المقدمة
الحمد لله الذي جعل الخلائق كلها محتاجة للحمد له، وتعجز عن بلوغ حقه في الثناء عليه ، وتقصر عن إحصاء نعمه ولو إجتمعت ، وتجلى هذا العجز مرة أخرى بالقصور عن إتيان مثل القرآن ، قال تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( )،ليكون القرآن مرآة للنعم الإلهية النازلة من عند الله , وشهادة على فضل الله في هداية الناس جميعاً، وهو من أسرار بقائه في الأرض بصبغة السلامة من التحريف، والعصمة من التضييع، إذ تفضل الله عز وجل بجعل التلاوة منه واجباً يومياً على كل مسلم ومسلمة وإلى يوم القيامة لتكون مناسبة للحمد لله وتمجيده وتسبيحه سواء بذات التلاوة التي تتضمن أبهى معاني الحمد أو بالتدبر في معاني الآيات أو إقتباس الأحكام منها.
الحمد لله الذي جعل نزول القرآن على صدر نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم النعم على أهل الأرض إذ أخرجهم من الظلمات إلى النور وأعادهم إلى الهدى بعد أن فرطوا فيه وإبتعدوا عنه وغلبت عليهم النفس الشهوية والغضبية .
ولا يحصي نعم الله عز وجل على الناس بنزول القرآن إلا الله عز وجل خصوصاً وأن هذه النعم منها المستديم والمتجدد في ذاته أو نفعه وأثره المبارك ومنها الحال بمناسبة الموضوع أو الحكم، حتى بالنسبة للأحداث التي جرت وقائعها أيام النبوة، فاستغرقت معركة بدر مثلاً بضع ساعات من اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة إلا أن منافعها باقية ومتجددة في كل يوم تدعو المسلمين للحمد والشكر لله سبحانه على نعمة تثبيت دعائم الدين بهزيمة كفار قريش بمعجزة وخلاف الإسباب من جهة العدد والعدة والتأهيل للقتال .
وجاء الندب إلى الشكر لله عز وجل نصاً جلياً مقروناً بالأمر بتقوى الله في ذات الآية الوحيدة التي تذكر معركة بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وقد تقدم في هذا السفر المبارك البيان بأن الأمر والخطاب بالتقوى في الآية أعلاه إنحلالي موجه إلى أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة( )، ومن مواضيع الشكر لله بخصوص معركة بدر أمور:
الأول : قصر وقت معركة بدر.
الثاني : تحقيق النصر مع قلة عدد وعدة وتدريب المسلمين على القتال.
الثالث : قصر المدة بين هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وأوان معركة بدر، وهذا القصر إختاره كفار قريش عن قصد وعمد لمباغتة المسلمين قبل أن تدخل القبائل في الإسلام فصارت معركة بدر سبباً في دخولها، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ].
الرابع : لحوق الخزي بالكفار إلى يوم القيامة , والله عز وجل إذا أعطي يعطي بالأوفى والأتم، وليس من حصر لأفراد النصر والظفر في هذه الآية، فإن قلت قد تكونت جماعة المنافقين بعد هذا النصر والفتوحات وهم أعداء للإيمان، والجواب من جهات:
الأولى : النفاق فرع الكفر والضلالة، وشاهد على هزيمة الكفر.
الثانية : توجه آيات البحث في هذا الجزء لمحاربة النفاق وتنزيه النفوس منه.
الثالثة : توالي الإنتصارات لجند الإسلام.
الرابعة : تزيح رشحات النصر في معركة بدر مفاهيم النفاق من النفوس وتمنع ظهورها على الجوارح، وتجعل النفوس تنفر منها ومن أهلها.
الحمد لله الذي خصّ نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة لنصرته في سوح المعارك، وتفضل وأنزل جبرئيل بالوحي والقرآن، لتكون السماء مدداً للمسلمين في تقواهم وتعاهدهم للفرائض والواجبات ونجاتهم من مضلات الفتن وأسباب الغواية ، ومنها ظهور فئة من بين ظهرانيهم تتصف بالنفاق الذي يجمع بين أمرين متضادين في آن واحد ، وهو إظهار الإسلام مع إخفاء الكفر.
وإذا كان إظهار الإيمان له أسبابه العقلية والشرعية ، وهو حاجة للإنسان في النشأتين فان مصاحبة إخفاء الكفر والضلالة له ظلم للنفس ومكيدة بالإسلام ، ومعول هدم في صرح الإسلام ، ومحاولة لتثبيط عزائم المؤمنين ، وإرادة الإضرار بهم كأمة وأفراد , فجاء ذم المنافقين في بدايات نظم القرآن .
وقد تقدم تفسير هذه الآيات في شطر من الجزء الثاني وفي الجزء الثالث من هذا التفسير وعند تفسير قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )وبعد مجئ الجزء الخامس بعد المائة خاصاً بتفسيرها عدت إلى بيان شذرات من ذخائر الحكمة في كل آية القرآن إبتداء من سورة الحمد، بلحاظ أن قوله تعالى أعلاه إنحلالي ، وكل آية من القرآن هي بيان بذاتها وموضوعها فتجلت كنوز كلامية وفلسفية في كل آية ، وجاءت الأجزاء الثاني والثالث والرابع بعد المائة في البيان الذي تتضمنه سورة الفاتحة والآيات 1-16 من سورة البقرة وشطر من الآية السابعة عشرة منها.
وجاء هذا الجزء بتفسير شطر من الآية اعلاه ، وقوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ]( )، مع البيان في آية المثل في قوله تعالى [أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ]( )، ومبحث قرآني في أسماء يوم القيامة , ودلالة كل اسم لبيان قانون وهو أن كل اسم من أسمائه له دلالات عقائدية وتترشح عنه منافع عظيمة في تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات.
وفي إستقراء وجوه البيان في كل آية من القرآن يتجلى في هذا التفسير أمور :
الأول : العلوم المستنبطة من القرآن والكامنة في ثنايا آياته من اللامتناهي.
الثاني :ما تم ويتم بيانه وإظهاره من تأويل آيات القرآن هو أقل بكثير مما يلزم بيانه وفيه دعوة للعلماء والمسلمين جميعاً لأن المسألة ليست من الواجب الكفائي الخاص بفئة تصدت لمقامات العلم وخصوص علم التفسير ، وفيه حث للعلماء في كل زمان للإقتباس منه ، وإظهار درره، وهذا القانون ثابت ومتجدد ففي كل زمان تكون علوم التفسير والتأويل مجتمعة أقل وأدنى كماً وكيفاً ومرتبة مما في ذات ألفاظ القرآن وإعجاز نظم آياته فلا غرابة بقولنا ببلوغ التفسير وفق هذه المنهجية إلى نحو ثلاثة ملايين جزءً مع صعوبة إدراك هذه الحقيقة في التصور الذهني إلا بلحاظ أن القرآن كلام الله المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنقطع مصاديقه ولا يحاط بكنهه ،وبصدور شواهد ومجلدات في علوم التفسير تكون مقدمة ومرآة وصرحاً علمياً تتجلى به هذه الحقيقة بلحاظ أن الجزء يدل على الكل ، فجاء هذا السفر الخالد (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) خطوة مبتدأة في الإنسانية والعلوم في هذا النهج المبارك وليزيح كابوس التقليد والمحاكاة والجمود في أهم أبواب العلم وهو التفسير ، فاكثر كتب التفسير تلتقي وتتشابه في البيان المقتضب للآية القرآنية وأحياناً يكون تفسير الآية القرآنية في بضعة أسطر أو أقل إقتبس اللاحق شطرها من السابق ،للتقوى والإحتراز , والقرآن يدعو العلماء في كل جيل إلى الصدور عنه والغوص في آفاق معارفه ، وبحار علومه.
ويتجلى إعجاز القرآن في الجمع بين آياته من وجوه :
الأول : تعدد الآيات بخصوص موضوع ذي صبغة عقائدية .
الثاني : إنعدام التزاحم أو التعارض أو التضاد بين الآيات التي تخص الموضوع المتحد وإن تباين وجودها في سور القرآن .
الثالث : كل آية مدرسة نقتبس منها العلوم والقواعد العبادية والأخلاقية ، وهي حرب على الضلالة والنفاق والكفر .
الرابع : في كل جمع بين آيتين منها مواعظ ومسائل وكنوز غير تلك التي تستنبط من ذات الآية مستقلة ، وهذا الجمع من جهات :
الأولى : الجمع بين بداية الآية الأولى وبداية الآية الثانية .
الثانية : الجمع بين بداية الآية الأولى وبداية الآية الثانية المتقدم ، كما لو كانت الآية من جمل متعددة وكلماتها كثيرة .
الثالثة : الجمع بين بداية الآية الأولى ووسط الآية اللاحقة .
الرابعة : الجمع بين بداية الآية الأولى وخاتمة الآية الثانية .
الخامسة :الجمع بين أول الآية الثانية ووسط الآية الأولى المتقدم .
السادسة : الجمع بين أول الآية الثانية ووسط الآية الأولى اللاحق .
السابعة : الجمع بين أول الآية الثانية وخاتمة الآية الأولى .
الثامنة : الجمع بين خاتمتي الآيتين .
التاسع : الجمع بين مجموع الآية الأولى وأول الآية الثانية .
العاشر : الجمع بين مجموع الآية الأولى والشطر الأول من وسط الآية الثانية.
الحادي عشر : الجمع بين مجموع كلمات الآية الأولى والشطر الثاني من الآية الثانية .
الثاني عشر : الجمع بين مجموع كلمات ودلالات الآية الأولى وخاتمة الآية الثانية .
الثالث عشر : الجمع بين أول الآية الأولى ومجموع الآية الثانية .
الرابع عشر : الجمع بين القسم الأول من وسط الآية الأولى ومجموع كلمات الآية الثانية .
الخامس عشر :الجمع بين القسم الثاني من وسط الآية الأولى ومجموع كلمات الآية الثانية .
السادس عشر :الجمع بين خاتمة الآية الأولى ومجموع الآية الثانية .
وقد جاءت الأجزاء (84-88) من هذا التفسير تأسيساً لهذا العلم الذي أطل على الأرض إشراقة مباركة تتفرع عنها وترقى عليها أنوار بأقلام وجهود العلماء من الأجيال اللاحقة ، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
واشعر بالتقصير في الشكر لله عز وجل والثناء عليه سبحانه على نعمة قيامي بمفردي بتأليف ومراجعة وتصحيح هذا التفسير وكتبي الفقهية والأصولية الأخرى ،ليس من مؤازر إلا الله عز وجل , ومن لطفه تعالى الغوص في بحار الحكمة التي تجري منه.
ويتجلى في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( ) تعريف قرآني للمنافقين هو أعم وأبين وأجلى من معنى النفاق في الإصطلاح الذي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وإذ تتخلف القواعد اللغوية والنحوية والكلامية عن علوم القرآن وخزائن أسراره فكذا بالنسبة للإصطلاحات التي يذكرها العلماء فانها لا تحيط بذات التعريف والمعنى للأمر والذات الذي يذكره القرآن ، ولو قيل أن تعريف المنافقين هو بهذه الآية وتتم تلاوتها وذكرها لكان أعم وأوسع من إصطلاح النفاق ، فكيف وأن كل آية من هذه الآيات ذكرت خصلة من خصالهم القبيحة وفيها أنهم يعلنون الكفر أيضاً ولكن على نحو السالبة الجزئية، وهذا الإعلان والإظهار على أقسام :
الأولى : التجاهر بالفسق والكفر .
الثانية : التجاهر بالكفر عند الإنفراد برؤساء الضلالة لقوله تعالى[وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]( ).
الثالثة : ظهور أمارات النفاق في حالات القتال إذ بينت ثلاث آيات متتالية من سورة آل عمران وجوهاً من النفاق وهي الكذب بالإعتذار عن القتال بالعجز عنه وعدم معرفة فنون بقوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( )ز
وقد تكرر لفظ (نافقوا) ( ) مرتين في القرآن، وقيل أن (الذين نافقوا) في الآية من سورة الحشر(هم فريق من بني عوف من الخزرج من المنافقين سمي منهم عبد الله بنُ أُبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتَل ، ورفاعة بن زيد ، ورافعة بن تابوت ، وأوس بن قيظي ، ووديعة بن أبي قوتل ، أو ابن قوقل ، وسويد ( لم يُنسب ) وداعس ( لم ينسب ) ، بَعثوا إلى بني النضير حين حاصر جيش المسلمين بني النضير يقولون لهم : اثبتوا في معاقلكم فإنَّا معكم).
الثاني : القعود عن القتال مع أن إخوانهم خرجوا لمواجهة العدو، ليكون هذا القعود نوع غدر.
الثالث: توجيه المنافقين اللوم للكتائب من المؤمنين ممن إستشهد في سبيل الله، وهذا اللوم مقترن بالتخلف المتعمد عن القتال ولكن لو خرجوا معهم لكانوا ظهيراً لهم، وسبباً لدفع القتل عنهم.
الرابعة : إعلان الكفر في منتديات المنافقين خاصة وفيما بينهم كما في أسباب نزول قوله تعالى [هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا]( ).
أخرج عن زيد بن أرقم قال: لما قال عبد الله بن أبي ما قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، سمعته فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكرت ذلك له ، فلامني ناس من الأنصار ، وجاءهم يحلف ما قال ذلك ، فرجعت إلى المنزل ، فنمت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : إن الله صدقك وعذرك، فأنزلت هذه الآية { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله } الآيتين .
وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم قال : لما قال ابن أبيّ ما قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فجاء فحلف ما قال ، فجعل ناس يقولون : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب حتى جلست في البيت مخافة إذا رأوني قالوا : هذا الذي يكذب ، حتى أنزل الله { هم الذين يقولون})( ).
وفي الخبر مسائل:
الأولى : وجود رؤساء للنفاق، يحرصون على حضور من يسمع كلامهم وهل هو من مصاديق قوله تعالى[وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ]( )، الجواب لا، إذ تفيد الآية أعلاه الغيرية والتضاد بين القائلين والسامعين، إنما ذكرت الآية أعلاه من سورة المنافقين خصوص القول ولم تذكر السامعين له , وفيه آية من إعجاز القرآن.
الثانية : بيان مصداق للسمع من المنافق بذم الذي نقل قوله، بلحاظ أن قوله تعالى(وفيكم سماعون لهم) أعم من إرادة الإنصات والسمع فيشمل التصديق وتكرار القول، فجاءت الآية أعلاه للتحذير من الإستماع للمنافقين ومن التصديق بهم من باب الأولوية القطعية فيكون من باب العقوبة العاجلة للمنافق بأن يلاقى بالإعراض ولا يصدق بكلامه.
الثالثة : قبول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليمين رأس النفاق لقوله تعالى[هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ]( )، ولعمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: البينة على من ادعى واليمين على من انكر( ).
الرابعة : حالما نطق رئيس النفاق بقوله سمعه أحد الصحابة ونقله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنزل به قرآن، مما يدل على أمور:
الأول : محاربة الله عز وجل للنفاق.
الثاني : تفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم أضرار النفاق ولزوم عدم السكوت عنه.
الثالث : رجوع المؤمنين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمورهم كلها ويدل في مفهومه على ذم المنافقين الذين يستكبرون عن الرجوع إليه وإلتماس دعائه , وهو من مصاديق ذمهم في قوله تعالى[فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ]( ).
الرابع : مجيء الآية القرآنية مدداً وعوناً، ويحتمل هذا المدد وجوهاً:
الأول : إنه خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إنه يشمل المؤمنين الذين مع النبي في المدينة أو ساحة المعركة، إذ أن الخبر ورد أيضاً بصيغتين , وكلاهما عن زيد بن أرقم أيضاً وهما:
الأولى : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك فقال عبد الله بن أبي……)( ).
الثانية : عن زيد بن أرقم قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله علبيه وآله وسلم في سفر فأصاب الناس شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفقوا)( ).
الثالث : الآية القرآنية مدد وعون للمسلمين والمسلمات في كل زمان ومكان.
الرابع : الآية لطف ومدد وعون للناس جميعاً.
والجواب هو الرابع لوجوه:
الأول : أصالة الإطلاق.
الثاني : إنه من مصاديق قانون إذا أنعم الله عز وجل على الناس بنعمة فإنه أكرم من أن يرفعها.
الثالث : إستدامة بقاء الآية القرآنية غضة طرية إلى يوم القيامة، ويحتمل إتخاذ الناس كافة الآية القرآنية مدداً وعوناً وجوهاً:
الأول : إنه من الكلي المتواطئ، فكل إنسان وطائفة وأهل ملة ينتفعون من القرآن بذات المرتبة التي ينتفع منها غيرهم.
الثاني : إنه من الكلي الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
الثالث : التفصيل فمرة يتساوى الناس بالإنتفاع من القرآن وأخرى يتباينون فيه.
والصحيح هو الثاني إذ أن إنتفاع الناس يكون على درجات ومراتب متعددة من وجوه:
الأول : إنتفاع المؤمنين الأمثل من آيات القرآن وكونها مدداً، وعوناً وإتخاذهم لها نبراساً وحرزاً.
الثاني : إنتفاع عموم المسلمين من آيات القرآن كمدد وعون لذا يتوجه كل مسلم ومسلمة إلى الله عز وجل بقوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ومن مصاديق الصراط في المقام إتخاذ القرآن مدداً وعوناً.
الثالث : الدنيا دار إمتحان وإختبار وجعل الله عز وجل القرآن سلاحاً للنجاة من وجوه الإبتلاء في الدنيا، ولكن أكثر الناس لا يلجأون له ولا يصدرون عنه.
ومن ضروب إجهار المنافقين بما يفيد الكفر ويكون أمارة عقلية عليه بلحاظ هذه الآيات أمور :
الأول : تعمد المنافقين الكذب على الله ورسوله لقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]( )بلحاظ أن المراد من كذبهم المذكور في هذه الآية أعم من إدعاء الإيمان .
الثاني : فساد المنافقين في الأرض ، وظهور هذا الفساد من منازل الكفر لذا جاء النهي لهم مجتمعين [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]( )، وتقدير الآية (أيها المنافقون لا تفسدوا في الأرض ).
الثالث : نعت المنافقين للمؤمنين بأنهم سفهاء، وفيه إفتراء وظلم وتعد وتحريف للحقائق بقولهم [أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] ( )ولا يعلم السرائر إلا الله عز وجل ، وإنما يعرف المرء بكلامه وفعله ، (وعن الإمام علي عليه السلام : المرء مخبوء تحت لسانه) ( ).
لقد جعل الله عز وجل اللسان جارحة تكون مرآة لما يدور في خلد الإنسان وما تنطوي عليه نفسه ، وتأتي هذه الآيات لتنزيه النفوس وعصمة الألسن من النفاق ، وأيهما يكون أكثر تأثراً وإنقياداً لهذه الآيات , فيه وجوه:
الأول : اللسان أكثر عناية وإستجابة لهذه الآيات .
الثاني :النفس هي الأكثر وأسرع إستجابة لهذه الآيات .
الثالث : ليس من تقدم وتأخر بين إستجابة اللسان والنفس في المقام ، إذ أنهما يستجيبان معاً بلحاظ أن اللّسان يعكس ما في النفس من النوايا والرغائب.
والصحيح هو الثاني إذ أن الإستجابة تتعلق بالنفس ،واللسان مرآة وأمارة على ما يضمره ويبطنه ويعزم عليه الإنسان في نفسه ، نعم قد يتأخر اللسان عن إظهار ما في النفس لراجح أو جلب مصلحة أو دفع مفسدة ويتأخر لسان المنافقين عن إظهار الكفر الذي يستولي على نفوسهم ولكن ليس للأسباب أعلاه بل خشية الفضيحة والأذى فجاءت هذه الآيات لأمور :
الأول :تفقه المسلمين في معرف أحوال الرجال، وخصائص كل فئة منهم .
الثاني :بيان صفات المنافقين والمنافقات .
الثالث : دعوة المسلمين إلى عدم الإستهانة بالضرر الذي يأتي من جهة المنافقين ، فالأصل أن يولي المسلمون العناية لمواجهة الكفار ودفعهم عن ثغور الإسلام ، وحثهم على دخول الإسلام ، ولم يعلموا أن من بين صنوفهم من أعلن إسلامه، ولكنه لا زال على حال الكفر ويكيد للمسلمين.
الرابع : بيان فضل الله على المنافقين أنفسهم بهذه الآيات إذ أن ذكرها وفضحها دعوة للتنزه منها .
الخامس : بيان قانون كلي وهو أن محاربة النفاق دفاع عن الإسلام .
السادس : تجلي إعجاز القرآن بموافقة الوقائع والأحداث لمضامين آياته .
السابع : بناء صرح دولة الإسلام وجعلها خالية من المنافقين وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
فمن أعظم النعم على المسلمين إخبارهم عما يبطنه المنافقون وصفاتهم وتحذيرهم والناس منهم ليكون بيان صفات المنافقين في هذه الآيات من رحمة الله بالمسلمين ومن فضل الله تعالى ، كما أن قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] بشارة هزيمة النفاق وطرده من النفوس ، وتحتمل هذه الآيات التي تذم المنافقين بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إنها من رحمة الله عز وجل .
الثاني : إنها من فضل الله .
الثالث : إرادة المعنى الأعم وإنها من رحمة الله ومن فضله .
والصحيح هو الثالث ، وفيه إعجاز بالدلالة على أن من فضل الله في المقام تجدد المنافع على المسلمين بهذه الآيات ، إذ أنها برزخ وواقية من النفاق المستحدث فلولا هذه الآيات لبقي المنافقون مقيمين على نفاقهم وتمادوا فيه ولإنحاز إليهم آخرون فتفضل الله عز وجل وجعل أكثر المنافقين يتوبون إلى الله عز وجل ويصيرون في جماعة المؤمنين ، وينزجر غيرهم من ركوب جادة النفاق .
لقد أراد الله عز وجل أن تكون هذه الآيات جنة واقية للمسلمين والمسلمات من الحسد والتحاسد من أرباب الشر ، وأهل الضلالة ، ونبراساً ينير لهم دروب الهداية وبرزخاً دون الضلالة والزيغ , وفيها غبطة لكل مسلم ومسلمة ، وباعثاً للشوق في النفوس لتلاوة آيات القرآن والإنصات لها لأن كل واحدة منها خزينة للعلوم والمعارف الدنيوية والآخروية ومادة لإمتلاء النفس بالسكينة .
والصلة بين تلاوة هذه الآيات والصلاة على وجوه :
الأول : حضور وقت الصلاة وموضوع لتلاوة هذه الآيات وآيات القرآن الأخرى.
الثاني : تلاوة هذه الآيات سبب للجوء إلى الصلاة والرغبة في أدائها .
الثالث : الأثر المبارك المتبادل ، فكل من تلاوة هذه الآيات وأداء الصلاة مرآة للآخر ، وباعث للشوق له والإقبال بالقلب والجوارح ، وهذا الشوق والإقبال من مصاديق السلامة من النفاق والعصمة منه , وسبب للأخوة بين المؤمنين في مرضاة الله والمناجاة في محاربة النفاق ، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
الصلة بين [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا] ( )و آية [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ] ( )
ذكرت الآية [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] أموراً :
الأول :إيمان الناس ودخول طوائف منهم الإسلام، وفيه مسائل :
الأولى : صيرورة الإسلام دين الناس.
الثانية :فيه شاهد على الملازمة بين الإنسانية وبين الإيمان ، وأن الإسلام موافق للفطرة التي خلق الله الناس عليها .
الثالثة :الآية من مصاديق قانون (أصالة الهدى)( ) فقد صدّق الناس برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله بما هم أناس أراد الله عز وجل لهم وراثة الأنبياء .
الرابعة : حسم الصراع بين الإيمان والكفر في الأرض ودخول الناس الإسلام , ويحتمل حال الناس بلحاظ [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]وجوهاً :
الأول :كثرة وغلبة الذين دخلوا الإسلام .
الثاني : قلة الذين دخلوا الإسلام .
الثالث :إرادة التساوي بين الفريقين .
الرابع :لا صلة للآية بكثرة أو قلة الذين دخلوا الإسلام .
والصحيح هو الأول ، وهو المستقرأ من الآية أعلاه من جهات :
الأولى : المناجاة والحث على دخول الإسلام والدعوة للمبادرة إليه ، وهو من مصاديق [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( )بلحاظ أن دخول الإسلام خير محض ومقدمة لفعل الخيرات ، وإتيان الصالحات بقصد القربة .
الثانية : الإجهار بالدعوة ، وبلوغها المخادعين وأرباب الضلالة ، وهو من الدلائل على أن هذه الآية مدنية ، لأن المسلمين كانوا متخفين في مكة المكرمة في بدايات الدعوة .
الثالثة : إقتران الدعوة إلى الإسلام بالترغيب وإقامة الحجة والبينة بمحاكاة العقلاء الذين أسلموا .
الرابعة :دخول الناس للإسلام من مختلف الملل والطوائف والأمصار والقبائل وهو من اسرار مجئ لفظ الناس في قوله تعالى[ كَمَا آمَنَ النَّاسُ]( ) بلحاظ أنه لكثرتهم وإختلاف إنتمائاتهم لا يجمعهم إلا اسم [النَّاسُ] وهو سور الموجبة الكلية .
الخامسة : صيرورة الذين لم يدخلوا الإسلام قلة يشار لهم على نحو الحصر والتعيين .
السادسة : من مصاديق الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الذي يعرض عن دخول الإسلام تأتيه الدعوة من جهات مختلفة ومتعددة .
السابعة : إعلان الناس إسلامهم على نحو دفعي ومتجدد ، وإظهارهم الصدق والإخلاص في إنتمائهم للإسلام .
الثامنة : إقامة الحجة على الذين يصرون على الإقامة على الكفر ،قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
التاسعة : توالي وتعاقب المعجزات العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
تسمية يثرب بالمدينة
قد يتلاوم الكفار فيما بينهم على التخلف عن الإيمان ، خاصة مع إشراقات الضياء التي صارت تملأ المنتديات وتشع على القلوب وتنعكس بتجليات البركة والوفرة وحسن المعيشة التي إقترنت بالبعثة النبوية ، وكان التغيير النوعي في المدينة المنورة والغنى الذي أصاب أهلها من الغنائم والمكاسب والتجارات والزراعات معجزة حسية إضافية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تخصص لها الدراسات إلى الآن بما يؤكد أنها شاهد صدق على نبوته ، ودليل على رشحات نزول القرآن على الموضع والمدينة التي صارت موطئاً ومحلاً لهبوط الملائكة، وشمل هذا التغيير والتبدل النوعي اسم المدينة أيضاً .
ومع أن الاسم غير المسمى , فان اسم مهجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغشته نعمة التغيير أيضاً فبعد أن كان اسم المدينة يثرب ، سمّاها الله عز وجل في القرآن [الْمَدِينَةِ] بقوله [مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ] ( ).
وتفيد الألف واللام في [الْمَدِينَةِ] العهد ، وكأن ليس من مدينة معروفة عند المؤمنين أيام التنزيل إلا مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وباقي المدن كالقرى ، لأن موضع سكن الناس لا ينتزع صفة [الْمَدِينَةِ] إلا بالإيمان والتقوى ، وإن كان معنى الف ولام العهد أضيق من هذا وسماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (طيبة ).
ليكون هذا الاسم بياناً وتفسيراً لتسمية الله عز وجل لها بالمدينة ، وإخباراً بأن هذا الاسم يتقوم بالحسن وطيب الهواء ونقاء الريح وسلامة الأبدان وكثرة الأرزاق ، وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على هذه النعمة ولأهل المدينة بتلقي قول [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( )بالقبول والإيمان ، قال تعالى [كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ] ( ).
(عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحُد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول: لا (1) فأنزل الله: { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنها طَيْبة، وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة) ( ).
ولا تختص البركة المصاحبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأوان هجرته إلى المدينة بل إقترنت بولادته وتجلت في أيام رضاعته ، فقد أصاب أطراف مكة القحط والجفاف والغلاء ، فزحفت نساء بني سعد إلى مكة لطلب رضاعة أولاد أهلها ، فأخذت حليمة بنت أبي ذؤيب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو صغير لإرضاعه، فاخصبت وأزهرت الأرض ودرت الأنعام بالحليب وحصل النماء المتصل والمنفصل فيها ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحلوله في أرضهم بآيات ظاهرة وبينة جعلتهم يبالغون بإكرام النبي ويحرصون على سلامته وحفظه ، وذكر عن حليمة السعدية أنها قالت : (كنا نبقي اليوم واليومين لا نقتات فيه بشئ، وكنا قد شاركنا المواشي في مراعيها، فكنت ذات ليلة بين النوم واليقظة وإذا قد أتاني آت ورماني في نهر ماء أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وقال لي: اشربي فشربت.
ثم ردني إلى مكاني، وقال لي يا حليمة: عليك ببطحاء مكة، فإن لك بها رزقا ” واسعا “، وسوف تسعدين ببركة مولود ولد بها، وضرب بيده على صدري، وقال: أدر الله لك اللبن وجنبك المحق والمحن) ( ).
وفيه دلالة بأن الإصلاح ببعثة النبي لا يختص بالنفوس والمجتمعات بل يشمل نزول الماء من السماء ، وإخراج الأرض بركاتها ، وهل تدفق بحار النفط من أرض المبعث والرسالة وما حواليها في هذه السنين من هذه البركات .
الجواب نعم ، وتلك آية لأهل هذا الزمان ودعوة لهم أن [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]( )،لتعم البركات جميع البشر، وتخرج الأرض خزائنها، ويعيش الناس في وئام وألفة .
وفي تسمية مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة دعوة للناس للرجوع إليها والإقتباس منها والأخذ من القرآن والسنة النبوية والتدبر في بدايات الدعوة الإسلامية ، وكيف إنتصر المسلمون في المدينة على كفار قريش ببدر وأحد والخندق مع أن عدد وعدة المسلمين في كل معركة أقل من ثلث عدد وعدة الكفار.
وكما أبدل الله عز وجل اسم يثرب بالمدينة ، فقد تبدل غزو قريش وخيلائها على المدينة للإجهاز على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بمجئ ملايين المسلمين في كل عام لزيارة مسجد وقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه تجديد للبيعة وإعلان للولاء للعمل بسنته قال الله تعالى [ لقد كان لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي) ( ).
ليكون من دلالات ومعاني إنفراد مدينة رسول الله باسم المدينة إتصال ودوام البركة لزائريها ، وترشح الأجر والثواب العظيم والبشارة بالغبطة والسعادة للذين يزورونها و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من عبد يسلم عليّ عند قبري إلا وكل الله به ملكاً يبلغني ، وكفى أمر آخرته ودنياه ، وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة) ( ).
وفي الحديث تقييد لموضع الثواب العظيم بالسلام وهو أن يكون عند القبر الطاهر وفيه ترغيب بزيارته والوقوف عنده وإقتباس أنوار الهداية واستحضار جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله وعظيم منزلته في الدنيا والآخرة ، والشرف الذي نالته المدينة بهجرته وسكنه فيها .
لقد بايع أهل المدينة من الأوس والخزرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة من البعثة النبوية على أن يحموه ويذبوا عنه ، فوفوا ببيعتهم وزادوا عليها بأن خرجوا معه للقتال في معركة بدر وأحد، وهذا الخروج من معجزات القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية بأن رأى أهل المدينة صدق نبوته، وتدبروا بالبراهين الساطعة التي تدل عليها ، فمضوا في فناء الذات في مرضاة الله عز وجل.
وفي الإستعداد لمعركة بدر وتهيئة مقدماتها توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار وبيان رضاهم بالخروج لقتال كفار قريش لأن أصل بيعتهم له الدفاع عنه في المدينة , ولم يذكر موضوع الغزو والخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقتال المشركين ، وربما لم يضع وفد يثرب في الحسبان يوم العقبة سرعة إنتشار الإسلام وإظهار أعدائه الحسد بالفعل وقوة السلاح ، (وورد عن عبد الله بن مسعود قال لقد شهدت من المقداد مشهدا لان أكون أنا صاحبه أحب إلى مما في الارض من شئ كان رجلا فارسا وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا غضب أحمرت وجنتاه فأتاه المقداد على تلك الحال فقال أبشر يا رسول الله فو الله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) ( ) ، ولكن والذى بعثك بالحق لنكونن من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك أو يفتح الله لك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا على أيها الناس وإنما يريد الانصار وذلك أنهم كانوا عدد الناس وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخوف الا تكون الانصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم .
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل قال فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال سيروا على بركة الله وأبشروا فان الله قد وعدني إحدى الطائفتين , والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران فسلك على ثنايا يقال لها الاصافر ثم انحط منها على بلد يقال لها الدبة وترك الحنان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل ثم نزل قريبا من بدر) ( ).
وذكر ان المدينة أنشئت نحو (1600) قبل الهجرة النبوية ،إذ وجدت كلمة يثرب في كتابات الاغريق وفي كتابات ملكة معين ، وقامت المملكة المعينية ما بين (1300 إلى 600) قبل الميلاد وإمتد سلطانها إلى الحجاز وفلسطين ، وقيل سكنها العماليق ، ثم سكنها اليهود وقبيلتا الأوس والخزرج من القبائل القحطانية من مملكة سبأ بعد تآكل وإنهيار سد مأرب.
وكان تغيير اسم المدينة من يثرب إلى المدينة وطيبة مرآة لإنتقال أهلها إلى مقامات الإيمان والجهاد في سبيل الله، وتقديمهم القرابين والشهداء لتنعم أمصار ومدن العالم الإسلامي بإقامة الصلاة في أوقاتها وتستقبل شهر رمضان بالإستهلال والغبطة بحلوله وإكتناز الحسنات بصيامه ، وليتوجه المستطيع من المسلمين لحج البيت الحرام وهو مشتاق للعروج على المدينة .
ولا يعلم غبطة وسعادة أي فرد من المسلمين والمسلمات بزيارة قبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشوق إليها إلا الله عز وجل وهو من معجزاته لذا توجه القول إلى المخادعين أن [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]( )، وأظهروا حسن السمت وصدق الإيمان.
وكأن اسم المدينة من الكلي الطبيعي وأنها مدينة كل المسلمين ولهم فيها مقام لأن فيها عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنوات جهاده الأخيرة وفيها قبره , وهي محط هبوط جبرئيل وبها إنقطع الوحي عن أهل الأرض (وأخرج البيهقي عن محمد بن المنكدر قال : رأيت جابراً وهو يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : ههنا تسكب العبرات ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول « ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)( ).
ليكون من مصاديق تسمية المدينة وحب المسلمين لها أنها قطعة من الجنة شاء الله عز وجل أن تكون بقعة في الأرض لتأتي يوم القيامة وتشهد لمن جاءها ووطأ أرضها زائراً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولتكون شفيعاً له وواقية من لهيب النار ، وقد دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل المدينة قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ) ( ).
لتتجلى مصاديق هذه البركة في كل زمان، ويتبين للناس في زمن العولمة الخيرات والأمن ورغد العيش الذي يتغشى أهلها .
وتقدير آية [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]( )أي كما آمن أهل المدينة.
ترى لماذا لم تقل الآية وآمنوا كما آمن الأوس والخزرج ، الجواب إن ورود اسم [النَّاسُ]في الآية من الإعجاز فيها، لتعدد مشارب ومساكن وإنتماءات الذين آمنوا ودخلوا الإسلام فقد صاحب تبديل اسم المدينة التغيير المسمى بالديموغرافي بتعدد سنخية ساكنيها ومجئ المكي والرومي والفارسي والحبشي دفعة واحدة إلى المدينة , وعادة الغرباء القيام بأعمال الخدمة وعليهم لباس الذل إلا أن الذين دخلوا المدينة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانوا في غاية العز والهيبة وكانوا قادة وأمراء , وهو من مصاديق [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في آية إيمانية وإصلاح للنفوس وإعادة لبناء مجتمع المدينة بلباس التقوى وسنن الإيمان وهو من مصاديق تغيير إسمها , والذي يعود ويدخل للمدينة بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببضع سنوات يجد التبدل النوعي والتوسعة والبناء العمراني ، وحال الرخاء والسعة عند أهلها ، ومن بركات نبوته أن رؤية هذا التبدل للأحسن متجددة في كل زمان لمن يفارق المدينة لسنوات ، وتتجلى أخباره في الأمصار بما ينقله وفد الحاج العائدين إلى بلدانهم ، ليجري الذين سبقوا وأن أدوا الحج أو زاروا المدينة دراسة مقارنة بين حال المدينة والتغيير الحاصل فيها.
وقد وردت النصوص باستحباب زيارة الحاج عند عودته لأهله بعد
إتمام المناسك والسلام عليه، ثم جاءت الفضائيات في هذا الزمان لتكشف معالم المدينة وتبعث على لزوم السعي للإرتقاء وتحسين الخدمات فيها ، وفيه تذكير للناس بآية البحث , وليكون تقدير قوله تعالى [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]( )، بلحاظ الموضوع والعلة على وجوه :
الأول : آمنوا كما آمن الناس ،لتأتي الخيرات وتحل البركات ويحصل النماء بالمال والثروات عند أهل المدينة .
الثاني : آمنوا كما آمن الناس ،ولزوم إقتران الإيمان بالشكر لله عز وجل.
الثالث : آمنوا كما آمن الناس لتجلي المعجزات وسطوع البراهين على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : بيان الحاجة للإيمان وخيبة المنافقين وخسارة الذين أصروا على البقاء على الضلالة
آيات السؤال
من معاني آمنوا كما آمن الناس أي عجلوا بالإيمان ولا تتباطأوا وتسوفوا في دخول الإسلام , لذا ردّ المخادعون [أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] ( )أي أننا نريد التدبر والتأكد من صدق النبوة، ونسأل الآيات والبراهين الخاصة التي تؤدي إلى تصديقها بالنبوة ولسنا مثل الذين بادروا إلى الإيمان بالمعجزات العامة التي جاءت للناس ،فردّ الله عز وجل على المخادعين ونعتهم بالسفه وخفة العقل (عن ابن عباس قال : كان ناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء} ( )حتى فرغ من الآية كلها .
(وأخرج ابن جرير « عن ابن عون قال : سألت عكرمة مولى ابن عباس عن قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } قال : ذاك يوم قام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ، فقام رجل فكره المسلمون مقامه يومئذ ، فقال : يا رسول الله ، من أبي؟ قال : أبوك حذافة . فنزلت هذه الآية وعن ابن جرير عن طاوس قال « نزلت { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } في رجل قال : يا رسول الله من أبي؟ قال : أبوك فلان .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي « في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . . . } الآية . قال : غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً من الأيام فقام خطيباً ، فقال : سلوني فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به ، فقام إليه رجل من قريش من بني سهم يقال له عبد الله بن حذافة – وكان يطعن فيه – فقال : يا رسول الله ، من أبي؟ قال : أبوك فلان ، فدعاه لأبيه ، فقام إليه عمر فقبل رجله ، وقال : يا رسول الله ، رضينا بالله رباً ، وبك نبياً ، وبالقرآن إماماً ، فاعف عنا عفا الله عنك ، فلم يزل به حتى رضي ، فيومئذ قال : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وأنزل عليه { قد سألها قوم من قبلكم } )( ).
وهذا لا يعني منع الصحابة والناس عامة من سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن النهي جاء بخصوص السؤال الذي فيه أذى ويترشح عنه وعن إجابته الضرر.
وورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن وهو مدرسة جامعة في البيان والترغيب بالتفقه في الدين، وإتخاذ السؤال نوع طريق لإكتساب العلوم وأحياناً يأتي السؤال بصيغة المفرد , قال تعالى [سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ]( ).
وقد يأتي السؤال بغير مادة [سَأَلَ] وفي السنة النبوية أسئلة كثيرة من الصحابة ومن أهل الكتاب ومن الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيها دليل على صدق نبوته .
وقد يخبر ويجيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عما يدور في خلد المسلمين إبتداءً أو يدعوهم لسؤاله وبصيغ الترغيب ولغة التحدي وبيان كنوز الوحي وما ينعم عليه الله عز وجل من علوم الغيب (عن جابر بن عبد الله قال : كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم شديد الحر فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطال القيام حتى جعلوا يخرون .
قال : ثم ركع فاطال ثم رفع فاطال ثم ركع فاطال ثم رفع فاطال ثم سجد سجدتين ثم قام فصنع مثل ذلك فكانت اربع ركعات واربع سجدات وجعل يتقدم ويتأخر في صلاته ثم اقبل على اصحابه فقال اني عرضت علي الجنة والنار فقربت مني الجنة حتى لو تناولت منها قطفا نلته أو قال قصرت يدي عنه شك هشام وعرضت علي النار فجعلت اتأخر رهبة ان تغشاكم ورأيت امرأة حميرية سوداء طويلة تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الارض ورأيت فيها ابا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه في النار وانهم كانوا يقولون ان الشمس والقمر لا ينكسفان الا لموت عظيم وانهما آيتان من آيات الله يريكموها فإذا انكسفا فصلوا حتى ينجلي)( ).
وهل يتضمن قول [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]( )طلب السؤال عن أمور الدين وأحكام الحلال والحرام ، الجواب نعم ، وإرادة سؤال التعلم والإكتساب والتفقه في الدين ، وليس سؤال التعنت والسخرية، ومن الآيات في المقام أن القرآن ذكر سؤال المسلمين المتعدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتفضل الله عز وجل بالإجابة والبيان.
ومن إعجاز القرآن أن ذات السؤال وجوابه باقيان إلى يوم القيامة يدعوان الناس للإيمان وإبتدأت هذه الأسئلة بلحاظ نظم القرآن بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه مجيؤها بصيغة الجمع في كل أطرافها بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها وجوه :
الأول : توجه السؤال من الجماعة والعدد الكثير , وفيه مسائل :
الأولى : هل السائل متحد أو متعدد .
الثانية : هل صدر السؤال من المسلمين أو من غيرهم ، أو من المسلمين وغيرهم كأهل الكتاب .
الثالثة :هل السؤال للتعلم أم للجدال والمغالطة .
أما الأولى فان السؤال صادر من الأفراد والجمع ، لأصالة الظاهر ومجئ الآية بصيغة الجمع ،وأما الثانية فان موضوع الآية يدل على صدور السؤال من المسلمين( ) وورد خبر بأن السؤال صادر من اليهود.
أما المسألة الثالثة فان السؤال صادر للتعلم والتسليم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [ مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )وجاءت الآيات بأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال أهل الكتاب للبيان والحجة ، قال تعالى [وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ]( ).
الثاني : ذكر الأهلة بصيغة الجمع والمفرد هلال، وهذه الآية الوحيدة التي تذكر الأهلة والهلال مع بيان موضوعيته وتجليه في كل شهر ، ومن فلسفة صيغة الجمع عناية المسلمين بحساب الأيام والسنين ورصدهم للهلال كل شهر وتنزههم عن الإفتتان به إذ أن بعض الأقوام إتخذوه رباً جهلاً وضلالة.
الثالث : ذكر المواقيت وهي جمع ميقات ، وهو الوقت المضروب للفعل أو الأجل، قال تعالى [فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ]( )، ويقال : الهلال ميقات الشهر أي اًوله .
الرابع : ورد لفظ [النَّاسُ] وهو اسم جنس يفيد الإستغراق ، ولم تقل الآية مواقيت لبني آدم ، بل ذكرت الناس لبيان حقيقة وهي إنتفاع آدم وحواء من الأهلة , إذ أنهما من الناس وليس من بني آدم وفيه نكتة بأن آدم إنتفع من الأهلة لأداء الحج والصيام .
(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كان البيت قبل هبوط آدم ياقوتة من يواقيت الجنة ، وكان له بابان من زمرد أخضر ، باب شرقي وباب غربي ، وفيه قناديل من الجنة ، والبيت المعمور الذي في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة حذاء الكعبة الحرام ، وأن الله عز وجل لما أهبط آدم إلى موضع الكعبة وهو مثل الفلك من شدة رعدته ، وأنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه بيضاء فأخذه آدم فضمه إليه استئناساً ، ثم أخذ الله من بني آدم ميثاقهم فجعله في الحجر الأسود ، ثم أنزل على آدم العصا ، ثم قال : يا آدم تخط. فتخطى فإذا هو بأرض الهند ، فمكث هناك ما شاء الله ثم استوحش إلى البيت ، فقيل له : احجج يا آدم . فأقبل يتخطى ، فصار كل موضع قدم قرية وما بين ذلك مفازة حتى قدم مكة ، فلقيته الملائكة فقالوا: برّ حجك يا آدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام . قال : فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا : كنا نقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وكان آدم إذا طاف بالبيت قال هؤلاء الكلمات ، وكان آدم يطوف سبعة أسابيع بالنهار) ( ).
ولم تقل الآية (مواقيت للذين ) بل جاءت بصيغة العموم لبيان فضل الله عز وجل على الناس جميعاً بنعمة الأهلة وتذكيرها لهم بوجوب عبادة الله عز وجل ، كما في فرض الصوم على الأمم السابقة والذي يتعلق برؤية الهلال ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )ولا تنحصر منافع الناس من الأهلة بخصوص العبادات ، إذ ينتفعون منها في المعاملات والزراعات والآجال وقضاء الديون وضبط التواريخ وأوان الأحداث .
الخامس : لفظ (الحج) وهو اسم جنس إذ أن المراد منه أداء مناسك عبادية مخصوصة في موضع مبارك معين هو مكة والمشاعر ، ومن إعجاز القرآن أن آية الحج جاءت بصيغة العموم أيضاً ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
ومضامين لفظ [يَسْأَلُونَكَ]في القرآن على وجوه :
الأول : إنه حجة في موضوعه .
الثاني : بيان الحكم السماوي لموضوع السؤال .
الثالث : يمكن تسمية الآيات التي تتضمن السؤال (مدرسة السؤال) في القرآن ، ومن إعجاز القرآن في المقام أنه مع ورود لفظ [يَسْأَلُونَكَ]في القرآن خمس عشرة مرة فانها جميعاً خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتوثيق سماوي لما أنعم الله عز وجل عليه من الوحي .
الرابع : إستقراء مضامين الأسئلة التي كانت توجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : حضور الوحي والتنزيل حال السؤال .
السادس : المدار في أحكام الآية القرآنية على عموم المعنى وليس سبب النزول ليبقى ذات السؤال والإجابة عليه ثروة عقائدية عند المسلمين .
ومن إعجاز القرآن مجئ آيات السؤال كلها في السور المدنية لبيان حقيقة وهي إستقرار الإسلام، وظهور دولته، ودخوله في المعاملات والعقود وشؤون المجتمع والأسرة، كما في قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ]( ).
إن كثرة الأسئلة التي توجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجابته عليها بصبغة الإعجاز ، مع تعدد جهة صدورها مدرسة عقائدية إذ أنها ترد من المؤمن , ومن المنافق والكتابي والكافر ، وتأتي أحياناً من الأعرابي بفطرته .
لتكون هذه الأسئلة وأجوبتها حجة على المنافق الذي ينتفع من وجوده مع المؤمنين بالإستماع لها والإحاطة بمضامينها ، وبنزول الآيات القرآنية بخصوصها .
فقد تفضل الله عز وجل واجاب بنفسه على الأسئلة التي توجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه وجوه :
الأول :تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء إذ أكرمه الله عز وجل بذكر الأسئلة التي ترد إليه , وتفضل الله عز وجل بالإخبار عنها.
الثاني : ذكر القرآن للأسئلة وأجوبتها شاهد على سلامة القرآن من التحريف .
الثالث : بيان لجوء الناس إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدين والدنيا ، وهو من دلائل التسليم بنبوته ودعوة للمنافقين للإتعاظ والإنابة .
الرابع :كفاية الآية القرآنية عن تكرار السؤال ووقوع الجدال والخلاف في موضوعه ، لأن إجابة القرآن قطعية ، ورحمة متجددة , وواقية من الشك والريب والجدال , قال تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ]( )وفيه زجر عن النفاق وفعل المعاصي ، ودعوة للتنزه من بقاء النفس على الكفر مع إعلان الإيمان كذباً ، ولم يأت هذا الزجر والدعوة مجردين بل تفيد الآية الترغيب بسؤال الله عز وجل حاجات الدنيا والآخرة لأنه تعالى قريب مجيب.
وورد قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ] في سورة البقرة وحدها سبع مرات ليدل على تضمنها لشطر من الأحكام والبيان والأسرار الكونية والتشريعية ( ) .
صلة[مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا]( ) بقوله تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( )
مع قلة كلمات الآية أعلاه فقد تكرر الضمير(هم) خمس مرات , والمراد منها جميعاً جهة واحدة وهم المنافقون ، وفيه بيان لسوء فعالهم وإصرارهم على الباطل ، وفي الآية قولان :
الأول :جاء النهي بلفظ المبني للمجهول [قِيلَ] ويفيد أموراً :
الأول : تكرار هذا القول .
الثاني : تعدد الجهة التي يصدر منها هذا القول من المتحد والمتعدد وفيه مسائل إعجازية:
الأولى : دلالة لفظ [َإِذَا قِيلَ] على كثرة فساد المنافقين .
الثانية : نفرة الناس من سوء فعل المنافقين .
الثالثة : بركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس بالإصلاح والتمييز بينه وبين الفساد .
الرابعة : وهن وضعف المنافقين من جهات :
الأولى : تجرأ الناس بنهيهم عن الفساد .
الثانية : نعت أفعالهم بأنها ذات صبغة مذمومة .
الثالثة : عجز المنافقين عن إظهار العناد والإصرار لتبدأ حال جديدة من النفاق وهي الخداع والمكر ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الماكرين] ( ).
ومن مكر الله عز وجل والخير الذي يترشح عنه نزول هذه الآيات التي تبين قبح النفاق وسوء عاقبته ، وفيه دعوة للناس للتوبة والإنابة .
الثالث : حث المؤمنين والمؤمنات لنهي المنافقين عن الفساد ، وهذا النهي على شعب :
الأولى :نهي المؤمن للمنافق عن الفساد .
الثانية : نهي المؤمنة للمنافقة عن الفساد .
الثالثة :نهي المؤمنين للمنافقين عن الفساد .
الرابعة : نهي جماعة من المؤمنين للواحد من المنافقين عن الفساد ، وهذا النهي على وجوه :
الأول : النهي الإنحلالي، بأن يقوم كل مؤمن من الجماعة بنهي المنافق عن الفساد .
الثاني : النهي المتحد ، بأن يشترك إثنان أو جماعة من المؤمنين في نهي المنافق عن الفساد والإقامة على الكفر الذاتي .
الثالث : التعاقب في النهي , فمرة يتوجه النهي للمنافق من أحد المؤمنين، وأخرى من جماعتهم.
الخامسة : نهي المؤمنة للمنافقة.
السادسة : نهي المؤمنة للمنافق.
السابعة : نهي المؤمن للمنافق.
الثامنة : نهي جماعة المؤمنين للمنافقة.
التاسعة : نهي جماعة المؤمنات للمنافقة.
العاشرة : إشتراك المؤمنات في نهي المنافقات عن الفساد.
وتتضاعف هذه الشعب بلحاظ قوله تعالى[لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]( )، وتلاوة المؤمنين لها وتلاوة وإستماع ذات المنافقين للآية الكريمة.
لقد قال نفر من المؤمنين للمنافقين (لا تفسدوا في الأرض) لتكون الآية أعلاه وثيقة سماوية متجددة تلح على الناس بالصلاح، وتزجرهم عن الفساد وتفضح النفاق، وترتقي بالمؤمنين في سلم المعارف من جهات:
الأولى : معرفة قبح النفاق.
الثانية : العلم بوجود طائفة من الناس يخفون الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان.
الثالثة : معرفة وجوب سلامة النفس من آفة الضلالة، وعن أبي موسى الأشعري قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فقال: أيها الناس، اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل. فقالوا: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله قال : قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفر لما لا نعلم( ).
الرابع : لما جاءت هذه الآيات بذم النفاق تضمنت هذه الآية ما يمنع من الفرقة بين المسلمين في أمور :
الأول : تعيين صفات المنافقين.
الثاني : كيفية معرفة المنافق .
الثالث : ماهية فعل المؤمن أزاء المنافق.
إذ بينت الآية الكريمة حقيقة وهي أن المنافقين يفسدون في الأرض، وأن المنافق يعرف من فساده.
ليدل هذا الفساد على خبث سريرته، وإستحواذ الكفر على قلبه، وإمتناعه عن التخلص عن الشك والريب.
أما ماهية الفعل أزاء المنافق فجاءت الآية بصيغة ووجه منه، وهو النهي عن الفساد، ترى لماذا لم تتضمن الآية النهي عن النفاق ذاته بلحاظ أنه الأصل وأن الفساد يترشح عنه الجواب جاءت الآية بالنهي عن الفرع الخارجي الذي يتضمن الضرر العام، بالإضافة إلى أن ذات النفاق هو فساد، أي أن النهي عام يشمل النفاق أيضاً، وفيه دلالة بأن قوله تعالى[لاَ تُفْسِدُوا] انشطاري يتضمن وجوهاً عديدة منها:
الأول : ذم ذات النفاق وهو أصل للفساد.
الثاني : النهي عن الفساد والذي يدل بالدلالة التضمنية الأمر بالصلاح والترغيب به .
الثالث : قيام المنافقين بتثبيط المؤمنين عن القتال.
والفساد المنهي عنه في الآية على أقسام:
الأول : الذي يقوم به الفرد الواحد من المنافقين، كما في صدّ الأخ لأخيه أو صديقه عن دخول الإسلام أو إبلاغ المشركين عن ثغرة في دفاع المسلمين.
الثاني : الفساد والضرر النوعي الذي يقوم به المنافقون، مجتمعين ومتفرقين كالصد عن سبيل الله، والتحريض للقعود عن الدفاع عن بيضة الإسلام.
الثالث : الفساد بارتكاب المآثم والسيئات، وإشاعة مفاهيم الرذيلة.
الرابع : بعث الشك والريب في خصوص العبادات والفرائض، قال تعالى[سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا]( ).
(وأخرج ابن المبارك عن عمران الكوفي قال : قال عيسى ابن مريم للحواريين : لا تأخذوا ممن تعلمون الأجر الا مثل الذي أعطيتموني ، ويا ملح الأرض لا تفسدوا فإن كل شيء إذا فسد فإنما يداوى بالملح ، وإن الملح إذا فسد فليس له دواء) ( ) .
والمسلمون ورثة الحواريين ،وأراد الله عز وجل لجميع الذين نطقوا بالشهادتين التنزه عن الفساد , وإذ تلقى الحواريون النهي عن الفساد من عيسى عليه السلام فان المسلمين يتلقون الثناء عليهم والنهي عن الفساد من عند الله عز وجل كما في آية البحث ودلالاتها ومن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن القرآن والمؤمنين وغيرهم وتلك آية في تفضيل المسلمين وتعدد ذات وجه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يقومون به والذي يتوجه إليهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وتعدد النهي الموجه إلى المنافقين للكف عن الفساد ، ليكون هذا الكف على وجوه :
الأول : إنه مقدمة للإيمان .
الثاني :إنه باب لقبول الطاعات والفوز بالأجر والثواب على فعل الصالحات ، للملازمة بين نيل الثواب وبين قصد القربة الذي لا يتحصل إلا بالتنزه عن النفاق الظاهر والخفي .
الثالث : الفساد مظهر من مظاهر الكفر والضلالة والتنزه عنه سلامة منهما، فان قلت قد يكون هناك من يتصف بالنفاق ولكنه لا يفسد في الأرض، والجواب من جهات:
الأولى : خصلة النفاق ذاتها فساد، وجلب للضرر على الذات .
الثانية :النفاق صد عن سبيل الله.
الثالثة : قد لا يزاول المنافق الفساد ولكنه يرتكبه حالما تتهيئ له مقدماته ، وأسبابه قال تعالى في ذم المنافقين [وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ]( ).
الرابعة : جاءت الآية لتحذير المسلمين من المنافقين ، فقد يظهر بعضهم الإخلاص والتفاني في إعانة المؤمنين ، فيتخذونه بطانة وخاصة ، فيبدأ ببث سمومه ، لذا جاء التنبيه بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ).
هل تلحق الإنارة بالنار في المثل
جاء قوله تعالى[مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا] بصيغة المثل القريب فليس من إنسان إلا وهو ينتفع من النار للضوء والإنارة ولو عرضاً وهل يلحق المصباح الكهربائي والإنارة في هذا الزمان بمثل النار في الآية أم أن القدر المتيقن هو خصوص النار.
والصحيح هو الأول وهو من الإعجاز في مجئ الآية بصيغة المثال الجلي وقيل: المناقشة في الأمثال ليس من دأب المحصلين) وأمثال القرآن تخرج بالتخصص وتقتبس منها المواعظ، لأن كل مثل هو علم قائم بذاته وتستنبط منه المسائل والأحكام، وهو كنز للمعرفة تنهل منه الأجيال السنن والآداب.
ومن الإعجاز في المثل القرآني بخصوص النار أنه مع الإرتقاء العلمي فان الإنسان محتاج للإستضاءة بالنار، ويدرك بذاته هذه الحقيقة ليتصف هذا المثل بالوضوح عند الناس جميعاً، وتكون الغاية معرفة الناس جميعاً بآفة النفاق التي تجلب لصاحبها الأذى والضرر في النشأتين إذ يحرم نفسه من الضياء والنور، ولبيان حقيقة من جهات:
الأولى : عجز المنافقين عن حجب ضياء وآيات النبوة عن أي فرد من الناس وعن بعضهم الآخر، لأن الآية تذكر أمراً واقعياً وهو إضاءة النار لما حولها، والذي يقف حاجزاً دون النار لا يمنع ملأ الضياء للمكان وهو من الأعجاز في مجيء مثل النار في الآية وإخبارها عن(إضاءة ما حوله).
الثانية : نزول العقاب الإلهي بالمنافقين، فالنار من حولهم ولكنهم لا يبصرون لإنعدام البصيرة.
الثالثة : عدم تدبر المنافقين بالتغير النوعي الذي حصل في النفوس والمجتمعات ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنتقال الناس إلى الإسلام ومسارعتهم إلى سوح القتال جهاداً في سبيل الله، ووهن وضعف الكفار.
ويبين المثل في هذه الآية أن نبوة محمد ضياء يملأ الأرض لا يقدر أحد على حجبه عن الناس وأن الآيات والمعجزات التي جاء بها تتصف بالإشعاع لتبلغ المنكسرة قلوبهم , فتقتبس منها الناس سبل النجاة في الآخرة، قال تعالى[اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ]( ).
وإلحاق الإنارة والمصباح الكهربائي بالنار للتبعية والبيان مع بقاء الخصوصية لفرد النار في المقام وأنه لا شيء يصلح بالمثل في الآية إلا ذات النار وبقاءها وملائمتها لكل الأزمان والأمكنة، وقد يبعث المصباح الضياء إلى جهة مخصوصة أو إلى بعض الجهات ، مع قدرة الإنسان على حجب ضياء المصباح عما خلفه ويكون برزخاً دون ضياء جهة مخصوصة.
ولكن النار تشع على الجهات الأربعة لذا قيدت الآية المثل بأن النار بلغت مرتبة أضاءت ما حول الذي أوقدها وأنارت المكان بما يجعل المتعدد من الناس يرون الأشياء بوضوح.
وفي الآية دعوة للإنتفاع من النار وضيائها في الدنيا قبل أن تكون محلاً لإقامة الكفار الدائمة في الآخرة , وهل تكون النار الواردة في هذا المثل جزءً من نار الآخرة وأنها تكون حيث يقيم الذين يظهرون الإيمان كذباً وبهتاناً لقوله تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
الجواب لا دليل عليه ولا ملازمة بينهما من جهات:
الأولى : جاءت هذه الآية من باب البيان والمثال.
الثانية : تقدم خلق الجنة والنار وهو المختار والمشهور، وعن أنس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية {وقودها الناس والحجارة} فقال: أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها)( ).
الثالثة : إشتراك الناس بالإنتفاع من النار الواردة في المثال، ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ)( ).
والمراد من الكلأ هو النبات والعشب الذي ينمو في الموات , والفلات والأرضي الواسعة التي لا تحجر بما يدل على ملكيتها الخاصة، أما الماء فهو الجاري في الأنهار والينابيع، وفي الآبار غير المملوكة، والمراد من النار وجوه:
الأول : الحجارة التي توري النار.
الثاني : الإستضاءة بالنار والإستصباح بها.
الثالث : النار التي توقد في مكان مباح للإستضاءة أو الدفء.
ومن معاني الآية بعث السكينة في نفوس المسلمين، ومواساة الفقراء منهم ومنع الناس من الإفتتان بما عليه المنافق والكافر من السعة والغنى والمال كما في حال تجار قريش إذ ينتفعون من هذه السعة ولكن عاقبتهم تكون إلى الحسرة والحرمان لعدم الإستضاءة بنور القرآن.
الفساد فرع ذهاب النور
ذكرت آية البحث وبلغة المثل أن الله يمحو نور المنافقين وإن كان الضياء يملأ المحل ، ليكون ذات الحال مفتقراً إلى الضياء الذاتي ، وهو الأمر الذي لا أهلية للنار على تداركه وتعويضه , وما يسلبه الله عز وجل من العبد جزاء تعجز الخلائق عن رده وإسترجاعه إلا أن يبادر ذات العبد إلى الإستغفار والتوبة.
وهل من صلة بين ذهاب نور المخادعين بقوله تعالى[ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ]( ) وبين فسادهم في الأرض ، الجواب نعم ،إذ أن ذهاب النور أمر وجودي وليس عدمياً ، ويكون برزخاً دون الهداية والرشاد فيتفضل الله عز وجل عليهم مرة أخرى بأن يأتيهم النهي المتعدد عن المنكر كما في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]( ) وفيه آية من سعة رحمة الله عز وجل بالناس بأن ذهاب النور الذاتي وصيرورة الإنسان في ظلمة لم يمنع من مجئ الوعظ والنصح وشهاب نور من غيره ، كما في الذي يصاب بالعمى ويفقد حاسة البصر ، فانه يزيد من إعتماده على حاسة السمع والإنتفاع منها وتمييز الأشخاص والمواضع بلحاظ الصوت والريح ونحوه حتى في بعض الأمور الكونية كمقدمات المطر والرعد وحال الطقس والنسيم لمعرفة أوقات الصلاة ولو على نحو تقريبي، قال تعالى[وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ]( ) للإشارة إلى التمثيل الضوئي في غذاء النباتات في النهار ويأخذ ثاني أوكسيد الكاربون والملازمة بين إفراز الأوكسجين مع طلوع الشمس ، وما يسمى بالتركيب الضوئي حيث تأخذ النباتات ثاني أوكسيد الكاربون الذي يعجز الإنسان عن إستهلاكه وتبعث الأوكسجين في الهواء ، وكأن كل نبتة وشجرة مختبر كيميائي سخره الله عز وجل لخدمة الإنسان ، ويؤدي هذه الوظيفة على نحو عرضي غير الغاية من الإنتفاع منه بالأكل مثلاً .
وميّز الله عز وجل الإنسان بتلقي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الليل والنهار ،إذ يتضمن قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]( ) الإطلاق الزماني والمكاني لتلازم رحمة الله عز وجل العبد في الدنيا واذا كان المثل في إستقبال النار بخصوص الليل وحال الظلمة والعتمة فان توجه النهي للمنافقين عن الفساد متصل في الليل والنهار، وهذا النهي من أسرار خلافة الإنسان في الأرض ،فعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض , كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( )ردّ الله عز وجل عليهم بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ومن علمه تعالى وجود أمة تزجر عن الفساد .
مما يدل على أمور :
الأول : حصر الفساد في أفراد وطائفة من الناس .
الثاني : صيرورة الفساد أمراً متزلزلاً غير ثابت .
الثالث : المناجاة بين الناس لتنزيه الأرض من الفساد، فمن إعجاز الآية في المقام إرادة العموم بذكر الأرض [َلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] ( )ليكون تقدير الآية بلحاظ الآية أعلاه أن الله أكرم الإنسان وجعل الأرض دار خلافته ، وباهى به الملائكة، فعليه أن يتعاهد مضامين الخلافة بالتصديق بالنبوة والإمتناع عن الفساد.
وهل في الدعوة إلى الكف عن الفساد أمل بعودة النور الذي سلبه الله من المنافقين ، الجواب نعم بالتوبة ، إذ أنه سلب من الذي إمتلأ قلبه بالكفر والجحود وأشاع الفساد فحالما يمتنع عن الفساد طاعة لله عز وجل ورسوله يبصر الأشياء كما هي ، وذات الإمتناع من مصاديق النور بلحاظ أنه أمر وجودي يتقوم بالقصد وحسن النية .
ومن فضل الله عز وجل على الناس عامة وعلى المؤمنين والمنافقين والكفار خاصة أن القول الذي يتوجه إلى المنافقين لا يختص بالنهي عن الفساد ، بل يتضمن الأمر بالإيمان ،إذ جاءت الآية بعد التالية [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]( ) لبيان حقيقة وهي أن الدنيا دار الإيمان وأن الناس بلغوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مراتب من السمو والفقاهة بحيث لا يرضون بالوقوف عند الكف عن الفساد ، فلابد من الإيمان والتصديق بالرسالة للتوقي والسلامة من داء ذهاب النور والحرمان من نعمة سلاح البصيرة .
ويأتي النهي عن الشئ لذاته وملازمه ومقتضى النهي في الشرع هو قبح المنهي عنه ، لذا ورد في التنزيل في ثناء الله عز وجل على نفسه أنه [وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ]( ).
وقد تجتمع الخصال المذمومة المنهي عنها في الآية أعلاه في ذات وحال مخصوصة كما في المنافق، فجاءت هذه الآيات لذمه ودعوته للتوبة والصلاح .
صلة [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ] ( )بقوله تعالى [قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( )
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار التوبة والإنابة ،ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه سبيل إلى التوبة ، وطريق هداية إلى الصلاح ، لذا فمن معاني قوله تعالى [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ]( )حرمان المنافقين مما تبعثه كل آية من القرآن من صيغ التوبة والدعوة إليها سواء في منطوقها أو مفهومها أو موضوعها أو الحكم المترشح عنها .
وأختلف في علم الكلام هل تصح التوبة من ذنب مع البقاء والإصرار على ذنب آخر ، والمختار والمشهور هو صحة هذه التوبة سواء لأن المقتضى للتوبة من أحد الذنوب أرجح وأقوى ، أو المانع من الآخر أشد ، قال تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] ( ).
وقال جماعة كأبي هاشم بعدم صحة التوبة من ذنب وفعل قبيح مع الإقامة على ذنب آخر لأن التوبة النصوح تتقوم بالخشية من الله .
فجاءت هذه الآيات لبيان خصال المنافقين ، وكل بيان لخصلة منها هو دعوة لنبذها والتوبة منها ، والإبتعاد عنها ، إذ نزل القرآن بلغة إياك أعني واسمعي يا جارة .
فلم يكن المنافقون وحدهم المقصودين في هذه الآيات بل جاءت خطاباً للناس جميعاً من وجوه :
الأول : إرادة المسلمين في دلالات الآية ، من جهات :
الأولى : حث المسلمين على إستدامة الإقامة في منازل الإيمان والعصمة من الشك ، ومنع دبيبه إلى النفوس .
الثانية : لزوم تنزه المسلمين عن الفساد .
الثالثة :حمل المسلمين لواء الصلاح في الأرض ، فهم ورثة الأنبياء ، وبهم تقوم الحجة على المفسدين .
الرابعة : الغلظة مع المنافقين ، وزجرهم عن الفساد، وهل قول [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] ( ) من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ) الجواب نعم ،من جهات :
الأولى : النهي عن الفساد .
الثانية :دلالة هذا النهي على نعت المنافقين بالمفسدين .
الثالثة : دعوة المنافقين للإقتداء بالمؤمنين في إخلاصهم الإيمان وأدائهم الفرائض .
الرابعة : صيغة العموم المكاني في النهي للزوم إجتناب الفساد في أي بقعة من الأرض وتشمل الخاص كالبيت بأن لا يؤدب الإنسان أولاده وعائلته على النفاق .
الثاني :إرادة المنافقين في الخطاب وهو موضوع هذه الآيات ، فمن وجوه ذمهم أن بدايات القرآن وردت بذكر قبائحهم وخصالهم المذمومة مما يدل على إنكار سوء إختيارهم، والضرر المترشح عن أفعالهم وفسادهم .
والأصل أن تتوجه لغة الذم في بدايات القرآن إلى الكفار للزوم دعوتهم للإسلام وشدة قبح الكفر ، وتحذير المسلمين منهم ، ولكن الذم جاء في هذه الآيات للمنافقين مع أنهم فئة حديثة النشوء ، وصاحب ظهورها تنامي قوة الإسلام وتحقيق المسلمين النصر والظفر في ميادين القتال .
وفيه دلالة على الضرر الفادح لبقاء المنافقين بين المسلمين خاصة وان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بقتلهم ، بل نهى عن قتل من ثبت عليه التلبس بالنفاق، وظهر منه الفساد.
وفيه دلالة على أن مجئ هذه الآيات وفي بدايات القرآن كاف لسلامة المسلمين من النفاق ، وإختيار فريق منهم التوبة والصلاح ، لتكون من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).وكل آية من هذه الآيات تتضمن الذم الصريح للمنافقين لزجرهم عن الفساد .
الثالث : المقصود الناس جميعاً للإنذار من المنافقين والزجر عن الإنصات لهم في الشك والريب الذي يبثونه، وفي التحريض على الإسلام والإغراء بالمسلمين الذين إختاروا طريق الهداية ، ومن صيغ الإنذار في المقام إخبار آية البحث عن سلب نور المنافقين ، فهم دخلوا في الإسلام إسماً ولكنهم لم ينتفعوا منه ولم يخلصوا الإيمان ، فأراد الله عز وجل ألا يفتتن بهم المسلم أو غير المسلم ، أو أن يظن أن ما يفعله المنافق مرآة لمبادئ الإسلام، فتفضل الله بأمور :
الاول : أذهب الله عز وجل النور من المنافقين , وكأنه هناك ملازمة بين شراء المنافق للضلالة وبين مغادرة النور له .
الثاني : فضح المنافقين بين الناس .
الثالث : المنع من ترتب الأثر بين الناس على كذبهم وإفترائهم .
ويتضمن إدعاؤهم الصلاح بقوله تعالى [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] أموراً :
الأول : إنكارهم القيام بالفساد .
الثاني : النية والقصد لفعل السيئات والفساد في الأرض .
الثالث : التعريض بالمؤمنين لذا جاء بعد آيتين قولهم [قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] ( ).
الرابع : تحريض الناس على الفساد.
الخامس :دعوة الذين ينهون عن المنكر للكف والإمتناع عن هذا النهي, مع أنه خير محض .
السادس : إظهار الإستكبار عن الدعوة إلى الحق ، وفي التنزيل في ذم المنافقين [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ]( ).
السابع : اللبس على الناس ، وجعلهم في حيرة من أمرهم .
الثامن : إرادة صد الناس عن دخول الإسلام .
التاسع : إختيار المغالطة والإفتراء .
العاشر : تثبيط عزائم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
وتحتمل الصلة بين صرف النور عن المنافقين وبين إدعائهم الإصلاح أموراً:
الأول : إدعاء الإصلاح حال إرتكاب الفساد فرع ذهاب النور .
الثاني : بيان قانون كلي وهو ذات الجزاء الدنيوي العاجل من عند الله أثر، وتترتب عليه آثار أخرى , وفيه وجوه محتملة :
الأول : ترتب الثواب على خصوص العمل الصالح بزيادة الهدى وسعة الرزق وغفران الذنوب .
الثاني : الجزاء العاجل بإصابة الكفار والمنافقين بالبلاء، وفيه مسائل:
الأولى : هذا البلاء برزخ دون تمادي الكفار والمنافقين بالفساد في الأرض.
الثانية : إشغال الكفار بأنفسهم .
الثالثة : إلحاق الأذى والضرر بالكفار والمنافقين، لتذكيرهم بعذاب النار في الآخرة .
الثالث : الجزاء الإبتدائي العاجل عام على الخير والشر لأنه من اللطف الإلهي سواء كان نعمة أو نقمة .
وفيه دعوة للناس للتدبر بما يلاقيه الفرد والجماعة منهم في أمور الدنيا وضروب الإبتلاء فيها، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ).
الأمرالثالث :إتحاد وتآزر المنافقين في تحريف الحقائق , والتورية بالباطل .
الأمر الرابع : ظن المنافقين أن المسلمين والناس يصدقون بادعائهم الإصلاح إذ لا أصل لهذا الظن ، وعلى فرض حصول اللبس عند طائفة من الناس فقد جاءت الآية التالية بقوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ]( )، متعقبة للآية أعلاه ومن غير فاصلة بينهما لطرد اللبس الذي أراد المنافقون إيجاده ولمنع اللبس في تفسير وتأويل هذه الآيات ومعانيها ، وليدرك الناس جميعاً أن الله عز وجل يبغض المنافقين .
الخامس : بيان حقيقة وهي أن ذهاب النور من الإنسان يؤدي إلى أمور:
الأول : فعل الفساد والإصرار عليه.
الثاني : النور الذاتي كنز وثروة ، ومن منافعه التمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب، لذا فان قول المنافقين [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] ( ) لا أثر عليه عند المسلمين إلا زيادة ذم المنافقين والنفرة منهم .
لقد جاء زجر المنافقين عن مواصلة الفساد في الأرض رحمة بهم ونصيحة خالصة لأن الأرض أشرقت بنور الإيمان وصارت الأفعال التي تترشح عن الكفر منبوذة ومبغوضة عند عامة الناس الذين لم يكتفوا بالتحلي بالصلاح بل توجهوا إلى ذات المنافقين لنهيهم عن الفساد .
وفي قوله تعالى [وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ]( )،( عن ابن عباس قال : هي قرية على شاطىء البحر بين مصر والمدينة يقال لها أيلة ، فحرَّم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم ، فكانت تأتيهم يوم سبتهم شرعاً في ساحل البحر ، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها ، فمكثوا كذلك ما شاء الله ، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم ، فنهتهم طائفة فلم يزدادوا إلا غيّاً . فقالت طائفة من النهاة : تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب { لم تعظون قوماً الله مهلكهم } وكانوا أشد غضباً من الطائفة الأخرى ، وكل قد كانوا ينهون ، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالتا : لم تعظون؟ والذين { قالوا : معذرة إلى ربكم } وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة)( ).
(عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: افترق القوم ثلث فرق ، فرقة إنتهت واعتزلت ، وفرقة أقامت ولم تقارف الذنوب ، وفرقة اقترفت الذنوب، فلم تنج من العذاب الا من انتهت) ( ).
(عن ابن أبزى عن أبيه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيراً ، ثم قال : ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم ولا يفطنونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم ، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون ، والذي نفسي بيده ليعلمن جيرانه أو ليتفقهن أو ليفطنن ، أو لأعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا ، ثم نزل فدخل بيته . فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يعني بهذا الكلام؟ قالوا : ما نعلم يعني بهذا الكلام إلا الأشعريين ، فقهاء علماء ، ولهم جيران من أهل المياه جفاة جهلة ، فاجتمع جماعة من الأشعريين فدخلوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ذكرت طوائف من المسلمين بخير وذكرتنا بشر ، فما بالنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لتعلمن جيرانكم ولتفقهنهم ولتأمرنهم ولتنهونهم ، أو لأعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا ، فقالوا : يا رسول الله ، فاما إذن فامهلنا سنة ، ففي سنة ما نعلمه ويتعلمون ، فامهلهم سنة ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون})( ).
وتبين هذه الآيات أن المسلمين حملوا لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو شعارهم الذي يصاحبهم في الليل والنهار فلا يقدر النفاق على البقاء في عالم الأفعال ، فلذا أجهزت عليه هذه الآيات لسلامة النفوس منه.
وتبين الآية خصلة من خصال المنافقين وهي عكس الحقائق ومحاولة جعل السواد بياضاً مع الإساءة للأمن الإجتماعي ،والتعدي على المفاهيم الأخلاقية المتوارثة بالنبوة والتنزيل.
وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ]( )لتكون مضامين الكتاب وسنن التقوى ومبادئ الحكمة جلية عند الناس ، وحاضرة في الوجود الذهني وتتوارثها الأجيال ، وجاء القرآن بالحجة والبراهين على لزوم إجتناب الفساد .
صلة(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ) بالآيات السابقة
يحتمل المثل الوارد في هذه الآية[مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا]( )، وجوهاً :
الأول : إرادة موضوع مخصوص يتعلق به المثل.
الثاني : المقصود هو الإطلاق في هذا المثل القرآني.
الثالث : إرادة مضامين الآيات السابقة الخاصة بذم المنافقين.
والصحيح هو الثاني، وتقدير قوله تعالى مثلهم على وجوه:
الأول : مثل الذين يدّعون الإيمان مع بقائهم على الكفر كمثل الذي استوقد ناراً.
الثاني : مثل الذين يخادعون الله والذين آمنوا وهم لا يخدعون إلا أنفسهم.
الثالث : مثل الذين في قلوبهم مرض.
الرابع : مثل الذين زادهم الله مرضاً.
الخامس : مثل الذين لهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون.
السادس : مثل الذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون.
السابع : مثل الذين هم المفسدون.
الثامن : مثل الذين هم المفسدون ولكن لا يعلمون.
التاسع : مثل الذين إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء.
العاشر : مثل الذين هم السفهاء ولكن لا يعلمون.
الحادي عشر : مثل الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم.
الثاني عشر : مثل الذين إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون.
الثالث عشر : مثل الذين الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون.
الرابع عشر : مثل أولئك الذين إشتروا الضلالة بالهدى.
الخامس عشر : مثل الذين إشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم.
السادس عشر : مثل الذين ما كانوا مهتدين كمثل الذي إستوقد ناراً.
فإن قلت إن مضامين الآية السابقة تتعلق بذات الطائفة وإن التعدد في وجوه المثل من تحصيل ما هو حاصل.
والجواب إن كل موضوع في الآيات السابقة ينطبق عليه المثل الوارد في هذه الآية للتباين الموضوعي بين الآيات بلحاظ تعدد سنخية الأفعال القبيحة التي تذكرها هذه الآيات، وكل فرد منها ينطبق عليه المثل كما جاء البيان بالتفصيل في هذا الجزء وآخر الجزء السابق.
الإحتراز من ولاية المفسدين
لقد تفضل الله عز وجل ورزق الإنسان قبل وبعد هبوطه الأرض نعمة عظيمة لم تنلها الخلائق، وهي :
الأول :نفخ الله عز وجل من روحه في آدم ، وهل فاز الملائكة بهذه النعمة بلحاظ قانون الأولوية لأنهم خلق كريم مقربون من الله عز وجل ودائبون على التسبيح والذكر ، الجواب لا ،إذ توجه الأمر الإلهي إلى الملائكة بالسجود لآدم وبادروا إلى الإمتثال باستثناء إبليس ، قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ] ( ).
الثاني : كان آدم وحواء في الجنة آناً ما , وإباحة الأكل لهما من ثمارها، لتكون مقدمة لرجوع المؤمنين إلى الجنة والخلود فيها مع الأمن والسلامة من وسوسة إبليس لأنهم إستطاعوا قهره ، وتنزهوا عن أخلاق النفاق .
الثالث : خلافة آدم في الأرض من بين الخلائق كلها ، وتتجلى الخلافة بسنخية الإختيار وتسخير النعم فيها للإنسان وإخراج الأرض كنوزها لبني آدم وسياحتهم فيها ، وإنتقالهم في أقطارها ، ومن لطف الله عز وجل أن زجر الإنسان عن الفساد صدر في الجنة وعلى لسان الملائكة وكأنه من مصاديق ومفهوم القول في [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]( ).
إذ ورد إنكارهم أهلية الإنسان لخلافة الأرض بقوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )ويدل مفهومه أن بني آدم تعاهدوا الخلافة بالصلاح وأنه شرط لإستدامتها ، فتفضل الله عز وجل برحمة الناس والملائكة بمجئ هذه الآيات بالزجر عن الفساد وتبكيت المفسدين وإن تظاهروا بالصلاح زوراً .
ويبين ذم القرآن للمفسدين حقيقة وهي أنهم برزخ دون بقاء صرح الدولة ولو جاهد الصالحون في بنائها يكون المفسدون سبباً في إنهيارها ، ولقد أراد الله عز وجل للإسلام أموراً :
الأول : قيام دولة الإسلام .
الثاني : سرعة قيام هذه الدولة ، وكأنها من مصاديق قوله تعالى [إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
فما أن وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة مهاجراً حتى رجع إليه الناس في أمورهم ، وفك الخصومات حتى بالنسبة ليهود المدينة .
الثالث : حكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحكام المسلمين بالحق والعدل ،(عن ابن عباس : أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } إلى قوله { المقسطين } إنما أنزلت في الدية من بني النضير وقريظة ، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يريدون الدية كاملة ، وأن بني قريظة كانوا يريدون نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق ، فجعل الدية سواء) ( ).
الرابع : وجوب إحتراز الدولة الإسلامية من المفسدين ، ومنع حصول سلطان لهم في شؤون الحكم ، وقد جاءت الآيات بالتحذير من إتخاذهم خاصة ومرجع ومشورة , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( )ليكون من باب الأولوية القطعية أمران:
الأول :إجتناب إتخاذ المفسدين خاصة ووليجة لأن بين الذين دون المؤمنين رتبة الذين ذكرتهم الآية أعلاه وبين المفسدين عموماً وخصوصاً مطلقاً.
الثاني : تحلي المسلمين باليقظة والفطنة وأخذ الحائطة من بلوغ المفسدين لمنازل الأمرة والولاية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ]( )، بتقريب وهو جعل نفوس المسلمين تنفر من المنافقين وينعدم فيها الود والميل إليهم ، ليكون المفسدون في عزلة وشبه حجر فينتفي موضوع الإفساد والفساد الذي هو معول يهدم أركان الدولة ويهددها بالضعف .
وقد إراد الله عز وجل لدولة الإسلام أن تبقى قائمة إلى يوم القيامة تتقوم بحكم الله عز وجل في العبادات والمعاملات والسنن والأحكام فلذا جاءت هذه الآيات لفضح المفسدين ومنعهم من الدبيب إلى منازل القرار أو التأثير بعموم حالات المجتمع ومنع قيامهم باشاعة روح الجدال والشك والمغالطة .
ليكون قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ] ( )على وجوه :
الأول : فضح المنافقين .
الثاني : بيان الملازمة بين النفاق والفساد فاذا تبين بأن شخصاً يخفي الكفر في نفسه فهو مفسد ، ولا تصل النوبة إلى القياس الإقتراني ، وهو:
الكبرى :الكافر مفسد.
الصغرى :المنافق كافر .
النتيجة : المنافق مفسد .
فلا تصل النوبة إلى هذا القياس لأن هذه الآيات أخبرت عن قانون كلي وهو أن المنافق ذاته فاسد ، فلا يكون إستحقاقه لهذا النعت والذم بالواسطة، بل هو بذاته كافر مفسد ، وفيه دعوة للمسلمين لعدم الركون إليه وإخبار بأن نطقه بالشهادتين مع إنطواء نفسه على الكفر ليس علة تامة بالإطمئنان إليه .
الثالث : وجوب تحصين الدولة الإسلامية من المنافقين وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) فبإشراقة بعثته صلى الله عليه وآله وسلم إنحسر شأن المفسدين في الأرض ، وإفتضح أمرهم وإبتعد عنهم الناس ، وفيه أيضاً نقص وقلة لعدد المنافقين والمفسدين ، فلا يختار العاقل إجتماع الضلالة والفساد والعزلة من الناس .
لقد فضل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الإنبياء السابقين ، ومن وجوه هذا التفضيل محاربة المفسدين من غير المسلمين ، والذين يدخلون الإسلام خوفاً وخشية ومن أجل الإضرار به ، وكشف عورات المؤمنين ، فيأتيهم النداء والزجر من كل جهة بوجوب التنزه عن الفساد فهذا زمان الصلاح في الأرض، ولفظ ما هو قبيح شرعاً، ولكن القضاء على الفساد يلزم بذل الوسع ، إذ أن المفسدين يميلون إلى عدم إظهار ضلالتهم وقبح سيرتهم، ويدّعون الإصلاح، فتبين آية المثل [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا] ( )خسارتهم وأنهم حرموا أنفسهم من نعمة نور النبوة ودلائل الإعجاز التي أطلت على الأرض بنزول القرآن فرماهم الله عز وجل بالعمى وفقدان البصيرة ، ومنه أنهم لا يشعرون بأنهم المفسدون .
لقد أراد الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنزيه الناس من الغدر والخيانة وخلف الوعد ، فجمع الله عز وجل هذه الخصال بنعتها بالفساد ووصف أصحابها بالمفسدين , والفساد هو التلف والعطب ليكون من مصاديقه أمور :
الأول : محاربة المنافقين لمكارم الأخلاق .
الثاني : إمتناع المنافقين عن إختيار الإيمان الذي هو أصل الصلاح ، وبه تتقوم الصالحات وتزكى الأعمال .
الثالث :إرادة المنافقين تلف أنفسهم ،وزجها في العذاب الأليم .
الرابع : سعي المنافقين لصد وحجب فضل الله على المسلمين والناس جميعاً بالنبوة والتنزيل .
الجمع بين[هُمْ الْمُفْسِدُونَ] و[لاَ يُبْصِرُونَ]
لا يختص موضوع هذه الآيات بذم الفساد وزجر المنافقين عنه ، بل تضمن الإخبار صراحة بأن المنافقين مفسدون في الأرض وذات النفاق إفساد وليس فساداً وحده ، وجاءت الآية بصيغة التأكيد والجمع [هُمْ الْمُفْسِدُونَ]لبيان حقيقة وهي ترشح الإفساد الإضافي من جهات :
الأولى : تعدد المنافقين ، فكلما كان عدد المنافقين أكثر كان الفساد الصادر منهم أكثر .
الثانية : إجتماع المنافقين في محل واحد أو على رأي واحد إفساد إضافي .
الثالثة : بقاء المنافقين مقيمين على النفاق مع الزجر في هذه الآيات إفساد متجدد ، وفيه زيادة في الأثم الذي يلحق بهم ، وتعجيل بنزول البلاء بهم.
الرابعة : بعد مجئ هذه الآيات ليس من عذر للمنافقين في إصرارهم على النفاق وإخفاء الكفر .
الخامسة : من الإفساد الإضافي إمتناع المنافقين عن إختيار التوبة مع تجلي المعجزات بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : إستمرار المنافقين بالتعدي وإثارة الفتن وأسباب الشك والريب .
السابعة : إرتكاب المنافقين المعاصي والسيئات (عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ألفين أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة ، فيجعلها الله هباء منثورا , قالوا : يا رسول الله ، صفهم لنا لكي لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال : « أما إنهم من إخوانكم ، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) ( ).
وتتضمن هذه الآية قانوناً وهو أن المنافقين مفسدون في الأرض، وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : لا يبصر المنافقون الأضرار التي تلحق بالإسلام بسبب إخفائهم الكفر لولا فضل الله بفضحهم في القرآن .
الثاني : لا يبصر المنافقون المعجزات الحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : تخلف المنافقين عن التدبر في المعجزات العقلية لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والكنوز السماوية في آيات القرآن .
الرابع : لا يدرك المنافقون إتصاف أفعالهم بالسفاهة وخفة العقل .
الخامس : لا يبصر المنافقون خيبتهم وعجزهم عن التأثير في مجريات وعواقب الأمور ، فقد شاء الله عز وجل أن تترسخ مبادئ التوحيد في الأرض ، (قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ ) ( ).
السادس : لا يبصر المنافقون قبح الإستتار بالدين لنشر الرذيلة (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ :إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ)( )،أي يحسن الكلام في سبل الإيمان ، ويدّعي التقوى والخشية من الله ولكنه فاسد السريرة وهذا الفساد يجعله يرتكب المعاصي عند تهيئتة مقدماتها ، ليفتن الناس بها ويغريهم بفعل السيئات .
السابع : لا يبصر المنافقون ما يحل بهم من الأذى والعذاب في الدنيا بسبب قبح فعالهم وذميم أخلاقهم وإظهارهم الإستخفاف بالرسالة والمعجزات .
(عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأربعة أسياف، سيف للمشركين: { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } ( )وسيف للكفار أهل الكتاب: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }( ) وسيف للمنافقين: { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}( ) وسيف للبغاة: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}( )).
وقد بينت السنة النبوية أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل أحداً من المنافقين ، والبعث بالسيف أعم من أن يجري فيهم ، والقدر المتيقن منه هو محاربتهم الله ورسوله والإفساد في الأرض ، قال تعالى [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ]( ).
الثامن : لا يبصر المنافقون منافع البعثة النبوية في إصلاح النفوس والمجتمعات .
التاسع :لا يبصر المنافقون إعراض الناس عنهم ، وعدم الإصغاء إلى جدالهم ومغالطتهم .
العاشر :لا يبصر المنافقون الضياء الذي ملأ الأرض برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
صلة[وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] بآية [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا].
من خصائص النار أنها تملأ المكان بالضياء وتبعث على الرؤية في الليل ، ولا ينحصر النفع منها بالذي يوقدها فالناس فيها شرع سواء , وقد أزاحت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلام الكفر ليحل بدله نور الإيمان الذي صار المعلم والصبغة التي تتغشى الناس ، ولكن المنافقين إختاروا الإمتناع عن الإقرار بهذا التبدل النوعي ، فجاءت هذه الآيات لتكون عوناً للمسلمين في أمور :
الأول : الجهاد ضد المنافقين وزجرهم عن الإقامة على الكفر.
وهل تلاوة هذه الآيات من مصاديق هذا الجهاد , الجواب نعم ،ليكون من الإعجاز في تشريع الصلاة اليومية والقراءة الجهرية في صلاة الصبح والمغرب والعشاء حضور المنافق الصلاة وإستماعه لتلاوة الإمام أو المنفرد هذه الآيات فيتعظ منها فتكون الصلاة مناسبة للتوبة من النفاق وهو من الدقة العقلية والإعجاز في الحكم بالتفصيل بين جهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان وهو من مصاديق[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ]( ).
بتقريب أن هذا النهي يشمل الذي يصلي والذي يستمع له وهو يتلو الآيات ويراه كيف يصلي وتقيده بها وبآدابها لتكون الصلاة مدرسة الإيمان.
وتضمنت هذه الآيات تبكيت المنافقين ليلاحقهم المؤمنون في البيت والسوق بتلاوة هذه الآيات ، ومن الإعجاز في خلق الإنسان هو عدم الملازمة بينه وبين عقيدة الضلالة وفعل السيئات، وتتضمن كل ساعة من ساعات حياته ترغيبه بالإنابة والإقلاع عن الفساد والمعصية.
وتبعث الآيات التي تذم المنافقين الغبطة والسعادة في نفوس المؤمنين من جهات :
الأولى :سلامة المؤمن من النفاق .
الثانية : عصمة المؤمن من تلقي الذم في القرآن , وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة : حرص المؤمن على تعاهد الإيمان وصفاء السريرة .
الرابعة : إستحضار قصد القربة عند إتيان العبادات وفعل الصالحات .
الخامسة : شكر المؤمنين لله عز وجل على نعمة الإيمان .
السادسة : إمتلاء نفوس المؤمنين بالسكينة لمجئ القرآن بخزي المنافقين ، وما يجعلهم عاجزين عن التمادي في الغي وجلب الأذى للمسلمين .
ويخرج المؤمنون إلى ميادين الجهاد وفي سرايا الدفاع وتبقى هذه الآيات واقية وحرزاً من شرور المنافقين، وتلك آية في إعجاز القرآن الغيري ، ومنافعه التي لم تستقرأ بعد .
والأصل في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إمتناع النفاق لعدم البرزخية بين الإيمان والكفر، قال تعالى [فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ]( ).
وهل النفاق وسط وبرزخ بين الإيمان والكفر , الجواب لا ،لأن المدار على ما في قرارة النفس ليس بذاته بل لأنه ينعكس في عالم القول والفعل بما فيه الإضرار بالمسلمين والناس جميعاً , ومن القواعد الفقهية قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ز
قال تعالى في بيان خصال المنافقين [وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ]( ).
وفي أسباب نزول الآية أعلاه ذكرت وجوه :
الأول : (عن كعب بن مالك قال « لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين قال الجلاس : والله لئن كان هذا الرجل صادقاً لنحن شر من الحمير . فسمعه عمير بن سعد فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إليَّ وأحسنهم عندي أشراً وأعزهم علي أن يدخل عليه شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك , ولئن سكت عنها لتهلكني ، ولأحدهما أشد عليَّ من الأخرى.
فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ما قال ، فأتى الجلاس فجعل يحلف بالله ما قال، ولقد كذب علي عمير) ( ).
الثاني : (عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمع زيد بن أرقم رجلاً من المنافقين يقول والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب: إن كان هذا صادقاً لنحن شر من الحمير. فقال زيد رضي الله عنه: هو والله صادق ولأنت أشر من الحمار ، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجحد القائل، فأنزل الله{يحلفون بالله ما قالوا …}( ). فكانت الآية في تصديق زيد)( ).
الثالث : (عن ابن عباس قال « كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً في ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه . فلم يلبثوا إلا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم، وأنزل الله{يحلفون بالله ما قالوا…}( )) ( ).
الرابع : (عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا، أحدهما من جهينة والآخر من غفار ، وكانت جهينة حلفاء الأنصار ، فظهر الغفاري على الجهني فقال عبد الله بن أبي للأوس : انصروا أخاكم، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قاله)( ).
الخامس : نزلت الآية في عبد الله بن سلول عن قتادة.
البيان في الصلة بين هذه الآية وقوله [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا]
تضمنت الآية أعلاه الشهادة من الله عز وجل على إعلان المنافقين إيمانهم أمام شهود عدول متعددين مع الأصل في البينة هي كفاية شاهدين عدلين إلا في الزنا فانه يستلزم أربعة شهود.
ومن إعجاز الآية أنها لم تخبر عن إعلان المنافقين إيمانهم أو عن قيامهم بأفعال أو فعل متحد يدل على إيمانهم أو إقرارهم بالآيات بل ذكرت الآية إيمانهم بصيغة القول [قَالُوا آمَنَّا].
وهذا القول مقيد بحال مخصوص، وهو حال اللقاء لتقوم الحجة والشهادة على المنافقين من وجوه:
الأول : شهادة الله عز وجل على المنافقين، وهذه الشهادة مطلقة من جهات :
الأولى : قول المنافقين [آمَنَّا]بحضرة المؤمنين .
الثانية :نصرة المنافقين لرؤساء الضلالة بالقول [إِنَّا مَعَكُمْ].
الثالثة : شهادة الله عز وجل لما يبطن المنافقون من معاني الكفر في نفوسهم ،وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا] ( ).
الثاني : شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس ، وهذه الشهادة على شعبتين:
الأولى :شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا بما ينعم عليه الله عز وجل من الوحي والإخبار الملكوتي ، لتتضمن هذه الشهادة النبأ والإنذار ، ومن الإعجاز في نبوته قبول عذر المنافق والصفح عنه .
الثانية : شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآخرة ،قال تعالى [وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا]( ).
الثالث: شهادة الآية القرآنية وهي على شعبتين :
الأولى : شهادة الآية القرآنية في الحياة الدنيا بما تتضمنه من الإخبار والبيان كما في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا] ( ).
الثانية : شهادة الآية القرآنية في الدار الآخرة بأن تكون حجة على المنافق من جهات :
الأولى : مضامين الآية القرآنية .
الثانية : تلاوة المنافق للآية القرآنية وإخبارها عن كشف ما في نفسه من الكفر والضلالة.
الثالثة : ورود الآية القرآنية إلى سمع المنافق طوعاً وقهراً، وحمله على التدبر في معانيها.
الرابعة : مجيء الآية القرآنية يوم القيامة شاهداً وحرزاً للمؤمنين ,وحرباً على المنافقين والكافرين، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مر أو خبيث وريحها مرّ”)( ) .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إقرؤا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)، مما يدل على أن القرآن له لسان ناطق يوم القيامة، مع عجز الكفار المنافقين عن الكلام والجدال يوم القيامة، قال تعالى[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ]( ).
الخامسة : شهادة المكان والموضع الذي يلقى فيه المنافق المؤمنين ويدّعي الإيمان إفتراءً.
السادسة : شهادة الزمان من نهار أو ليل على المنافق.
السابعة : شهادة أعضاء المنافق عليه.
الثامنة : شهادة المؤمنين على كذب المنافق، وجاءت هذه الآيات لتنبيه المسلمين إلى هذه الشهادة وقرب أوان أدائها، قال تعالى[إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( )، والمراد هو يوم القيامة وساعة الحساب، وقيل المراد عذاب جهنم، ولكن لو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد، فالأصل هو الإطلاق أي المراد يوم القيامة.
التاسعة : شهادة ذات الوقائع والأحداث على المنافق، وبلحاظ آية البحث والمثل فيها، يكون من مصاديق إنتفاء الشعور عند المنافقين بقوله تعالى [هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ]( )، على وجوه:
الأول : لا يشعرون بالنار التي توقد حولهم.
الثاني : لا يشعرون بنور النبوة الذي ملأ أقطار الأرض.
الثالث : لا يشعرون بآثار دخول الناس أفواجاً في الإسلام.
الرابع : لا يشعرون بدلالات إتساع صفوف صلاة الجماعة.
الخامس : لا يشعرون بحرارة نار جهنم التي يقتربون منها.
البيان في قوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ]
تحتمل الآية ووصف المنافقين فيها وجوهاً :
الأول : إرادة المعنى الحقيقي وأن المنافقين مصابون بالصمم والخرس والعمى .
الثاني :المعنى المجازي ، والمراد منه التشبيه .
الثالث : عدم إنتفاع المنافقين من حواسهم .
الرابع : تخلف حواس المنافقين عن الذب عنهم ، وحمايتهم ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ]( ).
الخامس :إرادة السالبة الجزئية وأن عدم السمع والعجز عن النطق وفقدان البصر أمور خاصة بامتناعهم عن الإيمان وتخلفهم عن توظيف الحواس في طاعة الله ورسوله .
السادس : بيان الفرد الأعم من وظائف الحواس وهي ضروب ومصاديق الإيمان التي تتجلى على الحواس، وقد عطلها المنافقون والكفار.
السابع : المعنى الأعم الجامع للحقيقة والمجاز .
وبإستثناء الوجه الأول والأخير فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة ، فقد وردت آيات القرآن بما يدل على تسخيرهم حواسهم في أمورهم الدنيوية وفي إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، قال تعالى في وصف وذم المنافقين [وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ] ( )، وقال تعالى [فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ]( ).
وهذا البيان من إعجاز القرآن ، ولو أن المنافقين إتعظوا من آيات القرآن وتدبروا في دلالاتها ، وأسرار ومعجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتخذوا من سمعهم وأبصارهم وسائل للإهتداء إلى الحق لما خافوا وما بسطوا ألسنتهم في إيذاء المؤمنين.
ويحتمل طعنهم باللسان للمؤمنين بلحاظ نعتهم بالبكم في هذه الآية وجوهاً :
الأول : خصومة وتوجيه المنافقين اللوم للمؤمنين من نعتهم بالبكم لأن قوله تعالى [سَلَقُوكُمْ] كالخرس .
الثاني : قوله تعالى [سَلَقُوكُمْ] نقيض البكم ، ولكنه لا يعني التعارض والتضاد بين الأمرين للإختلاف الجهتي .
الثالث :إستقبال المنافقين المؤمنين بألسنة حداد شديدة وفصيحة مقدمة وسبب لإصابتهم بالبكم والخرس كما في هذه الآية ليكون من العقوبة العاجلة وسلامة المسلمين من أذاهم وشرهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وفيه بيان بأن مدار النطق والإنتفاع من نعمة اللسان هو ما كان في مرضاة الله ، وتدخل في طوله المباحات، أما الكفار فانهم إختاروا الضلالة التي لا تؤدي إلى الإفهام وبيان المعنى بالحجة لذا إختاروا المغالطة والرياء.
وذكرت الآية أربع خصال للمنافقين , ومع شدة قبح كل واحدة منها فقد ورد بيانها في كلمة مفيدة من حرفين أو ثلاثة وكل كلمة تجمع المنافقين موضوعاً وحكماً ، وفيه آية في إعجاز القرآن وعدم الخشية أو الفزع من المنافقين وألسنتهم وأذاهم ، وهذه الخصال هي :
الأولى :صم.
الثانية : بكم .
الثالثة: عمي .
الرابعة :لا يرجعون .
أما بالنسبة للأولى فتقدير الآية على وجوه :
الأول : المنافقون صم عن دعوة الحق .
الثاني :صم عن الإستماع إلى الحجج والبراهين .
الثالث : صم عن الوحي ومضامينه القدسية .
الرابع : صم عن أحكام الحلال والحرام .
الخامس : صم عن تلاوة المسلمين لآيات القرآن .
السادس :صم عن الأذان الذي يصدح من حولهم خمس مرات في اليوم يدعوهم إلى الصلاة وتقوى الله .
السابع : صم عن البشارات والإنذارات التي تشمل الحياة الدنيا والآخرة، قال تعالى [إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ]( )، فان قلت سلّمنا بأن المنافقين حرموا أنفسهم من الإستماع إلى البشارات التي جاء بها القرآن والسنة النبوية ، فقد وردت آيات تبين أنهم يتلقون الإنذارات كما في قوله تعالى [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا]( )، أي قوماً شديدي الخصومة ويتصفون باللجاج والعناد ، وإنما المراد من عدم إستماع المنافقين للبشارات والإنذارات أي عدم الإنتفاع منها ، والنهل منها بما ينجيهم من عذاب النار والإقامة في الدرك الأسفل من النار.
الثامن : صم عن لغة التوبيخ والتبكيت التي جاءت في القرآن في ذم المنافقين خاصة .
التاسع :تقدير الجمع بين قوله تعالى [صُمٌّ]وآية [وَإِذَا قِيلَ] ( ) هم صم إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ، وفيه دلالة بأن تخلف المنافقين عن الإيمان الصادق بسبب المانع الذاتي عندهم ،لأن المقتضي للإيمان موجود بالبراهين القاطعة ، فان قلت كيف يكون المانع ذاتياً ، وعبادة الله هي علة خلق الناس لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
والجواب أن المانع الذاتي عرضي وخلاف الأصل، إختاره المنافقون عناداً وإستكباراً لذا رماهم الله بالصمم ، وجاء هذا البلاء بعد أن أعرض المنافقون عن واجباتهم العبادية.
وتقدير الجمع بين الآيتين أنه من لم يعبد الله عز وجل ويؤدي الواجبات التي خلق من أجلها فان الله عز وجل يرميه بالصمم والبكم والعمى ، وفيه دعوة للمؤمنين للتوجه إلى الله عز وجل بالشكر على نعمة الإمتثال لأوامره وأنها طريق إلى البصيرة والتحلي بالحكمة في أمور الدين والدنيا , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ]( ).
العاشر :المنافقون صم عن مفاهيم الثناء للمؤمنين التي يتضمنها ذم المنافقين ودعوتهم للإيمان , لقوله تعالى [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]( )ليفوز المؤمنون في هذه الآية بنعم هي :
الأولى: الشهادة للمؤمنين ببلوغ مرتبة الإيمان .
الثانية : بعث السكينة في نفوس المسلمين لحسن إختيارهم الإيمان .
الثالثة : تعاهد الإقامة في منازل الهداية والإيمان .
الرابعة : إستحقاق المسلمين لنيل مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )وهم خير أمة لإيمانهم ،أما خروجهم للناس بلحاظ الآية أعلاه فهو صيرورتهم أسوة للناس كافة والأمة التي يشار لها بالبنان ويُدعي الناس لمحاكاتها والإقتداء بها .
الخامسة :المؤمنون هم الذين بادروا إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنها جاءت للناس كافة ، قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
السادسة : إنكشاف حقائق الأمور للمسلمين وفي دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إرنا الأشياء كما هي ) ( ).
السابعة : مبادرة المسلم إلى التوبة والإنابة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا]( ).
الحادي عشر : لقد إستحكم الكفر على نفوس المنافقين ، فخالفوا الرشد وإختاروا ذم المؤمنين والإستخفاف بهم ونعتوهم بالسفهاء ،ولو كان للمنافقين سمع وإنصات لأدركوا أن المؤمنين على الحق والهدى .
الثاني عشر :لأن القرآن بيان لكل شئ ، وهو مدرسة العلم والمعرفة والتفقه في الدين ، فقد تفضل الله عز وجل ورد على المنافقين بما فيه بيان حالهم وسوء إختيارهم ومآّلهم ، فقال سبحانه[أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ] ( ).
وهل من ملازمة بين النفاق والسفه , الجواب نعم ،إذ أن السفه سبب للنفاق ، وهو في ذات الوقت نتيجة له ، فالصمم والعمى عن الآيات يلجأ الإنسان إلى النفاق وعند التلبس به يعرض عنها ويصر على الجحود .
الثالث عشر : من الصمم عدم معرفة المنافقين بأنهم سفهاء خفيفوا الرأي، بعيدون عن الرشاد والسداد ، فجاءت هذه الآيات رحمة بهم ودعوة لهم لترك الغي والكبر والضاد .
الرابع عشر :يفيد قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا] ( )أن الكلام صادر من المنافقين ، فهل فيه ما يتعلق باصابتهم بالصمم , الجواب نعم ، فهم لا يسمعون آيات القرآن ومفاهيم التقوى في هذا اللقاء ، خاصة وأن الآية سمّت المؤمنين بلفظ [الَّذِينَ آمَنُوا]أي أنهم يتحلون بصبغة الإيمان عند اللقاء ، وهذه الصبغة جلية واضحة في لقائهم مع المنافقين لتكون على وجوه:
الأول :إنها حجة على المنافقين .
الثاني : اللقاء مناسبة للموعظة وسبيل للهداية والرشاد .
الثالث : ثبات المؤمنين في منازل الإيمان عند لقائهم المنافقين ، ليكون لفظ [الَّذِينَ آمَنُوا]في المقام من الثناء على المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ولم يسمع المنافقون مضامين هذه الآية بما يجعلهم يكفون من النفاق والرياء ، ومن الإعجاز أنها لا تطرق اسماعهم لمرة واحدة بل تزورها وتخترقها بكرة وعشياً بتلاوة المسلمين لها عند اللقاء الذي ذكرته هذه الآية.
ويفيد الجمع بين الآيتين أن المنافقين عند اللقاء في حال صمم إذ يلاقون المسلمين بلغة المخادعة والختل والمكر .
الخامس عشر : المنافقون في حال صمم وعدم سماع ما يفضحهم بين الناس بقوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ] ( )،وهم صم لا يسمعون ما يتناجى به المسلمون من أخذ الحائطة والحذر من المنافقين ورؤساء الضلالة .
السادس عشر : إن تسمية رؤساء الضلالة بالشياطين شاهد على أن الذي له سمع ويتدبر بمعاني الكلمات يدرك أنهم على ضلالة ،ولا يأتي منهم إلا الشر .
السابع عشر :المنافقون صم عن صيغ الإستهزاء بهم والسخرية منهم في قوله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ]( )، وليس من حصر لسبل وكيفيات إستهزاء الله عز وجل بهم ، ومنها سخرية المسلمين والناس جميعاً من المنافقين وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ولكن المنافقين لا يسمعون أموراً :
الأول : إستهزاء الناس بالمنافقين .
الثاني : مقدمات الإستهزاء بالمنافقين .
الثالث : الحجج والبراهين التي تجعل الناس يسخرون من المنافقين .
الرابع : نتائج وآثار إستهزاء الناس بالمنافقين ومنها نفرتهم من أخلاق النفاق ، والمناجاة فيما بينهم ببيان قبحه وضرره .
الخامس : تأكيد صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل بذكر صفات المنافقين ، فمن خصائص السمع والإستماع إنطباع أثره على الإنسان في كلامه وفعله ، وتنمية ملكة الحياء والإتعاظ عنده ، ولكن المنافقين حرموا أنفسهم من هذه النعمة .ومن مصاديق إستهزاء الله بالمنافقين وجوه :
الأول : حلول البلاء بالمنافقين بما يشغلهم بأنفسهم .
الثاني :عجز المنافقين عنى الإحتجاج .
الثالث : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، لينقطع رجاء المنافقين بالشماتة بالمؤمنين .
الرابع : لحوق الخسارة بالكفار بما يجعل المنافقين في حسرة وحال من اليأس والقنوط ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )فبينما يحسب المنافقون أن المسلمين ينسحبون من ميدان المعركة وأن مشركي قريش يلحقون بهم يحصل العكس .
لتكون هزيمة كفار قريش في معركة أحد وإضطرارهم للعودة إلى مكة خائبين إستهزاء من عند الله بالمنافقين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا]( ) إذ يأتي الفعل والواقعة الواحدة مصدقاً لضروب متعددة من البلاء الذي يصيب الكفار.
كما تكون وجوه متعددة من البلاء مصداقاً لفرد واحد مما ذكرته هذه الآيات في ذم المنافقين .
وتحتمل صيرورة المنافقين [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ]بلحاظ موضوع إستهزاء الله عز وجل بهم وجوهاً :
الأول : إنه سبب لإستهزاء الله عز وجل بالمنافقين .
الثاني : إنه نتيجة وأثر لاستهزاء الله عز وجل بهم , وتقدير الجمع بين الآيتين : الله يستهزء بهم فصاروا[صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ].
الثالث : من إستهزاء الله عز وجل بالمنافقين جعلهم [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ].
ولا تعارض بين هذه الوجوه مع التباين الموضوعي فيها بلحاظ كبرى كلية وهي أن إستهزاء الله بالمنافقين فعل ومقدمة له وأثر يترشح عنه وليس له حد، ويأتي للمنافق من كل جهة ولكنه لا يرى كيف يأتيهم البلاء وصنوف الإستهزاء لتعطيله حواسه .
الخامس :من وجوه إستهزاء الله بالمنافقين زيادة هدى المسلمين وتفانيهم في مرضاة الله ، وتنزههم عن النفاق والرياء ، وطردهم الشك من نفوسهم .
السادس : رؤية المنافقين لحال الوهن والإياب وضيق الصدر التي يتصفون بها ، ليكون من إبتلاء المنافقين بالصمم والبكم والعمي من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ] ( )،وفيه دعوة لهم للتوبة والإنابة .
السابع : الله يستهزء بالمنافقين بتوالي نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتلقي المسلمين لها بالقبول والتصديق والإمتثال لما فيها من الأوامر والنواهي ، ولكن المنافقين لم يتدبروا في هذه الآيات لأنهم صم وعمي .
السابع عشر : من خصائص إبتلاء المنافقين بالصمم والبكم والعمى أنهم يتمادون في الغي ويصيبهم الغرور ، ويركبهم الطغيان ولا يدركون قانوناً في الإدارة التكوينية وهو أن المشيئة المطلقة لله عز وجل وهو يفعل ما يشاء ، فيجعلهم الله عز وجل يسيحون في الطغيان لتكون أفعالهم حجة عليهم ، فان قلت إن هذا الطغيان يضر بالمؤمنين , والجواب من وجوه :
الأول :لا دليل على هذا الضرر خصوصاً وأنه جاء عقب الإخبار عن إستهزاء الله عز وجل بهم .
الثاني : لا ملازمة بين طغيان المنافقين وترتب الضرر منه على المؤمنين ، فقد يكون ضرره محصوراً بذات المنافقين إذ ورد (عن ابن عباس في قوله { وإذا لقوا الذين آمنوا } ( ). قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعضهم قالوا : إنا على دينكم { وإذا خلوا إلى شياطينهم } وهم إخوانهم { قالوا : إنا معكم } أي على مثل ما أنتم عليه { إنما نحن مستهزئون } قال : ساخرون بأصحاب محمد { الله يستهزئ بهم } قال : يسخر بهم للنقمة منهم { ويمدهم في طغيانهم } قال : في كفرهم { يعمهون } قال يترددون) ( ).
الثالث : جاءت الآية أعلاه لبيان فضل الله عز وجل بدفع شرور المنافقين عن المؤمنين .
الرابع : الذي يبتلى بالصم والبكم والعمى يكون عدوه منه في راحة ، ولو تنزلنا وقلنا بترتب الأثر ولحوق الأذى من طغيان المنافقين ، فانه لا يصل إلى مرتبة الضرر , وهل هو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
ولم يثبت الأذى أيضاً لأن الآية أعلاه جاءت بخصوص الفاسقين من ملل أخرى , ولمجئ هذه الآيات لبيان الجزاء العاجل للمنافقين وإبتلائهم بالأذى والضرر .
ولو كان عند المنافقين سمع وبصر لإلتفتوا إلى أمور بلحاظ هذه الآية ولزوم التدارك وإصلاح الذات ، وهذه الأمور هي :
الأول : إستهزاء الله عز وجل بالمنافقين .
الثاني : إمهال الله عز وجل للمنافقين .
الثالث : تمادي المنافقين في الطغيان والتعدي بلحاظ أن الطغيان هو الإفراط في العدوان والتمادي في الظلم .
الرابع : بقاء المنافقين في حال حيرة وتردد ويصيب العمه القلب كما يصيب العمى العين .
الثامن عشر :لما أخبر المنافقون أولياءهم من رؤساء الضلالة بأنهم يسخرون من المؤمنين ، تعقبها قوله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] ( )ليجتمع فيه الوعد والوعيد معاً , الوعد للمؤمنين بالأمن والسلامة من سخرية المنافقين بهم , والوعيد للمنافقين بالسخرية منهم ثم جاءت آيتان إحداهما تخبر عن شراء المنافقين الضلالة والكفر باغلى ملك في الوجود وهو الهدى ، والثانية بصيغة المثل وذكر إيقاد النار ، لتأتي بعده هذه الآية [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] ( ) لتكون من أبهى وأظهر مصاديق إستهزاء الله بهم ، والبشارة بسلامة المؤمنين من ضررهم ومكرهم وإستهزائهم وفيه بيان ومصداق لعلة منع وقوع السيف بالمنافقين ، ونهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عن قتل رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول وغيره من كبار المنافقين فقد أقام الله عز وجل الحجة بالأمن من أذاهم وشرهم ، وأن أصيب المنافقون بفقد الحواس فانهم يدركون حقيقة وهي نطقهم بالشهادتين واعلانهم التصديق بالنبوة ويلح عليهم هذا الإدراك بوجوب التوبة والإنابة لتعود معها حواسهم ويتنعموا بمنافعها ويسخرونها لأمور الدين والدنيا .
إن حال الصم والبكم والعمى عرض ملازم لذات النفاق يزول بزوال السبب والأصل وهو الإصرار على الكفر النفسي .
التاسع عشر : أختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى [يَعْمَهُونَ]أي يترددون، ومن خصائص فاقد الحاسة التردد في مواطن الحاجة إليها وعجزه عن الإستمرار لبلوغ غايته فلا يستطيع فاقد السمع فهم ما يتكلم به الطرف الآخر ، ولا يقدر البكم البيان التام عما يختلج في نفسه ، بما يشفي صدره ويجعل السامع يحيط بما يريد ، ويتعذر على الأعمى رؤية أسباب البهجة التي من حوله ، فابتلى الله عز وجل المنافقين بالحرمان من هذه الحواس مجتمعة , وفيه أمور:
الأول :بيان شدة عقوبة النفاق في الدنيا .
الثاني :هذا البلاء مقدمة ومرآة لعذاب المنافقين في الآخرة .
الثالث : إقامة الحجة على المنافقين يوم القيامة حينما يرمون [فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ).
الرابع : بعث النفرة في نفوس المنافقين من الإصرار على البقاء على الكفر، وترغيبهم بصدق الإيمان خاصة أنه ليس بينهم وبينه إلا تنزيه الباطن إذ أنهم يعلنون الإيمان وتنتفي خلوتهم مع رؤساء الضلالة ويصبحون أعداءً لهم .
فمن إعجاز القرآن أن الجزاء العاجل على الكفر والفسوق يكون على وجوه:
الأول : إنه تذكير بالتوبة وتقريب إلى منازلها ، قال تعالى [فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها جاءت مرتين في القرآن وكلاهما في سورة التوبة وبينهما خمس آيات فقط وموضوعهما متحد وهم المشركون بدعوى أمور خارجة عن إرادتهم ، كما لو قالوا أن رؤساء الضلالة وأولياء أمورنا يمنعون من دخولنا الإسلام ويزاولون التخويف والتهديد بحجز أموالنا وإيذائنا وأهلينا .
الثاني : إنه شاهد على لطف الله عز وجل بالعباد بعدم تعجيل العقوبة المهلكة التي تترتب على النفاق وإخفاء الكفر .
الثالث : حث الناس على إستحضار نعم الله عليهم سواء في الأبدان أو المعاشات ، ودعوة لحبهم له وطاعته (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي) ( ).
ويحتمل لفظ يغذوكم في الحديث وجهين :
الأول : إرادة مطلق النعم التي تفضل بها الله عز وجل .
الثاني : القدر المتيقن هو الطعام والشراب .
الثالث : المراد الهداية إلى سبيل الإيمان ، وغذاء المعرفة قال تعالى [خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
والصحيح هو الأول لأصالة الإطلاق والبيان في قوله تعالى [مِنْ النَّعَمِ] ( ) ولأن ظاهر الحديث أنه موجه إلى المؤمنين .
فان قلت ورد في إحدى الآيتين أعلاه قوله تعالى [يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ]( )فهل تشمل المنافقين , الجواب لا دليل عليه ، لأن الإرضاء هنا لا يتعلق بإعلان الإيمان في الحال كالمنافقين الذين [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا]( )بل يرضون المسلمين بأمور :
الأول : الوعد بدخول الإسلام .
الثاني : إعطاء العهود بعدم التعدي على المسلمين .
الثالث : محاولة بعث السكينة في نفوس المسلمين بأنهم يوفون بالعهد .
الرابع : الإعتذار عن بقائهم في منازل الكفر.
العشرون :يكون تقدير الجمع بين هذه الآية وقوله تعالى [يَعْمَهُونَ] ( ) على وجوه :
الأول : صم يعمهون .
الثاني : بُكم يعمهون .
الثالث : عمي يعمهون .
الرابع : يعمهون فهم لا يرجعون .
الخامس : صم بكم عمي يعمهون .
لتكون هذه الآيات مدرسة الإنذار الذي يقود إلى الهداية والصلاح .
فيدخل الكافر وحتى من رؤساء الضلالة والجحود أولئك الذين سمتهم الآيات السابقة [شَيَاطِينِهِمْ] يدخل في الإسلام بنية صادقة وقلب مطمئن وإيمان جازم ، قال تعالى في الثناء على مثل هذا المؤمن [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ]( )، ويبقى المنافق لم يبلغ مراتب الإيمان لا يسمع أو يبصر مبادرة بعض أقطاب الضلالة إلى الهدى والإيمان .
الحادي والعشرون : جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن شراء المنافقين الضلالة ، بعد الرغبة فيها والتفريط باثمن رأس مال وهو الهدى والإيمان ، وقد يتساءل العقلاء من الناس ما دفع المنافقين إلى هذه الصفقة الخاسرة والتجارة التي تردي صاحبها في النار جاء الجواب في هذه الآية بأنهم صم بكم عمى .
صمم المنافقين بلحاظ الآيات السابقة
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بنعمة العقل , وبه يميز الإنسان بين الأشياء، ويختار القول والفعل المناسب، ويستقرأ أحوال الأشخاص وقصص الأمم ويقتبس منها المواعظ والعبر، وتفضل الله عز وجل وجعل التنزيل خطاباً للعقل، وطارداً لوحشة الإنفراد، فحينما يكون المسلم في خلوة أو مع أخوته المؤمنين في المسجد أو مع عموم الناس في السوق والسفر وغيره تصاحبه آيات القرآن فتزيده إيماناً وتكون برزخاً دون الإفتتان والغفلة وأسباب الجهالة ولتنمو عنده ملكة التقوى , فيعشق الهدى، ويحرص على تعاهده، ويذكر المنافق إستكباره وإقامته على الكفر في قرارة نفسه لأنه خلاف العقل والوجدان، ويتساءل لماذا إشترى المنافقون الضلالة وطعنوا في مسلحها أي أصروا عليها وكيف فرطوا بنعمة الهدى، ولم جعلوا أنفسهم محلاً لإستهزاء الله عز وجل بهم، فجاء الجواب بآية البحث بما يفيد سخرية الناس منهم، إذ أخبرت آية البحث بأن المنافقين يتصفون بخصال مذمومة منها إصابة المنافقين بالصمم، وفقدان حاسة السمع من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً وهي:
الأولى : في الآذان وقر وهو الثقل، يقال وقرت آذانه عن كذا تقر وقراً أي ثقلت عن سمعه، قال تعالى[وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ]( )، وقال الشاعر:
وكلام سيء قد وَقَرَتْ … أذني عنه وما بي من صمم( ).
والوقر: ثقل في الأذن)( ).
الثانية : الصمم، وهو الذي تذكره آية البحث في نعت وذم المنافقين في إعراضهم عن دعوة الحق.
الثالثة : الطرش: وعكس(الجوهر في الصحاح وقال: الطرش أهون الصمم، يقال هو مولد)( ).
الرابعة : الصخ وهو أشد مراتب الصمم، ويشمل الذي لا يسمح صوت الرعد، وقال الزمخشري: كان الكميت أصم أصخ: شديد الصم لا يسمع البته)( ).
ومن الشواهد إتصاف العرب بالدقة في العلوم والفصل في ذات الشيء، أن الطب الحديث يقسم مراتب ضعف السمع وحالة القوة السمعية إلى أربعة أقسام وهي:
الأول : ضعف السمع البسيط، وتكون مرتبته بإختيار السمع بين26-45 ويسبل وجاء قوله تعالى(صم) من القسم الأول أعلاه، وكأن هذا التقسيم تتداخل فيه مرتبة والوقر والصمم، لأن قياسه يصل إلى حوالي النصف من مقياس القوة السمعية ودرجات ويسبل( ) ورمي المنافقين بمرتبة ضعف السمع البسيط نفع للإسلام وللناس، وهو لا يمنع من التوبة والإنابة ولكن المنافقين يصرون على الإقامة على الكفر، فلذا أختتمت هذه الآية بقوله تعالى[فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ]( ).
الثاني : ضعف السمع المتوسط وتكون مرتبته بين 46 إلى 65 ويسبل.
الثالث : ضعف السمع الشديد، وهو الذي تكون مرتبته ودرجته بين 66-85 ويسبل.
الرابع : ضعف السمع الشديد جداً، وهو الذي يكون قياسه بلحاظ مستوى الإختبار السمعي أكثر من86 ويسبل.
ويدل هذا التقسيم اللغوي عند العرب لحال الصمم ودرجات ضعف السمع على أنهم كانوا على مرتبة من الرقي والإستقرار الإجتماعي، لذا فمن إعجاز القرآن مخاطبته لأمة إرتقت في العلوم، فينعت القرآن المنافقين بالصمم فلا يتبادر إلى أذهان السامعين جميعاً إرادة الصمم في كل شيء، بل يكون القدر المتيقن هو عدم سماع المنافقين لآيات الإنذار والتخويف والوعيد , وفي الآية مدرسة لعلماء الإجتماع والمصلحين في كيفية جذب الإنسان إلى ما فيه مصلحته ونفعه.
ليكون من إعجاز الآية أنها ذكرت مرتبة من أدنى وأقل مراتب ضعف وفقدان حاسة السمع , وفيه وجوه:
الأول : إرادة إنحصار عدم السمع بالآيات وبراهين التوحيد ومعجزات النبوة.
الثاني : بقاء طريق التوبة والإنابة للمنافق مفتوحاً .
الثالث :المراد أن المنافقين يسمعون القليل من الآيات والحجج، وفيه مسائل:
الأولى : يسمع ويفقه المنافق القليل من الآيات بما لا يكفي لإيمانه , ونبذه للكفر والضلالة.
الثانية : الجزء المفقود من السمع والذي حرم المنافق نفسه منه هو ما يتعلق بالإيمان والهدى.
الثالثة : لا يسمع المنافق من مصاديق الإيمان إلا ما فيه النفع له مثل الغنائم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فإن الإمتناع عن سماع الآيات والحجج سبب وعلة لعدم سماع غيرها من الأمور الخاصة والعامة لتتضمن الآية المعنى الحقيقي والمجازي لوصف (صم).
وجاءت الآية بصيغة الجمع (صم) وفيه وجوه:
الأول : الآية إنحلالية، فكل فرد من المنافقين أصم لا يسمع.
الثاني : بيان ضعف ووهن عدو المؤمنين .
الثالث : إرادة أن المنافقين إن إجتمعوا فهم صم عن النداء والدعوة إلى الإيمان بتقريب أن بعضهم يحث بعضاً على عدم السماع أو الإنصات للدعوة إلى الإيمان.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، ومن أسرار مجيء صيغة الجمع (صم) وجوه:
الأول : إخبار القرآن عن عدم النفع في إجتماع المنافقين.
الثاني : دعوة المؤمنين إلى تفريق المنافقين، وعدم تركهم في موطن وموضع واحد.
الثالث : عدم إصابة المسلمين باليأس أو القنوط عند رؤية المنافقين مصرين على الجحود.
الرابع : إرادة بيان المائز بين المؤمنين والمنافقين حال الإجتماع العام إذ يستجيب المؤمنون للأوامر والنواهي والأحكام الشرعية ، ويتردد المنافقون في القبول والإستجابة.
الخامس : من دلالات صيغة الجمع في الآية سلامة المؤمن من الإفتتان بالمنافقين وإن كانوا محيطين به وهم مجمعون على الضلالة.
السادس : توجه الدعوة بالتوبة إلى المنافق وهو بين أصحابه المنافقين، وكأن الآية تقول له لا تلتفت إلى عنادهم وإصرارهم فإنهم لا يسمعون، وقد أنعم الله عز وجل عليك بالسمع والتدبر فعليك بالمبادرة إلى الإنابة، ومغادرة منازل النفاق وجماعة المنافقين، وهذا الخطاب المتحد لا يتعارض مع الخطاب العام الموجه إلى المنافقين جميعاً بصيغة التبكيت والذم، وتأتي دلالات الصمم على نحو السالبة الجزئية , والقسم البسيط منه لإقامة الحجة على المنافقين ودعوتهم إلى التوبة، وإخبار المسلمين والناس بأنهم لم يفقدوا السمع تماماً لأن ذات وتعدد الآيات يمنع من هذا الفقدان، فحتى الذي في ظلمة وفاقد للحواس فإن آيات النفس والإعجاز بذات خلقه أمور تلح عليه كل ساعة بالإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( )، أي أن آيات النفس دعوة للمنافقين للتخلص من الكفر الكامن فيها وإن كانوا مصابين بفقد الحواس الذي يحول دون التدبر بالآيات الكونية، وبأسرار وكنوز التنزيل , وفي الآية أعلاه وجوه:
الأول : ذكر أن الضمير في سنريهم عائد إلى قريش بلحاظ أن الآية وعيد في ذاتها ونظم الآيات المجاورة، ولكنها أعم في موضوعها ودلالاتها ولا تكون الآيات خاصة لفريق من الناس( وعن مجاهد في قوله(سنريهم آياتنا في الآفاق) قال: كانوا يسافرون فيرون آثار عاد وثمود يقولون والله لقد صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم{وما أراهم في أنفسهم} قال: الأمراض)( ).
وهذا أحد المصاديق إذ أن الآية وردت بصيغة الجمع (آياتنا) مما يفيد التعدد والكثرة وجاءت بلفظ السين في المستقبل القريب ( سنريهم ) أي أنه في كل ساعة وكل يوم يرى الناس آيات الله على نحو الآية الثابتة والمتجددة، وذكرت في قوله تعالى(وفي أنفسهم) وجوه:
الأول : هي فتح مكة.
الثاني : المراد يوم بدر.
الثالث : خلق الله لبني آدم( ).
وهذه الوجوه من مصاديق الآية الكريمة ولكنها أعم في موضوعها ودلالاتها ومعناها، وهي متجددة في كل زمان ولا تخص الكفار وحدهم بلحاظ أن الآيات الكونية جلية للناس جميعاً.
وهل تشمل الآية المنافقين ويكون تقديرها: سنري المنافقين آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)، الجواب نعم من وجوه :
الأول : تأكيد قانون وهو أن العمى الذي يتصف به المنافقون لا يمنع من رؤية المنافقين للآيات الكونية وعالم الأفلاك وتعاقب الليل والنهار ، ومن إعجاز القرآن أنه سمى كلاً منهما بالآية , قال تعالى [وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً] ( ) وورد لفظ [مُبْصِرَةً] في الآية أعلاه بلغة الفاعل وليس المفعول ، وبصيغة التأنيث وليس التذكير فالآية ذاتها هي التي تبصر وليس الناس يبصرون الأشياء في النهار ، وتكون بينة جلية كخلق عظيم لله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
ولا يتعظ المنافقون من رؤية هذه الآيات فاستحقوا النعت بالعمى ، وجاءت آية البحث لجذبهم إلى منازل الإبصار ، ونعمة البصر آلة للتدبر بالمعجزات .
الثاني : إدراك آيات الآفاق أعم من أن ينحصر بالرؤية البصرية ، وقوله تعالى [سَنُرِيهِمْ]إرادة الفرد الغالب واللفظ المتبادر والحاسة الأقرب مع أن المعنى أعم فمن آيات الآفاق نزول المطر والرعد والصواعق والنبات والأشجار والبحار والأنهار .
الثالث : يتضمن قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا] ( ) معنى حمل الناس على رؤية الآيات وعجزهم عن الإعراض عنها أو إنكارها .
من جهات :
الأولى : إقامة الحجة على المنافقين بأنهم لا يؤمنون وأن صلّوا وصاموا لقوله تعالى [وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( ).
الثانية : المنافقون صم عن توبيخهم وزجرهم عن مخادعة الله والذين آمنوا .
الثالثة : المنافقون صم عن إفتضاح أمرهم بقيامهم بمخادعة الله والذين آمنوا .
الرابعة : إنهم صم عن مناجاة المؤمنين بالبر والتقوى .
الخامسة : إنهم صم عن قوله تعالى [وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ]( ).
السادسة : ترى ما هي النسبة بين صفة الصمم ، وعدم الشعور الذي نعتتهم به الآية [وَمَا يَشْعُرُونَ] الجواب هي العموم والخصوص المطلق ، فالصمم جزء من عدم الشعور ، لذا جاءت آية البحث بنعتهم بالحرمان من حاسة السمع والكلام والبصر .
السابعة :يحتمل قوله تعالى [صُمٌّ] بلحاظ قوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] ( )وجوهاً :
الأول :حال الصم من الداء الذي أصاب قلوب المنافقين .
الثاني : انه من زيادة المرض التي إبتلاهم الله عز وجل بها .
الثالث : ليس من صلة بين حال الصمم ومرض القلوب للتباين الموضوعي بينهما .
الرابع : مرض القلوب سبب وعلة لإصابة المنافقين بالصمم.
الخامس : الصمم الذي ضُرب به المنافقون هو السبب في مرض قلوبهم.
والصحيح هو نسبة التباين بين الصمم ومرض القلوب، وكل واحد منهما داء وبلاء مستقل بذاته ، ولكن هذا الإستقلال لا يمنع من الإنفعال وتأثير أحدهما في الآخر ولو كان المنافقون يسمعون الآيات والنذر ويتدبرون في معانيها لما زادهم الله مرضاً .
الثامنة : المنافقون صم عن الإنذار بالعذاب الأليم في الآخرة .
التاسعة : المنافقون صم عن نعتهم بالكذب والإفتراء لقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] ( ).
ولم يقم المنافقون بالرد والجدال بخصوص نعتهم بالكذب والإخبار عن صيرورة هذا الوصف علة لخلودهم في العذاب الشديد يوم القيامة .
العاشرة :تضمن القرآن الشهادة الحق والثابتة إلى يوم القيامة بتوجيه النهي عن الفساد إلى المنافقين ، ولا يخص موضوع هذا النهي فرداً دون آخر، أو جماعة من المنافقين دون أخرى بل يشملهم جميعاً ، ومن مصاديق الإطلاق [فِي الأَرْضِ] أمور :
الأول : زجر المنافقين عن إغراء كفار قريش بالمسلمين .
الثاني : نهي المنافقين عن السفر إلى بلاد الكفر للتحريض على المؤمنين.
الثالث : منع تبادل المنافقين في الأمصار المختلفة الأخبار والقصائد التي تسئ إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الرابع : إنذار المنافقين من تسخير أنفسهم عيوناً للعدو ينقلون له أنباء سرايا المؤمنين .
الخامس : تخويف المنافقين من بث ونقل الإشاعات المغرضة والفرية بما يجلب الحزن والأذى للمؤمنين ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] ( ).
السادس : كما أن النفاق أمر في باطن النفس لا يطلع عليه إلا الله، جاء العموم في وصف الأرض، للدلالة بأن الله يعلم ما يفعل المنافقون بعيداً عن المؤمنين في الأمصار الأخرى.
موضوعية المعجزة في دحر كفار قريش
جاءت الآية السابقة بصيغة المثال ولغة المجاز والدلالة على تخلف المنافقين عن الإكتساب والمعرفة ، وإصرارهم على القعود في مستنقع الضلالة في ذات الوقت الذي تزهر الأرض بنور النبوة ويظهر الناس حسن الإيمان لوجود المقتضي وفقد المانع .
وذكرت الآية أن الله عز وجل هو الذي إبتلى المنافقين بأن صرف نورهم، وجعلهم في عمى بقوله تعالى [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ] ( )، وفيه شاهد على أمور :
الأول : إن مشيئة الله عز وجل حاضرة في الناس وأفعالهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى] ( ).
الثاني :لا ينحصر نصر الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بمدهم بأسباب القوة والمنعة، بل يشمل رمي عدوهم بأسباب الوهن والضعف .
الثالث : التحدي في مضامين آية البحث بنعت المنافقين بصفات تدل على سلب الحواس عنهم في الدنيا .
الرابع : إنذار الكفار والمنافقين بسوء العاقبة في الآخرة , وفيه بيان للناس بقبح النفاق والمخادعة ، ودعوة لهم لعدم الإفتتان بالمنافقين مع حثهم على ترك النفاق لأنه ضرر محض وحرمان للنفس من النعم , وهو من الشواهد على العموم بجهة صدور دعوة المنافقين للإيمان في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ]أي أن الناس يأمرون المنافقين بما ينجيهم من الصمم , والخرس والعمى .
وتدل الآية على حقيقة يجب أن يلتفت إليها العلم الحديث بالتحليل المختبري ونحوه وهي الملازمة بين العلل البدنية والأمراض النفسية وبين التقصير في تلقي براهين الإيمان بالقبول ،لأن هذا التلقي حق وواجب على الإنسان ومن المدركات العقلية ، وقد تفضل الله عز وجل وجعله من رشحات البديهيات والمسلمات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى :تجلي البراهين العقلية بنزول القرآن وتسليم أساطين البلاغة من العرب بأنه فوق كلام البشر.
الثانية : تعدد دلالات اللفظ القرآني ، وتجدد معانيه في كل زمان .
الثالثة : إحاطة علوم القرآن باللامتناهي من الوقائع .
الرابعة : إنتظار الأجيال المتعاقبة لكنوز ودرر من علوم القرآن والمضامين القدسية التي في ثنايا آياته .
الخامسة : كثرة المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذه المعجزات سبقت البعثة النبوية وصاحبتها في مكة لتكون حجة على كبراء قريش ،وهي دعوة لهم وللناس للإسلام .
(عن جابر بن سمرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، وإني لأعرفه الآن)( ).
وعن عبد الله بن مسعود قال : كنت أمشي في مكة فأرى حجراً أعرفه ما مرّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة وسمعته باذني يقول السلام عليك يا رسول الله ) .
وإزدادت المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة في خطاب سماوي إلى أهلها واليهود فيها لنصرته ، وكأن هذه المعجزات تنبأ عن قرب هجوم قريش المتجدد لجيوشها على المدينة ، وكان لتلك المعجزات شأن في دحر وخزي تلك الجيوش ، ويمكن تأسيس علم جديد وهو موضوعية المعجزة في دحر وإنكسار جيوش قريش , والمعجزة وآثارها في المقام على أقسام منها :
الأول : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وإحساس الناس من الفريقين بهذا النزول ، ليكون من معاني قوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ]أن الكفار أصموا آذانهم وغمضوا أعينهم عن هذه المعجزة , ولم يستقصوا دلالاتها .
الثاني : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوقوع في الأسر أو القتل في المعارك وخارجها ، مع أن قتله كان البلغة والغاية للكفار في الإجهاز على الإسلام في بداياته (عن جابر قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محارب خصفة بنخل ، فرأوا من المسلمين غرة ، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث ، قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : من يمنعك؟ قال : الله فوقع السيف من يده ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : من يمنعك؟ قال : كن خير آخذ . قال : تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال : أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى سبيله) ( ).
وفيه شاهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبطش أو ينتقم من عدوه .
الثالث :تفاني وإخلاص أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القتال وشوقهم للشهادة في سبيل الله ودفاعاً عن الإسلام ، وفيه حجة على الذين يقاتلون على الكفر ودعوة لهم للكف عن التعدي على المسلمين وظلم الذات بالإقامة على الكفر .
الرابع : إمتلاء نفوس جيوش قريش وغطفان بالفزع والخوف قبل وأثناء وبعد ملاقاة جيوش المسلمين وهو من مصاديق نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرعب .
الخامس : الإعجاز في صيغ الصبر التي تحلى بها المؤمنون عند التهئ للقتال وفي ساحة المعركة ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ]( ).
وفي الآية أعلاه شاهد بأن المؤمنين كانوا بإنتظار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليخرج من بيته ويقودهم إلى ميادين المعركة مع كفار قريش ، وهذا الإنتظار عنوان الشوق للقاء القوم وثبات الإيمان ، ومفارقة مقدمات الخذلان ودليل على البصيرة، وفيه براءة من النفاق .
السادس : عجز المنافقين عن بث الوهن أو الشك في نفوس المؤمنين وسعيهم لتحقيق النصر ، وإنتفاء الضرر القادم من فعل المنافقين مثل إنسحابهم في الطريق إلى أحد ، إذ إنخزل عبد الله بن أبي سلول بثلاثمائة من جيش المسلمين وهم نحو ثلث الجيش في خذلان أورثهم الخزي ولم يمنع من إنتصار المؤمنين، وقد حدث مثله في تأريخ النبوة وجند الرحمن ، قال تعالى [فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ ]( ) .
وفي الجيش الذي خرج مع طالوت ورد (عن ابن عباس قال : كانوا ثلثمائة ألف وثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، فشربوا منه كلهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، عدة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ، فردهم طالوت ومضى في ثلثمائة وثلاثة عشر ، وكان اشمويل دفع إلى طالوت درعاً فقال له : من استوى هذا الدرع عليه فإنه يقتل جالوت بإذن الله تعالى ، ونادى منادي طالوت ، من قتل جالوت زوجته ابنتي ، وله نصف ملكي ومالي . وكان الله سبّب هذا الأمر على يدي داود بن ايشا ، وهو من ولد خصرون بن فارض بن يهود بن يعقوب)( ).
لذا قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه يوم بدر (أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت ، وكان الصحابة يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً) ( ) وفيه بشارة للنصر والظفر على الأعداء مع شدتهم وكثرة عدتهم .
بقوله تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]( )، وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : أولئك صم.
الثاني : أولئك بكم.
الثالث : أولئك عمى.
الرابع : أولئك لا يرجعون.
الخامس : صم الذين إشتروا الضلالة.
السادس : بكم الذين إشتروا الضلالة.
السابع : عمى الذين إشتروا الضلالة.
الثامن : صم الذين إشتروا الضلالة بالهدى.
التاسع : صم فما ربحت تجارتهم.
العاشر : بكم فما ربحت تجارتهم.
الحادي عشر : عمي فما ربحت تجارتهم.
الثاني عشر : فما ربحت تجارتهم فهم لا يرجعون.
الثالث عشر : صم وما كانوا مهتدين.
الرابع عشر : بكم وما كانوا مهتدين.
الخامس عشر : عمي وما كانوا مهتدين.
السادس عشر : لا يرجعون وما كانوا مهتدين.
ووجوه الجمع هذه بين الآيتين من مصاديق إتحاد الموضوع في الآيتين، وبيان صحة القدح والذم للنفاق وأهله، وإخبار الناس جميعاً عن خبث الذين يعلنون الإيمان في ذات الوقت الذي تقيم نفوسهم في مستنقع الضلالة , وصيرورة هذا التضاد الذاتي علة لرمي الله لهم بفقد الحواس، وعدم الإنتفاع الأمثل منها للتخفيف عن المؤمنين، وتهيئة مقدمات حربهم العدو المشرك وإنتصارهم عليه، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وفيه وجوه:
الأول : اللطف الإلهي بالمؤمنين بتعيين جهة واحدة خارجية من الأعداء.
الثاني : ضعف ووهن أعداء الإسلام الذين في صفوف المسلمين أنفسهم.
الثالث : بعث الفزع والخوف في نفوس المنافقين.
الرابع : عدم إنتفاع العدو المشرك من المنافقين لتفرقهم وإنزوائهم وفقدهم الحواس.
الخامس : ترغيب الناس بالتوبة.
السادس : من مصاديق الرحمة في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نصرة الله عز وجل له بهذه الآيات التي هي باقية بين الناس، برسمها ولغتها وشأنها من القرآن، وعمل المسلمين بمضامينها.
وتحتمل الآية في معانيها وجوهاً:
الأول : المنافقون وهم مجتمعون كالصم والبكم والعمى، أما المنفرد منهم فهو يملك حواسه.
الثاني : الآية إنحلالية , وتقدير الآية بخصوص المنفرد من المنافقين أنه أصم أبكم أعمى فهو لا يرجع.
الثالث : إذا إجتمع المنافقون فإنهم يتصفون بالصمم والبكم والعمى.
الرابع : إرادة التوزيع والتفصيل ، فبعض المنافقين صم وبعضهم بكم، وبعضهم عمي.
الخامس : إرادة إصابة رؤساء النفاق بالصم والبكم والعمى وليس كل المنافقين.
والصحيح هو الثاني والثالث، فإن إجتماعهم لا يمنعهم بل يكون سبباً في فضحهم ويزيدهم إثماً , لذا قال تعالى[الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ]( ).
لقد أخبرت الآية السابقة عن سلب نور المنافقين، أما هذه الآية فذكرت إنعدام الحواس عندهم , ليفيد الجمع بينهما أن بقاء الحواس عندهم مع سلب النور الذاتي ضرر محض للناس، فأراد الله عز وجل التخفيف عن المؤمنين بأن رمى المنافقين بالآفات في حواسهم.
وهل فيه نفع لذات المنافقين الجواب نعم، كيلا يجتمعوا على الشر والإضرار بالإسلام والمسلمين , ويتجلى هذا المعنى في الواقع بأن المنافقين لم يصبحوا فرقة من بين المسلمين ولم ينشأ لهم تجمع وموضع عام يجتمعون فيه ، ويدل عليه قوله تعالى[وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]( )، إذ يلتقون بهم خلسة وفي خلوة وخفية عن الناس جميعاً، وليس المسلمين وحدهم.
وتقدير الآية على وجوه:
الأول : المنافقون صم عن الآيات , ويصرون على عدم الإنصات لها .
الثاني : المنافقون صم عن سماع المعجزات.
الثالث : تراهم صماً عن البشارات والإنذارات التي جاءت في القرآن.
الرابع : هم صم عن قصص الأمم السالفة، وما فيها من الإخبار عن البطش بالكافرين.
الخامس : صم عن السنة النبوية القولية.
السادس : صم عن الأخبار التي تؤكد نصر المسلمين خلاف الأسباب والرجحان في مستلزمات القتال.
البيان في الصلة بين آية(صم بكم) وآية(مثلهم كمثل)
جاءت كل من الآيتين في ذم المنافقين، ووردت الآية السابقة بصيغة المثل، وأختلف فيه على وجهين:
الأول : إنها من التشبيه مع حذف المشبه وتقديره: هؤلاء صم كما ورد في إعراب الآية( )، أو هم صم لأن لفظ المستعار منه والمستعار له مذكوران معاً، وبه قال الزمخشري ونسب إلى المحققين.
الثاني : إنها من الإستعارة، وأشكل عليه بأن الإستعارة تتقوم بعدم ذكر المستعار له.
ولا مانع من إجتماع الأمرين بلحاظ جهتي، بالإضافة إلى أن نعت المنافقين بالصم والبكم والعمي هو ذاته إستعارة تصريحية لأنهم يمتلكون حواسهم، ولكنهم عطلوها في الوظائف العبادية.
ولما أختتمت الآية السابقة بالإخبار بأن الله عز وجل[ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ]( )، أخبرت هذه الآية بأنهم عمي فهل هو تأكيد لتحصيل ما هو حاصل أو إرادة أمر آخر.
الجواب جاءت الآية السابقة بصيغة المثل والتشبيه لقوله تعالى في أولها(مثلهم كمثل) وأن الذي يحيط به الظلام لا يبصر شيئاً، أما آية البحث فإنها أخبرت عن حال ووصف لذات المنافقين، وهو من أسرار إجتماع التشبيه والإستعارة في المقام ز
ويفيد إجتماع الآيتين معنى أن المنافقين في حال عمى وفقدان للبصر كما أن الظلمة تحيط بهم فحتى لو كانت عندهم حاسة البصر، فهم لا يرون شيئاً لأنهم وسط ظلمات متعددة، كل بحسب مرتبته في النفاق ورسوخه في نفسه، وسعيه في الإضرار بالمسلمين وخلوه برؤساء الضلالة.
ومن أسرار الجمع بين الصم والبكم والعمى، أن الإنسان إذا كان مصاباً بالصمم والبكم يتعامل مع الناس بلغة الإشارة فيتخذها المنافقون للإضرار بالإسلام والمسلمين فإبتلاهم الله عز وجل بالعمى لحرمانهم من أي لغة تكون آلة ووسيلة لإيذاء المسلمين، وللحيلولة دون سعة وإنتشار الإسلام ودخول الناس فيه، وجعل عندهم مانعاً ذاتياً في إكتساب ما يزيدهم نفاقاً وحسداً للمسلمين، قال تعالى[وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ]( ).
وإبتدأت آية البحث بذكر الصم وإتصاف المنافقين بعدم السمع، وفيه وجوه محتملة:
الأول : حاسة السمع هي الأهم من بين الحواس وأكثرها حاجة للإنسان.
الثاني : ليس من خصوصية في تقديم الصمم، لأن الآية جاءت للبيان والوصف الإجمالي.
الثالث : حاسة السمع هي أكثر الحواس التي يسخرها المنافق للإضرار بالإسلام.
الرابع : لقد طرقت الآيات القطعية والحسية أسماع المنافقين فقابلوها بعدم الإستماع فرماهم الله عز وجل بالصمم .
والصحيح هو الثالث والرابع، لذا جاءت الآية التالية بصيغة المثل وبخصوص شدة صوت الرعد، وجعل المنافقين أصابعهم في آذانهم.
والصمم عند الإنسان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب ثلاثة فمنه البسيط والمتوسط والشديد وكل فرد منها أيضاً على مراتب، وحد الشديد هو الصمم التام.
مصاديق الهدى
أخبرت الآية قبل السابقة عن شراء المنافقين الضلالة بالهدى ترى ما هي مصاديق الهدى التي إشترى بها المنافقون الضلالة ، الجواب فيه وجوه:
الأول : أصل الهدى الذي جعله الله عز وجل عند كل إنسان .
الثاني : إرادة التنزيل ، كما جاء في وصف القرآن [وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى] ( ).
الثالث : سبل وطرق الإنتفاع الأمثل من القرآن والنبوة (عن ابن عباس في قوله { اهدنا الصراط المستقيم } قال ألهمنا الطريق الهادي ، وهو دين الله الذي لا عوج له)( ).
ليكون تقدير قوله تعالى[اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى]( ) اشتروا الضلالة بالهدى الذي يهدي إلى الهدى.
الرابع : من معاني الهدى النبوة وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : ذكر الله عز وجل، وهو هدى ومقدمة للهدى في وظائف الحواس كلها.
السادس : أداء الصلاة والفرائض الأخرى ، فان قلت إن المنافقين يؤدون الصلاة ويصومون شهر رمضان ويحجون البيت الحرام، والجواب يشترط قبول العمل العبادي قصد القربة.
السابع : الدعاء والتضرع إلى الله وسؤال الحاجات من الله سبحانه.
الثامن : التفريط والتخلف عن بلوغ مرتبة زيادة الهدى لقوله تعالى [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى]( ).
ويحتمل هذا الهدى الذي جعله المنافقون ثمناً للضلالة بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : أصل الهدى ، لأن الزيادة فيه فرع له , فلما فرطوا في الأصل حجبت عنهم الزيادة .
الثاني : إرادة الزيادة في الهدى دون أصل الهدى .
الثالث : المراد الهدى والزيادة فيه .
والصحيح هو الثالث ، لأصالة الإطلاق ولأن زيادة الهدى تترشح عن نعمة الإسلام ، ومصاديق التقوى .
التاسع : الإيمان , إذ حرم المنافقون إنفسهم من نفاذ الإيمان إلى قلوبهم وإمتلائها بنور الهدى .
العاشر : الصراط المستقيم ، فالنفاق سبيل ضلالة وميل عن الصراط ، وفي الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ]( ).
الحادي عشر : السنة النبوية هدى وسبيل صلاح .
الثاني عشر :المعجزات العقلية والحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقاها المنافقون بالشك والريب .
الثالث عشر : من الهدى دخول الناس الإسلام ،إذ أنه دعوة لغيرهم لمحاكاتهم والإقتداء بهم ، ولكن المنافقين ردوا [أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] ( ).
الرابع عشر : من الهدى الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمتثال لهما ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( )، لتكون أفراد الهدى في المقام على وجوه :
الأول : الدعوة إلى الخير وعمل الصالحات .
الثاني : الأمر بالمعروف .
الثالث : الإستجابة للأمر بالمعروف بإتيانه وفعله وعدم الإكتفاء بالإنصات للأمر أو شكر صاحبه .
الرابع : النهي عن المنكر .
الخامس : الإمتثال والإنزجار عن المنكر .
ليكون في كل من الآمر والنهي طرفان ، يكون كل واحد منهما مسلماً ، أو أن المسلم هو الآمر والناهي ، وقد توجه كل من الأمر والنهي إلى المنافقين في هذه الآيات وهو من الإعجاز فيها ، أما الأمر فورد في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( )وأما النهي فجاء في قوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] ( ).
أما المنافقون فقد حرموا أنفسهم من هذه النعم التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال : (قد تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا) ( ).
ومن مصاديق ضلالة المنافقين قوله تعالى [اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى]( ) بلحاظ الوجوه أعلاه أمور :
الأول : ترك الأمر بالمعروف .
الثاني :عدم الإمتثال للأمر بالمعروف .
الثالث : ترك النهي عن المنكر .
الرابع : عدم التناهي عن المنكر .
الخامس : الشح والبخل في الدعوة إلى الخير .
السادس : الأمر بالمنكر، فبدلاً من أن يأمر المنافقون بالمعروف قاموا بالأمر بالمنكر , وهومن أسرار مجئ آيات فضحهم وذمهم في بدايات نظم القرآن مع أن نزولها بالمدينة ، وهو متأخر زماناً عن السور والآيات المكية، ويأتي هذا الأمر من جهات :
الأولى : أمر المنافق للمؤمن بالمنكر ، فيزجره المؤمن ، وهو من الإعجاز في مجي آيات التحذير من المنافقين وذمهم في بدايات القرآن كي يحترز المؤمنون من أقوالهم وأفعالهم , وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) إذ قال المنافقون بخصوص شهداء يوم أحد :لم يصغوا إلى مشورتنا بعدم الخروج ، ولو إستمعوا لنا لما قتلوا في المعركة ، وفيه آية بأن المؤمنين لا يلتفتون إلى امر المنافقين بالمنكر وتحريضهم على القعود لأن هذا القعود سبب للهزيمة والإنكسار والإبادة للمؤمنين ، ولكن قدم الإسلام سبعين شهيداً في معركة أحد ليكون عنوان الثبات على الإيمان وسبباً في بعث اليأس والقنوط في قلوب الكفار، ولم تمر خمس سنوات إلا وقد فتحت مكة وإندحر الشرك وإلى الأبد.
الثانية : أمر المنافق من هو على شاكلته بالمنكر ، كما لو دعاه إلى الخلوة برؤساء الضلالة .
الثالثة : قيام المنافقين بأمر عامة الناس بالمنكر ، كما لو صدّوهم عن الإسلام ، وعن الصلاة ، ودعوهم إلى سؤال المؤمنين سؤال تعنت .
السابع : إستجابة المنافق للأمر بالمنكر .
الثامن : نهي المنافق عن المعروف، فهو لم يكتف بعدم الإستجابة للأمر بالخير والصلاح وتقوى الله الصادر من المؤمنين ، بل يقوم بالنهي عن المعروف وهذا النهي على قسمين:
الأول : نهي إبتدائي عن فعل الخير وبما فيه الصلاح .
الثاني : النهي عن الإستجابة للمعروف ، بلحاظ أن الأمتثال للأمر به معروف أيضاً، وهو خير محض ، فاذا أمر المؤمن أخاه بأداء فريضة الصلاة في وقتها فان المنافق ينهاه عن أدائها أو يشغله عنها ، لذا جاءت هذه الآيات بذمهم بقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( ).
التاسع : تعاون وتآزر المنافقين في الأمر بالمنكر وفي النهي عن المعروف ، وهو المستقرأ من صيغة الجمع والتبعيض والتداخل في قوله تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ]( ).
العاشر :خروج المنافقين بالتخصيص عن أهل الدعوة إلى الخير .
الحادي عشر :تخلف المنافقين عن تهيئة مقدمات فعل الخير والمعاضدة فيه والحث عليه والثناء على أهله، ومن الخير في المقام الدعوة إلى الإسلام والصلاح .
الثاني عشر : إمتناع المنافقين عن الإستجابة للدعوة إلى الخير كالإحسان إلى فقراء المؤمنين.
وتدل هذه المعاني والوجوه على أن المنافقين لم يشتروا الضلالة لمرة واحدة أو في فعل متحد، إذ يتكرر شراؤهم الضلالة في عالم القول والفعل لذا جاءت الآية بصيغة الماضي لبيان رداء تلبسهم بالضلالة.
وهو من مصاديق قوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ] ( )إذ أنهم لا يسمعون الأمر بفعل الصالحات ولا النهي عن الفساد ، ويمتنعون عن الدعوة إلى الله وتسخير اللسان في طاعة الله وجني الحسنات ، وهم مصابون بالعمى عن المعجزات وهداية الناس ودخولهم في الإسلام أفواجا مع إنكسار الكفار والمشركين في سوح المعارك وخزيهم بين الناس .
ويحتمل حال المنافقين وعلة نفاقهم وجوهاً :
الأول : عدم تطهير المنافقين نفوسهم من الشرك والضلالة سبب إصابتهم بالحرمان من الإنتفاع من الحواس .
الثاني : الإصابة بالصمم والخرس والعمى هو السبب في إختيار النفاق والإقامة على الكفر لموضوعية إدراك المعجزات في سبل الهداية وبلوغ مراتب الصلاح .
الثالث : الأثر المتبادل فكل من إبطان الكفر والضلالة والإصابة بانعدام الحواس سبب وعلة للآخر.
الرابع : ليس من ملازمة أو تأثير بين الإقامة على الشرك وبين هجران الحواس فيما يخص أمور الدين والصلاح.
والصحيح هو الأول والثاني , والثالث من غير أن يلزم الدور بين فردي الثالث , للتباين الجهتي في الموضوعات وتعدد وكثرة أفراد الضلالة، إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وإختبار ففي كل ساعة يواجه الإنسان ما يدعوه لترك النفاق والإبتعاد عن سبل الضلالة .
قوله[فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] بلحاظ الآيات السابقة
من إعجاز القرآن تعدد الآيات التي تضمنت ذم المنافقين ومجيؤها في بدايات القرآن، ومنه أن كل آية منها تبين صفات متعددة للمنافقين ، وفيه تحد متجدد مع الزمان بانطباق هذه الصفات المذمومة على حال المنافقين ، وتعيينهم بهذه الخصال ، ومعرفة هذه الخصال بهم وبسيرتهم .
فجاءت هذه الآية بخمس كلمات، كل واحدة منها بيان لصفة للمنافقين وعلى نحو سور السالبة الكلية إذ يشترك بحملها والإتصاف بها كل منافق ومنافقة ، ومن الإعجاز أيضاً قلة حروف كل كلمة منها، لتتصف هذه الآية بأمور :
الأول : إنها أقل في كلماتها من الآيات العشرة السابقة .
الثاني : كل كلمة وصفة من الصفات التي تذكرها هذه الآية أقل في عدد حروفها وكلماتها من الصفات التي تذكرها الآيات السابقة التي تتعلق بذم المنافقين .
الثالث : إتصال وأثر كل صفة من الصفات التي تذكرها هذه الآية بمضامين كل آية من الآيات السابقة .
ويكون معنى قوله تعالى [فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] ( ) بلحاظ الآيات السابقة على وجوه :
الأول : لا يرجع المنافقون عن الإقامة على الكفر .
الثاني :لا يرجعون عن مخادعة الله عز وجل .
الثالث :لا يرجعون عن مخادعة الذين آمنوا .
الرابع : لا يرجعون عن خداع أنفسهم .
الخامس :لا يرجعون عن حال عدم الشعور بضلالتهم وعن المخادعة والخداع أعلاه .
السادس : لا يرجعون عن مرض القلوب ، ويدل الجمع بين الآيتين على أن مرض القلوب في المقام إختياري ، والشفاء منه ليس مستعصياً ، وهل آية البحث تأكيد لإستدامة هذا الداء عندهم ، الجواب لا ، بل هي وسيلة مباركة للشفاء منه والسعي للسلامة منه،وهي واقية للمسلمين والمسلمات منه .
السابع : عدم رجوع المنافقين عن ضلالتهم ومكرهم سبب لزيادة مرضهم وجعلهم مشغولين بأنفسهم ، عاجزين عن الإضرار بالإسلام والمسلمين.
الثامن : إستحقاق المنافقين للعذاب الأليم لأنهم لا يرجعون عن ضلالتهم وغيهم .
التاسع : لا يرجع المنافقون عن كذبهم مع أن قوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]( ) تتضمن ترتب العذاب الشديد على الكذب والإفتراء وهم لا يرجعون عن الكذب لإبتلائهم بفقدان الحواس والحرمان من تسخيرها في حاجات الدنيا والآخرة .
ترى ما هي الصلة بين مرض القلوب وبين الكذب في الآية أعلاه الجواب هو التأثير والأثر المتبادل من جهات :
الأولى : يؤدي مرض القلوب إلى الكذب والتجرأ والإفتراء في أمور الدين والتنزيل والمعاد ، وقد تفضل الله عز وجل بنزول القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ليكون زاجراً عن الكذب وفاضحاً له ، ومانعاً للناس من اللجوء إليه أو الإنصات لأهله .
العاشر :لا يرجع المنافقون عن الفساد من جهات :
الأولى : وضوح القبح الذاتي للفساد ، وأنه خلاف الفطرة.
الثانية : ترتب الأذى على الفساد ولحوق الضرر بفاعله .
الثالثة : سوء عاقبة الفساد في الدنيا .
الرابع : مجئ النهي للمنافقين عن الفساد لقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] ( ).
الخامسة : بيان إفتضاح الفساد وفاعله فاذا خلا المنافق بأرباب الكفر في موضع منفرد، فإن الناس يعلمون به ، وهو من مصاديق ذكر الأرض وإرادة الإطلاق في الآية أعلاه، كما أنه يدل على النهي عن الفساد الظاهر والخفي والمتجاهر به لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
لتكون الآية القرآنية أعلاه وذكرها الفساد مطلقاً وفي عموم الأرض شاهداً على تخلف القاعدة الفقهية بحصر جواز غيبة الفاسق فيما يتجاهر به دون ما يرتكبه بالخفاء فلو تجاهر بشرب الخمر وإرتكب الزنا خفية ، فتجوز غيبته في الأول دون الثاني ، إنما النهي أعم من موضوع الغيبة، وفيه دعوة للإنسان للتنزه عن صيرورته عرضة للغيبة الجائزة شرعاً بلحاظ تجاهره بالمعصية لأن الغاية من النهي الزجر عن المحرمات , قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ]( ) (وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله)( ).
وفسرت الفواحش في الآية أعلاه بأنها الكبائر كالزنا , ويحتمل النفاق بلحاظ الآية وجوهاً :
الأول : النفاق من أفراد الفواحش ، لذا جاءت الآية بصيغة الجمع .
الثاني : الفواحش فرع النفاق .
الثالث : النفاق هو الفرع للفواحش .
الرابع : الفرد الجامع للوجوه أعلاه .
والصحيح هو الأخير ، فصحيح أن النفاق لم يذكر في الكبائر أو الفواحش إلا أنه أمها وهو أصل تبتنى عليه بالباطل وهو من أسرار إختصاص الآيات المتعددة والمتوالية في بدايات القرآن بذم المنافقين والمنافقات .
الحادي عشر :لا يرجع المنافقون عن دعوى الصلاح وتسمية الفساد إصلاحاً .
ولما أختتمت الآية السابقة بنعت المنافقين بأنهم كاذبون بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]( ).
ذكرت الآية التالية لها مصداقاً من مصاديق الكذب الذي يستحقون عليه العذاب الأليم في الآخرة وهو إدعاؤهم الإصلاح وتسمية الفساد القبيح بضده الحسن للتغرير بالناس والإضرار بهم ، قال تعالى [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ] ( ).
الثاني عشر : مع أن الآية القرآنية أخبرت بأن المنافقين[هُمْ الْمُفْسِدُونَ]( ) فان المنافقين مستمرون في أمور قبيحة لا يرجعون عنها وهي :
الأول : الإقامة على النفاق وإخفاء الكفر .
الثاني : الإضرار بالمسلمين ، وتربص أوان المكر بهم .
الثالث : إنتظار الوقائع التي تسبب الشماتة بالمسلمين .
الرابع : تمادي المنافقين في الغي والعتو وإستمرار مزاولتهم الفساد مع تلقيهم النهي عنه ،ووصف الله عز وجل لهم بأنهم المفسدون ، ويتصف هذا الوصف بخصوصية وهي انه ناقض لقولهم [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( ).
الخامس : غياب الشعور والإحساس عند المنافقين بفعلهم الفساد وإرتكابهم الآثام .
ليكون قوله تعالى [فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] ( )في نفعه وما يترتب عليه من الأثر على وجوه :
الأول : إنذار المنافقين .
الثاني : إقامة الحجة على المنافقين .
الثالث : إعانة المسلمين في الإحتجاج على المنافقين .
الرابع : منع الناس من التصديق بأقوال المنافقين .
الخامس : تحذير الناس من الدنو والإقتراب من المنافقين لأنهم شر في فسادهم وضلالهم .
(عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك أما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيباً ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة) ( ).
الثالث عشر: من خصال المنافقين الكبر المقرون بالكفر والضلالة فاذا توجهت لهم دعوة كريمة لدخول الإسلام ، وحثهم ناصح مشفق على المبادرة إلى ما فيه خيرهم ونفعهم في الدنيا والآخرة بصيغة المثال والأسوة الحسنة من المؤمنين الذين بادروا للتصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتبعوه ونصروه رأيت المنافقين يردون بالجحود مع الإستهزاء بالمؤمنين والسخرية منهم ، ويريدون بهذه السخرية أموراً :
الأول : تأليب الكفار على المؤمنين .
الثاني : بيان ضعف ووهن المؤمنين حسداً لغلبة النفس الغضبية عند المنافقين.
الثالث :الإفتراء على المؤمنين ورميهم بخفة العقل والسفاهة .
الرابع : صد الناس عن دخول الإسلام .
الخامس :منع الناس من نهي المنافقين عن الفساد .
السادس : كل فرد يدخل في الإسلام يرجح كفة الإيمان ، ويزيد في عدد الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويكثر هذا الأمر والنهي كماً وكيفاً ويتسع موضوعهما، فيزداد عدد الذين ينهون المنافقين عن الفساد ويصير النهي بذكر مصاديق وأفراد الفساد التي يقومون بها وإثبات مخالفتها لحكم الشرع وإدراك العقل .
ويدل على هذه الكثرة ورود لفظ الناس في قوله تعالى [كَمَا آمَنَ النَّاسُ]( ) والألف واللام فيه أعم موضوعاً من أن تنحصر بالعهد والجنس فيراد منها :
الأول : كثرة عدد الذين آمنوا .
الثاني : موافقة إختيار الإيمان لصفة الإنسانية التي تختلف بتقومها بالعقل عن الحيوان .
الثالث : تخلف الذين أصروا على الإقامة على الكفر واستبطانه عن صفة الإنسانية وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً]( ).
الرابع : الملازمة بين الإيمان وصفة الإنسانية، وهو الذي يتجلى بإقتران وترشح العبادة عن وصف الإنس بقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
المجاز في القرآن
لقد أبى وإستكبر المنافقون بجهالتهم عن اللحوق بالمؤمنين في منازل الهدى والصلاح ، فجاء ذمهم في بدايات القرآن , فالإيمان بسيط وليس مركباً , وإستخفوا بالمسلمين[قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ]( ). فأي إيمان يختارون، ولكن القرآن لم يبق المسألة معلقة بل تعقب كلامهم نعت الله عز وجل لهم بأنهم السفهاء ، وهذه السفاهة بلحاظ آية البحث لأمور :
الأول : فقد المنافقين حاسة السمع في الواجبات العبادية وما ينفعهم والناس جميعاً .
الثاني : عجز المنافقين عن الكلام في مرضاة الله عز وجل، ليكون نعتهم بالبكم من الحقيقة , وليس المجاز أو الإستعارة وحدها، بإصابتهم بالبكم على السالبة الجزئية، فيتكلم المنافق في أمور الدنيا والمباحات واللذات، وفي الكذب والإفتراء على الإسلام وإنكار المعجزات، ولكنه لا يستطيع الكلام والدعوة إلى الحق وما فيه الصلاح والثواب.
لكن كيف يستقرأ هذا المعنى من منطوق الآية الجواب الأصل في الكلام العربي هو الحقيقة ولا ينتقل إلى المجاز أو الإستعارة إلا مع القرينة الصارفة عن الحقيقة أو إلى المجاز وكل من قوله تعالى(صم) و(بكم) و(عمي) يفيد الحقيقة كلاً أو جزءً فيؤخذ به، ويفيد المجاز أيضاً , وهو من مصاديق القانون الذي أسسناه في هذا السِفر , وهو تقسيم الكلام إلى ثلاثة أقسام:
الأول : الحقيقة وهو المعنى الذي وضع له اللفظ.
الثاني : المجاز وهو إستعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً، ويسمى المجاز في المفرد في مقابل المجاز في التركيب , وأنواع المجاز في المفرد كثيرة ومتعددة منها الحذف والإطناب، وإطلاق الكل على الجزء، وعكسه، وذكر الحال وإرادة المحل، وفي أولاد يعقوب ورد قوله تعالى[وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا]( )، والمراد إسأل أهل القرية ولا مانع من حمله على الحقيقة أيضاً لأسرار ومعجزات النبوة وعلم أولاد يعقوب رتبته في النبوة , فيسأل الجمادات والثوابت في القرية , وربما قصدوا قيامه بالسؤال من محل إقامته, وقد كلم الحجر والحصى وغيرها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , وكذا العظم الذي دس له السم به.
ويفيد المجاز أيضاً لعلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي، وقرينة صارفة إلى المعنى المجازي، أو مانعة من المعنى الحقيقي , ومن مفاهيم المجاز في الآية أعلاه , وأسأل من كان حاضراً في القرية من غير أهلها كالعبيد والأجراء والمسافرين , وهذا المعنى يذكر لأول مرة والحمد لله , ولم يرد في كتابنا الموسوم تفسير سورة يوسف الصادر قبل خمس وعشرين سنة , ليتجلى قانون من ذخائر القرآن وهو أن العلوم المستقرأة من حقيقة ومجاز القرآن متجددة في كل زمان.
الثالث : المعنى الجامع للحقيقة والمجاز في آن واحد.
وهذا القسم الثالث علم جديد في اللغة والبلاغة، ترشح عن كنوز وفيوضات القرآن , أو قل إن قوانين البلاغة الوضعية متخلفة عن الإحاطة بأسرار القرآن ودلالاته، ولا معنى لربط نفي المجاز في القرآن بتعطيل صفاته تعالى عند القول بوجود المجاز في القرآن[فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : النزاع بين القائلين بوجود المجاز في القرآن أو عدمه نزاع لفظي , إذ يلتقي القائلون بوجود المجاز في القرآن والقائلون بعدمه في المعنى والدلالة , ولو على نحو الموجبة الجزئية , فمثلاً قوله تعالى[وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ]( )، فيجمع الفريقان على أن الذل ليس هو طائر أو له جناح والقائل بالمجاز يقول أن إستعمال الجناح في الآية من المجاز، والذين ينفون المجاز يقولون جناح الذل بحسبه من المسكنة وإجتناب الترفع عن الوالدين، وكذا بالنسبة لقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام[كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ]( )، فالذي يقول بالمجاز يقول أنهم سدوا مسامعهم عن دعوة نوح إلى الله والذي لا يقول بالمجاز يحمل الكلام على الحقيقة وإرادة جعل بعض الأصابع في الآذان ، ولكنه من المجاز أيضاً للإتيان بالكل وإرادة بعض الأصابع , وكما في قوله تعالى[يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( )، إنما هم يكتبون بأصابعهم، وقد يأتي زمان تكون فيه الكتابة باليد وبما هو أعم من الأصابع ليكون من إعجاز الآية في إرادة المجاز والحقيقة بلحاظ التباين في الموضوع والتعاقب في الأحقاب، وطرو التغيير بالعلم والتحصيل .
وتدل آية دعاء نوح أعلاه على أن المجاز موجود في الأمم السابقة وأنه لا يختص باللغة العربية.
كما جاء في الآية على لسان رسول من الرسل الخمسة أولي العزم وهو معصوم من الكذب، وكان في مقام الدعاء والمناجاة والتضرع إلى الله بصيغة البيان وإقامة الحجة على قومه , وذكر الأذى الذي لحقه منهم في دعوته إلى الله عز وجل , وتكرر ذات الأمر في المنافقين مع شدة أذاهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالىصُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ، وهو من مصاديق قول النبي (ما أوذي نبي مثلما أوذيت) ( ).
الثانية : المجاز موجود في اللغة عند العرب وفي لغتهم قبل نزول القرآن , وقال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الثالثة : المجاز ليس كذباً كما يظن بعضهم.
الرابعة : تعدد معاني اللفظ القرآني، وهو أمر جلي وظاهر للجميع , ولما بعث الإمام علي عليه السلام عبد الله بن عباس للإحتجاج على الخوارج قال له: لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه، ذو وجوه تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة، فانهم لن يجدوا عنها محيصاً)( ).
الخامسة : لا ملازمة بين المجاز والكذب لأن اللفظ أستعمل في معنى آخر يدركه المخاطب، فيصح الإتيان به لوجود المقتضي وفقد المانع.
السادسة : علوم القرآن من اللامتناهي ومنها علم المجاز وضروبه من الإستعارة والكتابة.
السابعة : من أظهر وجوه إعجاز القرآن بلاغته ومعانيه، وقد أقر أساطين اللغة من العرب أيام نزوله بأنه فوق كلام البشر، الكفار منهم حريصون على إيجاد أي سبب للجدال والمغالطة في آيات القرآن ولكنهم أظهروا عجزهم وسلّموا بتنزيله لولا الحسد والعناد الذي إستولى على فريق منهم، ودخل فريق آخر منهم الإسلام لبلاغة القرآن وكنوز معانيه ودلالاته.
وعن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوه لك ، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله . قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً . قال : فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر أو أنك كاره له . قال : وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده مني ، ولا بشاعر الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته . قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه . قال : فدعني حتى أفكر . ففكر . فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت { ذرني ومن خلقت وحيداً })( ).
فكل كلمة من كلمات هذه الآية المباركة تكون في معناها من الحقيقة ومن المجاز في آن واحد من غير تعارض بينهما، وكل بحسب موضوعه , وله دلالته وفيه أذى إضافي للمنافقين، وإنذار لهم، وبيان لقبح خصالهم، وسوء عاقبتهم، ولا يصح تقييد كنوز القرآن بعلوم وقواعد مستحدثة لم يثبت إطلاقها.
ويعرف المجاز بصحة نفيه بخلاف الحقيقة التي يدل عليها التبادر والإطراد , وعدم صحة السلب والمراد من الإطراد هو إنطباق اللفظ على ذات المعنى في كل الأحوال المتباينة ، فاذا قلت الأسد شجاع فهو بارادة الحيوان المفترس المعروف لا يعرف الإنهزام أمام الحيوانات الأخرى ، ولو قلت زيد أسد ، فان هذا القول ينخرم بنكوصه وفزعه عندما يرى من هو أشد منه بطشاً وقوة وعدة.
ويتعلق تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز بمعنى كلام الله وليس ذات الكلام لأنه ثابت وتعدد معاني اللفظ القرآني خاصة وأن المجاز يحمل نوعاً من الحقيقة بلحاظ التفاهم على إنتقال اللفظ في إستعماله له ، لذا هو نوع تجوز في وظائف وإستعمال اللفظ العربي .
فالمجاز فرع الحقيقة ، لأن اللفظ يستعمل فيه بلغة التخاطب , وتقسيم إلى حقيقة ومجاز لا ينطبق على دلالات اللفظ في اللغة العربية , وعدم إحاطة هذه القواعد بسعة وأسرار اللغة العربية وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
ويمكن القول بان النسبة بين الحقيقة والمجاز هي العموم والخصوص المطلق لوجود صلة وعلاقة ووجوه شبه بين المعنى الحقيقي والمجازي لذات اللفظ .
ولم يكن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز معروفاً في أيام النبوة ولا الصحابة ولا التابعين ولم يرد على السنة الأئمة عليهم السلام , وقيل ظهر في المائة الثالثة للهجرة وإشتهر في السنة الرابعة، وهذه الشهرة وأوانها تحتاج إلى دليل.
ولم يشر إليه القراء العشرة , ولم يذكره أئمة اللغة والنحو كالخليل والكسائي , ونسب إلى بعض المتكلمين من المعتزلة وأول من ذكر المجاز هو أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 209 هجرية ) بكتابه ( مجاز القرآن ) ولكنه لم يقصد بالمجاز معناه الإصطلاحي بل أراد ما يجوز لغة ، ويصح تفسيراً ،ففي قوله تعالى [أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ] ( )قال ومجاز طائرهم : (حظهم ونصيبهم ) وسبب تأليفه أن أحد كتّاب الفضل بن الربيع ( ) سأله عن تفسير آية من القرآن , فعزم على تأليف الكتاب ، ثم قام الجاحظ (ت255) باستعمال المجاز في القرآن في مقابل الحقيقة وجاء بعده ابن جني (322-392 هجرية). وكلاهما من المعتزلة , أي أن مبحث المجاز محصور في نشأته بطائفة مخصوصة .
وصحيح أن إصطلاح المجاز لم يكن موجوداً أيام الصحابة والتابعين , وهو غير موجود قبل الإسلام من باب الأولوية القطعية فيمكن دراسة المجاز في تفسير القرآن بالرجوع إلى أمور:
الأول : تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( ) للقرآن بلحاظ أن السنة النبوية مرآة للقرآن وعلومه .
الثاني : المجاز في السنة النبوية، وهو بحر زاخر في سعة معانيه ودلالاته، لأن العدول في الحقيقة إلى المجاز يكون لأغراض بلاغية منها:
الأول : السعة في المعنى .
الثاني : التأكيد.
الثالث : التشبيه , وفيه مسائل :
الأولى : الإنتقال الذهني من الحقيقة إلى حقيقة أخرى، بأن يكون كل من طرفي التشبيه حقيقة وليس مجازاً.
الثانية : الإنتقال من المجاز إلى الحقيقة، بأن يكون المشبه به مجازاً والمشبه حقيقة.
الثالثة : الإنتقال من المجاز إلى المجاز , كما لو كان كل طرف من طرفي التشبيه مجازاً.
الرابعة : التجوز من الحقيقة إلى المجاز كما لو كان المشبه به حقيقة، والمشبه من المجاز.
وجاءت أمثلة القرآن من الجهة الأولى أعلاه، فمع تعدد وكثرة أمثلة القرآن فان الحقيقة جلية وظاهرة في كل من أطرافها.
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فرس إشتراه من تجار قدموا من اليمن ما أنت إلا بحر) ، وفيه مجاز من جهات:
الأولى : مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للفرس.
الثانية : تسمية الفرس بالبحر وقيل مسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الفرس، وأنه سبق عليه ثلاث مرات.
الثالثة : مجئ تسمية الفرس في سياق الخطاب له، وليس لتمييزه من بين الأفراس الأخرى.
الثالث : تفسير الصحابة للقرآن ، وهل فيه ما يدل على المجاز .
الرابع : تفسير أئمة أهل البيت للقرآن .
الخامس : تفسير التابعين للقرآن .
الثاني : ذكر وجوه ومصاديق التفسير التي يشكل عليها القائلون , بعدم وجود المجاز في القرآن لبيان أن الخلاف صغروي ولفظي .
الثالث : بيان إجتماع المعنى الحقيقي والمجازي في ذات اللفظ القرآني متحداً أو مركباً، كما في آية البحث في ذم المنافقين[صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] فكل كلمة من كلماتها الخمسة تجمع المعنيين , ومن وجوه متعددة .
مما يدل على أن إفادة اللفظ القرآني المعنى المجازي ثروة علمية وآية إعجازية لا يمكن تعطيلها أو التفريط بها نتيجة بحث عقلي في باب اللغة لا أصل له , يقول به من خالف المشهور شهرة عظيمة .
فقوله تعالى [صُمٌّ]حقيقة ومجاز وإستعارة وتشبيه، وفيه توبيخ إضافي للمنافقين ودعوة للناس للنفرة من النفاق , وكذا نعوت المنافقين الأخرى الواردة في الآية أعلاه.
لأن الإنسان بفطرته يسعى إلى الكمال ، ويحب تمام الخلقة وسلامة الأعضاء والحواس ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : (من رأى صاحب بلاء فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني عليك وعلى جميع خلقه تفضيلاً فقد أدى شكر النعمة) ( ).
ويشمل الحديث أعلاه موضوع النفاق والإبتلاء به، ولا ينحصر برؤية المؤمن للمنافق وشكر الله عندها على السلامة من النفاق ، خاصة وأن المنافقين يخفون أنفسهم لأن النفاق داء في القلوب ، ولكن المؤمن يشكر الله عز وجل على النجاة من النفاق في كل مرة يتلو هذه الآيات أو يسمعها , وقد جاءت سورة كاملة في القرآن باسم (سورة المنافقون) وهي مدرسة في كشف النفاق وبيان قبحه.
وإن حصل خلاف على المجاز فيمكن إبدال إسمه في الإصطلاح القرآني خاصة أو مطلقاً , وان كان المجاز ليس من الكذب كما يظن بعضهم لأن اللفظ العربي تجوز وإنتقل إليه في الإستعمال، فله مصداق خارجي، وليس من دليل على حصر المعنى اللغوي للفظ بما وضع إليه في أصل اللغة، وحتى هذا الوضع لم يثبت في كثير من الكلمات لأنها إنتقلت إلينا بأكثر من معنى ومصداق.
وقد يرد لفظ لعدة معان، ويتردد المعنى الحقيقي بين أكثر من واحد منها لفظ(العين) وهو اسم يذكر ويؤنث حسب المعنى، ومن معانيها حاسة البصر، وعين العدو وهو الجاسوس، وذات الشئ، والعناية والحفظ والتعاهد كما في قوله تعالى[وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] ( )، والعين ينبوع الماء، أما لفظ العين بلحاظ الإضافة والتقييد فمعانيه كثيرة وفيها مندوحة.
وفرض العين وهو الذي يجب أن يؤديه المكلف نفسه كالصلاة اليومية في مقابل فرض الكفاية كصلاة الجنازة , ورد السلام.
وإستعمل الشعراء في الجاهلية اللفظ بمعناه الحقيقي والمجازي , وكانت عذوبة الشعر بهذا التعدد من الإستعمال وقد ثبت في علم الكلام أن الاسم غير المسمى، والمدار على الأخير وليس على الأول خاصة وأن المعنى الإصطلاحي للمجاز مستحدث.
صلة[اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] بهذه الآية
إبتدأ نظم القرآن بسورة الفاتحة وكلها ثناء من المسلمين على الله عز وجل ودعاء وتضرع وتوسل به سبحانه ، ثم إبتدأت سورة البقرة بالثناء على المسلمين , وكأن بداية سورة البقرة شكر من الله عز وجل للمسلمين على إخلاصهم العبودية لله خاصة، وأن كل واحد منهم ذكراً أو أنثى يتلو سورة الفاتحة سبع عشرة مرة في اليوم في الصلاة وعلى نحو الوجوب العيني ليكون مصداقاً لرد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )عندما إحتجت الملائكة على جعل أدم خليفة في الأرض ، فتلاوة كل مسلم سورة الفاتحة كل يوم برغبة ورضا ورجاء شاهد على أهلية الإنسان للخلافة ، ولكن الفساد في الأرض يظهر بفعل وقول الكافر والمنافق فبعد أن جاءت الآيات الخمسة الأولى من سورة البقرة في الثناء على المسلمين جاءت بعدها آيتان في ذم الكفار ، ونزول البلاء بهم في الدنيا برميهم بالختم على قلوبهم وأسماعهم وجعلها قاصرة عن إدخال شيء وحلول غشاوة على أبصارهم .
ويحتمل إستهزاء الله بالمنافقين بلحاظ آيات القرآن وجوهاً :
الأول : كل آية تذكر المنافقين هي إستهزاء من الله عز وجل بهم ، لأنها تتضمن ذمهم وتوبيخهم .
الثاني : إرادة المعنى الأخص من الوجه أعلاه ، إذ ينحصر الإستهزاء بالمنافقين بالآيات التي تتضمن معنى الإستهزاء والسخرية منهم على نحو التصريح والدلالة الواضحة .
الثالث : كل آية من القرآن هي إستهزاء بالمنافقين في منطوقها أو مفهومها .
والصحيح هو الثالث ،وتلك آية في إعجاز القرآن , فالثناء على المؤمنين في مفهومه ذم المنافقين ، وتبكيت الكفار توبيخ للمنافقين لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، والأمر باتيان الفرائض والواجبات فضح لهم ، وأخبار نصر المسلمين في ميادين القتال وفي بناء الدولة الإسلامية عز للمؤمنين وخزي للمنافقين .
لذا فان آيات سورة الفاتحة والآيات الأولى من سورة البقرة تتضمن ذم المنافقين في دلالتها ومعناها .
ثم جاءت هذه الآيات التي تذم المنافقين في منطوقها، وفيها إستهزاء بالمنافقين من جهات :
الأولى : كل كلمة من هذه الآيات إستهزاء وسخرية متجددة بالمنافقين, وتجددها بلحاظ تلاوة المسلمين وسماعهم والناس لها كل يوم وإلى قيام الساعة.
الثانية : تعدد هذه الآيات وتعاقبها في ذات موضوع المنافقين .
الثالث : فضح خفايا النفاق كما في خلوة المنافقين برؤساء الضلالة .
وتكون الصلة بين الآيات الأولى من سورة الفاتحة على وجوه:
الأول : من رحمة الله أنه مالك يوم الدين.
الثاني : من خصائص ملك الله ليوم الدين أنه الرحمن الرحيم في الدنيا والآخرة، فإن قلت سلّمنا أنه الرحيم في الآخرة، فهل من صلة بين رحمته في الدنيا وملكه ليوم الدين، الجواب نعم لأن رحمة الله عز وجل في الدنيا مقدمة لسلامتهم من العذاب الأليم , وهو من أسرار تسمية القيامة بيوم الدين.
كشف النفاق
لقد جعل الله عز وجل القرآن رسالة سماوية، وإخباراً عن أمور الدين والدنيا، قال تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ).
وإطلاع الناس جميعاً على موضوع النفاق من وجوه :
الأول : ماهية وحقيقة النفاق , وكيف أن المنافق ينطق بالشهادتين وينتسب إلى الإسلام ويحضر الصلوات ولكنه يخفي الكفر والجحود .
الثاني : نشأة جماعة المنافقين في الإسلام .
الثالث : مصاحبة نشوء النفاق مع ظهور دولة الإسلام، وتنامي قوة المسلمين لأن النفاق يتقوم بخشية المنافقين من إظهار الكفر .
الرابع : كشف وفضح رؤساء النفاق ، وآية إنحسار أثرهم في الناس .
الخامس : الصلة ووجوه الإلتقاء بين النفاق والكفر .
السادس : الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المنافقين .
السابع : علة إختيار المنافقين للنفاق، وغاياتهم من الجمع بين إخفاء وإعلان الإسلام ،منها حقن دمائهم وتعاهد ما لهم من جاه وسلامة أموالهم.
الثامن : بيان شأن وحسن منزلة المنافقين في الناس ، لولا مجىء الآيات بفضحهم كيلا يفتتن الناس بهم ، قال تعالى [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ]( ) فيتصف المنافقون بحسن الخلقة والنشأة في رغد العيش والشأن فحث الله المسلمين والناس على عدم الإغترار بهم إذ جاءت تتمة الآية أعلاه [كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ] ( )أي ليس من منفعة ترتجى منهم .
ومن إعجاز القرآن أن كلاً من لفظ خشب ، ومسندة لم يذكرا في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة ، وكأن فيه دلالة بأن ظاهرة المنافقين لم تكن في الأمم السابقة وقصص الأنبياء السابقين وإختص بها الإسلام لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تولى شؤون الإمامة والحكم ، فان قلت قد تولاها موسى عليه السلام وداود وسليمان ، والجواب هذا صحيح ، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم آلت إليه الرئاسة وإجتمعت مع الرسالة في مجتمعات متباينة من جهة الملة والنسب والقبيلة والقومية , وفيهم المؤمن والكتابي والكافر , فصار المنافقون في حالة فزع وأصاب قلوبهم الضعف .
التاسع : أسرار وعلة نفرة المنافقين من الإستغفار والدعوة إلى التوبة قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ]( )وفيه شاهد على تفريط المنافقين بما يجلب لهم الخير والنفع العظيم في الدنيا والآخرة.
العاشر :من أسباب النفاق الحسد إذ رأى المنافقون إخلاص المهاجرين والأنصار في طاعة الله ورسوله .
الحادي عشر : هل يستمر النفاق، أم أنه إنقطع من أيام النبوة والصحابة.
الجواب هو الأول، ولكنه بمرتبة أدنى ونقص في عدد المنافقين، ووهن في مكرهم، وتضاؤل في حضورهم وضمور في أثرهم.
الثاني عشر : تكاسل المنافقين عن الصلاة وعن ذكر الله ، وقعودهم عن القتال عند النفير وساعة الحاجة للدفاع عن بيضة الإسلام ، قال تعالى [وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى] ( ).
ويحتمل الضرر الأذى الذي جاء من المنافقين وجوهاً :
الأول : إيذاء المنافقين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إضرار المنافقين بالمسلمين .
الثالث : صيرورة المنافقين سبباً في صد الناس عن الإسلام .
الرابع : حصول النقص والتأخير والإبطاء في سرايا وكتائب المسلمين بسبب تسويف المنافقين وإستحضارهم للخسارة والأخطار والأعذار .
الخامس : صد المنافقين الناس عن الإسلام .
السادس : إبلاغ المنافقين للكفار بعورات المسلمين .
السابع :محاولة بث الفزع والخوف في قلوب المسلمين .
الثامن : إثارة اسباب الفتنة عند توزيع الغنائم .
ولما رأى المنافقون توالي تحقق نصر المسلمين ، وجلاء الآيات وإزدياد قوة الإسلام بعد معركة الأحزاب إختاروا الخروج للقتال معهم ، فاحدثوا الفتن بين المقاتلين لولا فضل الله عز وجل وتوالي نزول آيات القرآن والسنة النبوية المترشحة عن الوحي .
وفي سبب نزول قوله تعالى [هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا]( )ذكر (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد انكفائه من غزاة بني المصطلق في شعبان سنة ست نزل على ماء المريسيع ، فتنازع عليه جهجاه ، وكان مسلماً وهو رجل من غفار ، ورجل يقال له سنان ، وكان من أصحاب عبد الله بن أُبي ، فلطمه جهجاه ، فغضب له عبد الله بن أُبيّ وقال : يا معاشر الأوس والخزرج ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، أوطأنا هذا الرجلَ ديارنا وقاسمْناهم أموالَنا ولولانا لانفضوا عنه ، ما لهم ، رد الله أمرهم إلى جهجاه ، [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( ) ، فسمعه زيد بن أرقم وكان غلاماً ، فأعاده على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعتذر له قومه) ( ).
وفي التهيء لمعركة تبوك ورد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :أغزوا تغنموا بنات بني الأصفر ، فقال ناس من المنافقين إنه ليفتنكم بالنساء .
(واخرج ابن اسحاق وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلما كان يخرج في وجه من مغازيه إلا أظهر أنه يريد غيره ، غير أنه في غزوة تبوك قال : أيها الناس إني أريد الروم فاعلمهم ، وذلك في زمان البأس وشدة من الحر وجدب البلاد ، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص عنها ، فبينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم في جهازه إذ قال للجد بن قيس : يا جد هل لك في بنات بني الأصفر؟ قال : يا رسول الله لقد علم قومي أنه ليس أحد أشد عجباً بالنساء مني ، وإني أخاف إن رأيت نساء بني الأصفر أن يفتنني فَأْذن لي يا رسول الله . فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : قد أذنت . فأنزل الله { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا }( ) يقول : ما وقع فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورغبته بنفسه عن نفسه أعظم مما يخاف من فتنة نساء بني الأصفر ) ( ).
وعندما حصلت مشادة وملاحاة بين جماعة من المهاجرين وأخرى من الأنصار , ونقل زيد بن أرقم ما قاله رأس النفاق عبد الله بن أبي إلى النبي كما ورد في التنزيل [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( )أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل (فلما بلغ عبد الله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، أتاه فاعتذر إليه، وحلف بالله ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم -وكان عند قومه بمكان-فقالوا: يا رسول الله، عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل.
وراح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُهجرًا في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير فسلم عليه بتحية النبوة، ثم قال: والله لقد رُحتَ في ساعة مُنكَرَة ما كنت تروح فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أما بلغك (3) ما قال صاحبك ابن أبي؟. زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل”. قال: فأنت -يا رسول الله-العزيزُ وهو الذليل. ثم قال: يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخَرزَ لِنُتَوّجه، فإنه ليرى (4) أن قد استلبتَه ملكا.
فسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس حتى أمسوا ليلته حتى أصبحوا، وصَدرَ يومه حتى اشتد الضحى. ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مَس الأرض فناموا، ونزلت سورة المنافقين) ( ) وفيه أمران :
الأول : أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل حال سماعه خبر الشقاق ، وفيه مسائل :
الأولى : قطع دابر الفتنة .
الثانية : التبرأ من الخصومة والخلاف بين المسلمين .
الثالثة : زجر المسلمين عن ركوب الفتنة والإشتراك فيها ، ويتجلى هذا الزجر بقوله تعالى [كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الرابعة : جعل المسلمين ينظرون إلى الغد والمستقبل وما يجب فعله،وليس الوقوف عند الخلاف الذي هو ضعف ووهن .
الخامسة : بيان إستجابة المسلمين لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )أم أن الآية خاصة بالفرائض والأوامر والنواهي العبادية ، الجواب هو الأول لتكون طاعة الرسول على وجوه :
الأول : إنها رحمة بالمسلمين .
الثاني : إصلاح ذات بينهم , ومنع الفتنة , وحجز مقدماتها.
الثالث : فيها برزخ دون الخصومة والخلاف بين المسلمين .
الرابع : عناية المسلمين بالأولى من ذكر الله والتسبيح والشكر له تعالى على نعمة النصر والأمن .
السادسة : لم يستشر النبي أحداً بالأمر بالرحيل ولم يمهل أصحابه ، وفيه آية في الإمامة وحكمة الرئاسة .
السابعة : مع أن المؤمنين لم يرضوا على عبد الله بن أبي وارادوا الفتك به فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأذن لهم .
ليكون في الأمر بالرحيل سلامة للمنافقين ، ودفع للأذى عنهم , وهو تعاهاسك المسلمين .
ولما قيل [لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( )أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العزة لجميع المسلمين والمسلمات فسارع إلى الرحيل من الموضع ومنع وقوع الفتنة .
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا فِي السَّفَرِ لَمْ يَرْتَحِلْ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَحَلَ وَلَمْ يُصَلِّ) ( ).
ولا يعني هذا أن درء الفتنة مقدم على صلاة النافلة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصليها على الراحلة .
الأمر الثاني : سير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين مدة طويلة خلاف المتعارف فبعد أن أمر بالرحيل سار المسلمون ، فدخل عليهم الليل وهم يسيرون وأمضوا الليل بالسير , وصدر المسلمين اليوم التالي إلى وقت الضحى في السير , وفيه مسائل :
الأولى : أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إشغال المسلمين بالذكر وسنن التقوى .
الثانية : دعوة المسلمين لترك الخصومة والخلاف بين المهاجرين والأنصار .
الثالثة : بيان أن الفتنة والخصومة سبب للأذى، وفيها جلب للنحوسة .
الرابعة : إستعاذة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من الشيطان ونزغه .
الخامسة : طاعة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قطع المسافات الطويلة وتحمل الأذى ، وعدم تخلف بعضهم أو الحاجة بالإستراحة والنزول .
السادسة : تنمية ملكة إزالة الكدورة عند المسلمين ، وجعلهم يتخذون من طول الطريق مناسبة للتدبر بالأضرار التي تترشح عن الفتنة ولزوم تنزه المسلمين عنها .
السابعة : بيان قدرة المسلمين على السير المتواصل وقطع المسافات الطويلة من غير ملل أو كلل، وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب الكفار ، ورد عملي وعام على المنافقين ورأسهم الذي قال [لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( )لأن هذا السير المتصل شاهد على عز المؤمنين وتضحيتهم في سبيل الله .
ترى هل نزل النبي محمد صلى الله تعليه وآله وسلم وأصحابه ليصلوا صلاة المغرب والعشاء والصبح أم أنهم صلوها على الرواحل إذ أن ظاهر الحديث إستمرار السير من دون توقف .
والصحيح هو الأول من وجوه :
الأول : تقدم الواجب على الظاهر .
الثاني : موضوعية قانون كلي وهو عدم تفويت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة الفريضة ووقت الفضيلة في الحضر والسفر ، وفي السلم والقتال .
الثالث : أداء الصلاة جماعة ومع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحسن وأبهى صيغ درء الفتنة في مهدها .
آثر الصمم في عدم الرجوع
لقد جاءت الآية في خمس كلمات , واحدة منها موضوع قائم بذاته له حكمه ودلالته على نحو مستقل ، وبلحاظ التداخل مع غيره من الكلمات الأخرى للآية ، وهو من ذخائر القرآن وبحور علومه من جهات :
الأولى : تقدير الآية :صم لا يرجعون .
الرجوع هو العودة إلى المكان الأول ، والإنصراف من المحل الثاني إلى المحل الأول جاء هنا كناية عن عدم رجوع المنافقين إلى الهدى بعد أن إشتروا الضلالة فان قيل لماذا يبقى المنافقون في مستنقع الضلالة يكون الجواب في هذه الآية وأنهم في حال صمم وبكم وعمى فلا يسمعون الدعوة إلى الله ولا يتناجون بالتوبة ولا يبصرون زحف وفود القبائل العربية إلى المدينة المنورة لدخول الإسلام .
وتدل مضامين الآية على عدم إنحصار موضوعها بالمنافقين إذ يشمل الكفار وأهل الضلالة فالجامع المشترك بينهم هو الإمتناع عن تسخير الحواس في قبول الهدى مع الإصرار على عدم الرجوع إلى الرشاد وسبل الفلاح , وفيه آية بأن يتضمن القرآن توبيخ المنافقين والمراد المعنى الأعم وشمول كل الذين يتلبسون بالكفر والجحود وهو من مصاديق سنن القرآن في الجذب إلى سبيل الهداية والزجر عن الغواية ، وكشف فضائح الكفار وسوء إختيارهم .
وهل هذا التعدد في سنخية أعداء الإسلام ضرر عليه وأن الاُولى محاربة جهة واحدة وهم الكفار ،والسكوت عن المنافقين لحين تثبيت دعائم الدولة الإسلامية والإكتفاء منهم باعلان الإسلام وحضور الصلوات لتكثير السواد بهم وإخافة المشركين بدل أن يبعث فضح وذم المنافقين في القرآن إشارة وهن لهم , وإخباراََ عن حال تفكك في صفوف المسلمين .
والجواب يدل إبتداء الذم في القرآن بالمنافقين , وبثلاث عشرة آية متتالية :
الأول : الآيات مدرسة جهادية ، ودعوة للمسلمين للصبر على الأذى الذي يأتيهم من الكفار ومن بين ظهرانيهم .
الثاني : تأكيد قانون كلي وأن نصر المسلمين لم يتم إلا بفضل الله ، ومدد من عنده سبحانه ، وليس من حصر لوجوه هذا المدد ومنها نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم بدر ومعارك الإسلام أيام النبوة .
الثالث : إذا كان في وجود النفاق والمنافقين أذى للمؤمنين فان نصر ومدد الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين متصل ومستمر إلى يوم القيامة يتجلى بالسكينة والأمن وتقوية القلوب إذ يخاطب الملائكة المؤمنين كما ورد في التنزيل [نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] ( ).
الرابع : لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالديانة الحق والشريعة الباقية إلى يوم القيامة ، فلا يخشى المؤمنون إلا الله عز وجل الذي [لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )ومن معاني إطلاق ملكه تعالى في المقام نصرة المؤمنين وفضحه للمنافقين والكفار .
الخامس : لم يأت ذم المنافقين بالسنة النبوية إبتداءً بل جاء في القرآن وفي آيات كثيرة منه وسورة مستقلة هي سورة المنافقون .
وجاءت السنة القولية والفعلية تفسيراً وبياناً ومرآة لهذه الآيات ، مما يدل على أن الله عز وجل هو الذي ضمن دحر النفاق ومنع مجئ الضرر للمسلمين من أهله ورواده , وهو من إعجاز القرآن الذاتي والغيري وعدم الخشية من المنافقين وهمّهم بالإجهاز على المؤمنين ،إذ تنعتهم هذه الآية بخصال مذمومة هي الصمم والبكم والعمى والعجز عن الرجوع والعودة وما فيه من معاني الوهن من التغيير والنقل والإنتقال ، ولكنهم يتلقون هذا التبكيت بالسكوت والخنوع والذل .
السادس : من إعجاز القرآن الغيري في المقام توبة فريق من المنافقين وتنزههم من النفاق وما فيه من الظلم للنفس والغير , وفي موسى بن عمران ورد قوله تعالى في الإيماء إلى أم موسى [فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ]( )، إذ أن الكهان أخبروا فرعون بأن هلاكه على يد غلام منهم فخشيت أم موسى أن يسمع الجيران بكاءه فيفشون امره إلى فرعون وجنوده فيقتلونه وذكر أن أمه ( لما خافت عليه جعلته في التابوت ، وجعلت المفتاح مع التابوت وطرحته في البحر ، وخرجت امرأة فرعون إلى البحر وابنة لفرعون برصاء ، فرأوا سواداً في البحر ، فأخرج التابوت إليهم ، فبدرت ابنة فرعون وهي برصاء إلى التابوت ، فوجدت موسى في التابوت وهو مولود ، فأخذته فبرأت من برصها) ( ).
ليكون تعاهد وحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام من باب الأولوية لدوام كلمة التوحيد في الأرض بدحر النفاق وسلامة المسلمين من هذا الدرن الذي فتك بأقوام من الأمم السابقة فاجهزوا على الأنبياء والذين آمنوا من أصحابهم وأنصارهم .
لقد بيّن القرآن صبغة النفاق ، وتوجه بأشد ضروب التوبيخ للمنافقين ، ولكنهم ليسوا مصاديق ثابتة له , فالنفاق عرض متزلزل وليس لازماً ، ويكون النفاق في صراع مع الذات ، كما أن ظاهر الإسلام وباطن الكفر يتنازعان فيما بينها , بلحاظ أن المتناقضين لا يجتمعان في محل واحد ، وذات الإنسان محل واحد وان كان مركباً من الروح والبدن ، ومن الأعضاء والحواس ، ولكن التكليف يأتيه كانسان متحد وكذا يكون الحساب ، وحتى العبادات لابد أن تصدر من الأعضاء بقصد القربة وخلو النفس من الرياء والنفاق , فجاءت هذه الآيات لأمور :
الأول : تنزيه المسلمين من النفاق .
الثاني : تفقه المسلمين في الدين وبناء برزخ بينهم وبين النفاق .
الثالث : حجب المنافقين عن مقامات الرئاسة والإمارة والجاه بين الناس .
الرابع : بيان الحسن الذاتي والعز في التغلب على النفاق ، وفي جعل باطن المسلم موافقاً لظاهره ، وهو من شرائط الإيمان وهو قول باللسان وتصديق بالقلب بأن يأتي النطق بشهادة ان لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تصديق من القلب وتسليم من النفس .
والإيمان عمل بالجوارح والأركان ، والجوارح هي اللسان والعين والأذن ، والأركان كاليدين والقدمين بان تسخر في طاعة الله وأداء الفرائض والواجبات ، وتتجنب المعصية والذنوب كبيرة كانت أو صغيرة .
(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إن العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه . وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}( )) ( ).
وفيه دلالة على تأثير الجوارح وأفعال الإنسان على صبغة وميل القلب , وأن الأثر والإنفعال لا ينحصران بسلطان القلب على الجوارح بل تنعكس أفعال الجوارح على القلب بحسب ماهيتها وجنسها فجاءت هذه الآيات مدداً لجوارح وحواس وأركان المسلم ليشع ضياؤها على القلب فيملأه نوراً ويطرد عنه أسباب الضلالة والنفاق ، وهو من الشواهد على الإعجاز في آية البحث بأن علة النفاق هي تعطيل المنافقين للحواس والجوارح لقوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ]( ).
لبيان أن عدم الرجوع من أفعال القلب وعزائم النفس فجاء مترتباً على تخلف المنافقين في وظائف الحواس ، وإعراضهم عن أمور :
الأول : آيات التنزيل .
الثاني : الإنصات لآيات القرآن , الذي هو مقدمة واجبة لأمور :
الأول : التدبر في معاني ودلالات الآية القرآنية .
الثاني : إدراك إعجاز الآية القرآنية الذاتي والغيري .
الثالث : وجوب العمل بالآية القرآنية والأوامر والنواهي الواردة في القرآن .
الرابع : الأثر المترتب على العمل بالآية القرآنية على الذات والغير .
الخامس : قضاء حاجات الدنيا والآخرة في القرآن ليكون من معاني قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )حث المسلمين والناس جميعاً للجوء إلى القرآن في العبادات والمعاملات والأحكام .
وهذا اللجوء طرد للصمم والبكم والعمى عن الفرد والجماعة . وعلاج لأمراض النفس ودرن القلب .
وكل آية في القرآن هي حرب على الصمم وواقية منه ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وفي موضوع الآية أعلاه وجوه :
الأول : إرادة إنصات المأموم في الصلاة لقراءة الإمام .
الثاني : المنع من رفع الأصوات خلف الإمام .
الثالث : إكتفاء المأمومين بالإستماع لتلاوة الإمام (عن محمد بن كعب القرظي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في الصلاة أجابه من وراءه ، إذا قال : بسم الله الرحمن قالوا مثل ما يقول حتى تنقضي فاتحة الكتاب والسورة ، فلبث ما شاء الله أن يلبث ثم نزلت { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا . . . } الآية . فقرأ وأنصتوا) ( ).
الخامس : قراءة المأموم خلف الإمام أثناء قراءته .
السادس : الإنصات لخطبة الإمام في صلاة الجمعة ، بلحاظ أنها بدل الركعتين من صلاة الظهر وقيل (أن الآية مكية والخطبة إنماشرعت بالمدينة) ( )،ولكن الآية مدنية ويدل عليه كثرة النصوص والأخبار الواردة في أسباب النزول وتلاوة الأنصار خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (عن مجاهد قال : قرأ رجل من الأنصار خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، فأنزلت { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا }( ))( ).
السابع : إرادة الإطلاق في تلاوة القرآن .
والصحيح هو الأخير لوجوه :
الأول : عدم وجود تخصيص في البين .
الثاني : المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول (وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : يجب الانصات للقرآن في الصلاة، وفي غيرها، وإذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الانصات والاستماع) ( ).
الثالث : دلالة خاتمة الآية وما فيها من رجاء النفع العظيم والثواب الجزيل بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وهل يشمل الخطاب اعلاه المنافقين ، الجواب فيه وجوه :
الأول : لا يشمل الخطاب المنافقين لما في آية البحث من الذم لهم والإخبار بأن المنافقين [صُمٌّ].
الثاني : تشمل الآية المنافقين لأصالة الإطلاق ولحضورهم الصلوات .
الثالث : التفصيل , بلحاظ أن النفاق من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً وإن كانت كلها شديدة القبح , فيتوجه الخطاب إلى رؤساء النفاق ليتعظ غيرهم .
والصحيح هو الثاني ،إذ أن نعت المنافقين بالصمم لا يمنع من الأمر لهم بالإنصات للقرآن ، وفيه طريق إلى التوبة والإنابة .
وقد ذكر القرآن لأجيال المسلمين المتعاقبة ، والناس إلى يوم القيامة حرب الكفار والحاد المشركين وجحودهم بالقرآن خاصة بقوله تعالى [لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ]( )وفي معناه وجوه :
الأول : (يعني قعوا فيه وعيبوه ، قاله ابن عباس) ( ).
الثاني : الغوا فيه بالمكاء وهو الصفير ، والتصدية وهو الصفق باليدين ، قال تعالى [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً]( ).
الثالث : إرادة التخليط والغوغاء حتى لا يسمع الناس تلاوة القرآن ، ولا يتدبرون المعاني القدسية لآياته .
الرابع : حث الكفار بعضهم بعضاً للقول بكلام غير مفهوم لإرادة غلبة أصواتهم وصياحهم على صوت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أثناء قراءته للقرآن ، وهو من معاني مجئ الحرف [فِي]بقوله تعالى [فِي الْقُرْآنِ] ( ) وإفادته الظرفية .
الخامس : إنشاء الشعر والأراجيز والإتيان بأقوال ومناجاة بينهم تحدث الصخب .
السادس : ورد في أسباب نزول الآية أعلاه (عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته ، فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون { لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }( ) وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحب أن يسمع القرآن ، فأنزل الله { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }( )) ( ).
السابع : التشاغل بالكلام والصوت المرتفع عن القرآن وتلاوته .
لقد كانت ضابطة كلية تستحوذ على أفعال المشركين من جهات :
الأولى :صد الناس عن الإستماع للقرآن الذي هو مقدمة لدخول الإسلام.
الثانية : إظهار الهزل والإستهزاء بالتنزيل .
الثالث : حث الناس على التجرأ على القرآن .
الرابع : إثارة أسباب الجدل والريب ، كما في إنكارهم إحياء الموتى والحساب في الآخرة (عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شجرة الزقوم تخويفاً لهم يا معشر قريش ، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوّفكم بها محمد؟ قالوا : لا . قال : عجوة يثرب بالزبد – والله لئن استمكنا منها لنتزقمها تزقما . فأنزل الله : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } ( )) ( ).
الخامس :إغراء الناس بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وجعل اللغو في القرآن مقدمة للإضرار بهم .
فجاءت آية البحث لتحث الناس على الإنصات للقرآن من جهتين :
الأولى : الإعراض عن رؤساء الضلالة الذين يقولون [لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ]( ).
الثانية : عدم الإصغاء إلى اللغو ، لأن قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا] ( ) مطلق أي حتى في حال وجود لغو وصخب وصفير ونفير فان الله عز وجل جعل الإستماع لآيات القرآن أمراً ممكناً ويستطيع كل إنسان الفصل وتمييز آيات القرآن بفضل من عند الله ، وهو من أسرار وفلسفة أمور :
الأول : نزول الحروف المقطعة في أوائل شطر من سور القرآن كي ينصت الكفار ثم تتوالى الآيات وما فيها من الأحكام والسنن .
الثاني : قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين القرآن جهراً وعلى نحو الوجوب كما في صلاة الصبح والمغرب والعشاء .
الثالث : مجئ السور المكية بالإنذار والتخويف والوعيد ،وتقريع وتوبيخ الكفار .
وجاءت آية البحث ببيان صنف آخر من الناس لا ينتفع من تلاوة القرآن ليس بالصفير والتصفيق ولكن بالصمم والإعراض عن الآيات ودلالاتها ، والإمتناع عن الإمتثال لأحكامها والعمل بسننها وهم المنافقون ليكون من إعجاز القرآن أنه لا يكتفي بمواجهة حرب الكفار عليه وينشغل بهم وبلغوهم وعنادهم ، بل أعلن محاربة الذين يصمون آذانهم عن الحق والهدى .
وأيهما أشد ضرراً في المقام الكفار الذين يحثون على اللغو في القرآن أم الذين يسدون آذانهم وإن لم يسدوها فهي لا تستمع ، الجواب هو الأول ، فان الكفار أشد ضرراً لتكون بداية آيات الذم والإنذار في القرآن بذكر المنافقين شاهداً على إندحار الكفر ، وعجز رؤساء الضلالة من قريش عن صد الناس عن الإستماع للقرآن ، وتأكيد لحقيقة وهي أن قولهم [وَالْغَوْا فِيهِ]( ) لم يجد أذناً صاغية عند الناس إذ دخلوا في الإسلام أفواجاً، ولكن فتنة أخرى صاحبت ظهور دولة الإسلام وهي وجود طائفة من الناس يصابون بالصمم عند سماع الآيات وهو دليل على تنامي قوة وشوكة الإسلام ، وخشية الكفار من إعلان كفرهم وجحودهم ، فبينما كانوا يقولون أموراً:
الأول : لا تسمعوا القرآن .
الثاني : الغوا في القرآن .
الثالث : أحدثوا الضجيج الذي يمنع الناس من سماعه ز
ثم إضطر المنافقون إلى حال كتمان الكفر وإخفائه في نفوسهم ، ومع هذا لم يتركهم القرآن وشأنهم ولم يمهلهم على حالهم هذه وأخبر بأن الله عز وجل لم يرض لهم السكوت وعدم الإستماع ، وفضحهم وأخزاهم بهذه الآيات التي هي أيضاً دعوة لهم للتوبة والإنابة ، ليكون قوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ] ( ) من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )بجذب الناس إلى منازل الإيمان ، وعدم الإكتفاء بسكوتهم ، خاصة وأن هذا السكوت والصمم المقصود هو كفر أيضاً , ولم يلجأ إليه المنافقون إلا إضطراراً .
صلة [صُمٌّ]بسورة الفاتحة
من الإعجاز في سورة الفاتحة أمور :
الأول : كثرة أسماء هذه السورة ، وذكرتُ لها في هذا السِفر أربعاً واربعين إسماً( )، وكل اسم منها مدرسة كلامية وكنز للموعظة والعبرة وآيات من الحكمة، ولكن المنافقين صموا آذانهم عن هذه الأسماء وأسرارها ودلالاتها.
الثاني : إبتداء سورة الفاتحة بالبسملة وقد أختلف في جزئياتها من سورة الفاتحة ومن السور الأخرى ، ولكنها مرسومة في المصاحف .
وقال الشافعي وجماعة من العلماء أنها آية من كل سورة وإستدلوا عليه بأن الصحابة جردوا المصحف مما هو ليس بقرآن وما كتبوا البسملة أول كل سورة إلا وهي من ذات السورة .
ويتغنى المسلمون والمسلمات بالبسملة ويستحضرونها عند البدء بأي عمل ذي شأن ولكن المنافقين صموا آذانهم عن البسملة ومنافعها وما لها من الفضل العظيم .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يصاحبهم إسمه ، وأن يستعينوا به ويتخذوا النطق به بركة ومقدمة لقضاء الحاجات ودفع الملمات ، ولكن المنافقين أصروا على حرمان أنفسهم من منافع البسملة في النشأتين، ولم يكن بينها وبين الآيات التي تذم المنافقين وفق نظم القرآن إلا بضع آيات.
الثالث : قول [بسم الله الرحمن الرحيم]وتكراره في الصلاة والتلاوة والمعاملات تنمية لملكة الفصاحة عند المسلم ، وبعث للشوق في النفس بتلاوة القرآن .
الرابع : كثرة تلاوة البسملة إزاحة للنفاق ومفاهيم الكفر من النفس وسبب للطف الإلهي بالصبر لتقريبه إلى منازل الهدى وحسن الإمتثال .
الخامس : من إعجاز القرآن جذب المسلمين إلى مراتب الإيمان , ومنه النطق بالبسملة على نحو الوجوب والندب فالنطق بها واجب في الصلاة وإن كانت مندوبة ومستحبة , وقراءتها في الصلاة على وجوه :
الأول : من الفقهاء من يقرأها جهراً وعلى نحو الوجوب كالشافعي وهي قراءة أئمة أهل البيت .
الثاني : قراءة البسملة في الصلاة سراً وبه قال الإمام أحمد بن حنبل .
الثالث : عدم قراءتها سراً أو جهراً في الفريضة، وجواز قراءتها في النافلة , وبه قال الإمام مالك .
ويميل عموم المسلمين إلى النطق بها في الصلاة جهراً أو سراً لذا قال شطر من العلماء في المقام بأولوية العناية بتأليف القلوب (وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : نزلت علي آنفاً سورة ٌ فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر ،إن شانئك هو الأبتر ( ).
الرابع : قراءة البسملة سراً مع الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة وقراءتها مع كل سورة أمر حسن ، وبه قال ابو حنيفة .
والبسملة كنز وثروة نازلة من السماء، ومنع الله عز وجل ورسوله من إختلاف المسلمين في قرآنيتها بأن جاءت في أول سورة الفاتحة وفي أول كل سورة ثم وردت في وسط سورة النمل، إذ جاء حكاية عن بلقيس في كتاب سليمان لها [قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ* إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ).
ولقد دخلت بلقيس وقومها الإسلام ببركة البسملة ، ولكن المنافقين أصموا آذانهم عن آيات القرآن البالغة ستة آلاف ومائتين وستاً وثلاثين آية ، والبسملة واحدة منها .
وتقدير الخطاب بالبسملة إلى المنافقين على وجوه :
الأول : افتحوا آذانكم للبسملة .
الثاني : سماعكم البسملة رحمة لكم وبكم، ومن مصاديق الرحمة في المقام فتح الأسماع لتلقى الآيات وما فيها من الأوامر والنواهي.
الثالث : تدبروا في معاني البسملة .
الرابع : لا تفوتكم نعمة البسملة .
الخامس : إجعلوا أذهانكم تذعن للبسملة ودلالاتها .
السادس : لقد فاز المؤمنون بالإنصات للبسملة، فاقتدوا بهم .
والبسملة كنز نازل من تحت العرش ،وهي أول آية في نظم أفضل كتاب عرفته الأرض , وباقية ببقائه إلى يوم القيامة ، فلا يضر المنافق عندما يصم إذنه عن سماعها إلا نفسه ، فجاءت آية البحث لنجاته من هذا الضرر ، وهي وثيقة سماوية يتآلف بها المسلمون ويتعاهدون فيها وحدتهم وتكون جامعاً مباركاً يخرجون به إلى الناس ، وهي من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن أسباب داء الصمم عند المنافقين حال الإستكبار والعناد التي يتصفون بها ، والبسملة نزع لرداء الإستكبار لأنها تسليم بالحاجة للإستعانة بالله عز وجل واللجوء إليه وبيان الفقر الذي يتصف به الإنسان وتؤكد حب المسلمين لله عز وجل وإنقطاعهم إلى الدعاء بلحاظ أن البسملة نوع دعاء وتوسل وإفتتاح للعمل مبارك، وفيه ترغيب للمنافقين بترك الصمم بلحاظ أنه فعل إختياري وتسميته بالداء مجازاً في الوصف ، ففي كل ساعة يستطيع المنافق التبرأ والتخلف من الصمم لتكون البسملة أول وأكثر ما يطرق سمعه وينطق بها لسانه من الكلمات .
ومحاربة النفاق وإزاحة الصمم والبكم والعمى عن المنافقين من الغايات الحميدة للبسملة , وهو من إعجاز القرآن الغيري فلا يعلم منافع البسملة والغايات منها ومن تشريع إبتداء سور القرآن بها إلا الله عز وجل ، فان قيل كيف حارب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النفاق الجواب بالبسملة وهذا لا يتعارض مع محاربته بآيات القرآن الأخرى، والسنة الشريفة القولية والفعلية.
وقد ذكرت في الجزء الأول أن من مفاهيم البسملة ترسيخ لواء التوحيد في الأرض ، وطرد الشك من النفوس والمنع من سلطان الطواغيت على القلوب وعالم الألفاظ وهي سلاح عقائدي لمحاربة الكفر والجحود والنفاق ( ).
وهي إزاحة للصمم من الأذان إذ تقرعها طوعاً وقهراً لتكون الآية القرآنية واقية من النفاق وسلامة منه ، وحرباً دائمة عليه ، لقد أراد الله عز وجل للمسلمين علامة يعرفون بها من بين أهل الأرض وتميزهم برداء التقوى فجاءت البسملة إفتتاحاً وبداية لكل أمر ذي شأن يسمعها المؤمن فيزداد إيماناً وتوكلاً على الله ويسمعها الكافر فتبعث في نفسه الحزن والهيبة والخوف ، قال تعالى في الثناء على القرآن [قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى]( ).
ومن الغايات الحميدة للآية القرآنية أنها وسيلة سماوية مباركة لنقل المنافق من منازل الكفر والضلالة إلى مقامات الهداية والإيمان , ومن يحرم نفسه من هذه النعمة تكون البسملة حجة عليه.
صلة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]بقوله [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ]
إفتتاح القرآن بآية الحمد شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها دعوة سماوية تدعو إلى العبودية المحضة وتمنع من الشرك ما ظهر منه وما بطن ، وجاءت آية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) مطلقة من غير تقييد بنعمة مخصوصة وفيه مسائل :
الأولى :بيان لزوم إستحضار الحمد عند كل نعمة .
الثانية : في الآية تقدير متعدد بلحاظ كثرة النعم من جهات :
الأولى : الحمد لله لأنه رب العالمين ، وخص نفسه بالربوبية المطلقة ، فلم يشاركه أحد في الإلوهية .
الثانية : الحمد لله الذي جعل الحمد له سبحانه فاتحة الكتاب الباقي إلى يوم القيامة .
الثالثة : الحمد لله الذي جعل المسلمين يشكرونه بتلاوة الآيات وبصيغة القرآنية .
الرابعة : الحمد لله الذي جعل الخلائق كلها تقر له بالربوبية .
الخامسة : الحمد لله لأنه رب العالمين .
السادسة : الحمد لله الرحمن الرحيم بالعالمين .
السابعة : الحمد لله مالك يوم الدين ، ومن الآيات انه تعالى وصف نفسه بالرحمن والرحيم ثم اخبر بأنه مالك يوم الدين ، لبيان أن رحمته تعالى تتغشى الخلائق يوم القيامة لأن صفة الرحمن وردت في سورة الفاتحة على نحو الإطلاق في الموضوع والحكم والزمان وإرادة الحياة الدنيا وعالم البرزخ ويوم القيامة ، وهل تشمل الرحمة المنافقين ،الجواب نعم،
إذ تشملهم في الحياة الدنيا كما في آية البحث .
وتوالي الإنذارات على النفاق , والبشارات على التوبة والإيمان ، وإقتران كل إنذار وبشارة بالمعجزة والآية ، وذات الإنذار أو البشارة آية من عند الله سبحانه ، ومن رحمة الله بالمنافقين قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
ومعاني الرحمة في الآية أعلاه من وجوه :
الأول : بيان قبح النفاق .
الثاني : إنفراد المنافقين بعذاب شديد ومخصوص يوم القيامة .
الثالث : بعث النفوس للنفرة من النفاق .
الرابع : دعوة المسلمين لقول الحمد لله رب العالمين على السلامة والأمن من النفاق .
الخامس : الآية أعلاه رحمة بالمنافقين لأنها تدعوهم كل يوم لنبذ النفاق وترك أخلاقه ، ( وعن أبي أمامة عن رسول الله قال : العي والحياء : شعبتان من الإيمان ، والبذاء والجفاء : شعبتان من النفاق)( ).
فان قلت أنهم [صُمٌّ]عن سماع هذه الآية , والجواب ينحصر الصمم بالذين يصرون على البقاء في منازل النفاق مع سماع هذه الآيات ، أي كأنهم لم يسمعوا هذه الإنذارات والإخبار السماوي عن المنزل البئيس الذي أعد لهم يوم القيامة أما الذين يسمعون هذه الآيات فيتركون النفاق ويؤمنون [كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( ) فأولئك لم يعودوا من الصم ببركة القرآن وآياته .
ويكون تقدير الآية بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : الحمد لله الذي لم يجعلنا من الصم .
الثاني : الحمد لله الذي لم يجعلنا من البكم .
الثالث : الحمد لله الذي لم يجعلنا من العمي.
والحمد هو الشكر والثناء على الجميل , وقيل حمد مقلوب مدح مثل جذب وجبذ ، وبين المدح والحمد عموم وخصوص مطلق ، فالمدح أعم ويتضمن الثناء للصفات الذاتية وحسن السمت ، وللفضيلة والإفضال على الغير أما الحمد فهو أخص .
صلة[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] بـ [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ]
مع أن عالم الحساب ويوم القيامة متأخران زماناً عن عالم الدنيا ، فقد إبتدأ القرآن بعد الحمد والثناء بالإخبار عن ملك الله عز وجل ليوم القيامة وتسميته يوم الدين ولم يرد لفظ [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] ( )في القرآن إلا في سورة الفاتحة وجاء آية مستقلة بذاته لبيان موضوعية ولزوم إستعداد المسلمين والمسلمات له ليأتي في آخر القرآن بيان أهوال الآخرة بقوله تعالى [وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ* ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ* يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ]( ).
ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني هاشم وقريشاً وقال : (يا معشر قريش إنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، يا فاطمة بنت محمد انقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضراً ولا نفعاً ، ألا إن لكم رحماً وسابلها ببلاها)( ).
وإذا كان المنافقون لا يسمعون في الدنيا ففي يوم الدين يقع عليهم الجزاء وينزل بهم العذاب بسبب جعلهم ثقلاً على آذانهم .
ومن الإعجاز في قراءة المسلمين لسورة الفاتحة في الصلاة وعلى نحو الوجوب العيني المنبسط على كل فرد منهم ذكراً كان أو أنثى التجديد اليومي لإقرارهم بأمور :
الأول : إختصاص المحامد كلها بالله عز وجل ، والألف واللأم في الحمد للجنس، والجملة خبرية وليست إنشائية ،واللام في [لله] هي للإختصاص وفيه شاهد على بلوغ المسلمين مراتب الحكمة والتسليم بأن الكمال المطلق لله عز وجل وأن الكائنات كلها محتاجة إلى رحمته ، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ]( ).
الثاني : الإقرار بأن الرحمة المطلقة لا يقدر عليها إلا الله عز وجل وهو سبحانه يتغشى بها العباد والخلائق كلها ،ولا تستطيع الخلائق وأن إجتمعت ان تمسك او تحجب رحمته عن الفرد والأمة والناس جميعاً ، قال تعالى [مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا] ( ).
والمراد من الرحمة في الآية أعلاه ما تأتي إبتداءً وما تكون جزء متصلاً من مصاديق الرحمة ، ومنها آية البحث في الزجر عن النفاق .
الثالث : الإقرار بيوم القيامة .
ومن العلماء من قسم مسائل الشريعة إلى قسمين:
الأول : أصول الدين، وهي الأمور الإعتقادية التي يلزم التصديق والإقرار بها، كالتوحيد والنبوة والمعاد،( عن ابن عباس قال « جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلساً ، فأتاه جبريل فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضعاً كفيه على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا رسول الله حدثني عن الإِسلام؟ قال : الإِسلام أن تسلم وجهك لله عز وجل ، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله . قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت . قال : يا رسول الله حدثني عن الإِيمان؟ قال : الإِيمان أن تؤمن بالله ، واليوم الآخر ، والملائكة ، والكتاب ، والنبيين ، والموت ، والحياة بعد الموت ، وتؤمن بالجنة ، والنار ، والحساب ، والميزان ، وتؤمن بالقدر كله خيره وشره . قال : فإذا فعلت ذلك فقد آمنت . قال : يا رسول الله حدثني ما الإِحسان؟ قال : الإِحسان أن تعمل لله كأنك تراه فإن لا تراه فإنه يراك) ( ).
الثاني : فروع الدين وهي الفرائض والواجبات التي يجب إتيانها، وكذا النواهي التي يلزم تركها.
ولم يرد هذا التقسيم في الكتاب والسنة، ولكنه مستقرأ فيجب ألا يكون موضوعاً للخلاف وأصلاً في الأحكام وسبباً للشقاق والخلاف، خصوصاً مع التداخل بين الإعتقاد والعمل في الشريعة الإسلامية كما يتجلى في سورة الفاتحة وما فيها من العقائد، وقراءة المسلمين لها في الصلاة، لذا ورد في الحديث القدسي: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين( )، وبعد البدأ بالبسملة والثناء على الله عز وجل وبعث السكينة في نفوس المسلمين بقوله تعالى[الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، جاء إعلان المسلمين التسليم بأنه ليس من مالك يوم القيامة إلا الله عز وجل لذا قال سبحانه بخصوص الشفاعة[وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( ).
وتضمن قوله تعالى[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( )، مسائل:
الأولى : مع أن يوم الدين هو زمان وفصل وحكم فإن له مالك، وليس من مالك للزمان مطلقاً في أفراده الطولية إلا الله عز وجل وهو من أسرار تسمية الآخرة بلفظ(يوم) وإلا فإن التبدلات التي تطرأ على اليوم من جهة الصباح والضحى وأوان الزوال والغروب منتفية ومعدومة في الآخرة، للدلالة على إتصال الحساب فليس من فترة وسكن كما يحصل بدخول الليل وإستئناف العمل في اليوم التالي، قال تعالى[وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ]( ).
الثانية : بيان إتحاد الملكية في الدنيا والآخرة ،وأنها جميعاً عائدة لله عز وجل في ملكيتها، كما ورد قوله تعالى بخصوص العوالم المختلفة والربوبية المطلقة لله عز وجل[وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ]( ) فكذا إن الملكية لله في الدنيا وعالم البرزخ والآخرة، وفاز المسلمون بالتسليم بهذا القانون في الإرادة التكوينية.
الثالثة : بيان معنى ووصف مخصوص ليوم القيامة وهو يوم الجزاء والثواب , وفيه وجوه:
الأول : الحساب والجزاء.
الثاني : الملك والسلطان، كما قوله تعالى[مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ]( ).
الثالث : الطريقة، كما في قوله تعالى[َلكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
الرابع : الفصل والحكم.
الخامس : الدين نوع مفاعلة تتقوم بخضوع وذل أحد الطرفين للآخر.
السادس : إنه يوم الدين، أي يوم تحضر العقائد والمذاهب فيكون الجزاء عليها، ولا يقبل يومئذ إلا التسليم لله سبحانه بالربوبية المطلقة، كما في سورة الفاتحة، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
وهل يصح القول بلحاظ الآية السابقة القول أن يوم القيامة هو الإسلام , الجواب نعم، مع حضور الأديان والملل الأخرى، ولكن الله لا يقبل إلا التوحيد والتسليم بربوبيته المطلقة والإقرار بأنه[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( ).
أسماء يوم القيامة
لقد جعل الله عز وجل الدنيا مزرعة ودار مرور إلى الآخرة، ويرى الإنسان من حوله يتخطف بعضهم الموت بالأجل المحتوم، أو المنخرم، ليكون الموت إنتقالاً إلى عالم آخر، وليس نهاية فحسب، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ]( ).
فالموت له شأن وقدرة على الحضور بمشيئة الله عز وجل ليكون مقدمة لإجتماع الناس جميعاً للحساب يوم القيامة وتتعدد أسماء يوم القيامة وتتوزع في سور القرآن.
ومن أسرار تعددها وجوه:
الأول : بيان الشأن العظيم ليوم القيامة.
الثاني : دعوة الناس للإلتفات إلى موضوعية يوم القيامة.
الثالث : إنذار الناس من الغفلة عن المعاد.
الرابع : منع الجهالة بخصوص يوم القيامة لأن هذه الجهالة مهلكة.
الخامس : إقامة الحجة على الناس بلزوم أخذ الزاد والعدة إلى يوم[َتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ]( ).
السادس : كل اسم من أسماء يوم القيامة له معان , وتقتبس منه المواعظ والعبر، وهو من مصاديق التكامل في الشريعة الإسلامية وعمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
بلحاظ أن هذه الأسماء تخترق شغاف القلوب.
السابع : مجيء الأسماء بلحاظ أوصاف متعددة ليوم القيامة بما يفيد إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية.
الثامن : لما جاء قوله تعالى في الثناء على القرآن[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، جاء توالي أسماء الآخرة بياناً لأهوال يوم القيامة، وتفصيلاً لعالم الجزاء، ليستحضر الناس مواطنه في الوجود الذهني، وكأنهم ينظرون إليها وهي أمامهم، كما تفضل الله عز وجل ليلة الإسراء بجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحدى قريش.
وفي حديث أم هاني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال صبيحة ليلة الإسراء فجلا الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه، فقال بعضهم: كم للمسجد من باب؟ ولم أكن عددت أبوابه فجعلت أنظر إليها وأعدها باباً باباً وأعلمهم، وأخبرتهم عن عير لهم في الطريق وعلامات فيها ، فوجدوا ذلك كما أخبرتهم)( ).
التاسع : لقد أراد الله عز وجل أن تكون آيات القرآن تذكيراً بيوم القيامة، فوردت أسماؤه بعدد من سور القرآن، ليمر المؤمن في ورده وتلاوته على آية تذكره بيوم القيامة، وبعظيم ثواب الجنة فيسأل الله الفوز به، ويتلو آية تتضمن شدة عذاب النار فيتضرع إلى الله عز وجل للنجاة منها .
ومن الإعجاز في التلاوة أن أول سورة في نظم القرآن ذكرت يوم القيامة وأنه يوم ينفرد الله عز وجل بملكيته الدائمة والسلطان المطلق فيه، وهذه السورة هي سورة الفاتحة التي يتلوها كل مسلم ومسلمة على نحو الوجوب العيني سبع عشرة مرة في اليوم، عدا التلاوة في الصلاة المستحبة، والتلاوة خارج الصلاة، وفي قوله تعالى[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( ) ،بشارة وإنذار تجمعهما آية واحدة هي قوله تعالى[لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
أي يأتي كل منا يوم القيامة بدينه وإعتقاده , فيكون الحساب على الدين والملة، فيثاب المؤمنون ويعاقب الكافرون، وهل يصح توجه الخطاب في الآية أعلاه للمنافقين خاصة وأنهم أشد عذاباً من الكفار يوم القيامة الجواب لا، لأن هذا الخطاب جاء لمشركي مكة وأمثالهم إلى القيامة، ولأن النفاق ليس بدين، إذ يعلن المنافق التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخفي الكفر.
العاشر : كثرة أوصاف يوم القيامة، وتعدد مواطنه، وحال الأهوال والشدائد فيه، ليدل كل اسم على وصف مخصوص لا يستوعبه اسم آخر.
الحادي عشر : بيان إكرام الله عز وجل بيوم القيامة والذين يؤمنون به، ويجتهدون بالعمل للأمن فيه.
ويمكن تقسيم أسماء يوم القيامة بلحاظ جهة الصدور إلى وجوه:
الأول : الأسماء التي وردت في القرآن , وهي الأصل والأم لأسماء يوم القيامة وإلى زمان البعث.
الثاني : ما ورد في السنة النبوية من أسماء يوم القيامة، والسنة هي المصدر الثاني للتشريع، وهي مرآة وتفسير للقرآن، وأخرج عن سلمان قال: إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السموات والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة)( )، ويمكن تسمية يوم القيامة بيوم تسع وتسعين رحمة .
الثالث : أسماء يوم القيامة المستقرأة من القرآن ومضامينه القدسية، وما فيه من الإخبار عن خلود المؤمنين الذين يعملون الصالحات في الجنة وما أعد الله لهم من النعم، وما يلاقيه الكفار من العذاب الأليم ، مثل: يوم الوعد، إستقراء من قوله تعالى[وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ]( ).
وقد ورد نحو سبعة وعشرين إسماً ليوم القيامة في القرآن ليس فيها إسم(يوم الجزاء) وهذه الأسماء هي:
الأول : (الآخرة) وورد في القرآن مائة وتسع مرات وذات العدد، ورد للفظ(الدنيا) وهو من الإعجاز في التوافق في الأعداد في القرآن ودعوة للتأمل بأسرار الأعداد والكثرة فيها، مع ذكر كل من الدنيا والآخرة بألفاظ أخرى، قال تعالى[فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( )، نعم ورد بخصوص فرعون قوله تعالى[فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالْأُولَى]( )، وفيه وجوه:
الأول : العقوبة في الدنيا والعقوبة في الآخرة.
الثاني : إرادة غرق فرعون في الدنيا، ودخوله النار في الآخرة.
الثالث : عن مجاهد : الأولى[مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي]( )، والآخرة قولهأَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى( ).
الرابع : عذاب الأولى الإمهال، والآخرة في النار عن الربيع( ).
الخامس : الجمع بين عقوبة الدنيا والآخرة معاً في الآخرة لأن الله عز وجل أفاض عليه من النعم في الدنيا إستدراجاً.
والنكال مصدر بمعنى التنكيل والتعذيب الذي ينكل من يراه أو يسمعه فينصرف عن الأسباب والمقدمات التي أدت إلى هذا العذاب، قال تعالى[فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا]( )، وظاهر لفظ أنكال، في سياق الآية أنه أعم من أن يختص بالغير ومن سمع أو رأى العقوبة بل يشمل ذات فرعون ونزول العذاب به وهو من مصاديق الأخذ وعلة البطش به بالإضافة إلى أن الآية التالية لها أخبرت عن علة الإنتقام من فرعون بالنسبة للغير بقوله تعالى[إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى]( )، أي أن اسم الإشارة(ذلك) لا يختص بحال من سمع ورأى عقوبة فرعون بل يشمل ذات فرعون وجنوده.
ومن معاني لفظ(الآخرة) في الآية إرادة العوالم ما بعد الموت، ومنه عذاب البرزخ الذي يتعرض له فرعون وجنوده وما فيه من العبرة والموعظة بلحاظ توثيق القرآن له , قال تعالى[النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا]( ).
الثاني : يوم القيامة، وهو أكثر أسمائه في القرآن بعد إسم(الآخرة) ورد سبعين مرة، ومن الإعجاز أن لفظ (القيامة) لم يرد إلا مقترناً بلفظ(يوم) قال تعالى[لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ]( ).
ولم يرد القسم باليوم الآخر إلا بالآية أعلاه.
الثالث : اليوم الآخر :ورد في القرآن ستاً وعشرين مرة , قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ] ( )وفي إقتران الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله عز وجل ، وتقديمة وتعقبه للإيمان بالله، وتقديمه لوجوه الإيمان الأخرى آية عقائدية تبين موضوعيته لأنه مقدمة ومدخل للتصديق بالكتاب والنبوة .
الرابع : الدار الآخرة ، وردت ست مرات في القرآن ، وفيه دلالة على أن الآخرة دار سكن وإقامة، وليس بعدها مسكن وموطن للناس.
وورد لفظ [الدَّار] في القرآن ستاً وعشرين مرة كلها في الدار الآخرة إلا واحدة في قوله تعالى [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ]( ) في الثناء على الأنصار، فلم يرد لفظ الدار بخصوص الدنيا إلا في الآية أعلاه لبيان أن جهاد وتضحية وإيثار الأنصار مقدمة لإقامتهم في الجنة وكأن سكنهم في المدينة إقامة في الدار الآخرة والنعيم الذي يفوز به المؤمنون الذين عملوا الصالحات .
وفيه إشارة إلى أن الدنيا منزل فناء وزوال لا يستحق اسم الدار كما تستحقه الآخرة ، وفيه منع للركون إلى الدنيا والغرور بزينتها (وعن الإمام علي عليه السلام قال مخاطباً الدنيا: إلي تغررت، إلي تشوفت، هيهات هيهات غري غيري قد بتتك ثلاثا فعمرك قصير ومجلسك حقير وخطرك يسير آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق) ( ).
فوصف العمل والإجتهاد بالسفر البعيد والطريق الوعرة، وشهد بانها محل إبتلاء وإختبار وليس دار سكن .
الخامس : الساعة , أي أوان يوم القيامة في إشارة إلى سرعة قيام الآخرة ، وعجز الناس عن التدارك ، ويظهر أن هذا الاسم ودلالته معروفان عند الناس إذ أنه يبعث الفزع والخوف في النفوس في إنقطاع أيام الدنيا بغتة وفجأة بساعة من نهار ، قال تعالى [يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ]( ).
ومنهم من قسم الساعة والقيامة إلى ثلاثة وجوه :
الأول : الساعة الصغرى : وتتعلق بالفرد الواحد من الناس ، وفي الخبر (عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : من مات فقد قامت قيامته)( ).
ولعله ليس من سند معتبر ينسب هذا الحديث إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الساعة الوسطى ويراد منها موت الطبقة وأهل القرن الواحد من الناس .
الثالث : الساعة الكبرى والمراد يوم القيامة .
وإذا ورد لفظ الساعة على نحو الإطلاق فالمراد منه يوم القيامة .
السادس : يوم البعث، ومن الإعجاز في المقام أن هذا الاسم ينفرد وبوروده مرتين في القرآن وفي آية واحدة منه، قال تعالى[لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : ذكر الخاص وإرادة العام ،إذ أن يوم القيامة أعم من حال البعث.
الثانية :الإخبار عن حتمية البعث وهو أمر قهري يشمل الناس جميعاً .
الثالث : بعث الفزع والخوف من البعث في النفوس (عن سلمة بن سلامة وقش وكان من أهل بدر قال: كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل ، فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيسير حتى وقف على مجلس بني الأشهل ، قال سلمة : وأنا يومئذ أحدث من فيه سناً ، عليّ بردة مضطجعاً فيها بفناء أهلي ، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، قال: ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت. فقالوا له: ويحك يا فلان ..! ترى هذا كائناً أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال : نعم ، والذي يحلف به يودّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه وأن ينجو من تلك النار غداً . قالوا له : ويحك وما آية ذلك؟! قال : نبي يبعث من نحو هذه البلاد ، وأشار بيده نحو مكة واليمن . فقالوا : ومتى نراه؟ قال : فنظر إليّ من أحدثهم سناً أن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه ، قال سلمة : فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين أظهرنا ، فآمنا به وكفر به بغياً وحسداً ، فقلنا ويلك يا فلان ألست بالذي قلت لنا؟! قال : بلى ، وليس به) ( ).
الرابعة : دعوة الناس للإستعداد ليوم البعث والنشور بالإيمان والعمل الصالح.
السابع :يوم لا ريب فيه , وهو من أسماء يوم القيامة وفيه نص قرآني قال تعالى [فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ]( ).
ومن الإعجاز في هذا الاسم دلالته في المفهوم على أن كل يوم من أيام الدنيا فيه ريب فقد تداهمه الساعة والنفخ في الصور إلى يوم القيامة فهو قطعي الحدوث ، وإن قلت أن الله عز وجل يعلم بأوان يوم القيامة ، وهو سبحانه يعلم الأيام والأحقاب التي تسبقه , والجواب هذا صحيح ، ولكن الريب يتعلق بالناس ، فما داموا يجهلون أوان يوم القيامة فلابد أن يكون في ريب من تمام أي يوم من أيام الدنيا ، ومثاله ومرآته هو إحتمال مداهمة الموت للإنسان في أي يوم من أيام حياته .
إذ تحل الساعة فجأة بالناس وهم يزاولون أعمالهم ويطلبون معاشاتهم ويسعون في حوائجهم(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما ، فلا يتبايعانه ، ولا يطويانه . ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه، فلا يسقي فيه . ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه. ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها)( ).
الثامن : يوم الدين، وهو أول أسماء يوم القيامة ذكراً في نظم القرآن ، وأكثرها تلاوة على ألسنة المسلمين ، وبينه وبين غيره من الأسماء في عدد التلاوة والذكر مراتب كثيرة إذ أنه آية مستقلة من سورة الفاتحة التي يقرأها كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم أو يستمع شطر منهم إلى تلاوة الإمام الجهرية وهي الصبح والمغرب والعشاء , قال تعالى[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( ).
ومن الإعجاز في أسماء يوم القيامة أن كل اسم له معنى ودلالات بلحاظ التسمية والموضوع ونظم الآية، فتبعث الآية أعلاه الغبطة في نفوس المؤمنين لأن الحساب والجزاء ومواطن القيامة كلها بيد الله وقد تقدم قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ) في دعوة المسلمين لعدم الفزع أو الخوف أو لزوم واسطة للجمع بين الآيتين إذا كانتا متباعدتين، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) أي أن عدم الخوف والحزن من أهوال يوم القيامة حاضر ومصاحب للمؤمنين في الحياة الدنيا ، وهو لا يتعارض مع ذكرها وإظهار الفزع منها لأنه مناسبة للإستغفار والإنابة والإجتهاد في عمل الصالحات.
ومن إعجاز نظم القرآن أن هذا الاسم مثلما هو أول أسماء يوم القيامة وروداً في نظم القرآن فانه أول اسم لها صاحب هبوط آدم وحواء وإبليس إلى الأرض .
قال تعالى في خطاب لابليس عندما أبى السجود لآدم عليه السلام [قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ] ( )ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وموضوع التسمية فيها وبين تسمية يوم القيامة بيوم الدين في سورة الفاتحة أموراً :
الأول : تعاهد المسلمين للتصديق بالمعاد .
الثاني : التأكيد المتجدد لإستحقاق آدم لسجود إبليس له ، لأن ذريته عمرت الأرض بالعبادة والتقوى ، وصار جزء من عباداتهم اليومية التسليم بيوم الدين .
الثالث : بيان التضاد بين نزول اللعنة كل يوم بإبليس، ونزول شآبيب الرحمة بآدم وذريته كل يوم .
الرابع : بيان قانون وهو أن القرآن هو الذي حفظ ذكر يوم القيامة بذات الاسم الذي سمّاه الله عز وجل به يوم خلق آدم .
التاسع : يوم [يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ]( ) إرادة سماع الناس جميعاً النفخ في الصور ، وأن القيامة تأتيهم بالحق والبرهان وتحقق شرائطها وأسبابها ومقدماتها كترك الناس لواجباتهم العبادية ، ومن الإعجاز أن هذا الاسم والاسم التالي جمعتهما آية قرآنية واحدة .
العاشر : يوم الخروج : ولم يرد هذا الاسم والاسم السابق في القرآن إلا في آية واحدة أختتمت بهما ، قال تعالى [يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ]( ).
وفيه مسائل:
الأولى : بيان موضوعية التذكير بيوم القيامة في القرآن وأسمائه وهو من مصاديق (مدرسة يوم القيامة ) التي تفيد تنمية ملكة التصديق بالمعاد وإستحضار المؤمن والمؤمنة لعالم الحساب عند الشروع بفعل أو النطق بكلام , قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
الثانية : تجليات إعجاز القرآن بتخصيص آيات من القرآن خاصة بالجمع بين إسمين من أسماء يوم القيامة.
الثالثة : دلالة كثرة أسماء يوم القيامة على عظيم شأنه وإخبار بأنه عالم الخلود الذي يتقوم بالعمل في الدنيا بلحاظ أنه جزاء ، وهل يوم القيامة جزاء محض، الجواب لا، إذ يكون فيه العفو والرحمة من عند الله ، والشفاعة الحسنة بلطفه، لذا لم يرد في أسماء يوم القيامة اسم (يوم الجزاء ) رحمة من عند الله وطرداً للفزع والخوف من نفوس المسلمين في الحياة الدنيا ، وهو من مصاديق الإطلاق الزماني في قوله تعالى [فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ولم تكن الآخرة وحدها دار الخروج ، بل أنعم الله عز وجل على الناس في الدنيا وأخرج المسلمين للناس ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ليكون من مصاديق أفعل التفضيل[خَيْرَ] خروجهم للناس بالإيمان والتقوى، وجعل الناس يخرجون من قبورهم يوم القيامة بذات التوبة والإنابة التي اقتبسوها وتحلوا بها ببركة خروج المسلمين لهم ، وخروج المسلمين للناس باق ومتجدد إلى يوم القيامة ، وهو حجة ورحمة من عند الله بالناس فلا يغادر الأرض إلى أن يأتي الخروج الأكبر وهو البعث من القبور.
ويحتمل المراد من [يَوْمُ الْخُرُوجِ] وجوهاً :
الأول : خروج الموتى من قبورهم .
الثاني : المراد من الخروج اسم من أسماء يوم القيامة .
الثالث : بروز الناس للحساب وإنكشافهم في مواطن الآخرة وعدم خفاء أو تستر واحد منهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه إذ أن خروج الموتى من القبور جزء من يوم القيامة وبداياتها بالإضافة إلى قرينة ورود لفظ [يَوْمُ]في الآية، ويدل على إفادة المعنى الأول قوله تعالى [وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى]( ).
لتكون الصيحة وبعث من القبور وبروز الناس للحساب من أفراد يوم القيامة، وقد يقال أن الاسم التالي يدل على أن خروج الناس من القبور مقدمة ليوم القيامة، ولكنه من أفراد يوم القيامة ، (وقد ورد أن الإمام علي بن الحسين عليه السلام يحدث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: وحدثني أبي أنه سمع أباه علي ابن أبي طالب (عليه السلام) يحدث الناس.
قال: إذا كان يوم القيامة بعث الله تبارك وتعالى الناس من حفرهم غرلا بهماً جردا مردا في صعيد واحد يسوقهم النور وتجمعهم الظلمة حتى يقفوا على عقبة المحشر فيركب بعضهم بعضا ويزدحمون دونها فيمنعون من المضي، فتشتد أنفاسهم ويكثر عرقهم وتضيق بهم أمورهم ويشتد ضجيجهم وترتفع أصواتهم قال: وهو أول هول من أهوال يوم القيامة، قال: فيشرف الجبار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة فيأمر ملكا من الملائكة فينادي فيهم: يا معشر الخلائق أنصتوا واستمعوا منادي الجبار، قال: فيسمع آخرهم كما يسمع أولهم قال: فتنكسر أصواتهم عند ذلك وتخشع أبصارهم وتضطرب فرائصهم وتفزع قلوبهم ويرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصوت (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي) ( )، قال: فعند ذلك [يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ]( ) قال: فيشرف الجبار عز وجل الحكم العدل عليهم فيقول: أنا الله لا إله إلا أنا الحكم العدل) ( ).
الحادي عشر : (يوم مجموع له الناس) ورد هذا الاسم مجتمعاً مع الاسم التالي ليوم القيامة في قوله تعالى [يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ]( )وفيه نكتة وهي أنه حق وأمر حاضر إنما الناس يجمعون له من القبور والبحار .
وهل في الآية دلالة على سكن شطر من الناس في آخر الزمان في الكواكب الأخرى ويكون تقدير الآية : يوم مجموع له الناس من قبور وعموم الأرض والكواكب الأخرى ، والجواب لا دليل عليه إلا بقرينة، ولكنه لا ينفي هذه الحقيقة وإمكان سكن الناس في الكواكب الأخرى، وهذا المعنى لا يتعارض مع قوله تعالى [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى]( ) ( ).
الثاني عشر : يوم مشهود، ويجتمع هذا الاسم مع الاسم السابق في الآية أعلاه لتتقوم الحياة الدنيا بذكر الله عز وجل وإستحضار يوم القيامة ومواطن الحساب والجزاء فيه ، فيكون سبباً لتعاهد الناس لعبادة الله عز وجل ، وإجتهادهم في عمل الصالحات ، وهل فيه دعوة للمسلمين لحث الناس على التقوى .
الجواب، نعم، لما فيه من الثواب لهم يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وعن أبي الدرداء :قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن سيد الأيام يوم الجمعة ، وهو الشاهد والمشهود يوم عرفة) ( ).
وفيه آية وبيان لمرآة ومقدمة ليوم القيامة، تكون فيها النجاة من أهوال وأحزان اليوم المشهود من الملائكة والخلق ، ليكون يوم عرفة أمناً وسلامة يوم القيامة لمن وقف فيه يوم التاسع من شهر ذي الحجة مؤدياً لفريضة ومناسك الحج ، وهو من أسرار مجئ فريضة الحج بصيغة الجملة الخبرية ولغة الإطلاق بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
لم يرد يوم مشهود ولفظ [مَجْمُوعٌ] في القرآن إلا مرة واحدة وبخصوص يوم القيامة , قال تعالى [ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ]( ) .
ويمكن إفراد بحث مستقل إسمه :أسماء يوم القيامة التي لم يرد لفظها في القرآن إلا مرة واحدة ، وهو علم كلامي له دلالاته بمخاطبة العقول بأمور تخص الجنة وحدها ،لأن أهوالها فوق مدارك العقل البشري فتفضل الله عز وجل وقرّبها بالبيان القرآني وجعلها كالمحسوسات فيشمل أهل السموات والخلائق حساب بني آدم وعالم الجزاء .
ولما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )جاء ذكر أسماء يوم القيامة من مصاديق رد الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فمن علمه تعالى أنه يجعل الملائكة تشهد وقوف الناس جميعاً بين يديه للحساب ليزف الذين آمنوا وتوارثوا سنن الخلافة في الأرض إلى النعيم الدائم , ويساق الذين أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء إلى النار , قال تعالى [مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا]( ).
الثالث عشر : يوم الصاخة، أي تصخ الآذان وتصمها من شدة الصوت وقوة وقعها ، ورجل أصخ وأصلخ وهو أشد مراتب الطرش ، وقد تقدمت الإشارة إليه .
وتحتمل علة صخ وصمم الآذان وجوهاً :
الأول : إرادة النفخة الأولى .
الثاني : المقصود النفخة الثانية .
الثالث : شدة أمر ووطأة يوم القيامة , ومجئ بداياته وأهواله على نحو مفاجئ .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , لذا ذكرت الآية تسمية الصاخة باليوم (يوم الصاخة ) لإنبساط حال الصمم في الصيحة وما بعدها بما يشاء الله عز وجل.
ويحتمل التفصيل :
الأول : إصابة الصلخ خصوص المنافقين ، قال تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] ( )فكما كانوا في الحياة الدنيا معرضين عن الآيات وممتنعين عن التدبر في معجزات النبوة فكذا في الآخرة .
الثاني : نزول الصمم والصلخ بالكفار، وفي ذم الكفار الذين يدعوهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيمان ورد قوله تعالى [وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ]( ).
الرابع عشر : القارعة: سمي بها يوم القيامة لأنه يقرع بها الأسماع بالصوت المدوي للصور وبضروب الفزع وشدة الأهوال ، والقرع لا يختص بالأسماع فلذا جاء لفظ القارعة مطلقاً لذا جاءت سورة مستقلة بهذا الاسم , وتكرر في ثلاث آيات منها بقوله تعالى [الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ] ( ).
ويصيب القرع الخلائق ، إذ تنشق السماء وتدك الجبال ، وتطمس وتنكدر النجوم .
ولا يختص اسم القارعة بالإسلام ونزول القرآن ، فهو سابق في زمانه للإسلام وجاء به الأنبياء مبشرين ومنذرين ، قال تعالى [كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ]( ).
الخامس عشر : الطامة الكبرى : قال تعالى [فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى]( ) والطامة هي الداهية والمصيبة ، والطام : الشئ الكثير ، ولأن الدنيا دار إبتلاء وقد تنزل بالإنسان في أيامها المصائب فجاء تقييد خصوص طامة الآخرة بأنها الكبرى لوجوه :
الأول : بيان المائز بين أهوال يوم القيامة وبين مصائب الدنيا .
الثاني : تنزل كوارث الدنيا على نحو القضية الشخصية وتصيب الفرد والجماعة ولكن أهوال يوم القيامة تتغشى الناس على نحو العموم المجموعي.
الثالث : التخفيف عن المسلمين والمسلمات عند وقوع مصيبة بهم ، إذ يستحضرون يوم الطامة الكبرى فتهون مصيبتهم ويذكرون الله عز وجل ويرجون رحمته في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
السادس عشر : يوم الفصل : ورد هذا الاسم في القرآن ست مرات ، وكلها بخصوص يوم القيامة ، وجاءت ثلاث منها في سورة المرسلات ، قال تعالى [ِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ] ( )ومن معاني الفصل في الآية وجوه :
الأول : الفصل والحكم بين الناس .
الثاني : الأخذ من سيئات الظالم , وإضافتها على هيئة حسنات للمظلوم .
الثالث : الفصل بين الحق والباطل ، وفضح المنافقين الذين [إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( )وإن كان الله لم يتركهم في إفترائهم وإدعائهم الإصلاح بل تفضل وفضحهم وأخزاهم في الآية التالية بقوله [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ]( ).
ليكون يوم القيامة هو يوم الشهود، ويدرك كل إنسان حقيقة وماهية عمله وعمل غيره من الناس فيذهب هباء الكذب وتزيين الباطل أو طمس الحق , وما خالف الصدق .
الرابع : الفصل بين المؤمنين والكفار، فيؤخذ المؤمنون إلى الجنة واللبث الدائم في النعيم , أما الكفار فقال الله تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا]( ).
الخامس : الفصل بين المتحاربين , لتكون حقيقة النصر والغلبة في معارك الدنيا للمؤمنين ، والهزيمة والخزي للكفار ، ويتجلى النصر بدخول الجنة والهزيمة بصيرورة النار مأوى .
السادس : الفصل بين الخلائق لأصالة الإطلاق في معاني الفعل وللنص.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله تبارك وتعالى إذا برزلخلقه أقسم قسما على نفسه فقال: وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كف بكف، ولو مسحة بكف، ونطحة ما بين الشاة القرناء إلى الشاة الجماء) ( ).
قال عبد الله بن عمر إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الدواب و البهائم والوحوش ثم يجعل القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء التي نطحتها , وقال مجاهد يقاد يوم القيامة للمنطوحة من الناطحة وقال مقاتل إن الله يجمع الوحوش و الهوام و الطير و كل شيء غير الثقلين فيقول من ربكم فيقولون الرحمن الرحيم فيقول لهم الرب بعد ما يقضي بينهم حتى يقتص للجماء من القرناء إنا خلقناكم و سخرناكم لبني آدم وكنتم مطيعين أيام حياتكم فارجعوا إلى الذي كنتم كونوا ترابا فتكون ترابا فإذا التفت الكافر إلى شيء صار ترابا يتمنى فيقول يا ليتني كنت في الدنيا على صورة خنزير رزقي كرزقه و كنت اليوم أي في الآخرة تراباً) ( ).
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا جعلت له يوم القيامة صفائح ، ثم أحمي عليها في نار جهنم ، ثم يكوى بها جبينه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين الناس ، فيرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار( ).
السابع عشر : يوم الحسرة : والحسرة هي الحزن الندامة المقرونة بالأسى ويحتمل وجوهاً :
الأول : حسرة الكفار التي تصاحبهم في مواطن الآخرة كلها .
الثاني : حسرة الناس جميعاً ، فالمؤمن يندم لأنه لم يزد من الحسنات إكتساباً، ويكون معنى الحسرة حينئذ من اللهفة ،قال تعالى [يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون]( ).
وأستدل على العموم وإرادة الناس جميعاً بقوله تعالى [وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ]( ) أي أنذر الناس جميعاً، ولكن لا ملازمة بين الإنذار بالحسرة ونزولها بالناس إذ يأتي الإنذار للجميع , ولكن الحسرة تصيب الذين كفروا خاصة ، وهو المختار ويدل عليه ايضاً قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يؤتى بالموت في هيئة كبش أملح ، فيوقف على الصراط فيقال : يا أهل الجنة . فيطلعون خائفين وجلين مخافة أن يخرجوا مما هم فيه . فيقال : تعرفون هذا؟ فيقولون : نعم هذا الموت فيقال : يا أهل النار . فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا مما هم فيه . فيقال : أتعرفون هذا؟ فيقولون : نعم . هذا الموت . فيؤمر به ، فيذبح على الصرط ، فيقال للفريقين : خلود فيما تجدون ، لا موت فيها أبداً) ( ).
الثامن عشر : يوم الخلود ، لم يرد لفظ الخلود في القرآن إلا بخصوص عالم الآخرة , قال تعالى[ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ]( ) نعم تكرر فيه لفظ خالدين ستاً وأربعين مرة.
وفيه دلالة على أن الخلود لا يختص بأهل الجنة وإن جاء اسم [يَوْمُ الْخُلُودِ]عند الإخبار عن دخولهم الجنة بسلام ، ليفيد الجمع بين الآيات إنتفاء الموت يوم القيامة .
ومن الأسرار في تسمية يوم القيامة بيوم الخلود بعث الشوق في النفوس للقاء الله والزهد في الحياة الدنيا وزينتها ، وعدم الخوف أو الخشية من الموت، وبث الفزع والرعب في قلوب الكفار لأن مصيرهم هو إستدامة البقاء في النار.
التاسع عشر : الغاشية: وهي الداهية والبلاء العظيم الذي ينزل بالناس، وتحيط بهم أهواله، قال تعالى[هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ]( ).
وجاءت الآية أعلاه بصيغة الإستفهام التعجبي وفيه مسائل:
الأولى : الدلالة على أن الآخرة تسمى في الكتب السابقة وعند المليين من الأمم السابقة بالغاشية.
الثانية : بيان وجود أخبار يوم القيامة وذكر أهوالها عند الأمم السابقة.
الثالثة : تسمية الآخرة بالغاشية من الأمور السالمة من التحريف في الكتب السماوية السابقة، وأن الناس يدركون أن الساعة تتغشاهم جميعاً، الأموات والأحياء، أما الأموات فيبعثون من القبور، وأما الأحياء فتأخذهم وتتغشاهم الصيحة.
وعن ابن عباس: الغاشية: القيامة)( ).
العشرون : يوم الوعيد.
من إعجاز القرآن مجيء ونظم ودلالة لفظ الوعيد في القرآن، إذ ورد ثلاث مرات:
الأولى : الإخبار عن تكرار الوعيد في القرآن , قال تعالى[وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( )، وفيه وجوه:
الأول : إختصاص الوعيد والتهديد الشديد بالكفار لأن خاتمة الآية أعلاه تفيد أن الغاية من الوعيد رجاء توبتهم وإظهارهم التقوى والإتعاظ والإنزجار عن المعاصي.
الثاني : الدلالة على سلامة القرآن من التحريف، لأن التغيير لا يطرأ على مصاديق التخويف والوعيد في القرآن.
الثالث : إنتفاع فريق من الناس من آيات الوعيد في القرآن لورود لعل في الآية بقوله تعالى[لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا]( )، ولعل تفيد التوقع والترجي لمحبوب والإشفاق في المكروه، وهي في المقام من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً.
الرابع : جاءت الآية بصيغة التبعيض(من الوعيد) لبيان كفايته للتوبة والصلاح، وللحجة على الناس، ولعل التبعيض بخصوص المتكرر من الوعيد، وفي تفسير الآية أعلاه قام بعض الأعلام، بنقل عبارات من تفسير أبي السعود( )، أو مع تغيير بسيط.
الخامس : بيان فضل الله عز وجل على الناس جميعاً , ومنهم الكفار بنزول القرآن رحمة بهم، لما فيه من البعث على الصالحات، والزجر عن الآثام.
الثانية : إقامة الحجة على الكفار يوم القيامة عند وقوع الخصومة والنزاع والتبرأ بينهم، قال تعالى[لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ]( )، وجاء الوعيد في هذه الآية بصيغة الإطلاق، بينما ورد في القرآن بصيغة التبعيض، وفيه وجوه:
الأول : ضروب ووجوه الوعيد من عند الله أعم من أن يختص بها كتاب منزل.
الثاني : إرادة الوعيد الذي ورد على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي سنته الفعلية، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثالث : ورود الوعيد على لسان الأنبياء السابقين لأن أهل النار من الأحقاب المتباينة.
الرابع : مجيء الوقائع والحوادث موعظة وإنذاراً ووعيداً، قال تعالى[قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
الخامس : إرادة ما يكفي من الوعيد لتحقيق التوبة والإنابة.
الثالثة : تسمية الآخرة بيوم الوعيد ، قال تعالى[وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ]( )، وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول : النفخ في الصور من مصاديق يوم الوعيد.
الثاني : معنى النفخ في الصور هو: ذلك يوم الوعيد، كأن الصور يتلفظ بكلام تفهمه الخلائق أو شطر منها، أو الملائكة على نحو الخصوص، قال تعالى[ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ]( )، أي أن السموات والأرض تسمع وتستجيب مع الإختيار الذي يدل على حسن الإنقياد لأوامر الله، وأنها تتكلم بلسان ولغة مفهومة.
الثالث : إرادة المعنى الأعم الجامع للوجهين أعلاه.
الرابع : تعلم الخلائق أن النفخ في الصور لا يكون إلا للإعلان عن بدء يوم القيامة لذا ورد قوله تعالى[وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ]( )، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خلق الله عند المشرق حجاباً من الظلمة على البحر السابع على مقدار ليالي الدنيا كلها ، فإذا كان غروب الشمس أقبل ملك من الملائكة قد وكل بالليل ، فيقبض قبضة من ظلمة ذلك الحجاب ثم يستقبل المغرب ، فلا يزال يرسل تلك الظلمة من خلال أصابعه قليلاً قليلاً وهو يراعي الشفق ، فإذا غاب الشفق أرسل الظلمة كلها ، ثم ينشر جناحيه فيبلغان أقطار الأرض وأكناف السماء ، فيجاوزان ما شاء الله أن يجاوزا في الهواء ، فيشق ظلمة الليل بجناحيه بالتسبيح والتقديس لله حتى يبلغ المغرب على قدر ساعات الليل ، فإذا بلغ المغرب انفجر الصبح من المشرق ضم جناحيه وضم الظلمة بعضها إلى بعض بكفيه ، حتى يقبض عليها بكف واحدة مثل قبضته حين تناولها من الحجاب بالمشرق ، ثم يضعها عن المغرب على البحر السابع , فمن هناك تكون ظلمة الليل ، فإذا حوّل ذلك الحجاب من المشرق إلى المغرب نفخ في الصور ، فضوء النهار من قبل الشمس وظلمة الليل من قبل ذلك الحجاب .
فلا تزال الشمس تجري من مطلعها إلى مغربها حتى يأتي الوقت الذي جعله الله لتوبة عباده ، فتستأذن الشمس من أين تطلع ويستأذن القمر من أين يطلع فلا يؤذن لهما ، فيحسبان مقدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر ، فلا يعرف مقدار حبسهما إلا قليل من الناس وهم بقية أهل الأرض وحملة القرآن ، يقرأ كل رجل منهم ورده في تلك الليلة ، حتى إذا فرغ منه نظر فإذا ليلته على حالها ، فيعود فيقرأ ورده فإذا فرغ منه نظر فإذا الليلة على حالها ، فيعود فيقرأ ورده فإذا فرغ منه نظر فإذا الليلة على حالها ، فلا يعرف طول تلك الليلة إلا حملة القرآن ، فينادي بعضهم بعضاً ، فيجتمعون في مساجدهم بالتضرع والبكاء والصراخ بقية تلك الليلة ومقدار تلك الليلة مقدار ثلاث ليال ، ثم يرسل الله جبريل عليه السلام إلى الشمس والقمر ، فيقول : إن الرب عز وجل أمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منها فإنه لا ضوء لكما ولا نور . فتبكي الشمس والقمر من خوف يوم القيامة وخوف الموت ، فترجع الشمس والقمر فتطلعان من مغربهما .
فبينما الناس كذلك يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل والغافلون في غفلاتهم إذ نادى مناد : ألا أن باب التوبة قد أغلق والشمس والقمر قد طلعا من مغاربهما ، فينظر الناس فإذا بهما أسودان كالعكمين لا ضوء لهما ولا نور ، فذلك قوله { وجمع الشمس والقمر } [ القيامة : 9 ] فيرتفعان مثل البعيرين المقرونين المعقودين ، ينازع كل واحد منهما صاحبه استباقاً ، ويتصايح أهل الدنيا ، وتذهل الأمهات ، وتضع كل ذات حمل حملها ، فأما الصالحون والأبرار فإنه ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب لهم عبادة ، وأما الفاسقون والفجار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب عليهم حسرة ، فإذا بلغت الشمس والقمر سرة السماء وهو منصفها جاءهما جبريل عليه السلام فأخذ بقرونهما فردهما إلى المغرب ، فلا يغربهما في مغاربهما ولكن يغربهما في باب التوبة)( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وتقديرها على وجوه:
الأول : ذلك يوم الوعيد الذي ورد في القرآن.
الثاني : ذلك يوم الوعيد اللفظي والفعلي في الحياة الدنيا.
الثالث : ذلك يوم الوعيد الذي جاء على لسان الأنبياء والرسل.
الحادي والعشرون : يوم الواقعة للدلالة على تحقق حدوثه، ولا صارف له، وأن القيامة ليس مما يمحى أو يبدل، وقد جاءت سورة من القرآن بإسمها، وتبدأ بقوله تعالى[إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ]( ).
ولم تقل الآية (إذا أوقع الواقعة) بل نسبت الوقوع إلى ذات القيامة وحدوثها لإفادة حقيقة وهي أن الأمر الإلهي والمشيئة قد مضت إلى يوم القيامة ولم يبق دون نزوله واقعاً إلا طي السنين والأحقاب وتحقق الشرائط، وليس من أحد من الخلائق يكذب وقوعها عند حدوثها لأن علاماتها جلية ومتتالية، وفي معنى الواقعة وجوه:
الأول : إنها الصيحة والنفخ في الصور.
الثاني : إرادة بدايات يوم القيامة.
الثالث : وقوع صخرة بيت المقدس يوم القيامة، وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إن ملكاً ينادي من السماء: أيتها الأجساد الهامدة والعظام البالية والرحم الذاهبة، هلم إلى الحساب والوقوف بين يدي الله، وقال كعب الأحبار وقتادة وغيرهما: المكان صخرة بيت المقدس)( ).
الرابع : إرادة يوم القيامة، عن ابن عباس( ).
والصحيح هو الأخير، وفي تسميتها الواقعة دعوة للناس للتهيء للحساب وتوارث الإستعداد لها، وجعل التسليم بوقوع يوم القيامة تركة للأبناء لتكون سبباً لصيرورتهم من أصحاب اليمين حيث النعيم الدائم، والنجاة من صحبة أصحاب الشمال وما ينتظرهم من[سَمُومٍ وَحَمِيمٍ]( )، أي ريح شديد يدخل الجسد وكأنه سم قاتل، والحميم الماء الشديد الحرارة، ومثل: السموم النار الموقدة، والأول أرجح.
الثاني والعشرون : يوم الآزفة، والأزوف هو القرب والدنو، قال تعالى[أَزِفَتْ الآزِفَةُ]( )، أي أن يوم القيامة ذاته قريب ومع هذا أصبح أكثر قرباً بلحاظ أعمال العباد ومحاربة المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وزحف قريش بجيوش عظيمة على المدينة وليس عند المسلمين معشار العدة والعدد المناسب لمواجهتهم، بالإضافة إلى ظهور طائفة من الناس تبطن النفاق مع إعلانهم الإيمان وهم المنافقون الذين أخبر القرآن عن سوء مصيرهم يوم القيامة وأن عذابهم أشد من عذاب شطر من الكفار لأنهم[فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ) .
وقوله تعالى[أَزِفَتْ الآزِفَةُ]( )، من إعجاز القرآن، وتوكيد بأن دلالات آياته أعم وأعظم من الصبغة البلاغية، والآزفة اسم فاعل مؤنث ويحتمل تقدير الآية وجهين :
الأول : أزفت القيامة.
الثاني : أزفت الآزفة أي القريبة.
ولا تعارض بين الوجهين، إلا أن الوجه الثاني هو الأظهر والأبين، ويحتمل قرب يوم القيامة وجوهاً:
الأول : قرب القيامة عند الله عز وجل.
الثاني : قرب يوم القيامة حقاً وصدقاً.
الثالث : قرب يوم القيامة عند الناس.
وهذه الوجوه كلها من مصاديق الآية إذ أن الاسم في المقام يدل على المسمى، فإن قلت يخرج الوجه الثالث بالتخصيص لقوله تعالى[إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا* وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
والجواب موضوع الآية أعلاه هم الكفار، فلا يشمل المؤمنين، وجاء الإخبار عن قرب يوم القيامة ليتعظ أهل الأرض، وجاءت الآيات بتسمية المسلمين بالناس، قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]( ).
ومن معاني قوله تعالى(ويرونه بعيداً) إرادة عذاب النار وليس مطلق يوم القيامة، وإن كان الأظهر هو إرادة يوم القيامة.
الثالث والعشرون : يوم الحساب، والحساب لغة هو العد والإحصاء، ويأتي بمعنى الكثير الوافي، قال تعالى[جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا]( )، وورد هذا الاسم أربع مرات في القرآن، منها مرة في توثيق إستهزاء الكفار بالعذاب الأخروي، وسخريتهم من الإنذار بيوم القيامة، إذ جاء حكاية عنهم في التنزيل[رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ]( )، والقط: الحظ والنصيب، والقطعة من الشيء، قال الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويافق( ).
والحساب يوم القيامة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة يسراً وشدة بلحاظ الإيمان أو الكفر، قال تعالى[فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا]( ) .
وتبعث تسمية يوم الحساب الإنسان ليحصي على نفسه أعماله، ويسعى في زيادة الحسنات التي لا تقبل وتضاعف إلا بقيد الإيمان، ويدرك أن الله عز وجل يعلم ما يفعله من السيئات فيحترز منها، قال تعالى[مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ) .
ومن الإعجاز في أسماء القرآن أنها مرآة لأمور واقعة حقاً وصدقاً، ليلتفت المؤمن لعد وإحصاء ومراجعة أعماله ويدرك أنه يحاسب عليها، أما الكافر فإنه لا يلتفت إلى عدّ أعماله وإلى الحساب وكل منهما يقف بين يدي الله للحساب.
الرابع والعشرون : يوم الخلود : وردت مادة (خلد) وما يشتق ويتفرع عنها سبعاً وستين مرة ، ستة منها في موضوعات تخص الدنيا للموعظة والإعتبار وبيان التضاد بينها وبين الخلد وإن إجتهد الإنسان في السعي والجمع والبناء فيها ، قال تعالى [وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ] ( ).
وجاءت إحدى وستون مرة بخصوص الآخرة وعالم الخلود , ولم يرد لفظ يوم الخلود في القرآن إلا مرة واحدة في خطاب للمتقين والإذن بدخولهم الجنة [ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ]( ).
والخلود هو المكث الطويل ، وبينه وبين التأبيد عموم وخصوص مطلق، فالتأبيد هو الأعم واللامتناهي إلا مع القرينة التي تدل على التساوي بينهما وإرادة معنى التأبيد من لفظ الخلود كما في حال وعز أهل الجنة قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا]( ).
وورد التأبيد بصيغة الذم للذين جمعوا بين أمور :
الأول : الكفر .
الثاني : الظلم .
الثالث : مغادرة الدنيا على الكفر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا]( ).
وورد لفظ [خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا]إحدى عشرة مرة في القرآن ثمانية منها بخصوص أهل الجنة وثلاثة بخصوص أهل النار ، وفي قوله تعالى [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا]( ).
وفي سبب نزول هذه الآية ورد عن سعيد بن جبير في قوله[وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ] ( )، قال: نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني ، وذلك أنه أسلم وأخوه هشام بن ضبابة وكانا بالمدينة ، فوجد مقيس أخاه هشاماً ذات يوم قتيلاً في الأنصار في بني النجار ، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بذلك ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً من قريش من بني فهر ومعه مقيس إلى بني النجار – ومنازلهم يومئذ بقباء – أن ادفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علمتم ذلك ، وإلا فادفعوا إليه الدية . فلما جاءهم الرسول قالوا : السمع والطاعة لله وللرسول ، والله ما نعلم له قاتلاً ولكن نؤدي إليه الدية ، فدفعوا إلى مقيس مائة من الإبل دية أخيه ، فلما انصرف مقيس والفهري راجعين من قباء إلى المدينة وبينهما ساعة ، عمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتله ، وارتد عن الإسلام وركب جملاً منها وساق معه البقية ، ولحق بمكة وهو يقول في شعر له :
قتلت به فهراً وحملت عقله … سراة بني النجار أرباب قارع
وأدركت ثأري واضطجعت موسداً .. وكنت إلى الأوثان أول راجع( )
فنزلت فيه بعد قتل النفس وأخذ الدية ، وارتد عن الإسلام ولحق بمكة كافراً) ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يعفو عن احد بعد أخذ الدية خاصة مع الإرتداد إلى الكفر ، فهدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دمه يوم الفتح ، وقيل قتله الناس في السوق وقيل على الصفا ولكن قاتله هو (نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَتْ أُخْتُ مِقْيَسٍ فِي قَتْلِهِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْزَى نُمَيْلَةُ رَهْطَهُ … وَفَجّعَ أَضْيَافَ الشّتَاءِ بِمِقْيَسِ
فَلِلّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِثْلَ مِقْيَسٍ … إذَا النّفَسَاءُ أَصْبَحَتْ لَمْ تُخَرّسْ) ( ).
الخامس والعشرون : يوم التلاق : ورد لفظ [التَّلاَقِي]مرة واحدة في القرآن بقوله تعالى [رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِي] ( ).
وفيه بيان بأن علة الوحي والتنزيل هو الإنذار من أهوال يوم القيامة, والتلاقي نوع مفاعلة بين طرفين أو أكثر ، ومن معانيه في المقام وجوه :
الأول : ملاقاة الناس لله عز وجل بالوقوف بين يديه للحساب ، وهذا الوقوف من مصاديق الإنذار في الآية , قال تعالى [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ]( ).
الثاني : ملاقاة يوم القيامة ، وطول مدته ، ومواطنه المتعددة ،قال تعالى [وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ]( ).
الثالث : رؤية الناس للأنبياء يوم القيامة ، وشهادة الأنبياء على أممهم .
الرابع : التلاقي بين الناس الظالم والمظلوم ،والحاكم والمحكوم ،والمؤمن والكافر ،والذكر والأنثى، ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية الكريمة ، فإن قلت قد ورد في القرآن فرار الناس يوم القيامة بعضهم من بعض بقوله تعالى [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ] ( )، والجواب من وجوه :
الأول : إرادة الإنشغال بالنفس وما ينتظرها ويصيبها من الثواب والعقاب .
الثاني : المقصود عدم إلتفات الرجال للنساء أو العكس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ، لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال ، شغل بعضهم عن بعض( ).
الثالث : ينشغل الأنبياء والأولياء والصالحون بأنفسهم من هول ما يرون من الزلازل يوم القيامة ، وعن ابن عباس في حديث (حتى إذا كانت من الموقف على مسيرة مائة عام ، وهو قول الله تعالى
{ إذا رأتهم من مكان بعيد }( ) زفرت زفرة فلا يبقي ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولا صديق منتخب ، ولا شهيد مما هنالك الا خرّ جاثياً على ركبتيه ، ثم تزفر الثانية زفرة فلا يبقى قطرة من الدموع إلا بدرت ، فلو كان لكل آدمي يومئذ عمل اثنين وسبعين نبياً لظن أنه سيواقعها ، ثم تزفر الثالثة زفرة فتنقطع القلوب من أماكنها ، فتصير بين اللهوات والحناجر ، ويعلو سواد العيون بياضها ، ينادي كل آدمي يومئذ يا رب نفسي نفسي ، لا أسألك غيرها ، حتى أن إبراهيم ليتعلق بساق العرش ينادي : يا رب نفسي نفسي ، لا أسألك غيرها ، ونبيكم صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يا رب أمتي أمتي ، لا همة له غيركم)( ).
وهل يصح تسمية الآخرة بأنه [َ يوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ]( )، الجواب نعم ، للنص القرآني , وشدة أهوال يوم القيامة ، فان قلت قد يفر الإنسان في الدنيا من ذويه وأرحامه , والجواب من وجوه :
الأول : على فرض حدوث هذا الأمر فانه يحدث على نحو القضية الشخصية والفرد النادر ، بينما تفيد الآية العموم .
الثاني : تدل الآية على فرار كل واحد من الأرحام عن الآخرين فترى الفرد يفر من أبيه وأمه وإبنه وأخيه ، وكل واحد من هؤلاء يفر منه ذاته ومن الآخرين .
الثالث : تبين الآية التالية لها علة هذا الفرار وهي [لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ] ( )، فعلة الفرار في الآخرة ليست الجفاء وقطع الرحم ، بل كل تشغله نفسه وميزان أعماله وأهوال الحساب , وقيل أن الرجل يفر من أصحابه وأقربائه لئلا يروه على ما هو عليه من سوء الحال وقد يكون الفرار مختلفاً .
ونسب إلى ابن عباس ولم أجد له سنداً أنه يفر قابيل من أخيه هابيل ، ويفر إبراهيم من أبيه , ونوح من إبنه ، ولوط عليه السلام من إمرأته ( ).
وقد تقدم قوله تعالى في ذم المنافقين [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( )،وفي الجمع بين الآيتين أن الآخرة موعد اللقاء الكاشف والفاضح لكذب وإفتراء ورياء المنافقين ، فقولهم [آمَنَّا]بحضرة المؤمنين حجة عليهم يوم القيامة ، ليفيد الجمع بين الآيتين أعلاه بعث الخوف والفزع في نفوس المنافقين والكافرين من اللقاء يوم القيامة .
السادس والعشرون : يوم الجمع ورد هذا الاسم في القرآن مرتين كل واحدة منهما بخصوص يوم القيامة :
الأولى : في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ]( ).
الثانية : خطاب للناس بالدعوة إلى الإيمان بقوله تعالى [يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ]( ).
وذكر القرآن يوم الجمعة والصلاة الجامعة فيه بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ] ( )، ليكون حضور هذه الصلاة أمناً وسلامة يوم القيامة لأن الإنسان حضر الجمع التعبدي طاعة وقربة إلى الله .
ليكون من إعجاز القرآن أن كل اسم من أسماء يوم القيامة وسيلة عبادية للنجاة منه في الدنيا وواقية وحرز من ضروب التقوى للسلامة فيه ، وفي معاني تسمية الآخرة يوم الجمع وجوه :
الأول : جمع أجيال الناس المتعاقبة في موضع ومحشر واحد ، قال تعالى [قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ]( ).
الثاني :جمع المؤمنين مع الكفار في صعيد واحد ليكون ذات الجمع ثواباً للمؤمن وعذاباً للكافر ،إذ يعرف المؤمنون يومئذ بنضارة وبياض الوجوه وعلامات السجود فيها ، قال تعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ]( )وقال تعالى [يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ]( ).
الثالث : جمع الخلائق والأرواح والأشباح في صعيد واحد للحساب والشهادة .
الرابع : جمع أهل الخصومات والشقاق والنزاع ليأخذ المظلوم حقه من الظالم .
الخامس : جمع الناس مقدمة لشفاعة الأنبياء والأولياء حيث يأذن الله عز وجل ،إن تسمية يوم القيامة بيوم الجمع تأكيد عظيم قدرة الله وقطع بأنه يحيى الموتى ويحضرهم للجزاء .
وإذا كان التمييز بين المؤمن والكافر جلياً يوم القيامة فهل يمكن التمييز بين الأجيال المتعاقبة بحيث يعرف كل أهل قرن وطبقة من الناس بسمة خاصة ، الجواب لا دليل عليه ، نعم يعرف أتباع الأنبياء بفضل من الله عز وجل (عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “عُرضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ، فَرَأيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ (1) والنَّبِيَّ ومَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ والنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ، إذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى وقوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إلَى الأفقِ. فَنَظَرتُ، فَإذا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إلَى الأفُقِ الآخَرِ، فَإذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ ومعَهُم سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجنة بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلا عَذَابٍ”. ثم نهَضَ فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلِدُوا في الإسلام فلم يُشْرِكوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟” فأخبروه، فقال: “هُمُ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ وَلا يَسْتَرقُونَ وَلا يَتَطيرونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”.)( ).
السابع والعشرون :الحاقة : ورد هذا الاسم في القرآن ثلاث مرات وبسورة تحمل ذات الاسم ، قال تعالى[ الْحَاقَّةُ *مَا الْحَاقَّةُ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ]( ) ،وقد تقدم ذكر قوله تعالى [الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ] ( )،في إعادة للفظ المبتدأ في جملة الخبر، للإستفهام التعجبي وبما يبعث الفزع والخوف في النفوس لأن أهوال يوم القيامة أعم وأعظم من أن تحيط بها أوهام البشر .
وتقدير الآية الحاقة وأي شئ الحاقة في زلزالها وهول مطلعها وأسباب الفزع فيها ، فتكرر الظاهر فيها بدل المضمر لزيادة في التفخيم لتكون هذه الزيادة دعوة للناس للوقاية مما يخلع الألباب ولأن شدتها وأهوالها تفوق التصور الذهني .
والحاقة : اسم فاعل من حق الشئ , وفي مناسبة وعله التسمية وجوه :
الأول : يحق عمل كل أنسان له ، فلا يذهب لغيره ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ]( ).
الثاني : تبدى في يوم القيامة الحقائق ، ( عن ابن عباسٍ وغيرُه ، وبوُرُودِ الحقائقِ من عندِ اللَّه عز وجل يَزْدَادُ كلُّ ذِي إيمانٍ إيمَاناً ، ويَزُولُ الرَّيْبُ عَنِ المُصَدِّقِينَ مِنْ أهْلِ الكتابِ ومِنَ المؤمنين) ( ).
الثالث : تحق القيامة كل مجادل ومخاصم وتغلبه وتقيم عليه الحجة .
الرابع : تحق الحق وتعطيه لأهله فقد لا يقيم صاحب الحق البينة أو أن المدعى عليه يحلف بالله زوراً وبهتاناً ، فيكون يوم القيامة يوم إنتزاع الحقوق، لتكون حسنات في ميزان المظلوم .
الخامس : تجلي الحق والصدق ، وبيان عظيم قدرة الله وسلطانه في إحضار الناس جميعاً ووقوفهم بين يديه للحساب يقال (حَقَّ الشّيءَ : أَوجْبَهَ وأثبَتَه وصارَ عندَه حَقاً لا يَشُك فيه) ( ).
الثامن والعشرون : يوم التناد : ورد هذا الاسم ليوم القيامة مرة واحدة في القرآن ، وجاء على لسان مؤمن آل فرعون في إنذاره لقومه ، قال تعالى [وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِي]( )، وفيه آية بأن الأنبياء والأولياء والصالحين يسمون يوم القيامة بأسماء متعددة .
وهل من علة لهذا لتعدد , الجواب نعم ، فكما يأتي النبي بالمعجزة المناسبة لأهل زمانه كما في مجئ موسى بالعصا لعناية آل فرعون بالسحر ، ومجئ عيسى عليه السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لإرتقاء الطب في زمانه وفي التنزيل [وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
فقد جاءت تسمية يوم القيامة في قصص الأمم السابقة بحسب الموضوع والأثر الذي يترتب عليه وبما ينفع الناس في زمانه والأزمنة اللاحقة في سبيل الصلاح والتوبة .
ولقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات الحسية والعقلية التي تؤكد نبوته وتجذب الناس إلى الإيمان , وصار القرآن الشاهد السماوي المصاحب للناس إلى يوم القيامة الذي يذكر معجزات الأنبياء وأسماء يوم القيامة ، وكيفية تقريب صفة وماهية الأهوال فيه إلى الأذهان بما يكون حجة على الناس ، ويدفعهم عن منازل الضلالة والغواية فأخبر عن تسمية يوم القيامة أيام فرعون بأنه [يَوْمَ التَّنَادِي]وجاء في نظم الآيات التي تبعث الخوف في نفوسهم .
وقد ورد لفظ نادى في قصة فرعون وطغيانه وعتوه ، كما في قوله تعالى [وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي]( )، وقوله تعالى [ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى *فَحَشَرَ فَنَادَى]( ) أي أن فرعون حشر السحرة وجمعهم من أطراف مملكته لمناظرة موسى عليه السلام ومحاولة غلبة السحرة عليه ، وإيهام الناس بأن معجزته سحر ، وهو من صيغ المغالطة والتدليس والتلبيس التي إعتمدها فرعون
وفي معنى يوم التناد وجوه :
الأول : ينادي الناس بعضهم بعضاً .
الثاني : ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار إحتجاجاً واخباراً عن فضل الله عليهم .
الثالث : ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة توسلاً ونجدة ، وفي التنزيل [وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
ومن إعجاز الآية أعلاه أن السعي لغة هو المشي الشديد ، وجاءت الآية بخلاف هذا المعنى لأن فرعون لم يغادر محله ودار حكمه ، ولكنه أولى عناية فائقة بالتصدي لمعجزة موسى عليه السلام , ومنع إنجذاب الناس له .
ومن مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( )ورود هذا المعنى في ذات الآية الكريمة إذ أنها جمعت الإدبار والسعي وأن الأخير فرع الأول .
التاسع والعشرون : يوم التغابن : ورد هذا اللفظ مرة واحدة في القرآن وهو قوله تعالى [يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ]( ).
وإجتمع في هذه الآية إسمان من أسماء يوم القيامة ، ومن الإعجاز فيه أنه قد يظن أن يوم الجمع في الدنيا خاصة وأن الآية جاءت بصيغة الخطاب والبيان ، أو أن الجمع مجرد خالي من الأهوال والحساب والجزاء ، فجاء الاسم الثاني للبيان والتفصيل والزيادة في التخويف والفزع .
والغبن في البيع هو الخدعة والإنقاص من حق الطرف الآخر .
ومن معاني التغابن في الآية أن أهل الجنة يغبنون أهل النار بأن يستنقصوا عقولهم لعدم إستعدادهم ليوم الجمع بالإيمان والعمل الصالح .
(وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ، ليزداد شكراً . وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ، ليزداد حسرة) ( ).
وقيل أن تسمية يوم التغابن مستعارة من تغابن القوم في التجارة ، ولا دليل على هذه الإستعارة إذ تبين الآية أن الغبن والتغابن الحقيقي يوم القيامة ، وفيه دعوة للتنزه عن الظلم وغبن الناس حقوقهم لحضور الأعمال يوم القيامة ، قال تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ]( ).
وفي تسمية يوم القيامة بالتغابن مواساة للمؤمنين والمظلومين ووعد بإنتزاع حقوقهم وجعل الخلائق تغبطهم على عظيم منزلتهم التي نالوها بغبن حقوقهم في الدنيا , ودعوة للناس للحكم بما أنزل الله وتولى وظائف الحكم بالعدل والحق ورد المظالم لأهلها .
الثلاثون : اليوم العظيم: ويرد هذا الاسم في القرآن على لسان الأنبياء من وجوه:
الأول : بيان خشية النبي من الله عز وجل.
الثاني : عصمة النبي من إرتكاب المآثم والمعاصي، وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى[قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ]( ).
الثالث : إنذار الأنبياء قومهم وزجرهم عن الإصرار على الكفر والجحود، وفي نوح ورد قوله تعالى[إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ]( ).
الرابع : إحتجاج الأنبياء على قومهم، فعندما طلب الكفار من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبديل آيات من القرآن رد الله عز وجل عليهم بأن القرآن وحي وتنزيل من عنده سبحانه، قال تعالى[وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي]( ).
الخامس : حث الأنبياء لقومهم على الشكر لله عز وجل على النعم المتصلة والخيرات الظاهرة، وإجتناب زوالها بالجحود والكفر، وفي هود ودعوته لقومه ورد قوله تعالى[وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ]( ).
السادس : بيان الأنبياء لقانون كلي وهو وجوب تعاهد الناس للآية التي تأتي من عند الله حسية كانت أو عقلية، وفي الناقة التي أنزلها الله آية قال صالح لقومه[وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ]( )، وفيه دعوة للمسلمين والناس بحفظ القرآن برسمه وتلاوته والعمل بأحكامه وتعاهده وسلامته من التحريف، فإن تركه وراء الظهور نذير شؤم، وقد جاءت البشارة في القرآن بأن المسلمين يحفظون القرآن ويصونونه بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وبه وبالعمل بمضامينه يخرج المسلمون إلى الناس ويدعونهم إلى التوحيد بأخلاق ذات القرآن وبالحكمة والموعظة.
وجاء هذا الاسم لبيان عقاب شديد نزل بالظالمين، وفي قوم شعيب وهو خطيب الأنبياء قال تعالى[فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ]( )، لبيان قانون كلي، وهو أن تكذيب الأنبياء علة للعذاب في الدنيا والآخرة، إذ أصابهم الحر الشديد في بيوتهم، فرفعت لهم سحابة، فاجتمعوا تحتها مستظلين فتحولت إلى نار عليهم فأتت على الكفار جميعاً.
وجاء هذا الاسم من أسماء يوم القيامة إبتداءً من عند الله، وعيداً للكفار الذي ينقصون المكيال إذا باعوا، وينقصونها إذا إشتروا، قال تعالى[وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ]( ).
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} خمس لخمس قالوا : يا رسول الله وما خمس لخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلاّ سلّط عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلاّ فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ فشا فيهم الموت، ولا طفّفوا الكيل إلاّ منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلاّ حبس عنهم القطر)( ).
وعن عكرمة قال: أشهد على كلّ كيّال أو وزّان أنّه في النار، قيل له: إنّ ابنك كيال أو وزان، قال: أنا أشهد أنه في النار)( ).
وهذا الإطلاق غير صحيح إنما جاء التوبيخ والوعيد بالتقييد بأمرين متلازمين وهما:
الأول : إستيفاء الحق والوزن عند البيع.
الثاني : إعطاء الحق ناقصاً، وبخس الناس عند دفع ما لهم .
ويدل التقييد والحصر بخصوص الظالمين في الكيل في الذم والوعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما نزلت الآية خرج إلى سوق المدينة وتلا على أهله الآية، فلم يقل لهم أن عملكم في السوق والقيام بالكيل والوزن يدخلكم النار، ولم يحذرهم من ذات البيع بل وردت نصوص كثيرة بإستحباب التجارة وهي تتقوم بالكيل والوزن والعد والقياس ونحوه ولا يصح تعطيل المعاشات والأرزاق.
وعن ابن عباس: لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل الله {ويل للمطففين} فأحسنوا الكيل بعد ذلك)( ).
وفيه ثناء على المسلمين الذي يعملون في التجارة، وتأكيد لمنافع الآية الكريمة وأثرها في تهذيب النفوس وإصلاح الأسواق.
ومن إعجاز القرآن الغيري أن حرص المسلمين على إيفاء المكيال والميزان ظاهر وجلي في كل زمان ببركة هذه الآية، وأنهم يجتهدون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه، وفي الأسواق مطلقاً، وفيه دلالة على أن نزول القرآن أسس لبناء صرح أخلاقي متجدد إلى يوم القيامة ملاكه العدل والإنصات والتنزه عن الحرام والباطل وإن كان قريبا، ولا عبرة بالقليل النادر الذي يرميه الله بالبلاء خاصة وأن الوعيد في الآية مطلق بقوله تعالى[وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ]( )، وكما تقدم في الحديث في الصفحة السابقة إن نقص الكيل يسبب منع النبات والأخذ بالسنين أي حصول الجدب والمحل وما يذهب الثمرة أو شطر منها بآفة سماوية أو أرضية.
الواحد والثلاثون : يوم يقوم الناس، لقد سخّر الله عز وجل الحياة الدنيا للإنسان، وجعله يتنعم ببركاتها ويسيح في أرجاء الأرض، وجعل له النهار وعاء للسعي والعمل والكسب، والليل سكناً يخلد فيه إلى الراحة والنوم.
وجاء قوله تعالى[يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، لبيان التباين بين الحياة الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يختار الإنسان القيام أو القعود في ساعات النهار أو الليل، وكثيراً ما يمل من طول القعود، وترى الناس هذا قائم وهذا ماش وهذا قاعد وآخر نائم، أما في الآخرة فجميع الناس بأجيالهم المتعاقبة قيام في مواطن مخصوصة خاشعين لله عز وجل، ومن الإعجاز أن الآية أعلاه لم تكتف بذكر ذات القيام بل بينت موضوعه وعلته وغايته وأنه لله رب العالمين، وخشية منه تعالى , ليكون قول المسلم عدة مرات كل يوم في الصلاة[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، لجوء إلى الله، وإستجارة به سبحانه من طول القيام في الآخرة.
وكذا قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، فهو واقية من طول القيام وما فيه من الأذى بلحاظ أن موضوع الإستعانة أعم من أن يختص بالحياة الدنيا وحاجاتها، إذ يشمل الآخرة ورجاء النجاة من شدائدها، وفي قوله تعالى[عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا]( )، قال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: يقوم الناس يوم القيمة مقدار أربعين عاما ويؤمر الشمس فتركب على رؤس العباد ويلجمهم العرق ويؤمر الارض لا تقبل عن عرقهم شيئا فيأتون آدم فيشفعون له فيدلهم على نوح ، ويدلهم نوح على ابراهيم ، ويدلهم ابراهيم على موسى ، ويدلهم موسى على عيسى، ويدلهم عيسى على محمد صلى الله عليه وآله فيقول : عليكم بمحمد خاتم النبيين ، فيقول محمد : انا لها فينطلق حتى يأتى باب الجنة فيدق فيقال
له : من هذا والله أعلم ؟ فيقول : محمد فيقال : افتحوا له ، فاذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا يرفع رأسه حتى يقال له تكلم وسل تعط واشفع تشفع ، فيرفع رأسه فيستقبل ربه فيخر ساجدا ، فيقال له مثلها، فيرفع رأسه حتى انه ليشفع من قد أحرق بالنار ، فما احد من الناس يوم القيمة في جميع الأمم أوجه من محمد صلى الله عليه وآله)( ).
الثاني والثلاثون :يوم يبعثون : وقد ورد هذا الاسم ست مرات في القرآن كلها بخصوص يوم القيامة ، ووردت ثلاث منها في سؤال من إبليس بإمهاله [قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
بعد أن أبى إبليس الإستجابة لأمر الله عز وجل بالسجود لآدم عليه السلام ، وعلم أنه مطرود من الجنة ، سأل أموراً :
الأول : الإمهال والإنظار .
الثاني :عدم تعجيل نزول العقوبة به .
الثالث : إطالة مدة الإمهال إلى وقت البعث حيث تحضر الخلائق للحساب .
الرابع : إرادة إغواء بني آدم مدة هذا الإمهال .
ومن الإعجاز في الآية أن إبليس ذكر البعث بصيغة الجمع [يُبْعَثُونَ]ولا ينصرف إلى آدم وحواء وحدهما ساعة هبوطهما معه في الجنة وان كان الإثنان أقل الجمع ، فهو يعلم عجزه عن إغواء آدم في الأرض للعصمة، والضرر الذي لحقه من التصديق بإبليس وإغوائه في الأكل من الشجرة، كما ورد في الآية التالية مما يدل على إرادة التعدد والكثرة لما ورد حكاية عنه في الآية التالية[وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ]( ).
وهناك آية أخرى تدل على علم إبليس بتكاثر ذرية آدم ، وفي التنزيل [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ]( ).
وجاء ذكر هذا الاسم ليوم القيامة في تقسيم إعجازي للعوالم الذي جاء في موضوع مجئ الموت إلى الكافر في الآية السابقة من سورة المؤمنون [وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (( ).
وتنقسم العوالم التي يمر بها الإنسان إلى :
الأول : عالم الحياة الدنيا .
الثاني : عالم البرزخ .
الثالث : عالم الآخرة .
وليس من حصر لأفراد ومواطن عالم الآخرة ، وهو من أسرار تعدد أسمائها والآيات الواردة بخصوصها ، ولا بد من إحصاء مئات الآيات الخاصة بعالم الآخرة بعد وضع ضابطة كلية لتعيينها ، مثلاً قوله تعالى [فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( )هل هو من آيات الآخرة , الجواب نعم لأنها وردت في بعض الآيات بخصوص حسن الثواب في الآخرة ، قال تعالى [فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثالث والثلاثون : يوم معلوم : ورد هذا اللفظ ثلاث مرات في القرآن واحدة منها بخصوص يوم القيامة ، جاء بما يمنع اللبس والترديد فيه ، وهو من الأسرار في تعدد الاسم فلما جاء مرتين بخصوص الحياة الدنيا ، جاء في الثالثة مقترناً بالبيان والبرهان القاطع أنه يخص الآخرة بقوله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ]( ).
إذ أن جمع الأولين والآخرين من الأحقاب والأجيال المتعاقبة لا يتحقق إلا في الآخرة وبعد البعث من القبور ، وورد هذا اللفظ بخصوص ناقة صالح قال تعالى [قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ]( )، وكانت الناقة تشرب الماء كله في يوم ورودها ويكون اليوم الثاني لشربهم (و روي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال إن أول عين نبعت في الأرض هي التي فجرها الله لصالح فقال : قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ *وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ( )ويحتمل العلم بيوم القيامة بقوله تعالى [يَوْمٍ مَعْلُومٍ]وجوهاً:
الأول : ينفرد الله عز وجل بعلم يوم القيامة ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ]( ).
الثاني :تعلم الملائكة بأوان يوم القيامة وهذا العلم من جهات :
الأولى :إكرام الله عز وجل للملائكة .
الثانية : سكن الملائكة بالسموات ، ومن خصائص هذا السكن معرفة العوالم وأوانها .
الثالثة : لقد تفضل الله عز وجل وأخبر الملائكة عن جعل آدم خليفة في الأرض [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )،ومن فضل الله عز وجل على الملائكة والناس إخبار الملائكة بأوان يوم القيامة .
الرابعة : إستعداد الملائكة لوظائفهم في عالم الحساب وأخذ المؤمنين إلى الجنة وسوق الكفار إلى النار .
الثالث : يوم القيامة معلوم عند الأنبياء بأوانه .
الرابع : إنه معلوم عند المؤمنين من الأموات وهم في عالم البرزخ .
والصحيح هو الأول .
والمراد من لفظ [يَوْمٍ مَعْلُومٍ]أعم من تعيين أوانه ، فقد يراد منه أموراً :
الأول : المقصود الآخرة ووقوع يوم القيامة على نحو الحتم والجزم .
الثاني : تقدير الآية : اليوم المعلوم بأنه يوم الجزاء والحساب .
الثالث : إرادة علم الناس بأهواله .
الرابع : المعلوم بما له من خصائص يمتاز بها عن عالم الدنيا .
والصحيح هو إرادة تعيين أوان يوم القيامة لذكر معنى حلول الأجل والوقت في قوله تعالى [إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ]( )وتكون الوجوه أعلاه في طوله وليست معارضة له .
وذكر من إسماء يوم القيامة [يَوْمَ الْفَتْحِ] واستدل عليه بقوله تعالى [قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ] ( ).
(والقائل به مجاهد )( ).
وذكرت في يوم الفتح أقوال وهي :
الأول : إنه يوم فتح مكة .
الثاني : اليوم الذي يأتي فيه للكفار العذاب .
الثالث : قيل أن الآية والإعراض عن الكفار فيها منسوخان بآية السيف ولا دليل عليه .
الرابع : إرادة صلح الحديبية .
الخامس : جاءت الآية في باب الإنذار والوعيد للكفار ، ولا يعلم أوان الفتح إلا الله عز وجل .
السادس : في الآية حذف والتقدير : قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم من قتلهم[وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ] أي لا يؤجلون .
السابع : الآية خاصة بالذين كفروا من بني كنانة .
الثامن :إرادة يوم القيامة .
التاسع : يوم بدر (عن مجاهد والحسن والسدي) ( ).
والصحيح هو الأول وأن المراد فتح مكة لتجمع الآية في منطوقها البشارة والوعيد ، البشارة للمسلمين بأن يوم الفتح آت والوعيد للكفار بفوات أوان التوبة (عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم الفتح: “لا هجرة، ولكن جهاد ونية، ولكن إذا استنفرتم فانفروا)( ).
واستدل قتادة على أن المراد بيوم الفتح هو يوم القيامة بأن أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قالوا للكفار: إن لنا يومًا نتنعم فيه ونستريح ويحكم بيننا وبينكم، فقالوا استهزاء: متى هذا الفتح ؟ أي: القضاء والحكم)( ).
وقيل إن معنى [وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ] ( )بأن المراد منه : لا يمهلون بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا .
ولا دليل على هذا المعنى ،وهناك تباين بين الإنظار والإمهال في الدنيا من وجه ، وبين عدم الإعادة من الآخرة إلى الدنيا ثم أن موضوع الإعادة وعدمها ورد بسؤال الكافر عند حضور الموت ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ]( ).
الأذان شفاء للصمم
لقد إختار المنافقون الصمم عن البسملة لتفوتهم ذخائر الحكمة التي ترد معها إلى الذهن بواسطة حاسة السمع لذا يتوارث المسلمون سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأذان في أذن المولود ،(عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن في إذن الحسن بن علي يوم ولد ، فأذن في أذنه اليمنى ، وأقام في أذنه اليسرى)( ).
وفيه درس عقائدي وتأديب أخلاقي بأن يكون شعار التوحيد والتسليم بالرسالة هو أول ما يقرع سمع الإنسان ليكون واقية من الصمم وسلامة من النفاق والكفر ،وليدخل الإنسان الدنيا باحاطة كلمة التقوى له، وفيه حرز من الشيطان ، وذات كلمة التوحيد وسماع الشهادتين هي التي يخرج بها من عالم الدنيا ، إذ ينطق بها عند الإحتضار .
(عن أَبِى رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَذَّنَ فِى أُذُنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ) ( ).
وفي قيام النبي بالأذان في سمع الحسن عليه السلام بحضور المؤمنين دعوة للإقتداء به وإتخاذه سنة متوارثة في أجيال المسلمين المتعاقبة ، وفيه قطع للنفاق ومنع من توارثه في الأجيال ، وهذا القطع من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجئ السنة النبوية مرآة وترجمة للقرآن وآياته .
فلما تضمنت آية البحث نعت المنافقين بانهم [صُمٌّ]جاء اذان النبي في سمع الحسن عليه السلام دعوة للمسلمين لتأسيس التنزه من النفاق من حين الولادة ، وجعل الصبي يشب على سماع تلاوة آيات القرآن ،إذ أن الأذان شعار الإسلام وجامع لمبادئ الإيمان مع قلة كلماته .وفيه إقرار بالوحدانية ، وبيان لصفات الكمال للذات الإلهية، ودعوة إلى الصلاة وإعلان دخول وقتها ، ولا ينحصر دخول وصدى الأذان بحاسة السمع بل يدخل إلى شغاف القلوب ويملأ النفس بالسكينة والغبطة لذا شرع في السنة الأولى من الهجرة .
ووردت بعض الأخبار بأن جبرئيل عليه السلام نزل به في مكة قبل الهجرة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علّمه بلالاً، وفي خبر مشهور ومعتبر أن تشريعه ليلة الإسراء والمعراج وأن جبرئيل أذن وأقام ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء، كي يدخل عند رفعه كل بيت من بيوت المسلمين، ويكون لواء يرفعه المسلمون في معاركهم وعند ملاقاة العدو فيصيبه الفزع والخوف وينفذ إلى قلوب الذين يريد الله عز وجل لهم الهداية والفلاح , ومن فصوله(حي على الفلاح).
ويقرع الأذان أسماع المنافقين خمس مرات في اليوم لأنه مع المسلمين ويحضرون المساجد لتكون كل مرة منها دعوة لهم للتوبة والإنابة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) فان قلت هل من تعارض بين تسمية المنافقين[صُمٌّ] في هذه الآية وبين ترديد الأذان الجواب إن الأذان رحمة لأنه سعي لشفاء المنافق من درن الصمم وعلاج قهري يتلقاه خمس مرات في اليوم طيلة أيام عمره وهو خير محض خال من الأعراض الجانبية ولا بد أن يترتب على النطق به وعلى سماعه الأثر والنفع ولو على نحو الموجبة الجزئية ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسرار التشريع فيها.
والأذان لغة الأعلام والنداء العام والبيان للناس ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً]( ).
وهو إصطلاحاً النداء للصلاة اليومية الواجبة ، بفصول منصوصة ليكون قهراً للنفس الشهوية والغضبية ، ودعوة قهرية للمنافقين والكفار للإستماع له والتدبر في معانيه ودلالاته .
صلة [لاَ يَرْجِعُونَ]بالآيات السابقة
جاء قوله تعالى في ذم المنافقين [فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] ( )وصفاً لعرض مستقر ودائم عند المنافقين وهو إصرارهم على عدم الرجوع وجاء هذا الشطر من الآية جملة خبرية معطوفة على جملة خبرية ومترتبة عليها برابط السببية ويحتمل الفعل [يَرْجِعُونَ] وجوهاً :
الأول : إنه فعل لازم بمعنى يعودون .
الثاني : إنه فعل متعد ومفعوله محذوف .
الثالث : المعنى الأعم وهو أنه فعل لازم ومتعد بحسب اللحاظ .
الرابع : إفادة معنى (صار)وذكر له مثل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ( ) ولكن هذا المثل لا يدل على المعنى لإفادته الرجوع والعودة إلى حال الكفر التي كانوا عليها قبل الإسلام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه بخصوص آية البحث ، وتقدير الآية بلحاظ إضمار المفعول وفق معاني الآيات السابقة التي تذم المنافقين على وجوه:
الأول : لا يرجعون عن إخفاء الكفر ،إذ تقدم قوله تعالى [وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( )وليس من برزخ بين الإيمان والكفر .
الثاني : لا يرجع المنافقون إلى ما عليه المؤمنون من إخلاص السرائر ، وتقدير الآية أعلاه في الثناء على المؤمنين في مفهومها : ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وهم مؤمنون .
لبيان قانون وهو أن المدار على ما في النفس من الإيمان أو الجحود،وفي هذا المفهوم مسائل :
الأولى : الإخبار عن وجود أمة مؤمنة تتحلى بالإيمان الصادق.
الثانية : دعوة المنافقين للإقتداء بالمؤمنين .
الثالثة : بيان غنى الله ورسوله عن المنافقين لوجود أمة تتصف بالتقوى، وعندما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ألف من أصحابه ووصلوا إلى موضع إسمه الشوط وسط الطريق بين المدينة وأحد (انحاز عنه عبد الله بن أبي سلول بثلث الناس، وقال أطاعهم فخرج وعصاني، ووالله ما ندري علام نقتُل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عَمرو بن حرام أخو بني سَلمة، يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبَوْا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيُغْنى الله عنكم) ( ).
الرابعة : ترغيب الناس بالإقتداء بالمؤمنين والإعراض عن المنافقين .
الخامسة : إقامة الحجة على المنافقين .
السادس : تعدد صيغ ذم المنافقين .
الثالث : لا يرجع المنافقون عن مخادعة الله والذين آمنوا مع أنها ضرر محض وباب لزيادة آثام المنافقين ، وثقل الأوزار التي يحملونها في الدنيا والآخرة .
الرابع : لا يرجعون عن الإضرار بأنفسهم وأهليهم لأن مخادعة الله ورسوله تعد وظلم وحرب على الإسلام .
الخامس : لا يرجعون عما فيه خزيهم وفضيحتهم في النشأتين ، قال تعالى [يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
السادس : فهم لا يرجعون عن خداع أنفسهم الذي يترشح عرضاً وقهراً عن مخادعتهم لله والذين آمنوا لأن الله عز وجل [لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )ومن مصاديق ملكه سبحانه أنه لا يرضى لعباده بمخادعته ، ومن يتمادى من المنافقين في غيه وغروره ويخادع الله فإن الله عز وجل يرجع هذا الخداع إلى ذات المنافقين فيكون خداعاً ذاتياً .
ويمكن تقسيم النفاق بلحاظ قوله تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا]( )إلى قسمين :
الأول : النفاق في العقيدة .
الثاني : النفاق في القول والعمل .
ولكن هذا لايعني إختصاص الأول بمخادعة الله والثاني بمخادعة الذين آمنوا بل المقصود المعنى الأعم ، وتقدير الآية يخادعون الله بالعقيدة والقول والعمل ، ويخادعون الذين آمنوا بالعقيدة والقول والعمل .
وفيه بيان لشدة قبح النفاق ، وزيادة آثام المنافقين ، وتحتمل الآية بلحاظ افراد العوالم المختلفة وجوهاً :
الأول : يخادعون الله في الدنيا .
الثاني : يخادعون الذين آمنوا في الدنيا .
الثالث :يخادعون الله والذين آمنوا في الآخرة .
والصحيح هو الأول والثاني إذ أن الآخرة دار الحساب والجزاء وليس فيها عمل ، فلذا جاءت هذه الآيات للتحذير من النفاق ومن إتباع الهوى إذ يتضمن الإخبار عن مخادعة المنافقين لله عز وجل بعث النفرة في النفوس من النفاق وأسبابه وغاياته ، قال تعالى [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ).
ويصاحب حب الإنسان في حياته كلها الإحتراز من خداع الآخرين له وإحتيالهم عليه ، سواء كانوا قريبين أو بعيدين عنه ، ويعرض ويتجنب من يخشى خداعه .
فأخبرت الآية المنافق بأنه مع هذا الإحتراز يقوم بخداع نفسه ، فكيف يحترز منها ، ويتجنب خداعها ، الجواب لا سبيل إلى السلامة من خداع النفس إلا بالإيمان والتقوى .
ومن الإعجاز في الآية أن خداع المنافق لنفسه لم يأت بالقصد والنية وإرادة ذات الخداع ، بل يقصد غيره ، يريد خداع الله والذين آمنوا فاراد الله عز وجل كفاية الناس من شرور وأذى المنافق فجعله مشغولاً بذاته، ويكون خداع المنافقين لأنفسهم على وجوه :
الأول : خداع المنافق لنفسه .
الثاني : خداع المنافق لجماعة المنافقين .
الثالث : خداع المنافق للمتحد منهم، أي يتواطئون على خداعه.
الرابع : خداع المنافقين لأنفسهم كجماعة تلتقي بمخالفة فعلهم لقولهم، وسرهم لعلانيتهم ،ومغيبهم لحضورهم .
وتبين الآية الفارق بين المؤمنين والمنافقين ،إذ أن المؤمنين لا يخدعون أنفسهم ولا غيرهم ، بل يتعرضون للخداع فيذب الله عز وجل عنهم، وهل يصح تسمية المنافقين بالمخادعين ، الجواب نعم ، وبين الإسمين أعلاه عموم وخصوص مطلق ، فالخداع أعم لذا فان اسم المنافق وذمه مستحدث مع الإسلام ،كما أستحدث النفاق مع إشراقة سنا الإسلام .
وهل يصح تقدير الآية بالواسطة أي بما يترشح عن خداعهم لأنفسهم من الأضرار , الجواب نعم ،لأنه من باب ترتب المعلول على علته ، من وجوه:
الأول :لا يرجعون عن الإضرار بأنفسهم بخداعهم .
الثاني : لا يرجعون عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : لا يرجعون عن المكر بالمؤمنين مع ذهابه سدى ، وعدم لحوق الضرر بالمؤمنين بسببه .
السابع :فهم لا يرجعون إلى الشعور وإدراك قبح النفاق ، وورد لفظ [وَمَا يَشْعُرُونَ] ( ) في القرآن ست مرات ، ولفظ [لاَ يَشْعُرُونَ] ( ) خمس عشرة مرة في القرآن , وكلها بصيغة النفي ومعاني الذم .
الثامن : المنافقون لا يرجعون عن مرض القلوب وأسبابه التي تتجلى في أمور :
الأول : إظهار الإيمان مكراً وخداعاً .
الثاني : إخفاء الكفر والضلالة .
الثالث : الحنق والحسد لتتابع النصر والظفر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
ويتقي الإنسان من الأمراض ، وأن أبتلى بواحد منها فانه يجتهد في العلاج ويبذل الوسع للشفاء منه ، وتغمره السعادة إن تخلص منه .
ويلجأ المؤمن للدعاء للشفاء من المرض والشكر لله عز وجل على الشفاء منه .
أما المنافقون فانهم إشتروا المرض وإختاروه ويأبون الشفاء منه .
فجاء قوله تعالى[فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] لذم المنافقين وإصرارهم على النفاق، ودعوتهم للتوبة والإنابة، فان قلت إن قوله تعالى أعلاه يدل على الإمتناع الذاتي عن الرجوع عن النفاق فهذا صحيح، ولكنه خاص بآولئك الذين باقون على النفاق ساعة التلاوة وحال الإستماع للآية، ففي كل ساعة يكون المنافق على إحدى حالات ثلاث:
الأول : زيادة مرض القلب الذي يتصف به المنافق وتماديه في الغي والمخادعة.
الثاني : بقاء المنافق على ذات الدرجة من النفاق.
الثالث : التنزه من النفاق والكفر الباطن، ليكون شهود ومغيب المسلم واحداً وهو من مصاديق قوله تعالى[حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
وجاءت كل آية من هذه الآيات لأمور:
الأول : توبة المنافق عن نفاقه.
الثاني : إشغال الذي يصر على النفاق بنفسه والعداء الذ ي إختار الوقوع تحت سطوته.
الثالث : شفاء صدور المؤمنين، وبيان نصر الله عز وجل لهم باضعاف طرف النفاق، ليبقوا والكفار في حال الكبت والإذلال والغيظ، بينما يعلو صرح الإسلام، ويبذل المؤمنون وسعهم في نشر الدعوة الإسلامية.
لقد شهدت المدينة المنورة أمرين:
الأول : ظهور النفاق، ووجود رؤوس له.
الثاني : زحف وفود القبائل لدخول الإسلام.
فجاءت هذه الآيات لمنع أي سلطان للنفاق ورؤوسه على القبائل التي تدخل الإسلام، والحيلولة دون إنتقال داء القلوب إلى أي من أفرادها أو اعضاء الوفود التي ترجع إلى قبائلهم، فمن فضل الله بهذه الآيات أن هذه الوفود لا ترجع بالأخبار عن النفاق، إذ أن هذه الآيات تمنع من شيوعه وتأتي عليه، وتزجر عنه وتجعل النفوس تنفر من المنافقين، وتكون مقدمة ومدخلاً كريماً لدخول الناس في الإسلام بصدق وإخلاص ز
ومن إعجاز هذه الآيات أمور :
الأول : فضح المنافقين مع قلتهم .
الثاني : المنع من تفشي النفاق بين الناس .
الثالث : وقاية وتنزه حديثي العهد بالإسلام من آفة النفاق .
الرابع : الحيلولة دون خروج النفاق إلى القبائل والأمصار .
التاسع : لا يرجع المنافقون عما يزيدهم مرضا، وفيه بيان لخصلة مذمومة مخالفة للعقلائية والنهج السليم، إذ يسعى الإنسان لشفاء مرضه، بينما المنافقون يسعون لزيادة المرض، وكل زيادة في المرض تكون متباينة في درجتها وزمانها، وهي محتملة قد تقع وقد لا تقع إلا زيادة مرض المنافقين فهي حتمية الوقوع لأنها من عند الله، وليست متباينة في أوانها بل هي من الكلي المتواطئ إذ تأتي متعقبة لمرض القلوب من غير فاصلة بدليل مجئ الفاء في قوله تعالى[فَزَادَهُمْ] فلم تقل الآية (ثم زادهم) وبما يفيد الإبطاء والتراخي .
ليكون من الإعجاز في هذه الآية صيرورة هذه الزيادة عوناً للمؤمنين في حصار النفاق وإبتلاء المنافقين بأنفسهم وبالداء الذي أصابهم، فيكثرون من الشكوى ويبذلون الوسع لإزاحة كابوس المرض وما يترتب عليه من الأذى للنفس والأركان والجوانح.
العاشر : لا يرجع المنافقون عن الكذب والإفتراء وما فيه العذاب الأليم، والعقاب الشديد، ومن رحمة الله في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم المواخذة على النوايا إلا أن يترجل الفعل في مبرز خارجي، فجاءت الآية حجة في مضمونها ودلالتها ببيان شدة عقاب النفاق بقوله تعالى[وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]( )، ولو لم يكذب المنافقون فهل يأتيهم العذاب .
الجواب ذات النفاق كذب ومكر، إذ أن أربابه يدخلون الإسلام ويدّعون الإيمان وهم يضمرون الكفر ليكون النفاق كذباً من جهات:
الأولى : إظهار الإسلام.
الثانية : إخفاء الكفر.
الثالثة : فعل القبائح التي تترشح عن النفاق، والتي ذكرتها هذه الآية وجاءت سورة وآيات أخرى من القرآن بذكر جملة أخرى من صفاتهم وأفعالهم.
ولا ينحصر كذب المنافقين بحال السلم والحضر، بل يشمل حضورهم مواطن القتال والغزو أو التأخر عنها بغير عذر، قال تعالى[وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ]( ).
وفي التنزيل[وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا]( )، ولما دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين للخروج إلى تبوك، قام المنافقون بالتحريض على عدم الخروج لشدة الحر، ولم يتركهم الله عز وجل يعبثون في الأرض فساداً، بل تفضل وأمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول بأن نار جهنم التي تنتظر المنافقين والكفار أشد حراً.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تأمر النبي بحصر القول وتوجه الخطاب إلى المنافقين بالذات فلم تقل(قل لهم) بل جاء الأمر إلى النبي مطلقاً في موضوعه، وعاماً في جهة الخطاب التي يتوجه إليها لبيان أمور:
الأول : النسبة بين موضوع وحكم الآية وبين سبب النزول عموم وخصوص مطلق.
الثاني : الإطلاق في لغة الإنذار وإرادة الذنوب التي تدخل مرتكبها النار.
الثالث : تذكير الناس جميعاً بالنار وشدة حرها ، قال تعالى[فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى]( ).
الرابع : تتضمن الآية في مفهومها ندب المسلمين للخروج للقتال، والإجتهاد في طاعة الله بما يصرف عنهم حر النار.
الخامس : الآية من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
السادس : تأكيد إستحقاق المنافقين العذاب الأليم بصدهم عن سبيل الله، وعدم الإنتفاع منهم إن شهدوا القتال، قال تعالى[ولَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ]( ).
وتبين الآية أعلاه طائفة أخرى غير المنافقين وهم (السماعون) ويتصفون بخصال هي:
الأولى : الإستماع والإنصات للمنافقين في كذبهم وصدهم عن سبيل الله.
الثانية : قبول قول المنافقين، خاصة وأن بعضهم من أكابر القوم كعبد الله بن أبي سلول ورفاعة بن زيد بن تابوت، وعبد الله بن نبتل.
الثالثة : يسمعون أخبار المؤمنين فينقلونها للمنافقين.
الرابعة : إرادة حسن الظن بالمنافقين.
الخامسة : سماعون لهم أي مطيعون.
السادسة :ينقلون أحاديث المنافقين ليس بقصد المكر والفساد.
السابعة : المراد بعض الضعفة من المسلمين يسمعون قولهم.
وقيل: نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم ( )، ولكنه خلاف منطوق الآية إذ قيدت الآية السامعين بلغة التبعيض(فيكم) مما يدل على إتصاف الذين يسمعون بصفة الإيمان.
وعن مجاهد وابن زيد والحسن: بينكم عيون لهم عليكم (يوصلون) ما يسمعون منكم ( ).
ولا دليل عليه، ولم يكن المنافقون بحال وشأن بحيث تكون لهم عيون، إنما كان المنافقون يخفون كفرهم وضلالتهم، فكيف تكون عيون لهم، فان قلت كان بعض رؤساء النفاق سادة في قومهم، كعبد الله بن أبي سلول، والجد بن قيس.
والجواب نعم، ولكن المؤمنين إزدروهم، وقد طلبوا قتل الأول منهما فنهاهم النبي عن قتله.
وقيل: ان فيكم بمعنى في جيشكم أو في جملتكم ( )، وهذا صحيح ولكن المعنى أعم إذ أنها تشمل التبعيض وتقديرها: ومنكم بلحاظ صيغة الخطاب والفصل بين المنافقين وبين توجه الخطاب للمؤمنين لتحمل الآية معنى التنبيه والتحذير للمؤمنين بصيغة الإكرام.
ووردت آيات القرآن بنعت المنافقين بالإنصات للكذب والإفتراء، قال تعالى[سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ]( )؟
فهل موضوع السمع في الآيتين أعلاه ذاته، الجواب لا، إذ المقصود من الآية أعلاه هم المنافقون، فيسمع بعضهم بعضاً في كذبه وإفترائه، ويصغي للكفار في كذبهم وضلالتهم ، أما قوله تعالى[وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] ( ). فالمراد المؤمنون للتباين بقيد (فيكم) وقيد (لهم) في الآية أعلاه والذي يفيد التباين بين الذي يسمع والذي يقول ويفعل.
ومن إعجاز الآية أمور:
الأول : تحذير المسلمين والمسلمات من الإنصات للمنافقين.
الثاني : دعوة المسلمين لعدم التصديق بما يقوله المنافق، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]( ).
الثالث : حث المؤمنين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الحادي عشر : لا يرجع المنافقون عن الفساد في الأرض مع شدة قبحه وضرره على الذات والغير ، وترتب الإثم عليه ، ولا ينحصر فساد المنافقين في الآية بإخفاء الكفر ، وما يمكن تسميته بالفساد العقائدي بل يشمل إرتكاب الأعمال السيئة .
والفساد مصدر فسد يفسد فساداً ، وضده الإصلاح ، وهو في الإصطلاح ميل الشيء عن جادة الصواب والإعتدال من غير ضرورة أو غلبة غرض صحيح ، وبين الفساد والظلم عموم وخصوص مطلق فالفساد أعم لذا جاء في بداية القرآن نهي المنافقين عن الفساد بقوله تعالى [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] ( )ليفيد بالدلالة التضمنية النهي عن الظلم والتعدي .
لقد جاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرباً على الفساد في الأرض ، وبداية مباركة لإشاعة مفاهيم الصلاح والقيم الأخلاقية التي تتقوم بتقوى الله عز وجل ، قال تعالى [وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا]( ).
ومن إعجاز تكرار اللفظ في القرآن أن الآية أعلاه وردت فيه مرتين وكلاهما في سورة الأعراف :
الأولى : جاءت خطاباً للمسلمين والمسلمات ومن خلفهم الناس جميعاً , ويدل عليه الأمر بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل الذي سبق هذا الشطر من الآية وتأخر عليه بقوله تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا]( )، مما يدل على أن المراد بالإصلاح في الآية هو نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من دخول الناس الإسلام وإجتهادهم في طاعة الله ونبذ الشرك والضلالة وهدم الأصنام والقضاء على العادات المذمومة كوأد البنات والغزو بين القبائل والتفاخر بقطع الطريق ونهب الأموال .
ومن الإصلاح الخصب والغنائم التي صاحبت البعثة لتكون وسائل في تعظيم شعائر الله ونشر مبادئ الإسلام .
ومن الإعجاز في دلالات تكرار اللفظ القرآني أن لفظ [َلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]( )ورد فيه ثلاث مرات , فمع الآيتين أعلاه ورد الخطاب والزجر للمنافقين[َلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] ليكون تقديرها لا تفسدوا فيها بعد إصلاحها ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي الجمع بين الآيتين أمور:
الأول : بعث اليأس والخزي في قلوب الكفار والمنافقين بصلاح الأرض وعمارتها بالإيمان .
الثاني : أخذ الناس يدخلون الإسلام أفواجاً مع التقيد بأحكام الفرائض والأوامر والنواهي فيه ، فلا يضر فساد المنافقين إلا أنفسهم .
الثالث : الإنذار للكفار بأن فساد المنافقين لن ينفعهم ، وهل في الآية زجر لكفار قريش من الإستماع إلى تحريض المنافقين والذين في قلوبهم مرض على الإسلام ، الجواب نعم , ولكنهم أصموا آذانهم عن هذه الآيات وما فيها من الموعظة .
الرابع : الترغيب بترك النفاق ، وبيان أنه شر محض .
الخامس : الإخبار عن مضاعفة الإثم على المنافقين لأن إصلاح الأرض حجة عليهم .
الثانية : مجي النهي عن الفساد حكاية عن نبي الله شعيب في إنذاره لقومه بعد أن إبتدأت الآية بدعوته لهم لعبادة الله عز وجل ونبذ الشرك، وإيفاء الكيل والميزان وإجتناب الظلم والمعاصي (وعن ابن عباس في حديث :وكانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه ويقولون دراهمك هذه زيوف فيقطعونها ثم يشرونها منه بالبخس يعني بالنقصان)( ).
وبعد أن جاء الأنبياء لقومهم بالأمر بطاعة الله وإجتناب السيئات وهتك الحريات ثم أعقبتها فترة من الرسل ، ليبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس جميعاً ، وتفضل بإصلاح الأرض بنبوته .
وأراد المنافقون بث الفساد فجاءت الآيات بزجرهم وتوبيخهم وبيان عدم إمكان تحقق الفساد لأن الإصلاح باق فيها إلى يوم القيامة .
وتقدير الجمع بين قوله تعالى [لاَ يَرْجِعُونَ] ( ) و[لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] ( ) على وجوه :
الأول : لا يرجع المنافقون عن الفساد .
الثاني : لا يرجعون عن الفساد مع توجه النهي لهم .
الثالث :ذات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نهي عن الفساد في العقيدة والمبادئ والأخلاق وعالم الأفعال، ولكن المنافقين لا يرجعون عنه.
الرابع : كل آية من القرآن تقول للمنافقين لا تفسدوا في الأرض ، بلحاظ أن قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] ( )أعم من أن يختص بالأقوال الصادرة من البشر إنما يأتي بتلاوة الآية القرآنية والإستماع لها ،وبالسنة النبوية القولية والفعلية.
الخامس : تقدير الآية : لا تفسدوا في الأرض فتمسك السماء المطر وتفتقد البركة ، ولكن المنافقين لا يرجعون عنه .
السادس : قرب نزول البلاء والعذاب بالمنافقين لأنهم لا يرجعون عن الفساد.
السابع :لا يرجع المنافقون عن الفساد فاستحقوا عقوبة الإقامة في [الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
الثامن : تكرار توجه النهي للمنافقين [َلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]( )وتعدد صدوره، ولكن المنافقين لا يرجعون عن الفساد .
التاسع : تفضل الله بقبول توبة الذي يمتنع ويرجع عن الفساد ولكن المنافقين لا يرجعون عنه .
العاشر : قيام المنافقين بنهي بعضهم بعضاً عن الفساد ويقول بعضهم لجماعته [َلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] ولكنهم لا يرجعون عنه .
وهذا القول مقدمة لتوبة هذا القائل وغيره ، وربما يتوب من يسمع النهي بينما يبقى القائل حائراً متردداً وهو في مستنقع الضلالة ، فيأتيهم جميعاً النهي بالآية القرآنية وعلى لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الحادي عشر :وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض فانهم لا يرجعون إلى رشدهم .
الثاني عشر : وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض لا يرجعون إلى أولى الأمر وأرباب العقول وميزان الحكمة .
الثالث عشر : وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض لا يرجعون إلى قصص الأمم السابقة وما فيها من المواعظ والعبر ، قال تعالى [فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ] ( ).
الرابع عشر : [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ] ( ) ولكن المنافقين لا يرجعون عن الفساد .
الرابع عشر : لقد أراد الله عز وجل عمارة الأرض بالصلاح ، وجعلها محلاً لعبادته والخشية منه، ولكن المنافقين لا يرجعون إلى الإصلاح ، ولا يكتفون بالبرزخية بين الإصلاح والفساد ، بل يرتكبون الفساد عن عمد ولا يرجعون عنه .
السادس عشر :وإذا قيل للمنافقين لا تفسدوا في الأرض لأن الفساد فتنة وهلاك فهم لا يرجعون .
السابع عشر : وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض فانها ملك لله فهم لا يرجعون .
الثامن عشر : وإذا قيل لهم أنصروا النبي محمداً ولا تفسدوا في الأرض فهم لا يرجعون .
التاسع عشر : وإذا قيل إرجعوا عن الفساد في الأرض فهم لا يرجعون.
الصلة بين [إنما نحن مصلحون]و[فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] ( ).
لو كان المنافقون مصلحين حقاً لما توجه لهم النهي عن الفساد ، ولما لامهم أحد على عدم الرجوع عن الإصلاح لأنه خير محض ونفع للذات والغير ، إنما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالإصلاح وللإصلاح أي أنه سبب ووسيلة وغاية , ومنه في المقام أمور :
الأول : النهي عن الفساد ، وتلك آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتقوم الدعوة فيها إلى الإصلاح بالنهي عن الفساد، ومن مصاديق العموم في رسالته وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )أن القرآن نزل بالنهي عن الفساد ، وفضح الذين يصرون عليه، وذم المنافقين من جهات :
الأولى : إرتكاب المنافقين الفساد .
الثانية : الإصرار على الفساد وعدم الإستجابة للنهي عنه .
الثالثة : اللبس والتدليس على الناس بالمغالطة وإدّعاء الإصلاح .
فان قلت لماذا يرتكب المنافقون المعاصي المتعددة في آن واحد ، والجواب ذكرته آية البحث بقوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ]( ).
ويكون عدم رجوع المنافقين بلحاظ الآية أعلاه على وجوه :
الأول : لا يرجع المنافقون عن الفساد .
الثاني : لا يرجع المنافقون عن التدليس والإفتراء ودعوى الإصلاح كذباً وما فيها من الإعراض عن الإسلام.
الثالث : لا يرجع المنافقون عن ذات النفاق وإخفاء الكفر الذي هو علة فسادهم .
الصلة بين[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]( ) وبين[لاَ يَرْجِعُونَ]( ) وفيها مسائل :
الأولى : توالي توجه الدعوة للمنافقين بلزوم صدق الإيمان فمع أنهم يعلنون الشهادتين ويحضرون الصلوات ويخرجون في الغزو مع المؤمنين خاصة مع رجحان تحقيق النصر وجلب المغانم كما في قوله تعالى [الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ]( ).
ومن الإعجاز في نظم القرآن وعلة الصلة بين آياته أن لفظ [أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ]لم يرد في القرآن إلا مرتين ، وكلاهما حكاية عن لسان المنافقين ومناشدتهم للمؤمنين ولكن مع التباين الزماني ، إذ جاء ذات اللفظ بخصوص الآخرة [يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ]( ).
ليكون حرمان المنافقين من ثمرات النصر في الدنيا مقدمة ومرآة لحرمانهم من الثواب في الآخرة ، وجاء قوله تعالى [قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ]( )في الآية أعلاه لأنه جاءهم التحذير والإنذار والزجر عن النفاق والفساد في الأرض والدعوة للرجوع عنه ولكنهم أصروا على إرتكابه وعدم التوبة .
فكان الجزاء حرمان المنافقين من النعيم الدائم الذي يتفضل به الله عز وجل على المؤمنين .
وعلة حرمان المنافقين من اللبث الدائم في النعيم هو إمتناعهم عن محاكاة المؤمنين في إيمانهم الصادق وشدة إضرارهم بالإسلام لأنهم مع المسلمين وفي زمرتهم وهذا الفساد مرآة لخبث سرائرهم وإضمار الكفر والترصد بالمؤمنين.
فصحيح أن الآية تضمنت دعوة المنافقين إلى الإيمان الصادق إلا أنها تدل على أمور :
الأول : تنزيه النفس من الكفر .
الثاني : طرد أسباب الشك والريب من النفوس .
الثالث : إجتناب إطلاع الكفار على أحوال المسلمين ، ومواضع العورة التي قد ينفذ منها الكفار ولم يعلم المنافقون أن هذا الإطلاع والنميمة والوشاية صارت سبباً في منعة المؤمنين وأخذهم الحائطة للدين وزيادة إحترازهم ، وقيامهم بمباغتة الكفار وعدم إمهالهم لحين الهجوم على المسلمين .
ومن إعجاز القرآن أن لفظ [خُذُوا حِذْرَكُمْ]( ) ورد مرتين في القرآن وبينهما عموم وخصوص من وجه ،فمادة الإلتقاء أن كل واحدة منهما جاءت خطاباً للمسلمين ، وأما مادة الإفتراق فإن الأولى جاءت بالبعث على القتال في سبيل الله ووجوب الإستعداد والتهئ له بالعدة والعدد واليقظة والتدبير، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا]( ).
وأما الثانية فقد وردت بخصوص أوان إستدامة القتال وعند الإستراحة ووقف القتال بين الفريقين لقطع الطريق بوجه العدو ومنعه من المباغتة ولإخباره بأن الغفلة منتفية وبعيدة عن المؤمنين، ففي قوله تعالى [وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ]( ).
(قال ابن عباس : نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أنه غزا بني محارب وبني أنمار فنزلوا ولا يرون من العدو أحداً فوضع الناس السلاح فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحاجة حتى قطع الوادي والسماء ترش بالمطر فسال الوادي فحال السيل بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أصحابه فجلس تحت شجرة فبصر به غورت بن الحارث المحابي فقال : قتلني الله إن لم أقتله ثم انحدر من الجبل ومعه السيف ولم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا وهو قائم على رأسه وقد سل السيف من غمده وقال يا محمد من يمنعك مني الآن؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الله عز وجل ثم قال اللهم أكفني غورث بن الحارث بما شئت فاهوى غورث ليضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به فأكب لوجهه من زلخة( ) زلخها فندر السيف من يده
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ السيف ثم قال « يا غورث من يمنعك مني الآن؟ فقال لا أحد فقال أتشهد أن لا إله إلاّ وأن محمداً عبده ورسوله وأعطيك سيفك فقال : لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليك عدواً فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه فقال غورث لأنت خير مني فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجل أنا أحق بذلك منك.
فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا له : ويلك يا غورث ما منعك منه فقال والله لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه به فوالله ما أدري من زلخني بين كتفي فخررت لوجهي وذكر حاله لهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : وسكن الوادي فقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوادي إلى أصحابه وأخبرهم الخبر وقرأ هذه الآية : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى }( ))( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين وجوهاً :
الأول : إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس فهم لا يرجعون .
الثاني : لا يرجع المنافقون عن إبطان الكفر .
الثالث : لا يرجع المنافقون عن عدم الإستجابة للأمر بالمعروف .
الرابع : لا يرجع المنافقون إلى الإيمان مع أنه الأصل وللملازمة بينه وبين دخول الإسلام .
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن المنافقين لا يرجعون عن نعت المؤمنين بالسفهاء ، ومن خصائص المؤمنين أنهم يبذلون الوسع لإنقاذ المنافقين من جاثوم النفاق وما يترشح عنه من الكدورات ويتحملون الأذى والضرر في سبيل نجاتهم من اللبث الدائم في الدرك الأسفل من النار ، ومع هذا فإن المنافقين يرمونهم بالسفه وخفة العقل ، وهذا من أصدق ضروب التضاد أن تسعى أمة عظيمة لإنقاذ شخص من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة ومع هذا يمتنع عن الإنصات لها وتوجيه الشكر والثناء لأفرادها ، والإقتباس من السنن الحميدة التي قادتهم إلى الإخلاص والصدق في إرادة نجاته ، ويقوم برميهم بالسفهاء فلذا أخبر الله عز وجل عن المنافقين في هذه الآية بأنهم [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ]( ).
ومع ذم وتوبيخ الله للمنافقين ونعتهم [إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ]( )فانهم [لاَ يَرْجِعُونَ] عن النفاق وإستبطان الكفر والضلالة وإرادة السوء بالمسلمين وتمني الشماتة بهم في حال السلم والحرب .
الجمع بين خاتمتي الآيتين
تتكرر أداة النفي في خواتيم هذه الآيات إلا ما كانت الخاتمة بذاتها ودلالتها تتضمن النفي كما في قوله تعالى [يَكْذِبُونَ]( ) [يَعْمَهُونَ]( ).
وهو من الإعجاز في نظم هذه الآيات بتأكيد إنتفاء صفات الحسن والخلق الكريم عن المنافقين إذ يترشح عن التضاد الذاتي بإعلان الإيمان والبقاء على الكفر غلبة النفس الشهوية والغضبية ومصاحبة ضيق الصدر عند تلقي أمر أو الهم بفعل .
وإجتمع النفي في خاتمتي الآيتين بالحرف [لاَ] وكل واحدة منهما جاءت بصيغة المضارع ، ولم تقل آية البحث (لم يرجعوا) لأن الخصال المذمومة التي تضمنتها الآية من الصمم والبكم والعمى تدل على أنهم لم يرجعوا في الزمن الماضي ، فجاءت خاتمة الآية بصيغة المضارع لنفي رجوعهم إلى الهدى ما داموا في حال النفاق ويصدق عليهم قوله تعالى [وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] ( ).
وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : لا يعلمون فهم لا يرجعون بتقريب أن عدم العلم علة وسبب لعدم رجوعهم عن الضلالة والإصرار على إستحواذ الكفر على القلب .
الثاني : لا يعلمون أنهم لا يرجعون ، وفيه مسائل :
الأولى : لا يعلم المنافقون أنهم يقفون بين يدي الله وهو سبحانه مخرج ما يخفون في قرارة نفوسهم من الإستكبار والإعراض عن المعجزات وبينات الهدى ، قال تعالى [إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ]( ).
الثانية : لا يعلم المنافقون أنهم لا يرجعون إلى الصراط والهدى ما داموا على حالهم من المكر والخبث والجحود .
الثالثة : لا يعلمون بأن من الكبائر أنهم لا يرجعون إلى الكتاب والسنة في الواجبات والمحرمات .
الرابعة : لا يعلمون أنهم لا يرجعون إلى وجوب قصد القربة في العبادات وأن المنافق متخلف عن هذا الشرط لأن الله عز وجل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
الخامسة : لا يعلمون أنهم لا يرجعون إلى الكفر الصريح لحرمة الإرتداد بعد النطق بالشهادتين .
السادسة : لا يعلمون أنهم لا يرجعون إلى النهب والسلب وسفك الدماء بغير حق لحكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالكتاب والتنزيل.
وأخرج عن السدي قال: أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعاه فقال : إلام تدعو؟ فأخبره ، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان ، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : انظروا لعلي أسلم وليَ من أشاوره ، فخرج من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر، فمر بسرح من سرح المدينة ، فساقه ثم أقبل من عام قابل حاجاً قد قلد وأهدى ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، فنزلت هذه الآية حتى بلغ { ولا آمين البيت الحرام } فقال ناس من أصحابه : يا رسول الله خلِّ بيننا وبينه فإنه صاحبنا . قال : أنه قد قلد! قالوا : إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية، فأبى عليهم)( )، فنزل قوله تعالى[وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ….]( ).
السابعة : لا يرجعون عن حال عدم العلم، بلحاظ أنها أمر إختياري.
الثامنة : لا يرجعون إلى أصل العلم بالمعجزة والبرهان الجلي الذي يدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن قلت إن القدر المتيقن من نفي العلم عن المنافقين في الآية كونهم هم السفهاء، والجواب الآية أعم من وجوه:
الأول : عدم علم المنافقين بأنهم قليلوا التدبر والإلتفات إلى حقائق الأمور يترشح منه ضياع للمنافع ويكون مجلبة للمضرة عليهم وعلى غيرهم.
الثاني : إذا كان الإنسان لا يعرف ماهيته وحاله فمن باب الأولوية القطعية أنه لا يعلم أموراً أخرى.
الثالث : وليس من دليل في الآية يدل على الملازمة والحصر بين السفاهة وعدم العلم، خاصة وأن المفعول به مضمر، ليكون من إعجاز القرآن وتعدد وجوهه ومعانيه مجيء خاتمة الآية بما يفيد الإستقراء والتحقيق بلحاظ الآيات الأخرى والبيان الوارد في السنة النبوية.
الرابع : دلالات الصلة والجمع بين آخر الآية وأول الآية التالية.
الخامس : تدل هذه الآية على إجتماع الجهالة والنفاق ولابد من ترشح عدم العلم عنه، وتلك آية في صيرورة الكفار والذين في قلوبهم مرض عاجزين عن الجدال في مضامين آيات القرآن، وفيه شاهد بأن إعجازه لا يختص بالجانب البلاغي نعم بلاغته نوع طريق لأبواب عديدة من ذخائر الحكمة السماوية التي لم تطل على الأرض إلا في القرآن، ويكون عدم الرجوع إلى الرشد وأسباب الفلاح من عدم العلم بكيفية جلب المصلحة ودفع المفسدة.
ويهدي القرآن المؤمنين إلى صيغ الصلة مع الناس بلحاظ إختلاف مشاربهم، ترى كيف يبدأ علاج وإصلاح الداء والنقص الذي يتصف به المنافقون إذ أنه بلحاظ الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : خصلة السفاهة وخفة العقل.
الثاني : إتصاف المنافقين بعدم العلم.
الثالث : حال العلم وعدم السمع .
الرابع : البكم وعدم قدرة المنافقين على النطق.
الخامس : إصابة المنافقين بالعمى وعدم الرؤية.
السادس : عدم رجوع المنافقين.
الجواب جاء القرآن بعلاج هذه العيوب والآفات مجتمعة ومتفرقة، فليس المقام مقام ترغيب ولحاظ قاعدة تقديم الأهم على المهم، وكل آية تبين خصال النفاق المذمومة هي علاج لهذا الداء وما يتفرع عنه، وسبب وقاية منه جملة وتفصيلاً.
ومن الشواهد عليه قيام كثير من المنافقين بالتوبة النصوح من النفاق، وهو من إعجاز القرآن الغيري بأن يكون دخول الناس إلى الإسلام على وجوه:
الأول : الإيمان بصدق دفعة واحدة، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ]( )، وهم الأكثر والأغلب.
الثاني : الذي يدخلون الإسلام ثم يتفقهون في الدين فتمتلأ نفوسهم بالإيمان.
الثالث : المنافق الذي يعلن إسلامه وهو يبطن الكفر والضلالة.
فجاءت هذه الآيات لذم المنافقين، أما بلحاظ المفهوم فهو على وجوه:
الأول : الثناء على المؤمنين وعلى كل المسلمين الذين أسلموا ونطقوا بالشهادتين مع موافقة سرائرهم لهذا النطق، وكأنه صادر من القلب والجوانح والجوارح، لتشهد له يوم القيامة فتكون سبباً لإجتيازه الصراط كالبرق.
الثاني : دعوة المسلمين للإحتراز من النفاق، لأنه كما يأتي إبتداءً قد يأتي في حال الإستدامة كما لو دبّ لمن هو حديث العهد بالإسلام بواسطة المنافقين أنفسهم وأهل الجدال والكفار وشدتهم أو الحاجة إليهم، فمن إعجاز هذه الآيات أنها حصرت النفاق بأشخاص وفئة قليلة، ومنعت من إتساعه والتجاهر به وبما يدل عليه من القول والفعل الذي هو شر وضرر محض.
الثالث : بيان قانون ثابت، وأن القرآن مدرسة الهدى والصلاح، وفي التنزيل[إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى]( ).
الرابع : دعوة المؤمنين للشكر لله عز وجل على أمور:
الأول : بيان القرآن لخصال النفاق.
الثاني : معرفة المنافقين بلحاظ الصفات التي تدل على إخفائهم الكفر والضلالة.
الثالث : كفاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من شرور المنافقين لأنهم عدو مصاحب في المدينة، وفي سوح القتال، وليس في تأريخ الملل أن يخرج مع الجيش أعداء له ويكيدون لذات العقيدة ويتمنون هزيمة الجيش، ويقومون بالإنسحاب حتى قبل نشوء المعركة كما حصل في معركة أحد، إذ إنسحب ثلث الجيش، ولكن القرآن جاء بالمواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وبيان حدوث قريب منه في قصص الأمم السابقة.
وفي قوله تعالى[فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ]( )، أخرج عن السدي قال: خرجوا مع طالوت وهم ثمانون ألفاً ، وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأساً ، فخرج يسير بين يدي الجند فلا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي ، فلما خرجوا قال لهم طالوت{إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني}
فشربوا منه هيبة من جالوت ، فعبر منهم أربعة آلاف ورجع ستة وسبعون ألفاً ، فمن شرب منه عطش ، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضاً و { قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } فرجع عنه ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، وجلس في ثلثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { إن الله مبتليكم بنهر } يقول : بالعطش ، فلما انتهوا إلى النهر – وهو نهر الأردن – كرع فيه عامة الناس فشربوا ، فلم يزد من شرب إلا عطشاً ، وأجزأ من اغترف غرفة بيده وانقطع الظمأ عنه)( ).
ويفيد قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا]( )تظاهر المنافقين بحسن المنطق وإعلان الإستجابة لنداء الإيمان وهل فيه تعارض مع ما ورد في الآية السابقة بقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]( ).
الجواب ،لا ولكن الجمع بين الآيتين يدل على أن الذين يقولون لهم (آمنوا) في هذه الآية هم غير المؤمنين ، وفيه آية آعجازية بأن تصدر دعوتهم إلى إصلاح السريرة وصدق الإيمان من غير المؤمنين ، وتأتي هذه الدعوة من جهات :
الأولى : آيات القرآن ، فهي لسان ناطق ، وحجة على من يتلوها أو يسمعها أو تصل إليه بمعناها ودلالاتها ، وهل يكون العاملون بمضامينها حجة على الناس في المقام , الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن الغيري في أثر وفيوضات الآية القرآنية .
وتدل عليه هذه الآية ولغة التشبيه والأسوة الإيمانية فيها بقوله تعالى [كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( )، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فقد جعل الله عز وجل رسوله قدوة ونبراساً صالحاً , قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ) وتفضل سبحانه جعل الناس يقتدون بأصحابه وأهل بيته ، ويدعون المنافقين لمحاكاتهم والعمل بنهجهم باتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنزيه النفوس من درن النفاق والشرك والضلالة .
وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وإذا قيل لهم آمنوا لا يرجعون)، وعدم الرجوع هنا من جهات:
الأولى : عدم الرجوع عن الضلالة .
الثانية : عدم الرجوع عن إبطان الكفر.
الثالثة : عدم الرجوع إلى النصيحة والدعوة إلى الهداية .
الثاني : وإذا قيل لهم آمنوا كما يؤمن الناس لا يرجعون ،وفيه مسائل:
الأولى : لا يرجع المنافقون إلى ما يقال لهم ودعوتهم إلى الهداية والإيمان .
الثانية :لا يرجع المنافقون إلى أصل الهدى .
الثالثة : لا يرجع المنافقون إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الثالث : وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس لا يرجعون عن النفاق، وفيه دعوة للمؤمنين للشكر لله عز وجل على التوفيق من جهات:
الأولى : المؤمن أسوة كريمة يشار إليه بالبنان.
الثانية : كل واحد من المؤمنين حجة على أهل الزيغ والضلالة.
الثالثة : ثناء الناس على المؤمنين بالدعوة إلى محاكاتهم في الصلاح.
الرابعة : معرفة الناس بسلامة سريرة المؤمنين وصدق إيمانهم ولما قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، جاءت هذه الآيات لتبين قيداً إيمانياً لهذه العبادة وهي أن تكون بقصد القربة والتنزه عن الشرك وسلامة النفس من درن النفاق، وفيه مسائل:
الأولى : يعلم الناس هذا القانون بدليل ثنائهم على المؤمنين والإشارة إليهم بالمدح والأسوة الكريمة.
الثانية : المسلمون هم الأمة التي يتجلى فيها مصداق العبادة.
الثالثة : إفتضاح أمر المنافقين، وخروجهم عن أصل الهدى والرشاد.
والفعل (يرجع )و (يرجعون ) يأتي فعلاً لازماً ومتعدياً ، ويتعدد بحروف الجر إلى وعن مع التباين في المعنى في كل منها ، ويتعدى بـ (من) و(في).
صلة [فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] بقوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]
جاء قوله تعالى [فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] بصيغة الجملة الخبرية التي تفيد الوقوع على نحو القطع بلحاظ أن الخبر القرآني كلمة صدق ولا يحتمل غير الحق والجزم ، فما دام المنافق متلبساً بالنفاق غير تائب عنه فانه يصر على الإقامة في الضلالة والمكر ولا يرجع إلى سنن الهدى بينما جاء قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا] بصيغة الجملة الشرطية ولكن هذا الشرط ليس تعليقاً بل هو لبيان حال وكيفية مباينة لحالهم اليومية العامة لذا جاءت بصيغة الخلوة والإنفراد.
ويمكن تقسيم الشرط إلى أقسام:
الأول : ما يخص أمراً واقعياً يحصل في الزمن الحاضر والعادة عند إجتماع شرائطه مثل: إذا لم أشرب الماء وقت السحور أحس بالعطش في النهار.
الثاني : بيان أمر سالب بإنتفاء الموضوع وأنه غير متنجز في الواقع الخارجي , وفي ذم المنافقين ورد قوله تعالى[وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا]( ).
الثالث : إرادة أمر غير حقيقي إنقضى وإنصرم ولا يخص الزمن الحاضر أو المستقبل.
وعن مجاهد في الآية قال: هذا في الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف)( ) ولم يأتوا في الحقيقة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويسألونه الإستغفار لهم.
الرابع :الشرط التعليقي : وهو الذي يتضمن معنى التعليق في المضي ، وقد يخص الزمن الماضي ، كما في [لو] التي أختلف في كونها حرف شرط كما عن ابن مالك ، وقال جماعة أنها ليست حرف شرط لأن الشرط يتقدم بإرادة الإستقبال منه ، وكأن إذا التعليقية برزخ بين (إذا ) الشرطية و (إذا ) الفجائية أو الحرفية والتي تتصف بخصائص منها:
الأولى :لا يلي إذا الفجائية إلا جملة إسمية كما في قوله تعالى [فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى]( )تقول :أذن المؤذن فاذا صلاة الجماعة قائمة،
نعم قد تدخل على الجملة التي هي جواب للشرط إذا اقترنت بالفاء كما في قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ]( ).
وقال ابن مالك: وتخلف الفاء إذا المفاجئة كأن تجد إذا لنا مكافأة( ).
الثانية : لا تحتاج (إذا) الفجائية إلى جواب بعكس إذا الشرطية .
الثالثة :تأتي الفجائية للحال بينما الشرطية للإستقبال , ويصح أن يقال أن (إذا) في الآية شرطية أيضاً فهم متى ما لقوا رؤساء الضلالة لا يقولون إلا [إِنَّا مَعَكُمْ].
وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وإذا خلوا إلى شياطينهم لا يرجعون ، وفيه مسائل :
الأولى :لا يرجع المنافقون عن التبرأ من إعلانهم الإيمان .
الثانية : لا يرجع المنافقون إلى رشدهم .
الثالثة: لا يرجعون إلى حقيقة أن رؤساء الضلالة يسوقونهم إلى النار .
الرابعة : لا يرجعون إلى إنذارات القرآن والسنة بلزوم الحيطة والحذر والإبتعاد عن شياطين الإنس لقوله تعالى [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا] ( ).
الخامسة : لا يرجعون عن الميل إلى الكفر والعناد .
السادسة : لا يرجعون عن إفشاء أسرار المسلمين .
السابعة : لا يرجعون عن الخلوة برؤساء الضلالة ، فمن وظائف ومنافع قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ] ( ) زجر المنافقين عن الإنفراد برؤساء الضلالة ، ولكنهم يصرون على هذا الإنفراد لتكون عقوبتهم أشد بعد نزول هذه الآية .
ومن أسرار التلاوة في الصلاة إستماع المنافقين كل يوم تجديد الحجة عليهم , ونهيهم عن الإقامة على النفاق .
الثامنة :لا يرجع المنافقون عن الكذب والإفتراء .
التاسعة : لا يرجع المنافقون عن الإصرار على عدم الإيمان .
العاشرة :لا يرجعون عن إظهار الولاء لرؤساء الضلالة وقولهم لهم [إِنَّا مَعَكُمْ].
الحادي عشرة : لا يرجعون عن الإستهزاء بالمؤمنين .
الثانية عشرة : لا يرجع المنافقون عن إتباع الهوى والعناد .
الثالثة عشرة : لا يرجع المنافقون إلى سماع الهدى والنطق بالحق ورؤية المعجزات والتدبر فيها .
الرابعة عشرة : لا يرجع المنافقون إلى آية البحث وكيف أنها تكشف خبر وموضوع خلوتهم برؤساء الضلالة ، لأن هذا الرجوع مناسبة للتدارك وإظهار الندامة .
صلة [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] ( )بقوله تعالى[لاَ يَرْجِعُونَ] ( )
وردت مادة (هزأ) أربعاً وثلاثين مرة في القرآن ، وهي مدرسة عقائدية من جهات :
الأولى : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين .
الثانية : توثيق إستهزاء الكفار بالمسلمين .
الثالثة : كفاية الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، قال تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ] ( ).
ولقد ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون]( ) وفي الجمع بين الآية أعلاه وإستهزاء المنافقين بالمؤمنين مسائل :
الأولى : وراثة المسلمين للأنبياء وملاقاة مثل الأذى الذي لاقوه بالإستهزاء منهم .
الثانية : الذين أستهزوا بالأنبياء هم الكفار أما الذين أستهزوا بالمؤمنين فهم المنافقون والكفار .
الثالثة : يسخر الكفار من الأنبياء وجهاً لوجه وفي غيبتهم ، أما المنافقون فانهم يخبرون عن إستهزائهم عند الخلوة برؤساء الضلالة ، وهو لا يتعارض مع إستهزائهم بالمؤمنين في حضرتهم ، ومنه إدعاء الإيمان كذباً.
الرابعة : يشمل إستهزاء الكفار من الأنبياء شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فان قلت لماذا لا يرجع المنافقون عن طرق الضلالة هذه مع تعددها وتجلي قبحها الذاتي والعرضي، والجواب قد بينت آية البحث علة عدم الرجوع وهو أنهم [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ] ( )ومن الإعجاز في المقام أن المسائل أعلاه تتعلق بحاسة السمع أو النطق أو البصر ،قال تعالى [وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا]( ).
الخامسة : كما يستهزء المنافقون بالمؤمنين فان الكفار أيضاَ يستهزئون بهم .
ويلاقي المؤمنون الأذى والتعدي في باب الإستهزاء من المنافقين , كما في قوله تعالى حكاية عنهم [إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] ( )وهل هذا القول المذموم كذب من المنافقين بلحاظ قوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] ( ) .
الجواب نعم ، إنه من الكذب ففيه آية إعجازية لأن الإستهزاء بالمؤمنين منتف في المقام من جهات :
الأولى : إن الله عز وجل هو الذي يستهزء بهم .
الثانية : ليس من مصداق عملي للإستهزاء لأنهم يدّعون الإيمان ظاهراً.
الثالثة : يظهر المنافقون لرؤساء الضلالة بالإستهزاء بالمؤمنين تزلفاً لهؤلاء الرؤساء .
الرابعة : الآية حجة على المنافقين .
الخامسة :عدم إجتماع شرائط الصدق عند المنافقين، وأثره في المعاملات والبيع والشراء.
وتبين آيات الإستهزاء في القرآن ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى ، فاذا كان الكفار هم الذين يستهزئون بالرسل والأنبياء من قبل فقد إجتمعت أمور بخصوص الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي :
الأول : إستهزاء الكفار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والطعن بالقرآن وإثارة الشبهات ، وتقدم الكلام أن جماعة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويسخرون من آيات القرآن وهم الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل المخزومي والعاصي بن وائل السلمي ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن حنظلة ، فبطش بهم الله عز وجل وقتلوا متفرقين .
الثاني : إيذاء الكفار للمؤمنين من المهاجرين والأنصار .
الثالث : سخرية الكفار بالمؤمنين ، قال تعالى [زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
الرابع :إيذاء المنافقين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : إستهزاء المنافقين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لذا قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( ).
ومع كثرة الأذى والضرر الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون من الكفار والمنافقين فان النصر كان حليفه والمسلمين في الحضر وفي ميادين القتال وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن الإعجاز أن لفظ [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ]( )، لم يرد في القرآن إلا في هذه الآية للإخبار بأن الله عز وجل يستهزء بالمنافقين وبرؤوس الضلالة والمعاندين بلحاظ أن الضمير في [بِهِمْ] يشمل الطرفين ولكنهم لا يرجعون عن غيهم، وتقدير الآية على وجهين :
الأول : الله يستهزء بهم فهم لا يرجعون .
الثاني : هم لا يرجعون الله يستهزء بهم .
فان قلت هل من فرق بين الوجهين أعلاه الجواب نعم ،فمع أن الله يستهزء بالمنافقين فانهم لا يرجعون عن النفاق وأما بالنسبة للثاني فلأن المنافقين لا يرجعون عن نفاقهم وإخفاء الكفر فان الله عز وجل يستهزء بهم .
وكذا يكون التقدير على وجهين :
الأول : ويمدهم في طغيانهم فهم لا يرجعون) أي يكون مدهم وإمهالهم في طغيانهم وإستدراجهم في غيهم وكفرهم علة وسبباً لتخلفهم عن الرجوع إلى الهدى وإلى الوجوه الأخرى من الرجوع الواجب على الناس في موضوعه .
الثاني : فهم لا يرجعون ويمدهم في طغيانهم ) أي يكون عدم رجوعهم عن النفاق والضلالة علة وسبباً لإمهالهم في عتوهم وغرورهم .
وهل إستهزاء المنافقين بالمؤمنين وتصريحهم به من الطغيان في قوله تعالى [وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]( )، الجواب نعم.
والطغيان تجاوز الحد في الظلم ، والإسراف في التعدي وتحتمل النسبة بينه وبين الإستهزاء بالمؤمنين وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي، وأن المراد من الطغيان في الآية هو الإستهزاء بالمؤمنين .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين :
الأولى : الطغيان أعم من الإستهزاء .
الثانية :الإستهزاء بالمؤمنين هو الأعم من الطغيان .
الثالث :نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الرابع : نسبة التباين بين الطغيان والإستهزاء.
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، وفيه مسائل :
الأولى :التأكيد بأن معاصي وآثام المنافقين لا تنحصر بالإستهزاء بالمؤمنين .
الثانية : بيان حقيقة وهي أن الإستهزاء بالمؤمنين من الكبائر التي يبتلي الله عز وجل بها أصحابه بإمهالهم في معاصيهم وعدم توالي زجرهم عن بعضها.
الثالثة : إرادة بيان حقيقة وهي أن قبائح المنافقين متعددة ، وذات الإستهزاء بالمؤمنين له مصاديق كثيرة كماً وكيفاً في الموضوع المتحد والمتعدد ، وهذا التعدد من منهج الطغيان الذي يتصف به المنافقون .
ليكون من إعجاز هذه الآية نعت المنافقين بالطاغين ،وإلا فان المتبادر إلى الأذهان هو أنهم في حال فزع وخوف من المؤمنين وهو سبب إخفائهم الجحود.
وهل يحتمل أن يكون إخفاء المنافقين الكفر مكراً بالإسلام وإرادة الإجهاز عليه من داخله ، من غير موضوعية لخوفهم من المؤمنين ، الجواب لا دليل عليه ،ولو كانت هذه نواياهم لجاء فضحهم بأسمائهم ولما أمهلوا .
ورد ورد لفظ [فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ] ( )خمس مرات في القرآن وجاءبخصوص في الذين كفروا وإنكارهم ليوم المعاد والوقوف بين يدي الله عز وجل للحساب والجزاء إلا هذه الآية من سورة البقرة فتتصف بأمور :
الأول : جاءت بخصوص المنافقين .
الثاني : ذكر إستهزاء وسخرية الله عز وجل من المنافقين .
الثالث : ذكر الآية مدّ وإمهال ولزوم إستدراك المنافقين , ففي ذم الكفار ورد قوله تعالى [وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]( ).
أما بخصوص المنافقين فان كل آية رحمة من الله عز وجل تتغشاهم من جهات :
الأولى : وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين وإمامته لهم في الحضر والسفر وميادين القتال .
الثانية : من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) وجوه :
الأول : لا يصدر المسلمون إلا عن أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمورهم العامة والخاصة لذا ورد قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ]( ) خمس عشرة مرة في القرآن .
الثاني : تلقي الذين ينطقون بالشهادة من مصاديق الرحمة التي تأتي للمسلمين .
الثالث : إستدراج المنافقين كما في هذه الآية [وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أن هذا المد والإمهال وتركهم يترددون في لهوهم وغفلتهم مقترناً ومتعقباً الإستهزاء الله عز وجل لإرادة جعلهم في حيرة وتيه ، ومنعهم من الإضرار بالمؤمنين لإجتماع إستهزاء الله عز وجل به وتركهم في غوايتهم .
الثالثة : كل آية دعوة للمنافقين وغيرهم للتوبة والإنابة .
أسئلة المسلمين للنبي محمد (ص )
يفيد قوله تعالى [لاَ يَرْجِعُونَ] ( ) أموراً :
الأول : لا يرجعون إلى سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سؤال تعلم وليس سؤال تعنت وإن مقام النبوة لا يمنع من مثل سؤال التعنت لأنه وجوابه حجة تأريخية إلى يوم القيامة ، وكم من شخص سأل سؤال تعنت فنزلت آية صارت تذكرة ومنهجاً للمسلمين ، أو جاء حديث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جوامع الكلم ليكون موعظة وعبرة (عن ابن عباس قال : كان ناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء( )( ).
(عن ابن عباس قال : ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن) ( ).
أي بالجمع بين الأسئلة الخاصة بيوم القيامة من مجموع الخمسة عشرة مرة في [يَسْأَلُونَكَ] لإرادة الجمع بين الأسئلة الخاصة بالساعة وأوان يوم القيامة، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا]( ).
ولكن أسئلة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تختص بما ورد في هذه الآيات إذ تدل السنة النبوية على ورود أسئلة كثيرة وفي مواضيع متعددة من الفرائض ومسائل الفقه والمعاملات والمعاشات وشؤون القتال وحاجات الدنيا وأهوال الآخرة .
وقيل : لم يكن النبي يرخص في المسائل إلا للأعراب والوفود القادمين إلى المدينة يتآلفهم فيه ،وأما المهاجرين والأنصار الذين رسخ الإيمان في قلوبهم فنهوا عن المسألة .
ولا دليل على هذا التقييد وحصر السؤال بالأعراب وكان الصحابة يسألون النبي فيجيبهم وأحياناً يخبرهم إبتداءً .
أما جواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأعراب والوفود التي تأتي المدينة فلأمور :
الأول : إقامة البرهان على صدق نبوته .
الثاني : بيان أحكام الشريعة الإسلامية وبعثهم على التفقه في الدين وطرد الجهالة .
الثالث : منع إستحواذ المنافقين على الأعراب والوفود التي تأتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] ( )بأن يروا صدق إيمان الذين يدخلون الإسلام إبتداءً .
(عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الحج أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الناس ، فقال : يا أيها الناس ، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا . فقالوا : يا رسول الله ، أعاماً واحداً أم كل عام؟ فقال : لا ، بل عاماً واحداً ، ولو قلت كل عام لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم ) ( ).
وقيل حسن السؤال نصف العلم لأنه يدل على إرادة التعلم ويؤدي إلى الإنتفاع .
(عن بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَصَابَ رَجُلاً جُرْحٌ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- ثُمَّ احْتَلَمَ فَأُمِرَ بِالاِغْتِسَالِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- فَقَالَ « قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَمْ يَكُنْ شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالَ) ( ).
ولم يأت السؤال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرجال وحدهم بل كان يأتي من المؤمنات أيضاً ، كن يتلقين أخبار النبوة والأسئلة التي تطرح على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصل بواسطة الرجال من الآباء والإخوان والأزواج والأولاد , ويبعثن بأسئلتهن وأحياناً يسألن النبي محمداً قبلاً ويجيبهن , ولم يرد في السنة أنه منع أو زجر إحداهن عن المسألة أو أعرض عنها .
(سأل الحارث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : كيف يأتيك الوحي؟ قال : أحيانا يأتيني الملك في مثل صلصلة الجرس ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وهو أشده علي وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول) ( ).
والحارث بن المغيرة أسلم يوم الفتح واختلف في وفاته قيل مات في طاعون سنة ثمانية عشرة واصيب بالعمى قبل وفاته وقيل إستشهد بالشام يوم اليرموك .
وجاء مع كفار قريش يوم بدر وأحد لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله والمؤمنين ، وإنهزم من معركة بدر فهجاه حسان بن ثابت :
إن كنت كاذبة الذي حدثتني … فنجوت منجى الحرث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم … ونجا برأس طمرة( ) ولجام( )
ويروى الحديث عن عائشة ولمن بصيغتين :
الأولى : عن عائشة عن الحارث بن هشام أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية :عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء وحدة السند أما مادة الإفتراق فيدل الأول على أن عائشة سمعت الحديث من الحارث نفسه ، وأما الثاني فالمتبادر منه أنها كانت حاضرة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعة السؤال .
فأجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التفصيل وإبتدأ بقوله (أحياناً) وهو جمع حين والمراد منه الوقت قليله أو كثيرة لبيان تعدد صيغ وكيفية الوحي , والصلصلة صوت وقوع بعض الحديد على بعض (فيعضم) أي ينجلي ويغادر ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد وعيت عنه ما قال : أي ما أنبأ به الملك بحيث صار راسخاً في الوجود الذهني لا يطرأ عليه تبدل أو تغيير بعد مغادرة الملك ويدل قوله صلى الله عليه وآله وسلم (وهو أشده علي ) أن كل كيفيات الوحي شديدة وفيها مشقة ولكن هذه الكيفية أكثرها شدة وأذى .
ولقد لاقت المرأة أشد أسباب الذل والهوان في زمن الجاهلية والمجتمعات المتخلفة ولم تنل نصيبها من اللطف والرفق والإكرام إلا في إيام الرسالة الخالدة ، مع أن الأنبياء السابقين جاءوا بذات الإكرام ولكن الحكم إنبسط ولان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسادت أحكام الإسلام ليتجلى إكرام الله للناس مطلقاً ذكوراً وأناثاً بقوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
ولقد شاركت النساء بسؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقمن برواية الحديث عنه وأخذه الصحابة عن فاطمة الزهراء عليها السلام ، وعن عائشة وأمهات المؤمنين الأخريات وغيرهن .
إذ كان بعضهم يسمع من بعض الحديث أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعند مغادرته إلى الرفيق الأعلى فصاروا في كل واقعة أو مسألة إبتلائية تعرض لهم يلجأون إلى القرآن وآياته وإلى السؤال عن وجود حديث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصها ويشترك فيه أهل البيت والصحابة من الرجال والنساء بلحاظ انه من الكلي الطبيعي الذي يكون لكل منهم نصيب فيه ، (ويأتي الصحابة لأسماء بنت عميس يسألونها عن قول رسول الله لحكم أصحاب السفينة هجرتان ولأصحابه هجرة واحدة ) .
(وعن عَائِشَةُ نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ ) ( ).
(وعن حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ فَوَجَدْتُهُ فِى بَيْتِ أُخْتِى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى امرأة أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَمَا تَرَى فِيهَا قَدْ مَنَعَتْنِى الصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ فَقَالَ « أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ. قَالَتْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ « فَاتَّخِذِى ثَوْبًا. فَقَالَتْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- « سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ أَيَّهُمَا فَعَلْتِ أَجْزَأَ عَنْكِ مِنَ الآخَرِ وَإِنْ قَوِيتِ عَلَيْهِمَا فَأَنْتِ أَعْلَمُ. فَقَالَ لَهَا « إِنَّمَا هَذِهِ رَكْضَةٌ من رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِى سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِى عِلْمِ اللَّهِ ثُمَّ اغْتَسِلِى حَتَّى إِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّى ثَلاَثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا وَصُومِى فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُكِ وَكَذَلِكَ فَافْعَلِى فِى كُلِّ شَهْرٍ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ مِيقَاتَ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ وَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِى الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِى الْعَصْرَ فَتَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَتُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ فَافْعَلِى وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الْفَجْرِ فَافْعَلِى وَصُومِى إِنْ قَدَرْتِ عَلَى ذَلِكَ) ( ).
ومن الآيات في المقام حث المؤمنات لأبنائهن وأزواجهن للذهاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإحتكام عنده ، وتلقي الأحكام منه (عن حذيفة قال : سَأَلَتْنِى أُمِّى مَتَى عَهْدُكَ – تَعْنِى – بِالنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-. فَقُلْتُ مَا لِى بِهِ عَهْدٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا. فَنَالَتْ مِنِّى فَقُلْتُ لَهَا دَعِينِى آتِى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأُصَلِّىَ مَعَهُ الْمَغْرِبَ وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِى وَلَكِ. فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ فَصَلَّى حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ فَسَمِعَ صَوْتِى فَقَالَ ، مَنْ هَذَا حُذَيْفَةُ، قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ : مَا حَاجَتُكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلأُمِّكَ، قَالَ: إِنَّ هَذَا مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلِ الأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَىَّ وَيُبَشِّرَنِى بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ( ).
ولقد صاحبت خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأيام الأولى للوحي إذ كان يطلعها على أسرار ومراتب وكيفية الوحي وهي تشد من عضده وتعلن تصديقها له وتشاطره الأذى في جنب الله ، ومن بعدها إبنته الزهراء عليها السلام , القى بعض أفراد قريش التراب على رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل بيته وبادرت الزهراء لإستقباله وهي باكية وتزيل التراب عن رأسه وتغسله ، فقال لها : لا تبكي يا بنية فان الله مانع أباك ) .
وفي هذا الحديث إعجاز وتحد وباعث للسكينة في نفسها ونفوس المؤمنين ، وبيان لصدق البعثة النبوية وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لن يتخلف عن التبليغ والدعوة إلى الله عز وجل مع شدة الأذى الذي يلاقيه، وفيه بشارة تجلي الحق وظهور دولة الإسلام ، قال تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ] ( ).
إن أسئلة الصحابة وأهل الكتاب والناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة كلامية وفقهية ، وآية في صدق نبوته وكل جواب من أجوبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفسير وبيان للقرآن وموضوع تقتبس منه المسائل والقواعد وتؤسس به قوانين تتغشى الحياة العامة للناس بما فيه صلاحهم وهي برزخ دون الخلاف والفرقة والفتنة بين المسلمين ، وهل هي من مصاديق قوله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ]( )في ذم المنافقين والتعريف بهم .
الجواب نعم فيمكن إستقراء ضروب الحرب على النفاق في أجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة المنافقين للتنزه منه ووقاية المسلمين من أدران النفاق وآثاره .
وفيها غنى للمسلمين ومنع لهم وللناس من الإنصات للمنافقين إذ يأخذون البيان والحكم والبرهان من عين صافية ، مع عدم وجود واسطة أو برزخ بينهم وبين الوحي وعالم الملكوت لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
إنحسار النفاق معجزة للنبي محمد(ص)
من الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قلة عدد المنافقين والتناقص السريع لعددهم ، وظهور وهنهم وإستبانة قلة أثرهم ، ومن أسبابه وجوه :
الأول :توالي نزول آيات القرآن ، وهو من أسرار نزولها نجوماً أي مفرقاً وعلى نحو التوالي مدة ثلاث وعشرين سنة فتنزل الآية والآيتان والثلاثة دفعة واحدة بحسب الحال ومناسبة الموضوع والحكم والنجم الواحد من نجوم السماء ، والنجم : الوقت الذي يحل فيه الدين .
(ويقال: نَجَّمْتُ المال، إذا أدَّيته نُجوماً) ( ).
والنجوم دفع المال أقساطاً (يقال جعلت مالي على فلان نجوما مُنَجَّمة، يؤدي كل نجم منها في شهر كذا) ( ).
ولا يعني هذا أن آيات القرآن تنزل عند أول الشهر وفي مطالع منازل القمر وبداية الشهر القمري أو في آخره ، ولكن المعنى أن القرآن نزل مفرقاً على الأيام والأشهر والسنين ، فاذا نقص عدد المنافقين ،واجتنب المسلمون الإنصات لهم فان القرآن لا يترك ذم النفاق والذين بقوا في منازله ، بل تتوالى الآيات التي تذم خصال النفاق وتبين قبحه ، وفيه مسائل :
الأولى : إستمرار ذم النفاق .
الثانية : دعوة من بقي مصراً على النفاق للتوبة والإنابة .
الثالث : عصمة المسلمين من النفاق ، ومنع نشوء جماعة من المنافقين.
الرابعة : نفرة نفوس المسلمين وغيرهم من المنافقين .
الخامسة :إخبار الناس بقانون إرتكازي وهو أن الذي يدخل الإسلام لابد أن يتجنب النفاق والمنافقين .
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنتفاء الوسائط بين الوحي وأجيال المسلمين المتعاقبة ، وهو من أسرار إختتام الرسالات بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ).
ولم يرد لفظ (خاتم) في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان أن ختم النبوة مرتبة عظيمة تمتنع عن التكرار أو النسخ، ويدل هذا الختم على كفاية حاجة أهل الأرض في باب النبوة والتنزيل , وهو من إعجاز القرآن ومصاديق قوله تعالى [هَؤُلاَء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وتتجلى هذه الكفاية في آيات ذم النفاق وأهله لأنهم أشد أعداء أهل الإيمان بلحاظ أن ضررهم يصدر من بين صفوف المسلمين، ويكون في أشد ضراوته واذاه عندما يحدق بالمسلمين خطر وعدو مداهم ، فتفضل الله عز وجل ورفع الحواجز بين كل جيل من المسلمين وبين الوحي ، وما تلاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من التنزيل يتلوه كل مسلم ومسلمة كل يوم ، وهو أمر تنفرد به الشريعة الإسلامية لأنها الخاتمة ومن مصاديق النسخ في الشرائع السماوية ، ووقوفه على أعتاب الأحكام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله وإنقطاعه عندها ليكون شاهداً على التكامل فيها وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ).
بلحاظ أن الخطاب موجه إلى الناس جميعاً في دعوتهم إلى الإسلام والحيطة والحذر من النفاق، وبيان خسارة الذين إشتروا الضلالة .
الثاني : تجليات السنة النبوية القولية والفعلية، وتناقل الناس لها، وما تتضمنه من معاني الإعجاز الذي يترشح عن صبغة الوحي التي تصدر عنها السنة النبوية، وفيها مسائل :
الأولى : إتباع المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : زيادة إيمان المسلمين.
الثالثة : تفقه المسلمين في الدين، وهذا التفقه واقية من أثر النفاق وبرزخ دون الإستماع لأهله.
الرابعة : مجئ السنة النبوية بذم النفاق وأهله , وأحياناً يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنعت بعضهم بأنهم منافقون , وفيه وجوه:
الأول : ذم النفاق وتوبيخ المنافقين.
الثاني : دعوة المنافقين للتوبة والإنابة.
الثالث : تحذير المسلمين من المنافقين.
الرابع : بيان الجامع المشترك بين المنافقين، فيوبخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض المنافقين ويذكره بنفاقه ليعلم المسلمون صفاته التي إستحق معها نعته بالمنافق ويعرفوا الذين تنطبق عليهم ذات الصفات , فيعرضوا عنه.
الخامس: براءة الإسلام مما يفعله المنافق وهو متلبس بهذه الصفة.
الثالث : أداء المسلمين للفرائض والعبادات وتعاهدها بأوقاتها، وكل فرد من أفراد الفريضة حرز من كدورات النفاق، وفيها تنمية لملكة التقوى في نفوس المسلمين وإزاحة وطرد للنفاق من المجتمعات , وفي الصيام قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
الرابع : توالي ظفر وإنتصارات المسلمين في ميادين القتال.
الخامس : إنعدام أثر المنافقين في المجتمعات، لأن الملاك في الصلات بين الناس هو الإيمان والتقوى.
السادس : ضعف ووهن الكفار مما يجعل موضوع إشاعات المنافقين منتفياً.
صلة [لاَ يَرْجِعُونَ] بقوله تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى]
من إعجاز نظم القرآن أنه بعد بيان صفات المنافقين في آيات متتالية جاء قوله تعالى[فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] ليكون من معانيه عدم رجوعهم عن تلك الخصال.
ومن إعجاز القرآن التوالي والتعاقب في أمور :
الأول : ذم الكفار وبيان ما يجلبه الكفر لهم من الأذى والضرر.
الثاني : توبيخ المنافقين، وذكر صفاتهم المذمومة.
الثالث : الثناء على المؤمنين، وبيان فضل الله عز وجل عليهم.
الرابع : الإنذار والوعيد لكل من الكفار والمنافقين.
الخامس : الترغيب بالتوبة، وجذب الناس إليها، وعدم وجود حواجز بينهم وبينها.
السادس : الوعد الكريم للمؤمنين.
السابع : بيان حتمية المعاد والوقوف بين يدي الله عز وجل للحساب والجزاء , عن عدي بن حاتم قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار فأشاح بوجهه وتعوذ منها ذكر شعبة أنه فعله ثلاث مرات ثم قال اتقوا النار ولو بشق التمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة( ).
وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الوجه الأول : أولئك الذين اشتروا الضلالة فهم لايرجعون.
الوجه الثاني : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فهم لا يرجعون.
والفرق بين الوجهين أعلاه أن المراد من الأول إصرار الكفار على شراء الضلالة والجحود، وأنهم يطلبون الضلالة بذاتها من جهات:
الأولى : شراء الضلالة بأي ثمن قليلاً كان أو كثيراً.
الثانية : لا موضوعية للثمن في طلب الضلالة، لأنها قبيحة بالذات والأثر فلا أحد يرغب فيها.
الثالثة : شراء الضلالة بأغلى ثمن، كما تدل عليه آية البحث إذ أن المنافقين إشتروا الضلالة بعلة خلقهم، كما تدل عليه الآية الكريمة.
وجاء الوجه الثاني أعلاه في تفسير عدم رجوعهم عن أمرين :
الأمر الأول : شراء الضلالة.
الأمر الثاني : جعل أصل الهدى عوضاً لشراء الضلالة.
الوجه الثالث : فما ربحت تجارتهم فهم لايرجعون.
التجارة في الآية
ويحتمل عدم ربح التجارة في الآية وجوهاً:
الأول : الخسارة مرة واحدة.
الثاني : إرادة كساد تجارة الضلالة.
الثالث : يتلقى المنافقون في كل يوم يطل عليهم الخسارة.
والصحيح هو الثالث لأن الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء.
وجاءت الآية بلفظ (التجارة) لإرادة التعدد في معناها إذ أنها تشمل أموراً.
الأول : البيع والشراء بقصد الربح.
الثاني : الحصول على المال بالمبادلة بين الأعيان والعروض، أو بينهما معاً.
الثالث : تبادل السلع والخدمات.
الرابع : زيادة المال بشراء العين بثمن وبيعها بثمن أعلى.
الخامس : تحويل المادة البدائية إلى سلعة وصناعة وبيعها بقصد الربح.
ومن الآيات في خلق الإنسان ولفظ التجارة أنها تلبي حاجة الناس المعاشية كلاً بحسب زمانه ومكانه ومرتبته وشأنه.
ومن إعجاز القرآن أنه منع من إنشغال المسلمين بأمور التجارة إنشغالاً تاماً وبيّن لهم أن هناك تجارة أسمى وأعظم وهي تجارة العمل الصالح وإكتناز الصالحات، قال تعالى[قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ]( )، وفي الوقت الذي تضمنت فيه هذه الآيات ذم المنافقين وكساد تجارتهم وضلالتهم فان القرآن جاء بالثناء على تجارة المؤمنين الأخروية بقوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها ذكرت خصال أرباب التجارة الكريمة التي تتصف بأمور:
الأول : إنها تجارة لا تبيد.
الثاني : تجارة لن تفسد ولا يصيبها الكساد.
الثالث : ذات التجارة ممتنعة عن الخسارة.
الرابع : تجارة لن تضيع ولا تتعرض للتلف.
لقد جعل الله عز وجل الدنيا مزرعة الآخرة، والأصل في التجارة هو ما يقوم به الإنسان من أجل الكسب، أما آية البحث فأخبرت بأن التجارة أمر آخر مترشح عن الفرائض والأفعال العبادية.
وفي المراد من التجارة في الآية ذكرت وجوه:
الأول : رضا الله عز وجل .
الثاني : الجنة( )، عن قتادة.
الثالث : الثواب الذي يتعقب فعل الصالحات أي كتعقب المعلول لعلته.
والآية أعم إذ أنها تشمل الرجاء والغايات في الدنيا والآخرة، فالإيمان والعمل الصالح باب للرزق الكريم والسلامة والأمن، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
ومن التجارة التي يرجوها المؤمنون ذات الأفعال العبادية التي ذكرتها الآية نفسها وكل فرد منها تجارة مستقلة وهي:
الأول : تلاوة آيات القرآن .
الثاني : إقامة الصلاة .
الثالث :إخراج الزكاة ،ودفع الصدقات الواجبة والمستحبة بالسر والعلانية , ولا يلزم الدور بينها , لأن الأفعال العبادية تتجدد وتتكرر كل يوم وكل فرد منها يكون على :
الأول : إنه من التجارة التي سأل المسلمون الله عز وجل كسبها وجني أرباحها في النشأتين.
الثاني : إنه وسيلة وبلغة للتجارة التي يسعون للفوز بها في الدنيا .
الثالث : إنه مقدمة وطريق لتجارة أخروية دائمة .
وهذا التعدد من أسرار مجئ لفظ تجارة بصيغة التنكير، فلم تقل الآية يرجون التجارة التي لا تبور لأن الذي يرجوه المؤمنون أعم ، ومنه الحاجات والرغائب الشخصية التي يريد صاحبها تسخيرها في سبيل الله.
وتكون نتيجة وثمرة التجارة في الدنيا على أقسام :
الأول : ربح التاجر وفق الحساب والظن بلحاظ حال السوق ونحوها .
الثاني : الربح أكثر من الظن والحساب لأمر طارئ وفضل الله .
الثالث : ربح التاجر أقل مما يظن .
الرابع : تحصيل رأس المال وحده وعدم حصول ربح .
الخامس : حصول خسارة في التجارة .
وتبين الآية أعلاه بأن الربح من تجارة العبادات هو من القسم الثاني لما تتضمنه الآية التالية لها من البيان والوعد الكريم، قال تعالى [لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
أما آية البحث فانها أخبرت عن كون تجارة المنافقين من القسم الخامس أعلاه فان قلت إن قوله تعالى [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ]( )، أعم من الخسارة ، ويشمل الوجه الرابع اعلاه أيضاً بلحاظ الجامع المشترك بينهما وهو عدم الربح ، والجواب لقد جاءت آية البحث بذكر أمور :
الأول : جعل المنافقون الهدى ثمناً لشراء الضلالة ، فلم يبق عندهم رأس مال لذا فان لفظ التجارة في الآية من إعجاز القرآن، وأنه لا ينطبق على معاني موضوع الآية على نحو التساوي وإلا فان الذي يشتري سلعة للتجارة ينظر إلى أمور :
الأول : رغبة الناس في إقتناء هذه السلعة وحاجتهم لها .
الثاني : قيمة وثمن هذه السلعة .
الثالث : كثرة أو قلة المعروض من أفراد هذه السلعة .
الرابع : الظن بأوان بيع السلعة ومقدار ثمنها .
وتنعدم هذه الأمور بالنسبة للذي يشتري الضلالة لأنها لا تصلح للبيع ولا تقبل النقل والإنتقال ولا رغبة لأحد فيها ، وليس لها من قيمة وثمن بين الناس ، وكل مكلف مأمور بالتنزه عنها والذي يتصف بالضلالة يئن من وطأتها، قال تعالى [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] ( ).
الثاني : لقد خسر المنافقون رأس المال كله وهو الهدى , وفرطوا بأعظم ملكية في حياة الإنسان ، فليس من رأس مال يصل بذاته إلى الآخرة إلا الهدى ، فقد يوظف الإنسان ماله في الصالحات فتكون معه في الآخرة ، وهي من الهدى وليس من ذات المال ، إنما جعل المال واسطة لها وعوناً لأدائها ومقدمة لإكتساب الغنائم الآخروية.
الثالث : إختتام آية البحث بقوله تعالى [وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] ( )، ومن معاني الآية وجوه :
الأول : لا يهتدي المنافقون إلى النهي عن شراء الضلالة .
الثاني : لا يهتدون إلى وجوب تعاهد الهدى .
الثالث : لا يهتدون إلى معرفة حقيقة , وهي أنهم [مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ].
الرابع : لا يهتدون إلى استرداد رأس المال ، للتضاد بين الهدى والضلالة وعدم إجتماع الضدين ، فما دام المنافقون على حال الضلالة فان الإيمان والهدى بعيدان عنهم .
الخامس : لا يهتدون إلى قواعد التجارة في المقام وكيفية نماء رأس المال وهو الهدى ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى] ( ).
السادس : لا يهتدون إلى سبل صيرورتهم مهتدين بالتوبة والإنابة .
ترى ما المقصود من الهدى الوارد في الآية والذي فرّط به المنافقون ، ولا نقول دفعه المنافقون لأن الدفع نوع مفاعلة بين طرفين أحدهما دافع والآخر قابض ، بينما ليس من مشتر للهدى الذي جعله المنافقون ثمناً للضلالة .
الرجوع إلى الهدى
من وجوه تقدير الجمع بين الآيتين هو : لا يرجعون إلى الهدى .
وليس من حصر لمعاني الهدى في الآية والذي خسره المنافقون مرة واحدة مع أنه أمر يتكرر في كل آن ، فمن خصائص الخسارة في التجارة أنها مصيبة تحل بالإنسان يذهب معها ماله وقد يتعذر عليه الحصول على رأس المال والعمل بالتجارة مرة أخرى ، أو أنه يخشى الخسارة ويخاف من ولوج غمار المرابحة أما بالنسبة للهدى فانه يطل على الإنسان في كل ساعة من ليل أو نهار يدعو لأخذه وهو من مصاديق قوله تعالى [) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا زاخرة بالحجج والبراهين التي تدعو إلى الهدى وتقود إليه .
ومن مصاديق الهدى التي فرط بها المنافقون أمور :
الأول : الإيمان بالله عز وجل والإقرار بالعبودية له .
الثاني :التنزه عن الشرك والضلالة .
الثالث : سلامة النفس من الشك والريب ، إذ أن النفاق يتقوم بندبة سوداء في القلب تكون مرآة وإنعكاساً للشك وعدم اليقين .
الرابع : التجافي عن الصراط لذا تفضل الله عز وجل بهداية المسلمين إلى الدعاء بقول [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
الرجوع إلى الصراط
وفيه إعجاز من وجوه :
الأول : مجي هذا القول بصيغة الدعاء والتضرع، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )في بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بجذبهم إلى منازل الهدى ، ليكون الجمع بين الآيتين على شعب :
الأولى : ادعوني أهدكم الصراط المستقيم استجب لكم ، أي إسألوني الهداية إلى الصراط المستقيم والنهج القويم استجب لكم واجعلكم تعملون بالكتاب والسنة وما يؤدي بكم إلى اللبث في النعيم الدائم .
الثانية : إدعوني للإحتراز من شراء الضلالة ، لأنه خلاف الصراط المستقيم.
الثالثة : أدعوني للتفقه في الدين ، ومعرفة وجوب تعاهد الهدى .
الرابعة : تحتمل النسبة بين الهدى والصراط المستقيم وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي وأن الهدى هو ذاته الصراط المستقيم .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الهدى أعم من الصراط .
الثانية : الصراط أعم من الهدى .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فبين الهدى والصراط مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
الرابع : نسبة التباين بين الهدى والصراط .
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني ، لتدل آية البحث على صدق إنطباق معنى الضلالة على النفاق، وأن قوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ]( )، إعجاز من حيث إنطباقه على المنافقين في الواقع اليومي لأنهم لم يسمعوا الهدى ولم ينطقوا به ولم يروا آياته.
الثاني :تفضل الله عز وجل بتلقين المسلمين قول [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وهو من إعجاز القرآن من جهات :
الأولى : ذات لفظ الصراط .
الثانية : تقييد الصراط بأنه مستقيم .
الثالثة : تعليم المسلمين الدعاء وسؤال ذات الصراط، وتقدير الآية أعلاه من سورة الفاتحة على وجوه :
الأول : اهدنا معرفة وتعيين الصراط المستقيم .
الثاني : إهدنا جادة الصراط المستقيم .
الثالث : إهدنا إنتهاج الصراط المستقيم .
الرابع : إهدنا لعدم الغواية والإنحراف عن الصراط المستقيم .
الخامس : إهدنا حسن عاقبة الصراط المستقيم.
السادس : إهدنا حب الصراط المستقيم .
السابع : إهدنا السكينة والطمأنينة في الصراط المستقيم .
الثامن : اهدنا الصراط المستقيم في الدنيا .
التاسع : إهدنا عبور الصراط المستقيم في الآخرة , عن عبد الله بن مسعود: رجل يمشي على الصراط مرة ، ويكبو أخرى ، ويمشي مرة ويحبو أخرى ، وتصفعه النار مرة فإذا جاوزها التفت إليها فقال : الحمد لله الذي نجاني منك لقد أعطاني شيئا لم يعطه أحد من الأولين ، ولن يعطيه أحدا من الآخرين . قال : وترفع له شجرة فيقول : أي رب ، أدنني من هذه الشجرة لأستظل بظلها ولأشرب من مائها ، فيقول لعلي إن أعطيتكها أن تسألني غيرها ؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها وربه عز وجل يعلم أنه سيفعل وربه تعالى يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه الله عز وجل منها فيشرب من مائها ويستظل بظلها ، فترفع له شجرة أخرى هي أحسن من الأولى فيقول : أي رب ، أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها ولأشرب من مائها فيقول : يا ابن آدم ، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها فيقول : بلى أي رب ، ولكن هذه فأدنني لا أسألك غيرها فلأستظل بها وأشرب من مائها . فيدنيه منها فيستظل ويشرب من مائها فترفع له شجرة أخرى على باب الجنة هي أحسن من الأوليين فيقول : أدنني من هذه فلأستظل بظلها ولأشرب من مائها . فيقول : يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها فيقول : بلى يا رب ، ولكن هذه فلأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها فيعاهده أن لا يسأله غيرها ، وربه عز وجل يعلم أنه سيسأله غيرها وربه تعالى يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه الله تعالى منها فيسمع أصوات أهل الجنة فيقول : يا رب أدخلني الجنة يا رب أدخلني الجنة لا أسألك غيرها . فيقول : يا ابن آدم ، أيرضيك أن أعطيك مثل الدنيا ومثلها معها فيقول : أي رب أتستهزئ بي وأنت رب العالمين فيضحك ابن مسعود رضي الله عنه ، وقال : ألا تسألوني مما ضحكت ؟ قالوا : ومم ضحكت ؟ فقال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألا تسألوني مم أضحك ، قالوا : ومم تضحك يا رسول الله ؟ قال : من ضحك رب العالمين، فيقول : إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قدير ( ).
العاشر : إهدنا الصراط المستقيم في حال الرخاء والشدة .
الحادي عشر : إهدنا الصراط المستقيم إلى التوبة والإنابة .
الثاني عشر : إهدنا الهدى المستقيم , لقوله تعالى [إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثالث :[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )، آية قرآنية مستقلة لتكون تعليماً وتأديباً للمسلمين والمسلمات ودعوة لحفظهم الآية عن ظهر قلب والمواظبة على قراءتها وإستحضار معانيها في الوجود الذهني بخصوص مناسبة للموضوع أو الحكم أو بدونها .
الرابع : مجئ هذه الآية في سورة الفاتحة التي أفتتح بها نظم القرآن .
الخامس :تلاوة كل مسلم ومسلمة لهذه الآية مرات متعددة كل يوم ، وإبتداء عمله فجر اليوم وإختتامه بها ، وتلاوته في صلاة الليل قبل النوم لتكون واقية وحرزاً وسبيل صلاح .
ومن معاني الآية بلحاظ آية البحث ( اهدنا الرجوع إلى الصراط المستقيم) وهو من الإعجاز في تشريع الصلاة ومصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ) بلحاظ أنها حرب على النفاق .
إذ يحضر المنافق الصلاة ويتلو آية [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لتكون تلاوته لها سوالاً للشفاء من درن النفاق وظهور آفته على اللسان إلى جانب منافع الآية في سؤال مصاديق الصراط الأخرى ، وهو من اللطف الإلهي الذي يترشح عن النطق بالشهادتين مطلقاً سواء كان الذي يدخل الإسلام وينطق بها مؤمناً أو لازال الكفر يحتل جزء من قلبه ويستحوذ على نفسه ، ويجب هذا الإعلان على المسلم وأداء الواجبات والفرائض العبادية كالصلاة والصوم والزكاة مع جماعة المسلمين سواء على القول بوجوب الفروع على الكفار أو لا والمختار والمشهور هو الأول ، ومن فضل الله عز وجل يأتيه من السماء التحذير من النفاق وبيان قبحه مع تقريبه إلى منازل السلامة منه .
ولتكون تلاوة المسلم لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها نسبت المرض للإنسان نفسه لأنه مصيبة وبلاء وهل يتشابه معه قوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] الجواب لا ،لأنه على فرض الإتحاد يكون معنى الجمع بين الآيتين: (في قلوبهم مرض فهو يشفيهم) ، بينما جاءت الآية أعلاه بزيادة مرضهم من عند الله بقوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] ( )، وفيه آية إعجازية في التباين بين المؤمن والكافر في حال الرضا ،لأن مرض المؤمن قهري وينزل في البدن والجوارح على نحو الحمى والألم ، أما مرض المنافقين فهو إختياري وظلم للنفس ، ومع هذا فان تلاوة آية الصراط وآيات القرآن مطلقاً سبيل مبارك للشفاء من درن النفاق (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا توضأ العبد لصلاة مكتوبة فاسبغ الوضوء ثم خرج من باب داره يريد المسجد ، فقال حين يخرج : بسم الله الذي خلقني فهو يهدين . هداه الله للصواب – ولفظ ابن مردويه : لصواب الأعمال – والذي هو يطعمني ويسقين . أطعمه الله من طعام الجنة ، وسقاه من شراب الجنة ، وإذا مرضت فهو يشفين . شفاه الله وجعل مرضه كفارة لذنوبه ، والذي يميتني ثم يحيين . أحياه الله حياة السعداء ، وأماته ميتة الشهداء ، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين . غفر الله خطاياه كلها وإن كانت أكثر من زبد البحر ، رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين . وهب الله له حكماً وألحقه بصالح من مضى وصالح من بقي ، واجعل لي لسان صدق في الآخرين . كتب في ورقة بيضاء أن فلان بن فلان من الصادقين ، ثم وفقه الله بعد ذلك للصدق ، واجعلني من ورثة جنة النعيم . جعل الله له القصور والمنازل في الجنة وكان الحسن يزيد فيه – واغفر لوالدي كما ربياني صغيراً) ( ).
وفيه بيان بأن المنافق أصم وأبكم وأعمى فهو لا يرجع إلى الهدى ، أما الذي يتوب بفضل الله وتلاوة هذه الآيات في الصلاة فانه ينسلخ عن النفاق ولا يبقى من أهله لتغير الموضوع , فالثابت في المقام ليس أشخاص المنافقين إنما هي صفات النفاق التي تذكرها هذه الآية، وتأتي هذه الآيات لتنزيه المسلمين والمسلمات من النفاق .
صلة [وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]بقوله تعالى[فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ]
كل شطر أعلاه هو خاتمة لآية تخص المنافقين ، وتتصف بصيغة النفي ويتعلق هذا النهي بحرمان المنافقين أنفسهم من الخصال الحميدة والتقوى وفيه دلالة على تعدد سبل الصلاح والرشاد ، فتأتي البينات للهداية بلحاظ المتلقي على وجوه :
الأول : البينات التي تأتي للناس جميعاً كالآيات الكونية ومعجزات الأنبياء .
الثاني : البينات التي تأتي للمسلمين والمسلمات كرؤيتهم لكيفية نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنصاتهم لحديثه ، فان قلت قد أنصت كفار قريش لحديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الجواب: هناك تباين في الإستماع، فالمسلم يسمع حديث النبي فيتخذه موعظة وعبرة ، والكافر يسمعه فيحرم نفسه من الإنتفاع منه (عن الزهري قال : حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق فتلاوموا ، فقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ، ثم انصرفوا حتى إذا كان الليلة الثانية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض : مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة ، أخذ كل واحد منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود ، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا ، فلما أصبح الأخنس أتى أبا سفيان في بيته فقال : أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد . قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به . ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان؛ قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ، والله لا نؤمن به أبداً ، ولا نصدقه فقام عنه الأخنس وتركه) ( ).
(عن سعيد بن المسيب أن أبا سفيان وأبا جهل والاخنس اجتمعوا ليلا يسمعون القرآن سرا فذكر القصة وفيها أن الأخنس أتى أبا سفيان فقال: ما تقول قال أعرف وأنكر. قال أبو سفيان: فما تقول أنت. قال: أراه الحق. وذكر ابن عطية عن السدي أن الأخنس جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأظهر الإسلام وقال: الله يعلم أني صادق ثم هرب بعد ذلك فمر بقوم من المسلمين فحرق لهم زرعاً وقتل حمراً فنزلت ” ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ” إلى قوله ” بئس المهاد ” وقال ابن عطية: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم) ( ).
وذكر أن إسمه أبي ولقب بالأخنس بعد واقعة بدر فحينما علم بنجاة أبي سفيان والعير رجع ببني زهرة من القتال في بدر في صفوف المشركين ودخل الأخنس الإسلام ، وهو من المؤلفة قلوبهم ، ومات في أول خلافة عمر .
وهل ينتفع غير المسلمين من البينات والدلالات التي تخص المسلمين الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بتقريب أن هذا الخروج أعم من نسبة الفعل للمسلمين فقد ينتفع الناس بواسطتهم من البراهين والمعجزات إذ يرى الناس حال المسلمين سواء مطلقاً أو بخصوص قضية في واقعة .
الثالث : الآيات الخاصة بالمؤمنين والتي تتضمن إكرامهم مثل نزول الملائكة لنصرتهم في معركة بدر وأحد والخندق وحنين وفيه بخصوص المنافقين مسائل :
الأولى : رؤية المنافقين لتوالي الآيات التي خصّ الله عز وجل بها المؤمنين ودلالتها على صدق إختيارهم.
الثانية : إدراك المنافقين لتخلفهم عن الإنتفاع والإتعاظ من الآيات والكرامة التي شرّف الله بها المؤمنين.
الثالث :تعدد الآيات التي تفضل الله عز وجل بها على المؤمنين والمؤمنات منها:
الأولى : الآيات التي تثبّت المؤمنين في منازل التقوى، وكل معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي هبة سماوية للمؤمنين وضياء ينير طريقهم ، وهي من مصاديق الهداية في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
والنسبة بين قوله تعالى[إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ]( )، وبين قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، هي العموم والخصوص المطلق، فصحيح أن المستقيم صفة للصراط وصفة للهدى إلا أنه لا يمنع من التباين الرتبي في الموصوف.
والآيات التي تتضمن البشارة للمؤمنين على قسمين :
الأول : البشارة الدنيوية .
الثاني : البشارة الآخروية .
وكل قسم منهما له مصاديق متعددة في القرآن ، نعم البشارات الآخروية هي الأكثر والأعظم , وتلك آية في إعجاز القرآن فكما تكون أيام الدنيا منتهية وقصيرة ومقدمة بالنسبة لأيام الدار الآخرة فكذا بالنسبة للبشارات .
ومن خصائص بشارات الآخرة أن منافعها تتغشى الدنيا أيضاً ، قال تعالى في خطاب للمؤمنين يوم القيامة [بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
وكل آية قرآنية حرب على النفاق سواء في منطوقها أو مفهومها ، وهي دعوة للمنافقين للرجوع عنه .
الرابع :الآيات التي تصف المؤمنين ، وكل صفة تذكير للمنافقين بقبح النفاق ودعوة لهم للرجوع عنه ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن السنة تتضمن بياناً وتفسيراً لصفاتهم التي جاءت في آيات القرآن ، فمن صفات المؤمنين تعاهدهم للأخوة التي تتقوم بالتقوى وأداء الفرائض , والإخلاص في طاعة الله، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
وتعددت الأحاديث النبوية التي تبين مصاديق لهذه الآية منها (قوله صلى الله عليه وآله وسلم : لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ أَوْ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ( ).
عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله يقول: ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه( ).
عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ ( ).
الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ لَقِيَهُ يَكُفُّ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ( ).
وفي كل حديث أعلاه ترغيب بالأخلاق الفاضلة وزجر عن النفاق ومفاهيمه ، ودعوة للمنافقين للتوبة والإنابة والرجوع بلحاظ هذه الآية من جهات:
الأولى : التنزه عن الإنتساب إلى جماعة المنافقين، الذي يدل عليه اسم الإشارة (أولئك) في أول الآية وإرادة البعد عن رحمة الله فيه فطوبى لمن تنزه عن هذا الشمول والإبعاد باسم الإشارة الوارد في قوله تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ]( ). ومن إعجاز الآية مجيؤها بأمور متلازمة:
الأول : الشراء.
الثاني : الضلالة.
الثالث : التفريط بنور الحياة وهو الهدى.
الخامس : فقدان المنافقين للهداية وأسبابها.
ووصفت الآية المنافقين بأنهم (صم بكم عمي) من باب الحقيقة والمجاز وإرادة تعطيل الحواس في الواجبات العبادية ولكن قوله تعالى[فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] من الحقيقة في أصل موضوعه لبيان تخلف الكفار عن وظائفهم، وعدم علاج داء النفاق وما يترشح من ظلم النفس والضرر الذاتي.
وأخبرت خاتمة الآية السابقة عن حقيقة عدم إمكان رجوع المنافقين عن شراء الضلالة بالهدى ماداموا متلبسين بالنفاق، فان هذه الآية وردت بصيغة المثال ولكنها أختتمت بقانون كلي وهو إحاطة الله عز وجل بالكافرين، وفيه وجوه:
الأول : يعلم الله عز وجل بما يفعل المنافقون.
الثاني : إرادة المعنى الأعم للإحاطة بالعلم بما في صدور المنافقين.
الثالث : لابد من رجوع المنافقين إلى الله عز وجل وحضورهم في مواطن الحساب وكشف ما في نفوسهم.
الرابع : لايفلت المنافقون من سلطان وبطش الله عز وجل، قال تعالى في الثناء على نفسه[وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ]( ).
الخامس :(والله محيط بالكافرين) أي جامعهم في جهنم، عن مجاهد( )، ولكن الآية أعم موضوعاً وحكماً إذ تشمل مضامينها الحياة الدنيا.
السادس : يقبض الله عز وجل أرواح المنافقين عند حلول الأجل.
السابع : إن رزق وحياة المنافقين بيد الله عز وجل، قال تعالى في أمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتوبيخ المنافقين بقوله تعالى[قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]( ).
لقد كان المنافقون يخشون سماع آيات القرآن وأخبار معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيجعلون أصابعهم في آذانهم كيلا تميل قلوبهم إلى الإيمان، ويصدقون بالتنزيل، ولا يعلمون أن الله عز وجل قادر أن يميتهم في الحال ويكفي المؤمنين أذاهم ويصبحوا عبرة وموعظة للناس بلزوم التنزه عن النفاق، ولكن الله عز وجل أراد أن يكونوا موعظة بامهالهم وبيان قبح فعلهم، وسوء إختيارهم، ونزول الآيات في ذم النفاق والمنافقين، وما فيه من تنزيه لأجيال المسلمين من أخلاق النفاق.
البيان في قوله تعالى[أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ]( )،
إبتدأت الآية بحرف العطف (أو) ويحتمل المعطوف عليه وجوهاً:
الأول : العطف على المثل في الآية قبل السابقة بلحاظ إتحاد موضوع المثل فيهما.
الثاني : العطف على أول الآية السابقة.
الثالث : تعدد المعطوف عليه وتقديره على جهات:
الأولى : صم أو كصيب من السماء.
الثانية : بكم أو كصيب من السماء .
الثالثة : عمي أو كصيب من السماء.
الرابعة : لايرجعون أو كصيب من السماء.
الرابع : إرادة العطف على مضامين الآيتين السابقتين.
لقد جاء المثل في الآية [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا]( )، بخصوص فعل وعمل إنسان ، أما هذه الآية فجاءت بخصوص المطر فلا يصح القول : مثلهم كمثل صيب من السماء.
والصحيح هو الرابع لإرادة التنبيه والدلالة على أحد الشيئين .
(أو) حرف عطف معانيه متعددة بلحاظ الجملة ونظم الكلام ومن معانيه :
الأول : العطف للترديد، قال تعالى[فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ]( ).
الثاني : التخيير وما يمتنع فيه الجمع كما في كفارة اليمين والحلف، قال تعالى[فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ]( ).
والمثل والتشبيه لغة واحد ، ومنهم من فرق بينهما , وقال إن التشبيه أعم أي بينهما عموم وخصوص مطلق فكل تمثيل هو تشبيه وليس العكس، وأن التشبيه هو الإشتراك بين شيئين في صفة أو صفات ,ولكن ليس كل الصفات لانتفاء التعدد الذي يدل عليه التشبيه فلا يكون هناك تغاير ومشبه ومشبه به، بل يكون حينئذ شيئاً واحداً بنفسه، ومن أسرار التشبيه تقريب المعقول بلغة المحسوس،
الثالث : العطف الرتبي، بأن يأتي البدل عند تعذر الأول، وهذا المعنى مستحدث منا في هذا البحث ومن المثال عليه قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ]( )، لبيان حكم شرعي وهو أن العدول إلى شهادة غير المسلمين في الوصية مقيد بأمرين:
الأول : حال السفر في الأرض وعدم حضور المؤمنين من الجيران والأرحام وذوي القربى ونحوهم.
الثاني : حضور أمارات الموت والنزاع ساعة السفر.
الرابع : بيان التباين، كما في قوله تعالى[وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
وقيل إن الآية أعلاه تفيد تخيير المخاطب، ولا دليل عليه لأن الكافر والمنافق قد يدعي الإيمان والصلاح، قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( ).
الخامس : عطف الأشد على الأخف أي يكون المعطوف أشد وأقوى مرتبة من المعطوف عليه، قال تعالى[وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ]( ).
أن(أو) في الآية أعلاه تفيد معنى(الواو)( )، ولكنها تتضمن معنى المغايرة والتعدد الموضوعي والتباين بين الجهتي بينهما، وتؤسس الآية لعلم جديد، وهو أن هناك آناً من الزمان أقل وأسرع من لمح البصر، والساعة مثله، ويقال لمحه وألمحه: إذا أبصره بنظر خفيف)( )، وكذا أستدل بأن أو مثل حرف العطف (الواو) بقوله تعالى[فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً]( )، وفيه دلالة على أن من الممكنات ما هو أشد من الحجارة كالحديد، ومن هذا العطف قوله تعالى[قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ]( )، فالساعة أشد وأعظم، أما عذاب الله فهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة , وجاءت الآية لبيان أن هذا العذاب لا يصل إلى قيام الساعة وموت الناس جميعاً.
السادس : عطف التشابه والتساوي في الموضوع أو الحكم أو الصفة، كما في قوله تعالى[إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ]( ).
السابع : عطف الأخف على الأشد، كما في قوله تعالى[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ]( ).
وتكرر حرف العطف (أو) في الآية أعلاه، والأول عطف الأشد على الأخف، والثاني عطف الأخف على الأشد، وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي التعدد في معاني الحرف في الآية الواحدة دعوة لإستقراء المسائل من هذا الترتيب ودلالته على الأذى الذي لحق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكفار.
الثامن : العطف بين المتضادين , وهو من أسرار مفردات اللغة العربية، كما في قوله تعالى[اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ]( )، وهذا المعنى قد يلحق بالتخيير ولكنه لا يدل على التساوي بين أفراد التخيير، فالقول بأن(أو) تفيد التخيير يمكن تقسيمه إلى أقسام بحسب اللحاظ.
التاسع : عطف الأكثر على الأقل والأدنى، قال تعالى في ذم المنافقين والكفار[أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ]( )، أي يأتيهم الإبتلاء وينزل بهم البلاء.
العاشر : عطف إضراب، كما في قوله تعالى[وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ]( )، أي بل يزيدون، وإليه ذهب الفراء، وقيل أن (أو) في الآية أعلاه للإبهام وقيل للتخيير وقيل للشك بلحاظ الترديد عند الرائي.
الحادي عشر : تأتي(أو) بمعنى حرف العطف الواو .
وفي التشبيه الوارد في قوله تعالى [وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ]( ). نسب الله عز وجل لبديع قدرته في هذه الآية أموراً:
الأول : السفن الجارية.
الثاني : البحار والأنهار.
الثالث : تشبيه السفن وهي في البحر بالجبال.
الرابع : الجبال العالية بلحاظ أن الأعلام جمع علم وهو الجيل العالي.
الخامس : تشبيه سير السفن في البحر بالجبال الثابتة في الأرض، وفيه مسائل:
الأولى : ان تهيئة وسائط نقل للناس في البحار أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
الثانية : صيرورة السفينة ذات الشراع وهي في البحر كالميل العالي.
الثالثة : تذكير الناس بنجاة نوح ومن معه في السفينة بعد أن غرقت الجبال وعلاها ماء الطوفان.
وحينما دعا نوح على قومه أمره الله عز وجل أن يغرس النخل وجعل علامة لنزول العذاب بهم هو طلوع التمر هذا النخل، وكان من لطف الله عز وجل أن لايعذب الأطفال بذنوب الآباء فعقم أرحام النساء أربعين سنة وفيه نكتة وهي أن هذا العقم مناسبة لهم للتوبة والتدارك واللجوء إلى الدعاء والإستغفار وسؤال النبي نوح أن يدعو الله لهم ويرفع عنهم هذا البلاء ولكنهم أصروا على إيذائه والإستهزاء به قال تعالى[وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ]( ) .
ومن ضروب سخريتهم به قولهم: أيها النبي، لم عدلت من رسالتك إلى النجارة، يا نوح صرت نجاراً بعد النبوة.
ويتضاحكون بينهم إستهزاءً , ويقولون: السفينة تصنع في البحر وانت تصنعها في البر.
الرابعة : دعوة الناس للشكر لله عز وجل للنجاة عند ركوب البحر، ففي السفينة تدرك أنه ليس بينك وبين الموت حاجز مع إنقطاع أسباب النجاة للملازمة بين الموت والغرق في حال حدوثه ز
والعطف الرتبي وعطف التباين وعطف الأشهر وغيرها أعلاه إصطلاحات جديدة.
الخامسة : لا تختص آية جريان السفينة في البحر بالذين فيها، بل يشمل الإتعاظ منها الذين يرونها من البر أو البحر، والذين يسمعون بجريانها.
ووصف الآية السفن بأنها منشآت، فيه وجوه:
الأول : إرادة الشراع الذي ترفعه السفينة.
الثاني : المحملات , قاله مجاهد.
الثالث : انها المرسلات.
الرابع : المجريات ( ).
الخامس : الإنشاء هو الصنع فالسفن مصنوعة من قبل الإنسان لبيان قدرة الله عز وجل بأن يجعل من القليل المصنوع شبيهاً للجبل الثابت في الأرض.
السادس : إرادة تسيير السفينة بالآلة والكهرباء , وعن عمير بن سعد قال: كنا مع علي على شط الفرات فمرت به سفينة فقرأ هذه الآية[وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ]( ) ( ).
وهذه السفن لا تجري في البحر إلا باذن الله , وبديع قدرته وهو الذي أراد للناس النقل والسفر بواسطة البحار، وفيه دعوة للناس للشكر له سبحانه على النعم، وحث على الإيمان والتصريق بالنبوة والرسالة، وهذه الآية حجة على المنافقين والكفار من جهات:
الأولى : دلالة الآية على وجوب عبادة الله عز وجل وحده.
الثانية : بيان قدرة الله عز وجل في منع السفن من السير في البحر بركابها وأحمالها بذاتها أو بالواسطة لذا قال تعالى[إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ]( ).
وهل تدل الآية على جفاف الأنهار , الجواب لا، لأنها ذكرت علة الوقوف والسكن وهو سكون الريح، فان قلت تجري السفن الآن بالمحركات الآلية .
والجواب ذات الأمر من الإمكان والحدوث بالمشيئة قائم في كل حال وزمان، وليكون معاني المنشآت في قوله تعالى[وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنشَآتُ]( )، عموم الأسباب التي تسير السفن وليس الشراع وحده، وإستخدام التقنية في صناعة وسير السفن، فاذا أراد الله عز وجل تعطيل سيرها فانه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة.
الثالثة : حث الناس على الدعاء والسؤال من فضل الله عز وجل في دوام النعم.
الرابعة : عائدية ما يصنع ويملك الإنسان والدول إلى الله عز وجل لقوله تعالى[وَلَهُ الْجَوَارِي] وفي هذه العائدية ولام الملكية مسائل:
الأولى : إنه باعث للأمن والسكينة في النفوس.
الثانية : بيان فضل الله بدفع الهلكة عن الناس في البحار.
الثالثة : إخبار الناس عامة والذين يركبون البحر خاصة بأن الله عز وجل معهم، قال تعالى[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
الرابعة : تفسير وبيان قوله تعالى [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ]( )، بأن المراد من قوله تعالى[وَمَا فِيهِنَّ] الجواهر والأغراض والمصنوعات وما خرج من العدم إلى الوجود وما كان في السماء وصار في الأرض كالمطر وما كان في باطن الأرض وصار في ظاهرها، وما كان على الأرض أصبح في باطنها، وما صعد إلى السماء على نحو مؤقت كالسفر في الطائرة، أو على نحو دائم كالسكن في الكواكب، وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتدري ما الكرسي؟ قلت : لا . قال : ما في السموات وما في الأرض وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ألقاها ملق في الأرض ، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقاها الملق في الأرض ، وما الماء في الريح إلا كحلقة ألقاها ملق في ارض فلاة ، وما جميع ذلك في قبضة الله عز وجل إلا كحبة وأصغر من الحبة في كف أحدكم . وذلك قوله[وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ).
الخامسة : دعوة المنافقين والكفار للتنزه عن أسباب الشرك والضلالة.
السادسة :عطف المثل على المثل والجامع مع المشتر ك بينهما في الآية هو تخلف المنافقين عن سنن الإسلام الي تقتضي إخلاص الإيمان، وبيان قبح الكفر والضلالة إذ أختتمت الآية بذم الكافرين وتذكيرهم بأن الله عز وجل يعلم ما يفعلون وأنهم عاجزون عن الإضرار بالمسلمين.
وليس من حصر لنعم الله عز وجل التي تنزل من السماء، فكما ينزل المطر(فيحيي الأرض بعد موتها) وتحصل البركة، ويسعد الناس، فإن الله عز وجل ينزل الكتاب والآية من السماء على الأنبياء، وتفضل وجعل القرآن مطراً يومياً مباركاً متصلاً بقراءة المسلمين والمسلمات له كل يوم في الصلاة , يطرد الكفر من الأرض والنفاق من النفوس .
والتصديق بنبوة محمد صلى عليه وآله وسلم والتنزيل دفاع عن الإسلام، ودفع لمصائب تنزل بالمؤمنين، وفيه دعوة إلى الصبر، قال تعالى[إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ]( ).
ولكن المنافقين [يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ] ويصرون على الإمتناع عن تلقي التنزيل وما فيه من الأوامر والنواهي بالإمتثال، وقد تقدم في أسباب نزول هذه الآية( )، أن رجلين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأصابهما المطر وصاحبه رعد وصواعق في آذانهما فتقتلهما، وعند الصباح رجعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعلنا إسلامهما، فجعلها الله عز وجل مثلا للمنافقين الذين إذ أزدادت أموالهم وأصابوا من الغنائم مشوا فيه، أي واظبوا على أداء الفرائض وإستمروا في إعلان إسلامهم وحضور الصلوات ، والخروج في سرايا الدفاع، وإذا أظلم عليهم أي أصابتهم مصيبة ولحقهم ضرر , أو تعرض المسلمون لخسارة وأذى فإنهم يظهرون أمارات النفاق من الشك الريب وتحريض المسلم القريب منهم على القعود وعدم الخروج للدفاع ونصرة الرسالة والتنزيل .
ومن وجوه تقدير هذه الآية وعطفها على الآية السابقة هو[مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ *صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ *أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ]( )، والصيب والمطر ليس مشبهاً به للمنافقين ولكنه نعمة وحال أصابت المنافقين فأعرضوا عنها وجعلوا أصابهم في آذانهم، فهم لا يريدون سماع أمور:
الأول : ما ينزل من آيات القرآن، وذخائر الحكمة التي تتضمنها.
الثاني : دخول الناس أفواجاً في الإسلام.
الثالث : توالي النصر والظفر لسرايا وجيوش المسلمين.
الرابع : صدق الإيمان الذي يتحلى به المؤمنون.
الخامس : إخلاص الصحابة وأهل البيت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبذل الوسع في الدفاع عنه.
السادس : هلاك كبراء الشرك والضلالة.
السابع : تلاوة المسلمين والمسلمات لآيات القرآن.
الثامن : بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرسائل إلى ملوك الأرض يدعونهم إلى الإسلام.
التاسع : الآيات التي تذم النفاق وتفضح المنافقين إذ أنها تأتيهم كالصاعقة لأنها تخبر عما في نفوسهم من الكفر مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فأخبر المسلمين ليكون هذا الإخبار نصراً عظيماً، وواقية من ظهور الخيانة في صفوفهم وغدر المنافقين ساعة الشدة وعند مواجهة الكفار في ميادين القتال.
وكما يكون مع المطر ظلمات ورعد وبرق فكذا يكون مع الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله أذى وجراح وفقد للأحبة في ميادين الدفاع ولكن الخير والبركة متصلان فكما يغمر المطر الأرض فإن التنزيل رحمة تغشى الناس، وتجعل المؤمنين منقطعين إلى ذكر الله، والأرض معمورة بالصلاح وسنن التقوى , وصيرورة الأخلاق الحميدة هي الغالبة.
ومن إعجاز المثل القرآني أمور:
الأول : فيه تذكير ببديع صنع الله.
الثاني : بيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه.
الثالث : قرب موضوع المثل والمشبه به من أهل كل زمان ومكان من الناس، وقيل ليس من دأب المحصلين النقاش في المثال، ويختص القرآن بأن النقاش والجدال فه ممتنع، ومن أراد السعي للجدال فأنه يغرق بأسراره وذخائره ودلالاته.
الرابع : المثل القرآني مناسبة لشكر لله عز وجل لما فيه من بيان للنعم على الناس، وهو من خصائص المثل القرآني بأن النعم فيه ليست منحصرة بالمسلمين بل هي عامة للناس جميعاً، والأولى تأسيس علوم جديدة بخصوص المثل القرآني من جهات:
الأولى : إحصاء آيات الأمثال في القرآن.
الثانية : موضوعية المثل القرآني في كل آية منها , وهل هو الموضوع الوحيد فيها وأنها جاءت خاصة به، أم أنه جزء من مضامينها القدسية.
الثالثة : أسباب نزول المثل القرآني , وحينما ينزل المثل فلابد أن الموضوع ذو وشأن عظيم , وفيه دعوة للمسلمين للتدبر بخصوص المثل ودلالاته.
الرابعة : مطابقة المفهوم على المصداق بخصوص المثل القرآني، ومعرفة مضامينه والمسائل المستنبطة منه , كما في هذه الأمثال ومعرفة أشخاص المنافقين وأخذ الحيطة والحذر منهم.
الخامسة : الغايات السامية من المثل القرآني .
السادسة : الآثار المباركة للمثل القرآني.
السابعة : إنتفاع المسلمين والناس من المثل القرآني، قال تعالى[وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
الثامنة : موافقة المثل القرآني لكل زمان ومكان، وذكره مخلوقات وأشياء موجودة ومعروفة في كل زمان ومكان.
التاسعة : الحجة والبرهان في المثل القرآني.
العاشرة : تقسيم الأمثلة تقسيماً إستقرائياً بحسب اللحاظ والموضوع مثل تقسيمها إلى قسمين:
الأول : المثل السماوي، وهو على جهتين:
الأولى : المثل القرآني.
الثانية : المثل في الكتب السماوية السابقة.
الثاني : أمثال الناس.
الحادية عشر : أسرار تلاوة المسلمين للمثل القرآني وقراءته في الصلاة بصيغة القرآنية.
الثانية عشر : المثل في السنة النبوية، والصلة بينه وبين المثل القرآني.
الثالثة عشرة : حضور الأمثال القرآنية في عالم الأفعال، وأثرها في تنمية ملكة التقوى.
الرابعة عشرة : إتخاذ المسلمين المثل القرآني واقية وحرزاً وسلاحاً.
لقد أخبرت الآية السابقة بأن المنافقين[صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ] وجاءت هذه الآية بالمثل الكوني الذي يتعلق بآيات تعم الناس جميعاً فالأصل أن ينتفعوا من التنزيل على نحو العموم الإستغراقي والبدلي وهو الذي تجلى بتلقي المسلمين القرآن بالإيمان به والعمل بمضامينه وأحكامه وسننه بشوق وغبطة ، ولكن المنافقين حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة وأصروا على بقاء الكفر مستقراً في نفوسهم.
فجاءت الآية لبيان حالهم بصيغة المثل النوعي العام، وهل في الآية نكتة وهي أن ضرر المنافقين كوني شامل للناس جميعاً بلحاظ أنهم كانوا في المدينة المنورة وكانت دولة الإسلام محصورة فيها، الجواب لا، لأن الآية بينت النعم الإلهية الكونية , ولكن المنافقين حجبوا عن أنفسهم الإنتفاع منها بدليل أن الآية ذكرت وضعهم[أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ] فلم يضر المنافقون إلا أنفسهم، وهم يخشون الموت من الصواعق المحتملة، ولكن البلاء نازل بهم باصرارهم على الإقامة على الكفر.
الإنتفاع من المثل القرآني
لقد أختتمت هذه الآية بقوله تعالى[وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ] وفيه إنذار ووعيد أشد مما جاء في لغة المثال في الآية الكريمة إنما جاء المثل للتنبيه والتحذير والإنذار، ويكون الإنتفاع منه على وجوه:
الأول : النفع العام للمسلمين، من جهات:
الأولى : زيادة تفقه المسلمين في الدين.
الثانية : إتخاذ المسلمين المثل القرآني موعظة وعبرة وسبيلاً للصلاح.
الثالثة : جعل المسلمين المثل القرآني مادة للإحتجاج , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
الرابعة : تنمية ملكة الجدل وسبل الصلاح بلغة المثل عند المسلمين، وجعلهم يأتون بالمثل الحسي والعقلي، ولا ينحصر موضوعه بالجدل بل يشمل مواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الغير، وفيما بين المسلمين، وتلك آية في إعجاز القرآن بأن تأتي الآية في ذم الكفار أو المنافقين , ولكن الدروس والمسائل المستنبطة منها كثيرة ومتعددة في موضوعها ودلالاتها.
الخامسة : صيرورة المثل القرآني ملاذاً للمسلمين، وحرزاً من النفاق وزاجراً للمنافقين والظالمين.
السادسة : زيادة إيمان المسلمين، وجعل المثل القرآني مادة للحديث وحسن الصلات بينهم.
السابعة : سهولة حفظ الآيات التي فيها المثل، وهو من أسرار ذكر المثل القرآني لأمور حسية معروفة عند الناس في كل زمان.
الثاني : توبة طائفة من المنافقين بالإتعاظ من المثل القرآني، وما فيه من بيان لقبح النفاق، والتبكيت لمن يصر على إخفاء الكفر مع إعلانه الإسلام.
وجاءت هذه الآيات بصيغة الغائب[مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ]( )[ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ]( )، وفيه إكرام لكل المسلمين والمسلمات، ودعوة للمنافقين لجعل أنفسهم ممن يقصدون بالخطاب في هذه الآيات وليسوا من الغائبين الذين تتضمن ذمهم، وفيه نكتة وهي أن المنافق إذا أخلص النية والقصد مع الله عز وجل في عباداته فليس من مبرز خارجي يكون فيصلاً بين حال النفاق السابقة وحال الإيمان التي إنتقل إليها، فيكون ممن يتلقى هذه الآيات كواحد من المؤمنين، وفي أمن وسلامة من النفاق.
ومن أسرار مدرسة المثال القرآني أنها نوع تعريض بالظالمين والكفار من غير ذكرهم باسمائهم، مما يجعل الإنسان يستحي من الله عز وجل وتنفر نفسه من الخصال التي يدل المثل القرآني على كراهتها وقبحها.
الثالث : إنتفاع الناس جميعاً من المثل القرآني، وهذا الإنتفاع من جهات:
الأولى : قراءة المسلمين لآيات القرآن جهراً في صلاة الصبح والمغرب والعشاء وتلاوتهم لها خارج الصلاة وسماع الناس لها بقصد الإصغاء أو بالعرض.
الثانية : أثر اتخاذ المسلم المثل القرآني دليلاً وبرهاناً على وجوب الإيمان، ولزوم ترك الكفر والضلالة.
الثالثة : إتصاف المثل القرآني بالقرب العقلي والحسي من كل إنسان، وعجز الكافر عن دفعه عن الوجود الذهني وعالم التصور، فلابد أن ينفذ المثل القرآني إلى شغاف قلبه ويملي عليه التدبر في مضامينه ودلالاته.
ولما أخبر الله عز وجل الملائكة بتولي الإنسان عمارة الأرض بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إحتجت الملائكة بأن الإنسان [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، فجاء الإحتجاج المبارك من عند الله بقول[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
البيان في[يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ]
إبتدأ هذا الشطر بجملة فعلية، والفاعل هو واو الجماعة في(يجعلون) ويعود لما قبله، وهم المنافقون إذ بدأت هذه الآيات بقوله تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( )، لبيان قانون كلي وهو أن الذين يدّعون الإيمان كذباً وبهتاناً لن يتركهم الله عز وجل بل تأتي الآيات لذمهم وفضحهم وبيان سوء فعلهم، فتكون مناراً للمؤمنين ودعوة سماوية لأخذ الحائطة للدين، وإحتراز المسلمين من إستحواذ المنافقين على أمور الرئاسة والإمارة والولاية، كما تدل عليه قاعدة الأولوية في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ).
وجاءت الآية التالية في بيان حال الحنق والبغضاء التي يتصف بها المنافقون بقوله تعالى[وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ]( )، ترى ما هي النسبة بين مضامين الآية أعلاه وقيام المنافقين بعض أصابعهم عقب لقائهم بالمؤمنين، وبين قوله تعالى[وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( )، الجواب فيه وجوه:
الأول : نسبة العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي اللقاء بالمؤمنين , ومادة الإفتراق خلو المنافقين برؤساء الضلالة بعد هذا اللقاء كما في الآية أعلاه، وعضهم الأنامل بعده كما في الآية أعلاه من سورة آل عمران.
الثاني : نسبة التساوي وأن عض الأنامل هو ذاته المراد من قولهم لرؤساء الضلالة (انا معكم).
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق , وهو على شعبتين:
الأولى : الخلوة برؤساء الكفر والضلالة وما يدور فيها من الحديث والمكر أعم من عض الأصابع الذي هو من آثار ونتائج هذه الخلوة.
الثانية : عض المنافقين الأنامل هو الأعم من الخلوة.
الرابع : نسبة التباين إذ يتم عض المنافقين أناملهم على نحو الإنفراد وبعد اللقاء، أما الخلوة مع رؤساء الكفر فهو نوع مفاعلة ولقاء ثاني مباين ومضاد للقائهم بالمؤمنين , وكأن هذا التباين مثال لإبتلاء الإنسان في الحياة الدنيا ومن مصاديق قوله تعالى[إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( )، فلقاء المنافق مع المؤمنين وحضوره الصلاة وسماعه لآيات القرآن طريق وصراط إلى التوبة ، أما الإنفراد بالكفار وإظهار الولاء لهم فهو سبيل إلى النار وحصول هذا الإنفراد بعد اللقاء مع المؤمنين والإنصات لهم وإعلان الإيمان كذباً من بين أسباب إستحقاق المنافقين العذاب الأليم يوم القيامة وإختصاصهم [فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( )، والنسبة بين الأمرين أعم من الروابط والنسب الأربعة التي يمكن أن تكون بين كليين عند الإفتران أو المقارنة بينهما , فيحصل عض المنافقين لأصابعهم في حالات:
الأولى : الشعبة الأولى من الوجه الثالث أعلاه.
الثانية : الوجه الرابع أعلاه.
الثالثة : إرادة المعنى الأعم، إذ يلجأ المنافقون إلى عض أناملهم حتى بعد لقائهم برؤساء الضلالة.
الرابعة : يعض المنافق أنامله وإن لم يتقدم ويسبق لقاءه بالمؤمنين أو لقاءه برؤساء الكفر والضلالة، كما لو بلغه نصر للؤمنين أو مجئ وفد أحدى القبائل إلى المدينة ليعلنوا إيمانهم.
وذكرت في الغيظ مراتب:
الأول : السخط وهو خلاف الرضا.
الثاني : النظام، وهو الغضب مع إستعلاء وتكبر.
الثالث : البرطمة، وهو الغضب مع عبوس وإنتفاخ( ).
الرابع : الغيظ: وهو الغضب المكبوت بسبب العجز أو الخشية من إظهاره.
الخامس: الحرد وهو إنفعال وغضب الإنسان مع الهم والتطاول على الذي أغاظه.
السادس : الحنق وهو الغيظ والغضب مع شدة البغض.
السابع : الإختلاط: وهو أشد الغضب .
والأنامل جمع أنملة وهو المفصل الأعلى الذي فيه الظفر من الإصبع.
والمختار أن الآية تجمع بين أمرين في بيان حال المنافقين:
الأول : الغيظ.
الثاني : عض الأنامل.
وبينت الآية أن الثاني بسبب الأول مما يدل على شدة الغيظ والحنق والعجز عن إظهاره بالإضرار بالمؤمنين ليكون في الآية تحذير من المنافقين، وإخبار بأنهم متوثبون للإنقضاض على المؤمنين عندما تكون الفرصة مؤاتية، فمع أن قوله تعالى[وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ]( )، جاء في سورة آل عمران إلا أنه توكيد لهذه الآيات وشاهد على الإعجاز القرآني في مجئ هذه الآيات التي تذم المنافقين في أول سورة البقرة، لأنها إخبار عن وجود عداوة للمسلمين بين ظهرانيهم، وما يسمى في هذا الزمان بالخلايا النائمة والطابور الخامس .
ومع وجود المنافقين وأثرهم لم يتردد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الغزو وقيادة سرايا وجيوش القتال، وفي أكثر غزواته كان ينيب عنه في ولاية وحكم المدينة ابن أم مكتوم وهو أعمى، وفيه مسائل:
الأولى : إغاظة المنافقين.
الثانية : الإخبار عن عجز المنافقين عن القيام بأي فعل يضر بالإسلام.
الثالثة : بيان أثر سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تعاهد الإيمان في المدينة وكذا تجلي معاني الإيمان في سيرة أهل البيت وأمهات المسلمين وعوائل الصحابة والمؤمنات في المدينة بحيث ليكونوا سداً منيعاً دون الكذب والإفتراء وزاجراً عن إظهار النفاق والإشاعات المغرضة التي تسئ للمجاهدين والمرابطين في الثغور.
الرابع : هناك نوع تسالم على رجوع النبي وأصحابه سالمين وتأديب ومعاقبة من يخرج على القيم والقواعد الشرعية وسلطان الإسلام , وهو من مصاديق قول المنافقين كما ورد في التنزيل[لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( )، أي أنهم يعلمون رجوع النبي وأصحابه إلى المدينة من الغزو سالمين.
وعند عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من معركة تبوك بادر المنافقون الذين تخلفوا عن الخروج بالإعتذار بالأباطيل[يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاَ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ]( )،
فنهى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين عن مخالطة ومجسالة المنافقين، وتلك آية في تأديب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين , وفيها مسائل:
الأولى : حصانة المسلمين من شر المنافقين.
الثانية : معرفة المسلمين لضابطة كلية في المجالسة والحديث.
الثالثة : إدراك المنافقين لإزدرائهم من قبل المؤمنين، وعلته وهي النفاق وإخفاء الكفر.
الرابعة : زجر المنافقين عن المكر والكيد بالمؤمنين.
الخامسة : بيان الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تعليم المسلمين كيفية الصلات الإجتماعية.
السادسة : عزلة المنافقين في الدنيا وإعراض المؤمنين عنهم، مقدمة وأمارة على حالهم يوم القيامة، وعن أبي أمامة الباهلي: أنه قال : أيها الناس إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات ، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر ، وهو القبر بيت الوحدة وبيت الظلمة وبيد الدود وبيت الضيق ، إلا ما وسع الله ، ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة ، فإنكم لفي بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر الله ، فتبيض وجوه وتسود وجوه ، ثم تنتقلون منه إلى موضع آخر فتغشى الناس ظلمة شديدة ، ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نوراً ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئاً وهو المثل الذي ضرب الله في كتابه إلى قوله ولا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير ، ويقول المنافق للذين آمنوا : { انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً } وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال [ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ]( )، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم ، { فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } ينادونهم ألم نكن معكم نصلي صلاتكم ونغزو مغازيكم؟ قالوا : بلى إلى قوله : { وبئس المصير } ( ).
لقد أسس القرآن مدرسة الوقاية من النفاق , والإحتراز من أخلاقه ومفاهيمه في بداية نظم القرآن لتكون مدخلاً لرياض الإيمان الناضرة , ودعوة للناس لدخول الإسلام بقيد التنزه عن كدورات الشك والريب المخالف لرشحات وسنن الحكمة التي تترشح عن براهين النبوة .