المقدمة
الحمد لله بديع السموات والأرض الذي جعل نشوء وإستدامة وفناء الأشياء بمشيئته لتكون شاهداً متجدداً على عظيم قدرته ، الحمد لله بعدد كلماته التي لا تنفد ،وخلقه غير المتناهي ،وتسبيح الموجودات له، قال تعالى [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).
الحمد لله الملك ، والحاكم المطلق الذي جعل الأمور بيده رأفة منه بالخلائق , الحمد لله الأول إذ لم يكن أحد سواه والآخر فلا شئ بعده الحمد لله في السعة والضيق ، والسراء والضراء , الحمد لله مع كل آن من آنات الليل والنهار .
الحمد لله الذي يهب الكثير على الثناء القليل ، الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة ، الحمد لله الذي منّ على الناس بنزول القرآن وما فيه من البيان ، وذكر قبائح النفاق ، وكيفية سلامة المؤمنين منه ، ومعرفة أقطابه وأصحابه .
وبعد صدور الجزء الخامس بعد المائة من هذا السفر المبارك والذي جاء خاصاً بتفسير قوله تعالى[هذا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( )، أنعم الله عز وجل عليّ بذكر وجوه البيان في آيات القرآن ، وتجليات التأويل فيما تقدم من آيات سورة الفاتحة وسورة البقرة ،فصدر الجزءان السادس والسابع بعد المائة من التفسير في الغوص في كنوز البيان ودلالات الإعجاز والنفع العام في سورة الفاتحة والآيات 1 -13 من سورة البقرة ، وبفيض من الله جاء هذا الجزء وهو الثامن بعد المائة من التفسير في إستقراء شذرات من ضروب البيان في الآيات (14 -17 ) من سورة البقرة , وفيه إرتقاء في علوم التفسير ، وبناء صرح عظيم في تأويل آيات القرآن ، وإستظهار الدرر الظاهرة في ذخائر آياته .
وتبين هذه الآيات خصالاً مذمومة للمنافقين لتدعو إلى تعيينهم بصفاتهم، والدلالة عليهم بأفعالهم وفيه تأسيس لقواعد عقائدية وأخلاقية لنشأة [ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) وهم المسلمون إذ أراد الله عز وجل لهم وراثة النبوة وتعاهد سنن التقوى ، فلابد أن تلفظ المنافق وتطرد ذات النفاق من النفوس والمجتمعات ، وتمنع من أثر المنافقين وأهل الريب في القرار والمشورة والمنتديات.
وهذا الجزء قراءة في معاني الكشف ومصاديق البيان في الآيات الأربعة أعلاه من سورة البقرة من جهات :
الأولى :كل آية منها مدد وعون للمسلمين .
الثانية :فيها تخفيف عن المسلمين ، وجزء علة لرص وتماسك صفوفهم .
الثالثة :دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على ما صرفه من ضروب الفتنة التي سعى إليها المنافقون , قال تعالى في ذمهم [لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ]( ).
الرابعة :عدم صيرورة النفاق وظهوره برزخاً أو حاجزاً دون نصر المسلمين في ميادين القتال .
الخامسة : وقاية المسلمين من إتخاذ بطانة تخفي السوء ، وخاصة تفتقر إلى الصلاح .
السادسة :التوثيق السماوي لآفة الحسد والعداوة للمسلمين الكامنة بين ظهرانيهم .
السابعة : بيان قانون كلي وهو أن الله عز وجل لا يرضى للمسلمين إلا صدق الإيمان وإخلاص السريرة ، ولا تقبل الأعمال إلا بقصد القربة الذي هو كيفية نفسانية , وواعز ذاتي تتقوم به العبادات ويتبين صدق أداء ضروب الطاعة لله عز وجل .
الثامنة : إتصاف نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصية وهي تنزيه الأرض من النفاق ، وفيه حرب على الكفر والضلالة وإنحسار لأثرها في الأرض .
التاسعة :من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق] ( )فضح النفاق ومنع استيلائه على النفوس.
وتتقوم بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول آيات القرآن وتقدير الحديث أعلاه : نزلت آيات القرآن لإتمام مكارم الأخلاق وتضمن هذا الجزء الإقتباس من ذخائر البيان القرآني , والزجر عن الإقامة على الضلالة , وفيه دعوة متجددة للتنزه من درن النفاق والمكر والإستكبار على الحق ورسالة الهدى .
وإبتدأ هذا الجزء بالنهل من بحور البيان في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( ).
لتكون مضامين هذه الآية حجة بالغة ومرآة ظاهرية لحال النفاق , فيُظهر المنافقون والمخادعون الإيمان اللساني في حضرة المؤمنين وفي المساجد والمنتديات العامة للمسلمين ، وإذا خلوا إلى رؤساء الضلالة كشفوا الكفر والخبث الكامن في سرائرهم .
وتتجلى حقيقة في المقام وهي أن المنافقين لا يعلنون من أفراد الإيمان إلا بمقدار الحاجة والإضطرار والحرج الشديد ودفع الأذى عنهم ومحاولة التغرير بالمؤمنين.
فلم يعلن المنافقون التأييد والنصرة للمؤمنين مع أنهم كانوا يواجهون أقطاب الكفر من قريش ومن والاهم من القبائل، بينما يظهر المنافقون للكفار الولاء والمعية بقولهم [إِنَّا مَعَكُمْ]والذي يدل على النصرة المفتوحة ليكون من التأليب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين والدعوة للإجهاز عليهم، ولعله من أسباب تتابع تعدي وغزو قريش للمدينة المنورة بجيوش عظيمة من الكفار , ويمكن إستقراؤه من الأخبار التأريخية التي تدل على التخاطب بينهم ، وتحسس المنافقين لنوايا المسلمين بخصوص بناء دولة الإسلام وسرايا الغزو ، وبعث الرسائل والأخبار إلى الكفار وتحريضهم على المؤمنين.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تقل (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ثم إذا خلوا إلى شياطينهم ) وبما يفيد التراخي والإمهال والفترة بين اللقاءين ، بل ورد العطف في الآية بحرف (الواو) الذي يفيد التتابع وإن لم يرق إلى الفورية والتعقيب الذي تدل عليه الفاء ، أي أن الآية لم تقل (قالوا آمنا فاذا خلوا إلى شياطينهم ) ليكون من دلالات حرف العطف الواو في الآية عدم التداخل بين المؤمنين وشياطين الكفر والضلالة وأن خلوة المنافقين بهم ليست سهلة أو يسيرة ، لأن الإسلام في حال قوة والمؤمنين في عز ورفعة ، ولأن هذه الآيات جعلت المسلمين يرتقون في مراتب الفطنة ويعلمون أفعال المنافقين ويحسنون التوكل على الله ، ويتفانون في طاعته والجهاد في سبيله (عن ابن شهاب قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدراً ، فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس ، فمشوا في الناس يخوفونهم وقالوا : قد أخبرنا أن قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل ، يرجون أن يواقعوكم فينتهبوكم ، فالحذر الحذر . . . . فعصم الله المسلمين من تخويف الشيطان ، فاستجابوا لله ورسوله وخرجوا ببضائع لهم وقالوا : إن لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا له ، وإن لم نلقه ابتعنا بضائعنا . فكان بدر متجراً يوافي كل عام ، فانطلقوا حتى أتوا موسم بدر ، فقضوا منه حاجتهم ، وأخلف أبو سفيان الموعد فلم يخرج هو ولا أصحابه ، ومر عليهم ابن حمام فقال : من هؤلاء؟ قالوا : رسول الله وأصحابه ينتظرون أبا سفيان ومن معه من قريش . فقدم على قريش فأخبرهم ، فأرعب أبو سفيان ورجع إلى مكة ، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بنعمة من الله وفضل ، فكانت تلك الغزوة تدعى غزوة جيش السويق ، وكانت في شعبان سنة ثلاث) ( ).
وهذه الآية هي أول آية في نظم القرآن تتضمن مادة(شطن) أي بعد وقبح، وجاءت بخصوص رؤساء الضلالة وبصيغة المضاف ونسبتهم إلى المنافقين والمخادعين، للتحذير من أرباب السوء والضلالة، ودعوة الناس لعدم الإنصات لهم والإبتعاد عن الخلوة معهم، ويتضمن نعت رؤساء الضلالة بالشياطين بعث النفرة في النفوس منهم، ودعوتهم إلى التوبة والإنابة والتنزه من الإقامة على هذه الصفة القبيحة التي تجلب لهم العار في الدنيا والخزي والعذاب في الآخرة.
ومن إعجاز الآية أنها جاءت تبكيتاً للمنافقين وبيان خصلة من خصالهم المذمومة لتفيد أموراً :
الأول : فضح أقطاب الكفر وكيف أن المنافقين يرجعون إليهم، ويأخذون منهم مفاهيم الجحود، وصيرورتهم أئمة يهدون إلى الفسوق والفجور.
الثاني : إزدراء الناس للمنافقين واكتشافهم ما في النفاق من الأذى للذات والغير.
الثالث : زيادة معارف المسلمين، وتنمية ملكة الفطنة عندهم.
الرابع : التوثيق السماوي للمناجاة بالمنكر والضلالة التي تجري بين المنافقين ورؤساء المكر والخداع , وهذا التوثيق سلاح بيد المسلمين في كل زمان للثبات على التقوى، وحث للناس على قهر النفس الشهوية.
ولم يرد لفظ (شياطينهم) ولفظ (مستهزئون) في القرآن إلا في هذه الآية وكأنه مرآة لحقيقة ظهور النفاق لأول مرة في التأريخ مع تجلي معالم النصر والظفر والمنعة عند المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، بتقريب صيرورة أعدائهم القريبين منهم في محل السكن والوطن في حال تتصف بأمور:
الأول : الخشية من إظهار الكفر.
الثاني : إعلان الإيمان باللسان، مع البقاء على الضلالة والجحود.
الثالث : إضطرار أهل الجحود ومنكري المعجزات البينات إلى الخلوة والإنفراد عن الناس لإظهار حسدهم وعداوتهم لأهل الإيمان.
الرابع : إتصاف المنافقين بالكذب المتصل،وإن تباين المحل ونوع اللقاء، ويفيد قوله تعالى حكاية عنهم[إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( )، مسائل:
الأولى : الحصر في النية والقصد، وفيه إقامة للحجة عليهم.
الثانية : إتحاد ماهية فعل المنافقين، ومعنى قولهم (آمنا) وما يدل عليه من الكذب والزيغ، لمجيء(نحن) وهو سور كلي.
وفيه دعوة للمسلمين لعدم الركون للمنافقين أو المهادنة معهم لذا ورد قوله تعالى[وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( )، خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن ورائه المسلمون والمسلمات.
الثالثة : إتخاذ المنافقين السخرية طريقاً لمحاربة النبوة، ومواجهة الآيات وفيه آية من جهات:
الأولى : السخرية مدرسة وكيفية في الخصومة والنزاعات .
الثانية : إنه صيغة ساندة للجيوش في قتالها.
الثالثة : الإستهزاء بالعدو سبب لتقوية نفوس الأفراد والجنود لذا فمن إعجاز الآية أنها أطلقت على رؤساء الضلالة صفة (شياطينهم).
الرابعة : إنه وسيلة لإرباك العدو وإشغاله بذاته.
الخامسة : إتخاذ الإستهزاء والسخرية مقدمة للنصر والظفر.
السادسة : إرادة شد عزائم كفار قريش الذين يريدون الإجهاز على الإسلام لذا تفضل الله عز وجل بحضور المدد للمؤمنين منه تعالى بقوله[اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ]( )، ليكون من كفاية الله عز وجل لرسوله وللمؤمنين، ومن مصاديق قوله تعالى[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
ومن الإعجاز في نظم القرآن مجئ سورة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، فاتحة له، ويتجلى فيها الثناء على الله عز وجل وأبهى معاني الدعاء والمسألة وبيان الفاقة والحاجة إلى شآبيب رحمته تعالى.
ثم جاءت الآيات الخمسة الأولى من سورة البقرة في الثناء على المؤمنين وكأنه شكر من الله عز وجل على ثنائهم وتسليمهم بمقام الربوبية المطلقة لله تعالى وإنقطاعهم إلى عبادته بقوله سبحانه [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، وبشارة الإستجابة لدعائهم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ولتبقى هذه الآيات الخمسة نوع عهد بين الله عز وجل وبين المسلمين، وحثاً لهم للثبات في منازل الإيمان، والصبر على أذى الكفار والمنافقين إذ إنتقل نظم الآيات لبيان صفاتهم , وتحذير المسلمين منهم، فبعد آيات الثناء على المؤمنين جاءت خمس عشرة آية في ذم المنافقين، وبيان خصالهم وقبائح أفعالهم.
وأختتم هذا الجزء بالبيان في قوله تعالى[مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا…..] الآية( )، وفيه إرتقاء في مدرسة المثل لم يصل إليها العقل الإنساني والمنهج التجريبي،بالإضافة إلى حقيقة وهي أن الكنوز العقائدية والذخائر والدلالات الكلامية التي يتضمنها المثل الوارد في الآية أعلاه لم تستخرج أو تستقرأ إلى الآن.
وتجلى والحمد لله تفسيرنا للآية أعلاه من وجوه:
الأول : الجزء الثالث من هذا التفسير الصفحات 179 – 200.
الثاني : ذكر البيان الوارد في هذا المثل وعموم الآية الكريمة أعلاه في هذا الجزء ومن الصفحة 249-293.
الثالث : إبتداء الجزء التالي وهو الخامس بعد المائة في صلة هذه الآية بالآيات السابقة لها وأسرار الجمع بين خصال المنافقين الواردة فيها، قال تعالى[وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
البيان في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( ).
بحث كلامي ( مدرسة العطف في القرآن )
إبتدأت الآية بحرف العطف الواو وفيه دلالة على اتصالها بالآية السابقة ، وهذ الإتصال من وجوه :
الأول : إشتراك الآيتين بلغة العطف على ما قبلهما من الآيات، الأمر الذي يجعل موضوعية للعطف في التفسير من جهات :
الأولى : شأن وموضوعية الآيات السابقة في تفسير هذه الآية .
الثانية : أثر الآية السابقة في تفسير هذه الآية .
الثالثة : موضوعية الآيات السابقة في تفسير الآية السابقة ،وهذه الآية مجتمعتين .
الرابعة : أثر وموضوعية مضامين هذه الآية في تفسير الآيات السابقة .
الخامسة : إتحاد هذه الآيات بلحاظ العطف بينها، وهذا الإتحاد يحتمل وجوهاً:
الأول : الإتحاد والتداخل في الموضوع .
الثاني : العطف والترابط في الدلالة.
الثالث :إرادة الإتحاد من جهات:
الأولى : البلغة والطريق المبارك.
الثانية : الغاية الحميدة.
الثالثة : المعنى الأعم للبلغة والغاية معاً.
الرابع : الإتحاد بخصوص الحكم .
الخامس :إرادة المعنى الأعم والجامع لوجهين أو أكثر من الوجوه أعلاه .
الجهة السادسة : دعوة المسلمين عامة والعلماء خاصة لإستقراء وجوه الشبه والصلة بين موضوعات الآيات .
السابعة : تجلي الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن في صيغة العطف بين الآيات الكريمة ، وتشمل كنوز مدرسة العطف في القرآن العطف في ذات الآية الواحدة الذي قد يأتي في أول الآية ويتكرر بين كلمتين أو أكثر منها كما في قوله تعالى[فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ] ( ).
الثامنة :الإتحاد والتشابه في حركة الإعراب بين المعطوف والمعطوف عليه .
الثانية : المعنى الخاص لكل حرف من حروف العطف .
فالواو مثلاً أكثر حروف العطف إستعمالاً، وتعني إشراك الثاني فيما دخل فيه الأول ، كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ) وتفيد [ثُمَّ] العطف والتراخي كما في الوعيد في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا]( ).
ومنها[أَوْ] للتخيير أو الترديد في الجملة الخبرية ويقابله [أَمْ] في التخيير حال صيغة الجملة الإسمية .
ولا ينحصر العطف بين الكلمات والجمل بحروف العطف وفق الصناعة النحوية ، فيأتي حرف [بل] للعطف بالإضراب عن الأول والثبات في الثاني .
وقد يجتمع حرفان ليفيدا معنى العطف مثل [إنما] وتتألف من
إن : وهو حرف مشبه بالفعل يفيد التوكيد وما هو اسم موصول بمعنى الذي، وقد يتضمن أحياناً معنى العطف والإشارة إلى ما سبق من غير نسخ لمعناه الأصلي وهو حرف تنبيه .
ويمكن أن نقسم العطف تقسيماً إستقرائياً إلى وجوه :
الأول : حروف عطف أصلية مثل الواو ، ثم .
الثاني : حروف تفيد العطف عرضاً .
الثالث: العطف المستقرأ من نظم الآية والكلام، والذي ليس فيه حرف عطف يشرك بين الآيتين أو الجملتين ، ولكنه ظاهر في المعنى والدلالة كما في هذه الآيات وقوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] ( )إذ أنه معطوف على[وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( ) , وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى آيات .
وبعد آيتين في ذم الكفار جاءت هذه الآيات الثلاث عشرة في موضوع المخادعين وخصالهم وصفاتهم وإصرارهم على الباطل ، والضرر الناتج عن أقوالهم وأفعالهم، وصبر المسلمين في تلقي الأذى ، وجهادهم لجذب المخادعين وغيرهم للإيمان وإصلاح الألسن وتنزيه المجتمعات من آفة الخداع والمكر السيء ، وكل آية منها مدد للمسلمين في سعيهم في مسالك التقوى وواقية من شرور الكفار .
ولم يستطع المسلمون الصبر والنصر لولا نزول آيات القرآن، ليكون من إعجاز القرآن الغيري دوام الإسلام إلى يوم القيامة وهداية المسلمين لسبل الرشاد، وعدم وجود أثر لتعدي المخادعين ، ولم يبق إلا ذمهم وتبكيتهم في هذه الآيات التي هي مواساة للمسلمين وبشارة الظفر والثواب .
ومن أسرار ذكر صفات المخادعين متعاقبة ومتعاطفة من غير تراخ بينها تحذير وإنذار المؤمنين منهم ، ووجوب عدم الميل والركون إليهم ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين وراثة الأنبياء والإمامة في مناهج الهدى من وجوه :
الأول : الصبر في ملاقاة الكفار.
الثاني : تحمل الأذى منهم كما كان يتحمله الأنبياء.
الثالث : التحلي بالسعي الحثيث في الدعوة إلى الله عز وجل.
الرابع : تلقي المدد من عند الله , وهذا المدد من جهات :
الأولى : الهداية إلى سبل الإيمان.
الثانية : الشوق لأداء العبادات والفرائض.
الثالثة : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علة لثبات الإيمان في النفوس.
الرابعة : اللطف الإلهي بإحتراز المسلمين من النفاق وصيغ الشك والضلالة، ومنه هذه الآية لما فيها من كشف سنخية المخادعين، ووجوب أخذ الحيطة والحذر منهم.
الخامسة : بيان وجود ظهير سوء للمخادعين وهم أرباب الشرك الذين وصفتهم الآية بأنهم شياطين مردة تنزل عليهم اللعنة، للملازمة بين الشطن والطرد عن رحمة الله، وهل تشمل اللعنة المخادعين الذين يتحلون بهم ويعلنون نصرتهم وإتباع نهجهم، الجواب نعم، وهو من الإعجاز في تسمية (شياطينهم) لما فيه من التداخل بينهم.
معاني اللقاء في الآية
بعد أن وصفت الآية السابقة المخادعين بأنهم لا يعلمون إبتدأت هذه الآية بذكر لقائهم للمؤمنين ، وهل من موضوعية لعدم العلم فيه , الجواب نعم ، فهناك تباين بينهم وبين الذين يعلمون وجوب الإيمان ولزوم أداء الفرائض، ومن مصاديق غفلة وجهالة وعدم علم المخادعين عند هذا اللقاء أمور:
الأول : لا يعلمون عظيم النعمة بلقاء المؤمنين لأنه تذكير بالله والنبوة ودعوة للصلاح .
الثاني : اللقاء حث لمحاكاة المؤمنين في سنن التقوى .
الثالث : لا يعلم المخادعون أن المؤمنين يعلمون بخداعهم ونفاقهم لأن الله عز وجل أخبرهم عنهم بهذه الآيات .
الرابع : لا يعلمون أن لقاء المؤمنين مناسبة للتوبة والإنابة .
الخامس : تعاضد وتآزر المؤمنين فيما بينهم .
السادس : عجز المخادعين عن جعل المؤمنين يحبونهم ويطمئنون أو يركنون إليهم ، قال تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
السابع : لا يعلم المخادعون بأن الله يطلع المسلمين على كذبهم وزيف قولهم آمنا.
الثامن : لا يعلمون أن لقاءهم لا يضر المسلمين إذ أنهم أدركوا سفاهة وخفة عقل المخادعين .
وتبعث هذه الآية الرضا والعز في نفوس المسلمين لأنهم يرون عدوهم عند اللقاء ضعيفاً واهناً يعلن إيمانه ويحاكيهم في أقوالهم ويسعى لطلب ودهم .
لقد نعت المخادعون المؤمنين في الآية السابقة بالسفهاء ففضحهم الله عز وجل بأن أخبر أن السفه وخفة العقل مصاحبان لهم في باب الإختيار والفعل ، ثم جاءت هذه الآية لتؤكد التباين بينهم وبين المسلمين الذين أكرمهم الله عز وجل بالإيمان، وليكون من وجوه تقدير الآية : (وإذا لقى السفهاء الذين آمنوا ) وفيه كشف وبيان لذات ودلالة اللقاء وقولهم [آمَنَّا] فلأنهم سفهاء لا يعلمون بأن قول (آمنا) يجب أن يكون مع إخلاص النية وقصد القربة.
وتكررت مادة [آمَنَّ] أربع مرات في الآية السابقة ووردت مرتين في هذه الآية لتأكيد موضوعية الإيمان وأن الحياة والصلات بين الناس لا تتقوم إلا به , وفيه دعوة للناس للسعي لنيل الإيمان والظفر بالتحلي به بلحاظ أنه بلغة وغاية.
حسن المعاشرة
جاءت آيات القرآن والسنة النبوية بحسن الخلق وتنمية مكارم الأخلاق وذم سفاسفها ، ولم ينحصر الخلق الكريم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع خصوص المسلمين ، بل كان عاماً حتى مع الأسرى لأنه بعث رحمة للناس.
وقد وثق القرآن الخلق الكريم لأهل البيت عليه السلام في قوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا]( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال : (لما أتى بسبايا طيء وقفت جارية في السبى فقالت يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي وإن أبي كان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط أنا ابنة حاتِم الطائي .
فقال صلى الله عليه وآله و سلم يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق وإن الله يحب مكارم الأخلاق فقام أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله يحب مكارم الأخلاق فقال والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة إلا حسن الأخلاق) ( ).
فيلتقي المسلمون مع عامة الناس من أهل الملل الأخرى في الأسواق والمنتديات إلى جانب أمر الله ورسوله بحسن الجوار مطلقاً مع المسلم وغيره ليكون موضوع الجوار دعوة إلى الإسلام ومنعاً للنفرة منه ، فيكون حسن أدب المسلمين مع جيرانهم مرآة لسنن الإسلام وشاهداً على إمامتهم في الصالحات.
ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض رد الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ولم يمنع إحتجاج الملائكة من خلافة الإنسان في الأرض إذ عمّرها بالعبادة والنسك وحسن الخلق الذي ورث المسلمون حمل رايته ، ليدرأ الفساد عن الأرض , وتكون الخلافة حرباً على النفاق .
ومن علم الله عز وجل أنه لم يترك الناس وشأنهم بل أنزل عليهم القرآن دستوراً جامعاً للعبادات والمعاملات والأحكام والسنن ، وباعثاً على مكارم الأخلاق ، ومنها بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول :لقاء المسلمين للمخادعين .
الثاني : الإمتناع عن توبيخ المنافقين والمخادعين ، وهل هذا الإمتناع على فرض وقوعه من التفريط أم هو إتكال على الله عز وجل ، الجواب هو الثاني لأنه سبحانه تكفل هذا الأمر .
الثالث : المسلمون أمة متحدة في مرضاة الله عند لقاء المخادعين لإقرارهم بالإيمان بحضرة المؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ) .
وتدل صيغة الجملة الشرطية [وَإِذَا لَقُوا] على تعدد وتكرار لقائهم للمؤمنين، وفيه وجوه :
الأول : الآية إنحلالية ، والمقصود لقاء أحد المخادعين لواحد من المؤمنين على نحو الإنفراد .
الثاني : لقاء فرد من المخادعين مع جماعة من المؤمنين ، لدلالة الآية على كثرة عدد المؤمنين، وتعدد الدعوة إلى الهداية والإيمان .
الثالث : إجتماع نفر من المنافقين مع جماعة من المؤمنين .
الرابع : إستقبال جماعة من المخادعين لفرد من المؤمنين بلحاظ أنه أمة في الخير ، قال تعالى في الثناء على إبراهيم [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ).
وتتضاعف هذه الوجوه بلحاظ أن اللقاء يكون في الحضر، ويكون في السفر، وهل موضوع الآية من مصاديق قوله تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
الجواب نعم ، ومن إعجاز القرآن وجود صلة وتداخل بين كل آيتين منه سواء بالتبادر والظاهر أو عند التحقق وصيغ التأويل ، إذ يفيد الجمع بين الآيتين الوعيد للمخادعين وأن عاقبتهم إلى الخسران لأنهم من عموم المكذبين .
البيان في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا]( ).
وجاءت واو الجماعة فاعلاً في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا] والأصل أنه معطوف على ما سبقه، وهذا العطف متعدد في ترتيبه من وجوه:
الأول : أختتمت الآية السابقة بجملة فعلية من كلمة واحدة [لاَ يَعْلَمُونَ]والفاعل فيها واو الجماعة والذي يشير إلى ذات الفاعل .
الثاني : ضمير الفصل في [هُمْ السُّفَهَاءُ].
الثالث : اسم إن في [أَلاَ إِنَّهُمْ] ( ).
الرابع :الواو في [قَالُوا أَنُؤْمِنُ].
وجاء نعت جهة القول والدعوة لهم بالإيمان بالفعل المبني للمجهول [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ]وفي التباين في بناء الفعل وإظهار واو الفاعل آية إعجازية لبيان إتصال اللطف وإتحاد الفاعل الذي تدل عليه واو الجماعة .
واللقاء لغة هو : استقبال الشخص والإجتماع على غير موعد يقال لقي يلقى ،ويأتي أحياناً بلفظ لاقى ومعناه أظهر في المفاعلة (وسمع للقى أربعة عشر مصدراً ، قالوا : لقى ، لقيا ، ولقية ، ولقاة ، ولقاء ، ولقاء ، ولقى ، ولقي ، ولقياء ، ولقياء ، ولقيا ، ولقيانا ، ولقيانة ، وتلقاء) ( ) والنسبة بين لقى ولاقى هي العموم والخصوص المطلق ، فالأول أعم ويشمل لقاء الأشخاص وغيرهم ، صدفة وإتفاقاً أو عن تقدير ومعرفة وورد كلاهما في القرآن ولكن الثاني جاء في الملاقاة القهرية والحتمية والوعيد ، قال تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ] ( )، وقيل معناهما واحد .
وهذه الآية أول آية في نظم القرآن تذكر مادة (لقى) وتبين حصول لقاء فلم تأت بخصوص الأنبياء السابقين وأممهم ولا بين المؤمنين أنفسهم ،أو بين المنافقين أو الكفار بعضهم مع بعض . بل ذكرت لقاء الكفار للمؤمنين وفيه مسائل :
الأولى : إنه آية جهادية للمسلمين .
الثانية : توثيق الأذى الذي يلحق المؤمنين من القوم الكافرين.
الثالث :خيبة المنافقين بفضحهم وكشف بواطنهم المخالفة لما يعلنونه من ظاهر الإيمان .
الرابعة :الآية من علم الغيب لما فيها من بيان كلام وخداع المنافقين حال إجتماعهم مع رؤسائهم في الضلالة .
ومن إعجاز الآية أنها لم تكرر مادة اللقاء فلم تقل ( وإذا لقوا شياطينهم ) بل قالت [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]وفيه مسائل :
الأولى : بيان التباين الموضوعي بين فردي الإجتماع.
الثانية : الإخبار عن اللقاء العلني مع المسلمين ، بينما يجتمع المنافقون مع رؤسائهم في السر والخفاء .
الثالثة : عدم خلو اللقاء مع المسلمين من النفع .
الرابعة : تأكيد التضاد والتباين بين ظاهر المنافقين ، وما يخفون في نفوسهم من الخبث ورجاء خسارة المسلمين.
الرابعة : اللقاء مع المسلمين مناسبة للتوبة والتدارك , ونوع برزخ دون الرجوع إلى رؤساء الضلالة .
تدل الآية بالدلالة التضمنية على الغيرية والتباين بين المؤمنين والمنافقين لقوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا] فجعلت الآية الذين أمنوا طرفاً ، والمخادعين والمنافقين طرفاً آخر ليكون لقاء المؤمنين بغيرهم مناسبة للدعوة إلى الله وفعلاً يترتب عليه الأجر والثواب للمؤمنين ، وإن لم يكن قول وفعل للمؤمنين في اللقاء فانهم يؤجرون على تلقي الخداع وصبرهم على كذب وتكذيب المخادعين .
وعطفت الآية على لقاء المخادعين للمؤمنين خلوتهم برؤساء الضلالة لبيان مصاديق من قوله تعالى [اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى] ( )من جهات :
الأولى :لقاء المخادعين بالمؤمنين مع الإصرار على الخداع والنفاق ، والأصل هو إقتباس الناس المعارف والخصال الحميدة في المؤمنين .
الثانية : إظهار التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن بحضرة المؤمنين .
الثالثة : عدم إتخاذ المنافقين لقاء المؤمنين زاجراً لهم عن الإنقياد لرؤساء الكفر والضلالة ، إذ ينفردون بهم بعيداً عن أعين المؤمنين والناس، فتفضل الله عز وجل وكشف موضوع تلك الخلوة وأنها ليست مجردة وتدل على القبح الذاتي لها من جهات :
الأولى : قصد الخلوة والإنفراد من الناس لأمور مريبة ليدل بالدلالة الإلتزامية على أمور :
الأول: قوة الإسلام وسعة سلطانه .
الثاني : عجز المنافقين ورؤساء الضلالة مجتمعين عن اللقاء العلني أمام الناس .
الثالث : ميل الناس إلى الإسلام ، وبغضهم لأرباب الضلالة .
الرابع : نفرة النفوس من التضاد الذاتي باظهار الإيمان وإخفاء الكفر والجحود .
الخامس : خشية المنافقين على مصالحهم الخاصة بين الناس كالتجارة والزراعة والصلات الإجتماعية ، وما يتعلق بالنسب والنكاح، وخوفهم حتى من أولادهم وعوائلهم وحرصهم على عدم إطلاعهم على لقائهم برؤساء الضلالة ز
فجاءت آية البحث لفضحهم بين الملأ ، وإعلام الناس في كل زمان عن هذه الخلوة ومقاصدها الخبيثة وهو من إعجاز هذه الآية الكريمة بأن ذكرت واقعة ولقاء لا يعلمه إلا الله فأخبرت عنه ليعلم الناس كلهم به في الدنيا ، ليروا في الآخرة وعلى نحو الحقيقة ذات الأشخاص المنافقين كيف ينفرد بهم رؤساء الضلالة وما كان يدور بينهم من كلام ومحاولة لمحاربة الإسلام وصد الناس عن دخوله , قال تعالى [يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ]( ).
الثانية : قيام الحجة على المنافقين ، وثبوت التباين والتضاد في أقوالهم وأفعالهم ، وإذا كانت آيات القرآن لم تذكر أسماء المنافقين وإكتفت بذكر صفاتهم ، فلماذا لم تذكر رؤساء الضلالة الذين يخلون بهم ، الجواب من وجوه :
الأول : إنه من عموم الستر والرحمة بالناس .
الثاني : دعوة أرباب الضلالة إلى الإيمان .
الثالث : صحيح أن الآية لم تذكر أسماء أولئك الذين يلجأ إليهم المنافقون لكنهم كانوا معروفين عند المسلمين , ويتصفون بالصدود عن الحق والكفر الظاهري .
الرابع : تبين الآية صفات أرباب الشرك والكفر بما يفيد معرفتهم وتمييزهم بين الناس إذ أنهم يصرون على البقاء على الكفر والضلالة .
الخامس : إرادة التعدد والتنكير في عموم أهل الكفر والجحود ،وأن الأمر لا يختص بأفراد مخصوصين فعندما يخلو المنافقون والمخادعون مع أهل الكفر سواء في المدينة أو غيرها ، وفي حال الحضر والسفر يعلنون إنتماءهم لهم ، وبقاءهم على مفاهيم الضلالة .
الثالثة : تبين الآية وجود تحالفات بين أعداء الإسلام مع الإختلاف بينهم وحصولها داخل مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على إجتماع الخطر والأذى الذي يأتي من الخارج سواء من كفار قريش أو غطفان أوغيرهم ومن أطراف داخل المدينة تؤازرهم وتكون عيوناً لهم ومادة لتثبيط عزائم المؤمنين عند القتال ، وشاع في هذا الزمان إصطلاح الطابور الخامس وأصله أن الثوار في اسبانيا عام 1936 هجموا باربعة طوابير , أما الخامس فهو الذي يناصرهم داخل مدريد من الناس الذين يؤيدونهم ثم أستعمل الإصطلاح بخصوص الجواسيس والعيون والذين يبثون الإشاعات المغرضة والحرب النفسية , ويستعمل هذا اللفظ أطراف النزاع والحرب بحسب مصلحتهم .
وجاء القرآن بالبيان والتفصيل الذي يلائم كل زمان وإطلاق صفة [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] على الذين يخفون الكفر في صدورهم مع إظهارهم الإيمان , لتبكيتهم وبعث الفزع في نفوسهم , وتحذير المؤمنين منهم , ومن ذات الأفعال التي تترشح عن هذا الداء .
ترى لماذا تقدم على هذه الآية قوله تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] ( )، فحينما إستهجن المنافقون الإيمان بمثل حال المؤمنين وأقبالهم على الفرائض، وأدائهم الصلاة وإخراجهم للزكاة، وخروجهم لسوح الجهاد وتفانيهم في مرضاة الله عز وجل، جاءت آية البحث لتخبر بأنهم يدّعون الإيمان عند لقاء المؤمنين، وفيه وجوه:
الأول : إنهم يدّعون ذات الإيمان الذي عليه المسلمون.
الثاني : إرادة الإيمان على نحو الموجبة الجزئية، وبالكيفية التي يريد المخادعون لأنفسهم.
الثالث : لا يدل نظم الآيات في المقام على التقدم والتأخر الزماني بين مضامين الآية السابقة وهذه الآية.
والصحيح هو الأول ، ليكون من البيان في هذه الآيات إظهار نفاق المخادعين فمع تبييتهم النية على عدم الإيمان والتصديق الجازم بالنبوة والكتاب فانهم يدّعون الإيمان بحضرة المسلمين ويقومون بنقضه عند الخلوة برؤساء الضلالة، وفيه شاهد على تعايش المسلمين في المدن مع المخادعين ومع الكفار وأعداء الدين، وأنعم الله عز وجل على المسلمين بكشف حقيقة الكفار ومكرهم وفيه دعوة لهم للصبر، والمواظبة على فعل الطاعات وإتيان الصالحات.
واذا كان لفظ [الَّذِينَ آمَنُوا] عاماَ , ويشمل كل من صدّق بالدعوة الإسلامية ظاهراً ونطق بالشهادتين وإن كان الشك والريب يستحوذان على قلبه ، فكيف جاء هنا ، الجواب من وجوه إعجازية :
الأول : وجود قرينة بإرادة ملاقاة المنافقين لخصوص المؤمنين وأهل التقوى ، وهي قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا]الذي يفيد المغايرة والتعدد بين الملاقي والملاقى .
الثاني :جاء القرآن بالإخبار عن عظيم منزلة المؤمنين , وما أعدّ الله لهم من الثواب العظيم بقوله تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] ( ).
وبين لفظ المؤمنين والذين آمنوا عموم وخصوص مطلق ، فالذين آمنوا هو الأعم ويدخل فيه المنافقون والضلال وفي تفسير الآية السابعة والخمسين من سورة آل عمران مزيد بيان .
الثالث : ورد البيان في قوله تعالى [ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ] ( )إذ تقيد الآية أعلاه فوز الذين آمنوا بالأجر والثواب العظيم بعملهم الصالحات .
بينما جاءت الآية أعلاه من سورة التوبة مطلقة من غير تقييد بعمل الصالحات ، وكأنها تخبر بأن المسلم والمسلمة لا ينالان مرتبة (المؤمن) و(المؤمنة) إلا بعد صدق الإيمان وصيرورة عمل الصالحات سنخية ثابتة عندهما متفرقين ، وهو من أسرار ذكر المؤمنات في الآية أعلاه لبعث المؤمنين رجالاً ونساءً على التعاون والتآزر والتسابق في أداء الفرائض وعمل المندوبات وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الرابع :مجئ لفظ [الَّذِينَ آمَنُوا]في آية البحث تحذير للمسلمين بأن المنافقين دخلوا بين ظهرانيهم وصاروا جزء ً منهم .
الخامس : من الإعجاز في المقام قول المنافقين بعضهم لبعض آمنا لأن كل واحد منهم يخفي ما في قرارة نفسه من الكفر والضلالة ، لذا ورد قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]والذي يدل بالدلالة التضمنية على إحتمال إخفاء المنافق هذه الخلوة عن غيره من المنافقين خاصة وأن بعضهم ينتقل إلى منازل الإيمان ويتخلى على نحو دفعي أو تدريجي عن النفاق .
وورد لفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]تسعاً وثمانين مرة في القرآن ، ويمكن القول بالتفصيل وأن لفظ ( الذين آمنوا ) يأتي على وجهين :
الأول: إرادة المؤمنين والمؤمنات ممن ملأ الإيمان صدورهم , سواء من المسلمين أو أتباع الأنبياء السابقين , قال تعالى[وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا] ( ).
الثاني : إرادة عموم المسلمين والمسلمات وكل من نطق الشهادتين من قول [الَّذِينَ آمَنُوا]أي آمنوا ظاهراً بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيدخل معهم المنافقون .
والمراد في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا] ( ) هو المعنى الأول ، ويكون المعنى الثاني في طوله بلحاظ ما تقدم من خشية المنافقين بعضهم من بعض ولأن النفاق داء داخل النفس ، فجاءت الآية مدداً للمسلمين بكشف ما في نفوس أهل الريب والشك , فكما أن النفاق أمر ظهر في المدينة المنورة وبعد تجلي قوة الإسلام وحمل المسلمين للجهاد في سبيل الله ، فان كشف ما في نفوس المنافقين من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ]( ).
لماذا يقول المنافقون آمنا
لقد جاءت هذه الآيات بذم المخادعين بالبينة والشاهد والمصداق الواقعي الذي يترتب عليه الذم والتبكيت عند العقلاء ، وفيه آية من إعجاز القرآن الغيري إذ أنه يحشد ويفقه الناس ضد المخادعين ليبقوا في عزلة وضيق ، وهو من أسرار إبتداء كل من الآية السابقة وآية أخرى قبلها ( )بقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] لفتح الباب للناس جميعاً بتقبيح فعل المخادعين وإدراك حقيقة لزوم إجتناب النفاق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض ، إذ أن الناس على مختلف مشاربهم ينهون المخادعين عن الفساد ويدعونهم إلى الإيمان الصادق والإخلاص في طاعة الله وترك إجتماع المتضادين في الذات الإنسانية الواحدة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
وليكون بين الجنود في الآية أعلاه وبين المؤمنين عموم وخصوص مطلق ولو بخصوص الناس وحدهم من غير إضافة للملائكة والجن، ويكون بين الذين يدعون المخادعين إلى ترك الفساد والى المبادرة إلى الإيمان وبين المسلمين عموم وخصوص مطلق أيضاً ، فيأتي حث المخادعين على الإيمان من أهل الكتاب ومن الكفار أنفسهم ومن الفساق، وهل تأتي من ذات المخادعين الجواب نعم ، بلوم بعضهم بعضاً وبتجلي المعجزات لهم ، لذا فان قولهم وإدعاءهم بحضرة المؤمنين الإيمان لا يعني على نحو السالبة الكلية ، فمنهم من يتدبر في المعجزات ويدرك صحة إختيار الإيمان ،ولكنه عندما يعود لرؤساء الكفر يستحوذون عليه ، ويرجع إلى ما إعتاد عليه من الضلالة .ومن أسباب وعلة قولهم [آمَنَّا] وجوه :
الأول : الخشية والخوف من المؤمنين ، قال تعالى في الثناء عليهم [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] ( ).
الثاني :يعمل المنافقون بعمل عامة المسلمين في العبادات والمعاملات، ولكنهم عند الخلوة مع رؤساء الضلالة تغلب عليهم مفاهيم الكفر .
الثالث : ميل المنافقين إلى صدق الإيمان، والتنزه عن الخداع بحضرة المؤمنين وفي المساجد وعند الإكثار من ذكر الله والإستغفار .
الرابع: عجز المنافقين عن الرد على البراهين الساطعات التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيعلنون الإيمان .
الخامس : إرادة الإستهزاء بالمؤمنين كما أخبرت الآية في خاتمتها .
السادس : يقول المنافقون آمنا طمعاً ورجاء النيل من الغنائم والمكاسب التي تأتي مع الإسلام وبالإسلام .
السابع : إرادة التقية المداراتية من المؤمنين ، ومنع غلظة قلوبهم وحصول النفرة وتعطيل التجارات والمعاملات معهم .
الثامن : عدم عناية المنافقين بما يقولون ، وإستعدادهم لإعلان الإنتماء إلى أكثر من جهة وإلى المتضادين في آن واحد مع أنهما لا يجتمعان في موضع واحد وفق القواعد الفلسفية، ولكن هذه الآيات تدل على إجتماعهما في ذات الإنسان ، وبروزهما على آلة وحاسة متحدة مثل اللسان ، ولكن ليس في محل وموضع متحد , فيقرون ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند لقاء ومقابلة المسلمين ، وبذات اللسان يظهرون الكفر والصدود عند كبار أهل الكفر .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة من جهات :
الأولى :التباين الجهتي في أحوال المنافقين ، فليسوا هم على درجة واحدة من النفاق والمخادعة .
الثانية : موضوعية وتعاقب المعجزات والآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينحسر النفاق في المجتمعات والنفوس .
الثالثة : يكون النفاق عند أي فرد من المنافقين من الكلي المشكك، الذي يكون على مراتب متفاوتة ، فهو يضعف بحضرة المؤمنين وعند رؤيتهم ينقطعون إلى الله بالذكر والدعاء والعبادة .
البيان الذاتي والمطلق في القرآن
من إعجاز القرآن أن المنافقين متحدون بأمور وخصال لا تحصل البراءة منها إلا بالتوبة ، وهذه الخصال هي :
الأولى :تخلف المنافقين عن أدنى مراتب الإيمان السامية ، وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال : الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة. واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قسّم في الناس شيء أقلّ من اليقين) ( ).
الثانية : إرادة المنافقين مخادعة الله ورسوله ، وإتخاذ الحيلة والختل والمكر صيغاً للصلات والمعاملات مع المؤمنين، ومن مصاديق مخادعة الله تسويف وتأجيل الإيمان ، والإبطاء في التخلص من سجايا النفاق ، ويحتمل إدعاؤهم الإيمان عند مقابلة المسلمين وجوهاً :
الأول : إنه من مخادعة الله ، لوجوب صدق الإيمان وإمتلاء القلب به.
وعن عمر بن الحكم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت يا رسول الله إن جارية لي كانت ترعى غنما لي ففقدت شاة من الغنم فسألتها عنها فقالت أكلها الذئب فأسفت وكنت من بنى آدم فلطمت وجهها , وعلي رقبة أفا عتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم اين الله فقالت هو في السماء , فقال من انا , فقال انت رسول الله قال اعتقها)( ).
الثاني : هذه الدعوى من مخادعة المسلمين على نحو الخصوص لأنهم لا يعلمون بما في السرائر ، وما يقوله المخادعون عند الخلوة بأرباب الكفر والنفاق .
الثالث : تردد المنافقين بالإيمان عند لقاء المسلمين , ولا صلة لأرباب الكفر وبين إدعاء المخادعين الإيمان ساعة لقاء المسلمين ، للتباين الموضوعي بينهما .
الرابع : هذا الإدعاء الكاذب من مخادعة الله ورسوله والذين آمنوا .
والصحيح هو الأخير ، والوجوه الأخرى في طوله , ليكون من إعجاز القرآن أن الآية من هذه الآيات تأتي بكلمة تكون خصلة من خصال المنافقين ،وبياناً وتفسيراً لخصلة أخرى من خصالهم وفي ذات الآيات المتجاورة , مع موضوعية الجوار والتعاقب بين الآيات التي يبين ويفسر بعضها بعضاً.
من مصاديق آية البحث [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ) .
يمكن تقسيم بيان القرآن إلى قسمين :
القسم الأول : البيان الذاتي أي تجلي مصاديق الإيمان بين آيات القرآن وكيف أن بعضها يبين ويكشف دلالات وذخائر الآيات الأخرى. وهذا القسم على وجوه :
الوجه الأول : البيان في الجمع بين كلمات ومضامين ذات الآية الكريمة ، إذ يفسر بعضها بعضاً، وليس من حصر لمواضيع وأمثلة هذا البيان ، فمثلاً قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
فمن البيان في الصلة بين كلمات ذات الآية مسائل :
الأولى : عبادة الله واجب على كل الناس .
الثانية : العبادة شكر لله عز وجل على نعمة الخلق .
الثالثة : تفضل الله عز وجل بخلق الناس لغرض طاعته ورجاء رضاه، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) .
الرابعة : العبادة طريق للتقوى والخشية من الله عز وجل في أمور الدين والدنيا .
ومن مصاديق التقوى المواظبة على العبادة وعدم مغادرة مقاماتها ويتجلى هذا المصداق بالصلاة الواجبة التي يؤديها المسلمون خمس مرات في اليوم , قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
ومن أسرار وفيوضات الصلاة قراءة[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )، في كل ركعة منها، ومن مصاديق الصراط بلحاظ هذه الآية أمور :
الأول : عبادة الله والتقدير إهدنا الصراط المستقيم بأن نعبدك سبحانك .
الثاني : الإصغاء إلى النداء القرآني .
الثالث :إكرام المسلمين بالإستجابة للأمر الوارد للناس جميعاً .
الرابع : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعوة عامة الناس لعبادة الله وأداء الصلاة .
الخامس :الصلاة بيان عملي لحب المسلمين لله عز وجل بأن فناءهم في عبادته يتجدد عدة مرات في اليوم وليلته ، ولو أجريت دراسة بيانية في صلاة الصبح ، الظهر ،العصر ، المغرب ،العشاء ، بلحاظ التباين في الوقت بين القرى والمدن في الأرض لوجد أن الأذان ودخول وقت الصلاة وأداء المسلمين تكون في كل دقيقة من ساعات النهار والليل، وهو من مصاديق بديع صنع الله في النظم الكونية بما يزين الأرض بالعبادة ويعمرها بالتقوى , مع وجود شواهد إنسانية وأرضية تقر مذعنة بربوبيته المطلقة وهو من مصاديق قوله تعالى [رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ]( ).
الخامسة : تفضل الله عز وجل بتقريب الناس إلى منازل التقوى وهدايتهم لها وللإقامة فيها .
السادسة : بيان عظمة خلق الله بأن الأحقاب السابقة كلها من خلق الله عز وجل وتدين له بالعبودية ويدل إنقراضها على عودتهم ورجوعهم إلى الله ،قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ] ( ).
وهذا الوجه ينشطر إلى أقسام :
الأول : بيان أول الآية لوسطها .
الثاني : بيان وتفسير وسط الآية لآخرها .
الثالث : كشف أول الآية لآخرها .
الرابع : بيان شطر من وسط الآية لشطر آخر منه .
الخامس : بيان آخر الآية لأولها .
السادس : كشف وتفسير آخر الآية لوسطها .
ووسط الآية في الوجوه أعلاه إنحلالي ومتعدد سواء كان بياناً أو مبيناً – بالفتح – بلحاظ ضابطة كلية وهي الإتحاد في أول وآخر الآية .
ففي الآية أعلاه يكون [يَاأَيُّهَا النَّاسُ]أول الآية ، ويكون [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] آخرها، أما وسطها فهو وفق هذه القاعدة على أقسام :
الأول : [اعْبُدُوا رَبَّكُمْ].
الثاني :[ الَّذِي خَلَقَكُمْ].
الثالث :[ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ].
وقد يكون الوسط متحداً كما في آية البيان [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( )، فالوسط هو كلمة [هُدًى] ومن الإعجاز أن هذا اللفظ وحده صرح عقائدي وعلمي ويتغشى العبادات والمعاملات والأحكام، وبه تتقوم الحياة الدنيا ، وليس من فعل إلا ويحتاج فيه الإنسان الهدى لنفعه والغير .
الوجه الثاني : البيان بين الآيتين المتجاورتين في ذات السورة.
الوجه الثالث : البيان بين الآيات المجاورة وهو علم تتجلى فيه خزائن للإعجاز لم يكشف الغطاء عنها بعد ، وتستلزم من العلماء بذل الوسع والتحقيق وقد صدرت الأجزاء 84-88 من هذا السفر الخالد خاصة بالصلة بين آيات القرآن وشذرات من هذا العلم.
ولا ينحصر هذا الوجه ببيان الآية لآية أخرى مجاورة بل تعرض فيه الضابطة الكلية أعلاه مع التوسعة من وجوه:
الأول : بيان أول الآية لأول الآية التالية لها.
الثاني : بيان وكشف أول الآية لوسط الآية التالية .
الثالث : توضيح أول الآية لآخر الآية التالية .
الرابع : بيان وسط الآية لأول الآية التالية .
الخامس : كشف وسط الآية لوسط الآية التالية .
السادس : بيان وكشف وسط الآية لآخر الآية التالية .
السابع : بيان آخر الآية لأول الآية التالية .
الثامن : كشف وبيان آخر الآية لوسط الآية التالية .
التاسع : توضيح وجلاء آخر الآية لآخر الآية التالية .
ثم تأتي تسعة وجوه أخرى في ذات المعنى ولكنها بالعكس منها أي بيان الآية التالية لمضامين الآية السابقة .
لذا جاء كل جزء من الأجزاء أعلاه من تفسيرنا بالصلة بين قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وبضعة آيات مجاورة لها من سورة آل عمران ليكون نواة لهذا العلم في الأحقاب القادمة وقاعدة للإستنباط تضئ طريق العلماء وتؤسس لإنشاء جامعات ومؤسسات خاصة بدراسة علوم القرآن .
الوجه الرابع : البيان والكشف بين الآيات المتجاورة , وهو علم تتجلى فيه خزائن للإعجاز لم يكشف الغطاء عن ذخائرها التي لا تنضب والفيوضات التي تتدفق منها مثل تدفق ماء الشلالات من أعالي الجبال إذ يتجلى السمو والرفعة والعلو والدفق الدائم في آيات القرآن .
الخامس : الكشف والتوضيح بين آيات السورة الواحدة ، وهو مبحث زاخر بالبراهين القاهرات على الإعجاز الذاتي للسورة ، وأسرار تقسيم القرآن إلى سور ، ودليل على التوقيف في ترتيب الآيات والسور ، والعلل الخفية لوضع هذه الآية بعد تلك الآية ، أو بين الآيتين .
وهذا الوجه في طول الوجوه الأربعة المتقدمة ليكون كنزاً مترامي الأطراف ليس له حد ولا رسم.
السادس : معاني البيان بين آخر آية من السورة وأول آية من السورة الأخرى كما في سورة لإيلاف قريش وإتصالها بسورة الفيل التي قبلها[فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ]( )[ لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ]( )، ليكون المعنى أن أصحاب الفيل أهلكوا وماتوا شر ميتة من أجل إيلاف قريش أي لتتفق وتتآلف ولكن المعنى أعم، إذ يكون هذا الإيلاف مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية تدل على فضل الله بتهيئة مقدمات رسالته وأسباب نصره.
وقد ذكرت في رسالتي العملية الحجة مسألة في القراءة هي:
(مسـألة365) الأقوى اتحاد سورتي الفيل وقريش، وكذا سورتي الضحى والإنشراح مرتبتين في حال القراءة مع الفصل بالبسملة بينهما( ).
السابع : البيان بين آيات القرآن بحسب الموضوع والحكم بأن تؤخذ آيات القرآن التي تخص موضوعاً معيناً وبيان كل آية للآية الأخرى منها مثل:
الأول : آيات التوحيد ونبذ الشرك .
الثاني : آيات الأسماء الحسنى والصفات القدسية .
الثالث : آيات الخلق والتكوين .
الرابع : آيات العبودية لله عز وجل .
الخامس : آيات الأحكام .
وهذه الآيات إنشطارية بحسب مناسبة الحكم والموضوع .
السادس :آيات النكاح وأحكامه .
السابع : آيات بر الوالدين , قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا]( ).
الثامن : قصص الأنبياء والموعظة المستقرأة منها ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
التاسع : سنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
العاشر : مفاهيم الأخوة الإيمانية في القرآن .
الحادي عشر : القواعد الكلية للصلح وأحكامه ومنافعه مطلقاً ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ).
الثاني عشر : خلافة الإنسان في الأرض، ووراثة المسلمين لسنن الأنبياء.
الثالث عشر :علوم القرآن كالمجمل والمبين والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ .
الرابع عشر : علوم الغيب في القرآن .
الخامس عشر : فروع الدين وأحكام الفرائض وهي على جهات :
الأولى :الآيات الخاصة بالصلاة ووجوبها ومقدماتها وإستقراء أوقاتها من القرآن .
الثانية : وجوب الزكاة والخمس والنصاب ومستحقها .
الثالثة : وجوب ومدة الصيام كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
الرابعة : وجوب حج بيت الله الحرام ، وتقييد السُنة له بكفاية المرة الواحدة في حياة المكلف، ويكون الحج في المرات الأخرى مستحباً .
السادس عشر : آيات وسنن القضاء والحكم بين المتخاصمين، ويأتي القضاء بمعنى الحكم ، والفصل ، والعلم ، والإخبار ، والقول ، والقطع والحتم , والأمر ، والخلق ، والفراغ من شيء.
وهو في الإصطلاح ولاية الحكم والفصل بين الناس في الخصومات، قال تعالى[وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] ( )، وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : كان في بني إسرائيل قاض و كان يقضي بينهم فلما حضره الموت قال لامرأته إذا مت فاغسليني و كفنيني و ضعيني على سريري و غطي وجهي فإنك لا ترين سوءا قال فلما أن مات فعلت به ذلك ثم مكثت حينا و كشفت عن وجهه لتنظر إليه فإذا هي بدودة تقرض منخره ففزعت لذلك فلما كان الليل أتاها في منامها فقال لها أ فزعك ما رأيت فقالت أجل لقد فزعت فقال أما إنك إن كنت فزعت فما كان ما رأيت إلا من هواي في أخيك فلان أتاني و معه خصم له فلما جلسا إلي قلت اللهم اجعل الحق له و وجه القضاء له على صاحبه فلما اختصما إلي كان الحق له فرأيت ذلك بينا في القضاء له فوجهت القضاء له على صاحبه فأصابني ما رأيت لموضع هواي كان معه و إن وافقه الحق( ).
وبين الحكم والقضاء عموم وخصوص مطلق ، فالحكم أعم ، إذ أن ولاية القضاء الشرعية بخصوص إسترداد الحقوق ، ورفع الحيف والظلم ، أما الحكم فيشمل الولاية والسلطنة وتسيير أمور البلد وحفظ النظام ، لذا ترى الحاكم في الغالب هو الذي يختار القاضي .
السابع عشر : آيات المواريث ، وما فيها وأثرها من الإعجاز والعدل ومنع التعدي والتفريط والإستئثار ، ويرث الولد الصغير وابن الأمة مثلما يرث أخوه الكبير ابن الحرة ، ولم يهمل الإسلام التأكيد على حق البنت، قال تعالى [يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( ).
الثامن عشر : الوحي وأقسامه ومنافعه في باب العبادات والمعاملات، والنسبة بين الوحي والتنزيل هي العموم والخصوص المطلق ، فكل تنزيل هو وحي وليس العكس .
التاسع عشر :آيات التقوى والبعث إليها والترغيب فيها ، والحاجة العامة والخاصة لها .
العشرون : آيات الرزق وأقسامه السماوي والأرضي وأنواع المكاسب.
الحادي والعشرون : مصاديق النسخ في القرآن ، ودلالتها ومدى ثبوت النسخ في كل واحدة منها، فمثلاً قالوا بأن آية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ) ناسخةلأكثر من مائة آية من القرآن، ولم يثبت عندي أكثر هذا النسخ .
الثاني والعشرون : فلسفة أسماء السور والآيات وإختصاص بعض السور بأكثر من اسم مع إحصاء وبيان للآيات التي لها اسم مخصوص، وأسرار ومنافع هذه التسمية .
الثالث والعشرون :آيات البعث على التوبة والإنابة والترغيب فيها والوعد الكريم بقبولها ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
الرابع والعشرون : الآيات التي تتضمن العفو والمغفرة من عند الله .
الخامس والعشرون : آيات الرحمة من عند الله , وهي على أقسام :
الأول : الرحمة العامة للخلائق كلها .
الثاني : الرحمة للملائكة ، وهل قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ]( ) رحمة بالملائكة أم أن معاني الرحمة فيها خاصة بالناس، الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : خطاب الله عز وجل للملائكة رحمة بهم.
الثانية : تفضل الله عز وجل باخبار الملائكة بنصب خليفة في الأرض.
الثالثة : سجود الملائكة لآدم طاعة لله عز وجل .
الرابعة : تدوين الملائكة أعمال بني آدم، قال تعالى [) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
الخامسة : دعاء الملائكة للمؤمنين خاصة والناس عامة .
السادسة : نزول الملائكة بالوحي والكتاب على الأنبياء .
السابعة : حضور الملائكة مواقع القتال لنصرة المسلمين كما في معركة بدر وأحد والخندق .
الثالث : رحمة الله عز وجل بالإنس والجن ، وفيها صيرورة العبادة علة خلقهم ، وهدايتهم إلى صيغها وضروبها ،والتوفيق إلى أدائها ، قال تعالى [يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي] ( ).
الرابع : تفضل الله عز وجل بتغشي الناس عموماً برحمته وفضله، فان قلت ما الفرق بين القسم الثالث اعلاه وهذا القسم.
والجواب : موضوعية الخلافة في الأرض وما يترشح عنها من معاني الرحمة المتجددة والدائمة خاصة وأن الله عز وجل هو الذي جعل الإنسان خليفة في الأرض بإرادة ومشيئة منه سبحانه وليس من موضوعية وإختيار للإنسان أو الخلائق فيها ، بدليل رد الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ولما كان الله عز وجل هو الذي جعلهم عمّار الأرض فانه سبحانه يمدهم بأسباب العون , ويجذبهم إلى منازل الصلاح وتعاهد مقامات الخلافة .
السادس والعشرون : آيات الأحكام الجنائية ،والقصاص والديات ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ).
السابع والعشرون : آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وموضوعيتها في صلاح المجتمعات .
الثامن والعشرون : آيات الأخلاق الكريمة , والتي تدل في منطوقها أو مفهومها على نبذ الأخلاق المذمومة والعادات السيئة.
التاسع والعشرون : آيات فضح المنافقين وذم النفاق، والدعوة إلى التنزه وبيان سوء عاقبته ، ومنه آية النظم هذه [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] ( ) .
الثلاثون : قوانين يوم الجزاء ، وعالم الحساب ومواطن الآخرة ، وأهوالها .
الحادي والثلاثون : آيات النبوة والرسالة وذكر القرآن لأسماء مخصوصة من الإنبياء مع أن عددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي .
الثاني والثلاثون : آيات الكتب السماوية المنزلة ، والعلوم والمضامين القدسية التي فيها حفظ وتوثيق القرآن لها .
الثالث والثلاثون : علوم الغيب التي جاءت في القرآن، وهي على قسمين :
الأول : ما تفضل الله عز وجل ببيانه وكشفه وقد تكرر قوله تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] مرتين في القرآن ( )،وجاء مرة أخرى بصيغة التأنيث في اسم الإشارة الدال على التعدد [تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ]( ).
الرابع والثلاثون: آيات الخلود في النعيم ، وخصال أهل الجنان وترغيب الناس فيها ، وبيان السبيل إلى هذا الخلود .
الخامس والثلاثون : شده عذاب النار ، وبيان صفات أهلها لينزجر الناس عنها .
السادس والثلاثون : آيات التقوى وموضوعيتها وبيان منافعها العظيمة في الدنيا والآخرة .
السابع والثلاثون :تنمية القرآن لملكة الصبر والغايات الحميدة له ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثامن والثلاثون : مدرسة الأمثال في القرآن ، وجعل المدركات العقلية أشبه بالمحسوسات .
التاسع والثلاثون : تلاوة آيات القرآن وثوابها ومنافعها .
الأربعون :آيات العاقبة , وهي على قسمين :
الأول : حسن عاقبة المؤمنين وسعيهم لجعل الإيمان والصلاح إرثاً لأولادهم .
الثاني : سوء عاقبة الكفار ومحو وتضاؤل أثرهم ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
الحادي والأربعون : التضاد والتباين بين الإيمان والكفر ، ورجحان كفة الهدى والإيمان .
الثاني والأربعون : الدنيا دار الإمتحان والإختبار والإبتلاء , وهي مزرعة الآخرة .
الثالث والأربعون : ثواب الشهادة في سبيل الله .
الرابع والأربعون : كنوز المعرفة والفقاهة في القرآن .
الخامس والأربعون : مصاديق البيان في القرآن ، والغنى به .
السادس والأربعون : آيات الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة .
السابع والأربعون :مدرسة تعدد الأسماء في القرآن وما فيها من الأسرار والمواعظ مثل :
الأول : الأسماء الحسنى .
الثاني : أسماء القرآن والكتاب .
الثالث : أسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : أسماء بعض الأنبياء مثل يعقوب إذ ورد باسم إسرائيل، وذكر عيسى بن مريم باسم المسيح .
الخامس : أسماء يوم القيامة .
السادس : أسماء الجنان وأسماء النار، ومعاني ودلالات كل إسم.
السابع : أسماء بعض كبار الملائكة والروح الأمين ، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ]( ).
ولا يدخل في هذا الباب تعدد اللغات في الباب الواحد مثلاً جبرئيل يقراً جبرائيل ، وجبريل ،وجبرائل ( بألف بعد الراء ثم همزة ) وبها قرأ عكرمة) ( ).
وجبرييل وبها قرأ الأعمش ويحيى بن يعمر .
وجبرين وهي لغة بني اسد .
وفي قراءة ميكائيل ست لغات ، ميكاييل ، ميكال ،ميكئيل ، ميكابيل، ميكاءل.
الثامن والأربعون : آيات صلة الرحم في القرآن ، والنهي والتخويف من قطعه وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (أن الرحم معلقة بالعرش، تنادي : اللهم صِل من وصلني ، واقطع من قطعني) ( ).
التاسع والأربعون : آيات ذكر الله والتسبيح والثناء على الله في القرآن.
الخمسون : سعة عالم الدعاء في القرآن , وبعث الشوق في النفوس للجوء إليه ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الحادي والخمسون : بيان القرآن للحسن الذاتي للصدق ، والقبح الذاتي للكذب .
الثاني والخمسون :بيان الحجة والبرهان في القرآن ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثالث والخمسون : أداء الفرائض وقضاؤها، والواجب ومقدماته كالوضوء مقدمة للصلاة .
الرابع والخمسون :أنظمة الأسرة وقواعد المعاملة والصلاة فيها .
الخامس والخمسون :أحكام الطلاق في الإسلام ، وندرته مع التيسير والتخفيف فيه , لأنه كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ( ).
السادس والخمسون : بيان المصاديق العملية التي تؤكد إعجاز القرآن.
ويمكن تقسيم وجوه هذا البيان من جهات :
الأولى :التقسيم بحسب اللحاظ مثل البيان الخاص والعام إلى :
الأول : البيان الذاتي لخصوص آيات القرآن.
الثاني : البيان الغيري ، لما هو غير القرآن من أمور الدين والدنيا .
الثانية : التقسيم بحسب نوع الفعل إلى :ـ
الأول :بيان خصائص وشرائط المعاملات .
الثالث : بيان الأحكام في القرآن .
الثالثة : التقسيم وفق المعنى والدلالة .
الرابعة : التقسيم حسب مباحث علم الأصول مثل أقسام الواجب من النفسي والغيري ، والمطلق كالصلاة والمقيد كالحج ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )والعيني كالصيام، والكفائي كرد السلام , والموسع كالصلاة اليومية، والمضيق كالحج، والمؤقت وغير المؤقت .
الخامسة : التقسيم بلحاظ الفعل المكلف به أو المطلوب ليدخل فيه المندوب والمستحب كالواجب المعين والمخير .
السادسة :الواجب الأصلي والتبعي .
السابعة : الواجب بالأصل والواجب البدلي كالوضوء والتيمم ، قال تعالى [فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا] ( ).
القسم الثاني ( ): البيان والتفسير المترشح عن غير القرآن، وهذا البيان متعدد من جهات:
الأولى : تفسير السنة النبوية للقرآن.
الثانية : أسباب نزول آيات القرآن.
الثالثة : عمل المسلمين بالآية عند نزولها.
الرابعة : سؤال المسلمين النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن مضامين الآيات.
الخامسة : تلاوة وحفظ المسلمين للآيات.
السادسة : مجئ الوقائع والأحداث شواهد على صدق نزول القرآن، والتوثيق التأريخي لها، كما في معركة بدر وأحد والخندق وفتح مكة ويوم حنين.
السابعة : تجلي مصاديق بيان الآية القرآنية مع تقادم السنين والأحقاب.
الثامنة : بشارات الكتب السماوية السابقة بنزول القرآن.
التاسعة : نزول الملائكة ببيان آيات القرآن ونصرتهم للمسلمين، قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
العاشرة : إجتهاد علماء المسلمين في بيان علوم القرآن وإستقراء كنوز آياته، وعناية عامة المسلمين بها , وإذ أغلق أكثر المسلمين باب الإجتهاد في الفقه، فان الغوص والتحقيق في تفسير وتأويل القرآن يبقى مفتوحاً إلى يوم القيامة، ويتصف بتدلي ثماره وإستخراج درره في كل زمان.
صيرورة المؤمنين أمة
تبين الآية أن المسلمين صاروا أمة ذات مبدأ ومنهج متحد ، يتعامل معهم الناس بصبغة الإيمان ، إذ كان تركيب المجتمعات يتقوم بالقبلية والولاء والثراء ، فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتتغير المفاهيم والمرتكزات التي تبنى عليها الصلات ، وينقسم الناس بلحاظ العقيدة إلى أقسام :ـ
الأول : المؤمنون .
الثاني : أهل الكتاب .
الثالث : الكفار .
وتترشح عن هذا التقسيم بلحاظ الآية السابقة [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] مسائل :ـ
الأولى : تكون الدعوة للإيمان كما جاء في الآية السابقة [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( ).
الثانية : الزيادة المتصلة في أعداد المؤمنين بدليل الآية السابقة والحث على الإيمان .
الثالثة : المسلمون أمة يشار لها بالبنان وتكون أسوة ، فقوله تعالى [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] يدل على معرفة الناس جميعاً بالمسلمين وأنهم دخلوا الإسلام على بينة ومن غير رجعة، ومن الشواهد أن رد المخادعين لم يتضمن التشكيك بإيمان المسلمين أو إحتمال ردة ونكوص بعضهم .
الرابعة : زيادة إيمان المسلمين بصدور الدعوة للغير للإنتماء للإسلام .
الخامسة : توالي أسباب الوهن والضعف عند أعداء الإسلام , لقد ذُكر المسلمون في الآية السابقة بصيغة الغائب وأنهم أسوة للناس في لزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونبذ الشرك ومفاهيم الضلالة ، أما هذه الآية فتضمنت بيان موضوعية المسلمين في الحياة اليومية العامة بصيغ الإيمان، وأن الناس تتلقاهم وتعاشرهم كأمة متحدة , الجامع المشترك بينها هو الإيمان.
وجاءت الآية بصيغة الإطلاق في أطرافها وهي :
الطرف الأول : المسلمون وتحليهم بصفة الإيمان وعلى نحو العموم الإستغراقي ، وهل يحتمل التقييد في الآية وإرادة خصوص طائفة من المؤمنين في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا]الجواب لا ، لأصالة الإطلاق والمعنى [وَإِذَا لَقُوا] الذين أظهروا الإيمان الصادق البنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونطقوا بالشهادتين .
ويفنى بالإنتماء للإيمان الجاه والمال والرئاسة القبلية والبنوة للذوات ، فيكون المسلمون على مرتبة واحدة السيد والعبد، والغني والفقير، والرجل والمرأة حين يلقاهم المخادعون أو المخادعات يدّعون محاكاتهم في الإيمان .
ومن إعجاز القرآن أن لفظ [الَّذِينَ آمَنُوا] في الآية عام للمسلمين والمسلمات ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( ).
ويشمل خطاب التكليف في الآية ذم المنافقين والإخبار بأنهم يدّعون الإيمان بحضرة الذين آمنوا , ويحتمل وجوهاً :
الأول : خروج المنافقين بالتخصيص من الذين آمنوا فلا يكونون طرفي اللقاء معاً لأن قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا]يفيد الإنفعال وتعدد الأطراف فهناك ملتقي وملتقى به.
الثاني : حصول لقاء المنافقين مع أهل التقوى والذين ملأ الإيمان قلوبهم من المسلمين .
الثالث : المراد من الذين آمنوا خصوص المهاجرين والأنصار .
الرابع : إرادة عموم المسلمين ، وأن المنافقين حينما يلاقون كل مسلم ومسلمة يدّعون الإيمان ، وكذا إذا لاقى المنافقون بعضهم بعضاً ، فكل فرد منهم يقول للآخر أني مؤمن لأنه لا يعلم ما في قلبه إلا الله، قال سبحانه [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
ليكون من إعجاز آية البحث ووجوه البيان فيها أن المنافقين يخشى بعضهم بعضاً ، ولا يعلم أي منهم بنفاق الآخر.
والصحيح هو الرابع والوجوه الأخرى في طوله إنما يحصل كشف النفاق عند رؤساء الضلالة وعلى إنفراد، ليكون من الإعجاز الجلي في الآية مجيء لفظ [َإِذَا خَلَوْا].
فيكون للمنافق وجهان :ـ
الأول : عام وهو التظاهر بالإيمان مع عموم المسلمين ومع المنافقين أنفسهم .
الثاني : خاص عند اللقاء بالمردة والعتاة من المخادعين من الملل المختلفة .
لذا لم تقل الآية إذا خلا بعضهم إلى بعض بل ذكرت الخلوة والإنفراد مع رؤساء الضلالة فان قلت قد ورد قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ]( ).
قلت الآية أعلاه أعم وتشمل أناساً من ملل أخرى بدليل نعت فريق منهم بأنهم يحرفون كلام الله بعد سماعه والتدبر في معانيه , كما ورد في تفسيرها .
نعم لا يمنع الوجه الرابع أعلاه من وجود أفراد قليلة من المنافقين يعرف بعضهم بعضاً بالنفاق كما في الذين أرادوا إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة عند عودته من معركة تبوك ،وقد تفضل الله عز وجل وأطلع نبيه ، ودعاهم وأخبرهم بسوء سريرتهم ونيتهم ، وإعترف بعضهم وأظهر توبته (قال ابن اسحاق ( )وأمره ان يدعو حصين بن نمير فقال له ويحك ما حملك على هذا قال حملني عليه انى ظننت ان الله لم يطلعك عليه فاما إذا أطلعك الله عليه وعلمته فاني أشهد اليوم انك رسول الله وانى لم أؤمن بك قط قبل الساعة يقينا) ( ).
الطرف الثاني :المخادعون إذ أن حال الإزدواج جلية في أقوالهم جميعاً فيعلنون عند اللقاء بالمسلمين الإيمان ، أما عند الإنفراد في الخلوة والخفاء مع كبراء الشرك فهو الكفر والجحود .
وهل فعلهم هذا من إجتماع المتضادين والذي لا يصح في الفلسفة أم أنه ليس منه بلحاظ التعدد والتباين في محل كل من دعوى الإيمان والكفر ، الجواب هو الأول لحصول الإجتماع في ذات النفس واللسان الذي يجري عليه القول المتضاد.
فجاءت الآية لفضح وتوبيخ المخادعين مطلقاً والمنافقين خاصة، ودعوتهم لترك الكفر والجحود لأنه خلاف الفطرة وأصل الخلق، ومناف لعلة خلافة الإنسان في الأرض التي تتقوم بالعبادة والصلاح، قال تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ ]( ).
الثالث: الإطلاق في الزمان والمكان اللذين يتجدد فيهما نعت المنافقين بالمخادعة والرياء ، فاذا لاقوا المؤمنين في الحضر أو السفر , فدعوى الإيمان حاضرة على ألسنتهم ، لتكون الآية واقية متجددة للمسلمين من الإنخداع بهم .
وجاءت الآية بصيغة الجمع في جهاتها الثلاثة ،المؤمنون ، المخادعون أرباب الشرك، وفيه وجوه :
الأول : ملاقاة مخادع لجماعة من المؤمنين .
الثاني : ملاقاة عدد من المخادعين لفرد واحد من المؤمنين .
الثالث : إجتماع عدد من المخادعين بعدد من المؤمنين .
الرابع : خلو فرد واحد من المخادعين مع أرباب الشرك والضلالة .
الخامس : إنفراد جماعة من المخادعين مع جماعة من رؤساء الضلالة , ومع التعدد في طرفيه يصدق عليه أنه خلوة بينهم.
السادس :خلوة عدد وجماعة من المخادعين مع أحد رؤساء الضلالة لأصالة الإطلاق في الآية الكريمة وموضوع هذه الآية هو القول، إذ تكرر لفظ [قَالُوا] مرتين , وبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي إتحاد جهة الصدور ونطق المخادعين بالقولين، وأما جهة الإفتراق فهي من وجوه :ـ
الأول : التباين بين الجهة التي يتوجه إليها القولان ، إذ يتوجه احدهما إلى المؤمنين ، أما الآخر فيتوجه إلى أرباب الشرك والضلالة .
الثاني : التضاد بين القولين ، إذ لا برزخ بين الإيمان وحسنه وحلاوته وبين الكفر وقبحه ومرارته.
الثالث : التعدد والإختلاف في موضع القولين , ومن إعجاز الآية أنها قالت [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ] أي بمعزل وخفاء عن المؤمنين والناس جميعاً .
الرابع : الإتحاد في قول المخادعين في صفة المؤمنين بإعلان الإيمان، بينما جاء التعدد في ردهم وقولهم بمعرفة أرباب الشرك إذ أظهروا المعية والإتحاد معهم وإستهزاءهم بالمؤمنين .
ووردت الآية بصيغة القول وجاء خداع المنافقين بادعاء الإيمان كذباً، ويحتمل أمرين :
الأول : إرادة القدر المتيقن وهو القول باللسان .
الثاني : جاء القول من باب الفرد الأظهر ، والحجة البينة ، وإلا فان خداع المنافقين أعم ويتعدى القول ليشمل الفعل والمكر والخداع وإرادة الإضرار بالمسلمين .
وهل من غاية في قول آمنا بحضرة المؤمنين , الجواب نعم من وجوه :
الأول : ما ورد في خاتمة الآية من دعوى السخرية والإستهزاء بالمؤمنين .
الثاني : الهروب من الجدال وإحتجاج المؤمنين بالبرهان ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) .
الثالث : إرادة المخادعين حقن دمائهم بعد ظهور دولة الإسلام ، قال تعالى [وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ]( ).
وعن ابن عباس في الآية قال : (هم أناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم) ( ).
الرابع : الحرب على الإسلام وإرادة بث روح الشك والريب .
الخامس : تثبيط المؤمنين والسعي لقعودهم عن الدفاع ،وعن أداء الفرائض بهمة وقوة .
السادس : طمع المنافقين للإنتفاع من إعلان الإسلام ، قال تعالى في ذم المنافقين [الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ]( ).
فان نال المسلمون غنائم قال المنافقون إنا معكم ونريد سهماً من الغنائم، أما وإن ظهر الكفار فيذهب المنافقون إليهم ويقولون إنا معكم وإنا نقوم بتثبيط المؤمنين عنكم .
لقد جاءت البراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وكأنها دفعة واحدة إذ أنها توالت مدة البعثة النبوية في ثلاث وعشرين سنة فصار الناس على ثلاث فرق :
الأولى : فريق من الناس آمنوا بالله ورسوله وصاروا [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثانية : طائفة قليلة إضطربت وإختارت الشحة والنحس والتردد، وهم المنافقون .
الثالثة : رؤساء الكفر الذين أصروا على الكفر والجحود، وخافوا فقدان مقاماتهم في الرئاسة والأكلة التي لهم من الأتباع ومطلق المنافع التي تأتيهم.
فجاءت آية البحث بذكر هذه الفرق الثلاثة وأسباب النفرة بينها، وتلك آية في إعجاز القرآن بجوامع الكلم ودلالتها مع قلة كلماتها على المعاني المتعددة وصيرورتها إماماً للمؤمنين وزاجراً للمنافقين وإنذاراً لرؤساء الضلالة لحمل ذنوب الذين يغوونهم.
ويدل على التقسيم أعلاه قوله تعالى [مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ]( )وعن قتادة قال (ذكر لنا : أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يضرب مثلاً للمؤمن والكافر والمنافق كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر ، فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى كاد يصل إلى المؤمن ، ناداه الكافر : أن هلم إليّ فإني أخشى عليك ، وناداه المؤمن أن هلم إليّ فإن عندي وعندي يحض يحصي له ما عنده ، فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه الماء فغرقه ، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك) ( ).
وهل لآية البحث وظيفة وأثر مترتب عليها وعلى تلاوتها بخصوص التقسيم أعلاه، الجواب نعم من وجوه :
الأول : إطلاع المسلمين على باب من علم الغيب ، قال تعالى في خصوص بيان قصص الأمم السابقة [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] ( ) وحال المنافقين ومكرهم وفعلهم القبيح من الغيب الذي تفضل الله عز وجل وأطلع المسلمين عليه .
الثاني : تعيين أعداء الإسلام بخصالهم، ومن الإعجاز في هذا التعيين أنه بيان لمراتبهم من جهات :
الأولى : طائفة تظهر الإيمان وتخفي الكفر .
الثانية :أهل الكفر والضلالة والجحود .
الثالثة : رؤساء الكفر والشرك الذين يكونون فئة يرجع إليها عامة المخادعين، لذا تفضل الله عز وجل وأسماهم الشياطين وبيّن نسبة الشيطنة بأنها خاصة بالمخادعين ،ويراد من الشيطان في الآية المعنى الأعم وهو كل متمرد يفسد في الأرض ، ويأتي لفظ الشيطان عنواناً للشئ القبيح لبعث النفرة منه ، قال تعالى في وصف شجرة جهنم والتخويف من عذاب النار [طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ]( ).
وفي الآية دعوة للمسلمين لبيان قبح الصلة بين المخادعين ورؤساء الضلالة، وحث لقطع هذه الصلة بالبيان والحجة والبرهان وتوالي الإحسان، قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ] ( ).
وهل يمكن تقسيم المخادعين إلى أقسام :
الأول : طائفة تكتفي بالنفاق , ولا تكون لهم خلوة مع رؤساء الكفر.
الثاني : طائفة يلتقون مع رؤساء الضلالة ويستمعون لهم من غير ذم المسلمين .
الثالث : فريق يجتمعون مع رؤساء الضلالة ويكتفون بالقول [إِنَّا مَعَكُمْ].
الرابع : جماعة لا يخبرون رؤساء الضلالة وأرباب الغواية بأنهم معهم إنما يعلنون إستخفافهم بالمؤمنين .
والصحيح هو الإطلاق الذي تفيده مضامين الآية الكريمة، وهذه الأقسام في طوله , خاصة وأن حالة المنافق هي التذبذب والتردد والشك الساري في الذات .
البيان في [قَالُوا آمَنَّا]
جاءت الآية بصيغة الفعل الماضي مع ورود [إِذَا] كظرف للمستقبل متضمن لمعنى الشرط كما في ذم المنافقين بقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ] ( ) .
ومن معاني الشرط في المقام أن المنافقين لا يقولون آمنا إلا إذا لاقوا الذين آمنوا بما هم مؤمنون أما ما عداها من أحوال المنافقين فانهم باقون على النفاق .
ومن معاني الشرط مثلاً: إذا زالت الشمس فصل الظهر) أي لا تصح هذه الصلاة قبل هذا الوقت ، والمراد من الزوال ، هو ميل الشمس عن كبد السماء إلى جهة الغرب وإتجاهها نحو الغروب في آية كونية تدعو للتدبر في بديع صنع السموات والأرض يستقبلها المسلمون بذكر الله وطاعته باسمى ضروب العبادة وهو الصلاة، وتبين آية البحث أموراً :
الأمر الأول : تعاهد المسلمين للإيمان وتحليهم به وإتخاذه زينة، قال تعالى [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ] ( )فلو دار الأمر في قوله تعالى [َالَّذِينَ آمَنُوا] الوارد في الآية الكريمة بين طرفين :
الأول : إستدامة بقاء المسلمين وأنه من الكلي المتواطئ والسنخية الثابتة .
الثاني : التبدل والتغيير في حال الإيمان عند المسلمين قوة وضعفاً، او شدة وضموراً .
فالصحيح هو الأول ، ففي كل حال يلقى فيه المخادعون المسلمين يجدونهم متحلين بالإيمان قائمين بسنن الطاعة لله ، قال تعالى [وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
وفي صيغ الإطلاق لحال تلبس الذات بالمبدأ في الحال حقيقة وأن المسلمين لا يغادرون منازل الإيمان مجتمعين أو متفرقين مسائل :
الأولى : يدّعي المخادعون الإيمان في حال الحضر في المدينة .
الثانية : تلقي المسلمين الوحي والتنزيل بالتصديق ،ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن القرآن نزل نجوماً وآيات متفرقات في مدة ثلاث وعشرين سنة ومع كل نزول لآية أو آيات يزداد المسلمون إيماناً ويرتقون في سبل التفقه في الدين وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية : قول المخادعين [آمَنَّا] عندما إزدادت قوة المسلمين فظهروا على أعدائهم لا سيما وأن الكفار في بداية الدعوة الإسلامية في مكة لم يدّعوا الإيمان ولم يكتفوا بالسكوت عن المسلمين بل بادروا إلى تعذيبهم والتضييق على أهل البيت ، وعندما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة جهزوا الجيوش العظيمة لقتاله في سابقة لم ولن تحصل في التأريخ من وجوه :
الأول : ذات الهجوم وكثرة الجيوش في الجزيرة آنذاك حيث تتقاتل القبائل ويغزو بعضها بعضاً ، ولكنهم إجتمعوا على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثاني : وقائع كل من معركة بدر وأحد والخندق .
الثالث : المدد الملكوتي لنصرة المسلمين في كل معركة منها.
الرابع : وهن وضعف الكفار على نحو تنازلي في كل معركة ، وبين معركة وأخرى , فان قلت إن وهن كفار قريش اثناء المعارك ظاهر ويتجلى بكثرة قتلاهم والذين يقعون في الأسر منهم , فكيف يكون وهنهم في حال السلم بين معركتين كبدر وأحد.
الجواب لقد إمتلأت قلوب الكفار بالفزع والخوف، وظهرت النفرة في نفوس الناس منهم والتي تدل بالدلالة التضمنية على التفرق والإبتعاد عنهم، قال تعالى [سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على إستدامة الرعب في قلوب الكفار .
ولحقت الخسائر تجارة اهل مكة التي كانت بينها وبين اليمن والشام والعراق وبلاد فارس والهند ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )،لبيان قانون وهو كل من يحارب النبوة الحق تلحقه الخسائر وتصيبه الحسرة والندم , لتكون هذه الخسائر شاهداً على صدق النبوة.
وجاءت الخسارة في المال لقريش من وجوه :
الأول : تصدي سرايا المسلمين لقوافل قريش ، كما في سرية عبد الله بن جحش التي استاقت تجارة وعير قريش القادمة من الطائف .
وروي عن عروة(أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية من المسلمين ، وأمر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي ، فانطلقوا حتى هبطوا نخلة ، فوجدوا فيها عمرو بن الحضرمي في عير تجارة لقريش في يوم بقي من الشهر الحرام ، فاختصم المسلمون فقال قائل منهم : هذه غرة من عدوّ وغنم رزقتموه ، ولا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا . وقال قائل : لا نعلم اليوم إلا من الشهر الحرام ولا نرى أن تستحلوه لطمع أشفقتم عليه ، فغلب على الأمر الذين يريدون عرض الدنيا فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه وغنموا عيره ، فبلغ ذلك كفار قريش وكان ابن الحضرمي أوّل قتيل قتل بين المسلمين والمشركين ، فركب وفد كفار قريش حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالوا : أتحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله عز وجل { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله . . . }( ) إلى آخر الآية . فحدثهم الله في كتابه : إن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان ، وإن الذين يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك ، فمن صدهم عن سبيل الله حين يعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكفرهم بالله وصدهم للمسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه ، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين وفتنتهم إياهم عن الدين ، فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقل ابن الحضرمي , وحرّم الشهر الحرام كما كان يحرمه ، حتى أنزل الله عز وجل { براءة من الله ورسوله }( ))( ).
الثاني : تعطيل التجارات بسبب إنشغال رجال قريش وعمالهم ومواليهم بالقتال والإستعداد له ، ومقدماته العقلية مثل قطع المسافة بين مكة والمدينة على الرواحل وسيراً على الأقدام لمسافة نحو خمسمائة كيلو متر تتصف بالوعورة وقلة الإنبساط.
الثالث : تعطيل الزراعات، وقلة المعاملات والعقود بين القبائل وقريش.
الرابع : عزوف الناس عن الشراء فيما يخص غير الضروري لعنايتهم بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورتها حديث المنتديات والمجالس والحرائر في خدورهن .
الخامس : مقاطعة المؤمنين لتجارة قريش ،ولم تمر سنوات معدودات على حصار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت في شعب أبي طالب إلا وتحول الحصار على قريش نفسها حتى استغاثت وأكلت العلهز( )وفيه بيان ومصداق لقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، إنما يرتكز هذا البيان على رجحان كفة المؤمنين وعلو راية التوحيد.
وعن ابن عباس (أن ثمامة بن أنال الحنفي لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وهو أسير فخلى سبيله ، لحق باليمامة فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز ، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أليس تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال : بلى . قال : فقد قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع . فأنزل الله { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون)( ).لبيان حقيقة وهي نسبة عقابهم وعذابهم إلى الله .
السادس : خوف رجال قريش من السير في الأرض والإنتقال في الصحراء من القتل والأسر وإنتقام المسلمين ، ولقد كانت العرب تكرم جانب قريش لمكان الحرم وسدانتهم للبيت ، فلما إعتدوا على النبوة وأهل الإيمان زالت هيبتهم من النفوس لأنها صارت سالبة بإنتفاء الموضوع ، وإذا كان الثأر لا يطلب عند العرب إلا من ذات أهل القبيلة أو خصوص أولاد وأرحام القتيل فان المسلمين جميعاً يطلبون دم أي واحد منهم ، وقد أوغلت قريش في التعدي.
ترى لماذا أقدمت قريش على التعدي على الإسلام وتحمل الأضرار الفادحة ، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أشرف وأسنا( ) بيوتهم، ففيه وجوه :
الأول : لم تكن قريش تعلم أن الحرب والقتال مع المؤمنين يستمر لسنوات .
الثاني : ظنت قريش أن المسلمين يتفرقون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حالما يبدأ القتال ويمحصون للبلاء ، خاصة مع الأخبار التي يأتي بها إلى قريش بعض المنافقين والمخادعين .
الثالث : أرادت قريش إغراء يهود المدينة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا كانت لها عهود ومواثيق مع بعضهم ، وقيل أن أهل خيبر عرضوا نصف ثمارهم على غطفان التي جاءت مع قريش يوم الخندق إذا ما إنتصروا على المسلمين.
الرابع :طمعت قريش بقلة عدد المسلمين والنقص في مؤونتهم وأسلحتهم كما في يوم بدر إذ قال أبو جهل (ما هم إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد ,فقال عتبة بن ربيعة أ ترى لهم كمينا أو مددا فبعثوا عمير بن وهب الجمحي و كان فارسا شجاعا فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ثم رجع فقال ليس لهم كمين و لا مدد و لكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرسا لا يتكلمون ويتلمظون تلمظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلا سيوفهم و ما أراهم يولون حتى يقتلوا ولا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم فارتئوا رأيكم فقال له أبو جهل كذبت وجنبت) ( ).
الخامس : ما أخبر به بعض ممن حرف الكتاب وإعتمد حساب الجمل بأن مدة الإسلام سبعون سنة ونحوه .
السادس : غلبة الحسد على نفوس كفار قريش كحسد إبليس لآدم وإمتناعه عن السجود له طاعة لله عز وجل .
السابع : إستحواذ روح الغرور والإستكبار على نفوس كبراء قريش من الكفار.
ولا تعارض بين هذه الوجوه إذ أصر كبراء قريش على الجحود والعناد فأضلهم الله عز وجل ، قال تعالى [كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ]( ) .
الأمر الثاني( ) : إمتلاء نفوس المخادعين بالهيبة من أي مؤمن يلتقون به ويأسهم من إرتداده أو بعث الشك والريبة في نفسه , وتلك آية في صدق الإيمان بصيرورة المسلمين صرحاً إيمانياً متماسكاً يتعذر على الكفار إيجاد ثغرة أو فجوة ينفذون منها إلى مجتمعات المؤمنين أو يبثون منها سمومهم .
الأمر الثالث : تعدد حصول اللقاء بين المؤمنين والمخادعين وأنهم يعيشون في بلدة وموضع واحد، وفيه نوع تعايش بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل والنحل، ويدل على هذا التعدد إجتماع صيغة الشرط والجمع [وَإِذَا لَقُوا].
لقد كشفت هذه الآية التباين والتضاد في سيرة وأقوال المخادعين ، وصار معلوماً عند المسلمين أن المخادعين يراءون ويكذبون ويدّعون الإيمان في حضرتهم مخادعة وترصداً , ولكن المسلمين لم ينتقموا منهم سواء تجلى هذا التباين في فعل وسيرة المنافقين الذين نطقوا بالشهادتين مع الإصرار على عدم طرد الكفر من نفوسهم ، أم صدر من الفساق من أهل الملل الأخرى الذين عجزوا عن تكذيب الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ز
وقد تقدم قبل أربع آيات قوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] ( )ليكون من معاني الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث دعوة المسلمين للرفق وجذب المنافقين إلى مسالك الإيمان بالإصلاح والعلاج الذي يتقوم بالحجة والبرهان .
ومن الإعجاز في سبق الآية أعلاه لآية البحث في نظم القرآن تهيئة أذهان المسلمين لبيان صيغ النفاق والتضاد في سيرة وسلوك المنافقين والأذى الذي يأتي منهم ويترشح عن قبح فعلهم، فأخبرت آية البحث بملاقاة المخادعين للمؤمنين بالرياء والكذب لتدعو الآية أعلاه المسلمين لملاقاتهم بالصبر والحكمة والصلاح والثبات على الإيمان والدعوة إلى التوبة .
ومن الشواهد القرآنية في المقام تخصيص سهم من الزكاة للمؤلفة قلوبهم ، وهم الذين دخلوا الإسلام ونطقوا بالشهادتين ولكنهم تركوا الكفر جاثماً على صدورهم ، فيعطون من الزكاة لشأنهم عند قومهم وبين القبائل وخشية إضرارهم بالمسلمين قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ]( ).
فيكون من باب الأولوية القطعية الصبر على المنافقين وعدم الإجهاز عليهم مع البقاء على حال اليقظة والحذر والحيطة منهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ).
الرابع : موضوع لقاء المسلمين مع غيرهم هو دخول الإسلام والإيمان الذي يتجلى بأداء الفرائض والعبادات، وتؤكد الآية رجحان كفة الدعوة إلى الإسلام فحينما يلتقي المخادعون بالمسلمين يعلنون إيمانهم، وتحتمل علة هذا الإعلان وجوهاً:
الأول : إرادة المخادعين إجتناب الجدال مع المسلمين.
الثاني : دلالة خاتمة الآية على قصد المخادعين وهو الإستهزاء بالمسلمين.
الثالث : إقامة المسلمين الحجة على المخادعين بالبرهان القاطع على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : إعتياد المخادعين ومحاكاة بعضهم بعضاً على إدعاء الإيمان بحضرة المسلمين.
الخامس : إرادة إغاظة المسلمين وتثبيط عزائمهم , فلم تقصر الآية فعل المنافقين على هذا القول بل أن خلوهم بشياطينهم مقدمة للمكر ومناسبة للمناجاة بالشر والباطل، قال تعالى[لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ]( )، وبإستثناء الوجه الأول فإن الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الآية الكريمة، وأظهرها الوجه الثالث أعلاه , وفيه دلالة على عجز المخادعين عن تفسير إستيلاء الكفر على نفوسهم.
وفي الآية حذف , وتقديره على وجوه :
الأول : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا بالله وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قالوا آمنا بنزول القرآن من عند الله .
الثالث : قالوا آمنا بوجوب أداء الصلاة والفرائض العبادية الأخرى .
الرابع : قالوا آمنا بأركان العبادات مثل إستقبال البيت الحرام في الصلاة ، فاذا خلوا إلى أرباب الكفر يوّثق القرآن قولهم وهو [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا]( ).
وقد نعتت الآية السابقة المخادعين بأنهم [هُمْ السُّفَهَاءُ] ( ).
الخامس : إرادة المثلية في الإيمان ، كما في قوله تعالى [فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا]( ).
السادس : الإيمان بالله والملائكة والأنبياء على نحو العموم الإستغراقي .
السابع : الإيمان بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثامن : الإيمان بلزوم إجتناب المعاصي والسيئات .
التاسع : الإيمان بأن الجنة حق والنار حق , وأن الله يبعث من في القبور.
العاشر : الإيمان بظهور الإسلام ، ودخول الناس فيه جماعات وأفواجاً.
الحادي عشر : قالوا آمنا بوجوب ترك النفاق ، وعدم الركون لرؤساء الكفر والضلالة .
الثاني عشر : آمنا بأن الإيمان واجب , وأن الصدود عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلم للنفس والغير قال تعالى [وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ] ( ).
ويمكن إستقراء وجوه من معاني قول المخادعين [آمَنُوا] مما يترشح عن خلوتهم برؤساء الكفر والضلالة وقولهم [قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ] ( ) لما فيه من نقض لدعوى الإيمان ،وإقرار بأن قول [آمَنَّا]يدل بالدلالة التضمنية أنهم في نصرة المؤمنين ومعهم في الدفاع عن المدينة وصد كفار قريش عند التعدي على ثغور الإسلام .
ومن إعجاز القرآن أنه فضح المنافقين ، ومنع من توليهم أمور الرئاسة والولاية والسلطنة والقضاء , وجاءت الآيات بالنهي عن إتخاذهم بطانة ووليجة وخاصة في الشورى والحكم ، وحالت دون قطفهم لثمار النصر أو إستحواذهم على الغنائم ومشاركة المؤمنين فيها ، قال تعالى [وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ] ( ).
فتبين الآية أعلاه إدعاء المخادعين بأنهم مع المؤمنين عند ظهور رايات الإسلام ، وجلب المجاهدين الغنائم طمعاً ورياءً .
أما آية البحث فافادت صيغة الإطلاق في إدّعاء المخادعين الإيمان عند اللقاء بالمؤمنين في حال السلم والحرب، والحضر والسفر ،ولكنهم هنا يكتفون بالقول [آمَنَّا]أما عند النصر وحضور الغنائم فانهم يقولون [إِنَّا مَعَكُمْ] في السراء والضراء ، والحرب والسلم ، فاخبرت الآية أعلاه عن علم الله عز وجل بما في قلوبهم من النفاق ومفاهيم الكفر والإقامة على الضلالة .
لتكون النسبة بين قول المنافقين في الآيتين هي العموم والخصوص المطلق ، فآية البحث أعم في موضوعات الإيمان والقائلين به كذباً ورياء إذ يشمل المنافقين والمخادعين , وتبين الآية قانوناً وهو أن (الإيمان ) أبهى صفة وأعظم غاية وبه يصبح الإنسان أخاً للمسلمين يشاركهم في حلاوة النصر ويواسيهم بالصبر ، فالإيمان بالله هو السور الجامع ل [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )والمائز بين أهل التقوى وغيرهم من الناس (وذكر أن أعرابي قصد الحسين بن علي عليه السلام ، فسلم عليه وسأله حاجة وقال : سمعت جدك يقول : إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة : إما عربي شريف ، أو مولى كريم ، أو حامل القرآن ، أو صاحب وجه صبيح فأما العرب فشرفت بجدك ، وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم ، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل ، وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا أردتم أن تنظروا إليّ فانظروا إلى الحسن والحسين ، فقال الحسين : ما حاجتك؟ فكتبها على الأرض ، فقال الحسين سمعت أبي علياً يقول قيمة كل امرىء ما يحسنه . وسمعت جدي يقول : المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي وقد حمل إليّ صرة مختومة من العراق فقال : سل ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال : أي الأعمال أفضل قال الأعرابي : الإيمان بالله . قال : فما نجاة العبد من الهلكة قال : الثقة بالله ، قال : فما يزين المرء قال : علم معه حلم قال : فإن أخطأه ذلك قال : فمال معه كرم قال : فإن أخطأه ذلك قال : ففقر معه صبر قال : فإن أخطأه ذلك قال : فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه فضحك الحسين ورمى بالصرة إليه) ( ).
نبوة محمد (ص) بيان للمعجزات
من بديع حكمة الله في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ المقام مسائل:
الأولى : مصاحبة المعجزة لبعثة النبي، فكل نبي يأتي بمعجزة.
الثانية : إختصاص كل نبي بمعجزة وبراهين تدل على نبوته، وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثالثة : مناسبة معجزة كل نبي لأهل زمانه , ومجيؤها بالبرهان القاطع الذي يتضمن التحدي في الموضوع الأهم في ذات العصر، لتحكي المعجزة جانباً من حياة الأمم.
ومن الآيات أن القرآن ينفرد بخصوصية تتجلى بذكره لمعجزات الأنبياء من وجوه:
الأول : إقتباس المواعظ والعبر من قصص ومعجزات الأنبياء التي وردت في القرآن.
الثاني : إكرام الأنبياء السابقين في الكتاب السماوي الخالد , وهو القرآن إلى يوم القيامة.
الثالث : توثيق معجزات الأنبياء.
الرابع : تهيئة أسباب الدراسة المقارنة بين معجزات الأنبياء.
الخامس : بيان الرقي ومواضيع العلوم عند أهل كل عصر من العصور السالفة، وفيه تأديب للناس بأن الإختراع العلمي لم يكن أمراً مستحدثاً، لذا جاءت صيغة الإطلاق في قوله تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ) .
ويدل ورود لفظ الإنسان في الآية أعلاه على أمور:
الأول : عدم تقييد العلم المستحدث للناس بزمان دون آخر.
الثاني : مجيء العلم للناس من غير القصر على أهل زمان أو مكان مخصوص، فلا غرابة بأن تصدر إكتشافات علمية باهرة لعلماء من ملل مختلفة، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
الثالث : دعوة المسلمين إلى الإقتباس والأخذ من أهل الملل الأخرى العلوم المكتسبة من غير إعراض أو ترفع، لأنها من فضل الله عز وجل عليهم وعلى الناس.
الرابع : بيان أصالة الإباحة في العلوم، وأن ما يظهر منها على أيدي الناس جميعاً هو رزق كريم من عند الله ومقدمة للرزق المعنوي والمادي، بلحاظ أن لفظ الإنسان في الآية اسم جنس، ويقع على الذكر والأنثى، والسيد والعبد، ويشمل المفرد والجمع، والنعمة في هذا الباب على السلف نعمة على الخلف.
الرابعة : كل معجزة من معجزات الأنبياء علم قائم بذاته يدعو الناس للتدبر في أسراره وذخائره، وكل معجزة تحكي خصائص عصرها، وعظيم نفعها لنصرة النبي، ودراسة معجزة كل نبي من وجوه :
الأول : ماهية المعجزة.
الثاني : المعجزة مدد جلي للنبي .
الثالث : حاجة الناس إلى تلك المعجزة بالذات .
الرابع : ملائمة المعجزة لأهل الزمان .
الخامس : معاني الرحمة في المعجزة وإنتفاع الناس منها .
السادس : عجز الناس عن الإعراض عن المعجزة لأنها تخص أولى الأمور عندهم .
السابع : إيمان فريق من الناس بتلك المعجزة وتحملهم الأذى بصبر بسبب تلك المعجزة .
الثامن : بقاء ذكر المعجزة وعجز الكفار عن إنكارها وقد بدأت النبوة بآدم عليه السلام كما ورد عن أبي ذر(قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال : نعم . كان نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً ، قال له { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) ( ).
لتكون معجزة آدم على وجوه :
الأول: تكليم الله عز وجل له من غير واسطة ملك أو أحد من البشر.
الثاني : تعليم الله عز وجل له الأسماء .
الثالث : قيام آدم عليه وآله وسلم بتعليم الملائكة الأسماء ، قال تعالى [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]( ).
الرابع : هبوط آدم من الجنة ، وإنتقاله إلى العيش في الأرض بسلام وأمن.
ترى كيف هبط آدم وليس من مركبة فضائية آنذاك، ولم يقل الله عز وجل (وانزلناهم ) وليس في القرآن مثل هذا اللفظ ، إنما قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا] ( )في أمر مولوي موجه إلى آدم وحواء وإبليس مرة واحدة لتنسب الآية الهبوط إليهم ، وفيه دعوة للناس للبحث والسعي للصعود في السماء والهبوط منها وإمكان تحققه فكان النقل الجوي ثم صار الإرتقاء في السياحة في عالم السماء والمركبات الفضائية.
وكانت معجزة نوح عليه السلام بناء السفينة في الصحراء إذ كان القوم يسخرون منه ، ولكنه يستعد للطوفان مما يتعذر على الدراسات الحديثة إكتشافه قبل أوانه، ليكون صنع نوح عليه السلام للسفينة نعمة دائمة ، وقيل إستمر يعمل بها لمدة ثمانين عاماً قبل أن يأتي الطوفان والأعاصير .
وفيه دعوة للعلماء للرصد والإخبار عن أوان الفيضانات والبراكين والعواصف قبل أوانها بمدة مديدة إذ تنزل المعجزة لتبقى نعمة قريبة من العباد بالكسب والتحصيل المقرون بالتقوى، وتتجلى التقوى في الآية أعلاه بأن العلم الذي عند الناس مجتمعين ومتفرقين هو من عند الله عز وجل ليكون العلم كأغصان الشجرة المتدلية التي تقترب من الناس مع الصلاح وتسخير العلم في مرضاة الله والنفع العام للناس جميعاً، ليكون مادة وموضوعاً لجذب الناس لمنازل الإيمان والهداية، قال تعالى [وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ]( )، وجاء بعد نبي الله صالح بالناقة معجزة بينة يحلبون منها في اليوم ما يكفي القوم كلهم ، وهل فيها بشارة لمضاعفة إنتاج الحليب من الناقة والبقرة وإيجاد حليب صناعي يحمل ذات خصائص الحليب الطبيعي أو قريب منه , الجواب نعم .
أما معجزة موسى عليه السلام فهي العصا التي غيرت وجه التأريخ فأزاح الله عز وجل ملك فرعون من الأرض ببطش شديد ، ولم تنقطع عندها معجزة العصا بل صاحبت موسى وبني إسرائيل لتكون سبباً لنجاتهم مرة أخرى في الصحراء بعد عبور البحر بسلام.
ونجا إبراهيم من النار بعد أن جمعوا الحطب له لمدة شهر وقيل أكثر في موضع يسمى كوثى من سواد الكوفة.
وأخرج عن ابن عباس أنه قال : (لما هرب إبراهيم من كوثى وخرج من النار ، ولسانه يومئذ سرياني ، فلما عبر الفرات من حران غيّر الله لسانه فقلب عبرانياً حيث عبر الفرات ، وبعث نمرود في نحو أثره وقال : لا تدعوا أحداً يتكلم بالسريانية إلا جئتموني به ، فلقوا إبراهيم يتكلم بالعبرانية فتركوه ولم يعرفوا لغته)( )،وتلك معجزة أخرى لإبراهيم عليه السلام .
أما عيسى عليه السلام فقد صاحبته المعجزة من حين ولادته ،إذ لم يولد من نكاح ووطئ وليس من نطفة دخلت أو قاربت الرحم ، ثم جاءت الآيات تترى فتكلم وهو في المهد وأبرأ الأبرص والأعمى ، وأحيى الموتى بإذن الله وكان يعلن آياته ويذكر معجزاته لبني إسرائيل للبيان والشكر لله عز وجل , وفيه دعوة لهم للتصديق بنبوته , وفي التنزيل [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ]( ).
وجاء النبي محمد صلى الله بالمعجزة العقلية وهو القرآن الذي حفظ وإلى الأبد معجزات الأنبياء الحسية ورّغب الناس بالتصديق بها وجعلها وسيلة للإيمان , إلى جانب المعجزات الحسية.
وتحتمل الآية بلحاظ موضوع الإيمان في آية البحث وجوهاً :
الأول : معجزات الأنبياء من مصاديق الإيمان في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا]( )من جهات :
الأولى :التصديق بمعجزات الأنبياء من وجوه الإيمان في قوله تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا] وتلك آية في الثناء على المسلمين بأن إيمانهم لم ينحصر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل يشمل الإقرار بكل النبوات والمعجزات التي جاء بها الأنبياء ، وفيه تأديب للناس .
الثانية :دعوة المسلمين للمخادعين للإيمان والتصديق بمعجزات الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي ، قال تعالى [فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا] ( ).
الثالثة : لم ولن يطرأ الشك على قلوب المسلمين فيما يخص صدق الأنبياء ومجئ كل واحد منهم بخير الدنيا والآخرة بالمعجزة التي تهدي إلى صراط مستقيم.
الثاني : تتضمن آية البحث دعوة الناس إلى الإقرار بمعجزات الأنبياء والتدبر في دلالاتها ومعانيها ، إذ تقسم الآية الناس الذي ورد ذكرهم فيها إلى ثلاثة أقسام :
الأول : المؤمنون الذين تلقوا مضامين التنزيل التي تحكي قصص الأنبياء بصيغ التصديق والتسليم , قال تعالى مخاطباً المسلمين [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ]( ).
الثاني : فريق من الناس مخادعون يظهرون الإيمان بحضرة المسلمين كذباً ولبساً .
الثالث : رؤساء الشرك الذين ينفردون بالمخادعين ليجددوا معهم البقاء على الضلالة .
وهذا التقسيم لا يتغشى الناس جميعاً بدليل صيغة التنكير(قيل) في الآية السابقة [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( )،لتكون آية البحث موعظة للناس ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كشف خصال المخادعين والفاسقين .
فمن خصائص القرآن أن كل آية منه تتضمن الإعجاز في ذاتها ومعانيها ودلالتها وهو من أسرار سلامتها من التحريف وبقائها غضة تبعث الشوق في النفوس إلى تلاوتها وحفظها واللجوء إليها لإقتباس الدروس والمواعظ منها .
الثالث : حمل المخادعين على التسليم اللساني بالتنزيل الذي يدل بالدلالة التضمنية على عجزهم عن إنكاره وإثارة الشك والريب فيه ، مما يدل على بداية إشراقة عهد جديد على الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتقوم بالإقرار بمعجزات الأنبياء، وكفاية شر الكفار والمشركين وإصرارهم على تكذيبها العلني، وهو من وجوه حاجة أهل الأرض لبعثته وتفضيله على الأنبياء السابقين وسرعة إنتشار سبل الهداية بين الناس ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
الجواب نعم لما فيه من تهيئة مقدمات الإيمان ، وإزاحة أسباب الريب والمكر ولحوق الخزي بالكفار .
وإبتدأت الآية بذكر المخادعين بصيغة الفاعل ، ترى لماذا لم تقل الآية (وإذا لقاهم الذين آمنوا) خاصة وأن الآية السابقة ذكرتهم بصيغة المفعول [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ]وكذا قبل ثلاث آيات( ).
الجواب على وجوه:
الأول : إتحاد المعنى سواء ورد ذكر المخادعين بلفظ الفاعل أو المفعول لأن اللقاء نو ع مفاعلة بين الطرفين .
الثاني : إرادة بيان حقيقة وهي أن المسلمين أمة متآلفة يلقاهم غيرهم وهم متحدون، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثالث : غنى المؤمنين عن الكفار والمشركين , ولكن المخادعين هم الذين يأتون ويعلنون الإيمان ،ويكون هذا الإعلان بلحاظ أوانه على جهات:
الأولى : إبتداًء المخادعين بإعلان الإيمان كذباً .
الثانية : لا يدّعي المخادعون الإيمان إلا بعد الجدال وإقامة البرهان والحجة عليهم .
الثالثة : إرادة المكر والكيد من قول المخادعين آمنا، وجعله مقدمة لتسكن إليهم نفوس المسلمين ثم ينتقلون إلى إثارة أسباب الشك والأسئلة الإنكارية .
ولا تعارض بين هذه الجهات وكلها من مصاديق الآية الكريمة .
الرابعة :ذكر المخادعين بصيغة الفاعل في آية البحث لنظم الآيات إذ وردت في ذمهم وتقبيح أفعالهم ، وجاء الشطر الثاني من الآية بنسبة فعل الخلو بالشياطين إليهم .
الخامسة : إقامة الحجة على المخادعين من المنافقين والكفار بتبييتهم نية الخديعة والختل .
السادسة : بيان التباين والتعدد في الحال والنسبة والولاء بين المؤمنين والمخادعين .
السابعة : الإخبار عن الأذى الذي يلقاه المؤمنون , وعن جهادهم في سبيل الله وثباتهم على الإيمان في ميادين العمل والمنتديات العامة .
الثامنة : لقاء المخادعين للمؤمنين في الدنيا نوع إنذار وتحذير لهم للقاء يوم القيامة وإنكشاف ما في نفوسهم من الحجة للخلائق كلها ، قال تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ]( )، وهل هذا اللقاء من مصاديق الثبات في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا]( ) .
الجواب إن القدر المتيقن من الآية اعلاه هو ميادين القتال , ولكنه لا يمنع من المعنى الأعم وشموله لقاء الكفار والمخادعين في حال السلم بالثبات على المبادئ وتعاهد الفرائض .
وتبين آية البحث ثبات المسلمين في مقامات الإيمان بدليل إقرار المخادعين بحضرتهم بالهداية والإيمان .
وتدل آية البحث بلحاظ الآية أعلاه على ثبات المسلمين في عقيدتهم وإيمانهم عند القتال والمبارزة والمجادلة والمناضلة وإشتداد وطأة القتال ، ويدل عليه قوله تعالى بخصوص واقعة أحد [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ) (عن أبي أمامة الباهلي قال : « خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان أكثر خطبته حديثاً حدثناه عن الدجال وحذرناه ، فكان من قوله أن قال :
إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال ، وإن الله لم يبعث نبياً إلا حذر من الدجال ، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم ، وهو خارج فيكم لا محالة ، فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج لكل مسلم ، وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم ، وأنه يخرج من خلة بين الشام والعراق ، فيعيث يميناً ويعيث شمالاً ، يا عباد الله فاثبتوا ، وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي .
إنه يبدأ فيقول : أنا نبي ولا نبي بعدي ، ثم يثني فيقول : أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا ، وإنه أعور وإن ربكم عز وجل ليس بأعور ، وإنه مكتوب بين عينيه كافر ، يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ، وإن من فتنته أن معه جنة وناراً ، فناره جنة وجنته نار ، فمن ابتلي بناره فليستعن بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه برداً وسلاماً كما كانت النار على إبراهيم ، وإن من فتنته أن يقول لأعرابي : أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول له : نعم . فيمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان : يا بني اتبعه فإنه ربك . وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فيقتلها ينشرها بالمنشار حتى يلقى شقتين ، ثم يقول : انظروا إلى عبدي هذا فإني أبعثه الآن ، ثم يزعم أن له رباً غيري فيبعثه الله فيقول له الخبيث : من ربك؟ فيقول : ربي الله وأنت عدوّ الله الدجال ، والله ما كنت أشد بصيرة بك مني اليوم .
وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت ، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا يبقى لهم سائمة إلا هلكت ، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت ، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه وأمده خواصر وادره ضروعاً ، وأنه لا يبقى من الأرض شيء إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة ، فإنه لا يأتيها من نقب من نقابها إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلته حتى ينزل عند الظريب الأحمر عند منقطع السبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات ، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه ، فتنقي الخبث منها كما ينقي الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص .
فقالت أم شريك بنت أبي العسكر : يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال : هم قليل ، وجلهم ببيت المقدس ، وإمامهم رجل صالح ، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي الصبح إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح ، فرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى ليتقدم عيسى يصلي ، فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له تقدم فصل فإنها لك أقيمت ، فيصلي بهم إمامهم .
فإذا انصرف قال عيسى : أقيموا الباب ، فيفتح ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساج ، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هارباً ، ويقول عيسى : إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها ، فيدركه عند باب لدّ الشرقي فيقتله ) ( ).
ومن الآيات أن التغيير من جهة الكثرة والقلة طارئ على أطراف الآيات الثلاثة:
الأول : الذين آمنوا .
الثاني : المخادعون .
الثالث : رؤساء الكفر .
فيدخل الناس في الإسلام بنيات وعزائم صادقة فيكثر ويزداد عدد المؤمنين وتمتد صفوف الصلاة وتضيق المساجد بالمصلين ، بينما يصيب النقص كلاً من :
الأول : عدد المنافقين والمخادعين ، ويحصل هذا النقص من جهات :
الأولى : تخلي أكثرهم عن خصال النفاق لتوالي الآيات والمعجزات ، وكل من هذا التوالي ومن تنزه أعداد منهم من النفاق من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) بلحاظ شمول الرحمة لموارد التنزه من أخلاق النفاق المذمومة ، ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه حرب على النفاق ورشأ يأخذ بيد الإنسان لينقذه من مستنقع وحفرة إستبطان الكفر إلى غلبة الإجهار به على قرارة النفس وشغاف القلب .
الثاني : توبة فريق من المنافقين .
الثالث : الأثر المترتب على توالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهداية الخاصة والعامة .
الرابعة : نقص نسبة المنافقين إلى مجموع المسلمين لكثرة الناس الداخلين فيه بصدق وإيمان وحب الله ورسوله .
الثاني : إصابة النقص لساعات الخلوة بين المنافقين ورؤساء الكفر والضلالة بعد فضحهم بهذه الآية ، وخيبتهم وعدم جلب هذه الخلوة إلا الأذى والخزي .
الثالث : نقص رؤساء الشرك والضلالة إما بدخولهم الإسلام أو بالقتل على الكفر ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الرابع : النقص في الموضوعات والمسائل التي يجادل ويغالط بها المنافقون، ويظهر بها المخادعون والفاسقون السخرية بالمؤمنين .
الخامس : النقص في المدد والأموال التي ترد إلى المنافقين لإنشغال رؤساء الشرك بتجهيز الجيوش ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ولتعطيلهم التجارات والمكاسب لإنشغالهم في تحريض القبائل ومقدمات القتال وقطع المسافة نحو المدينة ومحاصرتها من قبل قريش وغطفان من غير أن يكسبوا إلا الخيبة والوهن.
البيان في قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ]( )
إبتدأ هذا الشطر من الآية بحرف العطف (الواو ) ، وكما كان الفاعل في أول الآية هو واو الجماعة التي تدل على المخادعين ، فان خاتمة الآية جاءت بذات المعنى ، لبيان الإثم المتعدد الذي يلحق المخادعين فمع التباين بين اللقاء مع المؤمنين , واللقاء مع رؤساء الكفر فان المخادعين لا يختارون من القول والفعل إلا ما فيه الإثم والضرر على الذات في كل منها، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
ولم يرد لفظ [شَيَاطِينِهِمْ]في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة ، فلم تنسب وتضاف الشياطين إلى الكفار أو الظالمين أو الفاسقين بينما أضيفت للمنافقين والمخادعين لبيان سوء نواياهم وإصرارهم على الإقامة على الباطل والضلالة ،وأنهم يبطنون الكفر بسبب تأثير الغير عليهم ، ولو خلوا عنهم وتركوهم يقضون أوقاتهم مع المؤمنين لإستقر الإيمان في نفوسهم ز
وهو من مصاديق العبادات اليومية كالصلاة وأدائها جماعة ومن عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )بتقريب أن معاني الأخوة بين المسلمين التعاون في تنزيه النفوس من درن النفاق بالمجالسة والمذاكرة والذكر والتلاوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعمومات قوله تعالى [وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( )ويدل عليه أن المنافقين حين يلقون المؤمنين لا يظهرون إلا الإيمان ولا يبوحون بمعاني الكفر الكامنة في جنباتهم كالصدأ.
وورد لفظ الشياطين في القرآن ثمان عشرة مرة ، كلها في شياطين الجن إلا هذه الآية وآية جامعة بقوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( ).
ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث الصلة بالواسطة بين هؤلاء المخادعين وبين شياطين الجن وأن الأذى يأتي للمسلمين من الطرفين وفيه شاهد على صبر المسلمين في سبيل الله ، وبلوغهم مراتب سامية من الفقاهة تجعلهم في حصن وحرز من الشك والريب ، لذا جاءت السنة القولية بأمر المسلمين بالتعوذ منهم معاً ، (عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإِنس . قال : يا نبي الله وهل للإِنس شياطين؟ قال : نعم { شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) ( ).
وورد تفصيل (عن ابن عباس : الجن هم الجان وليسوا بشياطين ، والشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا مع إبليس ، والجن يموتون فمنهم المؤمن ومنهم الكافر) ( ).
ويحتمل لفظ [شَيَاطِينِهِمْ] وجوهاً :
الأول : إرادة رؤساء الكفر والضلالة .
الثاني : المقصود الشياطين من الجن .
الثالث : الفرد الجامع كالذي ذكرته الآية أعلاه ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً .
الرابع : إرادة الأوثان والأصنام وما يعبد الكفار من دون الله .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية ، فكلما تتعدد مشارب المخادعين الذين تتضمن هذه الآيات توبيخهم تتعدد جهات الشر والباطل التي يرجعون إليها وينفردون بها .
ومن الإعجاز في الآية أنها لم تذكر ما يقول هؤلاء الشياطين ، مما يدل على أن تبرأ المخادعين من الإيمان وإدعاءه بحضرة المؤمنين بمحض إختيارهم ومن غير إكراه لهم فلا يستطيعون حتى الإعتذار يوم القيامة . فلا ينحصر إعتذارهم بالقول [هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا] ( )،بل أن المخادعين أضلوا أنفسهم وهذا لا يمنع من وجود فعل وقول لشياطين الأنس والجن يكون جزء علة في بقاء المنافقين في مواطن الضلالة، فان الآية حرب على رؤساء الشرك والجحود الذين يدعون إلى النار ز
وكأن الآية إنذار لهم بأن المسلمين سيتوجهون إلى محاربتهم وحصارهم في عقر دارهم ويمنعون من بقائهم سبباً لإفتتان الناس ، أو محلاً لإعلان الكفر والصدود ، فصحيح أن الآية لم تذكر قولاً أو فعلاً لأرباب الكفر ولكن ذمهم ووعيدهم يتجلى بلحاظ الآية من وجوه :
الأول : صفة الذم والتقبيح ونعت رؤساء الكفر بالشياطين وهو جمع شيطان ،وهو كل متمرد فاسد مشتق من كلمة (الشطن) وهو البعد عن الخير والرحمة.
وذكر لفظ [الشَّيْطَانُ] بصيغة المفرد في القرآن سبعين مرة وهي مدرسة في التحذير من إغواء أهل الضلالة ، وتدليس المنافقين ، وإنذار من الخلوة التي تذكرها آية البحث لما فيها من تعاهد لمعاني الكفر في نفوس المنافقين .
وأيهما أشد على الإنسان شيطان الجن أم شيطان من الإنس ،الجواب هو الثاني ، فليس عند الأول من سلطان إلا الوسوسة والإيحاء والإيهام ، ويدفع شره بالإستعاذة وبذكر الله ، أما شيطان الإنس فهو قريب من الإنسان يغويه ويستدرجه ويمنيه ويكون أسوة سيئة في إرتكاب الآثام ، ويقوم بتزيين الفواحش وحجب أضرارها والآثار المترتبة عليها ، فجاءت آية البحث للتحذير من الخلوة بهم ومنع ملاقاتهم بصبغة الشك والريب ، وهل في الآية رحمة بشياطين الإنس ،الجواب نعم من جهات :
الأول : بيان قبح التلبس بالضلالة ، وصيرورته سبباً للوصف بالشيطنة .
الثاني : إرادة نفرة النفوس من الأسوة في الأفعال القبيحة المذمومة، وهذه النفرة رحمة بالناس جميعاً إذ أنها زاجر عن مواطن المعصية ودعوة لأصحابها للتوبة والإنابة .
الثالث : البيان بأن أقبح الأفعال هو الجحود والإقامة على الكفر بما يجعل الذين في قلوبهم مرض يميلون إليهم ، فلم يأت مصداق الشيطان بخصوص إرتكاب الفواحش الفعلية كالزنا وشرب الخمر منفردة ، ولكنه ورد بخصوص أمور مجتمعة :
الأول : الكفر والجحود وهو أم الكبائر ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
الثاني : التصدي للرئاسة في باب الجحود بالنبوة وإنكار المعجزات .
الثالث :إظهار الهيبة والشأن عند الناس بما يجعل المنافقين يظهرون ما يخفون من الكفر عندهم تزلفاً ورياء ومحاكاة .
الرابع : تعاهد صيغ الكفر بالقول والفعل ، فهؤلاء الشياطين الإنسية لا يظهرون الإيمان عند إقامة الحجة عليهم حتى ولو على نحو الإدعاء.
لماذا النسبة في شياطينهم
ذكرت الآية موضوعين بينهما تضاد ، وبين أطرافها عموم وخصوص من وجه ، فمادة اللقاء هم المنافقون ، ومادة الإفتراق ، طرف المؤمنين عند اللقاء بهم ، وطرف رؤساء الضلالة عند الخلوة بهم ، وهو من بديع البيان والإعجاز غير المخل في القرآن ، وعندما يلتقي المنافقون بالمؤمنين يكتفون بقول آمنا من غير تأكيد له , وفيه وجوه :
الأول : الإيمان بسيط غير مركب .
الثاني : أصالة التبادر عند المسلمين والناس بأن قول آمنا مرآة لصدق النية وإخلاص الإيمان ، وخلو النفوس من درن الشرك والضلالة .
الثالث : ترتب الأثر على قول آمنا بصدق تسمية القائل بأنه مؤمن ووجوب أدائه الفرائض والعبادات .
الرابع : عجز المنافقين عن تأكيد قول آمنا لأن مرض قلوبهم يمنعهم من صدق الإيمان أو بيانه على اللسان وهو من مصاديق قوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] ( ).وكأن الآية أعلاه تنبأ المسلمين بأن المنافقين لا يؤكدون إيمانهم بالقول والفعل .
الخامس : بيان حقيقة وهي أن المؤمنين يعلمون كذب وزيف إدعاء المنافقين فيجتنب المنافق الإستمرار في قول الزور ، ويمتنع عن تعدد الإدّعاء غير الصحيح .
السادس : قصر لقاء المنافق مع المؤمنين ، ووقوعه أحياناً على نحو عرضي .
السابع : إنشغال المؤمنين في الدعوة إلى الله عز وجل .
الثامن :تفقه المسلمين في الدين ومعرفتهم لقانون ثابت من جهات :
الأولى : يعلم الله عز وجل ما تخفي صدور الناس جميعاً .
الثانية : الذي يؤمن بالله ورسوله والتنزيل ينفع نفسه .
الثالثة : تعدد وجوه الإبتلاء وتجلي صدق الإيمان من عدمه عند الدفاع عن بيضة الإسلام .
وفي التنزيل [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا]( ).إذ تناجى المنافقون وحثوا الأنصار للرجوع إلى المدينة ، وعدم مقاتلة كفار قريش حول الخندق وإرادة خذلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسليم المهاجرين إلى الكفار .
ومن الإعجاز أن الأنصار ثبتوا في مقامات الإيمان وفي مواقع الدفاع ، ولم يقع قتال مع المشركين ودفع الله عز وجل عنهم بالملائكة , وقتل الإمام علي عليه السلام فارس قريش عمرو بن ود العامري .
والثرب على وزان فلس هو شحم رقيق على الكرش والأمعاء ، وقيل ثرب عليه أي عتب ووبخ (وفي الحديث إِذا زَنَتْ أَمَةُ أَحدِكم فَلْيَضْرِبْها الحَدَّ ولا يُثَرِّبْ ) .
قال الأَزهري معناه ولا يُبَكِّتْها ولا يُقَرِّعْها بعد الضَّرْبِ والتقْريعُ أَن يقول الرجل في وَجه الرجْل عَيْبَه فيقول فَعَلْتَ كذا وكذا والتَّبْكِيتُ قَرِيبٌ منه وقال ابن الأَثير أَي لا يُوَبِّخْها ولا يُقَرِّعْها بالزّنا بعد الضرب) ( ) وقيل أنه اسم رجل من العمالقة بنى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وقال ابو عبيدة :لم تَسْكُن العمالِيقُ يَثْرِبَ)( ).
وأختلف في حدود يثرب على وجهين :
الأول : إنها موضع من الأرض وأن مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ناحية منها لذا ورد في بني النضير أنهم قبيلة يهودية سكنت يثرب بالقرب من المدينة .
الثاني : يثرب هي ذاتها مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إتساع رقعة المدينة لتشمل يثرب .
والصحيح هو الثاني ، وتدل عليه أحاديث عديدة ، وفي إعجاز الوحي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أكد على لزوم التقيد بتسميتها طيبة (عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى أحد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم فرقتين . فرقة تقول نقتلهم ، وفرقة تقول . لا . فأنزل الله[فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا…. ] ( ) ، الآية , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنها طيبة ، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة) ( ).
(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « صفتي أحمد المتوكل مولده بمكة ومهاجره إلى طيبة ، ليس بفظ ولا غليظ ، يجزي بالحسنة الحسنة ولا يكافىء بالسيئة ، أمته الحمادون يأتزرون على أنصافهم ، ويوضئون أطرافهم ، أناجيلهم في صدورهم ، يصفون للصلاة كما يصفون للقتال ، قربانهم الذي يتقربون به إلى دمائهم ، رهبان بالليل ليوث بالنهار) ( ).
(عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « لا تدعونها يثرب ، فإنها طيبة يعني المدينة ، ومن قال : يثرب ، فليستغفر الله ثلاث مرات . هي طيبة . هي طيبة . هي طيبة) ( ).
وطيبة وطابة من الطيب ، وقيل من الطيب أي الطاهر ، لتنزهها من الشرك وخلوها منه ، وفي حديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ه قال :إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان إذا رآى هلال شعبان أمر مناديا ينادي في المدينة: يا أهل يثرب إني [رسول] رسول الله إليكم ألا إن شعبان شهري فرحم الله من أعانني على شهري، ثم قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول: ما فاتني صوم شعبان منذ سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وآله ينادي في شعبان، فلن تفوتني أيام حياتي صوم شعبان إن شاء الله، ثم كان عليه السلام يقول: صوم شهرين متتابعين توبة من الله ( ).
الرابعة : سوف يأتي يوم القيامة وتنكشف النوايا وماهية القلوب ، قال تعالى [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ] ( ).
وتطلق العرب لفظ شيطان على كل متمرد مفسد سواء من الجن أو الإنس أو عامة الحيوان ، وفي حديث أبي ذر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : (الكلب الأسود شيطان) ( ).
والشيطان على وزان فيعال ، وفي اشتقاقه مسائل :
الأولى : من شطن إذا بعد , ونونه أصلية , وبه قال ابن الأثير ، وهذا البعد على وجوه :
الأول : بعد الشيطان عن الخير والصلاح .
الثاني : بعد منهج الشيطان في الشر والضلالة .
الثالث : تمادي الشيطان بفعل السيئات الذي يبعده عن رحمة الله .
الثانية : من شاط يشيط إذا زال وهلك والنون زائدة .
الثالثة : من الشيطان على وزن فعلان وهو من شاط يشيط :إذا إحترق سخطاً .
الرابعة : مشتق من الشطن بمعنى الحبل الطويل ، لأطالة الشيطان في الشر وإقامته على الفساد ، قال (محمد بن إسحاق : إنما سمي شيطاناً لأنه شطن عن أمر ربه ، والشطون البعيد النازح ، ( والشاطن البعيد عن الحق) ( ).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (اثنان خير من واحد وثلاثة خير من اثنين وأربعة خير من ثلاثة فعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ولم يجمع الله أمتى إلا على هُدَى واعلموا أن كلَّ شاطنٍ هوى فى النار) ( ).
والصحيح والمشهور هو المسألة الأولى ، وتكون الثانية والثالثة والرابعة في طولها ويحتمل لفظ الشياطين في الآية وجوهاً :
الأول :إرادة شياطين الإنس .
الثاني : المقصود خلوة المخادعين بشياطين الجن .
الثالث : إرادة الجامع بين شياطين الجن والإنس .
والصحيح هو الأول لوجوه :
الأول : ورود لفظ [خَلَوْا] في قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]( ) فالخلوة والإنفراد في المقام تأتي بعد اللقاء بالمؤمنين .
الثاني : قول المخادعين [إِنَّا مَعَكُمْ]في الإقامة على الكفر والضلالة وتدل هذه المعية بالدلالة التضمنية على معرفة المنافقين بحال رؤوس الكفر وأنهم مصرون على الجحود بالنبوة والتنزيل .
الثالث : نسبة الشياطين إلى ذات المنافقين والمخادعين ، وكأنهم من صنعهم لإختيارهم الرجوع إليهم من غير حاجة أو موضوعية لهذا الرجوع .
ومن أسرار هذه النسبة ما يتعلق بأوزار جناية النفاق والمخادعة ، فأن الأصل أن يتحمل المباشر للجناية وما يترتب عليها من العقاب إو القصاص أو الحرية إلا أن يكون المسبب هو الأقوى ، وتبين الآية الإشتراك وتواطئ كل من الطرفين المنافقين ورؤساء الضلالة والتحريف على الإستمرار على الكفر والضلالة وإيذاء المؤمنين والإستهزاء بهم .
وفي القوانين الجنائية يقسم الشريك في الجناية إلى قسمين :
الأول : الشريك الأساسي .
الثاني : المعاضد والمساند للجاني .
وكل واحد منهما من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة من جهة حضور الجريمة أو تهيئة المقدمات لها أو الإعانة بالمال أو المشورة ونية وقصد الشريك لإرادة وقوع الجريمة ز
وورد أن الإمام علي عليه السلام ( أتي برجلين أمسك أحدهما وجاء الآخر فقتل فقال أما الذي قتل فيقتل , وأما الذي أمسك فإنه يحبس في السجن حتى يموت) ( ).
المنافقون يظهرون الكفر أيضاً
هل من طائفة تظهر الإيمان وتظهر الكفر في محل واحد , الجواب لا ،إلا في حالة مخصوصة تجتمع فيها وجوه :
الأول : الإكراه على الكفر .
الثاني : يكون إظهار الكفر على نحو السالبة الجزئية بقدر الضرورة التي تباح معها المحظورات ولكن بقدرها، ولا يصدق عليه أنه إظهار للكفر , وورد عن محمد بن عمار (عن أبيه قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر آلهتهم . بخير ، ثم تركوه فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : شر ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئن بالايمان . قال : إن عادوا فعد . فنزلت { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ( )،وكان أهل مكة أخذوا عمارً فقالوا له : إبرء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبرأ منه تحت وطأة التعذيب ، ثم عاد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعتذر ويجدد ثباته على الإيمان .
فليس بين المؤمنين من يظهر الكفر طواعية باختياره ويقول للمؤمنين أنا معكم إنما أنا مستهزء بالكفار في إنتمائي الظاهري لهم، وتلك آية في صدق الإيمان وتنزه المسلمين عن الرياء , وتدل هذه الآية على أن تعريف المنافقين بأنهم يظهرون الإيمان ويخفون الكفر لا ينطبق تماماً عليهم ، إذ أنها تدل على إظهارهم الكفر أيضاً ، وفيه دلالة على قصور التعريفات عن المعنى القرآني ، إذ يقول المنافقون لرؤساء الضلالة [إِنَّا مَعَكُمْ] ويقولون لهم [نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]فهم إذن يظهرون الكفر ولكن ليس بحضرة المسلمين ، ليكون تعريف المنافقين مقيداً وهو : الذين يظهرون الإيمان بحضرة المسلمين وهم يخفون الكفر ويظهرونه عند الخلو بأرباب الضلالة والشرك .
الثالث : قد يقال أن الآية جاءت بصيغة الشرط إذ أن [َإِذَا] في قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ] يفيد الزمان المستقبل ويتضمن لغة الشرط ، وقد تتخلى عن معنى الشرطية لتتصف بالظرفية المحضة ، ولا دليل في الآية على إرادة المستقبل من [َإِذَا] في هذه الآية إنما تفيد الإخبار عن حال متجدد .
والمتبادر إلى الأذهان من الآية أنها كشف لعلم من علوم الغيب ، وبيان حال المنافقين، وكيف أنهم يظهرون الإيمان مرة والكفر مره أخرى مع التباين في محل الإظهار ، فان قلت قد كشف الله عز وجل لنبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين حال المنافقين عند الخلوة بأرباب الكفر فهل يعلم الكفار بحال وسنخية إعلانهم بحضرة المؤمنين الجواب نعم بدليل هذه الآية نفسها من جهات :
الأولى : اللقاء خلسة وخفية مع رؤساء الضلالة .
الثانية : قولهم [إِنَّا مَعَكُمْ] وفيه وجوه :
الوجه الأول : إنه عهد وإظهار للولاء , وهل تدل الآية على خشية المنافقين كشف هذا القول والعهد .
الجواب نعم بدليل حرصهم على الخلوة والإنفراد مع رؤساء الكفر والضلالة لقوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا] ولو إتفق وحصل إجتماع في منتدى أو سوق أو مكان يجمع بين المؤمنين والمنافقين ورؤساء الضلالة فيحتمل حال المنافقين وجوهاً :
الأول : إعلان المنافقين الإيمان .
الثاني : إلتزام المنافقين الصمت وإختيارهم السكوت .
الثالث : إظهار المنافقين الصدود والميل إلى مغادرة المكان والتواري عن الأنظار ، قال تعالى [ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا] ( ).
الرابع : تظاهر المنافقين بعدم الصلة برؤساء الضلالة.
الخامس : إختيار المنافقين الخلوة برؤساء الكفر والضلالة ، ولو صرف الطبيعة بأن تكون الخلوة معهم بالهمس أو الكناية أو الإشارة باليد أو العين أو بغيرهما وكذا بالنسبة لإظهار الإستهزاء بالمؤمنين .
السادس : قدرة المنافقين على الجمع بين الأمرين ، بين إظهار الإيمان عند المؤمنين والخلوة ولو بالإشارة مع رؤساء الضلالة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ودلائل الإعجاز فيها ، إذ أنها لا تقطع بالفصل بين لقاء المؤمنين والخلوة برؤساء الضلالة ، ولكنه الأظهر والأنسب للحال ، وفيه بشارة وهن وإندحار رؤساء الضلالة ، وعيشهم في عزلة عن الناس .
لقد جاءت آيات القرآن لبعث النفرة من النفاق ، وبيان سوء عاقبة المنافقين , قال تعالى [بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا]( )، وإذا كان المقصود من العذاب في الآية أعلاه هو عذاب جهنم وشدته .
فهل تتضمن هذه الآيات العذاب للمنافقين , الجواب نعم ، ولكنه عذاب مقترن بالرحمة والدعوة إلى التوبة والكف عن النفاق ، وهو من مصاديق تسمية الدنيا في هذا السٍفر (دار الرحمة ) إذ تأتي الرحمة المحضة للناس ، وتأتي متداخلة مع صيغ التوبيخ والذم والتبكيت ، وهذا التداخل خاص بالكفار والمنافقين فاذا صلحت علانيتهم وسرائرهم تبقى الرحمة المحضة هي التي تتغشاهم ، وتصبح الدنيا حديقة ناضرة تزهو في أعينهم بالإيمان وفعل الصالحات .
الوجه الثاني : قول [إِنَّا مَعَكُمْ] تحريض للتعدي والأجهاز على المؤمنين ، لأنه نوع نصرة وإستعداد للكيد , وأن مكر المنافقين لا يقف عند خذلان المؤمنين ساعة الشدة بل يشمل إعانة رؤساء الضلالة في الهجوم على الإسلام ، وفيه نكتة وهي أن المنافقين تركوا المبادرة ونوع التعدي على المسلمين وأوانه وكيفيته إلى رؤساء الضلالة , ليكون من إعجاز نظم القرآن مع البيان في الآيتين التاليتين وجوه :
الأول : دلالات إستهزاء الله عز وجل بالمنافقين والمخادعين ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان خيبة المنافقين ، وعدم كسبهم من الولاء والنصرة لرؤساء الضلالة إلا الخذلان , وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية التالية [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] ( ).
الثانية : عجز رؤساء الضلالة عن الإضرار بالمسلمين وإختيارهم أوان إنزال الضرر بهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ) .
الثالثة : كشف قول المنافقين لرؤساء الضلالة [إِنَّا مَعَكُمْ] وما فيه من الفضح والخزي لهم .
الرابعة : دخول أفواج من الناس في الإسلام وإظهارهم حسن السمت وصدق الإيمان على مرأى ومسمع من المنافقين .
الخامسة : نزول العذاب القريب برؤساء الضلالة كما في قتل عدد منهم في معركة بدر وأحد وخيبتهم في الخندق ، ثم عجز أقطاب الكفر عن منع دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مكة فاتحين .
السادسة : بيان كبرى كلية وهي أن قوله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] لا يختص بالرد على المنافقين بالإستهزاء بهم ، بل يشمل هدم ما يبيتون في خلوتهم مع رؤساء الكفر والضلالة .
الثاني : ترشح الوعيد للمنافقين عن كشف الله لخلوتهم بأقطاب الضلالة .
الثالث : من مصاديق قوله تعالى [وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ] أمور :
الأول : تجرأ المنافقين بالتطاول , وإظهار الكفر في حضرة رؤساء الجحود .
الثاني : ظن المنافقين بأن ولاءهم لأرباب الضلالة يضر المسلمين .
الثالث : إعتداء المنافقين برؤساء الضلالة وتطلعهم إلى إنقضاضهم على الإسلام ، وهو من مصاديق تسميتهم [شَيَاطِينِهِمْ]أي أن المنافقين يرجون منهم تحقيق ما يرومون من التنكيل بالمسلمين ، وصد الناس عن سبل الإيمان , وإستدراج بعضهم إلى الزيادة في التمرد في الفساد .
الرابعة : إن قول المنافقين لرؤساء الضلالة [إِنَّا مَعَكُمْ] من مصاديق قوله تعالى في الآية بعد التالية [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى] ( )من وجوه :
الأول : إظهار النصرة للكفار في مواجهة الإسلام ضلالة .
الثاني : ليس من إكراه أو إجبار للمنافقين أو نفع باعلانهم نصرة رؤساء الكفر .
الثالث : قول [إِنَّا مَعَكُمْ]تفريط بالهدى وإعراض عن الدعوة إلى الحق والصلاح .
الرابع : خيبة المنافقين بعد قول [إِنَّا مَعَكُمْ] لتخلف رؤساء الضلالة عن القيام بأي تغيير أو وقف للزحف الإيماني وسبل الهدى التي تخترق شغاف القلوب , وتقدم جحافل المجاهدين في سوح المعارك والفتوحات .
الخامس : قول المنافقين [إِنَّا مَعَكُمْ] من مصاديق قوله تعالى [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] ( ) من وجوه :
الأول : لقد نعتت آية البحث رؤساء الضلالة بلفظ الشياطين والمردة والبعيدين عن الرحمة ، مما يدل على لحوق الغدر بمن يكون معهم .
وهو من الإعجاز في إخبار الآية أعلاه عن خسارة تجارة المنافقين ، فلم يربحوا من قول [إِنَّا مَعَكُمْ] إلا الإثم والوزر .
الثاني : كذب المنافقين في قول [إِنَّا مَعَكُمْ] فليس بمقدورهم فعل شيء يجلب الضرر للمؤمنين خاصة وأن آية البحث أخبرت بأنهم إذا لاقوا المؤمنين [قَالُوا آمَنَّا] وهذا القول متجدد وسابق لخلوتهم برؤساء الضلالة ومتأخر عنه .
فصحيح أنهم يقولون لرؤساء الضلالة [إِنَّا مَعَكُمْ] ولكنهم ينقضون قولهم هذا عند اللقاء بالمؤمنين فيظهرون الإيمان , وهذا الإظهار على مراتب :
الأولى : قيام المنافقين بأداء الصلاة والفرائض ظاهراً .
الثانية : إعلان المنافقين الإستعداد لأداء الفرائض مع التكاسل عنها قال تعالى [وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى] ( ) .
الثالثة : إكتفاء فريق من المخادعين بإعلان الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحضرة المسلمين، والتصديق بالمعجزات التي جاء بها , دون إعلان دخول الإسلام .
الرابعة : قول المنافقين [إِنَّا مَعَكُمْ] من مصاديق قوله تعالى [وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] ( ).
الثالث : الإنصات لرؤساء الكفر أمر مناف للهدى ويتجلى هذا الإنصات بتسميتهم بالشياطين ونسبتهم إلى المنافقين للدلالة على انهم يقتبسون من رؤساء الضلالة ما يبعدهم عن رحمة الله ويجعلهم يتمادون في التمرد والعتو والطغيان ، ليأتي الإثم للمنافقين من جهات متعددة .
الرابع : بعث اليأس والقنوط في نفس الذي يصر على النفاق وميله للفتنة وإفتتانه بأقطاب الشرك وما لهم من الجاه والشأن المتزلزل (عَنِ ابن عَبَّاسٍ، قَالَ:”كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا، وَكَانُوا يَسْتَخِفُّونَ بِالإِسْلامِ، فَأُخْرِجُهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَهُمْ، فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ وَقُتِلَ بَعْضٌ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلاءِ مُسْلِمِينَ وَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفِرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتْ: ” إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ إِلَى ” آخِرِ الآيَةِ، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الآيَةِ لا عُذْرَ لَهُمْ، فَخَرَجُوا فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَعْطَوْهُمُ الْفِتْنَةَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةُ ” وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ” إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَكَتَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَخَرَجُوا وَأَيِسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ) ( ).
الوجة الثالث : قول [إِنَّا مَعَكُمْ] بيان لتأسيس جبهة وطائفة جديدة معادية للمسلمين تتصف بأمور :
الأول : عدم معرفة اشخاص هذه الطائفة على نحو التعيين إلا أن يشاء الله ، كما في كشف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي لبعضهم .
الثاني : وجود أفراد هذه الطائفة بين المسلمين وينطقون بذات اللسان الإيماني .
الثالث : إنكشاف شطر من أسرار وتعبئة المسلمين للكفار بواسطة هذه الطائفة , وقيامهم بنقل أخبار المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا مَعَكُمْ].
الرابع : إتخاذ الكفار للمنافقين ظهيراً , وتسخيرهم لإثارة الفتنة بين المؤمنين، ومن الإعجاز في المقام أن آيات القرآن وكذا كتب السيرة والتأريخ لم تنقل وقائع متعددة تدل على سعي المنافقين لتحريف القرآن وإشاعة تبديل بعض كلماته , وفيه مسائل :
الأولى : إنه من الشواهد على سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقصان .
الثانية : فيه مصداق ودليل على الإعجاز في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الثالثة :تفضل الله عز وجل بجعل هيبة وسلطان للقرآن على القلوب بما يبعث على العزوف عن التجرأ والتعدي عليه .
الرابعة : عجز المنافقين عن تغيير بعض كلمات القرآن ليس بالصدفة وحدها ، بل بفطنة ويقظة المسلمين ايضاً .
الخامسة : تعاهد المسلمين اليومي للكلمات وآيات القرآن ، وتلاوتهم وتدارسهم لها ، وكتابتها في المصاحف ، عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود قال : (كنا نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر آيات فما نعلم العشر التي بعدهن حتى نتعلم ما أنزل في هذه العشر من العمل)( ).
(عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن)( ).
وتتجلى معاني الرحمة الإلهية في كشف القرآن لخفايا وخبث سيرة المنافقين من وجوه :
الأول : نهي وردع المنافقين عن الإستمرار في النفاق والمكر وإبطان الكفر والضلالة ، فاذا علم العبد أن مولاه يعلم ما يخفي من الفعل القبيح فانه يستحي ويهجر هذا الفعل .
الثاني : بيان ضابطة كلية للناس ، وهي أن الذي يدخل الإسلام لابد وأن يصدق في قوله وفعله ويكون إيمانه ظاهراً وباطناً .
الثالث : جعل الناس يستحضرون قانوناً في الإدارة التكوينية وهو أن الله عز وجل يعلم ما يفعلون وما يخفون في نفوسهم (عن ابن عباس في قوله[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( )، قال : الرجل يكون في القوم ، فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها ، وإذا غفلوا لحظ إليها ، وإذا نظروا غض بصره عنها ، وقد اطلع الله من قلبه أنه ودَّ أنه ينظر إلى عورتها) ( ).
فان قلت شاع في هذا الزمان الإختلاط بين الرجال والنساء ، واصبح النظر إلى المرأة متعارفاً وخالياً من الشهوة , الجواب من وجوه :
الأول : جاء الحديث أعلاه من باب المثال والمصداق وليس الحصر .
الثاني : تشمل الآية أعلاه المنافقين وما يضمرون من الكفر والجحود من باب الأولوية القطعية خاصة وأنها جاءت في نظم آيات إنذار ووعيد( )وتذكير بعالم الحساب في الآخرة .
الثالث : وجود أمة مؤمنة تتقيد بأحكام الشريعة , ومعهم من يضعف عن غض البصر .
الإستعاذة
لقد خلق الله الإنسان ضعيفاً قابلاً للتأثر والتأثير ، وقادراً على الفعل والإنفعال لذا إبتدأت آية البحث بصيغة اللقاء ولغة الجمع[وَإِذَا لَقُوا] بلحاظ ترشح الأثر على هذا اللقاء ، ومن إعجاز القرآن أن هذا الأثر من طرف واحد مع أن اللقاء نوع مفاعلة بين الطرفين ، فلا يقتبس المؤمنون من غيرهم شيئاً منكراً , بينما ينهل ويقتبس الغير منهم معاني الإيمان والتصديق بالمعجزات ولو على نحو الموجبة الجزئية ، والإعلان الحاضر الذي هو كالعرض سرعان ما يختفي عند الخلو برؤساء الكفر ، ولكنه لن يمحى أو يفنى بدليل ذات آية البحث نفسها من جهات :
الأولى : لغة الشرط في الآية ودلالتها على تجدد اللقاء ، فلم تقل الآية (ولما لقوا) .
الثانية : موضوعية الإجهار بالإيمان وإن كان زوراً وكذباً ، لأن الكلام حجة على صاحبه ، وقد يسمعه من المنافق شخص فيبادر إلى الإسلام ويحسن إيمانه .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق به أقتابه ، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه ، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما لك ، ما أصابك ، ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر . . . ؟! فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) ( ).
الثالث : وجود قانون ثابت ومتجدد من جهات :
الأولى : صيرورة المسلمين والمسلمات أمة متحدة .
الثانية : إستقرار الإيمان في قلوب المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالثة : تجدد الملاقاة الخاصة والعامة بين المؤمنين والمخادعين .
الرابعة : دخول الناس في الإسلام ، وعدم مغادرة أحد المؤمنين مقامات الإيمان لأنها رفعة وعز وسكينة .
لقد جعل الله عز وجل الحياة دار إبتلاء وإمتحان، فكما صاحب إبليس آدم وحواء في هبوطهم إلى الأرض فإن ضروب الإفتتان تواجه الإنسان منذ بدايات حياته وتكليفه إلى حين مماته تداهمه فجأة أو تدريجياً ، وإن لم تسع إليه فانه يسعى إليها ويختارها ، ليكون من خصائص الدنيا الملازمة بين الإختيار والإختبار فكل إختيار هو إختبار، وعدم الخيار خيار أيضاً .
ويترصد الشيطان الإنسان في أقواله وأفعاله، وتحاول النفس الأمارة بالسوء إغواءه بما يجعله يتبع نهج الشيطان في معصية الله عز وجل ، وتأتي هذه المحاولة بعد أن رآى آدم نفسه كيف أن إبليس عصى الله في السجود ، ليكون هذا الموضوع وحضور آدم له ، وتعلقه بخصوص إكرام آدم وذريته دعوة لهم للإحتراز من محاكاة إبليس ، قال تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه مجيؤها بصيغة المضارع ولغة الجمع بطرفيها في المنهي والمنهي عنه ليكون الإحتراز من الشيطان أمراً وجودياً وليس عدمياً ، ويصبح حاضراً في ميادين الحياة المختلفة وفي كل مسألة وموضوعاً يواجه الإنسان وإن كان شخصياً (عن سليمان بن صرد قال كنت جالسا مع النبي ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد)( ).
والإستعاذة كنز من كنوز الإسلام وسلاح في حال الأمن والشدة ، فحتى الذي هو في غبطة وسعادة يحتاج الإستعاذة لدفع الملمات والمباغت من المصائب ومدلهمات الأمور ،وتحتمل الإستعاذة بلحاظ الندب إليها وجوهاً :
الأول : الإستعاذة ذكر بسببه ،قال تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( ).
الثاني : إختيار الإنسان الإستعاذة وجعلها ملكة على اللسان على نحو الدوام .
الثالث : إتخاذ الإستعاذة في حال الأمن ذخيرة عند مفاجئة الإفتتان وإحتمال الإنشغال عنها أو غيابها عن الذهن ، فمن إغواء إبليس والنفس الأمارة عدم الإلتفات أو الإبطاء في اللجوء إلى الإستعاذة .
الرابع : الإستعاذة إبتداءً ومن غير سبب ، بلحاظ أنها ذكر لله عز وجل وإستجارة به سبحانه .
الخامس : التوقي بالإستعاذة ،(وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفثه ونفخه. قال: همزه الموتة، ونفثه الشعر: ونفخه الكبرياء)( ).
السادس : الإستعاذة وسيلة لجلاء الهموم، وعلاج لشفاء الصدور، وأمن من النفاق وأمراض القلوب ، إذ تقدم قبل آيات ذم المنافقين بقوله تعالى[فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق البعث والندب على الإستعاذة لتبقى صرحاًً من معالم الإيمان ، ومنهلاً لأسباب الوقاية من الشرور والبلاء .
وجاءت آية البحث لبعث النفرة في النفوس من المخادعين ورؤسائهم في الكفر الذين يلجأون إليهم ويطلبون نوالهم .
وهل تنفع الإستعاذة في فضحهم ودفع ضررهم، الجواب نعم ، وهو من أسرار تسميتهم بالشياطين ، ولإفادة المعنى الأعم في منافع الإستعاذة والوقاية منهم ، وتدل مضامين هذه الآية على سلامة المؤمنين من مكر وخبث هؤلاء الشياطين بلحاظ نسبة وإضافة الشياطين لخصوص المخادعين، فقوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]يفيد إفتتان المخادعين على نحو الحصر والتعيين بأرباب الكفر والجحود ، قال تعالى في الثناء على نفسه وعظيم فضله على المؤمنين وخزي الشيطان [إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
ليكون من مصاديق آية البحث جذب الناس إلى منازل الهدى والإيمان وترك اللجوء إلى رؤساء الكفر والإنصات لهم .
ولم تقل الآية إذا خلوا بشياطينهم ، بل جاءت بحرف [إلى]وفيه معان إعجازية من وجوه :
الأول : إرادة إنتهاء الغاية المكانية وأن حد ضلالتهم واهن وضعيف لا يتجاوز هؤلاء الشياطين من الإنس إذ يعرف بعضهم بعضاً ، فجاءت الآية بالتحذير منهم مجتمعين ومتفرقين .
الثاني : دخول الغاية وهم [شَيَاطِينِهِمْ] في المغيى، وهو الخلوة والإجتماع في الضلالة بلحاظ وحدة الجنس الجامع لهم ، ولإفادة تعلق الإثم والمعصية بالطرفين معاً ، وقد يقال إن مسألة دخول الغاية في المغيى أجنبية عن المقام خاصة وأنها تبحث في علم الأصول في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ]( ) ودخول المرافق وهي الغاية في المغيى وهو الغسل لأنها من ذات الجنس ، أو عدم دخول الغاية فيه لأنها غير الجنس كما في قوله تعالى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]( ) فلا يدخل الليل في الصيام .
وفي مجئ [إِلَى] في الآية شاهد على سعي الطرفين لهذه الخلوة وأنها لم تحصل إتفاقاً وصدفة كما في اللقاء مع المؤمنين أحياناً .
الثالث : يرد [إِلَى]بمعنى [مَعَ]كما في هذه الآية، ويستدل عليه في كتب اللغة بقوله تعالى [مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ]( ) وليس هذا الإستدلال تاماً لأن معنى ودلالة (إلى ) إرادة الغاية وهو أصل معاني [إِلَى] وهي ظاهرة بينة .
ومن دلالات [مَعَ] في المقام أن خلوتهم برؤساء الكفر والشرك ضلالة ومكر ومن أجل إرادة الإضرار بالمسلمين.
ويمكن أن يستدل بهذه الآيات على استتابة الزنديق الذي يخفي الكفر إذا أظهر الإيمان وأنكر ظاهراً الإلحاد والزندقة والكفر ، لأن هذه الآيات لم تتضمن الأمر بقتلهم مع أنها ذكرت خلوتهم مع شياطينهم وتجاهرهم بالكفر عندئذ .
وأخبرت آية سابقة عن سوء قولهم وفعلهم، وإصرارهم على الجحود بقوله تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ]( ) لموضوعية ظاهر الإنسان في الحكم ، وقبول قوله عند الإحتجاج فان قيل صار المخادعون فتنة وأشد ضرراُ من الكفار ، لأنهم يرصدون أخبار المسلمين وينقلونه إلى رؤساء الضلالة ،إنما إدّعاء الإيمان تقية وخشية من المؤمنين، ولقيام الحجة بالمعجزة المتكررة.
والجواب هذا صحيح ، ولكن النطق بالشهادتين برزخ وحاجب دون القتل , ومن الإعجاز في المقام الشواهد الكثيرة التي تدل على أن النطق بالشهادتين وسيلة للتدارك وسبيل للندم والتوبة ورداء للصلاح والتنزه من الفساد ومقدمة لدخول الإيمان إلى القلب ، ليفيد قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ) المعنى الأعم بأن النطق بالشهادتين وكل فعل عبادي له موضوعية في تنحية صاحبها عن مواطن الشرك وتنقية بواطنه من درن الشك والضلالة.
وورد لفظ [إِنَّمَا نَحْنُ] في القرآن ثلاث مرات ، مرتين في ذات موضوع المنافقين في هذه الآيات، إذ ورد قبل آيتين [قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] كذبا وإفتراءً، وورد في الملكين اللذين أنزلا إلى بابل قوله تعالى [وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ] ( ) وفيه إنذار من الفتنة وتسخير السحر للإضرار بالناس أو للإفتنان وصرفهم عن عبادة الله التي تتقوم بها الحياة الدنيا.
البيان في قوله تعالى [إِنَّا مَعَكُمْ]
من الإعجاز والبيان في آية البحث تكرار الفاعل والحرف الذي يدل على معناه ست مرات، وتتعلق كلها بالمخادعين لأن الآية جاءت لبيان بعض خصالهم المذمومة ، وفيه بيان وكشف للمؤمنين وبما يفيد موعظتهم وصلاحهم وإحترازهم من المنافقين والمخادعين في أفعالهم ، وتضمنت الآية لقاءين بينهما عموم وخصوص من وجه .
فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : كل لقاء يجمع طرفين فقط .
الثاني : المخادعون طرف في كل واحد من اللقاءين .
الثالث : لم يذكر في أي من اللقاءين إلا قول المخادعين .
الرابع : كل قول للمخادعين تذكره الآية حجة عليهم ، وفضح لهم .
الخامس : وصفت الآية السابقة المخادعين بالسفهاء ، وبينت هذه الآية مصداقاً لسفههم.
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه :
الأول : وقوع اللقاء الأول مع المؤمنين ، أما الثاني فمع رؤساء الضلالة .
الثاني : التباين في قول المخادعين إذ يعلنون الإيمان بحضرة المؤمنين ، ويجاهرون بالولاء لأهل الضلالة عند الخلوة بهم .
الثالث : ذكرت الآية إجتماع المخادعين مع المؤمنين بصيغة اللقاء ، أما حضورهم عند رؤساء الغي والفساد فورد بصيغة الخلوة والإنفراد .
الرابع : يعلن المخادعون إيمانهم بحضرة المؤمنين ، أما عند أرباب الشرك فيعلنون الكفر والجحود .
الخامس : ذكرت الآية كلمة واحدة للمخادعين عند لقائهم المؤمنين وهي [آمَنَّا] وذكروا عند خلوتهم رؤساء الضلالة مسألتين:
الأولى : المعية والمشاركة وإنعدام الحواجز بينهما.
الثانية : إعلان إستهزاء المخادعين بالمؤمنين .
ويحتمل قول المخادعين [آمَنَّا]في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا]( ) وجوهاً :
الأول : إنحصار كلامهم بحضرة المؤمنين بلفظ [آمَنَّا]ودلالاته.
الثاني : جاء لفظ [آمَنَّا] لإرادة المعنى الأعم لمصاديق الإيمان .
الثالث : يأتي المخادعون بلفظ فيه تورية , يفهم منه المؤمنون إظهارهم الإيمان لذا قالوا بأنهم مستهزءون أي لم ينطقوا بالإيمان صراحة وبما هو حجة عليهم ز
والصحيح هو الثاني ، فالآية وإن وردت بصيغة [آمَنَّا]إلا أنها أعم في لفظها وموضوعها.
وفي الآية حذف وتقديره:
الأول : إنا معكم في مسالك الضلالة.
الثاني : إنا معكم في الكفر والجحود بالنبوة.
الثالث : إنا معكم في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : إنا معكم ولا نفارقكم في كل الأحوال.
الخامس : إنا معكم بأن الكفر مستقر في نفوسنا.
السادس : إنا معكم نشهد مشاهدكم، ونحضر منتدياتكم.
السابع : إنا معكم نزيد في السواد والأتباع لكم.
الثامن : إنا معكم في السخرية والإستهزاء بالمؤمنين.
التاسع : إنا معكم نشد أزركم.
العاشر : إنا معكم عند لقائنا بالمؤمنين، ونكون لسانكم في جدالهم والإحتجاج عليهم.
الحادي عشر : لسنا مع المؤمنين وإن أظهرنا الإيمان بحضرتهم.
الثاني عشر : إنا معكم في السراء والضراء.
ومن وجوه تكرار لفظ (قالوا) في الآية أمور:
الأول : صدور القول من المخادعين على نحو العموم المجموعي.
الثاني : التشابه في أقوال المخادعين، فكل واحد منهم يخلو برؤساء الشرك يكون كلامه مشابهاً لكلام أصحابه، قال تعالى[وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا]( )، أي لو دخل المشركون يوم الخندق من جوانب ونواحي المدينة ودعي المخادعون والمنافقون إلى الكفر لأجابوا.
الثالث : قيام أحد المخادعين بالتلفظ بالقول نيابة عن الآخرين.
الرابع : إرادة تعدد صيغ القول فمرة يأتون به مجتمعين وأخرى متفرقين , لتكون الضابطة الكلية في المقام من جهات:
الأولى : إقامة الحجة على المخادعين والمنافقين.
الثانية : فضح المنافقين.
الثالثة : بيان التباين في أقوال المنافقين إنذار ووعيد لهم.
الرابعة : دعوة المنافقين إلى التوبة والإنابة، وهل هذه الدعوة من معاني ودلالات هذه الآية أم أن الآية خاصة بفضح وذم المنافقين، الجواب هو الأول.
رشحات الرحمة في آية البحث
من إعجاز القرآن أن كل آية منه رحمة ورأفة بالناس، ومعاني الرحمة في الآية على وجوه:
الأول : الآية رحمة بالمؤمنين من جهات:
الأولى : الآية مدد وعون للمؤمنين بإطلاعهم على ما يفعله المنافقون.
الثانية : حضور علم الغيب عند المؤمنين في معرفة أحوال الناس، قال تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( ).
الثالثة : تفقه المؤمنين في الدين، وإرتقاؤهم في سلم المعارف.
الرابعة : تنزيه المؤمنين لنفوسهم، والحرص على عدم دبيب أخلاق النفاق إليها.
الخامسة : زيادة قوة الإسلام، ووهن وضعف أعدائه بفضح مكرهم السيء في مجالسهم الخاصة.
السادسة : حضور أخبار منتديات الشرك والضلالة عند المسلمين، وإطلاعهم ذكوراً وأناثاً عليها وعدم مغادرتها للوجود الذهني الخاص والعام لهم لتلاوتهم هذه الآية بكرة وعشياً، ليكون الإعجاز في تلاوة آيات القرآن رحمة بالمسلمين والمسلمات وواقية من الغفلة والتفريط إذ تمنع الآية من الركون للمخادعين والإطمئنان لهم .
السابعة : تبعث الآية المؤمنين على دعوة المخادعين إلى نبذ الكفر والإمتناع عن الرياء والزلفى إلى رؤساء الشرك والضلالة .
الثامنة : الآية الكريمة ضياء ونبراس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهل هي من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]الجواب نعم من جهات :
الأولى : الكشف والبيان لسبل الغواية والضلالة .
الثانية : تحذير المسلمين من النفاق والمنافقين .
الثالثة : حث المسلمين على دعوة المنافقين إلى التوبة والإنابة ، وإتيان الصالحات ، وعدم الإكتفاء بقول [آمَنَّا]مع إخفاء الكفر والشك والريب.
التاسعة : تعيين المسلمين لمواطن النفاق ، والمواضع التي تشيع فيها أخلاق النفاق ، وأقطاب النفاق وأرباب الخلوة منهم، قال تعالى [وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أمور :
الأول : تكرار التبعيض , ووجود النفاق في نفر من الأعراب، وبعض أهل المدينة ، ويتضمن هذا التبعيض أموراً :
الأول : إفادة معنى القلة في عدد المنافقين .
الثاني : بعث السكينة في نفوس المسلمين بقلة الأذى الذي يأتي من طرف المنافقين .
الثالث : إرادة التبدل والتغيير في أحوال الناس وعدد المنافقين الذي هو من الكلي المشكك ويكون على مراتب متفاوتة كثرة وقلة ، ويحتمل التبدل والتغير في عدد وأثر المنافقين وجوهاً :
الأول : عدد المنافقين في إزدياد دائم .
الثاني : التناسب الطردي كلما دخل فوج في الإسلام إزداد عدد المنافقين بمقدار نسبة الزيادة الواردة .
الثالث : عدد المنافقين ثابت لا يتغير وإن دخل فريق من الناس الإسلام وهو على شعبتين :
الأولى : سلامة الذين يدخلون الإسلام حديثاً من النفاق ، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ]( ).
الثانية : توبة عدد من المنافقين من درن وآفة النفاق في ذات الوقت الذي يدخل فيه عدد من المنافقين الإسلام .
الرابع : النقص المتصل لعدد المنافقين في الإسلام .
الخامس : التباين في حال المنافقين ،فمرة يزداد عددهم وأخرى ينقص بحسب الحال والوقائع ، فاذا ظفر المسلمون بعدوهم وكثرت الغنائم نقص عددهم ، وإذا طرأ الخوف وأسباب الفزع عليهم إزداد عدد المنافقين .
والصحيح هو الرابع ، وتلك آية في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورشحات الرحمة في نبوته إذ يكون المسلمون في حال تنزه متجدد من النفاق والرياء والأخلاق المذمومة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بتقريب وهو أن المسلمين في سلامة متصلة من الآفات العقائدية ، وفيه أمور:
الأول : إنه عز وقوة متجددة للمسلمين.
الثاني : بعث الفزع في قلوب الإعداء.
الثالث : قطع أسباب الطمع في فرقة المسلمين أو تشتت بعضهم أو والنيل منهم.
ومن معاني الرحمة في آية البحث أمور :
الأول : عدم خشية الذين آمنوا من لقاء الكفار والمنافقين ، وعدم الخشية هذا من جهات :
الأولى : يدرك المؤمن عصمته من طرو الشك والريب في نفسه عند لقاء المخادعين ونحوهم.
الثانية :تفضل الله بثبات المؤمن في منازل الهدى والتقوى، قال تعالى[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( ).
الثالثة : ثقة رؤساء وعامة الناس بالمؤمن عند لقائه المخادعين ، فلا تدخل الريبة نفوسهم منه بسبب هذا اللقاء لأن آية البحث أخبرت عن مضمونه والذي يتقوم بأمرين :
الأول : ثبات المسلم في مقامات الإيمان عند اللقاء بدليل قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثاني : إظهار المخادعين الإيمان في هذا اللقاء خاصة .
الثالث : تجدد اللقاء نصر للإسلام ومناسبة لثواب المؤمن ،ولحوق الإثم بالمخادع، دعوة له للتوبة والإنابة وهو من أسرار الإبتلاء في الحياة الدنيا بأن يكون كشف القرآن لأفعال المنافقين سبيلا إلى التوبة والإنابة .
الثاني : لغة القطع بإخبار الآية عن صبغة الإيمان عند المسلمين.
الثالث : إمتناع المؤمنين عن طاعة الكفار أو الإنصات لهم، قال تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
خصال المنافقين
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ، ومن وجوه البيان فيه :
الأول : ذكر المنافقين في القرآن .
الثاني : إفراد آيات في ذمهم وكيفية إيذائهم للمسلمين .
الثالث : بيان سعي المنافقين الإضرار بالإسلام .
ومن أعجاز القرآن أن الله يذكر هذه الخصال المذمومة وهولا يخشى على المسلمين الفشل والخوف بل يمنع هذا البيان تثبيط الهمم ،ويجعل المسلمين في فطنة ويقظة دائمة لينالوا مرتبة الجهاد وهم في حال السلم في الحضر أو السفر وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن خصال المنافقين لم تذكر في آية واحدة أو آيات متجاورة بل وردت في آيات وسور متعددة لتحكي مدرسة الدفاع عن بيضة الإسلام في مواجهة صيغ الشك والتردد وأسباب الوهن التي تصدر في داخل مجتمع المسلمين ، ممن يدّعون الإيمان ظاهراً ز
ومن فضل الله عز وجل أن النفاق لم يكن ملازماً للبعثة النبوية، فلم تظهر معالمه إلا بعد معركة بدر وإنتصار المسلمين بمعجزة ومدد ملكوتي ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) ، وفيه تخفيف عن المسلمين ودفع للضرر المترشح عن مكرهم , إذ دبّ النفاق بين طائفة من الناس، والمسلمون في حال عز ومنعة وثقة بأنهم على الحق المبين.
ومن الإعجاز في العبادات ومنها الصلاة اليومية في المقام أمور:
الأول : الصلاة واقية وحرز من النفاق.
الثاني : في الصلاة كشف وفضح للمنافقين، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) ، ويكون هذا النهي بلحاظ النفاق من جهات :
الأولى : عصمة المسلمين من النفاق وأخلاقه .
الثانية : الصلاة مناسبة لمعرفة المسلمين للمنافقين بأشخاصهم , قال تعالى في وصفهم [وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى]( ).
الثالثة : تعيين أوقات الصلاة ، والحث على أدائها جماعة في وقت الفضيلة ، ولكن المنافقين لا يبادرون إليها حتى في حال الرياء لأنهم علموا بأن وقتها غير مضيق وليس محصوراً بوقت الفضيلة والجماعة فجاء القرآن بذمهم , قال تعالى [الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها جاءت بالحرف [عَنْ] الذي يفيد الترك وقلة العناية والإكتراث بها وبأوقاتها ، ولم تقل الآية (في صلاتهم )
لكان الذم أعم لأن المسلم عرضة للسهو في الصلاة ، لذا جاءت أحكام خاصة بالسهو في الصلاة .
عندما كان المسلمون مستضعفين في مكة لم يكن هناك منافقون ،لأن السلطان والشأن بيد كفار قريش ، فلا يتردد الكافر من إظهار كفره ، ولا يجد سبباً لإخفائه ، وبعد أن هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه إلى المدينة المنورة وقويت شوكة الإسلام ظهر النفاق ليكون من مصاديق رحمة الله عز وجل بالمسلمين وأن النفاق لم يظهر عند أهله إلا بعد بلوغ المسلمين مراتب من القوة امتنعوا معها عن الوهن والإنكسار بسبب الذين يخفون الكفر مع إعلانهم الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وسبب النفاق هو إجتماع الجحود والجبن والحسد فترى المنافق يميل إلى الخداع والمكر والسعي للإضرار الخفي بالمسلمين مجتمعين أو متفرقين ، وهو يظن أنهم لا يعلمون كنه حقيقته ، فجاء القرآن بفضح المنافقين وبيان خصالهم , وفيه دعوة لهم لترك النفاق بهجران هذه الصفات ، وهل يصح القول أن النفاق برزخ بين الإيمان والكفر.
الجواب لا , فان النفاق من ضروب الكفر ، وأحد مصاديقه وقد تكون أضرار المنافق أشد وأكثر كماً وكيفاً من أضرار الكافر، فالمنافق مع المسلمين وبين ظهرانيهم ولا يمتنع من إثارة الشك والريب بالفَينَة بعد الفَينَة، والحين بعد الآخر وجاءت آية البحث لتخبر عن زيف قوله آمنت ، أي إنه يضر نفسه حتى في إدّعائه الإيمان لسرعة إنكشاف زيفه، وإظهاره ما هو نقيضه من معاني الجحود ولو خفية .
أضرار خلوة المخادعين
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن القرآن كتاب نازل من السماء وهو هبة لأهل الأرض جميعاً لذا فان سماع آياته أمر متيسر للناس على إختلاف مشاربهم، والتدبر في آياته مندوب ومحبوب ، وتترشح عنه عند الناس جميعاً إفاضات متعددة , وإن تباينت موضوعاً وحكماً ، وقلة وكثرة .
لذا جعل الله عز وجل التدبر والتفكر في المضامين القدسية لآيات القرآن علة لنزوله وما فيه من البركات ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ) ولأن القرآن من أعظم النعم على أهل الأرض تفضل الله سبحانه وأمر المسلمين بالصلاة اليومية وجعل قراءته فيها واجباً ليكون حفظاً من وجوه :
الأول : تعاهد وسلامة القرآن من التحريف أو الضياع .
الثاني : حفظ المسلمين من أسباب الغفلة والجهالة .
الثالث : إستدامة الحياة الإنسانية بتلاوة الآيات بلحاظ أن العبادة علة خلق الإنسان قال سبحانه [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) ومن إعجاز القرآن أنه يلاحق المخادعين في خلوتهم ويصاحبهم طوعاً وقهراً إلى منتدياتهم ، ويكون حاضراً عند إجتماعهم برؤساء الشرك والضلالة إذ تتجلى المفاعلة في آية البحث من وجوه :
الأول : إقتباس المخادعين من المؤمنين مفاهيم الإيمان ،وهو الذي يدل عليه إقرارهم بالإيمان .
الثاني : أخذ المخادعين من رؤساء الكفر والضلالة عند الخلوة معهم.
الثالث : محاولة إضرار المخادعين وإثارتهم أسباب الشك والريب والإستهزاء عند إجتماعهم ولقائهم بالمؤمنين ، وهل ينفعل ويتأثر المؤمنون بما يقوله المنافقون والمخادعون.
الجواب لا وهو من مصاديق تسمية القرآن [مُبَارَكًا] كما في الآية أعلاه لأنه فضح المنافقين وحذّر المسلمين منهم ومن أفعالهم المذمومة ، وجعلها مكشوفة عند المسلمين والناس جميعاً ، لذا فان كل تلاوة للقرآن طرد للنفاق من المجتمعات والقلوب وإحتراز منه ، ولا يختص النفع في المقام بتلاوة الآيات التي تذم النفاق وأهله ، بل كل آية من القرآن هي ضياء مبارك ينير دروب الإيمان ويكشف القبح الذاتي للنفاق ، ويجعل الناس يبتعدون عن مسالكه الوعرة التي تؤدي إلى مفازة الظمأ والهلاك.
وإن قلت كيف يلاحق القرآن المخادعين والمنافقين في الوقت الذي يعلنون فيه أنهم مع أرباب الشرك والكفر، والجواب تتضمن الآية النفع العظيم من وجوه :
الأول : دعوة المنافقين للتوبة والإنابة ، ومن خصائص الإنسان الإنزجار عن الفعل القبيح إذا إفتضح أمره ولو على نحو الفرد الغالب ، وحتى إذا لم ينزجر عنه فانه يدرك إنكشاف أمره ، ومخالفة فعله للفطرة والحكمة والعقل ، وجاء القرآن ليبين أن الأولوية للحكم الشرعي والذي يتجلى بالإيمان وقصد القربة .
الثاني : معرفة المسلمين لحال المخادعين عند غيبتهم وفقدان وجودهم بين ظهرانيهم ، فاذا غاب المنافق علم المسلمون أنه في خلوة مع رؤساء الشرك والضلالة ، فيحترزون منه عند عودته ، وفيه زجر للمنافقين من الإكثار من تلك الخلوة والنفرة منها لأنها صارت بآية البحث تحت أبصار المسلمين ، فيحرص المنافق على حضور الصلوات الخمسة وعلى عدم الغياب عن مجالس المؤمنين التي هي تهذيب للنفوس فيقتبس معاني الإيمان قولاً وفعلاً.
الثالث : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الصلاة مصاحبة للبعثة النبوية وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم صلى في أشق الأحوال وتحمل وأهل بيته وأصحابه في مكة الأذى إذ كانت الصلاة يومئذ معلم الإيمان ، وعنوان التغيير في المجتمع والعقائد ، (وروى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال : كنت أمرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقاً وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم .
فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها،
حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة , فخرّ الشاب ساجداً فسجدا معه فرفع الغلام والمرأة فقلت : يا عباس أمرٌ عظيم فقال : أمرٌ عظيم. فقلت : ويحك ما هذا؟
فقال : هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه
وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب .
وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه .
ما على ظهر الأرض كلها على هذا .الدين غير هؤلاء.
قال عبد الله الكندي بعدما رسخ الإسلام في قلبه : ليتني كنت رابعاً)( ).
الرابع : تتجلى في المقام معجزة للصلاة اليومية وهي أنها برزخ دون خلوة المنافقين برؤساء الشرك والضلالة ولو على نحو الموجبة الجزئية ، إذ أن حضورها مانع من الذهاب إلى أرباب الكفر ، وباعث للنفرة منهم بدليل أن الآية وصفتهم بالشيطنة والمفسدة.
وهل يتأذى أرباب الكفر من حضور المنافقين الصلاة , الجواب نعم وتلك آية , ومن بدائع الحكمة الإلهية بأن يلحق رؤساء الشرك الأذى وتمتلأ نفوسهم بالحنق من الصلاة , إذ يطرأ التغير والتبدل على هيئة وماهية تلك الخلوة من وجوه :
الأول : النقص في أعداد الذين ينفردون برؤساء الشرك .
الثاني : قلة مدة الخلوة فلا تستمر طويلاً .
الثالث : الإيجاز في موضوعات الخلوة ، وظهور أمارات الإيمان في ثناياها،( وعن الإمام علي عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم)( ).
وهل هذا الحديث من مصاديق وتفسير هذه الآية، الجواب نعم، لأنها تبعث الرعب في قلوب المعاندين وأهل الضلالة، وأيهم يكون الرعب الداخل إلى قلبه أكثر :
الأول : المنافقون.
الثاني : عموم المعاندين.
الثالث : رؤساء الكفر والضلالة.
الجواب هو الثالث أعلاه، من جهات:
الأولى : تلبس رؤساء الشرك بالكفر على نحو السالبة الكلية.
الثانية : إصابتهم بالأذى والحزن عندما يعلن أتباعهم الإيمان وإن لم يتعد اللسان.
الثالثة : تواتر أخبار إنتصارات الإسلام، وتقدم جحافل المسلمين وضعف ووهن عددهم.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً،ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب،
وإذا وعد أخلف،
وإذا عاهد غدر،
وإذا خصم فجر) ( ).
ويبين الحديث أن النفاق على مراتب متفاوتة وأنه من الكلي المشكك ، وله حد أعلى جامع للخصال الأربعة أعلاه وحدود أدنى بلحاظ كل فرد منها، وقد يقال أن الحديث أعلاه لم يذكر ما ورد في آية البحث من خصال المنافقين، والصحيح أنه ذكرها وأشار إليها، من جهات:
الأولى : دعوى الإيمان أمان وميثاق .
الثانية : الخلوة بأهل الضلالة وأقطاب الشرك وإظهار موالاتهم خيانة.
الثالثة : إدعاء الإيمان كذباً وزوراً.
الرابعة : إعلان الإيمان نوع عهد وموضوع لبعث الطمأنينة والسكينة في نفوس المؤمنين، وإعلان خلافه من الكفر والجحود عند رؤساء الكفر غدر.
وفي الحديث المشهور عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أحلف، وإذا أوتمن خان)( ) وبين الحديثين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجهين:
الأول : كذب المنافق عند حديثه.
الثاني : خيانة المنافق للأمانة.
أما الإفتراق فهي ذكر الحديث الأول لخصلتين:
الأولى : الغدر بعد العهد والميثاق.
الثانية : الفجور عند الخصومة، وذكر الحديث الثاني خلف المنافق لوعده.
ولا تعارض بين الحديثين، ويفيد الجمع بينهما تعدد علامات النفاق القبيحة، وخصال المنافقين المكروهة، وورد الحديثان من باب البيان الأمثل، ولزجر الناس عن هذه الصفات، وهذا الزجر من مصاديق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق) ( ).
وفي تفسير قوله تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( )، قال ابن كثير: النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب، كما سيأتي تفصيله في موضعه، إن شاء الله تعالى)( ).
ولكن التقسيم الذي يظهره الحديثان النبويان أعلاه هو الأظهر والأنسب، وهو لا يتعارض مع تقسيمات أخرى للنفاق بحسب اللحاظ خاصة وأن التقسيم أعلاه يتعلق بداء النفاق وليس بالمنافقين ولعل التفصيل المذكور أعلاه لم يبين في موضع آخر من تفسيره .
وإن قلت إن المنافق مسلم، ومن وجوه إكرام المسلمين أن الله عز وجل لا يؤاخذهم على النوايا حتى يترجل الفعل في الخارج، فكيف يُخلد النفاق العقائدي صاحبه في النار .
الجواب: القدر المتيقن من عدم المؤاخذة هو بخصوص نية المؤمن فعل السوء والهمّ بفعل الفاحشة، أما النفاق فهو خارج بالتخصص إذ حكم الله عز وجل على المنافقين، قال تعالى[إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ]( ).
فقد ذكرت الآية أنهم كاذبون بدعوى الإيمان ليكون المدار على ما في القلوب والذي يظهر في صيغ الشك وسوء النية وبعث الريب وأسباب الوهن بين المسلمين ، (وعن عمرو بن العوف المزني قال : خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق عام الأحزاب ، فخرجت لنا من الخندق صخرة بيضاء مدوّرة ، فكسرت حديدنا وشقت علينا ، فشكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخذ المعول من سلمان ، فضرب الصخر ضربة صدعها ، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة ، حتى لكأن مصباحاً في جوف ليل مظلم ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكبر المسلمون ، ثم ضربها الثانية ، فصدعها وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها ، فكبر وكبر المسلمون ، ثم ضربها الثالثة ، فصدعها وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها ، وكبر وكبر المسلمون ، فسألناه فقال : أضاء لي في الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب ، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثانية قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، فابشروا بالنصر . فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صادق بأن وعدنا النصر بعد الحصر ، فطلعت الأحزاب فقال المسلمون [هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( )، وقال المنافقون : الا تعجبون! يحدثكم ويعدكم ويمنيكم الباطل ، يخبر أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وإنها تفتح لكم ، وإنكم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا ، وأنزل القرآن { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) ( ).
وتدل آية البحث على أن المنافق يبوح بأسرار وخطط وعزائم المسلمين إلى رؤساء الشرك , وجاء نعتهم بالشياطين بقوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]( ) للإخبار بأنهم لا يتورعون عن المكر بالمسلمين وتحريض الدول الكبرى عليهم وعقد المواثيق التي تضر بالإسلام وتحول دون الأمن فيه الذي هو مناسبة لأداء الفرائض والعبادات .
إن آية البحث وما فيها من كشف الخلوة بين المخادعين ورؤساء الشرك وفضح موضوعات هذه الخلوة وإرادة المكر والخديعة بالمسلمين في حال الحرب والسلم ظهير سماوي للمؤمنين في الدعوة إلى الله .
الثالث : الآية ذكرت وأشارت للمسلمين من جهات :
الأولى : وجود منافقين بين ظهرانيهم .
الثانية : النسبة بين قول آمنا وصدق الإيمان ليس التساوي كما هو الظاهر، بل هي العموم والخصوص المطلق ، وتقدم قوله تعالى [ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( ) لتأتي آية البحث وتبين بالدليل بأن طائفة من الذين يدّعون الإيمان ينفردون برؤساء الشرك ويجحدون بالإيمان.
لتكون هذه الآية من علم الغيب الذي يصبح موضوعاً بعد نزولها من العلم الوجداني لدى المسلمين على نحو الإجمال وليس التفصيل ، بمعنى أن المسلمين لم يكونوا يعلمون بحال المنافقين وإخفائهم الكفر وخلوتهم مع رؤساء الشرك ، لولا نزول هذه الآية التي هي من علم الغيب فصار هذا الموضوع هبة من عند الله للمسلمين من كنوز اللوح المحفوظ ، ولكن هذه الهبة ليست مطلقة إنما تكون الحكومة في التوسعة والتضييق لرحمة الله عز وجل ، فمن رحمته تعالى عدم فضح المنافقين بأسمائهم وأوان خلوتهم برؤوس الضلالة لتكون الآية مناسبة لهم للإتعاظ والتدبر في حب الله عز وجل لهم بسترهم ، وإكرامهم لمكان النطق بالشهادتين .
فقد جاء القرآن بذم أبي لهب في قوله تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ) لأنه كافر جاحد بالنبوة مع انه عمّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي الآية أعلاه إعجاز وإخبار بأن التوبة لا تدركه وأنه وزوجه يموتان على الكفر والجحود ، بينما لم يرد في القرآن اسم من أسماء المنافقين بما فيهم رأس النفاق عبد الله بن إبي سلول وعبد الله بن نبتل ، ومالك بن داعس , وفيه مسائل :
الأولى :بيان فضل الله عز وجل الذي يتغشى الناطقين بالشهادتين بسترهم وعدم فضحهم بأسمائهم ، فان قلت كان المنافقون يخشون أن تنزل في ذمهم آية تأتي لهم بالعار إلى يوم القيامة ، الجواب ليس من ملازمة بين هذه الخشية وبين نزول الآيات والله عز وجل هو [لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الثانية :مع قوة وثبات الإسلام تتوالى آيات الأحكام ومعاني الرحمة والفيوضات والبشارات المترشحة عنها ، وقد جاءت السور المكية بالإنذار والوعيد والتخويف مع أنه لم يكن منافقون قبل الهجرة فكان أهل مكة على قسمين :
الأول : كفار يعبدون الأصنام .
الثاني : مسلمون تلقوا بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم بالقبول والتصديق .
والكفار في حال نقص وحنق وإرباك ، أما المسلمون فهم في إزدياد داخل مكة وخارجها .
الثالثة : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن النفاق وأهله في نقص متصل، وكل آية تنزل من السماء هي مدرسة في تهذيب النفوس وإصلاح المنطق وسلامة المجتمعات من الأدران والخداع والضلالة.
ومن كان منافقاً يوماً على نحو السالبة الكلية بمعنى أن قلبه ممتلىء بالكفر والجحود فان توالي الآيات وسماعه لها وتعدد المعجزات علة لإزاحة النفاق عن قلبه على نحو الدفعة الواحدة أو التدريج ومنه هذه الآية إذ تبين قبح آثار النفاق والأفعال المذمومة التي تترتب عليه ومنها الخلوة برؤساء الضلالة بما يظهر خفايا الكفر الكامنة في النفس ، ولولا هذا الإظهار وأسبابه كهذه الخلوة يكون العلاج أسهل والنجاة من النفاق أقرب ، وهو من الغايات الحميدة لهذه الآية بمنع المنافقين والمخادعين ورؤساء الضلالة عن الإجتماع في المعصية وإحياء مفاهيم الكفر والضلالة.
معاني الشيطنة في الآية
من إعجاز الآية الكريمة أنها تتحدث عن إتصاف المخادعين بالتضاد في موضوع اللقاء موضوعاً وحكماً وقولاً , فمن جهة الموضوع يلتقون مرة مع المؤمنين وأخرى مع الشياطين ، ومن جهة الحكم فان قول آمنا فيه الثواب والفلاح ، والجحود به وإعلان الإنتماء لمعسكر الشرك كفر يجلب الخزي في النشأتين .
وأما القول فإنهم يعلنون الإيمان بحضرة المسلمين، ولكنهم يخبرون بأنهم ساخرون منهم عندما يخلون بأرباب الضلالة .
ترى لماذا لم يجعل الله للإسلام وصحة الإنتماء له شروطاً أخرى غير النطق بالشهادتين وأداء العبادات البدنية الظاهرية ، الجواب لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ومن مصاديق الرحمة في المقام أمور :
الأول : سهولة ويسر الدخول في الإسلام .
الثاني : كفاية النطق بالشهادتين (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله) ( ).
وتدل السنة النبوية على كفاية النطق بالشهادتين وهو مطلوب بذاته ومقدمة واجبة لأداء الفرائض والعبادات ، وتتضمن آية البحث الحرب على النفاق الذي يصاحب إيمان بعضهم , فجاءت هذه الآيات لتهذيب قول وعمل المسلمين وتنزيههم من النفاق وصيرورة أهله معزولين .
وتدل آية البحث على إجتناب المسلمين شياطين الضلالة ، فلا يلتقي بهم إلا المخادعون، وهذا المعنى ومفهوم الحصر مستقرأ من الخلوة والإنفراد في قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]( ).
ومن دلالات نعت أهل الإصرار على الخلوة المذمومة بالشياطين بعث النفرة في نفوس المسلمين والناس جميعاً للعداوة الدائمة التي جعلها الله عز وجل بين الناس وبين الشياطين ، وهل الخلوة برؤساء الضلالة من مصاديق إتباع خطوات الشيطان في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
الجواب نعم ليوسوس شيطان الجن إلى شيطان الإنس بالإصرار على الكفر والخلوة بالمخادعين , وبعث الشك والريب في نفوسهم من الإسلام ، وحتى وإن لم تكن هناك وسوسة فان أرباب الضلالة ولغلبة النفس الشهوية والغضبية عندهم يحرضون الناس ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويعرضون عن التدبر بمعجزات نبوته.
وليس لشياطين الجن إلا الوسوسة التي تطرد بالإستعاذة ولا وجود مادي له أو تأثير مباشر للشيطان على الناس ، وفي التنزيل حكاية عن الشيطان وبراءته من الكفار [وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي]( ) .
ولا ينسب شيطان الجن لطائفة من الناس على سبيل الإتحاد في السنخية والعمل لشدة قبح فعله ولبعده عن الناس , وهذا البعد من مصاديق نزول اللعنة عليه التي هي إبعاد عن رحمة الله أما شياطين الإنس فانهم يختلون بالمنافقين والمخادعين ويأخذون منهم المواثيق ببقائهم على الكفر والضلالة ، ويدعونهم لمحاربة الإسلام خفية ومن داخل مجتمعاته .
وهذه الآية من الشواهد على فقاهة المسلمين ، وتلقيهم آيات القرآن بالفهم والتدبر ، فلم تنصرف أذهان المسلمين إلى شياطين الجن أو إلى شياطين الجن والإنس معاً ، فالمتبادر من الآية إرادة أرباب الكفر وأعمدة الجحود ، والتبادر من علامات الحقيقة.
وتفضل الله عز وجل بالنسبة [شَيَاطِينِهِمْ] لطرد وهم وإحتمال قصد غيرهم ، ومن الإعجاز في هذه النسبة عجز أرباب الكفر عن إغواء غير المعاندين فلا تأتي جماعة أو طائفة لتنضم إلى المنافقين فهم شياطين المنافقين وحدهم ، ولأنهم في إنتقاص مستمر فإن هذه الخلوة في إنحسار وإلى إضمحلال ، ويأتي هذا الإنحسار أيضاً بدخول فريق من أرباب الكفر أنفسهم الإسلام بصدق وإيمان كما حدث يوم فتح مكة ودخول رؤساء الضلالة من قريش في الإسلام .
ويفاجئ المنافقون الذين يقولون [إِنَّا مَعَكُمْ] بأن أسيادهم دخلوا الإسلام وأحسنوا إسلامهم , وهل لهم في هذه الحالة فضح المنافقين الذين يعلنون بقائهم على الكفر عند الخلوة بهم، الجواب نعم، ليكون من مصاديق آية البحث ودلائل النبوة وآية في نصر المسلمين، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ولم تقل الآية (ويخلون إلى شياطينهم ) بل جاءت بذات صيغة الشرط التي إبتدأت بها , وفيه إشارة إلى أن خلوتهم بالقادة والكبراء من أهل الضلالة ليس مبيتاً وراتباً بل يحصل بين الفينة والأخرى ومن غير صيرورة إنكار الإيمان هو الغاية منه ، وتلك آية في التخفيف عن المسلمين ودعوتهم للصبر على المنافقين والسعي لجذبهم إلى الإيمان والتنزه عن النفاق وإجتناب الخلوة مع رؤساء الضلالة .
ومن خصائص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الكبراء في مجتمعات الشرك والذين ينظر إليهم بعين الهيبة وينقاد لهم الناس بالولاء والطاعة صاروا شياطين تنفر منهم النفوس ما داموا مصرين على الكفر والضلالة ، ولم يبق ببعثته موضوعية للرئاسة القبلية إلا بصبغة الإيمان لأنه ملاك الحكمة وواجب العقل وميزان الحاجة.
وتجلى الإعجاز بصدق تسمية الشيطان على إرباب الكفر بتجهيزهم الجيوش العظيمة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وتحريض القبائل وإنفاق الأموال في الحرب والكيد للإسلام ، ليكون من معاني قوله تعالى [شَيَاطِينِهِمْ] ما يتعلق بالمستقبل ، وهو على وجوه :
الأول : إرادة رؤساء الكفر الخلوة بالمنافقين ، وسماع إنكارهم الإيمان.
الثاني : قيام رؤساء الكفر بالمكر بالإسلام , وبث روح الفرقة والخصومة بين المسلمين .
الثالث :وقد يأتي ذكر المراد بلفظ [شَيَاطِينِهِمْ] بألفاظ أخرى كما في قوله تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا] ( ). فقد ذكرت هذه الآية ثلاثة أصناف بصيغة الذم , والوعيد العاجل, وهم : الأول : المنافقون الذين يخفون الكفر مع إظهارهم الإيمان . الثاني : الذين يحبون إشاعة الفاحشة والإضرار بالمسلمين لأنهم يجتهدون في إقامة حكم الله في الأرض . (عن مالك بن دينار قال : سألت عكرمة عن قول الله { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } قال : أصحاب الفواحش( ). وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله { والذين في قلوبهم مرض } قال : كانوا مؤمنين ، وكان في أنفسهم أن يزنوا . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله { لئن لم ينته المنافقون } قال : كان النفاق على ثلاثة وجوه : نفاق مثل نفاق عبد الله بن أبي بن سلول . ونفاق مثل نفاق عبدالله بن نبتل ، ومالك بن داعس ، فكان هؤلاء وجوهاً من وجوه الأنصار ، فكانوا يستحبون أن يأتوا الزنا يصونون بذلك أنفسهم { والذين في قلوبهم مرض } قال : الزنا إن وجدوه عملوه ، وإن لم يجدوه لم يبتغوه . ونفاق يكابرون النساء مكابرة ، وهم هؤلاء الذين كانوا يكابرون النساء { لَنُغْرِيَنَّكَ بهم }( ) يقول : لَنُعلِّمَنَّك بهم ، ثم قال { ملعونين } ثم فصله في الآية { أينما ثقفوا } يعملون هذا العمل مكابرة النساء { أخذوا وقتلوا تقتيلاً } قال : السدي: هذا حكم في القرآن ليس يعمل به….قال أصحاب الفواحش ، وهو المروي عن عطاء وعن طاووس : نزلت الآية في أمور النساء) ( ). ولكن المعنى أعم ولا ينحصر بخصوص الزنا والفواحش وإن جاءت الآية أعلاه بعد آية الحجاب والجلابيب . لقد ورد [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] تسع مرات في القرآن وكلها تبين حال المنافقين والمخادعين والمعاندين والذين لا يرجون للإسلام الظهور ، ولا للمسلمين النصر والغلبة , ومن دلالات المعنى الأعم نزول اللعنة المطلقة بهم والوعيد لهم بالقتل لأنهم يسعون بالفساد والإجهاز على الإسلام ويرجون في قرارة أنفسهم إنكسار المسلمين . ومنها مجئ آيات البحث ووصفها للمنافقين بقوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] . الثالث : الذين يبثون الإشاعات الباطلة وأن العدو قادم بجيوشه وإذا خرجت سرايا المسلمين أوقعوا في الناس بأنهم هزموا وقتلوا ، وفي الآية الستين أعلاه من سورة الأحزاب مسائل : الأولى : زجر المنافقين عن التمادي في النفاق . الثانية : تحذير المخادعين من الخلوة مع رؤساء الكفر والضلالة . الثالثة : تخويف شياطين الإنس من الحشد والتحريض ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وإشاعة الفاحشة وحب الإقامة عليها. الرابعة : تأكيد قانون وهو أن الإسلام دين العقيدة والأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة . وهو من مصاديق قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ). البيان في [إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] تفيد إنما معنى الحصر والإخبار عن خروج ونفي موضوعات قد تتبادر للوجود الذهني عند السامع بذكر غيرها على نحو التعيين ، ترى لماذا لم تقدم الآية أداة الحصر , ولم تقل [إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] ( ) الجواب من إعجاز الآية تأخر أداة الحصر لإفادة صدور قول انا معكم في الباطن والخفاء. لأنهم مع المسلمين في الظاهر ، وهم يحضرون الصلاة ويؤدون الفرائض الأخرى وتقديره : إنا معكم سراً وباطناً وإن كنا مع المسلمين ظاهراً . وفي الكلام حذف (والتقدير : قالوا انا معكم فيقول شياطينهم لماذا أنتم تحضرون مجالس ومناسك المسلمين فيقولون إنما نحن مستهزءون )وهذا الحوار من معاني تسمية رؤساء الكفر بالشياطين فهم لا يكتفون بالسكوت والإنصات لقول المخادعين بل يجتهدون في أخذ المواثيق منهم في البقاء على الكفر ، ويتأكدون من سوء سريرتهم. وهل يطلبون منهم مصاديق وشواهد على صدق المعية هذه الجواب نعم ، لذا جاءت الآية أعلاه من سورة الأحزاب بالإخبار عن بثهم الإشاعات وأسباب الفزع والخوف بين المسلمين وفي عموم المدينة المنورة بقوله تعالى [وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ]( )لإرادتهم إطلاق الإشاعات وتخويف اليهود الموجودين في المدينة وبعث الفزع في نفوسهم من هجوم المشركين وتعطيل الأعمال والمعاشات في المدينة ، وجعل أهل المدينة رجالاً ونساءً يخافون على أنفسهم وأبنائهم ،فجاءت آية البحث رحمة بالناس وزجراً للمخادعين من نشر الكذب والأباطيل والآية من مصاديق قاعدة (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام). وورد لفظ (نحن مستهزءون) جملة تامة من مبتدأ وخبر، ولكن في الآية حذف يتجلى من نظم الآية والمعاني المترشحة عن كلماتها مجتمعة، وفيه أمارة على تخلف قواعد اللغة العربية عن الإحاطة بمعاني ودلالات اللفظ القرآني إذ أن معنى الجملة المفيدة أعم من قواعد الإعراب وإن تعددت في إحتمالاتها، فيفيد نعت(مستهزئون) بأن هذا هو حالهم، والذي يكون في مبحث المشتق في علم الأصول المستحدث تلبس الذات بالمبدأ في الحال ، ولكن الآية تفيد أن الإستهزاء المقصود هو للإخبار وليس في الحال ويدل عليه مجيء لفظ (إنما) في نظم الآية والذي يفيد معنى لكن، وحرف الإضراب بل. وفي(إنما) بفتح وكسر الهمزة وجوه: الأول : إفادة الحصر نطقاً. الثاني : تفيد الحصر نطقاً ومفهوماً. الثالث : لا تتضمن معنى الحصر لا نطقاً ولا فهماً، إنما تفيد الإثبات، وإن(ما) في(إنما) ليس للنفي، إنما هي للتأكيد، وقيل لو كانت للنفي لكان لها الصدر. وتقدير الآية على وجوه: الأول : إنما نحن مستهزئون بالمؤمنين، وتدل عليه الآية التالية (والله يستهزئ بهم) في رد من عند الله في ذات الموضوع. الثاني : مستهزئون بالمؤمنين في دعوى تصديقنا للنبوة. الثالث : مستهزئون بدعوى التصديق بالتنزيل . الرابع : مستهزئون فيما نثيره من ضروب الشك والمغالطة . الخامس : مستهزئون بالمؤمنين إذ يظنون أنّا معهم ، ونحن في الحقيقة معكم . السادس : مستهزئون بإخفاء وإضمار غير الذي نعلنه. السابع : مستهزئون في أدائنا للفرائض والعبادات كما في صلاة الجماعة. الثامن : مستهزئون في تلاوتنا لآيات القرآن والإنصات لها. التاسع : مستهزئون بعلوم الغيب التي نزلت في القرآن ووردت في السنة النبوية. العاشر : مستهزئون بالأخبار التي تفيد هلاككم وروس الكفر الآخرين. الحادي عشر : مستهزئون بأسباب اللعنة التي تنزل بكم، وهذه اللعنة من أسرار تسمية رؤساء الضلالة بالشياطين. الثاني عشر : مستهزئون لأن لقاء المؤمنين مصادفة من غير مواعدة، بينما نأتيكم عن قصد , وفي خلو وإنفراد عن الناس. ويدل لفظ(نحن مستهزئون) على إستخفاف المخادعين بالمؤمنين وإستضعافهم، وظنهم بأنهم أهل للسخرية لذا جاءت الآية التالية نصرة ومدداً من عند الله عز وجل للمؤمنين (الله يستهزئ بهم). لقد أراد المعاندون بعث الطمأنينة في نفوس رؤساء الشرك ببقائهم في ملتهم وأخبروا بأنهم غير صادقين ولا مخلصين في دعوى الإيمان، إنما إتخذوا هذه الدعوى حرباً على الإسلام والمسلمين بلحاظ أن الإستهزاء والسخرية عداوة وتعد، والآية إنحلالية من وجوه: الأول : إستهزاء جماعة المعاندين من عموم المؤمنين. الثاني : سخرية جماعتهم من الفرد الواحد من المؤمنين. الثالث : إستهزاء الفرد من المخادعين بجماعة المؤمنين. الرابع : إستخفاف الشخص الواحد من المعاندين بالفرد الواحد من المؤمنين. ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهي مجتمعة ومتفرقة من مصاديق الآية الكريمة. البيان في قوله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]( ) هذه أول آية في نظم القرآن تبدأ باسم الجلالة [الله]بلحاظ نظم الآيات , ولابد لموضوعها من دلالات إذ انها ذكرت إستهزاء الله عز وجل بالمنافقين والمخادعين , ومنها : الأولى : شدة الأذى المترشح عن النفاق والمكر بالمسلمين . الثانية : حاجة المسلمين إلى نصرة الله عز وجل في باب التصدي للنفاق واهل الخداع . الثالثة : بيان قرب المدد والنصرة من عند الله . الرابعة : تدل الآية بالدلالة التضمنية على علم الله عز وجل بما يفعل المخادعون . الخامس : دعوة المسلمين للتدبر في البلاء النازل من عند الله على المخادعين ، قال تعالى [سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] ( ). السادسة : تبين الآية كفاية الله للمؤمنين ، وفيه دعوة لهم للصبر على المنافقين وعدم البطش بهم , وتجلت أبهى مصاديق هذا الصبر في السنن النبوية وعدم مؤاخذة المنافقين باليد والعقوبة على إسرارهم الكفر وسوء أفعالهم. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمنع المؤمنين من الإضرار بهم ، ويدعو إلى تلقي الأذى منهم بالصبر والدعوة إلى التوبة والرشاد وهو من معاني آية البحث لأنها تتضمن الإستهزاء والسخرية من عند الله بالمخادعين. ولو شاء الله سبحانه لعجل لهم العذاب ، ونزّه مجتمعات المسلمين من آفة النفاق وأهله . السابعة : الآية من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ) وقد تفضل الله عز وجل برد إعتداء المخادعين . ترى لماذا لم تقل الآية (إستهزئوا بهم). الجواب من الإعجاز في نظم هذه الآيات أن الرد على تعدي المخادعين فيها كلها من عند الله , وهو على وجوه : الأول : إخبار الله عز وجل عن زيف إدّعاء المنافقين الإيمان بقوله تعالى [وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( ). الثاني : الإخبار عن ضلالة المنافقين بالمخادعة ، وعجزهم عن المكر بالمسلمين وشهادة الواقع بأنهم يلبسون على أنفسهم ويغشّونها ويمنونها بأذى أو خسارة تلحق المسلمين مع رؤيتهم لزحف سرايا الإسلام وتحقيقها النصر والغلبة، وجلب الغنائم إلى المدينة وإنتفاع ذات المنافقين منها ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )أن الناس ينتفعون من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع هذا تجد بعضهم من المنافقين يتمنى الخسارة للمسلمين ويبث الإشاعات الخبيثة بخصوص مستقبل الإسلام ،وتهويل الأذى الذي يلحقه ، ومن الرحمة في المقام أن تتوجه هذه الآيات لذات المنافقين بشآبيب الرحمة وبيان خصالهم القبيحة ، ليكون من إعجاز البيان القرآني أمور : الأول : التنزه العام عن النفاق . الثاني : تفقه المسلمين في الدين، بما يفيد إحترازهم من المنافقين والمخادعين مجتمعين ومتفرقين. الثالث : كأن البيان القرآني شرط لدخول الإنسان الإسلام بايمان صادق . الرابع : محاربة النفاق . الخامس : جعل المنافق يصارع ويحاصر النفاق الذي في قرارة نفسه ويطرده ، وهو من مصاديق قوله تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ). الثالث : مجي العقاب من عند الله على مرض القلوب الذي أصاب المنافقين كما في قوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] . فان قلت لما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالعالمين فلماذا لم تأت الآية بعلاج هذا المرض وسلامة القلوب منه بدل إخبارها عن زيادة مرضها وعللها . والجواب من وجوه : الأول : جاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنجاة الناس من براثن الكفر والضلالة ، ولكن هؤلاء المنافقين أصروا على إضمار الكفر في نفوسهم . الثاني : زيادة المرض من العقوبة العاجلة التي هي من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس من جهات : الأولى : كفاية المسلمين شر وأذى المنافق . الثانية : كشف المنافق لذاته ، لأن زيادة المرض من عند الله عز وجل يجعل صاحبه يتحمل ثقلاً يشعر معه بالأذى والحسرة والتسليم بأن النفاق لا يستحق هذا الأذى . الثالثة : فضح المنافق بين الناس بمرضه بما يجعل الناس يحذرون منه ، ويجتنبون النهج الذي ساقه إلى هذه العاقبة ، لتكون زيادة المرض هنا من رحمة الله بالمسلمين والمنافقين والناس جميعاً . الثالث : النسبة بين موضع مرض المنافقين وموضع الزيادة على وجوه: الأول : التساوي وأن المرض في ذات القلوب . الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق , بأن يكون موضوع الزيادة أعم من القلوب . الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فتكون هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق وهي على شعبتين : الأولى : تصيب الزيادة قلوب شطر من المنافقين وتصيب نفوس وجوانح بعضهم الآخر . الثانية : الزيادة مركبة، فمنها ما يصيب قلب المنافق , ومنها ما يصيب جوانحه وأعضاءه . الرابع : نسبة التباين والإختلاف، فأصل مرض النفاق في القلب, ويكون موضع زيادة المرض في أعضاء البدن الأخرى. ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ولغة الإطلاق والتنكير في زيادة المرض وعدم تعيين مرضها ، فتخرج على اللسان بصيغة الجدال والمغالطة والشك بالمعجزة، وبالإعتذار عن القتال والدفاع ، وفي معركة الخندق ورد ذكر المنافقين بقوله تعالى [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ). لتبين الآية كثرة المنافقين وانهم على طوائف في فعلهم القبيح بحيث يتوجه الأذى ومحاولة الإرباك ونشر الفزع بين المؤمنين وعوائلهم من أكثر من جهة وبعدة صيغ مع إحاطة عشرة آلاف مشرك بالمدينة وهو من مصاديق جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في مرضاة الله , ومن الشواهد على ( قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ). ومن الإعجاز في الآية أعلاه بيان المرض الذي في نفوس المنافقين فيأتي العدو فلا يقولون يا أهل المدينة أو يا أهل طيبة , ولا يتناجون بالإسماء المباركة المصاحبة للبعثة النبوية، والتي تبعث الحماس في نفوس المسلمين , بل يصرون على تسمية يثرب التي كانت إسماً للمدينة المنورة قبل الهجرة , ليزيد الله مرضهم في المقام من وجوه : الأول : توثيق قول المنافقين بما يجلب العار لهم . الثاني : بيان خزي المنافقين بسلامة أهل المدينة من الفزع والخوف وعجز المشركين عن إقتحامها . الثالث : تكذيب المنافقين وفضح خشيتهم من سرقة بيوتهم . الرابع : مجئ آيات قرآنية أخرى تذكر المدينة باسمها وبما يتضمن ذم المنافقين كما في قوله تعالى [وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ]( ). ولم يرد لفظ [يَثْرِبَ]إلا في الآية أعلاه ، بينما ورد ذكرها باسم [الْمَدِينَةِ]أربع مرات في القرآن ، منها ما ورد حكاية عن المنافقين أنفسهم ، كما في قوله تعالى [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( ). فلم تعد تعرف يثرب إلا باسم المدينة، وإنحصر البيان بذات الاسم فاذعنوا صاغرين مع إصرارهم على التخويف والوعيد وهو من المرض الذي في نفوسهم وزيادته من عند الله , إذ أختتمت الآية أعلاه بالإخبار عن إختصاص العزة بالله عز وجل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين. فمن إعجاز القرآن أن ذكر أي قول أو فعل للمنافقين يدل على مرض قلوبهم يأتي بعده زيادة المرض بما هو أعم من القلوب ويشمل حالتهم الإجتماعية وخزيهم وإنكسارهم لتكون الحسرة المترشحة عنها من الزيادة في المرض في القلب وعالم القول والفعل بما يجعلهم قاصرين عنه ، ليروا تعقب الخزي للنفاق فيهجروه . ولو دارت الرحمة في موضوع متحد بين النفع العام للمسلمين وبين إنتفاع المنافقين ، فالأول هو الأولى وهو من فضل الله عز وجل على الناس جميعاً وينتفع منه المنافقون أيضاً من جهات : الأولى : مجئ النفع للمسلمين منعة وقوة للإسلام . الثانية : بعث اليأس والقنوط في قلوب المنافقين والمخادعين بما يخفف من أذاهم ويدفع ضررهم عن المؤمنين، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ). الثالثة : كل فضل من عند الله عز وجل على المسلمين زيادة في مرض المنافقين ، ودعوة لهم للتوبة والإنابة . الرابعة : ترشح النعم المتعددة عن كل فرد من أفراد فضل الله عز وجل على المسلمين، وفيه جذب للناس للإيمان ، وزجر عن أخلاق النفاق المذمومة، قال تعالى [وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ]( ).
فترى بين ظهراني المسلمين منافقاً يتثاقل عن القتال ويحرض غيره على القعود ، وعدم الإستجابة للنفير في سرايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا اصاب المسلمين أذى وبلاء من العدو وسقوط بعض الشهداء بين صفوف المؤمنين :[ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ]أي بإختيار القعود ، ولو كنت حاضراً لأصابني ما أصاب بعض المؤمنين من القتل أو الجرح.
الوجه الخامس : جاء قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] ( )وثيقة سماوية تبين الحوار والجدال الذي يكون بين الناس والمنافقين بلحاظ أن النفوس تنفر من الفساد وفعل المنكر وإتيان المكروهات ، وهو من فيوضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله من جهات:
الأولى : المناجاة بين الناس بالتنزه عن الفساد .
الثانية : بيان الملازمة بين الكفر والفساد .
الثالثة: صيرورة الصلاح مقدمة للإيمان .
الرابعة : إدراك الناس بأن الفساد قبيح ذاتاً وأن عذابه شديد .
الخامسة : وجود أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. والآية أعلاه هي أول آية في نظم القرآن تبدأ بأداة الشرط [َإِذَا]ولغة الحوار[َإِذَا قِيلَ].
وتكون علة فساد المنافقين بلحاظ الآية السابقة على وجوه :
الأول : الفساد في الأرض فرع مرض القلوب , ويكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى :الذي في قلبه مرض يفسد في الأرض .
الصغرى : المنافقون في قلوبهم مرض .
النتيجة : المنافقون يفسدون في الأرض .
الثاني : فساد المنافقين من زيادة مرض قلوبهم , وطيلة إقامتهم على النفاق .
الثالث : مرض القلوب أمر باطني يصيب الإنسان في قلبه، ويجعل [صَدْرَهُ ضَيِّقًا] ( ) والفساد من الزيادة في المرض التي يبتلي بها الله المنافقين ، لذا جاء قوله تعالى [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا]على نحو الإطلاق في موضوع المرض وأنه لا ينحصر بالقلب ، وفيه شاهد على عظيم قدرة وسلطان الله المطلق على نفس الإنسان وجوارحه , ليكون من معاني قوله تعالى [وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] ( )الأثر والتأثير في ذات الإنسان وليس العلم المجرد .
لقد أخبرت الآية في منطوقها عن أمور :
الأول : مرض قلوب المنافقين .
الثاني : رمي المنافقين بزيادة المرض .
الثالث : الوعيد بالعذاب الأليم للمنافقين .
الرابع : بيان علة العذاب وهي تكذيب المنافقين بالدلالات الواضحات على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل للآية مفهوم، الجواب نعم من وجوه :
الأول : نقاوة قلوب المؤمنين وسلامتها من الأدران ، قال تعالى [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ]( )(عن جابر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك . قلنا : يا رسول الله تخاف علينا وقد آمنا بك؟ فقال : إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يقول به هكذا . ولفظ الطبراني : إن قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الله عز وجل ، فإذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه ) ( ).
الثاني : الثناء على المؤمنين لسلامة قلوبهم من المرض .
الثالث :زيادة إيمان المسلمين وهدايتهم إلى الصراط المستقيم ، ليكون من أسرار الحياة الدنيا وضروب الإبتلاء فيها نفاذ وبلوغ المشيئة الإلهية إلى القلوب بزيادة مرض المنافقين ، وزيادة إيمان المؤمنين ، لتكون النسبة بينهما على وجوه محتملة :
الأول : التساوي في زيادة مرض القلوب وزيادة إيمان المؤمنين .
الثاني : زيادة إيمان المسلمين أكثر مثلما تكون الزيادة في مرض قلوب المنافقين .
الثالث : زيادة مرض المنافقين أكثر من الزيادة في إيمان المؤمنين .
والصحيح هو الثاني فمن رحمة الله عز وجل ببركات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله زيادة الإيمان على نحو دفعي وتدريجي وتكون هذه الزيادة في متناول الناس جميعاً، وتبعث رائحة طيبة تذكر الناس بوجوب الإيمان وترغبهم به ، وتبين عدم وجود برزخ أو ثمة مسافة بينهم وبينه ،إذ يكفي فيه النطق بالشهادتين والإستغفار لتكون زيادة الإيمان في الكم والعدد والعزة والمنعة ، فينتقل المنافق إلى صفوف المؤمنين وتتوالى عليه الزيادات في سبل الرشاد ، وهل ينفع المنافق قوله في الصلاة اليومية وعلى نحو الوجوب العيني [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قانون ( البعثة النبوية رحمة)بلحاظ عموم الرحمة وشمولها للناس جميعاً ، وهو من أسرار إمتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل المنافقين رجاء توبتهم , ولتوجههم بالدعاء إلى الله عز وجل في الصلاة وسؤال الهداية منه سبحانه .
ولتكون هذه الآيات التي تتضمن ذم المنافقين رحمة بهم فحين يتلوها المنافق يتدبر في معانيها ودلالاتها ، وتخالط جوانحه وتخترق شغاف قلبه لتكون علاجاً لداء النفاق الكامن فيه ، ووسيلة مباركة لطرده والمعافاة منه، ليكون من إعجاز القرآن أن الكافر والمنافق يتلو الآية التي يعلم إنها تتضمن ذمه فيستحي من الله عز وجل ويسعى في إرتداء جلباب التقوى البهيج لينجو من التوبيخ والتقبيح والوعيد الذي تتضمنه هذه الآيات .
لقد جاء النهي في الآية بصيغة الفعل المضارع [لاَ تُفْسِدُوا]ولم يأت الجواب بذات الصيغة ، فلم يقولوا (إنما نحن نصلح في الأرض ) بل ورد بصيغة الجملة الإسمية لإفادة الإستدامة وأنهم مصلحون أمس واليوم وغداً ، وفيه شاهد على إصرارهم على المخادعة ، وفعل المنكر ومحاولة التضليل على الناس من جهات :
الأولى : تسمية الفساد صلاحاً .
الثانية : تزيين الباطل وقلب الحقائق
الثالثة :الكذب والإفتراء إذ يدّعي المنافقون الصلاح ، وفيه حجة عليهم من وجوه :
الأول : التباين والتضاد بين الصلاح والفساد.
الثاني : توجه النهي لهم عن الفساد من عموم الناس.
الثالث : تسمية الفساد بأنه صلاح من الفساد أيضاً.
الرابع : بشارة الثواب العظيم للمؤمنين في الآخرة بلحاظ قانون إنعدام البرزخ بين طرفي الجزاء المتضادين، ويكون الأثر المترتب على جزاء الضد على وجوه محتملة :
الأول : لحوق الضرر بالمنافق بسبب ثواب المؤمن .
الثاني : مجئ الأذى والضرر للمؤمن بسبب عقاب الكافر والمنافق .
الثالث : تبادل الأثر بينهما من غير أن يلزم الدور , للتباين الموضوعي .
الرابع : عدم ترتب أثر جزاء أحدهما على الآخر .
والصحيح هو الأخير قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ] ( )، ولقد أثنى الله عز وجل على المسلمين وأخبر بقيامهم بالأمر والنهي وفق أحكام التنزيل ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ) لبيان حقيقة وهي أن الأثر المترتب على الأمر والنهي في المقام على قسمين :
الأول : الثواب العظيم للمؤمنين لأمرهم بالإصلاح ونهيهم الناس عن الفساد.
الثاني : الإثم والعقاب الأليم للكفار والمنافقين لصدورهم عن الأمر والنهي ، ولإصرارهم على الفساد .
ومن الإعجاز ان الله عز وجل يمد المسلمين بأسباب النصر والظفر والنصرة بفضح المنافقين والأخبار بأنهم [هُمْ الْمُفْسِدُونَ] وتكرر عدم شعور المنافقين في هذه الآيات ،إذ ورد بلفظ [وَمَا يَشْعُرُونَ] ( )، ثم جاء بعده بثلاث آيات [وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( )لإرادة المثال الأمثل في قانون يحكم أفعال المنافقين وهو أنهم لا يدركون إضرارهم بأنفسهم وظلمهم لها على نحو مركب بما يجلب عليهم العذاب الأليم .
وتدل الآية على أمور :
الأول : بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنقطع الخلط بين مفاهيم الصلاح والفساد، والحق والباطل , وهو من مصاديق قوله تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]( ).
الثاني : توجه النهي العلني إلى المخادعين بالإنزجار عن أسباب النفاق والضلالة .
الثالث : مناجاة الناس فيما بينهم بالصلاح والندب إليه ونبذ الفساد ، فاذا جاء منطوق الآية بنهي المخادعين عن الفساد ، فان مفهومها يدل على أمور:
الأول : ثناء الناس على الذين يعملون الصالحات .
الثاني : شيوع فعل الخيرات بين الناس .
الثالث : التجلي الواقعي لمصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكثرتها.
الرابع : نفرة النفوس من الفساد .
الخامس : النهي العام عن الفساد مقدمة للأحكام الشرعية الجزائية ، قال تعالى [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ]( ).
الرابع : من خصال المنافقين إخفاء الكفر والجهر بنقيضه وهو الإيمان ، فجاءت هذه الآيات لتبين أن القبح الذاتي الذي يتصفون به لا ينحصر بهذا الإخفاء بل يشمل إرتكاب المعاصي وفعل السيئات .
وفعلهم هذا يحتمل وجوهاً :
الأول : صبغة العلانية لفعل المنافقين المعاصي وإظهارهم الفساد .
الثاني : الفساد في الأرض خفية وعدم معرفة الناس به .
الثالث : لا تدل الآية على فعل المنافقين الفساد ، بل جاءت الآية للنهي الإبتدائي عن الفساد ، كأن الآية تقول لهم :
في قلوبكم مرض فاحذروا من صيرورته سبباً لفعل الفساد .
الرابع : إرادة خلط المنافقين لفعل الفساد والصلاح .
والصحيح هو الأول والثاني إذ تدل الآية على تلبس المخادعين بفعل الفساد ، لذا جاء قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ]شاهداً على إصرارهم على الفساد ، ومن الإعجاز في نظم الآيات أن جاء الرد الإلهي بذات الوزن والصيغة ، فحينما إدعوا أنهم [مُصْلِحُونَ] قال الله عز وجل [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ] ليكون من مفاهيم الآية تنزيه المسلمين عن الفساد .
الخامس : بيان حاجة أهل الأرض إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فان قلت إن النفاق لم يوجد إلا في المدينة المنورة بعد إنتصار المسلمين في معركة بدر وظهور دولة الإسلام فيكون النفاق مما ترشح عن نبوته وظهورها.
والجواب : ظهور النفاق نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إذ إضطرت طائفة من الكفار أن تعلن إيمانها مع بقائها على الكفر والضلالة، وهذا البقاء شاهد على إستقرار الكفر في نفوس الكافرين ، فبعد أن كان الناس في الجزيرة عاكفين على الأوثان ومقيمين على الجهالة أصبحوا ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أقسام :
الأول : الذين آمنوا بالله ورسوله قولاً وفعلاً وسراً وعلانية.
الثاني : المنافقون.
الثالث : الذين أصروا على الإقامة على الكفر .
وجاء قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] لإرادة القسم الأول والثاني أعلاه لإزاحتهم عن منازل الكفر ، وتنزيههم عن أخلاق النفاق ودعوتهم إلى الإيمان واللحاق بالقسم الأول أعلاه ، ويدل على هذا التقسيم قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ] ( ).
وعن رسول الله قال : النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا وَالْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ مَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)( ).
وإذا كان النفاق خنجر غدر للمؤمنين فهل هو مرآة وشبيه لحال الكفر والجهالة التي كان عليها كفار قريش الجواب لا ، إذ أن النفاق ضرر للكفار وإعلان عن بدايات هدم صرح الكفر والشرك.
ولا يعني قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ] رضا وإنتفاع رؤساء الضلالة فهو بلحاظ المقارنة مع ما قبل البعثة النبوية خسارة كبيرة لهم من جهات :
الأولى : دخول فريق من الكفار الإسلام ولو على الظاهر .
الثانية : إجتماع المنافقين مع رؤساء الضلالة على نحو الخلوة والإنفراد.
الثالثة : قول المنافقين لرؤساء الكفر [إِنَّا مَعَكُمْ] دعوى تصدر ممن في قلوبهم مرض ولا إقامة لهم على عهد أو ميثاق .
الرابعة : ليس من أثر معتبر على قول المنافقين [إِنَّا مَعَكُمْ] فالكفر في إنحسار، ويتوالى على جيوشهم الإندحار، كما في معركة بدر وأحد والخندق.
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التداخل والترابط بين معجزاته مع التباين الموضوعي بينها .
الوجه السادس : جاءت مفردات مادة [آمَنَ]إحدى عشرة مرة في الآيات الأربع عشرة الأولى من القرآن، ولم تأت مادة [كَفَرَ] فيها إلا مرة واحدة وبصيغة الإنذار لسد باب الأثر والتأثير عن الطبيعة المنهي عنها مع جعل معاني الإيمان قريبة من الناس تشرق على القلوب بالبهاء ، وهو من معجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرتقاء الناس في مراتب الفطنة والنباهة وإدراك الحسن الذاتي للإيمان ، وقبح الكفر وأضراره ، ويحتمل مجئ الكثرة والزيادة في مادة [آمَنَ] والنقص في مادة [كَفَرَ] في أول القرآن وجوهاً :
الأول : إنه من الحكمة الإلهية ، وفضل الله على الناس .
الثاني : جاء إتفاقاً .
الثالث : لحاظ موضوع كل آية من بدايات سورة البقرة .
الرابع : موضوعية سياق الآيات .
والصحيح هو الوجه الأول ، ويكون الثالث والرابع في طوله لبيان تعدد ضروب وموضوعات الإعجاز القرآني وتفرعها إلى أقسام عديدة قبل أن تصل النوبة إلى ذكر المصاديق ، ومن أسرار تعدد وكثرة ورود مفردات كلمة الإيمان في أول آيات القرآن أمور :
الأول : لقد إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض حينما أكرمهم الله بالإخبار عن خلافة آدم [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
وفي هذا الإحتجاج دلالة على أن تغييراً سيطرأ على الكون بهذه الخلافة وأنها تغيير نوعي في حياة الخلائق ففزعت الملائكة وإستجارت بالله بتسبيحها وتقديسها، ولم يترك الله عز وجل كلام الملائكة، ولم يرد عليهم بالتوبيخ والتبكيت ، بل تفضل بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] وبيّن لهم شرف آدم ومعرفته الأسماء بما يكفي لوقاية المؤمنين من ذريته من الفساد والضلالة , بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ليطل على الأرض الكتاب السماوي الخالد وهو القرآن وهو يدعو إلى الإيمان ، ونبذ الشرك ، ومفاهيم الكفر ، ومن الآيات في خلق الإنسان وماهية الحياة الدنيا وأنها تتقوم بالإيمان .
الثاني : كل ذكر للإيمان هو إزاحة للكفر ومفاهيمه من النفوس والمجتمعات .
الثالث : تأكيد صدق نزول القرآن بالتحول العام إلى الإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من علم الله عز وجل في الآية أعلاه فمن الأنبياء من بعث إلى أسرته أو قبيلته , وفي يونس ورد قوله تعالى [وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ]( ).
وعن الإمام الرضا عليه السلام (إن يونس لما امره الله بما أمره فاعلم قومه فاظلهم العذاب ففرقوا بينهم وبين أولادهم ثم عجوا إلى الله وضجوا، فكف الله العذاب عنهم، فذهب يونس عليه السلام مغاضبا فالتقمه الحوت فطاف به سبعة أبحر، فقلت له: كم بقي في بطن الحوت ؟ قال: ثلاثة أيام ثم لفظه الحوت وقد ذهب جلده وشعره، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين فأظلته، فلما قوي أخذت في اليبس، فقال: يا رب شجرة أظلتني يبست، فأوحى الله إليه: يا يونس تجزع لشجرة أظلتك ولا تجزع لمائة ألف أو يزيدون من العذاب( ).
ومن الأنبياء من قتله قومه وهو يدعو إلى الله عز وجل ، فتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون الإيمان هو الغالب في الأرض وباقياً إلى يوم القيامة .
إن كثرة الفاظ الإيمان في بداية نظم القرآن ومطلقاً وتجلي هذه الكثرة في كل سور القرآن ومضامين آياته القدسية مرآة لتغشي معالمه في ربوع الأرض، لذا ورد قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] على نحو الإطلاق وإرادة عموم أمصار الأرض ، لبيان أمور :
الأول : الأرض كلها ملك الله عز وجل وهو سبحانه يعلم ما يفعله بنو آدم فيها .
الثاني : إرادة دوام نزول الرزق الكريم على الناس وإخراج الأرض كنوزها بالتقوى والصلاح ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( ).
الثالث : بلوغ دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصقاع الأرض، وبيان مسؤولية المسلمين في محاربة الفساد في الأرض .
الرابع : إعطاء رسالة إلى الكفار والمنافقين بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت لرفع الظلم عن الذات والغير في الأرض ، وأنها ليست خاصة بأهل مكة والمدينة ليتضمن قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ] دلالات ومعاني عقائدية منها :
الأول : دعوة المسلمين إلى الجهاد في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتهذيب الأخلاق ، فلا يختص الجهاد بسوح المعارك وميادين المبارزة ، فرب دعوة إلى الصلاح تكون أكثر نفعاً من ضربة سيف ، خاصة وأنها لا تعرض المسلم إلى القتل في الأعم الغالب، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ) .
الثاني : حث المسلمين على عدم الركون للمفسدين .
الثالث : تنمية ملكة الفطنة وعدم الغفلة عند المسلمين .
الرابع : دعوة المسلمين للنفرة من المفسدين، ولا تعارض هذه النفرة الصلة معهم التي هي وعاء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومقدمة لجذب الناس إلى منازل الصلاح ، وهو من مصاديق الخلافة ووراثة المؤمنين للأنبياء في الإمامة والريادة في الخيرات .
ومن الإعجاز في سنن النبوة أن الفساد برزخ دون تدبر الناس في المعجزات ، وذات الإمتناع عن هذا التدبر من الفساد، فكأن الفساد أمر توليدي وجاءت هذه الآيات للنهي عن أصل وفروع الفساد ، وهو من الشواهد على نزول القرآن بالحكمة وجوامع الكلم، والقوانين التي تضئ سبل الرشاد والفلاح .
لقد أخبرت الآية بأن المخادعين لا يدركون أنهم مفسدون بقوله تعالى [وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( )فهل بقوا على ذات الحالة بعد نزول هذه الآيات , الجواب على وجوه :
الأول : من خصائص وآثار نفخ الروح في آدم بفضل الله أن النفس الإنسانية تنفر من الفساد فبعد إدراك حقيقة كنهه يهجره فاعله .
الثاني : إذا تغير الموضوع تبدل الحكم ، فبعد نزول الآية الكريمة صار المخادعون يعلمون بالفساد ويلتفتون إلى سوء ما يفعلون .
الثالث : إستدامة وبقاء حال اللا شعور بالذنب والمعصية .
الرابع : قوله تعالى [وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] له معاني عديدة ، وهو متعلق بوجوه تقدم بيانها ( ).
إختار المنافقون الخلوة برؤساء الضلالة وإعلان إستهزائهم بالمؤمنين في دعوة الإيمان , وهو خلاف من جهات :
الأولى : العبادة علة خلق الإنسان، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثانية : الإيمان أمر بسيط ليس مركباً أو متعدداً من ظاهر وباطن ، بلحاظ أن اللسان مرآة القلب .
الثالثة : الثناء على المسلمين لإكتفائهم بإعلان الإيمان ، وفي مدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ] ( ) .
ليكون من الخير في المقام ترغيب المنافق بالإيمان الظاهري وترك الإصرار التام على الكفر والجحود ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه إذا كان تناقض بين اللسان والقلب ، فان ما على اللسان يأتي على ما في القلب ويزيحه ويطرده وهو خلاف الأصل في الأثر والتأثير في سنخية خلق الإنسان بلحاظ أن القلب هو أمير الجوارح .
ولكن الأولوية والرجحان لوجوب الإيمان، فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن اللسان سابق للقلب عند المنافق وهو القائد له إلى سبل الحق والهدى ، وتأتي هذه الآيات لتساعد اللسان في تنزه القلب من النفاق ، ومنها قوله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ]ويحتمل موضوع هذا الإستهزاء وجوهاً :
الأول :فضح المخادعين، ومنه الإخبار عن خلوتهم برؤساء الكفر .
الثاني : كتابة الملائكة لما يقولون في منتديات الضلالة ، قال تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ] ( ).
الثالث: إزدياد قوة المسلمين وظهورهم في المعارك .
الرابع : دخول الناس أفواجاً وجماعات في الإسلام .
الخامس : أجل الكذب وإخفاء الكفر قصير ، وجاء قوله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ]وعيداً للمنافقين بأن الله عز وجل يُخرج نفاقهم ويفضح رياءهم على رؤوس الأشهاد.
السادس : الآية اعلاه ذاتها إستهزاء بالكفار .
السابع : تحدي المنافقين بعدم النفع أو ترتب الأثر على خبثهم وغدرهم وحال الإزدواج الذاتي المكروه الذي يتصفون به.
الثامن : وعد المؤمنين بالظفر وجلب الغنائم إلى المدينة .
التاسع : إرادة التعاقب بين سخرية الكفار وإستهزاء الله عز وجل بهم فحينما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بألف مقاتل للقاء كفار قريش إنخزل رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول بثلاثمائة مقاتل وهو يقول (ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس) ( ).
وكأن القتل خاتمة لخروج المهاجرين والأنصار ، وأن أحداً لم ينج منهم ، ويستقرأ من قوله أعلاه أن أخباراً وصلته خاصة من كفار قريش بارادتهم إستئصال الإسلام وقتل النبي وأصحابه وهذه الأمنية مذكورة في كتب السيرة .
ولكن عندما إتبعهم عبد الله بن عمرو وهو والد جابر بن عبد الله الأنصاري وأخذ يدعوهم إلى الرجوع إلى صفوف المقاتلين تحت راية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكّرهم الله ونصرة النبي ولزوم عدم خذلان إخوانهم من الأوس والخزرج عند حضور العدو .
( قالوا :لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال) ( ).
ليكون هذا الخبر شاهداً على مصاديق هذه الآية , ومرآة للنفاق فهم مع المؤمنين يدّعون رجحان عدم وقوع قتال ولكنهم يتناجون بالخذلان والغدر فيما بينهم ، ويقولون أنه القتل لعامة المؤمنين , لأن قريشاً جاءت تثأر لقتلاها ببدر ، وتعد على التخلف من جيش المسلمين الذي حاربهم من وجوه :
الأول : لحوق الخزي بأرباب عقيدة الكفر والضلالة .
الثاني : تسفيه أحلام قريش .
الثالث : فضح الجهالة والغفلة التي عليها رؤساء قريش .
الرابع : هدم الأصنام التي يعبدها رجالات قريش .
الخامس : تعطيل تجارات قريش ، وهذا التعطيل من جهات :
الأولى : تعرض سرايا المسلمين لقوافل تجارة قريش.
الثانية : تجرأ أفراد القبائل عليها ، خاصة بعد معركة بدر وخسارة قريش .
الثالثة :دخول نفر من شباب قريش الإسلام وتصديهم لتجارة وأشخاص قريش ومواليهم .
كما في قصة أبي جندول الذي كان أبوه سهيل بن عمرو يكتب كتاب الصلح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية (فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا) ( ).
والمدد هو الزيادة ، وهذه أول آية في نظم القرآن تذكر المد من عند الله وفيه مسائل :
الأولى : إنذار الكفار .
الثانية : البيان للمؤمنين والناس جميعاً بأن ما عند الكفار من النعم هو من عند الله .
الثالثة : تأكيد قانون في الحياة الدنيا من وجوه :
الأول : عدم الملازمة بين النعم الدنيوية وبين الإيمان، قال تعالى[وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا]( ).
الثاني : قانون عدم إنقطاع النعم عن الكفار .
الثالث : الكفر ليس علة تامة لعدم زيادة النعم , ( وعن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله تعالى يقول: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه( ).
الرابع :حصول الإمهال ومجئ المد للكفار بعد الإستهزاء والسخرية بهم من عند الله وفيه نكتة وهي عدم ترتب الضرر على المؤمنين من هذا المدد إنما ينحصر ضرره بذات الكفار ، فلذا نعتهم الله باستدامة حال الحيرة عندهم مع بقائهم على الكفر والطغيان ، يرون الآيات ويدركون وجوب الإيمان ويتحسسون حلاوة التصديق بالمعجزة ، ولكن غشاوة على أبصارهم تصدهم عن مناهج الحق .
ومن مصاديق إستهزاء الله بالمخادعين رميهم بالذل بين الناس ، فقد كشف المؤمنون زيف قولهم ، وأدرك رؤساء الضلالة رياءهم وترددهم ، وتتوالى إنتصارات المسلمين ، وكل فرد منها يتضمن في دلالته ذلاً مستحدثاً للمنافقين.
نعم هذا الذل ليس مجرداً بل تأتي معه الدعوة إلى التوبة والإنابة ونبذ النفاق ،بالإضافة إلى التوبة على نحو مستقل وفي كل زمان ومكان ، ليكون تقدير الآية (الله يستهزئ بهم ليتوبوا) وليس من عاقل إلا وتنفر نفسه من الأسباب التي تجلب إستهزاء الله لما فيه من الأضرار الدنيوية والأخروية .
فمن إستهزاء الله عز وجل بالمخادعين أنه يعلم بسلامة ونجاة المسلمين من مكرهم ، وأن رجوعهم إليه سبحانه يخرج للخلائق ما كانت تخفيه صدورهم من الكفر والضلالة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ]( )والكدح السعي بجد وإجتهاد .
وجاء لفظ الإنسان في الآية أعلاه لإفادة الجنس والعموم ، فكل إنسان لا بد وأن يقف بين يدي الله عز وجل للحساب ، أما المؤمن فيكون في سعادة ونعيم دائم، وأما الكافر فانه في حال شقاء وبؤس وعذاب وقيل من إستهزاء الله عز وجل بالمخادعين كف أيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن قتلهم ، ولكن هذا الكف رحمة وإمهال لهم وهو من معاني الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وباب للتوبة وندب إلى الصلاح .
ويمكن تأسيس قاعدة وهي لو تردد في تعيين الأمر هل هو من رحمة الله أم من استهزائه فالصحيح هو الأول ، لأن الحياة الدنيا وخلافة الإنسان فيها قائمة على رحمة الله عز وجل , نعم إصرار المنافق على ضلالته مع المندوحة والإمهال سبب لزيادة آثامه .
ووردت مادة (هزئ) وموضوع الإستهزاء أربعاً وثلاثين مرة في القرآن , ولم ينسب الإستهزاء إلى الله عز وجل فيها إلا في آية البحث وبخصوص المنافقين، في بيان لإختيارهم الخداع عن قصد ونية وبعد قيام البينة عليهم بسوء إختيارهم وفعلهم، وجاء الجزاء من عند الله بصيغة الخبر وقيل سميت العقوبة باسم الذنب ويستدل عليه بقول عمرو بن كلثوم :
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا … فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينا ( )
بلحاظ أنه لا يفتخر أحد بنسبة الجهل إلى نفسه وقومه ، ومع قولنا بصحة الجزاء بذات اللفظ، وفيه بيان وتخفيف عن اللسان وتقريب للمعنى في حال البشارة والإنذار كما في قوله تعالى [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا]( )، ولكن الإستدلال ببيت الشعر غير تام لإحتمال إرادة الشاعر معنى الجهل حقيقة بلحاظ أنه يرد بالثأر والعصبية وأنه لا يستحي من الجهل والحمق إذا كان رداً وجواباً وغضباً ومقابلة بالمثل , والله عز وجل منزه عن فعل القبيح ، ويأتي الجزاء منه ليكون زاجراً عن فعل القبيح ، فاستهزاء الله عز وجل بالمخادعين دعوة لهم للنجاة من عذاب النار ، فهو سبحانه لم يتركهم وشأنهم لتفاجئهم نار جهنم وهي تدعوهم في الآخرة وتعرف الكفار بسيماهم وحمل كل واحد منهم كتابه بشماله ، فمن بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله أن المنافقين إنكشفوا على حقيقتهم وأظهروا خداعهم في المدينة بعد إنتصارات الإسلام , وهذا الإستهزاء من عند الله من مصاديق قوله تعالى [أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى] ( )وقد ذكرت في الآية أعلاه وجوه :
الأول : أن يترك الإنسان من غير أن تفرض عليه وظائف شرعية .
الثاني : (يظن ألا يبعث ، قاله السدي) ( ).
الثالث : لا يؤمر ولا ينهى .
الرابع : يترك من غير حساب أو جزاء (وقال رجل لجعفر بن محمد يا ابا عبد الله، وإنا خلقنا للعجب؟ قال: وما ذاك لله أنت، قال خلقنا للفناء؟ فقال: مه يابن أخ، خلقنا للبقاء وكيف تفنى جنة لا تبيد ونار لا تخمد ولكن قل: إنما نتحرك من دار إلى دار) ( ).
وبلحاظ آية البحث تضاف معان أخرى للآية منها :
الأول :إستهزاء الله بالمخادعين جزاء عاجل نصرة للمؤمنين , ومن مصاديق عدم ترك الإنسان هملاً.
الثاني : حينما يتمادى المخادعون في غرورهم وطغيانهم يمهلهم الله بحلمه، وهذا الإمهال أمر وجودي وليس عدمياً .
الثالث : إستهزاء الله بالمخادعين رحمة بالناس بالتحذير منهم، ووجوب عدم محاكاتهم في سخريتهم من المؤمنين ، لذا فمن إعجاز الآية أعلاه مجيؤها بصيغة المضارع والجنس.
لتستغرق أحكام الآية الناس جميعاً وفي كل الأزمنة ويحتمل الأثر المترتب على الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : البطش العاجل بالمنافقين .
الثاني : إقامة الحجة على المنافقين .
الثالث : جذب المنافقين إلى منازل التوبة .
الرابع : بعث السكينة في نفوس المسلمين ، وحثهم على عدم الإنتقام من المنافقين ، فمتى ما علم الإنسان أن الحاكم إنتزع حقه من المعتدي أو جازاه بالعقوبة الملائمة فانه يكف عن البطش به وإن تهيأت مقدمات هذا البطش.
ولقد نزلت سورة البقرة في المدينة حيث تتوالى إنتصارات المسلمين ، ويخفت صوت الكفر ، ويتخلى أرباب الشرك عن المخادعين والذين ينقضون العهود ومواثيق الصلح التي عقدوها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , فجاء إستهزاء الله عز وجل بالمنافقين دعوة للمسلمين لشكره تعالى على هذه النعم وأنه سبحانه كفل لهم جبهة النفاق باستهزائه بالمنافقين، ومن معانيه منعهم من الإضرار بالمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ] ( ).
ويحتمل موضوع الإستهزاء وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص إدعاء المخادعين الإيمان بحضرة المسلمين ، وهو القدر المتيقن من نظم الآية .
الثاني : الإستهزاء في موضوع آخر غير إدعاء الإيمان .
الثالث : إرادة المعنى الأعم ، وهو الصحيح فقد جعل المنافقون الإستهزاء بالمؤمنين مرتكز أفعالهم والعلة المادية لها ، وكأنهم يعدون رؤساء الضلالة ويتعهدون عندهم بالنيل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتشكيك بالقرآن والسعي لتثبيط المؤمنين .
ولا يعلم إلا لله عز وجل أضرار هذا الإستهزاء على الإسلام والمسلمين لولا أن تأتي هذه الآيات فتكون شهاباً سماوياً يحرق الفتنة التي تترشح عن هذا الإستهزاء , وتمنع المنافقين من الإستمرار فيه ومن التمادي في الغي بما يساعد الكفار في ميادين القتال للملازمة والترابط بين الحرب النفسية المتمثلة بالإستهزاء وبين محاربة الإسلام بالسيف .
البيان في قوله تعالى [وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]
إبتدء هذا الشطر من الآية بحرف العطف [الواو] لإفادة التعدد في الجزاء الإلهي العاجل للمخادعين لأمور:
الأول : تجدد صيغ تعدي المخادعين على المؤمنين .
الثاني : الجحود والإستكبار في الإستهزاء الذي هو قبيح ذاتاً .
الثالث : ترشح الفتنة وصيرورة بعض المسلمين في حال من الإنكسار القلبي عند تجاهر المخادعين بالإستهزاء وإختيارهم لموضوعات تسبب الكدر وتشغل المسلمين عن عباداتهم ووظائفهم .
الرابع : لا تنحصر علة الجزاء بسوء فعل المنافقين فتشمل أموراً :
الأول : نصر الله عز وجل للمؤمنين .
الثاني : دفع أعداء الإسلام ، ومنعهم من مواصلة التعدي والظلم.
الثالث : دعوة هؤلاء الأعداء والناس جميعاً إلى التوبة والإنابة .
ويحتمل لفظ يمدهم وجوهاً :
الأول : الزيادة في الشئ من ذات جنسه كما في قوله تعالى [وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ] ( ).
الثاني : المراد الإمهال وتركهم يواظبون على سوء الفعل .
الثالث : المدد من غير ذات الجنس كما في مدد المؤمنين بالملائكة في معركة بدر وأحد والخندق.
الرابع : الإشارة إلى التغاير (يقال مد في الشر وأمد في الخير)( ).
وتدل الآية على المعنى الثاني لنسبة الطغيان لذات المخادعين، فتبين الآية حلم الله عز وجل وإمهاله للناس مع كثرة ذنوبهم , فان قلت إن الله عز وجل هو الرؤوف الرحيم ، وهذا الإمهال يجعل ذنوب المخادعين تزداد وتتضاعف فلماذا لا يعجل لهم الله عز وجل العقاب , ويخفف باستئصالهم عن المؤمنين.
والجواب إنه من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )بأن تكون الحياة الدنيا مناسبة للثوبة والعقاب وحجة على الناس ، فالذي يستهزء بالتنزيل يتركه الله يتمادى في غيه فتحضر سيئاته معه بما يجعله عاجزاً عن الرد، ويفاجئ وأهل المحشر بقانون وهو عدم ترتب الأثر والضرر على المسلمين نتيجة إستهزائه وأصحابه من أهل النفاق ,مع إكتساب المسلمين حسنات خاصة على صبرهم على سخرية المخادعين.
وفي الآية تأديب للمسلمين بالتسليم ببديع صنع الله والإمتناع عن الجدال والشك ، فان الله عز وجل هو الذي يمهل الكفار بتركهم يتعدون في غيهم ، وفيه نفع للمسلمين بزيادة إحترازهم ، ويقظتهم ، وتوالي ومضاعفة درجات الأجر والثواب لهم لما يلاقونه من الأذى ، وفيه شاهد بأن الإسلام أصبح منيعاً لا يضره الطغيان والتيه والعتو الذي عليه الكفار والمخادعون .
وإذا كان إستهزاء الله عز وجل بالمخادعين جزاء في مقابل إستهزائهم بالمسلمين ، فلماذا جاء مع الإستهزاء قوله تعالى [وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ] ( )الجواب فيه وجوه :
الأول : يأتي الجزاء على سوء فعل المخادعين متعدداً ومضاعفاً .
الثاني : الواو في [وَيَمُدُّهُمْ] واو إستئناف من حيث موضوع الجزاء والبلاء.
الثالث : تعدد أفراد إبتلاء المخادعين في هذه الآية لأن الآية السابقة تبين أن تعدي وظلم المخادعين متعدد في ذاته وموضوعه من جهات :
الأولى: إدعاء الإيمان عند لقاء المؤمنين.
الثانية : إخبار رؤساء الضلالة بأنهم معهم في الإقامة على الشرك .
الثالثة :الإقرار والتباهي بأنهم يستهزئون بالمؤمنين ويسخرون منهم .
الرابعة : بيان حقيقة وهي أن إستهزاء المخادعين بالمؤمنين فرع طغيانهم.
وتدعو الآية المسلمين إلى معرفة أحوال الناس والتمييز بينهم بخصوص عالم الأفعال ، وأن العداوة لهم لا تنحصر بالكفار ولا في ميادين القتال بل تشمل الخداع والزيف والإستهزاء، ولكن هذه العداوة لن تترك من غير جزاء من عند الله ، فجزاؤها متعدد منه سخرية الله عز وجل بالمخادعين وتركهم في عتوهم وضلالتهم .
ترى هل من ملازمة بين الإستهزاء بالمؤمنين وبين الطغيان , الجواب نعم هذا الإستهزاء من فروع الطغيان ، ولكنه لم يمنع الجزاء من عند الله عز وجل على ذات الفرع وترك الأصل ،لأن هذا الترك أمر وجودي وإمهال ونوع جزاء آخر ، فيعاقب الله عز وجل المخادعين بخصوص طغيانهم بتركهم على ذات حال العتو والزهو مع الإستهزاء بهم .
ومدّ الله المخادعين في غيهم من الشواهد على أمور :
الأول : ملك الله عز وجل للسموات والأرض وما فيهن وما بينهن .
الثاني : لله عز وجل المشيئة المطلقة في عالم الخلق والنشأة والفعل ، ولو يشاء سبحانه لحال دون المخادعين وطغيانهم ، ولجذبهم إلى منازل التوبة والإنابة .
الثالث : عظيم قدرة الله عز وجل ، وسلطانه ونصرته للمؤمنين مع تمادي الكفار في طغيانهم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وتتألف هذه الآية من ست كلمات وإبتدأت باسم الجلالة ثم تضمنت كل واحدة من الكلمات الأربعة الأخرى ضميراً وحرفاً يدل على المخادعين ، وهل هو من مصاديق طغيان وعتو المخادعين، الجواب لا ، لأن الآية كلام الله عز وجل ،إنما هو بيان لتعدد قبائح المخادعين وإستدراج لهم , ولتكون خصالهم المذمومة مكشوفة وجلية عند المسلمين،فهم يدّعون الإيمان زوراً بحضرتهم ، فتفضل الله عز وجل وجعل خصال المخادعين حاضرة عند المسلمين جزاء على الإيمان.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على التحذير من الإستهزاء بالمؤمنين لأنهم صدّقوا بالتنزيل، قال تعالى [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
نبذ الطغيان
هذه أول آية وفق نظم القرآن ترد فيها مادة (طغى ) وفيه مسائل :
الأولى :الطغيان والعتو داء وسجية عند المخادعين .
الثانية : من علل وأسباب النفاق الطغيان والتمادي في المعاصي .
الثالثة : تحذير المسلمين والمسلمات من الذين يتجاوزون الحد في الظلم والمعصية .
الرابعة : الطغيان من الأخلاق المذمومة ، وتترشح عنه أفعال قبيحة .
الخامسة : بعث النفرة في نفوس الناس من الطغيان والتجبر، ودعوة هذه الآية لهم جميعاً للحث على نزع رداء التكبر .
وأصل العمه حيرة البصر وعدم التعيين في الرؤية، ولكنه في الآية أعم إذ أنهم يستكبرون عن رؤية المعجزات والتدبر فيها ويعتدون على المؤمنين بالإستهزاء والخداع ويتباهون بتكذيب الحق والآيات الباهرات.
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: بادروا بالأعمال سبعاً ما ينتظر أحدكم إلا غنى مطغياً أو فقراً منسياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال ، والدجال شر غائب ينتظر أو الساعة { والساعة أدهى وأمر}) ( ).
وقد يقال المتبادر إلى الذهن هو التباين الموضوعي بين الإستهزاء والطغيان الذي يدل على التكبر والإرتفاع كما في قوله تعالى [إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ]( )،فجاءت آية البحث لتبين أن الإستهزاء بالمؤمنين فرع الطغيان والضلالة ، وأن الله عز وجل ترك الكفار والمخادعين يتيهون بضلالتهم ويتأذون من ظلمهم .
وفي قوله تعالى [وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا] ( ) ، ورد عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً ، ولو أدرك لأرهق أبويه طغياناً وكفراً) ( ).
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين مجيؤه بالتأكيد على بر الوالدين ونزول القرآن بوجوب الإحسان والرأفة بهما وإقترانه بطاعة الله ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] ( )، ليكون بر الوالدين جزء من سنن التقوى التي عليها المسلمون ، وتشمل المقام صيغ التوبة والإنابة فان قلت بُعث الأنبياء كلهم بالإحسان للوالدين ، فهذا صحيح ، ولكن رشحات التكامل العقائدي في الإسلام تتجلى بحسن السمت وحسن الصلة بين الولد ووالده ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
وجاء البيان على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أسرار لقاء الخضر وموسى عليه السلام (وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البِكَالِيّ يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عباس: كذب عَدُوّ الله، حدثنا أبي بن كعب، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فَسُئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يَرُدّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: إنّ لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى: يا رب، وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا، تجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو فأخذ حوتا، فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يُوشع بن نون عليهما السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه، فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جِريةَ الماء، فصار عليه مثل الطاق. فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: { آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا }( )، ولم يجد موسى النَّصَب حتى جاوَزَا المكان الذي أمره الله به. قال له فتاه : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا } قال: “فكان للحوت سربًا ولموسى وفتاه عجبًا، فقال: { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}( ) . قال: “فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مُسجّى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخَضِر: وَأنّى بأرضك السلام!. قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما عُلِّمت رشدا. { قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } ، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله عَلَّمَكَه الله لا
أعلمه. فقال موسى { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } قال له الخضر: { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا }( ).
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوه، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قد حملونا بغير نول، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئًا إمرًا. { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا }( ).
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “كانت الأولى من موسى نسيانًا”. قال: وجاء عصفور فنزل على حرف السفينة فنقر في البحر نَقْرة، [أو نقرتين] فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه [بيده] فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى: { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا }، قال: “وهذه أشد من الأولى”، { قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } قال: مائل. فقال الخضر بيده: { فَأَقَامَهُ } ، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، { لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما) ( ).
وجاءت الآية لتبين الصلة بين طغيان المخادعين وإستهزائهم بالمؤمنين، وفيه وجوه:
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهي على شعبتين :
الأولى : الطغيان أعم من الإستهزاء بالمؤمنين .
الثانية : الإستهزاء بالمؤمنين أعم من الطغيان .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بين الطغيان والإستهزاء وأخرى للإفتراق .
الثالث : نسبة التباين كما تقدمت الإشارة إليها .
الرابع : نسبة التساوي بين الطغيان والإستهزاء بالمؤمنين .
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الأول .
ليكون من إعجاز الآية ذكر الخاص والعام ، الخاص بالرد على إستهزائهم ، والعام بالمدّ والإمهال لهم في عتوهم وتجاوزهم الحد .
ويحتمل إستهزاء الله عز وجل بالمخادعين وجوهاً :
الأول : إرادة التساوي بينه وبين إستهزائهم بالمؤمنين .
الثاني : إستهزاء الله عز وجل بالمخادعين والمنافقين أكبر من إستهزائهم بالمؤمنين.
الثالث : إستهزاء الله عز وجل بالمخادعين أقل من إستهزائهم بالمؤمنين.
والصحيح هو الثاني ، فليس من حصر أو حد لمواضيع وأوان ومكان إستهزاء الله عز وجل بالمخادعين ، وفيه غاية التحذير والإحتراز من الظلم والتعدي في السخرية من المؤمنين ، ويحتمل إستهزاء الله عز وجل بالمخادعين وجوهاً :
الأول : الإستهزاء في خصوص الحياة الدنيا لاسيما وأن مدهم بالطغيان في الحياة الدنيا رجاء زجر أعداء الإسلام عن التعدي.
الثاني :إمهال المخادعين في الدنيا وحصول الإستهزاء بهم في عالم الآخرة.
الثالث : إرادة المعنى الأعم وأن الإستهزاء بالمخادعين في الحياة الدنيا والآخرة .
والصحيح هو الأخير ، وتلك آية في مكر الله عز وجل بالمنافقين وكيف أنهم يوم القيامة [فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( )، فاستهزاؤهم بالمؤمنين مقيدة مدته قبيح بذاته سريع زواله ،إذ أن الإيمان يغزو بيوتهم ، وينفذ إلى شغاف قلوب الناس ليكون من معاني إستهزاء الله عز وجل بهم سخرية الناس منهم ، وإعراضهم عنهم، وهذا الإعراض حجة عليهم ، وزيادة في إثمهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا]( ) للحنق واليأس الذي يملأ صدورهم وعجزهم عن دفعه .
ويحتمل إستهزاء الله عز وجل بهم وجوهاً :
الأول : ملازمة هذا الإستهزاء بسخرية المخادعين بالمؤمنين .
الثاني : تعقب إستهزاء الله عز وجل بهم لسخريتهم وإستخفافهم بالمؤمنين .
الثالث : تقدم إستهزاء الله عز وجل بهم فعلاً وزماناً على إستهزائهم بأهل الهداية والصلاح.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ، وفيه إنذار وتحذير من السخرية بالمسلمين لإتخاذهم الإيمان منهجاً ولباساً ودثاراً ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الإنبياء السابقين ، فليس من أمة عظيمة مثل المسلمين يعاقب الله عز وجل من يسخر منهم بالسخرية والإستهزاء به ، لتجمع المنافقين والمخادعين صفة ( المستهزء بهم)،أو (الذين يستهزء الله عز وجل بهم) وتصاحبهم هذه الصفة في النشأتين ، وفيه دعوة للناس جميعاً للتنزه عن النفاق والخداع كي يسلموا من هذا العار ومفاهيم الخزي المصاحب ، وهو من مصاديق تسمية آيات القرآن بالآيات لأن كل واحدة معجزة بذاتها ومضمونها وهو الذي أسميه الإعجاز الذاتي .
والآية معجزة بأثرها ونفعها وبركاتها وهو الذي أسميه الإعجاز الغيري ، فآية البحث سلاح للزجر عن الإستهزاء بالمؤمنين , وفيه نفع لهم من وجوه :
الأول : التخفيف عن المؤمنين .
الثاني :السلامة من الأذى والإحباط .
الثالث :الوقاية من أسباب الفتنة والإفتتان .
الرابع : تجلي معاني العز والرفعة عند المسلمين بادراكهم أن الله عز وجل هو الذي يدافع عنهم .
الخامس : في إستهزاء الله بالمنافقين والمخادعين شفاء لصدور المؤمنين، ودعوة لهم للإنقطاع إلى العبادة وطاعة الله عز وجل .
لقد حمل المؤمنون أرواحهم على أكفهم ، ولم يضعوا سيوفهم بل إستمروا بالجهاد في سبيل الله ، والدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمدينة المنورة وأهلها ، وبالغزو والسرايا , وجذب الناس إلى الإيمان .
فأراد الله عز وجل ثوابهم العاجل وإكرامهم ونصرتهم بدفع الإستهزاء عنهم ، لقانون كلي وهو الذي يستهزء الله بهم يعجزون عن الإستهزاء والإستخفاف بالمسلمين ، ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : الله يستهزء بهم ليكفوا عن الإستهزاء بالمؤمنين .
الثاني : الله يستهزء بهم لفضحهم , ومنع ترتب الأثر على إستهزائهم بالمؤمنين .
الثالث : الله يستهزء بهم ليقوم المؤمنون بالإستهزاء والسخرية منهم .
الرابع : الله يستهزء بهم فواظبوا أيها المؤمنون على عبادتكم .
خزي المنافقين
ويحتمل الضمير (هم) الذي تكرر في الآية ثلاث مرات واو الفاعل في [يَعْمَهُونَ] وجوهاً :
الأول :إرادة المنافقين والمخادعين ، وأن الله عز وجل يستهزء بهم ويسخر منهم .
الثاني : مجئ الآية بالرد بالمثل على موضوع الإستهزاء والذين قالوا [إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ].
الثالث :الإطلاق في الإستهزاء بالمنافقين ورؤساء الضلالة .
الرابع : إرادة التفصيل بالإستهزاء بالمنافقين ومدّ رؤساء الضلالة في طغيانهم وعتوهم .
الخامس : العموم في الإستهزاء والمد في الطغيان فيشمل المنافقين والمخادعين ليجتمع الإستهزاء بهم ومدّهم في الطغيان .
والصحيح هو الأخير , وتكون الوجوه الأخرى في طوله بلحاظ مسائل :
الأولى : الإستهزاء بالمؤمنين عتو وطغيان .
الثانية : مد المنافقين وإمهال المنافقين في طغيانهم من مصاديق قوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] ( ) .
الثالثة :إبقاء داء الكفر مستولياً على النفس مع إعلان الإيمان من الطغيان ليكون من مصاديق مدّهم في طغيانهم أمور :
الأول : إمكان اللقاء بين المنافقين ورؤساء الضلالة .
الثاني : عدم وجود برزخ دون خلوتهم بأقطاب الضلالة .
الثالث : تجدد أفراد الخلوة واللقاء بين المنافقين وشياطينهم .
الرابع : من المدد والأمهال عدم فضح المنافقين بأسمائهم في القرآن ، وقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في واقعة بعض أسمائهم (عن أبي مسعود الأنصاري قال : لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبة ما شهدت مثلها قط فقال « أيها الناس إن منكم منافقين فمن سميته فليقم ، قم يا فلان ، قم يا فلان ، حتى قام ستة وثلاثون رجلاً . ثم قال : إن منكم وإن منكم وإن منكم فسلوا الله العافية)( ).
وفيه مسائل :
الأولى : زجر المنافقين عن التمادي في الضلالة .
الثاني : بيان مصداق لآيات البحث , وأن الله عز وجل قادر على فضح المنافقين .
الثالث : بيان وتفسير السنة النبوية للقرآن ، لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الرابعة : دعوة المنافقين للتوبة والإنابة .
الخامسة : بيان بلوغ الإسلام مراتب القوة والمنعة .
السادسة : حاجة الإسلام إلى تطهير صفوفه ومجتمعاته من المنافقين وما يجلبونه من الضرر وخلوتهم برؤساء الضلالة وإفشاء أخبار المسلمين .
السابعة : إرادة الإجهاز على النفاق قبل أن ينتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
الثامنة : نزول الآيات وتجلي المعجزات بما يكفي لكل إنسان أن يهجر النفاق ومفاهيم الشك والريب ، خاصة وأن المنافقين يختلفون عن الكفار بخصوصية وهي أنهم مع المسلمين في عبادتهم ومنتدياتهم ومجالسهم ، وينصتون لتلاوة القرآن وتأتيهم أخبار الوحي طوعاً وأنطباقاً وكرهاً ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( )فتكون من شدة عقابهم لوجوه :
الأول : قيام الحجة على المنافقين .
الثاني : إتخاذ المنافقين الغدر والغيلة للمكر بالمسلمين .
الثالث : رؤية المنافقين للمعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إدراك المنافقين للمعجزات العقلية ، إذ يسمعون آيات القرآن تتلى بكرة وعشية ، وهو من الإعجاز في القرآن الجهري في صلاة الصبح والمغرب والعشاء ، لتصل كلمات القرآن إلى أسماع المنافق ويتدبر في معانيها .
الخامس : إحاطة المنافق بما ينتظر الكفار من العذاب الإليم .
السادس : بلوغ أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورؤيته وسماعه للسنة الفعلية والتدوينية بما يرفع الشك ،ويزيل اللبس ، ويجعل الإنسان يدرك بأدنى تأمل أنه نبي من عند الله عز وجل .
السابع :تلاوة وسماع المنافقين لآيات التوبة ومناسبتها وسعتها , ومن اللطف الإلهي تقريب المنافقين من التوبة إذ ليس بينهم وبينها إلا إصلاح النفس .
وهل آيات البحث من هذا اللطف , الجواب نعم لما فيها من النهي عن الأخلاق المذمومة ، والنوايا السيئة ، والإقامة النفسية على الضلالة .
الثامن : الإخبار عن حد وحلول أجل زماني يضعف ويتضاءل معه النفاق وتنحسر مفاهيمه ، كما ورد بخصوص المواثيق مع الكفار بقوله تعالى [َبرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ]( ).
(عن قتادة في قوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم . . . } الآية . قال : كان عهد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش أربعة أشهر بعد يوم النحر ، كانت تلك بقية مدتهم ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إذا مضى هذا الأجل أن يقاتلهم في الحل والحرم وعند البيت ، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ( ).
وكما تقدم في الآية أعلاه [وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ]( )،فقد أراد الله عز وجل خزي المنافقين على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبحضور المؤمنين ليشكروا الله عز وجل على نعمة الإيمان بالدلالة الإلتزامية ولبيان بدء مرحلة جديدة من تأريخ الإسلام تتقوم بالجهاد لتنزيه مجتمعات المسلمين من المنافقين وسلامة النفوس من النفاق والشك والرياء ولتتجلى مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
البيان في قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]( )
دلالة [أُوْلَئِكَ]
إبتدأت آية البحث باسم الإشارة [أُوْلَئِكَ]لإرادة جمع من الناس تجمعهم صفة أو فعل مخصوص ليفيد اسم الإشارة في الآية الحصر والتعيين , وفيه مسائل :
الأولى : تأكيد الصفات الجامعة للمخادعين , وهي في المقام من شعبتين :
الأولى : إنحصار دعوى الإيمان باللسان .
الثانية : خلو القلب والأركان منها لقوله تعالى [وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( ) ويحتمل هذا الخلو وجوهاً :
الأول : حلول الكفر محل الإيمان .
الثاني : بقاء القلب مجرداً خالياً من الإيمان ومن الكفر ، لأن الكفر لا يأتي إلا بمؤونة زائدة .
الثالث : طرو أمر آخر إلى القلب غير الإيمان والكفر .
الرابع : صيرورة القلب في حال برزخية ووسط بين الإيمان والكفر .
الخامس : الخلط بين الإيمان والكفر، وتجلي حال الإيمان مرة , والكفر أخرى على القلب .
السادس :إرادة الإخبار عن بقاء الكفار على حال الجحود , وعدم إنتقالهم إلى مراتب الإيمان التي هي عز ورفعة.
والصحيح هو الأول والسادس إذ جعل الله عز وجل الإيمان بسيطاً وأصلاً عند الناس .
الثانية : تقدير الآية بلحاظ الآية التاسعة من سورة البقرة (أولئك الذين يخادعون الله والذين آمنوا ، وأولئك ما يخدعون إلا أنفسهم وأولئك ما يشعرون ).
الثالثة : تقدير الآية بلحاظ الآية العاشرة من هذه السورة (أولئك الذين في قلوبهم مرض وأولئك زادهم الله مرضاً وأولئك لهم عذاب أليم).
الرابعة :أولئك الذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون .
الخامسة : أولئك هم المفسدون ولكن لا يشعرون .
السادسة : أولئك إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء أولئك هم السفهاء ولكن لا يعلمون .
السابعة :أولئك الذين اذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وأولئك الذين إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم.
الثامنة : أولئك الله يستهزئ بهم واولئك يمدهم في طغيانهم يعمهون ويبين هذا التعدد حلم الله عز وجل على الناس وإمهالهم وتذكير الكفار و المخادعين بالمعاصي التي يرتكبون ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ] ( )إن قوله تعالى [أُوْلَئِكَ] تأسيس لمدرسة نظم الآيات في القرآن ودعوة للمسلمين والناس جميعاً لتدبر وجوه الإعجاز في اسم الإشارة في الآية القرآنية من جهات :
الأولى : دلالات اسم الإشارة .
الثانية :الفرد أو الطائفة أو الأمة المقصودة من اسم الإشارة .
الثالثة : تعلق اسم الإشارة بالصفة والخصال , وليس بالأسماء والأفراد ، وهو من فلسفة بقاء مضامين الآية القرآنية إلى يوم القيامة .
الرابعة : إبتداء الآية القرآنية باسم الإشارة دليل على عائديته إلى المذكور في الآية السابقة مفرداً كان أو جمعاً إلا مع القرينة الصارفة ،وهل يخرج من هذه القاعدة قوله تعالى [الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ]( ) بلحاظ المراد من ذلك الكتاب هو القرآن وليس من موضوع سابق الجواب لا ، لتعدد معاني الحروف المقطعة [الم] وإحتمال تضمنها لمعاني تتعلق بالحروف المقطعة خاصة على القول بأن [الم] اسم وأن [ذلك] مبتدأ ثان وخبره الكتاب( ).
وهذه هي الآية الثانية التي يأتي فيها اسم الإشارة للجمع والبعيد [أُوْلَئِكَ] وتبدأ الآية به ، إذ ورد مرتين في قوله تعالى [أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]، في الثناء على المؤمنين ، ثم جاء اسم الإشارة في هذه الآية لذم المخادعين .
ولم تقل الآية (اولئك اشتروا) بل قالت [الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ] لإفادة التعيين ، وهو من أبهى معاني البيان القرآني والبشارة بأن المسلمين بمرتبة الحكم والإمارة لتتضمن الآية دعوتهم للتمييز والفصل بين الناس بلحاظ الإيمان، وضده من الكفر والمخادعة، ومن أسرار إبتداء الآية باسم الإشارة [أُوْلَئِكَ] أمور :
الأول : جذب الأسماع ولفت الأنظار ، ودعوة الناس للتدبر بالتنزيل.
الثاني : بيان وجود قوم وطائفة يتصفون بخصال معينة .
الثالث : تأكيد قانون كلي بتقسيم الناس بلحاظ الإيمان أو عدمه ، وبيان أن هذا التقسيم هو الأعم، وعليه المدار في معرفة منازل الناس ، فقد يقسم الناس ويجري إحصاء واستبيان بخصوص عدد الأغنياء ونسبة الفقراء، أو التحصيل الدراسي، أو متوسط الأعمار، أو سكان المدن والريف , أو نسبة الملل القوميات والطوائف من عموم سكان البلد أو أهل الأرض ، فجاءت آية البحث لتؤكد أن الأهم هو تقسيم الناس بحسب حال الإيمان والتقوى.
وفي قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) فانها لو كانت برداً وحده لجمد إبراهيم لمجئ البرد بصيغة الإطلاق ، في إشارة إلى ما يتصف به الإنسان من العقل والحكمة إذ أنه يتلقى الأمر فيمتثل بالمناسب والمعقول ويجتنب الإطلاق والعموم إذا كان الضرر مصاحباً لهما أو مترشحاً عنهما ، ويلحظ الإنسان المقدمة والسبب والغاية للفعل ولو على نحو الإجمال ومع هذا جاء القرآن بالبيان والتمييز بين المطلق والمقيد ، ومنع الإفراط والتفريط ، وكذا بالنسبة للنار فقد أمرها الله عز وجل أن تكون برداً وسلاماً بما يحفظ إبراهيم ولا يؤذيه ، ولا يتوقع أحد أن تكون وديعة عند النار وتتعاهدها وتحفظها ، وكنها المعجزة المترشحة عن المشيئة الإلهية .
وفيه دعوة للمسلمين والناس لحفظ الأمانة والرهن ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( ).
وكذا في آية البحث فلو ذكرت شراء الضلالة وحده لكانت فيه وجوه محتملة:
الأول :شراء الضلالة من غير عوض .
الثاني : دفع العوض المادي عن شراء الضلالة .
الثالث : مجئ لفظ الشراء مجازاً لأن الضلالة قبيحة ذاتاً , ولها أضرار خاصة وعامة ، فلا أحد يشتريها بل هي منبوذة ومعروضة بالعراء.
فجاءت الآية بتعيين قيمة العوض والبدل وهو أثمن شئ في الحياة وهو [الْهُدَى]بقوله تعالى [اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى]في تخل عن نعمة العقل والتمييز وإختيار الأردء بالأحسن والشقاوة بالسعادة . والنهي عنه بالمأمور به ، والقبيح بالحسن ، والحياة بالموت.
ويحتمل الضرر الذي يأتي من إختيار الكفار الضلالة وجوهاً :
الأول : حصول الضرر الشخصي ولحوق الأذى بذات الكفار .
الثاني : ترتب الأذى والضرر على أتباع وذوي المخادعين والكفار .
الثالث : حصول الضرر العام ، وتأذي الناس جميعاً من شراء بعضهم الضلالة .
والصحيح هو الوجه الثالث ، ويلحق الوجه الأول والثاني به ، ويكونا في طوله، لأن الهدى والعبادة علة خلق الإنسان بلحاظ أنه موضوع الخلافة في الأرض ، والسر الذي تتقوم به الحياة الدنيا لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، وقد تقدم في تفسير آية البحث تسمية الحياة (دار النجاة) ( ).
فان قلت كيف تكون دار نجاة , وأولئك الكفار يقومون بالأفعال الآتية:
الأول : التفريط بالهدى .
الثاني : التخلي عن الإيمان .
الثالث : دفع الهدى عوضاً لأمر قبيح وهو الكفر، قال تعالى[وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ]( ).
والجواب تفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لفضح الكفار , وزجر الناس عن إتباعهم في ضلالتهم ,ودعوتهم للتوبة والإنابة ، وتفضل سبحانه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون حرباً على الكفر والضلالة إلى يوم القيامة , فجاء لفظ [أُوْلَئِكَ]في أول هذه الآية للبشارة للمؤمنين بلحاظ أنه يفيد الإشارة للبعيد ، فيكون من معانيه :
الأول : الإزدراء للكفار والمخادعين .
الثاني : إبعاد الكفار عن التأثير على الناس .
الثالث : صيرورة الكفار في حال ضعف ووهن .
الرابع : عجز المخادعين والكفار عن منع الناس من دخول الإسلام وحسن الإيمان.
الخامس : إزاحة مفاهيم الكفر وطرد أربابه من المدينة .
السادس : ترغيب المسلمين بفتح مكة .
السابع : غياب الكفار عن الوجود الذهني للناس ، فأصبح الناس لا يخشون منهم أو يخافون وعيدهم .
الثامن : نزول البلاء بالكفار لإصرارهم على الجحود ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ترى ما المراد ب [أُوْلَئِكَ] في قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى] فيه وجوه :
الأول :إرادة المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر .
الثاني : المقصود هم المخادعون ، وبينهم وبين المنافقين عموم وخصوص مطلق ، فكل منافق مخادع وليس العكس .
الثالث : المقصود الكفار الذين ورد ذكرهم قبل آيات [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ).
الرابع : يتجلى معنى [أُوْلَئِكَ]بلحاظ الآيات السابقة ، والتي تبدأ من قوله تعالى [ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] ( ).
الخامس : المراد رؤساء الضلالة والكفر والمنافقون الذين ينكرون بحضرتهم تلبسهم بالإيمان.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق لغة العموم في الذم للكفار والمنافقين ، وأسرار إنتهاء الآيات الخمسة الأولى من سورة البقرة التي تتضمن الثناء على المؤمنين بتكرار اسم الإشارة [أُوْلَئِكَ] في قوله تعالى [أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
لتكون كل طائفة من الآيتين تتضمن اسم الإشارة [أُوْلَئِكَ] للبيان والدلالة والكشف ، ومن الإ عجاز في اسم الإشارة في آية البحث شموله لرؤساء الكفر والضلالة بقوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]( ) وتسميتهم بالشياطين دليل على بعدهم عن رحمة الله .
وإذا كانوا بعيدين محجوبين عن شآبيب الرحمة بما كسبت أيديهم، فان الذين ينفردون معهم بخلوة , وتكون مادتها هي ذات موضوع البعد عن رحمة الله وهو الكفر والجحود يستحقون ذات الجزاء.
لقد عطل الكفار والمخادعون وظيفة التدبر وجحدوا بنعمة العقل العظمى عند شرائهم الضلالة ،(وعن الإمام الصادق عليه السلام : لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، بك آخذ، وبك اعطي، وعليك اثيب ( ).
وورد ( عن ابن مسعود في قوله { اشتروا الضلالة بالهدى } قال : أخذوا الضلالة ، وتركوا الهدى ) ( ).
(عن قتادة قال : استحبوا الضلال على الهدى ) ( ).
ومن الإعجاز البياني في الآية أن إختيار الكفار الضلالة بعوض وبدل وهل البدل هو سر الحياة وأصل الوجود ، ولولا هذه الآية لم يلتفت الناس إلى هذه المصيبة الكبرى التي حلت بالإنسانية بالتفريط وجعله عوضاً لما فيه الخسارة الدائمة ، وأقصى ما يتصوره الإنسان أن الكفار إختاروا الضلالة أو إشتروا الضلالة بسعادتهم والتفريط بمصالحهم.
ولكن هذه الآية جاءت بقانون وهو أن الذي يختار الضلالة ليس أمامه إلا التفريط بالهدى وصيرورته عوضاً وبدلاً يدفعه ، ومن الإعجاز في الحياة الإنسانية وعقود البيع والشراء أمور :
الأول : إنتقال ملكية العوض والبدل إلى البائع .
الثاني : عدم عودة العوض والبدل إلى المشتري إلا في حال بطلان البيع.
الثالث : ليس من عوض مادي ظاهر ، فجاءت آية البحث لتجعل هذا العوض محسوساً وجلياً , وفيه خزي لأهل الضلالة وهو من مصاديق جعل القرآن للمدركات العقلية أموراً محسوسة .ومن الآيات في المقام أن ليس من مالك للضلالة أو مستلم للهدى الذي يبيعه الكافر ، فلا أحد من الخلائق يقبل بتلقي هذا العوض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً]( ).أي أن الكفار فرطوا بنعمة الأمانة فيتبرأ منهم إبليس ورؤساء الضلالة وشياطينهم الذين يخلون بهم ويفرون منهم ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ] ( ).
فان قلت إذن أين يذهب الهدى المباع ، الجواب يبقى معلقاً قريباً من صاحبه يحثه على التوبة ويذكره بلزوم الرجوع إليه , لذا ترى الفاسق حالما يقول (استغفر الله واتوب إليه ) يرجع له حقه وعوضه من غير وجود مشتر أو بائع يكون برزخاً دون عودة الهدى إلى صاحبه أو يضع شروطاً لهذه العودة .
ليكون من مفاهيم الآية: يا أيها الذين إشتريتم الضلالة بالهدى عودوا إلى هداكم وأخذوه فانه ملازم لكم كالظل , يأبى أن يفارقكم أو يترك جواركم إلا عند الموت ودخولكم القبر ، فحينئذ لا يدخل معكم إلا العمل الذي عملتموه في حياتكم.
ومن إعجاز الآية أنها بعد أن ذكرت شراء الضلالة ذكرت أموراً :
الأول : نتيجة شراء الضلالة .
الثاني : أضرار بيع الهدى والتفريط به .
الثالث : إطلاق إصطلاح التجارة على هذا الشراء .
الرابع : الإخبار عن الخسارة التامة وعلى نحو السالبة الكلية لشراء الضلالة .
الخامس : ثبوت حرمان المخادعين والمنافقين أنفسهم من الهداية والرشاد.
وتحتمل النسبة بين قوله تعالى [تِجَارَتُهُمْ] وبين شرائهم الضلالة وجوهاً:
الأول : نسبة التساوي فشراء الضلالة هو ذاته التجارة الواردة في هذه الآية .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق وهو على شعبتين :
الأولى : تجارة الضلالة أعم وأوسع من شراء الضلالة .
الثانية : شراء الضلالة هو الأعم والأكثر .
الثالثة : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء، وأخرى للإفتراق بين التجارة والضلالة.
وقد يقال أن المتبادر هو الأول ، والتبادر من علامات الحقيقة ،ولكن المختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني ، وفيه آية إعجازية بدبيب الخسارة إلى تجارة ومكاسب الكافرين ، فيصيب الحبط أعمالهم، قال تعالى [أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ] ( ).
ترى ما المقصود بالضلالة في الآية ، فيه وجوه:
الأول : إرادة اسم جنس يتعلق بالميل والإنحراف عن الطريق السوي وسلوك سبيل لا يؤدي إلى الغاية الحميدة المطلوبة .
الثاني : المراد المعصية والفجور وعدم الإهتداء إلى الصواب ،قال تعالى [وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا]( ).
الثالث :المقصود من الضلالة في المقام قبائح المخادعين التي ذكرتها الآيات السابقة , وهي :
الأولى : إختيار المنافقين عدم الإيمان كما ورد في قوله تعالى [وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] ( )بلحاظ كبرى كلية وهي أن بقاء المفسد على الكفر ضلالة .
الثانية :مخادعة الله والذين آمنوا وهو خلاف الأصل والفطرة وقد تجلت البراهين القاطعة بلزوم الإيمان بالله وتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بأحكام القرآن بحسن نية وقصد القربة .
الثالثة : خداع المنافقين لأنفسهم ميل عن جادة السواء وإضرار بالذات .
الرابعة : بيان قانون وفق القياس الإقتراني وهو :
الكبرى: مرض القلوب ضلالة.
الصغرى: المنافقون في قلوبهم مرض .
النتيجة: المنافقون في ضلالة .
الخامسة : إختيار المنافقين الكذب والإفتراء ، ومن الكذب إدعاء الإيمان مع بقاء الكفر مستقراً في نفوسهم ، ومنه تثبيطهم المؤمنين عن القتال، قال تعالى في ذم المنافقين [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ).
السادسة : من الضلالة تلقي العذاب الأليم بسبب سوء الفعل ومزاولة الكذب على الله ورسوله .
ترى هل من صلة بين قوله تعالى [ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا]( ) وبين الكذب الذي يجلب العذاب.
الجواب نعم لأن هذه المخادعة من الكذب والإيهام ومنها إظهار الإيمان زوراً ، وتلك آية في خلق الإنسان أن يكون المدار على ما في النفس من الإيمان أو الكفر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ) بلحاظ أن العلم الإلهي يشمل الحساب والجزاء.
فإن قلت لماذا لم يذكر ويستنطق القلب يوم القيامة كما ذكرت الجوارح في قوله تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ). والجواب هذا بيان لحال الناس في مواطن الآخرة الكثيرة إذ تتباين حالهم فيها الخاصة والعامة من حيث الإجتماع والنفرة وفرار بعضهم من بعض ، كما ورد في إحتجاج وبيان الإمام علي عليه السلام قال 🙁 ان ذلك ليس في موطن واحد وهى مواطن في ذلك اليوم الذى مقداره خمسون ألف سنة ، فجمع الله الخلايق في ذلك اليوم في موطن يتعارفون فيه ، فيكلم بعضهم بعضا ويستغفر بعضهم لبعض ، اولئك الذين بدت منهم الطاعة من الرسل والاتباع ، وتعاونوا على البر والتقوى في دار الدنيا ، ويلعن أهل المعاصي بعضهم بعضا من الذين بدت منهم المعاصي في دار الدنيا ، وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا ، والمستكبرون منهم ، والمستضعفون يلعن بعضهم بعضا ويكفر بعضهم بعضا ، ثم يجمعون في موطن يفر بعضهم من بعض ، وذلك قوله [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ]( ) .
يرفع الخاتم عن ألسنتهم فيقولون لجلودهم وأيديهم وأرجلهم لم شهدتم علينا ؟ فتقول :
أنطقنا الله الذى أنطق كل شئ ، ثم يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلايق فلا يتكلم أحد الا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، ويجتمعون في موطن يختصمون فيه ويدان لبعض الخلايق من بعض وهو القول ، وذلك كله قبل الحساب ، فاذا أخذ بالحساب شغل كل امرئ بما لديه ، نسئل الله بركة ذلك اليوم) ( ).
السابعة : إفساد المنافقين في الأرض ضلالة وميل عن طريق الهدى ، ويدل على وقوع الفساد منهم النهي الوارد في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]( ) ولو دار الأمر بين مجئ النهي للزجر والتنزه , أو صدوره بعد وقوع الفساد وتحققه واقعاً.
فالجواب هو الثاني لإصرار المنافقين على إظهار الفساد بلباس الصلاح مخادعة وتورية منهم ، وبدليل قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ] ( ).
ومن الإعجاز في آيات القرآن أن الآية أعلاه لم تحصر النهي واللوم بالزمن الماضي فلم تقل (لمَ أفسدتم في الأرض )بل جاءت بصيغة المضارع للبعث على التوبة وإرادة إصلاح المجتمعات وتهذيب النفوس وهو من مصاديق الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتناجى الناس بالصلاح ومفاهيم التقوى وترك الضلالة والفساد .
الثامنة : تبين الآية أعلاه أن الضلالة لا تختص باختيارها إبتداءًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً فتشمل العناد والإصرار على الجحود والإمتناع عن قبول النصح ، لذا لم تقل آية البحث (الذين إختاروا الضلالة وتركوا الهدى ) بل ذكرت وقوع الشراء الذي يدل على الرغبة بالضلالة وحرص المخادعين على التلبس بها لدرجة أنهم دفعوا أغلى ثمن عوضاً لها .
التاسعة :الكذب بإدعاء الإصلاح ضلالة ، فالأصل هو النهي عن الفساد , وتلقيه بأمور :
الأول : الإقرار بالفساد أو السؤال عن أفراد الفساد المنهي عنها .
الثاني : الإستجابة والإمتثال .
الثالث : الشكر للناهي عن الفساد والمنكر .
الرابع : الدعوة إلى الإصلاح ونبذ الفساد، ولكن المنافقين قابلوا نهيهم عن الفساد بإدعاء الإصلاح , وهو من ضروب الإصرار على الفساد وإرادة تحريف الحقائق , وتغيير المفاهيم العقائدية والأخلاقية التي جاهد الأنبياء والصالحون في بناء صرحها وتثبيت معالمها في الأرض.
فجاءت آية البحث تتمة لجهاد الأنبياء والصالحين وعوناً في فضح المنافقين والكفار وهو من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً بناء فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها ، فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين) ( ) .
وذات المعنى وحديث اللبنة وحجر الزاوية ورد على لسان عيسى بن مريم في الكتاب المقدس (قال لهم يسوع اما قرأتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في اعيننا
لذلك اقول لكم ان ملكوت الله ينزع منكم و يعطى لامة تعمل اثماره
ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه
ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون امثاله عرفوا انه تكلم عليهم)( ).
ليكون الحديث أعلاه من مصاديق ما ورد في التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
العاشرة : هل قول المنافقون [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( )من الضلالة المستترة ،أم أنه خارج عنها بالتخصيص بلحاظ ذكرهم لمفردات الصلاح وما فيه من إظهارها والترغيب فيها .
الجواب هو الأول ، وهو من وجوه شدة ضرر المنافقين على الرسالة والدعوة إلى الله عز وجل لما في قولهم هذا من تحريف لمفاهيم الصلاح وسنن التقوى والرشاد .
وأيها أشد ضرراً عند توجيه اللوم على الفساد :
الأول : الإقرار بالفساد .
الثاني : الإصرار على الفساد وإظهار العناد .
الثالث : إدعاء الإصلاح كذباً وزوراً.
الصحيح هو الثالث ، وهو من خصائص النفاق ومصاديق الضلالة وحب الإقامة عليها ، لذا جاءت الآية التالية بنقض دعواهم بقوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ] ( )لبيان إتصافهم بالفساد وتلبسهم بمزاولته ، وإمتناعهم عن الإقلاع عنه والتوبة منه .
الحادية عشرة :تضمن قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ]( ) القطع بثبوت ضلالة المخادعين وتفريطهم بالهدى ،للتباين والتضاد بين الهدى والفساد , وهذا التباين من أسرار لجوء المسلمين والمسلمات إلى الدعاء والإستغاثة بالله عز وجل للسلامة والعصمة من الفساد بتلاوتهم كل يوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
وتحتمل النسبة بين الفساد والضلالة وجوهاً :
الأول : الضلالة أعم من الفساد .
الثاني : نسبة التساوي بين الضلالة والفساد .
الثالث :الفساد أعم من الضلالة .
الرابع :نسبة العموم والخصوص من وجه، وأن هناك مادة للإلتقاء بين الضلالة والفساد ، ومادة للإفتراق بينهما .
الخامس : التباين بين الفساد والضلالة .
والصحيح هو الأول ، فالضلالة أكثر قبحاً وأضراراً من الفساد، وهي كيفية نفسانية , وأصل للفساد لذا لم تقل آية البحث (اشتروا الفساد) بل ذكرت شراءهم الضلالة وإرادة ما يتفرع عنها من سوء السريرة ومذموم الأفعال .
الثانية عشرة : من الضلالة عدم شعور المنافقين بصيغة الفساد الذي يفعلونه والذي يدل عليه قوله تعالى [وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ]( )، وعدم الشعور هذا من الضلالة وفيه شاهد على الملازمة بين الهدى ومعرفة الفعل والتمييز بين الصالح والطالح ، وإتيان الأول وإجتناب الثاني ، فيكون من نتائج بيع المخادعين الهدى أمور :
الأول : قيامهم بالفساد في الأرض .
الثاني : الإصرار على الفساد .
الثالث : إدّعاء المنافقين الإصلاح في ذات الوقت الذي يرتكبون فيه الفساد.
الرابع : عدم الشعور بالفساد الذي يعملون ، ولا بتلبسهم بصفة الفساد ، فتفضل الله عز وجل وأخبر بأنهم فاسدون .
الثالثة عشرة : من الضلالة إخبار الآية عن لقاء المخادعين للمؤمنين وبصفة الغيرية التعددية وإدعائهم الإيمان سخرية ومكراً ليفرح المؤمنون بإعلانهم الإيمان ويطمئنوا لهم ويركنوا إليهم ، فيأتي الأذى والغدر منهم.
الرابعة عشرة : من الضلالة التي عليها المنافقون سوء الرد على الدعوة إلى الإيمان , ولم يكتفوا بالسكوت أو إعلان الإيمان الظاهري، بل قاموا بالسخرية بالمؤمنين والنيل والإنتقاص منهم , وهو من أسرار مجئ الآية بعد التالية بقوله تعالى[اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] ( )، بلحاظ أنهم نعتوا المؤمنين بالسفهاء بسبب إيمانهم وإختيارهم طريق الحق، ليكون إستهزاء الله بالمنافقين والمخادعين من مصاديق ولاية الله للمؤمنين ونصرته لهم، قال تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا] ليكون من أسماء المنافقين المفسدين والسفهاء.
ومن الآيات أن هذين الإسمين سماهم الله عز وجل بهما، فهما باقيان إلى يوم القيامة وكل واحد منهما حجة بذاته، وحجة بالإنضمام إلى غيره، وسنخية مستقرة من صفات المنافقين بما يجعل النفوس تنفر منهم ومن سيرتهم.
كفاية القرآن عن المنهج التجريبي وتضمنه له
في بدايات القرن السابع عشر ظهر في أوربا بما يسمى بالمنهج التجريبي الذي يعتمد على المشاهدة والتجربة في باب الإجتماع والفلسفة ولكنه ليس بجديد بل هو مصاحب للإنسانية خاصة في الصناعات والحرف، وعالم الطب.
والمنهج التجريبي هو الطريقة التي تبدأ من الوقائع لإيجاد قانون وفروض في العلاقة بين الظواهر التي تشملها التجربة وموضوعية قانون السبب والمسبب، وإستنساخ قواعد كلية ومبادئ أولية في مراحل ثلاثة هي:
الأولى : مرحلة التعريف والتصنيف والترتيب، والتي تتضمن النظر والمشاهدة.
الثانية : مرحلة التحليل , وتتعلق بالروابط والصلات والتداخل أو التنافي بين الأشياء بلحاظ الوقائع والتجارب.
الثالثة : مرحلة التركيب، وهي مرحلة تنظيم القوانين والقواعد بلحاظ نتائج التجارب والحوادث.
ومن إعجاز القرآن مجيؤه بالصيغ العلمية والعقلية لبيان قوانين الإرادة التشريعية ، ووصف أحوال الناس في باب العبادات والمعاملات والأحكام، ويكون المنهج التجريبي في طول هذه الصيغ من غير أن يتعارض معها، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ولتقريب الناس من منازل الطاعة وسنن العبودية، فجاءت هذه الآية بأحكام قطعية، وبيان صفات للمخادعين التي تتجلى في حياتهم اليومية.
فالقرآن رائد العلم التجريبي والحسي , ولكنه مترشح عن قوانين كلية، تتضمن التحدي في صدقها ودلالتها وتجعل العلم التجريبي شاهد صدق عليها، وليس موضوعاً يبتدأ به العلم، ليوصل المنهج التجريبي الإنسان إلى صدق نزول القرآن من عند الله، وكفايته والغنى بآياته عن المنهج التجريبي كباب للتشريع وسن القوانين وتفيد قوانين القرآن الثبوت والصدق في كل زمان ولكن القواعد والقوانين الإجتماعية المستقرأة من المنهج التجريبي لا تلائم إلا فريقاً من أهل زمانها بلحاظ التباين في العرف والعادات والسنن الأخلاقية.
ومن الإعجاز في آيات البحث أنها ذكرت قوانين كلية في وصف المنافقين تنطبق عليهم في كل زمان ومكان، وتمنع من الإجتهاد في الحكم الذي يترشح عن المنهج التجريبي ,
ومن إعجاز القرآن عدم إيجاد هذا المنهج موضوعية وشأناً له عند علماء الإسلام بما فيهم علماء الإجتماع لأن القرآن مدرسة الأجيال إذ جاء بالقوانين الأخلاقية التي تحكم سنن الحياة الإنسانية سواء في العبادات أو المعاملات أو الأحكام.
وتضمن القرآن قصص الأنبياء والأمم السابقة بما يفيد العبرة والموعظة في الصبر والسعي الدؤوب في طاعة الله عز وجل، وضروب الإبتلاء التي نزلت بالكافرين والشواهد الجلية التي تهدي إلى سواء السبيل , وتزجر عن النفاق والكفر والضلالة .
فبّين الله عز وجل قانوناً في القرآن وهو أنه جعل الحياة الدنيا مناسبة للإعتبار بما يغني عن التجربة وأضرارها العرضية ليكون المؤمن في حالة يقظة وإنتفاع على نحو دائم من التجربة، قال تعالى[قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
مرض القلوب
قد تقدم قوله تعالى[فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] في ذم المنافقين وجاءت هذه الآيات لتبين أن مرض القلوب على ضروب منها الرياء في إدعائهم الإيمان زوراً بحضرة المؤمنين، ومنها الحسد والكبر والعجب كما في قوله [أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]( ).
وجاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بذم الكبر والتعالي , لتكون مدخلاً للتواضع والإيمان , قال تعالى[وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ]( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الصَّغَارِ حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ فَتَعْلُوَهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ( ).
ومن إعجاز هذه الآيات وجوه:
الأول : إرادة إصلاح المنافقين، ونبذهم أمراض القلب وإنعكاساتها الظاهرية.
الثاني : إنذار الناس جميعاً من الإمتناع عن الإنقياد للحق , والتسليم بالمعجزة , والتحذير من إزدراء الذين يتبعون الهدى.
ومن إعجاز هذه الآيات تعدد مضامينها , وبيان وجوه القبح والسيئات التي يرتكبها المنافقون والمخادعون ومجئ ذمهم من عند الله عز وجل وعند خاتمة كل آية تقريباً، وإذا لم يأت ذمهم في آخر الآية فانه يرد في الآية التالية كما في قوله تعالى[اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ] ( )، إذ جاءت الآية كلها تبكيتاً وتوبيخاً من عند الله للمخادعين، ومع هذا فان هذه الآيات لم تذكر النار جزاء وعقاباً للمنافقين والمخادعين، وفيه آية إذ أن آيات القرآن في أولها وبدايات نظمها فأراد الله عز وجل فيها البيان والإصلاح.
نعم ورد قبل ست آيات قوله تعالى[وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]( )، للتذكير بالآخرة والإخبار السماوي عن قانون كلي وهو الملازمة بين التكذيب والعذاب الأليم.
الثالث : الثناء على المؤمنين، وشكر الله عز وجل لهم لإنصياعهم لأوامر الله ورسوله، ومسارعتهم في الخيرات، وسلامتهم من الذم الوارد في هذه الآيات.
الرابع : إرادة رفعة شأن المؤمنين بين أهل الأرض، والحط من قدر المنافقين، ومنع الناس من إكرامهم، لذا ترى هذه الآيات تصف رؤساء الضلالة بالشياطين ونسبتهم إلى المنافقين (شياطينهم) لبعث النفرة في نفوس الناس من الطرفين، وجعلهم في حال حذر وحيطة منهم، وهذه الحيطة مقدمة للإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله، وباعث للتدبر في البراهين القاطعة التي تدل على صدق نبوته والتي تتجدد في كل زمان .
وهل آيات البحث هذه من تلك المعجزات الجواب نعم، من جهات:
الأولى : المضامين القدسية لهذه الآيات ،وضروب البلاغة فيها.
الثانية : دلالات كل آية منها.
الثالثة : الأثر والنفع العظيم لهذه الآيات.
الرابعة : الشواهد والمصاديق الواقعية لكل آية.
الخامسة : تضاؤل عدد المنافقين، وهذا التضاؤل يحتمل وجوهاً:
الأول : إختيار المنافقين الكفر الصريح بعد كشف هذه الآيات لخفايا نفوسهم , وما فيها من داء الحسد والكبر، بلحاظ أن الحسد يأكل القلب ويجعل الضلالة تستحوذ على الجوارح.
الثاني : إنشطار المنافقين إلى ثلاثة شعب:
الأولى : فريق يختار الإيمان الصادق.
الثانية : طائفة تختار الجهر بالكفر والجحود.
الثالثة : بقاء جماعة، على حال النفاق، وإخفاء الكفر والجحود.
الثالث : من بركات هذه الآيات وتوالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تخلص المنافقين من داء القلوب، وتوبتهم إلى الله عز وجل، وإقرارهم بنزول القرآن، وتفانيهم في طاعة الله ورسوله، إلا القليل منهم الذين تبقى هذه الآيات تلاحقهم وتفضحهم وتخزيهم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ ، لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِى الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ( ).
أصالة الهدى : علم أصولي جديد
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وأمر إبليس بالهبوط مع آدم وحواء إلى الأرض ليكون سبباً ومادة وموضوعاً للإفتتان, وللنكاية به برؤيته المؤمنين في صلاحهم وتقواهم، ولعنهم له بكرة وعشياً , ويكون الأصل في حال الإنسان على وجوه محتملة:
الأول : الهدى , وتلقي الآيات والمعجزات بالقبول.
الثاني : الغواية والضلالة.
الثالث : الأصل أن الإنسان كالصحيفة البيضاء ،وهو الذي يختار الهدى أو الضلالة .
والصحيح هو الأول , وتدل عليه هذه الآية , وفيه بيان للناس , وهل من أثر يترتب على أصل الهدى في باب التوبة والإنابة، الجواب نعم من وجوه:
الأول : إنجذاب النفس إلى الإيمان ومفاهيمه , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
الثاني : إقامة الحجة على الناس , ومنعهم من الجدال بالباطل والمغالطة.
الثالث : التخفيف عن بني آدم وإصلاحهم لفعل الخيرات.
الرابع : جعل الأصل هو الهدى من اللطف الإلهي بالناس، وسعة رحمته سبحانه، وفيه واقية من وسوسة إبليس.
الخامس : إستدامة الشوق إلى الإيمان في نفس الإنسان، والميل إلى المؤمنين، والنفرة من إيذائهم وصدهم عن أداء العبادات.
السادس : تذوق الإنسان حلاوة الإيمان ،وإحساسه بالبهجة المترشحة عن الهدى.
السابع : تيسير طريق التوبة والإنابة والترغيب فيه.
الثامن : إعراض الناس عن أهل الغواية والضلالة.
التاسع : تجلي مفاهيم القبح الذاتي للنفاق، وفضح المنافقين .
ويدل على أصالة الهدى قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بلحاظ الملازمة بين الخلق والهدى، فتأتي مقدمات الضلالة على نحو عرضي فيشتريها بعض الناس بالأصل وهو الهدى، فلذا ذمهم الله عز وجل على هذا الشراء، وقال سبحانه[إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً]( ).
إن مبحث (أصالة الهدى) علم جديد تتفرع عنه دراسات متشعبة، وتتجلى فيه مضامين قدسية من جهات:
الأولى : بيان فضل الله عز وجل على الناس، على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي والبدلي.
الثانية : دعوة الناس للشكر لله عز وجل على نعمة أصالة الهدى.
الثالثة : بيان قانون كلي وهو أن الله عز وجل هو القوي الذي له المشيئة المطلقة في الخلق.
الرابعة : الإنذار والوعيد على الجحود وبهذا الأصل المبارك.
الخامسة :تأكيد فوز المسلمين بهذه النعمة إذ أنهم يتلون عدة مرات كل يوم وعلى نحو الوجوب العيني (الحمد لله رب العالمين) ( ) فإن قلت إن نعم الله عز وجل على الإنسان أكثر من أن تحصى، ولا دليل على تغشي هذا الحمد والثناء لكل نعمة , وقد يكون الأصل هو لزوم شكر الله عز وجل على كل نعمة على نحو التعيين والإختيار.
والجواب إن الله عز وجل يرضى بالقليل على الكثير الذي يعطيه، وينمي هذا القليل ليكون علة لكثير آخر ومتجدد من النعم الظاهرة والباطنة.
السادسة : ترشح نعمة التمسك بالنبوة والقرآن ونهج الصراط المستقيم وأداء الفرائض والمناسك عن أصالة الهدى، وهو مصاديق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
السابعة : ملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للفطرة وأصل الخلق، وفيه آية وهي تلقي الطرف الآخر وهو المأمور أو المنهي لذات الموعظة والنصح بالقبول وعدم النفرة ولا عبرة بالقليل النادر، نعم قد تجد الصدود والإعراض من الذي إشترى الضلالة بالهدى وأصر عن الكفر والمخادعة، وجئنا بالحرف (قد) أعلاه لإفادة التقليل ولبيان عدم الملازمة بين أمور :
ألأول : شراء الضلالة
الثاني :الصدود عن الموعظة .
الثالث :الإعراض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهو من ثمرات أصالة الهدى التي تتصف بخصوصية وهي أن الضلالة وشراؤها لا يأتي على ذات الهدى وسنخية الإيمان عند الإنسان لذا قال تعالى[وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ]( )، وتتصف الغشاوة بالرقة وأنها لا تحجب الرؤية على نحو السالبة الكلية، كما أن أصالة الهدى تمنع من طرو السُمك على تلك الغشاوة لذا جاءت الآية لمنع إستدامة هذه الغشاوة ولإزاحتها من على الأبصار والبصائر، فأصالة الهدى تتعدى المفهوم الأصولي لتبقى راسخة متجددة وإن طرأ بالعرض نقيضها.
وتبين آيات الهدى قانوناً ثابتاً وهو أن الأصل هو الهدى وأن النشأة والحياة الدنيا تتقوم بالهدى وهو من فضل الله عز وجل على الإنسان ومصاديق الخلافة في الأرض والنفخ الروحي، قال تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( ).
ويبين قوله تعالى في ذم الكفار والمنافقين [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى]( )أن رأس مال الإنسان هو الهدى والإيمان وهو من رحمة الله عز وجل بالناس ومعاني الخلافة في الأرض ، وجعل بعضهم يدفع بعضهم الآخر عن منزلق الجحود والضلالة ، ويجذبه إلى مقامات الإيمان والصلاح .
وتتضمن الآية أعلاه تذكير الناس بنعمة الله عليهم مجتمعين ومتفرقين ، وأن كل واحد منهم جاء إلى الدنيا ومعه كنز الهدى النافع للبصر والبصيرة , والمانع من الغواية والضلالة ، ويغبط الناس أحدهم إن جاءه ميراث وتركة كبيرة بينما تفضل الله عز وجل وجعل عند كل إنسان حرز وسلاح وخزينة الهدى وما يجلبه من الغنى الذاتي والثواب العظيم ، وهو نعمة تترشح عنها في كل آن نعم عظيمة وتبتنى عليها سنن عقائدية , قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
وتكون أساساً لمباحث أصولية ، إذ يجب على علماء الأصول التدبر في القرآن والرجوع إلى آياته أولاً لإستنباط القواعد والأحكام بعد الجمع الموضوعي بينها , والأعلمية بعلوم القرآن والفقه , فمثلاً ذهب المشهور إلى تكليف الكفار بالفروع وهو المختار ومن خالف كأبي حنيفة قال بأنهم غير مكلفين بالفروع وإستدللت على المختار بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، لصيغة العموم بالتكليف بالحج.
فلم تأت الآية بصيغة المؤمنين أو المسلمين ، ولم تقل (ولله على الذين آمنوا حج البيت ) ليكون من أسرار الآية أعلاه ان الخطاب التكليفي بالحج يتوجه إلى الكافر المستطيع لما عنده من النعم من الله عز وجل وأسباب الإستطاعة وإن لم يقبل لشرط قصد القربة, لتكون حجة عليه وشاهداً على خسارة تجارته لشرائه الضلالة , ولا يتوجه ذات الخطاب للمسلم الذي لا يملك الزاد والراحلة لإنتفاء الواجب المشروط بإنتفاء شرطه.
ومن الإعجاز في المقام أنه لم تمر سنوات قليلة على هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى صار المسلمون في حال غنى وسعة، وكسدت تجارة قريش وإنشغلوا عنها بالظلم والتعدي على المؤمنين وثغر الإسلام إلى أن لحقهم الخزي.
ومن منافع علم أصالة الهدى موضوعيته في قصد القربة , وأولويته عند الشك الإبتدائي أو الطارئ بخصوص إيمان الأفراد , وأهليته لتفرع علوم عديدة عنه , وبيان قانون في علم الأصول وهو أن الضلالة أمر عرضي وتشترى بالعوض والأصل.
البيان في قوله تعالى [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ]
لقد بينت هذه الآية قانوناً كلياً بأن [الهدى]هو رأس المال الذي جعله الله عز وجل عند الإنسان ، فلم يخرجه الله عز وجل إلى الدنيا خالي الوفاض ( )، بل جعل عنده ما يصلحه لأمور الدين والدنيا ، ويقوده إلى اللبث الدائم في الجنة وهو سلاح الهدى ، ولكن شطراً من الناس فرط بهذا السلاح وباعه بثمن بخس، وصحيح أن الآية وردت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن الإنشاء من وجوه :
الأول : حث المؤمنين على تعاهد الإيمان من جهات :
الأولى : صدق الإيمان في نفوسهم وتثبيته في صدورهم .
الثانية : الإجتهاد في تعاهد الإيمان والبقاء على نهج الصراط المستقيم ، قال تعالى [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( ).
الثالثة : تنمية ملكة الإيمان في نفوس الأبناء والذرية ، لذا ورد إستحباب تعليم الناشئة الصغار على الصلاة والتلاوة (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ، وفرقوا بينهم في المضاجع) ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : الغلام يلعب سبع سنين ، ويتعلم الكتاب سبع سنين ، ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين)( ).
الرابعة : حمل راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعل [الهدى] موضوعاً وسلاحاً وغاية فيه .
الثاني : دعوة الناس لإستحضار فضل الله عليهم من جهات :
الأولى : صيرورة الهدى هو الأصل في سنخية الإنسان .
الثانية : تفضل الله بتذكير الناس بنعمة الهدى والإيمان .
الثالثة : وجود أمة مؤمنة وأتباع أنبياء في كل زمان يدعون الناس إلى الهدى وإن كانوا فئة قليلة بين ظهرانيهم إلى أن أنعم الله عز وجل على أهل الأرض برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وصدح المسلمين بتلاوته خمس مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب ، وهذه التلاوة من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الثالث : زجر المخادعين وبيان أمور :
الأول : بيان قبح أخلاق النفاق المذمومة .
الثاني : لزوم إجتناب الإستهزاء بالمؤمنين .
الثالث : دعوة الناس للتوقي والحذر من المخادعين وسوء فعلهم ومكرهم.
وجاءت الآية بلفظ التجارة، والمراد منه على وجوه :
الأول : إرادة الحقيقة , وأن الخسارة تصيب تجارة ومكاسب المخادعين نتيجة تخليهم عن الهدى , وإمتناعهم عن سنن الصلاح والتقوى .
الثاني : بيان العقوبة العاجلة على الإستهزاء بالمؤمنين وهي كساد التجارة .
الثالث : المراد بالتجارة في المقام شراء المخادعين الضلالة ،أطلق عليها لفظ التجارة مجازاً .
الرابع : المقصود هو المعنى اللغوي للشراء، وهو الميل لأن المشتري يأخذ شيئاً بعوض ، وهذا الأخذ دليل الرغبة والميل إليه ، والحرص على إقتنائه .
الخامس : بيان قانون كلي , وهو ملازمة الخسارة لكل من يفرط بأصل الهدى .
وفي الآية دلالة على أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأن الإنسان في حال تجارة متصلة يجب عليه أن يطلب الربح والنفع ، ولكن الكفار والمخادعين أضلوا الطريق ، لتخبر الآية عن إختيارهم الضلالة عن قصد وعمد .
ولا تعارض بين هذه الوجوه أعلاه ، وكلها من مصاديق الآية.
وفي الفاء من [فَمَا رَبِحَتْ]وجوه :
الأول : إرادة التعقيب وإنعدام الفترة ، فحال إختاروا الضلالة وباعوا الهدى تحققت خسارتهم وإنعدام الربح عندهم وأخذوا يشعرون بالأذى والحسرة ، ولما جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن إنتفاء الشعور عند المخادعين كما في قوله تعالى [وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( )،[ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ]( ) تفضل الله عز وجل وإبتلاهم بخسارة تجارتهم ليشعروا بسوء حالهم وقبح الضلالة التي هم عليها وهو من مصاديق قوله تعالى [سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] ( ) بأن يجذب الله عز وجل الناس إلى منازل الإدراك والشعور بوظائفهم العبادية وما عليهم تركه.
الثاني : تفيد الفاء معنى الجزاء , فبشارة المخادعين أن رماهم الله بخسارة التجارة ، وجعل حياتهم ضنكاً وبؤساً .
الثالث : تجلي قانون السببية في نظم الآية ، ووجود المقتضي وفقد المانع ، إذ أن الخسارة لا تنفك عن الضلالة وشرائها ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : شراء الضلالة تجارة خاسرة .
الصغرى : المخادعون إشتروا الضلالة .
النتيجة : المخادعون تجارتهم خاسرة .
ومع أن قوله تعالى [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] ذم سماوي خالص للمنافقين والكفار فان المسلمين ينتفعون منه , من وجوه :
الأول : تأكيد حسن إختيار المسلمين ، وسلامة نهجهم .
الثاني : فوز المسلمين بالربح في تجارتهم مع الله عز وجل ، ويحتمل هذا الربح وجوهاً :
الأول : الربح الدنيوي .
الثاني : السلامة من عذاب البرزخ .
الثالث : الثواب العظيم في الآخرة .
وكل هذه الوجوه الثلاثة صحيحة ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “يتبع الميت ثلاثةٌ، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله) ( ).
الثالث :يمكن إستنباط قانون من آية البحث وهو ( الدنيا دار التجارة ) مع بيان ضروب التجارة فيها ، وأسباب الربح والخسارة ، وتعيين الذين أصاب الخسران تجارتهم وهم الكفار والمنافقون .
ومن أقسام التجارة والبيع والشراء في الأسواق المضاربة , وهي إشتراك شخصين أو طرفين بالتجارة والكسب ليكون المال من أحدهما والعمل من الآخر ، ويقسم الربح بينهما بالنسبة وحسب الشروط ، وهل في تجارة الآخرة مضاربة ز
الجواب نعم ، ومن مصاديقها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومجئ الثواب للآمر بالصلاح والمستجيب , وإذا كانت المضاربة في التجارة تنقطع باسترداد أو ذهاب رأس المال ، أو موت أحد الطرفين ، فان المضاربة في سنن التوحيد وأحكام الحلال والحرام تنمو وتترشح عنها المنافع إلى يوم القيامة ، ويأتي الربح والغنيمة حتى بعد مغادرة صاحبها الدنيا .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لابن السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِى صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ) ( ).
الرابع :إخبار الآية عن خسارة تجارة الكفار مما يزيد المسلمين إيماناً ويقيناً وتفقهاً في الدين لمعرفتهم للملازمة بين الرزق الكريم والتقييد بأحكام الشريعة .
الخامس : سلامة المسلمين من الشقاق بسبب الكسب المادي والغنائم ومعاملات البيع والشراء اليومية في الأسواق , للتسليم بأن التجارة والربح في التقوى ، ويوم حنين أعطى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المؤلفة قلوبهم من الغنائم كل واحد مائة ناقة فاحتج الأنصار فجاءتهم الغنيمة العظمى بالثناء النبوي عليهم والباقي إلى يوم القيامة ، (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمَرٍو فِي الْآخِرِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ سُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ وَهُمْ يَذْهَبُونَ بِالْمَغْنَمِ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَتَّى فَاضَتْ فَقَالَ أَفِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ قَالُوا لَا إِلَّا ابن أُخْتِنَا قَالَ ابن أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ ثُمَّ قَالَ أَقُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا قَالُوا نَعَمْ قَالَ أَنْتُمْ الشِّعَارُ وَالنَّاسُ الدِّثَارُ أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى دِيَارِكُمْ قَالُوا بَلَى قَالَ الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَهُمْ وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَقَالَ حَمَّادٌ أَعْطَى مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ يُسَمِّي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ) ( ).
السادس :خسارة تجارة المخادعين والكفار امارة على إصابتهم بالجبن والخور ، ومقدمة لهزيمتهم في ميادين القتال .
السابع : في ورود الفاء في [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ]إنذار للكفار والمخادعين بأن الخسارة والخزي مصاحبان لهم ، أما الخسارة فقد ذكرتها هذه الآية ، وأما الخزي فيتجلى من معانيها بلحاظ أن خسارة التجارة على نحو السالبة الكلية خزي ومادة للذل والهوان ، فلم تقل الآية (فما ربحت تجارة لهم ) بل جاءت بصيغة الإطلاق التي تدل عليها لغة الإضافة في [تِجَارَتُهُمْ].
الثامن : من مصاديق قوله تعالى [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] الوعد للمسلمين بأن الدول العظمى آنذاك كالدولة الرومانية والفارسية لن تنصر المخادعين ، ولا تبعث الرجال والعدة والمؤون لهم ، وفعلاً فقد ذهب بعضهم إلى ملك الروم وملك اليمن وغيرهما ولم يجدوا عوناً أو ناصراً .
التاسع : يتقوم الجيش ويستديم الإستقرار في المجتمع بالتجارة والإقتصاد لتخبر الآية عن إنهيار النظم الإقتصادية في مجتمعات الكفار والمخادعين حالما يختارون الضلالة ، ومن الشواهد عليه ما أصاب تجارة قريش من الكساد وإنعدام الأمن في طرقها ومسالكها وإنشغالهم عنها ، وصيرورتهم في ضائقة مالية وقلة مؤون وإنقطاع التجارة عنهم , ومن اسبابه الحصار الذي فرضه نفر من المسلمين كما في ثمامة بن أثال وهو من رؤساء الأحناف وكان من قصته أنه عرض لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مشرك فاراد قتله ثم دخل المدينة المنورة في طريقه إلى العمرة مع بقائه على الشرك ، فأخذه الصحابة وأتوا به إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأمر بربطه إلى أحد اعمدة المسجد ومرّ عليه فقال له : مالك يا ثمام هل أمكن الله منك ، فقال : قد كان ذلك يا محمد ، أن تقتل تقتل ذا دم وأن تعف تعف عن شاكر ،وإن تسأل مالا تعطه ، وهكذا وفي يوم الثالث قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أطلقوه فقد عفوت عنك يا ثمام) ( ).
وفيه قراءتان :
الأولى : ذا ذم من الذمام والعهد ، خاصة وأنه دخل المدينة آمناً في طريقه إلى العمرة .
الثانية :ذا دم وفيه معنيان :
الأول :إرادة الوعيد وأنه ملك يأخذ قومه بثأره.
الثاني : إرادة معنى الشفاء بدمه لأن العرب تظن أن دم الملوك شفاء من داء الكلب وينسب الجاحظ في كتابه الحيوان إلى الفرزدق :
مِنَ الدارميِّين الذين دِماؤهم … شِفاءٌ من الدَّاء المجنّة والخبْلِ( ).
الثالث :أراد ثمامة إظهار الذل والضعف وأنه يذبح كالحيوان الذي يجري دمه ولا ينتفع منه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتنزه عن قتله ويذهب ما في صدره من الغيظ إتجاهه ، والصحيح هو الثالث لأنه في حال الأسر والمسكنة وربط على سارية في المسجد ثلاثة أيام من دون شفاعة ولا نصرة ، ولما ورد عن أبي هريرة حينما قال ثمامة للنبي محمد صلى الله وآله وسلم 🙁 يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وإن تعف تعف عن شاكر وإن تسأل مالا تعطه (فمضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتركه حتى إذا كان الغد مر به فقال مالك ياثمام فقال خيرا يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وإن تعف تعف عن شاكر وإن تسأل مالا تعطه) ثم انصرف عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعلنا المساكين نقول بيننا ما نصنع بدم ثمامة والله لاكلة من جزور سمينة من فدائه احب الينا من دم ثمامة)
فخرج من المسجد واغتسل وتطهر وعاد ليعلن إسلامه ، ثم سأل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يسيره إلى العمرة فاذن له ، ولما سمعت قريش باسلامه وحديثه عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته قال قائل صبأت يا ثمامة , قال لا , ولكن أسلمت , وقال لهم وهو لا يزال في مكة وبين ظهرانيهم والذي نفس ثمامة بيده لا تأتيكم حبة من اليمامة وكانت بالنسبة لمكة كالريف للمدينة حتى يأذن فيها رسول الله فلم يقدروا على إيذائه خشية من قومه ، وللضعف والوهن الذي لحق قريشاً ، فامر قومه فمنع الحنطة والميرة عن قريش حتى أكلوا الجلد ، وفيه استجابة من عند الله عز وجل لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (اللَّهُمَّ أَعِنِّي بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ) ( ).
العاشر : يحث مقام الفاء في الآية المسلمين والناس على التدبر بآيات القرآن والربط بينها وبين قوانين الإرادة التكوينية والتشريعية ، وكيف أن أبواب الربح تنغلق بوجه الذين يختارون العناد والجحود والضلالة .
الحادي عشر : من أسرار قوله تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]( ) أن الحرف القرآني الواحد دعوة إلى الإسلام ، وزاجر عن النفاق والكفر ، كما في الفاء في قوله تعالى [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] إذ أنه دعوة للإسلام لملازمة الخسارة للذين يصرون على الكفر ، ولعدم وجود مدة أو فترة بين إختيارالضلالة وبين الخسارة والخزي والتبكيت فمن معاني الفاء التعقيب في مقابل (ثم) التي تفيد التراخي ، كما يقال : (رأيت هلال رمضان فصمت ) فليس ثمة يوم بين رؤية الهلال وبين الصيام وفي نوح عليه السلام , قال تعالى [فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ] ( ).
إذ تكرر حرف العطف والتعقيب الفاء في الآيات أعلاه خمس مرات لبيان سرعة إستجابة الله عز وجل لرسله وإنبيائه وشدة بطشه بالكافرين عندما يؤذون الأنبياء ، وكذا في آية البحث فعندما قامت ببعثة ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله الحجة على الناس بوجوب الإيمان , وإختار قوم شراء الضلالة وترك الهدى ، تركاً وجودياً عن قصد وعمد رماهم الله عز وجل بالخسران المبين ، وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين بلحاظ الجمع مع الآيات أعلاه من سورة القمر من وجوه :
الأول : دعا نوح عليه السلام الله عز وجل وشكا له قومه ، وقهرهم له ، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان الله عز وجل إبتلى المشركين والجاحدين بنبوته بخسارة التجارة من غير ان تذكر الآية دعاءه عليهم ، وروي عن عبد الله بن عمر (ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم [رب إنهن أضللن كثيرا من الناس] ( ) وقال عيسى [إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
فرفع يديه فقال اللهم أمتي أمتي وبكى صلى الله عليه وآله وسلم فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فاسأله ما يبكيه فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك) ( ).
نعم ورد في دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يخص بعض أقطاب الكفر من قريش ممن لا يرجى إيمانه ، مثل عقبة بن أبي هيط وأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة لشدة إيذائهم وغوايتهم للناس وقتلوا يوم بدر على كفرهم ، وهذا الدعاء النبوي مستقرأ من قوله تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ] ( ) لعلم الله عز وجل بموته على كفره والجحود ، ومن منافع هذا الدعاء تحذير وإنذار الناس من إتباع رؤساء الضلالة والغواية .
الثاني : كانت قريش تؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقول : (رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) ( ).
الثالث : لم ينج من أهل الأرض عند الطوفان إلا نوحاً عليه السلام ومن معه في السفينة ، قال تعالى [فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) لتكون موعظة وعبرة وزاجراً للذين يصرون على الكفر ويجحدون بالنبوة .
ومن أسرار الإطلاق في قوله تعالى أعلاه [وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ] أنه في كل جيل وزمان تخرج أخبار ودراسات وإكتشافات جديدة بخصوص سفينة نوح وبقاياها وموضوعها وطولها , ولا تنحصر ببلد دون آخر وأظهر الروايات أنها رست على جبل الجودي في مدينة الموصل ، والجودي جزء من تلال صغيرة ليسهل على أصحابها الهبوط إلى الأرض ، وقرب الجودي جبلان بركانيان .
الثاني عشر :في مجئ (الفاء ) إنذار عاجل للكفار والمخادعين بأن الخسارة نازلة بساحتكم ، وليس من برزخ بينكم وبينها ، وهل في الآية تحذير من الشركة مع الكفار والمخادعين , الجواب نعم ، لحمل الكلام على ظاهره وإرادة المعنى العم من مفاهيم التجارة .
الثالث عشر :ورود الفاء في الآية رحمة من عند الله بالناس جميعاً إذ أنها تفسير وبيان للمصائب العاجلة التي تحل بالكفار والمخادعين ، فلا يبقى المؤمنون في خوف وفزع من التعرض لذات الخسارة ومقدمات الهلاك .
الرابع عشر : لقد إقترن ببداية البعثة النبوية حصار قريش لأهل البيت في شعب أبي طالب ومنع المعاملة معهم ، ونزلت آية البحث في المدينة لتخبر عن فتح الأسواق للمسلمين في المدينة وخارجها ، من غير حرج أو حصار ، قال تعالى بخصوص صلاة الجمعة [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ] ( ).
الخامس عشر : من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )إدراك الناس جميعاً مصاحبة خسارة التجارة لإختيار الكفر والضلالة , ومن اليقينيات التي لا تستلزم توسط أو حضور تصور أن خسارة التجارة سبب للعجز عن مواصلة القتال وخوض المعارك ، فكأن آية البحث بشارة لعدم إستمرار قريش في الهجوم على ثغر الإسلام المدينة المنورة ، وهو الذي حصل واقعاً .
فبعد زحف قريش في السنة الثانية للهجرة وخروجها خاسرة من معركة بدر ، ودعوتها في السنة الثالثة للهجرة والبطش بالمؤمنين ورجوع جيوشها بخفي حنين ، ثم مجيؤها بعشرة آلاف مقاتل في معركة الأحزاب وخيبتها وتسفيه أحلام أقطاب الضلالة بإنسحابها دون قتال أو إقتحام للمدينة .
وكل فرد من هذه الأفراد مصداق لخسارة تجارة الكفار والمخادعين وأيضاً المنافقين الذين كانوا في المدينة ، ويدل عليه خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بألف ومائتين من أصحابه بعدها معتمرين ومن غير أن يحملوا سلاحاً ، وهو آية ومعجزة في نبوته ، وشاهد على كون السنة النبوية مرآة وبياناً لآيات القرآن ،إذ أن خروجه هذا يدل على المعرفة بخسارة تجارة قريش وصيرورتها غير قادرة على قتال المسلمين حتى مع عدم حملهم أسلحتهم ، وان كان سلاحهم القرآن والملائكة الذين نزلوا لنصرتهم في معركة بدر وأحد والخندق ليسوا بعيدين عنهم فليس ثمة مسافة بين السماء والأرض بخصوص موضوع هبوطهم للنصرة بأمر من عند الله ، وهو الذي تدل عليه صيغة المضارع والوعد الكريم في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
السادس عشر : مجئ الفاء في قوله تعالى [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ]مدد سماوي للمسلمين في الدعوة إلى الله عز وجل ، فاذا كانت الملائكة تنزل لنصرتهم في ميادين القتال فان كل حرف من القرآن مدد لهم في تعظيم شعائر الله .
وفي الفاء إخبار عن إنتفاء الحواجز التي يضعها الكفار وأهل الضلالة في سبيل الدعوة إلى الله ، وهذا الإنتفاء من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) بلحاظ أن من معاني الإستقامة عدم وجود البرزخ والموانع التي تمنع من السير في سبل الهداية والصلاح ، فلا غرابة إذن أن يتلو كل مسلم ومسلمة عدة مرات الآية أعلاه من سورة الفاتحة في الصلاة اليومية لما فيه من التيسير في أداء العبادات وإزاحة العوائق الحسية والفكرية التي قد يضعها العدو الظالم في طريق الرشاد .
السابع عشر : يحتمل ترتب أثر شراء الضلالة في خسارة التجارة وجوهاً :
الأول : قانون العلة والمعلول ، والسبب والمسبب ،وأن خسارة التجارة كالمعلول والنتيجة الحتمية لمن يختار الضلالة .
الثاني : إرادة معنى الكشف والدلالة وأن خسارة التجارة أمارة كاشفة عن سوء إختيار الضلالة .
الثالث : إفادة معنى الجزاء والعقوبة .
الرابع : خسارة التجارة واقية لذات أهل الضلالة كيلا تتضاعف سيئاتهم وآثامهم ، وهو من مصاديق الرحمة العامة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ) بلحاظ أن خسارة تجارة أهل الضلالة مانع من إسرافهم في الغي والغرور .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ووجوه اللطف الإلهي الذي تتغشى الأرض وأهلها ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن كتاباً هادياً إلى كيفية الربح في التجارة وجلب الغنائم وإكتناز الحسنات إلى [يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] ( ).
الثامن عشر : وردت الفاء في [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] بشرط شئ لتوقف الماهية على أمر عرضي وهو الضلالة ، ومع التوبة والصلاح تزول موانع الربح في التجارة لتبعية الحكم للموضوع ، ليكون من إعجاز الآية الكريمة أنها لم تقل (فخسرت تجارتهم ) لأن مجئ الخسارة بصيغة الماضي يفيد القطع والثبات ، بل جاءت بصيغة إنتفاء الربح في الماضي والحاضر ، لتبقى الدعوة إلى التوبة وتحقيق الربح في التجارة متجددة إلى يوم القيامة وقد يتعرض الذي يزاول مهنة التجارة والبيع والشراء إلى الخسارة وتركبه الديون ، ولكنه يستمر في عمله بجد ومثابرة حتى يحقق الربح والفلاح وكذا بخصوص الآية فمن الناس من يضل عن سواء السبيل ويفرط بنعمة الهدى ويبقى بلا رأس مال .
فجاءت آية البحث ضياء مباركاً يأخذ بيده إلى ذات رأس المال وهو الهدى الذي إشتروا به الضلالة وليس من مشتر يمتنع عن إعارة رأس المال له ، فذات المكلف هو البائع للهدى والمشتري للضلالة ، وليس من طرف آخر تتم معه صيغة العقد والإيجاب والقبول كما يجري في المعاملات ،وفيه مسائل :
الأولى : إقامة الحجة على ذات الإنسان الذي يختار الضلالة .
الثانية : قواعد اللطف الإلهي في منع سلطان الخلائق على الإنسان بخصوص كنز الهدى الذي يمتلكه ، فلا يستطيع أحد أن ينتزعه منه إلا أن يختار هو الضلالة ، لذا جعل القرآن موضوعية للنية والقصد، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : انما الاعمال بالنيات وانما لامرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ( ).
الثالثة :فورية وسرعة خسارة الهدى حال شراء الضلالة , وهذه الفورية لأمور :
الأول : عدم إجتماع الضدين في موضع واحد .
الثاني : تنزه الهدى عن الإجتماع مع الضلالة .
الثالث : إبتلاء الكافر بمغادرة الهدى لقلبه وجوارحه عند إختياره الضلالة مع إدراك العقل لقبحها ولزوم إجتنابها .
الرابعة : تخفيف سبل التوبة للناس ، وجعلها قريبة من ألسنتهم وقلوبهم ، فلو كان هناك مشتر للهدى ، لتمسك به وإمتنع عن إعادته وأصاب القنوط البائع ، فجاءت الآية لمنع دبيب اليأس إلى قلوب الناس جميعاً بما فيهم الذين إشتروا الضلالة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( ) .
عن ابن عباس :أن أهل مكة قالوا يزعم محمد أن من عبد الأوثان ، ودعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له . فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة ، وقتلنا النفس ، ونحن أهل الشرك فأنزل الله { يا عبادي الذين أسرفوا ……}الآية )( ).
التاسع عشر :الفاء حرف هجاء ويزاد في أول الكلام وتأتي على وجوه :
الأول : الإبتداء كما في جواب الشرط كقولك إن تجتهد فأنت ناجح ، فقولك انت : مبتدأ وناجح : خبره .
الثاني : الفاء الزائدة وهي التي تدخل على خبر المبتدأ وتفيد التنصيص على إستحقاقه بالصلة المذكورة مثل : الذي يتلو القرآن فله جائزة .
الثالث : الفاء العاطفة وهي على ثلاث أقسام :
الأول : الترتيب وهي على شعبتين :
الأولى : الترتيب المعنوي ويفيد تأخر أوان حصول المعنى المعطوف عن أوان المعطوف عليه ، كما في قوله تعالى [وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ]( ).
الثانية : الترتيب الذكري ويسمى اللفظي : وبينه وبين الترتيب المعنوي عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء تأخر المعطوف على المعطوف عليه، ومادة الإفتراق تعلق التقدم والتأخر في الترتيب المعنوي بزمان وقوع الفعل .
أما الفاء في الترتيب الذكري فيتعلق بحسب الحديث عنها والترتيب بينها في كلام سابق او سرد الأخبار ويسمى الترتيب الإخباري ويدخل فيه عطف المفصل على المجمل ، كما في قوله تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ] ( ).
الثاني : التعقيب وهو دلالة الفاء على عدم وجود مهلة زائدة بين المعطوف عليه والمعطوف كما تقول زالت الشمس فصلى الظهر ، وكذا قول تزوج فولد له ، فمع أن مدة الحمل الفاصلة بين أوان الزواج والولادة تسعة أشهر ، فالأصل فيه عدم المهلة أو التأخر .
الثالث : الفاء للسببية : وهي التي يكون ما قبلها سبب لما بعدها كما في قوله تعالى [فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا]( ).
وهذا التقسيم للفاء إستقرائي ووفق الصناعة النحوية ، ولا يمنع من إجتماع قسيمين أو ثلاثة في ذات اللفظ، أذ أن الفاء في قوله تعالى [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] تتضمن معنى الترتيب والتعقيب والسببية وهو من أسرار الإرادة التكوينية والتكامل في قوانين الخلق وعمومات قوله تعالى [أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى] ( )بلحاظ المعنى الأعم لهذه الآية وشمول مضامينها لأيام الحياة الدنيا ،فحالما يختار الإنسان الضلالة يصبح خاسراً لدنياه وآخرته ، إذ يتقدم الربح في كل منهما بالهدى والإيمان .
وتكرر قوله تعالى [وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ] ( )مرة في سورة النور وأخرى في سورة الفتح , فهل يشمل مرض القلوب , الجواب لا ،لأن المراد من المريض في الآية المصاب بآفة وداء في بدنه كما لو ضعفت قوته عن المشي والحركة كصاحب الزمانة أو تحصل له الآفة في بدنه أو فساد في عضو من أعضائه ، وما يكون قلة أو زيادة عن الإعتدال بما يستلزم الدواء ، وليس الذي إختار النفاق وأقام على الكفر .
وإذا كان مرض البدن ينقطع بالشفاء أو الموت ، فان مرض القلب إبتلاء وأذى في الحياة الدنيا وعالم البرزخ ويوم القيامة ، لذا تفضل الله عز وجل بنزول القرآن للسلامة من أمراض القلوب وعاقبتها الوخيمة ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وتدل الآية أعلاه من سورة النور على رفع الحرج عن الأكل مع الأعمى الذي لا يبصر الطعام ، والأعرج الذي يتخلف عن الوصول إلى الطعام عند الزحام ، والمريض الذي يقصر عن مؤاكلة الصحيح (وكان الأنصار يقولون : طعامهم مفرد ويرون أنه أفضل من أن يكونوا شركاء ، فأنزل الله هذه الآية فيهم ورفع الحرج عنهم في مؤاكلتهم ، قاله ابن عباس) ( ).
أما قوله تعالى [وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ]( )فموضوعه باب الجهاد وتفضل الله عز وجل بالعذر للأعمى والأعرج والمريض في القتال عند الدعوة ليوم حنين وملاقاة هوازن وثقيف لمجئ الآية السابقة بقوله تعالى [سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ] ( )وليس من عذر للمنافقين، كما أنهم يؤثمون من جهات :
الأولى : قعود المنافقين عن الجهاد .
الثانية : أثر المنافقين في صد بعض المسلمين عن القتال , ويأتي هذا الصد على وجوه :
الأول : القول وبعث الشك والريب في النفوس .
الثاني : العمل والمنع الفعلي عن خروج المؤمن عن القتال وعن ابن زيد (هذا يوم الأحزاب ، انصرف رجل من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف فقال له : أنت ههنا في الشواء والرغيف والنبيذ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الرماح والسيوف . قال : هلم إلي لقد بلغ بك وبصاحبك – والذي يحلف به – لا يستقي لها محمد أبداً قال : كذبت – والذي يحلف به – وكان أخاه من أبيه وأمه ، والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمرك ، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبره ، فوجده قد نزل جبريل عليه السلام بخبره ، { قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً) ( ).
الثالث :المحاكاة والإقتداء بالمنافقين في قعودهم خاصة إذا كانوا من الرؤساء ، ولهم كلمة وشأن في قبائلهم وملتهم .
الرابع : خشية المؤمن عند خروجه للجهاد من بقاء المنافق وحده فيعبث ويتلف ويفسد .
الثالثة : بث الوهن والحزن في قلوب المجاهدين عندما يرون المنافقين يتخلون عنهم ويتعمدون عدم الحضور عند النداء للنفير .
الرابعة : طمع العدو بالمسلمين عند رؤية فريق منهم يتخلفون عن القتال ويظهرون الخوف والفزع من العدو.
الخامسة : تحريض المنافقين رؤساء الضلالة للإجهاز على الإسلام كما في قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ]( ).
قال تعالى [وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا] ( )، وقد يرد ذكر المريض والعفو عنه في باب العبادات كما في فريضة الصيام ، قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
ولا يعفى المنافق عن الصيام ، لذا فمن إعجاز هذه الآية تقييد مرض النفاق بأنه يصيب القلوب بقوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] ( )، وهذا التقييد لا يمنع من بروز آثار النفاق على اللسان في عالم الأفعال بلحاظ كبرى كلية وهي أن القلب أمير الجوارح لذا جاءت الآيات والسنة بالتحذير من المنافقين وسوء فعلهم , قال تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ]( ).
وفي الآية أعلاه (أخرج ابن إسحق وابن مردويه عن أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري – وكان من الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة – قال « أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزل بذي أوان بينه وبين المدينة ساعة من نهار وكان بنى مسجداً الضرار ، فأتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية والليلة المطيرة ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه . قال : إني على جناح سفر ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه ، فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد .
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي ، وأخاه عاصم بن عدي أحد بلعجلان ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه واحرقاه ، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك . فدخل إلى أهله ، فأخذ سعفاً من النخل فاشعل فيه ناراً ، ثم خرج يشتدان وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ، وفيهم نزل من القرآن ما نزل { والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً } إلى أخر القصة)( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع بخصوص القلوب , والمفرد فيما يتعلق بالمرض لإرادة إتحاد جنس المرض مع تعدد صيغ النفاق ويدل عليها إجتماع المنافقين على ضروب الضلالة وإنعدام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندهم ، وقال الله تعالى في ذم المنافقين [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ]( ).
ولو أجريت دراسة وترجمة لأشخاص المنافقين بخصوص تجارتهم ومعاملاتهم وهل ربحوا فيها أم خسروا , فالجواب هو الثاني ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] ( ) كما أنهم خسروا مقاماتهم الإجتماعية ولم ينفعهم الجد في طلب الدنيا ، والتخلف عن الخروج إلى سوح القتال .
ويتجلى هذا التخلف بقوله تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الخروج لمعركة أحد [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ) ( )فلم تقل الآية (تبوئ المسلمين ) ولا (تبوئ للذين آمنوا) بل ذكرت المؤمنين .
ليكون من إعجاز الآية أعلاه إنخزال عبد الله بن أبي سلول بثلاثمائة من المسلمين وسط الطريق وعودتهم إلى المدينة قبل نشوء القتال ، مما كان له الأثر وترتب الأذى والحزن على المؤمنين في القتال ، ولعله من أسباب حال الخوف والوهن التي ظهرت على بعض المؤمنين لولا رحمة الله في إعانتهم وثباتهم كما يتجلى في قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ).
لفظ تجارة في القرآن
وردت كلمة (تجارة ) ثمان مرات في القرآن ، منها مرتان بخصوص تجارة الآخرة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ] ( )فكما ذكرت آية البحث مصطلح التجارة لشراء الكفار الضلالة ،فان الآية أعلاه بينت أن المؤمنين يسعون في تجارة سبل الإيمان ، وكأن الحياة الدنيا سوق دائم ليلاً ،ونهاراً , والناس فيه على قسمين :
الأول : الذين يحافظون على رأس مالهم وهو الهدى ،ويجنون الأرباح الطائلة وهي على شعب :
الأولى : الأرباح الدنيوية .
الثانية : الذخائر الأخروية .
الثالثة : الأرباح الدنيوية والأخروية مجتمعة في موضوع واحد.
الثاني : الكفار الذين يفرطون بنعمة الهدى .
ومن الإعجاز إنعدام البرزخية في المقام , فليس من كساد للتجارة وحال حفظ رأس المال ، إذ أن شراء الضلالة مجلبة للضرر في الدارين ، وسبب للخزي ، فلذا قالت الآية اعلاه أن الإيمان تجارة فيها النجاة من العذاب الأليم .
وبينت الآية التالية أفراد هذه التجارة المباركة , وهي :
الأول : الإيمان بالله .
الثاني : التصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثالث : الجهاد في سبيل الله بالأموال ودفع الزكوات طاعة لله سبحانه .
الرابع : الجهاد في سبيل الله بالأنفس ،وجاء لفظ (تجارة ) في الآية أعلاه بصيغة التنكير فلم تقل (على التجارة التي تنجيكم )وفيه وجوه :
الأول : تعدد وكثرة أفراد التجارة المنجية والصالحات التي تكون أماناً من النار يوم القيامة , ولكن بسور جامع في كل أفراد هذه التجارة وهو الإيمان بالله ورسوله ، فلذا إبتدأت بالخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]أي لابد من قيد الإيمان وأن الدلالة والإرشاد في الآية خاص بالمسلمين .
الثاني : لا تعارض بين لغة التنكير في لفظ (تجارة) و إرادة التعيين بلحاظ أفراد الهدى وسنن الإيمان التي بينتها الآية .
الثالث : بعث المسلمين على الإجتهاد في جني الصالحات والمسارعة في الخيرات .
ويصح إجتماع الوجوه أعلاه , فالأول والثالث في طول الثاني وبيان له ، ليكون من إعجاز القرآن أن لفظ [تِجَارَتُهُمْ]لم يرد في القرآن إلا في آية البحث لبيان تعدد ضروب التجارة المنجية الشخصية والعامة ، أما تجارة الكفار فهي محصورة بالضلالة وما يترشح عنها من الظلم والجور والتعدي.
وهل من معاني لفظ [تِجَارَتُهُمْ] الأمان للمسلمين والمسلمات من الإرتداد , الجواب نعم ، لأن شراء الضلالة خاص بالكفار والمخادعين ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
إن المسلمين يتلقون الأذى والإستهزاء من الكفار بصبر ، وفي هذا الصبر الأجر والثواب , وهو من ضروب التجارة المنجية وأسرار مجئ لفظ (تجارة ) في الآية أعلاه بصيغة التنكير .
ومع تعدد مادة (تجر )في القرآن فان أول لفظ منها في نظم القرآن ورد بخصوص المخادعين لذمهم وتحذير المسلمين منهم .
وجعلهم يتقون من مكرهم ويعلمون أن الله عز وجل هو الذي يكفيهم شرور المخادعين وإستهزائهم بهم ، فلا يصدونهم عن إتيان الفرائض وفعل الصالحات ، والآية من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( ).
وفي الآية أعلاه ورد (عن الربيع في قوله { إنا كفيناك المستهزئين } قال : هؤلاء فيما سمعنا خمسة رهط ، استهزأوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم . فلما أراد صاحب اليمن أن يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أتاه الوليد بن المغيرة فزعم أن محمداً ساحر . وأتاه العاص بن وائل وأخبره أن محمداً يعلم أساطير الأولين ، فجاءه آخر فزعم أنه كاهن ، وجاءه آخر فزعم أنه شاعر ، وجاء آخر فزعم أنه مجنون فكفى الله محمداً أولئك الرهط في ليلة واحدة ، فأهلكهم بألوان من العذاب . . . كل رجل منهم أصابه عذاب .
فأما الوليد ، فأتى على رجل من خزاعة وهو يريش نبلاً له ، فمر به وهو يتبختر فأصابه منها سهم فقطع أكحله ، فأهلكه الله .
وأما العاص بن وائل ، فإنه دخل في شعب فنزل في حاجة له ، فخرجت إليه حية مثل العمود فلدغته فأهلكه الله .
وأما الآخر ، فكان رجلاً أبيض حسن اللون ، خرج عشاء في تلك الليلة فأصابته سموم شديدة الحر ، فرجع إلى أهله وهو مثل حبشي ، فقالوا : لست بصاحبنا . فقال : أنا صاحبكم! . . فقتلوه .
وأما الآخر ، فدخل في بئر له فأتاه جبريل فعمه فيها ، فقال : إني قد قتلت فأعينوني : فقالوا : والله ما نرى أحداً . فكان كذلك حتى أهلكه الله .
وأما الآخر ، فذهب إلى إبله ينظر فيها ، فأتاه جبريل بشوك القتاد فضربه ، فقال : أعينوني فإني قد هلكت . قالوا : والله ما نرى أحداً . فأهلكه الله فكان لهم في ذلك عبرة) ( ).
والمدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول ، ويحتمل قوله تعالى أعلاه وكفاية النبي المستهزئين وجوهاً :
الأول :إختصاص النبي في موضوع الكفاية من شرور المستهزئين ليقوم بتبليغ الرسالة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
وفيه بيان لفضل وكفاية الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المستهزئين من مصاديق عصمته من الناس الواردة في الآية إعلاه .
الثاني : المراد كفاية المسلمين من إستهزاء الكفار والمخادعين .
وتتجلى هذه الكفاية باستهزاء الله عز وجل بهم لقوله تعالى [قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] ( ).
الثالث : إرادة المعنى الأعم الشامل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
والصحيح هو الأخير لأصالة العموم , ووحدة الموضوع في تنقيح المناط، ولشمول الآية المسلمين والمسلمات بالتبعية والإلحاق ، وهو من فضل الله عز وجل عليهم .
وتحتمل كفاية الله المسلمين وجوهاً :
الأول : كفاية الله للمسلمين فرع كفايته سبحانه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : كفاية الله للمسلمين أمر مستقل وفضل قائم بذاته .
الثالث : المعنى الأعم وهو أن كفاية الله للمسلمين فرع كفاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أمر مستقل متجدد مع كل زمان وفي كل مكان .
والصحيح هو الأخير لما فيه من تعدد نعم الله على المسلمين ، والزيادة من رشحات فضله تعالى، قال[فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ]( ).
إستهزاء الله بالمنافقين طريق للتوبة
ومن البيان في آية البحث إخبارها عن إستهزاء الله عز وجل بالمنافقين، ولولا هذه الآية لا يعلم الناس أن الله عز وجل الذي هو[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) يستهزء بقوم وهو الذي خلقهم وأهل الأرض والخلائق كلها ، وفيه دلالة على أن الله عز وجل حاضر معنا ، وأنه سبحانه ناصر المؤمنين ، وهازم جيوش المشركين .
وأيهما أشد إلقاء الله عز وجل الفزع والرعب في قلوب المخادعين كما في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( ) أم الإستهزاء بهم الوارد في آية البحث ، الجواب هو الأول الذي يرد في حال الكف والتعدي وإرادة الحرب على الإسلام والمسلمين ، أما الإستهزاء فهو أخف منه , ولكنه شديد الوطأة على المخادعين لأنه صادر من عند الله عز وجل وعلى نحو الجزاء .
وتحتمل شدة الوطأة هذه وجوهاً :
الأول : إصرار المنافقين على الخداع والإكثار من الخلوة مع رؤساء الشرك والمكر والدهاء .
الثاني : إزدياد عدد المنافقين ونصرة ذويهم لهم .
الثالث : قلة عدد المنافقين ، وإجتنابهم اللقاء والإنفراد بأرباب الشرك والضلالة .
الرابع : توبة المنافقين وإصلاحهم لأنفسهم، ونجاتهم من إستهزاء الله عز وجل بهم .
والصحيح هو الثالث والرابع , فمع إفادة آية البحث التخويف والزجر والوعيد فإنها تتضمن في دلالتها وأثرها المبارك حث الناس على التوبة والتنزه عن النفاق وما يكون علة ذاتية وإختياراً خاسراً يجلب إستهزاء الله عز وجل وحبط الأعمال ، وتغشي الكآبة للإنسان في حياته العامة والخاصة نتيجة هذا الإستهزاء الذي يلاحقه في كل مكان وعند كل كلمة ينطق بها أو يسمعها ومنها آية البحث .
ومن إعجاز القرآن بيان الأحكام بما يمنع من الجهالة والغرر ومن الغلو والقسوة في الحكم ،وورد النص بقبول توبة المنافق بالذات قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
لتتضمن الآية وجوب الإقلاع التام عن النفاق والضلالة ،وكل آية في القرآن تتضمن ذم النفاق والمنافقين هي دعوة في مفهومها للتوبة والإنابة والعمل الصالح الذي هو مناط الجزاء والثواب (وعن الأَسْوَدِ قَالَ كُنَّا فِى حَلْقَةِ عَبْدِ اللَّهِ فَجَاءَ حُذَيْفَةُ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ خَيْرٍ مِنْكُمْ .
قَالَ الأَسْوَدُ سُبْحَانَ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) فَتَبَسَّمَ عَبْدُ اللَّهِ ، وَجَلَسَ حُذَيْفَةُ فِى نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ ، فَرَمَانِى بِالْحَصَا ، فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ عَجِبْتُ مِنْ ضَحِكِهِ ، وَقَدْ عَرَفَ مَا قُلْتُ ، لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ ، ثُمَّ تَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) ( ).
فان قلت إن مضامين الآية القرآنية باقية إلى يوم القيامة ، ولا بد من قوم منافقين يستهزء بهم الله ، والجواب إن باب التوبة مفتوح ما دام هناك إمتحان وإثم ومعصية ، ففي كل آن يدخل إلى روضة الهدى أفراد وجماعات .
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الذين يدخلون في الإسلام لا يخرجون منه مع أنه ليس من حائط أو جدران تمنع من المغادرة ولكنها حلاوة التقوى التي تملأ النفوس وتستحوذ على القلوب وتجعلها منقطعة إلى الله عز وجل شاكرة فضله بالهداية والرشاد ويدخل المنافق والمعاند في عمومات قوله تعالى [قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
بحث بلاغي (علم جديد في البلاغة والبيان )
يقسم معنى اللفظ إلى قسمين :
الأول : الحقيقة وهو إستعمال اللفظ في المعنى الذي وضع له.
الثاني : المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في أصل اللغة لعلاقة ووجه شبه بينه وبين المعنى الحقيقي أو قرينة سواء كانت قرينة لفظية أو حالية، والمجاز على أنواع منها :
الأول :الإستعارة.
الثاني : التشبيه .
الثالث :التمثيل .
الرابع :التخبيل .
الخامس :الإشارة .
السادس :الكناية .
وقد أضفنا قسماً ثالثاً للحقيقة والمجاز وهو :
الثالث : المعنى الأعم الشامل بذات اللفظ للحقيقة والمجاز، وهو من إعجاز القرآن وتعدد معاني اللفظ فيه ، وهذه الآية من مصاديق هذا العلم الجديد الذي نؤسسه في البلاغة ،فالمراد من خسارة تجارة أهل الضلالة المعنى الحقيقي وان الدنيا دار المكاسب والإدخار للآخرة ، وهذا الإدخار لا يأتي عن هبات من الغير ، أو تركة من مُورث ، بل لابد من الكسب والتحصيل فلا تصح صلاة وعبادة الغير عن المكلف في الواجبات العينية كالصلاة والصيام أيام حياته باستثناء الحج للعاجز لورود النص الخاص به من السنة النبوية باجماع المسلمين .
ولو دار الأمر في معنى التجارة بين المكاسب المالية وبين المكاسب الأخروية والغنائم في الصالحات لرجح الثاني ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ] ( ).
وفيه آية إعجازية بان إتيان المؤمنين الصالحات مقدمة للتجارة , وهي إكتناز الصالحات للبث الدائم في الجنة ، وفي الآية أعلاه بشارة بأن أي فعل من الصالحات لن يذهب سدى ولن ينسى أو يصيبه الفساد واكثر من هذا فان الله عز وجل ينميه ويضاعفه ليفاجئ صاحبه بكبره ونفعه وترجيحه الميزان يوم القيامة .
وكما أن ذات اللفظ [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] من الحقيقة فهو من المجاز أيضاً في موضوع الربح والتجارة مجتمعين ومتفرقين من جهات :
الأولى : نعت التجارة ذاتها بعدم الربح ، مع أن الربح والخسارة يصيبان أصحاب التجارة .
الثانية : نعت إختيار الضلالة بالتجارة وظن المخادعين أنها تنفعهم عند أرباب الشرك ، كما ورد في الآية قبل السابقة [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ] ( ).
الثالثة :الآية من مصاديق إسناد الفعل إلى الإسم، وتعلق الربح بذات التجارة .
الرابعة : الآية من الكناية ، وجعل الهدى هو الربح والغنيمة ، والضلال هو الخسارة والخزي ، ومن رحمة الله عز وجل بالناس أن الربح والفوز ملازم للأصل ، ورأس المال الذي جعله الله عز وجل فطرة عند الناس جميعاً وهو الهدى ،وتفضل ببعثة الإنبياء وأنزل الكتب السماوية ليتعاهد الناس هذا الأصل ويتآزروا في الحفاظ عليه ويجتهدوا في الرجوع إليه بلباس التوبة والإنابة .
ومن أسرار العنوان الجامع للحقيقة والمجاز بيان وجوه الإعجاز في اللفظ القرآني , وبعث الشوق في النفوس للآية وتلاوتها , والتدبر في معانيها , وإقتباس مضامين الحكمة منها .
البيان في قوله تعالى [وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]
ورد هذا اللفظ ثلاث مرات في القرآن ،فقد ورد في الذين يقتلون أولادهم بالوأد ونحوه خشية السبي والفاقة بينما يغذون كلابهم ، وفي ذم وبيان سوء عاقبة الكفار الجاحدين بالمعاد والوقوف بين يدي الله للحساب يوم القيامة ، قال تعالى [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] ( ).
ولا تعارض بين آية البحث والآية أعلاه وذكرت كل منها عدم الهداية كإثم مستقل قائم بذاته إلى جانب الكفر والجحود في الآيتين .
لقد ذكرت آية البحث ثلاث خصال مذمومة للمنافقين وهي :
الأولى : السعي عن قصد لإختيار الضلالة ، ومن إعجاز الآية أنها لم تقل (أولئك الذين يشترون الضلالة ) بل وردت بصيغة الفعل الماضي [اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى]وفيه وجوه :
الأول : إفادة القطع بتلبس المخادعين بالضلالة .
الثاني : إقامة الحجة على المنافقين والمخادعين لتخليهم عن الهدى والإيمان بعد أن كان عندهم ، إذ يدل جعلهم الهدى عوضاً وبدلاً على حقيقة هداية الله عز وجل لهم ، وبلوغ الحق والتنزيل لهم على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكثرة البينات الباهرات .
الثالث :الإخبار عن إستدامة فتح باب التوبة والإنابة للمنافقين وغيرهم .
الثانية : خسارة المخادعين ، وبيان قانون كلي وهو الملازمة بين الضلالة والخسران، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى :كل ضال خاسر.
الصغرى : المنافق ضال .
النتيجة : المنافق خاسر .
الثالثة .إنعدام الهداية ومفاهيم الإيمان عند المخادعين والمنافقين .
وفي الآية حذف ، وتقديره على وجوه :
الأول : وما كانوا مهتدين إلى وجوب الإيمان .
الثاني : وما كانوا مهتدين إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة .
الثالث : وما كانوا مهتدين إلى ما يدفع الأذى والضرر عنهم .
الرابع : وما كانوا مهتدين في إختيارهم النفاق وشرائهم الضلالة لتكون الآية تحذيراً للناس من صيغ النفاق .
الخامس :وما كانوا مهتدين في أمور دنياهم وآخرتهم .
السادس : وما كانوا مهتدين في تعريض أنفسهم للعذاب الأليم .
السابع : وما كانوا مهتدين إلى [تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ] ( ) .
الثامن : وما كانوا مهتدين إلى طلب الأجر والثواب .
التاسع : وما كانوا مهتدين إلى الإستغفار وسؤال العفو من عند الله .
العاشر : وما كانوا مهتدين إلى الدعاء، وهو سلاح الأنبياء وباب السماء المفتوح للناس جميعاً ، وكان من دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِى مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِى وَتَوَفَّنِى إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِى اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِى الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِى الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِى الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِى غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ) ( ).
الحادي عشر : وما كانوا مهتدين لضرورات الدين .
الثاني عشر : وما كانوا مهتدين لوجوب الموت على الإسلام، وختم الحياة بالإيمان وحسن العاقبة ، قال تعالى [فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ) .
الثالث عشر : وما كانوا مهتدين لجلب الرزق الكريم بالتوبة والإنابة .
الرابع عشر : وما كانوا مهتدين لضرورة نبذ الضلالة وصيغ النفاق .
الخامس عشر :وما كانوا مهتدين للحاجة إلى ترك الإيمان ميراثاً للذرية.
السادس عشر : وما كانوا مهتدين للإحتراز من الشيطان وإغوائه أيام الحياة الدنيا، وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّى وَالْهَدْمِ وَالْغَرَقِ وَالْحَرِيقِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِى الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ فِى سَبِيلِكَ مُدْبِرًا وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا) ( ).
السابع عشر :وما كانوا مهتدين إلى كيفية النجاة من السفاهة .
الثامن عشر : وما كانوا مهتدين إلى الفرائض العبادية والصبر في جنب الله، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
التاسع عشر :وما كانوا مهتدين لحرمة التفريط بالهدى وعدم صحة معاوضته بالضلالة ، لأنه لا يصلح أن يكون بدلاً عن غيره .
العشرون : وما كانوا مهتدين إلى إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالدعاء للثبات على أصل الهدى والإيمان والإستعداد للقاء الله في الآخرة ، (وعن عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَلَّى بِنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ صَلاَةً فَأَوْجَزَ فِيهَا فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ لَقَدْ خَفَّفْتَ أَوْ أَوْجَزْتَ الصَّلاَةَ. فَقَالَ أَمَّا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَلَمَّا قَامَ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ هُوَ أَبِى غَيْرَ أَنَّهُ كَنَى عَنْ نَفْسِهِ فَسَأَلَهُ عَنِ الدُّعَاءِ ثُمَّ جَاءَ فَأَخْبَرَ بِهِ الْقَوْمَ « اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِى مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِى وَتَوَفَّنِى إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِى اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِى الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِى الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِى الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِى غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ) ( ).
الحادي والعشرون : وما كانوا مهتدين إلى أن الإيمان بهجة للقلب، وزينة تتجلى على الجوارح والأركان ، وبهاء على اللسان , وصراط مستقيم لتلاوة القرآن ، وعلة ومادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثاني والعشرون : وما كانوا مهتدين للملازمة بين الإيمان والتوفيق .
الثالث والعشرون : وما كانوا مهتدين لإنحصار الربح بالإيمان .
الرابع والعشرون :وما كانوا مهتدين إلى إستهزاء الله عز وجل بهم والأضرار المترشحة عن الإصرار على الكفر المبطن والتي تشمل الحياة الدنيا والآخرة.
الرابع والعشرون : وما كانوا مهتدين إلى أن مدهم في طغيانهم وعتوهم من الضلالة وعدم الإهتداء ، وكذا فان ضلالتهم بسبب طغيانهم وعتوهم من غير أن يستلزم الدور بينهما .
الخامس والعشرون : وما كان كانوا مهتدين لصيغ القتال والصبر في مواطن مرضاة الله، لتدل هذه الآية بالدلالة الإلتزامية على البشارة للمسلمين بالنصر والغلبة على الكفار في ميادين القتال.
السادس والعشرون :وما كانوا مهتدين لربح تجارتهم، وإعادة رأس المال وهو الهدى والبدأ بالكسب وجني الأرباح عن طريق التوبة والإنابة.
وهو من أسرار تعقب وعطف عدم الهداية على خسارة التجارة وتقدير الآية : وما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين لتحصيل الربح فيها .
السابع والعشرون :وما كانوا مهتدين لطاعة الله وإجابة الرسول وتصديق التنزيل والفوز برحمة الله ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثامن والعشرون : وما كانوا مهتدين لطرق التجارة، وكيفية الكسب ومقدماته كالإستجابة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
التاسع والعشرون : وما كانوا مهتدين للنجاة من مجازاة الله عز وجل لهم بالخذلان ورميهم بالوهن والضعف لتفريطهم بنعمة الهدى .
الثلاثون : وما كانوا مهتدين إلى الأمن في النشأتين ، لقانون الملازمة بين الهدى والأمن ، وترشح الثاني عن الأول .
وقد يتردد الأمر بين وجوه :
الأول : إرادة عدم إهتداء المخادعين على نحو الإطلاق .
الثاني : حصر عدم إهتداء المخادعين بخصوص مضامين هذه الآية، وشرائهم للضلالة بالتفريط والتضحية بالهدى .
الثالث : المقصود عدم الإهتداء في موضوعات ومضامين الآيات المجاورة لها.
الرابع : خصوص الهدى في مقابل الضلالة ، بلحاظ أنهما متناقضان لا يجتمعان في محل واحد.
والصحيح هو الأول ،فلو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد , فالأصل هو الأول، لذا فان الآية بيان لصفة مذمومة يتصف بها المخادعون، وتكون مصاحبة لهم في كل الأحوال ، حال التيه والإبتعاد عن الرشاد والهداية وسبل الصواب .
وقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بالتلاوة المتكررة في كل يوم لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) لإستحداث التوقي والإحتراز من مفاهيم الضلالة والغواية .
ومن الإعجاز في آية البحث تكرار نفي الهدى عن المخادعين من جهتين :
الأولى : جعل المخادعين الهدى عوضاً وبدلاً للضلالة، ويدل قوله تعالى [اشْتَرَوْا] على إنتفاء الإكراه والإجبار على ترك الهدى والتفريط برأس المال.
الثانية : إختتام الآية الكريمة بنفي الإهتداء عن المخادعين ،والهدى اسم جنس لأعظم النعم على الناس في الدنيا ، فهو أم النعم وسر الحياة وعذوبة كنهها وحلاوة العيش فيها ، وعلة كره مغادرتها لأنها وعاء لذكر الله وأداء الفرائض والعبادات ومزرعة للآخرة ليكون من معاني [وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] التفريط بالهدى ودفعه ثمناً لكابوس قبيح من غير أن يطلب منهم أحد دفعه.
وتدخل الباء على المتروك كما في قوله تعالى [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ] ( )في قصة يوسف عليه السلام أي أنهم دفعوا الدراهم بدلاً وعوضاً له.
ووردت مادة (شرى ) في القرآن خمساً وعشرين مرة وليس فيها شراء للهدى مما يدل على أنه أصل وفطرة للإنسان تترشح عن أمور :
الأول : خلافة الإنسان في الأرض بفضل من عند الله عز وجل .
الثاني : النفخ من روح الله عز وجل في آدم .
الثالث : علة خلق الناس ومعاشر الجن وهي عبادة الله بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الرابع : سعة رحمة الله عز وجل بالناس ، وصيرورتهم في حرز وواقية من الضلالة والغواية .
الخامس : قانون اللطف الإلهي بتقريب الناس إلى عبادته، وإلى سبل الصلاح .
السادس : إقامة الحجة على الناس في الدنيا والآخرة ، فعندما إشترى الكفار الضلالة جاءت آية البحث لذمهم وبيان خسارتهم مما يدل على ظلم النفس بهذا الشراء وإنتفاء السبب والموجب له .
وهل تتضمن الآية تحذير وإنذار المسلمين من المخادعة ،الجواب نعم من جهات :
الأولى : إخبار الآية عن خسارة تجارة المخادعين يدل على أنهم لا يتورعون عن الفساد والتعدي ، قال تعالى في ذم المنافق [وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ] ( ).
الثانية : ليس من نفع وخير يرتجى من الود والصلة والعشرة مع المخادعين لأن تجارتهم كاسدة .
الثالثة :إنعدام ملكة الإهتداء عند المخادعين .
البيان في قوله تعالى [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ] ( )
ورد لفظ [مَثَلُهُمْ] ثلاث مرات في القرآن ، مرتين في آية واحدة تتضمن الثناء على المسلمين وبيان صفتهم وخصالهم الحميدة بقوله تعالى [سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ]وليس من أمة نالت هذا المدح والثناء غير المسلمين، كما جاء بشارة في الكتب السماوية السابقة ، وهو من الشواهد على أهليتهم لعمارة الأرض بالتقوى والصلاح ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) , وحث للمنافقين للتوبة .
وجاء لفظ [مَثَلُهُمْ]في آية البحث في ذم المخادعين، وهو من مدرسة المثل والتشبيه في القرآن الكريم ،وما لها من دلالات في تقريب المعنى وإيضاح المقصد .
والمثل : النظير والشبيه ، وقد يفرق بينهما , فيقال إن المثل يستعمل في المتفق في الماهية ، والشبيه في المختلف في ماهيته وحقيقة المتفق في فرد أو خصوصية.
والتمثيل في آية البحث من مصاديق قوله تعالى [لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ]( ).
فجاءت الآية في ذم المخادعين بمثل يجعل النفوس تنفر منهم بلحاظ صيغة المحسوس التي وردت فيها الآية.
ولغة المثل من البيان عند الناس جميعاً ، وتفيد تقريب المعنى إلى الأذهان وإن تباينت في الفهم وسرعة أو مرتبة الإستيعاب لأن المثل يأتي بالمشبه به الذي يكون معلوماً عند الناس في ذات الخصوصية والموضوع المطلوب ، والأصل في الآية هو (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنوره) ولكنها جاءت بتركيب إعجازي من جهات :
الأولى : إتصاف المثل القرآني بخصوصية وأسرار خلاف المألوف .
الثانية : إرادة البيان بخصوص المنافقين والمخادعين، فمن أفراد الأولوية في مضامين المثل القرآني البيان العقائدي بعد الإيجاز في المثل وموضوعه .
الثالث : قد ينتفع الذي توقد النار من حوله براً كان أو فاجراً وفق قواعد الإضاءة ومنافع جوهر النار ، ولكن المنافقين لا ينتفعون من المعجزات والبينات من حولهم.
ومن معاني المثل في آية البحث أن المنافقين مثل الذي هو في ظلمة فاوقد ناراً وأخذ يرى الأشياء من حوله وأسباب الأذى، وكيفية إجتناب الضرر ولكن سرعان ما إنطفئت ناره وعادت الظلمة من حوله قبل أن ينتفع عملياً منها ، فكذا المنافقون فقد جاء نور بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينير القلوب ويشع في أرجاء المعمورة بعد ظلمة الكفر وجهالة الشرك وعمى الضلالة ، فعرف الحق والهدى ، وميزوا بين الحلال والحرام وأدرركوا صدق المعجزات التي جاء بها ، ولكن المخادعين إختاروا العمى والحيرة فانسلخ من نفوسهم ما أدركوا.
وبين المشبه والمشبه به في الآية عموم وخصوص من وجه بلحاظ أن التشبيه جهتي، فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى :إستيقاد النار .
الثانية : طرو الضياء بعد الظلمة .
الثالثة : إرادة القصد والإختيار حال الضياء والنور , قال تعالى[وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ *وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ]( ).
الرابعة : النفع العظيم من الضياء وتجلي البصر ، وزوال الحيرة .
أما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : إضاءة النار ما حول المشبه به .
ولم يرد هذا المعنى بخصوص المنافقين ، وإن كان ظاهراً بالمعنى ودلالة لغة المثل.
الثانية : تطفئ النار بذاتها، وقانون السبب ،والمسبب , أما المنافقون فقد أذهب الله عز وجل نورهم .
الثالثة : تكرر المصداق الواقعي للمشبه من جهة الظلمة التي تحيط بالمنافقين.
عن مجاهد في قوله { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } قال : أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى ، وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة ، وإضاءة البرق وإظلامه على نحو ذلك المثل { والله محيط بالكافرين } قال : جامعهم في جهنم) ( ).
وعن قتادة قال : هذا مثل ضربه الله للمنافق . إن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فناكح بها المسلمين ، ووارث بها المسلمين ، وغازى بها المسلمين ، وحقن بها دمه وماله . فلما كان عند الموت لم يكن لها أصل في قلبه ، ولا حقيقة في عمله ، فسلبها المنافق عند الموت)( ).
لقد كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضياء ملأ الأرض بنور الإيمان ، وناراً تحرق مفاهيم الكفر والضلالة ، ومن خصائص هذا الضياء إنتفاع المؤمنين منه، وإتخاذه وسيلة ومنهاجاً للهداية، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )،ولما أضاء نور النبوة في مكة والمدينة فان الله عز وجل سلب النور الذاتي من المنافقين والمخادعين وحرمهم من نعمة عظيمة لسوء سرائرهم .
وهذا البيان من أسرار التباين الجزئي بين المشبه والمشبه به في آية البحث إذ قال الله تعالى [فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ] ( )ليكون التباين من جهات :
الأولى : ورود مادة الضياء بخصوص المثل ، والنور فيما يخص المخادعين، والضياء هو الإشعاع الصادر من ذات الشئ وتكون فيه حرارة، أما النور فهو إنعكاس ومرآة لضياء من مصدر آخر، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، كل ضياء هو نور وليس العكس .
ومن الإعجاز البياني في المقام قوله تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا]( ).
والضياء أشد وأقوى في إنارته لذا جاءت الإضاءة الخارجية لتضيء دروب الهداية ، أما المخادعون فقد [اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى] ( ) كما في الآية السابقة فإبتلاهم الله عز وجل بذهاب نورهم ، لتكون الصلة بين الآية السابقة وقوله تعالى [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ]( ) على وجوه :
الأول : ذهب الله بنورهم فاشتروا الضلالة بالهدى .
الثاني : إشتروا الضلالة بالهدى فذهب الله عز وجل بنورهم ، من غير أن يستلزم الدور بين هذين الوجهين لتعلق ذهاب النور في الأول بأسباب ومقدمات هذا الشراء القبيح ، وتعلقه في الوجه الثاني أعلاه بجهات:
الأولى : ذات شراء الضلالة ذهاب للنور .
الثانية : ترشح ذهاب النور عن شراء الضلالة .
الثالثة : إتصاف الذين يشترون الضلالة بالعمى والصمم .
وهو الذين تضمنته الآية التالية [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] ( ).
الثالث : من مصاديق إحاطتهم بالظلمة عجزهم عن الإهتداء لسبل الصلاح ، وإرادة المكر والكيد بالمسلمين.
الرابع : مجئ أعمال المخادعين مجانبة للصواب ، وبعيدة عن سبل الهدى والرشاد.
ومن البيان في هذه الآية أن مضامين المثل أعم منه ، وهو مدرسة جديدة في المثل إذ لا يعقل أن يكون حال المثل القرآني كأمثال عامة الناس وإن تضمنتها الكتب والأشعار ، وتوارثتها الأجيال ، إذ تتفرع المسائل وتستنبط الأحكام من الأمثال القرآنية من دون أن تنضب أو تجف دلالاتها.
ومن وجوه تقدير الآية : (كالذين إستوقدوا ناراً فلما اضاءت ما حولهم ذهب الله بنورهم ) أي فلم ينتفعوا من النار مع أنها لنفعهم ومصلحتهم ، كما أنهم خسروا رأس مالهم الذي هو عون وسلاح لهم للوقاية من النار , وهو من مصاديق قانون أصالة الهدى الذي أسسناه في هذا الجزء وإرادة قوله تعالى [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] ( ).
وتحتمل معاني ودلالات المثل الوارد في الآية [كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا] مسائل:
الأولى : إتحاد سنخية فعل المخادعين لورود المثال بصيغة المفرد [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي] وفيه تحذير للمسلمين بتشابه فعل المنافقين والمخادعين، ولزوم أخذ الحائطة منهم .
الثانية : إختيار المنافقين لأفعالهم ، وأنها لم تأت عن جهالة أو غفلة .
الثالثة : عناية المخادعين والمنافقين بصيغ مكرهم ومعرفتهم بما يترتب عليها من أثر وما يلحق المسلمين بسببها من الضرر، فالذي يستوقد النار يقصد منها الإضاءة او التسخين ويحذر إقترابها من ملابسه وجلده .
الرابعة : دلالة الآية على سلامة المنافقين من القتل جزاء وعقوبة لحصول إيقاد النار وذهاب النور من غير هلكة، وهو من معاني الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
وأختتمت الآية ببيان حقيقة وهي أن المنافقين في مصيبة دائمة ، وتتجلى بأمور :
الأول : تفضل الله عز وجل بسلب النور من المنافقين .
الثاني : تركهم ونسيانهم من رحمة الله وفضله العظيم ، لقوله تعالى [وَتَرَكَهُمْ] وهو مقدمة وإنذار من حرمانهم من رحمة الله يوم القيامة، قال تعالى[وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا]( ).
الثالث : صيرورة المنافقين في حال حيرة وتيه وفزع .
الرابع : فقدان المنافقين لنعمة البصر والتمييز بين الحق والباطل ويحتمل ذهاب نور المخادعين بلحاظ المثل الوارد في الآية وجوهاً :
الأول : ذهاب النور في حال إضاءة النار لما حولها .
الثاني : ذهاب النور عند إنطفاء النار لإخبار الآية بأن المنافقين في ظلمات وإرادة عدم الإنتفاع من ضيائها ، مثلما لم ينتفع المنافقون من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يتلقوها بالتصديق .
الثالث :المراد ذهاب النور الذاتي ، أي مع ضياء النار وإشعاعاتها على ما حولها فان المانع الذاتي من الرؤية موجود عند المنافقين ، لحرمانهم من التنعم والإنتفاع من نعمة الضياء ، وفيه دعوة للناس لقوله تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا]( ) ومن نعم الله عز وجل مجيء النهار مضيئاً وطارداً لظلمة الليل، ونزول القرآن لنجاة الناس من ظلمة الشرك والضلالة والجهالة .
التباين في صيغة التشبيه
ولم تقل الآية (مثلهم كمثل الذين استوقدوا ناراً ) بل ذكرت المشبه به بصيغة المفرد ، وفيه وجوه :
الأول : بيان إتحاد المنافقين في خصالهم المذمومة ، وتشابه أفعالهم وكأنها تصدر من شخص واحد .
الثاني : إنذار المسلمين من المنافقين وتعاونهم وتآزرهم في الباطل وصيغ الزيغ.
الثالث : إقامة الحجة على المنافقين في ضلالتهم .
الرابع : بيان وهن وضعف المنافقين ، وأنهم مع تعددهم وكثرة أفرادهم بالشخص الواحد في الضياع والتيه .
الخامس :التخفيف عن المسلمين وهدايتهم إلى كيفية التعامل مع المنافقين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق وأسرار مجئ المشبه بصيغة الجمع ،والمشبه به بصيغة المفرد .
ومن الآيات أن التباين في التعدد والإتحاد والجمع والمفرد لم يستمر في مضامين الآية إذ ينقطع عند إبقاء النار وإضاءتها ثم تعود الآية إلى صيغة الجمع التي بدأت بها [مَثَلُهُمْ]وفيه نكتة عقائدية وهي أن القرآن يأتي بالمثل لينتفع المؤمنون والناس منه بقدره وأن الأصل والأولى بالعناية هو ذات الموضوع الحقيقي فالمشبه به أمر يحضر في التصور الذهني ببركة آيات القرآن ، أما المشبه فهو أمر وجودي ومبرز واقعي ، وفيه مناسبة لأمور :
الأول : إقتباس المواعظ من المثل القرآني .
الثاني : جذب الأسماع إلى ذات المشبه، ومفاهيم الحق والصدق فيه.
الثالث : الرجوع إلى موضوع الآيات السابقة في بيان خصال المنافقين المذمومة ، فمن إعجاز القرآن أن ورود المثل فيه لا يقطع نظم ودلالات الآيات المتجاورة ووحده موضوعها .
وتجلى رجوع الآية إلى صيغة الجمع بقوله تعالى [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ] ( ) لبيان عظيم قدرة الله عز وجل , وأنها قاهرة لقانون العلة والمعلول وفق القواعد المادية الظاهرة ، فحتى لو كانت النار مضيئة حول المنافق فان الله عز وجل يسلبه نوره ويعدم أثره ، ويمنع من سلطانه ويجعله في ظلمة وحيرة.
المثل بلحاظ نظم الآيات
في المثل الوارد في هذه الآية بلحاظ الآيات السابقة مسائل :
الأولى : لما أخبرت الآية الثامنة المتقدمة بأن المنافقين يعلنون الإيمان مع بقائهم على الكفر والجحود جاءت هذه الآية لتخبر عن إقامتهم في ظلمة يتعذر عليهم معها الرؤية ، وفيه وجوه :
الأول : هذه الظلمة علة إصرارهم على عدم التخلي عن الكفر ونزع رداء الكبر .
الثاني : الملازمة بين الظلمة وعدم طرد مفاهيم الجحود من النفس .
الثالث : إحاطة المنافقين بالظلمة عقوبة عاجلة من عند الله عز وجل وبرزخ دون إفتتان الناس بأسباب الشك والجدال وسموم الريب التي يبثونها .
الرابع : بيان قانون في الإدارة التكوينية ، وهو أن الله عز وجل يجعل الظلمة والحيرة تحيط بالمنافقين حتى مع وجود النور من حولهم ، إذ تترى المعجزات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتوالى نصره والمؤمنين وسراياهم في ميادين القتال بمدد ملكوتي من عند الله مع تفوق الطرف الأخر من المشركين بالعدد والعدة والتدريب والتأهيل وإن لم يتعظ ويعتبر من معركة بدر فقد جاءت معركة أحد ثم الخندق، وكل واحدة منها مدرسة جهادية وحجة واقعية لتنزه الناس عن النفاق.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبشر المؤمنين بالنصر وهم في ساعة الشدة لتنمية ملكة التوكل على الله عز وجل عندهم ، وتأكيد المعجزة وصدق الوحي والتنزيل عند تحقق النصر (عن ابن عباس قال : أنزل الله في شأن الخندق ، وذكر نعمه عليهم ، وكفايته إياهم عدوهم بعد سوء الظن ، ومقالة من تكلم من أهل النفاق { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها } وكانت الجنود التي أتت المسلمين . أسد . وغطفان . وسليما . وكانت الجنود التي بعث الله عليهم من الريح الملائكة فقال { إذ جاءُوكم من فوقكم ومن أسفل منكم } فكان الذين جاؤوهم من أسفل منهم قريشاً ، وأسداً ، وغطفان فقال : { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً ، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } يقول : معتب بن قشير ومن كان معه على رأيه { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي } يقول أوس بن قيظي ومن كان معه على مثل رأيه { ولو دخلت عليهم من أقطارها } إلى { وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً } ثم ذكر يقين أهل الايمان حين أتاهم الأحزاب فحصروهم وظاهرهم بنو قريظة ، فاشتد عليهم البلاء ، فقال : { ولما رأى المؤمنون الأحزاب } إلى { إن الله كان غفوراً رحيماً } قال : وذكر الله هزيمة المشركين ، وكفايته المؤمنين ، فقال : { ورد الله الذين كفروا بغيظهم . . . })( ).
لما أخبر الله عز وجل عن المنافقين بقوله الكريم [وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( )جاءت هذه الآية ببيان سوء الحال المترشح عن العناد وقبح الكفر في قرارة النفس ، وفيه شاهد بأن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كافية لهداية الناس جميعاً ممن إطلع عليها من أهل المدينة وأن الإيمان والتصديق بها يكون من المسلمات التي يقر بها العقل ويتلقاها بالقبول من غير واسطة لجلائها ووضوحها ، إذ تبين هذه الآيات حقيقة وهي عدم وجود عذر أو سبب لتخلف المنافقين عن الإيمان الصادق وموافقة ما في النفس مع ما يجري على اللسان من مفاهيم الإيمان ومفردات الإسلام.
الثانية : تقدم قوله تعالى[يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( )، وفيه بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى :لقد أنعم الله عز وجل على أهل الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل القرآن لجذب الناس إلى مواطن الخير والصلاح قال تعالى [وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ]( ).
فآمن شطر من الناس بمعجزاته وجحد قوم ،وإختارت طائفة النفاق والخداع والختل فتفضل الله عز وجل بفضحهم في الآية أعلاه ، ولم يقف الأمر عند حدود الفضح بل جاءت آية البحث لبيان سوء حالهم ، ومنعهم من إشاعة صيغ الخداع بين الناس.
الثانية :من الثوابت والغايات الحميدة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نشر الأخلاق الفاضلة ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على بدايات تغشي الأرض بخلق النبوة والفلاح ، وتهذيب النفوس , وهو على وجوه :
الأول : إنه مقدمة لملكة طاعة الله عز وجل.
الثاني : الإجتهاد في عبادة الله عز وجل.
الثالث : إظهار الخضوع لله سبحانه، فتفضل ورمى المنافقين بحال من الظلمة وأبقاهم في حيرة من أمرهم ، عاجزين عن نشر الخداع الذي يكون رذيلة وإثما ً عندما يصبح ضداً وحرباً على الإيمان وأهله.
الرابع : خلع رداء الكبر والعناد.
الخامس : نشر مفاهيم حسن الصلات والمعاملة بين الناس.
السادس : الملازمة بين الإيمان والأخلاق الفاضلة.
الثالثة : جاءت الآية اعلاه بتشريف المؤمنين بقوله تعالى[يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا] ( ) من جهات :
الأولى : إقتران ذكر المؤمنين مع ذكر الله عز وجل في ذات الموضوع.
الثانية : إكرام المسلمين بتلقيهم الأذى في جنب الله عز وجل .
الثالثة : بشارة النصر والظفر للمؤمنين وعدم لحوق الضرر بهم بسبب مخادعة المنافقين بلحاظ أن مخادعة المنافقين لله عز وجل ليس فيها من ضرر إلا على ذات المنافقين وكذا بالنسبة للمؤمنين بفضل وعناية الله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ]( ).
الرابعة : تلقي المسلمين المخادعة وقد بلغوا مراتب الإيمان التي هي حرز وواقية لهم .
الخامسة : تأكيد القبح الذاتي والغيري للمخادعة من جهات :
الأولى : موضوع المخادعة هو الزور والكذب في إدعاء الإيمان .
الثانية : من مصاديق قوله تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ]أمور :
الأول : ظلم المنافقين لأنفسهم بالتخلف عن الإيمان الصداق.
الثاني : تعدي المنافقين بالإكتفاء باعلان الإيمان والتصديق بالنبوة، والتنزيل باللسان دون الإعتقاد.
الثالث :عجز الكفار عن إخفاء ما في نفوسهم عن الله عز وجل .
لتدل الآية ومن باب الأولوية القطعية على علم الله عز وجل بكل ما يقول ويفعل المنافقون .
الثالثة : خيبة الكفار بمخادعة الله والتي لا تجلب لهم إلا الخزي والبلاء ، ومنه آية البحث التي تتضمن ذمهم ودعوة الناس لإجتناب سنتهم وقبيح أفعالهم .
الرابعة : من قبح المخادعة مع الله ما ينتظر أهلها من العذاب الأليم في الأخرة ، إذ جاء الوعيد في القرآن بأنهم في الدرك الأسفل من النار
عن أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إن المتكبرين يوم القيامة يجعلون في توابيت من نار ، يطبق عليهم ويجعلون في الدرك الأسفل من النار) ( )، مما يدل على أن أسفل النار وأشد عذابها لا يختص بالمنافقين .
(وأخرج البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال : إن الله أوحى في الزبور « يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقاً نبياً لا أغضب عليه أبداً ولا يعصيني أبداً ، وقد غفرت له أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء ، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل ، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء ، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا لي لكل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم ، يا داود إني فضَّلت محمداً وأمته على الأمم ، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم ، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان ، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته ، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافاً مضاعفة ، ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك ، وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم ، فإن دعوني استجبت لهم ، فإما أن يروه عاجلاً وإما أن أصرف عنهم سوءاً وإما أن أؤخره لهم في الآخرة ، يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقاً بها فهو معي في جنتي وكرامتي ، ومن لقيني وقد كذب محمداً وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صباً ، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره ، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار) ( ).
ترى هل من صلة بين المثل الوارد في هذه الآية [كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا]( )وبين قوله تعالى [وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ] ( )الجواب نعم ، لأن الأنسان بفطرته يسعى لجلب المصلحة ودف المفسدة ، وقد يظن المنافقون أن مخادعة الله والذين آمنوا تجلب لهم النفع فجاء المثل في هذه الآية فضحاً للمنافقين ، وبياناً لصيرورتهم في حال ظلام دامس بعد هذه المخادعة من فلاح لأنها ميل عن جادة الصواب ، ولذا تفضل الله عز وجل وهدى للمسلمين إلى فعل متحد وهو قول [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) ويتضمن وجوهاً :
الأول : الدعاء والمسألة .
الثاني : صفة القرآنية .
الثالث : صبغة الوجوب العيني .
الرابع : التعدد والتكرار خمس مرات في الصلاة كل يوم .
الخامس : تلاوة هذه الآية من قبل المسلمين والمسلمات .
السادس : التلاوة والصلاة بقصد القربة إلى الله , فلا غرابة أن يقرأوا القرآن بشوق ورغبة ، فان قلت من المنافقين من يتلو هذه الآية, والجواب لقد حرموا أنفسهم من قصد القربة إلى الله ، وتلاوتهم لا تتعدى اللسان مع بقاء البواطن والنوايا على مسالك الضلالة ، وهذا البقاء من الظلمة التي احاط بها المنافقون أنفسهم فيسمعون القرآن ولكنهم يعجزون عن الإنتفاع من ضيائه .
وأختتمت آية المخادعة بقوله تعالى [وَمَا يَشْعُرُونَ]( )في ذم إضافي للمنافقين وهناك ملازمة بين الظلمة وعدم الشعور إذ أن الذي يحيط به ظلام دامس لا يشعر بما حوله ، وقد يباغته عدو أو آفة , لذا يفيد الجمع بين الآية أعلاه التخويف للمنافقين والإخبار بأنكم في حال شدة وعرضة للبلاء والضرر الشديد , وتقدير الصلة بين خاتمتي الآيتين بخصوص المنافقين على وجوه :
الأول : وما يشعرون أن الله ذهب بنورهم .
الثاني : ذهب الله بنورهم وما يشعرون .
الثالث : وما يشعرون أن الله تركهم في ظلمات .
الرابع : وما يشعرون أنهم لا يبصرون .
ويبين المثل في هذه الآية صفحة من خداع المنافقين لأنفسهم ، من جهات :
الأولى : ترشح سلب النور الذاتي عن مخادعة النفس ونسبت الآية الكريمة سلب نور المنافقين إلى الله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الثانية : تفويت المنافقين على أنفسهم نعمة الإستضاءة من النار والتزود من إشراقات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمور الدين والدنيا ، وإتخاذ العبادات زاداً ومتاعاً للآخرة (عن مقاتل بن حبان قال « لما نزلت هذه الآية { وتزوّدوا } قام رجل من فقراء المسلمين فقال : يا رسول الله ما نجد زاداً نتزوّده . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تزوّد ما تكف به وجهك عن الناس ، وخير ما تزودتم به التقوى) ( ).
الثالثة : إخبار المسلمين بانتفاء النفع من المنافقين عند الحاجة وساعة الشدة ، لأفتقارهم إلى البصيرة ومقدمات الحكمة ، وعجزهم عن تدبر سواء السبيل ، قال تعالى [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ]( ).
الرابعة : بيان حقيقة وهي أن الدنيا دار جزاء إبتدائي ، وفيها ثواب وعقاب ، ومن خصائص الثواب زيادة هدى المؤمن وإعانته في فعل الخيرات ، أما العقاب فهو لزجر الكافر عن كفره ، والحيلولة دون تماديه بالمعاصي والذي يلقي على عاتقه الأوزار الثقيلة من سوء فعله والتسبب في إفتتان ومحاكاة غيره له .
لغة المثل فضح للمنافقين
وتضمنت الآية ذم المنافقين والمخادعين بلغة المثل ورميهم بثلاث خصال وهي :
الأولى : ذهاب النور الذاتي ، ويحتمل هذا النور وجوهاً :
الأول :النور من الفطرة وأصل خلق الإنسان وهو من رشحات قوله تعالى [فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] ( ).
الثاني : لما جعل الله عز وجل آدم خليفة في الأرض فانه رزقه وذريته سلاحاً ذاتياً من النور .
الثالث : تأكيد أصالة الهدى عند الإنسان .
الرابع : المراد من النور هو نفع مكتسب مترشح عن النطق بالشهادتين وإظهار الإيمان وأن كان ما في الصدور مغايراً له ،قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ]( ).
الخامس : النور المذكور في الآية خاص بموضوع المثل فيها وإرادة الشعاع والضياء الذي تبعثه النار في قوله تعالى [فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ] ( )ولا تعارض بين هذه الوجوه ،إلا أن الوجه الأخير في طولها وليس موضوعاً مستقلاً بذاته .
الثانية : ترك المنافقين في حيرة وظلمات ، ترى لماذا لم تقل الآية في ظلمة، الجواب بيان التعدد في الظلمة من وجوه :
الأول : كثرة الموضوعات التي يكون فيها المنافقون في ظلمة وحسرة .
الثاني : تعدد طبقات الظلمة ، لتكون ظلمة بعد ظلمة .
الثالثة : كثافة الظلمة ، وصيرورتها كحال الجمع .
الرابع : إتصال آنات وزمن الظلمة التي تتغشى المنافقين .
الخامس : إرادة الملازمة بين النفاق والظلمات ،فالذي يصر على بقاء الكفر مستقراً في نفسه تحيط به الظلمات ، لمنع إضراره بالمسلمين خاصة وأنه يتظاهر بالإيمان كذباً وزوراً ،قال تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا]( ).
السادس : صيرورة الظلمات برزخاً بين المنافقين وحاجاتهم الدنيوية لذا تجدهم في حال ضيق وحسرة .
السابع : من معاني الجمع في قوله تعالى [ظُلُمَاتٍ]التقاء الظلمة التي تحيط بأي واحد من المنافقين مع الظلمة التي تتغشى الآخر منهم .
الثامن : تجدد أفراد من الظلمة مع إقامة المنافق على حال النفاق والمخادعة .
التاسع :إرادة الحجب التام للرؤية القلبية عند المنافقين لأن قلوبهم مملوءة بالكفر والشرك .
وجاءت الآية بصيغة المثل لبيان حقيقة وهي أن المعجزات تترى على النبي محمد الله عليه وآله وسلم وتظهر للناس ولكن المنافقين يحيطون أنفسهم بطبقات من الظلمة التي تعني في ذاتها الإصرار على الجحود .
الثالثة : إختتام آية البحث بنعت المنافقين بأنهم [لاَ يُبْصِرُونَ] وفيه وجوه :
الأول :لا يبصرون بسبب الظلمات التي جعلوا أنفسهم فيها .
الثاني : لا يبصرون ما ترتب على معرفة المسلمين لحال المنافقين في الظلمة، إذ يتعظ الإنسان مما حوله ، وما يراه على الغير من الأثر عند القول أو الفعل وهو من بركات الحواس عند الإنسان ومن مصاديق قوله تعالى [خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( )، من جهات :
الأولى : إتعاظ الإنسان بمعرفة الأثر والرد عند الطرف الآخر .
الثانية : ظهور معاني تلقي الأمر والفعل الصادر من الغير .
الثالثة : إعتبار الناس الآخرين ،ممن يرى الفعل وأثره عند الغير .
وحجب المنافق عن نفسه هذه النعمة ، فان قلت لا يختلف المنافق مع غيره من الناس في وجود الحواس , والجواب هذا صحيح ، ولكنه يختلف عنهم بتعطيله للحواس في الأمور التي تتعلق بمصلحته ونفعه في أمور الدين والدنيا ولو وظف هذه الحواس في موارد الخير فانها لا تقبل منه ، قال تعالى [وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ]( .
صلة المثل ب [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ]
جاءت آية البحث بمثل قرآني يتعلق بأمر جلي ظاهر للناس جميعاً في كل زمان وهو إستيقاد النار وترشح الضياء منها ، وفق قانون العلة والمعلول الثابت في كل زمان ، والأصل هو إنتفاع الذين حول النار من ضيائها ، بل وغيرهم إذ يرى البعيد عنها تلك النار وما يحيط بها ، لذا كانت من عادة العرب إيقاد النار ليلاً كعنوان وأمارة على الدعوة وإستقبال الضيف إذ لا ترى البيوت إلا بالضياء ، وقد يضل الذي يسير في الصحراء طريقه في المفازة ويهلك لتكون هذه النار سبباً لنجاته وإعانته وإطعامه ، ولكن المنافقين لا ينتفعون من البركات التي تترشح عن النار حين توقد لهم لدعوتهم إلى الإسلام وتنزيه النفوس من مفاهيم الكفر والضلالة ، وجاءت آية البحث بصيغة المفرد من جهتين :
الأولى : الذي يوقد النار .
الثانية : ذات النار ، وإن كانت اسم جنس .
بينما ذكرت المنافقين بصيغة الجمع من جهات :
الأولى : حرمان المنافقين والمنافقات من النور ، فلا يكون عند بعظهم نوراً يستضئ به ويدل أصحابه على الصراط .
الثانية : الآية إنحلالية والمقصود بخصوص المتحد من المنافقين ذهب الله بنوره .
الثالثة : الجزاء العاجل من الله عز وجل بترك المنافقين في ظلمات ويحتمل وجوهاً :
الأول : ترك كل منافق في ظلمة .
الثاني : من المنافقين من تحيط به ظلمة واحدة ، ومنهم من تحيطه ظلمات متعددة .
الثالث : إرادة إجتماع ظلمات حول كل منافق , والصحيح هو الثالث لتلقي هذه الظلمات مع حال غياب النور عن ذات المنافق ، وهل من برزخ بين النور والظلمة في ذات الإنسان ، إي هل يحتمل قوله تعالى [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ] ( ) عدم صيرورتهم في ظلمة تامة , الجواب لا ، ويعني غياب النور الضلالة وإنعدام البصيرة والعجز عن التدبر في الآيات والمعجزات .
الثالثة : إنعدام الرؤية عند المنافقين , ومن معاني الآية وجوه :
الأول : الآية إنحلالية وتقديرها بالنسبة للمنافق (وتركه في ظلمات لا يبصر ).
وتقديرها بالنسبة للمنافقة : وتركها في ظلمات لا تبصر .
وهذا التقدير لا يتعارض مع إرادة العموم المجموعي ، فالمنافقان مجتمعين لا يبصرون ، فلذا ورد قوله تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ] ( ).
ليكون من معاني ودلالات آية البحث الإنذار من وجوه :
الأول :الإنذار والوعيد للمنافقين من الآثار والأضرار المترتبة على النفاق، ومنها الإصابة بداء العمى ، وقد تقدم في ذم الكفار أن غشاوة تعلو أبصارهم ، قال تعالى [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ]( )بينما الكفر أشد رتبة لأنه جحود بالقلب واللسان والجواب جاءت الآية أعلاه بثلاث خصال للمنافقين الأولى منها الختم على قلوبهم ، بينما رمى الله المنافقين بالظلمة وعدم البعد ليكون باعثاً على السعي إلى النور ، وهو قريب منه كما تبينه آية البحث بقوله تعالى [نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ] ( )
الثاني : إنذار وتحذير الناس من الإنصات للمنافقين لأنهم لا يتكلم عن دراية أو بصيرة ، لذا فمن إعجاز البحث أمها لم تذكر اللسان وحاسة النطق .
الثالث : تنبيه المسلمين بضرورة إجتناب طاعة المنافقين ، خاصة وأنهم يأمرون بالمنكر ويدعون إلى الصدود عن سبيل الله والقعود عن الجهاد ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ]( ).
وتتضمن آيات القرآن الإخبار عن كذب المنافقين وأن قرنوا أقوالهم باليمين والحلف ،قال تعالى [وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن وفلسفة أسماء سوره أن آيات كثيرة تخص المنافقين جاءت في سورة التوبة ، وفيه ترغيب لهم بالتوبة والإنابة والتخلي عن النفاق وما يسببه من ضنك الحياة بالعيش في ظلمات متراكمة .
ترى ما هي الصلة بين قوله تعالى [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ] ( )وبين [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] ( )الجواب من وجوه :
الأول : ذهاب النور مقدمة لزيادة المرض الذي يبتل الله به المنافقين .
الثاني : ذهاب النور الذاتي نتيجة وأثر لزيادة مرض المنافقين .
الثالث : إرادة نسبة التساوي بين ذهاب النور وزيادة المرض.
الرابع : زيادة المرض أعم من ذهاب النور .
وباستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة .
لذا من إعجاز الآية أعلاه أنها لم تقل (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ) ولم تخبر عن حصول الزيادة في مرض القلوب ذاته، بل جاءت بالمعنى الأعم وأنها تتعلق بأشخاص المنافقين مجتمعين ومتفرقين ليكون بين مرض قلوبهم وبين زيادة المرض التي تلحق بهم من جهة الموضع والسنخية عموم وخصوص مطلق لأن زيادة المرض لا تختص بالقلوب ، وهو من إعجاز القرآن ، وفيه دعوة للتدبر بالمصاديق الخارجية لهذا المرض منها :
الأول : تحقيق المسلمين النصر في ميادين القتال .
الثاني :دخول الناس في الإسلام جماعات وأفراداً , قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ]( ).
ويتجلى في الآية أعلاه إعجاز من جهات :
الأولى :البشارة بنصر المسلمين .
الثانية : نسبة نصر المسلمين إلى الله عز وجل ودلالتها على الحتم والقطع، كما ورد في قوله بخصوص خاتمة ونتيجة معركة بدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثالث : من خصائص نعم الله عز وجل على المؤمنين إتصافها بالتمام والكمال ،فأكدت الآية الأولى من سورة النصر أعلاه أن الفتح قادم وهو متعقب للنصر ليكون من قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( ) إخبار عن تعدد المعارك التي يخوضها المسلمون وخروجهم منها ظافرين ليأتي ويتحقق الفتح بعدها وفيه دعوة للمسلمين للصبر ، وزيادة في مرض المنافقين وسلب لنورهم .
الثالث : نزول كل آية من القرآن سبب لزيادة مرض قلوب المنافقين من جهات :
الأول : ذات نزول الآية .
الثاني : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآية .
الثالث : يصيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الشدة عند نزول الوحي ،وعن الإمام علي عليه السلام قال : (آخر ما نزل عليه سورة المائدة فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شئ لقد نزلت عليه وهو على بغلة الشهباء وثقل عليه الوحى حتي وقفت وتدلى بطنها حتى رأيت سرتها تكاد تمس الارض وأغمى على رسول الله صلى الله عليه واله حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي) ( ).
(عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي أَثَّرَ عليه وكرب لذلك وتَرَبّد وجهه) ( ).
الرابع : تلقي المؤمنين الآية القرآنية من النبي بالتصديق والقبول والمبادرة إلى العمل بمضامينها .
الخامس : تلاوة الصحابة للآية القرآنية ، وتناقل نبأ الآية الجديدة التي تنزل بذات يوم النزول للبشرى والتدبر في مضامينها القدسية ومعانيها ودلالاتها .
السادس : وقوف المسلمين بين يدي الله في الصلاة اليومية .
السابع : تجلي معاني الأخوة الصادقة بين المؤمنين ، وتعاهدهم للأخلاق الفاضلة , قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ويدل قيد الإيمان في الآية أعلاه على تقوم هذه الأخوة بسنن التقوى والصلاح والمناجاة بالمعروف ، وهو الأمر الذي يزيد حنق المنافقين ويملأ صدورهم بالغيظ وهو من مصاديق قوله تعالى [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا]إذ يأتي هذا المرض بالذات وبالواسطة وإنعكاس أسباب خارجية .
الثامن : تثاقل المنافقين عند النداء إلى الصلاة ، خاصة وأنها تتكرر خمس مرات باليوم ، لتكون في كل مرة فضحاً للنفاق ومناسبة ودعوة للشفاء منه ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ًأثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ) ( ).
التاسع : ذكر القرآن للمنافقين على نحو الخصوص وبصيغة الذم والوعيد، قال تعالى [بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ] ( ) بأن لهم عذاباً أليماً .
العاشر : خيبة المنافقين وعدم ترتب الأثر على تثبيطهم المؤمنين وصدهم عن سبيل الله .
الحادي عشر : سخرية الله عز وجل من المنافقين التي ترتب عليها آثار كثيرة تظهر في الأبدان وعالم الأفعال وعجز المنافقين عن الإضرار بالمؤمنين، وتحملهم الأوزار بالطعن بهم والتشكيك بجهادهم وإخلاصهم قال تعالى في ذم المنافقين [الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
ومع إبتلاء المنافقين بزيادة المرض فقد أخبرت الآية عما ينزل بهم من العذاب بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) وقد تقدم أن المراد من العذاب المعنى الأعم وإرادة ما يلحقهم من الضرر وصنوف البلاء في الدنيا واللبث في نار جهنم في الآخرة .
وبلحاظ المثل الوارد في آية البحث فان عذاب المنافقين على وجوه :
الأول : الحرمان من نعمة الضياء الذي تبعثه النار في الليل ، وهو وسيلة وآلة لجلب المصلحة ودفع الضرر، ومناسبة للعمل والإجتهاد وعدم التفريط بالوقت ، أما المؤمن فانه ينتفع من الضياء كما إنتفع من نور نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والضياء المنبعث من آيات القرآن .
الثاني : التباين بين حال المؤمنين والمنافقين من جهة الإكتساب من الضياء والنور.
الثالث : مصاحبة الحسرة للمنافقين لحرمانهم من النور , فصحيح أوقات الإستضاءة من النار تكون في الليل إلا أن الأسى والحسرة بسبب الحرمان من نعمة الإستضاءة، لتكون الحسرة في المقام من العذاب الدنيوي ، ويمكن إستقراء قانون كلي وهو إتصاف عذاب الدنيا بخصائص :
الأول : العذاب الدنيوي نوع بلاء وأذى.
الثاني : مصاحبة الشعور بالحسرة والأذى لإرتكاب المعصية.
الثالث : إستحضار المنافق لسبب هذا الأذى بمجيء آيات القرآن لتذكير بقبح النفاق وأنه لا يجلب لصاحبه إلا الأذى، وعذاب المنافق في الدنيا من الكلي المشكك الذي يكون على درجات متعددة في موضوعها وكيفيتها.
وقد يقال أن المرض في قوله تعالى[فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، ليس من العذاب بدليل واو العطف في الآية(ولهم عذاب أليم) والتي تفيد الغيرية والتعدد، وأن المرض غير العذاب، والجواب إنه عطف من جهات:
الأولى : عطف العام على الخاص.
الثانية : عطف الأشد على الأخف.
الثالثة : عطف الدائم على المؤقت.
الرابعة : عطف الأخروي على الدنيوي.
الخامسة : عطف الكثير على القليل.
السادسة : عطف الذي من الغيب على الحاضر.
السابعة : عطف الذي يقوم به الملائكة على الذي يأتي من عند الله، لذا أكرم الله عز وجل الإنسان في الدنيا ولم يسلط عليه غيره لينزل به المرض والداء، فنسب الله عز وجل زيادة مرض المنافقين لنفسه وأمره ومشيئته بقوله تعالى(فزادهم الله مرضاً) وفيه إنذار من العذاب الأليم يوم القيامة، إذ تتآزر فيه الملائكة والنار والحجارة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
وهل يشمل التحذير والإنذار في الآية أعلاه المنافقين والمنافقات الجواب نعم وكأن لفظ الذين آمنوا ينقسم قسمين:
الأول : المؤمنون والمؤمنات الذين أخلصوا الإيمان.
الثاني : المنافقون الذين أظهروا الإسلام، وأعلنوا التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع بقائهم على الكفر والضلالة، وإتعاظ المنافق من مضامين هذه الآية باب للتوبة والإنتقال إلى القسم الأول أعلاه لذا جاء بعده بآيتين[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا]( ).
البيان في قوله تعالى [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ]
ورد لفظ نورهم في القرآن أربع مرات، ثلاث منها في الثناء على المؤمنين وبيان ما أعدّ الله عز وجل لهم من الثواب العظيم وبما يجعله حاضراً في الوجود الذهني ومحسوساً عندهم وهو من فلسفة إندفاع طائفة منهم للقتال وعشقهم للشهادة في سبيل الله ، قال تعالى [ُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ] ( )وفيه بشارة مصاحبة النور والعمل الصالح للمؤمنين في الآخرة ، ويحتمل هذا النور وجوهاً :
الأول : إنه نور مستحدث في الآخرة , ليكون علامة مباركة يعرفهم بها الملائكة والناس والخلائق .
الثاني : أنه نورهم وعملهم الصالح في الدنيا صاحبهم في الآخرة .
الثالث : المراد من النور هو عنوان ومرآة للثواب العظيم الذي فازوا به.
الرابع : ترشح النور عن نماء الصالحات التي عملوها أضعافاً.
ولا تعارض بين هذه الوجوه بفضل من الله عز وجل، والوجه الأول في طول الوجوه الأخرى وليس معارضا لها ، ويدل عليه نسبة إضافة النور للمؤمنين ، وتتجلى الغيرية والتعدد في قوله تعالى [لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ]( ).
ولم يذكر سلب النور عن الناس إلا في آية البحث، وهل يختص هذا السلب بخصوص المنافقين , الجواب لا ، إنما جاءت الآية من باب المثال وإلا فان سلبه عن الكفار من باب الأولوية القطعية .
لقد إنتقلت الآية من المثال إلى عالم الواقع وحال المنافقين على الحقيقة ليكون من إعجاز المثل القرآني أمور :
الأول : موافقة المثل القرآني لكل المدارك العقلية .
الثاني : قرب المثل القرآني من الناس جميعاً على إختلاف مذاهبهم ومشاربهم .
الثالث : عدم وقوف المثل القرآني عند التمثيل وحكاية التشبيه، بل ينتقل إلى الواقع والموضوع الذي هو غاية للتمثيل .
الرابع : المثل القرآني بيان للناس ومقدمة للبيان ، ووسيلة للإصلاح ونبذ النفاق والكفر وأسباب الضلالة .
الخامس : بيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه ، فمع ضياء النار لما حولها فان المنافقين في ظلام دامس وهم حول النار لا يبصرون ، وهل تمنع هذه الظلمة رؤية المؤمنين لهم ، الجواب لا ، لأن هذه الآية كاشفة لهم ولما هم عليه من البؤس وكأنهم في حال عمى ، لذا جاء وصفهم في الآية التالية [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ]( ).
السادس : تتعلق خاتمة المثل القرآني بالمشبه وليس المشبه به ، وبالأمر الإبتلائي والقضية الواقعية ليتحقق النفع الأمثل والفائدة العظمى من المثل القرآني.
ترى لماذا ذكرت الآية ذهاب نور المنافقين، الجواب المراد بيان حال الفقر الذاتي عند المنافقين وصيرورتهم في ظلمة وضلالة ، وهو من أسرار الصلة بين هذه الآية والآية السابقة، وتكون علة ذهاب النور على وجوه :
الأول : شراء المنافقين والمخادعين الضلالة .
الثاني :تفريط المخادعين بالهدى ، وجعله ثمناً لما يجلب لهم الخزي والعذاب .
الثالث : إرادة بيان الملازمة بين الهدى والنور الذاتي ،فحالما يتخلى الإنسان عن الهدى يكون في ظلام دامس وإن كان متمتعاً بحاسة البصر، والضياء يحيط به ، فهو يحس بلهب النار وشدة حرارتها , ولكنه يحرم نفسه من نعمة النظر لها ، ومنها وبواسطتها .
ومن الإعجاز في الآية أنها حينما ذكرت إضاءة النار لما حولها إنتقلت إلى ذهاب نور المخادعين لبيان الفارق والمائز بين قوله تعالى [أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا] ( )، وبين حرمان المنافقين من ضياء النار ونورهم الذاتي.
وعن ابن عباس في الآية أعلاه قال : كانت تلك النار نوراً) ( )، ومن حولها موسى عليه السلام والملائكة ، أي هناك تباين في موضوع النار ، إذ أنها في الآية أعلاه حقيقة ونور وبركة لما حولها , أما النار في آية البحث فهي من باب المثال وجاءت لذم فريق من الناس وهم المنافقون.
وعلى إرادة ذات المنافقين من المثل وأنهم هم الذين استوقدوا النار فيكون المعنى حينما يهمون بالعمل ويستعدون لفعل شئ تحبط أعمالهم وتصيبهم الخيبة وتنزل بهم الحيرة والذهول وهو من الإبتلاء والجزاء المترشح عن شراء الضلالة وعن بيع الهدى .
ترى لماذا إبتدأ نظم القرآن بذكر سلب النور عن المنافقين، الجواب من وجوه :
الأول : بعث الحسرة والندم في قلوب الكفار والمنافقين .
الثاني : دعوة الناس لدخول الإسلام لما فيه من النجاة من الظلمة وآفاتها.
الثالث :آيات القرآن حرب على الكفر والنفاق ، فأراد الله عز وجل إعانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في حروبهم ضد الشرك والضلالة بجعل المنافقين مشغولين بأنفسهم .
الرابع : مغادرة النور للمنافقين في الحياة الدنيا .
الخامس : بيان حرمان المنافقين من ثواب النطق بالشهادتين وأداء العبادات الظاهرية .
السادس : بعث المسلمين والناس للتفقه في الدين.
وهل يكون نظم هذه الآيات ومجيؤها بخصوص المنافقين والمخادعين وذمهم جزء علة في إبتداء آيات النور وسبله ، الجواب لا ، لأن الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة ولعمومات قوله تعالى [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ] في مفهومه على أمور :
الأول : من نعم الله عز وجل على الناس إكتساب النور في الدنيا، وفي الآخرة.
الثاني : يأتي النور لترغيب الناس بالإيمان .
الثالث : المراد نور الإيمان والهدى .
الرابع : تعاهد المؤمنين لنورهم ومصاحبته لهم إذ أخبرت الآية عن مغادرة النور للمنافقين بسبب كفرهم وجحودهم بالباطن وخلوتهم برؤساء الضلالة ، ليدل في مفهومه على أن نور المؤمنين معهم يضئ لهم طرق الهداية ويرشدهم في الصراط المستقيم.
وعن ابن عباس في الآية أعلاه (قال : ليس أحد من الموحدين إلا يعطى نوراً يوم القيامة ، فأما المنافق فيطفأ نوره والمؤمن يشفق مما يرى من إطفاء نور المنافق ، فهو يقول :{ ربنا أتمم لنا نورنا})( ).
ويحتمل أصل النور وجوهاً :
الأول : مصاحبة النور لولادة ونشأة الإنسان ، وهو من رشحات قوله تعالى بخصوص خلق آدم والأمر للملائكة بالسجود[فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( ).
الثاني : النور عرض مبارك مصاحب للإيمان والتقوى .
الثالث : يأتي النور مع دخول الإسلام والنطق بالشهادتين .
الرابع : ليس من نور أصلاً عند المنافقين .
الخامس : قوله تعالى [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ] أعم من حلول النور ثم مغادرته خاصة وأن الآية جاءت من باب المثال وليس الحقيقة وأن النور مقتبس من النار التي أوقدت وأضاءت ما حولها مع حجب عنهم النور ، وكما أن نور القمر من ضياء الشمس فان نور هؤلاء من النار التي أوقدت وكأنها في المقام مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة الخالدة والمعجزات الباهرة .
والصحيح هو الثاني والثالث والخامس ، وفيه زجر للناس عن النفاق ودعوة للمنافقين لهجرانه لميل الإنسان بالفطرة إلى النور وإتباع الضياء ، وإدراك حقيقة وهي تعطيل الأعمال في الظلمة.
الإضاءة
تكون الإضاءة على وجوه :
الأول : إضاءة الشيء لذاته وصيرورته مرئياً .
الثاني :بعث الشيء الضياء لينير غيره .
الثالث :إرادة المعنى الأعم كما في النار فانها تضئ ذاتها وما حولها، لتكون إضاءتها من الفعل اللازم والمتعدي في آن واحد .
فان قلت لا يجتمع الفعل اللازم والمتعدي في آن واحد وفق الصناعة النحوية إنما يعرف أحدهما بالقرائن كما في آية البحث [فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ] وأنه متعد.
الجواب هذا صحيح ، وتقدير الآية فلما أضاءت نفسها وأضاءت ما حولها .
ومن خصائص النار الإطراق، وفي الثناء على موسى وإنتفاعه من النار، ورد قوله تعالى[فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، عن ابن عباس قال: كانت تلك النار نوراً ( )، ويكون أثرها من الكلي المشكك الذي هو على مراتب متفاوتة بلحاظ شدة وغلظة النار ومدتها ، إذ قد تأتي على الشيء فتفنيه، أو تعمل فيه مع بقاء عينه كالكي ، أو تسخنه أو تجعله يستحيل إلى نوعية أخرى .
لذا إذا أكلت النار شيئاً نجساً يكون رماده طاهراً كالميتة عندما تصبح رماداً، ومنهم من قال بالتفصيل وأن طهارة المتخلف من النجس تكون عندما تأتي النار عليه وتأكله أكلاً قوياً وإلا فانه يبقى على نجاسته ، وقال جمع ببقاء النجاسة في المتخلف وإن صار رماداً .
ومن الإعجاز أن موضوع النار المذكورة في الآية الكريمة هو الإضاءة وليس فيها إحراق وضرر وأنها أوقدت بالإختيار وقصد الإنتفاع منها وتتضمن تطهير الذات وإنارة طريق الهدى .
ذهاب النور من العذاب
ترى ما هي الصلة بين [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ]( )، وقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الجواب فيه وجوه :
الأول : إتحاد موضوع الآيتين ، وتعلق الضمير[هُمْ]في الآيتين بالمنافقين .
الثاني : إرادة ذهاب النور في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فهو ظاهر من المثل الوارد في الآية وإستيقاد النار إذ لا عمل للناس في الآخرة إنما هي حساب وجزاء ومنه حرمان المنافقين من النور الذاتي (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده ، وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نوراً وكل منافق نوراً فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات ، فقال المنافقون : [انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ]( )، وقال المؤمنون : { ربنا أتمم لنا نورنا } فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً) ( ).
الثالث: بين العذاب الأليم وذهاب النور عموم وخصوص مطلق ،إذ أن رفع النور عن المنافقين من العذاب، وإذا كان الجزاء في الآخرة محسوساً وظاهراً ،فهل رفع النور في الدنيا أمر ظاهر ،الجواب نعم ،وهو الذي تؤكده هذه الآية لصيرورة المنافقين في حال ضنك وحرمان من جهتين :
الأولى :خارجية ، وهي إحاطة الظلام الدامس بهم .
الثانية :إنعدام الرؤية وعجز المنافقين عن توظيف حاسة البصر لجلب مصلحة أو دفع مفسدة مما يدل على أنهم في حال وهن وضعف ، ومع هذا فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يجهز عليهم ، وكانت سيرته معهم مرآة للقرآن ، وترجمة عملية لمضامينه القدسية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ).
(عن ابن عباس في قوله { يا أيها النبي جاهد الكفار } قال : بالسيف { والمنافقين } قال : باللسان)( ).
وبين جهاد المؤمنين للكفار وللمنافقين عموم وخصوص مطلق ،لتكون الآية من السبر والتقسيم ، فجهاد الكفار بالسيف والموعظة والإنذار ، وجهاد المنافقين بالموعظة والإنذار وتلاوة هذه الآيات , أما الغلظة في الآية أعلاه فهي عامة للفريقين في ذهاب الرأفة وعدم الرفعة .
(قال الحسن أكثر من يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقون فأمر الله تعالى أن يغلظ عليهم في إقامة الحد) ( ).
ولا دليل عليه إنما جاء قوله تعالى [وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( )عاماً وإنحلالياً ، وتقدير الآية (وأغلظ على الكفار وأغلظ على المنافقين )وهذه الغلظة عرض وحال إضافية ، فالغلظة مع الكفار بالسيف واللسان والشروط والتبكيت والغلظة مع المنافقين بالزجر والوعظ والحث على الصلاح.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المنافقين يختلفون عن الكفار فهم ليسوا أمة تجتمع على أمر مخصوص وقد لا يعرف بعضهم بعضاً من جهات :
الأولى :يخفي كل منافق عن صاحبه ما في باطنه من الكفر للخشية من كونه مؤمناً .
الثانية : يخشى المنافق دخول الإيمان في نفس صاحبه ومبادرته إلى التوبة النصوح فيفتضح أمر المنافق .
الثالثة :إدراك المنافق لقبح البقاء الذاتي والنفسي على الكفر .
الرابعة : إخبار هذه الآية عن كون المنافقين [فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ] ( )فهم لا يميزون بين الناس بلحاظ المبدأ والعقيدة .
وتدل الآية أعلاه من سورة التوبة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أشخاص المنافقين بفضل من عند الله عز وجل لإختيار مواطن الغلظة معهم، لتكون درساً وعبرة ومادة للهداية وواقية وحرزاً.
قال ابن شاهين: حدثنا محمد بن أحمد بن عبد العزيز الحراني حدثنا أبو طاهر خير بن عرفة حدثنا هانئ بن المتوكل حدثنا بقية عن الأوزاعي عن مكحول سمعت واثلة بن الأسقع قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة تبوك حتى إذا كنا ببلاد جذام وقد كان أصابنا عطش فإذا بين أيدينا آثار غيت فسرنا ميلاً فإذا بغدير حتى إذا ذهب ثلث الليل إذا نحن بمناد ينادي بصوت حزين: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة المغفور لها المستجاب لها والمبارك عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” يا حذيفة ويا أنس ادخلا إلى هذا الشعب فانظرا ما هذا الصوت ” قال: فدخلنا فإذا نحن برجل عليه ثياب بيض أشد بياضاً من الثلج وإذا وجهه ولحيته كذلك وإذا هو أعلى جسماً منا بذراعين أو ثلاثة فسلمنا عليه فرد علينا السلام ثم قال: مرحباً أنتما رسولا رسول الله فقلنا: نعم من أنت يرحمك الله قال: أنا إلياس النبي خرجت أريد مكة فرأيت عسكركم فقال لي جند من الملائكة على مقدمتهم جبرائيل وعلى ساقتهم ميكائيل: هذا أخوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلم عليه والقه ارجعا إليه فاقرأه عني السلام وقولا له لم يمنعني من الدخول إلى عسكركم إلا أني تخوفت أن تذعر الإبل ويفزع المسلمون من طولي فإن خلقي ليس كخلقكم قولا له صلى الله عليه وآله وسلم يأتيني.
قال حذيفة وأنس: فصافحناه فقال لأنس: يا خادم رسول الله من هذا قال: هذا حذيفة صاحب سر رسول الله فرحب به ثم قال: والله إنه لفي السماء أشهر منه في الأرض يسميه أهل السماء صاحب سر رسول الله قال حذيفة: هل تلقى الملائكة قال: ما من يوم إلا وأنا ألقاهم يسلمون علي وأسلم عليهم.
فأتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخرج معنا حتى أتينا الشعب فإذا ضوء وجه إلياس وثيابه كالشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” على رسلكم ” فتقدمنا قدر خمسين ذراعاً فعانقه ملياً ثم قعدا فرأينا شيئاً يشبه الطير العظام قد أحدقت بهما وهي بيض وقد نشرت أجنحتها فحالت بيننا وبينهما ثم صرخ بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” يا حذيفة ويا أنس تقدما ” فإذا بين أيديهما مائدة خضراء لم أر شيئاً قط أحسن منها قد غلبت خضرتها بياضنا فصارت وجوهنا خضراء وثيابنا خضراء وإذا عليها جبن وتمر ورمان وموز وعنب ورطب وبقل ما خلا الكراث فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” كلوا بسم الله ” فقلنا يا رسول الله أين طعام الدنيا هذا قال: ” لا ” قال لنا: هذا رزقي ولي في كل أربعين يوماً وليلة أكلة تأتيني بها الملائكة فكان هذا تمام الأربعين وهو شيء يقول الله له: كن فيكون فقلنا: من أين وجهك قال: من خلف رومية كنت في جيش من الملائكة مع جيش من مسلمي الجن غزونا أمة من الكفار قلنا: فكم مسافة ذلك الموضع الذي كنت فيه قال: أربعة أشهر: وفارقتهم أنا منذ عشرة أيام وأنا أريد مكة أشرب منها في كل سنة شربة وهي ريي وعصمتي إلى تمام الموسم من قابل قلنا: وأي المواطن أكثر مثواك قال: الشام وبيت المقدس والمغرب واليمن وليس من مسجد من مساجد محمد إلا وأنا أدخله صغيراً أو كبيراً فقلنا متى عهدك بالخضر قال: منذ سنة كنت قد التقيت أنا وهو بالموسم وأنا ألقاه بالموسم وقد كان قال لي: إنك ستلقى محمداً قبلي فاقرأه مني السلام وعانقه وبكى وعانقنا وبكى وبكينا فنظرنا إليه حين هوى في السماء كأنه حمل حملاً فقلنا: يا رسول الله لقد رأينا عجباً إذ هوى إلى السماء قال: يكون بين جناحي ملك حتى ينتهي به حيث أراد.
قال ابن الجوزي: لعل بقية سمع هذا من كذاب فدلسه عن الأوزاعي قال: وخير بن عرفة لا يدري من هو.
قلت: هو محدث مصري مشهور واسم جده عبد الله بن كامل يكنى أبا الطاهر روى عنه أبو طالب الحافظ به شيخ الدارقطني وغيره ومات سنة وقد رواه غير بقية عن الأوزاعي على صفة أخرى) ( ).
والنفاق نوع كذب وإختيار للتضاد الذاتي بين الظاهر والباطن بخلاف الأصل وما يجب على الإنسان من الإيمان الصادق ، (وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال : ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان) ( ).
وفيه دلالة على أن المنافق لا يكتفي بالإقامة النفسية على الكفر فيتجلى في الظاهر وعالم الفعل وعلى اللسان لذا أخبرت الآيات عن العذاب الأليم الذي ينتظره.
ومن إعجاز القرآن أن لفظ [الدَّرْكِ] ولفظ [الأَسْفَلِ] لم يرد في القرآن إلا في قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ) بخصوص عذاب المنافقين مع أن الدنيا فيها جبارون وعتاة ومردة ، لأن المنافقين إختاروا الكذب على الله ورسوله والمؤمنين ، وفي الدعوة إلى الإيمان وأسباب الصلاح وذم الكذابين قال تعالى [إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] ( ).
ومن كنوز القرآن إصلاح النفوس والأخلاق ومجئ الآية بالنهي عن خصلة مذمومة ليؤدي إلى التنزه عن خصال أخرى فصحيح ان آيات البحث جاءت لذم النفاق إلا أنها تتضمن الوعيد على الكذب وأنه رأس النفاق وسبب للفتنة والضلالة والإضرار بالذات والغير .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا كذب العبد فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل النار) ( ).
وحرب القرآن على النفاق بناء لصرح الهدى الصدق في الحياة الدنيا ، وجعله الأصل الذي تصدر عنه الأقوال والأفعال والشرط الإرتكازي الذي تتقوم به والعبادات والمعاملات لذا ورد (عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله جعل حسنة ابن آدم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أجزي به)( ).
فالصيام إمساك عن الأكل والشرب والمفطرات طيلة ساعات النهار ويستطيع المسلم أن ينفرد آناً ما من النهار ويخلو بنفسه فلا يراه أحد من الناس ولكنه يتعاهد الصيام وأحكامه ولا يأكل ولا يشرب وكذا فان الصدق سلامة من الكذب وخلف الموعد وخيانة الأمانة، ومن سلب النور الذاتي الذي ذكرته آية البحث ،والصدق بصر وبصيرة ، يرى الإنسان بواسطته الأشياء بحقيقتها ، وينجو من اللبس والخلط وإحاطة الظلمات به في الدنيا وفي الآخرة .
والكذب على ضروب ومراتب متباينة إلا أنها تتشابه وتلتقي بملازمة الإثم والعقاب لها .
وأشد الكذب هو النفاق ، لذا جاءت آيات ذمه في بدايات سورة البقرة مع التفصيل عن خصال المنافقين وسوء ما يلقونه ، فمن إعجاز هذه الآيات إقتران الشدة والعذاب بكل خصلة تذكرها هذه الآيات .
البيان في ذم النفاق
تتفرع هذه الأجزاء من التفسير عن العلوم التي يتضمنها قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )بخصوص خصال المنافقين وذم النفاق وسوء عاقبته .
ومن إعجاز القرآن إرتقاؤه في البيان إلى مراتب سامية، لم ولن يصلها كتاب آخر ، فجاءت هذه الآيات بأمور :
الأول :كشف ظاهرة النفاق .
الثاني : وجود منافقين بين المسلمين ، والإخبار عن قوم لم يؤمنوا إلا بألسنتهم ، ولولا هذه الآيات لتولى المنافق زمام المبادرة في الإحتجاج وسعى لمراتب الرئاسة بكفاية الظاهر وعدم الإطلاع على خفايا النفوس وما في القلب والنظر إليه .
(أخرج ابن جرير عن السدي في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله . . . } الآية . قال « بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة ، فلقوا رجلاً منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنم له وجمل أحمر ، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل واتبعه أسامة ، فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ثم أقبل إليهم فقال : السلام عليكم ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خير ويسأل عنه أصحابه ، فلما رجعوا لم يسألهم عنه ، فجعل القوم يحدثون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقولون : يا رسول الله لو رأيت أسامة ولقيه رجل فقال الرجل : لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فشد عليه فقتله وهو معرض عنهم ، فلما أكثروا عليه رفع رأسه إلى أسامة فقال : كيف أنت ولا إله إلا الله؟ فقال : يا رسول الله إنما قالها متعوذاً تعوذ بها . فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه . . . ! فأنزل الله خبر هذا ، وأخبر إنما قتله من أجل جمله وغنمه ، فذلك حين يقول { تبتغون عرض الحياة الدنيا } فلما بلغ { فمن الله عليكم } يقول : فتاب الله عليكم ، فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلاً يقول لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل ، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه) ( ).
وورد الحديث في الإكتفاء بالظاهر والنطق بالشهادتين وقول آمنت كواقية وسلامة من القتل , وجاءت هذه الآيات لبيان خصال المنافقين، وفيه مسائل :
الأولى :تمييز المنافقين من بين المسلمين .
الثانية : تأكيد وجود خصال النفاق وأمة من الناس تتصف بهذه الخصال المذمومة.
الثالثة : إراد ةالمنافقين خسارة المسلمين، لتحصيل الشماتة بهم، ولتكون مادة لدرن الحسد الذي يملأ صدورهم.
الرابعة : الدلالة على نيل المسلمين الثواب العظيم بجهادهم للمنافقين والإغلاظ عليهم ، والإجتهاد في جذبهم إلى منازل الهداية وترغيبهم والناس جميعاً بالإيمان.
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقوله الله عز وجل لأهل الجنة(يا أهل الجنة . فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخيرُ في يديك . فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول : ألا أعطيكم أفضلَ من ذلك فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحُلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً)( ).
ومن الإعجاز في آيات القرآن وصيغ ذم المنافقين فيه أن كل آية من هذه الآيات التي وردت في ذمهم، تتضمن عدة مصاديق وأفراد من قبيح قولهم وفعلهم وبما يجعل المسلمين على درجة عالية من التفقه في الدين، فالذي لايلتفت لخصلة أو خصلتين من خصال المنافقين تأتيه ذات الآية بخصلة ثالثة ثم تتعقبها آية أخرى تؤكد سوء فعلهم، لتكون سلاحاً ينجي المسلمين من الغفلة ويحول دون دبيب الجهالة لهم، ونجاة المسلمين من آفة الغفلة والجهالة من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).