالنفاق.
السابع : المراد أناس يجمعون بين النفاق والضلالة والعناد والفسوق .
الثامن : تبين الآية حالة من حالات أهل النفاق والضلالة والفسوق فمرة يظهرون الإيمان ، ويبقى الكفر خفياً مستوراً عندهم ، ومرة يجاهرون بالضلالة وأخرى يظهرون المكر والحيلة والخداع .
وبلحاظ آية البحث والآيات التالية لا تجد تعارضاً بين الوجوه أعلاه لتبين آية البحث قبح النفاق ، وأن موضوعه لا يختص بالقلب بل يظهر على الجوارح فيكون الفعل مخالفاً للقول وإدعاء الإيمان ، وهو من أسرار ما جاء في الآية السابقة بقوله تعالى [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، بلحاظ ما ذكرته الآيات السابقة من صفاتهم ولوردوها بصيغة التبعيض من عموم الناس بقوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ].
ومن الإعجاز في نظم القرآن إبتداء هذه الآية بواو الإستئناف لبيان صنف من الناس بعد ذكر المؤمنين والكفار ، وإذ قسمت الآيات السابقة الناس إلى مؤمنين وكفار ذكرت هذه الآية حال فريق من الناس يجمع بين شطر من الكفار وشطر من المنافقين وأهل الشك والريب .
ومن إعجاز القرآن أن تعيين هذا الفريق ليس بالأمر الصعب ولا يكون موضوعاً للخلاف بين المسلمين ، إذ أن هذه الآية والآيات الأثنتي عشرة التالية بيان لصفاتهم وكل فرد منها يستحقون عليه اللوم والذم ، ومن الآيات أن هذه الصفات كلها تتعلق بالقول باللسان والجدال [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ).
وقد يراد منه الإفساد والفتنة المترشحة عن التكذيب وإبتدأت هذه الصفات بذكر حال النفاق باعلان الإيمان بالله واليوم الآخر ، مع خلو قلوبهم من الإيمان ، مما يدل على ضرر النفاق وأهله سواء على القول بأن التقديم يدل على الأولوية والأهمية أم لا .
وذكر عدد من كتب التفسير عن أبي سعيد المقبري أنه ذاكر محمد بن كعب القرظي فقال : إن في بعض كتب الله : إن لله عباداً ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمرّ من الصبر ، لبسوا لباس مسوك الضأن من اللين ، يجترون الدنيا بالدين . قال الله تعالى : أعلي يجترئون؟ وبي يغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران . فقال محمد بن كعب : هذا في كتاب الله { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا }الآية( ).
وفي الرد عليه مسائل:
الأولى : لم يبين الراوي أياً من كتب الله التي ورد فيها الحديث وعلى فرض صحة وجود هذا الحديث فيشمله قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلاً لم تصدّقوهم ، وإن كان حقاً لم تكذبوهم( ).
الثانية : لم تتضمن الآية أعلاه الوعيد بفتنة تذهب العقول.
الثالثة : تؤكد الآية أعلاه رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخطاب الله عز وجل له بما يجعل النفوس تنفر من النفاق.
الرابعة : مجئ آيات البحث بالإنذار والدعوة إلى إصلاح عالم القول والفعل وإرادة موافقة الباطن وما في قراءة النفس له.
الخامسة : يبين آية البحث التنافي بين الحلم والحكمة وبين النفاق، وورد في الخبر أعلاه: فتنة تترك الحليم منهم حيران( ).
السادسة : جاءت آية البحث لتأخد بأيدي المنافقين إلى مقامات الحلم بالتوبة والإنابة حيث يتنعمون بنعمة الإيمان ويتجهون لشكر الله عز وجل، وفيه صرف للبلاء والفتن، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
ولم تقل الآية (ومن الناس من يقول آمنت )بل جاءت الآية بصيغة الجمع [آمَنَّا]وفيه وجوه :
الأول : إرادة التفخيم للذات المتحدة .
الثاني :المقصود الجماعة الصغيرة وجمع القلة .
الثالث : إرادة العدد الكثير من المنافقين .
الرابع : المقصود الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة من حيث القلة والكثرة بلحاظ البلد أو أفراد الزمان المتعاقبة .
والصحيح هو الأخير ، وهو من إعجاز القرآن ، ومن منافع التنكير في عدد المنافقين في الآية أمور :
الأول : أنذار وتحذير المسلمين وجعلهم في حال يقظة دائمة قال تعالى [خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا] ( ) .
الثاني :فتح باب التوبة للمنافقين ، وستر حالهم كأفراد فما أن يصلح احدهم نفسه ويجعل ما يضمره موافقاً لعلانيته حتى يتنزه من النفاق ويبدأ من جماعتهم وأن كان رئيساً فيهم .
الثالث : عدم إغراء المنافقين وأهل المكر والكيد في الإسلام .
الرابع : إصابة المنافقين بنقص العدد وإنحسار الأثر على نحو متصل ، وهو الإنحسار بالذات وبازدياد الإسلام قوة وتجلي الآيات الباهرات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومع مجئ الآية بصيغة الجملة الخبرية فانها تتضمن معنى الخطاب وتقديرها على وجوه :
الأول : إعلم يا محمد من الناس من يقول آمنا بالله وما هم بمؤمنين .
الثاني : إعلموا أيها المؤمنين بأن من الناس من يقول أمنا وما هم بمؤمنين .
الثالث : إعلموا أيها الناس بأن من الناس من يقول أمنا وما هم بمؤمنين .
ومن أسرار معاني مخاطبة الآية للناس جميعاً أمور :
الأول : براءة الإسلام مما يفعله المنافقون مما يخالف أحكام الشريعة قال تعالى في ذم المنافقين الذي يضمر الحسد مع حلاوة لسانه وإظهاره الإيمان [سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا]( ).
الثاني :إن الله عز وجل ينزه الإسلام من المنافقين ، بفضلهم ودعوتهم للتوبة .
الثالث : بيان قانون كلي وهوأن إخفاء المنافقين الكفر لا يمنع من دخول الناس جماعات في الإسلام بنيات صادقة وقلوب زاكية , قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ] ( ).
الرابع : دعوة الناس لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإنصات للكتاب والسنة وحثهم على عدم جعل المنافق واسطة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الآيات أن القرآن قريبة من كل إنسان ويجهر بتلاوتها المسلمون في أكثر أفراد الصلاة اليومية من جهات :
الأولى : من بين خمس فرائض يومية ثلاثة جهرية ، هي صلاة الصبح والمغرب والعشاء .
الثانية : عدد الركعات التي يجهر بها بالقراءة تسع ركعات , بينما يكون الإخفات في ثمان ركعات في صلاة الظهرين .
الثالثة : تلاوة المسلم والمسلمة القرآن في الصلاة عن ظهر قلب .
الرابعة : تكرار صلاة الفاتحة في كل صلاة يومية .
الخامسة : مع أن القراءة في صلاة الظهر والعصر بالإخفات إلا أن المسلمون يقفون قائمين أثناء التلاوة بما يجعل الناس يدركون أنهم في حال إنقطاع ومناجاة مع الله عز وجل ، فلا غرابة أن تتضمن سورة الفاتحة [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) ومن مصاديق هذا الصراط التنزه عن النفاق والعصمة من الشك والريب وإجتناب التدليس والخديعة .
الكفر أم النفاق أشد قبحاً
النفاق أصل لأخلاق مذمومة عديدة وأضرار على الذات والغير، فلذا جاء الوعيد بالعذاب الأليم للمنافقين بقوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( )،لما في النفاق من خصال القبح والضرر منها :
الأول : إيهام المنافق الناس بايمانه .
الثاني : يبعث النفاق الحزن والأسى في قلوب المؤمنين .
الثالث: يتضمن النفاق الغدر والخيانة .
الرابع : حين يتبين حال الكافر يكون المؤمنون منه في حذر ويقظة ،ولكن المنافق يطمئنون له وهو يبطن الكفر والعداوة (روي أن زيد بن حارثة خرج مع منافق من مكة إلى الطائف فبلغا خربة فقال المنافق ندخل ههنا ونستريح ، فدخلا ونام زيد فأوثق المنافق زيداً وأراد قتله ، فقال زيد : لم تقتلني؟ قال : لأن محمداً يحبك وأنا أبغضه ، فقال زيد : يا رحمن أغثني ، فسمع المنافق صوتاً يقول : ويحك لا تقتله ، فخرج من الخربة ونظر فلم يرَ أحداً ، فرجع وأراد قتله فسمع صائحاً أقرب من الأول يقول : لا تقتله ، فنظر فلم يجد أحداً ، فرجع الثالثة وأراد قتله فسمع صوتاً قريباً يقول : لا تقتله ، فخرج فرأى فارساً معه رمح فضربه الفارس ضربة فقتله ، ودخل الخربة وحل وثاق زيد ، وقال له : أما تعرفني؟ أنا جبريل حين دعوت كنت في السماء السابعة فقال الله عزّ وجلّ : ( أدرك عبدي ) ، وفي الثانية كنت في السماء الدنيا ، وفي الثالثة بلغت إلى المنافق) ( ).
وأيهما أكثر سوءً وضلالة الكافر أم المنافق ، فيه وجوه :
الأول : الكافر الأصلي هو الأسوء والأقبح ، لانه منكر للتوحيد والنبوه قلباً وقولاً .
الثاني : المنافق هو الأكثر ضلالة لأنه كافر بالقلب خادع باللسان .
الثالث : الذي يجمع الكفر والنفاق ، فتارة يظهر الكفر وأخرى يعلن الإيمان ولكن قلبه باق الإيمان.
ومن العلماء من قال بأن المنافق هو الأشد قبحاً ، وذكر خصالاً للكافر وكأنها مدح له ، قال الرازي: ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة . أحدها : أنه قصد التلبيس والكافر الأصلي ما قصد ذلك . وثانيها : أن الكافر عى طبع الرجال ، والمنافق على طبع الخنوثة . وثالثها : أن الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ولم يرض إلا بالصدق ، والمنافق رضي بذلك . ورابعها : أن المنافق ضم إلى كفره الاستهزاء بخلاف الكافر الأصلي( ).
والأصل أن يكون البيان بذكر قبائح كل من الكافر والمنافق وذكر خصالهم بالذم والتبكيت لا القول بأن الكافر على طبع الرجال وأنه استنكف من الكذب ونحوه والمختار أن الكافر أكثر قبحاً وسوءً لأنه أصر على الضلالة بالقلب واللسان ، وجاهر بالجحود وواجه الدعوة إلى الإسلام بالرفض العلني وفيه حث للناس لمحاكاته ، وتعريض بالمؤمنين .
نعم جاءت كثرة ذم المنافق ليحذر منه المؤمنون ، وورد التغليظ في عقوبته لبعث النفرة من النفاق وبيان أضرار النفاق على صاحبه .
ومن الإعجاز أن المنافق حينما يعلن إسلامه مع كفر سريرته تتوجه له آيات الذم والآيات التي تبين إختصاصه بعقاب أليم وهو الإقامة في اسفل جهنم .
والكافر الأصلي أشد قبحاً لوجوه :
الأول : يجمع الكافر القبح بكفره العلني والباطني .
الثاني : إظهار الكافر سوء إختياره الجحود ، وفيه حرب على الإيمان.
الثالث : الإصرار على الكفر والغواية على نحو جلي أشد من إخفائه والمخادعة فيه.
الرابع : طريق التوبة من النفاق أقرب من التوبة من الكفر المطلق .
الخامس : يجب على المنافق أن يؤدي الفرائض كالصلاة والصوم والزكاة والحج لانه آمن ظاهراً بالتوحيد ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وسئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]وعن قوله سبحانه [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ] فقال : هذه كلها يجمع الضلال والمنافقين وكل من أقر بالدعوة الظاهرة( ).
السادس : المنافق أقرب للإيمان، وأداؤه الفرائض طريق للتوبة وإخلاص النية، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
وتتضمن آية البحث البيان من وجوه :
الأول : تعلق الآية بفريق من عموم الناس بدليل مجئ أداه التبعيض في قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ]ليكون من إعجاز الآية إرادة العموم والإجمال في بيان هذا الصنف من الناس وعدم إختصاصه أو إنحصاره بأهل ملة معينة .
الثاني :إعلان هذا الفريق من الناس الإيمان بالله عز وجل ، وتصديقهم بالوحدانية ، وإظهارهم العبودية لله عز وجل .
الثالث : الإقرار بيوم القيامة وما يتفرع عن هذا الإقرار من وجوب التسليم بيوم البعث والنشور ولزوم الإستعداد للحساب .
الرابع : فضح هذا الفريق والإخبار عن كونهم منافقين يدعوّن الإيمان كذباً.
الخامس : بيان الآية لموضوعية الإيمان باليوم الآخر فمع إخفاء المنافقين الكفر إلا أنهم حرصوا على إعلان الإيمان بالميعاد ولابد أنه كان شرطاً في إظهار الإيمان وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لم يرضوا منهم إلا الإيمان باليوم الآخر ، ولم تذكر الآية الإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه واجب وفيه مسائل :
الأول : الإيمان بالله عز وجل هو الأصل الذي يتفرع عنه الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدليل المعجزة التي جاء بها.
الثاني :يترشح عن التصديق بيوم القيامة العلم بالسؤال يومئذ عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من الفرائض والواجبات ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلاَةُ قَالَ يَقُولُ رَبُّنَا جَلَّ وَعَزَّ لِمَلاَئِكَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ انْظُرُوا فِى صَلاَةِ عَبْدِى أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِى مِنْ تَطَوُّعٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ أَتِمُّوا لِعَبْدِى فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَاكُمْ) ( ).
وعن البراء بن عازب قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ وَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ قَالَ فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَالَ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ فَيَقُولُونَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى قَالَ فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ دِينِيَ الْإِسْلَامُ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولَانِ لَهُ وَمَا عِلْمُكَ فَيَقُولُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ قَالَ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَيَقُولُ رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي قَالَ وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ قَالَ فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ{ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } ( ).
الثالثة : الآية شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها لم تبين إلا الإيمان بالله واليوم الآخر ، وكفايتها في الظاهر في ثبوت الإيمان .
ومن إعجاز الآية أن الإيمان بالله واليوم الآخر سور الموجبة الكلية الجامع للمسلمين ولأهل الكتاب .
وقوله تعالى [وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] شاهد على نزول القرآن من عند الله لأنه يخبر عما في السرائر وما تخفيه النفوس مما هو ضد لظاهر الإيمان ، وقال تعالى في الثناء على نفسه [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( )، ليتفضل الله تعالى باطلاع المسلمين على ما يخفيه المنافقون في نفوسهم ، فان قلت جاءت الآية مطلقة ولم تبين من هم الذين يعلنون الإيمان وهم في قرارة أنفسهم كافرون .
الجواب عدم بيان الأسماء من اللطف الإلهي بالناس، ودعوة للتوبة وورد في أسباب النزول عن ابن عباس أن الآية نزلت في قوم من المنافقين وهم عبد الله بن أبي سلول وجماعة ( ) ،ولكن الآية أعم في دلالتها والمدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول.
فبينما جاءت الآيات السابقة التي تمدح المسلمين خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( )، وكذا جاءت الآيتان السابقتان في ذم الكفار بذات لغة الخطاب [أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ]( )، وتتضمن هذه الآية قانوناً كلياً بلغة الغائب لبيان حال المنافقين وتحذير المسلمين منهم.
ومن أسرار عدم كشف أسماء المنافقين في الآية أنها سبيل للتوبة وطريق للصلاح لتكون الغايات الحميدة من الآية على وجوه :
الأول :تحذير المسلمين من المنافقين .
الثاني : فضح النفاق وبيان قبحه .
الثالث : إنذار وتخويف المنافقين ، وإخبارهم بان المسلمين يعرفونهم بصفاتهم .
الرابع : التوقي وأخذ الحائطة من المنافقين .
الخامس : إنحسار ضرر المنافقين بعد علمهم بانكشاف خداعهم وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) ، بتقريب أن العدو متى ما علم بافتضاح أمره فانه يتجنب التعدي والإضرار.
السادس : بيان المدد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في هذه الآية بذم وفضح الذي يندس فيما بينهم ويعلن الإيمان وهو غير صادق في إعلانه .
السابع :تحذير المسلمين من إتخاذ المنافقين وليجة وخاصة وأصحاب مشورة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] ( )،وفضح المنافقين والإخبار عن خلو نفوسهم من الإيمان يجعلهم دون المسلمين مراتب ، ويملي على المسلمين إجتناب الوثوق بهم واستيزارهم لأن فيه الضرر والأذى ، ليبعث هذا التحذير الحسرة في قلوب المنافقين ، ويدعوهم إلى إصلاح سريرتهم ، إذ تبين الآية المرض والعيب عندهم وتطلعهم عليه ، فقد لا يلتفت الكافر إلى قبح فعله وللتباين بين إعلانه الحسن بالذات وخفائه القبيح بالذات والعرض ، وحاجته إلى صيرورة سره حسناً ايضاً وموافقاً لعلانيته.
وهذه الدعوة من أسباب عدم بيان أسماء المنافقين رحمة من عند الله بالناس عامة وبالذين نطقوا بالشهادتين على نحو الخصوص .
وخاطبت الآية قبل السابقة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه سواء أنذر الكفار أو لم ينذرهم فانهم مصرون على الكفر والعناد ، وممتنعون عن الإيمان ، وتعقبتها الآية السابقة بالوعيد بأشد العذاب ، بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]، وجاءت هذه الآية بإنذار إضافي من جهات :
الأول : ذم النفاق .
الثاني : ذم إجتماع خصال الكفر والنفاق .
الثالث : الإخبار عن وجود فريق من الناس يظهرون الإيمان ويخفون الكفر .
ولا يقدر على كشف التضاد والتباين بين ظاهر الإنسان وما في سريرته إلا الله عز وجل مما يدل على صدق نزول القرآن.
ومن إعجاز القرآن أن نفي الإيمان عنهم جاء بصيغة القطع والجزم [وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] ، ولكن هذا القطع متزلزل في النفوس بلحاظ أن الوصف يتعلق بحال لكفر أما التزلزل فلرحمة الله بالبشارة والإنذار التي تتوجه للناس جميعاً فتكون سبل التوبة قريبة من كل إنسان .
البيان في قوله تعالى [وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]
يحتمل نفي الإيمان وجوهاً :
الأول : إرادة نفي الإيمان مطلقاً عن المخادعين .
الثاني : القدر المتيقن من نفي الإيمان في المقام هو جحود المخادعين بالربوبية ، وإنكارهم ليوم القيامة .
الثالث :كفر المخادعين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتقدير خاتمة الآية ( وما هم بمؤمنين بالنبوة ).
الرابع : عناد وإستكبار الكفار عن التسليم .
الخامس : الكفر بخصوص اليوم الآخر .
والصحيح هو الأول لوجوه:
الأول : أصالة الأطلاق ، وعدم وجود مقيد في البين .
الثاني : مجئ الآيات التالية بصفات الضلالة والجحود التي يتصف بها المخادعون كما في قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى] ( ).
الثالث : نظم الآية القرآنية وإخبار صدرها عن إدعائهم الإيمان، ونفي آخرها إيمانهم من غير فاصلة بين الأمرين .
الرابع : إن الإيمان بالله يؤدي إلى الإيمان بالنبوة والتنزيل ، لأن النبي يأتي بالمعجزة الخارقة للعادة المقرونة بالتحدي ، ولأن القرآن معجزة عقلية يبين بذاته أنه فوق كلام البشر برسمه ونظمه ودلالات كل كلمة فيه ، ومضامينه القدسية ، وإنتفاء التعارض بين آياته .
وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : كفاية الإخبار الإلهي عن عدم إيمان المخادعين .
الثاني :تجلي مبرز خارجي لتجافي المخادعين عن الآيات وإستكبارهم عن تلقي الدعوة إلى الإسلام بالقبول .
الثالث : بيان قانون كلي وهو أن الإيمان قائم على طرفين مجتمعين وهما :
الأول : إعلان الإيمان .
الثاني : إخلاص النية في القلب ، وإذا غلب النفاق والكفر القلب ينتفي عنوان الإيمان ولا يصدق على الإنسان حينئذ الأمد أنه مؤمن وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بتقريب أن المسلمين يؤمنون بالله واليوم الآخر والنبوة بالقول والفعل وقرارة النفس ، وأنهم يدعون الناس إلى ذات الإيمان الذي يتحلون به .
وتنفي الآية البرزخ بين الإيمان والكفر ولم تجعل النفاق درجة وسطاً بينهما فاما الإيمان وأما الكفر ، وفيه بيان لحقيقة وهي عدم وجود موضوعية للتقية في تعيين معالم الإيمان وسنن الهداية ليتقوم دوام الحياة الدنيا بهذه الآية بلحاظ أن أمة مؤمنة في الظاهر والباطن والسر والعلانية ،تودي الواجبات والفرائض العبادية علة لإستدامة الحياة ونزول الرزق ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أنها جاءت بصيغة التبعيض من العموم وبلغة التنكير [مِنْ النَّاسِ] فلم تقل الآية [منكم] وفيه وجوه :
الأول : إكرام المسلمين وإن كان المنافقون منهم ظاهراً .
الثاني : يذهب النفاق وتطرد درنه وندبته السوداء من النفوس ، ويستقر بدلها الإيمان والصلاح ، بينما آية البحث باقيه في كل زمان .
الثالث : المقصود بهذه الآية أعم من المنافقين فيشمل المخادعين والفاسقين من ملل أخرى خاصة وأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تذكر في موضوع الآية ، فلم يقولوا آمنا بالله والرسول واليوم الآخر ، بل ذكرت الآية الإيمان بالله واليوم الآخر وهو إعتقاد الكثير من الملل والنحل حتى تلك التي تطرأ عليها التحريف وطالتها يد النسخ والتغيير .
الرابع : منع دبيب الشك والريب بين المسلمين ، ورمي بعضهم بعضاً بعدم الإيمان ، خصوصاً وأن ظاهر قوله تعالى [مِنْ النَّاسِ]إرادة غير المؤمنين.
الرابع : غلق باب الجدال والإحتجاج على المسلمين على المسلمين بأن منهم ليسوا بمؤمنين ، وما فيه من التحدي وأسباب المغالطة .
الخامس : مجئ قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( ) بخصوص ذات الموضوع مع إتحاد النظم والوصف للدلالة على أن المراد من الناس في الآية أعلاه هم المسلمون الذين دخل الإيمان في قلوبهم .وبصيغة التأكيد لمقام الباء في بمؤمنين وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر .
الثاني : وما هم بمؤمنين ببعثة الأنبياء .
الثالث : ما هم بمؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : ما هم بمؤمنين بنصر المؤمنين وظهور دولة الإسلام ،إذ كانوا ينتظرون مجئ كفار قريش بجيوشهم وخبثهم وقسوتهم .
الخامس : إنعدام خصال التقوى عندهم للملازمة بين الإيمان والتقوى ، قال تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
أسرار التبعيض في الآية
وتبين الآية الإطلاق المكاني في موضوعها إذ وردت بصيغة التنكير [وَمِنْ النَّاسِ] وفيه مسائل :
الأولى : إنه مناسبة لمعرفة المسلمين بأحوال الناس .
الثانية : الإخبار عن كون المخادعين الذين تذكرهم هذه الآية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة كثرة وقلة ، وفيه دعوة للمسلمين للإجتهاد في الدعوة إلى الله.
الثالثة : الآية مدد للمسلمين في محاربة النفاق والمنع من إتساعه وظهوره علناً.
الرابعة : تبعث الآية النفرة في النفوس من النفاق وتبين كونه داء يكمن في النفوس ويصعب إكتشافه فتفضل الله عز وجل وجعله ظاهراً معروفاً للمسلمين والناس جميعاً بذكر خصال المخادعين ، ومحاولتهم التستر على إخفائه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )، بلحاظ أن الله عز وجل يأبى أن يكون في ملكه من يخدع المؤمنين ويظهر الإيمان كذباً وزوراً ويكون سبباً في ضلالة طائفة من الناس ، وبرزخاً دون إيمانهم ، ولما قال تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فتفضل وفضح المخادعين والمنافقين والكفار في القرآن ليكون في هذا الفضح رحمة من وجوه :
الأول : الرحمة بالناس جميعاً في الزجر عن مفاهيم الضلالة والنفاق، وهو من أسرار مجئ الآية بلغة التبعيض [وَمِنْ النَّاسِ] ليكون كل إنسان رقيباً على نفسه ، حريصاً على التنزه عن الأخلاق المذمومة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] ( ).
الثاني : الرحمة بالمسلمين بتوبيخ الذين يضمرون لهم العداء ويخفون النفاق.
الثالث : تجديد معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين ، وتقومها بنبذ النفاق .
الرابع : الرحمة بالمنافقين والمخادعين بزجرهم عن النفاق ، ودعوتهم لإصلاح السرائر إن علم الإنسان بأن الله عز وجل يعلم ما في قرارة نفسه وهو سبب للسعي لسلامة العقيدة والمبدأ فحينما يدّعي المخادع الإيمان يدرك أن الله يعلم بكذبه وخداعه ، وأن المسلمين يتلون آية البحث ويعرفون وجود مصاديق لها في كل زمان ، وفيه نفي للجهالة والحذر منهم.
ليعلم المنافق حاجته إلى التوبة والإنابة وأن النفاق لا يجلب الضرر إلا على صاحبه ، اذ جاءت آية البحث حصانة وواقية للمسلمين من شرور النفاق .
ولم تقل الآية (ومنهم ) بل قالت [وَمِنْ النَّاسِ] لمنع التأويل بالعطف على موضوع الآية السابقة وأما المراد من الكفار الذين يصرون على الجحود ويمتنعون عن تلقي إنذارات النبوة بالقبول والتدبر والإستجابة .
فمن البيان في الآية نقل المسلمين وغيرهم إلى موضوع آخر بلغة التبعيض من العام الإستغراقي ، ولفظ الناس في الآية عام يشمل المسلمين وغيرهم ، ولكن المسلمين يخرجون بالتخصيص من موضوع الآية لوجوه :
الأول : إيمان المسلمين في السر والعلانية .
الثاني : مجئ هذه الآية دعوة للمسلمين للتفقه في الدين ومعرفة أحوال الناس.
الثالث : يتلقى المسلمون آيات القرآن بالتصديق، وأحكامه بالإمتثال .
نعم تشمل الآية فريقاً من المنافقين فجاءت هذه الآية لدعوتهم لترك النفاق واللحاق بركب الإيمان، وفي التنزيل [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( )، ولم تقل الآية(ومن الناس الذين يقولون ) ونحوه بصيغة الجمع في الذين يقولون، بل جاءت بصيغة المفرد ( يقول )بينما أختتمت بصيغة الجمع ، فالأصل هو إتحاد الصيغة في أول وآخر الآية .
ولكن الآية أختتمت بالجمع وفيه مسائل :
الأولى : بيان حقيقة وهي غير المؤمنين أعم ممن يدعي الإيمان ظاهراً ويخفي ضده باطناً .
الثانية : الإخبار عن كون غير المؤمنين أعم من المنافقين .
الثالثة : إرادة الجامع المشترك بين المنافقين والكفار بخصوص مضامين الآيات التالية ونعتهم بالمخادعة وشراء الضلالة .
الرابعة : بيان حقيقة وهي بين المنافق والكافر عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هي كفر السريرة ، وأما مادة الإفتراق فهي إدعاء الكافر الإيمان ، وإجهار الكافر بالشرك والضلالة.
وإتصلت صيغة الجمع في خاتمة الآية بصفات المنافقين التي تبينها الآيات التالية.
ومن خصائص صيغة الجمع في الآية أمور :
الأول : بعث المسلمين على الحيطة والحذر .
الثاني : الإخبار بأن المخادعين ليسوا قلة ، فعلى المسلمين ألا يستهينوا بهم .
الثالث : تحذير المسلمين من تعاون الكفار والمنافقين في الباطل والإثم.
الرابع : تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين ، والثبات في منازل الإيمان , وعدم الإستيحاش من كثرة المخادعين .
الخامس : دعوة المسلمين للصبر في تلقي الأذى من جماعة الكفار والمنافقين.
البيان في قوله تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( )
إبتدأت الآية بصيغة الفعل ولغة الجمع [يُخَادِعُونَ]مما يدل على إرادة جماعة وطائفة ، ولأن الآية معطوفة على الآية السابقة، فيكون تقديرها ( ومن الناس يخادعون الله ) وصحيح أن لغة التنكير متصلة في الآيتين إلا أن هذه الآية تتضمن الحصر والتضييق في أرباب النفاق .
إذ أنها تجمع بين النفاق والخداع وقد يقال لا دليل على هذا الحصر والتضييق لأن الآية تبين صفة وعلامة من علامات المنافقين ، وهو صحيح إلى أن الخداع الوارد في الآية أعم من إخفاء الكفر لأنه يترشح في عالم القول والفعل ، وإرادة الوهم والإفتراء والكذب كما يتجلى في قوله تعالى [إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] ( )، نعم من أظهر مصاديق الخداع في المقام هو قولهم زوراً [يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ]، ولكن لفظ [يُخَادِعُونَ] يتضمن إرادة العمد بالخداع وأنهم لا يظهرون النفاق تقية وخوفاً من المسلمين بل يقصدون الإضلال وإيذاء المؤمنين.
لقد ذكرت الآية السابقة الإيمان باليوم الاخر وقرنته بالإيمان بالله في إعلان المنافقين ، أما هذه الآية فقرنت الذين آمنوا في باب خداع المنافقين مع ظلمهم لأنفسهم محاولة مخادعة الله عز وجل ، لتكون الآية من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) ، فكما يأبى الله عز وجل أن يحاول المنافقون خداعه فانه يأبى خداعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته .
ولما إبتدأت الآية السابقة بصيغة التبعيض من عموم الناس بقوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ] جاءت هذه الآية لفضح المنافقين عند الناس وبين الخلائق كلها ، وتلك آية في سلطان الله عز وجل ، وإن من مصاديق ملكه المطلق في قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا] ( )، البيان للناس بانه يفضح الذي يخادعه ويخادع المؤمنين من عباده في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فبآية البحث وهي باقية ظاهرة للناس إلى يوم القيامة يتلوها المسلمون فيستمع الملائكة والجن .
وأما في الآخرة فبكشف حقيقة ما يقوم به المخادعون وما يخفون في نفوسهم ، وفي قوله تعالى [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ]( ).
ورد عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من يرائي يرائي الله به ، ومن يسمع يسمع الله به) ( ).
بيان قبح المخادعة
وهذه الآية مدرسة بيان للمخادعة من جهات :
الأولى :ذكر وتعيين أهل المخادعة .
الثانية : بيان موضوع المخادعة بلحاظ الآية السابقة والآيات التالية .
الثالثة : إرادة مخادعة الله عز وجل رب السموات والأرض ,الذي خلقهم لطاعته وعبادته وعمارة الأرض بحمده والثناء عليه ولكن المنافقين جحدوا بالنعم وإختاروا البقاء على الكفر مع الستر عليه ، وهذا الستر يستلزم جهداً إضافياً وعناءّ ومشقة في الإخفاء ، وجاءت آية البحث لتزيد في عنائهم بذمهم والإخبار عن فضحهم، وجعل المؤمنين يعرفونهم بسيماء المخادعة .
ومنهم من قسم النفاق إلى قسمين :
الأول :النفاق الأكبر ،وهو في الإعتقاد باضمار الكفر مع إظهار الإسلام .
الثاني : النفاق الأصغر ، وهو النفاق في فروع الدين وعالم الأفعال ، بالإختلاف بين السر والعلانية مع التنزه عن الكفر والريب أو التكذيب بالآيات لذا فهو أقل قبحاً وسوءّ من الكفر والنفاق الأكبر .
ولا أصل لهذا التقسيم الإستقرائي، إنما جاء معنى النفاق بسيطاً يتقوم باظهار الإيمان مع إخفاء الكفر كي يعلم الناس قبحه ويتنزهون عن مفاهيمه .
وأستدل على النفاق الأصغر بما ورد (عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : آية المنافق ثلاث . إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ) ( ).
ولكن هذا الحديث لا يدل على تعدد أقسام النفاق وإنشطاره ، إنما هو تعريف وبيان لخصال المنافق ومضمون البيان للخصال التي يعرف بها المسلمون المنافق الذي يخفي الكفر مع إعلانه الإيمان ، من جهات:
الأولى : إذا حدّث الناس كذب عليهم لأنه في قرارة نفسه لا يخشى عقوبة الكذب في النشأتين .
الثانية : إذا وعد الناس لم يف بوعده ، فهو لا يرجو رحمة الله في أداء الشرط والوعد وقضاء حوائج الناس.
الثالثة : إذا وضعت عنده أمانة لم يحفظها لأنه تجرأ في عدم حفظ أمانة الإيمان الذي يعلنه على لسانه.
ليكون هذا الحديث طريقاً لمعرفة المسلمين للمنافق والحذر منه ، في مواطن الحديث والوعد والأمانة ، وفي غيرها ويدل الحديث في مفهومه بأن الذي لا يكذب في الحديث ولا يخلف وعده ولا يخون أمانته هو مؤمن ، لأن هذه الخصال الحميدة تترشح عن صدق السريرة ، وإرادة تعاهد الإيمان في النفس ، وهو من مصاديق ما تقدم في أول وصف للمتقين في القرآن بقوله تعالى [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ]( )، لما في هذه الأخلاق المحمودة من الدلالة على الخشية من الله والإيمان باليوم الآخر.
وإرادة الثواب الجميل ، والسلامة من الفضح أمام الخلائق وفي دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ ) ( ).
وتكررت في الآية مادة (خدع) مرتين إذ إبتدأت بقوله تعالى [يُخَادِعُونَ] ثم [يَخْدَعُونَ] وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول :مادة خدع .
الثاني : نسبة كل منهما إلى طائفة متحدة .
الثالث : قبح كل الخداع والمخادعة .
الرابع :كل من المخادعة والخداع من خصال المنافقين .
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه :
الأول : توجه الخداع إلى ذات المنافقين بينما تتوجه المخادعة إلى الله عز وجل والمؤمنين .
الثاني : موضوعية وأثر الخداع مع الذات ، وعدم ترتب الأثر على المخادعة.
الثالث : إرادة المنافقين للمخادعة عن قصد ، أمّا خداع الذات فلم يكن مقصوداً للمنافقين .
الرابع : يدرك المنافقون المخادعة لأنها فعل إرادي صادر عنهم ، أما خداعهم لأنفسهم فانهم لا يشعرون به ، فجاءت الآية لأمور :
الأول : جعل المنافقين يعلمون بقبح المخادعة .
الثاني : البيان للناس بمبغوضية المخادعة لله ورسوله وللمؤمنين .
الثالث : الإخبار عن قانون كلي وهو إظهار إلإيمان مع إخفاء الكفر مخادعة لله ورسوله والمؤمنين .
الرابع :دعوة الناس للنفرة من النفاق وما يترشح عنه من الأخلاق المذمومة خاصة وأن الإنسان بفطرته لا يرضى بمخادعة الله ورسوله ، وهذه الفطرة من فيوضات قوله تعالى [فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا] ( ).
ويبين قوله تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا]، أموراً :
الأول : الثناء على المسلمين لإقتران إسمهم باسم الله عز وجل .
الثاني : بيان الأذى الذي يلقاه المسلمون من الكفار .
الثالث : الوعد الكريم من الله للمسلمين بالثواب على الأذى والضرر الذي يلحقهم من مخادعة الكفار (عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على اذاهم ) ( ).
الرابعة : خيبة الكفار في المخادعة ، إذ أنها لن توثر في المسلمين وتكون مفضوحة عندهم .
الخامس : بيان حال الإرتقاء الفقهي عند المسلمين بحيث يعلمون كذب وزيف إدّعاء المنافقين الإيمان ، وهذا الإرتقاء من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( )، بتقريب أن من مصاديق هذا الإعتصام والصدور عن القرآن التفقه في الدين والفصل بين المؤمن في قرارة نفسه ولا يجري على لسانه إلا ما في قلبه ، وبين المنافق الذي يظهر الإيمان ولكنه يكتم الكفر والجحود .
السادس : الفصل بين الذين آمنوا والمخادعين ، وعلى القول بأن المنافقين هم من [الَّذِينَ آمَنُوا] فيحتمل وجوهاً:
الأول :يخادع المنافقون عموم المسلمين ، ومنهم أنفسهم ، ولكن الخداع لا يتحقق إلا مع أنفسهم .
الثاني : الفصل والتمييز بين الذين آمنوا وبين المنافقين .
الثالث : المراد في الآية هم المخادعون وهم أعم من المنافقين ، وهم خليط من الناس من مذاهب مختلفة فيخادعون المؤمنين ويخادعون ذات المنافقين الذي على نهجهم في المخادعة ، قال تعالى [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا] ( )، ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو من إعجاز القرآن ومجيء المعاني المتعددة في اللفظ المتحد.
وتحتمل الصلة الموضوعية بين المخادعة والخداع في الآية وجوهاً :
الأول : الإتحاد والتساوي ، فذات الموضوع الذي يخادع به المنافقون الله والذين آمنوا يخدعون به أنفسهم .
الثاني : التباين والمغايرة بين موضوع المخادعة وموضوع الخداع .
الثالث : العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين المخادعة والخداع .
الرابع : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : مسائل وموضوع المخادعة هو الأعم والأكثر .
الثاني : موضوع خداع النفس هو الأعم.
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الرابع ، فقد تختص المخادعة بادعاء الإيمان زوراً، أما الخداع فليس لمصاديقه من حصر، ومنه وجوه :
الأول : لا يعلم المنافقون بأن الله عز وجل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
الثاني : جحود المخادعين بالنعم .
الثالث : تفويت المخادعين على أنفسهم الزيادة في النعم لتخلفهم عن الشكر لله عز وجل .
الرابع : من خداع النفس تحمل أوزار المخادعة .
الخامسة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة ، ولكن المنافقين أشغلوا أنفسهم بالمخادعة ، وفيه خداع لأنفسهم وحرمان لها من الثواب .
السادس : تضييع المنافقين فرصة الإستغفار والتوبة .
السابع : بذل المنافقين الوسع في محاولة تصديق المسلمين لزيف إدعائهم دون جدوى ، لأن آية البحث جعلت المسلمين في مأمن وحصن من إدعائهم ، ولم تقل الآية (خادعوا الله والذين آمنوا)، بل جاءت بصيغة الفعل المضارع ، وفيه مسائل :
الأول : إرادة إستدامة مخادعة المنافقين .
الثانية : دعوة المؤمنين للحيطة والحذر من المنافقين والمخادعين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]( ).
الثالثة : زجر المنافقين والمخادعين عن الإستمرار بالمخادعة لأن الله فضحهم وحذر المسلمين منهم .
الرابعة : دعوة الناس للحذر من المخادعين .
الخامسة:بيان إعجاز القرآن ، فمع أنه يخبر عن مواصلة المنافقين الخداع والحيلة فانهم لا يستطيعون الكف والإمساك عن المخادعة .
شواهد من مخادعة المنافقين
عندما زحفت قريش بثلاثة آلاف مقاتل في السنة الثالثة للهجرة ، وقطعت نحو خمسمائة كيلو متراً على الجمال وسيراً على الأقدام لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة إستشار النبي أصحابه ، فكان رأي رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول البقاء في المدينة والتحصن فيها ، وعدم الخروج لقتال المشركين ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يميل إلى هذا الرأي ولكن طائفة من المسلمين الحوا بالخروج خصوصاً الذين فاتهم المشاركة في معركة بدر ، فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قولهم ولبس لامة الحرب وخرج بألف رجل.
وقد يقال لماذا لم يعمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يراه ،ويأبى الاستجابة للشباب وحماستهم في ملاقاة المشركين.
والجواب ليس المدار في فعل النبي على رأيه الأول بل على الخاتمة وعالم الفعل ، فلا بد أن يخرج وإن كان رأيه إبتداء وعند المشاورة في البقاء لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )، ولكن رأس النفاق وقع في شبهة ، ففي وسط الطريق بين المدينة وجبل أحد إنخزل بثلث الجيش وهو يقول ( أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ ) ( ).
فهو لم يعلم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعل إلا ما أمره الله عز وجل وأن البركة والصلاح والموعظة كانت في الخروج ، ولو بقي في المدينة فلا يعلم ماذا يحدث إلا الله عز وجل ورسوله ولكان الثلاثمائة الذين إنسحبوا مع رأس النفاق دخلوا بيوتهم وغلقوها عليهم ، وأرسل بعضهم إلى أبي سفيان وإلى اليهود في المدينة يريد الأمان ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ بمشورة ابن أبي سلول ولعل مشورته بالبقاء في المدينة من مخادعة المنافقين لله ورسوله ، وكذا من المخادعة الجلية والظاهرة إنسحابهم وسط الطريق إلى أحد , وترك المسلمين في حرج شديد لرجحان كفة المشركين في العدة والعدد وبفارق ليس بالقليل ولم يعلم المنافقون أن الملائكة نزلوا مدداً وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وحينما إنسحبوا إنبرى بعض الأنصار يعظهم ويدعوهم للرجوع إلى الجيش فخاطبهم ( عبدالله بن عمرو بن حرام يقول يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم قالوا لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال قال فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال أبعدكم الله أعداء الله فسيغنى الله عنكم ) ( ).
وعن قَالَ ابن إسْحَاقَ : حَتّى إذَا كَانُوا بِالشّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ ، انْخَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابن سَلُولَ بِثُلُثِ النّاسِ وَقَالَ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ وَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ يَا قَوْمِ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ أَلّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيّكُمْ عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ عَدُوّهِمْ فَقَالُوا : لَوْ نَعْلَمُ أَنّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ وَلَكِنّا لَا نَرَى أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ . قَالَ فَلَمّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ قَالَ أَبْعَدَكُمْ اللّهُ أَعْدَاءَ اللّهِ فَسَيُغْنِي اللّهُ عَنْكُمْ نَبِيّهُ . قَالَ ابن هِشَامٍ : وَذَكَرَ غَيْرُ زِيَادٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ الزّهْرِيّ : أَنّ الْأَنْصَارَ يَوْمَ أُحُدٍ ، قَالُوا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا نَسْتَعِينُ بِحُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ ؟ فَقَالَ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ( ).
وتجلى وهن المخادعة وعدم خوف الضرر للمؤمنين من إنسحابهم وكان خداعاً لأنفسهم من جهات :
الأول : ظن المنافقون أنهم يقتلون في معركة أحد ، وقد عاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأغلب أصحابه من المعركة ، والذين قتلوا منهم كانوا شهداء، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الثاني : من مصاديق المخادعة في المقام أغراء أفراد جيش المسلمين أو شطر منهم بالعودة والرجوع ، ولكنه لم يرجع معه إلا المنافقون .
الثالث : جلب المنافقون إلى أنفسهم الخزي والعار وعرفهم المسلمون بقبح فعلهم .
ومن خديعتهم لأنفسهم هو حال الحسرة والخزي التي صار عليها المنافقون بعد رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من معركة أحد وكان عبد الله بن أبي مسلول يقدم كل جمعة إذا إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب قام فقال : أيها الناس هذا رسو ل الله بين أظهركم أكرمكم الله به ، وأعزكم به فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا ، ثم يجلس ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد وصنع المنافق ما صنع في أحد ، فقام يفعل كما كان يفعل ، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه ، وقالوا : اجلس يا عدو الله ، لست لهذا المقام بأهل . قد صنعت ما صنعت . فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول : والله لكأني قلت هجراً أن قمت أسدد أمره ، فقال له رجل : ويحك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المنافق : والله لا أبغي أن يستغفر لي)( ).
وعندما جاءت قريش وغطفان بعشرة ألاف مقاتل في معركة الخندق أخذ المنافقين يبثون سمومهم ، ويوهنون المسلمين عن القتال ، ويتكاسلون في حفر الخندق ، ويكثرون من الذهاب إلى بيوتهم ، ففضحهم الله عز وجل بآيات من القرآن منها[قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
وعندما علموا بكثرة جيش قريش وعزمهم على القتال أخذوا يستهزئون ويذكرون أحاديث الفتح بتندر وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه يخبركم أنه يبصر قصور الحيرة ومدائن كسرى وانتم لا تستطيعون أن تبرزوا .
ومن وجوه مخادعة المنافقين أنهم لما أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التوجه إلى تبوك جاء بعضهم وقال (يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللّيْلَةِ الشّاتِيَةِ وَإِنّا نُحِبّ أَنْ تَأْتِيَنَا ، فَتُصَلّي لَنَا فِيهِ فَقَالَ إنّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ ، وَلَوْ قَدْ قَدِمْنَا إنْ شَاءَ اللّهُ لَأَتَيْنَاكُمْ) ( ).وكان المسجد الذي بنوه قريباً من مسجد قباء الذي هو أول مسجد بنُي في الإسلام .
ولما رجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك نزل الوحي عليه قال تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ]( ).
فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إثنين من أصحابه إلى مسجد ضرار وحرقاه لأن المنافقين أرادوه مكاناً للكيد بالمسلمين ، وموضعاً لحضور العيون عليهم، وعن ابن أسحاق قال: كان الذين بنوا مسجد الضرار اثني عشر رجلاً . جذام بن خالد بن عبيد بن زيد ، وثعلبة بن حاطب ، وهزال بن أمية ، ومعتب بن قشير ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، وعباد بن حنيف ، وجارية بن عامر ، وأبناء محمع ، وزيد ، ونبتل بن الحارث ، ويخدج بن عثمان ، ووديعة بن ثابت .
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله { والذين اتخذوا مسجداً ضراراً } قال : ضاروا أهل قباء { وتفريقاً بين المؤمنين } قال : فإن أهل قباء كانوا يصلون في مسجد قباء كلهم ، فلما بني أقصر من مسجد قباء من كان يحضره وصلوا فيه { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } فحلفوا ما أرداوا به إلا الخير( ).
وذكرت الآية مخادعة المنافقين، وقد يصدر منهم ما هو أشد منها إذ هموا بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من تبوك، وعن ابن إسحاق قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثنية نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن خذوا بطن الوادي فهو اوسع عليكم فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اخذ الثنية وكان معه حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضى الله عنهما وكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يزاحمه في الثنية احد فسمعه ناس من المنافقين فتخلفوا ثم اتبعه رهط من المنافقين فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حس القوم خلفه فقال لاحد صاحبيه اضرب وجوههم فلما سمعوا ذلك ورأوا الرجل مقبلا نحوهم وهو حذيفة بن اليمان انحدروا جميعا وجعل الرجل يضرب رواحلهم وقالوا انما نحن اصحاب احمد وهم متلثمون لا يرى شئ الا اعينهم فجاء صاحبه بعدما انحدر القوم فقال هل عرفت الرهط فقال لا والله يا نبى الله ولكني قد عرفت رواحلهم فانحدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الثنية وقال لصاحبيه هل تدرون ما اراد القوم ؟ ارادوا أن يزحمونى من الثنية فيطرحوني منها فقالا أفلا تأمرنا يارسول الله فنضرب اعناقهم إذا اجتمع اليك الناس فقال أكره ان يتحدث الناس ان محمدا قد وضع يده في اصحابه يقتلهم( ).
وفي الآية مسائل:
الأولى : هل جهة المخادعة متحدة أم متعددة إذ تحتمل وجوهاً :
الأول : الإتيان بقول أو فعل يراد منه مخادعة الله عز وجل .
الثاني : التلفظ بقول أو القيام بفعل يراد منه خصوص مخادعة المؤمنين .
الثالث : الجمع في الغاية مع إتحاد القول أو الفعل ليكون فيه مخادعة الله والذين أمنوا مرة واحدة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية ومن مخادعة الله عز وجل الفعل الخفي الذي يصدر منهم والمتضمن للفساد ولا يعلم به إلا الله ، ومنه سوء النية والقصد ، قال تعالى في ذم المنافقين [وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] ( ).
الثانية : يحتمل خداع المنافقين لأنفسهم بقوله تعالى [وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ]وجوهاً:
الأول : هذا الخداع في ذات موضوع المخادعة .
الثاني : التعدد والتباين بين الموضوع الذي يخادعون به الله والذين أمنوا وبين الموضوع الذي يخدعون به أنفسهم .
الثالث : أحد الموضوعين فرع وقسم من الموضوع الآخر .
الرابع : خادعة الكفار والمنافقين ضلالة وخداع لأنفسهم .
الخامس : عند فشل المنافقين بالمخادعة لجئوا إلى خداع أنفسهم والأماني وزخرف القول ، قال تعالى [تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا برْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
السادس :خداع المنافقين لأنفسهم سابق لمخادعتهم لله والذين آمنوا كما لو كانوا يضمرون المكر والخداع باعلانهم الإسلام أو أداء النصيحة .
الثالثة : بيان فشل المنافقين في مخادعتهم وعدم ترتب الأثر عليها إلا الغواية وزيادة الإثم والعقاب عليهم .
الرابعة :الثناء على المسلمين وبيان فضل الله عز وجل عليهم من وجوه :
الأول : عدم الإنخداع بحيل ومكر المنافقين .
الثاني : سلامة المسلمين من الخداع والزيغ .
الثالث : فضل الله عز وجل على المسلمين بدفع ضرر المخادعة عنهم.
الرابع : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الأمن والسلامة من المخادعة .
الخامس : تأكيد وجود أعداء للمسلمين لا يشهرون السيوف بوجوههم ولا يزحفون بجيوش مكشوفة ، بل يبثون السمون ، ويشيعون الفاحشة ، ويثيرون الشكوك ،وعن هشام بن عبد الحكم قال : اجتمع ابن أبى العوجاء وأبو شاكر الديصانى الزنديق وعبد الملك البصري وابن المقفع عند بيت الله الحرام يستهزؤون بالحاج، ويطعنون بالقرآن، فقال ابن أبى العوجاء: تعالوا ننقض كل واحد منا ربع القرآن، و ميعادنا من قابل في هذا الموضع نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كله، فان في نقض القرآن إبطال نبوة محمد، وفى إبطال نبوته إبطال الاسلام، وإثبات ما نحن فيه، فاتفقوا على ذلك وافترقوا، فلما كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام فقال ابن أبى العوجاء: أما أنا فمفكر منذ افترقنا في هذه الآية: ” فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ” فما أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئا فشغلتني هذه الاية عن التفكر فيما سواها، فقال عبد الملك: وأنا منذفا رقتكم مفكر في هذه الآية: ” يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا
له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوا منه ضعف الطالب والمطلوب”ولم أقدر” وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ” إلى قوله تعالى: ” اعدت للكافرين “. قال العالم موسى بن جعفر عليه السلام فلما ضرب الله الامثال للكافرين المجاهرين الدافعين لنبوة محمد صلى الله عليه وآله، والناصبين المنافقين لرسول الله، الدافعين ما قاله محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أخيه علي عليه السلام، والدافعين أن يكون ما قاله عن الله عزوجل وهي آيات محمد ومعجزاته مضافة إلى آياته التي بينها لعلي عليه السلام بمكة والمدينة، ولم يزدادوا إلا عتوا وطغيانا، قال الله تعالى لمردة أهل مكة وعتاة أهل المدينة ” إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ” حتى تجحدوا أن يكون محمد رسول الله، وأن يكون هذا المنزل عليه كلامي، مع إظهاري عليه بمكة الباهرات من الآيات، كالغمامة، التي كانت تظله في أسفاره، والجمادات التي كانت تسلم عليه من الجبال والصخور والاحجار والاشجار، وكدفاعه قاصديه بالقتل عنه، وقتله إياهم، وكالشجرتين المتباعدتين اللتين تلاصقتا فقعد خلفهما لحاجته، ثم تراجعتا إلى أمكنتهما كما كانتا ؟ وكدعائه الشجرة فجاءته مجيبة خاضعة ذليلة، ثم أمره لها بالرجوع فرجعت سامعة مطيعة ” فأتوا ” يا معاشر قريش واليهود ويا معشر النواصب المنتحلين الاسلام الذين هم منه برآء، ويا معشر العرب الفصحاء البلغاء ذوي الالسن ” بسورة من مثله ” من مثل محمد صلى الله عليه وآله، من مثل رجل على الاتيان بمثلها، فقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الاية: ” لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ” لم أقدر على الاتيان بمثلها، فقال ابن المقفع: يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الاية: ” وقيل يا أرض ابلعى ماءك وياسماء أقلعى وغيض الماء وقضى الامر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين ” لم ابلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر على الاتيان بمثلها، قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك إذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فقال: ” قل لئن اجتمعت الجن والانس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا”)( ).
ومن فضل الله عز وجل على المسلمين في الآية أمور :
الأول : صيرورة الإيمان واقية من الخداع والغش وهو من الجزاء العاجل على الإيمان .
الثاني : مجئ ذكر المؤمنين مع ذكر الله عز وجل في تلقي المخادعة من الكفار والمنافقين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
الثالث : عطف الذين آمنوا على اسم الجلالة في المقام إمارة على المدد والعون من عند الله للمسلمين في دفع أذى وضرر المخادعة .
الرابع : ترتب الثواب العظيم للمسلمين على تلقي مخادعة الكفار والمنافقين ، وجاءت الآية بصيغة المضارع [يُخَادِعُونَ] وفيه مسائل :
الأولى : تجدد وتعاقب مخادعة المنافقين والكفار للمؤمنين.
الثانية : إصرار الكفار والمنافقين على المخادعة ، وعدم إتعاظهم من الإنذارات ومن فضح أمرهم .
الثالثة : إنعدام الشعور والإحساس عند المنافقين بقبح وعدم ترتب الأثر على المخادعة ، فكلما يخادعون الله ورسوله والمؤمنين تكون عاقبة المخادعة فضحهم ومع هذا يعودون إليها ، قال تعالى [كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا] ( ).
البيان في [وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ]
لقد تحقق النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على أعدائهم وإنهزمت قريش ومن ناصرها، ولم يلبثوا أن دخلوا الإسلام، ليتبين أن مكر وحيلة المنافقين لم تضر المسلمين وإن كانت آفة ومعولاً للغدر والهدم، وتتجلى مصاديق المدد الإلهي للمسلمين من جهات:
الأولى : الثبات في منازل الإيمان.
الثانية : تعاهد أداء الفرائض.
الثالثة : النصر على الأعداء الذين يزحفون بجيوش عظيمة على ثغر المسلمين.
الرابعة : الصبر على أذى المنافقين، وإنصراف أذاهم وخداعهم بفضل وعون من عند الله عز وجل.
لقد أراد الكفار الإجهاز على الإسلام ومحو التنزيل، وصدّ الناس عن الإسلام ومحو التنزيل، فكان المنافقون عضداً لهم في الباطل، وعوناً لهم في الضلالة إذ كان الناس أيام الدعوة الإسلام على أقسام:
الأول : المؤمنون الذين تلقوا الدعوة بالتصديق وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة، فأثنى الله عز وجل عليهم في أول آيات سورة البقرة بقوله تعالى[أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ] ( )، ليكون هذا المدح إسماً وعنواناً يعرفون به بين أهل السماء والأرض.
الثاني : الكفار الذين جحدوا بآيات التنزيل، وأصروا على الكفر ، وتقدم ذمهم والإخبار عن إصرارهم على الضلالة، بقوله تعالى[ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ).
الثالث : أرباب الكفر والشرك الذين لم يكتفوا بالكفر بالنبوة، وإنكار التنزيل مع أنه إعجاز محض، بل جلبوا الجيوش العظيمة على المدينة المنورة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وهم ملتفتون إلى حقيقة وهي أن الإسلام في إتساع سريع وأنه يأخذ بالقلوب ويجذب النفوس إلى الهداية والبرهان العقلي والحجة الحسية.
الرابع : المنافقون الذين يظهرون الإيمان وهم باقون على كفرهم وضلالتهم، ليكون من مخادعتهم إعانتهم للكفار في مخادعة المؤمنين وفي تثبيط الهمم، وإثارة أسباب الشك والريب.
لقد أختتمت الآية السابقة بذم المنافقين والمخادعين بنفي الإيمان عنهم[وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] وجاءت هذه الآية بنفي خداعهم إلا لأنفسهم، ولم تقل الآية أرادوا خداع الله والذين آمنوا إنما ذكرت المخادعة لبيان أن فعلهم بسيط وخبثهم ظاهر , وليس فيه أي صبغة للخداع إنما يقف فعلهم عند المخادعة وحدها، وفيه مسائل:
الأولى : ذم وتوبيخ المنافقين.
الثانية : عجز وقصور المنافقين عن خداع الذين آمنوا.
الثالثة : دعوة المنافقين للكف عن المخادعة، ويتجلى هذا الكف بوجوه:
الأول : الإمتناع عن المخادعة.
الثاني : التوبة النصوح وصدق الإيمان.
الثالث : إعلان الكفر الصريح وغلبة ما يضمر المنافقون من الكفر على ما يعلنون من الإيمان.
والصحيح هو الثاني، وهو من معاني آية البحث التي تكشف قبح هذه المخادعة، وتدعو الناس لتنزيه النفوس من أدران الكفر والضلالة.
الرابعة : الثناء على المؤمنين بأن الكفار لم يستطيعوا خداعهم، لتكون من خصائص هذه الآية جعل المؤمنين يتعاهدون مرتبة التوقي والإحتراز من خداع المنافقين، ومن أسرار تلاوة القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب بلحاظ هذه الآية أمور:
الأول : تنمية ملكة التقوى عند المسلمين.
الثاني : تذكير المسلمين بوجود أعداء ذوي نهج مختلف.
الثالث : لزوم الإحتراز والحذر من الكفار والمنافقين.
الرابع : بعث الخوف في قلوب المنافقين والكفار.
الخامس : دعوة الناس إلى ترك مخادعة المؤمنين.
السادس : صيرورة مخادعة المنافقين أمراً مكشوفاً عند الناس.
ومن معاني المخادعة المراوغة والتسويف والتأجيل ، وفي التنزيل [يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( )،ليكون من إعجاز القرآن مجئ المبين للمجمل فيه ، والمصداق للقاعدة الكلية ، ومن الآيات في الآية أعلاه أن كل واحد من المنافقين يستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمغادرة يوم الخندق والذهاب إلى أهله يأذن له لبيان حقيقة للتأريخ وهي أن أمن وسلامة المؤمنين وأهل المدينة لم تأت بسبب الجهد والتدبير وحده ، وكثرة السواد أو قلته بل جاءت بمدد من عند الله ومنه ريح عاتية هبت على المشركين جعلتهم يصابون بالضيق والرعب ويغادرون خائبين إلى مكة وقد ورد عن حذيفة قال : لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ، ونحن صافون قعود ، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا ، وقريظة اليهود أسفل نخافهم على ذرارينا ، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ، ولا أشد ريحاً منها ، أصوات ريحها أمثال الصواعق ، وهي ظلمة ما يرى أحد منا اصبعه ز
فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون{إن بيوتنا عورة وما هي بعورة}( ) فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، يتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك ، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً رجلاً حتى مر علي ، وما علي جنة من العدو ، ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ، ما يجاوز ركبتي ، فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال : من هذا؟ قلت : حذيفة فتقاصرت إلى الأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم فقال : قم . فقمت فقال : إنه كان في القوم خبر ، فأتني بخبر القوم قال : وأنا من أشد الناس فزعاً ، وأشدهم قراً ، فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوقه ، ومن تحته ، قال : فو الله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوف إلا خرج من جوفي ، فما أجد منه شيئاً ، فلما وليت قال : يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئاً حتى تأتيني ، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم ، نظرت في ضوء نار لهم توقد ، واذا برجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ، ويمسح خاصرته ويقول : الرحيل . . . الرحيل . . . ثم دخل العسكر فإذا في الناس رجال من بني عامر يقولون : الرحيل . . . الرحيل يا آل عامر لا مقام لكم ، وإذا الرحيل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبراً فوالله أني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم ، ومن بينهم الريح يضربهم بها ، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك ، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً متعممين، فقالوا : اخبر صاحبك أن الله كفاه القوم ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حز به أمر صلى ، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يرتحلون . فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذا جاءتكم جنود . . . }( ).
النسبة بين المخادعة والنفاق
لا يقف صاحب المخادعة عند إخفاء الكفر مع إظهاره الإيمان ، بل تشمل المخادعة إرادة الشر والإضرار : وخدعه (أي أراد به المكروه وختله من حيث لا يعلم)( ).
وهل مخادعة المنافق لله والمؤمنين بعرض واحد ، الجواب لا ، إنما ذكرت مخادعة الله لأن الأمر متوجهه من الله بالإيمان الذي أدعّوه ظاهراً كما في الآية [آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( ).
وفي معنى يخادعون الله وجوه :
الأول : إرادة المعنى الظاهر للآية .
الثاني : المراد مخادعة رسول الله ، وتقدير الآية ( يخادعون رسول الله والذين آمنوا).
الثالث : مخادعة أولياء الله.
والصحيح هو الأول لحمل الكلام على ظاهره وعدم وجود قرينة على الخلاف ، والمخادعة مفاعلة ولكنها هنا كالإيقاع من طرف واحد ، لانها فعل مكشوف لا يترتب عليه أثر .
فان قلت لم تذكر الآية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والجواب إذا ورد ذكر الله وذكر المؤمنين في المقام ، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو إمام المؤمنين ، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ] ( )، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الرائد والإمام الذي يقود المؤمنين في مسالك حب الله والإنقطاع له، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقوم ليصلي حتى سالت دموعه على صدره ، ثم ركع فبكى ، ثم سجد فبكى ، ثم رفع رأسه فبكى . فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال : أفلا أكون عبداً شكوراً)( ).
إن بيان حب النبي محمد صلى الله وآله وسلم والمؤمنين لله عز وجل دعوة للمنافقين لإجتناب النفاق والمخادعة ، وإقامة الحجة عليهم بارتقاء المؤمنين إلى منازل حب الله ، ونجاتهم من دار النفاق وآفاته ومنها المخادعة ، إذ أن النسبة بين المخادعة والنفاق هي العموم والخصوص المطلق ، فالمخادعة أعم لذا تقدم القول منا بأن المخادعين أعم من المنافقين فهم خليط من المنافقين ومن أرباب الفساد وأهل الملل السابقة، وجاءت الآيات التالية ببيان حالهم وقبيح فعلهم بما يمنع من الإختلاف بينهم أو أنها تجعل النزاع فيهم صغروياً .
فلو إنحصر النفاق بمصداق الإصطلاح وهو إخفاء الكفر وإظهار الإيمان لكان حذر الكافر على نفسه ، ولكن الآية جاءت بفعل إضافي وهو المخادعة والسعي في الحيلة والمكر وإرادة المكيدة والإيقاع بالمؤمنين وهذه الآية فضل من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا وإخبار لهم بأن هناك ضرباً عملياً من النفاق يكشف ما في عزائم نفوس المنافقين مما هو خلاف ما يبدون في لسانهم ويتقوم بالمخادعة.
وهل يمكن تقسيم النفاق إلى قسمين :
الأول : النفاق الإعتقادي وهو إظهار الإيمان بالله والنبوة ويوم القيامة، مع إخفاء الكفر والضلالة .
الثاني : النفاق العملي ، وهو خصوص إتيان الأفعال التي تدل على النفاق.
الجواب لا ،لان النفاق يتم بالقول والفعل الذي هو خلاف الإعتقاد.
ومن شرائط القسمة المغايرة بين أجزاء كل قسم ، فلا يكون قسم الشيء قسيماً له ، ولا يصح التداخل بين الأقسام إنما يظهر النفاق في القول الذي هو أحد جزئي النفاق المتباينين ،نعم يمكن تقسيم النفاق إلى :
الأول : النفاق القولي الذي يتجلى باظهار الإيمان على اللسان كذباً .
الثاني : النفاق العملي.
وتتعلق المخادعة في الآية الكريمة بالقسمين أعلاه لأصالة الإطلاق وإتحاد السنخية.
ويحتمل موضوع المخادعة وجوهاً :
الأول : إتحاد المخادعة، فيأتي موضوع واحد يكون مخادعة لله ورسوله والذين آمنوا.
الثاني : مخادعة الله عز وجل .
الثالث : مخادعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ] ( ).
الرابع : مخادعة الذين آمنوا بالقول وإدعاء الإيمان والنصرة كما في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] ( ).
الخامس : التعدد والتباين ، فمرة يخادعون الله والرسول والذين آمنوا وأخرى يخادعون المؤمنين وحدهم ، وهم يعلمون أن الله عز وجل يعلم بالمخادعة.
والصحيح هو الخامس ،والوجوه الأخرى المتقدمة في طوله ، ولا تتعارض معه.
البيان في قوله تعالى [وَمَا يَشْعُرُونَ]
الشعور هو الإحساس والإدراك للأمور الظاهرة والدقيقة مأخوذ من الشّعر ومنه اسم الشاعر لأنه يفطن للمسائل الدقيقة ويظهرها .
أختتمت الآية بفرد آخر من أفراد ذم المنافقين ، وهو أنهم لا يدركون أموراً :
الأول : عدم ترتب الأثر على مخادعتهم لله ورسوله، قال تعالى[وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثاني : إحتراز المسلمين من مخادعتهم .
الثالث : مجئ هذه الآية لتؤكد وتنمي ملكة الإحتراز عند المسلم من المنافقين إذ أنها تخبر عن خيبتهم وعجزهم عن فتنة المؤمنين .
الرابع : خداع المنافقين لأنفسهم .
الخامس : ذم المنافقين ونعتهم بأنهم (لاَ يَشْعُرُونَ).
وورد لفظ [مَا يَشْعُرُونَ]، ست مرات في القرآن ، وجاء لفظ [لاَ يَشْعُرُونَ] خمسة عشرة مرة ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ، فقد يأتي لفظ [لاَ] للنفي المؤبد ، قال تعالى [أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ).
لتكون خاتمة آية البحث موعظة وإنذاراً ودعوة للتوبة والإنابة وهو من معاني الإنذار في آيات القرآن فلا بد من وجود مستجيب للإنذار القرآني ، وكما يتعدد الإنذار في القرآن وتتكرر تلاوة الآية وإحتجاج المؤمنين بها فان الإستجابة لمضامينها تتجلى على نحو متصل بترك طائفة من الناس النفاق وهذا الهجران بسيط يتمثل باصلاح السريرة ، وتزكية النوايا وجعلها خالية من شائبة المخادعة وإرادة المكر والحيلة لتتبين للناس صفحة مشرقة لمنافع الإنذار القرآني وما يترتب عليه من زيادة إيمان المسلمين ، وهجران الناس لمواطن الكفر والنفاق ز
ولا نقول بعبارة ترك المنافق للنفاق والكافر للكفر ، وان صح المعنى لغة وواقعاً وأنه في معرض الإنتقال وللبيان ، ولكن لا نقوله للزوم تنزيه المؤمنين وإجتناب مصاحبة ذكره بالإشارة إلى حالته السابقة من النفاق والكفر، ولمخالفة الحال للوصف , وصبغة المجاز لما يسمى في علم الأصول إنقضاء تلبس الذات بالمبدأ في الحال .
فمن يهجر مواطن النفاق والكفر لا يجوز إطلاق صفة النفاق أو الكفر القبيحة عليه ، إكراماً له ولإيمانه ولتبدل الحكم بتغير الموضوع.
ويحتمل نفي الشعور في الآية وجهين :
الأول : نفي شعور المنافقين بخصوص مضامين آية البحث من جهات:
الأولى : لا يشعرون بأنهم يخادعون الله ، وهو على أقسام:
الأول : لا يشعر المنافقون بأصل المخادعة مع الله عز وجل .
الثاني : لا يشعرون بأنهم لا يستطيعون بلوغ مرتبة الخداع إلا مع أنفسهم .
الثالث: يظن المنافقون أنهم لم يخادعوا الله ورسوله وأن الإيمان باللسان كاف .
الثانية : لا يشعر المنافقون بأنهم يخادعون المؤمنين، وهذه الجهة على أقسام أيضاً.
الثالثة :لا يشعر المنافقون أنهم يخدعون أنفسهم .
والصحيح هو القسم الثاني من الجهة الأولى والجهة الثانية والثالثة .
الوجه الثاني : نفي شعور المنافقين في أمور أعم من مضمون آية البحث ، وليس له حصر ، إذ قد تأتي الآية في موضوع ولكن دلالاتها أعم وأوسع خاصة وأن قوله تعالى [وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] ورد بصيغة الإطلاق من غير تقييد ليكون من مصاديقه :
الأول :لا يشعر المنافقون بانهم يضرون أنفسهم ،إذ أن النسبة بين الضرر والخداع هي العموم والخصوص المطلق .
الثاني : ما يشعر المخادعون بأن حيلتهم لا تنطلي على المسلمين .
الثالث : لا يشعر المخادعون بأن الله عز وجل ينزل هذه الآية لتفضحهم إلى يوم القيامة .
الرابع : لا يشعر المنافقون والمخادعون بالعقاب الأليم الذي يترتب على مخادعتهم ، قال تعالى [بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] ( ) .
الخامس : لا يشعر المنافقون بالمدد الذي يتفضل الله عز وجل به على المسلمين باعانتهم في كشف المخادعة وإبطال أثرها والله عز وجل يعطي بالأوفر والأتم .
السادس : لا يشعر المنافقون بأن مخادعتهم لن تحجب دخول الناس أفواجاً في الإسلام .
السابع : لا يشعر المنافقون أن الله عز وجل هو خادعهم عقوبة لهم على محاولتهم مخادعة المؤمنين ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ]( ).
الثامن :لا يشعر المخادعون بأن الله عز وجل ذم النساء اللائي ينافقن على نحو التعيين ، لبيان ضرر النفاق ولزوم الحذر من أهله رجالاً أو نساءً ، خاصة وأن المرأة قد تترك للسانها العنان ، أو الناس يتسامحون معها ولا يؤاخذونها على كلامها , قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ] ( ).
التاسع : لا يشعر المنافقون بنزول آيات القرآن تفضح فعلهم وتخزيهم في النشأتين .
العاشر: لا يشعر المنافقون والمخادعون مطلقاً أن التوبة واجب عليهم، وأنها قريبة منهم ، وأن فيها السلامة والأمن من خداع النفس .
الحادي عشر: لا يشعر المنافقون أنهم حرموا أنفسهم من الإنتفاع من حواسهم فيما يخص الآخرة وحالهم يوم القيامة .
الثاني عشر: لا يشعر المنافقون بأن النصر قريب من المؤمنين ، وأن الله عز وجل يظهر الإسلام ويخزي أعداءه .
الثالث عشر: لا يشعر المنافقون بأن الركون للكفار ومؤازرتهم في إيذاء المؤمنين لن تجلب لهم إلا الخزي .
الرابع عشر : ما يشعر المنافقون أن الله يحصي عليهم أقوالهم وأفعالهم ، وأنه تعالى يرد كيدهم إلى نحورهم .
الخامس عشر :لا يشعر المنافقون بما في قلوبهم من المرض ، ولا بالغشاوة التي على أبصارهم.
والواو في [وَمَا يَشْعُرُونَ]حالية أي أنهم يزاولون مخادعة المؤمنين وخداع أنفسهم غير شاعرين أو مدركين لقبح فعلهم وإضرارهم بأنفسهم .
ويقال : ليت شعري أي أرجو لو أدركت وبلغت فطنتي الأمر.
السادس عشر:لا يشعر المنافقون بقرب نبذهم وإخراجهم من المدينة إن لم يكفوا عن المخادعة ، قال تعالى[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
إذ تبين هذه الآية أن المخادعين والذين يؤذون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ثلاثة أصناف وهم :
الأول : المنافقون .
الثاني : الذين في قلوبهم مرض الشك والريب .
الثالث : الذين يشيعون الأخبار التي تبعث الخوف والفزع في قلوب المؤمنين .
وفي المرض الوارد في الآية أعلاه وردت أقوال منها:
الأول : (والذين في قلوبهم مرض قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه)( ) .
الثاني : (الفجور وهم الزناة ، قاله عكرمة ( ).
أما النسبة للقول الأول فهو بعيد للتباين والتنافي بين الإيمان وبين النفاق والمرض ، ولا تكون قلة الإيمان علة للذم في القرآن والتخويف بالطرد والإخراج من المدينة واللعنة كما في قوله تعالى في الوعيد ونزول البلاء بالمنافقين والذين في قلوبهم مرض [مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً]( ).
وأما الثاني ، فصحيح أن الآية السابقة جاءت بخصوص الستر والوقار لأزواج وبنات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنات إلا أن مرض القلوب في هذه الآية لا صلة له بالزناة والأولى تنزيه المقام من ذكرهم إنما القرآن يفسر بعضه بعضاً وقد ورد مرض القلوب في الآية التالية [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] ( )، بخصوص المخادعين والمنافقين، ليكون العطف في قوله تعالى[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ] ( )، من عطف العام على الخاص فمنهم من ينقل الإشاعة وهو ليس منافقاً.
ويحتمل متعلق قوله تعالى [وَمَا يَشْعُرُونَ] وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص الموضوع الأقرب في ذات الآية لتكون الواو في قوله تعالى [وَمَا يَشْعُرُونَ] واو المعية ، ويكون خداع النفس بالوهم والسراب والخطأ والتفريط في الوظيفة العبادية ,وتؤكد الآية ضلالة المنافقين والمخادعين .
الثاني : تعلق خداع الآية بخداع المنافقين للذين آمنوا وتقدير الآية ( يخادعون الذين آمنوا وما يشعرون ) بلحاظ أنهم يدركون خداعهم لأنفسهم ولكنهم لا يعلمون أن إدعاءهم الإيمان بحضرة المؤمنين مخادعة وتدليس وتضليل أبى الله إلا كشفه وفضحه وإلحاق الخزي بأصحابه وتجلي هذا الكشف بآية البحث ، قال تعالى [وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ] ( ).
الثالث :إرادة مخادعة المنافقين لله عز وجل وهم لايشعرون بأنه تعالى ينفرد بالعلم بما في السرائر .
الرابع :لا يشعر المنافقون بأنهم يخادعون الله والذين آمنوا لأن الكاذب يظن أن غيره يصدقه وينخدع به .
الخامس : تعلق خاتمة الآية بأركانها الثلاثة ويكون تقدير الآية هو : (يخادعون الله وما يشعرون ويخادعون الذين آمنوا وما يشعرون ويخدعون أنفسهم وما يشعرون ).
السادس : إرادة تعلق عدم شعور بمضامين الآية السابقة وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وما هم بمؤمنين وما يشعرون .
الثاني : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وما يشعرون .
الثالث : وعلى أبصارهم غشاوة وما يشعرون .
الرابع : ولهم عذاب عظيم وما يشعرون .
والصحيح هو الوجه الخامس ، وتكون الوجوه السابقة له في طوله وهو القدر المتيقن من الآية , أما بالنسبة لمضامين الآيات السابقة المشار إليها بالوجه السادس أعلاه , فيستوعبها معنى الآية ونظم الآيات يجيز هذا التأويل وهو من الإعجاز في سياق الآيات لتفيد قاعدة كلية وهي أن عدم الشعور والإحساس سنخية وصفة للكفار وكيفية نفسانية مصاحبة للنفاق والكفر ليتجلى المائز بينهم وبين المؤمنين الذين أثنى الله عز وجل عليهم ووصفهم بالعلم ، قال تعالى [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
بحث أصولي
قيل أن التعارض بين الأدلة الشرعية يكون على وجوه : الأول منها هو: التعارض بين آيتين من القرآن فيكون الحكم ترتيبياً :
الأول : كأن في إحدهما إطلاق وعموم بحيث يمكن تقييدها أو تخصيصها لزم ذلك وهو المشهور .
الثاني : في حال عدم الإطلاق والتقييد , فالمتأخر ناسخ ، مع العلم بالتأريخ .
الثالث : مع تقدير التقييد والنسخ ففيه وجوه :
الأول :التوقف .
الثاني : التخيير .
الثالث : الرجوع إلى الأخبار الواردة في السنة ان وجدت في ذات الموضوع والحكم .
الرابع : مع عدم وجود الأخبار بخصوص موضوع التعارض التوقف أو الإحتياط .
والنقاش فيه من وجوه :
الأول : ليس من تعارض في القرآن ، ومن إعجازه خلوه من التعارض .
الثاني : إن الإطلاق والتقييد والعموم والخصوص ليس من التعارض لغة وإصطلاحاً ومصداقاً ، إنما النسبة هي العموم والخصوص المطلق . والحق التقييد بعد العمل بالمطلق ، والتخصيص بعد العمل بالعام بالناسخ .
الثالث : باب النسخ في القرآن علم مستقل بذاته فليس هو من التعارض إصطلاحاً.
والنسخ لغة إزالة الشئ بشي أخر، يقال نسخت الشمس الظل لأن ضياءها إستولى على موضع الظل وأعدمه وخلفه وعند ملاحظة هذا المثال في النسخ واثره لا ينطبق على آيات القرآن لأن الآية القرآنية المنسوخة باقية في تلاوتها وموضوعها ، وأستدل على النسخ بالتوجه نحو الكعبة وليس في القرآن آية تبين إستقبال بيت المقدس ، قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا]( ).
وقيل أن إطلاق النسخ في القرآن مجاز وقيل إنه نقل ، بلحاظ أن النسخ والإزالة حقيقة أعم من التحويل والنقل وهذا النزاع لفظي وليس معنويا .
ويكثر من ذكر آية السيف وأنها ناسخة هي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ] ( )ولم يرد في كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تسمية لآية بأنها آية السيف ، كما وقع الإختلاف فيها .
وقال هشام بن الحكم : إجتمع ابن أبي العوجاء وأبو شاكر الديصاني الزنديق وعبد الله المقفع عند بيت الله الحرام يستهزؤون بالحاج ويطعنون بالقرآن ، فقال ابن أبي العوجاء: تعالوا ننقض كل واحد منما ربع القرآن ، وميعادنا من قابل في هذا الموضع نجتمع فيه ، وقد نقضنا القرآن كله ، فان في نقض القرآن إبطال نبوة محمد ، وفي إبطال نبوئه إبطال للإسلام ، وإثبات ما نحن فيه ، فاتفقوا على ذلك وافترقوا فلما كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام فقال ابن إبي العوجاء : أما أن فمفكر منذ افترقنا في هذه الآية [فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا]( )فما أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً، فتشغلني هذه الآية عن التفكير فيما سواها ، فقال عبد الملك : وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية [َاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ] ( ).ولم أقدر على الإتيان بمثله ، فقال أبو شاكر : أنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا]( ) ، ولم أقدر على الإتيان بمثلها فقال ابن المقنع : يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس البشر ، وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية [وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )لم أبلغ غاية المعرفة بها ، ولم أقدر على الإتيان بمثله ، قال هشام بن الحكم فبينما هم في ذلك إذ مّر بهم جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فقال : [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ) فنظر القوم بعضهم لبعض وقالوا لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهى أمر وصية محمد إلا جعفر بن محمد والله ما رأيناه إلا هبناه واقشعرت جلودنا لهيبته ، ثم تفرقوا مقرين بالعجز( ).
والحديث ضعيف سنداً إذ لم يذكر الطريق إلى هشام بن الحكم ودلالة أذ أن هذه الآيات تقع في النصف الأول من القرآن بلحاظ أن نصف القرآن بالآيات عند قوله [قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ]( )في الجزء التاسع عشر من القرآن ونصف القرآن بالسور عند سورة المجادلة أول الجزء الثامن والعشرين من القرآن ، أما نصف القرآن بالحروف فهو عند حرف الفاء من قوله تعالى [وَلْيَتَلَطَّفْ] ( ) من سورة الكهف .
والأصل في القرآن في تقسيم القرآن إلى أرباع هو الترتيب في الآيات كما عليه نظم القرآن .
ولا أصل لتعارض الأدلة اللفظية من الكتاب ، أو للتعارض بين أدلة السنة القولية مع الكتاب وعلى فرض وجود هذا التعارض فالمدار على الكتاب والتنزيل لأنه قطعي الصدور والثبوت وكل من الكتاب والسنة حق ، والحق بسيط لا يقبل التناقض .
والدليل يطلق لغة على ما يستدل به ، ويكون وسيلة للرشاد ومعرفة الطريق والجمع أدلة ، أما في الإصطلاح فهو واسطة علمية للتواصل بالنظر الصحيح إلى الحكم الشرعي .
والقرآن هو كلام الله المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجز بذاته وأثره , والمتعبد بتلاوته ، المنقول إلينا نقلاً متواتراً ، برسمه وحقيقة حروفه ومضامينه القدسية ومعانيه والذي سماه الله كلامه , قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ]( )، والإجماع والشواهد والتسالم عقلاً أن القرآن نزل بواسطة جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في حال اليقظة ولم تنزل منه آية أو شطر في المنام وكان بعض الصحابة والوفود القادمة من القبائل إلى المدينة يتطلعون إلى رؤية نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويروا فيه آية إذ يتصبب عرقاً وهو في اليوم الشديد البرودة .
ومن إعجاز القرآن أنه بيان لكل شئ , قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
وهناك مسألتان بخصوص علوم القرآن :
الأولى :الثبوت .
الثانية : الدلالة.
فالقرآن قطعي الصدور والنزول من عند الله ، وأما الدلالة في الأحكام فهي على قسمين :
الأول :القرآن قطعي الدلالة وفسر بأن اللفظ لا يحتمل إلا معنى واحد فيتعين حمله عليه كما في آيات المواريث ، كقوله تعالى [وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ]( ) .
الثاني : ظني الدلالة : بأن يحتمل اللفظ معاني متعددة محتملة , ولا يتعين حمله على واحد منها بدليل آخر من القرآن أو السنة كما في قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ]( )فيكون البيان في السنة النبوية بالنسبة لنشر الحرمة بالرضاعة.
والنسخ في الإصطلاح إرتفاع الحكم الكلي عن موضوعه الكلي لانتهاء أمده وتغير الحال أو لإنتفاء الحال في تشريعه ، وكأنه من الحكم المؤقت تخفيفاً عن الأمة ، مثلاً قالوا آية المواريث نسخت آية الوصية، ولكن جاء قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا]( ).
الرابع : لا يصح التوقف في خصوص أحكام القرآن ، لأنه نوع تعطيل للآية , كل آية في القرآن غضة تنبض بالحكم إلى يوم القيامة.
الخامس : نعم الرجوع إلى الأخبار الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسنة صحيح فهي بيان وتفسير للقرآن وهذا الرجوع ليس من التوقف أو الحيرة أو التردد إنما لبيان التفسير .
السادس : ممكن الرجوع إلى أسباب نزول الآية ، وإن كان المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول .
والمختار أنه ليس من تعارض في آيات القرآن , ولا تصل النوبة إلى التوقف ولا أصل للباب الذي يذكر باسم (تعارض الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة ).
والذي يدّعي التعارض أو يقول بالتوقف عليه أن يأتي بشاهد من آيتين قرآنيتين كي يتجلى التفسير وإنتفاء التعارض ،أما التخيير فيكون مع ورود الدليل , وإلا فان رجحان الأحكام جلي وواضح فمثلاً جاءت الطهارة المائية قبل الترابية وبينهما مراتب , قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ] ( ).
البيان في قوله تعالى[فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]( ).
في الآية إعجاز لبيانها لوصول الداء إلى القلب بما لا يكون مرضاً بدنياً يبعث على الضعف والوهن بل بالعكس فمرض القلوب يجعل المنافق نشيطاً ولكن في المخادعة والمكر والخبث، وفيه آية إذ لم تبلغ علوم طب الأبدان وتشخيص أمراض النفس وأثرها على الأعضاء والجوارح إلى مرتبة بيان القرآن بكلمة واحدة لعلل القلوب.
لقد ذكرت الآية المرض بصيغة التنكير(مرض) وفيه مسائل:
الأولى : بيان التباين في نوع مرض القلوب بين المنافقين والفاسقين ونحوهم من المخادعين.
الثانية : مرض القلوب من الكلي المشكك الذي يتفاوت من فرد إلى أخر قلة وكثرة.
الثالثة : عدم إستبانة هذا المرض أحياناً للناس، فجاءت هذه الآية لكشفه وفضحه.
الرابعة : إتحاد صنف المرض فمع تعدد المخادعين ومشاربهم وإنتماءاتهم إلا أن المرض الذي في قلوبهم واحد، وفيه وجوه:
الأول : إعانة المسلمين في سبل وكيفية إصلاح المنافقين.
الثاني : بيان اليسر والسهولة في التنزه من داء الشك.
الثالث : ليس من مشقة في كشف المؤمنين للمرض الذي في قلوب المنافقين بخصال متحدة ومتشابهة يتصفون بها فاذا أشاعوا خبر سوء كما لو قالوا هُزم المسلمون أو قُتل فلان من الغزاة والسرايا , أو كذبوا آية ومعجزة يعلم الناس أن علة الإشاعة وتكذيب الحق هو مرض القلوب الذي أبتلي به المنافقون.
وتدل الآية في مفهومها على سلامة قلوب المؤمنين من داء الشك والريب ومن الوساوس , نعم قد لا يسلم بعضهم من خاطرة الوهن والخوف ولكن هذه الخاطرة لا تستديم لوجوه:
الأول : ثبات عامة المسلمين في منازل الإيمان، وإقدامهم على مواجهة الخوف، وعشقهم للشهادة.
الثاني : التآزر والتعاون بين المسلمين.
الثالث : المدد والعون من عند الله عز وجل للمؤمنين في قتالهم وجماعتهم وفي أنفسهم، وبخصوص واقعة أحد قال تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( )، فلم يحدث الفشل والجبن والإنهزام، لأن الله عز وجل هو ولي المؤمنين وناصرهم، وهو الذي يجعل قلوبهم سليمة من درن الشك والريب.
ومن الإعجاز في سياق هذه الآيات أنها تبين صفات المنافقين بما يفيد الحصر والتعيين والتقييد وظاهر الآيات أن العطف فيها يفيد الجمع، لذا يفيد المعنى الأعم من النفاق في المقام وأطلقنا عليهم إصطلاح المخادعين، ليكون بينهم وبين المنافقين عموم وخصوص مطلق، فالمخادعون أعم إذ يدخل فيهم بعض الفساق من أهل الملل السابقة، قال تعالى[مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]( )، ويدخل فيهم شطر من الكفار، ممن يجاور المؤمنين ويتبع أخبارهم بعين الحسد.
وتبين آية البحث أن القرآن حاجة للناس في سنن الصلاح، إذ أن القلب في الآية أعم من العضو الصنوبري الموجود في صدر الإنسان والمقصود منه السرائر، وما تنطوي عليه النفس من الضغائن والأحقاد، ولكن مستقر الداء في القلب بلحاظ أنه أمير الجوارح فيكون النفاق ومخادعة أهل الإيمان مرآة لإمارته وضرره الفادح على الإنسان.
إنها مدرسة القرآن التي تستقرأ حالات النفس وأثرها في عالم القول والفعل وتبين للناس سبل الإصلاح والفلاح , قال تعالى[قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ] ( )، ويتجلى في الآية من جهات:
الأولى : لغة التبعيض من العموم، وتقدير الآية (ومن الناس طائفة في قلوبهم مرض).
الثانية : لغة التنكير في قوله تعالى[مَرَضٌ].
الثالثة : صيغة المفرد في المرض فمع ذكر المنافقين والمخادعين على نحو العموم الإستغراقي فانها لم تقل(في قلوبهم أمراض).
الرابعة : إرادة الجزئية والندبة السوداء في القلب فلم تقل الآية قلوبهم مريضة بل من مجموع سعة القلب والبصيرة هناك ندبة سوداء تنعكس بعالم الأفعال بقبيح القول، وسوء الفعل، وفيه وجوه:
الأول : إرادة اسم الجنس من لفظ(مرض) في الآية.
الثاني : إتحاد الداء والمرض عند عموم المنافقين.
الثالث : إرادة تعلق المرض بفساد الإعتقاد وخبث السريرة.
والصحيح هو الثاني والثالث، فمن رحمة الله عز وجل بالناس عدم مداهمة الأمراض المتعددة القلوب، وإن أصابها مرض فان النفوس والعقول والحواس والبصائر تقوم بوظائفها ولو على نحو الموجبة الجزئية وهو من أسباب ومقدمات التوبة والصلاح، إذ أن الطوائف والفرق والأمم التي تتوجه لها هذه الآية على وجوه:
الأول : المسلمون، ودعوتهم لمعرفة أحوال الناس، وأخذ الحائطة من المنافقين.
الثاني : المنافقون لإنذارهم.
الثالث : المخادعون ونصحهم وزجرهم عن المخادعة، ودعوتهم لإجتناب خداع النفس.
الرابع : الفاسقون الذين يعصون أوامر الله.
الخامس : أهل الكتاب ودعوتهم لعدم مؤازرة الذين في قلوبهم مرض.
السادس : الكفار وإخبارهم بأن الله عز وجل يطلع المسلمين على الأمراض التي في القلوب.
السابع : الناس جميعاً لمناسبة الآية للأمر بالمعروف ولاصلاح وسلامة القلوب والنهي عن المنكر والمخادعة.
ويحتمل مرض القلب من جهة العلاج وجوها:
الأول : إمكان علاج مرض القلب، وفي حديث جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله) ( ).
وآيات القرآن دواء أنزله الله عز وجل لتنقية القلوب من مرض النفاق من جهات :
الأولى : الإخبار عن داء النفاق .
الثانية : بيان قبح النفاق .
الثالثة : كشف حقيقة وهي أن أصل النفاق في القلب ، فيدعي المنافق الإيمان وهو يعلم بأنه كاذب وأن الكذب قبيح وضار بصاحبه ، فان قلت لا تدل الآية على الشفاء إنما تدل على زيادة المرض بدليل قوله تعالى [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا]( ).
والجواب من وجوه :
الأول : لا ملازمة بين الدواء والشفاء .
الثاني : الآية الكريمة دواء فهي ترغيب بالدواء والعلاج .
الثالث : تقدير الآية الكريمة ( في قلوبهم مرض فانزلنا القرآن دواء فصموا عنه فزادهم الله مرضاً)، كما في قوله تعالى [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا] ( )، أي أمرنا مترفيها بالطاعة فجحدوا وفسقوا.
الرابع : زيادة المرض من العقوبة العاجلة ودرء لأذاهم وضررهم .
الخامس : المراد بزيادة المرض في قلوب المنافقين ما يصيبهم من الغم وأسباب الحسد عند نزول القرآن ولا تعني زيادة المرض تعذر الشفاء أو عدم ملائمة الدواء، وقد تكون الزيادة سبباً للتوبة والإنابة لأنها تلح على النفس بما يبعث النفرة والغضاضة من النفاق ، وما يجعل الصدر يضيق بالداء والمرض ، فقد تجعل الزيادة في المرض المنافق في حال لا يطيقه لثقل وطأته وينشغل بنفسه ويريد التخلص من المرض بعد أن تفاقم عليه وليس من سبيل للشفاء إلا التوبة والكف عن مخادعة المؤمنين .
لقد ذكرت الآية المرض في قلوب المنافقين فهل يظهر في مبرز خارجي على اللسان وفي عالم الفعل أم لا ، الجواب هو الأول .
إذ جاءت الآية السابقة في بيان مخادعتهم، ويفيد الجمع بين الآيتين بيان علة مخادعتهم للمؤمنين وأصل النفاق وهو المرض في القلوب ، ليدل بالدلالة التضمنية على أن المقتضي للإيمان والصلاح موجود وهو معجزات النبوة والتنزيل ووجوب عبادة الله , ولكن المانع الشخصي عند المنافقين هو المرض في القلوب ، ويحتمل بالنسبة للمسلمين وجوهاً:
الأول : دعوة المسلمين لعلاج المرض الذي أبتلي به المنافقون في قلوبهم ، لأن هذا المرض يضر المسلمين لما فيه من المخادعة .
الثاني : إيجاد موضوع للإحتجاج على المنافقين وهو إصابتهم بمرض القلوب.
الثالث : ترك المنافقين وشأنهم .
الرابع : العمل بما يزيد المرض في قلوبهم .
الخامس : قد لا يعلم المسلمون بالمنافق ويبقى متستراً على نفسه ، قال تعالى [وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ]( ).
أما الوجه الأول أعلاه فهو صحيح لأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على إتصال وإستدامة مصاديق هذه الرحمة بالنسبة للفرد والجماعة ، فهي لا تنقطع عن الإنسان إن إختار بعضهم النفاق بل تأتيهم بالتنزيل والسنة النبوية وبواسطة المسلمين في تقواهم ودعوتهم إلى الله ، وأما الثاني فان معرفة المسلمين بحال المنافق والكدورة الظلمانية التي تتغشاه يجعلهم يتوجهون له بما فيه الشفاء والنقاهة والحث على ترك أخلاق النفاق ، وأما الثالث فلا ،لأن المسلمين مأمورون بالقيام بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
وليس من حصر لموضوع كل منها أو الجهة التي يتوجه إليها ، وليكون من مصاديق [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) في المقام إعانة المريض في قلبه بالنجاة والسلامة من المرض، ويدل قوله تعالى في الآية السابقة [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا]( )، على أن المؤمنين لم يتركوا المنافقين والمخادعين وإستحواذ الغشاوة على أبصارهم , بل يدعونهم للصلاح وإلى الإسلام والتصديق بالنبوة والتنزيل .
أما الرابع فلا دليل عليه، وليس بمقدور إنسان أن يزيد مرض قلب إنسان آخر فان قلت أداء المسلمين العبادات وإنقطاعهم إلى طاعة الله يزيد مرض الكفار في قلوبهم.
والجواب هذا صحيح ويدخل في عمومات قوله تعالى [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن هداية وتقوى المسلمين بفضل من عند الله ، ولأنهم جنود طائعين له، قال سبحانه [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو] ( )، وأما السابع فان قوله تعالى [لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ] ( )، ففيه مسائل :
الأولى :إن الله عز وجل يعلم ما تخفي الصدور .
الثانية : بيان المائز بين علم الله عز وجل وعلم الأنبياء ، وأن من الأمور ما لا يحيط بعلمه إلا الله عز وجل ، وورد على لسان عيسى عليه السلام في التنزيل [تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ]( ).
الثالثة : لقد أخبر الله عز وجل نبيه الكريم باسماء المنافقين , وفي قوله تعالى [وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ] ( )، وعن ابن مسعود قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ قَالَ إِنَّ فِيكُمْ مُنَافِقِينَ فَمَنْ سَمَّيْتُ فَلْيَقُمْ ثُمَّ قَالَ قُمْ يَا فُلَانُ قُمْ يَا فُلَانُ قُمْ يَا فُلَانُ حَتَّى سَمَّى سِتَّةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا( ).
الرابعة : داء القلوب والنفاق أمر متزلزل ، ويحتمل في حاله وجوهاً:
الأول : إنه آخذ بالإزدياد ، لأن الله عز وجل يقول [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا].
الثاني : يبقى ذات المرض على مرتبته ودرجته.
الثالث : النفاق داء يكون أقرب إلى الزوال بفضل من الله.
والصحيح هو الثالث ، فان الله تفضل وجعل معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اللامتناهي بلحاظ الإعجاز العقلي لآيات القرآن ، وإستقراء الأدلة والبراهين منها والتي تدل على صدق نبوته ، لتكون تلاوة كل آية من القرآن زجراً للمنافق ودعوة له للصلاح إلا الذين يصرون على النفاق فان الله عز وجل توعدهم بالعذاب، قال تعالى [سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ] ( ).
ماهية المرض
ذكرت الآية المرض بصيغة التنكير من جهات :
الأولى : مقدار المرض، ليكون من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وشدة وقلة ، فمن المنافقين من يشتد داء ومرض النفاق والرياء عنده ، ومنهم يكون على نحو أقل رتبة ، ترى لماذا التنكير , الجواب إنه من إعجاز القرآن بلحاظ جهاد المسلمين بالحكمة والموعظة الحسنة لتنزيه الناس من النفاق .
وفيه بيان بأن سعي المسلمين في الإصلاح لن يذهب سدى من جهة الأثر والتأثير ، أمّا من حيث الثواب فقد قال تعالى [فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا] ( ).
الثانية : نوع المرض الذي أبتلي به المنافقون ، وهل هو من جنس واحد أم متعدد الأجناس .
الثالثة : موضوع المرض فيه وجوه :
الأول : المرض في المقام هو الشك فزادهم الله مرضاً : شكاً ، قاله عبد الله بن مسعود، وابن عباس ( ).
الثاني : في قلوبهم مرض : أي نفاق (عن ابن عباس في قوله { في قلوبهم مرض } قال : النفاق { ولهم عذاب أليم } قال : نكال موجع { بما كانوا يكذبون } قال : يبدلون ويحرّفون .
وأخرج عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له أخبرني عن قوله تعالى { في قلوبهم مرض } قال : النفاق . قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم . أما سمعت قول الشاعر :
أجامل أقواماً حياء وقد أرى … صدورهم تغلي عليّ مراضها) ( ).
الثالث: في قوله تعالى [لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ]( )، هم عامة الكفار ، عن ابن عطية ( ).
الرابع: الغزل وحب الزنا ، عن عكرمة( ).
الخامس :المرض الغم بظهور أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه ( ).
السادس : في قوله تعالى [وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ]( ).
المرض نوع من الفتن لهذا الصنف المنافق أو الكافر ، قال الحسين بن فضل : السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق فانما المرض في هذه الآية الإضطراب وضعف الإيمان .
وصحيح أن سورة المدثر مكية وبه قال ابن عباس ، وعليه إجماع العلماء وخالف مقاتل بخصوص آية وهي قوله تعالى [وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا] ( )، فقال أنها مدنية .
ولكن كون الآية مكية لا يعني أنها لا تخبر عن أحوال الناس ، وما يلقاه المؤمنون من الأذى من الكفار والمنافقين ، خاصة وأن الآية جاءت بصيغة المضارع ، وتكررت فيها لام العاقبة مرتين :
الأولى :قوله تعالى [لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ]( )، ولم يكن في مكة من أهل الكتاب بل كان اليهود في المدينة ، والنصارى في نجران .
الثانية : قوله تعالى [وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ]، لبيان تجدد مضامين الآية ، ليدل مجئ لام العاقبة وتكرارها على الإعجاز في الآية الكريمة من جهات :
الأولى : ما تتضمنه من الإخبار عن نشأة فريق من الناس ليسوا بمؤمنين ولا كفار وهم المنافقون .
الثانية : البشارة بظهور الإسلام وإنتشار أمر النبوة وإتساع رقعته .
الثالثة : في الآية إنذار من ظهور المنافقين الذين يعلنون الإيمان وهم يخفون الكفر، وهذه الحال لا تكون في الغالب إلا عند ظهور دولة الإسلام .
الرابعة : إخبار الآية الكريمة عن أعداء المؤمنين قبل وجودهم وقبل صيرورة ونشأة هذه الطائفة من المنافقين .
سأل أحدهم الإمام جعفر الصادق علية السلام قال : ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة ؟ فقال: إن الله تبارك و تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة ( ).
ومن إعجاز الآية أنها تكشف ما في قلوب المنافقين من الدرن وتجعلها ظاهرة للمؤمنين بلحاظ أقوالهم وأعمالهم وما فيها من الفساد فصحيح أنهم يدّعون الإيمان ظاهراً , ولكن هذا الإدعاء غطاء لفعل الفساد، فجاءت هذه الآية لتبين الملازمة بين الفساد والنفاق ولتدل في مفهومها على عصمة المؤمنين من الفساد وأنهم لا يفعلون خلاف ما يجري على سنتهم من صيغ التقوى .
ولما إبتدأت أول آيات سورة البقرة بقوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )تضمنت آية البحث مصداقاَ للهدى وهو كشف قبح الفساد ، والإخبار عن حال المنافقين والتحذير منهم .
البيان في [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا]
جاء هذا الشطر من الآية بصيغة الجملة الخبرية المعطوفة على بداية الآية وكأنه إستئناف لإرادة البيان والحجة , وفيه مسائل :
الأولى : بيان عظيم قدرة الله عز وجل ، وسلطانه على القلوب والنفوس .
الثانية : توبيخ وذم المنافقين والمخادعين .
الثالثة : تأكيد قانون العقاب العاجل في الدنيا ، والذي يتضمن الإنذار للكافر رجاء توبته ، والإعانة للمسلمين للسلامة من كيده ومكره .
الرابعة : بيان قانون وهو أن الإيغال في النفاق ومفاهيم الفساد سبب لمضاعفة المرض الكامن وراء هذه الأفعال ، وعكس هذا القانون صحيح أيضاً بأن يزيد الله الذين آمنوا هدىً، قال تعالى [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] ( ).
لتكون الدنيا على شعب:
الأولى : دار العقاب العاجل والبلاء الذي يتصف بأنه إنذار وتحذير وحجة على صاحبه , ليكون مقدمة للعذاب الأليم في الآخرة عقوبة على الكفر والضلالة .
الثانية : الدنيا دار الثواب العاجل لأهل الإيمان والتقوى , ويتجلى بالثبات في منازل الهداية والرشاد ، وهو مقدمة وأمارة على الثواب العظيم الذي ينتظرهم يوم القيامة ، وفي التنزيل في الثناء على أهل الجنة [قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا] ( ).
الثالثة: الحياة الدنيا مناسبة للتوبة والإنابة , ووعاء زماني طولي يتغشى أيام العمر للإستفادة الموعظة ’ وللتنزه من الأخلاق المذمومة .
الخامس: تجلي المنافع العظيمة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : نزول القرآن ببيان حال المنافقين والبلاء الذاتي والفضح الذي يلحقهم.
الثانية : فضح الكفار والذين في قلوبهم مرض بالإمتحان بالإيمان بنبوته ، وهذا الإمتحان ليس متساوي الطرفين بل أن الآيات البينات والبراهين الساطعة تجعل كفة الإيمان هي الأرجح وتزجر الناس عن مفاهيم الضلالة ، وتصلح أحوالهم .
فكل آية كونية أو نبوية هي واقية وشفاء (عن أسامة بن شريك قال : قالت الأعراب : ألا نتداوى يا رسول الله ؟ قال نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدا قالوا يا رسول الله وما هو ؟ قال الهرم ) ( ).
موضوع زيادة المرض
تحمل الزيادة في مرض المخادعين وجوهاً :
الأول : تعدد الأمراض وحلول مرض إضافي في قلوب وأبدان المنافقين، وتقدير الآية على جهات:
الأولى : زادهم الله مرضاً في قلوبهم .
الثانية : زادهم الله مرضاً آخر في أبدانهم .
الثالث: زادهم الله مرضاً في أفعالهم بالتمادي في الغي والنفاق .
الثاني : زيادة ذات المرض الكامن في قلوب المنافقين , وهو على جهات :
الأولى : الزيادة الكمية في ذات مرض النفاق .
الثانية : الزيادة في رشحات وآثار مرض القلوب ، بحيث يكون ظاهراً على الجوارح والأركان .
الثالثة : تثبيت ذات المرض في قلوب المنافقين ليصبح جاثوماً على صدورهم يكون برزخاً دون إضرارهم بالمسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، أي أن الله عز وجل يأتي بالأسباب والعوائق التي تحول دون بلوغ مرتبة إيذاء الكفار والمنافقين للمسلمين إلى مرتبة الضرر التي هي أشد من الأذى.
الثالث : تكون زيادة المرض عند المخادعين بلحاظ أمر خارجي من جهات :
الأولى : عدم ترتب الأثر على مخادعتهم للمؤمنين.
الثانية : إفتضاح أمر المنافقين ونفرة الناس منهم ومن سوء فعلهم .
فيدرك الناس بالفطرة بأن الذي يظهر الإيمان عليه أن يتقيد به في عالم القول والفعل .
الثالثة :النقص الجلي والمستمر بعدد المنافقين، وإظهار فريق منهم التوبة ، والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق التنزيل .
الرابعة : زادهم الله مرضاً , بالنصر والغلبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين والسرايا التي لا ترجع إلى المدينة إلا بالفتح والغنائم ودخول أقوام في الإسلام .
وعن ابن عباس قال: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية ، فمكث ضعفاء الناس في العسكر ، فأصاب أهل السرية غنائم ، فقسمها رسول الله بينهم كلهم ، فقال أهل السرية : يقاسمنا هؤلاء الضعفاء وكانوا في العسكر لم يشخصوا معنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهل تنصرون إلا بضعفائكم، فأنزل الله { يسئلونك عن الأنفال}( )، وفيه زيارة لمرض المنافقين من وجوه :
الأول : خروج ضعفاء المسلمين للقتال .
الثاني : عودة المجاهدين والغزاة بالغنائم .
الثالث: إصابة الضعفاء من المؤمنين سهاماً من الغنائم .
الرابع : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للضعفاء من المؤمنين ، وإعانتهم في أمور معاشهم .
الخامس :مع أن المقاتل يشعر بعد خوض المعركة بالزهو والفخر والإباء ، فإن الكتائب من المؤمنين يأتون بالغنائم كلها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويضعونها بين يديه .
السادس : رضا وقبول المجاهدين لقسمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ] ( ).
السابع: بيان قانون ثابت ومتجدد بواسطة السنة النبوية وهو نصرة المسلمين الضعفاء منهم وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب المنافقين وزجر لهم عن الإستهزاء أو تربص الدوائر بأهل الإيمان .
الخامسة : التناسب الطردي بين توالي نزول الآيات وبين زيادة مرض المنافقين ، فكل آية تنزل من السماء تبين صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وهي دعوة متجددة للناس لدخول الإسلام .
السادسة : ضعف ووهن الكفار وخزي أعداء الإسلام مثل كبار قريش الذين أرادوا القضاء عليه , فسقط عدد منهم قتلى في قليب بدر .
السابعة : نزول الآيات التي تكشف النفاق وتشير إلى أهله .
الثامنة : مجئ السنة النبوية بفضح المنافقين وتحذير المؤمنين منهم ، وهل تزيد آية البحث وتلاوتها من الداء في قلوب المنافقين الجواب نعم فكل مرة يتلو فيها المسلم قوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا]( )، يزداد حنق ولؤم المنافقين ، وتسوّد الدنيا في عيونهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ]، وكذا بالنسبة للوعيد في الآية بأن [لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]، ليكون من فلسفة وجوب قراءة المسلم القرآن في الصلاة اليومية على وجهين متحدي الأثر ومتضادي الإتجاه وهما :
الأول : زيادة مرض القلوب عند المنافقين والمخادعين .
الثاني : توبة وإنابة فريق من المنافقين ، وسلامة قلوبهم من الداء وأفعالهم من مخادعة المؤمنين .
البيان في قوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
جاءت الآية بأربعة أركان لموضوع واحد , وهي :
الأول : في قلوب المنافقين والمخادعين مرض .
الثاني : يزيد الله عز وجل مرض قلوبهم سواء ذات المرض أو غيره .
الثالث : الإنذار بالعذاب الأليم للمنافقين .
الرابع : بيان علة العذاب للمنافقين والمنافقات , وهو تكذيبهم بالآيات والمعجزات .
ومن الإعجاز في الآية أنها لم تجعل العذاب الأليم مترتباً على المرض الذي في قلوبهم أو على المرض الذي يزيده الله في قلوبهم وإلا لقيل بأن المرض في القلب والله عز وجل يحاسب على ما يصدر من الإنسان وما يبرز على اللسان والجوارح ، وتحتمل النسبة بين مرض القلوب والتكذيب بالآيات وجوها :
الأول :نسبة التساوي بين مرض القلوب والتكذيب بالآيات .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين :
الأولى: مرض القلوب أعم وليس كل من في قلبه مرض يكذب بالآيات .
الثانية :علة التكذيب بالآيات أعم من مرض القلوب .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني ، إذ أن الكفار يعلنون التكذيب والجحود بالآيات ، ليكون من إعجاز الآية قانون كلي وهو نزول العذاب بالذين يكفرون بالتوحيد والنبوة ،علانية أو خفية وسراً في النفوس .
وهل يحتمل تعدد مراتب ودرجات العذاب الأليم .
وأن الكفار أو المنافقين يكون عذابهم أشد ، الجواب نعم ،وتبين الآية مرتبة العذاب بلحاظ علته وسببه بقوله تعالى [بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ].
ويحتمل أوان العذاب وجوهاً :
الأول : إرادة العذاب في الحياة الدنيا .
الثاني : العذاب في عالم البرزخ ، قال تعالى [وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ( ).
الثالث : المراد بالعذاب يوم القيامة ومواطن الحساب .
الرابع : إرادة المعنى الجامع للبرزخ ويوم القيامة ، بلحاظ أن عالم الآخرة يبدأ بالنسبة للإنسان من حين دخوله القبر ، لأنه يتقدم زمانا بالحساب من دون عمل .
الخامس : إرادة المعنى الأعم للعذاب الشامل للدنيا , والبرزخ , ويوم القيامة .
والقدر المتيقن من الآية هو الثالث بدليل خاتمة الآية وصيغة الماضي [بِمَا كَانُوا]وفي الدنيا يكون العقاب الإبتدائي بالمرض الزائد في القلوب بقوله تعالى [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] ومن خصائص هذا العقاب الزجر عن الإقامة على المعصية ، بالإضافة إلى موضوعية الواو في [وَلَهُمْ] التي تفيد معنى العطف وشائبة الإستئناف، وكأنها تتضمن معنى إنتقال المخادعين إلى حال أخرى فيها عذاب أليم .
ومن معاني العذاب الأليم صيرورة الألم والوجع فيه ظاهراً على البدن والنفس بينما تجد المنافق يتنعم بالخيرات في الدنيا وهو من الإعجاز في نعته بالمريض بداء في القلب بأن هذا المرض لا يبرز إلى الخارج ولا يكون في عالم الأقوال والأفعال .
وأخرج ابن حاتم عن ابن عباس قال : (كل شيء في القرآن { أليم } فهو الموجع ) ( ).
ولو قال الله عز وجل [وَلَهُمْ عَذَابٌ] لكان كافياً في الزجر وبيان ترتب الأثر على النفاق والمخادعة ولكن الآية قيدت العذاب ونعتته بأنه أليم وفيه مسائل:
الأولى : بيان عظيم قدرة الله عز وجل .
الثانية : الإخبار عن قانون كلي ، وهو لا يقدر على العذاب الأليم لطائفة وأمة من الناس إلا الله عز وجل .
الثالثة :تأكيد ملكية الله المطلقة ليوم القيامة وهو من مصاديق ما تقدم في سورة الفاتحة [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] .
ليكون من أسرار قراءة كل مسلم للآية أعلاه، عدة مرات في الصلاة اليومية التنزه عن النفاق والمخادعة لما يترشح بسببها من العذاب الموجع والشديد يوم القيامة ، وهو من الإعجاز في عدم ذكر أسماء المنافقين في القرآن لأن حضورهم وأداء هم الصلاة طريق للسلامة من النفاق وعلاج للمنافقين وإصلاح لهم .
الرابعة :إقامة الحجة على المنافقين والمخادعين فلا يقولون يوم القيامة أنهم لا يعلمون بأن العذاب في الآخرة يكون أليماً موجعاً ومن معاني الأليم في الآية أن العذاب متصل ليس ثمة فترة أو تخفيف فيه ،(عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون بالطعام ، فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة ، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب ، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد ، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم ، وإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم ، فيقولون : ادعوا خزنة جهنم فيدعون خزنة جهنم إن { ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب } ( )فيقولون { أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } ( )فيقولون ادعوا مالكاً فيقولون { يا مالك ليقض علينا ربك } ( )فيجيبهم { إنكم ماكثون } فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم ، فيقولون { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } ( )فيجيبهم { اخسئوا فيها ولا تُكَلِّمون } فعند ذلك يئسوا من كل خير ، وعند ذلك أخذوا في الزفير والحسرة والويل ) ( ).
الرابعة :وصف عذاب المخادعين يوم القيامة بانه أليم من رحمة الله بالناس في الدنيا ، وبيان المدركات العقلية بصيغة حسية لينتفع منه الناس من وجوه :
الأول : المؤمنون . وفي الآية نفع لهم من جهات :
الأولى : تعاهد المؤمنين الإيمان .
الثانية : إنزجار المؤمنين عن النفاق والإرتداد .
الثالثة : تنزه المؤمنين عن الأخلاق المذمومة .
الرابعة : قيام المؤمنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإبلاغ الناس بشدة عذاب المنافق والمخادع .
الخامس :شكر المؤمنين لله عز وجل على التوفيق للأمن من العذاب والنجاة منه ومن شدته وألمه ، وهو من مصاديق ما تقدم في الثناء والبشارة لهم بقوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( )،فهناك تضاد وتعارض بين الفلاح والبقاء وبين العذاب .
الثاني : المنافقون والمخادعون .وفي الآية نفع لهم من جهات :
الأولى : الآية توبيخ وذم لهم لإقامتهم على المخادعة .
الثانية : في الآية إنذار ووعيد للمنافقين ، وكل إنذار سماوي رحمة للجهة التي يتوجه لها ولغيرها .
الثالثة : بيان حقيقة وهي ليس بين الإنسان وبين السلامة من العذاب الأليم إلا التنزه من النفاق ، وهو أمر يسير ، وليس في هذا التنزه تكليف لأنه موافق للفطرة وملائم لوظائف العقل ، فان قلت في قلب المنافق مرض وزاده الله مرضاً ، فهل يكون هذا المرض برزخاً دون التنزه من النفاق ومانعاً من التوبة ، الجواب لا ،من جهات :
الأولى :هذا المرض مصاحب للنفاق , وشاهد على قبحه .
الثانية : من منافع زيادة المرض من عند الله في قلب المنافق أمور :
الأول : إنه خير محض وإن كان عقوبة عاجلة .
الثانية : زيادة مرض قلب المنافق واقية من شرور المرض الأصلي .
الثالث : هذه الزيادة كابح لجماح أصل الإنحراف .
الرابع : إنه مانع من زيادة ضرر المنافق للناس .
الخامس : يزيده الله مرضاً ليجعله منشغلاً في نفسه ، عالماً بقبح فعله ، متدبراً في لزوم توبته وإنابته.
الثالثة :بيان الخصال المذمومة التي يتصف بها المنافق ، بما يجعله يزدري نفسه، ويسعى في سبل العلاج .
الرابعة :تخلف المنافق عما فيه العافية وصحة البدن ، بلحاظ أن القلب من أهم أعضاء البدن وأن مرضه يغير الإنسان في عافيته .
الخامسة : إدراك المنافق لحقيقة وهي أن مرض القلوب مقدمة للعذاب الأليم في الآخرة الذي يتغشى البدن كله وليس القلب وحده ، قال تعالى [لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ] ( ).
الثالث :إنتفاع عامة الناس من غير المسلمين من وصف عذاب المنافقين يوم القيامة بالأليم ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان عدم كفاية إدعاء الإيمان باللسان فلابد من صدقه وإنطباعه في القلب .
الثانية : إن الله عز وجل يعلم ما في النفوس ، ولن يرضى بالوقوف عند إعلان الإيمان .
الثالثة : يملك الله عز وجل القلوب، ومن خصائص هذه الملكية التصرف المطلق والتغيير فيها والعلم بما تضمره ،والعقاب الأليم على إنطوائها على الكفر والضلالة .
الرابعة : جعل الناس ينفرون من النفاق والمخادعة لأنها مظهر ومرآة لمرض القلوب , وسبب لزيادة هذا المرض .
الخامسة : بيان نصر الإسلام وظهور دولته ، لأن أعداءه يرمون بمرض القلب الذي يشل حركتهم ويأخذ بأيديهم ويتلقون الوعيد بالعذاب .
ومرض القلوب نوع طريق مظلمة تؤدي إلى العذاب الأليم ليكون من معاني إبتداء الآية بمرض القلوب وجوه :
الأول : بيان أثر ما تضمره النفس في سنخية الفعل .
الثاني : دعوة الناس لتنقية السرائر من درن الشرك .
الثالث : جذب الناس إلى آيات التوحيد والنبوة والتنزيل والتدبر في المعجزات والبراهين الساطعة التي تزيح الريب ، وتقاطع الوساوس .
الرابع : بيان الضرر الفادح في الآخرة الذي يترتب على مرض القلب، مما يملي على الإنسان بذل الوسع لتنقيح النفس من الأمراض ، ومن الغضب والعصبية والشهوة من الإستحواذ عليها .
وكأن التكذيب بالآيات يأتي بواسطة مرض القلب، وهل يمكن الفصل بين مرض القلب وبين الكذب ، بأن يكون الإنسان مصاباً بداء الشك ولكنه لا يكذب ، الجواب نعم ،كما لو توقف حتى يتبين له الحق ، لذا جاءت الآية بلغة الإضمار والضمير [فِي قُلُوبِهِمْ] للدلالة على إرادة صنف مخصوص من الناس وهم الذين يخادعون الله والذين آمنوا ويواصلون خداعهم لأنفسهم , ومن مصاديق المخادعة والخداع اللذين تذكرهم الآية السابقة الكذب والبهتان وإدعاء الإيمان زوراً .
لقد جاءت هذه الآية لينحني القلب خاشعاً لله عز وجل بعيداً عن الهوى وإستحواذ الغرائز وأسباب العذاب الأليم في الآخرة , وهذه الآية من آيات الوعيد الذي يشمل الكافرين مطلقاً لأن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية .
ومن حلم الله عز وجل على العباد في الدنيا والآخرة أنه سبحانه ذكر عدة قبائح للمنافقين , ولكنه جعل العذاب على التكذيب ،قال تعالى [فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ) فقد ذكرت هذه الآية والآية السابقة أموراً :
الأول : وجود مرض في قلب المنافق .
الثاني : زيادة مرض القلوب عند المنافقين .
الثالث : مخادعة الله سبحانه .
الرابع : مخادعة الذين آمنوا .
الخامس : خداع المنافقين لأنفسهم .
السادس : ظلم المنافقين المتعدد لأنفسهم بخداعهم لها , وعدم شعورهم بهذا الخداع وأضراره في النشأتين ، ليكون ظلمهم لأنفسهم في قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ] ( )من المتعدد والمركب وليس من الظلم البسيط.
وإبتدأ هذا شطر من الآية بتقديم الجار والمجرور [وَلَهُمْ عَذَابٌ] ومن البيان أنه خبر للحصر في الموضوع ، ولتجلي المعنى عند سماع المبتدأ ومعرفة صفته ، ومن منافعه جذب النفوس إلى الأثر والحكم المترتب على الموضوع , والمنع من الإنشغال بغيره ،والأليم فعيل جامع لمعنيين :
الأول : إنه بمعنى فاعل أي هو ذو ألم .
الثاني : إنه بمعنى المفعول أي أنه مؤلم وموجع على الذي يقع عليه ولا تعارض بين الأمرين لشدة العذاب وما يصيب النفس من الفزع من هوله وشدته عند سماع خبره أو رؤيته ، وأنه يؤلم الكافر والمنافق أشد الألم , وعن أبي ذر قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاثة لا يكلمهم الله ، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : المسبل إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ، والمنّان) ( ).
لبيان قبح الكذب في يمين المعاملة , فكيف بالذي يكذب بالعقيدة وبما يضر المسلمين عموماً وليس خصوص المشتري .
ومن الأعجاز في الآية أنها جاءت بصيغة العطف في [وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]لإفادة العطف على قوله تعالى [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] مع لحاظ أن زيادة المرض في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة لبيان النكال الذي يلقاه المنافقون والمخادعون وجليهم الضرر على أنفسهم في الدنيا والآخرة.
البيان في قوله تعالى [بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]
في الآية قراءتان :
الأول: يكذبون بفتح أوله وتخفيف الذال ، وبه قرأ عاصم وحمزة والكسائي( ) ،أي بسبب كذبهم وإفترائهم ينزل بهم العذاب .
الثاني :يكذّبون بضم أوله وتشديد الذال , وبه قرأ الجمهور أي تكذيب المخادعين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته وإنكارهم للتنزيل .
ويدل نظم الآيات ولحاظ الآية السابقة على المعنى الأعم الشامل للقراءتين والمرسوم في المصاحف هو القراءة الأولى ، والمدار عليه , وحرف الجر الباء للسببية فيأتيهم العذاب الموجع في الآخرة بسبب بما كانوا يكذبون في الحياة الدنيا .
وتحتمل المخادعة المذكورة في الآية السابقة [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا]بلحاظ القراءتين أعلاه وجوهاً :
الأول : المخادعة من الكذب .
الثاني : المخادعة من التكذيب .
الثالث : إرادة المعنى الأعم الشامل للكذب والتكذيب .
والصحيح هو الأخير ، فالمخادعة نوع مفاعلة إلا أنها تتقوم بالكذب ، فذات الكذب وموضوعه ندليس ومخادعة ، لذا فان الفرق بين القراءتين صغروي ، وهو من إعجاز القرآن خاصة مع إتحاد وظهور الموضوع وإرادة المخادعين في الأمور العقائدية بما يخالف وظائفهم العبادية كبشر، ومعصيتهم للمشيئة الإلهية بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، فلم يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقون إلا ليعبد الناس الله عز وجل ، ويوافق فعلهم أصل الخلقة والفطرة . ولكن الذين خالفوا الفطرة وأعرضوا عن البراهين الساطعة التي تدعوا إلى التوحيد وعمارة الأرض بالصلاة والنسك وضروب العبادة الأخرى توعدهم الله عز وجل نفسه في آية البحث بأشد العذاب .
ومن الإعجاز نظم بدايات سورة البقرة إختتام كل واحدة من الآيات الأولى منها بالثناء على المؤمنين في إشراقة تبعث السكينة في نفوسهم كما يأتي [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( )[ يُنفِقُونَ] ( )[ هُمْ يُوقِنُونَ] ( )[ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( )وتعقبتها الآيات التي تذم الكفار والمنافقين فأختتمت بالتبكيت والوعيد [لاَ يُؤْمِنُونَ]( )[ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( )[ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( )[ مَا يَشْعُرُونَ]( )[ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] ( )، وفيه تأديب للناس ، وإصلاح للنفوس ، وزجر عن الكفر والشرك والضلالة .
وفي خاتمة آية البحث بيان لخصلة قبيحة أخرى يتصف بها المخادعون وهي الكذب ، وبينها وبين المخادعة عموم وخصوص مطلق ، فالكذب أعم وأشد قبحاً ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة مطلق الكذب , وهو الإخبار عن الشيء بخلاف حقيقته وماهيته .
الثاني : الإخبار بخلاف الصدق والحق والواقع الجلي .
الثالث: ركون النفس للكذب ، وصيرورته عادة عند المخادع ، وتنقاد له نفسه وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا) ( ).
الرابع : إرادة الكذب بما يكفي لمخادعة الله ورسوله بينما تجد المخادع صادقاً في معاملاته ، وما يخبر عنه .
الخامس :الكذب والإفتراء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونسبة قول وفعل له وهو لم يفعله . وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) ( ).
السادس : إرادة الريب والشك بالآيات ، وإنكارها بحضور الآخرين،لأن هذا الإنكار كذب صريح ويلحق بالكبائر .
وعن ابن عباس فِي قَوْلِهِ: ” بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ” يَقُولُ: يُبَدِّلُونَ وَيُحَرِّفُونَ”( ).
السابع : القدر المتيقن هو خصوص الكذب على الله ورسوله ، قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا] ( ).
والأصل أن يتقدم وصف حال النفس ثم يأتي الفعل الذي هو مرآة لما يضمره الإنسان في نفسه ، ولكن نظم هذه الآيات جاء بذم المنافقين وبيان خداعهم وخبثهم وقبيح فعلهم كما في الآية السابقة ثم ذكرت هذه الآية سوء سريرتهم لبيان حقيقة وهي أن مرض القلوب علة تترشح عنها المخادعة، وفيه دعوة للمسلمين لتهذيب النفوس وتثبيت مفاهيم الإيمان في القلوب بما يكون واقية من النفاق وسبباً لطرده ودفعه عنها .
لتتجلى صفحة مشرقة من جهاد المسلمين ، فلم يكتفوا بالبذل والإنفاق , وإقامة الفرائض , ورفع لواء الدفاع عن بيضة الإسلام , والبسالة في ميادين القتال ، ولكنهم إتجهوا إلى النفوس لإصلاحها وتنقيتها لأن سلامتها حرز وأمن من المخادعة والإضرار بالمسلمين من بين ظهرانيهم ، قال تعالى [يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ]( ).
وآية البحث أول آية في نظم القرآن يأتي فيها الفعل [كَانَ] الذي يدل على الزمن الماضي ، وفيه مسائل :
الأولى : جاء الفعل [كَانَ] بخصوص الكفار والمنافقين .
الثانية : ورد الفعل بصيغة الجمع وليس المفرد .
الثالثة : إفادة الجمع بين الدنيا والآخرة بلحاظ الفعل والجزاء المترتب عليه ، فالفعل هو الكذب وجزاؤه العذاب الأليم .
الرابعة : بيان قبح الكذب وتكذيب الحق وأثره على صاحبه، وأنه عدو ملازم لصاحبه يحضر معه يوم القيامة فيجلب له العذاب ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال 🙁 إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ مَعَ الْفُجُورِ وَهُمَا فِى النَّارِ) ( ).
ومن معاني صيغة الجمع في الآية أمور :
الأول : إرادة إتحاد الكفار على الكذب في موضوع مخصوص .
الثاني : إنعدام الأمر بالصدق أو النهي عن الكذب بينهم ، وجاء القرآن بذم المنافقين وتوثيق فعلهم بلغة الإنكار والوعيد، بقوله تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ]( ) لبيان إقتباس بعض المنافقين من بعض ،وإجتماعهم على الضلالة والريب بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات والمعجزات بلحاظ أن المعجزة تكتسب القطع وتصبح حجة معروفة عند العقل لكونها أمراً خارقاً للعادة ، مقرونة بالتحدي ، سالمة عن المعارضة ،ويأمر المنافقون بالمنكر وهو بلحاظ آية البحث على وجوه متعددة منها :
الأول : قيام المنافقين بالأمر بالكذب على الله ورسوله .
الثاني : تصديق المنافقين للكفار في كذبهم وإفترائهم على الله ورسوله ، وفي التنزيل [وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( )فصحيح أن المنافق يدعي الإسلام ويخفي الإيمان ، إلا انه لا يخفي ميله إلى الكفار.
الثالث: إرادة المعنى الأعم بما يشمل المخادعة وعدم الإيمان فيتاجر المنافقون بينهم بمخادعة المؤمنين للتورية عليهم وإيذائهم .
الرابع : تعاون المنافقين على الباطل ، وحث بعضهم بعضاً على الكفر والإقامة عليه.
الخامس : ندب بعض المنافقين بعضاً إلى الفتنة وإظهار الخلاف والشقاق ، وفي التنزيل [إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا]( ).
ومن وجوه كذب المخادعين والكفار الإفتراء على التنزيل ،وينكرونه وهو يتلى عليهم ببينات ومعجزات، قال تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا] ( ).
ومن البيان في قوله تعالى [بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]أمور :
الأول: إقامة الحجة على الكفار والمنافقين في إستحقاقهم العذاب الأليم ،قال تعالى [وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ] ( )وفي سواد الوجوه هذا بلحاظ آية البحث وجوه:
الأول : إنه مقدمة للعذاب الأليم الذي تذكره آية البحث ، لأن القدر المتيقن من العذاب الأليم هو دخول النار .
الثاني : إنه جزء من العذاب الأليم خاصة وأن أوانه هو يوم القيامة .
الثالث : لا صلة لسواد الوجوه هذا بالعذاب الأليم ،وفيه مسائل :
الأولى :التباين والتعدد بين العذاب الأليم وسواد الوجوه الذي هو عذاب آخر.
الثانية :سواد الوجوه ليس من العذاب الأليم لأنه خال من الألم فليس فيه إلا صبغة الوجوه , وهو للمرض أقرب .
الثالثة : إنه عذاب أليم إضافي غير العذاب الأليم الذي ذكرته آية البحث .
والصحيح هو الوجه الثاني فان سواد وجوه الكفار والمنافقين من العذاب الأليم وان كان سابقاً ومصاحباً لدخول النار ، إذ يعرف أهل المحشر الذين يكذبون على الله ورسوله في عرصات يوم القيامة بسواد الوجوه.
الأمرالثاني : بيان حقيقة ومصداق من الجزاء في الآخرة ، وأن النار حق والقطع بوجود الجنة والنار لا ينحصر بذكرهما بالاسم وحده بل يأتي بالموضوع والدلالة ، فأخبرت آية البحث عن العذاب الأليم لينصرف إلى العقاب بنار جهنم والخلود فيها ،(وعن أن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ فَقَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا فِي الْجَنَّةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا قَالَ رَوْحٌ فِي حَدِيثِهِ قَالَ قَتَادَةُ فَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خُضْرًا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لَهُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً فَيَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ) ( ).
وعن البراء بن عازب قال : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ، ولما يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجلسنا حوله – وكأن على رؤوسنا الطير – وفي يده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً ، ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مد البصر . ثم يجيء ملك الموت ، ثم يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس المطمئنة ، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان . قال : فتخرج . . . تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، وإن كنتم ترون غير ذلك ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الطيب؟ . . . فيقولون : فلان ابن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتحون له فيفتح لهم ، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها ، حتى تنتهي به إلى السماء السابعة ، فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى . فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك؟ فيقول : ربي الله . فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : ديني الإِسلام . فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هو رسول الله . فيقولان له : وما علمك؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت . فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي ، فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة ، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسرك . . . هذا يومك الذي كنت توعد . فيقول له : من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير . فيقول له : أنا عملك الصالح . فيقول : رب أقم الساعة . . . رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي .
قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه ، معهم المسوح . فيجلسون منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى سخط من الله وغضب . فتفرق في جسده ، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ، فيأخذها . فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح . ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض . فيصعدون بها . . . فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة . إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث؟! . . . فيقولون : فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا . حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتح فلا يفتح له .
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { لا تفتح لهم أبواب السماء } ( )فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى . فتطرح روحه طرحاً .
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } ( ) فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان ، فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول : هاه . . . هاه؟! . . . لا أدري . فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : هاه . . . هاه؟! . . . لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول : هاه . . . هاه . . . لا أدري . فينادي مناد من السماء ، أن كذب عبدي ، فافرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار . فيأتيه من حرها وسمومها ، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسوءك . . . هذا يومك الذي كنت توعد . فيقول : من أنت؟! . . . فوجهك الوجه يجيء بالشر . فيقول : أنا عملك الخبيث . فيقول : رب لا تقم الساعة ) ( ).
ترى لماذا لم تبين الآية خصوص الكذب الذي يجلب العذاب الأليم وهو الإفتراء على الله ورسوله ، وجاءت بصيغة الإطلاق ، الجواب من وجوه :
الأول : بيان قبح الكذب والنهي عنه .
الثاني : دعوة المسلمين للأمر بالصدق والنهي عن الكذب مطلقاً .
الثالث : الإخبار عن بغض الله عز وجل للكاذب .
الرابع : التذكير بالضرر الذي يجلبه الكذب على صاحبه .
الخامس : تنمية ملكة الصدق عند الناس ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
السادس : دلالة الآية بالدلالة الإلتزامية على أن المؤمنين هم أهل الصدق لأنهم آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بالتنزيل وأن لهم الثواب العظيم في الآخرة .
السابع : الكذب طريق إلى الفسوق وباعث على المعاصي .
الثامن : دعوة المسلمين والناس لذم الكاذب ، وعدم التهاون معه فقد يتساهل الناس بخصوص الكذب حتى يتمادى الكاذب ، ويتولى الأمارة والشأن ويكون له الجاه ، فجاءت الآية لتبتنى القواعد الإجتماعية على التقوى والصلاح ونبذ الأخلاق المذمومة .
التاسع : ينزل البلاء بالمنافق والمكذب بالتنزيل ، فجاءت هذه الآية لتذكيره والناس بعلة نزول البلاء عسى أن تدركه التوبة وليكون موعظة للناس يترشح عنها طوعاً وقهراً الإنزجار عن محاكاة الكافر والمنافق بالكذب والمخادعة ،قال تعالى [لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ] ( ).
العاشر : إجتناب الإنسان الكذب في حياته اليومية ومعاملاته مقدمة للتنزه من المخادعة والكذب على الله ورسوله .
الحادي عشر : بعث الفزع والخوف في النفوس من التعدي بالإفتراء والكذب .
فمن الإعجاز في آية البحث أنها تأديب للناس جميعاً وهو من أسرار بقاء القرآن غضاً طرياً ، وموضوعية هذه الطراوة بأن ينهل منه الناس العلوم والآداب في كل زمان وليس فقط الحداثة وكأنه نازل تواً بل يكتسب الناس العلوم والمعارف من خزائن آياته ليكون إماماً لهم في الدنيا والآخرة ، أما إمامته في الدنيا فهداية الناس به إلى سبل الصلاح والتنزه عن الكذب ، فيأخذ القرآن بأيدي الناس إلى طريق الفلاح ويدفعهم بلطف عن مستنقع الضلالة ومفاهيم الكذب والمخادعة .
ويبين قوله تعالى [بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]أموراً:
الأول : حضور أعمال الناس يوم القيامة .
الثاني : عدم حصول العفو والمغفرة بالنسبة للكذب على الله ورسوله بخصوص الذين يموتون على الكفر والضلالة ، (وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآل وسلم قال « يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول : نعم . فيقال : لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك، فذلك قوله تعالى { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار })( ).
الثالث : بعث السكينة والطمأنينة في قلوب المؤمنين بالسلامة والنجاة من العذاب الأليم لإختيارهم الإيمان والتنزه من الكذب .
الرابع : التنزه والتوبة عن الكذب مقدمة وطريق للأمن والسلامة من الخيانة والغيبة والنميمة ، وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال 🙁 لا يزال العبد يصدق حتى يكتب صديقاً ، ولا يزال يكذب حتى يكتب كذاباً) ( ).
الخامس : بيان حقيقة وهي أن قبح الكذب لا يقف عند القبح الذاتي والضرر العرضي المترشح عنه في الحال ، بل يكون ضرره يوم القيامة أعظم وأكبر ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ،فضرر الكذب في الدنيا على صاحبه وغيره ، فقد يأتي منه ضرر للمؤمنين , ولكن الله يخففه إلى مراتب الأذى ،قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، أما في الآخرة فضرر المخادع والمنافق يختص به ، ولا يتعداه إلى غيره ويأتيه إثم وعذاب إضافي من وجوه:
الأول : إرادته مخادعة الله عز وجل وهو سبحانه [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( )ليكون سبحانه هو الخصم والحكم بالحق والعدل .
الثاني : إيذاء المؤمنين بمخادعتهم وإدعاء الإيمان بحضرتهم زوراً .
الثالث : إغواء آخرين من الناس بمخادعتهم .
الرابع : تقليد ومحاكاة بعض الناس للمنافق في مخادعته والجهر بالسوء من القول والإبتعاد عن صدق الله .
الخامس : ما يلحق المخادع من الإثم بسبب إعراضه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن خصائص الوعيد في القرآن بعث اللوم في نفوس المنافقين والكفار ، ولجوء شطر منهم إلى التوبة وإصلاح حالهم ، وربما حتى تغيير أسمائهم بما يتضمن معاني الإيمان، وبالإسنادعن كعب بن مالك قال 🙁 قال محشي بن حمير : لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منكم مائة على أن ينجو من أن ينزل فينا قرآن . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمار بن ياسر « أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا ، فإن هم أنكروا وكتموا فقل بلى قد قلتم كذا وكذا ، فأدركهم فقال لهم . فجاءوا يعتذرون ، فأنزل الله { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم } ( ). فكان الذي عفا الله عنه محشي بن حمير ، فتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمقتله . فقتل باليمامة لا يعلم مقتله ، ولا من قتله ، ولا يرى له أثر ولا عين) ( ).
وفي الحديث بيان للتعاضد بين القرآن والسنة في ذكر خصال النفاق وضرره والإثم الذي يلحق صاحبه وكيفية التخلص منه فمن فضائل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك مجئ الإنذار لهم بواسطة السنة النبوية وبيان القرآن لوجوب الإستغفار وسؤال الله عز وجل العفو وعدم كفاية الإعتذار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون آية البحث مؤازراً للمسلمين في جهادهم ضد النفاق ، وفي صلاحهم وطهارة نفوسهم منه ومن المخادعة , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( )وكل فرد من الآية أعلاه حرب على النفاق ولواء لإزاحته من الأرض وسلامة القلوب منه .
البيان في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]
إبتدأت الآية بأمور :
الأول :حرف العطف (الواو) للدلالة على إتصال موضوع هذه الآية بالآية السابقة .
الثاني : لغة الشرط التي تتجلى ب (إذا) وهو ظرف زمان دون المكان ويدخل على الجملة الفعلية سواء كان فعلها ماضياً أو مضارعاً ودخوله على الفعل الماضي هو الأكثر ويستدل في كتب اللغة وغيرها على إجتماعهما بقول أبي ذويب الهذلي :
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا تُرد إلى قليل تقنع ( )
ولكن دخولها على الفعل الماضي والمضارع يجتمعان في آية واحدة من القرآن الذي فيه بيان اللغة وقواعدها ، وهو الأولى بالمثال في المقام ، قال تعالى [وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ] ( ).
الثالث : الفعل المبني للمجهول (قيل) مما يدل على النفاق في نظم الآيات وإنتقال من بيان حال المنافقين والمخادعين إلى ذكر ما يقال لهم وما يتوجه إليهم من البيان ،وهو يحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة المدح والثناء عليهم .
الثاني : الدعوة لبقائهم على خصالهم وخداعهم .
الثالث : إرادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وزجرهم عن قبيح الفعل.
الرابع :إقامة الحجة على المخادعين والمنافقين ،قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الخامس :موضوع القول [قِيلَ لَهُمْ] أجنبي عن حال الخداع والنفاق ، والنسبة بينهما هي التباين .
والصحيح هو الوجه الثالث والرابع، وفيه تأكيد لرحمة الله بالناس في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق المسلمين للتنزيل والعمل بمضامينه مع وجود المنافقين بين ظهرانيهم، وإحاطة المخادعين لهم في السكن وعالم الفعل ، وقد يرافقهم المنافقون إلى سوح القتال فيظهروا الخوف والجبن وأسباب الشك ، فجاءت هذه الآية لتخبر أن خوفهم وشكهم لا يثبط المؤمنين في سعيهم ودفاعهم في سبيل الله إنما يتوجه القول للمنافقين بالنهي عن الفساد ، وترك المخادعة .
عن عبد الله بن عمر قال :(قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوماً : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، لا أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنة ، ولا أجبن عند اللقاء . ! فقال رجل في المجلس : كذبت ، ولكنك منافق . لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزل القرآن ، . قال عبد الله : فأنا رأيته متعلقاً يحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحجارة تنكيه وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب . والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) ( ).
وقد تقدم في باب القراءة والإعراب ( ) أن إذا ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه .
وقيل قد تخرج عن الشرطية خاصة إذا لم يقترن بها الفاء مثل قوله تعالى [وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )ولا ملازمة بين الشرطية وبين وجود الفاء في جوابها ، لأن صيغة الشرط في المقام من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ،ولكنه يتجلى من منطوق ونظم الآية .
وبعد مجئ الآية السابقة بذكر مرض قلوب المخادعين ، وما أعد الله عز وجل لهم من العذاب الأليم، جاءت هذه الآية لبيان حقيقة وهي عدم تركهم يقيمون في منازل الرذيلة والضلالة وبما يجلب معه الخزي والعقاب الإلهي.
بحث نحوي
لا دليل على قلب معنى الفعل الماضي في الآية إلى المستقبل إنما يفيد الأعم منه ، وإرادة الإستدامة على حال مخصوصة ، خصوصاً وأن تقسيم الفعل إلى ماضي ومضارع وأمر تقسيم إستقرائي وهو صحيح إلا أن بعض القرائن قد تدخل على الفعل فتجعل معناه أعم وتكون الجملة الفعلية كالإسمية في دلالتها على الدوام والثبوت .
فيشمل أفراد الزمان الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل كما في قوله تعالى ( وكان الله غفورا رحيما ) وقد يشمل فردين منها أو تأتي القرينة لتضييق ذات الظرف الماضي أو المستقبل وتجعله بخصوص فرد مخصوص من آنات الزمان الماضي أو المستقبل ، ولا تفيد التجدد والحدوث ، وما تفيده مسألة تضافر القرائن التي ذكرها العلماء القدامى .
ولكن نظرية القرائن اللغوية لا تتعارض مع موضوعية العامل النحوي وما له من الأهمية في البيان بل تكون في طوله و إن جزءّ من أفراد هذه النظرية من أفراد ودلالات المعنى النحوي ، إنما أرادت الآية بيان حال المخادعين من جهات :
الأولى : تكرار توجه النهي لهم عن الفساد ومنعهم من الإقامة على المخادعة والضلالة.
الثانية : تجلي الوضوح والصراحة في لغة النهي عن الفساد .
الثالث : إجابة المنافقين بما يدل على المخادعة والعناد والإستكبار ،قال تعالى [َولتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ]( ).
يحتمل الرد على النهي عن الفساد وجوهاً :
الأول : السكوت وعدم الإجابة .
الثاني :الإستجابة للنهي والكف عن الفساد .
الثالث : الإمتناع عن الإجهار بالفساد .
الرابع : التبعيض في أفراد الفساد ، وإجتناب شطر منها .
الخامس : الإستمرار في إرتكاب المآثم والمخادعة والإعراض عن النهي عن الفساد .
السادس : التوقف عن الفساد إلى حين .
السابع :التوبة والإنابة ، وإدراك قبح الفساد ، والإنتقال إلى الإيمان وعمل الصالحات .
والصحيح هو الخامس مع إصرار المنافقين على الفساد وادعاء أنه صلاح .
إقامة المخادعين على الفساد
أخبرت الآية عن إصرار المنافقين والمخادعين على فعل الفساد وفيه مسائل :بيان فضل الله عز وجل على الناس جميعاً ، ومنهم الكفار والمنافقين بان يأتيهم التحذير والإنذار على نحو متصل .
الثانية : عدم صيرورة عناد المنافقين والمخادعين وإستكبارهم عن تجدد مجئ النهي لهم عن سوء فعلهم .
الثالثة: إقامة الحجة على المخادعين في النشأتين .
الرابعة : تجلي معاني التمييز والفعل بين الحق والباطل ، وبين الإصلاح والفساد .
الخامسة : تحذير وإنذار المؤمنين من أهل الفساد ومنعهم من الركون إليهم وإتخاذهم بطانة ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
السادسة : إنذار الناس من محاكاة وإتباع المفسدين .
ولقد تقدم قوله تعالى في ذم الكفار [سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( )، وجاءت هذه الآية لتبين مصداقاً لها لأن قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]يدل بالدلالة التضمنية على الإنذار والتخويف من أمور:
الأول : القبح الذاتي للفساد .
الثاني : مخالفة الفساد لأصل وعلة خلق الإنسان .
الثالث : الأثر والضرر المترتب على الفساد على الذات والغير .
الرابع :الفساد فتنة وتترشح عنه فتنة أخرى وإفتنان وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (خيار عباد الله الذين إذا رُؤُوا ذكر الله ، وشر عباد الله المشَّاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الباغون البرآء العنت ) ( ).
الخامس :سوء عاقبة الفساد ، وهي على قسمين :
الأول :نزول البلاء وأسباب الفناء بالمفسدين في الحياة الدنيا ، قال تعالى [وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
الثاني : شدة العذاب يوم القيامة للمفسدين .
والفساد ضد الصلاح (فسد فساداً وفُسوداً ضِدُّ صَلُحَ، فهو فاسِدٌ وفَسيدٌ) ( ) ، والمفسد ضد المصلح ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ] ( )، والفساد لغة هو خروج الشئ عن الاعتدال وموازين السوء ، وهو في الإصطلاح فعل المعصية وإرتكاب الذنب ، والإصرار على الشر وما يخالف الأوامر الإلهية .
وجاءت الآية بصيغة النهي عن مطلق الفساد في قوله تعالى [وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] وفيه تذكير للناس بفضله تعالى بخلافة الإنسان في الأرض وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )
من جهات :
الأولى : عدم ترك المفسد وشأنه .
الثانية : توجه الإنذار والدعوة للمفسد بترك الفساد .
الثالثة : التسالم بين الناس على قبح الفساد ، فحتى المفسدين تراهم ينكرون تلبسهم بالفساد ويعلنون أنهم مصلحون مغالطة منهم ، ليكون من مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة في الآية أعلاه بأن المدار على فعل طائفة من الناس الفساد بل هناك أمور :
الأول : تسالم الناس على قبح الفساد ، ولزوم التنزه عنه .
الثانية : عدم إعتراف الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء بأنهم مفسدون ، ويتجلى بشواهد عديدة في الواقع اليومي في كيفية دفاع الجاني نفسه مع قيام الأدلة على ظلمه وسوة فعله .
الثالث : وجود أمة تنهى عن الفساد وتزجر عن فعله ، وليس من أمة تمنع المصلحين من فعل الخيرات وإتيان الصالحات .
الرابع : أراد الله عز وجل إخبار الملائكة بأنه سبحانه جعل النفس الإنسانية مطلقاً تنفر من الفساد ، وهذه النفرة مصاحبة للإنسان مدة حياته وهي طريق ومقدمة للتوبة ، قال تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( ).
ليكون من إعجاز القرآن الإخبار عن البيان من الله عز وجل للملائكة ومنه ما يتعلق بالإنسان وخلافته في الأرض وزجره المتصل والمتجدد عن الفساد في الأرض .
الخامس : الملازمة بين الخلافة في الأرض ودعوة الناس للإصلاح فيها ونبذ الفساد لذا جاءت الآية بصيغة الجمع [لاَ تُفْسِدُوا].
السادس : مواجهة المخادعين والمفسدين بحقيقة سوء فعلهم ليكون من مصاديق إحتجاج الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] أن هذه المواجهة مستمرة إلى يوم القيامة تتجدد ببقاء هذه الآية طرية يتلوها المسلمون ويعملون بمضامينها ويتقيدون بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومنها التضييق على المفسدين وفضح فعلهم لأن فضحه والنهي عنه منع من تفشي الأخلاق المذمومة وسنن الفساد في الأرض .
فان قلت تدل الآية على أن فساد الكفار والمخادعين أمر علني وجلي للناس والجواب جاء النهي عن الفساد أيضاً علنياً ظاهراً ومن الإعجاز أنها لم تذكر الفساد ويتعقبه النهي ، بل إبتدأت بالنهي والزجر عن الفساد وفيه مسائل :
الأول : إزدراء المفسدين والإخبار عن كونهم من الأدنين.
الثاني : تأديب المسلمين على لغة النهي عن المنكرات والمبادرة والتعاون والتآزر في هذا النهي .
الثالث : إنعدام الشأن والأثر للفساد فحالما يصدر من المخادعين يأتيه النهي .
الرابع : بيان رحمة الله عز وجل بالمفسدين في الدنيا ، بتذكيرهم بقبح ما يفعلون ، ودعوتهم للكف عن الفساد .
الخامس : ليس من ثمة فترة بين فعل الفساد وبين اللوم عليه وإنكاره من قبل المؤمنين .
السادس : بيان عز المؤمنين وتجلي قدرتهم على الأمر بالصلاح والنهي عن الفساد ، وقد ذكرت وجوه ثلاثة فيمن ينهى المنافقين عن الفساد [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا] ( ).ونضيف هنا وجوهاً أخرى :
الأول : إرادة مجيء النهي من عامة الناس لقبح الفساد عقلاً وطبعاً وعرفاً.
الثاني : بيان أن هذا النهي سبب التغيير الحاصل في المفاهيم العقائدية والإجتماعية بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجلي سنن الإيمان في عالم الأفعال .
الثالث : من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )نفرة النفوس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإشراقتها على الأرض من الأخلاق المذمومة ، وتجرأ الناس بالمناجاة والإجهار بنفي الفساد والصدود عن المفسدين .
وهذا الصدود مستقرأ من الوضوح والجلاء المكاني والعموم في صيغة النهي [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ].
الرابع : صدور النهي من ذوي وأهل المفسد لدخول أسباب الصلاح إلى داخل بيوت المنافقين والكفار ، فاذا كان الفرد منافقاً فلا يعني أن زوجته وأولاده على ذات نهجه الخبيث ، فجاءت صيغة البناء للمجهول لرجحان براءتهم من النفاق .
دخول الإيمان بيوت المنافقين
لقد أظهر رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول الحسد والبغض الخفي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين واتفق مع بعض حلفائه على المخادعة والغدر ، ولكن ولده عبد الله من خيرة الصحابة وكان اسمه حباباً وبه كان يكنى أبوه ، فبدل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اسمه وجعله عبد الله وعند رجوع المهاجرين والأنصار من غزوة بني المصطلق .( اقتتل رجلان: جُهَني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري، فقال عبد الله للأنصار: ألا تنصروا أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: “سمِّن كلبك يأكلك”، وقال: { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ }( ) فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله) ( ).
ولما بلغ إبنه عبد الله ما صدر من أبيه أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل (عبد الله بن أبي ) فيما بلغك عنه ، فانا احمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني ، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله ، فاقتل مؤمناً بكافر فادخل النار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا( ).
وًمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم فصل وفرّق بين المنافقين والكفار ،إذ أجاز قتل الكفار المعتدين ، أما المنافقون فانه لم يأذن بقتلهم ، وكان يصبر على أذاهم لمحل نطقهم بالشهادتين وللزجر عن الفتيا بقتل المسلم ظاهرا .
وصار أصحاب ابن أبي سلول هم الذين يعاتبونه ويلومونه توبيخاً عندما يصدر منه ما يتنافى سنخية الإيمان , وفيه آية إعجازية في تأديب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين من جهات :
الأولى : إصلاح النفوس بالتفقه في الدين .
الثانية : نبذ القتل والإقتتال بين الناطقين بالشهادتين .
الثالثة :إعانة المسلمين لتنمية ملكة كشف صيغ النفاق .
الرابعة : بلوغ المسلمين مرتبة الزجر عن النفاق ، وتصنيف المنافق .
الخامسة : إنعدام الناصر للمنافق في الدنيا ، وهو مقدمة وتذكير لحاله في الآخرة , وعندما يسأل أهل النار الله عز وجل السؤال العودة إلى الدنيا لإستئناف العمل فيها بالصالحات ، يحتج عليهم الله عز وجل ببعثة الإنبياء مبشرين ومنذرين , بقوله تعالى [وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ]( ).
وفي الحديث مسائل :
الأولى : المنافقون من عموم أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا ذهب بعضهم في تعريف الصحابي بأنه المسلم الذي رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الحديث يبين أن الصحبة أخص وتدل على الرفقة والمصاحبة خاصة , وأن الحديث أعلاه ورد بخصوص الرهط( )
ومن المنافقين الذين أرادوا وهم ملثمون إغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند مرجعه من تبوك بان اعترضوا ناقته ليزحموها ولكن أصابهم الرعب والفزع عند رؤيتهم حذيفة وكان يسوق ناقة النبي وعند الخروج من العقبة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحذيفة ( فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا طلعت في العقبة طرحوني منها)( )
الثانية : صيغة العموم الجنس بالألف واللام في قول النبي (أكره أن يتحدث الناس ) لإرادة أجيال الناس المتعاقبة إلى يوم القيامة ، وفيه آية بأن سيرته وسنته القولية والفعلية توثق وتشيع بين الناس وتكون موضوعاً للدراسة وإقتباس المواعظ والعبر منها .
الثالثة : منع هذا القول الإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل بعض المسلمين .
الرابع : تسالم الناس بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يقتل من ينطق بالشهادتين وفيه دعوة لهم بالإسلام وعلة لنفي الفزع والخوف من دخول الإسلام وبرزخ دون الإصرار على الكفر والجحود فاذا كان الكافر الذي أوغل في تعذيب المسلمين في مكة في بدايات الدعوة، والذي أسرف في قتل المسلمين في معارك الإسلام وخارجها يخاف الثأر والقصاص والإنتقام عند دخوله الإسلام فانه قد يحرض الآخرين من أتباعه وأصحابه وقومه على البقاء على الكفر فجاء قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة له ولأصحابه وأهله للإسلام ومنع دبيب الخوف والفزع إلى نفوسهم إذ قد يتوجه هذا الكافر إلى المدينة المنورة للإسلام فيبقى ذووه وأهله في حال من الفزع والخشية عليه , فجاء إغضاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإمهاله لهم لبعث السكينة في نفوسهم ولحثهم على دعوته للمبادرة إلى الإسلام ، ويكونوا من الذين ذكرتهم آية البحث وأنهم أهل القول الوارد فيها [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ].
الخامسة : بعث الأمن الإجتماعي، وإزاحة النفرة والتباغض من النفوس.
السادسة : زجر المؤمنين من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الإجهاز على المنافقين.
السابعة : تأديب الأمراء والحكام وعموم المؤمنين من التابعين وتابعيهم بالصبر على المنافقين وعدم الإضرار بهم أو قتلهم.
الثامنة : من الإعجاز في هذا الحديث إتاحة الفرصة للمنافقين للتوبة والإنابة، قال تعالى[لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ]( ).
التاسعة : موضوعية الوحي في السنة النبوية، وليس من إذن من عند الله للنبي بقتل المنافقين، وفيه دعوة للمسلمين لحسن التوكل على الله وتفويض الأمور إليه سبحانه، وهو الذي يدفع أذى المنافقين ويخزيهم، قال تعالى[وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]( ).
وفي الحديث مسائل :
الأولى : إطلاق صفة الصحابة على المنافقين ، وفيه دلالة على كفاية النطق بالشهادتين لتسمية الصحابي لحجة الظواهر ألا ان يراد القدر المتيقن ما يعرفه الناس من معنى الصحبة عرفاً ، ولا دليل عليه .
الثانية : ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه بالاسم المجرد من صفة النبوة والرسالة , وفيه وجوه :
الأول : إرادة إسقاط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقه الشخصي .
الثاني :إظهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الطاعة والخضوع لله عز وجل عند الإشارة عليه بالقتل .
الثالث: هذا القول من مصاديق وتفسير قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ) ، فلا يكون القتل إلا بالوحي .
الثالثة : موضوعية الصحبة والخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال في العفو عن الأشخاص عند الإساءة .
الرابعة : قاعدة تقديم الأهم على المهم ، وترجيح مصلحة الإسلام وسلامة المقاتلين وعموم أفراد الجيش على العمل بمقتضى الحكم الشرعي إذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجب بأن رأس النفاق لا يستحق القتل بل بالتنزه عن القتل ليكون دعوة لأمراء وحكام المسلمين بملازمة العفو عن الأعوان والأصحاب .
الخامسة : تنمية ملكة مكارم الأخلاق عند المسلمين وأهل الحل والعقد منهم خاصة .
السادسة : ترغيب الناس بالإسلام ، وغلق الباب أمام المنافقين للظفر به لو قتل رئيسهم .
الإختبار رحمة
تتجلى معاني الرحمة الإلهية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل ميدان وباب من أبواب الحياة العامة والخاصة، ويستقرأ من الإطلاق في بيان القرآن لقوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، بلحاظ أن القرآن مرآة النبوة وكذا العكس فإن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة للقرآن وأحكامه.
وجعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، وأنعم على الناس بتوالي سبل وأسباب الهداية لتكون من مصاديق التسخير في قوله تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ] ( )أن الآيات الكونية دعوة للإيمان ووقاية من الكفر والنفاق ، وتحتمل وجوهاً :
الأول : كل آية كونية دعوة للإيمان .
الثاني : الآيات الكونية مجتمعة برهان يجذب الناس للإيمان .
الثالث : تعدد وإنحلال البراهين في كل آية كونية والدالة على وجوب عبادة الله ، ونبذ النفاق.
والصحيح هو الثالث ، ويكون الأول والثاني في طوله ،إذ أن تعدد الآيات الباهرات في الآية الكونية لا يتعارض مع كونها بذأتها معجزة مبهرة كما في الشمس والقمر فمرة يذكرهما الله مجتمعين وأخرى منفردين، وثالثة ببيان الإعجاز في سير كل منهما أو التناسق والترتيب الدقيق في جريانهما ، قال تعالى [لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]( )، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن هذه الآيات تتجدد كل آن من آنات الزمان وتلح على الناس بالتنزه عن الفساد والقبيح من الأفعال وتكون عوناً للإنسان في إختبارات الحياة الدنيا بما يجعله يختار سبل الهداية والرشاد ويدرك حاجته للإيمان والتصديق بالنبوة والتنزيل والإدخار للآخرة باكتناز الصالحات والعصمة من السيئات، لتكون الآيات سبباً لتعضيده للمؤمنين وزجره عن الفساد ، وإنارة طرق الفلاح له وزيادة بصيرته .
بحث أصولي
صيغة المبني للمجهول [قِيلَ لَهُمْ] في معناها على وجوه :
ألأول : إرادة القائل المتحد وأن هذا القول يأتي من جهة واحدة .
الثاني : المقصود الخطاب العام الذي يتوجه إلى المنافقين جميعاً بصيغة واحدة .
الثالثة : تعدد الخطاب بلحاظ أفراد المنافقين فكل واحد منهم يتوجه له الزجر، بلحاظ أن قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا]يفيد النهي ، وهو لغة المنع ، يقال نهاه عن فعل أي منعه منه وسمُي العقل النهى لأنه يمنع صاحبه عن الزلات ومواطن الهلكة .
والنهي في الإصطلاح هو الإشارة بالقول أو الفعل المتضمن معنى الكف عن الشئ ، وطلب الإمتناع عنه وأختلف هل يشترط فيه الإستعلاء وأنه طلب من العالي إلى الداني ليخرج السؤال والدعاء وإلتماس الإمتناع أم لا يشترط، والخلاف صغروي وأجنبي عن المقام ، بالإضافة إلى خصوصية تنفرد بها نواهي القرآن من جهات :
الأول : إنها من الخالق إلى المخلوق ، ومن الرب إلى المربوبين .
الثاني : النواهي القرآنية خير محض .
الثالث : صيغة العموم في النواهي القرآنية وإرادة الناس جميعاً منها ، فهي وإن جاءت على نحو خاص فان الناس جميعاً يتعظون منها .
الرابع : النهي في القرآن موضوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس : مجئ النهي القرآني بالماهية الكلية من غير تعيين ، وبجزئياتها الشخصية ، فالنهي عن الفساد في الآية مطلق يفيد لزوم الكف عن الكلي وأفراده من غير تعيين , وهو من معاني إحاطة آيات القرآن المحدودة باللامتناهي من الوقائع والأعيان ، وتتجلى موضوعية النهي عن كلي الفساد في الآية [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]في هذا الزمان بظهور مصاديق جديدة من الفساد لم تكن موجودة قبل قرن من الزمان فضلاً على الفاصلة الزمانية بينها وبين أوان نزول القرآن وإنحصاره بالجزيرة العربية .
النهي القرآني للمسلمين في العبادات والمعاملات مدد لهم في الإحتجاج وهو من مصاديق الحكمة في قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
السابع : مجئ الزمان والإرتقاء العلمي بما يبين الحاجة للنواهي القرآنية وإتصاف كل فعل نهى عنه القرآن بالقبح الذاتي والعرضي .
وفي حقيقة النهي وقول [لا تفعل] ونحوه وجوه :
الأول : إنه حقيقة في الحرمة ، ولا ينتقل إلى الكراهة إلا مع القرينة الصارفة ، كما في قوله تعالى [لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ]( )، والذي يحمل على الإرشاد والحث على الندب على السؤال الذي يسبب الأذى والغضاضة .
الثاني :إرادة الجامع المشترك من الحرمة والكراهة ، ولا يختص النهي بأحدهما إلا بالدليل .
الثالث : القدر المتيقن من النهي هو مرجوحية المنهي عنه .
الرابع: المدار على الدليل ، فان كان قطعياً فيفيد الحرمة وإذا كان ظنياً فيدل على الكراهة .
والصحيح هو الأول ، وعليه مشهور الأصوليين ، وهو المتعين في آية البحث ، فقوله تعالى [وَلاَ تُفْسِدُوا] يفيد النهي القطعي ، والمنع من الفساد وعدم جواز إتيانه.
ونضيف وجوهاً أخرى لهذا البحث , وهي :
الأول : موضوعية ماهيه الفعل المنهي عنه ،وهل يتعلق النهي بذات الفعل أم بجزئه أم بصفاته، كما في صوم يوم العيد فانه ليس نهياً عن ذات الفعل ولكنه نهي عن صفة خارجة عنه وهو يوم العيد ، ولكن لا تصل النوبة إلى التباين والخلاف فيه لورود النص في يوم العيد .
(وعن سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن صوم يوم الفطر ويوم النحر)( ).
الثاني : إستحضار الآيات القرآنية الأخرى في ذات الموضوع وإستقراء الحكم بالجمع بينها مع التساوي في الموضوع والوصف .
الثالث : موضوعية السنة النبوية في بيان النهي ومرتبته وهل يفيد الحرمة أو الكراهة ، خصوصاً وأن كثيراً من النواهي بينّها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته القولية والفعلية، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
وإذا كان أصل النهي من السنة النبوية فيتم ذكر الآيات التي تدل عليه بلحاظ أن السنة بيان للقرآن ومرآة لأحكامه وسننه ، وإيراد الأحاديث النبوية ومصاديق السنة النبوية الأخرى التي تدل على ذات النهي وإفادته الحرمة أو الكراهة .
ومن الإعجاز في المقام إستقراء حقيقة وهي عدم وجود تعارض أو تزاحم بين القرآن والسنة النبوية وفيه منع للإختلاف بين الأصوليين في الحكم وتجد البيان والتفصيل والمطلق والمقيد والمجمل والمبين في الكتاب والسنة ، كما في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ( ).
والذي يدل على موضوعية قاعدة الميسور ونفي الحرج وقانون التقية في الإمتثال للأوامر النبوية ،والإطلاق في النواهي وإفادتها الحرمة المطلقة فليس فيها تبعيض ويناقش الأصوليون هل النهي الفلاني ظاهر في الفساد أم لا .
وجاءت أية البحث بالنهي الصريح عن الفساد ذاته ليكون فيها إعجاز إضافي بمنع الجهالة والغرر .
البيان في قوله تعالى [فِي الأَرْضِ]
بعد أن جاء الخطاب للمخادعين المتضمن النهي عن الفساد مطلقاً ، جاءت صيغة العموم بقوله تعالى [فِي الأَرْضِ].
وذكرت مصاديق لصيغة العموم وهي أسماء الإستفهام والشرط الدال على الإيهام والعموم واسم الجنس والنكرة والجمع المعرف بالألف واللام الذي يفيد الجنس ، وهذا القيد يخرج ألف ولام العهد كما في قوله تعالى [فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ] ( ).
ومنها ألفاظ سور الموجبة الكلية مثل كل وجميع وكافة ، ومنه قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ( كل مسكر حرام) ( ).
واللفظ العام هو المستغرق لمصاديق وأفراد الشئ دفعة واحدة ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ]( )فيفيد العموم من جهات :
الأول : النداء .
الثاني : لفظ الناس الذي يستغرق كل أجيال البشر رجالاً ونساءً.
الثالث: عبادة الناس لله عز وجل .
الرابع: الربوبية المطلقة للناس جميعاً ، فكل إنسان ربه الله عز وجل .
الخامس : خلق الله للناس جميعاً ، بمعنى ان تلقيح النطفة للبويضة ونماء الجنين وولادته أسباب ومصاديق لخلق الله للإنسان , وليست علة تامة لوجوده .
أما المطلق فيشمل واحداً لا بعينه من الأفراد وهو عموم بدلي على فرد شائع في أفراده ولا يمنع من وقوع الشركة فيه مثل قوله تعالى [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا] ( )ويقابله المقيد وهو الذي يدل على التقييد للإطلاق كقوله تعالى [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] ( ).
ويجمع المطلق والمقيد قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى]( )بلحاظ الإطلاق في الصلوات والتقييد بخصوص الصلاة الوسطى .
ومن إعجاز القرآن أن يأتي ذات الأمر والنهي بصيغتين من العموم أو الإطلاق ، وفيه مسائل :
الأولى : البيان والتأكيد .
الثانية : الإخبار بأن الله عز وجل [لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) .
الثالثة : بيان رحمة الله ولطفه بالناس جميعاً .
الرابعة : ملائمة الأوامر والنواهي القرآنية لجميع الناس على إختلاف مداركهم ومن لم يمتثل بالمتحد من الأمر يأتيه الأمر الثاني ، ويحتمل الثواب وجوهاً :
الأول : الذي يمتثل بالمرة الأولى أكثر ثواباً ، قال تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الثاني : الإتحاد والتماثل في الثواب بين الذي يمتثل في المرة الأولى وغيره ممن يمتثل في المرة الثانية .
الثالث : لا تنحصر الإمتثال بالمرة والمرات من النهي القرآني بعد أيام التنزيل ، إذ يقوم المسلمون بتلاوة الآيات وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : المدار في الثواب على أوان وكيفية الإمتثال سواء بالمرة الأولى أو الثانية.
والصحيح هو الأول والرابع والآية أعلاه لا تتعلق بالموضوع إلا بلحاظ أن كل الذين يمتثلون للأوامر والنواهي الإلهية من الذين يعلمون ، وليس المراد الدقة العقلية بخصوص من يلتحق بالإمتثال عند المرة الثانية .
وجاءت صيغة العموم في قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] من أربع جهات:
الأولى : النهي بالأداء [لا] وكأنها من سور السالبة الكلية .
الثانية : صيغة النهي العامة والهيئة التي تدل على النهي بلا الناهية ولغة الفعل المضارع الذي يتعقبها .
الثالثة : العموم في موضوع الفساد المنهي عنه .
الرابعة : الظرفية [فِي الأَرْضِ] التي تفيد العموم في أنحاء الأرض، وتلك آية إعجازية في لغة القرآن من جهات :
الأولى : الإخبار عن إنتشار الإسلام وبسط أحكامه على ربوع الأرض، فان قلت هل يبقى إتساع النهي عن الفساد في عموم الأرض لحين إنتشار الإسلام ، الجواب لا ، فلا ملازمة بين النهي عن الفساد وبين إنتشار الإسلام ، لذا جاء النهي مطلقاً في زمانه ومكانه ، قال تعالى [وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( ).
أي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول للعرب والعجم ولأهل الملل والنحل جميعاً ، والله عز وجل الرقيب على الناس في وجوب تلقي دعوته بالتصديق، وتقدير الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث (وأرسلناك للناس رسولاً ألا تفسدوا في الأرض) وفيه شاهد على صدق نبوة محمد لأنه جاء بمكارم الأخلاق وسنن الصلاح وهو من مصاديق قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( )أي اننا نعبد الله في كافة أنحاء الأرض ونستعين به سبحانه على التوفيق في العبادة والعصمة من الفساد .
ومن معاني العموم في قوله تعالى [فِي الأَرْضِ] :
الأول : إرادة مختلف الأمصار والبلدان وأن الفساد بغيض بذاته .
الثاني : صيرورة إجتناب الفساد مقدمة للتدبر في معجزات النبوة ودخول الإسلام بلحاظ أن الفساد نوع غشاوة على البصيرة ، ومانع إختياري من كشف الحقائق وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في دعائه :اللهم أرنا الأشياء كما هي) ( ).
الثالث: أن النهي عن الفساد وظيفة عامة يقوم بها أهل النهي وأصحاب العقول وهو من معاني ومنافع نفخ الله من روحه في آدم ، فلا بد من موضوعية وأثر لهذا النفخ مصاحب للإنسان في الحياة الدنيا .
الرابع : إرادة الزجر عن تحريض الناس على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ومحاربتهم في أدائهم لعبادتهم ، وبينما زحفت قريش في معركة بدر بثلاثة آلاف مقاتل ، جاءت بعدها بثلاث سنوات أي في السنة الخامسة للهجرة بعشرة آلاف مقاتل وإذ أخذوا يطوفون على القبائل وخلفائهم من غطفان (فزارة وبنو مرة وأشجع )وكنانة والأحابيش وبني أسد وسليم، لذا سموا بالأحزاب , قال تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ]( )، ويحشرون الناس ويغرونهم بالمال والتكافل والجاه وهذا الحشد من الفساد في الأرض إذ تزجر الآية عنه.
ومن الإعجاز أن تلك الكثرة لم تنفع قريشاً بل أرهقت رؤساءها وإستنزفت أموالهم خاصة وأنهم أحجموا عن دخول المدينة المنورة واكتفوا بحصارهم نحو ثلاثة أسابيع فزلزل الله أبدانهم وبعث في نفوسهم السأم والضجر وبعث الله جنوداً من الملائكة، قال تعالى [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا] ( )، فقد يظن بعضهم أن الريح العاتية التي هبت على جيوش الكفار وفق الأسباب الكونية وحركة الرياح فذكرت الآية أعلاه أموراً:
الأول : أن الريح مرسلة من عند الله عز وجل على جيوش الكفار خاصة (وعن ابن عباس قال : لما كانت ليلة الأحزاب جاءت الشمال إلى الجنوب قالت : انطلقي فانصري الله ورسوله ، فقالت الجنوب : إن الحرة لا تسري بالليل ، فغضب الله عليها وجعلها عقيماً ، فأرسل الله عليهم الصبا ، فأطفأت نيرانهم ، وقطعت أطنابهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور) ( ).
الثاني : نزول ملائكة تقوم بطرد قريش من حول المدينة ، ومن الإعجاز والشواهد على نزول الملائكة أن قريشاً لم تعد إلى القتال أو إلى محاصرة المدينة ولم يرجعوا لنصرة حلفائهم من بني قريظة مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه توجهوا لحصارهم بعد إنسحاب قريش مباشرة ولم تلتق قريش مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه بعد معركة الخندق إلا عند خروجه وتوجهه بألف واربعمائة من المهاجرين والأنصار بعدها بنحو عام إلى مكة المكرمة لأداء العمرة وليس معهم من سلاح إلا سلاح السفر خاصة وأنهم كانوا في شهر حرام وهو شهر ذو العقدة إذ أن العرب تضع السلاح في الأشهر الحرم وتجتنب القتال ولو رأى أحدهم قاتل أبيه لإمتنع عن قتله ، لينحسر فساد قريش ، وينهدم أشده عدواناً وظلماً وينقطع إلى الأبد زحفهم على المدينة المنورة حوزة الإيمان والمصر الوحيد للإسلام آنذاك.
وعندما علمت قريش بمقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم دقت طبول الحرب وجمعت الناس لقتالهم وصدهم عن دخول البيت الحرام .
لقد إختار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لغة التحدي السلمي ، والحوار مع قريش والناس والدعوة القولية إلى الله عز وجل ، وفيه شاهد على صدق نبوته وأن الإسلام لم ينتشر بالسيف ولم يدخله الناس بالإكراه، قال تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]( ) .
لقد تغيرت الحال على نحو عكسي تماماً نحو الحسن والهداية ومن غير سبب ظاهر إلا لقوله تعالى [وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا]( )وبيان أثر وبركات هؤلاء الجنود بدفع قريش عن المدينة وصيرورتهم عاجزين وهم في عقر دارهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )، بخصوص معركة أحد وبلحاظ كبرى كلية وهي تلك الخيبة والحسرة والندامة التي لحقت قريش ورؤساء الكفر لا تنحصر بالإنسحاب من معركة أحد بل تصاحبهم في ليلهم ونهارهم وفي منتدياتهم ومعاملاتهم ، لذا توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة ، أي أنه يعلم بأن الخيبة أحاطت بهم وشلت أيديهم وصاروا فاقدين للقدرة على الدفاع فضلاً عن الهجوم أو حشد الناس لنصرتهم على الباطل، ليكون فيه بلحاظ آية البحث بيان وهو أن عاقبة الفساد إلى الخسران وأن الذي لا يمتثل لقوله تعالى [َلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] يضطر للإمتناع عن الفساد قهراً مع لحوق الإثم به وحمله أوزاره وغيره في الآخرة ، قال تعالى [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ]( ).
وبلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الحديبية وهي تبعد عن مكة إثنين وعشرين كم ، وسميت نسبة إلى بئر الحديبية وهو قريب من الشجرة التي بويع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحتها بيعة الرضوان ، وأرسل إلى قريش عثمان بن عفان وقال : (أخبرهم أنا لم نأتِ لقتال وإنما جئنا عماراً وادعهم إلى الإِسلام وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح . ويخبرهم أن الله وشيك أن يظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإِيمان) ( ).
(عن عمرو بن دينار إنّه سمع جابراً يقول : كنّا يوم الحديبية ألف وأربعمائة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنتم اليوم خير أهل الأرض. قال : وقال لنا جابر : لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة،
وقال : بايعنا رسول الله تحت السمّرة( )، على الموت على أن لا نفرّ، فما نكث أحد منّا البيعة، إلاّ جد بن قيس وكان منافقاً، اختبأ تحت أبط بعيره، ولم يسر مع القوم) ( ).
وأرسلت قريش جماعة من ذوي الرأي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم عروة بن مسعود الذي يسمى عظيم الطائف ، وكان مجدالاً صعباً في حواره دقيقاً في جداله وحجته، ولكنه رأي تجليات الإعجاز ظاهرة وإنقطاع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه ومبادرتهم إلى التبرك بوضوئه وإنصاتهم لكلامه ، ويتغشاهم الوحي وروح القدس ، وعندما رجع عروة بن مسعود إلى قريش قال 🙁 أي قوم لقد وفدت على الملوك .
ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إنْ رأيت مَلكاً يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّداً.. الحديث ( ).
واستمرت وفود قريش وحلفائهم تأتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يجدون إلا الهيبة والعزيمة وسيماء النبوة وحال نقيضة ومضادة لما عليه قريش والكفار ، فأسقط في أيديهم وكان صلح الحديبية الذي هو فتح بذاته ونصر عظيم وبداية حرب جديدة على الفساد بكف أيدي المفسدين، وملاحقة الفساد في عقر داره .
فلما جاء قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] تضمنت سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الحرب على الفساد في المدينة والبلدان وأصقاع الأرض المختلفة ليكون من معاني النهي الوارد في الآية أعلاه أمور:
الأول : دعوة المسلمين للقضاء على الفساد .
الثاني :محاربة المفسدين بالقول واليد .
الثالث : تجلي موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحاجة إليه .
الرابع : الحث على بذل المال والنفس قربة إلى الله عز وجل، ورجاء إستدامة كلمة التوحيد في الأرض وإزاحة مفاهيم الفساد .
الخامس : فتح باب الجهاد والثواب للمسلمين بمحاربة الفساد وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
السادس : من لم يتق الله بالزجر القرآني والموعظة النبوية وسيرة المسلمين يحمل على ترك الفساد بالإكراه وضروب الإبتلاء ، قال تعالى [سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] ( ).
ويحتمل قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]، وجهين :
الأول : مجئ هذا النهي بعد صدور الفساد من المخادعين ، ويكون تقديره على جهات :
الأولى : لا تفسدوا في الأرض كما أفسدتم .
الثانية : كفوا عن الفساد .
الثالثة : لا تفسدوا في الأرض لأنه يضركم .
الرابعة : لا تفسدوا في الأرض لسوء عاقبة المفسدين .
الخامسة : لا تفسدوا في الأرض ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ]( ) .
السادسة : لا تفسدوا في الأرض وبادروا إلى التوبة .
الثاني : النهي عن الفساد في آية البحث إبتدائي، جاء إحترازاً من المنافقين به لإبتلائهم بمرض القلوب وإقترانه بعدم شعورهم به كما ذكرته الآية السابقة ، والصحيح هو الوجه الثاني ، ويكون الوجه الأول في طوله ، وهو من مصاديق فيوضات الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتدل عليه خاتمة الآية بادعائهم الإصلاح ولغة القطع في الآية التالية بتأكيد فساد المنافقين والمخادعين في الأرض.
لقد أراد الله عز وجل بقوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]وما فيه من صيغة العموم عيداً لأهل الإيمان في عموم الأرض ودعوة لهم لتولي الأمرة ودفة الحكم في الأمصار بشرط محاربة الفساد ومنع تفشيه بين الناس، إنها عيد للناس جميعاً لصيرورتها فيصلاً بين الصلاح والفساد، ومناسبة الإجهاز على الفساد من جهات :
الأولى : نزول آيات القرآن بالنهي عن الفساد .
الثانية : صيغة العموم المكاني والزماني في النهي عن الفساد ، إذ تطل آية البحث على الناس في كل زمان وبلد من بلدان الأرض ، لتزجرهم عن القبيح من الأفعال ، وتكون برزخاً دون الضرر والإضرار الخاص والعام، وتبين ضرورة نبذ النفاق والمخادعة وهو موضوع نظم هذه الآيات.
الثالثة : دلالة مفهوم قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]على وجوب الصلاح ليس لقاعدة النهي عن الشيء أمر بضده وحدها بل للآيات التي جاءت بالأمر بالصلاح والوعد الكريم للمؤمنين الذين يعملون صالحاً ، وقد يجتمع الأمر بعبادة الله والصلاح والنهي عن الفساد في بضع كلمات من آية واحدة ، قال تعالى [يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] ( ).
الرابعة : وجود أمة مؤمنة في كل زمان تتلو الآيات التي تنهى عن الفساد ويصل صوتها إلى كل مكان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( ) ويتجلى في الآية اعلاه بخصوص النهي عن الفساد أمور :
الأول :سلامة المؤمنين من الإفساد وتنزههم عن المذموم من القول والفعل.
الثاني :تدل الآية بالدلالة التضمنية على حمل المسلمين لواء الحرب على الفساد والمفسدين .
الثالث : ترتب الأثر على آية البحث بانتشار الإسلام وتحلي المؤمنين بمكارم الأخلاق وعصمتهم من درن الفساد .
الرابع : إتخاذ السلامة والتنزه عن الفساد طريقاً للهداية وعلة لنشر الأمن في ربوع الأرض ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [فِي الأَرْضِ] بسط السلام والأمن في أنحاء المعمورة وأداء المسلمين لواجباتهم العبادية من غير خوف وخشية من الطواغيت ، وهو من عمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : قد يظن بعضهم بانحصار إجتناب الفساد بخصوص المدينة ومجالس وأمصار المسلمين ، فجاءت الآية وأحكامها عامة وشاملة لكل بقاع الأرض .
الثانية : لما قال الله عز وجل للملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )إحتجت الملائكة بأنه يفسد ويسفك الدماء ، فقال الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ومن علمه تعالى أن المؤمن ينهى عن الفساد في الأرض مطلقاً , مع إتصاف هذا النهي بأمور :
الأول : البيان والوضوح وعدم اللبس .
الثاني : توجه النهي إلى المخادعين بالوحي والتنزيل من السماء، وكل آية من جنود الله .
الثالث : حضور هذا النهي يوم القيامة ليكون حجة على الكفار والمنافقين.
الرابع : تعقب آيات النصر للمسلمين لهذا النهي فمن لم يرتدع بهذا النهي يدرك أن فساده في الأرض لم يضر المؤمنين ، ولم يمنع من الفتح وإقامة شعائر الله، قال تعالى [وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ]( ).
الخامس : العموم المكاني للنهي ، فلا يختص ببلد دون آخر ، وفي الآية بشارة الفتح للمسلمين ودخول أمصار وقرى تحت لواء الإسلام، فجاءت الآية زاجراً للمنافقين الذين بين ظهرانيهم أن يرحموا الشيخ الكبير والطفل الصغير ، ولا يعثوا في الأرض فساداً .
وحين أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل إلى مؤتة ( )جنوب الشام أوصاهم: ألا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً، أو امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا معتصماً بصومعة، ولا تقربوا نخلاً، ولا تقطعوا شجراً، ولا تهدموا بناءً.
ولم تصل أنظمة سلامة المدنيين في حال القتال الحديثة، ولا أنظمة الحفاظ على البيئة إلى مضامين هذه الوصية مع قلة كلماتها ، وأوصى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجيش بهذه الوصية مع أن إعداءه كان عقب التعدي على من أرسلهم بكتاب إلى ملك الروم ، ومن المتسالم عليه إعطاء الأمان للسفير والرسول .
وقيل سبب تجهيز هذا الجيش هو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى ملك الروم ، فعرض له والي ملك الروم على البلقاء من أرض الشام شرحبيل بن عمرو الغساني فاوثقه رباطاً ، ثم قام بقتله.
وصحيح أن قتل السفير أمر مشين ومبغوض في أعراف الدول إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يجهز جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل على قضية في واقعة وليواجهوا في معركة مؤتة جيش الروم الذي يبلغ عدده مائة الف ، وقيل ضعف هذا العدد ، ولكنه درس تأريخي للشهادة والزحف المبارك وتحقيق النصر، وعدم حدوث الهزيمة للمسلمين بل إنسحبوا على نحو منظم وبعد قتال مرير .
وقُتل أمير الجيش زيد بن حارثة فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب فقطعت يده اليمنى ، فتناولها بشماله فقطعت ، فاحتضنها بعضديه إلى أن أستشهد فأخذها عبد الله بن أبي رواحة فاستشهد فأخذ الراية خالد بن الوليد، فانسحب بالجيش بعد جولة قتال سريع .
وعن (نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر بن أبي طالب يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شئ في دبره ) ( ).
ويدل هذا الحديث على أن جيش المسلمين لم ينهزم يوم مؤتة مع كثرة جيوش العدو، وأن المسلمين لم يتركوا قتلاهم في العراء، بل وقفوا عليهم ويدل معرفة عبد الله بن عمر لجعفر الطيار من بين القتال وحساب الطعنات والضربات ومواضعها مع كثرتها على إنتفاء الخوف وأسبابه يومئذ.
وتبين الآية الملازمة بين أمور :
الأول : النبوة والتنزيل .
الثاني : التنزه عن الفساد .
الثالث : إنتشار الإسلام ودخول الناس فيه .
الرابع : الأمن في الأرض للحاضر والمسافر والمقيم والغريب، والسيد والعبد ، والذكر والأنثى، وهل من ضروب الفساد وأد البنت وعضل المرأة في قوله تعالى [وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ]( ).
الجواب نعم وكذا فعل الفاحشة الوارد في الآية أعلاه , والنسبة بين الظلم والفساد هي العموم والخصوص المطلق فكل فساد هو ظلم للنفس للذات وللغير المتحد والمتعدد .
لذا فان الآية حرب على الظلم وإزاحة له من ربوع وأطراف الأرض ولتنفذ مبادىء الإسلام في ميادين السياسة والإجتماع والأخلاق ، وانشأت كليات في هذا الزمان خاصة بعلوم الأرض تبحث في البيلوجيا التعددية ، والهندسية والإقتصادية ، والجيوفيزياء ، والمياه الجوفية ونحوها ، وجاءت آية البحث لتكون مقدمة لهذا العلوم وتجلي البركة في الأرض وخيراتها وكيفية الإنتفاع منها ، وورد في التنزيل حكاية عن يوسف وسؤاله للملك في مصر بخصوص إدارة ثروات الأرض [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ] ( ).
وجاءت آية البحث في نظم آيات تدل على أن القرآن هدىّ للمتقين وبيان سلطانهم وعزهم وحلول أيام دولتهم فلا يسأل المسلمون الملك الكافر بأن يتولوا شؤون الوزارة ، بل هم الأمراء بقيد عدم الفساد في الأرض ، وجاءت آية البحث مدداً لهم لهداية الناس جميعاً لسبل الصلاح والرشاد ، فلا يستطيع الناس إحصاء منافع هذه الآية على الناس وتكاثرهم وازدياد أعدادهم ورغد العيش الذي يتنعمون به ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن الفساد سبب لإستئصال الكثير من أفراده ، وحرمانه من النكاح والتناسل ورؤية الذرية، ومن الفساد أن يرى الأب إبنه يقتل أمامه .
ومن الآيات التي تعضد آية البحث قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ) لتكون عوناً للمسلمين باجتناب القتل بغير حق والنفرة من سفك الدماء.
ويحتمل قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]وجوهاً :
الأول :إنحصار النهي بخصوص الفساد جموداً على النص .
الثاني : المراد تعلق النهي بأفراد من الفساد.
الثالث :الآية إنحلالية، والمقصود تعدد مصاديق النهي ليشمل النهي العام عن ذات الفساد والنهي الخاص عن كل فرد من أفراده .
الرابع : إرادة النهي عن الإفساد في الأرض ، والإضرار بالناس .
الخامس : القدر المتيقن من الآية ووفق نظم الآيات النهي عن أمور :
الأول : الكفر والشرك .
الثاني : النفاق .
الثالث : المخادعة .
الرابع : الكذب والإفتراء على الله ورسوله لإختتام الآية السابقة بقوله تعالى [ٍ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ] ( ).
والصحيح هو الوجه الثالث ويكون الخامس في طوله ، ومن مصاديق النهي ، وهو من إعجاز صيغة المبني للمجهول التي جاءت بها الآية ، فالقرآن ينهى عن كليات الفساد ومصاديقها، والمؤمنون ينهون عنها وعن حوادث الفساد التي يقوم بها الأفراد، والمظلوم والذي يقع عليه الفساد يحتج ويشتكي من وطأة وأثر الفساد ، وذات المفسد في مورد وموضوع مخصوص يتأذى من الفساد في مورد وموضوع آخر ،ويقتدي الصالحون بعضهم ببعض ويتسابقون في فعل الإحسان والمعروف , قال تعالى في الثناء على المؤمنين [يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( ).
ولكن المفسدين لا يقتدي بعضهم ببعض من جهات :
الأول: يبعث الفساد النفرة في النفوس من أصحابه .
الثاني : التواكل والتبرأ بين الآمر والمأمور من فعل الفساد ، لذا ورد في ذمهم يوم القيامة قوله تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ).
الثالث : الأثر والضرر المترشح عن الفساد برزخ دون التأسي والإقتداء بين المفسدين .
الرابع : مجيء آية البحث وتلاوتها ومصاديقها الخارجية في صدور النهي عن الفساد ، ومخاطبة المؤمنين والناس للمفسدين بأمور :
الأول : كشف حقيقة الفساد ، وسوء ما يرتكبه المفسدون .
الثاني : النهي الصريح عن الفعل الذي يتصف بالفساد كما لو قال المنافقون إن المشركين زحفوا على المدينة وبالغوا في عددهم وعدتهم ومقاصدهم الخبيثة ، فيكون معنى قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]أي أن المؤمنين يزجرونهم عن الكذب في أصل القول أو المبالغة في عدد وعدة العدو ، وعن بعث الخوف والفزع في قلوب المؤمنين ويكون الرد بلحاظ الآية [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] إننا نريد منكم الإستعداد والتجهز لملاقاة العدو، أو أن المنافقين يثيرون الشكوك في مضمون آية مخصوصة من القرآن أو يقولون بوجود تعارض بين بعض آيات القرآن ، وحينما يدعون إلى تقوى الله ، ولزوم التسليم بالتنزيل يقولون إنما نحن مصلحون ونطلب البيان والتفصيل والتثبت والتأكد من صدق التنزيل ، فيأتي البيان والحسم من عند الله [إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ].
ويحتمل أوان صدور القول : (لا تفسدوا في الأرض ) وجوهاً :
الأول : إبتداء من عند الله عز وجل في آيات القرآن منها قوله تعالى [وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا] ( ).
الثاني :قصص القرآن وخطابات الأنبياء السابقين لأممهم، ولزوم إتعاظ الناس منها ، وورد في التنزيل حكاية عن شعيب قوله تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] ( ).
الثالث : خطابات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإحتجاجه على المنافقين والكفار ودعوتهم للتوبة والإنابة .
الرابع : صدور النهي عن الفساد من المؤمنين والمؤمنات ، وهل ينحصر نهي المؤمنة بالمخادعة من جنس النساء أم عموم المنافقين ، الجواب هو الثاني فيأتي النهي عن الفساد للمنافق من الرجال والنساء وفي المنتديات، وفي البيت ومن عند زوجه وبنته ، وفيه نكتة فان خرج المؤمنون إلى ميادين القتال تقوم النساء بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضح الذين يبثون الإشاعات ويفشون أسرار المسلمين ، ويدخلون الحزن والفزع في قلوب ذويهم ويسببون الإرباك في بيوتهم ، فتتصدى لهم المؤمنات ليكون زجرهم عن الفساد أكبر في حجته وأظهر في لحوق الخزي بالمنافق .
الخامس : صدور النهي من ذات المنافقين والمخادعين بلحاظ أن النفاق من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وأن نسمات الندم والتبصر تطرأ على بعضهم , فتمر سريعاً أو تبقى هنيئة فيصدر منهم الزجر لأصحابهم عن المخادعة خاصة وأن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جلية وظاهرة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث وأسرار مجئ الآية بصيغة المبني للمجهول .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]دعوة المخادعين إلى تقوى الله لأنها الواقية والحرز من الفساد، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ] ( )مما يدل على تعدد صيغ الإنذار والتحذير للمنافقين .
ومن إعجاز القرآن التباين اللفظي في جواب المنافقين والمخادعين بحسب لغة النهي والزجر مع إتحاده موضوعاً وإرادتهم التورية والكذب وإخفاء الجحود ، ففي الآية أعلاه وحين قيل للمنافق اتق الله وهو في حال التولية والتولي يصر على الإثم ، أما في آية البحث فان المنافقين يردون بدعوى الصلاح ويظهرون التنزه عن الفساد، ويحتمل زجرهم عن الفساد بقوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] وجوهاً :
الأول : تلبس المخادعين بالفساد المحض ومجافاتهم للصلاح .
الثاني : خلط المخادعين عملاً صالحاً وآخر سيئاً .
الثالث : غلبت ورجحان كفة الفساد في عمل المخادعين .
الرابع : مجيء الزجر والنهي عن الفساد عند تلبس المخادعين بما هو ضار وباطل وفاسد ، كما في قوله تعالى في ذم المنافقين [وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ] ( )، ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية ،لأن المراد من النهي هو سيادة تقوى الله في أعمال العباد ، وتلقي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والرضا ، والتوبة إلى الله توبه نصوحاً وسلامة النفوس من نية الغش والشك والريب.
وجاء الشطر الأول من الآية بأطراف :
الأول : قائل ينهى عن الفساد مع عدم تعيين هذا القائل .
الثاني :موضوع النهي وهو الفساد .
الثالث : المخاطبون بالنهي.
إذ ورد النهي بصيغة المبني للمجهول (وإذا قيل لهم) فان المنهي عنه ، والمنهي معلومان ، ومن معاني الرحمة والستر وإرادة الإطلاق والدوام لمضامين الأمر والنهي القرآني في قوله تعالى [لَهُمْ]أمور :
الأول : عدم تعيين فرد مخصوص من المنافقين ، وعدم حصر النهي بفريق واحد من أرباب الفساد فتكون عائدية الغير [هُمْ] في الآية على وجوه :
الأول : المنافقون .
الثاني : المخادعون .
الثالث : الكفار والمشركون، وهم بلحاظ ما تقدم من قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ) على قسمين :
الأول : الكفار الذين تم تبليغهم وإنذارهم .
الثاني : الكفار الذين لم يتم إنذارهم، وليس من مصداق واقعي لهذا التقسيم الثنائي ، إذ يأتي النهي للكفار عن الفساد إنذاراً قائماً بذاته ، وفيه آية إعجازية بلزوم تحقق إنذار الكفار إن لم يأت بالأصالة والذات فانه يأتيهم بالمعنى وباللازم الذي يدل على الملزوم بالزجر عن المصداق الذي فيه الكفر والضلالة بلحاظ أن الكفر أكبر الكبائر وأم الفساد، وهو أصل تتفرع عنه مصاديق كثيرة من الفساد .
ومن مصاديق ملك الله للأرض أنه تعالى يعلم ما يقع فيها قال سبحانه [لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ]( )، وفيه تذكير للناس بأن أعمالهم يعلم بها الله عز وجل، ليكون الجمع بينها وبين آية البحث على وجوه:
الأول : بعث الناس على الإيمان وأداء الواجبات العبادية .
الثاني : دعوة الناس للنهل من الصالحات وإكتناز الحسنات .
الثالث : حث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابع : نفرة الناس من الفساد لأن الله يعلمه ولا يرضى به .
الخامس : إنذار المفسدين من الإقامة على الفساد ومزاولته ،لأن فعلهم هذا يعلم به الله الذي له ملك السماوات والأرض .
السادس : إقامة الحجة المتعددة على المنافقين والمخادعين بأن مكرهم وخبثهم من الفساد الذي يعلمه الله عز وجل حال وقوعه ، ويعلم نواياهم ومقاصدهم منه .
السابع : من رحمة الله عز وجل بالناس توجيه اللوم للمفسدين ليكفوا عنه .
الثامن : من مصاديق عدم خفاء شيء في الأرض والسماء على الله أنه سبحانه يعلم التائبين عن الفساد فيتفضل عليهم بالثواب من وجوه :
الأول : الأجر والثواب على التوبة .
الثاني : محو الأثر المترتب على الفساد .
الثالث : الثواب على الصلاح ونشر مفاهيم الصلاح .
البيان في قوله تعالى [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]
إبتدأت الآية بقول مجهولة جهة صدوره لإفادة العموم وبيان إرادة الحجة على المنافقين والمخادعين لما فيه من معاني اللوم والذم والزجر وأختتمت بقول وجواب منهم، ويحتمل في أوانه وجوهاً :
الأول : المقصود زمان تلقيهم للنهي عن الفساد .
الثاني : إمتناع المنافقين والمخادعين عن الجواب بادئ الأمر وبالإختيار.
الثالث : إدّعاء المخادعين الإصلاح متصل ومتجدد سواء قيل لهم لا تفسدوا أو لا .
الرابع : يخبر المنافقون أحياناً عن صلاحهم إبتداء للتمويه والتورية وإضلال الناس.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، والأصل هو الأول بدليل مجئ الآية بصيغة الجملة الشرطية، وتدل على أن قولهم [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] صدر أوان صدور القول [لاَ تُفْسِدُوا].
وذكر أن [إِذَا] في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] للظرفية ولا صلة لها بمعنى الشرط ، وأنها للزمن الماضي وليس المستقبل .
ولا دليل على هذا القصر والتقييد ، ويمكن تأسيس قانون وهو لو تردد الأمر في القرآن بين إرادة زمن مخصوص أم الإطلاق الزماني ، فالأصل هو الثاني، وهو الأنسب في المقام لوجوه :
الأول : إرادة إستدامة حكم الآية القرآنية وعدم إنحصار موضوعها بزمان مخصوص .
الثاني : المدار على عموم المعنى وليس سبب النزول .
الثالث : بيان حقيقة من الواقع وهي أن النفاق ظاهرة موجودة في كل زمان ، ليدل وجود المصداق على إرادة أفراد الزمان الطولية جميعاً من الآية ومجئ [إِذَا] في الآية أعم من معناها عند النحويين وقصد خصوص المستقبل منها.
الرابع : جاءت الآية دعوة للتوبة ، وتجديدها والندب إليها .
الخامس :تبعث الآية الحذر في نفوس المسلمين من المنافقين ، وتدعوهم للتنزه من أخلاق النفاق ،فالآية وإن جاءت لذم وفضح المنافقين فانها حصن وواقية للمسلمين من النفاق ودعوة لهم للتعاون في تنزيه النفوس منه وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
لم يشكر المنافقون الذين أسدوا لهم النصيحة ، وحرصوا على سلامتهم وتحصين عالم العقائد والمجتمعات من الفساد ، بل إدعوا الإصلاح ، وهو مناسبة لأمور :
الأول : الإرتقاء في صيغة الإنذار الموجه إلى المنافقين والمخادعين .
الثاني : تخويف المخادعين من المعصية المركبة والمتعددة التي تتألف من وجوه:
الأول : التلبس بالنفاق والمخادعة .
الثاني : الإصرار على البقاء على خبث السريرة وإخفاء الكفر والضلالة .
الثالث : الصدود والإعراض عن دعوة الحق والهدى .
وجاء قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] بعد صدور أفراد الفساد من المنافقين والمخادعين وصدهم الناس عن إلإيمان ، وبث الفزع والرعب في قلوب المؤمنين ، وتثبيط هممهم في ملاقاة العدو .
ولم يستمر الجدال مع المنافقين ولم يبين الذين نهوهم عن الفساد مصاديقه وإقامه الحجة عليهم به ، بل جاء البرهان والحجة من عند الله بقوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ] وفيه قطع للجدال وفضح المغالطة ،قال تعالى [وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ).
وهل إدّعاء المنافقين الإصلاح ينجيهم من العقاب ويدرأ عنهم صبغة الفساد وما يترتب عليه من الإثم ، الجواب من وجوه :
الأول : يؤتي المنافقون الفساد عن جهالة وغفلة .
الثاني : يرتكب المنافقون المعاصي وأسباب الإضرار بالناس عامة والمؤمنين خاصة عن عمد وقصد .
الثالث : إرادة المنافقين من الفساد وإنما المقصود في قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا] تحذيرهم من إرتكاب المعاصي والفساد ، والصحيح هو الثاني بدليل قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ] والذي جاء حكماً من عند الله عز وجل ، ويدل بالدلالة التضمنية على إقامة المنافقين على الفساد عن قصد وإرادة إن قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] يدل على التبليغ الشخصي لكل فرد من المنافقين والمخادعين بأن يكف عن الفساد ويأتي القول أحياناً بعد إرتكابهم لفرد من أفراد الفساد والضلالة وكانهم يقولون إننا بعملنا هذا نريد الإصلاح مكابرة وخداعاً بدليل الآية السابقة التي تصفهم بالخداع .
بحث بلاغي
إبتدأ هذا الشطر من الآية بأداة الحصر [إِنَّمَا]لإفادة نفي المنافقين عن أنفسهم وأفعالهم الفساد وتقدير جوابهم هو الأول ، لم نقصد ونبغ إلا الصلاح .
الثاني : لم نفعل إلا الصلاح .
الثالث: ليس في أفعالنا ما فيه الفساد والإفساد .
الرابع : لم يصدر منا في السابق إلا الصلاح، ويستدل المنافقون بأنهم إستقبلوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق اللساني وأنهم يحضرون الصلاة ولو على نحو متقطع ، وأنهم يخرجون أحياناً مع المؤمنين في المعارك ، ولم يتواطأوا مع عدو ضد الإسلام والمسلمين .
لقد أرادوا نفي الفساد عنهم في الماضي والحاضر والمستقبل بدليل ورود [إِنَّمَا] وتفيد القصر الذي يجعل الشيء مقصوراً على أمر خاص بصيغة من صيغ القصر , وهو على قسمين :
الأول :القصر الحقيقي وهو الذي يوافق الواقع، ويتصف بالصدق ويمنع من المتعدد خارج القصد ، وتكرر هذا القصد مرتين في قوله تعالى [إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الثاني : الحصر المجازي وهو غير المطابق للواقع ، ويمكن تقسيمه إلى شعب وهي:
الأولى :حصر المبالغة والتفخيم ، كما لو قلت إنما الكريم الذي ينفق ماله كله .
الثانية : قصر الذم والتبكيت، كما لو قلت ليس من بخيل إلا فلان ، وبيان قبح الفعل، وورد عن جابر أن رجلاً أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إِنَّ لِفُلَانٍ فِي حَائِطِي عَذْقًا وَإِنَّهُ قَدْ آذَانِي وَشَقَّ عَلَيَّ مَكَانُ عَذْقِهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ بِعْنِي عَذْقَكَ الَّذِي فِي حَائِطِ فُلَانٍ قَالَ لَا قَالَ فَهَبْهُ لِي قَالَ لَا قَالَ فَبِعْنِيهِ بِعَذْقٍ فِي الْجَنَّةِ قَالَ لَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَا رَأَيْتُ الَّذِي هُوَ أَبْخَلُ مِنْكَ إِلَّا الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلَامِ) ( ).
وقد يقال يحمل كلام النبي أعلاه على الحصر الحقيقي وأنه يكشف سراً من أسرار كنوز الثواب في إفشاء السلام .
الثالثة : الثناء والمدح لفرد أو أمر مخصوص من السمت الحسن وبيان موضوعيته كما في كقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: حسن الخلق أحد مراكب الحياة.
الثالث : القصد الإضافي : وهو قصد ليس حقيقياً ، ولكن يراد منه البيان ودفع وهم بخصوص أمر معين ، كما في قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
وجاء إدعاء المنافقين الصلاح بلغة القصد المجازي والمبالغة وإرادة اللبس والإيهام، فذكر القرآن قولهم هذا لبيان أمور :
الأول :إتصاف المنافقين بادعاء الزور والبهتان .
الثاني : تلبس المنافقين بالفساد وإصرارهم عليه .
الثالث : تجافي المخادعين عن صيغ التوبة ، فلم تأت الآية بدعوتهم إلى الإيمان وإصلاح السريرة إنما إقتصرت على النهي عن الفساد وهو من الإعجاز في مجيئها بصيغة المبني للمجهول [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] وإرادة تعدد جهات صدور القول ، فالقدر المتيقن منه هو النهي عن فساد اللسان وعالم الفعل ، فجاء الرد بالأعم .
جواب المنافقين مخادعة
لم يكتف المنافقون بادعاء الصلاح ، ولم يقولوا(انما نحن صالحون) بلحاظ أن الصلاح ضد الفساد الذي نهوا عنه وفيه مسائل :
الأولى : إدعاء أنهم مصلحون في أقوالهم وأفعالهم ونافعون للغير .
الثانية : إرادة معنى حاجة المؤمنين لهم .
الثالثة : أنهم أصحاب منّة وفضل على الإسلام في سعيهم وعملهم .
الرابعة :مجئ الآية بصيغة الجملة الإسمية [نَحْنُ مُصْلِحُونَ] للإخبار بأنهم يتصفون بالإصلاح على نحو دائم وثابت مما يدل بالدلالة التضمنية على أنهم صالحون في أنفسهم .
الخامسة :إفادة لغة التحدي بأن ينفي المخادعون عن أنفسهم صبغة الفساد في الماضي والحاضر والمستقبل ، وكأنهم يدعون إلى توليهم للأمرة والسلطنة وشؤون الحكم والقضاء والجباية وإمامة الصلاة ، لذا جاء التحذير منهم بقوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ] ( ).
وعن ابن عباس في الآية : معناه أن ممالأتنا الكفار ، إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين )( ).
وتحتمل صيغة دعوى المخادعين الإصلاح وجوهاً :
الأول : إرادة التصريح والإعلان للملأ .
الثاني : إدعاء الإصلاح في المنتديات والمجالس الخاصة.
الثالث :الجدال بالصلاح سراً مع المؤمن الذي ينفردون به.
الرابع : حصر إدعاء المخادعين الصلاح فيما بينهم وإرادة تلقي بعضهم بعضاً الكذب قال تعالى [وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ]( ).
والصحيح هو الأول وقصد المخادعين الإجابة والرد على نهيهم عن الفساد ،وهو من دلائل مجئ الآية بصيغة الشرط [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] وتكون الوجوه الأخرى أعلاه في طوله من غير أن تتعارض معه .
إن دعوى المخادعين الإصلاح إبتلاء وأذى إضافي من جهات:
الأولى : إنه أذى للمؤمنين بأن يصر المنافقون على الخداع ويواصلون التورية والتدليس ويمتنعون عن التوبة.
الثانية : البلاء للمنافقين لأن إدعائهم الإصلاح زيادة في الإثم، وهومن مصاديق قوله تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
الثالثة : الفتنة والأذى الإضافي للكفار وتواطئ وممالأة المنافقين لهم وكأنه إغراء لهم للبقاء في منازل الكفر والضلالة .
الرابعة : إفتتان شطر من الناس بالمخادعين ، وصيرورتهم برزخاً دون تدبرهم بمعجزات النبوة وآيات التنزيل ، فجاءت الآية لفضحهم ومنع الناس من الإنصات لهم ،ليكون من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).تهيئة مقدمات الإيمان وإزاحة العوائق التي تقف دونه بما يجعل الناس يتدبرون في صيغ البشارة والإنذار التي جاءت في القرآن والسنة.
إن إدعاء المنافقين الإصلاح من مصاديق الآية قبل السابقة [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ] ( ) من جهات :
الأولى : الإصرار على الفساد الفعلي والتورية والتغطية عليه فحينما [قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] ( ) ، لم يقولوا ما هو الفساد الذي فعلناه ، والضرر الذي جاء بسببه ، وكيفية التعاون من أجل تداركه ولم يلجأوا إلى الإستغفار ولم يستحضروا أفعالهم في الوجود الذهني أو يطلبوا الشاهد والدليل على الفساد.
ولم يكتفوا بإنكار الفساد ، وهو أدنى مراتب الجواب وفق قواعد المناظرة بل لجأوا إلى النقيض من رميهم بالفساد ليدل بالدلالة التضمنية على تبييت النية على الفساد والمداومة عليه وإرادة غايات خبيثة منه تتقوم بأمور:
الأول : صد الزحف الإيماني.
الثاني : محاربة الإسلام.
الثالث : تشويه مبادئه وتكذيب التنزيل.
الرابع : اللبس والمخادعة للمؤمنين.
لذا جاءت الآية سلاحاً لمحاربتهم ولو إجتمع المسلمون لأداء وظائف هذه الآية الكريمة لعجزوا عنها ولكنهم يكونون عوناً وعضداً لها، وكذا الآية تكون مؤازراً للمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ).
ومنافع هذه الآية على وجوه :
الأول : الإخبار السماوي عن ترك المخادعين وشأنهم .
الثاني : تعدد الجهات التي توجه اللوم للمنافقين على مخادعتهم وفيه خزي إضافي لهم .
وفي قوله تعالى [لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ]ورد عن السدي : أمّا خزيهم في الدنيا فإنه إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم فذلك الخزي ) ( ).
إن آية البحث خزي متجدد للمفسدين في الأرض في كل يوم وهل تكتفي هذه الآيات بدعوة المنافقين للكف عن الفساد حتى وإن بقوا على حال النفاق، الجواب لا ، فيأتي بعد ثلاثة آيات دعوتهم للإيمان بقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]( ).
الثاني : إقرار المخادعين بأن النبي محمداً بُعث للإصلاح، ومن الإعجاز في ردهم أنهم لم يقولوا (إنما نحن المصلحون ) ولم يقصروا صفة الصلاح على أنفسهم لأنهم يدركون أن المسلمين مصلحون ويجاهدون لإصلاح النفوس وتطهير الأرض من دنس الفساد والشوائب المذمومة في الأخلاق وعالم القول والفعل وتقدير قولهم (إنما نحن مصلحون )أي (إننا منكم ومعكم ونسعى معكم للإصلاح) .
وفيه حجة إضافية على المنافقين لذا ورد قوله تعالى بعد ثلاث آيات [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا] ( ).
وهل مبادرة المنافقين للجواب بدعوى الإصلاح من مصاديق قوله تعالى [يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ]( )، الجواب نعم , وهو من مصاديق المخادعة التي يتخذها المنافقون منهجاً ، وكانت سورة التوبة تسمى الفاضحة لأنها تنفذ إلى شغاف قلوب المنافقين وتبين خصالهم وتهتك أستارهم ، مما يدل على ضرر المنافقين في حال السلم والحرب والحضر والسفر ، وحاجة المسلمين لأخذ الحائطة منهم وتعدد فيها قوله تعالى [مِنْهُمْ] لإرادة المنافقين مع الرد والبيان والإحتجاج عليهم ، قال تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي] ( )،[ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا] ( )،[ وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ] ( ).
وهو من عطف الخاص على العام ، وأن إيذائهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متعدد في موضوعه ومتجدد في أوانه لذا جاءت الآية بصيغة الجمع، وهل هذا الإيذاء من الإفساد في الأرض الجواب نعم ليكون من بيان وتفسير قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]( ): وإذا قيل لهم لا تؤذوا النبي محمداً.
وتبين الآيات أعلاه موارد مكر المنافقين مما يدل على مصاحبة أذاهم للمؤمنين في العبادات والمعاملات ، وحال الإستعداد للقتال ومقدماته ، وبعد إنتهاء وكيفية توزيع الغنائم ، وفقد الشهداء، وفي ذم المنافقين قال تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( )، وفي الآية أعلاه مخادعة من وجوه القعود عن القتال .
الثاني : صدّ المؤمنين عن الخروج إلى القتال .
الثالث : لم يكتف المنافقون بالقعود عن القتال والإنسحاب منه ،بل قاموا بتوجيه اللوم إلى المؤمنين الذين خرجوا للقتال دفاعاً عن الإسلام .
الرابع : إدّعاء المنافقين بأن السلامة في طاعتهم والإنصات لقولهم .
الخامس : لوم المنافقين للشهداء بعد قتلهم في سبيل الله ولم يعلموا أنهم [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]وهذا القول من فساد المنافقين وتقدير الجمع بين آية البحث والآية أعلاه من سورة آل عمران على وجوه :
الأول : لا تفسدوا بالقعود عن القتال .
الثاني : لا تفسدوا بتثبيط عزائم المؤمنين .
الثالث : لا تفسدوا في الأرض بلوم المجاهدين .
الرابع : لا تفسدوا بلوم الذين قتلوا لأنهم إستشهدوا في سبيل الله .
ويحتمل قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا] وجوهاً :
الأول :توجه القول إلى المنافقين دفعة واحدة .
الثاني : تجدد نهي المنافقين عن الفساد .
الثالث: تعدد القول والنهي عن الفساد ، مثلما تتعدد جهة صدوره .
الرابع : الآية إنحلالية وتقدير المفرد منها وإذا قيل للمخادع لا تفسد في الأرض .
الخامس : إرادة الجامع المشترك فيأتي القول للمتحد من المنافقين ويأتي أيضاً للمتعدد منهم .
وباستثناء الوجه الأول، فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية، فمن الإعجاز في لغة الشرط والبناء للمجهول [إِذَا قِيلَ]، تعدد وتجدد الزجر عن الفساد وصدورة من ذات الجهة وغيرها ، وقد جاء القرآن والسنة النبوية بالنهي عن الفساد ، ويقوم المؤمنون بالنهي عنه ، ويتلون الآيات التي تدل على قبحه .
وتحتمل إجابة المنافقين (قالوا إنما نحن مصلحون ) وجوهاً :
الأول : تقدم تواطئ المنافقين على هذا القول لدفع التهمة والأذى عن أنفسهم .
الثاني : تلقين بعض المنافقين لبعض إدعاء الإصلاح وقد أنذر الله عز وجل المسلمين بقوله تعالى [وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
الثالث : الآية إنحلالية ، وكل منافق ينفي عن نفسه الفساد ، ويدّعي الإصلاح .
الرابع : تدل الآية على أن المنافقين يأتون فعلاً مشتركاً، فيأتيهم اللوم فينفون عن أنفسهم صبغة الفساد كما في إنسحاب ثلاثمائة منافق عند توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى معركة آحد .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو من مصاديق الآية الكريمة ومن دلالات صيغة الجمع في الآية أمور:
الأول : صيرورة المنافقين طائفة متحدة في القول والعمل .
الثاني : إنذار المسلمين من الضرر القادم من جماعة المنافقين ، فصيغة الحصر والجمع [قَالُوا إِنَّمَا]تحذير إضافي من المنافقين ، وبيان لوجوب الإحتراز منهم ، وجاءت الآية التالية لتخبر بأن الله عز وجل هو الذي ينجي المؤمنين من شرور المنافقين، كما في قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ] ( ).
وهل نهي المنافقين عن الفساد لإرادة صفة كمال أم ان النهي للتنزه عن الأخلاق المذمومة ، الجواب لا تعارض بين الأمرين وهما من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (بُعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق ) ( ).
لأن هذا التنزه حسن بالذات وإرتقاء وسمو في ضروب الفضيلة ومقدمة لمصاديق أخرى من الكمال وخصال جلية من التقوى .
لقد جاء نهي المنافقين عن الفساد بصيغة الإطلاق المكاني [فِي الأَرْضِ] ولم يتضمن منطوق ردهم هذا المعنى إذ اكتفوا بالقول [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة الإصلاح بخصوص المكان والمصر الذي هم فيه ، كما هو حالهم في المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية بلحاظ عدم وجود منافقين في مكة في بداية الدعوة الإسلامية.
وأنهم يحضرون الصلاة مع جماعة المسلمين ، ولم يمنعوا من إقامتها .
الثاني : إرادة عدم قيامهم بالغدر والنهب والسلب عندما يخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون إلى الغزو ، وكذا عندما تغادر سرايا الدفاع .
الثالث : إرادة المعنى الإعم وأن الإصلاح سنخية دائمة لهم .
الرابع : في الآية نوع تعهد لإرادة الإصلاح في المستقبل ،وهذا التعهد على جهات :
الأولى : إقتران التعهد بالتوبة والإنابة من الفساد .
الثاني : إنكار المنافقين لقول أو فعل الفساد حتى وإن جاء اللوم والتوبيخ [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ]بعد فعل مخصوص منهم كتحريض المؤمنين على القعود أو الإحتجاج على قسمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للغنائم .
الثالثة : إقرار المنافقين بما مضى من الفساد وإعلانهم بدأ صفحة جديدة خالية من الظلم والتعدي .
والصحيح هو الوجه الثالث والجهه الثانية من الوجه الرابع ، لذا جاءت الآية بالبيان الذي يدل بالدلالة التضمنية على أمور :
الأول : إقامة الحجة على المخادعين .
الثاني : تبكيت وذم المخادعين وجعلهم عاجزين عن الجدال والمغالطة.
الثالث :إنذار المنافقين بالبلاء ونزول العذاب، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية إعلاه دلالتها بالدلالة التضمنية على حلم الله عليهم ومصابرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عن المنافقين، فان قلت ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال : (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان) ( ).
بينما جاءت الآية بالقول فقط [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] والجواب يفيد الجمع بين الآية اعلاه وآية البحث الترتيب في نهي المنافقين عن الفساد على وجوه :
الأول : النهي عن الفساد والكيد مع المؤمنين .
الثاني : زجر وإنذار المنافقين وحثهم على الكف عن الفساد .
الثالث : بيان رجحان كفة المؤمنين ، وثني الوسادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويدل قوله تعالى [لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ] على أمور :
الأول : علم الله بما في قلوب المنافقين .
الثاني : التحذير من مكرهم ، لأن قوله تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ]يدل على مزاولة ومداولة المنافقين للفعل القبيح .
الثالث : ظهور دولة الإسلام وإقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحدود .
الرابع : وهن وضعف جماعة المنافقين فلا ولاية ولا شفاعة بينهم، وقد ورد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون بالإبتداء بالأدنى وهو القول اللطيف والترغيب بالصلاح ، وبيان ضرر الفساد على ذات فاعله .
وبالإسناد عن إبي العالية قال : (كل ما ذكره الله في القرآن من “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، فـ “الأمر بالمعروف”، دعاء من الشرك إلى الإسلام والنهي عن المنكر”، النهي عن عبادة الأوثان والشياطين) ( ).
ولكن مضامين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعم وتشمل الدعوة إلى العبادات وفعل الصالحات وتهذيب النفوس وتنزيه المجتمعات من المعاصي الكبائر منها والصغائر ، والمختار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل المسلمين فيما بينهم، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
البيان في قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ).
من إعجاز القرآن إبتداء لغة الإحتجاج فيه مع المنافقين والمخادعين ، فلم يبدأ بصيغ الإحتجاج مع الكفار والمشركين ، وفيه بيان من وجوه :
الأول :تأكيد الضرر الفادح من جهة المنافقين .
الثاني : بيان تمادي المنافقين في الغي والمكر .
الثالث : تحذير الناس من النفاق ، وهل تخير الآية الناس بين دخول الإسلام والبقاء على الكفر بلحاظ ان الإنتقال إلى النفاق فساد وضلالة ، الجواب لا ،لان الإنذار والتحذير من النفاق بسبب بقاء إستيلاء الكفر على نفس صاحبه ، وسعيه لمبرز خارجي على اللسان والجوارح عند الأمن من الفضح من العقاب ، قال تعالى [فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ]( ).
الرابع: تحصين صرح الإسلام من الداخل ، لأن المخادعين جزء منه ، حاضرون في حال الحرب والسلم .
الخامس : القبح الذاتي للفساد ، ولم يكتف القرآن بمحاربة خصوص المنافقين بل الملاك على ذم وإجتناب الأخلاق المذمومة، وأرادت هذه الآية إستئصال الفساد من النفوس وفيه آية في الإحتراز تفوق قدرات البشر ،إذ يخفى عليهم حقيقة أن عدوهم الأشد شراسة واذى هو من داخل بنائهم ، مع حداثة هذا البناء وتناقضه مع واقع الكفر ، فالمتبادر للأذهان أن الدعوة الإسلامية جاءت لمحاربة الكفر ، فمن ينتقل إلى مقامات الإيمان وينطق بالشهادتين ويقف في صفوف المصلين خمس مرات في اليوم يكون عند الناس مؤمناً خالعاً لرداء الكفر ، سالماً من مفاهيم خاصة وأنها خاوية لا أصل لها وقائمة على الوثنية والجهالة .
فجاءت بدايات القرآن ببيان المفاجأة العظمى وهي أن هذا الكفر والخالي من أي دعائم لا يزال متخفياً ومبرقعاً في نفوس طائفة من المسلمين، ويظهر بصيغ الخداع والفساد والمغالطة والإصرار على الباطل والتجافي عن الهدى وعدم الإذعان للحق ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ] ( ).
وبعد مجئ أول خمس آيات من سورة البقرة في مدح المؤمنين جاءت الآيات الستة السابقة في بيان خصال المنافقين مع ذمهم ، ومن خصائص هذه الآيات أن كل آية منها تختتم بضروب الإحتجاج على المنافقين في ذات موضوع ومضمون تلك الآية إلا الآية السابقة فانها تضمنت طرفين :
الأول : ما يقال للمنافقين من لزوم نبذ الفساد في عموم الأرض .
الثاني : رد وجواب النافقين بانهم مصلحون ويعمرون الأرض بالصلاح.
ترى لماذا هذا التباين والإنتقال إلى عدم تعقب الرد على المنافقين في ذات الآية ، فيه وجوه :
الأول : بيان موضوعية زجر ونهي المنافقين عن الفساد .
الثاني : الضرر العام المترشح عن سوء فعل المنافقين .
الثالث : حاجة بناء الدولة الإسلامية والعمل بأحكام الشريعة الإسلامية إلى كشف وفضح المنافقين.
الرابع : ترغيب المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان حقيقة وهي أن لوم وتوبيخ المنافقين على فعلهم الفساد من مصاديقه .
ومن أسرار نظم هذه الآيات تقدم درء المفاسد على جلب المنافع والمصالح بلحاظ كبرى كلية وهي درء المفسدة ذاته يكون على وجوه :
الأول : إنه خير محض ونفع عام .
الثاني : دفع المفسدة محبوب طبعاً وشرعاً .
الثالث : فضح ودفع المفاسد مقدمة لجلب المصالح المتعددة .
الرابع : تنزيه الأرض من المفسدة حاجة للناس وطريق للعبادة والتقوى .
الخامس : طرد المفسدة برزخ دون تفشيها وإتساعها وتمادي أهل الغي بها ، وجلب الناس إلى صفوف المفسدين .
ولم تذكر هذه الآيات ذات المفسدة وموضوعها، ولكنها تضمنت النهي عن الفساد ووصف المفسدين لدلالة اللازم على الملزوم ، ولبيان حقيقة وهي تعدد صيغ وضروب الفساد وتجدد فعله وإتيان المنافقين لأفراده، فلم تأت هذه الآية بصيغة الجملة الفعلية ولم تقل (ألا إنهم أفسدوا ) لأنها تفيد القصر على الزمن الماضي ، ولا بالقول (ألا أنهم يفسدون ) بصيغة المضارع ، بل جاءت بصيغة الجملة الإسمية التي تفيد الدوام والثبات وإقامة الحجة على المنافقين بتلبسهم بالفساد وصيرورته سجية ثابتة عندهم، فان قلت إذا كان سجية ثابتة فما النفع من هذه الآية الجواب من وجوه :
الأول : ليس من إستقرار للفساد والإفساد في النفوس وعالم الأفعال، لأنه خلاف الفطرة، قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا]( ).
الثاني : من خصائص بعثة كل نبي محاربة الفساد، وجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإجتناب خصلة الفساد من النفوس وإرادة إخلاص الإيمان عند الذين يدخلون في الإسلام ، وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الإنبياء السابقين ، وبقاء شريعته سالمة من النسخ إلى يوم القيامة .
الثالث :التوثيق السماوي لشدة الأذى الذي كان يلقاه النبي محمد صلى عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله ووجود الأعداء المكشوفين وهم الكفار ، والمستورين وهم المنافقين .
الرابع: جذب الناس إلى منازل الهداية والإيمان، فتأتي الآية بكشف سرائر المنافقين فتكون برهاناً وحجة على الكافر على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل فينفذ الإيمان إلى قلبه دفعة واحدة .
الخامس : تحذير ذات الكفار من فساد المنافقين وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فتشمل رحمة الله بآية البحث الكفار بدعوتهم للإعراض عن المنافقين وإزدرائهم لما يتصفون به من الفساد والخيانة وسمة الغدر التي تتجلى ببقاء النفس على الكفر والجحود ، نعم الكافر لا يزدري المنافق بل يتخذ خداعه ذريعة لبقائه على الكفر والجحود ، فجاءت هذه الآية لزلزلة هذا المفهوم عند الكافر لأنها تتضمن أموراً :
الأول : الزجر عن الفساد الذي هو أمر مبغوض بالذات .
الثاني : بيان قانون كلي وهو أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بداية لانحسار الفساد في الأرض.
الثالث : المنع من تواطئ الكفار والمنافقين على الفساد، وهذا المنع من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فمن علمه تعالى أن آية واحدة من القرآن تكون برزخاً دون التعاون والتآزر بين الكفار والمنافقين للإضرار بالمؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( )ليكون مكر الله عز وجل في المقام على وجوه :
الأول : إستئصال نوايا السوء من العزائم والمقاصد .
الثاني : الحيلولة دون ترجل الهًم بالفساد إلى الخارج وعالم الفعل .
الثالث : جعل المنافقين والمخادعين يلتفتون إلى أنفسهم ويدركون قبح سرائرهم .
الرابع : المنع من التهاون مع المفسدين ، فقد يرتكبون إثماً في محضر المؤمنين ويرون سكوتهم عنهم ، فيظنون أنه تقرير لفعلهم فجاءت الآية لطرد الغفلة عن المسلمين .
الخامس : يدل وصف المخادعين بالفساد على سوء حالهم في الدنيا ، وعدم إنتظام أمور حياتهم اليومية ، فجاءت الآية لإصلاح أحوالهم ، وهذا الإصلاح من مكر الله الذي تجلى برحمته في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أنها تتغشى الناس جميعاً ولا تقف عند دعوتهم للإسلام دعوة عامة ، بل تأتي الدعوة لكل أمة وجيل وفرد على نحو مخصوص ملائم لحاله وشأنه ، وهو من مصاديق قاعدة اللطف وقوله تعالى [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ] ( ).
ولما أخبر الله عز وجل عن كون السماوات والأرض ملك له سبحانه فانه أحاط أهل مملكته بالعناية والرحمة واللطف ، وخصّ الإنسان وهو خليفته بالجذب إلى منازل الهداية والدفع عن مواطن الفساد ، فان قلت إن الآية حجة في ثبوت صبغة الفساد للمنافقين والجواب هذا الثبوت بلحاظ التلبس بالنفاق والمخادعة ، وجاءت الآية للتخلص والتنزه منه فهي فتح لباب التوبة بدليل خاتمتها ونعتهم بأنهم لا يشعرون فمع الشعور بالفساد يكون الإبتعاد عنه .
وَحُكِيَ أَنَّ الْإِسْكَنْدَرَ قَالَ لِحُكَمَاءِ الْهِنْدِ ، وَقَدْ رَأَى قِلَّةَ الشَّرَائِعِ بِهَا : لِمَ صَارَتْ سُنَنُ بِلَادِكُمْ قَلِيلَةً ؟ قَالُوا : لِإِعْطَائِنَا الْحَقَّ مِنْ أَنْفُسِنَا ، وَلِعَدْلِ مُلُوكِنَا فِينَا . فَقَالَ لَهُمْ : أَيُّمَا أَفْضَلُ ، الْعَدْلُ أَوْ الشُّجَاعَةُ ؟ قَالُوا : إذَا اُسْتُعْمِلَ الْعَدْلُ أَغْنَى عَنْ الشُّجَاعَةِ ( ).
وجاءت الآية الكريمة لتخاطب الناس جميعاً بالفعل المبهم في جهة صدوره للشجاعة في مخاطبة النفس للتسامي عنه والفرار من مخادعة المؤمنين والإنتقال إلى شاطئ الأمان باتباع الصراط المستقيم , والتجافي عن مسالك الفساد.
ومن خصائص هذه الآية أنها دعوة للإنسان لإصلاح باطنه وظاهره لأنها تدفعه عن مواطن الفساد وتحذره من المفسدين وإن إدّعوا بأنهم مصلحون ، فان قلت قد يحصل لبس عند الناس لإجتماع النقيضين ، فيقول المؤمنين أنهم مصلحون ، وكذا يقول المنافقون والمخادعون.
والجواب تضمنت هذه الآيات الفصل والتمييز بين الفريقين بذكر خصال المنافقين ومصاديق الفساد التي يتصفون بها وتصدر عنهم من جهات:
الأولى : نفي الإيمان عن المفسدين مع إدعائهم له باللسان بقوله تعالى [َمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ].
الثانية : مرتبة المنافقين بالمخادعة والتدليس على الله والمؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتفضل الله عز وجل وأخزاهم بهذه الآية وهو من مصاديق ملكية الله للسموات والأرض، وأنها تعني الربوبية المطلقة ومنها الزجر عن مخادعته سبحانه، والإخبار عن العذاب الأليم لأهل هذه المخادعة في الآخرة، وعن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه: سئل فيما النجاة غدا ؟ فقال : النجاة لا تخادعوا الله فيخدعكم ، فانه من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الايمان ونفسه لو يشعر ، فقيل له : فكيف يخادع الله ؟ قال : يعمل بما امره الله ثم يريد به غيره ، فاتقوا الله فاجتنبوا الرياء فانه شرك بالله ، ان المرائى يدعى يوم القيمة بأربعة اسماء : يا كافر ، يا فاجر ، يا غادر ، يا خاسر ، حبط عملك وبطل أجرك ، ولا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له( ).
وهل لوم المخادعين على الفساد من مصاديق قوله تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]( ) الجواب نعم , وفيه وجوه:
الأول : إرادة مخاطبة المسلمين بالحسن .
الثاني : القدر المتيقن من الحسن في المقام هو الكلام الخالي من العتاب واللوم .
الثالث : المراد من الآية أعلاه هو الدعوة إلى التوحيد ، وعن ابن عباس قال : (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أمرهم أن يأمروا بلا إله إلا الله من لم يقلها) ( ).
والصحيح أن نهي المنافقين والفساق والمخادعين والكفار عن إظهار المعاصي من مصاديق الآية أعلاه لأن هذا النهي من القول الحسن وعن (الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله { وقولوا للناس حسناً } قال : يعني الناس كلهم ) ( ).
ومن إعجاز الآية أنها لم تذكر أسباب الفساد من الحسد والكبر وحب الجاه والرئاسة وغلبة النفس والعجب والرياء وأولوية شهوة البطن والفرج لأن الفساد بذاته مذموم ، وإجتنابه مدخل كريم لحب الله ، وتنمية ملكة العفة والحلم وإمامة العقل للجوارح والأعضاء ، وحلول الحكمة بدل الغفلة وطرد الإيمان لبقايا الشرك والشك من النفوس .
لقد أراد الله عز وجل من النفوس بعث الشوق فيها وفي الجوارح والأركان إلى لقائه ، والتبصر بعاقبة الدنيا الفانية ، والإنقباض عن الشهوات وترك محاربة أهل الصلاح ، ومما يستدل به على جواز ذم أهل الفساد والريب ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: مَا أَظُنُّ فُلاَنًا وَفُلاَنًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا) ( )، وذكر أن أحد رواة هذا الحديث قال : هذان الرجلان كانا من المنافقين .
إن النهي القرآني عن الفساد حرب على أسبابه ، وإقتلاع لجذوره، وتنقية للنفس منه ، وجعل الإنسان يشعر بثقل وقبح تلك الأسباب فان قلت إنها متراكمة ومتشعبة ومقارنة لصاحبها سني عمره والجواب جاءت هذه الآية لتطردها مرة واحدة وتبدل هيئة الظلمة في النفس بالنور ، إن الفساد أمر عرضي طارئ على أفعال الإنسان فلا حاجة لذكر اسبابه وما في هذا الذكر من إشاعة لها وتنبيه عليها وليس لها شأن أو موضوعية في حياة الإنسان وحتى صاحبها تراه ينفي وجودها عنده فينكر أهل الختل والخداع أنهم مفسدون مما يدل بالدلالة التضمنية على قبح الفساد وأسبابه ، وفيه شاهد بأن الدنيا دار المعرفة وكسب العلوم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ).
إن أسباب الفساد متزلزلة عند صاحبها ، وقد تزول ولكنه إعتاد التلبس بأخلاق دنيئة ، وفي التنزيل [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] ( )وآية البحث وما فيها من النهي عن الفساد رحمة من عند الله تأتي على الدرن الذي في النفوس فتزيحه عنها ، وهو من الإعجاز في مجئ النهي في هذه الآية عن الفساد بعد قوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا]( ) وبيان قانون من رحمة الله وهو أن مرض القلوب وزيادته من عند الله ليس برزخاً ومانعاً دون الصلاح والتنزه عن الفساد خاصة وأن المفسدين لم يتركوا وشانهم من التمادي في الغي والعتو إذ جعل الله عز وجل المسلمين ينهونهم عن الفساد ، ويكونون مرآة للصلاح ودعاة لحمل الزاد إلى الآخرة ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
وقيل المراد (أنهم مفسدون ) لأن الكفر فساد في الأرض ، وفيه جحود بنعمة الله ، ولكن المعنى أعم ولا ينحصر بخصوص الكفر إذ يشمل الفساد بلحاظ نظم هذه الآيات أموراً :
الأول : إّدعاء الإيمان كذباً وزوراً .
الثاني : بقاء درن الكفر في القلب فساد في الذات والأثر .لذا ورد قبل آيتين [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ]( ).
الثالث : مخادعة الله والذين آمنوا عن قصد ونية، وهو من معاني صيغة المفاعلة التي جاءت بها الآية الكريمة.
الرابع : خداع المنافقين لأنفسهم فساد محض من جهات :
الأولى : الإضرار بالذات والإصرار على مخالفة الحق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] ( ).
الثانية : التخلف عن الوظائف العبادية .
الثالثة : الإمتناع عن قبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابعة : نشر مفاهيم النفاق والكفر .
الخامسة : إختيار الإمتناع عن التدبر في الآيات .
السادسة : التسبب بجلب الغشاوة على البصر والبصيرة لذا قال تعالى [وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ]( ).
السابعة :ترشح إيذاء الغير عن خداع النفس عن قصد أم من دون قصد وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الخامس :عدم إدراك المخادعين إضرارهم بأنفسهم بتراكم الآثام والأحمال على ظهورهم .
السادس : دلالة قوله تعالى [وَمَا يَشْعُرُونَ] بالدلالة التضمنية على ذم وتبكيت المخادعين والمنافقين ، وبيان حال الدنو التي صاروا عليها ببسب النفاق والجحود بالمعجزات والحق ، فعطلوا حواسهم في الموضوع الأهم في الحياة الدنيا وهو كونها مزرعة للآخرة ودار إمتحان وإختبار يحتاج إجتيازهما سلاح ونعمة الحواس والعقل والقلب والنفس لتسخيرها في طاعة الله ورجاء رفده ونزول رحمته وعفوه في الدنيا والآخرة ، وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد في التنزيل [قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أن كل كلمة منها تفيد التنبيه وتوكيد المعنى وهي:
الأول : [أَلاَ] الإستفتاحية وهي أداة تنبيه وتأكيد.
الثاني :[ إِنَّ] حرف تأكيد .
الثالث : ضمير الفصل [هُمْ] يفيد الحصر والتوكيد كما في قوله تعالى وفي ذم المنافقين ايضاً [هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ]( ) ليتضمن الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث قانوناً وهو أن المفسد عدو المؤمنين لأنه يريد منع بناء صرح الإيمان ومكارم الأخلاق ، وقد ورد في الثناء على المؤمنين [وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ] لبيان حقيقة وهي مع مكر وكيد المخادعين بلغ المسلمون مرتبة الهداية وهم يتعاهدونها على نحو دائم .
الرابع : مجئ الألف واللام [الْمُفْسِدُونَ] التي تفيد تأكيد تلبسهم بالفساد وإستحقاق الإشارة إليهم بهذه الصفة .
ومن إعجاز القرآن عدم ورود لفظ [الْمُفْسِدُونَ] إلا في آية البحث ، ليكون فيه تأكيد وإنذار إضافي على قبح فعلهم، قال تعالى [وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ] ( ).
ويحتمل نعت المفسدين بالإفساد سعة وضيقاً وجوهاً :
الأول : إرادة الإفساد بالقول واللسان دون العمل .
الثاني : المقصود الإفساد في القول والعمل .
الثالث : الإفساد بخصوص الأقرب للمخادعة من الناس دون الأبعد .
الرابع : التعدي والإفتراء عند غياب المسلمين وخلو الموضع والمنتدى منهم، أو عند خروجهم إلى الغزو وفي السرايا .
الخامس : إثارة الريب والإفساد على كل حال .
والصحيح هو الأخير ، لأصالة الإطلاق ، وهو ظاهر الآية الكريمة ومجيؤها بلغة الذم والتبكيت للمخادعين .
ولا ينقطع الأمر عند نعت المنافقين بالمفسدين ، بل إنه تحذير وإنذار لهم للتوبة والكف عن المخادعة والرياء ، وزجر للناس من الإنصات لهم ومحاكاتهم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ]( ) ليكون وصف المنافقين بالمفسدين نوع إعجاز وتحد يتضمن الوعيد بالجزاء العاجل.
البيان في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( )
تكرار لفظ [وَإِذَا]في أول الآية قبل السابقة وهذه الآية التالية وورد مرتين بلفظ [َإِذَا قِيلَ لَهُمْ]ثم ثالثة بلفظ [وَإِذَا لَقُوا]وفيه تأكيد على توجه الإنذارات للمخادعين وتعاقبها وتعدد جهة صدورها، وفيه بيان من وجوه:
الأول : تعدد القول والزجر رحمة بالمنافقين ، وكأنه ثواب لنطقهم بالشهادتين وإنفصالهم عن الكفار بإعلان الإسلام ظاهراً وإن بقوا على ملتهم في الباطن والخفاء .
وهل هذا الإعلان من مصاديق قوله تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه] ( ).الجواب لا ،لأن الآية أعلاه جاءت بخصوص عمل الخير وثوابه في الآخرة مع موضوعية قصد القربة فيه .
الثاني : جاء قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا]بعد تكرار [َإِذَا قِيلَ]مع إتحاد الجهة التي تتلقى القول وتلقى المؤمنين ، وفيه دلالة على إصرار المنافقين على الخداع والمكر والتدليس .
الثالث : تعدد النصح والإنذار الذي يتوجه للمنافقين ، ودعوتهم للتوبة والإنابة .
الرابع : إقامة الحجة على المنافقين .
وجاءت الآية بصيغة المبني للمجهول الذي يفيد الإبهام ، وفية مسائل:
الأولى : إرادة العموم وأن هذا القول صدر ويصدر من أي جهة أو جماعة.
الثانية : وهل دعوة القرآن لهم [آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ]( )، من مصاديق (إذا قيل لهم) أم أنه خارج القدر المتيقن ، الجواب هو الأول ،لأن القرآن يتضمن الأمر بالإيمان والدعوة إلى الهدى , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ]( ).
الثالثة : ترغيب المسلمين وغيرهم بدعوة المخادعين إلى الإسلام ونبذ العناد والإستكبار.
الرابعة : تعدد أصناف وفئات الذين يقولون للمخادعين آمنوا بلحاظ كثرة وتوالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجليها للناس سواء الحسية منها أو العقلية.
الخامسة : الإخبار عن حقيقة وهي أن المخادعين وإن توجهت الدعوة لهم للإسلام ، فانهم يتلقونها بالإستهزاء والسخرية .
السادس : جاءت الآية لبيان سنخية المخادعين وإصرارهم على الكفر والجحود.
ومع أن الإيمان هو الأصل والواقية من الفساد ، فقد تقدم قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]على قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا]وفيه مسائل :
الأولى : نفرة الناس جميعاً من الفساد ، وإقرار العقلاء على ما فيه من الأذى والضرر.
الثانية : تقول لهم الآية إن لم تؤمنوا وتحجبوا عن أنفسكم منافع الإيمان فلا أقل إجتنبوا الفساد .
الثالثة : بيان قانون كلي وهو إن ترك الفساد مقدمة ومناسبة للتدبر بالآيات ودخول الإسلام .
الرابعة : بيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يدع لنفسه إنما يدعو إلى الصلاح ونشر مفاهيم الإحسان بقصد القربة إلى الله عز وجل .
الخامس : تقوم الإيمان بالدعوة إلى ترك مستنقع الفساد .
السادس : تأديب المسلمين وإرشادهم إلى الأمر بالمعروف ،وحث الناس على هجران الفساد .
السابع : ترغيب الناس بالتوبة والكف عن فعل السيئات ، وإرتكاب المعاصي والفواحش .
الثامن : بيان علة غائية لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وهي تنزيه الأرض من الفساد، قال تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ] ( ).
التاسع : كثرة الأفراد والجهات التي تزجر المخادعين عن الفساد وبيان حقيقة وهي الناس لم يحاكوهم في الفساد ولم يسكتوا عنهم بل زجروهم عن الفساد بصيغة النهي الصريح ، وفيه إعلان للبراءة من المفسدين ، ويدل عليه مجئ آية البحث بصيغة الغائب آمنوا كما آمن الناس، أي أن في الآية أطرافاً وهي :
الأول : الذين يدعون المخادعين إلى الإيمان .
الثاني : المخادعون الذين يتلقون الدعوة إلى الإيمان والحث على ترك الفساد .
الثالث : المؤمنون الذين صاروا أسوة لغيرهم ، وحجة عليهم بلزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن بركات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن موضوع القول بين الناس يتألف من أمور :
الأول : النهي عن الفساد.
الثاني : الدعوة إلى الإيمان .
الثالث : الثناء على المسلمين والحث على الإقتداء بهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وتبين الآية منعة وقوة الإسلام ، والمنزلة التي بلغها في القلوب والمجتمات ،فلم تذكر الآية دعوة الكفار للناس للجحود بل ذكرت دعوة الناس لهم للإيمان ، مما يدل على إنحسار الكفر والنفاق وصيرورة كل واحدة في مقام الإعتذار بالمخادعة والإقتداء .
فلم تنزل آية البحث في بداية الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة إذ كانت قريش تؤذي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويظهر أقطابها التكذيب بنبوته علناً ويؤذون أهل البيت والصحابة خصوصاً المستضعفين ، كما في العذاب الذي لاقاه بلال بن رباح من أمية بن خلف وهو من كبراء قريش ،فقد أخبره احد المشركين أن بلالاً وهو عبد لأمية دخل الإسلام ، وأنه شوهد يختص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ،وانتظر أمية رجوع بلال إلى البيت والشرر يتطاير من عينيه ، وجاء بلال قبل الغروب كعادته فلما فاجأه أمية بالسؤال الإستنكاري عن دخوله الإسلام ، لم ينكر بلال الأمر بل أقر بفخر وإعتزاز بايمانه بالله وتصديقه بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واحتج عليه أمية بأنه مملوك لا يملك من أمره شيئاً ، ونسي أن النبوة عامة للسيد والعبد والذي يصدق بها إختار السيادة والعز لنفسه لقوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وهو من مصاديق [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ] ( ) والعموم في نبوته من مصاديق إتصافها بالرحمة للناس جميعاً .
وأراد أمية إتخاذ تعذيبه لبلال زاجراً لغيره من دخول الإسلام وتحريضاً وتأليباً على المسلمين ، وكانت العاقبة أن هذا الظلم وشدة التعذيب سبباً بهلاك أمية بن خلف وابنه في ساعة واحدة وبعد إنقضاء معركة بدر .
وعن عبد الرحمن بن عوف: كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة، وكان اسمى عبد عمرو فتسميت حين أسلمت عبدالرحمن، فكان يلقانى ونحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبوك، فأقول: نعم. فإنى لا أعرف الرحمن، فاجعل بينى وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الاول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف.
قال: وكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه. فقلت له: يا أبا على اجعل ما شئت.
قال: فأنت عبد الإله. قلت: نعم.
قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله.
فأجيبه فأتحدث معه.
حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه علي وهو آخذ بيده، قال: ومعى أدراع لى قد استلبتها فأنا أحملها، فلما رآني قال: يا عبد عمرو فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله.
فقلت: نعم.
قال: هل لك فيّ فأنا خير لك من هذه الادراع التى معك ؟ قلت: نعم ها الله( ).
قال: فطرحت الأدرع من يدى وأخذت بيده وبيد ابنه، وهو يقول ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن( ) ؟ ثم خرجت أمشى بهما.
قال ابن إسحاق: حدثنى عبد الواحد بن أبى عون، عن سعد بن إبراهيم، عنأبيه، عن عبدالرحمن بن عوف، قال: قال لى أمية ابن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذا بأيديهما: يا عبد الاله من الرجل منكم المعلم بريشه نعامة في صدره ؟ قال: قلت: حمزة قال: ذاك الذى فعل بنا الافاعيل.
قال عبدالرحمن: فو الله إنى لاقودهما إذ رآه بلال معى، وكان هو الذى يعذب بلالا بمكة على الاسلام، فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قلت: أي بلال، أسيرى، قال: لا نجوت إن نجا.
قال: ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا.
فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة( )، فأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط.
قلت: انج بنفسك ولا نجاء (بك)، فو الله ما أغنى عنك شيئا.
قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما.
قال: فكان عبدالرحمن يقول: يرحم الله بلالا، فجعني بأدراعي وبأسيري ) ( ).
وبلحاظ هذه المواعظ يكون من معاني [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]( )، على وجوه :
الأول : آمنوا قبل فوات الأوان .
الثاني : دعوة الكفار والمخادعين إلى النجاة بأنفسهم .
الثالث : الإيمان واقية من عذاب جهنم في الآخرة ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ) ، ولم يرد لفظ [الَغَفَّارٌ]في القرآن إلا في هذه الآية ، وهو بشارة ووعد كريم وترغيب بالتوبة ، قال تعالى [وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ]( ).
إن نعت المسلمين بالناس وإقترانه بالإيمان دلالة على حسن إختيارهم وصيرورتهم أسوة لغيرهم ، وفيه دليل بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تضفي على البشر صفة الإنسانية وتعيدها إلى الفطرة وأصل الخلقة الذي يتقوم بعبادة الله وهل تدل الآية على خروج المسلمين من أصحاب دعوة المخادعين للإيمان بلحاظ أن ذكرهم جاء بصيغة الغائب والأسوة الغيرية، الجواب لا ، من جهات :
الأول : المسلمون ضمن الدعاة إلى الإسلام في الآية ليقتدي المخادعون بسنتهم وسيرتهم، وليس عندهم إلا صراط واحد مستقيم، وعن الإمام علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله « وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ، ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية ، كانوا على ما كرهته من معصيتي ، ثم تحوّلوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحوّلت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي؛ وما من أهل بيت ولا قرية ولا رجل ببادية كانوا على ما أحببت من طاعتي ، ثم تحولوا عنها إلى ما كرهت من معصيتي ، إلا تحولت لهم عما يحبون من رحمتي إلى ما يكرهون من غضبي( ) .
الثاني : تعدد وكثرة المسلمين ، ويكون بعضهم دعاة للناس للإقتداء ببعضهم الآخر .
الثالث : إرادة إنتشار الإسلام ودخول الناس له أفواجاً ، بحيث يكون المثال الأمثل منهم ظاهراً لأي فرد من المنافقين والمخادعين .
الرابع : إتحاد سنخية المسلمين في سبيل التقوى والصلاح فكل فرد منهم يصلح لمرتبة الأسوة .
الخامس : بلوغ المسلمين مرتبة الحجة ، وبهم وبإيمانهم تكون الدعوة إلى الله.
السادس : تنزه المسلمين عن الفساد وبيان التضاد بين الإيمان والفساد ، لأن الآية السابقة تنهى المخادعين عن الفساد وجاءت الآية لدعوتهم بالإقتداء بالمسلمين في الإيمان مع أن ضد الفساد هو الصلاح ،وضد الإيمان هو الكفر ، فلم تدعوهم هذه الآية إلى الإصلاح بلحاظ نظم الآية السابقة ، بل دعوتهم للإقتداء بالمسلمين في الإيمان ، ولم يحتج المخادعون بسوء فعل صادر من المسلمين بل قالوا [أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] ( ) ليدل بالدلالة الإلتزامية على أمور :
الأول : المخادعة والنفاق من الكفر .
الثاني : التضاد بين الإيمان الصادق وبين المخادعين في المقام إخفاء الكفر، وصدور أقوال وأفعال منافية للإيمان بقصد التورية والمكر بالمسلمين والإضرار بهم ، ليكون بينها وبين النفاق عموم وخصوص مطلق ، فالمخادعة هي الأعم ، وهل فضحها والإجهاز عليها فضح للنفاق وحرب عليه , الجواب نعم ، وهو آية من إعجاز القرآن بأن يأتي الزجر والنهي عن العام ليشمل الخاص .
وورد لفظ السفهاء خمس مرات في القرآن ( )،وهذه الآية هي الوحيدة التي ورد فيها هذا اللفظ مرتين ،فهل يصح أن تسمى آية (السفهاء ) الجواب لا، إنما تتضمن الآية ذم السفهاء ، ولا يجوز نعت الآية بصفتهم وجعلها ولو في ذات الاسم وحده خاصة بطائفة من المخادعين، بل جاءت الآية بفضحهم والدعوة للنفرة منهم .
وتبين الآية بغض وكره المخادعين للمسلمين لتدل بالدلالة التضمنية على تحذير وإنذار المؤمنين وتدعوهم إلى الإستعداد للمواجهة وتعدد صيغ الأذى والضرر الموجه من المخادعين إلى صرح الإسلام، وورد في قصة أهل الكهف وخشيتهم من القوم الظالمين [إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ]( ).
فجاءت آية البحث واقية وحرزاً للمؤمنين من بطش المخادعين والكفار إذ أن رميهم المؤمنين بالسفه مكر وكيد وتحريض عليهم بالقول ، ومقدمة للمكر باليد والفعل والتواطئ مع كفار قريش على الإجهاز على الإسلام وفيه شواهد عديدة ، فمثلاً كعب بن الأشرف ينتمي إلى قبيلة طي ، ثم من بني نبهان ، ولكن أمه من بني النضير فاصبح أميراً عليهم وكان غنياً وموصوفاً بالجمال وحين جاءت البشرى إلى المدينة بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر ، وقتل صناديد قريش هاله الأمر وقال 🙁 هؤلاء اشراف العرب وملوك الناس والله ان كان محمد اصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها) ( ).
وخرج إلى مكة ينشد الأشعار في رثاء أصحاب القليب من كبراء كفار قريش ويسأله أبو سفيان والمشركون ، أديننا أحب اليك أم دين محمد وأصحابه ؟ وأي الفريقين أهدى سبيلاً فقال : انتم أهدى سبيلاً وأفضل ، وفيه نزل قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً]( )، وعندما رجع إلى المدينة أخذ يهجو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ويمتدح عدوهم وأخذ يشبب بنساء النبي والمؤمنات ، فأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتله فابتدر ثلاثة من الأنصار أحدهم أخوه من الرضاعة وقتلوه في ليله مقمرة ، وعندما وقع صاح صيحة شديدة مدوية ، فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه النيران ولما شاع قتله دب الفزع والرعب في قلوب المخادعين والكفار ، وأدرك السفهاء ضلالة ما هم عليه ، وفيه دلالة بان قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ] إنذار وتحذير لهم ، ودعوة للكف عن التعدي باللسان على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
إكرام المسلمين
وتتقدم ذكر المؤمنين والثناء عليهم وذكر الكافرين بصيغة الذم ، وجاءت هذه الآية في ذم المخادعين ونعتهم بصيغة التبعيض [وَمِنْ النَّاسِ] ،أما هذه الآية فجاءت بلفظ الناس الذي يدل على اسم الجنس ، مع ان المقصود هم المؤمنون الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم :
الأول : المهاجرون .
الثاني : الأنصار من الأوس والخزرج .
الثالث : الذين آمنوا من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأخيه ونحوهما وقيل : (وإنما أدخِلت الألف واللام في”الناس”، وهم بعضُ الناس لا جميعُهم، لأنهم كانوا معروفين عند الذين خُوطبوا بهذه الآية بأعيانهم، وإنما معناه: آمِنُوا كما آمَن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر. فلذلك أدخِلت الألف واللام فيه، كما أدخِلَتا في قوله:( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ لأنه أشِير بدخولها إلى ناس معروفين عند مَن خُوطب بذلك) ( ).
والمثال صحيح، إذ يتعدد ذكر الناس في إرادة فريقين منهم مع إتحاد الموضوع، ولكن كلاً من الآيتين لها معان متعددة ودلالات عقائدية بلحاظ مناسبة الحكم والموضوع .فجاء اللفظ بصيغة العموم ، وفيه إعجاز من وجوه:
الأول : إن المؤمنين هم الناس ، وهم خلفاء الله في الأرض وورثة الأنبياء في حمل راية التوحيد (وسئل الحسن بن علي عليه السلام من الناس؟ فقال : نحن الناس ، وأشياعنا أشباه الناس ، وأعداؤنا النسناس ، فقبله علي عليه السلام بين عينيه ، وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته) ( ).
الثاني : بيان شرف رتبة الإنسانية وملازمتها للهدى والإيمان .
الثالث :تأكيد قبح الكفر وكيف انه يطيح بصاحبه من منازل سنخية البشر قال تعالى [أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ]( ).
الرابع : التأكيد على نعمة العقل ومصاحبة صفة الإنسانية لما يقود له العقل من وجوب الإيمان بالله والنبوة والكتاب .
الخامس : بيان سمو منزله الإيمان وأن الذي يبلغها يستحق الوصف بأنه إنسان وهو من مصاديق وتأويل قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
السادس : بيان حقيقة إتصاف المسلمين بالكمالات الإنسانية بالهداية إلى الإيمان والتصديق بالوحي والتنزيل وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )لتكون هذه الآية في المرتبة الأعلى التي يسعى إليها العقلاء في الدنيا وهي التي توصلهم إلى النجاة يوم القيامة.
وتعني الآية في مفهومها : بانكم أيها المخادعون إذ كنتم من جنس الناس فاتبعوا سبل الإيمان وإجتنبوا الفساد .
ولما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) جاء الرد من عند الله عز وجل بأنه سبحانه يعلم ما لا تعلمه الملائكة ، فتجلى في هذه الآية والآية السابقة من وجوه :
الأول :ذم المفسدين ، وجعل النفوس تنفر من الفساد .
الثاني : توالي وتعاقب النهي عن الفساد في الأرض مما يدل على وجود أمة في كل زمان تنهى عن الفساد .
الثالث : حصر المفسدين وجهتهم وهو المخادعون والكفار وليس من حصر أو قصر للذين ينهون عن الفساد لدلالة لفظ [قِيلَ لَهُمْ]الذي يفيد لغة العموم في القائلين والناهين عن الفساد والحصر والتقييد في طرف المنهي عن الفساد .
الرابع : التسالم بين الناس على أن الفساد منكر يجب الإمتناع عنه وإجتثاثه من الأرض ، فحتى المفسدين لم يدافعوا عن الفساد أو فعله ولم يقولوا بتضمنه للذة مخصوصة بل أنكروا فعله جملة وتفصيلاً .
وهذه السنخية عند الناس من عمومات قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ، بلحاظ أن إنكار الناس جميعاً للفساد من مصاديق نفخ الروح في آدم ، وهل هذا الإنكار مصاحب للإنسان إلى يوم القيامة ، الجواب نعم لبقاء هذه الآية غضة طرية ويتلقى المفسدون في كل زمان النهي والتوبيخ والزجر عنه وهم ينكرون فعله ، ومع هذا النهي والإنكار يدخل فريق من الكفار والمخادعين الإسلام بينما لا يغادر المؤمنون مقامات الكمالات والسمو التي جذبهم الله عز وجل لها بلطفه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
ومن مصاديق التشبيه في الآية [كَمَا آمَنَ النَّاسُ] هو وجوب الإيمان بالقول والفعل ، وبالظاهر والباطن وترك النفاق وإخفاء الكفر لأنه رذيلة خلاف مصاديق الإنسانية التي يترشح عنها الإيمان والتصديق المحض بالرسالة وهو من وجوه الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومضامين قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]بأن يكون الناس على ثلاثة أقسام :
الأول : المؤمنون الذين صدّقوا بالرسالة وآمنوا بالتنزيل والمعجزات، واتبعوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
وعن إبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء : الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، والذي أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ، ثم الذي إذا أشرف على طمع تركه لله) ( ).
الثاني : المنافقون إختاروا المخادعة والإحتيال والختل في دعوى الإيمان مع إنكاره في القلب .
الثالث : الذين يدعون إلى نبذ الإيمان ونبذ الفساد ويحثون على إتخاذ الدنيا فرصة سانحة ومناسبة كريمة لبلوغ أسمى مراتب العز والأمن والنعيم في الآخرة بالإيمان قلباً ولساناً ، (أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب قال : قال الحواريون : يا عيسى من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى عليه السلام : الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها ، وأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم ، فصار استكثارهم منها استقلالاً وذكرهم إياها فواتاً ، وفرحهم بما أصابوا منها حزناً ، وما عارضهم من نائلها رفضوه ، وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه ، خلقت الدنيا عندهم فليس يجددونها ، وخربت بينهم فليس يعمرونها ، وماتت في صدورهم فليس يحبونها ، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم ، ويرفضونها فكانوا برفضها هم الفرحين ، وباعوها فكانوا ببيعها هم المربحين ، ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المثلات فاحبوا ذكر الموت وتركوا ذكر الحياة ، يحبون الله تعالى ويستضيئون بنوره ويضيئون به ، لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب ، بهم قام الكتاب وبه قاموا ، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا ، وبهم علم الكتاب وبه علموا ، ليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا ، ولا أماني دون ما يرجون ، ولا خوفاً دون ما يحذرون)( ).
وفي الآية بشارة للمسلمين بإجتياز مرحلة الإستضعاف والفاقة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )بتقريب ، أن النصر في معركة بدر أعم من أن ينحصر بحال القتال ، بل يشمل العز والهيبة وعظيم الشأن بين الناس وزوال حال الذل والخوف والهوان بحيث صار الناس يدعون المخادعين بالإقتداء بالمسلمين في إيمانهم وصلاحهم .
وتحتمل صيغة [إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا] وجوهاً :
الأول : توبيخ المنافقين والمخادعين من قبل الناس الذين يحثونهم على الإيمان لما فيه من الدعوة إلى نبذ النفاق والخداع والضلالة .
الثاني : إرادة ذم وتوبيخ المنافقين من عند الله عز وجل .
الثالث : ليس في الآية ما يدل على التوبيخ سواء بالدلالة المطابقية أو التضمنية أو الإلتزامية .
والصحيح هو الأول والثاني، وفيه مسائل :
الأولى : الدعوة الإضافية للكفار والمنافقين لإصلاح الذات ، ونبذ الكفر الظاهر والباطن .
الثانية : تنبيه الناس إلى أضرار الخداع والنفاق .
الثالثة : حث الناس على إجتناب المخادعين وأهل الشك والريب ، والآية سلاح يومي يدعو الناس لحمله ومصاحبته للتوقي من النفاق ،والسلامة من مفاهيم الخداع التي يراد منها محاربة الإيمان وأهله .
الرابعة : ما في الآية من التوبيخ وذم للنفاق , نفع وخير محض للمسلمين من جهات :
الأولى : زجر وتوبيخ المنافقين والمخادعين تخفيف عن المؤمنين .
الثانية: ذم أعداء الإسلام عون للمسلمين وتعضيد لهم في فعل الخيرات .
الثالثة : هذا التوبيخ إضعاف لأهل النفاق ، وحرب على أخلاقه وخصاله وسننه ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الرابعة : في دعوة المنافقين والمخادعين للإيمان وسيلة مباركة لتوبتهم والإقلاع عن صيغ إضعاف والمسلمين ، فلا بد من وجود مستجيب متعدد لدعوة الإيمان ، فان قلت تبين الآية إصرار المنافقين على المخادعة بلحاظ جوابهم وإستكبارهم عن الإيمان [أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]( )والجواب هذا هو رد الذين يبادرون إلى تنزيه القول والفعل والسريرة من مفاهيم الشرك والريب , وليس كل الذين توجه لهم اللوم والدعوة إلى ترك النفاق ، ومن يؤمن يخرج بالتخصيص من اللوم والتوبيخ الوارد في الآية الكريمة ، بل يصبح هو ذاته داعية إلى الإيمان .
وفي قوله تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ]( )، وورد عن ابن عباس { أو من كان ميتاً فأحييناه } قال : كان كافراً ضالاً فهديناه { وجعلنا له نوراً } هو القرآن { كمن مثله في الظلمات } الكفر والظلالة ) ( ).
ترى لماذا قيدت الآية الكريمة الإيمان بأنه مثل إيمان الناس ، الجواب من وجوه :
الأول : إرادة البيان والوضوح في المقصود من الدعوة إلى الهداية والإيمان.
الثاني : جاءت الآية على نحو القضية المهملة وبلا شرط مقسمي لأصل تعدد التأويل ، والعلة الغائية للإيمان .
الثالث : نبذ النفاق ، ومنع بقاء الكفر مستحوذاً على النفس .
الرابع : بيان حقيقة وهي تخلف المنافقين عن الإيمان الصادق وشموله الظاهر مع الباطن .
الخامس : الترغيب بالإيمان بالتشبيه بالناس ، لميل الفطرة إلى محاكاة الناس في مسالك الصلاح، وعن الإمام علي عليه السلام قال: من ذكر الله عز وجل في السر فقد ذكر الله كثيراً إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية، ولا يذكرونه في السر، فقال الله عز وجل[يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
السادس : ذكر لفظ [النَّاسِ] في القرآن مائتين وأحدى وأربعين مرة وفي معان متعددة منها العام والخاص ، وهذه هي المرة الأولى التي يرد فيها هذا اللفظ في نظم القرآن ويتعلق بإكرام المسلمين وأنهم الذين يستحقون صفة الناس ، وفيه تعريض بالكفار الفاسقين .
ومن الإعجاز أن الآية ذكرت المسلمين بصفة الناس والأسوة الكريمة والإمامة للناس في الصالحات وهو من وراثتهم للأنبياء ، قال تعالى في الثناء على الإنبياء [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ) .
السابع : جعل الإيمان فيصلاً بين الذين يؤدون وظائف الإنسانية ويوظفون العقل لسلامتهم وأمنهم ، وبين غيرهم الذين قال الله تعالى فيهم [إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً]( ).
الثامن : بيان كثرة عدد الذين دخلوا الإسلام ، وأنهم لم يعودوا فئة قليلة بل يصدق عليهم انهم أمة ، وأنهم هم الناس، وتقدير الآية: وإذا قيل للمخادعين أصبحتم قلة وضعفاء فالتحقوا بركب الناس الذين أحسنوا الإختيار ، ورياض الإيمان فجاء الرد متوشحاً بالعناد والإستكبار والإصرار على البقاء في مستنقع الضلالة .
التاسع : تحتمل الألف واللام في [النَّاسِ]وجوهاً :
الأول : العهد وإرادة فئة مخصوصة من الناس وهم المسلمون .
الثاني : إرادة الجنس والإستغراق .
الثالث : الموجبة الجزئية وخصوص الإستغراق العرفي .
والصحيح هو الأول والثالث , والمقصود خصوص المسلمين , وجاء لفظ [النَّاسِ] للتبادر الذهني والدلالة على أمة عظيمة معروفة عند المتكلم والمخاطبين بما يمنع اللبس والترديد .
العاشر : بيان تجلي طريق الإيمان بأن الناس سارعوا فيه ووجدوا البركة والسكينة والعز وهو الصراط المستقيم الذي يسأل كل مسلم ومسلمة الله عز وجل التوفيق ومناجاة الله عز وجل لبلوغ مراتبه كما في التنزيل [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ]( )لتتضمن دعوة المخادعين والمنافقين للإيمان نجاتهم من طرق الضلالة التي تجلب غضب الله .
وعندما احتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان يفسد فيها ويشيع القتل بغير حق إحتج الله عز وجل عليهم بخزائن علم الغيب فيما يخص خلافة الإنسان وعمارته الأرض [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليكون من مصاديقه وصف المؤمنين بانهم الناس.
ولم تبين الآية متعلق الإيمان ومفعول [آمَنُوا]وفيه وجوه :
الأول : يكون الفعل (آمن )لازما لإرادة أصل الإيمان في مقابل الكفر والجحود .
الثاني : الإكتفاء بأداة التشبيه (كما).
الثالث : إرادة الإطلاق وتعدد موضوع الإيمان ، ليشمل الإيمان بالله ورسوله والملائكة والقرآن واليوم الآخر.
الرابع : من إعجاز الآية أن لفظ [آمَنُوا] من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة من جهات :
الأولى : الإيمان بالله .
الثانية : التصديق بالنبوة .
الثالثة : الإيمان بالكتاب .
الرابعة : التسليم بعالم الجزاء والجنة والنار .
الخامسة : الإيمان بوجوب أداء الفرائض كما يؤمن بها ويؤديها المسلمون، فمن يؤمن بالله ويكفر بالنبوة يجب ان يؤمن بها ، ولابد من الإيمان ببعثة الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، قال تعالى [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ] ( ).
الخامس : حث المنافقين على ترك إخفاء الكفر , ليكون من معاني وإعجاز الآية أن المنافقين فئة قليلة لأن الآية تدعوهم إلى الإلتحاق بالناس وهم الأكثر والأعظم .
السادس : الآية شاهد على إتحاد المسلمين في قولهم وعملهم وإخلاصهم الإيمان ، وعدم وجود مذاهب وطوائف وفرق ، بدليل تسليم المنافقين والمخادعين بإيمان المسلمين فلم يحتجوا بالقول بأي من طوائف ومذاهب المسلمين أو الناس نؤمن ، بل طعنوا بالذين بادروا الإيمان .
السابع : كما يأتي حرف الكاف للتشبيه فانه يأتي للتعليل كما في قوله تعالى [كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً] ( ).
وعلى هذا يكون معنى الآية إتخذوا من إيمان الناس أسوة وقدوة وموعظة
البيان في قوله تعالى [قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]
لقد تكرر لفظ [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] ولفظ [قَالُوا] جواباً من المخادعين في الآية السابقة وهذه الآية وفيه إعجاز من وجوه :
الأول : كثرة أفراد القول واللوم الموجه للمنافقين وتعدد جهة صدوره بدليل صيغة التنكير التي تفيد العموم .
الثاني : هذا القول وجوابه من الحوار الجواب إنه من الحجة والإحتجاج وبيان لحال الصراع بين الإيمان والكفر ، بين الهداية والرشاد.
الثالث : بيان قانون كلي وهو أن أمر المنافقين بالمعروف ونهيهم عن المنكر جهاد وفيه عناء ومشقة ويستلزم الصبر والتفقه في الدين ،أما الصبر فيتجلى بإصرارهم على الضلالة والخداع ، مما يستلزم تكرار الأمر وتوجه الدعوة لهم بالصلاح .
وأما التفقه فلأنه يتضمن سبيلاً للإصلاح وكيفية الأمر والنهي ، وصيغ الهداية والتمييز بين الحق والباطل.
الرابع : اذى عامة الناس من سوء فعل المنافقين والمخادعين فيدعونهم لترك الفساد ولسلامة المجتمع من آفات الفسق .
الخامس : ذكر القرآن لأقوال ودعاوى وجدال المنافقين مع أنه مغالطة وكذب، إذ أجابوا في الآية قبل السابقة بأنهم مصلحون، وفي هذه الآية توثيق لذمهم المسلمين لا لشيء إلا لأنهم إختاروا الحق وإتباع التنزيل .
إن ذكر القرآن لنفي المخادعين عن أنفسهم الفساد شاهد على صدق نزوله من عند الله عز وجل وأنه سبحانه يعلم أن الناس لا يفتنون بقول المنافقين ، وهو من أسرار صيغة البناء للمجهول في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ]وإن الآية تبطل دعواهم تحري الصلاح .
ومن الإعجاز في الآية مجئ كل من الدعوة والأمر بالإيمان بصيغة التشبيه [كَمَا آمَنَ]وكذا جواب المنافقين ورد بصيغة التشبيه والمثلية لبيان حقيقة وهي أنهم على مرتبة من المكر والدهاء ويحاولون اللبس على الطرف الآخر مؤمنآ كان أو غير مؤمن والسفهاء جمع سفيه ، وأصل السفه الخفة ، والسفه : الحمق وخفة العقل وهو ضد الحكم، وقال شعية أخو السموأل ونسب البيت إلى غيره .
نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلاَمُنَا … فَنَخْمُلَ الدَّهْرَ مَعَ الْخَامِلِ( )
وقد جاء القرآن بنفي السفاهة عن الإنبياء وأهل الدعوة إلى الله عز وجل،
وفي هود ورد قوله تعالى [يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) .
وإذ رمى قوم هود نبيهم بالسفاهة ورد عليهم بتنزيه نفسه عن السفاهة وخفة العقل ، فان المنافقين والمخادعين لم يرموا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالسفاهة مما يدل أفضليته على الإنبياء السابقين ، وفيه بيان لموضوعية الهجرة إلى يثرب إذ ان قومه في مكة رموه بالجنون، وقالوا [مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ] فقد طعن المخادعون بالذين صدّقوا برسالته ، ومرادهم من السفهاء على وجوه :
الأول : الأنصار الذين تلقوا الدعوة الإسلامية بالقبول والتصديق وصاروا سبباً للأذى الذي لحق أهل المدينة وكثرة الوافدين إليها وزحف جيوش الكفر عليها .
الثاني : المهاجرون الذين تركوا الأهل والأوطان وإجتمعوا في دار الهجرة.
الثالث : الذين إنتقلوا إلى الإسلام من أهل الكتاب , ومنهم عبد الله بن سلام بن الحارث ، وهو حليف الأنصار، ومن بني قينقاع (وإسمه الحصين فلما أسلم سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله ، وهو من نسل نبي الله يوسف عليه السلام)( ) وشهد فتح بيت المقدس والجابية ، ومات سنة ثلاث واربعين للهجرة.
الرابع : إرادة عموم المؤمنين الذين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ موضوع الإيمان بالنبوة ونزول القرآن من عند الله .
والصحيح هو الرابع والوجوه الأخرى أعلاه في طوله ، ويحتمل موضوع السفه وخفة العقل وجوهاً :
الأول : إرادة السفه بترك مله الآباء وإختيار إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إزدراء المؤمنين لمبادرتهم دخول الإسلام والتصديق بالنبوة قبل الرجوع إلى الرؤساء والكبراء من قومهم الذين أبطأوا وتخلفوا عن دخول الإسلام .
الثالث : إرادة الفقر والفاقة التي يتصف بها أكثر المؤمنين .
الرابع : الإشارة إلى وجود الموالي والعبيد بين المؤمنين كما في صهيب وبلال، وفي التنزيل حكاية عن قوم نوح [قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ]( ).
الخامس :من السفه الذي عليه المخادعون إظهار السخرية بالمؤمنين .
السادس :إرادة تفاني المسلمين في طاعة الله ورسوله قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ليكون من مصاديق نزول الرحمة بالمسلمين في المقام تفضل الله بالدفاع عنهم وتبرأتهم من السفه وحصره بالذين يفترون عليهم ويصدون عن إتباع نهجهم نهج التقوى والصلاح.
السابع : وجود النساء بين المؤمنين ومنهن التي بادرت إلى الإسلام قبل زوجها وأبيها وأخيها ،وكانت سبباً في إسلامهم ، ومن الآيات أن بعضهم هاجرن إلى الحبشة بدينهن ، وبعضهن هاجرن إلى المدينة في آية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً .
وهل قذف المنافقين للمؤمنين بالسفه من الفساد في الأرض أم أن القدر المتيقن من الفساد الإضرار وعالم الفعل ، الجواب هو الأول ، لتكون هذه الآية مصداقاً ومثالاً للآية السابقة وقوله تعالى فيها [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ]( ) من وجوه:
الأول : بيان إعجاز القرآن بأن يأتي حكم كلي في آية ، وتتعقبها آية أخرى بالمصداق والمثال لهذا الحكم .
الثاني : نعت المؤمنين بالسفهاء صدّ للناس عن دخول الإسلام ، فلا يرضى الإنسان لنفسه أن يرمى بخفة العقل وتلقي السخرية .
الثالث : حال الإستكبار والعناد عند المخادعين بالطعن بالذين إختاروا الحق والهدى ، وهربوا من الفساد إلى رياض الصلاح .
الرابع : رمي المؤمنين بالسفه فساد في الأرض ، وإفتراء لا أصل له .
الخامس : إرادة إفتتان المؤمنين ، ودبيب الشك إلى نفوسهم ، وجعلهم في حيرة ، لذا أختتمت آية البحث بتنزيه المؤمنين من السفه ورمي المخادعين به، وهو من عمومات قوله تعالى [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ) .
فلا يقصر الله عز وجل لهم على ميادين القتال بل يشمل التنزيل والإحتجاج وقذف الرعب في قلوب الكفار والمخادعين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم ) ( ).
السادس : جلب الكفار والمخادعين الإثم إلى نفوسهم ، وتحملهم لأوزارهم وأخرى غيرها بسبب الفساد وقصد ضلالة الآخرين .
والسفه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة وأظهره واشده ضرراً على الذات ما يقود صاحبه إلى الخلود في الجحيم ، وقد ورد لفظ السفه بخصوص المعاملات كما في قوله تعالى [فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا]( )والمراد من السفه في المقام نقص العقل أو التبذير والإسراف والجهالة .
وفي السفيه في الآية أعلاه ورد (عن مجاهد { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } قال : هو الجاهل بالإِملاء) ( )ولكن لا تصل النوبة إلى هذا النوع من الجهالة فقد يشملها حديث الرفع أو أنها من السمو .
وورد لفظ [السُّفَهَاء] خمس مرات في القرآن ولم يرد مرتين في آية واحدة إلا في هذه الآية الكريمة .
وهل يحتمل تعلق جدال المخادعين بخصوص كيفية الإيمان كما لو وضعوا شروطاً لدخولهم الإسلام ، وأرادوا دعوتهم على نحو التعيين إلى الإسلام ، وحصول منازل وشأن لهم في الحكم وسهام معلومة في الغنائم حتى وإن لم يخرجوا إلى القتال والغزو ، ويكون معنى السفاهة في إحتجاجهم هو دخول الإسلام بالماهية المهملة أي بلا شرط مقسمي .
والجواب نعم ، ولكنه ليس العلة التامة والموضوع الأول في إمتناعهم عن الإيمان ، فجاء الجواب من عند الله في إكرام المسلمين والثناء على الذين دخلوا الإسلام من غير شرط أو قيد ، لأنهم أدركوا أنه حق وصدق ، لقد علم المسلمون لزوم إظهار معاني العبودية لله عز وجل والتي تتجلى بدخول الإسلام وصدق النية وصفاء السريرة ، وأداء الفرائض والتكاليف ، فيقفون بين يديه خمس مرات في صفوف متراصة في الصلاة ، ويصومون شهر رمضان ويمتنعون في نهاره عن الأكل والشرب ، ويخرجون الزكاة والخمس ويقصد الميسور والمستطيع منهم البيت الحرام للتلبية والحج وأداء المناسك في عرفة ومزدلفة ومنى ومكة المكرمة (وعن ابن عمر :قَالَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وآله وسلم – « بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) ( ).
والرد بالإستفهام الإنكاري من أبلغ صيغ الجدال والإحتجاج إذ قال المخادعون [أَنُؤْمِنُ]مما قد يجعل الذي يدعوهم إلى الإيمان في حيرة وتردد لذا تفضل الله عز وجل بدحض وإبطال إحتجاج المخادعين .
ومع قلة كلمات الآية فقد تكرر فيها لفظ [كَمَا آمَنَ]ودلالته على لغة التشبيه مع النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه فمادة الإلتقاء من وجه :
الأول :إتحاد موضوع الإيمان وإرادة التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن ، قال تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ] ( ) .
الثاني :كل من الأمرين قول.
الثالث : بيان صيغ الإحتجاج في القرآن .
الرابع: إتحاد أداة التشبيه الكاف.
الخامس : ورد كل منها بصيغة الجملة الإنشائية .
السادس : تكرر مادة [آمَنَ] في كل منها مع إتحاد الآية .
الرابع : مجي لفظ [كَمَا] و[آمَنَ] في كل منهما .
أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول : التباين في جهة صدور القول .
الثاني : جاءت الآية بصيغة الإحتجاج .
الثالث : وردت الدعوة بارادة التشبيه ، اما الجواب فجاء بلغة الإستفهام الإنكاري .
الرابع : ذكر المسلمون في الدعوة باسم الناس إكراماً لهم وثناء عليهم لإختيارهم الإيمان ونعتهم المخادعون بصفة السفهاء ، وفيه أذى لهم ولا يرقى إلى مراتب التعارض مع هذا الثناء بالإضافة إلى مجئ النفي لقولهم وفضحه من عند الله عز وجل بينما بقي مدح المسلمين في الآية والواقع إلى يوم القيامة .
الخامس : جاءت الدعوة للإيمان بصيغة المبني للمجهول أما الرد عليها من قبل المخادعين فجاء بلغة الجمع والمبني للمعلوم [قَالُوا] ليفيد إقامة الحجة على المنافقين وكأنهم قد تواصوا على هذا الجواب الذي يتضمن أموراً :
الأول : الإمتناع عن إجابة الدعوة إلى الإيمان .
الثاني : الرد بلغة الإنكار والتحدي .
الثالث : الإفتراء على المسلمين ، وهو من مصاديق ما تقدم قبل ثلاث آيات [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] ( ).
ومن الإعجاز عدم تعلق إنكارهم بالإيمان ، ولكنهم إحتجوا بالذين دخلوا الإسلام وسبقوهم إلى الإيمان ، كما في كبار قريش ، وورد بالإسناد (جاء الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجدا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعداً مع بلال ، وصهيب ، وعمار ، وخباب ، في أناس ضعفاء من المؤمنين ، فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به ، فقالوا : انا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا ، فإن وفود العرب ستأتيك فنستحي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت . قال : نعم . قالوا : فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً ، فدعا بالصحيفة ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبريل بهذه الآية { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } إلى قوله { فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة } فألقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحيفة من يده ، ثم دعا فأتيناه وهو يقول { سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة } فكنا نقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . . . }( ) . قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقعد معنا بعد ، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها ، تركناه حتى يقوم) ( ).
ووردت مادة [آمَنَ] في الآية أربع مرات , وفيه مسائل :
الأولى : صيرورة الإيمان الموضوع الأهم بينم الناس وفي منتدياتهم .
الثانية : تلقي الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول .
الثالثة : إختصاص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإحكام التي جاء بها من عند الله بالإيمان .
الرابعة : حسن إختيار وفوز الذي يختار التصديق بنبوته .
الخامسة : تأكيد دخول الناس والقبائل جماعات وأفواجاً في الإسلام لتكون آية البحث مصداقاً وبياناً عملياً لقوله تعالى [وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
السادسة :إعلان الدعوة إلى الإسلام ، والجهر بها حتى عند المخادعين والكفار .
السابعة : تجلي معاني التمام في الإيمان وتفقه الناس في معناه ، وإرادة تحصيل الإيمان الجامع للشرائط ، والآية من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( )والآية شاهد على التأريخ بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف إنما انتشر بالمعجزة والمناجاة بين الناس لدخوله وإخلاص الإيمان ، والتخلص من شوائب الكفر الظاهرة والباطنة .
وفي الآية دليل على إرادة المعنى الأعم فيها من المنافقين لأن المنافق يظهر الإيمان ، ومن مصاديق هذا الظهور أن من يدّعي ذات الإيمان الذي عليه المسلمين فلا يتوجه .
بالإستفهام الإنكاري حينما يطلب منه ذات سنخية إيمان المؤمنين ، ولا يرمي المسلمين بالسفاهة لأنه يذم نفسه أو يفضحها .
ويحتمل لفظ [قِيلَ لَهُمْ] بلحاظ مراتب الدعوة والطلب فيما يخص صدورة من الناس وجوهاً :
الأول : صدور القول من العالي إلى الداني ، ليأخذ صبغة الأمر .
الثاني : مجئ القول من المساوي وهو المسمى بالطلب ، كما لو صدر من الشريك في العمل والصاحب والأخ والقريب .
الثالث : تلقي المخادع الدعوة إلى الإيمان الصادق والتام من الأدنى وهوالمسمى بالسؤال كما جاء من الابن والزوجة والعامل والعبد ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من تجليات الإعجاز في صيغة المبني للمجهول في قوله تعالى [َإِذَا قِيلَ لَهُمْ] .
وتبعث آية البحث الناس جميعاً لحث المخادعين على ترك المكر بالمسلمين ودعوتهم للإيمان وتمنع من قبول إعتذارهم بالإفتراء فالأصل هو تعلق الإعتذار بخصوص الذات والمانع الخاص ، وليس برمي المؤمنين بالسفه لاسيما وأن الدعوة للإيمان مركبة من أمرين :
الأول : الأمر بالإيمان .
الثاني : إرادة المثل ومما هو شائع في عله الأصول أن مناقشة المثال من دأب المحصلين ، وبخصوص الطواف بين الصفا والمروة كانت قريش تضع الأصنام عليها ويتمسحون بها ، ولما دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة في عمرة القضاء سنة سبع للهجرة قال لقريش أرفعوا اصنامكم حتى نسعى فاستجابوا ورفعوها .
وعن الإمام الصادق عليه السلام (أن المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شئ صنعة المشركون فأنزل الله قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ] ( ).
لقد دخل الناس من مختلف المشارب والمراتب الإسلام ، ووجود المستضعفين فيه لا يمنع من دخول الكبراء والسادات ، وكذا العكس ، ويحتمل المراد من السفهاء وجوهاً :
الأول : إرادة العبيد والضعفاء الذين دخلوا الإسلام ، كما لو كره السيد أن يكون بذات المرتبة مع عبده الذي سبقه إلى الإيمان .
الثاني : المقصود أنهم لم يروا الملوك والملأ يدخلون فيه .
الثالث : أصاله الإطلاق ونعت الذين دخلوا في الإسلام بالسفة وخفة العقل .
الرابع : إرادة الذين بادروا إلى الإيمان من غير دعوة كما لو تطلعوا إلى مناشدة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بدخولهم الإسلام ، والإتيان بمعجزة خاصة تؤكد لكل واحد منهم على نحو مستقل أنه نبي .
الخامس : الكلي المشكك والتباين في أقوال المخادعين فمنهم من يقصد الوجه الأول أعلاه أو الثاني ، فمنهم من يقصد العموم .
والأقوى هو الوجه الأخير ، خصوصاً وأن المخادعين من مشارب شتى منهم المنافقين والفاسقين والكفار .
ومن خصائص هذه الآية ومضامينها القدسية بلحاظ سبقها للآية التالية في نظم القرآن من جهات :
الإولى : تحذير المنافقين من الغش والتدليس على المؤمنين الذي تذكرة الآية التالية .
الثانية : دعوة المخادعين والمنافقين إلى جعل إعلانهم للإيمان بحضرة المسلمين على وجوه :
الأول : صدق الإيمان .
الثاني : صيرورة إعلان الإيمان مرآة لما في القلوب .
الثالث : ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب ، ليكون الإيمان شكراً لله على نعمة الخلق وبديع الصنع ، قال تعالى [وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( ).
الرابع : الإستعداد للقاء الله عز وجل في الآخرة بصحيفة الإعمال .
الخامس : النجاة من عذاب النار يوم القيامة ،قال تعالى [وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ]( ).
البيان في قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ]
في الآية وجوه :
الأول : تنزيه المؤمنين من السفه وخفة العقل .
الثاني : بيان حقيقة وهي دوران الحكمة مع الإيمان .
الثالث : عدم نفي وجود السفه ، ولكنه عند المخادعين خاصة لقوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ]، وقد ثبت في الفلسفة أن المتضادين لا يجتمعان فلا يلتقي السفهاء والمؤمنون في موضوع السفه ، وبما أن الآية أخبرت عن كونها صفة مصاحبة للسفهاء فان المؤمنين بعيدون عنه وفيه دلالة على أن الإيمان فضيلة وسمو وعلم ، قال تعالى [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
ولما أنكر المخادعون في الآية السابقة فسادهم في الأرض ، جاءت هذه الآية لتتضمن دعوتهم إلى الإيمان ،وفيه مسائل :
الأولى : وجوب الإيمان .
الثانية : الإيمان توبة وصلاح .
الثالثة : من مصاديق الإيمان الإستغفار .
الرابعة : الإيمان بذاته زاجر عن الفساد ،ويترقب أداء الفرائض والعبادات السلامة منه , قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
الخامس : بيان حقيقة وهي إن أنكر المخادعون الفساد فانهم لا يستطيعون نفي تلبسهم بهم.
وجاءت الآية بمثل صيغة إحتجاج إبراهيم عليه السلام على نمرود ، فعندما إدعى الربوبية وأنه يحيي ويميت أفحمه إبراهيم بالإتيان بالشمس من الغرب كما ورد في التنزيل , قال تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ]( ).
لقد تفضل الله عز وجل بالرد على المخادعين بنفسه وبصيغة التأكيد القاطع وبما يتضمن التبكيت والتشنيع عليهم ، وما يجعلهم عبرة للناس في الدنيا وهو مقدمة وإنذار من نزول العذاب بهم في الآخرة .
وليس من فاصلة بين رمي المخادعين المؤمنين بالسفه وخفة العقل وبين فضح الله عز وجل للمخادعين ومن إسرار هذا الفضح ورميهم بالسفه أمور :
الأول : هلاك المخادعين وإنقضاء أيامهم , أما فضحهم في هذه الآية فهو باق إلى يوم القيامة ، قال تعالى [يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ] ( ).
الثاني : رمي المخادعين بالسفه حقيقة وحكم دائم، وهل يتعلق بأشخاص المنافقين وقدراتهم العقلية أم أنه خاص باقصائهم وإعراضهم عن دعوة الحق ، الجواب هو الثاني , لذا فمن خصائص هذه الآية أنها دعوة لهم للتوبة والإنابة .
الثالث : إنذار الناس من إتباع السفهاء والإنقياد لهم ، ولقد جاء التحذير من إعطاء الأموال إلى السفهاء وتخويلهم التصرف فيها ، قال تعالى [وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا]( )فمن باب الأولوية القطعية ان لا يجعل المؤمن أمور دينه بيد السفهاء الذين يعجزون عن إختيار الأصلح والأنفع لهم ولغيرهم .
وكأن بين الآية أعلاه ووصف المخادعين بالمفسدين والسفهاء في هذه الآية والآية السابقة نوع ولاية للمسلمين عليهم بهدايتهم إلى سبيل الرشاد وعدم تمكينهم من أموالهم وخاصة أمورهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ).
وكما تكرر قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ]في هذه الآية والآية قبل السابقة .
فقد تكرر قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ] في هذه الآية والآية السابقة والذي يتضمن التأكيد على سفه وخفة عقل المخادعين من جهات :
الأولى :أداة الإستفتاح والتنبيه [أَلاَ] وهو حرف مبني على سكون المد المقدر لا محل له من الإعراب ومن إعجاز القرآن أن موضوع التنبيه فيها أعم من المخاطب ، فيشمل السامع وغيره ممن يتعظ من حذر المسلمين من المخادعين ، وكما جاء حرف الإستفتاح في الآية لذم وتبكيت المنافقين والمخادعين ، فقد جاء بصيغ الثناء على المؤمنين ، قال تعالى [أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الثانية :[ إِنَّ]وهو حرف توكيد ونصب ،وهو مبني على الفتح ظاهرة ولا محل له من الإعراب .
الثالثة : ضمير الفصل [هُمْ]لتأكيد إرادة المخادعين بالوصف الوارد في الآية الكريمة .
الرابعة : مجئ الألف واللام في [السُّفَهَاءُ]الذي يفيد الحصر والإختصاص في وصف السفه وخفة العقل .
ولو قالت الآية (الا أنهم هم سفهاء )لأحتمل الإشتراك بينهم وبين غيرهم ،ولكن الله عز وجل أراد تنزيه المؤمنين من السفه وخفة العقل فحصره بالمخادعين ليبرأ منه المسلمون ،ويشهد الله عز وجل لهم بالحكمة وحسن الإختيار ،وهو من مصاديق التفضيل والخروج في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ودعوة للناس لأمور:
الأول : للتنزه عن السفه .
الثاني :الإعراض عن دعوة المخادعين للفتنة .
الثالث :التحريض على المسلمين .
الرابع : التدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن آية البحث معجزة قائمة بذاتها .
لقد جاءت الآية السابقة بوصف المخادعين والمنافقين بأنهم المفسدون وتضمنت هذه الآية نعتهم بأنهم السفهاء ، وفيه غاية الذم بأن تأتي آيتان متعاقبتان بحصر أقبح الخصال بهم .
وفيه تفقه للمسلمين بمعرفة أحوال الناس وإنحراف أهل الضلالة عن جادة السواء وعدم إيناس الرشد منهم وحاجة الأرض وأهلها لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاد المسلمين للإصلاح وتثبيت مفاهيم التوحيد بين الناس ، وتعاهد الفرائض والعبادات ووراثتها .
ومن واجب المسلمين دفع المفسدة عن أنفسهم وغيرهم ، وأشد ضروب المفسدة هي التي تأتي من السفهاء .
فان قلت هل يلزم الحجة على السفهاء والذي هو لمصلحة ونفع المحجور عليه كالحجر على الصبيان والمجانين ، وقد يكون الحجر لمنفعة غير المحجور عليه كما في الحجر على المفلس لمصلحة الغرماء ، وإرادة براءة ذمته ومنعه من الإسراف الجواب لا يلزم الحجر بخصوص السفهاء في هذه الآية لأن السفه هنا بسوء الإختيار في المبدأ والعقيدة ، وليس في المال نعم قد يجتمع الأمران معاً ،وهو من وجوه الإبتلاء الذي يصيب المنافق لأنه يتخذ التعدي سجية ومن مصاديق قوله تعالى [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ] ( ).
وجاءت آية البحث بالحجر العقائدي والإجتماعي على المخادعين وهو أكبر وأعظم من الحجر المالي من جهات :
الأولى : منع المخادعين من بث سمومهم وصيغ ريبهم بين الناس .
الثانية : كشف حقيقة المنافقين ، وأن إخفائهم الكفر من السفه من وجوه :
الأول : هذه الإخفاء خلاف العقل والحكمة .
الثاني : الإيمان بسيط وينفذ إلى شغاف القلوب .
الثالث : تطرد المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مفاهيم الشرك من النفوس .
الرابع :القرآن حق وصدق ، ومن إعجازه الذاتي أنه دعوة سماوية للإيمان ، وبرهان قائم بذاته على وجوب التنزه من النفاق ، قال تعالى [وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ]( ).
الثالثة : ذم وتبكيت المخادعين وتسميتهم بالمفسدين والسفهاء ، وحصر هاتين الخصلتين المذمومتين بهم برزخ بينهم وبين الناس .
الرابعة : دعوة المؤمنين للنفرة من المخادعة وإخفاء الكفر لأنه يجلب لهم العار والذكر السيء .
الخامسة : فضيحة المخادعين بين الناس ، وجعل الناس يستهزئون بهم .
وهل من مصداق عملي لسفاهة المخادعين أم أنها خاصة بموضوع هذه الآيات .
الجواب هو الأول ، وهو من إعجاز القرآن الغيري بأن تتجلى معاني خفة العقل وقلة الهم في أقوال وأفعال المخادعين وأعداء الإسلام .
وهل رمي المخادعين بالسفاهة في الآية الكريمة ومطلقاً من عمومات قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( )الجواب لا، لأن إعتداءهم ونعتهم المؤمنين بالسفه إفتراء وبهتان ، أما قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ] حق وصدق ، قال تعالى [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ] ( ).
البيان في قوله تعالى [وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ]
إبتدأت الآيات الأولى من سورة البقرة بالثناء على المؤمنين ، فقد أبى الله عز وجل إلا أن تكون فاتحتها ثناء ومدحاً للمؤمنين ، وفيه شاهد بسيادة دولة الإسلام ، والتخفيف عنهم بقلة الخروج إلى ميادين القتال .
وأختتمت هذه الآية بذات اللغة من المدح للمسلمين والمسلمات [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( )،([ يُنفِقُونَ]،[ يُوقِنُونَ]،[ الْمُفْلِحُونَ]) ( ).
ثم جاءت آيتان بذم الكفار وأختتمت بذات صيغة الذم المقترنة بالوعيد ([لاَ يُؤْمِنُونَ][ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ])( ).
ثم جاءت هذه الآيات في ذم المنافقين والمخادعين وأختتمت بما فيه خزيهم وفضحهم وأنهم يخدعون أنفسهم ([وَمَا يَشْعُرُونَ][ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]) ( ).
وبعد إختتام الآية السابقة بأنهم لا يشعرون بقيامهم بالفساد أختتمت هذه الآية بنعتهم بأنهم [لاَ يَعْلَمُونَ].
لإرادة خصال مذمومة عند المخادعين وتحتمل وجوهاً :
الأول :هذه الخصال هي المخادعة وذات النفاق .
الثاني : إنها سبب وعلة للمخادعة ، وهي من مصاديق المرض في قوله تعالى قبل ثلاث آيات [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] ( ) .
الثالث : هذه الخصال القبيحة نتيجة للمخادعة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، خصوصاً وأن خداع المنافقين مستمر ومتجدد بلحاظ الندب السوداء في سرائرهم التي تمنع من نفاذ إشراقة الإيمان وحلاوة الهداية إلى البصائر والقلوب .
ولم يرد لفظ [وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ] في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة ، وفيه دلالة على إنفراد المخادعين بإعراضهم وتركهم بديهيات العلم التي تتقوم بالتدبر في المعجزات والنهل من ذخائر النبوة وما فيها من نشر مفاهيم الصلاح وتنمية الملكات العقلية .
وتبين الآية التباين بين السفه والعلم ، بين النفاق ومعرفة المصلحة والمنفعة الخاصة والعامة .
ولأن الآية السابقة تتعلق بالفساد وهو أمر محسوس تدركه الآلة الباصرة والسامعة أختتمت بنفي الشعور عنهم وتقديرها :لا يرون ولا يسمعون فسادهم ،أما هذه الآية فتتعلق بالسفه وهو خفة العقل وتخلف البصيرة عن الإدراك الواجب فأختتمت ببيان موضوعية العلم في معرفة الظلم للذات والغير بالسفه والجهالة والغفلة الإختيارية .
لقد رمى المخادعون المؤمنين بالسفه لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالحق وهو نزول القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجتمعين ومتفرقين، وكل ما في القرآن من الآيات والكلمات وما في نبوة محمد صلى الله من الوحي والسنة القولية والفعلية والتدوينية والجهادية هي حق وصدق ليعرض المنافقون أنفسهم إلى البلاء والعذاب، وفي التنزيل [وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
والآية شهادة سماوية متجددة في كل زمان على المنافقين بأنهم لا يعلمون، ويحتمل وجوهاً :
الأول :عدم العلم طريق للسفاهة .
الثاني : بسبب عدم العلم يرمي المنافقون المؤمنين بخفة العقل .
الثالث : عدم العلم نتيجة لضعف الرأي.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ، إذ أن عدم العلم سبب ونتيجة لفساد الرأي ونقص التدبير وسوء الفعل .
(وعن ابن عباس في قوله تعالى : [وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ] يَقُولُ: َلَكِنْ لا يَعْقِلُونَ ) ( ).
وتحتمل النسبة بين السفاهة وعدم العلم وجوهاً :
الأول :نسبة التساوي بينهما ، فالسفه هو ذاته عدم العلم .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : عدم العلم أعم من السفه ، وهو مظهر ومرآة لعدم العلم .
الثانية : السفه هو الأعم من عدم العلم خصوصاً مع إرادة التقييد في خاتمة الآية ،ومن السفه عدم الشعور ، وفقدان الإحساس .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بين السفاهة وعدم العلم ، وأخرى للإفتراق .
الرابع : التباين بين عدم العلم والسفاهة .
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني ، ليكون من إعجاز القرآن أن خاتمة الآية قاعدة كلية تتعدد مصاديقها ، وتكون سلاحاً بيد المسلمين لمعرفة سنخية المخادعين ولزوم أخذ الحيطة والحذر منهم ،قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]( ).
ويحتمل قوله تعالى [وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ]وجوهاً :
الأول :إرادة العموم، وإستحواذ الجهل والحماقة على المخادعين، وغياب العلم عنهم .
الثاني : التقييد وإرادة الجهالة بموضوع مخصوص ،مثل السفاهة التي هم عليها .
الثالث : القضية المهملة لا بشرط مقسمي ، فتكون سنخية العلم والمعرفة الحال التي يتلقى فيها المنافقون مدلهمات الأمور .
والصحيح هو الأول ،وفيه ذم وتبكيت لهم ، ودعوة لترك منازل الكفر والضلالة الذي هو جهالة محض وطريق إلى الغفلة ، لأصالة الإطلاق وإنتفاء التقييد في الآية ، ولأن عدم العلم علة للسفاهة .
وتعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية لذا أختتمت الآية بنعت المخادعين بأنهم لا يعلمون .
ووردت الآية بصيغة الإطلاق [ لاَ يَعْلَمُونَ] من غير بيان لمصاديق الجهالة وعدم العلم التي عليها المخادعون ليكون تقدير الآية على وجوه( ):
الأول : لا يعلمون أن إختيار الإسلام حكمة .
الثاني : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرب على السفه وإنقطاع لخفة العقل في منازل الإمامة والرئاسة بين الناس .
الثالث : التباين بين حال المسلمين وبين السفه بدليل الثناء من عند الله عليهم ، قال سبحانه [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابع : من مصاديق السفه رمي المسلمين بالسفه وخفة العقل لما فيه من تفويت الفرصة على النفس بالتبصر بالمعجزات التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأنها ذات صبغة عقلية .
الخامس :إرادة صيغة الفعل اللازم ، والماهية المهملة بلا شرط مقسمي والإتصاف بالجهالة وعدم العلم .
السادس : لا يعلمون بما يترشح عن هذه الآية من كشف المخادعين والإخبار عن غياب العقل والتدبر عندهم ، قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
السابع : لا يعلمون بأن دعوتهم إلى الإيمان في هذه الآية رحمة لهم ومناسبة للتوبة والإنابة .
الثامن : لا يعلمون أن دعوتهم إلى الإيمان في هذه الآية من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) فان قلت إن الدعوة خاصة بالمخادعين فكيف يكون البيان للناس كافة ،والجواب من جهات :
الأولى : إخبار المسلمين بأن القرآن يفضح المخادعين .
الثانية :حث الناس على عدم إتباع المخادعين أو الإصغاء لهم .
الثالثة :إحاطة الناس علماً بأن المسلمين منزهون عن السفه وضعف الرأي.
الرابعة : تأديب أجيال الناس على الإنزجار عن محاكاة المخادعين ورمي المؤمنين بالسفه .
التاسع : لا يعلم المخادعون بسعة رحمة الله بالناس في الدنيا ببيان مصاديق الضلالة والغواية .
العاشر : لا يعلمون أن الآية من ضروب الإنذار في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
الحادي عشر :لا يعلمون أن هذه الآية تتلى بكرة وعشية وإلى يوم القيامة لتكون دعوة للناس للنفرة من السفه متصلة ومتجددة .
الثاني عشر : لا يعلمون بالمنافع العظيمة في تلقي الدعوة إلى الإيمان في الدنيا والآخرة ، ومن الإعجاز في الآية انها جاءت بصيغة المثال الأمثل والثناء على المسلمين .
الثالث عشر :لا يعلمون أن الله ينصر المسلمين ويظهر دولة الإسلام .
الرابع عشر : لا يعلمون أن آيات القرآن جاءت لفضحهم وخزيهم ودعوتهم للإيمان [إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا]واقية وسلامة من هذا الخزي بالتنزه عن السفه والنفاق .
الخامس عشر : لا يعلمون أن الله عز وجل يعلم ما تخفيه قلوبهم من الكفر وأنه سبحانه يظهره للناس ، ليكون من الإعجاز في نبوه محمد صلى الله عليه وآله وسلم كشف سرائر المنافقين ، وهو مقدمة ومرآة لكشف سرائر الناس في الآخرة ، قال الله سبحانه في بيان الإمتحان والإختبار يوم القيامة [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ] ( ) .
وفيه تنمية لملكة الإستحياء من الله عز وجل ودعوة للإنسان أن يفقه ما في نفسه ولا يترك لها التمادي بالشك والريب ، لتكون آية البحث من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] ( )، من جهات :
الأولى : إيمان المسلمين وتصديقهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات الباهرات التي جاء بها .
الثانية : تسمية المسلمين بالناس إكراماً لهم في صيغة الإحتجاج على المخادعين من المنافقين والفاسقين والكفار ، وفيه ترغيب بدخول الإسلام وذم لمن يبقى في منازل الكفر .
الثالثة : نزول الرحمة مع الآية القرآنية بدعوة الناس إلى الإيمان .
الرابعة : التوثيق السماوي للدعوة إلى الإيمان وهجران الكفر .
الخامسة : بيان زيغ المخادعين ولغة الإستفهام الإنكاري التي يقابلون بها دعوتهم إلى الإيمان والصلاح .
السادس : مجئ الرحمة في القرآن إلى المخادعين والمنافقين وعدم إنقطاعها عنهم مع تعنتهم وإصرارهم على الكفر والجحود ،إذ تتصف الآية القرآنية بالطراوة والنضارة ،بمعنى أنه كل يوم تتوجه الدعوة لهم بالإيمان مع إنكارهم لها ولمضامينها وإصرارهم على الكفر الظاهر بالنسبة للكفار والخفي لخصوص المنافقين .
السابعة : تزكية المسلمين في الدنيا ، والبشارة لهم بالأمن والنجاة في الآخرة .
الثامنة : الآية من عمومات الرحمة في الإسلام ، وتغشيها للناس جميعاً ببركة نزول القرآن ، وفيها دعوة للتراحم والتعاطف بين الناس (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء) ( ).
التاسعة : آية البحث من أبهى مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ تتضمن الأمر بالإيمان وهو من أسمى وجوه المعروف وتنهى عن الكفر والنفاق وهما أقبح ضروب المنكر .
ومن الإعجاز في الآية أنها جاءت بصيغة التنكير [َإِذَا قِيلَ لَهُمْ] لوجود قائل وداعية إلى الله مع تجدد هذه الدعوة وجهة صدورها.
العاشرة : صيرورة دعوة المخادعين إلى الإيمان موعظة وعبرة للناس جميعاً إلى الناس ونزل القرآن بلغة إياك أعني وإسمعي يا جارة ، فيتوجه القول والدعوة للإيمان إلى المخادعين ويتفضل الله ويذكرهم في القرآن لتكون معلماً جهادياً من جهات :
الأولى : ندب المسلمين إلى إصلاح نفوسهم ، وتحصينها من آفة النفاق والخداع ، قال تعالى [فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثانية : تعدد الجهات التي تأتي منها أسباب النصر للنبوة والمؤمنين فينشغل المسلمون بالتكاليف والدفاع عن بيضة الإسلام ، ويقوم الناس بمحاربة المخادعة باللسان زجراً وفضحاً ودعوتهم لسبل الهداية، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثالثة : هذا الذكر من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الرابعة : ترغيب الناس بحث المخادعين والمنافقين على صدق الإيمان .
ومن مصاديق قوله تعالى [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]دعوة الكفار والمعاندين إلى أمور على نحو الدفعة الواحدة :
الأول : هجران الكفر والعقائد الفاسدة .
الثاني :التوبة النصوح ، ورجاء قبولها ، قال تعالى [إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ] ( ).
وتدل الآية اعلاه على أن التوبة تحتاج القبول من عند الله، وهذا القبول مشروط بأمرين:
الأول : إقتران فعل السيئات بالجهالة والغفلة .
الثاني : المبادرة إلى التوبة ، وقيل كل أوان قبل الموت هو قريب ، وفي مرسلة (الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال : وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح . فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام الروح فيه) ( ).
لتكون آية البحث ترغيباً متجدداً بالتوبة .
الثالث : إتيان الفرائض ، وفعل الصالحات ولو تردد الأمر بين إرادة الإيمان بالقلب وحده أم محاكاة المؤمنين في افعالهم العبادية، فالصحيح هو الثاني لأن الأصل في التشبيه هو إرادة التساوي والمثلية بين المشبه والمشبه به، وفي التنزيل [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ) .
الرابع : التنزه عن الغيبة ورمي المؤمنين بالسفاهة وضعف العقل فتحل محله معاني الأخوة الإيمانية والتعاضد والتآزر وفيه الثواب العظيم ، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله علية وآله وسلم : الجلوس في المسجد انتظار الصلاة عبادة، ما لم يحدث، قيل: يا رسول الله، وما يحدث ؟ قال: الاغتياب( ).
الخامس :دعوة المخادعين إلى التوبة، والإنابة وحثهم على ترك السخرية بالمؤمنين من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق) ( )ومن الأخلاق والسنن الحميدة تجلي الإيمان على النفوس وفي عالم الأقوال والأفعال .
السادسة : حث المسلمين على الصبر والحلم عن المخادعين الذين ينعتونهم بخفة العقل ، لأن الله عز وجل تكفل بفضح المخادعين وتأكيد وكشف جهالتهم .
السابعة : تؤكد الآية حث وجذب الكفار وأعداء الإسلام إلى مقامات الإيمان ، مما يدل بالدلالة القطعية على دعوة غيرهم من عموم الكفار والمنافقين والذين لا يحاربون الإسلام بالقول والفعل .
الثامنة : في الآية تثبيط لهمم الكفار ، ومنع عن كيدهم وترجله إلى الخارج، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( ).
التاسعة :جعل الكفار والمخادعين منشغلين بأنفسهم يتجنبون المنتديات، ومواطن إجتماع الناس لأنها مناسبة لحثهم على الإيمان .
وهل لآية البحث موضوعية في توجه الذم إلى المنافقين والمخادعين، الجواب نعم ولا ينحصر هذا الذم بخصوص تخلفهم عن الهدى ومقامات الإيمان بل يشمل عالم أقوالهم وأفعالهم ، وفيه تحذير من الإختلاط معهم وتنهى عن الوديعة والأمانة عندهم ، وتفويض العمل لهم وبيدهم وتسليفهم ، ومشاركتهم في التجارات ،قال تعالى [وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ]( ).
ليلقى المخادعون الأذى والبلاء العاجل على تعديهم وإفترائهم على المؤمنين، ويكون من مصاديق قوله [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]، إرحموا أنفسكم وإشتروا سلامتكم وتحصين أموالكم وأبدانكم باختيار الإيمان ، ولكنهم أظهروا العناد فجاءهم البلاء العاجل برميهم بالسفه وخفه العقل .
ويحتمل حال تلبسهم بالسفه بلحاظ آية البحث وجوهاً :
الأول : قبل توجه الدعوة لهم بالإيمان .
الثاني : حال الدعوة والقول لهم [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ].
الثالث : بعد حصول التبليغ والدعوة إلى إخلاص الإيمان لإقامة الحجة عليهم، وتحقق رفع الجهالة وطرد الغفلة .
الرابع : عند جدال المخادعين والمغالطة بالتشبيه .
الخامس : بعد إصرار المنافقين على تغشي الكفر والجحود لأنفسهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه من جهات :
الأولى : دلالة الآية على إستدامة حال السفه .
الثانية : ملازمة السفه لعدم الإيمان .
الثالثة : إفادة صيغة الجملة الإسمية [هُمْ الْمُفْسِدُونَ]الثبوت والدوام، ووقع الخلاف في مبحث المشتق في علم الأصول فيما يخص إنقضاء تلبس الذات بالمبدأ في الحال، هل هو حقيقة أم مجاز مع التسليم بأنه مجاز قبل التلبس ، وحقيقة عند تلبس الذات بالمبدأ.
وتبين الآية أن المنافقين متلبسون بالكفر والصدود عن سبل الهداية والصراط المستقيم ، ولا ينقضي هذا التلبس إلا بالتوبة ، فلا يكون من مصاديق بحث المشتق ، فليس من مجاز في المقام لأن حال الإيمان تبدل نوعي وهو مباين وضد للكفر والجحود، لتتجلى في القرآن حقيقة وهي أن مضامينه أعم من أن تحيط بها القواعد الإستقرائية في ميادين العلم المختلفة.
تفسير قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ]
تتضمن الآية بياناً لوجود أمة من الناس تتصف بالسفه وخفة العقل وأن الله عز وجل يتبرأ من أفعالهم ، وهي خلاف الفطرة وأصل الخلقة وفيه تثبيت لأقدام المسلمين في منازل الإيمان ، ليكون من الإعجاز في هذه الآية أنها مقدمة لإمتثال المسلمين للأوامر الإلهية.
فعندما نزل تحويل القبلة تلقاه المسلمون بالقبول والإستجابة الفورية، ولم يضرهم قول المخادعين وأهل الشك والريب كما ورد في التنزيل [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا] ( )، (وعن عمارة بن أوس الأنصاري قال : صلينا إحدى صلاتي العشي( ) ، فقام رجل على باب المسجد ونحن في الصلاة ، فنادى أن الصلاة قد وجبت نحو
الكعبة ، فحوّل أو انحرف أمامنا نحو الكعبة والنساء والصبيان) ( ).
وقد تكررت صيغة الفاعل في الآية الكريمة ، ومن الإعجاز فيها مجئ صدور القول والخطاب للمخادعين من جهة مبهمة دلّ عليها الفعل المبني للمجهول [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] .
ومع قلة كلمات الاية فقد جاءت الدلالة والإشارة للمخادعين فيها من جهات :
الأول : الضمير المتصل في [قِيلَ لَهُمْ].
الثانية : واو الجماعة في [آمِنُوا].
الثالثة :واو الجماعة في [قَالُوا].
الرابعة : الفاعل في قوله تعالى [أَنُؤْمِنُ].
الخامسة : الضمير [هُمْ] في [أَلاَ إِنَّهُمْ].
السادسة : الضمير المنفصل في [هُمْ السُّفَهَاءُ].
السابعة : شهادة الله ، ونعت الآية للمخادعين بأنهم [السُّفَهَاءُ].
الثامن : الفاعل واو الجماعة [لاَ يَعْلَمُونَ].
وبين بداية كل من الآية قبل السابقة وهذه الآية عموم وخصوص من وجه وبينهما مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : إفتتاح كل من الآيتين بصيغة المبني للمجهول .
الثانية : إتحاد أول كلمات الآيتين .
الثالثة : وحدة الجهة التي يتوجه لها القول والنداء وهم المخادعين
وهوقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ].
الرابعة : عدم إستثناء فرد من المخادعين لم يصله الإنذار والتحذير
لصالة العموم في قوله تعالى أعلاه ، وعدم وجود مخصص متصل أو منفصل .
الخامسة : عدم وجود برزخ أو مانع دون وصول التبليغ إلى أي فرد أو جماعة من المخادعين وفيه دلالة على وهنهم وضعفهم .
السادس : موضوع كل من الآيتين مقدمة للآخرة .
الأولى : مجئ الآية قبل السابقة بالنهي على نحو السالبة الكلية [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] ، أما هذه الآية فجاءت بالدعوة إلى الإيمان على نحو الموجبة الكلية .
الثانية :لم تقل الآية قبل السابقة لا تفسدوا كما أفسد الناس ، وفيه آية في إكرام الله للبشر على نحو العموم الإستغراقي بينما ذكرت هذه الآية [النَّاسُ]اسوة في الإيمان .
الثالثة : تضمنت الآية قبل السابقة الرد من المخادعين وإدعائهم الإصلاح أما هذه الآية فجاء ردهم بالسخرية من المؤمنين ظلماً وتعدياً ، فاجتناب الفساد مقدمة للإيمان ، والإيمان مقدمة وبرزخ دون الفساد ، وحرب عليه .
السابع : جار الرد من عند الله في المقامين في الآية التالية .
الثامن : صيغ الإطلاق في الآيتين ، فالنهي عن الفساد في الأرض كلها، ووردت هذه الآية بالإيمان مثل إيمان الناس .قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ
اقْتَدِهِ] ( ).