معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 110

المقدمة

الحمد لله الذي خلق كل شيء إبتداء من عنده , وهو الغني بذاته عن الخلائق، الحمد لله مدبر الأمور الذي ليس من حد لقدرته، وعظيم سلطانه، الحمد لله الذي جعل السموات والأرض عرضاً وسعة للجنة وأخبر بأنها دار الخلود للمتقين الذين يخشون الله، فيبادرون إلى أداء الوظائف العبادية ويجذبون الناس إليها[بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الحمد لله الذي إستوى على العرش ووسع كرسيه السموات والأرض، في شاهد تفنى فيه موضوعية أفراد الزمان الطولية على إطلاق ربوبيته على المعدوم والموجود من الكائنات .
الحمد لله الذي لا تنفد كلماته ولو صارت البحار مدادا لها , الحمد لله الذي ليس من حد لعلمه.
الحمد لله الذي أنعم على الخلائق بأن جعل الإنسان خليفة في الأرض، قال تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ليكون تتويج الخلافة بنزول القرآن دستوراً خالداً لأهل الأرض، فيصبح هذا النزول علة لإستدامة الحياة في الأرض بوجود[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، تتعاهد أحكام الشريعة، وتمتنع عن الوهن والضعف بتصديقها وإنقيادها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جعله الله[رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وزاد من فضله تعالى فأذهب الرجس عنه وعن أهل بيته في نعمة دائمة على أهل الأرض وتجلي دوام معاني العبودية التامة لله سبحانه والإمامة في سبل التقوى والصلاح.
الحمد لله الذي تواضع وذل لعظمته كل شيء وانقادت الخلائق لمشيئته وقرب من عباده فجعل القرآن مرآة لسلطانه ، فقال تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ]( ) .
الحمد الله الذي جعل رسوله الكريم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إمام الناس في الحمد والثناء عليه سبحانه وقال :(والحمد لله الذي تواضع لعظمته كل شيء والحمد لله الذي خشع لملكه كل شيء)( ).
الحمد لله الذي جعل كل شطر آية من آيات القرآن مناسبة للحمد والثناء عليه والحمد على ثلاثة أقسام:
الأول : الشكر بالجنان والقلب بأن يدرك الإنسان في قرارة نفسه نعمة الله ويستحضر ذكرها بالشكر لله والثناء عليه والإقرار بأنها من فضله تعالى.
الثاني : الشكر القولي، وهو بيان الشكر باللسان سواء على نحو المناجاة أو الدعاء أو الحديث بين الناس قال تعالى[وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]( )، وتدل الآية أعلاه على أولوية الحديث بالنعمة وأن الإقرار بها في القلب وحدة غير كاف.
ويتجلى الشكر القولي بمصاديق كثيرة منها:
الأول : التصديق بنزول القرآن من عند الله.
الثاني : إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : تلاوة آيات القرآن.
الرابع : العمل بالأوامر الواردة في القرآن.
الخامس : إجتناب ما تضمنت آيات القرآن النهي عنه.
السادس : الصبر في مرضاة الله.
ولو تلى المسلم الآيات التي تتضمن الشكر لله عز وجل فهل يحتسب من الشكر القولي أم لابد من الإتيان بكلمات مخصوص مع قصد الشكر لله سبحانه.
الجواب هو الأول وإن كانت التلاوة بقصد القرآنية.
الثالث : الشكر العملي ويسمى أيضاً شكر الأركان، ويتجلى بالإمتثال للأوامر الإلهية وإجتناب ما نهى عنه سبحانه.
ومن الإعجاز في آية البحث أن كلاً من عدم الوهن وعدم الحزن من مصاديق وجوه الشكر الثلاثة المتقدمة كلها، لينال المسلمون الأجر المتعدد على الفعل المتحد، قال تعالى[اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا]( ).
فان قلت إن قوله تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور]( ). يدل على المغايرة بين الصبر والشكر والجواب هذا صحيح ، ويجوز أن يكون من عطف العام على الخاص بنحو جهتي .
وبين الصبر والشكر عموم وخصوص من وجه ، فيصبر المؤمن شكراً لله عز وجل على الإبتلاء وعلى نعمة الصبر ، ويتجدد الشكر عند الامتناع عن الوهن والضعف والحزن ، بتقريب أن الله عز وجل يأمرنا بعدم الوهن كي نشكره سبحانه على هذا الأمر والتوفيق للإستجابة ، وإذا كان عدم الوهن والخور سبباً لشكرنا لله عز وجل ، فإن الشكر له سبحانه يحتمل في أثره وجوهاً:
الأول : إنه سبب لعدم الوهن.
الثاني : لا يكون سبباً لعدم الوهن لأنه يلزم الدور.
الثالث : الشكر لله سبب وعلة لعدم الوهن والحزن .
الرابع : الشكر لله ليس سبباً لدفع أو رفع الحزن .
والصحيح هو الثالث، من غير أن يلزم الدور بينهما للتباين الموضوعي في الأثر وتلك آية في بديع صنع الله، قال تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ]( ).
السابع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ومن رشحاته التوقي الخاص والعام من الضعف والوهن والحزن ، وعن الإمام الباقر عليه السلام قال (إن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الانبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الارض، وينتصف من الاعداء، ويستقيم الامر)( ).
وتتضمن آية البحث النهي الصريح عن حال الوهن والجبن في مستقبل الأيام، ومن الإعجاز أن هذا الإسقبال متجدد من جهات:
الأولى : زمان تلاوة آية البحث وما بعده.
الثانية : أوان نزول آية البحث يوم أحد والأيام اللاحقة له.
الثالثة : واقعة أحد والمعارك التي أعقبتها.
الرابعة : الوقائع التي تؤدي إلى دبيب الوهن في نفوس المسلمين.
الخامسة : المصائب التي تطرأ على المسلمين.
ولا تعارض بين هذه الجهات ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ومن إعجاز القرآن، وإقترن مع حدوث الوقائع والمصائب ما فيه الهداية إلى الإنتفاع منها وسبل النجاة من آثارها والتوقي من ضررها، كما في قوله تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
وتدل آية البحث في مفهومها على عدم حصول الوهن والحزن عند المسلمين قبل نزولها، إذ أن منطوقها لا يدل على الدعوة لرفعهما متفرقين ومجتمعين بل تدعو الى الوقاية منهما ، لأن كلاً من الوهن والحزن آفة تنخر في صرح العزائم ونوايا الدفاع فقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا]( ).
ومن فضل الله تعالى أن الإسلام إبتدأ ونشأ وقام صرحه على عدم الوهن والحزن ، و فيه مدح وثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في حسن الجهاد والتفاني في طاعة الله وقتال الكفار والمشركين .
ويؤكد كل فرد من الشواهد الوجدانية والتاريخ وعلم المغازي إنتفاء الوهن والضعف عند المسلمين ، فان قلت إذن لماذا جاء النهي عن الوهن والضعف مع عدم وجودهما في الواقع القتالي عند المسلمين , والجواب من وجوه:
الأول : إرادة إستدامة السلامة من الوهن والحزن.
الثاني : مقابلة إزدياد هجوم الكفار على عاصمة الدولة الإسلامية المدينة المنورة ، وهناك تباين في الضرر بين الهجوم على الثغر والأطراف والهجوم على العاصمة، وهو الأمر الذي إلتفتت إليه قريش بدهائها ومكرها فأرادوا الإجهاز على الإسلام في بداية نشوئه وإستحضروا الإستعانة بالمنافقين وغيرهم في المدينة لهدم أركان دولة الإسلام على نحو السالبة الكلية وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثالث : بلوغ المسلمين حال الأمن من الوهن والخوف بفضل ومدد من الله فهذا الفضل سابق لهذا الآية ومقارن لها ومتأخر عليها ومن فضله تعالى أن عدة آيات تأتي بخصوص غاية حميدة واحدة ، وأول كلمة نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ] ( )، إلى عدم الوهن والخوف .
فمن مصاديق الإمتثال لهذا الأمر الإلهي قراءة آية البحث والعمل بمضامينها ، ومنها أن القراءة تأتي في حال الطمأنينة وإنتفاء الضعف والحزن، لذا فان آية البحث جاءت ليقرأ المسلمون القرآن في الصلاة وغيرها ،من دون أن يلزم الدور بين الآيتين , فكل آية من القرآن بلغة للعمل بمضامين الآية الأخرى.
لقد أراد الله سبحانه للمسلمين أن يكونوا أقوياء لنشر مبادئ الإسلام، وعن رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير)( ) أي سواء كان المؤمن قويا أو ضعيفا فان فعله صلاح وفيه الأجر والثواب .
وهذا الحديث مرآة وبيان لقوله تعالى [فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى]( ).
ويحتمل عدم الوهن والحزن بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً:
الأول : إنه من الجهاد في سبيل الله بالأنفس.
الثاني : كل من عدم الوهن وإنتفاء الحزن مقدمة للجهاد بالمال والنفوس.
الثالث : التباين الموضوعي بين الجهاد وبين عدم الوهن والحزن ، بلحاظ أن الجهاد فعل وجودي يتجلى باخراج الزكاة وبذل الأموال للمقاتلين وبناء دولة الإسلام وهذا هو الجهاد المالي وبالإندفاع في سوح المعارك والعزم على الفداء والتفاني دفاعاً عن الإسلام، اما عدم الوهن والحزن فهو كيفية نفسانية.
والصحيح هو الأول والثاني بإرادة المعنى الأعم للجهاد بالأنفس شموله لإصلاحها بذكر الله وترشح الثواب على المسلم من إختيار حال وهيئة عدم الوهن والحزن ولحاظ أنه أمر وجودي وليس عدمياً.
ومع أن الآية جاءت بصيغة النهي المتعدد فانها تضمنت قانوناً كلياً وصفة ثابتة للمسلمين هي أعظم ما نالته أمة من أهل الأرض وهي شهادة الله عز وجل للمسلمين بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] وفيه دلالة على سبق مرتبة العلو للمسلمين قبل نزول الآية وبعدها.
ولو تنزلنا وقلنا أن دبيب الوهن والحزن أصاب المسلمين فهل يبقون في ذات مرتبة العلو ، الجواب نعم لأن الآية جاءت لبيان حكم إلهي مستديم ومتجدد ، واخبار عن فضل الله تعالى على الناس جميعاً بوجود أمة هي الأعلى من بينهم ، لا تربط أفرادها قومية مخصوصة أو موضع للسكن أو قارة معينة.
وإذا رجعت في نسب المسلمين والمسلمات ستجدهم لا يجتمعون في النسب إلا عند آدم أبي البشر، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين بتعدد نسب وفروع المسلمين وتعذر إتحاد شجرة نسبهم إلا عند آدم وحواء , ليكون كل فرع من بني آدم له نصيب في مرتبة العلو وهو من الجود والكرم الإلهي، وفيه حجة على باقي الناس ودعوة لعدم التخلف عن الفوز بهذه المرتبة، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(إني بعثت إلى الاسود والابيض والاحمر، إن الله أمرني أن انذر عشيرتي الاقربين، وإني لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن تقولوا: (لا إله إلا الله))( ).
وكان عدد هذا الجزء حين الشروع بكتابته هو السادس بعد المائة , وتفضل الله عز وجل وأنعم عليّ بالتوسعة في تفسير الآية السابقة التي جاء الجزء الخامس بعد المائة خاصاً بها وهي[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( )، بأن أذكر شذرات مباركة من وجوه البيان في كل آية من آيات القرآن إذ أن الآية أعلاه إنحلالية، وتقدير خصوص كل آية قرآنية هو(هذه بيان للناس).
وقد بدأت بالبسملة ثم آية[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] وأسال الله عز وجل التوفيق في ذكر وجوه من بيان كل آية من آيات القرآن البالغة ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية وإلى سورة الناس وقوله تعالى[مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ] ( )، لتتجلى كنوز من علوم القرآن، وصفحة مشرقة من علم التفسير لم تطرأ في التصور الذهني.
وأسال الله المدد، وأتطلع إلى جهاد ومداد العلماء في الأجيال اللاحقة لإتمام هذا السفر والإرتقاء فيه، قال تعالى[فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ]( ).

قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]الآية 139

الأعراب واللغة
ولا تهنوا بكسر الهاء , وهو المرسوم في المصاحف.
ولا تهنوا : الواو: حرف إستئناف، لا: ناهية جازمة، تهنوا: فعل مضارع مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، الواو : فاعل.
ولا تحزنوا : الواو ، حرف عطف، لا تحزنوا : معطوفة على لا تهنوا.
وانتم : الواو : حالية، أنتم : ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ.
الأعلون : خبر مرفوع , وعلامة رفعه الواو.
إن كنتم : إن حرف شرط جازم، كنتم : فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والضمير اسم كان.
مؤمنين : خبر كان منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم، وجملة(انتم الأعلون) في محل نصب حال.
الوهن : الضعف والجبن والتردد في العزم والنية يقال وهن يهن وهنا ووهوناً، ومن معانيه في المقام إختيار الضعف والإستضعاف عند لقاء العدو ومطلقاً، قال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ] ( ). وقيل تهنوا تضعفوا بلغة قريش.
ويقال وهن من باب وعد، ووهنه غيره، يتعدى ولا يتعدى , ويكون الوهن على وجوه:
الأول : في البدن كما ورد في التنزيل حكاية عن زكريا[قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي]( )، ولم يرد لفظ العظم في القرآن بصيغة المفرد إلا في الآية أعلاه.
ويقال(اصابه وجع الواهنة) ( ).
الثاني : الوهن في العمل كما في قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ]( ).
الثالث : في الأمر والعزم.
الرابع : في الجهد والعناء وهو من عمومات قوله تعالى[حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ]( ).
الخامس : في الأوان والوقت (والوَهْنُ: نحوٌ من نصف الليل؛ والمَوْهِنُ مثله. قال الأصمعيّ: هو حين يُدبر الليل. وقد أَوْهَنَّا: صرنا في تلك الساعة( ).
السادس : الوهن نوع تسويف وتفريط.
والحزن ضد السرور، والحزن أشد الهم , وكأنه يتكاثف ويغلظ في النفس , مأخوذ من الأرض الحزنة، والأذى في النفس على مراتب:
الأول : الهمّ.
الثاني : الحزن، وهو أشد من الهم.
الثالث : الكرب وهو إجتماع الغم مع ضيق الصدر.
الرابع : البث وهو إظهار الشئ وتفريقه، ومنه إظهار الحزن، وفي التنزيل بخصوص يعقوب عليه السلام وما أصابه من ألم فراق يوسف عليه السلام[إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ]( ).
الخامس : الكآبة : وهو الأثر المترشح على الوجه بسبب الحزن , فيقال عليه كآبة ، ولا يقال عليه حزن، قال النابغة:
إذا حلّ بالأرض البريئة أصبحت … كئيبة وجهٍ غبّها غير طائل( ).
وحزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما ( )، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أحزنه أمر استعان بالصلاة والصبر( )، وفي لفظ ابن كثير: إذا أحزنه أمر صلى( ).
والأعلون جمع للعاقل , والمفرد أعلى، ويجمع جمع المقصور فتحذف الألف وتبقى الفتحة على العين (الأعلَون) وفيه ثلاثة وجوه:
الأول : إنه جمع مذكر سالم، ويجمع على الأعلون والأعلين.
الثاني : ملحق بجمع المذكر السالم.
الثالث : جمع تكسير
والصحيح هو الثاني .
قال ابن عقيل: وأحذف من المقصور في جمع على حد المثنى ما به تكملا والفتح أبق مشعرا بما حذف إن جمعته بتاء وألف( ).
أي أن جمع المقصور جمعا مذكرا سالما بصيغة المثنى تحذف منه الألف لإلتقاء الساكنين , ويدل الفتح على الألف المحذوفة, ويكون الأعلون .
وعن الإمام علي عليه السلام في الثناء على أولياء الله : اولئك والله الأقلون عدداً والأعظمون عند الله قدراً( ).
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة على شعبتين:
الشعبة الأولى: صلة الآية بالآيات السابقة وفيها وجوه:
الأول : صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً…]( )، وفيه مسائل :
الأولى : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ولا تهنوا ولا تحزنوا.
الثانية : فاستغفروا لذنوبهم ولا تهنوا ولا تحزنوا.
الثالثة : ولا تهنوا ولا تحزنوا ومن يغفر الذنوب إلا الله.
الرابعة : ولا تهنوا ولا تحزنوا ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
الخامسة : ومن يغفر الذنوب إلا الله وأنتم الأعلون.
السادسة : ومن يغفر الذنوب إلا الله إن كنتم مؤمنين.
السابعة : ولم يصروا على ما فعلوا إن كنتم مؤمنين.
الثانية : جاءت آية البحث بصيغة الخطاب، أما آية السياق فوردت بصيغة الجملة الخبرية مع إتحاد الموضوع وإرادة المسلمين والمسلمات.
وتلك آية من وجوه :
الأول : تأديب المسلمين بتعدد لغة الخطاب.
الثاني : إكرام المسلمين بتخصيص آيات متجاورة لبيان حالهم وصلاحهم.
الثالث : اللطف الإلهي بالمسلمين بالعناية بهم في حال الحرب والسلم، وإقالة عثرتهم.
الرابع : دعوة المسلمين للجوء إلى ذكر الله لدفع الوهم والخوف من العدو، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثالثة : تنهى آية البحث عن الوهن والضعف والحزن عند ملاقاة العدو، أما آية السياق فأنها تدعو بالدلالة الإلتزامية إلى الوهن والضعف في أمور الفاحشة بما يجعل المسلم يمتنع عنها ويخشى عواقبها، وتقدير الجمع بين الآيتين: وهنوا عن فعل الفاحشة وحزنوا عند فعلها ولجأوا للإستغفار.
الرابعة : تضمنت آية السياق الأمر بذكر الله وهو واقية وعلاج بلحاظ آية البحث من وجوه:
الأول : ذكر الله عون ومدد للمسلمين في مواجهة العدو.
الثاني : التضاد والتنافي بين ذكر الله وحال الوهن والحزن فعندما يذكر المؤمن الله عز وجل يذهب عنه الضعف والحزن.
الثالث : من معاني ذكر الله التوكل عليه سبحانه، وهو كيفية نفسانية تتقوم بالإستعانة بالله في السعي لبلوغ الغايات الحميدة، ومن أولى المواطن التي يحتاج فيها الإنسان التوكل على الله حال الحرب.
الرابع : قد يحصل الوهن والحزن عند المسلم فيأتي الذكر علاجاً وسبباً لدفعها والتخلص منها، ويكون علة للصفاء بعد الكدورة.
الخامسة : لما نهت آية البحث عن الوهن والحزن جاءت آية السياق مدداً للمسلمين للإمتثال لمضامين هذا النهي، وهو من مصاديق الآية السابقة[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
السادسة : ذكرت آية البحث قانوناً كلياً وهو أن المسلمين هم الأعلون ويتجلى بلحاظ آية البحث من وجوه:
الأول : عدم مغادرة المسلمين مواطن ذكر الله.
الثاني : الذكر سور جامع للمسلمين.
الثالث : مواظبة المسلمين على الذكر سبب لقوتهم ومنعتهم، والقوة عصمة وبرزخ من الوهن والحزن.
الرابع : مدرسة الذكر إرتقاء في سلَم الكمالات الأخلاقية وتعاهد لمنزلة العلو والرفعة التي يتحلى بها المسلمون.
السابعة : ذكر الله إزاحة للصدأ الذي قد يطرأ عرضاَ على القلب، وصفاء وطرد للكدورات الظلمانية وسلاح لمواجهة الأعداء بقلوب يقظة، ونفوس مستقرة.
الثامنة : ذكر الله عز وجل طريق للفوز بالمحبة الإلهية وهو من مصاديق التوثيق في الدنيا وباعث للقوة والمنعة عند الفرد والجماعة من المسلمين.
التاسعة : تضمنت آية السياق أمراً بالإستغفار، أما آية البحث فجاءت بنهيين، وكل فرد منهما متوجه إلى المسلمين جميعاً، وتحتمل النسبة بين الأمر والنهي في المقام وجوهاً:
الأول : الإستغفار قبل حال الوهن والضعف.
الثاني : الإستغفار عند الإصابة بحال الوهن والحزن.
الثالث : التدارك بالإستغفار بعد حصول الوهن والضعف.
الرابع : الإستغفار عند الهم بالوهن والجبن والخور، قال تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
الخامس : إتخاذ الإستغفار واقية من الوهن ومانعاً من طرو الحزن على النفس.
السادس : اللجوء إلى الإستغفار سلاحاً حاضراً عند مواجهة الأعداء.
السابع : المبادرة إلى الإستغفار عند تذكر حال الوهن التي وقعت للفرد والجماعة من المسلمين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فالإستغفار خير محض، ومواضيعه وأسبابه وآثاره الحميدة ومنافعه أكثر من أن تحصى، وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ( ).
العاشرة : الإستغفار ذكر لله عز وجل ، وتسليم بالعبودية له سبحانه، وإقرار بأن مغفرة الذنوب لا يقدر عليها إلا هو سبحانه.
ويتقوم الإستغفار بكلمتين : أستغفر الله، ويستحب تعدده وتكراره ثلاث مرات في المجلس الواحد، وعن ثوبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإِكرام( ).
الحادية عشرة : قيدت آية السياق الإستغفار بأنه لمحو الذنوب ويحتمل بلحاظ آية البحث وجوهاً:
الأول : خروج الوهن والحزن بالتخصص أو التخصيص عن موضوع الذنوب.
الثاني : جاءت آية البحث بالنهي عن الوهن والخوف من العلو والحزن على الخسارة، والتقييد بهذا النهي ليس ذنباً.
الثالث : الوهن والحزن من الذنوب وهما مجتمعين ومتفرقين خلاف الأصل وما يجب أن يكون عليه المسلمون من العزة والمنعة.
والصحيح هو الثاني والثالث والإستغفار حسن على كل حال , ومن منافعه بعث الفطنة وأخذ الحائطة من ذات الفعل الذي تم اللجوء للإستغفار منه، نعم هذه الحائطة لا تمنع من العودة إلى ذات الفعل، بذات الكيفية أو أدنى أو أكثر منها فيأتي الترغيب من عند الله بالإستجارة بالإستغفار.
ومن لطف الله عز وجل بالناس جميعاً والمسلمين خاصة إتصاف الإستغفار بخصائص:
الأولى : السهولة واليسر إذ يتألف من كلمتين: أستغفر الله.
الثانية : صحة الإستغفار جهرة وخفية، وبين الملأ وعلى إنفراد.
الثالثة : تلاوة آية السياق من الإستغفار، وكذا الآيات الخاصة بالإستغفار والتي جاءت بصيغ متعددة منها:
الأولى : التعليق على المشيئة الإلهية ، مثل قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ]( ).
الثانية : صيغة الجملة الخبرية، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا]( ).
الثالثة : لغة الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، وفي التنزيل[وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا]( )، وفيه تلقين للمسلمين لصيغ سؤال محو السيئات وستر العيوب ومحو الكبائر والصغائر من الذنوب، ولو تلا المسلم هذه الآيات بقصد القرآنية وحدها فهل تحتسب عند الله إستغفاراً مستقلاً، الجواب نعم، والله واسع كريم.
الرابعة : تحبيب الإستغفار إلى النفس، ورجاء الثواب العاجل والآجل في الدنيا والآخرة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ أحبَّ شيئاً أكثَرَ من ذكره.
الخامسة : مجئ الإستغفار بمعنى الصلاة لبيان موضوعيته والحاجة إليه، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، وصلاة الله نزول رحمته، وصلاة الملائكة إستغفار وتزكية، وصلاة المسلمين دعاء.
السادسة : الجملة الإنشائية، والأمر الصريح بالإستغفار، وهذا الأمر هداية إلى كنز من ذخائر الآخرة، قال تعالى[فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ]( )، وجاء الأمر بالإستغفار المقرون بالعبادة، قال تعالى[ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ]( ).
السابعة : مجئ السنة النبوية القولية والفعلية بالحث على الإستغفار، وهي وحدها مدرسة تبعث على المواظبة عليه واللجوء إليه في حال الرخاء والشدة، والرجاء والأمل بالعفو وقبول العمل الصالح وسرعة إستجابة الدعاء .
وعن عبد الله بن عمر قال: إنا كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس يقول: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة ( ).
الثامنة : مجئ الإستغفار في القرآن بصيغة الفعل الماضي والأمر وصيغة المضارع مثل قوله تعالى[وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( ).
التاسعة : مدرسة الإستغفار النبوية والآيات التي ورد فيها على لسان الأنبياء لأنفسهم وذويهم وقومهم، والإستغفار سلاح ملازم لكل نبي ومظهر من مظاهر التقوى، ومن الأنبياء من إستغفر لأبيه كما في موعدة إبراهيم عليه السلام إذ ورد في التنزيل[قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي]( ).
العاشرة : تعيين بعض الأوقات للإستغفار ندباً له وتنبيهاً ودعوة للإستثمار ساعات النهار والليل وخصوص أوقات العبادات وأداء المناسك منها للإستغفار , كما في الحج في قوله تعالى[ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ]( )، ومنها قوله تعالى[وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( ).
الحادية عشرة : الإستغفار شكر لله عز وجل وتثبيت لدعائم الدين قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
الثانية عشرة : لغة الشرط وهو على أقسام منها:
الأول : إرادة الأصل وشرط لا، قال تعالى[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ]( ).
الثاني : شرط المغفرة ببلوغ مرتبة التوبة النصوح , قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
الثالث : الشرط على نحو الموجبة الجزئية ، وفي التنزيل حكاية عن فريق من الجن إستمعوا إلى القرآن، فلما حيل بين الجن وصعودهم إلى السماء ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعجزوا عن معرفة أخبار السماء، والشهب ترسل عليهم لزجرهم وصدهم ومنعهم من الصعود فيها، أخذوا يتشاورون في الأمر وأدركوا حصول حدث عظيم من الإرادة التكوينية ترشح عنه منعهم من الصعود في السماء، فاشار عليهم كبراؤهم بالضرب في مشارق الأرض ومغاربها لمعرفة الحدث الذي أدى إلى حجبهم عن السماء .
فجاء النفر الذين ذهبوا إلى تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فقالوا هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم، وفي التنزيل حكاية عنهم[يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ]( ).
وجاءت الآية بالتبعيض في المغفرة بدلالة حرف الجر ( من) أعلاه، وفيه وجوه:
الأول : نواميس وصيغ حساب الجن أمر مختلف عن الناس، فالجن يغفر لهم بعض ذنوبهم وليس كلها، لأن ما يكشف لهم من دلائل التوحيد أكبر وأعظم مما يكشف للناس.
الثاني : الإيمان طريق للفوز بالمغفرة التي تتعلق بالعمل الصالح والإستغفار.
الثالث : الإتحاد بين الناس والجن في مسألة تبعيض المغفرة، بدليل قوله تعالى[قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى]( ) .
والصحيح هو الثاني والثالث لبيان لزوم جهاد النفس , وإستدامة فعل الخيرات.
ولما جاءت المغفرة مرة مطلقة وأخرى مقيدة بالتبعيض فهل يعتمد الأصل بحمل المطلق على المقيد , الجواب لا، لأن الأصل في المقام هو الإطلاق في رحمة وفضل ومغفرة الله، ولكن التبعيض في المقام ورد لأمور:
الأول : الإيمان بداية العفو والمغفرة.
الثاني : وجوب الإجتهاد في طاعة الله وإرادة الترغيب باتيان الطاعات.
وأخرج عن سهل بن عبد الله قال : كنت في ناحية ديار عاد إذ رأيت مدينة من حجر منقورة في وسطها قصر من حجارة تأويه الجن ، فدخلت فإذا شيخ عظيم الخلق يصلي نحو الكعبة وعليه جبة صوف فيها طراوة ، فلم أتعجب من عظم خلقته كتعجبي من طراوة جبته ، فسلمت عليه فرد عليّ السلام ، وقال : يا سهل إن الأبدان لا تخلق الثياب ، وإنما يخلقها روائح الذنوب ومطاعم السحت ، وإن هذه الجبة عليَّ منذ سبعمائة سنة لقيت بها عيسى ومحمداً عليهما السلام ، فآمنت بهما , فقلت له : ومن أنت؟ قال : أنا من الذين نزلت فيهم { قل أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن}( ) قال : كانوا من جن نصيبين( ).
الثالث : أمر الإستغفار قلة وكثرة على وجوه:
الأول : لو دار الأمر بين مغفرة كبائر الذنوب أو صغائرها فان الله عز وجل يغفر الكبائر.
الثاني : أمر المغفرة من جهة مقدارها على شعب:
الأولى : يغفر الله أكثر الذنوب.
الثانية : تتعلق المغفرة بأقل الذنوب، ويحتاج الشطر الأكبر منها الإستغفار وإلى عمل صالح مستحدث.
الثالثة : ليس من تعيين لمقدار الذنوب التي المغفرة، فمنهم من يغفر له الشطر الأكبر وبعضهم يغفر له أقل الذنوب.
الثالث : تكون المغفرة لشطر من كبائر الذنوب وشطر من صغائرها.
الرابع : إرادة المغفرة على دفعات، والبعث على الإستغفار وجعله صاحباً ورفيقاً ملازماً في أيام الحياة الدنيا، ومن خصائص الفعل المصاحب في الدنيا حضوره في الآخرة، فهل يحضر ذات الإستغفار الجواب نعم، ولكنه لا يحضر مجرداً بل يحضر وقد محى الله الذنوب التي نزل عليها الإستغفار، ومن الشواهد على عظمة الإستغفار وبديع نفعه، أن معاشر الجن جاءوا مرتين أو أكثر:
الأولى : عندما سمعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتلو القرآن ويؤدي صلاة الصبح في طريقه إلى عكاظ، وقيل إنما سمعوا وهو في طريقه من الطائف وبعد أن اعياه أهلها وآذوه، ثم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكّة حتّى يئس من خير ثقيف، حتّى إذا كان بنخلة، قام من جوف الليل يصلّي، فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين اليمن، وكان سبب ذلك أنّ الجنّ كانت تسترق السمع، فلمّا حرست السماء ورجموا بالشهب. قال إبليس : إنّ هذا الذي حدث في السماء لشيء في الأرض، فبعث سراياه لتعرف الخبر، فكان أوّل بعث بُعث ركب من أهل نصيبين وهم أشراف الجنّ وساداتهم، فبعثهم إلى تهامة، فاندفعوا حتّى بلغوا وادي نخلة، فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه يصلّي صلاة الغداة، ببطن نخلة ويتلو القرآن، فاستمعوا إليه، وقالوا: أنصتوا. هذا معنى قول سعيد بن جبير وجماعة ، ورواية العوفي عن ابن عباس( ).
الثانية : وعن علقمة قال: سألت عبدالله بن مسعود، من كان منكم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد ليلة الجنّ؟ فقال : لم يصحبه منّا أحدٌ. ولكنّا فقدناهُ ذات ليلة، فقلنا استطير( )، أو اغتيل، فتفرّقنا في الشعاب والأودية نلتمسه، فلمّا أصبحنا رأيناه مقبلاً من نحو حراء. فقلنا : يا رسول الله، بتنا بشرِّ ليلة بات بها قوم، نقول : استطير أو اغتيل. فقال : إنّه أتاني داع من الجنّ، فذهبت أُقرئهم القرآن، قال : وأراني آثارهم وآثار نيرانهم. قال : فسألوه ليلتيئذ الزاد، فقال : فكلّ عظم لم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحماً، والبعر لدوابكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا تستنجوا بالعظام ولا بالبعر فإنّه زاد إخوانكم من الجنّ( ).
وتسمى هذه الليلة ليلة الجن، ومنهم من جعل الأمر مردداً بينهما أي أنه ليس مكرراً.
وأختلف في عدد الجن الذين استمعوا إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ]( )، على وجوه :
الأول : قال ابن عباس : إنهم كانوا سبعة نفر من جن نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم رسلا إلى قومهم( ).
الثاني : عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجن ، وما رآهم( )، أي أن الله عز وجل أخبر نبيه باستماع الجن لتلاوته القرآن[قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ]( ).
الثالث : كان عددهم تسعة أحدهم زوبعة، عن زر بن حبيش( ).
الرابع : كانوا سبعة، ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين، نسبه القرطبي إلى القيل( ).
وذكرت أسماء خمسة منهم هم شاصر وماصر ومنش وماش والأحقب، ومنهم زوبعة وعمروا بن جابر.
وعن ابن سلام من طريق أبي إسحاق السبيعي عن اشياخه عن عبد الله بن مسعود: أنه كان في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه فإذا حية قتيل فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها فلما جن الليل إذا امرأتان تسألان أيكم دفن عمرو بن جابر ؟ فقلنا : ما ندري من عمرو بن جابر ! فقالتا : إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين فقتل عمرو ! وهو الحية التي رأيتم وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم ولوا إلى قومهم منذرين وذكر ابن سلام رواية أخرى أن الذي كفنه هو صفوان بن المعطل( ).
وتتجلى بركات الإستماع إلى القرآن في تنمية ملكة الإستغفار والندب إلى تكراره، والإقرار بالحاجة إليه لإصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق فهو مطلوب بذاته وهو ضياء ينير دروب العمل الصالح وبلغة في النشأتين لذا جاءت آية السياق بالأمر بالإستغفار والمسارعة إلى الجنة، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
المسألة الثالثة عشرة : ذكرت آية السياق إحتمال إرتكاب وفعل المؤمن الفاحشة وإقدامه على ظلم نفسه سهواً أو جهلاً أو في حال غلبة النفس الشهوية والغضبية وقد تكون لهذا الفعل موضوعية في حدوث الوهن والحزن فجاءت آية السياق بالإستغفار وجاءت آية البحث بأمور تمنع من أثره وهي:
الأول : نهي المسلمين عن الوهن والضعف وإظهار حال التردد في مواجهة الكفار.
الثاني : منع دبيب الخوف والحزن إلى نفوس المسلمين، وظهوره على قرارهم.
الثالث : تحذير المسلمين من إجتماع الوهن والحزن في آن واحد لشدة وطأتها على النفوس.
الرابع : إخبار المسلمين بأن الحق معهم وأنهم يقهرون عدوهم .
الخامس : بعث المسلمين على الإيمان بأن النصر حليفهم .
الرابعة عشرة : كل من آية البحث والسياق برزخ دون اليأس والقنوط والإحباط، وهل يغني هذا المدد عن المدد الملكوتي من السماء، الجواب لا، فالله عز وجل ذو الفضل العظيم الذي ينعم بمصاديق من المدد ظاهرة وخفية أرضية وسماوية نزولاً كالملائكة، وتنزيلاً كآية البحث والسياق.
الخامسة عشرة : قد يرمي المسلم نفسه في حميم المعركة من غير تدبر ومكيدة وخدعة لأنه يريد أن يتقرب إلى الله ويكفر عن ذنوبه التي فعلها في أيام حياته، فجاءت آية السياق بالإخبار بأن الإستغفار هو الكفارة عن تلك الذنوب، فلا يجوز له أن يفرط في الإندفاع في القتال، قال تعالى[وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( ).
السادسة عشرة : ذكرت آية السياق قانوناً بصيغة الإستفهام والتحدي وهو أن الله وحده هو الذي يعفو عن السيئات ويغفر الذنوب [وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ] وفيه بعث للمسلمين لعدم الوهن والحزن في ملاقاة الأعداء من وجوه :
الأول : الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية وإتخاذه وسيلة عبادية عملية لمحو الذنوب.
الثاني : بعث السكينة في نفس المسلم من تبعات ذنوبه، فهو يتوجه لملاقاة العدو، ونفسه مطمئنة بأن الله غفر له ذنوبه.
الثالث : لم ينل المسلمون مرتبة (الأعلون) التي ذكرتها آية البحث إلا بعد فوزهم بالمغفرة من عند الله.
الرابع : الملازمة بين الإيمان والمغفرة، فمن يصدق إيمانه يواظب على الإستغفار والله عز وجل ينعم عليه بالمغفرة، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( )، بتقريب أن مرتبة الإكرام تعني العفو والمغفرة من عند الله.
السابعة عشرة : تضمنت آية السياق الثناء على المتقين بأنهم [َلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا] والوهن والحزن عند ملاقاة العدو خلق مذموم، وفعل ضار للذات والغير، فلذا جاءت آية السياق بالنهي عنه وعن مقدماته والإقامة عليه.
ويفيد الجمع بين الآيتين التأكيد بأن المسلمين إذا جاءهم نهي في الكتاب أو السنة فانهم لا يبقون على الحال المنهي عنها، وعدم البقاء هذا من مصاديق[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ]( )، إذ أن الطاعة هنا مطلقة وفي الأوامر والنواهي، وفي إتيان الواجبات وإجتناب المحرمات.
الثامنة عشرة : قد يحدث الوهن أو الضعف عند فريق وطائفة من المؤمنين، كما في بني سلمة من الخزرج، وبني حارثة من الأوس، إذ همّوا بالإنصراف يوم أحد فوقاهم الله، وثبتهم في مقامات الدفاع والجهاد , وفيهم نزل قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
التاسعة عشرة : جاء عدم الإصرار على الفعل القبيح بصيغة الغائب، أما آية البحث فوردت بصيغة الخطاب بلحاظ أن المسلمين بلغوا مرتبة عدم الإصرار على الذنب والإقامة على الخطيئة، وإبتدأوا جهاداً آخر يتجلى التوفيق فيه بالتنزه عن الوهن والحزن .
وآية عدم الإصرار سابقة في نظم الآيات لآية البحث مما يدل على موضوعية نظم وسياق الآيات في إصلاح المسلمين لأداء الفرائض العبادية، والجهاد في سبيل الله، وتثبيت دعائم الدين، ويحتمل نظم الآيات وجوهاً:
الأول : موضوعية مضامين الآية السابقة في العمل بالآية اللاحقة.
الثاني : أثر وموضوعية الآية اللاحقة بالآية السابقة.
الثالث : أثر وتعضيد كل من الآيتين للأخرى.
الرابع : إستقلال كل من الآيتين في موضوعها على نحو الحصر والتعيين.
وتعدد المعنى في المقام من مصاديق الآية السابقة[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ويدل عليه أيضاَ إتحاد اسم الإشارة في الآية أعلاه (هذا) وعودة الضمير للقرآن وأنه من سنخية واحدة، وأن آياته تتحد في الأثر وأسباب الأصلاح، ويتجلى بالتداخل بين الأوامر والنواهي , وكأن كل واحد منهما مدد للآخر في تحصيل الإمتثال له.
وكل آية تدعو المسلمين إلى إجتناب الضعف والخوف والوهن عند ملاقاة العدو سواء بمنطوقها أو مفهومها، ولكن آية البحث جاءت نصاً صريحاً وزجراً واضحاً بوجوب العزم على ملاقاة الأعداء بثبات، ليكون من مصاديق البيان أن تأتي آية صريحة بالنهي ولزوم تقيد المسلمين بمضامينه، وقد سبقتها وتعقبتها في تأريخ النزول أو نظم القرآن وكلها تفيد ذات معنى النهي، وتبعث النفرة في نفوس المسلمين من الإصرار على المخالفة والقعود عن مواجهة الكفار الذين يسعون في محاربة الإسلام، قال تعالى[وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ]( ).
العشرون : أختتمت آية السياق بقوله تعالى[وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ومن معاني الآية أنهم يعلمون بأن الله عز وجل يغفر الذنوب، ومنها تمييز المسلمين بين الحق والباطل، والعمل الصالح والعمل القبيح والسيئ، وحينما جاء النهي في آية البحث[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] والمسلمون يعلمون أن الوهن والحزن سبب للإنكسار والخسارة الفادحة في الأفراد والعدة وأن العصمة منهما مقدمة للنصر والغلبة.
الحادية والعشرون : جاءت آية السياق بالأمر بذكر الله والإستغفار والإخبار عن لجوء المسلم لهما عند فعل الفاحشة أو ظلم النفس، أما آية البحث فانها أخبرت عن إستدامة حال العلو عند المسلمين وأنها مصاحبة لأوان تلقيهم النهي عن الوهن والحزن، وفيه شاهد بأن مرتبة العلو التي بلغها المسلمون تزيدهم خضوعاً وخشوعاً لله عز وجل وتجذبهم إلى مقامات الإستغفار وسؤال العفو من عند الله سبحانه .
وفعل المسلم الفاحشة لا يخرج الأمة عن مقامات العلو بين الناس من جهات:
الأولى : ينال المسلم هذه المرتبة بالإنتماء للإسلام.
الثانية : مرتبة العلو رشحة من رشحات صبغة التقوى التي يتصف بها المسلمون لأمر الله عز وجل في نظم هذه الآيات والخطاب المتحد فيها بالمسارعة إلى الجنة التي [أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثالثة : لجوء المسلم إلى الإستغفار وذكر الله عند فعل الفاحشة، فليس من فترة بينهما، وهو مقتضى صيغة الشرط التي جاءت بها آية السياق[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً]( ) .
وقد يأتي الإستغفار مركباً في أثره بأن يغفر المظلوم للظالم ما إرتكبه أزاءه طمعاً برحمة الله وتقرباً إليه سبحانه وتعاهداً للأخوة الإيمانية، وهذا اللجوء وتعدد الإستغفار من مصاديق إستدامة حال العلو بين الناس للمسلمين وتملكهم لأسباب الظفر بالأعداء بلحاظ أنه إزاحة للموانع التي تحول دون نزول المدد والنصر من عند الله .
ويفيد الجمع بين الآيتين أن هناك ملازمة بين الإستغفار والنصر وأن أحدهما سبب للآخر .
وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من قول: سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقلت يا رسول الله:

أراك تكثر من قول : سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقال: خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها { إذا جاء نصر الله والفتح } فتح مكة { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباًإِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا.
الثانية والعشرون : أختتمت آية السياق بقوله تعالى[وَهُمْ يَعْلَمُونَ] والمراد المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة، وتقدير مضمون هذه الخاتمة بلحاظ آية البحث على وجوه:
الأول : يعلم المسلمون بوجوب عدم الوهن والضعف عند ملاقاة العدو.
الثاني : علم المسلمين بلزوم إجتناب إستحواذ الحزن على النفوس عند التعرض لخسارة .
الثالث : يعلم المسلمون بالنهي الوارد في الآية.
الرابع : يعلم المسلمون أن الوهن والخوف تثبيط للعزائم وضرب من ضروب الضعف التي تدب إلى النفس والفعل.
الخامس : آية البحث علم قائم بذاته تفضل الله عز وجل ورزقه المسلمين، ومن أفراده بيان القبح الذاتي للوهن والكآبة التي تنعكس على الفعل وصيغ الجهاد.
السادس : يعلم المسلمون بأنهم الأعلى بأدائهم العبادات.
السابع : المسلمون أمة واحدة في تلقي الأوامر والنواهي، والعلم عندهم شرع سواء ينتفعون منه جميعاً , وهو من مصاديق المعنى الأعم لقوله تعالى[فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن معاني أهل الذكر في الآية أعلاه وجوه :
الأول : أهل بيت النبوة , إذ نزل الكتاب في بيتهم , ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال(نحن أهل الذكر)( )، وكذا ورد عن الإمام الباقر( ) عليه السلام .
الثاني : إرادة المسلمين لأنهم أهل القرآن، وقد سمى الله القرآن ذكراً[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالث : المراد الذين أسلموا من أهل الكتاب لأنهم يعلمون ما في الكتب السابقة وبعثة الأنبياء.
الرابع : إرادة أهل الكتاب مطلقاً بلحاظ توجه الأمر(فأسألوا) إلى مشركي قريش، وفي تفسير الآية ورد عن ابن عباس: قال لمشركي قريش: إن محمدا في التوراة والإنجيل)( ).
الخامس : إنهم أهل القرآن، قاله ابن زيد( )، أي حملة القرآن وأهل تأويله، وبين هذا الوجه والوجه الثاني عموم وخصوص مطلق , قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ]( ).
السادس : إرادة علماء أمة محمد لأنهم أعلم بتأريخ القرون الخالية وسنن الأمم السابقة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، بلحاظ التفصيل في الموضوع الذي يسئل عنه، وفيما يخص موضوع هذه الآية فقد جاءت بخصوص إرسال الأنبياء وخاتمهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويكون الجواب حجة على الذي لا يتبع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبخصوص التصديق بنبوته يكون في الرجوع إلى الذين أقروا بالرسالة وأعلنوا إسلامهم تحصيل للعلم وتفصيل للمعجزة ، وبالنسبة لأحكام الحلال والحرام فلابد من الرجوع إلى الأئمة وعلماء الأمة.
الثالثة والعشرون : لقد نعتت آية السياق المسلمين بأنهم يذكرون الله، وهذا الذكر باب مبارك للنجاة من الوهن والحزن والضعف، وهو من مصاديق الصراط في دعاء كل مسلم يوم ولبضعة مرات في الصلاة اليومية عندها يتلو[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، فالذكر بذاته صراط وهو واقية من ضروب الزلل كالوهن والحزن، وسبيل للبعث إلى سوح الجهاد بعزم وإخلاص .
وجاءت آية البحث لتكون عوناً على الذكر ووسيلة للمواظبة عليه خاصة وأن أيام السلم أكثر من أيام الحرب، وحاجة المسلم إلى الذكر مستمرة على كل حال(عن ابن المنكدر قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)( ).
الرابعة والعشرون : من معاني الجمع بين الآيتين دفع صفة العمى والضلالة عن المسلمين، فيحتاج الأعمى إلى من يهديه في طريقه ويرشده إلى القبلة ويسقط عنه الجهاد، أما المسلمون فانهم يخوضون غمار المعارك بعلم وبصيرة وهدى ومن غير وهن وضعف إبتداء وإستدامة بمعنى أن الوهن لا يتسرب إلى نفوسهم قبل وأثناء وبعد المعركة، وهو من مصاديق العلم والصبر ومنافع الذكر وحسن التوكل على الله , قال تعالى في الثناء على المهاجرين والمسلمين جميعاً بالذات والإلحاق[الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( ).
الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ…]( )، وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ولا تهنوا ولا تحزنوا.
الثاني : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وأنتم الأعلون.
الثالث : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم إن كنتم مؤمنين.
الرابع : وسارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض ولا تهنوا ولا تحزنوا.
الخامس : وسارعوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ولا تهنوا ولا تحزنوا.
السادس : وسارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض وأنتم الأعلون.
السابع : وسارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض إن كنتم مؤمنين.
الثانية : تضمنت آية السياق أمرين، وتضمنت آية البحث نهيين، ومن بديع نظم القرآن إتحاد جهة الخطاب في الآيتين وإرادة المسلمين على نحو التعيين، وفيه إكرام وتشريف لهم ودعوة للناس لدخول الإسلام لأنه خير محض ووسيلة تلقي الفضل الإلهي بلحاظ كبرى كلية وهي أن كل أمر وكل نهي من عند الله هو نعمة وخير محض وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثالثة : إبتدأت آية السياق بالأمر بالمسارعة وفيه وجوه:
الأول : تجلي معنى الإسراع بالتعجيل والمبادرة، وهل يعني التسابق الجواب نعم، ويدل عليه قوله تعالى[سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، لإفادة الفورية وعدم التراخي في الإمتثال ولدلالة صيغة الأمر على الوجوب إذا كانت خالية من القرآن الصارفة.
والنسبة بين المسارعة والمسابقة هي العموم والخصوص المطلق، فالمسارعة هي الأعم والأوسع، إذ يبادر المسلم بنفسه وبمفرده من غير مسابقة مع غيره، وهل للمسارعة إلى المغفرة في الإمتثال للنهي الوارد في آية البحث الجواب نعم، من جهات:
الأولى : الإستغفار عنوان التسليم بالعبودية لله وإن مقاليد الأمور بيده سبحانه.
الثانية : الإستغفار مصداق حاضر للتوبة والإنابة وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أربع من كن فيه كان في نور الله الاعظم: من كانت عصمة أمره شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ومن إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن إذا أصاب خيرا قال: الحمد لله رب العالمين، ومن إذا أصاب خطيئة قال: أستغفر الله وأتوب إليه)( ).
الثالثة : أمرت آية السياق بالمسارعة إلى المغفرة، وهي ليست أمراً مادياً ولها موضع يصل إليه الإنسان، بل هي غاية تتعلق بموضوعها نعمة محو الذنوب ومرتبة عقائدية تبيض معها الصحائف.
الرابعة : من مصاديق المغفرة التي أمر الله المسلمين بالمسارعة إليها الإمتثال للنهي الوارد في آية البحث بإجتناب الوهن والضعف.
الخامسة : من المسارعة إلى المغفرة ملاقاة العدو والتنزه عن الجبن والخوف من كثرة عدده وعدته.
الثاني : جاءت آية السياق بصيغة الإجمال(مغفرة) لإفادة التعدد والعموم والكثرة في موارد المغفرة، وعدم إنحصارها بقول أستغفر الله، فكل إمتثال لأمر إلهي هو مغفرة، وكذا كل إستجابة لنهي لتكون آية البحث رحمة بالمسلمين وعلة للفوز بالمغفرة من عند الله.
الثالث : لما جاءت آية السياق بالأمر للمسلمين بالمسارعة إلى المغفرة فان آية البحث جاءت بصيغ ومصاديق من هذه المسارعة، وتلك آية في تأديب الله للمسلمين وإصلاحهم لمنازل[ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن تأتي آية بأمر من عند الله ثم تأتي أخرى بنهي يكون التقيد به من مصاديق الإمتثال للأمر، وهذا الإمتثال عمل بالنهي من غير دور بينهما لأن كلاً من الفردين فعل مستقل لا يبتنى على الآخر ولا يشتق منه.
الرابع : من خصائص التنكير والإجمال في صيغة (مغفرة ) بعث المسلمين للتفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام وطرق العفو والمغفرة ، وفيها إجتناب للوهن والضعف عند ملاقاة الأعداء لذا ورد نعت هذا الوهن بأنه فشل قال تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ) والله وليهما (الفَشَل: الحَيرة عند فزع أو حرب؛ فشِلَ يفشَل فَشَلاً)( )، ومن الإعجاز في الآية اعلاه أن الطائفتين لم يفشلا ولم يجبنا لأن ولاية الله لهما برزخ ومانع من الفشل , ومن ولايته تعالى ضمان النصر والغلبة للمسلمين فلذا يدل قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] ( )على إفادة الوعد الكريم من عند الله بأن الله عز وجل يخزي عدو المسلمين ويمنع من تحقق سبب الضعف والخوف .
وهل الهمّ الوارد في سورة يوسف [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا] بذات المرتبة
الوارد في الآية أعلاه , الجواب لا ، وان إتحد المعنى لان همّ الطائفتين توجه نحو الفشل فلم يبلغه أي أنه خاطرة وعزم على الفشل ، وليس من طرق أخرى فيه بل هو كيفية نفسانية .
أما همّ امرأة العزيز فقد كان متوجهاً إلى يوسف عليه السلام بدليل إعترافها فيما بعد [وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ] ( ) .
مما يدل على أن همّه بها لم يكن من جنس فعلها القبيح ، بل كان من العصمة والتنزه ليكون في حفظ الطائفتين من المسلمين من الفشل شاهداً على وراثة المسلمين للأنبياء في إجتناب المعصية وكبائر الذنوب ، وليكون ما عند الأنبياء نوراً وضياء في القرآن ينهل منه المسلمون .
وإذا كان المسلمون لم يفشلوا فمن باب الأولوية أن النبي يوسف عليه السلام لم يهم بالمعصية وفعل الفاحشة مع امرأة العزيز , ويكون تقدير الآية: ولقد هّمت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها) أي في الآية تقديم وتأخير و(لولا) حرف شرط يدل على إمتناع شئ لوجود غيره.
والنهي الوارد في آية البحث عن الوهن والحزن والضعف واقية من فعل الفواحش والسيئات لأنه يدل على أمور :
الأول : ملاقاة المسلمين للأعداء .
الثاني : دخول المسلمين المعارك دفاعاً عن الاسلام .
الثالث : وجوب تآزر المسلمين في الإستعداد لمقدمات القتال
قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
وهذا الإستعداد برزخ دون غلبة النفس الشهوية وإنتفاء لموضوع الفاحشة والهم بها.
الرابع : حرص المسلمين على عدم الوهن والضعف حتى وهم في حال
السلم ويدل عليه مجئ آية البحث بذكر حال المسلمين بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، ومن معاني العلو والتنزه عن الهّم بالفواحش .
الخامس : صيرورة السلامة من الوهن ملكة ثابتة عند المسلمين ، وامراً حاضراً في حال الحرب والقتال ، وهو من أصدق وجوه المسارعة إلى المغفرة التي ندبت إليها آية السياق .
المسألة الرابعة : لو أبتلي المسلم بالوهن والضعف فهل هو برزخ دون المسارعة إلى المغفرة , الجواب لا , لوجوه :
الأول : تعدد وجوه وسبل نيل المغفرة .
الثاني : مجئ الصلاة اليومية على الذنوب ومحوها للسيئات ،وعن رسول الله محمد صلى الله عليه وآله سلم ( مثل الصلوات الخمسة كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات ).
الثاني : إستدامة الأمر بالمسارعة إلى المغفرة فباستطاعة المسلم اللجوء إلى الإستغفار ، وصيغ المغفرة في كل حين .
الثالث : إمكان التدارك والإنابة ، فمن خصائص آية البحث تجدد النهي عن الوهن والحزن حتى في حال الوقوع في حبائله والإبتلاء بالضعف ، وتقدير الآية : إن وهنتم في هذه اللحظة فلا تهنوا ولا تحزنوا في اللحظة التالية والفعل القادم ،وهو موضوعية آيات القرآن بمحو الحال إلى ما هو أحسن ومن عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، بتقريب أن المحو في المقام لا يختص بالذنوب بل يشمل الأفعال ومقدماتها.
الخامسة : تتجلى المسارعة إلى المغفرة في آية البحث من وجوه :
الأول : طاعة الله باجتناب الوهن والضعف .
الثاني : عدم الأسى على ما فات وما لحق بالمسلمين من الخسارة ايماناً بأن الله عز وجل هو الذي ينعم بالبدل والعوض , وهو سبحانه [يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
الثالث : الإستغفار شكر لله عز وجل على نعمة مرتبة العلو بين الناس بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]
الرابع : إتخاذ الإستغفار مقدمة للنصر والغلبة على الكفار .
الخامس : إيمان المسلمين بأن الله عز وجل ناصرهم , وإظهارهم حسن الصبر في لقاء العدو ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان النصر مع الصبر وأن لفرج مع الكرب وان مع العسر يسرا ( ).
السادسة : قيدت آية السياق سؤال المغفرة بالقول [من ربكم ] وفيه نوع وعد بالإستجابة وإنجاز ما يسارع إليه المسلمون وكأنه أمر حاضر ، وجاءت آية البحث بالنهي وتقدير القيد بلحاظ آية البحث على وجوه :
الاول : ولا تهنوا وسارعوا إلى سؤال القوة والمنعة من ربكم
الثاني :لا تحزنوا والله ربكم .
الثالث : وانتم الأعلون بفضل وامر من ربكم .
الرابع : إن كنتم مؤمنين بأن النصر من ربكم .
السابعة : أمرت آية السياق بالمسارعة إلى الجنة ، وتتجلى هذه المسارعة بلحاظ آية البحث من وجوه :
الأول : العصمة من الوهن والفشل والجبن من العدو عند ملاقاته وقبلها .
الثاني : التوقي من الملل والضجر من الدفاع عن الإسلام .
الثالث : معرفة الامم وأهل النحل بأن المسلمين أمة تعشق الجهاد ولا تخشى إلا الله وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع : إمتناع إستحواذ الحزن على نفوس المسلمين عند المصيبة والخسارة.
الثامنة : تقدير آية البحث: ولا تهنوا في جهادكم في سبيل الله، ولا تحزنوا على ما أصابكم في الدفاع عن الإسلام، وفيه الأجر والثواب لموضوعية قصد القربة في الفعل العبادي وتنزه المسلمين عن الوهن والضعف.
التاسعة : تتقوم المسارعة إلى الجنة بالقول والفعل الصالح.
ومن إعجاز القرآن وجوه:
الأول : بيان ماهية القصد إلى غاية حميدة.
الثاني : نزول آية بالفعل الذي يؤدي إلى هذه الغاية.
الثالث : مجيء النهي عن عاقبة سيئة.
الرابع : نزول آية تتضمن سبل النجاة من هذه العاقبة وحينما أمرت آية السياق بالمسارعة إلى الجنة فأن كل آية من آيات القرآن طريق إلى الجنة وضياء ينير الدرب إلى عرصاتها، وفيه مسائل:
الأولى : إنه برهان على صدق نزول القرآن من عند الله.
الثانية : فيه دعوة للناس للإسلام، قال تعالى[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( )، والآية نوع ترغيب بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : إنه مصداق لقوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الرابعة : حث المسلمين لإتخاذ القرآن إماماً.
الخامسة : البشارة للمسلمين باللبث الدائم في الجنة، ويدل الأمر بالمسارعة في الأعمال التي تؤدي إلى الخلود بنعيم الجنة على حسنها الذاتي والحاجة إلى اللبث الدائم فيها , فلا برزخ يوم القيامة بين الجنة والنار، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: سأل موسى بن عمران ربه جلا وعلا وقال: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: أي رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب. فيقول: لك ذلك، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، فَقَال في الخامسة: رضيت رب. فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما إشتهت نفسك ولَذَّت عينك)( ).
العاشرة : بين الأمر بالمسارعة إلى المغفرة وبين النهي عن الوهن والضعف عموم وخصوص مطلق زماناً وموضوعاً، فالأمر بالمسارعة إلى المغفرة يتجدد كل يوم من جهات:
الأولى : الإستغفار بالقول واللسان.
الثانية : أداء المسلم والمسلمة للفرائض اليومية بلحاظ أنها: إستغفار فعلي وإستجارة بالله.
الثالثة : التقيد بأحكام الحلال والحرام، وجاء رجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال : أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات،
وصمت رمضان ، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام ، ولم أزد على ذلك شيئاً، أدخل الجنة؟ قال: نعم. قال: والله لا أزيد على ذلك شيئاً)( ).
الرابع : المبادرة إلى فعل الخيرات، والعصمة من فعل السيئات بما يكون موعظة للناس، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله عليه وآله وسلم: إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه( ).
الخامس : القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو باب فيه مندوحة وسعة ويتغشى آنات الزمان المتعاقبة والأماكن المختلفة، فمن رحمة الله بالمؤمن أن يكون البيت والسوق وموضع العمل والمنتديات طرقاً مباركة لدخوله الجنة بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن الإعجاز أن هذه الوظيفة من مصاديق المسارعة إلى المغفرة، والسير الحثيث إلى الجنة في آن واحد، فصحيح أن آية السياق جاءت بالتعدد والعطف بينهما بحرف العطف (الواو) الذي يفيد المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه إلا أن مصاديق كل منهما من اللامتناهي وهو من فضل الله عز وجل على الناس وتقريبهم من سبل الطاعة، وجعل الجنة قريبة منهم وهو من مصاديق قوله تعالى(وسارعوا) إذ قضي المسارعة بذل جهد إضافي ومنه المصابرة وعدم الكد أو التعب في الدفاع عن الإسلام، قال تعالى[وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ]( )، على الإختلاف في تعريف الشعائر على من وجوه : الأول : إختصاص الشعائر بمناسك الحج كما في قوله تعالى[جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( )، والمشعر موضع النسك.
الثاني : شعائر الله: مناسك الحج، أي علامات وأعمال الحج، وأوامر الله، وما فرضه على العباد من العبادات.
الثالث : إرادة الإطلاق من الشعائر العملية والعقائدية، والعمل بأحكام القرآن والسنة، وإجتناب النواهي .
والمختار هو الأخير للملازمة بين طاعة الله وتعظيم الشعائر , وانها مصداق العبودية لله عز وجل , لذا فإن إجتناب الوهن والضعف , ومجاهدة ودفع الحزن من شعائر الله، والتقيد بالنواهي الواردة في آية البحث شاهد على التقوى والخشية من الله سبحانه.
الحادية عشرة : أخبرت آية السياق عن سعة الجنة وأنها تستغرق السموات الأرض لو جعلت بعضها متصلاً ببعض، ومن مصاديق السعادة الأخروية في الحياة الدنيا الغبطة وحال الرضا التي تملأ نفس المسلم، وتلك آية في الأوامر والنواهي الإلهية بما يتغشى المسلم من المسرة والإحساس بلذة التنعم بطاعة الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اللهم غبطاً لا هبطاً) وكأن عدم الوهن في ملاقاة العدو مركب يأخذ المسلمين إلى ساحل البر والأمان.
وهل يركب فيه الذي لم يهن ولم يحزن وحده الجواب لا، إنما يشمل الأجر والثواب الذين يهيئون مقدمات العصمة من الوهن، وليس في طرد الوهن والحزن شقاء أوعناء , ويتبدد الأذى بلحاظ العاقبة الحميدة له، إنما الوهن والحزن فيه أذى وعناء ويتعقبه الذل.
الثانية عشرة : أختتمت آية السياق بإختصاص أعداد الجنة مع سعتها بالمتقين وإصلاحها لهم على نحو الحصر والتعيين، وهناك فرق بين زمان الإعداد وأوان دخول الجنة , وفيه وجوه:
الأول : الإتحاد والتشابه بين الذين أعدت لهم الجنة والذين يدخلون فيها وهم المتقون.
الثاني : من رحمة الله عز وجل أن الذين يدخلون فيها وهم المتقون.
الثالث : من رحمة الله عز وجل أن الذين يدخلون الجنة أعم من المتقين، فيدخل فيها الذين هم أدنى درجة ممن لم يرتقوا إلى منازل التقوى، كالمسلم الذي يفارق الدنيا على المعصية، وعن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن لله عز و جل مائة رحمة وأنه أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه بها يتعاطفون ويتراحمون وأخر تسعا وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة)( ).
وفي الحديث فلو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من الناس.
الرابع : التباين بين معنى المتقين عند إعداد الجنة ومعنى ومصداق التقوى يوم الحساب بفضل ولطف من الله كما لو صدق اسم المتقي على كل من نطق بالشهادتين وإن إرتكب صغائر وكبائر الذنوب الجارحية.
والصحيح هو الأول، إذا قوله تعالى(أعدت للمتقين) وعد في منطوقه للمؤمنين ، ووعيد في مفهومه للكافرين، نعم التقوى من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوى وضعفاً , والله عز وجل هو الرؤوف الرحيم، وتتجلى مصاديق الرحمة في الآخرة بالسعة والمندوحة في معاني ومصاديق التقوى.
وتكون التقوى بلحاظ آية البحث على وجوه:
الأول : إنتفاء الضعف والوهن عند المسلمين من ملاقاة الكفار.
الثاني : دفع المسلم الحزن عن نفسه عند الخسارة، ليكون هذا الدفع مقدمة للثواب العظيم في الآخرة.
الثالث : جمع المسلمين بين العزة والمنعة وملاقاة الحتوف من غير ندم أو أسى وهو من مصاديق التقوى ومقدمة لدخول الجنة.
الرابع : تعاهد المسلمين لمنازل العلو بين الناس , وبلحاظ الإيمان والتقوى.
الثالثة عشرة : لما أخبرت آية السياق بأن الجنة أعدت للمتقين فإن آيات القرآن الأخرى تأتي بأمور:
الأول : ماهية التقوى.
الثاني : صفات المتقين الذي يخشون الله، كما تقدم مضامين الآية السابعة والسبعين بعد المائة من سورة البقرة التي أختتمت بقوله تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]( ).
الثالث : الإشارة إلى أهل الجنة في الحياة الدنيا بأعمالهم وخصالهم الحميدة.
بالإضافة إلى بيان السنة النبوية لشرائط دخول الجنة والأسباب التي تحجب الإنسان عن دخولها، وهذا الباب علم مستقل يستحق أن يؤلف فيه مجلد خاص يكون ضياء وهداية للأجيال المتعاقبة وبما يدفع الجهالة ويطرد الغفلة .
( وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صفات الذين يدخلون الجنة من أمته بلا حساب، قال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)( ).
وتبين آيات القرآن خصال المتقين بلغة الأمر والجذب والترغيب وهيئة الخبر، وجاءت آية البحث لبيان صفاتهم بصيغة النداء والنهي، وتلك آية من رحمة الله بالمسلمين ليكون كل أمر ونهي طريقاً إلى المغفرة وإلى الجنة، فقوله تعالى(ولا تهنوا) أي أن الثبات على الإيمان وعدم الخشية من الكفار حرث وزراعة تقطف ثمارها في الآخرة بالدخول في الجنة.
وأخبرت آية السياق عن إعداد الجنة للمتقين الذين يعملون بما أمر الله به ويتبعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ويجتنبون ما نهى عنه، ليفيد الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول : كيف تهنوا والله أعدّ لكم الجنة.
الثاني : الذي تنتظره الجنة والخلود في النعيم لا يحزن على أمر فاته.
الثالث : أيها المسلمون أعلموا أن الجنة أعدها الله لكم لتقواكم ومن التقوى عدم الوهن أو الحزن.
الرابعة عشرة : أختتمت آية البحث بصيغة الشرط(إن كنتم مؤمنين) وفيه بلحاظ آية السياق أمور:
الأول : تلقي الأمر الإلهي بالمسارعة إلى المغفرة، ودلالته التضمنية بإقرار المسلمين بأن الله عز وجل هو غفار الذنوب.
الثاني : صلاح المسلمين للمسارعة إلى المغفرة، وعدم التكاسل في طلبها والسعي إلى سبلها.
الثالث : إيمان المسلمين بالتوحيد وأن الله هو ربهم، وإتصال عصمتهم من الشرك والضلالة.
الرابع : سعي المسلمين الدؤوب إلى الجنة.
الخامس : تصديق المسلمين بأن الجنة عرضها السموات والأرض.
السادس : إختصاص المؤمنين بالجنة.
الخامسة عشرة : معنى الشرط في آية البحث: ما دمتم مؤمنين بأن الله يغفر الذنوب جميعاً فعليكم ألا تهنوا ولا تحزنوا، وفيه دلالة على أن النهي الوارد في آية البحث فضل من الله وكنز نازل من السماء ليدخره المسلمون إلى يوم القيامة، وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
السادسة عشرة : تقدير خاتمة آية البحث بلحاظ مضامين آية السياق على وجوه:
الأول : إن كنتم مؤمنين بوجوب المسارعة إلى المغفرة، فإن قلت يكفي الإيمان بالإقرار بأن الله هو الذي يغفر الذنوب، وفي التنزيل[غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ]( ) .
ولم يرد لفظ (غافر، قابل، التوب) إلا في هذه الآية , والجواب على القول أعلاه من وجوه:
الأول : لآية السياق الحكومة في المقام إذ أنها تضمنت الأمر بالمسارعة إلى المغفرة.
الثاني : من فضل الله عز وجل أنه يغفر الذنوب أما تكليف العباد فهو السعي في سبل هذه المغفرة.
الثالث : صيرورة الأمر الوارد في آية السياق حكماً مستديماً ينحل على شعب:
الأولى : مبادرة المسلمين مجتمعين إلى ضروب العبادة كأداء صلاة الجماعة وتقيدهم بصيام شهر رمضان وسياحتهم في الأرض بالتوجه إلى البيت الحرام لأداء الحج والعمرة، قال تعالى[وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ]( ).
الثانية : لجوء المسلم إلى الإستغفار وتكراره، وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِى إِلَى فِرَاشِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا) ( ).
وفي هذا الحديث مسائل:
الأولى : تأديب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين.
الثانية : هداية المسلمين إلى أوقات الإستغفار.
الثالثة : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فالإستغفار عند اللجوء إلى الفراش لا يتعارض مع الإستغفار في أوقات النهار والليل الأخرى.
الرابعة : عند إنقطاع الإستغفار عند النوم، فورد الثناء علماء المؤمنين بقوله [وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( )، وعن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن آخر الليل في التهجد أحب إليَّ من أوّله، وتلا هذه الآية أعلاه)( ).
الخامسة : إقتران الإستغفار بالإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل.
السادسة : إختتام القول والعمل في النهار بالإستغفار ليكون مرآة لقوله تعالى في وصف أهل الجنة[وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
السابعة : كثرة الذنوب وعظم المعاصي التي يغفرها الله يقول أستغفر الله بلحاظ لغة التشبيه.
الثامنة : الترغيب بالإستغفار، وطرد اليأس والقنوط من القلوب المنكسرة، قال تعالى[إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
وهل من مضامين الحديث أنه لو أصاب المسلمين وهن وحزن وإستغفروا الله يغفر الله لهم، الجواب نعم، وهو من مصاديق مجيء النهي بخصوص مستقبل الأيام وهذا علم في بيان الأوامر والنواهي القرآنية مستقرأ من السنة النبوية، وتقدير الآية: إن صدر منكم وهن وحزن فهو مغفور، وإجتنبوا الوهن والحزن في قادم الأيام.
التاسعة : إرادة الإطلاق في الخطاب والموضوع في آية البحث والسياق مع التباين والتضاد في الصيغة والإتحاد في الأثر فابتدأت آية البحث بالنهي المتعدد بصيغة الإطلاق في النهي ، أذ جاءت بالنهي عن الوهن بكل أفراده ، وعن الحزن بكل ألوانه . أما آية البحث فجاءت بالمسارعة إلى المغفرة في كل سبلها ومقدماتها .
الثالث : صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : وأطيعوا الله ولا تهنوا.
الثاني : وأطيعوا الله ولا تحزنوا.
الثالث : وأطيعوا الله والرسول ولا تهنوا.
الرابع : وأطيعوا الله والرسول ولا تحزنوا.
الخامس : ولا تهنوا لعلكم ترحمون.
السادس : ولا تحزنوا لعلكم ترحمون.
السابع : وأطيعوا الله والرسول وأنتم الأعلون.
الثامن : وأطيعوا الله والرسول أن كنتم مؤمنين.
التاسع : ولا تحزنوا لعلكم ترحمون.
العاشر : لعلكم ترحمون وأنتم الأعلون.
الحادي عشر : وأنتم الأعلون لعلكم ترحمون.
الثاني عشر : لعلكم ترحمون إن كنتم مؤمنين.
الثانية : إبتدأت آية السياق بالأمر بطاعة الله، ولا تختص هذه الطاعة بشأن العبادات والفرائض وأحكام الحلال والحرام بل تشمل الأوامر والنواهي الواردة في القرآن، وتلك آية في نيل المسلمين مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة : من طاعة الله بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : الجهاد في سبيل الله، وهو ضد ونقيض لحال الوهن والضعف.
الثاني : صبر المسلم على الأذى والبلاء وإن إشتد وطالت مدته، وهو من أسرار أداء المسلمين الصلاة خمس مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني الخالي من الإستثناء لمرض أو سفر .
الثالث : وجوب طاعة الله فيما نهى عنه من الوهن ومقدماته , وتقدير الآية : (واطيعوا الله بان لا تهنوا ) .
ومن معانيه إرادة قصد القربة في الإحتراز من الوهن ودفع الضعف والكسل والخمول بين صفوف المؤمنين .
الرابع : تعاهد مراتب العزم وحسن التوكل على الله عند الشدائد وطرد اسباب النكسة والخسارة في واقعة ، فالحرب سجال تدور بين المتحاربين , وكما يفقد المسلمون بعض المقاتلين فان الكفار يتساقطون قتلى وجرحى مع التباين في المعركة مع التباين في القصد والنية والعاقبة .
وعن رسول الله صلى الله عليه آله وسلم قال : إن للشهيد عند الله خصالاً . يغفر له في أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى عليه حلة الإيمان ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن يوم الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه( ).
الخامس : طاعة الله في إتيان ما أمر به الله سبحانه وإن أحتمل الأذى و ترشحت أسباب الوهن والحزن وشدة الضرر وتلك آية في إصلاح المسلمين للإمامة في الأرض ووراثة الأنبياء في سبل الهداية والرشاد .
السادس : لجوء المسلمين إلى الإسترجاع وقول[إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( )،عند المصيبة وحلول الخسارة ،فالأهم هو بقاء دولة الإسلام وإتيان الفرائض وسلامة القرآن من التحريف والتبديل .
الرابعة : يدل الجمع بين الآيتين على حقيقة وهي أن النواهي في آية البحث قوانين تفيد القطع وتمتنع عن النسخ والتفريط ، فلابد من العصمة من الوهن وأدران الضعف وأسباب الخشية من العدو ، وان جاء بعدد وعدة ليس للمسلمين طاعة بها ، وحتى على فرض التقية والصبر فانه يجب معها بقاء الثقة بنصر الله وإمتلاء النفس بالعز .
الخامسة : كما تضمنت آية السياق الأمر بوجوب طاعة الله جاءت آيات القرآن الأخرى بالتفصيل في بيان موضوعات وكيفية هذه الطاعة وتعدد مواردها لتشمل العبادات والمعاملات والأحكام ، وجاءت آية البحث بخصوص أمور:
الأول : سنن الجهاد والدفاع عن حوزة الإسلام .
الثاني : تهيئة مقدمات الجهاد , ومنها ما يتعلق بالنفس وسلامتها من الكدورات الظلمانية.
الثالث : إظهار حب الله ورسوله وهذا اكبر شاهد على الفناء الذاتي في مرضاة الله وعدم الإصغاء إلى الدعوات الخارجية للقعود ،ولا الواعز النفسي الذي يقود إلى الوهن .
الرابع : تقوى الله في التقيد بالنواهي في سوح المعارك التي هي أشد حالات الشدة والعسر التي يمر بالإنسان في حياته ، ومن فضل الله عز وجل على الناس أن الأقل من الناس هم الذين يخوضون غمار الحروب ويدخلون المعارك ،ولكن البلاء صفة الحياة الدنيا ،فما من أحد إلا ويبتلى في نفسه وماله ورزقه وولده . ويتلقى المؤمنون من بين الناس البلاء بالرضا ورجاء الثواب ، وهو من رشحات الإيمان وإفاضات القرآن وصفات [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
الخامس : تحلي المسلمين مجتمعين ومتفرقين بخصلة كريمة وهي دفع الحزن ومجاهدة النفس في منعه.
السادسة : يدل قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] على بلوغ المسلمين هذه المرتبة بطاعة الله ورسوله , وفيه وجوه:
الأول : الثناء على المسلمين من بين الأمم.
الثاني : دعوة الناس للإقتداء بالمسلمين وإقتفاء أثرهم.
الثالث : بيان النفع العظيم على الفرد والجماعة والأمة بطاعة الله.
الرابع : ترشح آثار طاعة الله على النفس بالسكينة والطمأنينة.
الخامس : جمع المسلم بين طاعة الله والخوف منه سبحانه، ومن مصاديق هذا الخوف عدم الوهن , وهجران الحزن.
السادس : يترشح عن عدم الوهن والحزن مصاديق وأفراد من طاعة الله سبحانه.
السابع : إتخاذ عدم الوهن والحزن سبيلاً للإمتثال والتقيد بالنهي الوارد في آية البحث فيأتي المسلم بالصلاة اليومية ويتلو على نحو الوجوب العيني قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( )، فيلجأ إلى الله ويستعين به سبحانه للغلبة على الوهن وقهر الحزن، فليس من حصر لمواضيع الإستعانة بالله، ومنها التجافي عن الوهن والضعف.
السابعة : بعد أن ذكرت آية البحث وجوب طاعة الله، ذكرت وجوب طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقرنت بين طاعته وطاعة الله، وهو من وجوه تفضيله على الأنبياء السابقين، ومن مصاديق طاعته بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : العمل بالسنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية.
الثاني : الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جهاده في سبيل الله، وعدم خشيته من الكفار، وقد بنى صرح دولة الإسلام بين قوم مشركين، سعوا في مرات متعددة لقتله والفتك به.
الثالث : بيان حسن سمت المسلمين وتلقيهم الأوامر والنواهي من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والرضا.
الرابع : نيل المسلمين درجة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بطاعتهم لله ورسوله.
الثامنة : أخبرت آية البحث عن تبوأ المسلمين مقام الفخر والعز بالعلو والرفعة بين الناس، ومن منافع طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور:
الأول : علو المسلمين من رشحات طاعتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : نال المسلمون مرتبة العلو بفضل الله عز وجل وإنصياعهم لأوامره ، أما طاعتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانها تزيدهم مرتبة أخرى من مراتب العلو والرفعة بين الناس بقيد إستدامة عبوديتهم لله عز وجل.
الثالث : النطق بالشهادتين وحده إصلاح ومرتبة للعلو بين الناس و ومقدمة لمراتب أخرى من العلو وذخيرة ليوم الحساب .
التاسعة : طاعة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إرشاد لسبل الصلاح وضياء ينير دروب الإيمان للأجيال اللاحقة، ليكون من خصائص هذه الطاعة أنها ميراث كريم تترشح عنه البركة بأن يدرك الابن إنتفاع والديه من طاعة الرسول , قال تعالى[وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( )، وفيه بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : عدم الوهن من أفراد الصراط المستقيم الذي يهدي ويدعو إليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: التنزه من الحزن والحسرة من الصراط المستقيم.
الثالث : كل آية من القرآن من الصراط المستقيم.
العاشرة : من أسرار مجئ طاعة الرسول على نحو القضية المستقلة القائمة بذاتها أمور:
الأول : دفع الوهم بانحصار طاعة الرسول بخصوص الأوامر والنواهي التي أمر الله بها ووردت في القرآن.
الثاني : موضوعية السنة النبوية في التشريع، وتقييد المطلق وتفصيل المجمل، والمختار أن السنة لا تنسخ القرآن لأحاديث العرض وإنتفاء مصداق النسخ عندنا , مع بيان قانون كلي وهو أن كل ما يقوله ويأمر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو فيض وخير ، ونفع في النشأتين، قال تعالى[اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ]( )، وتحتمل الآية أعلاه وجوهاً:
الأول : طاعة الرسول بخصوص ما فيه حياة للمسلمين.
الثاني : كل الذي يدعو له النبي هو خير محض وحياة وسعادة، فتكون طاعته مطلقة في أمور الدين والدنيا.
الثالث : إرادة الدعوة للقتال لأن فيه عزاً بعد ذل , وأمناً بعد خوف.
الرابع : القدر المتيقن من طاعة المسلمين للنبي هو فيما ينجيهم من مفاهيم الشرك والضلالة.
والصحيح هو الثاني , وفيه وجوه:
الأول : إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : حاجة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لطاعة الرسول وهم لم يبلغوا هذه المرتبة إلا بطاعة الله وطاعته.
الثالث : الإنذار والتخويف من معصية الرسول.
الرابع : إقامة الحجة على الكفار في صدودهم عن النبوة وما فيها من الخير المحض.
وعن أبي بن كعب قال: كنت أُصلي فناداني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أجبه، فلما صلّيت أتيته، فقال : ما منعك أن تجيبني، قلت: كنت أُصلي، قال: أولم يقل الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ]( ) ثمّ قال : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن نخرج من المسجد، فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يارسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن. قال: نعم، الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت، وعن أبي هريرة قال: قرأ أُبي بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمّ القرآن. فقال: والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها)( ).
ليدل الحديث على أمور:
الأول : طاعة المسلم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبادة.
الثاني : لزوم المبادرة للإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقديمها على أفراد العبادة الأخرى.
الثالث : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذاتاً وموضوعاً وحكماً من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الرابع : في الإستجابة لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفع حاضر، ويبين الحديث أعلاه قانون أعظم سورة في القرآن وأنها سورة الفاتحة.
الحادية عشرة : من مصاديق ومنافع طاعة المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عدم خشيته من الكفار.
الثاني : الصدور عن السنة النبوية القولية في الصبر والتحمل ومواجهة الأخطار.
الثالث : إقتباس الدروس والمسائل من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : استحضار السنة النبوية لدفع الوهن والحزن.
وهل تنحصر طاعة المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه وأهل بيته وما يخص معارك الإسلام الأولى، الجواب لا، وذات الأمر الإلهي بطاعة الرسول متوجه إلى المسلمين باجيالهم المتعاقبة وإلى يوم القيامة، ويشمل المسلمات بثباتهن وحث الرجال على عدم الوهن وتلك آية بصيغة الإطلاق في لغة الخطاب القرآني، وهو من أسرار إنقطاع الوحي بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستغناء أهل الأرض عن إستحداث وحي وتنزيل جديد.
وهو من مصاديق قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ( )، فهذا الخطاب القرآني متجدد في جهته وإرادة أجيال المسلمين منه، فان قلت إنه خاص بالمسلمين، وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي إتمام للأديان الأخرى فليس من نبوة أخرى أبداً، فالجواب من وجوه :
الأول : الخطاب في الآية أعلاه موجه في الأصل إلى كل الناس ذكوراً وأناثاً وإلى يوم القيامة.
الثاني : موضوعية النسخ في الشرائع وشريعة محمد صلى الله وآله وسلم ناسخة غير منسوخة.
الثالث : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة والبرهان على وجوب إتباعه.
الرابع : ندب الأنبياء السابقين لقومهم وأهل الأرض جميعاً لإتباعه، وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
الخامس : جدال وتفاخر المسلمين وأهل الكتاب والكفار، وإنقطاع الجدال باقامة المسلمين الحجة بالقرآن، كتاباً جامعاً، وبمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الآيات أن القرآن مدد وعون للمسلمين في ميادين الإحتجاج .
وعن السدي قال: التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقالت اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن على دين إبراهيم ، ولن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً . وقالت النصارى مثل ذلك . فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ، ونبينا بعد نبيكم ، وديننا بعد دينكم ، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم ، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا . فرد الله عليهم قولهم فقال { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به } ثم فضل الله المؤمنين عليهم فقال { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً } ( ).
السادس : مجئ الكتب السابقة وأخبار الصالحين بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوارث التطلع إليها رجاء التصديق به ونصرته، وأخرج ابو نعيم عن كعب قال: إن أبي كان من أعلم الناس)( ).
السابع : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوحدة العمل ووجوه الصلة بينه وبين الأنبياء السابقين بما يفيد إكتمال النبوة به، وعن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع هذه اللبنة لم يضعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ، ويقولون : لو تم موضع هذه اللبنة ، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة ( ).
الثامن : طبع وختم باب النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]( )، ولأن النبوة غلقت ببعثته فقد جعله الله عز وجل رحمة للعالمين ومن مصاديق الرحمة إختتام النبوة به.
الثانية عشرة : جاءت كل من آية البحث والسياق بصيغة الخطاب وإرادة المسلمين والمسلمات، وهو من مصاديق لغة العطف بين الآيتين، أما النسبة الموضوعية بين الآيتين فهي العموم والخصوص المطلق، ويتجلى الإطلاق في وجوب طاعة المسلمين لله ورسوله في أمور الدين والدنيا من غير إستثناء، لتتعطل معها القاعدة التي تقول بأنه ما من عام إلا وقد خص إلا أن يكون الإختصاص فانياً في ذات العموم، وجاءت آية البحث بخصوص أمور الحرب والقتال.
الثالثة عشرة : من معاني الجمع بين الآيتين أن طاعة الله طريق وسبيل إلى الإحتراز وعدم الوهن أو الضعف، ولو تدبرت في أفعال الصلاة لوجدت كل فعل منها ينهى عن الوهن والضعف إذ تبدأ بتكبيرة الإحرام وهي قوله (الله أكبر) وفيها إقرار بأن [كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا]( )، وأن طاعته بعدم الوهن والخوف واجبة وجوباً شرعياً على كل مسلم ومسلمة وبهذه التكبيرة يحرم إتيان منافيات الصلاة، وكأن الحياة الدنيا دار صلاة عامة يكون الإنسان فيها مكلفاً باتيان الواجبات ، وإستغعفار وذكر الله والإمتثال لأوامره وإجتناب فعل المحرمات.
ويقف المصلي قائماً في الصلاة بين يدي الله , وفيه نوع ثبات في الدين وعدم تطامن للظلم والهوان ، وتلاوة آيات القرآن في الصلاة على نحو الوجوب إعجاز في إصلاح المسلم والمسلمة للعصمة من الذل والضعف والتقهقر أمام الجور ، وكل آية يتلوها المسلم في الصلاة تقول له ( لا تهن ولا تحزن ) وشرعت صلاة الجماعة ليتعاضد المسلمون في عدم الوهن والضعف ويطمئنوا لإتحادهم وقوتهم.
ومن الإعجاز في تشريع القراءة في الصلاة تكرار قراءة سورة الفاتحة في كل صلاة وان كانت ثنائية وفيها [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، فمن عبادة الله عز وجل عدم الوهن أو الخوف من الظالمين.
ومن مواضيع الإستعانة بالله عز وجل بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : الصبر والمصابرة في مواجهة العدو .
الثاني: عدم التقصير أو التفريط في العبادات وأداء الفرائض ومنها الصلاة
الثالث : الإستعانة بالله لأداء الصلاة لأنها واقية من الوهن والحزن وهل يصح القول من الإستعانة بالله لنواظب على قول [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]
الجواب نعم , فالإنسان كائن من عالم الإمكان تلازمه الحاجة في كل آن من آنات حياته ، ومن مصاديق الحاجة في المقام الإستعانة بالله وبالوسائط التي جعلها لبلوغ مرتبة العصمة من الوهن والحزن المنهي عنه . ومن الوسائط ضروب العبادة كما في قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
الرابع :التقيد باتيان الفرائض بشرائطها وأوقاتها , وفيه تنمية لملكة عدم الوهن في أمور العبادات والمعاملات ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الخامس : الإستعانة بالله في التوقي من الكفار وجدالهم وصيغ الريب التي يأتون بها عناداً واستكباراً . وفي قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ] ( ).
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام انه : كان سبب نزولها وتكرارها أن قريشا قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله: تعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة، وتعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة، فأجابهم الله بمثل ما قالوا ( ).
السادس : التوكل على الله وفعل ما يكون سبباً لمنع إستدامة الحزن ، فالله عز وجل هو الذي ينعم بالخلف والعوض والبدل ، ويبارك بما في اليد.
السابع : اللجوء الى الله عز وجل للتخفيف من وطأة المصيبة المتحدة والمتعددة ، والتحلي بالصبر عند نزولها للبقاء في حال يقظة وفطنة في ملاقاة العدو ، وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبر ثلاثة : فصبر على المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر على المعصية ( ).
الثامن :إقرار المسلمين بأنهم نالوا منزلة العلو والرفعة بين الناس بفضل الله ومدده وعونه وهم يستعينون بالله عز وجل لدوام هذه النعمة ، وهل الشكر من مصاديق هذه الإستعانة , الجواب نعم .
الرابعة عشرة : ترى ما هي النسبة بين الصبر من جهة والوهن والجبن من جهة أخرى، الجواب هو التباين والتضاد، فيدل الوهن والجبن على قلة أو انتفاء الصبر ، ويدل الصبر على السلامة من الوهن والجبن ، ليكون الصبر سلاحاً ماضياً ينفع المسلم في حال الحرب والسلم لذا جاءت آيات القرآن والسنة النبوية بالحث على الصبر وهو طريق لتحقيق النصر والغلبة على العدو .
وجاء الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلقي المصيبة بالصبر , قال تعالى [وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ] ( ).
إذ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن الإسلام أمور قد تجلب الأذى لصاحبها ويلقى شدة من الظالمين والكافرين، فيكون الصبر واقية من الوهن والحزن , وله الأثر المبارك الحاضر، والثواب العظيم، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات البعثة يتعبد الله عز وجل في الليالي اولات العدد فنزل عليه جبرائيل بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ العلق*خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ] ( ).
ورجع إلى أهله فقال زملوني زملوني ، وعندما ذهب عنه الروع أخبر خديجة ، فذهبت معه إلى ابن عم لها يقال له ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزيز وكان قد تنصر ويقوم بكتابة الإنجيل بالعربية ، وقد أصابه العمى فاخبره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما رأى ، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني أكون فيها جذعاً ، يا ليتني أكون فيها حياً إذ يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أو مخرجي هم؟ قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً . ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي( ).
أي يقضي النبي عدة ليالي ثم يرجع إلى أهله , وأبهم العدد لعدم وجود عدد معني في كل مرة ، فقد يكون قليلاً وقد يكون كثيراً ولكنها لا تخرج عن إمكان عدها .لتكون موعظة في إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة وحجة في نصره مع الغربة ، وأن الناس لا يستطيعون وإن إجتمعوا أن يحجبوا نعمة الله أو أن يغيروا ما أراد.
وظهور نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعمل الناس بشريعته ونصر أمته من مصاديق قوله [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( )
واللام في ( الدين) للجنس , والمراد نسخ الشرائع كلها بالقرآن والسنة النبوية ، فاذا كان الإسلام يظهر على الأديان الأخرى ويعم اقطار الأرض فان تصدي قريش عبث وإضرار بالذات تجلى مصداقه بسقوط صناديدهم قتلى في قليب بدر في السنة الثانية للهجرة .
وعن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش ، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالْعَرَصَةِ ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ، ثم مشى واتبعه أصحابه قالوا : ما ترى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم . يا فلان بن فلان ، ويا فلان ابن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها : فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنهم لأسمع لما أقول منكم( ).
ولطاعة المسلمين لله ورسوله موضوعية في ظهور الإسلام وعز المؤمنين ، وهي أيضا نتيجة ورشحة مباركة لظهور الإسلام , ومقدمة وسبب ونتيجة لذات الموضوع من غير أن يكون تناقض أو تعارض أو دور في الأمر .
الخامسة عشرة : كان عدو المسلمين ذا عدد وعدة , والإسلام في سنيه الأولى ويترشح الوهن والحزن بلحاظ الحال وحساب إمكان الربح والخسارة وفق القدرات الذاتية ، فجاء الأمر في آية السياق [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) لهداية المسلمين إلى طريق التقوى الذي يكون واقية من الوهن والحزن حتى وان كان عدد وعدة الكفار أضعاف عدد وعدة المسلمين الأمر الذي تجلى في معركة بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )، فكان جيش الكفار ثلاثة أضعاف جيش المسلمين أما العدة ففيها تباين ، فمثلاً كان مع الكفار سبعون فرساً وليس مع المسلمين إلا فرس واحد .
ونصر المسلمين طريق وسبب إضافي لتحقيق منزلة عدم الوهن والجبن عند المسلمين، وان قلت إنما جاءت الآية بصيغة النهي [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا]( ).
فيتجلى الجواب بقانون كلي وهو إن الله عز وجل يأمر وينهى المسلمين ويتفضل بالمدد وبالأسباب التي تعينهم على الإمتثال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ] ( ).
أمر الله عز وجل للمسلمين بطاعته ورسوله وإمتثالهم لهذا لأمر لطف من الله بالناس جميعاً من جهات :
الأولى : علم الناس جميعاً بوجود أمة لا تخرج عن طاعة الله ورسوله.
الثانية : حاجة الناس إلى طاعة الله ورسوله.
الثالثة : بيان علة إرتقاء المسلمين لمنزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بامتثالهم للأوامر والنواهي الواردة في القرآن وتلك التي جاءت في السنة النبوية .
الرابعة : تجلي منافع طاعة الله ورسوله على المسلمين بعدم الوهن والخوف من الأعداء متفرقين ومجتمعين .
الخامسة : دعوة الناس للكف عن التعدي على المسلمين لسوء عاقبة هذا التعدي وللملازمة بين النصر وطاعة الله ورسوله ، وفي الحديث القدسي عن رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ( ) .
السادسة : تنشر طاعة الله ورسوله معاني المحبة والأمن بين الناس لترشح الأخلاق الحميدة عن هذه الطاعة ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تخلقوا باخلاق الله( ).
السادسة عشرة : أخبرت آية البحث عن نيل المسلمين مرتبة العلو بين الناس بالتقوى والصلاح , وورد فوز المسلمين برحمة الله بصيغة الرجاء [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]وفيه بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى :تلقي المصيبة بالثبات في منازل الجهاد سبب للرحمة . فقد قٌُتل من المسلمين يوم أحد خمسة من المهاجرين وسبعون من الأنصار فجاءت المواساة من عند الله بالحث على إجتناب الوهن والجبن والخور .
الثانية : في إجتناب المسلمين للوهن إمن لهم من الخزي والهزيمة .
الثالثة : ترك الحزن رحمة بالمسلمين فهو تخفيف عنهم وبلغة للعبادة والصلاح.
وحين أمر الله المسلمين بالقول [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ]( ) فانه تعالى هداهم إلى الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة ومنها عدم الوهن والخوف والحزن .
الرابعة : تتجلى في الجمع بين قوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]و [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ] وجوه :
الأول : إستدامة رفعة وعز المسلمين .
الثاني : زيادة مراتب الرفعة للمسلمين .
الثالث : من رحمة الله بالمسلمين ضعف ووهن عدو المسلمين وتجلى هذا المعنى بهوان وضعف قريش ، وانحسار المنافقين .
الرابع : دخول أفواج من الناس في الإسلام وهو من مصاديق رحمة الله بالمسلمين وبيان منافع ورشحات جهادهم في سبيل الله بهداية الناس وإزدياد عدد وعدة المسلمين .
السابعة عشرة : يؤكد الجمع بين الآيتين حاجة الناس جميعاً إلى رحمة الله ، فالمسلمون هم الأعلون ومع هذا ينتظرون رحمة الله التي تأتيهم بفضل ولطف من الله عز وجل , ومن فضل الله في المقام أمره بطاعته وطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن باب الأولوية أن يسعى الناس جميعاً إلى رحمة الله عز وجل ويتفانون من أجل نيلها ، وهناك نوع ملازمة بين مرتبة العلو وبين إستمرار الرحمة الإلهية ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، أن الله عز وجل يبين العلوم التي تتعلق برحمته من وجوه:
الأول :إخبار القرآن عن ضرورة بذل الناس جميعاً الوسع للفوز برحمة الله.
الثاني : ذكر مواطن رحمة الله .
الثالث : تساوي الناس جميعاً في الحاجة إلى رحمة الله وإن تباينت درجات ومصاديق الرحمة ولكن ليس فيها رحمة صغيرة ذات مرتبة أقل فيحتاج الإنسان في كل آفاق حياته وعند كل فعل رحمة الله , وتترشح موضوعيتها من صبغة الضرورة التي تتصف بها.
الرابع : الترجي والأمل في قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( )، دعوة إلى الناس للإجتهاد في طاعة الله عز وجل ورسوله .
الثامنة عشرة : دعوة المسلمين للتفقه في الدين ، ومعرفة كيفية الفوز بالثواب ودرء الأخطار ، واجتناب المآثم ، والتنزه عن المعاصي لأن رحمة الله تأتي بطاعة الله ورسوله , ومن قيود هذه الطاعة إتمام المنسك العبادي, كما في قوله تعالى [ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ] ( ) أي هذا الإتمام طاعة لله وسبيل لنيل مرضاته , وهو سبحانه الغني عن العالمين .
فان قلت هناك الكفارة والفدية والقضاء لتدارك النقص والخطأ والتقصير , والجواب إنها من فضل الله تعالى في إتمام الحج والعمرة بالكفارة ونحوها وهو من مصاديق قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]أي مع طاعة الله ورسوله تأتي أسباب التدارك وتلافي النقص لذا جاء الأمر باللجوء إلى الإستغفار في الحج في قوله تعالى [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ] ( )، فمع أداء الفرائض لابد من الإستغفار لإحتمال التقصير في الفعل العبادي ولمطلق الذنوب ما علم منها وما جهله .
العشرون : يفيد الجمع بين الآيتين أن عدم الوهن والحزن رجاء فعلي لنيل رحمة الله ، فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إبتلاء وإمتحان ، ويجتمع جلب رحمة الله , والتوقي من غضبه بطاعة الله ورسوله , ومن مصاديق هذه الطاعة بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : وجوب الثبات في منازل الإيمان .
الثاني : لزوم تحلي المسلمين بالصبر في مواطن القتال .
الثالث : دعوة المسلمين للتعاون والتآزر في مواجهة المشركين بالعزيمة والإتحاد والتآلف ، قال تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] ( )، فالفرقة والإختلاف سبب لدبيب الوهن والحزن , وداء ينخر سور المنعة التي يتصف بها المسلمون لذا فمن الإعجاز في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أن الفرقة والإختلاف بين فرق المسلمين لن يستمر أو تزداد شدته ، بل ذات لفظ الفرق والطوائف المستقلة لن يبقى , لذا فان النوبة لا تصل إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية لأن الأصل هو إتحادها وإندماجها( ).
الرابع : إيمان المسلمين بأن النصر بطاعة الله ورسوله ، وهو المستقرأ من الجمع بين خاتمة آية البحث [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] وبين آية السياق فهذا الإيمان طريق للفوز برحمة الله وسبب لجلب الفلاح والإرتقاء في مراتب التقوى .
الرابع : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ]( )وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : ولله ما في السموات والأرض ولا تهنوا .
الثاني : ولله ما في السموات والأرض ولا تحزنوا .
الثالث : ولله ما في السموات والأرض وانتم الأعلون .
الرابع : يغفر لمن يشاء ولا تهنوا ولا تحزنوا .
الخامس : يغفر لمن يشاء وانتم الأعلون .
السادس : يعذب من يشاء ولا تهنوا ولا تحزنوا .
السابع : يعذب من يشاء وانتم الأعلون .
الثامن : ولا تهنوا والله غفور رحيم .
التاسع : ولا تحزنوا والله غفور رحيم .
العاشر : وانتم الأعلون والله غفور رحيم .
الثانية : تبعث آية السياق السكينة في قلوب المسلمين بذكر قانون عائدية ما في السماوات والأرض لله عز وجل ، ويكون هذا الموضوع والسكينة المترشحة عنه ذخيرة للمسلمين وعوناً لهم لبلوغ مرتبة عدم الوهن والجبن .
الثالثة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل بهدايتهم للإيمان بأن ملكية السموات والأرض له سبحانه إذ يدل الإخبار عن هذه الملكية في آية البحث بالدلالة التضمنية على دعوة المسلمين للتسليم بهذا القانون والعمل وفق قواعده ، والشكر لله عز وجل على الوحدانية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الرابعة : حث المسلمين على عدم الوهن والجبن من منازل العبودية لله وعدم الغرور والطغيان ، قال تعالى في الثناء على المسلمين [أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ] ( )، ومن مصاديق العزة في المقام عدم الوهن أو الخوف من جيوش الكفار وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ].
الخامسة : ثبوت ودوام بقاء المسلمين في مرتبة [الأَعْلَوْنَ] بين الناس لأنها منحة وهبة من عند الله، وفي ملكه وسلطانه، وليس من شريك أو ند له.
السادسة : تدعو آية السياق المسلمين إلى عدم الخوف أو الخشية من الكفار لأن قتال المسلمين بقصد القربة إلى الله والسعي في مرضاته ومحاربة الذين يجحدون بملكيته للسماء والأرض , فهناك تناف وتضاد بين قصد القربة والخوف من الكفار.
السابعة : علة عصمة المسلمين من الوهن والخوف هي بلوغ الناس مرتبة القول بأن ما في السموات والأرض ملك لله، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، ويشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ( ).
الثامنة : يفيد الجمع بين الآيتين توجه السؤال والإستفهام للمسلمين بأنه إذا كانت السموات والأرض ملكاً لله عز وجل وأنتم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فلا يصح الوهن والخوف من أعداء الله الذين هم غاصبون لأنفسهم ومتعدون عليها بالجحود , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
التاسعة : جاءت آية السياق بالتفصيل الذي يفيد التضاد ويترشح عنه ويترتب عليه البيان , فالله عز وجل يثيب المؤمنين ويعذب الكافرين، ويأتي ثواب المسلمين بطاعتهم لله ورسوله وعملهم في سبيل الله ومنه عدم الوهن أو الخوف في ساحات الوغى.
العاشرة : تخاطب آية البحث والسياق عند إجتماعهما المسلمين بأمور:
الأول : لاتهنوا فانتم في ملك الله.
الثاني : لاتحزنوا فلا سلطان عليكم إلا سلطان الله.
الثالث : جاهدوا في سبيل الله الذي له ملك السموات والأرض.
الرابع : لكم الغلبة في الأرض التي هي ملك الله.
الحادية عشرة : أخبرت آية السياق بأن ملك السموات والأرض لله وتجلى المصداق الجامع لفردي هذه الملكية بنزول الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين في معركة بدر وأحد والأحزاب، قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، فالمسلمون يقاتلون في الأرض لدوام خلافة الإنسان فيها بمرضاة الله وسنن العبادة والتقوى.
الثانية عشرة : توجه البشارة للمسلمين بدوام بقائهم في مراتب الرفعة والعلو بين الناس. سواء في مشارق الأرض أو مغاربها، وفي اليوم ومستقبل الأيام لأن ملكية الله للسموات والأرض مطلقة مكاناً وزماناً وهو من أسرار مجئ قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] بصيغة الجملة الإسمية ولغة الحال لإفادة الدوام والتجدد , فليس من مكان أو زمان تنخرم فيه هذه القاعدة، وليس من أمة تكون أعلى من المسلمين.
الثالثة عشرة : ذكرت آية البحث عظيم قدرة الله عز وجل وإطلاق إرادته في ملكه وسلطانه، ومنه أنه سبحانه يتجاوز عن ذنوب الذين يجاهدون في سبيله تعالى، ويعذب الذين يجحدون بربوبيته، ومن أسباب وسبل الفوز بالمغفرة والتجاوز عن الذنوب عدم الوهن والخوف من المشركين.
الشعبة الثانية : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية، وفيها وجوه:
الأول : صلة هذه الآية بالآية التالية[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ…]( )، وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : ولا تهنوا ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله.
الثاني : ولا تحزنوا ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله.
الثالث : إن يمسسكم قرح وأنتم الأعلون فقد مس القوم قرح مثله.
الرابع : ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله إن كنتم مؤمنين.
الخامس : ولا تهنوا ولا تحزنوا وتلك الأيام نداولها بين الناس.
السادس : ولا تهنوا ولا تحزنوا ليعلم الله الذين آمنوا.
السابع : وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء وانتم الأعلون.
الثامن : وتلك الأيام نداولها بين الناس وانتم الأعلون.
التاسع : وتلك الأيام نداولها بين الناس ان كنتم مؤمنين.
العاشر : والله لا يحب الظالمين وأنتم الأعلون.
الحادي عشر : ولا تهنوا ولا تحزنوا والله لا يحب الظالمين.
الثانية : جاءت كل من الآيتين بصيغة الخطاب , والمراد منه المسلمون إلى يوم القيامة، وتلك آية في إكرام المسلمين ومناسبة لتفقه المسلمين في فنون القتال.
الثالثة : كل من الآيتين مدرسة في الصبر، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القَبْضِ على الجَمْرِ، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم( ).
الرابعة : إتحاد موضوع الآيتين، إذ تتعلق كل واحدة منهما بواقعة أحد وإرادة الإستعداد للقادم من أيام الجهاد والصبر، مع التسليم بأن المدار على عموم اللفظ وليس سبب وموضوع النزول، فكل من الآيتين موعظة وعبرة للمسلمين.
الخامسة : جاءت آية البحث بصيغة النهي وعلى نحو متكرر مع تعدد الموضوع، وجاءت آية السياق بصيغة الجملة الشرطية، وفيه بعث للتدبر وإستنباط المسائل من الآيات المتجاورة التي يجمعها موضوع متحد.
السادسة : إبتدأت آية البحث بحرف العطف (الواو) لإفادة عطفها على الآية السابقة، أما آية السياق فابتدأت بأداة الشرط، (إن) فهل من عطف بين الآيتين الجواب نعم، ويتجلى بصيغة ولغة الخطاب فيهما، ومن أسرار عدم مجئ حرف العطف الواو في آية السياق وجوه:
الأول : إفادة الإطلاق الزماني في عدم الوهن والحزن وتقدير العطف إصابة المسلمين بالجراح والضرر وهم في حال عدم الوهن والضعف.
الثاني : كأن آية السياق جملة حالية للآية السابقة وإستدامة لمضامينها حتى في أشد الأحوال.
الثالث : بعد بيان الآية السابقة بأن المسلمين هم الأعلون جاءت هذه الآية لبيان الأذى الطارئ على المسلمين وهم بمراتب الرفعة والعز بين الناس بصيغة الإيمان والهداية التي يتصفون بها.
السابعة : يتباين الإبتلاء والإمتحان في الدنيا بحسب الحالة والشأن، فجاءت آية السياق بوجوه من الإبتلاء هي:
الأول : إصابة المسلمين بالجراح.
الثاني : سقوط قتلى من المسلمين ففي معركة اليمامة إستشهد ألف مائتين من المسلمين , ومن الكفار قُتل مسيلمة الكذاب ونحو أربعة عشر ألف من أصحابه , وكان عدد أفراد جيشه أربعين ألفا , وأغلبهم خرج معه حمية القبلية , وكانت خسارة المسلمين هذه بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآ له وسلم إلى الرفيق الأعلى , وقد وقى الله المسلمين ببركة حضوره وقيادته ببركة حضوره في معركة حنين , قال تعالى[وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ]( ).
الثالث : إطلاق قانون تداول الأيام والتعرض للخسارة والربح، فلا ملازمة بين أمة وبين الإنتصار في كل واقعة ومعركة، نعم العاقبة للمؤمنين.
والنصر مصاحب لهم في خواتيم الأمور، ومن الآيات أن الكفار لم ينتصروا في أي معركة من معاركهم ضد المسلمين، وتلك معجزة حسية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , تستلزم البيان والتحقيق ودراسة ضروب المعجزة في كل معركة على نحو التفصيل .
الثامنة : تبين آية السياق أن الخسارة والجروح أصابت المسلمين مرة في معركة أحد في ذات الوقت الذي خسر فيه الكفار أيضاَ، بينما نهت آية البحث المسلمين عن عدم الوهن والضعف في كل الأحوال، فتذهب الخسارة ويمكن تداركها وتبقى حال عدم الوهن مستمرة عند المسلمين، وتلك الحال سبب للإمتناع عن الوهن والخوف والجبن، إنها مدرسة القرآن السماوية التي تخلق أمة صابرة في جنب الله، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، ولو أصاب بعضهم الوهن أو الخوف فهل هو من الفرقة والتشتت , الجواب لا، ولكنه مقدمة للفرقة وتكاسل أو قعود طائفة، أوسماع صوت النفاق.
التاسعة : أخبرت آية السياق عن قانون كلي بقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، فلا يتم تغيير السلطنة والشأن إلا بمشيئة من عند الله، ويحتمل بلحاظ قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] الوارد في آية البحث وجوهاً:
الأول : التباين الموضوعي فمنزلة العلو غير موضوع تصريف الأيام.
الثاني : يحصل تداول الأيام بين الناس من غير المسلمين وبما يتعارض مع بقاء المسلمين في مرتبة العلو ورفعة الشأن.
الثالث : تداول الأيام والحكم وأسباب الظفر شامل للمسلمين لإفادة الألف واللام في قوله تعالى[بَيْنَ النَّاسِ] الجنس والعموم، ولكن المسلمين يبقون في حال العلو وإن خسروا.
الرابع : إرادة الإطلاق والتقييد بالجمع بين الآيتين، والتقدير:وأنتم الأعلون إلا في حال دولة غيركم.
الخامس : استثناء المسلمين من الخسارة والذل إذا لم يهنوا ولم يحزنوا.
والصحيح هو الثالث وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( )، ليكون قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] هبة وفضلاً من عند الله على المؤمنين والناس جميعاً، بأن تسمو مرتبة المؤمنين ولا تتغير بتبدل السلطان وتصريف الأيام وتعاقب الدول ، لتكون هذه المرتبة علة إستدامة لسلطان ودولة الإسلام، وسبباً لزوال حكم الكفار، وهدم دولتهم من تحت أقدامهم بقبول الناس لمبادئ الإسلام وإقرارهم بوجوب عبادة الله.
العاشرة : كانت حال المسلمين والكفار عند القتال وفيما بعده على وجوه:
الأول : عدم وهن وضعف المسلمين مع إستحواذ الوهن والضعف على الكفار.
الثاني : استيلاء الحزن والكآبة على قلوب الكفار، بينما ينقطع المسلمون إلى الذكر ويلجأون إلى الإستغفار.
الثالث : المسلمون في مقامات العلو حتى عند تلقي الخسارة كما في معركة أحد، أما الكفار فانهم في حال من الذل والهوان، وتجلى بعدم تحقيقهم أي نصر في معارك الإسلام الأولى حتى قامت دولة الإسلام وانتشرت مبادئه بين القبائل، وتم فتح مكة عام ثمان للهجرة عنوة بعشرة آلاف مقاتل.
الرابع : تجلى مصداق آية البحث في السنة السادسة للهجرة إذ توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى البيت الحرام بقصد العمرة ومعه ألف وأربعمائة مسلم، وعجزت قريش عن البطش بهم وكان همها أن يعود في عامه ثم يأتي في العام التالي كيلا تقول العرب دخل مكة عنوة على قريش ولا يعلمون أنهم حجبوا عن أنفسهم التوبة والنجاة من الكفر في تلك السنة[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( )،
الحادية عشرة : جاءت آية البحث بصيغة الإطلاق في النهي من دون استثناء فليس من حال يكون فيها المسلمون بوهن أو خوف أو خور حتى في حال شدة القتال ورجحان قوة العدو وأهوال التقية، وجاءت آية السياق لبيان مصداق من الشدة التي يتعرض لها المسلمون لها فلا وهن وحزن في حال الخسارة مما يدل على لزوم إنتفاء الوهن والحزن عند المسلمين من باب الأولوية في أمور :
الأول : حال السلم.
الثاني : في الحضر.
الثالث : عند أداء الفرائض.
الرابع : عند الدعوة إلى الله.
الخامس : مواطن العبادة.
السادس : القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السابع : إظهار أداء التكاليف، ومن الإعجاز في المقام الإجهار في صلاة الصبح والمغرب والعشاء , فالأرض والفضاء والسماء ملك لله عز وجل وأراد سبحانه أن يتلى كلامه بين الناس , وهذا الجهر من أسرار قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بلحاظ أن الخلائق كلها تسمع الإنسان وهو يقرأ القرآن، وهذه القراءة شاهد على أهليته للخلافة، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثامن : تجلي معاني عز المسلمين في المساجد وعند الذكر والتسبيح.
التاسع : إنتفاء الوهن والحزن عند المسلمين في الأسواق والمنتديات.
العاشر : بعث السكينة في بيوت المسلمين والطمأنينة في نفوس النساء والصبيان ليتلقوا معجزات النبوة بالتدبر والتصديق.
الثانية عشرة : ينزل القرح والجرح بعدد وطائفة من المسلمين، أما عدم الوهن والحزن فهو صبغة تتغشاهم على نحو العموم الإستغراقي لتتغلب على الحزن المترشح عن الخسارة وسببها، ويكون فيها مواساة لذوي القلوب المنكسرة.
الثالثة عشرة : يأتي القرآن بلفظ الناس والخطاب لبني آدم جميعاً كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ]( )، بصيغ الإنذار والوعيد وبيان فضل الله على الناس ودعوتهم لعبادته وطاعته .
وجاءت آية البحث خطاباً للمسلمين بالزجر عن أمر قبيح ومذموم وهو الوهن والحزن في القتال وغيره، وجاءت آية السياق بذكر عدو المسلمين بلفظ (قوم) وهو جمع ليس له مفرد، ويراد منه الجماعة الذين يجمعهم أمر يقومون به، وخص بجماعة الرجال، وفي المقارنة بين المسلمين كأمة تتلقى الخطاب في آية البحث والكفار كقوم يذكرون بصيغة الغائب والإخبار عما يصيبهم من الخسارة والأضرار بيان للمائز والعز الذي يتصف به المسلمون، وفيه تخفيف عن المسلمين بوصف عدوهم بحال من القلة إلى جانب الخسائر التي أصابتهم.
وفيه شاهد على عدم جعل كثرة العدو هي الفيصل في القوة والضعف بل المدار على المنزلة والشأن والمقام وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين فهم(الأعلون) في حال السلم والحرب.
الرابعة عشرة : أخبرت آية السياق بأن الله عز وجل يريد ليعلم (الذين آمنوا) بالإبتلاء بالجروح والخسارة نية وقصداً وموضوعاً وغاية، أي تميز المعلوم بالإمتحان والإختبار، قال تعالى[الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] ( ).
الخامسة عشرة : يفيد الجمع بين الآيتين الملازمة بين أمور:
الأول : الإيمان بالله ورسوله وكتبه.
الثاني : مرتبة العلو بين الناس .
الثالث : الصبر في حال الشدة، وعدم التزلزل عند القتال.
الرابع : الأجر والثواب العظيم.
السادسة عشرة : أخبرت آية السياق بأن الله عز وجل يريد تمييز الذين آمنوا به وبرسوله وجاءت آية البحث بقانون كلي وهو علو ورفعة المسلمين من بين الناس، وفي الجمع بينهما أمور :
الأول : ترغيب الناس بالسعي لنيل مرتبة العلو وتلقي خطاب (وانتم الأعلون) بلحاظ أنه خطاب تشريف إنحلالي ينشطر بعدد المسلمين والمسلمات .
وصيغة المفرد منه للمذكر(وأنت الأعلى) وصيغة الخطاب للمسلمة(وأنتِ الأعلى) فكل من يدخل الإسلام يتوجه له الخطاب بالعلو والنهي عن الوهن والخوف.
الثاني : الوعد الإلهي بالبشارة للمسلمين الذين لا يخافون ولا يحزنون مع الخسارة التي يتكبدونها بسبب قتال الكفار لهم، إذ كان المسلمون في حال دفاع وصبر في مواجهة زحف جيوش قريش , ومن الصعب تصور زحف عشرة آلاف مقاتل قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة في أرض الجزيرة ووجود مثل هذا العدد وموافقتهم على الإشتراك في قطع نحو خمسمائة كيلو متراً للوصول إلى المدينة المنورة ومقاتلة المسلمين خاصة وأن المسلمين ليس عندهم أموال وغنائم يطمع بها الغازي , بالإضافة إلى إحاطة هذا الجيش للمدينة ومحاصرتها لثلاثة اسابيع وقيل أكثر وما يحتاجه هذا الجيش من المؤون وليس من خزينة وبيت مال ينفق عليهم إنما كان الإنفاق على الجيش من كبار رؤوساء قريش، وتحريض رجال من بني النضير لهم بعد أن أخرجهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لنقضهم العهد.
الثالث : دعوة المسلمين للثبات في ميدان المعركة من باب الشكر لله عز وجل على مرتبة العلو بين الناس.
الرابع : دعوة المسلمين ،للإعراض عن المنافقين وعدم الركون للظالمين, كما ورد بخصوص معركة أحد ومقدماتها بقوله تعالى[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]( )، لبيان حتمية الموت والأجل، وعجز الإنسان عن دفع الموت عن نفسه، وفيه درس للمسلمين والناس جميعاً بأن ترك القتال حباً بالبقاء في الدنيا وفراراً من الموت يحرم الإنسان من الخلود في النعيم , أما الكافر الذي يقاتل المسلمين فانه يختار الموت العاجل على الباطل ويبوء بالآثام فلذا أعد الله له عذاباً أليماً .
وفي سبب نزول الآية أعلاه، ورد عن السدي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا ، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم ، فلما غلبوه وقالوا له : ما نعلم قتالاً ولئن أطعتنا لترجعن معنا . فذكر الله . فهو قولهم : ولئن أطعتنا لترجعن ( ).
السابعة عشرة : جاءت آية البحث خاصة بالمسلمين وشأنهم وما يجب أن يكونوا عليه، أما آية السياق فانها تضمنت أموراً:
الأول : حال المسلمين وما يصيبهم في المعارك.
الثاني : الإصابة والخسارة التي تلحق الكفار.
الثالث : بيان قانون عام في الأرض وهو تعاقب الناس في الأرض، والولاية والسلطنة فيها ، وهو أعم في موضوعه من حال المسلمين والكفار.
الرابع : شهادة المسلمين على الناس جميعاً.
الخامس : بغض الله عز وجل للذين ظلموا أنفسهم باختيارهم الكفر.
الثامنة عشرة: كما تضمنت آية البحث الثناء على المسلمين بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] فان آية السياق تضمنت ثناءّ آخر وهو قوله تعالى [وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ] وفيه مسائل :
الأولى : إخبار الناس والملائكة بأن الله عز وجل يتخذ الشهداء من الأمة الأعلون الذين أطاعوا الله ورسوله .
الثانية : مرتبة العلو تأهيل وإصلاح للمسلمين للشهادة على الناس ، وليبلغوا بها منزلة وراثة الأنبياء ، قال تعالى [لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ).
الثالثة : بصيرورة المسلمين شهداء على الناس ينالون مرتبة العلو، فالشهادة في الدنيا تكون للعادل لأنها نوع وديعة , كما في قوله تعالى في الشهادة على الوصية [اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ] ( )، وفي الآخرة تكون للمسلمين لأنهم الأعلون .
التاسعة عشرة : بلحاظ تفسير معنى الشهداء في آية السياق بأنهم الذين يقتلون في سبيل الله كما ورد عن ابن عباس في الآية قال ( كانوا يسألون الشهادة ، فلقوا المشركين يوم أحد ، فاتخذ منهم شهداء ) ( ).
فان آية البحث تبعث السكينة في قلوب المسلمين وتدعوهم للصبر والرضا لأمر الله عز وجل ، وأن هؤلاء الشهداء يغادرون الدنيا من منازل العلو والرفعة ليلبثوا على نحو دائم في النعيم .
العشرون : أ ختتمت آية البحث بقوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] وفيه بلحاظ آية السياق وجوه :
الأول : إن كنتم مؤمنين ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ، أي بلحاظ قراءة ذات نظم الآيتين . فقد تجعل المصيبة الفرد والجماعة ينشغلون في أنفسهم أو يقوم العدو بأخفاء ما لحقه من الخسائر لمنع الشماتة ولتثبيط همة الذي يقابله .
فجاءت آية السياق بفضح الكفار والإخبار مما لحقهم من الأضرار خاصة في معركة أحد ، فقد غنم المسلمون من المشركين في معركة بدر ، واسروا منهم سبعين وافتدوا أكثرهم بالمال ، واطلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سراح بعضهم دون فداء أو عوض ، ومن ليس عنده مال من الأسرى أمره أن يعلم عشر من أولاد المسلمين القراءة والكتابة , وفيه شاهد على صدق نبوته لأنه يريد للمسلمين التدبر بمعجزات رسالته من مقام العلم والتحصيل .
وفضح وخزي الكفار عون للمسلمين لتلقي النهي عن الوهن والحزن الوارد في آية البحث بالقبول والإمتثال الأحسن في ذات الوقت الذي يكون فيه سبباّ لنزول الخسارة بالكافرين وإمتلاء نفوسهم باليأس والقنوط من غير أن يكن دور في المقام , للتباين الموضوعي في الأثر المترتب على كل منها .
الثاني :إن كنتم مؤمنين بأن لكم الأجر والثواب على ما لحقكم من الخسارة والقرح ، وليس من أجر أو ثواب للكفار على ما لحقهم ويحل بناديهم من الأضرار، قال تعالى [وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ]( ).
الثالث : إن كنتم مؤمنين بأن الله عز وجل يقلب الأيام بين الناس، ويجعل الحرب سجالاّ بين الأطراف المتقاتلة، وفيه موعظة وعبرة ودعوة للصلح والوئام، قال تعالى [الصُّلْحُ خَيْرٌ].
الحادية والعشرون :أختتمت آية البحث بصيغة الشرط، وإبتدأت آية السياق بذات الصيغة مع عدم وجود فاصلة لفظية بينهما[إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُه]( ). ويدل تعدد وتوالي صيغة الشرط في لفظ الخطاب للمسلمين على ارتقائهم الفكري وأنتم [الأَعْلَوْنَ] في الفقاهة والتدبر . الثانية والعشرون : من معاني قوله تعالى [إنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ] تسليم المسلمين بأن الله عز وجل يبغض الكفار الذين يقاتلون المسلمين لإيمانهم بالله عز وجل وإقامتهم الفرائض والمناسك .وهذا الإيمان واقية للمسلمين من الكفار وإن إستعرضوا قوتهم وأظهروا العناد والتحدي ، ولو خالف المسلم وأصابه الوهن والحزن عند الخسارة والمصيبة فهل يكون من الظالمين الذين لا يحبهم الله . الجواب لا , لإرادة الكفار في خاتمة آية السياق وغضب الله عز وجل عليهم ، ومن ظلمهم أن ادخلوا الوهن والحزن إلى نفوس المسلمين في حال حصوله وثبت ظلمهم ولو بادخال مسمى الألم إلى نفوس المسلمين كما في قوله تعالى [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ]( ). الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( ) وفيه مسائل : الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه : الأول : ولا تهنوا ليمحص الله الذين آمنوا . الثاني : ولا تحزنوا وليمحص الله الذين آمنوا . الثالث : وانتم الأعلون ليمحص الله الذين أمنوا . الرابع : ولا تهنوا ولا تحزنوا ويمحق الكافرين . الخامس : وانتم الأعلون ويمحق الكافرين . السادس : ليمحص الله الذين آمنوا إن كنتم مؤمنين . السابع : ويمحق الكافرين أن كنتم مؤمنين . الثانية : جاءت آية السياق بصيغة الجملة الخبرية , وهي من سياق ونظم آيات الخطاب للمسلمين بدليل إبتدائها بحرف العطف (الواو) . الثالثة : يفيد الجمع بين آية البحث والسياق بيان المائز بين المسلمين والكفار من وجوه : الأول : عدم وهن وحزن المسلمين عند الخسارة مناسبة لغفران ذنوبهم . الثانية : فيه شاهد على صدق إيمان المسلمين . الثالث : تنزية المسلمين عن النفاق والرياء وطلب الدنيا والغنائم عند القتال وخوض معارك المسلمين . وعن سهل بن سعد الساعدي : إن رسول الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِلَى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أَنَا صَاحِبُهُ. قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ قَالَ فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ قَالَ الرَّجُلُ الَّذِى ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ. فَقُلْتُ أَنَا لَكُمْ بِهِ. فَخَرَجْتُ فِى طَلَبِهِ، ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِى الأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)( ). الثالثة :لما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض قال سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ). فلاذوا بالعرش مستغفرين مسبحين، ومن علم الله عز وجل أنه جعل المسلمين هم الأمة الأعلون , وهذا العلو بقيد بالإيمان وليس بقيد مذهب أو نسب أو قومية أو جامع مشترك آخر، قال تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ). ومرتبة العلو هذه تمحيص للناس وتمييز بين أهل الإيمان والكفر . الرابعة : تضمنت آية البحث النهي عن الوهن والضعف والحزن وجاءت آية السياق بصيغة الترغيب والبعث على تقيد المسلمين بهذا النهي لأنه من مصاديق تمحيص المسلمين وتنقية نفوسهم وحثهم على الإخلاص في طاعة الله عز وجل . ليكون من إعجاز القرآن مجئ الآية بالنهي ومجئ آية بعدها بالمدد والعون للعمل بهذا النهي بشوق ورغبة . الخامسة : آية البحث معطوفة على الآيات السابقة وتشترك معها بصيغة النداء بصبغة الإيمان التي وردت قبل بضع آيات [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ). ليكون تقدير آية السياق ليمحصكم الله بعدم الوهن والحزن وفيه دعوة إضافية للمسلمين للتنزه عن الوهن والضعف والجبن أو ظهور آثار الحزن والحسرة عليهم. السادس : ذكرت آية السياق اسم الجلالة [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ] ولم يرد اسم الجلالة في آية البحث ولكنه ظاهر في معناها ومفاهيمها وتقدير آية البحث على وجوه : الأول : ولا تهنوا في طاعة الله وقتال الكفار . الثاني : ولا تحزنوا مما أصابكم من خسارة في جنب الله . الثالث : وأنتم الأعلون بفضل الله . الرابع : إن كنتم مؤمنين بأن ما يصيبكم بأمر الله ، وفي التنزيل [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ). وفي تقييد الآية أعلاه بتسليم المسلمين بولاية ونصر الله لهم شاهد بأن الذي يصيبهم هو خير محض ونفع لهم في النشأتين . السابعة : أختتمت آية البحث بالمسلمين موضوعاّ وحكماّ ، أما آية السياق فهي أعم إذ ذكرت المؤمنين والكافرين مع التباين الموضوعي بينهما، بإخبارها عن تنقية المسلمين وإبتلاء ونقص الكافرين ، ليتلقى المسلمون ضروب التمحيص من الجروح والخسارة وإستشهاد بعضهم بالقبول والرضا والإسترجاع والشكر لله تعالى. الثامنة : تحتمل الصلة بين النهي عن الوهن والحزن وبين تمحيص المؤمنين وجوهاّ : الأول : ليس من صلة بين الأمرين . الثاني : الزجر عن الوهن والخوف من مصاديق تمحيص وتمييز الذين آمنوا . الثالث : عدم الوهن والخوف مقدمة للتمحيص وطريق له ، بدليل مجئ لام الصيرورة والعاقبة في قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ] الرابع : عدم الوهن والخوف ذاته هو التمحيص وحال تمييز المؤمنين . والصحيح هو الثاني والثالث ليكون المعنى على وجوه : الأول : عدم الوهن والضعف تمحيص للمؤمنين عند الشدائد وكفارة لذنوبهم . الثاني : العصمة من الوهن والضعف مقدمة لأفراد ومصاديق أخرى من التمحيص والتمييز وضروب الفوز العظيم . الثالث : صبر وامتناع المسلمين عن الحزن عند المصائب من مصاديق التمحيص والإختبار والتوفيق . الرابع : دفع المسلمين للحزن عن نفوسهم ومجتمعاتهم عند نزول البلاء وشدة الخسارة مقدمة للتوفيق والفلاح في مصاديق أخرى من التمحيص وهل هناك ضروب من التمحيص تساعد المسلمين على الإمتثال للنهي المتعدد الوارد في آية البحث الجواب نعم , وتقدير الجمع بين الآيتين وليمحص الله الذين آمنوا فلا يهنوا ولا يحزنوا . التاسعة : لقد أراد الله عز وجل للمسلمين النماء وزيادة القوة والمنعة فنهاهم عن الوهن والحزن وهو سبب لنقص وكف الكافرين . وتتجلى آثار ومنافع مواظبة المسلمين على أداء الفرائض والعبادات وثباتهم في مواطن القتال من وجوه : الأول: تفكك جيش المشركين وأصابتهم بالفزع وتجلى في معركة أحد بانسحابهم المفاجئ مع كثرتهم وقلة خسائرهم بالقياس إلى معركة بدر . الثاني : بعث الفرقة بين الكفار ، وتعدد وتشتت أقوالهم . الثالث : تدبر الناس في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جعلت المسلمين ينقطعون إلى العبادة المشتركة التي تترشح عنها معاني الوحدة والفداء , وهل أداؤهم للفرائض وذكرهم الله من مصاديق قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] ( )الجواب نعم . وهو مناسبة للفوز بالعفو ومحو الذنوب ، (عن ابن عباس قال : جاء جبرئيل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد قل سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوة إلا بالله عدد ما علم و زنة ما علم و ملء ما علم فإن من قالها كتب الله له بها ست خصال كتب من الذاكرين الله كثيرا و كان أفضل من ذكره بالليل والنهار وكان له غرسا في الجنة و تحاتت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة و ينظر الله إليه ومن نظر الله إليه لم يعذبه)( ). العاشر :من معاني الجمع بين الآيتين أن أيام صبر وجهاد تنتظر المسلمين يكون فيها تمحيص وتجهيز لأهل التقوى وفضح للنفاق والمكر ودحض الباطل لذا يكون قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] نوع وصية وتحذير لهم كما لو يقال لهم : إستعدوا لما هو أكبر، فان إنشغالهم بالخوف والخسارة الآنية يضر في مواجهتهم الكبرى القادمة مع الكفار ، وتجلى هذا الأمر حقيقة في مضاعفة أعداد المشركين في كل مرة يهجمون بها على المسلمين فكان عددهم في معركة بدر ألف رجل وبعدها بأحد عشر شهراّ جاءوا بثلاثة آلاف فكانت معركة أحد وبعدها بأقل من سنتين جاءوا بعشرة آلاف رجل ، ومع جمع الكفار هذا العدد واقعا فمن الصعب تصور كيفية جمعه آنذاك من جهات : الأولى :إجتماع هذا الجمع على الباطل . الثانية : إتفاقهم على مخالفة الحق بعد تجلي معجزات النبوة وشيوع آيات القرآن ، ونقل الركبان لها وبلوغها أطراف الجزيرة وتلاوة ربات الحجال( )،لها في خدورهن خفية عن أزواجهن أو بعلم منهم . الثالث : قلة عدد نفوس سكان الجزيرة آنذاك للقحط وانعدام الأنهار والزراعة فيها . ولشيوع حال الغزو والثأر والسبي ووأد البنات إذ يؤدي هذا الوأد إلى قلة النساء الحوامل ومن الحكمة والإعجاز في شريعة الإسلام بتعدد الزوجات عزوف عن وأد البنت ومنع من التشاؤم بولادة البنت لأنها تجد طريقها إلى النكاح والإنجاب ، وتكون عوناّ للأب والأسرة . وفي محاربة وتحريم الوأد شاهد على صدق نبوه محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتوجه الناس للتدبر بالمعجزات التي جاء بها , قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْبِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ).
وحاجة المسلمين والناس إلى الإنجاب وتعاهد رزق الله وكرمه في ولادة الأنثى أو الذكر .
الرابع : كثرة نفقات هذه الآلاف من أفراد الجيش وليس من بيت مال عند المشركين أو دولة تجمع الضرائب وتمسك سجلات الإيرادات والإنفاق ، فكان بعض وجهاء قريش يتكفلون إطعام الجيوش التي إجتمعت من قبائل شتى .
الخامس : إنعدام الطمع في الحصول على الغنائم عند المسلمين ، إذ أنهم لا يملكون إلا نفوساً مؤمنة زاهدة في الدنيا وشوقا للقتل في سبيل الله وإيمانا بأنه حياة أبدية .
الحادية عشرة : من صيغ التخفيف عن المسلمين أن الله عز وجل هداهم للتقوى وإجتباهم لوراثة الأرض وجعلهم بمرتبة العلو بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] وفيه وجوه :
الأول: الملازمة بين الإيمان ومرتبة العلو .
الثانية : إرتقاء المسلمين في سلم العلو والرفعة عند التوفيق في ضروب التمحيص والإبتلاء .
الثالثة: إجتياز المسلمين لصنوف التمحيص والابتلاء التي يتعرضون لها.
الرابعة : الوعد من عند الله بأن التمحيص والإبتلاء لا يضر بالمسلمين في درجات العلو التي نالوها بهدايتهم للإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : صلة هذه الآية بقوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] ( )وفيه مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الاول :ولا تهنوا أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين …)
الثاني : ولا تحزنوا أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين ..)
الثالث : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم وانتم الأعلون .
الرابع : وانتم الأعلون ويعلم الصابرين .
الثانية : إتحاد لغة الخطاب في كل من آية البحث والسياق إذ يتوجه الخطاب فيها للمسلمين .
الثالثة : جاءت آية البحث بصيغة النهي وفيما يتعلق بحال المسلمين في الدنيا ، وموضوع آية السياق هو الآخرة وحسن عاقبتهم فيها .
الثالثة : تتضمن كل من الآيتين الإنباء والخبر والحديث عن مستقبل حال المسلمين .
أما في آية البحث فهو ظاهر بصيغة المضارع ولا تهنوا ولا تحزنوا أي في قادم الأيام وما سيلاقيكم ، أما في آية السياق فمن وجوه :
الأول : صيغة الإستفهام الإنكاري وما فيها من البعث على الفعل بلحاظ كبرى كلية وهي إستمرار تعدي المشركين على المسلمين .
الثاني: أداء النفي (لمّا ) وبينها وبين (لم) عموم وخصوص مطلق لأن المراد من (لم) نفي الفعل في الماضي في مقابل لن التي تنفيه في المستقبل ، أما (لما )فتجعل إتيان الفعل في المستقبل أمراً معلقاً ومحتملاً .
وأدوات النفي هي لم ،لما ، لن ، ما ،ليس ، إن ، لا ،لات .
و(لم) ينفي وقوع الفعل المضارع في الزمن الماضي ، ويجزمه كما في قوله تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ] ( )
واغلب ما جاء (لم) في القرآن بصيغة الإنكار وبالإتصال مع حروف أخرى كما في قوله تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا]( ) [ أَوَلَمْ يَسِيرُوا]( ) [ أَلَمْ تَرَى]( ).
أما لما فانها تشترك مع ما بأمور:
الأول : الدخول على الفعل المضارع.
الثاني : جزم الفعل المضارع.
الثالث : نفي حدوث الفعل في الزمن الماضي والى حين التكلم وتنفرد بأمر وهو توقع حدوث الفعل المستقبل كما في قوله تعالى في ذم الكفار[لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ]( ).
وقد تقدمت الإشارة إلى ضرب آخر من (لما ) وهي الحينية أي بمعنى حين في تفسير قوله تعالى [وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا] ( )
وفي آية السياق دعوة للمسلمين للمواظبة على الجهاد والصبر في مرضاة الله سبحانه.
الرابعة : يفيد الجمع بين الآيتين بأن عدم الوهن والخوف طريق إلى دخول الجنة ويكون كل من عدم الوهن والحزن بلحاظ آية السياق على وجوه :
الأول : إنه من خصائص الذين يسعون إلى اللبث الدائم في النعيم .
الثاني :هو من الجهاد في سبيل الله بلحاظ قصد القربة في طرد الوهن والحزن من النفس وهيئة الجماعة والجيش .
الثالث: إنتفاء الضعف والقنوط واليأس من النفس ، ومجاهدة الحزن ومنعه من الإستحواذ عليها من مصاديق الصبر في مرضاة الله .
الخامسة : يفيد الجمع بين الآيتين أن نهي المسلمين عن الوهن والضعف والجبن في آية البحث إمتحان وإختبار لغرض كريم وهو دخول الجنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ]( ).
السادسة : ترغيب المسلمين بالثبات والمنعة وبعث النفرة في نفوسهم من الوهن والحزن .
السابعة : مناجاة المسلمين في طرد الوهن والحزن فقد يكون برزخاً دون الثواب العظيم في الآخرة .
الثامنة : لابد من إقتراب مرتبة العلو بين الناس بالجهاد والصبر في طاعة الله ، وتتضمن كل من الآيتين الإشارة إلى مواجهة المسلمين المشاق والصعاب في بناء صرح الدولة الإسلامية وإعلاء كلمة التوحيد والعمل بأحكام الشريعة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ () الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
إعجاز الأية
هذه الآية دعوة للناس لدخول الإسلام من جهات :
الأول :بيان حسن سمت المسلمين .
الثاني : خلو معسكر المسلمين من حالات الخوف والفزع .
الثالث : تجلي السكينة والطمأنينة على المسلمين في حاله الحرب والسلم .
الرابع :إزدهار الإقتصاد الإسلامي إذ أن الخوف والفزع سبب للإرباك الخاص والعام وتنعكس سلامة المسلمين منه في عمارة أسواقهم وكثرة الجلب والسماحة في البيع والشراء .
الخامس :قيام الكافر بالمقارنة بين حاله وما يصير إليه من الإضطراب وبين حال العز التي يرفل بها المسلمون .
السادس : تجلي معاني السعي للآخرة عند المسلمين وانهم يجتنبون الوهن ويمتنعون عن الحزن بسبب رجائهم الثواب العظيم عند الله ، وتتجلى بعدم الوهن والحزن عند المسلمين معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وآية البحث حرب على طول الأمل وشدة التعلق بالدنيا ومناسبة ووثيقة سماوية لإدراك المسلمين بان الدنيا تطلب بحسن النية في عمل الآخرة وفيها تنزه من إرتهان الأبدان بالشهوات .
لقد نال المسلمين القتل والجرح يوم أحد، بخلاف ما حصل من النصر الجلي يوم بدر , فجاءت المواساة من الله عز وجل بزجر المسلمين عن الوهن والمنع من الحزن وإظهار الحسرة وليس في التأريخ صيغة جهادية تتقوم بالحث على الصبر في أوان المصيبة بعدم الوهن والحزن الذي يدل بالدلالة التضمنية على وجوب التهيئ والإستعداد للقادم من الأيام الجهادية وسبل الدفاع عن الإسلام، أي أن عدم الوهن والحزن غير مطلوب بذاته فقط بل هو وسيلة ومقدمة لتحقيق النصر والغلبة في معارك الإسلام القادمة، ومن يبكي على الأطلال يقتبس من سنخيتها وجاءت الجملة الحالية[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]، لإعانة المسلمين على عدم الوهن والحزن، وللبشارة بالنصر والظفر على الأعداء، ولتأكيد قانون وهو أن نيل هذه المنزلة طارد للوهن، وهو أمر تهون معه المصائب والشدائد وكأن الآية تقول أن المدار على العواقب، وأنها لكم ولدوام نعمة الرفعة والعلو التي فضلكم الله بها.
ومن إعجاز الآية الشهادة للمسلمين بأنهم الأعلى على الناس وبلغة الإطلاق وفيه بلحاظ النهي الوارد في أول الآية أمور:
الأول : بعث حال والمنعة في نفوس المسلمين.
الثاني : إدراك المسلمين لنصرهم وغلبتهم في القتال.
الثالث : بيان التباين والتضاد بين الوهن والضعف والجبن من جهة وبين علو المنزلة والرفعة من جهة أخرى، فالذي يكون عالياً في منزلتهم في الدنيا لا يخشى عدوه الذي هو أدنى منه.
الرابع : تحلي المسلمين بصفة عدم الوهن والضعف سبب لنيلهم مرتبة العلو ورفعة الشأن.
الخامس : إتخاذ المسلمين عدم الوهن والجبن سبيلاً لمراتب من السمو منها:
الأولى : العلو في مقدمات القتال، فإن قلت إن الكفار في بدايات الإسلام هو الأكثر عدداً وعدة، فمثلاً زحفت قريش في معركة بدر بنحو ألف من الرجال ومعن سبعون فرساً بينما كان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر وعندهم فرسان.
الجواب تفيد آية البحث أن العلو ليس بالكثرة وحدها إنما بحال العز والمنعة التي يتفضل بها الله عز وجل.
الثانية : العلو في أداء الفرائض العبادية من غير خوف أو وجل.
الثالثة : العلو بالتصديق بالنبوة، قال تعالى[وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
الرابع : لا يبغي المسلمون العلو في الدنيا إنما يسعون للآخرة ببذل المال والنفس والإجتهاد في طاعة الله فتنقاد لهم الدنيا.
الخامس : أنتم الأعلون في نفوس الناس عامة والكفار خاصة.
السادسة : مصاحبة المدد للمسلمين في قتالهم ليحصل معه التباين بين مراتب العلو والغلبة التي عليها المسلمون ومراتب الذل والخزي والهزيمة التي عليها الكفار، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
السابعة : المسلمون هم الأعلون ما بعد إنقضاء المعركة بالنصر والغلبة مع قلة العدد والعدة.
وإذا جاءت الآية بالنهي عن الوهن والحزن فإن آيات أخرى جاءت بالثناء على المسلمين والشهادة لهم بعدم الخشية من القوم الظالمين، قال تعالى في الثناء على المسلمين[يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ]( ).
وأخرج ابن عساكر في تأريخه عن سهل بن أسعد الساعدي بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أنا، وأبو ذر، وعبادة بن الصامت، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، وسادس، على أن لا تأخذنا في الله لومة لائم، فأما السادس فاستقاله فأقاله)( ).
وتتضمن الآية في دلالتها النهي عن:
الأول : مقدمات الوهن.
الثاني : مقدمات وأسباب الحزن.
الثالث : خصوص الوهن للضعف الذي يؤدي إلى الحزن.
الرابع : النهي عن الحزن الذي يقود إلى الوهن.
الخامس : الآثار السلبية المترتبة على الوهن.
السادس : الأضرار النفسية والسياسية والإقتصادية المترتبة على الحزن، ورشحاته في باب العقود الشخصي والنكوص.
وبعد إنتهاء معركة أحد نادى أبو سفيان من طرف المشركين، بأعلى صوته يسمع المسلمين في كلام أعلى هبل( )، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال قولوا: الله أعلى وأجل قال: إن لنا العزى( ) ولا عزى لكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم)( ).
لقد خاض المسلمون معركة بدر وأحد وتحملوا الخسائر ولحقهم الضرر ففي معركة أحد قتل سبعون من الأنصار ، وخمسة من المهاجرين هم : حمزة بن عبد المطلب عم النبي ومصعب بن عمير حامل راية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعبد الله بن جحش( ) وعثمان بن شماس ، وسعد مولى عقبه ، فجاءت آية البحث لتتضمن أموراً :
الأول : النهي عن الضعف والقعود عن قتال العدو .ليبعث هذا النهي وما ترتب عليه من الأثر الرعب في قلوب المشركين والمنافقين ويكون من أسباب الحيرة والفزع الذي استولى عليهم يوم الخندق بخشيتهم من إقتحام المدينة المنورة .
إن رجوع المشركين خائبين من غزوة الأحزاب مع أن عددهم عشرة آلاف مقاتل من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمدد الذي يتجلى في هذه الآيات ، التي هي من الحرب النفسية على الكفار ، ومن أسباب القوة والمنعة عند المسلمين حقيقة وليس مجازاً .
الثاني : التذكير بفضل الله على المسلمين وأنهم الأعلى في الشأن والأقرب إلى النصر .
الثالث : بلوغ المسلمين مرتبة علو الشأن باختيار الإيمان ، وفيه تذكير بان المدار ليس على الربح والخسارة في المعركة بل على الإيمان الذي لا ينفك عنه العلو والرفعة في الدنيا والآخرة .
الرابع : الإطلاق في إيمان المسلمين وعدم انحصاره بموضوع أو حكم خاص وحينها قال الله عز جل للمسلمين [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا]فهل هيئ لهم أسباب التنزه عن الوهن والحزن ، الجواب نعم ، وتلك آية في الربوبية المطلقة لله عز وجل وإقتران الرحمة والفضل الإلهي بها ، فينهى الله عز وجل عن فعل ويأتي المدد منه تعالى لأعانتهم على الإمتثال ، وكذا بالنسبة للأوامر الإلهية ففي التكاليف العبادية كالصلاة والصوم مشقة وعناء ولكن المدد الإلهي يملأ النفوس ويتغشى جماعات المسلمين فتكون سهلة ويكون من مقدمات الشوق إليها ، قال تعالى في وصف الصلاة [وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
ولو طرأ أمر إضافي وحصلت خسارة كبيرة عند المسلمين وزهوق بالأرواح وجراحات عديدة فهل يبقى ذات المدد الإلهي وأثره أم أن أثره يقل ويضعف .
الجواب هو الأول وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ]( ).
ومن مصاديق هذا الباب أن المسلمين لم يخسروا معركة من معارك الإسلام الأولى ، بدراً وأحداً والخندق والأحزاب ، ولم ترجع السرايا التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالظفر والأمن والسلامة .
وجاءت الآية بنهيين أحدهما يتعقب الآخر بقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا][ وَلاَ تَحْزَنُوا] وليس بينهما فاصلة، وفيه شاهد على أن المسلمين يستطيعون الإمتثال لهما في آن واحد، فيمتنعون عن الوهن والضعف وعن الحزن واللوعة والأسى على فاتهم من الغنائم وعلى مالحقهم من الخسائر.
وتحتمل النسبة الزمانية بين موضوع عدم الوهن والحزن وجوهاً:
الأول : نسبة التساوي فموضوعها واحد.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وأحدهما أعم من الآخر.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، أي أن بينهما مادة للألتقاء والآخرة للإفتراق.
الرابع : التباين والإختلاف.
والصحيح هو الأخير، فموضوع عدم الحزن هو الزمن الماضي وما لحق المسلمين فيه من الخسارة، أما موضوع عدم الوهن فهو الحاضر والمستقبل وملاقاة المشركين.
والنسبة بين العمل والإمتثال لمضامين الآية من عدم الوهن والحزن هي التساوي لأن المقصود إستقبال الأيام وعالم الأفعال بعدم الوهن والحزن.
أما النسبة بين ماهية كل منهما فهي العموم والخصوص المطلق، إذ أن عدم الوهن أعم في كيفيته إذ يشمل الكيفية النفسانية والترجل في الخارج في الأفعال على الجوارح والأركان، أما الحزن فهو حال من الحسرة والأسى في النفس، إذن لماذا قدمت الآية الأعم الجواب من وجوه:
الأول : حاجة المسلمين إلى عدم الوهن والضعف.
الثاني : بين موضوعية عدم الوهن.
الثالث : دعوة المسلمين للتفقه في الدين ومعرفة الأولى.
الرابع : قاعدة تقديم الأهم على المهم.
ومن اعجاز آية البحث إختتامها بقوله تعالى[إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ) وفيه تذكير للمسلمين بخصائص الإيمان وتاكيد حقيقة وهي إتصال الخطاب بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
إذ تتصل به آية البحث والآيات السابقة لها بلحاظ إتحاد جهة الخطاب وأن الموجه لهم الخطاب ذاتهم في هذه الآيات ومع هذا أختتمت هذه الآية بصيغة الشرط في بلوغ مرتبة الإيمان للتأكيد بأن المعنى إن كنتم مؤمنين بأن الغلبة لكم والنصر حليفكم.
الآية سلاح
تتعدد وظائف المسلم مع نطقه بالشهادتين تأتيه الأوامر والنواهي على نحو دفعي وتدريجي وهو من أسرار نزول آيات القرآن نجوى وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة منها ثلاث عشرة سنة في مكة قبل الهجرة وتسمى السور التي نزلت في تلك المدة السور المكية ، وعشر سنين في المدينة المنورة، والسور التي نزلت فيها هي السور المدنية ، فيكون المسلمون بلحاظ العمل وفق زمان التنزيل على أقسام :
الأول : الذين صاحبوا التنزيل من أول أيامه وعن عفيف بن قيس قال: أنا عند العباس بن عبد المطلب بمنى فاتاه رجل مجتمع فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم قام يصلى فخرجت امرأة فتوضأت وقامت تصلى ثم خرج غلام قد راهق فتوضأ ثم قام إلى جنبه يصلى فقلت ويحك يا عباس ما هذا قال هذا ابن أخى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله بعثه رسولا وهذا ابن أخى علي بن أبى طالب قد تابعه على دينه وهذه امرأته خديجة ابنة خويلد قد تابعته على دينه قال عفيف بعد ما أسلم ورسخ الاسلام في قلبه يا ليتنى كنت رابعا ( ).
الثاني : الذين دخلوا الإسلام قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء من أهل مكة او من أهل يثرب أو غيرها ، فقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى القبائل ووفود الحاج في موسم الحج ويخرج إلى أسواق العرب وإلى عرفة ومنى يدعوهم للإسلام وعبادة الله ونبذ الشرك والأوثان ومنها إستماع بيعة الأنصار في موسم الحج وهي على أقسام:
الأول : إنصات وفد يثرب للحج إلى دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الحادية عشرة للمبعث أي في السنة الثالثة قبل الهجرة ، فآمنوا بدعوته وعادوا إلى قومهم .
الثاني : بيعة العقبة الأولى في السنة الثانية عشرة للبعثة النبوية أي (2 ق .هـ )وفد إلى الحج اثنا عشر رجلاً من يثرب ، عشرة من الخزرج ، واثنان من الأوس وكانت العرب تسمى الخزرج والأوس خزرجاً والتقوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند العقبة وبايعوه على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يقدمونه من بين أيديهم ومن خلفهم ، وأن لا يعصوه في معروف وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنَّةُ وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَكُمْ)( ).
وليس في هذه البيعة إشارة إلى القتال والدفاع وفيه دلالة على أن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كان دفاعاً عن الإسلام وعن النفس والعرض والمال كما تدل عليه الوقائع التأريخية وآيات القرآن، والقطع بأن قريشا هم الذين زحفوا لوأد ديانة التوحيد التي أراد الله عز وجل لها السيادة في الأرض إلى يوم القيامة، وقيل أنهم ( بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب)( )، وتسميتها بيعة النساء ليس بتام بلحاظ ما فيها من شرائط جهادية ولأنهم بهذه البيعة واجهوا عتاد قريش وعرضوا أنفسهم وأموالهم للهلكة .
وتلك البيعة من مصاديق خلو قلوب الأنصار من الوهن والخوف من المشركين وسلامتها من الحزن على ترك مفاهيم الشرك والضلالة وإحتمال تلقي الأذى والضرر من قومهم ومن قريش , وأرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معهم إلى يثرب مصعب بن عمير يعلمهم أحكام الإسلام ويدعو الناس إلى طاعة الله ورسوله فاسلم الطفيل بن عمرو وهو سيد قبيلة دوس وقام يدعو قومه إلى الإسلام فدخلوا جميعاً في الإسلام .
الثالث : بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة للبعثة أي (ق .هـ ) وجاء من المدينة سبعون مسلماً ومعهم امرأتان وهما نسيبة بنت كعب أحدى نساء بني النجار أخوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسماء بنت عمرو من بني سلمة وهي أم منيع من أصل وفد الحاج القادم من المدينة وعددهم ثلاثمائة وقيل أكثر .
وكان معهم مصعب بن عمير فواعدوا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق )( ).
ولما مضى ثلث الليل خرجوا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستخفين من قومهم المشركين ، وحضر مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس وان لم يسلم ولكنه أراد أن يتوثق له من الأنصار ويأخذ عليهم العهود في حفظ النبي ومنعه إذا خرج اليهم ، ولم تمر إلا ثلاث سنوات حتى يأتي أهل بيعة العقبة بالعباس موثقاً أسيراً في معركة بدر ليتجلى ترشح العز عن الإسلام والتقوى ،قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
وبينما كان الأوس والخزرج يتقاتلون واتحدوا في نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، ووقع بينهم يوم بعاث نسبة الى موضع بهذا الاسم قتال شديد قبل قدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنوات، وبالتذكير بالسلامة منه ومن تجدد حدوثه نزل قوله تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً]( )، أي كان يقتل بعضهم بعضاَ فجاءت الهجرة النبوية ليكونوا يداً واحداً في نصرة النبي وقتال أعدائه، وهل كان الأوس والخزرج يرجون مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم ليصلح بينهم الجواب نعم.
وقد آخى وجمع بينهم الإسلام وتدل بيعة العقبة الأولى والثانية على أن المسلمين لم يهنوا من الأصل وكانوا يتحدون مجتمع الشرك والضلالة ليس في مكة وحدها ، بل في يثرب وعند القبائل التي تحيط بكل من المصرين .
إن بلوغ المسلمين عدم الوهن والحزن من مصاديق إستجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم عليه السلام كما ورد في التنزيل [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا]( ).
فكان عدم الوهن هذا سبباً لنشر الأمن ، وذات الأمن طريق وسبب لبلوغ المسلمين مرتبة عدم الوهن والحزن ، فتنزل الآية القرآنية لتكون ضياءً يهدي إلى سبل الرشاد ويكون حال الناس وعاءً مناسباً للعمل بمضامين الآية القرآنية .
ومعاني السلاح في الآية على أقسام :
الأول : إتخاذ المنعة والسلامة من الضعف وسيلة لمواجهة الأعداء .
الثاني : بقاء المسلمين في حال يقظة وحيطة من العدو فيعجز عن مهاجمتهم في النهار ومباغتتهم في الليل . وهو الذي تجلى في معركة الخندق ، إذ خشى كفار قريش الهجوم حتى في وقت السحر لأن المسلمين محترزون ولم يظهر عندهم وهن أو خور أو جبن .
الثالث : إمتناع المسلمين عن اللوعة وشدة سلطان الحزن على القلب .
الرابع : دعوة المسلمين للتنزه عن داء الحرص والشح .
الخامس : وحدة المسلمين ونبذهم الخصومات والخلافات القبلية وتركهم للفوارق في النسب ،والحرية والرق ، فالجامع بينهم هو الإيمان بالله والتصديق بنبوه محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : من عدم الوهن بخصوص الأنصار إكرامهم للمهاجرين القادمين من مكة وإيثارهم على أنفسهم ، وقد أثنى عليهم الله عز وجل بقوله [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ]( ).
السابع : تلقي المسلمين الشهادة من عند الله بأنهم [الأَعْلَوْنَ] وهو خير ونفع لهم من جهات :
الأولى : إنه حرز في الدنيا من وجوه :
الأولى : التمسك بمبادئ الإسلام .
الثانية : عدم طرو الشك على نفوسهم ، وهذا الشك من مصاديق وأسباب الوهن والضعف والحزن ، ليكون من إعجاز الآية النهي عن المقدمات والعلل التي تؤدي إلى الضعف والحزن .
الثالثة : صحيح أن الآية جاءت بصيغة النهي إلا أنها أمر وجودي وتكليف في الكيفية النفسانية وعالم الأفعال .
مفهوم الآية
إبتدأت الآية الكريمة بالعطف على الآية السابقة، ليكون من مفاهيمها لزوم موضوعية مضامين الآية السابقة عند تفسير هذه الآية لما للعطف بين الآيتين من الدلائل.
ويكون تقدير العطف بين الآيتين على وجوه:
الأول : ولا تهنوا هذا بيان للناس ) ليعلم أهل الملل والنحل أموراً:
الأول : عزم المسلمين على الجهاد وصبرهم في ميادين القتال بأمر من الله عز وجل.
الثاني : ليس للمسلمين التولي والفرار في القتال , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ) .
وروي أن هذه الآية خاصة بأهل بدر لأنه ليس من فئة يرجعون إليها إن إنسحبوا لواذا من المعركة، وأخرج أحمد عن أبي اليسر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات السبع يقول : اللهم إني أعوذ بك من الهرم ، وأعوذ بك من الغم والغرق والحرق ، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت ، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً ، وأعوذ بك أن أموت لديغاً( ).
الثالث : يتلقى المسلمون الأوامر من عند الله عز وجل في حال السلم والحرب.
الرابع : حسن إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية.
الخامس : إدراك الناس لقانون ثابت وهو الملازمة بين طاعة الله والنصر.
السادس : إتصاف المسلمين بخصلة ينفردون بها.
وتؤسس الآية لقانون (عدم الوهن) ليصاحب المسلمين في الحضر والسفر، والسلم والحرب، ويترتب عليه تعيين لصيغ من الأفعال التي تكون مقدمة له لوجوب المقدمة لوجوب ذيها، وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول : الوهن متأصل عند الإنسان.
الثاني : إنفراد المسلمين بالتنزه عن الوهن.
الثالث : يداهم الوهن المشركين مجتمعين ومتفرقين.
والصحيح هو الثاني والثالث.
الثاني : تقدير الجمع بين الآيتين: ولا تهنوا هدى وموعظة للمتقين، وفيه مسائل :
الأولى : المسلمون أئمة في مسالك الجهاد.
الثانية : إقتداء أجيال المسلمين، بأهل البيت والصحابة في عدم الوهن في مواجهة الكفار ويتجلى المصداق العملي في تحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته أشد صنوف الأذى من قريش، وصبر المسلمين الأوائل في معركة بدر وأحد والأحزاب مع قلة عددهم ومؤونهم.
الثالث : من أسباب الهداية رؤية الناس للمسلمين وهم في حال عصمة من الوهن والخوف والضعف.
ومن الإعجاز في صيغة العطف بين هذه الآية والآية السابقة أن عدم وهن المسلمين هدى لهم بالذات، ومن وجوه الهدى في المقام أمور:
الأول : الهدى باجتناب الوهن قربة إلى الله عز وجل.
الثاني : الإهتداء إلى سبل وكيفية عدم الوهن.
الثالث : الهدى بالتوبة من الوهن والضعف.
الرابع : إقتران زيادة الإيمان بعدم الوهن.
الخامس : من مصاديق الهدى التفقه في الدين وعدم الوهن مقدمة ووعاء وطريق إليه، ومن معاني آية البحث عدم الوهن في طلب المسلم للفقاهة في أحكام الشريعة.
السادس : حينما يتجنب المسلمون الوهن طاعة لله، يدركون حقيقة وهي حضور المدد الإلهي في تقريبهم من منازل المنعة ودفعهم عن مستنقع الوهن والضعف فيزدادون إيماناً .
وهل الهدى سبب لعدم الوهن , الجواب نعم، وتلك آية في التداخل والأثر والنفع المبارك بين مصاديق الفعل العبادي من غير أن يستلزم الدور بينها.
الثالث : تقدير الجمع بين هذه الآية والآية السابقة:ولا تحزنوا هذا بيان للناس) وفيه آية في العالمين بأن يرى الناس أمراً خلاف المتعارف فالمتبادر إلى الأذهان ترتب الحزن على المصيبة والبلاء، ولكن المسلمين يتلقون كلاً منهما بالصبر وتعاهد عدم الوهن والخوف من الكفار.
ويتجلى للناس قانون وهو سلامة المسلمين وعلى نحو العموم البدلي والإستغراقي والمجموعي من الحزن والخوف، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام والإنتساب إلى الأمة التي نزهها الله من الخوف والخشية إلا منه سبحانه، ومن مصاديق هذه الخشية الإمتثال لما فيه هذه الآية من النواهي وعدم الوهن أو الحزن.
ومن مفاهيم الجمع بين الآيتين الحرب على الكآبة وآثارها على البدن والنفس، ولو أجريت إحصائية ودراسة مقارنة لحال المسلمين العاملين بمضامين آية البحث وغيرهم من الناس , لتجلت الصحة النفسية عند المسلمين وكانت محل إفتخار، وتقهر الآية الوسوسة والوهم والوجل، ويزيح عدم الوهن والحزن الغشاوة عن البصر والبصيرة ومن مفاهيم قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] سلامة المسلمين من الهزيمة والخسارة وحال الردى.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار صراع بين الإيمان والكفر، وتدل الآية على حقيقة وهي عدم التكافؤ بين الطرفين وأن الرجحان للمؤمنين بمدد وعون من عند الله، ومن مفاهيم قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] أمور:
الأول : إنه إنذار ووعيد للكفار.
الثاني : فيه زجر للظالمين من التعدي على حرمات وثغور المسلمين.
الثالث : الإخبار المتقدم عن خسارة الكفار إذا أقدموا على الإضرار بالمسلمين.
الرابع : طرد الحزن السابق لإحتمال الربح والخسارة في الحرب وغيرها، فقد يظن الإنسان وقوع الخسارة ويتوقع حدوثها , فجاءت هذه الآية لمنع أثر هذا الظن، وليؤثر هذا المنع في ذات الظن والوهم بالخسارة بلحاظ أن قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] وعد كريم من عند الله عز وجل.
وأختتمت الآية بقوله تعالى[إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالإيمان وشهد لهم ببلوغ مراتبه في ذات آية البحث من جهات:
الأولى : عطف الآية على الآية التي تخاطب المسلمين بلفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
الثانية : تقدير الآية: لا تهنوا في عملكم وجهادكم في سبيل الله.
الثالثة : نيل المسلمين مرتبة العلو بفضل من عند الله، وتقدير الآية(ولا تحزنوا وقد جعلناكم الأعلون).
الرابعة : جاءت خاتمة الآية بتثبيت إيمان المسلمين لأنها دعوة لهم لتعاهد الإيمان.
الآية لطف
من خصائص الوهن والحزن تثبيط الهمم ،وهو غشاوة على البصيرة وبرزخ دون إستحضار صيغ الحكمة ، فجاءت آية البحث لتثوير العمل الجهادي وإزاحة للندبة السوداء التي يخلفها في القلب الخوف والخشية من القوم الظالمين.
ومن منافع آية البحث ان السلامة من الوهن والجبن أمن ونجاة من أهوال القبر وشدة ظلمته ، وحين أشرف الأمام علي عليه السلام على القبور بظاهر الكوفة قال: يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة، والقبور المظلمة. يا أهل التربة. يا أهل الغربة ، يا أهل الوحدة يا أهل الوحشة أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لاحق . أما الدور فقد سكنت وأما الازواج فقد نكحت وأما الاموال فقد قسمت هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى)( ).
وتنمي هذه الآية ملكة التقوى عند المسلمين وتجعل الصبر والتحدي حاضرين عند الشدائد ، وحتى عند مغادرة الحياة الدنيا وهو من أسرار تشريع الوصية في الإسلام . وشمول الوصية للعهد وعدم إختصاصها باِلملك .
وتثبت آية البحث مفاهيم التقوى في نفس المسلم ، وتجعله في أمن من الفزع من ملاقاة العدو وشبح تعديه وظلمه ، فان قلت إن الخوف من المجهول ومن العدو الأقوى والأكثر جيشاً سلاحاً أمر غرائزي في الإنسان قائم على التدبر في الحال والوجدان ، والجواب جاءت آية البحث لتجعل موضوعية للأوامر والنواهي الإلهية .
وعن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اذا رجف قلب المؤمن في سبيل الله تحات عنه خطاياه كما تحات النخلة)( ).
وآية البحث من اللطف الإلهي من وجوه:
الأول : إنها لطف ونعمة على المسلمين من جهات:
الأولى : هداية المسلمين إلى الواجب الجهادي .
الثانية :إصلاح نفوس المسلمين بما يؤهلهم لوظائف الخلافة في الأرض.
الثالثة : إتخاذ هذه الآية حجة وموضوعاً للتناجي في عمل الصالحات وهو من مصاديق قوله تعالى[وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
الرابع : منع الفرقة والإختلاف بين المسلمين عند مواجهة الشدائد وتديات العدو.
الثاني : الآية لطف بأهل لكتاب من وجوه:
الأول : دلالة الآية على صدق نزول القرآن من عند الله , وإعانته للمسلمين وتبصرهم في أمور القتال ومقدماته.
الثاني : بيان الملازمة ين الإيمان بالله والنبوة والتنزيل وبين العز والرفعة بين الناس.
الثالث : الزجر عن إعانة المشركين في التعدي على الإسلام.
الرابع : منع الجدال مع المسلمين في خيارهم الدفاع عن الإسلام، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ]( ).
الثالثة : الآية لطف بالناس جميعاً من وجوه:
الأول : دلالة الآية على إتصاف المسلمين بخصلة عدم الوهن والفزع.
الثاني : بعث اليأس في نفوس الكفار من إدخال الحزن لمجتمعات المسلمين.
الثالث : ترغيب الناس بالإسلام وانه دين العز والأمن والسكينة , ودين عدم الوهن.
الرابع : التخلف عن مرتبة العلو بين الناس باختيار الجحود والكفر ومفاهيم الضلالة.
إفاضات الآية
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الخشية والخوف والرجاء منه تعالى، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، إذ أن ملكيته لها أعم من الإختصاص وعائدية الملك والتصرف، فمنها الإنقياد التام والمطلق لله عز وجل وتجلى هذا المعنى بالإخبار عن سجود الخلائق كلها لله قال سبحانه[وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا]( ).
فيلتقي المسلم وغيره بوجوب الخضوع والخشوع لله عز وجل فيجب أن تكون الخشية والخوف منه سبحانه وحده هذا بالإضافة إلا أن المسلمين هم أهل الحق ورافعوا لواء التوحيد في ملك وسلطان الله فأبى سبحانه لهم الخوف من غيره في ملكه ودعوتهم له.
ولما جاءت هذه الآيات بالخطاب للمسلمين بالنداء(ياأيها الذين آمنوا) فان هذه الآية أخبرت عن الملازمة بين الإيمان والعز، بين التقوى وعدم الخشية من القوم الظالمين، قال تعالى[الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي]( ).
من إعجاز القرآن أن آية البحث جاءت بصيغة النهي والزجر عن كيفية نفسانية لتترشح عنها تقوية قلوب المسلمين وفي الثناء على أصحاب الكهف قال تعالى[إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى]( )، وفيه بيان لعلة زيادة الهدى وهو الإيمان وهذه الزيادة من الجزاء الحاضر وسبب للثواب الآجل، وجاءت آية البحث بصيغة الخطاب للمسلمين مع الشهادة لهم بالإيمان لعطفها على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، ليكون من إفاضات الآية أمور:
الأول : الشهادة للمسلمين بالتنزه عن السفه والأخلاق المذمومة.
الثاني : تثبيت قلوب المسلمين في منازل الإيمان، وهل هذا التثبيت من الزيادة في الإيمان أم أنها موضوع مستقل بذاته، لا تعارض بين الأمرين فالثبات على الإيمان فرد إضافي وزيادة في الكم والكيف.
الثالث : تحلي المسلمين بالصبر لتناسبه المطرد مع الإيمان، فكلما إزداد الإيمان تجلت آيات الصبر في قول وفعل المسلمين.
الرابع : إعانة المسلمين على أداء الفرائض وعمل الصالحات.
الخامس : توالي وتعاقب معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : تجلي مصاديق التقوى في أقوال وأفعال المسلمين، ومجاهدة النفس , وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : جماع التقوى في قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ]( ).
لقد أراد الله للمسلمين حسن الأدب بطهارة القلوب وعدم جعل موضوعية للخواطر.
السابع : الإكثار من ذكر الله، واللجوء إلى الدعاء، وإكثار الخطى نحو المساجد وإقامة الحدود.
الثامن : التنزه عن الأخلاق المذمومة كاللغو والكذب والغيبة، قال تعالى[وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا]( )، وتنمي آية البحث ملكة الزهد عند المسلمين بحيث لا يخافون من العدو خشية فوات النعم الدنيوية، ولا يعني الزهد تحريم المباحات والطيبات ولا إضاعة المال والتفريط بالرزق الكريم وأسبابه، وهناك أعلام عرفوا بالزهد مع كثرة أموالهم التي جعلوها سبباً للإنقطاع إلى الله والوثوق بما عنده سبحانه وإستغنوا بها عن الحاجة إلى الناس وما يشغلهم عن الإخلاص في العبودية .
ومن علامات الزاهد الصبر عند الإبتلاء الذي يتجلى عند مداهمة العدو بعدم الوهن أو الخوف.
الصلة بين أول وأخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف (الواو ) وفيه دلالة على صلة هذه الآية بالآية السابقة موضوعاً وحكماً ومن أعجاز القرآن إختتام الآية السابقة بقوله تعالى [مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ]لتكون مضامين آية البحث خاصة بأهل التقوى خاصة ومن غاياتها إتخاذ مضامينها بلغة ورداء للعز والأمن من حال الذل والخوف , قال تعالى[وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ]( ).
ترى ما هي النسبة بين وصف المتقين ، وبين الذين يتوجه لهم الخطاب [وَلاَ تَهِنُوا] .
الجواب من وجوه :
الأول : نسبة التساوي وأن الخطاب في آية البحث يتوجه للمتقين , وهم المسلمون .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق , وهو على شعبتين :
الأولى : المتقون هم الأعم والأكثر .
الثانية : المسلمون هم الأعم .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ووجود مادة للإلتقاء, وأخرى للإفتراق بينهما .
الرابع : نسبة التساوي بين المتقين والمسلمين .
والصحيح هو الأول ، فالمتقون الذين جاء القرآن موعظة لهم هم المسلمون الذين خاطبتهم آية البحث [وَلاَ تَهِنُوا] فان قلت إن المتقين الذين وعدهم الله بقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ) أعم من المسلمين.
والجواب إن لفظ المتقين في الآية أعلاه يشمل آدم عليه السلام والمؤمنين من ذريته وأتباع الأنبياء مثلما يشمل المسلمين ، أما الآية السابقة فيتعلق موضوعها بالمسلمين لأنها جاءت بخصوص القرآن وكونه هدى وموعظة .
وتقدير الجمع بين خاتمة الآية السابقة وبداية هذه الآية هو( أيها المتقون لا تهنوا ولا تحزوا ) وفيه مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين لتعاهد التقوى .
الثانية : إتخاذ المسلمين لباس التقوى طريقاً ووسيلة لعدم الوهن والحزن .
الثالثة : إستحضار خصال التقوى عند مواجهة الأعداء ومنها الصبر في المكاره طاعة لله عز وجل .
الرابعة : بيان التباين والتضاد بين التقوى والوهن .
الخامسة : لاتهنوا مع غير المسلمين بلحاظ أن الخطاب [وَلاَ تَهِنُوا]إنحلالي يتوجه إلى كل مسلم ،ولو تناجى أهل طائفة من المسلمين بقوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا] في قتال طائفة أخرى فهو خلاف الأصل ، إذ أن الآية خاصة في قتال الكفار ، نعم تصح في طلب الصلح بين المسلمين ومن معاني عدم الوهن بذل الوسع لمنع الإقتتال بين المسلمين ، وهذا الصلح طريق للسلامة من الحزن والوهن لتتفرع عنه مسألة وهي التباين بين موضوع الوهن والحزن , وتكون النسبة بينهما هي العموم الخصوص المطلق , فيكون عدم الوهن على أقسام :
الأول : عدم الوهن في قتال الأعداء والدفاع عن بيضة الإسلام .
الثاني : تعاهد أداء العبادات بشرائطها .
الثالث : منع وقوع الفتنة بين المسلمين .
الرابع : عدم الوهن في حفظ وحدة المسلمين ومرتبة العلو التي رزقهم الله وبعد النهي عن الوهن والضعف ذكرت الآية عدم الحزن للنهي عن غلبة الحسرة والأسى على نفوس المسلمين ،ترى لماذا قدمت الآية عدم الوهن .
الجواب فيه وجوه :
الأول :قاعدة تقديم الأهم على المهم .
الثاني :حاجة المسلمين لعدم الوهن أكثر من حاجتهم لعدم الحزن .
الثالث : ترشح الحزن عن عدم الوهن بلحاظ كبرى كلية وهي ترشح الخسارة وأسباب الحزن عن القتال .
الرابع : التلبس بالجهاد برزخ دون الحزن أو لا أقل دون شدته .
الخامس : قلة النفع من عدم الحزن مع الوهن الضعف ، فتقدم عدم الوهن للدلالة على أولوية الدفاع في سبيل الله .
السادسة : الحزن وعدمه كيفية نفسانية , ولكن عدم الوهن فعل وجهاد .
السابع : تحتاج السلامة من الحزن الصبر ، أما عدم الوهن فانه يحتاج الفعل والجهاد والصبر وبذل المال ، قال تعالى [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( )
وتتضمن الآية البيان بأن المسلمين لا يهنون في الدفاع عن الإسلام وستقع عندهم الخسارة وتحصل المصيبة الخاصة والعامة ولكنهم سيصبرون طاعة لله ورجاء الثواب على الصبر يضاف إلى ثوابهم على الجهاد والدفاع في سبيل الله .
وبعد النهي المتعدد عن الوهن والحزن جاءت الآية بقانون كلي وهو [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] وفيه آية إعجازية بلحاظ ما فيه من الرحمة والتخفيف عن المسلمين ففي كل نهي مشقة خاصة وأن موضوع عدم الوهن ميادين القتال وموضوع وجوب السلامة من الحزن هو النفس ومن الصعب على الإنسان حمل النفس على غير ما تميل عليه ويكون حاضراً عندها على نحو دفعي ومفاجئ فتفضل الله عز وجل وكشف للمسلمين رفعة المنزلة التي يتنعمون بها بين الناس ، وينعدم الندم على ما فاتهم من الغنائم .
وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : إن المسلمين هم الأعلون وإن وهنوا .
الثاني : بقاء المسلمين في منازل العلو وإن حزنوا .
الثالث : لو اجتمع الوهن والحزن عند المسلمين فانهم باقون في مرتبة العلو والرفعة .
الرابع : المسلمون لا يهنون ولا يحزنون فهم الأعلون ، وهذه المنزلة واقية من الوهن والحزن , ومن خصائصها طاعة الله في الأمر والنهي ، ومنه التقيد بمضامين آية البحث بعدم الوهن والضعف والحزن .
والصحيح هو الرابع , وهو الذي تدل عليه الشواهد وصبر المسلمين الأوائل في صدّ المشركين مع كثرة عددهم وعدتهم .
وهل نال المسلمون منزلة العلو بقدراتهم .
الجواب لا ، انما هي نعمة وهبة من عند الله [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( )، بدليل مضامين هذه الآية , فهي لم تجعل حال عدم الوهن والحزن شرطاً في بلوغ المسلمين مرتبة العلو بين الناس ويحتمل أوان إبتداء نيل هذه المرتبة وجوهاً:
الأول : سبق إستحقاق ونيل المسلمين هذه المرتبة قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : حين تفضل الله عز وجل وجعل أدم[خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ]( ).
فانه جعل المسلمين هي الأمة الأمل بحيث تقدمت الاحقاب قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس فيها أمة أعلى .
الثالث : وجود أمة مؤمنة في كل زمان تكون هي الأعلى من بين الناس .
الرابع : في كل زمان أمة هي الأعلى , ولكن المسلمين هم الأعلى لهذه الأمم.
الخامس : الأعلون مرتبة خاصة بالمسلمين ، إبتدأ وجودها في الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي باقية إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق تفضله على الأنبياء السابقين .
السادس : القدر المتيقن من مرتبة العلو في المقام هو في مواجهة الكفار في سوح القتال وإرادة الغلبة والظفر .
والصحيح هو الرابع والخامس فكانت هذه المرتبة الخاصة للأنبياء وأولياء الله كما في قوله تعالى بخصوص موسى عليه السلام [قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى]( ).
وإذا أراد الله عز وجل أمراً فانه سبحانه يتقنه بحكمته , وتفضل وجعل الدنيا دار الآيات والبراهين التي تدل على الوحدانية ووجوب عبادته , ومنها جعل أمة في الأرض تتصف بأمور :
الأول : الإيمان .
الثاني : طاعة الله ورسوله .
الثالث :إنتفاء الوهن والحزن عند المسلمين .
الرابع :المسلمون هم الأعلون في الناس .
لقد نال المسلمون والمسلمات هذه المرتبة بالتقوى وتلقي الأذى في مرضاة الله .وأختتمت آية البحث بالجملة الشرطية [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]وتحتمل وجوهاً :
الأول : تعلق الشرط بعدم الوهن .
الثاني : إختصاص شرط الإيمان بعدم الحزن .
الثالث: تعلق الجملة الشرطية بالجامع المشترك من عدم الوهن والحصانة من الحزن .
الرابع : المراد من الشرط هو علو المسلمين وأنهم الأعلون مع التحلي بخصال الإيمان , بلحاظ كبرى كلية وهي أن النسبة بين الإسلام والإيمان عموم وخصوص مطلق ، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس ، وعلى هذا تكون الواو في [وَأَنْتُمْ] حرف إستئناف .
والصحيح هو الثالث وفي الجملة تقديم وتأخير ، وتقديره : وانتم الأعلون ولا تهنوا و لا تحزنوا إن كنتم مؤمنين .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى: تتضمن صيغة الخطاب إكرام المسلمين . وهل تتضمن الآية الوعد من الله عز وجل للمسلمين .
الجواب نعم من وجوه :
الأول : الوعد بالنصر عند عدم الوهن ، وهو الذي تدل عليه الآية بالدلالة التضمنية .
الثاني : النهي عن الحزن أمارة على قلة الخسائر , وعدم تكرار وتوالي مسببات الحزن والأسى .
الثالث : بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من صبر وتفاني المسلمين في طاعة الله .
الرابع : إستدامة بقاء المسلمين في منزلة العلو بين الناس .
الخامس : عجز الكفار عن قهر المسلمين .
السادس : حث المسلمين على تعاهد مصاديق التقوى وأفراد الإيمان .
الثانية : تثبيت سنن الخلافة في الأرض برداء التقوى بأن تكون أمة التوحيد هي الأعلى .
الثالثة : إنحسار الكفر والضلالة من الأرض والسيادة فيها .
الرابعة : بعث السكينة في قلوب المسلمين لما بلغوه من خصال كريمة تتقوم بعدم الوهن والضعف وطرد الحزن وهي من التقوى .
الخامسة : توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على ما في الآية من النهي والوعد والتأديب .
السادس : إمتلاء نفوس المسلمين بالطمأنينة لوراثة ذراريهم الإيمان والأمن ومع عدم وهن وخوف وحزن المسلمين فان تعدي الكفار يتناقص تدريجياً وطردياً مع تقدم السنين والأحقاب .
وهو من إعجاز القرآن بأن تأتي الآية القرآنية بوظائف قدسية تساهم في إصلاح المجتمعات ورجحان كفة المسلمين في ميادين الوعى وفي إزدهار الإقتصاد والمعافاة في الأبدان .
السابعة : بيان الغايات الحميدة للآية القرآنية بايجاد أمة صالحة تتولى إمامة الناس في الدعوة إلى الله , ومن شرائط الإمامة في الله عدم الوهن والحزن .
الثامنة : لقد ختم الله عز وجل النبوة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاراد سبحانه كفاية أهل الأرض بالقرآن النازل على صدره وبلوغ أمته مراتب الكمالات الإنسانية فجعلهم هم الأعلون .
التاسعة : في الآية حث للمسلمين على التقيد بسنن التقوى وعلى العمل وفق الكتاب والسنة ومراجعة الذات وتعاهد مناهج الصلاح التي يسيرون في رحابها لإختتام الآية بقوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ].
العاشرة : تجلي معاني الرضا والقناعة بفضل الله وبعثهم على حسن التوكل على الله , وعن فضالة بن عبيد الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( أفلح من هدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافاً وقنع به)( ).
الحادية عشر : التخفيف من الأذى الذي يأتي للمسلمين من القوم الكافرين وقبح كيدهم وتوالي أسباب مكرهم ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الثانية عشرة : منع الفرقة والخلاف بين المسلمين بسبب إصابة فريق وطائفة منهم بالفزع والخوف من ملاقاة العدو .
الثالثة عشرة : إرادة دوام وحدة المسلمين بما يرضي الله عز وجل من الاقبال على الدفاع والسلامة من الحزن والكآبة .
الرابعة عشرة : إحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب الإستعداد للقتال ودرء شرور الأعداء ، وهو أمر لا يخص المقاتلين وحدهم بل يشمل المسلمين جميعاً رجالاً ونساءً بدليل لغة الخطاب في الآية وتوجهها إليهم جميعاً .
الخامسة عشرة : الوعد الكريم من الله عز وجل بأن النصر والغلبة للمسلمين لأنهم الأعلون بفضل ولطف منه تعالى .
أسباب النزول
قال ابن عباس : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا يعلون علينا ، اللهم لا قوة لنا إلا بك ، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، وثاب نفر من المسلمين رماة ، فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم، فذلك قوله (وَأَنتُم الأَعلونَ) ( ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب يوم أحد ، فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وما فعل فلان؟ فنعى بعضهم لبعض ، وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل ، فكانوا في هم وحزن. فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل، وكان على أحد مجنبتي المشركين وهم أسفل من الشعب، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا قوّة لنا إلا بك ، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر، فلا تهلكهم وثاب نفر من المسلمين رماة، فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل ، فذلك قوله {وأنتم الأعْلَوْنَ إن كنتم مؤمنين})( ).
آية البحث بيان للناس
إبتدأت الآية بحرف العطف الواو في دلالة على إتصال موضوعها مع الآية السابقة والتي ليس فيها نهي , بل هي قانون في الإرادة التكوينية من أقسام :
الأول : ذكر القرآن والثناء عليه من بين الكتب السماوية، وفيه دعوة للمسلمين والناس بلزوم إكرامه وتعاهده وحفظه والعمل بمضامينه وابتدأت الآية السابقة باسم الإشارة (هذا) لإرادة القريب , وفيه مسائل :
الأولى : من معاني القرب أن آية البحث من ذات القرآن فتكون الإشارة للدلالة الذاتية .
الثانية : الإخبار عن قرب القرآن من المسلمين والناس ليكون من إعجازه أنه قريب من الناس في كل زمان ولا يستطيعون الإعراض أو الإستغناء عنه.
الثالثة : إستدامة بقاء القرآن في الأرض حاضراً بين الناس إلى يوم القيامة.
الرابعة : عجز الكفار والمنافقين عن حجب آيات القرآن .
الخامسة : سلامة القرآن من التحريف أو التغيير بلحاظ أن المشار إليه هو نفسة أيام التنزيل وهو ذاته في كل زمان وإلى يوم القيامة .
الثاني : تجلي الجلاء والوضوح والكشف في آيات القرآن بقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ ] ( )، و فيه مسائل :
الأولى :التبدل النوعي في حياة الناس بنزول ( القرآن ) إذ صار البيان مصاحباً لهم في الحياة الدنيا .
الثانية : إقامة الحجة على الناس بالبيان القرآني .
الثالثة : من الإفاضات والبركات المصاحبة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول البيان من الله عز وجل .
الرابعة : بنزول القرآن رفعت الجهالة والغرر عن الناس .
الخامسة : القرآن خطاب للعقول .
السادسة : القرآن هو الفيصل بين الحلال والحرام وهو من مصاديق تسميته بالفرقان , قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( )
السابعة : كل آية من القرآن بيان في ذاتها وإعجازها وموضوعها .
الثامنة : تجاوز دلالات وإعجاز القرآن اللغة التي أنزل فيها وهي العربية ، إذ أن بيانه للناس جميعاً ، وهم يتكلمون بألسنة شتى .
التاسعة :دعوة أهل الكتاب والملل الأخرى للنهل من علوم القرآن لأنه بيان لهم .
العاشرة: قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]إنحلالي , وكل آية هي بيان .
الحادية عشرة : القرآن بيان لكل إنسان ذكراً كان أو أنثى .
الثانية عشرة : إنه بيان للمسلمين والمسلمات .
الثالثة عشرة : إنه بيان لأهل الكتاب.
الرابعة عشرة : في القرآن بيان لأهل الأرض جميعاً .
الخامسة عشرة : القرآن بيان للسنة وهي بيان للقرآن ، أي أن القرآن يمضي السنة ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( )، ليدخل فيها قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رايتموني أصلي ) ( )، وقوله (لتاخذوا عني مناسككم) ( )، ولولا القرآن ما ضبطت السنة .
السادسة عشرة : كل آية من القرآن بيان للقرآن من وجوه وبخصوص موضوع أو كلمة متعدد ، وتحتاج إلى عدة مجلدات في أمور :
الأول : تأكيد بيان القرآن .
الثاني : تثبيت علم لبيان القرآن .
الثالث : دفع اللبس عن بيان القرآن .
الرابع : البيان القرآني واقية من الوهن والحزن .
الخامس : مدرسة البيان القرآني طريق الظفر والنصر في المعارك .
السادس : تتضمن كل آية من القرآن تأديباً للمسلمين في باب الجهاد والقتال.
السابع : يصدر تالي القرآن عنه بملكة الصبر في حال الرخاء عن المعاصي ،وحال الشدة عن الوهن والضعف والحزن .
الثامن : نهي المسلمين عن الوهن والحزن بيان للناس جميعاً بلزوم إجتناب التعدي على المسلمين لأن مآله إلى الخسران .
التاسع : في القرآن أفضل وأسمى بيان لأنه من عند الله، فعلى الناس الإنصات له والتدبر في معانيه .
العاشر : آية البحث بيان بأن المسلمين هم الأعلى من بين الناس بصبغة الإسلام ، ولا يعني هذا أن الناس في مرتبة أدنى لأن الخطاب بالإيمان والصدور عن القرآن يتوجه لهم مجتمعين ومتفرقين ليرقى كل إنسان إلى مرتبة العلو بالإقرار بالعبودية لله والتصديق بالنبوة .
السابعة عشرة : ليس من إنسان إلا ويرغب أن يكون من الأمة الأعلى والأسمى ، فجاء القرآن ببيان الطريق إلى هذه المرتبة ،قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( )
الثامنة عشرة : تبين آية البحث للمسلمين والناس أن من وجوه الإبتلاء في الحياة الدنيا الشرطية في صيغ وضروب الإيمان .
التاسعة عشرة : قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا] هدى وموعظة من وجوه :
الأول : انه مدد للمقاتلين من المسلمين لثباتهم في مواطن القتال وطلب القوم الكافرين .
الثاني : إنه إرشاد لعموم المسلمين رجالاً ونساءً للصبر وتحمل الأذى في جنب الله وعدم إظهار الجزع والفزع .
الثالث : إنه دعوة للناس لمعرفة حال المسلمين وأن قوتهم بمدد من عند الله وهو من وجوه الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : الأمر للمسلمين بعدم الوهن زجر للذين يحاربون الإسلام .
الخامس : دعوة الناس للتوبة والإنابة .
السادس : في الآية بيان لمنافع حسن التوكل على الله .
السابع : في النهي عن الوهن والضعف موعظة وإعتبار للمؤمنين ، وبيان حقيقة وهي أن الكفار يواصلون التعدي على الإسلام وأن نصر المسلمين ملازم للبسالة وبذل الوسع في الدفاع عن الإسلام .
الثامن : إتعاظ التابعين والأجيال اللاحقة من المسلمين من حال عدم الوهن التي يتصف بها أهل البيت والصحابة وما اظهروا من صدق العزائم في معركة بدر وأحد والخندق .
العشرون : قوله تعالى [وَلاَ تَحْزَنُوا] بيان للناس من وجوه :
الأول : فيه بيان للناس بأن الله عز وجل يعلم بما في نفوس المسلمين ويهديهم لحال السلامة من الأدران ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
الثاني : هداية الناس إلى قانون كلي في أحوال النفس والمجتمع وهو أن الحزن والأسى قبيح بالذات وله أضرار على البدن والعقائد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )
ليكون في القرآن إصلاح للنفوس وهو من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
إن نهي الله عز وجل المسلمين عن الحزن بيان للناس جميعاً بلزوم إجتناب الحزن والحسرة وهذا الإجتناب مناسبة للتفكر بآيات الله والتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها ترك المسلمين الحزن والأسى ، وعدم الإلتفات إلى الخسارة التي لحقتهم ليكون همّهم بالعزم على مواصلة الجهاد في مرضاة الله .
الثالث : لقد أراد الله عز وجل للناس أن تكون الدنيا ذات بهجة وسعادة بالإيمان ، وحينما يدخل الناس الإسلام يأتيهم الأذى من الكفار ، وفي مكر وظلم قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه شاهد تأريخي ثابت إلى يوم القيامة .
فجاءت آية البحث بزجر المسلمين عن الحزن عند تلقي الأذى ومن علة عدم الحزن أن الكفار يظلمون أنفسهم بتعديهم وجورهم ، وأن الخسارة التي تلحق المسلمين يثابون عليها في الدنيا والآخرة فلا سبب للحزن والأسى ، قال تعالى [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ] ( ).
فلو انكشف الغطاء للمسلمين ورأوا ما أعد الله لهم من الثواب بسبب حرمانهم من الغنائم وما يلحقهم من الأذى والضرر من الكفار لانقطعوا إلى شكر الله وأحبوا هذا الأذى بقصد القربة إلى الله , كما يحب الشهيد القتل مرة أخرى في سبيل الله .
الرابع : الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وفيها أيام فرح وغبطة ، وأيام أذى وتكدر ، فلا ملازمة بين الأذى والحزن ، وليس كل خسارة يصاحبها الحزن والأسى ، وأراد الله عز وجل للمسلمين أن يكونوا الأسوة للناس في التنزه من الحزن , وهذا التنزه من مصاديق التقوى وفيه الأجر والثواب لأنه بقصد القربة إلى الله فلا بد أن يقف الإنسان على الخسارة سواء كانت في النفس أو المال أو الجاه .
فجاءت آية البحث للإخبار بأن الثواب على عدم الحزن عظيم وأنه سبب للصلاح ، وهداية الناس لسبل الرشاد والإقتداء بالمسلمين بهجران المسلمين الوهن والضعف والحزن ، وإتخاذ الصبر المقرون بالهمّة والعزيمة وسيلة لتعاهد منزلة العلو بين الناس بأداء الوظائف والسنن العبادية وفق القرآن والسنة .
وإذا كان قوله تعالى [لاَ تَحْزَنُوا]بياناً للناس ، فهل بيان القرآن طرد للحزن والحسرة والأسى.
الجواب نعم , لأن آيات القرآن كاشفة عن قبح الحزن وشدة ضرره ، وهي تدعو إلى شكر الله في السراء والضراء , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء فشكر، كان خيراً له ، وإن أصابته ضراء فصبر ، كان خيراً له ) ( ).
ليكون بين المؤمن والكافر عموم وخصوص مطلق ، فيلتقي المؤمن والكافر في نزول النعمة والاصابة بالبلاء والأذى ولكن المؤمن يشكر الله عز وجل على النعمة والسراء فيزيده الله من فضله، وتصيبه الضراء فيشكر الله فيكتب له الثواب على تلقي الأذى ويمحو عنه ضروباً أخرى من البلاء ، قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
الحادية والعشرون : قوله تعالى [وَلاَ تَحْزَنُوا]هدى للمسلمين من وجوه :
الأول : اللطف والعناية الإلهية بالمسلمين بحضور أوامر الله ونواهيه عند المصيبة الشخصية والعامة .
الثاني: سلامة المسلمين من الأضرار المترشحة على النفس من الحزن والكآبة .
الثالث : البصيرة والتدبر للمسلمين حتى في أشد وأقسى الأحوال لأن تقدير قوله تعالى [َلاَ تَحْزَنُوا] أي لا تفوتكم المصلحة والنفع ولا تكون الحسرة برزخاً دون التفقه في الدين والسعي في سبيل الله .
الثالث : لقد أراد الله لكل مسلم بناء نفسه لتكون نواة لبناء دولة الإسلام التي تتقوم بمجتمعات سليمة من الأدران والعلل التي يخلفها القعود عند المصيبة والحزن .
الرابع : إمتناع المسلم عن الحزن والكآبة موعظة له ولغيره من المسلمين .
وهو من مصاديق تمسك المسلمين بالقرآن وإتباع أوامره ، وإجتناب ما نهى عنه ، إذ يكون بعضهم أسوة لبعضهم الآخر في الصلاح وتعاهد سنن التقوى.
الثانية والعشرون : القرآن مدرسة التقوى , وفيه بيان لسبل الخشية من الله ومنها إختيار المسلم لحال عدم الوهن والخوف عند لقاء العدو ، فالنهي عن الوهن والضعف هداية للمسلمين وتعليم لمسألة في الصلاح وهي أن الثبات في مواطن القتال طاعة لله عز وجل ، وأن الفرار في القتال أو إظهار حال الخوف والجزع مطلقاً أمر مبغوض .
الثالثة عشرة : البيان القرآني بأن عدم الوهن موعظة و باعث للنفرة في نفوس المسلمين من الوهن والضعف ودعوة لهم للتآزر في طرد الوهن من النفوس.
التفسير
قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا]
وجاءت الآية بصيغة جمع المذكر السالم بدليل واو الجماعة وتكرارها في (َلاَ تَهِنُوا ) و(َ وَلاَ تَحْزَنُوا ). ويحتمل وجوهاً :
الأول : إدارة الجاهدين من المسلمين بلحاظ تعلق الآية بموضوع القتال ودعوتهم للصبر والثبات عند اشتداد وطأة القتال خاصة , وأن الآية جاءت بصيغة الفعل المضارع .
الثاني : المراد أوان ووقت القتال ، كما حدث في معركة حنين , قال تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا] ( ).
وإعتزمت الطلائع الأولى من جيش المسلمين أمام هجوم ثقيف وهوازن المفاجئ عليهم , وأخرج ابن مردويه والبيهقي وابن عسكر عن مصعب بن شيبة بن عثمان الحجبي عن أبيه قال « خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين ، والله ما خرجت إسلاماً ولكن خرجت إتقاء أن تظهر هوازن على قريش ، فوالله إني لواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قلت : يا نبي الله إني لأرى خيلاً بلقاً . . . ! قال : يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر . فضرب بيده عند صدري حتى ما أجد من خلق الله تعالى أحب إليَّ منه , قال : فالتقى المسلمون فقتل من قتل( ).
وثبت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه وقال : انا النبي غير كذب انا ابن عبد المطلب، فاقبل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الآن حمي الوطيس ) في وثيقة تأريخية وموعظة للمسلمين ببيان منافع العمل بمضامين هذه الآية .
وقال سعيد بن المسيب : حدّثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقفوا لنا حلب شاة، فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتلقّانا رجال بيض الوجوه، حسان الوجوه , فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانوا إياها، يعني الملائكة( ).
ويتوجه الخطاب والنهي في الآية للمسلمين من وجوه :
الأول : الخطاب لأفراد [خَيْرَ أُمَّةٍ] على نحو العموم المجموعي ، ففي الآية زجر للأمة مجتمعة من النكوص والغدر , وإتخاذ القرار الذي يتضمن الجبن بالحق .
الثاني : الخطاب للحكام وأهل الحل والعقد من المسلمين بأن لا يهنوا ولا يحزنوا عند دنو لقاء الأعداء . ولا يختاروا ما فيه التفريط بمصالح الأمة وما يضر بأداء الفرائض والواجبات .
الثالث : النهي على نحو القضية الشخصية بعلم كل مسلم بوظيفته العقائدية والأخلاقية من الصبر في ميادين الجهاد وحسن الاستعداد له، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الرابع : النهي عن الوهن والحزن عند نزولهما بالمسلم وصيرورته في حال فزع من العدو , وتقدير الآية : كف عن حال الوهن والحزن لأنك وأمتك الأعلى ، ليكون هذا الكف أمراً وجودياً , وفيه مصداق للإمتثال للنهي الوارد في الآية , وفيه الأجر والثواب .
فحال الحر ب والقتال تنتهي بأيامها , ولكن مضامين آية البحث تتوجه للمسلمين كل يوم تدعوهم للتوبة والإنابة وتجديد حال الثبات بعزيمة في مقامات الإيمان والتضحية والبذل ، وهو من عمومات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( )، بلحاظ كبرى كلية وهي أن التنزه من الوهن والجبن من مصاديق السلم وإمتلاء النفس بالسكينة ، وتحتمل هذه السكينة وجوهاً :
الأول : إنها مرآة ورشحة من رشحات السلم العام .
الثاني : هذه السكينة أمر مستقرأ من آية البحث , ونفرة المسلم من حال الوهن والخور والضعف.
الثالث : إنها مقدمة نفسية لدخول المسلم حال السلم الأمن ، ليتصف بنفس مطمئنة راضية.
الرابع : ذات الإيمان والإقرار بالشهادتين سلم شخصي ودخول في السلم بسلم ، لذا خاطبت الآية أعلاه المسلمين بصفة الإيمان , والشهادة لهم بالأهلية لبعث الأمن بين الناس وفي المجتمعات.
الخامس : إرادة المعنى الأعم الجامع للوجوه أعلاه .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق آية البحث في إصلاح المسلمين لمواجهة إرهاب العدو .
ويفيد الجمع بين هذه الآية والآية أعلاه التنافي والتضاد بين الإيمان والوهن , فمن يؤمن بالله ورسوله يحرص على إظهار إخلاصه وتقواه بالصبر والثبات وتعاهد صيغ العز , وتحتمل حال المسلمين بعد التنزه من الوهن والجبن والخور وجوهاً:
الأول : حال البرزخ بين الوهن والقوة , وبين السكينة والفزع .
الثاني : إنتقال حال المسلمين إلى حال العز والثبات والسكينة .
الثالث : الأصل هو إقامة المسلمين في مقامات الثبات والأمن وعدم الخشية من العدو . وجاءت آية البحث لإستدامة هذه الحال والنهي عن خلافه ، وكأن الآية شكر من الله للمسلمين على حسن نهجهم.
الرابع : الآية زجر عن الإنتقال من حال المنعة وقوة الشكيمة والشوق لسوح المعارك إلى حال الفزع والخوف خاصة عند تغير حال العدو وإزدياد عدد أفراده وعدته كماً وكيفاً ، والصحيح هو الثالث والرابع .
ولا يخص النهي عن الوهن والحزن ذات حال القتال بل يشمل العصمة من إظهار الملل والجزع من الدفاع عن الإسلام ، ومن الإقامة على الحزن بفقد الأحبة في ميادين القتال وحال التعدي على المسلمين والغدر بهم , فصحيح أن أسباب النزول ذكرت واقعة أحد وما أصاب المسلمين من الخسارة إلا أن المدار على عموم المعنى وليس سبب النزول ، وهل يشمل العبادات وأداء الفرائض , الجواب نعم , فلابد من المبادرة اليها في أوقاتها .
وهذه المبادرة من مصاديق الإمتثال والتقيد بأحكام النهي الوارد في آية البحث من وجوه :
الأول : إنتفاء الشرك مطلقاً من قلوب المسلمين سواء كان شركاً جلياً أو خفياً .
الثاني : إظهار المسلمين الطاعة لله عز وجل في الأوامر وهو شاهد على سنخية طاعته عز وجل في النواهي .
الثالث : خشية المسلم من الله حتى في حال أداء الفرائض والواجبات، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ]( ).
(وقال بعض أصحاب الخواطر وجل العارف من طاعته أكثر من وجِلِه من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة ، والطاعة تطلب لتصحيح الغرض) ( ).
ولا دليل على هذا التفصيل ، انما المخالفة معصية وظلم للنفس ، ولكن الآية أعلاه جاءت في الثناء على المؤمنين وبيان خشيتهم من الله ، لتدل في مفهومها على التنزه عن فعل المعاصي من الأصل .وإمتلاء نفوسهم بالتقوى وحب التقرب إلى الله ،والإقرار بعظيم سلطانه وعظيم فضله وإحسانه وقدرته المطلقة .
وتجمع الآية أعلاه بين إتيان الفرائض والواجبات وإجتناب المناهي وبين الخشية من الله عز وجل ، أي أن التنزه عن فعل المعصية من مصاديق العبادة وسنن التقوى التي تدل عليها الآية أعلاه بتقريب وهوأن إجتناب الذنوب والمعاصي أمر وجودي ويختاره المؤمن عن تصد وعزم ، عن عائشة قلت يا رسول الله قول الله [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ] أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال : لا ولكن الرجل يصوم ، ويتصدق ، ويصلي ، وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه ( ).
وجاءت الآية بصيغة لفعل المضارع [وَلاَ تَهِنُوا]وفيه مسائل :
الأولى : الإخبار السماوي عن تجدد حال القتال عند المسلمين .
الثاني : اختصاص موضوع الآية بأيام النبوة بل هي خطاب متجدد للمسلمين إلى يوم القيامة .
الثالثة : لا تختص الآية بحال القتال وسوح المعارك .
الرابعة : صيرورة عدم الوهن ملكة ثابتة عند المسلمين لينفردوا بخصوصية تبعث الفزع والخوف في قلوب الأعداء ، وهو من مقدمات الإمتثال لقوله تعالى [ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( )، وتلك آية في إصلاح المسلمين لمنازل الإمامة بين الناس بأن تأتي آية تبعثهم للعمل بآية أخرى وفعل جهادي ذي موضوعية في حياتهم العامة .
الخامسة : الآية من علم الغيب بما تتضمنه من الإنباء عن وقوع حالات من المواجهة مع الأعداء وضرورة عدم الوهن أو الضعف .
السادسة :مع مجئ الآية بصيغة المضارع فإنها تشمل حال الزمن الماضي بمعنى لا تهنوا مما أصابكم في المعارك السابقة ، وليس هذا النهي من المواسأة ، إلا هو بسبب المدد الإلهي والتقدير كيف يصيب الهوان والضعف من جعلهم الله هم الأعلون وجعل النصر قريباً منهم .
ولا يختص النهي عن الوهن ، بساحة المعركة فموضوعه متعدد ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول :لا تهنوا في مقدمات القتال .
الثاني : لا تهنوا في شروط الصلح والهدنة والعهد .
الثالث : لا تهنوا في إنتزاع الحق عندما ينقض الطرف الأخر العهد والميثاق.
وكانت هناك خصومة قبل المبعث بين خزاعة وبين بكر، سببها أن تاجراً من بني بكر يسمى مالك بن عباد قتل في موضع وسط أرض خزاعة وأخذوا ماله، فقتلت بنو بكر رجلاً من خزاعة، قال ابن إسحاق (فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْ بَنِي خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُ فَعَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى بَنِي الْأَسْوَدِ وَهُمْ سَلْمَى وَكُلْثُومٌ وَذُؤَيْبٌ فَقَتَلُوهُمْ بِعَرَفَةَ عِنْدَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ هَذَا كُلّهُ قَبْلَ الْمَبْعَثِ فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَاءَ الْإِسْلَامُ حَجَزَ بَيْنَهُمْ وَتَشَاغَلَ النّاسُ بِشَأْنِهِ فَلَمّا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ وَقَعَ الشّرْطُ أَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَهْدِهِ فَعَلَ وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ فَعَلَ فَدَخَلَتْ بَنُو بَكْر ٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَهْدِهِ)( ).
وبعد مرور إثنين وعشرين شهراً على صلح الحديبية سألت بنو بكر قريشاً تزويدهم بالسلاح ومهدم بالرجال على خزاعة للثأر منهم، وكانت بنو بكر قد دخلت في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وناشدت بنو بكر بالأرحام والعهد وإمتناعهم عن الإسلام وإرادة الإنتقام من خزاعة لأنهم دخلوا في عقد وعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسارعت قريش لنصرتهم وأمدوهم بالسلاح والكراع والرجال خفية وسراً كيلا تعلم خزاعة الذين هم في حال موادعة.
وإتفقت قريش وبنو بكر وبنو نفاثة على الموافاة في ماء لخزاعة أسفل مكة يسمى(الوتير) وحضر رجال من قريش متنكرين متنقبين وهم صفوان ابن أمير، وعكرمة بن أبي جهل، وشيبة بن عثمان، ومكرز بن حفص ومعهم نفر من عبيدهم، وكان يرأس بني بكر نوفلي بن معاوية الدئلي فبيتوا خزاعة ليلاً وهم آمنون فقتلوهم وعامتهم من الصبيان والنساء فلم يزالوا يقتلونهم حتى بلغوا أنصاب الحرم( )، وساقوا خزاعة إلى الحرم فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك ! فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بنى بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم ! ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء بمكة وإلى دار مولى لهم يقال له رافع( ).
قال الواقدي: وكان جملة من قتل من خزاعة عشرين أو ثلاثة وعشرين، وندمت قريش على إعانتها بني بكر.
وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين من قومه(حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ : يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمُ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا ثُمّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا فَانْصُرْ هَدَاكَ اللّهُ نَصْرًا أَبَدَا وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا أَبْيَضَ مِثْلَ الْبَدْرِ يَسْمُو صُعُدَا إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكّدَا وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رَصَدَا وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدَا وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدَا وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نُصِرْتَ يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ ثُمّ عَرَضَتْ سَحَابَةٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّ هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ ثُمّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ وَبِمُظَاهَرَةِ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ ثُمّ رَجَعُوا إلَى مَكّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلنّاسِ كَأَنّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ جَاءَ لِيَشُدّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ . وَمَضَى بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي أَصْحَابِهِ حَتّى لَقُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِعُسْفَانَ وَقَدْ بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَشُدّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ وَقَدْ رَهِبُوا الّذِي صَنَعُوا فَلَمّا لَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ قَالَ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت يَا بُدَيْلُ ؟ فَظَنّ أَنّهُ أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ سِرْتُ فِي خُزَاعَةَ فِي هَذَا السّاحِلِ وَفِي بَطْنِ هَذَا الْوَادِي قَالَ أَوَمَا جِئْتَ مُحَمّدًا ؟ قَالَ لَا فَلَمّا رَاحَ بُدَيْلٌ إلَى مَكّةَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : لَئِنْ كَانَ جَاءَ الْمَدِينَةَ لَقَدْ عَلَفَ بِهَا النّوَى فَأَتَى مَبْرَكَ رَاحِلَتِهِ فَأَخَذَ مِنْ بَعْرِهَا فَفَتّهُ فَرَأَى فِيهَا النّوَى فَقَالَ أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَقَدْ جَاءَ بُدَيْلٌ مُحَمّدًا ( ).
وعن ميمونة بنت الحارث قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بات عندها في ليلتها ، فقام يتوضأ للصلاة ، فسمعته يقول في متوضئه : لبيك، لبيك ثلاثا ، نصرت نصرت ، ثلاثاً ، فلما خرج قلت : يا رسول الله ، سمعتك تقول في متوضئك : لبيك لبيك ثلاثا ، نصرت نصرت ، ثلاثاً ، كأنك تكلم إنسانا ، فهل كان معك أحد ؟ فقال : هذا راجز بني كعب يستصرخني ، ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بني بكر ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأمر عائشة أن تجهزه ، ولا تعلم أحدا ، قالت : فدخل عليها أبو بكر ، فقال : يا بنية ، ما هذا الجهاز؟ فقالت : والله ، ما أدري ، فقال : والله ، ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : والله ، لا علم لي قالت : فأقمنا ثلاثا ، ثم صلى الصبح بالناس( ).
وورد في التنزيل حكاية عن موسى عليه السلام[رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، ومنه في المقام تعرض المسلمين للخسارة وسقوط قتلى منهم في المعارك فأمرت الآية المسلمين بعدم الخوف والوجل ودعتهم إلى الصبر عند المصائب ونزول الخسارة بهم في القتال، كيلا يكون فتنة للقوم الظالمين[فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ]( )، فإذا أظهر المسلمون الجزع والحزن على الخسارة وقعدوا يندبون قتلاهم ويتحسرون على أموالهم، ويتأسفون على ما فاتهم من الغنائم فإن المشركين يواصلون الهجوم عليهم.
وهل من صلة بين صبر المسلمين وعدم وهنهم وحزنهم وبين رجوع قريش خائبين في معركة أحد والخندق وقبولها صلح الحديبية، الجواب نعم، وتلك آية في فلسفة آيات الصبر والجهاد في القرآن، وصيرورتها سبباً للتحفيف عن المسلمين في حال الحرب والسلم، إن صبر المسلمين سهام تتوجه إلى مجتمعات الكفار فتصيبهم باليأس والقنوط ويتجلى الرجحان والفارق بين معسكر المسلمين القائم على عدم الوهن أو الضعف أو الحزن وبين معسكر الكفار الذي يحيطه الألم والخوف والضجر، إلى جانب موضوعية رجاء المسلمين الأجر والثواب، وتيه وضياع الكفار في مستقبلهم مثلما هم يفرطون بأيامهم التي هي إمتحان وإختبار، قال تعالى[وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ]( ).
جاء النهي في الآية بصيغة الجمع , ويحتمل وجوهاّ :
الأول : خصوص الرجال من المسلمين .
الثاني : شمول النساء بالخطاب في الآية ،إنما جاء جمع المذكر السالم لتغليب صيغة المذكر ولأن الرجال هم الذين يباشرون القتال .
الثالث : إرادة العموم وشمول القاعدين والمعذورين من القتال في الآية .
والصحيح هو الثاني والثالث أعلاه فان قلت قد ورد قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
والجواب صحيح أن النساء ليس عليهن قتال ، ولكنه مكتوب على المسلمين والمسلمات كلاً بحسب تكليفه , فالمسلمات عون للرجال ويقمن بحفظهم في بيوتهم وأولادهم وأموالهم أي أن معنى (كتب ) فرض القتال على الأمة وبين الفرض ومزاولة القتال عموم وخصوص مطلق ، بالإضافة إلى أحكام القتال الإضطراري وهو إذا داهم بلاد المسلمين عدو مشترك يخشى منه على بيضة الإسلام فيجب الدفاع على كل مستطيع ذي قوة حتى المرأة والعبد ويرفع الحجر عن العبد .
وجاءت الآية بصيغة المضارع لإفادة إستقبال المسلمين أيامهم بنقاء صفوفهم من الوهن والضعف ومجتمعاتهم من الحزن والكآبة ويحتمل زمان ما قبل نزول الآية وجوهاً :
الأول : لم يهن ولم يحزن المسلمون بدليل أنهم إنتصروا في معركة أحد وجلبوا الغنائم الى المدينة ، وتلقوا الأموال فداء عن الأسرى .
الثاني : لم يتعرض المسلمون قبل نزول الآية إلى ما يبعث الوهن والفزع في نفوسهم .
الثالث : ظهور الوهن والحزن عند المسلمين فجاءت آية البحث للنهي عن إستدامة الحال وما فيها من شماتة العدو وزيادة تجرئه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وإغرائه بمعاودة الهجوم على المدينة.
الرابع : حصول الوهن والحزن عند المسلمين على نحو السالبة الجزئية .
والصحيح هو الأول ليكون من دلالات الآية أمور :
الأول : إعجاز القرآن بالإستباق في إصلاح المسلمين لدفع الكيفية النفسانية المذمومة.
الثاني : الإنباء عن حدوث خسارة عند المسلمين .
وعلى القول بأن آية البحث نزلت يوم أحد فانها دعوة سماوية لبذل الوسع في الدفاع والصبر ، وعدم جعل الخسارة وسقوط الشهداء والجرحى سبباً للوهن والضعف .
الثالث : البشارة بالنصر والفتح فتنتهي معركة أحد ولكن النهي عن الوهن والضعف خطاب متجدد إلى المسلمين بعدم الوهن مع أعدائهم من الكفار وليس فيما بين المسلمين الذين ينطقون بالشهادتين .
فان قلت وفي حال الفتنة الجواب لابد فيها من السعي في الإصلاح والصلح ونبذ الإقتتال وضروب الفرقة وما فيها من القبح . قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] ( ).
وقد يصيب الحزن طائفة من المسلمين أثر واقعة أو خسارة ، ويشاطرهم المسلمون هذا الحزن كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (مثل المؤمنين في تواددهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”)( ).
فجاءت الآية لتبين أن الحزن غير الشكوى والمناجاة فيها فإذا إحتاج المسلم النصرة انتدب وهب المسلمون لنصرته، ولكنه إن حزن فانهم لا يشاركونه الحزن بل يدعونه لذكر الله والتوكل عليه وترك الحزن فان قبيح بذاته ، وبالنهي القرآني عنه فلا يلوم المسلم المصاب المسلمين لعدم مشاطرته الحزن لأن وظيفتهم العبادية تنهاهم عن الحزن ، وأن مواساتهم له هي التعاون والمناجاة في الإتحراز للمستقبل وعدم الوهن أو الخوف من العدو والثناء على الله للفوز بالهداية.
ومن معاني قوله تعالى [وَلاَ تَحْزَنُوا]إعانة المسلمين لأخيهم المسلم بالتخلص من الحزن وما يسببه من القعود والنكوص وغلبة الأوهام ودبيب الوسوسة وتجعل الآية المسلمين يدركون أن مواساة المسلم ليس مشاركته ومعذرته على القعود بسببها ، بل بالانتفاع من فرائد الإيمان والبذل التي يتصف بها لتعم الغبطة والسعادة المسلمين وتكون [كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا]( ).
وجاء القرآن بتسمية المسلمين[ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )،ومن مصاديق خروجهم للناس بلحاظ قوله تعالى [وَلاَ تَحْزَنُوا]أمور :
الأول : يتلقى المسلمون الكيفية النفسانية العامة لهم من عند الله عز وجل , فليس من أمة يأتيها , ويستمر معها التأديب السماوي إلى يوم القيامة إلا المسلمين .
الثاني : دعوة الناس إلى الإقتباس من آداب وأخلاق المسلمين ، والتعلم منهم ، وهذا التعلم مناسبة ووسيلة لجذبهم إلى منازل الإيمان .
الثالث : يمكن تسمية المسلمين بأنهم الأمة التي لا تحزن وتنفرد بما هية وهي أنها لا تعرف الحزن وعلى نحو السالبة الكلية ، إذ جاءت هذه الآية لتقتلعه من الأصل .
إن كون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ]يحتمل في ذات الوصف وجوهاً:
الأول : الأفضلية الإجمالية أي لو اًجريت مقارنة وتفضيلا بين خصائص كل أمة لكان المسلمون [ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وهذا الوجه لا يعني التفضيل في كل شيء على نحو مستقل .
الثاني : إرادة التقييد وأن الأفضلية في أمور ووجوه على نحو الموجبة الجزئية .
الثالث : لغة الإطلاق في التفضيل فهم[خَيْرَ أُمَّةٍ] في كل شيء .
والصحيح هو الثالث وان تفضيل المسلمين على نحو الإطلاق وفي كل حكم مستقل ، وإذا اعطى الله فانه يعطي بالأتم والأفضل , ومنه العصمة من إستيلاء الحزن على المسلمين ، وما قد يطبعه من الغشاوة على الأبصار أو البصائر والحزن سبب لفوات بعض الفرص والعجز عن تحقيق الأماني ، فجاءت آية البحث للأخذ بأيدي المسلمين نحو الغايات الحميدة .
الرابع : حينما جعل الله عز وجل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ] فانه جعلهم نبراساً وأئمة في سبل الصلاح , ومنها عدم الحزن .
الخامس : لا يحزن المسلمون لأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ] ولأن الثواب يترتب على ما يلاقون من الأذى في جنب الله ، فهل دعوة للناس بعدم الحزن.
الجواب لا إنما يحزن الإنسان على تخلفه عن الايمان , وإختياره الضلالة فهذه أكبر مصيبة .
ومن خصائص الكفر أنه أشد الأعداء شراسة الذي يصاحب الإنسان وهل هو كالداء القاتل الذي لا يعلم به الإنسان والكافر يعلم بسوء إختياره لذا تفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية وأخرج الله عز وجل من صلب ورحم النبوة الخاتمة [خَيْرَ أُمَّةٍ] للناس لنبذ الكفر ومفاهيم الشرك .
ويحتمل خروج [خَيْرَ أُمَّةٍ] وهم المسلمون للناس من جهة الإبتداء وجوهاً:
الأول : خرج المسلمون للناس مع دخول أغلب الناس الإسلام ، وذات الدخول الذاتي خروج للغير أيضا , فمن خرج له المسلمون يصبح من جنود الله وأفراد (خير أمة ) في الخروج للقريب والبعيد بلباس التقوى.
الثاني : خروج المسلمين بعد إعلان الدعوة الإسلامية والجهر بها ، فقد دامت الدعوة للإسلام خفية من المشركين ثلاث سنين ، وإتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم محلاً لنشر الدعوة حتى نزل قوله تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]( ) .
الثالث : خرج المسلمون للناس بنزول قوله تعالى[وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]‌( )، إذ (انطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربوة من جبل ، فعلا أعلاها حجراً ثم قال: يا بني عبد مناف أني نذير لكم إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى أهله، فجعل يهتف: يا صباحاه.. يا صباحاه.. أتيتم.أتيتم)( ).
الرابع : إقترن خروج المسلمين للناس بالمعجزة النبوية الشريفة لأسباب عديدة من جهات :
الأولى : إبتداء مرحلة جديدة في تأريخ الإسلام تتقوم بالدعوة العامة .
الثانية :وجود الأنصار .
الثالث : كثرة أعداد المسلمين والقبائل والمدن التي ينتمون لها .
الرابع : وجود أهل الكتاب في المدينة وحصول الإحتجاج وبيان الحجة .
الخامس : مجئ الوفود إلى المدينة من الأمصار ، ومنهم وفد نصارى نجران كما في قوله تعالى [فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
السادس : خرج المسلمون للناس عندما إنتصروا في معركة بدر على الكفار ولم يعودوا يخشون كيدهم وبطشهم .
السابع : كان خروج المسلمين تدريجياً وعلى مراتب بحسب الحال والشأن.
الثامن : خرج المسلمون للناس عند إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى .
الصحيح هو أن خروج المسلمين للناس إبتدأ مع بدايات البعثة النبوية ، وأن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو إمام الأمة وأولها وقائدها في الخيرات، وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ]( ).
وقوله تعالى [وَلاَ تَحْزَنُوا] من علم الغيب ، كما يدل عليه بالدلالة التضمنية من الإخبار عن وقوع الخسارة عند المسلمين , وليس من أمة تستعد للأذى والمصائب بواقية من السماء سابقة لوقوع البلاء ليكون هذا الإخبار من مصاديق [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ويحتمل موضوع الآية بلحاظ أفراد الزمان الطولية وجوهاً:
الأول : إرادة ما يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من شدة الأذى من قريش , وجاء خطابُ الآية بصيغة الجمع إلا أن المراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى في إبراهيم [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ]( ).
الثاني : المراد أهل البيت والمهاجرون والأنصار الذين صبروا في مواجهة زحف جيوش المشركين من قريش والقبائل التي تحالفت معها مثل غطفان .
الثالث : إرادة فريق من الصحابة الذين يتعرضون للخسارة والجراح وفقد الأحبة في ميادين القتال .
الرابع : الخطاب في الآية مطلق ومتجدد في زمانه .
والصحيح هو الأخير ، اذ يتوجه النهي للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة مجتمعين ومتفرقين ، ليكون اللطف الإلهي مصاحباً للمسلم في البيت والسوق والعمل وفي المسجد وعند وقوع المصيبة والضرر.
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية تلاوة المسلم لآيات القرآن على نحو الوجوب العيني عدة مرات في اليوم فيتلو أو يستمع وينصت لهذه الآية , فيتحصن من الحزن عند المصيبة قبل حدوثها ، ويكون الإسترجاع حاضراً في ذهنه .
ترى لماذا جاء النهي عن الوهن والحزن بعد معركة أحد ولم يأت قبل أو بعد معركة بدر، أو بعد معركة الخندق، الجواب من وجوه:
الأول : انتصر المسلمون في معركة بدر مع قلة العدد والعدة، فلم يكن في البين سبب للوهن.
الثاني : قلة خسائر المسلمين في معركة بدر مع كثرتها في طرف الكفار، ولم يقتل من المسلمين يومئذ إلا أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
الثالث : بعد إنقضاء معركة بدر إشتاق المسلمون لخوض معركة جديدة مع الكفار خاصة الذين لم يشتركوا في المعركة.
ولو تردد الأمر بين الإطلاق في مواضيع (ولا تهنوا) أو التقييد بخصوص القتال، فالجواب هو الأول لأصالة الإطلاق , ويكون تقدير الآية على وجوه:
الأول : ولا تهنوا في الدفاع عن بيضة الإسلام.
الثاني : ولا تهنوا في أداء الفرائض والعبادات.
الثالث : ولا تهنوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : ولا تهنوا أو تجبنوا في ميادين القتال.
الخامس : ولا تهنوا أو تضعفوا في السعي للجنة والإقامة فيها , قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
السادس : لا تهنوا في التمسك بالقرآن والسنة، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
السابع : لاتهنوا في توارث مبادئ الإسلام والتفقه في الدين.
الثامن : لا تهنوا في بناء صلاح الأخلاق الفاضلة.
التاسع : لا تهنوا في الدعاء وسؤال الحاجات من عند الله.
العاشر : لاتهنوا في محاربة الشيطان والتوقي من النفس الشهوية والغضبية.
الحادي عشر : لا تهنوا في الدعوة إلى الإسلام.
الثاني عشر : لا تهنوا وتضعفوا عند البلاء والقحط والمرض والآفة السماوية والأرضية.
الثالث عشر : لا تهنوا في وراثة الأنبياء وخلافة الأرض.
الرابع عشر : لا تهنوا بالعمل بأحكام القرآن والسنة النبوية.
الخامس عشر : لا تهنوا في التفقه في الدين، والإرتقاء في سلم المعارف الإلهية.
السادس عشر : لا تهنوا في التصدي للمنافقين وفضحهم , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ).
السابع عشر : لا تهنوا في طلب الرزق الكريم، والتنزه عن الحرام.
الثامن عشر : لا تهنوا في إقامة العدل وإشاعة الإنصاف.
التاسع عشر : لا تهنوا في فضح الظلم، ومحاربة الطواغيت، وإظهار كلمة الحق , وجعلها هي العليا.
العشرون : لا تهنوا في سؤال الفضل والمدد من عند الله، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الحادي والعشرون : لاتهنوا في تعظيم شعائر الله، وتعاهد مقامات التقوى.
الثاني والعشرون : لاتهنوا في إكتساب الحسنات وزيادة الهدى، والجهاد في سبيل الله , قال تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ]( ).
والمقصود في قوله تعالى(ولا تهنوا) وجوه:
الأول : لا تهنوا في الجهاد في سبيل الله، ومحاربة الظالمين بلحاظ أن عدم الوهن يتعدى إلى مفعول خارجي.
الثاني : عدم الوهن في النفع والفعل الذاتي والإرادة النفسية.
الثالث : لا تهنوا فيما بينكم في طاعة الله والإمتناع عن الفرقة والخصومة ليكون معنى(لا تهنوا) كالمشترك المعنوي الذي تكون له معان متعددة ومقاصد عديدة، فلا تهنوا في الصبر والدعوة إلى الله وتلقي الأذى ومحاربة الكفار، ولا تهنوا بمفاهيم المودة الأخوة الإيمانية بينكم.
بحث أصولي
العلة التامة في الفلسفة هي وجود المقتضي وفقد المانع، كما لو أحرزت دخول شهر رمضان، وعدم وجود مانع من الصيام كالمرض والسفر فيتحقق المعلول وهو وجوب الصيام، والعمل بقوله تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، ولو شككنا في إنتفاء المانع وإحتمال وجوده كالمرض فتجري قاعدة المقتضي والمانع بالبناء على إنتفاء المانع، ولزوم ترتب الأثر على المقتضي وتحقق المعلول وهو في المثل صيام شهر رمضان وتختلف عن أصل الإستصحاب بالتعدد والتباين بين مورد اليقين وهو وجود المقتضي ومتعلق الشك والإحتمال وهو وجود المانع .
أما في الإستصحاب فالموضوع متحد واليقين سابق ولكن الشك اللاحق يتعلق باستدامة الحدوث والبقاء في ذات الموضوع.
فجاءت آية البحث لتؤكد المقتضي لعدم الخوف من العدو، وهو من وجوه:
الأول : عطف الآية بصيغة النداء والخطاب للمسلمين والمسلمات بصيغة الإيمان.
الثاني : وصف حال المسلمين بأنهم الأعلى شأناً من غيرهم وأن أسباب ومقدمات النصر حاصلة عندهم على نحو القطع.
الثالث : بلوغ المسلمين مرتبة اليقين بالنصر والغلبة على الأعداء.
وهل آية البحث علة تامة للنصر، الجواب القدر المتيقن من الآية سلامة المسلمين من درن الشك والخوف والفزع من العدو.
أما قاعدة اليقين التي قال بها بعض الأصوليين فهي إرادة الشك الساري الطارئ على اليقين، ويلحظ أن التسمية لا تتلائم مع المسمى، فاذا كان الشك يدخل على اليقين ويطرده ويتحول اليقين إلى شك بحيث يدرك المتيقن حصول الشك وإنتفاء السبب والعلة لليقين فكيف تسمى القاعدة بقاعدة اليقين وهي أقرب إلى (اللايقين) خاصة وأن الشك يطرأ في ذات الموضوع المتيقن فيتغير العنوان وإن إتحد الموضوع، بخلاف الإستصحاب الذي يتعدد فيه المتعلق .
فالحدوث السابق هو متعلق اليقين، أما إستدامة الحدوث فهي متعلق الشك، كما لو غاب الزوج عن زوجته لسنوات وكنت على يقين بحياته في السنة الماضية ثم شككت في حياته ففيه تفصيل:
الأول : الشك في أصل حياته في السنة الماضية، بمعنى أنه لم يكن حياً في السنة الماضية وأنه مات قبلها وهذا هو الشك الساري وهو الذي تتقوم به قاعدة اليقين.
الثاني : الشك في حياته هذه السنة بعد اليقين بها في السنة الماضية، وهذا الشك هو موضوع الإستصحاب، فالإستصحاب لا ينفي اليقين، ولا يتعارض اليقين والشك فيه للتباين في الوعاء الزماني لكل منهما، أما قاعدة اليقين فان المحل واحد لليقين والشك , ولا يجتمع المتضادان في محل واحد فحينما يطرأ الشك في ذات الموضوع يغادر اليقين قهراً، وبالإستصحاب نعمل باليقين السابق.
كما لو شككنا بعدالة زيد عنه إدلائه بالشهادة فعلى أصل الإستصحاب نأخذ بشهادته ولا عبرة بالشك اللاحق لعدم قدرة الشك على إزاحة اليقين ومنه ما يكون من مصاديق الظن في قوله تعالى[إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ]( )، فلابد من الظن بالمسلم خيراً، والإحتراز من الظن بالباطل.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث( ).
قانون الشورى
قال تعالى[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( )، يقال أشار يشير إذا ما وجّه الرأي) ( )، والمشورة مفعلة مشتقة من الإشارة.
وتأتي المشورة طوعاً وهي من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاء القرآن بضابطة لها [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ).
وقد تأتي قهراً ومن غير البشر فعندما قتل قابيل أخاه هابيل إحتار وإرتبك وفكر في التدارك أو ترك الأمر لأنه أول ميت من الناس، فجاءت المعجزة كما ورد في التنزيل[فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ]( )، إذ اقتتل غرابان فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه، لبيان كيفية تصرف قابيل ولزوم حفر الأرض ودفن أخيه.
والآية في مفهومها خطاب لقابيل بأنه لا سبيل إلى إحياء أخيك لك، ولابد من دفنه تحت الأرض ولا تنتظر قيامه لك بعد الموت، أي من بين غايات دفن الغراب علم الناس باجيالهم المتعاقبة بقانون إنقطاع الحياة بمفارقة الروح للجسد , وفيه مسائل :
الأولى : بعث اليأس في نفس قابيل من حياة أخيه ليستقر الندم والحسرة عنده.
الثانية : الأقوى أن آدم أخبر أولاده بالبعث بعد الموت , فكان رجاء قابيل أن يكون بعث هابيل متعقبا لقتله , لذا ورد عن ابن عباس أنه طاف به سنة .
الثالثة : فيه دعوة لقابيل للجوء إلى الإستغفار، والإستجارة بطلب العفو من الله ومن آدم وحواء، وهل في هذا القتل الدية الجواب حكمه القصاص إلا أن يعفو ولي الدم وهو آدم، وهل يجب على آدم العفو لأحكام الضرورة( ).
وهل يمكن القول بأن الغرابين أو أحدهما وهو القاتل من الملائكة أو الجن، الجواب لا، إنما تحمل الآية على ظاهرها وإن الغرابين من صنف الحيوان وكان فعلهما من فضل الله على الإنسان وتسخير الموجودات من أجله وأسرار خلافته في الأرض.
وعن الإمام علي بن الحسين: بعد ذكر قربان هابيل وقابيل قال: فلم يدر كيف يقتله حتى جاء ابليس فعلمه فقال : ضع رأسه بين حجرين ثم اشدخه ، فلما قتله لم يدر ما يصنع به فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر الذى بقى الارض بمخالبه ودفن فيه صاحبه قال قابيل : يأويلتى أعجزت ان اكون مثل هذا الغراب فاوارى سواة أخى فاصبح من النادمين فحفر له حفيرة ودفنه فيها فصارت سنة يدفنون الموتى فرجع قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل : فقال له آدم . أين تركت ابنى ؟ قال له قابيل أرسلتنى عليه راعيا ؟ فقال آدم . انطلق معى إلى مكان القربان وأوجس قلب آدم بالذى فعل قابيل فلما بلغ مكان القربان استبان قتله فلعن آدم الارض التى قبلت دم هابيل ، وأمر آدم أن يلعن قابيل ونودى قابيل من السماء . لعنت كما قتلت اخاك . ولذلك لا تشرب الارض الدم فانصرف آدم فبكى على هابيل أربعين يوما وليلة ، فلما جزع عليه شكى ذلك إلى الله تعالى فأوحى الله اليه انى واهب لك ذكرا يكون خلفا من هابيل ، فولدت حواء غلاما زكيا مباركا ، فلما كان يوم السابع أوحى الله اليه : يا آدم ان هذا الغلام هبة مني لك فسمه هبة الله فسماه آدم هبة الله ( ).
قال ابن اسحاق : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يلتمس حمزة بن عبدالمطلب، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ومثل به فجدع أنفه وأذناه.
فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حين رأى ما رأى: ” لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدى، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم”.
فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب)( ).
فانزل الله عز وجل [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ]( ).
قال ابن عباس (فعفا رسول الله وصبر ونهى عن المثلة) وحمزة بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال ابن هشام : وكان حمزة وأبو سلمة بن عبد الأسد أخوي رسول الله من الرضاعة أرضعتهم ثلاثتهم ثوبية مولاة أبي لهب .
ويحتمل عفو رسول الله محمد صلى الله عليه وآله سلم بلحاظ آية البحث وجوهاً:
الأول :إنه من عدم الوهن والضعف .
الثاني : إنه من شدة الحزن .
الثالث : إنه من الضعف .
الرابع :فيه دليل على إنتفاء الحزن وما يترشح عنه .
الخامس : العفو في المقام أجنبي عن موضوع عدم الوهن والحزن .
والصحيح هو الأول والرابع لما فيه من الدلالة على إمكان الظفر بذات العدو في معارك لاحقة .
وتجلت مشورة الملوك في القرآن بقصة بلقيس ملكة سبأ [قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ] ( )، فاظهروا قوتهم وولاءهم لها، وفوضوا لها كيفية إجابة سليمان [قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ]( )، وعن قتادة قال: ذكر لنا أنه كان أول مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلاً . كل رجل منهم على عشرة آلاف من الرجال ( ).
ويدل على كثرة أهل مشورتها مخاطبتها لهم بالملأ وهم وجهاء القوم وأهل الحل والعقد فاعلنت بلقيس قانوناً وقاعدة كلية صارت بالقرآن نبراساً وموعظة للمسلمين[قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً] قال تعالى[وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( )، وفيه تحذير للمسلمين ويتجلى بعالم الفعل بأن يتناجى المسلمون بطرد الوهن والضعف عن نفوسهم والتراخي من صفوفهم، كيلا يستحوذ العدو على الثغور والديار الإسلامية، وهل هذه المناجاة من مصاديق الثناء عليهم في قوله تعالى[وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]( )، الجواب من وجوه:
الأول : إنها من سبل إقامة الحق والعدل ومن أسمى مراتب الفضيلة.
الثاني : الصلات الأخوية بين المسلمين، وإتحادهم وعدم إختلافهم في كيفية الحفاظ على بيضة الإسلام، ( وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما المؤمنون في تراحُمهم وتعاطفهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر( ).
وقد ثبت بطب الأبدان الحديث أن العضو المصاب في البدن يشتكي إلى باقي الأعضاء على نحو الحقيقة ويرسل إشارات بواسطة العصب إلى الدماغ يستغيث بها، فيحصل نفير في البدن بغية التدارك والسيطرة على الإصابة والمرض، حتى يحصل الشفاء التام ليتجلى الإعجاز في الحديث النبوي بالعلم الحديث.
وكذا في مناجاة المسلمين بينهم بدفع الوهن عن نفوسهم فهي وسيلة لإرتقائهم لمرتبة سلامة النفوس ويتجلى للأجيال المتعاقبة حاجة المسلمين الأوائل إلى وصية بعضهم بعضا بالثبات في مقامات الإيمان وعدم الخوف والخشية من الكفار.
الثالث : هناك تضاد بين ماهية الصبر والحزن، وتتقوم الفضائل ومحاسن الأخلاق بالصبر ليكون من مصاديق وتفسير الآية أعلاه:وتواصوا بعدم الوهن والحزن، فتأتي المناجاة والأمر بالصبر تارة بذكره بالذات في التنزيل وفي المناجاة بين المؤمنين قال تعالى[فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ]( )، للزوم تهيئة مقدمات العبادة، وإستدامتها وعدم الإلتفات إلى العوائق والموانع.
والمشورة أمر عقلائي وتتجلى الحاجة لها عند الشدائد، ولكنها ذات نفع مطلق في حال الرخاء والشدة، والسراء والضراء، وعند العزم على فعل أو ترك، (وعن الأمام علي عليه السلام قال: من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها( ).
ولا تنحصر المشورة بأهل الإيمان بل تشمل الناس جميعاً، ومن يكون مستشاراً في أمر يلجأ إلى مشورة غيره في أمر آخر أو في ذات الأمر نفسه، والغالب في المشورة أنها في الحق وسبل الهداية، ولكن قد تأتي في موضوع معصية أو مكيدة بالباطل أو نقض لميثاق لذا جاء النهي والزجر عن رفقاء السوء ، وفي قوله تعالى[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ]( )، قال ابن عباس: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق – يريدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم – وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ، فبات علي رضي الله عنه على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوه علياً رد الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال : لا أدري . فاقتصوا أثره ( ).
والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام والأسوة في الإمتثال للأوامر الإلهية، وكان يستشير أصحابه عند الخروج إلى المعركة وتقومت معارك الإسلام الأولى بالشورى العامة والخاصة لتنمية ملكة الشورى والتشاور عندهم مع أنه في غنى عنها بالوحي والتنزيل وحينما جاءت قريش بخيلها وخيلائها جمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه فقال المقداد بن عمرو : يا رسول الله امضِ لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هَهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديكَ وخلفك ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى ( بَرْكِ الغماد) ( )،لجادلنا معك من دونه حتى تبلغه.
وقال عبد الله بن مسعود بعدها: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحب إليَّ مما عدل به ( ).
وكان النبي يريد سماع قول الأنصار وموافقتهم على الخروج للقاء العدو، لأنهم بايعوه في العقبة الثانية بأن إذا قدم إليهم في يثرب يذبون عنه، ولم يبايعوه على القتال معه خارج المدينة، مع أن ذات موضع القتال ملحق بالمدينة من جهات:
الأولى : إرادة قريش غزو المدينة، إذ وصلوا إلى مشارفها.
الثانية : الخروج أفضل لأهل المدينة وفي خطط القتال.
الثالثة : رؤية الأنصار لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد إقامته في المدينة مما يعني المندوحة والتوسعة في النصرة.
الرابعة : نزول آيات القرآن بالإطلاق في وجوب نصرته صلى الله عليه وآله وسلم والقتال تحت رايته , قال تعالى[إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ]( ).
الخامسة : تنمية ملكة التوكل على الله عند المسلمين، وحسن إنقيادهم لما يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : مجئ المدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله إبتداء من خروجه من مكة وتجلي سلامته وصاحبه بآية من عند الله.
وأخرج ابن سعد وابن مردويه عن ابن مصعب قال : أدركت أنس بن مالك ، وزيد بن أرقم ، والمغيرة بن شعبة ، فسمعتهم يتحدثون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت في وجه النبي فسترته ، وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته ، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار .
وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل بعصيهم وأسيافهم وهراويهم ، حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم قدر أربعين ذراعاً فنزل بعضهم فنظر في الغار ، فرجع إلى أصحابه فقالوا : ما لك لم تنظر في الغار؟! فقال : رأيت حمامتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد.
فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قال ، فعرف أن الله درأ عنه بهما فسمت( )، النبي صلى الله عليه وسلم عليهن وفرض جزاءهن وانحدرن في الحرم ، فأخرج ذلك الزوج كل شيء في الحرم ( ).
ومشاورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه لا تنحصر بمعركة بدر ففي غزوة الأحزاب أشار عليه سليمان الفارسي بحفر الخندق فامضى قوله، وكان آية في صرف شر وأذى قريش ولحوق الخزي بالكفار ولما فرغ رسول الله من حنين ذهب إلى الطائف فحاصرها لأن ثقيف رجعوا من المعركة إلى حصنها، وأختلف في مدة حصارها وأكثر الأقوال أربعين ليلة، وأقلها سبعة أو ثمانية أيام، وقتل جماعة من المسلمين بالنبل لأنهم نزلوا قريباً من حصن الطائف فكانت النبل تصل إليهم، وأرادوا إحداث شدخة في جدار الحصن .
قال ابن إسحاق: حَتّى إذَا كَانَ يَوْمُ الشّدْخَةِ عِنْدَ جِدَارِ الطّائِفِ ، دَخَلَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ تَحْتَ دَبّابَةٍ( )، ثُمّ زَحَفُوا بِهَا إلَى جِدَارِ الطّائِفِ لِيَخْرِقُوهُ فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً بِالنّارِ فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا ، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنّبْلِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ ، فَوَقَعَ النّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ ( ).
وذكر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما لم يتمكن من فتح الطائف إستشار نوفل بن معاوية الديلى فقال ما ترى فقال: ثعلب في حجر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك , فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب فأذن في الناس بالرحيل , فضج الناس من ذلك وقالوا ترحل ولم يفتح علينا الطائف فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاغدوا على القتال فغدوا فأصابت المسلمين جراحات فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنا قافلون إن شاء الله فسروا بذلك وأذعنوا وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحك وقال لهم قولوا لا إله إلا الله وحده صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده فلما ارتحلوا واستقلوا قال قولوا آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون. وقيل يا رسول الله ادع الله على ثقيف قال: اللهم اهد ثقيفا وائت بهم مسلمين( ).
أي حينما اشاروا بالدعاء على العدو لم يقبل النبي المشورة بل دعا لهم بدخول الإسلام فما لبثوا أن جاءوا مسلمين وكان بعضهم ينادي وهو على حصن الطائف: يا عبيد محمد، إنكم والله ما لاقيتم أحداً يحسن قتالكم غيرنا؛ تقيمون ما أقمتم بشر محبس، ثم تنصرفون لم تدركوا شيئاً مما تريدون ( ).
وفي خروجه إلى تبوك وإقامته فيها عشرين ليلة إستشار أصحابه فاشاروا بالرجوع بعد حصول الغاية من الغزوة وهي بعث الفزع والخوف في قلوب الروم فعاد راجعاً.
ولا تنحصر إستشارة النبي لأصحابه بأول المعركة فحتى أثناء المعركة وعندما يستحدث أمر , وحينما أراد مصالحة غطفان على شئ من ثمار المدينة مقابل رجوعهم وترك مؤازرة قريشا في الحصار إستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاشارا بعدم إعطائهم وأنهم لم يذعنوا لهم في أيام الجاهلية والشرك فكيف في الإسلام والنبي بين ظهرانيهم .
وبعد المعركة أيضاَ يستشير أصحابه كما في أسرى بدر وقبول الفدية منهم لتنمية ملكة المشورة وصيرورتها واقعا ولها موضوعية في حياة المسلمين .
وفي كتيبة خيبر وعند محاصرة حصنها أشار الحباب بن المنذر بقطع النخيل , فاخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المشورة لوجوه:
الأول : إلقاء الحسرة في قلوب اليهود لأنهم يحبون تلك النخيل.
الثاني : إنكشاف حصن خيبر للمسلمين.
الثالث : عدم إنتفاع اليهود من الطرق الخاصة بين النخيل للكر والفر إذا صار القتال خارج الحصن، فهم يعرفون تلك الطرق ويمكن أن يتفقوا على خطة دفاعية أو هجومية بواسطتها أو الإحتماء بها، وتفريق جيش المسلمين بواسطة النخيل لتكون المعركة كأنها حرب أزقة.
الرابع : بعث الفزع في نفوس الأعداء بأن يظهر المسلمون أقوياء يسهل عليهم قطع النخيل من غير ملل أو ضجر كما في الخضاب فقد كان أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخضبون شعرهم ولحاهم ليظهروا للعدو أنهم في سن الشباب.
الخامس : الميل على النخيل لبيان غنى المسلمين وأنهم لم يأتوا طمعاً بالمال كما في لبس الحرير فهو محرم على الرجال إلا أنه جائز في المعركة ليظهر المسلمون في حال غنى وإستقرار وفيه ترغيب لأفراد العدو والناس بدخول الإسلام.
السادس : عدم الخشية من إنتقام العدو، عند إنتهاء الحصار، وإرسال رسالة بأن المسلمين لا يرجعون إلا بالنصر.
السابع : بيان قدرة المسلمين على القتال وصبرهم لطول مدته , وتهيؤهم لإقتحام الحصن .
ولما أطل على الأرض هلال شهر ذي القعدة للسنة السابعة للهجرة، أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن يستعدوا لعمرة الحديبية وأن لايتخلف عنها من شهد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، وخرج معهم آخرون، فكانوا ألفين عدا النساء والصبيان، فدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة راكباً ناقته القصواء ويحيط به أصحابه وهم ينادون(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) وكانوا على حيطة ومتوشحي السيوف خشية غدر قريش.
وانتشرت بين كفار قريش أن محمداً وأصحابه أضعفتهم حمى يثرب فأخذت قريش تنظر إلى المسلمين في طوافهم من بعد، فأطلع الله عز وجل رسوله على ما تقوله قريش، فأمر أصحابه أن يرملوا ويهرولوا عندما يكونوا في مقابل قريش وأن يمشوا في الجهة الأخرى من الطواف حيث لا يراهم المشركون كي يحافظوا على قوتهم، ( فلما رآهم المشركون , قالوا: أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا] ودليل على أن موضوع الآية أعم من حال القتال والحرب، فقد يكون عدم الوهن واقية من حدوث الحرب والقتال.
الثامن : إعلان الأنصار الإيمان المطلق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند المشورة، وبسبب موضوعها فحينما استشار الأنصار في الخروج لملاقاة قريش في معركة بدر، فقد أجابه (سعد بن معاذ – وقيل سعد بن عبادة ويمكن أنهما تكلما جميعا في ذلك اليوم – فقال : يا رسول الله كأنك تريدنا معشر الأنصار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أجل فقال : إنا قد آمنا بك واتبعناك فامض لما أمرك الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم فمضى رسول الله صلى الله عليه و سلم وسبق قريشا إلى ماء بدر( ).
ومن الإعجاز أن مشورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأخذ بها لا يكون إلا بالوحي فهذا القبول من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
لتكون مصاديق الوحي الذي تترشح عنه السنة النبوية على وجوه :
الأول : ما يأتي إبتداءً.
الثاني : سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وتلقي الإجابات واختيار أحدها أو بعضها بالوحي.
الثالث : الصبر والتريث إلى أن يصدر قول أو فعل فيعمل به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو يأمر به بالوحي.
الرابع : التقرير لقول أو فعل مخصوص بأن يسكت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يدل على رضاه به ويحتمل في هذه الحال صور:
الأول : الأصل هو الرضا والقبول من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا سكت ولم يعقب إلا مع القرينة الصارفة عليه.
الثاني : الأصل هو عدم الرضا، فلابد من بينة تدل على الحكم النبوي في الواقعة إلا مع القرينة الصارفة إلى الرضا.
الثالث : ليس من أصل في المقام، إنما المدار على القرينة فهي التي تدل على القبول أو النهي أو التخيير.
والصحيح هو الأول وتسمى السنة التقريرية، وهذا الرضا والسكوت لايكون إلا بالوحي والإذن من عند الله، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ليكون كل فعل أو أمر من النبي وثيقة سماوية تنتفع منها أجيال المسلمين بالأصالة، وعموم أهل الأرض بالإلحاق والإقتباس.
وكان الوحي وموضوعيته حاضرين في الوجود الذهني للصحابة عند الإشارة أو السؤال أو إنتظار الإجابة والإستعداد للعمل عملاً بقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ]( ).
ولا تختص مشورة النبي لأصحابه بمقدمات القتال وقبل الشروع بالفعل، بل يغير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمر ويأتي فعلاً آخر إذا كانت هناك مشورة توافق الوحي فحينما نزل على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة وقد نزل مطر غزير جعل الأرجل تسيخ في الرحل اللين، قال الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال عليه السلام : بل هو الرأي والحرب والمكيدة فقال : يا رسول الله إن هذا ليس لك بمنزل فانهض بنا إلى أدنى ماء من القوم فننزله ونعور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملأه فنشرب ولا يشربون فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك من رأيه وفعله ثم التقوا فنصر الله نبيه والمسلمين فقتل من المشركين سبعين وأسر منهم سبعين وانتقم منهم للمؤمنين وشفى الله صدر رسوله عليه السلام وصدور أصحابه من غيظهم , وفي ذلك يقول حسان :
عرفت ديار زينب بالكثيب … كخط الوحي في الورق القشيب
تداولها الرياح وكل جون … من الوسمي منهمر سكوب
فأمسى ربعها خلقا وأمست … يبابا بعد ساكنها الحبيب
فدع عنك التذكر كل يوم … ورد حرارة الصدر الكئيب
وخبر بالذي لا عيب فيه … بصدق غير إخبار الكذوب
بما صنع الإله غداة بدر … لنا في المشركين من النصيب
غداة كأن جمعهم حراء … بدت أركانه جنح الغروب
فلاقيناهم منا بجمع … كأسد الغاب مردان وشيب
أمام محمد قد وازروه … على الأعداء في لفح الحروب
بأيديهم صوارم مرهفات … وكل مجرب خاظي الكعوب
بنو الأوس الغطارف وازرتها … بنو النجار في الدين الصليب
فغادرنا أبو جهل صريعا … وعتبة قد تركنا بالجبوب
وشيبة قد تركنا في رجال … ذوي نسب إذا نسبوا حسيب
يناديهم رسول الله لما … قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا كلامي كان حقا … وأمر الله يأخذ بالقلوب
فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا … أصبت وكنت ذا رأي مصيب( ).
ليأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشورة الحباب بما ينفع المسلمين ويكون مقدمة للنصر ويجنب جيشهم الخسائر وبعيداً عن سهام العدو، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمد بن مسلمة باختيار الموضع الملائم للجيش، وهذا الموضع لو لم يوافق الوحي لا يقبل به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتدخل الشورى في جذب المسلمين إلى سبل الطاعة والإنقياد للأحكام الشرعية، وفي صلح الحديبية كان الصحابة يرون فتح مكة ولا يشكون فيه خصوصاً بعد رؤيا النبي وإخباره لهم بها , قال تعالى[لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
وجاءت كدورة أخرى بسبب مجئ أبي جندل مسلماً وهو يرسف بالحديد مقيداً وإصرار أبيه سهل بن عمرو على إعادته إلى قريش كشرط في الصلح ورضا النبي بالأمر مع دعوته أبي جندل بالصبر ووعده بالفرج إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ ، فَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، إنّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللّهِ وَإِنّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ( ).
وبعد كتابة الصلح ووقوع العهد مع سهيل بن عمرو من كفار قريش قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك.فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما( ).
وتجوز مشاورة المرأة وفي شعيب وابنته نزل قوله تعالى[يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ]( )، فأخبرت عن صفات موسى عليه السلام وعلة رجحان استجارته مع أنه غير مدون عندهم وليس من أهل البلد، وعن ابن عباس: فحملته الغيرة أن قال : وما يدريك ما قوته؟ وما أمانته؟ قالت : أما قوته فما رأيت منه حين سقى لنا ، لم أرَ رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه حين سقى لنا . وأمانته : فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلما علم أني امرأة ، صوب رأسه ولم يرفعه ، ولم ينظر إليّ حين أقبلت إليه ، حتى بلغته رسالتك . فقال لي : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فلم يقل هذا إلا وهو أمين ، فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت . فقال : هل لك { أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ( ).
وليس من دليل يحجب المرأة عن حقها في المشورة، ومنهم من حصر مشورتها في أمور الأسرة والبيت، وليس من نص بهذا التقييد ، وعلى فرض فان عمل المرأة في هذا الزمان أعم من البيت وشؤون المنزل.
وما ينسبه العامة إلى الإمام علي عليه السلام بأنه قال(شاورهن وخالفوهن) لا أصل ولا موضوع له، وقيل بأنه على القاضي أن يستشير قبل الحكم والفتوى.
وقد حث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على المشورة بينهم ولزوم تقومها بالنصيحة قال:حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ قِيلَ مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ ( ).
وقد تأتي المشورة والنصيحة إبتداءً ومن غير سؤال وأخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمشورة موسى عليه السلام في ليلة الإسراء , قال صلى الله عليه وآله وسلم: ثم دفعت إلى موسى فقال : بم أمرك ربك ؟ قلت : بخمسين صلاة قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا يطيقون ذلك فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب خفف عن أمتي فإنها أضعف الأمم فوضع عني عشرا فما زلت أختلف بين موسى وبين ربي حتى جعلها خمسا فناداني ملك : عندها تمت فريضتي وخففت عن عبادي فأعطيتهم بكل حسنة عشر أمثالها ثم رجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ قلت : بخمس صلوات : قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييته( ).
وكان الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمور دينهم ودنياهم , قال تعالى[يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْكَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وفيه نكتة وهي أن الله عز وجل يتولى بنفسه الإجابة عن أسئلة الصحابة .
ومن منافع المشورة بخصوص آية البحث مسائل :
الأولى : تهيئة وتحصيل مقدمات الإمتثال لقوله تعالى ( ولا تهنوا) إذ ان المشورة نوع طريق للإجتهاد في طاعة الله وبذل الوسع في دفع شرور العدو واجتناب الأذى الخاص والعام .
الثانية : تقدير الآية ولا تهنوا في طلب المشورة وأخذ النصيحة ، ليكون هذا الأخذ طريق للغلبة والنصر .
الثالثة : إذا جاءت المشورة بأ مرين متباينين فيترك الذي فيه وهن ورجحان الحزن والأسى .وهو من إعجاز القرآن بأن تكون آية البحث حاضرة في أمور متعددة متفرعة عن موضوعها .
الرابعة : لا تهنوا في تقديم النصح والمشورة بخصوص مصالح المسلمين وجلب النفع ودفع الضرر، فلا تتوقف المشورة عن طلب خاص بل يجوز أن تأتي إبتداء وقد يجب على نحو الوجوب الكفائي عند إلتفات جماعة وطائفة لموضوعها ، او على نحو الوجوب العيني عند انحصار إعلانها والإستفادة منها بشخص بذاته ، ففي معركة بدر وإرادة تعيين موضعها وعندما نزل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فلما جاء أدنى ماء من بدر نزل عليه ، فقال له الحباب بن المنذر : يا رسول الله ، منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتعداه ولا نقصر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الحباب : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، ولكن انهض حتى تجعل القلب كلها من وراء ظهرك ، ثم غور كل قليب بها إلا قليبا واحدا ، ثم احفر عليه حوضا ، فنقاتل القوم فنشرب ولا يشربون ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال : قد أشرت بالرأي، ففعل ذلك ( ).
فلم يتردد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبول رأيه ونسخ أمره أمام جيش المسلمين من المهاجرين والأنصار وفيها حق لهم لإجراء المشورة والتدبير في المعركة وعدم الإكتفاء بالامتناع والإستجابة ، وهو الذي يدل علية قوله تعالى(ولا تهنوا) أي انصحوا وإقترحوا الملائم والمناسب ليكون القطع والحسم بالوحي والسنة النبوية الشريفة .
ويبين قبول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان الحرب لا تتقوم بالسيف وحده فقد يكون التدبير علة النصر أو تحصل به كفاية دون حدوث قتال ، لذا لو دار الأمر بين تحصيل المطلوب بواسطة القتال أم بدونه فيأخذ بالثاني وهو من أسرار فتح باب المشورة .
وقد تأتي المشورة لتأكيد اليقين ، أو لنفي المانع ليكون موضوعها تحصيل العلة التامة من وجود المقتضي وفقد المانع ، وربما فتحت المشورة باب التحقيق والفقاهة , وفيها تنمية للقرار الجماعي ومنع من الإستبداد بالرأي ودبيب الغرور إلى النفس وترشح الضرر الفادح عنه .
ولما اختتمت آية البحث بقوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) فهل يكون من مصاديقه ( ان كنتم مؤمنين بالشورى ) الجواب نعم , وفيه مسائل :ـ
الإولى : إنها أمر قرأني وإن جاء بصيغة لجملة الخبرية في وصف المؤمنين [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] ( )
الثانية :الشورى بين المسلمين نوع طريق لمنع الوهن .
الثالثة : إذا حدثت صيبة أو خسارة للمسلمين ففية تفصيل م جهتين
الأولى : لا يحصل الندم مع المشورة لإستيفاء الأمر وبذل المسلمين الوسع ، وعدم ترتب الخسارة على التقصير .
الثانية : مع الإنفراد بالرأي وعدم المشورة فقد يحصل الندم والحسرة .
وتقدير الآية بلحاظ الشورى على وجوه :ـ
الأول : إن كنتم مؤمنين بأن الشورى واقية من الضعف والوهن .
الثاني .إن كنتم مؤمنين بأن الشورى واقية من الحزن .
الثالثة : إن كنتم مؤمنين بأن الشورى تدفع الوهن والحزن مجتمعين .
الرابعة: إن كنتم مؤمنين بأنكم بالشورى تتعاهدون مرتبة العلو بين الناس .
الخامس إن كنتم مؤمنين بأن الشورى طريق للنصر والغلبة .
السادسة : إن كنتم مؤمنين بأن الشورى من خصائص الذين آمنوا فهناك ملازمة بين الإيمان والشورى وهو يمكن القول أن آدم لو استشار جبرئيل أوأي واحد من الملائكة لما أكل من الشجرة ولما هبط الى الأرض أما عدم الأكل من الشجرة عند المشورة فالجواب نعم ولعله من عمومات قوله تعالى [وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا] ( ) وقد ورد في تفسير العزم في الآية وجوه منها :
الأول : لم نجد له عزما أي عقدا ثابتا .
الثاني : يعني صبرا، عن قتادة ( ).
الثالث : عزما في العودة الى الذنب ثانا( ).
الرابع : ثباتا .
الخامسة : لم نجد له حفظا عن ابن عباس .
وأما بالنسبة للهبوط إلى الارض , فالجواب لابد من الهبوط لأن الله عز وجل خلق آدم للخلافة في الأرض قال تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ولو لم يأكل آدم عليه السلام من الشجرة أخذا بمشورة الملائكة أو باستحضار العهد الإلهي فانه يبتلى بمسألة أخرى إلى حين يهبط أو من دون إبتلاء إلا أن قصة هبوطه تدل في المقام على أمور:
الأول : حاجة الإنسان الى المشورة.
الثاني : قرب وحضور المشورة .
الثالث : إنتفاع الإنسان من المشورة .
الرابع : إنتفاء الحزن والحسرة بعد المشورة .
وهل المشورة من عمومات ومنافع نفخ الروح في آدم بقوله تعالى [فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا] ( )
الجواب نعم ، بلحاظ أن هذا النفخ سور الموجبة الكلية الذي يتغشى الناس جميعا وينفذ في اركانهم ويتجلى على جوارحهم , فان قلت كيف يكون من نفخ الروح وآدم نفسه وقع عليه النفخ مباشرة وبالذات لم يستشير , والجواب من وجوه :ـ
الأول : حياة آدم أعم من أن تنحصر بساعات وجوده في الجنة .
الثاني : نواميس الجنة تختلف عن نواميس الحياة الدنيا.
الثالث. أبى الله عز وجل إلا أن يأكل آدم من الشجرة , وقد ذكرتُ في فلسفة الهبوط إلى الأرض أنه رحمة بآدم ليعود والمؤمنون من ذريته إلى الجنة بالخلود فيها ومن غير وسوسة ابليس . وليس بينهم وبين الجنة من برزخ ومدة طويلة , قال تعالى [وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
وأدعو إلى الكتابة وتأليف مجلدات بهذا العلم وموضوعية الشورى بلحاظ الأبواب التالية :
الأول : الشورى في القرآن.
الثاني : الشورى في السنة القولية.
الثالث : إستشارة النبي أصحابه في معركة بدر ، إبتداءً وإستدامة.
الرابع : استشارة النبي لأصحابه في معارك الإسلام.
الخامس : إستشارة النبي ما بعد إنقضاء المعركة كما في أسرى بدر.
السادس : استشارة النبي أصحابه في الحرب والصلح والإنسحاب كما في حصار الطائف.
السابع : إستشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته وأزواجه، كما في مشورته في النحر في صلح الحديبية.
الثامن : خصائص المستشار من الصحابة.
التاسع : توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمشورة العامة لأصحابه.
العاشر : المشورة الخاصة للفرد الواحد أو الأثنين أو الثلاثة من الصحابة.
الحادي عشر : موضوعية الوحي في المشورة من جهات:
الاولى : قيام النبي بالإستشارة، أي أنه لا يستشير إلا بعد الأذن الإلهي.
الثانية : سماع المشورة، التي قد تأتي إبتداء من الصحابة.
الثالثة : الأخذ بالمشورة على نحو الموجبة الجزئية.
الرابعة : العمل بالمشورة على نحو الموجبة الجزئية.
الخامسة : رد المشورة وعدم قبولها بالوحي وعدم الإذن من الله عز وجل.
الثاني عشر: موضوعية وبركة قوله تعالى[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( )، في معارك المسلمين وحياتهم العامة.
الثالث عشر : عدول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن فعل بعد الإشارة بخلافه، كما في إرادته مصالحة غطفان في معركة الأحزاب على أن يعطيهم جزء من ثمار المدينة فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاشاروا بعدم الإعطاء كما تقدم فصرف النظر عنها حتى إنسحبت قريش وعطفان بخيبة وذل.
الرابع عشر : عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستشارة، وتوقفه حين الإستشارة بالتوقف، كما في المشورة بقطع نخيل خيبر عند حصارها ثم اشاروا عليه بالتوقف فأمر بوقف قطعها، وتقدمت وجوه في علة ومنافع هذا القطع.
الخامس عشر : النتائج والآثار الحميدة لعمل النبي بمشورة أصحابه مما يدل على أن هذا العمل ليس بذات المشورة وحدها بل بالوحي والإذن الإلهي فيه.
السادس عشر : موضوع الإستشارة وهو على أبواب:
الأول : العقيدة.
الثاني : القضاء.
الثالث : السياسة.
الرابع : الإجتماع.
الخامس : أحكام الشريعة.
السادس : مقدمات القتال.
السابع : الوصية والميراث كما ورد عن سعد بن أبي وقاص: أنه مرض مرضاً أشفي منه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال : يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة أفأتصدق بالثلثين؟ قال : لا . قال : فالشطر ، قال : لا.قال : فالثلث ، قال : الثلث والثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ( ).
وفي مشورة النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم لأصحابه تتجلى مسائل :
الأولى : إقامة الحجة والبرهان على صدق نبوته .
الثانية :تنمية ملكة إبداء الرأي والقول السديد عند الصحابة ، وتكون بواسطتهم ثابتة عند أجيال المسلمين .
الثالثة : بيان قانون كلي وهو أن الوحي ليس تعطيلاً للعقل .
الرابعة :بعث المسلمين على التدبر والتفكر في الأمور وعواقبها .
الخامسة إظهار حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ينصت لأصحابه ويستمع لأقوالهم .
السادسة :حسن خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوته لأصحابه ابتدائاً لابداء المشورة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
السابعة:تجلي حقيقة وهي أن النبي من البشر ويكرم المؤمنين ويحثهم على إسداء النصيحة لعموم المسلمين ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( )فبين الناس والأنبياء عموم وخصوص مطلق فالناس أعم من الأنبياء ، فكل نبي هو إنسان وليس العكس .
وقد يأتي الفعل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما هو أعم من الأمر والمشورة ،ويكون رأياً وشفاعة كما ورد عن عكرمة عن ابن عباس قال: لَمَّا خُيِّرَتْ بَرِيرَةُ رَأَيْتُ زَوْجَهَا يَتْبَعُهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَكُلِّمَ الْعَبَّاسُ لِيُكَلِّمَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَرِيرَةَ إِنَّهُ زَوْجُكِ فَقَالَتْ تَأْمُرُنِي بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ قَالَ فَخَيَّرَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَكَانَ عَبْدًا لِآلِ الْمُغِيرَةِ يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ)( ).
الثامنة : تأديب أمراء المسلمين وأهل الحل والعقد باللجوء إلى الإستشارة والإستعانة بعقول المسلمين ودعوتهم لعدم الإنفراد بالرأي وإتخاذ فعل عام يتعلق بمصالح الأمة حتى تتحد كلمتهم فيه ، وقد جاءت المشورة بخصوص حياة الأسرة وإستدامة العلاقة الزوجية , قال تعالى [فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا]( )، وفية دلالة على أولوية الشورى في الأهم والأظهر من الحياة الزوجية.
التاسعة :إستقراء سلامة الفطرة ، وحسن الرأي والمشورة .
العاشرة : مشورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، من وجوه:
الأول : الفعل الذي يترشح عن المشورة أدنى رتبة من الذي يأتي عن إنفراد الوحي وعلومه فهو فوق المشورة لأنه من عند الله , وفي التنزيل[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
الثاني : كما يشترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون في صفة العز في الآية أعلاه فانهم يشتركون في المشورة والتشاور.
الثالث : إدراك المؤمن بأنه لا يفعل الشئ إنقياداً بل يشاور ويدعى لبيان الحكمة والنصيحة.
الحادية عشر :كان العرب أهل انفة وإباء، وقد إختاروا السكن في الصحارى والمناطق البعيدة عن سطوة السلاطين، فجاء الإسلام ليصبح العرب قادة وأئمة وأرباب مشورة في المعضلات , ومدرسة المشورة تنمية لملكة الحكم ومقدمة لإدارة شؤون الأمصار.
الثانية عشرة: زجر الحكماء عن الإستبداد بالرأي والترفع عن الإذعان للحق والصدق فاذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي[َمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
يستشير أصحابه فمن باب الأولوية القطعية أن يلجأ الحاكم المسلم للمشورة من وجوه :
الأول :إنقطاع الوحي بعد إنتقال خاتم الأنبياء إلى الرفيق الأعلى في السنة الحادية عشرة للهجرة سنة 632 ميلادية .
الثاني : وجوب التأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : بالمشورة يصل المسلمون إلى العمل بالكتاب والسنة .
الرابع :بالمشورة يستحضر الدليل .
الثالثة عشر : لجوء الحاكم إلى الشورى وما فيها من تجليات الحكمة وإكرام الملأ من القوم سبب لاستدامة الحكم ومنع الفرقة وحصول الخروج على السلطان وما يسمى في هذا الزمان بالإنشقاق .
ومن الإعجاز في أحكام المشورة في الإسلام أنها برزخ دون هذا الخروج وأسباب الفتنة والفرقةُ لقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] ( )وتبين الآية اعلاه الفصل والترتيب بين المشورة والقرار والحكم الذي يعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى أن المشورة لا تعني ا شتراك في الحكم والشأن والمنزلة خاصة وأن المشورة على أقسام :
الأول : المشورة بالحق والعدل .
الثاني : لشورى بخلاف ما ينوي فعله خاصة إذا كانت بعد بيان الفعل الذي يراد إتيانه .
الرابع : مجئ المشورة تحضيرآ لأمر الحاكم وما فيه مصلحة المسلمين .
الخامس : المشورة ابتداء من غير طلبها من الحاكم وأولي الأمر .
وربما قال بعضهم ألمشورة في الأية خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه خلاف المشهور وظاهر الآية فوظائف الآية عامة وبركاتها تترشح على حكام وعلماء الإسلام وأهل الحل والعقد في المجتمعات وتجب المشاورة مع أهل العلم والدراية فيشاور الولاة العلماء في أمور الدين والدنيا مطلقا ويشاورون كلا بحسب الموضوع ، ويشاورون قادة الجيش فيما يتعلق في حال الحرب والسلم .والوزراء بعمارة البلاد وذوي الإختصاص بالشؤون التي تخصهم، وقال ابن عطية(المشورة من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير اهل العلم والدين فعزله واجب ، وهذا ما لا خلاف فيه ) ( ).
ولا دليل على العزل بسبب عدم الإستشارة وليس هو من الكبائر .
وإن ذهب المالكية إلى وجوب وعموم المشورة لقوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( ) .
وعن الشافعي أن هذا الأمر للإستحباب ويمكن القول بالتفصيل بحسب الحال والموضوع وعلى وجوه :
الأول :وجوب التشاور .
الثاني :الندب واستحباب التشاور .
الثالث : ما جرى المشورة في مثله ، وكأنهامن تحصيل الحاصل .
الرابع :الأمر الجلي والواضح الذي لا يستلزم المشورة ، قوله تعالى[وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( )ففيه مسائل :
الأولى : حاجة النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم لمشورة أصحابه.
الثاني :غنى النبي محمد صلى الله عليه اله وسلم عن مشورة الغير .
الثالثة : موضوعة المشورة ليس عمل النبي إنما المراد تأديب الصحابه والمؤمنين على العمل بالشورى .
الثالثة : مجي المشورة والرأي موافقاً للوحي سواء تقدمت أو تأخرت عن فرد الوحي الذي يخص ذات الموضوع .
الرابعة : بيان حقيقة في قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( )، أن إستشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ليست من عنده ولا عن ضعف وحاجهَ بل بأمر من الله عز وجل .
السادسة : إن الله عز وجل يعلم بما سيقوله الصحابه عند المشورة وهو سبحانه يهدي النبي للأصلح والأتم ، أما المسأله الأولى والثانية فلا تعلل الثوبة لمثل هذا المبحث وان كان لابد من الإجابة فالثانية هي الأصلاح لأنه مسلح بالوحي وبصحبة جبرئيل ، وكل قول وفعل منه حجة .
الخامسة : المشورة إستقراء وكشف عن أحوال وسنخية ورغائب الناس وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
(وعن ابن شهاب وغيره قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشرط بين أحد والمدينة انخذل عنهم عبد الله بن أُبَيَّ بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا، فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضرهم عدوهم. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكن لا نرى أن يكون قتال)( ).
وأخرج الخطيب عن الإمام علي عليه السلام قال: قلت: يا رسول الله: الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن، ولم يسمع منك فيه شيء، قال: اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد)( ).
ومع إدعاء فرعون الربوبية فانه لجأ إلى المشورة في أمر موسى عليه السلام فيه دلالة على إدراكه بأنه في حال حرب مع موسى وأن ملكه معرض للزوال ، وفي التنزيل حكاية عن فرعون [قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ]( ).
وظاهر الآية أن فرعون لم يطلب المشورة إنما سأل الأمر من الملأ وأهل الحل والعقد من قومه وفيه شاهد بأنه مع قوته وجبروته فانه يتواضع للملأ ووجوه القوم عند الشدة والمحنة ومواجهة الأخطار لأنهم رؤساء الجيوش ، فان قلت إن كلامه [ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ] ( )
معنى المؤامرة أي المشاورة وهو بعيد بل المقصود منه الأمر الذي هو من النبي من غير أن يشترط إلى قيد صدور الأمر من العالي إلى الداني ، بالأضافة إلى وجود قرينة وضميمة خاصة في المقام وهي أن الذي طلب الآمر هو العالي وهو فرعون بالنسبة لقومه .
ترى لماذا صدر سؤال فرعون بلغة الطلب وسؤال الأمرٌ فيه وجوه :
الأول : بعث التقية في نفوسهم وجعلهم يقولون ما عندهم من غير خشية من فرعون .
الثاني : إخبارهم بأن القادة والرؤساء في مواجهة البلاء الزاحف اليهم.
الثالث : إقرار فرعون بأن نبوة موسى عليه السلام تهدد حكمه وتعرض أصحابه للذل والهوان ، وفاته انه لو آمن بنبوة موسى لبقي في مقامه وسلطانه حاكماً على أمصار مصر .
الرابع : إعلان فرعون بأنه مستعد للعمل بما يأمرون وليس فقط المشورة ، بدليل أنه عمل بقولهم من غير أن يقوم بمناقشته كما ورد في التنزيل [قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ *فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ] ( )
ولم تذكر آيات القرآن موضوع بعث فرعون في المدن وجمعه السحرة بل ذكرت حضورهم عنده مما يدل على عمله بأمر قومه أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان الله عزوجل أمره أن يشاور أصحابه من مقامات النبوة ، وأن يكون الأمر راجعاً إليه [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]( )
مع تواضع وتطامن فرعون مع رؤساء قومه في حال الشدة فانه يواجه النبي موسى عليه السلام بالغلظة والوعيد.
علم جديد (السنة النبوية الدفاعية)
تتعدد مصاديق طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القتال وسوح المعارك، ومنها ما يتجلى بالدروس المستقرأة من سنته القتالية.
وتقسم السنة النبوية إلى أقسام وهي:
الأول : السنة القولية.
الثاني : السنة الفعلية.
الثالث : السنة التقريرية.
وأضفنا قسيماً رابعاً لها وهو السنة التدوينية، وموضوعها رسائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما كتبه والعهود والمواثيق التي صدرت منه وأمضاها.
ونضيف هنا قسماً خامساً وهو السنة القتالية وتتضمن بيان كيفية قتال النبي وإعداده لأصحابه للقتال الذي وثق في القرآن بقوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
فجعل الله عز وجل موضوعية لهذا الإعداد بأن خصه بآية قرآنية ليكون فيه درس وموعظة، ويصبح موضوعاً للعلم، والإستنباط وإقتباس الدروس أي أن السنة الدفاعية تقسم إلى أبواب منها:
الأول : إعداد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقتال وهذا الباب ينقسم إلى شعب منها:
الأولى : موافقة عمل النبي للقرآن.
الثانية : موضوعية الآية القرآنية بالإعداد للقتال كما في قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
الثالثة : بركات الوحي في إصلاح الصحابة للقتال.
الثاني : وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للسرايا عند الخروج للدفاع والغزو , وهذه الوصايا على أقسام منها:
الأول : ما يكون للأمير خاصة.
الثاني : الوصايا العامة الجيش.
الثالث : الوصية التي يشترك فيها الأمير وأفراد الجيش.
وعن بريدة قال :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا ( ).
وتكرر اسم الله في الحديث أعلاه أربع مرات , ليكون إستحضار ذكره واقية من الوهن والخوف، والإخبار عن قانون كلي وهو أن الذي يبدأ قتاله ببسم الله، وينوي القتال في سبيله تعالى لا يدنو إليه الوهن ولا يستقرأ عنده الحزن.
ومع قلة كلمات الحديث أعلاه فانه يتضمن إلى جانب الوصية بالتقوى ثلاثة أوامر وأربعة نواهي كلها تتعلق بغايات القتال وتقييدها بقصد القربة إلى جانب تأسيس علم جديد في أخلاق للحرب , تتقوم بتقوى الله وحضور قاعدة لاضرر ولا ضرار، وهو من مصاديق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق( ).
والقواعد التي وردت في هذا الحديث النبوي ثابتة وباقية إلى يوم القيامة، وهي من وجوه حاجة المسلمين والناس إلى السنة النبوية في باب القتال وشاهد على أنها كانت دفاعية محصنة قائمة على الدعوة إلى الله.
وبين الجيش والسرية عموم وخصوص مطلق، فكل سرية هي من الجيش وليس العكس لأن الجيش أكثر ويبلغ عدده نحو أربعمائة.
الرابع : السرايا التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووظائفها وفيه وجوه:
الأول : عدد السرايا التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال ابن سعد ان عددها خمس وخمسون سرية، وقال ابن إسحاق أنها ثمان وثلاثون.
الثاني : وظائف السرايا: ولم تكن السرايا كلها لغرض القتال، فهي على شعب:
الأولى : سرايا الإستطلاع.
الثانية : سرايا لإعتراض قوافل قريش القادمة من الشام.
الثالثة : سرايا التحدي.
الرابعة : سرايا لبعث الفزع والخوف في قلب العدو.
الخامسة : سرايا لنصرة أفراد من المؤمنين.
السادسة : أرادة أفراد مخصوصين من رؤساء الكفر تمادوا في التعدي على الإسلام.
السابعة : سرايا لهدم الأصنام.
الثامنة : سرايا لمنع إستحواذ ونهب قريش لأموال المسلمين.
الثالث : أول سرية في الإسلام، وهي سرية حمزة بن عبد المطلب، وكان لون اللواء أبيض، ومعه ثلاثون من المهاجرين خاصة وكانت وظيفتها إعتراض قافلة لقريش جاءت من الشام , فيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل , فبلغ المسلمون ساحل البحر الأحمر عند أرض جهينة، فالتقا الفريقان واستعدا للقتال، فمشى مجدي بن عمروا الجهني بينهما وكان حليفاً لهما فلم يزل يمشي حتى حجز بينهم وانصرف كل من الجيشين، وعندما عاد حمزة ومن معه إلى المدينة أكرمهم النبي وكساهم واثنى على مجدي , وقال: أنه ميمون النقيبة، مبارك الأمر أو قال: رشيد الأمر.
الثالث : إختبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمقاتلين، وفحص أهلية البالغين، وعن عبد الله بن عمر : عُرِضْت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخَنْدَق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني( ).
الرابع : إذن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذوي الأعذار، وشمول الإذن لمن يقوم بالعناية بوالديه لما في برهما من الثواب العظيم.
الخامس : السنة النبوية بخصوص تأهيل وتدريب المسلمين.
السادس : توزيع مواضع الجيوش، وكيفية تقسيم المواضع، وصيرورة كل قبيلة أو أهل منطقة في موضع واحد كي يتعاونوا في القتال، ولأن كل واحد منهم يعرف قدرات الآخر وكيف يؤازره ويمده، ولمنع دخول غيرهم معهم وتسلل أفراد العدو إلى صفوفهم.
السابع : التورية في الجهة التي يتوجه لها الجيش والسرايا والتعتيم على العدو وعيونه، وعن كعب بن مالك قال: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُرِيدُ غَزْوَةً إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا، وَعَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخَبْرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ( ).
وفيه دعوة لقواد الجيوش الإسلامية بعدم الوقوف عند كيفية واحدة كالتورية أو السرية المطبقة، فقد يستلزم الأمر بيان الجهة وإخبار الأفراد بخطط القتال وصيغة إدارة المعركة خاصة مع عدم الخشية من بلوغها للعدو، كما في السير نحو تبوك وبعد المسافة وعدم وصول الأخبار إلى الروم بالإضافة إلى ظن الناس من غير المؤمنين أن النبي يوري في الجهة التي يقصد الذهاب إليها إستصحاباً للغة التورية التي إعتمدها في الغزوات السابقة , خاصة مع شدة وكثرة أفراد العدو الذي يتوجه للقائه المسلمون.
الثامن : رصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعدو، وبث العيون، ودعوة المسلمين لتتبع أخباره، وتنمية ملكة أمن الطريق وجمع الحقائق والأرقام عنه، و أقبلت قريش وبعثوا عبيدهم ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وقالوا لهم من أنتم قالوا نحن عبيد قريش قالوا فأين العير قالوا لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يصلي فانفتل من صلاته و قال إن صدقوكم ضربتموهم و إن كذبوكم تركتموهم فأتوه بهم فقال لهم من أنتم قالوا يا محمد نحن عبيد قريش، قال: كم القوم قالوا لا علم لنا بعددهم قال كم ينحرون في كل يوم من جزور قالوا تسعة إلى عشرة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم القوم تسعمائة إلى ألف( ).
وعن حذيفة قال : لقد رَأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقُرّ( )، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ألا رجل يأتي بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة؟”. فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله. ثم قال: “يا حذيفة، قم فأتنا بخبر من القوم”. فلم أجد بدَّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال: “ائتني بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهم عَلَيّ( ).
وفي الحديث مسائل :
الأولى :بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحاجة إلى رصد العدو ومعرفة نواياه.
الثانية : الترغيب بملاحظة حال العدو وإخبار النبي عنه.
الثالثة : الثواب العظيم لمن يتولى وظيفة العين للمسلمين مع تحمل الأخطار.
الرابعة : لجوء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى تعيين الشخصي الذي يتولى المسؤولية عنه تعذر المبادرة إلى الإستجابة أي أن رصد حركة العدو كانت واجباً كفائياً فصارت عينياً.
الخامسة : لعل في هذا التعيين أمناً لحذيفة.
التاسع : إختيار موضع القتال، بما يتناسب وحال المسلمين، ففي معركة بدر وأحد خرج النبي وأصحابه لملاقاة العدو، أما في معركة الأحزاب فحفروا خندقاً حول المدينة، وفي فتح مكة لم يقف المسلمون إلا عند البيت الحرام.
العاشر : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوعظ وإنذار العدو قبل القتال، ووصية الأمراء بالوعظ قبل القتال وإقامة الحجة على العدو.
الحادي عشر : إمتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن إبتداء في القتال، وإقامة الحجة على العدو.
الثاني عشر : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحث الصحابة المقاتلين على الإستبسال في القتال، وإظهار المهارات.
وفي حديث سلمة بن الأكرع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ارموا بني إسماعيل ، فإن أباكم كان راميا ( ).
الثالث عشر : تولي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعيين الحراس في الليل، وفيه مسائل:
الأولى : دعوة للمسلمين لعدم الغفلة.
الثانية : منع العدو من المباغته، وعن سهل بن الحنظلية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من يحرسنا الليلة ( ).
الثالثة : تنمية ملكة الحيطة والحذر عند المسلمين.
الرابعة : زجر العدو عن مهاجمة ومباغتة المسلمين ليلاً لإدراكه بانهم في يقظة وحراسة.
الخامسة : طرد الغفلة والتفريط عن جيش المسلمين.
الرابع عشر : العناية بالحرص والتوجيه لمداواتهم، وإحداث نوع مستشفى ميداني بسيط في ساحات المعركة.
الخامس عشر : تفقد النبي لأصحابه، ومن غاب ولم يكن له أثر يتفقده بين القتلى.
السادس عشر : دفن القتلى بعد الصلاة عليهم.
السابع عشر : جمع الأسرى والعناية بهم وكيفية فدائهم، وفي صيغة التعامل مع أسرى بدر وغيرهم مدرسة في تأريخ الإسلام تقتبس منها الدروس والمواعظ قال تعالى[وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( ) .
ولم يحجز الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين بسجن أو موضع خاص بل يبقون طلقاء في المدينة، وتلك آية في إكرامهم وترغيبهم بالإسلام, وكان يتعذر على الشخص مغادرتها والسير في الصحراء إلى مع قافلة .
الثامن عشر : لزوم جمع الغنائم، وحرمة الإستحواذ الشخصي عليها، وبعد جمعها يتولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قسمتها بالعدل والإنصاف، ثم يهب من حصته وسهمه، وعن عبد الله بن شداد عن ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: في رهط من المهاجرين يقسم ما أفاء الله عليه فبعثت إليه امرأة من نسائه وما منهم إلا ذا قرابة من رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما عم أزواجه عطيته.
قالت زينب بنت جحش يا رسول الله ما من نسائك امرأة إلا وهي تنظر إلى أخيها أو أبيها أو ذي قرابتها عندك فاذكرني من أجل الذي زوجنيك( )، فأحرق رسول الله صلى الله عليه و سلم قولها وبلغ منه كل مبلغ فانتهرها عمر فقالت اعرض عني يا عمر فوالله لو كانت بنتك ما رضيت بهذا.
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: اعرض عنها يا عمر فانها أواهة فقال رجل يا رسول الله ما الأواه قال الخاشع الدعاء المتضرع ثم قرأ إن ابراهيم لأواه حليم ( ).
التاسع عشر : إختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلح عند وجود أسبابه وان كان شطر من الصحابة لايرضى به، قال تعالى[وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
وتدل الآية أعلاه على الحسن الذاتي للصلح في كل الأحوال وأنه خير محض، وفيه شاهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف إنما إنتشر بالمعجزة والحكمة والبرهان، وفي الحديبية وعندما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه متوجهين إلى البيت الحرام بعثت قريش سهيل بن عمرو وأمرته أن يصالح النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وبشرط رجوعه ولا يدخل البيت الحرام في تلك السنة حتى لا تتحدث العرب أنه دخل مكة عنوة عليهم، وجرى كلام طويل.
قال ابن أسحاق: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب باسمك اللهم. فكتبها. ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو : فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب إسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه “.
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده. وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب: السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها( ).
العشرون : موضوعية الحرب والصبر فيها وعدم الفرار في البيعة الذي أخذه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة الرضوان في الحديبية قال ابن أسحاق: ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيعة، وكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة وكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الموت. وكان جابر بن عبدالله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على ألا نفر. فبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، وكان جابر بن عبدالله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها يستتر من الناس ( ).
الحادي والعشرون : أثر الرؤيا وتأويلها في سنة القتال، سواء الرؤيا التي يراها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الرؤيا التي يراها المسلمون ويقوم النبي بتأويلها.
وحينما أقبلت قريش بخيلها وجيشها في معركة أحد وهي عازمة على الثأر لقتلاهم في معركة بدر، وسمع النبي والمسلمون بزحفها، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني رأيت بقراً تنحر ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة( ).
الثاني والعشرون : أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأقوال شطر من الصحابة في موضع القتال، وأن كان رأيه بخلافه، ففي معركة أحد كان رأي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يقاتل مشركي قريش في المدينة وتفاءل بالرؤيا أعلاه وأن الدرع الحصينة هي المدينة، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا: نخرج يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد. ورجوا أن يصيبهم من الفضيلة ما أصاب أهل بدر. فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لبس أداته، ثم ندموا وقالوا: يا رسول الله أقم، فالرأي رأيك. فقال لهم: ما ينبغى لنبي أن يضع أداته بعدما لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ( ).
الثالث والعشرون : ظهور النفاق عند إقتراب أوان المعركة مع حاجة الإسلام للمقاتلين ولكثرة السواد، ومع هذا فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يتوسل بالمنافقين بل أظهر الإستغناء عنهم توكلاً على الله عز وجل، ويرجو النصر منه سبحانه لذا خطب يوم فتح مكة فقال: لا إله إلا الله وحده وحده أنجز وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ( ).
وفي معركة أحد خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الف رجل من أصحابه حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة، انخزل عنهم عبدالله بن أبيّ ابن سلول بثلث الناس وقال: أطاعهم فخرج وعصاني يشير إلى أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ باستشارته في قتال قريش داخل المدينة وعدم الخروج عنها وكان خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه آية من عند الله أحرز المسلمون فيها النصر أو قل عدم الخسارة .
وتجلى غدر المنافقين على نحو مكشوف ومسفر بالرجوع والخذلان وبما جعل المسلمين يتداركون ضرره، ولو كان القتال داخل المدينة المنورة لكان العذر من ندر ونكوص المنافقين أشد وأوهن وربما إدعوا قتال العدو زوراً.
قال ابن أبي بن سلول: والله ما ندري علامَ نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريْب، واتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم، أذكّركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوّهم فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدَكم الله أعداء الله! فسيُغني الله عنكم ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ).
وفي الطريق إلى أحد أشار جماعة من الأنصار على النبي محمد صلى الله وعليه وآله وسلم أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فلم يوافق توكلا على الله.
الرابع والعشرون : موضوعية الدعاء أثناء المعركة، وإنقطاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الذكر والدعاء وسؤال النصر كما في معركة بدر.
الخامس والعشرون : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على القاعدين والخوالف، والمنافقين عند الجهاز والإعداد للخروج، ومن الآيات في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله سولم أنه أبى أن يعاقب وينتقم من المنافق، كما في رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول في غزوة بني المصطلق وفيه نزلت المنافقين وفي ذمه ما جاء في التنزيل حكاية عنه وتوثيقاً لكلامه[لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( ).
وحينما سئل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأذن في قتله قال: لايتحدث الناس إن محمداً كان يقتل أصحابه، وحينما أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخروج إلى تبوك لم يخف الجهة، ولم يتظاهر بارادة غيرها، وقال: أيها الناس إني أريد الروم فاعلمهم ، وذلك في زمان البأس وشدة من الحر وجدب البلاد ، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص عنها ، فبينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم في جهازه إذ قال للجد بن قيس : يا جد هل لك في بنات بني الأصفر؟ قال : يا رسول الله لقد علم قومي أنه ليس أحد أشد عجباً بالنساء مني ، وإني أخاف إن رأيت نساء بني الأصفر أن يفتنني فَأْذن لي يا رسول الله . فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : قد أذنت . فأنزل الله[وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا]( ).
وعن ابن عباس في قصة بدر قال: رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَدَهُ، فَقَالَ: “يَا رَبِّ، إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكَ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الأَرْضِ أَبَدًا، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ، فَرَمَى بِهَا فِي وَجْهِهِمْ، فَمَا بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَحَدٌ إِلا أَصَابَ عَيْنَهُ وَمُنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلُّوا مُدْبِرِينَ( ).
السادس والعشرون : مشاركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه في القتال كما في قصة أبي بن خلف الذي قال: والله لأقتلن محمداً فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : بل أنا أقتله إن شاء الله . فافزعه ذلك فوقعت في نفسه لأنهم لم يسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قولاً إلا كان حقاً ، فلما كان يوم أحد خرج مع المشركين ، فجعل يلتمس غفلة النبي صلى الله عليه وسلم ليحمل عليه . فيحول رجل من المسلمين بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينه .
فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : خلفوا عنه فأخذ الحربة فرماه بها، فوقعت ترقوته ، فلم يخرج منه كبير دم واحتقن الدم في جوفه ، فخار كما يخور الثور فأتى أصحابه حتى احتملوه وهو يخور وقالوا : ما هذا؟! فوالله ما بك إلا خدش فقال : والله لو لم يصبني إلا بريقه لقتلني أليس قد قال : أنا أقتله ، والله لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لقتلهم . قال : فما لبث إلا يوماً أو نحو ذلك حتى مات إلى النار ، وأنزل الله فيه [وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ] إلى قوله[وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً] ( ).
السابع والعشرون : لغة العفو والرحمة اثناء القتال وبعده، والأخلاق الحميدة في الحروب وإطلاق سراح الأسرى وقبول الشفاعة فيهم وعتق العبيد ووقع بيد المسلمين أول اسيرين من مشركي قريش في سرية نخلة وقبل واقعة بدر بشهرين وهما الحكم بن كيسان وعثمان بن عبدالله، فلم يبطش بهما النبي وأصحابه أنتقاماً من قريش وشدة تعذيبها للمسلمين، بل أحاطهما النبي بعناية، فاسلم الأول منها واستشهد يوم بدر معونة، أما الثاني فرجع إلى مكة لينقل لهم حسن خلق المسلمين وعبادتهم وتقواهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله وفي معركة بدر وقع سبعون من المشركين أسرى بيد المسلمين، ولم يقتلهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا على أقسام:
الأول : الذي قبلت منه الفدية، وكانت من الكلي المشكك، كلاً بحسب حاله ووفرة ماله، دفع بعضهم أربعة آلاف درهم كأبي وداعة، وزرارة بن عمير، وهو أخو مصعب بن عمير، دفعتها أمه وكان عندها مال كثير ودفع العباس بن عبد المطلب عم النبي مائة أو قية، كما دفع ثمانين أو قية فدية لعقيل بن أبي طالب، ودفع بعض الأسرى أربعين أوقية.
الثاني : أطلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعض الأسرى بدلاً عن أسير من المسلمين، فاطلق عمرو بن أبي سفيان مقابل إطلاق المشركين لسراح سعد بن النعمان الذي أسره ابو سفيان وهو يعتمر.
الثالث : يقوم الأسير الذي ليس عنده مال بتعليم أبناء المسلمين القراءة والكتابة كما ورد عن ابن عباس.
الرابع : إطلاق سراح عدد من الأسرى من غير فداء مثل: المطلب بن حنطب وأبي عزة الشاعر، وصيفي بن أبي رفاعة.
وكان من بين الأسرى ابو العاص بن الربيع ختن رسول الله صلى الله عليه وآله سولم على ابنته زينب فبعث إليه بقلادة كانت خديجة ألبستها لها ليلة زفافها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رق لها , وقال: أن رأيتم أن تطلقوا لها اسيرها، وتردوا إليها متاعها فعلتم، قالوا: نعم يا رسول الله فاطلقوا، وردوا عليها الذي لها.
ولم تمر سنة حتى أخلي سبيل أسرى بدر وحينما جاءت قريش في معركة أحد في السابع من شوال من السنة الثالثة للهجرة لم تطالب بفكاك الأسرى.
ويمكن إستقراء مسائل عديدة أخرى من السنة القتالية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس مدرسة في أخلاق الحرب والتأني والفترة فيها , قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
البشارة في السنة الدفاعية
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يخبر عن فتح البلاد البعيدة، وعن تحقيق النصر مع قلة العدد والعدة وبعد المسافة وشراسة العدو وإستقرار حكمه ، وهذه البشارة بيان للبشارة بالفتح الواردة في القرآن وهي متعددة إبتداء من معركة بدر، قال تعالى[وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ] ( )، واثناء حفر الخندق وعندما كانت قريش تقترب من المدينة بعشرة آلاف مقاتل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبشر المسلمين بالفتح الأكبر ليرتفع لواء الإسلام والصلاح والهدى في الأمصار وتنزل البركات على الناس وتنحسر مفاهيم الكفر والضلالة، وأخرج ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب , قال: لما كان حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نحفر الخندق ، عرض لنا في بعض الجبل صخرة عظيمة شديدة لا تدخل فيها المعاول ، فاشتكينا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما رآها أخذ المعول ، وألقى ثوبه وقال : بسم الله ، ثم ضرب ضربة فكسر ثلثها ، وقال : الله أكبر . أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة ، ثم ضرب الثانية ، فقطع ثلثاً آخر فقال : الله أكبر . أعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصور المدائن البيض ، ثم ضرب الثالثة فقال : بسم الله . فقطع بقية الحجر , وقال : الله أكبر . أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء( ).
وظهر النفاق على لسان معتب بن قشير من بني عمروا بن عوف فقال: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أنْ يذهب إلى الغائط ( ). فنزل قوله تعالى[وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا]( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام والقائد في العمل في حفر الخندق ويشارك في الأرجاز لبعثهم على الجد في العمل ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا … ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا … وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا … وإن أرادوا فتنة أبينا ( ).
ويمد النبي صوته بآخرها، ويرتجز المسلمون: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا
عَلَى الْإِسْلَامِ مَا بَقِينَا أَبَدًا ( ).
ليذهب كلام المنافقين هباء، فلا يضرون به إلا أنفسهم، ونزل القرآن بالثناء على المؤمنين وصبرهم في الجهاد في سبيل الله، بقوله تعالى[هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( ).
ولا ينحصر موضوع البشارة بالفتح في مجلس أو حديث واحد، فمرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتح مدينة الحيرة، وأنه أريها ورفعت وكأن شرف قصورها أضراس الكلاب فسأله رجل إسمه شويل بأن يهب له كرامة بنت عبد المسيح , فقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: هي لك إذا فتحت الحيرة عنوة .
وحينما وصلها جند الإسلام وأراد خالد إمضاء الصلح معهم ودفعهم الجزية، قامه له شويل وهو أحد أفراد الجند ممن حضر معه فذكر له وعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأتى بمن شهد له، فابى خالد أن يكاتبهم إلا بتسليم كرامة إلى شويل فاشتد الأمر على أهل بيتها وأهل قريتها( )، فقالت: هونوا عليكم، اسلموني له فاني سأفتدي نفسي وما تخافون على امرأة بلغت ثمانين سنة.
وبعد أن سلمت له طلب فداء لها ألف درهم فاستكثرت المبلغ لتخذعه ثم دفعته له، فرجعت إلى أهلها فعنفه الناس على قلة المبلغ فقال: ما كنت أرى أن عددا يزيد على ألف( ).
ومن السنة الدفاعية شجاعة وإقدام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمع أنه حامل علم الأولين والآخرين، وأن القرآن لم ولم ينزل على غيره فانه الإمام في ساحة الوغى , وقد قاتل بنفسه في تسع غزوات( )، والذي يقاتل يعرض نفسه للقتل، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ…]( ).
ولكن الله عز وجل حفظ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ومن تعدي الكافرين، ولا تنحصر شجاعة النبي محمد في حال القتال والحرب فتشمل ما بعد إنتهاء المعركة لإمكان أن يكون مناسبة للثأر والغيلة والغدر .
دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيت الحرام يوم فتح مكة ومعة اسامة بن زيد وبلال ولم يخش الكفار مع أن الناس مجتمعون ولم يكن شهر حرام ، إذ فتحت مكة في يوم العشرين من شهر رمضان سنة ثمان للهجرة , فخطب خطبة بليغة حمد الله فيها واثنى عليه وبيّن أحكام الشريعة الإسلامية ، وعفا عن كفار قريش وقال لهم: (اذهبوا فانتم الطلقاء)( )، وفيه شكر لله وإجلال للبيت الحرام ونهي لأصحابه عن التعدي على الأفراد أو الحرمات أو الأموال .
وسنشرع إن شاء الله قسماً سادساً للسنة النبوية إسمه ( السنة الحكمية) وتتعلق بالأحكام التي حكم وأفتى بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين أو بين أهل الكتاب وغيرهم , وهذه السنة تتضمن مصاديق من السنة القولية والفعلية والتقريرية كما في تحاكم اليهود عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت قبيلة بني النضير تؤدي الدية كاملة إذا قتلت واحداّ من بني قريظة الذين يؤدون نصف الدية فنزل قوله تعالى [وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] فج( )على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدية بينهم على السواء ، ليقترن هذا الحكم بسلطان المسلمين في المدينة , ويكون من مناسبة لرفع الظلم ومنع الإجحاف بين الناس .
والعهد الذي جرى بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبني عوف من يهود المدينة وثيقة تأريخية وعقائدية وقانونية ، ومن الآيات فيها إتساعها لتشمل غيرهم من يهود المدينة لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
قال ابن اسحاق : وَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَادَعَ فِيهِ يَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ وَأَقَرّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَشَرَطَ لَهُمْ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ ، الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيهمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، كُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ ، الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وبنو الْحَارِثِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو النّجّارِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو النّبِيتِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ . قَالَ ابن هِشَامٍ : الْمُفْرَحُ الْمُثْقَلُ بِالدّيْنِ وَالْكَثِيرُ الْعِيَالِ . قَالَ الشّاعِرُ:
إذا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدّي أَمَانَةً…..وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْك الْوَدَائِعُ
وَأَنْ لَا يُحَالِفَ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ وَأَنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ أَوْ إثْمٍ أَوْ عُدْوَانٍ ، أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا ، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ وَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ وَلَا يَنْصُرُ كَافِرًا عَلَى مُؤْمِنٍ وَإِنّ ذِمّةَ اللّهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النّاسِ وَإِنّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصِرِينَ عَلَيْهِمْ وَإِنّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ . فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ وَإِنّ كُلّ غَازِيَةٍ غَزَتْ مَعَنَا يَعْقُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ يُبِيءُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هَدْيٍ وَأَقْوَمِهِ وَإِنّهُ لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشِ وَلَا نَفْسًا ، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ وَإِنّهُ مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيّنَةٍ فَإِنّهُ قُوّدَ بِهِ إلّا أَنْ يَرْضَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافّةً وَلَا يَحِلّ لَهُمْ إلّا قِيَامٌ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنِ أَقَرّ بِمَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَآمَنَ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا ، وَلَا يُؤْوِيهِ وَأَنّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللّهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَإِنّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ مَوَالِيهمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ جَفْنَةَ بَطْنٍ مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ لِبَنِي الشّطَيْبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ وَإِنّ مَوَالِيَ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِإِذْنِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَإِنّهُ لَا يَنْحَجِزُ عَلَى ثَأْرِ جُرْحٍ وَإِنّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ فَتَكَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَبَرّ هَذَا ، وَإِنّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْحَ وَالنّصِيحَةَ وَالْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ وَإِنّهُ لَمْ يَأْثَمْ امْرِئِ بِحَلِيفِهِ وَإِنّ النّصْرَ لِلْمَظْلُومِ وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ وَإِنّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَإِنّ الْجَارَ كَالنّفْسِ غَيْرُ مُضَارٍ وَلَا آثِمٌ وَإِنّهُ لَا يُجَارُ حُرْمَةٌ إلّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا ، وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآلأه وَسَلّمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا ، وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ ، وَإِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ فَإِنّهُمْ يُصْلِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ وَإِنّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إلّا مَنْ حَارَبَ فِي الدّينِ عَلَى كُلّ أُنَاسٍ حِصّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمْ الّذِي قَبْلَهُمْ وَإِنّ يَهُودَ الْأَوْسِ ، مَوَالِيهمْ وَأَنْفُسُهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مَعَ الْبِرّ الْمَحْضِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ قَالَ ابن هِشَامٍ : وَيُقَالُ مَعَ الْبِرّ الْمُحَسّنِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَة( ).
ومن خصائص السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يسير بالعدد والعدة القليلة متوكلاً على الله ، قال سبحانه [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( )، وعند المسير إلى بدر كان عند المسلمين سبعون بعيراً ، يتناوب كل ثلاثة على واحد منها ، وبما أن عددهم اكثر من ثلاثمائة رجل فإن الذين تنابوا على الركوب منهم هم مائتان وعشرة وان ثلث جيش المسلمين لم يركبوا ، وقطعوا المسافة من المدينة إلى بئر بدر حيث موضع المعركة 130 كم مشياً على الأقدام , إلا أن يكون التناوب أعم .
ومن السنة الدفاعية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك المدينة من غير نصب نائب عنه ، وعندما خرج إلى معركة بدر جعل إدارة المدينة بيد أبي لبابة وأمر ابن أم مكتوم باقامة الصلاة وهو عبد الله بن قيس بن زائدة وقيل عبد الله بن زائدة , وقيل إسمه عمر . وكان يتناوب في الأذان مع بلال ، فقد بصره وهو غلام صغير وكان من أول المهاجرين إلى المدينة إذ دخلها بعد مصعب بن عمير وهو ابن خال أم المؤمنين خديجة واستخلفه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة ثلاث عشرة مرة ، في كتيبة بدر والأيواء وبواط وذي العشيرة ، وعند طلب كرز بن جابر ، وكتيبة السويق ،وغطفان .وفي كتيبة أحد ،وحمراء الأسد ، ونجران ، وذات الرقاع، وعند خروج النبي إلى حجة الوداع . وخرج فيما بعد في معركة القادسية وكانت معه راية سوداء .
عن قتادة عن أنس : أن عبد الله بن زائدة وهو ابن أم مكتوم ( كان يقاتل يوم القادسية وعليه درع حصينة سابغة.
ورجع إلى المدينة ومات فيها , قاله الواقدي ، وقيل إستشهد يوم القادسية
وفي معركة بدر وعند الليلة التي نشبت في صبيحتها المعركة , قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من يستقي لنا من الماء؟ لبيان موضوعية التأهب للمعركة بخزن الماء والإمتناع عن العطش والظمئ عند القتال الذي قد تطول مدته، فقام علي عليه السلام فأحتضن قربة وآتى قليباً بعيد القعر مظلماً وعنه عليه السلام.
(وروى ابن الجوزي في تفسيره عن جبير بن مطعم عن علي بن أبي طالب قال : بينا أنا امتح من قليب بدر جاءت ريح ريح شديدة لم أر أشد منها ثم جاءت ريح شديدة لم أرَ اشد منها إلاّ التي قبلها ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة وكانوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة وكانوا عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم والريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت عن يساره وهزم الله أعداءه)( ).
وفي تفسير القرطبي إبتدأ هذا الحديث بأن علياً خطب الناس( )، وذكر الواقعة وهو عليه السلام على المنبر , مما يدل على إرادة التوثيق لكثرة وعموم المستمعين من المسلمين وتذكيرهم بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وزيادة إيمانهم.
فيرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلب الماء لتأتي آية وبشارة وملكوتية تجعل المسلمين يبيتون ليلة المعركة بثقة بالنصر وثناء وشكر لله عز وجل.
وبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام ونفراً من الصحابة إلى ماء بدر يتحسسون أخبار القوم وجاءوا بسقاة لقريش فاتوا بهما،(فسألوهما ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي قالوا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لابي سفيان فضربوهما، فلما أذلقوهما قالا: نحن لابي سفيان. فتركوهما. وركع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسجد سجدتيه وسلم. وقال: ” إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما ! صدقا والله إنهما لقريش، أخبرانى عن قريش ؟ قالا: هم (والله) وراء هذا الكثيب الذى ترى بالعدوة القصوى، والكثيب العقنقل. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم القوم قالا: كثير، قال: ما عدتهم ؟ قالا: لا ندرى. قال: كم ينحرون كل يوم ؟ قالا: يوما تسعا ويوما عشرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” القوم ما بين التسعمائة إلى الالف “. ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدى بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الاسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود. قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الناس فقال: ” هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها “( ).
وأرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود لإستكشاف حال جيش المشركين والإطلاع على أحوالهم بخفاء، فطافا حول المعسكر وعادا وأخبرا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن المشركين فزعون مذعورون .
ولم يبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجالاً من الأنصار للإستطلاع بل بعث إثنين من المهاجرين كلاً منهما لاقى شتى صنوف التعذيب من مشركين قريش خاصة من رئيسهم يوم بدر أبي جهل، وهما يعرفان أشخاص قادة الجيش وأحوال قريش الخاصة.
وعندما إلتقى الجيشان عبأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بنفسه ودفع رايته للإمام علي عليه السلام وأعطى لواء المهاجرين لمصعب بن عمير، ولواء الخزرج عند الحباب بن منذر , ولواء الأوس عند سعد بن معاذ وإتجه النبي إلى الدعاء والإجتهاد فيه (اللهم أنجز لي ما وعدتني)( ).
وعندما خرج عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة والوليد بن شيبة للقتال، خرج لقتالهم ثلاثة من الأنصار , وفيه آية في تضحية الأنصار فمع أنهم عاهدوا النبي على الدفاع عنه في المدينة على نحو الحصر الإرتكازي , لم يكتفوا بالخروج معه إلى بدر والإشتراك في القتال ، بل بادروا ليكونوا أول الذين يخوضون غمار القتال ويبارزون عتاة قريش المعروفين بالسطوة والعتو , ويكفي أنهم اختاروا الزحف على المدينة لقتال المسلمين .
ومن أعراف المبارزة آنذاك أن يعرف المقاتل نفسه , ويسمعه الجيش أو لا أقل المبارز الآخر ويتناقل أفراد الجيش الاسم والنسب خاصة في لقاء الأبطال والشجعان ، ويحصل الظن بالترجيح فيمن يصرع صاحبه ، فانتسب الأنصار وأعلنوا اسمائهم وقبائلهم ليخبروا بأن تصديقهم بنبوة محمد تصل إلى مرتبة التضحية بالنفس .
فقال المبارزون من الكفار بذات الكبرياء والزهو الذي تتصف به قريش (ارجعوا إنما نريد الأكفاء من قريش) ( )، وكأنهم يريدون التعجيل بحتفهم وخزيهم في النشأتين ، حينئذ تدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سر من أسرار السنة الدفاعية ، فنظر إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعمره سبعون سنة , فقال : قم يا عبيدة ، ونظر إلى حمزة : فقال قم يا عم ،ثم نظر إلى الإمام علي , فقال : قم يا علي وكان أصغر القوم .
ثم بعث العزيمة في نفوسهم وثبت قلوبهم بأن حثهم على القتال في سبيل الله قائلا ( فاطلبوا حقكم الذي جعله الله لكم ، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفئ نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ) ( )،
ومن السنة الدفاعية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدخل في تعيين المبارز (قال يا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة و قال لحمزة عليك بشيبة و قال لعلي عليه السلام عليك بالوليد ) ( )، ومع أن المبارزين من المشركين طلبوا الأكفاء من قريش مطلقاً إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرج لهم من خاصة بني هاشم , وفيه مسائل :
الأولى : بيان إخلاص وتضحية أهل البيت في سبيل الله .
الثانية : دعوة المهاجرين والأنصار للتفاني في مرضاة الله .
فحينما يرى الجنود أن القائد يتقدم في الهجوم ويقدم أهله وأقرب الناس إليه فانهم يبذلون الوسع في القتال .
الثالثة: تجلي معاني الإيثار وتأسيس نهج المعارك المسلمين يتقدم بالتضحية والفداء .
الرابعة :تأييد حقيقة للتاريخ والأجيال وهي أن آل محمد لم يكونوا أهل بيت مملكة وسلطان بل كانوا أئمة في القتال والمبارزة .
الخامسة : قيام الإسلام بصبر وسيوف آل محمد .
السادسة : زجر الناس عن المنة والتطاول على أهل البيت .
السابعة : طلب المبارزين من الكفار نظرائهم من قريش فتقدم أهل البيت لبيان أنهم أئمة قريش في ساحات المعارك .
الثامنة : بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من وجوه :
الأول : معرفة قريش بقوة وفتك بني هاشم .
الثاني : إرسال رسالة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الحق .
الثالث : الدلالة التضمنية بأن النبي يعلم نتيجة القتال وأن أهل بيته سيرجعون منتصرين .
الرابع : إخبار قريش بأن بني هاشم فداء للنبي والإسلام ، ولم يأتوا إلى المدينة لطلب الدنيا أو للمغانم والمكاسب والأرباح .
التاسعة : عزم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على مواصلة القتال حتى النصر أو الشهادة , والذي يقدم أهل بيته عادة لا يوقف القتال إذا سقطوا في المعركة بل يجتهد في الإنتقام من قاتليهم , ولكن النبي محمدا وأصحابه لم يقاتلوا عصبية بل رحمة بالعدو لجذبه للإيمان .
وتتجلى معاني الإعجاز العقلي والحسي بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الشواهد القتالية والمعارك التي خاضها بنفسه وجهاد المسلمين لنصرته وإعلاء كلمة التوحيد وبناء صرح دولة الإسلام , فمع أن الحروب كر وفر ، ويوم لك ويوم عليك فإنها تنخرم بالمعجزة النبوية فلم يتعرض جيش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى هزيمة وإنكسار ، وحين تفر الطلائع الأولى لجيش المسلمين ترى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يثبت في موضعه في ساحة المعركة غير آبه بالعدد وزحفه , فيتناجى المسلمون بالرجوع إلى ساحة المعركة .
ويشتد القتال ليبين خصلة الثبات عند القائد والإمام وموضوعيتها في تغيير سير المعركة ، كما حصل يوم حنين ، قال تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
العاشرة : حسن العزم على الإستمرار في القتال ، وعدم ظهور الملل أو الكلل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وخروج المنفرد في أسرته والجريح الذي لم يلتئم جرحه إلى القتال.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال : كان يوم (أحد) السبت للنصف من شوّال ، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوّال أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال : يا بني أنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن . فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه .
وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعيباً للعدوّ ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوّة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم من عدوهم)( ).
والمثابرة والمواظبة على القتال عند المسلمين من ضروب المدد الإلهي الجلي لهم مجتمعين ومتفرقين.
ومن ثمرات وغايات آية بدر جعل المسلمين يخوضون غمار معارك الدفاع عن الإسلام برجاء النصر والغلبة مع طرد أسباب القصور والخشية من الكفار وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيراً واردة المدينة ببضاعة لهم، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم جبال فقال: إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمداً ومن معه، إن أنتم وجدتموه في طلبي أخبرتموه أني قد جمعت له جموعاً كثيرة، فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعاً كثيرة، وأنه مقبل إلى المدينة، وإن شئت أن ترجع فافعل. فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقيناً {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} فأنزل الله إلىالَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
الحادية عشرة : حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمواثيق والعهود ، ودفع الدية عند وقوع قتل أو جناية خطأ والعمل بالإستثناء والتخصيص من حال القتال والقتل ، فلما نزل قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] ( )، بخصوص المشركين الذين يصرون على عدم الإيمان بالله والإقرار بالنبوة ، ويحاربون الذين هاجروا في سبيل الله ،جاء التخصيص والإستثناء والذي يتصف بتعدد مصاديقه مع أن الأصل هو قلة المستثنى بالقياس إلى المستثنى منه بقوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ]( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى [إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ] قال : هو هلال بن عويمر السلمي، واثق عن قومه ألا تخفيف يا محمد من أتاك ولا نخيف من أتانا وبمثل هذا التأويل قال السدي، وابن زيد، وعكرمة وقال أبو عبيدة “يصلون ” بمعنى ينتسبون إليهم. والعرب تقول قد اتصل الرجل: إذا انتمى إلى قوم وقال الاعشى يذكر امرأة انتسبت إلى قومها:
إذا اتصلت قالت: ابكر بن وائل وبكر سبتها والانوف رواغم)( ).
(وعن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال :لَمَّا ظَهَرَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله َسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَأَسْلَمَ مَنْ حَوْلَهُمْ، قَالَ سُرَاقَةُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى قَوْمِيبَنِي مُدْلِجٍ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ النِّعْمَةَ، فَقَالُوا: مَهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: دَعُوهُ مَا يُرِيدُ، فَقُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى قَوْمِي، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ تُوَادِعَهُمْ فَإِنْ أَسْلَمَ قَوْمُكَ وَدَخَلُوا فِي الإِسْلامِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا لَمْ تَخْشَنْ لِقُلُوبِ قَوْمِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِيَدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَقَالَ: اذْهَبْ مَعَهُ، فَافْعَلْ مَا يُرِيدُ، فَصَالَحَهُمْ خَالِدٌ عَلَى أَنْ لا يُعِينُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ أَسْلَمُوا مَعَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَىوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ.
الثانية عشرة : مواثيق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل الكتاب وإمضائه لملتهم وديانتهم في شاهد تأريخي على العهود بينه وبينهم ولزوم إجتناب القتال بين أهل الكتاب والمسلمين وإنتفاء موضوع القتال في أحيان كثيرة كما في قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا]( ).
وتتصف سني الهجرة الأولى بالمهادنة والعهود وإرادة بقاء المدينة المنورة على حال الإستقرار ليتدبر الناس معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتترسخ معالم الإسلام ويتعاهد المسلمون الفرائض ومن الآيات أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخل عن لغة المهادنة والعهود حتى مع تجلي قوة الإسلام كما في وفد نصارى نجران وقبول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم الجزية والموادعة (وعن مجاهد والكلبي أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى نرجع وننظر، فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبيٌّ مرسل، وقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكنّ فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم،
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غداً محتضنا الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي وعليٌّ خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا قال: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فأبوا. قال: فإني أناجزكم فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا ترددنا عن ديننا على أنّ نؤدي إليك كل عام ألفي حلة: ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد
فصالحهم على ذلك وقال: والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولأضطرم عليهم الوادي ناراً، ولأستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا)( ).
ومن مصاديق السنة النبوية ما يتجلى في السنة الدفاعية والعهود التي أعطاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها كتابه إلى يهود خيبر وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم محمد رسول الله صاحب موسى، وأخيه، والمصدق بما جاء به موسى، ألا إن الله قال لكم: يا معشر يهود وأهل التوراة، إنكم تجدون ذلك في كتابكم: إن محمدا رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود. ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار. وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما). وإنى أنشدكم بالله وبالذي أنزل عليكم، وأنشدكم بالذى أطعم من كان قبلكم من أسلافكم وأسباطكم المن والسلوى، وأنشدكم بالذى أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاكم من فرعون وعمله، إلا أخبرتمونا هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد ؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم قد تبين الرشد من الغى. وأدعوكم إلى الله وإلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم( ).
لبس الحرير في الحرب
قال المالكية بعدم جواز لبس الحرير للرجال في الحرب ، وعليه أكثر الشافعية ، وأجاز أبو حنيفة لبسه في الحرب، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: لا يلبس الرجل الحرير والديباج إلا في الحرب، وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كسا أسامة بن زيد حلة حرير فخرج فيها، فقال : (مهلاَ يا اسامه إنما يلبسها من لا خلاق له فاقسمها بين نسائك)( ) والظاهر أنه كساه بها في أوان الحرب والقتال ، ولكنه لبسها في الحضر وحال السلم .
ومن حرم لبس الحرير أجاز لبسه للضرورة والحاجة ودفع جرب مثلاً، والستر عند عدم وجود لباس جائز لبسه( ).
ولبس الحرير في الحرب ليبدو المسلمون في حال غنى، وفيه ترغيب للناس لدخول الإسلام
ان موضوع لبس الحرير في الحرب مثال لأمور :
الأول : أحكام الضرورة في ساحة المعركة ، فما لا يجوز لبسه في حال السلم يجوز في ساحة الميدان مع وجود الراجح والحاجة له .
الثاني : جواز إظهار حال العز التي عليها المسلمون في ميادين القتال .
الثالث : فعل ما فيه فخر للمقاتل ويزيد من حماسه وبسالته ، وفي يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشبة الأنصاري وكان رجلا شجاعاً يحتال عند الحرب .
فلما أخذ السيف اعتمَّ بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول :
أنا الذي عاهدني خليلي …. ونحن بالسفح لدى النخيل
ألاّ أقوم الدهر في الكيول…. أضرب بسيف الله والرسول
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «إنها لمشية يبغضها الله إلاّ في هذا الموضع ثم حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم ) ( ).
أقسام السنة الدفاعية
ويمكن تأسيس وإنشاء أبواب مستقلة في علم السنة الدفاعية منها :
الأول : آيات الدفاع في القرآن، وهذا الباب علم قائم بذاته سنخصص له بحثاً خاصاً .
فكما تكون هناك آيات للأحكام ويتناولها العلماء على نحو مستقل ، فان هناك آيات يكون الجامع بينها الدفاع وان جاز جعلها من مصاديق أبواب أخرى كأبواب العبادة والمعاملات والأحكام .
الثاني: السنة الدفاعية في القرآن ، وبيان الآيات التي ذكرت جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهي على شعب منها :
الأولى : إخبار القرآن عن السنة الدفاعية كما في قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
وفي موضوع نزول هذه الآية , ورد عن أبي أيوب الأنصاري قال : (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بالمدينة، وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت فقال ما ترون فيها لعل الله يغنمناها ويسلمنا ، فخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتعادّ ففعلنا ، فإذا نحن ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدّتنا ، فسر بذلك وحمد الله وقال : عدة أصحاب طالوت . فقال : ما ترون في القوم فانهم قد أخبروا بمخرجكم؟ فقلنا : يا رسول الله لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم إنما خرجنا للعير ، ثم قال : ما ترون في قتال القوم؟ فقلنا مثل ذلك ، فقال المقداد : لا تقولوا كما قال أصحاب موسى لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}( )، فأنزل الله { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} إلى قوله{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم}( ).
فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين – اما القوم واما العير – طابت أنفسنا ، ثم إنا اجتمعنا مع القوم فصففنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إني أنشدك وعدك . فقال ابن رواحة : يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك – ورسول الله أفضل من أن نشير عليه – إن الله أجل وأعظم من أن تَنْشُدَهُ وعده . فقال : يا ابن رواحة لأنْشُدَنَّ اللهَ وعده فإن الله لا يخلف الميعاد ، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجوه القوم فانهزموا) ( ) فانزل الله الآية.
وهل يمكن القول أن الآية تصلح لصيغة المضارع والمستقبل بتقدير (وما ترمي إذا ترمي ولكن الله يرمي ) .
الجواب نعم، ومن وجوه :
الأول : إفادة صيغة الفعل الماضي الثبات .
الثاني : قانون اذا أنعم الله عز وجل بنعمة على أهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها ، فان قلت هذه النعمة لذات شخص النبي , والجواب إنها نعمة على المسلمين والناس جميعاً أيضاً .
الثالث : دلالة الآية على معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نسميها (معجزة الرمي ) وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ، بان تكون رميته على العدو رمية من عند الله عز وجل كما في أخذ الله تعالى الصدقات ووصولها له سبحانه من غير واسطة , وعن رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: تصدقوا فإن أحدكم يعطي اللقمة أو الشيء فتقع في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل ، ثم تلا هذه الآية { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله فيوفيها إياه يوم القيامة( ).
الرابع :تعدد الأقوال في أسباب وأوان نزول الآية منها :
الأول : ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اللهم أني اسألك ما وعدتني وقال : خذ حفنة من تراب فارمهم بها فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما التقى الجمعان لعلي عليه السلام أعطني قبضة من حصا الوادي فناوله من حصى عليه تراب فرمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلاّ دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ثمّ ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب الهزيمة)( ).
وعن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : نزلت هذه الآية في قتل أُبي بن كعب الجمحي. وذلك أنّه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعظم حائل وهو يفتّه فقال : يا محمد الله يُحيي هذا وهو رميم؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يحيه الله ثمّ يميتك ثمّ يدخلك النار فلمّا كان يوم بدر أسره ثمّ فدي، فلمّا افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لي فرساً أعلفها كل يوم (فرق) ذرة لكي أقتلك عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلمّا كان يوم أُحُد أقبل أُبيّ بن خلف يركض بفرسه ذلك حتّى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إستاخروا، فاستأخروا فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بحربة في يده فرمى بها أُبي بن خلف فكسرت الحربة ضلعاً من أضلاعه فرجع أبي إلى أصحابه ثقيلا فاحتملوه وطفقوا يقولون : لا بأس، فقال أُبي : والله لو كانت الناس لقتلهم، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله، فانطلق به أصحابه ينعونه حتّى مات ببعض الطريق فدفنوه ففي ذلك أنزل الله هذه الآية {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى} الآية. وروى صفوان بن عمرو عن عبد العزيز بن (جبير) أنّ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم خيبر دعا بقوس فأُتي بقوس طويلة فقال : جيئوني بغيرها، فجاءوا بقوس كبداء فرمى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتّى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه فأنزل الله تعالى : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} فهذا سبب نزول الآية ( ).
الثاني : قال الثعلبي: فأمّا معناها فإن الله تعالى أضاف القتل والرمي إلى نفسه لأنّه كان منه تعالى التسبيب والتسديد ومن رسوله والمؤمنين الضرب والحذف. وكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة من الله تعالى الإنشاء والايجاد بالقدرة القديمة التامّة ومن الخلق الاكتساب بالقوى المحدثة، وفي هذا القول دليل على ثبوت مذهب أهل الحق وبطلان قول القدريّة ( ).
ولكن الآية معجزة عظمى غيرت مجرى التاريخ وكانت سبباً بتثبيت دعائم التوحيد وحالت دون خسارة المسلمين وتكون المعجزة على ظاهرها وليس من تشبيه بين رمي النبي هذا وبين سائر أفعال الخلق ) إنما هو فرد ومعجزة وسلاح رزقه الله عز وجل رسوله الأكرم .
وهذه الرمية من وجوه تفضيله على الأنبياء السابقين ، وأسرار ختمه للنبوة وعدم حاجة الناس لنبوة بعدها ، وهي من مصاديق قوله تعالى [لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ).
الثالث : وقيل: أضافها إلى نفسه لئلا يعجب القوم( ).
ولكن موضوع الرمية أعظم وأبين وحجة متجددة إلى يوم القيامة ، يذهب أهل الواقعة وزمانها وتبقى معجزة الرمي تدعو الناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزجر الناس عن التعدي على المسلمين وثغورهم .
الرابع : قال مجاهد: قال هذا قتلت ، وقال هذا قتلت فانزل الله هذه الآية ) ( ).
أي يذكر بعض المهاجرين والأنصار أسماء الذين قتلوهم من كفار قريش فانزل الله الآية بأنه هو الذي قتلهم وليس المسلمين.
وفي الرد على كلام مجاهد أعلاه مسائل :
الأولى : إن الله عز وجل رؤوف بالمؤمنين، يحفظ لهم أعمالهم، قال تعالى[لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى]( ).
الثانية : جاءت الآية بخصوص رمي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس مطلق رمي المسلمين يوم بدر إلا مع القرينة التي تفيد العموم.
الثالثة : تدل أسباب النزول وتفسير الآية من قبل الصحابة والتابعين على إرادة رمي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : جاء موضوع القتل ونسبته إلى الله في ذات الآية بقوله تعالى [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ]( ).
إذ جاء الخطاب للمسلمين في موضوع القتل ، أما هذا الشطر في الآية فيتصف بأمرين :
الأول : إنه خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين .
الثاني : إنه خاص بالرمي .
الخامس :في الآية بيان لإشتراك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال وكأن رميه مرآة للوحي .
السادس : التباين بين الرمي والقتل ، فليس كل رمي يكون فيه قتل كما أن القتل في القتال غالباً ما يكون بالسيف .
السابع : التسليم بأن كل غلبة ونصر هو بمشيئة الله .
والمختار أن آية البحث تختلف بمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة صارت تتمثل برمي قبضة من الحصى لتكون مقدمة لهزيمة كفار قريش .
الثامن : وقال الحسن: أراد فلم تُميتوهم ولكن الله أماتهم وأنتم جرحتموهم لأن إخراج الروح إليه لا إلى غيره. قال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أي (قتل) يبلغ إلى المشركين بها وملأ عيونهم منها( ).
والله عز وجل بيده أرواح الناس جميعاً، قال تعالى [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا]( ).
ثم أن موضوع الرمي غير الإماتة .
التاسع : قال ابن اسحاق : ولكن الله رمى أي لم يكن ذلك رميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك وما ألقى في صدور عدوك منها حتى هزمهم)( ).
والآية أخبرت عن نسبة الرمي إلى الله عز وجل نفسه وليس النبي وإلا فان رمية النبي أيضاً مباركة .
إن الأخذ بالظاهر في أحيان كثيرة برهان إلا أن ترد قرينة على صرفه إلى التأويل وما هو خلاف الظاهر والمعنى اللغوي , ولو تردد الأمر بين إحتساب هذه الرمية معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأن الله نسبها لنفسه حقيقة وليس مجازاً , أو أن النسبة مجازاً فالصحيح هو الأول . والأصل هو الحقيقة .
العاشر : معناه ما ظفرت إذ رميت ولكن الله أظفرك ، قاله أبو عبيدة)( ).
وهذا المعنى خلاف المعنى المتبادر من الآية ، والتبادر من علامات الحقيقة وتقدير الآية : وما رميت إذ رميت بنفسك ولكن الله عز وجل بمشيئته هو الذي رمى ، وليس من رمية أدق وأصوب من رمية الله وهو سبحانه شديد العقاب، وفي قوله تعالى [وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ]( ).
إن الله عز وجل أمطر على بقايا قوم لوط حجارة من السماء من كان في الحضر أو السفر فلم ينجو منهم أحد .
الثامن : وما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب ولكن الله ملأ قلوبهم رعباً( ).
ولو دار الأمر بين الحقيقة والمجاز فتقدم الحقيقة أي إرادة فعل الرمي حقيقة.
وقذف الرعب في قلوب الكفار معجزة أخرى مستقلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ ورد عن أبي أمامة : ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فضلت على الأنبياء بأربع : أرسلت إلى الناس كافة ، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً ، فأينما رجل أدركه من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره ، ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي ، وأحل لنا الغنائم ( ).
التاسع : انه أراد رمي أصحابه بالسهم فأصاب رميهم( ).
ولكن الآية جاءت بصيغة الإلتفات من لغة الجمع إلى المفرد [ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ]( ).
ولا مانع من كون هذا المعنى هو الأعم لمفهوم الآية الكريمة ، وبيان فضل الله عز وجل ولم يرد لفظ (رمى ) ولفظ (رميت) في القرآن إلا في هذه الآية في سورة الأنفال ، وعلى نحو متكرر في الثاني ، كما انه لم تأت مادة الرمي لمعنى الرمي في المعركة والقتال في القرآن إلا فيها ، إذ ورد بخصوص مواضيع منها الدعوى والقذف والإفتراء وموضوع اللعان بين الزوجين ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ]( ).
وهل يمكن القول بأن الذين رموا أو قاموا بتصويب ما رماه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هم الملائكة
الجواب نعم، ولكن خلاف ظاهر الآية، وما فيها من إكرام إضافي للمسلمين وتأكيد نسبة نصر المسلمين لله عز وجل ، وقد جاء ذكر الملائكة بقوله تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا]( )
وهناك آيات كثيرة موضوعها خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها أربعة ذكرت اسم النبي محمد كما في قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( ).
كما أن هناك آيات تبين أحكاماً خاصة به ، وهي من مختصاته كما في زواجه من أكثر من أربع نساء . وقيامه الليل ، وصومه الوصال إذ يمسك عن الأكل والشرب ليومين والليلة التي بينهما أو لثلاثة أيام والليلتين اللتين بينهما ، فجاءت آية الرمي من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أن الله عز وجل خص المسلمين بمدد من الملائكة وخص النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأن تفضل الله عز وجل بأن يكون رميه على وجوه :
الأول : توجه الرمي إلى حيث يشاء الله عز وجل من المشركين .
الثاني : موضوعية رمي الحصى في عيون المشركين .
الثالث: الأثر المترتب على هذا الرمي بان إنهزم كفار قريش .
وعن ابن زيد في آية الرمي قال: هذا يوم بدر ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث حصيات فرمى بحصاة بين أظهرهم ، فقال : شاهت الوجوه فانهزموا ( ).
ونسب الثعلبي: أهل التفسير والمغازي لمّا ورد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدراً قال : هذه مصارع القوم إن شاء الله، فلمّا طلعوا عليه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللّهمّ إنّي أسألك ما وعدتّني فأتاه جبرئيل وقال :خذ حفنة من تراب فارمهم بها( ).
والمعارك التي قاتل فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هن معركة بدر ،أحد، الخندق، خيبر، بني قريظة ،بني المصطلق، فتح مكة ، حنين ، الطائف.
العاشر : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتدارك القصور أو الخطأ او النقص الذي قد يحصل من بعض قادة أو أفراد السرايا بما يؤكد للناس صدق الرسالة وإنتفاء الظلم في تأريخ الإسلام .
ولما فتحت مكة بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، وقد كانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية. يعني: الحقد. فقالوا: قد أسلمنا. فقال لهم: انزلوا. فنزلوا فوضع فيهم السلاح فقتل منهم، وأسر. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالَدُ بْنُ الوَلِيدِ؟ فبعث إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالدية من غنائم خيبر)( ).
قَالَ ابن إِسْحَاق : حَدَّثَنِي حَكِيم بْن عَبَّاد عَنْ أَبِي جَعْفَر – يَعْنِي الْبَاقِر – قَالَ : بَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ خَالِد بْن الْوَلِيد حِين اِفْتَتَحَ مَكَّة إِلَى بَنِي جَذِيمَة دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثهُ مُقَاتِلًا( ).
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْعَجَلَة وَتَرْك التَّثَبُّت فِي أَمْرهمْ قَبْل أَنْ يَعْلَم الْمُرَاد مِنْ قَوْلهمْ صَبَأْنَا)( ).
ومن المؤرخين من ينفي حديث التبرأ هذا .وعن ابن سعد : فَلَمَّا كَانَ السَّحَر نَادَى خَالِد مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِير فَلْيَضْرِبْ عُنُقَهُ “، قَوْله(أَنْ يَقْتُل كُلّ رَجُل مِنَّا أَسِيرهُ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ ” كُلّ إِنْسَان “، قَوْله: فَقُلْت وَاَللَّه لَا أَقْتُل أَسِيرِي وَلَا يَقْتُل رَجُل مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرهُ)، وَعِنْد ابن سَعْد ” فَأَمَّا بَنُو سُلَيم فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهمْ، وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار فَأَرْسَلُوا أَسْرَاهُمْ ” وَفِيهِ جَوَاز الْحَلِف عَلَى نَفْي فِعْل الْغَيْر إِذَا وَثِقَ بِطَوَاعِيَتِهِ)( ).
وذكر ابن اسحاق من حديث ابن أبي حدرد الأسلمي قَالَ: “كُنْت فِي خَيْل خَالِد فَقَالَ لِي فَتَى مِنْ بَنِي جَذِيمَة قَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ فِي عُنُقه بِرُمَّةٍ: يَا فَتَى هَلْ أَنْتَ آخِذ بِهَذِهِ الرُّمَّة فَقَائِدِي إِلَى هَؤُلَاءِ النِّسْوَة؟ فَقُلْت: نَعَمْ، فَقُدْته بِهَا فَقَالَ: أَسْلِمِي حُبَيْش. قَبْل نِفَاد الْعَيْش , وقال شعرا من الطويل :
أَرَيْتُك إِنْ طَالَبَتْكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ … بِحِلْيَةٍ أَوْ أَدْرَكَتْكُمْ بِالْخَوَانِقِ
أما كان أهلاً أن ينوّل عاشقٌ … تكلّف إدلاج السّرى والودائق
فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرةٌ … أثيبي بودّ قبل إحدى الصّفائق !
أثيبي بودّ قبل أن تشحط النوى … وبنأى أميري بالحبيب المفارق( )
فَقَالَتْ لَهُ امرأة مِنْهُنَّ: وَأَنْت نَجَّيْت عَشْرًا، وَتِسْعًا وَوَتْرًا، وَثَمَانِيًا تَتْرَى. ثُمَّ ضَرَبْت عُنُق الْفَتَى، فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ فَمَا زَالَتْ تُقَبِّلهُ حَتَّى مَاتَتْ “، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ” الدَّلَائِل “بِإِسْنَادٍ صَحِيح مِنْ حَدِيث ابن عَبَّاس نَحْو هَذِهِ الْقِصَّة وَقَالَ فِيهَا: ” فَقَالَ إِنِّي لَسْت مِنْهُمْ، إِنِّي عَشِقَتْ امرأة مِنْهُمْ فَدَعُونِي أَنْظُر إِلَيْهَا نَظْرَة قَالَ فِيهِ فَضَرَبُوا عُنُقه،
فَجَاءَتْ الْمَرْأَة فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ فَشَهِقَتْ شَهْقَة أَوْ شَهْقَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَتْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُل رَحِيم”؟ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيق ابن عَاصِم عَنْ أَبِيهِ نَحْو هَذِهِ الْقِصَّة وَقَالَ فِي آخِرهَا: “فَانْحَدَرَتْ إِلَيْهِ مِنْ هَوْدَجهَا فَحَنَّتْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ”)( ).
وكانت الرحمة تتغشى قول وفعل النبي وصبره على المنافقين ومعاملته للأسرى وحثه المسلمين على الإكتفاء بأعلان الإسلام لحقن الدماء (وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: إن مَنْ شهد شهادتنا وصلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا وكان بديننا فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمّة رسوله)( ).
وفي قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا] ( )، قال ابن عباس: نزلت في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك وكان من أهل فدك لم يسلم من قومه غيره فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وآله وآله وسلم تريدهم وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا منه .
وأقام ذلك الرجل المسلم فلما رأى الخيل خاف أن لا يكونوا مسلمين فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو الجبل، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون فعرف أنهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر ونزل وهو يقول لا إله إلاّ الله محمد صلى الله عليه وسلم السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد بسيفه فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر
فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً، وكان قد سبقهم الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلتموه إرادة ما معه؟ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد هذه الآية فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله فقال: كيف أنت بلا إله إلاّ الله؟ يقولها ثلاث مرات قال أسامة فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلاّ يومئذٍ ثم استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اعتق رقبة , وروى أبو ظبيان عن أسامة قال: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح فقال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفاً أم لا)( ).
الحادي عشر : فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كشف الحقائق ومنع سفك الدماء . وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة حين سألوا عن خلافة الإنسان في الأرض على نحو الإنكار للقبيح من الفعل [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علم الله سبحانه أنه يهدي نبيه إلى التدارك ودعوة الأمراء والحكام إلى التأني في الحكم والإستماع إلى الطرف الآخر وصيرورة أسباب نزول الآيات ضياءّ ينير دروب المسلمين للعمل بمضامينها بلحاظ عموم اللفظ وليس سبب النزول وحده.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإِسلام، فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، قلت يا رسول الله: ارجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإِسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إليَّ يا رسول الله رسولاً يبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الابان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه إحتبس الرسول
فلم يأتِ فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إليَّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا : هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك ، قال : ولم؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله . قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته ولا أتاني،
فما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني وما أقبلت إلا حين احتبس عليَّ رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله ، فنزل {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبإ فتبينوا} إلى قوله {حكيم})( ).
الثاني عشر : الإحتراز من محاولات إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم من صيغ الدفاع والذب عن الإسلام ولم يكن هذا الإحتراز وحده كافياّ لحماية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من شرور ومكائد الكفار بل كان المدد والعناية والحفظ الإلهي معجزة في حفظه من كيد الأعداء ، وشاهداّ على صدق نبوته لذا ورد قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
وعن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيمن يحرسه فلما نزلت[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحرس.
وعن جابر بن عبد الله قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه فقال غورث بن الحرث: لأقتلن محمداً فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له أعطيني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به. فأتاه فقال: يا محمد، اعطني سيفك أشمه، فأعطاه إياه فرعدت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حال الله بينك وبين ما تريد)( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبل ويسمع خبر العيون والجواسيس وبه يستدل في علم الأصول على قبول خبر الواحد.
وقد يقال إنه يقبل أقوالهم وإخبارهم لموافقتها الواقع، ولتنمية ملكة الإيمان عندهم وهذا صحيح إلا أنه يقول (انما احكم بينكم بالبينات والأيمان).
لتأديب قادة المسلمين على كيفية تسيير الأمور وإدارة دفة الحكم ولأن الله عز وجل يقيه من الزلل والخطأ كما في قوله تعالى[إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]( ).
ومجيء الآية بصيغة الجمع وإرادة عموم المسلمين لتكون قانوناّ وموضوعاّ لمنع الخلاف بينهم في قبول خبر الواحد إذا كان فاسقاً غير عادل وعدم قبول شهادته.
وقتل الأمم السابقة لعدد من الأنبياء ثابت في التنزيل وقصص الأنبياء والأخبار قال تعالى[فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ]( ).
والآية أعلاه من إعجاز القرآن وهي من عطف العام على الخاص ويمكن تأسيس باب في علم البلاغة وهو عطف الأشد على الأخف بلحاظ أن القتل أشد ولم يأت إلا بعد التكذيب ، فكل قتل لأحد الأنبياء هو تكذيب له وليس العكس ، وقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التكذيب وجرت عدة محاولات لقتله والتي بدأت من حين ولادته ومعرفة أنه سيكون نبي آخر الزمان، ومنها ما كان قبل الهجرة النبوية ومنها ما كان اثناء الهجرة وفي الطريق إلى المدينة ، ومنها ما حصل بعد الهجرة لتكون نجاته وسلامته معجزة حسية وعقلية تدل على صدق نبوته.
روى الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ] ( ).
قال نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام بات على فراش الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة خروجه إلى الغار .
قال: ويروى أنه لما نام على فراشه صلى الله عليه وآله وسلم قام جبريل عن رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل ينادي : بخ بخ من مثلك يا ابن ابي طالب يباهي الله بك الملائكة)( ).
وكان التهديد والوعيد يرد على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اكثر من شخص وجهة وطائفة ويذب الله عز وجل عنه ليتم رسالته ويدخل شطر من الذين أرادوا قتله الإسلام، وعن عكرمة قال: كان ناس من المشركين من قريش يقول بعضهم لبعض: لو قد رأيت محمداً لفعلت به كذا وكذا ، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم في حلقة في المسجد، فوقف عليهم فقرأ{يس والقرآن الحكيم} حتى بلغ{لا يبصرون} ثم أخذ تراباً، فجعل يذره على رؤوسهم، فما يرفع إليه رجل طرفه، ولا يتكلم كلمة، ثم جاوز النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا ينفضون التراب عن رؤوسهم ولحاهم، والله ما سمعنا، والله ما أبصرنا، والله ما عقلنا)( ).
وفي سبب نزول قوله تعالى [إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً]( ) أنها نزلت في أبي جهل وأصحابه، إذ قال أبو جهل لئن رأيت محمداّ يصلي لأرضخن رأسه بحجر فلما رآه يصلي رفع حجر ليرميه ، فرجعت يده إلى عنقه ، والتصق الحجر بيده، فقال الوليد بن المغيرة انا أرضخ رأسه فاتاه وهو يصلي فأعمى الله بصره ، وصار يسمع صوته ولا يرى مكانه فرجع ولم ير أصحابه إلى أن نادوه، وقال ثالث والله لأشدخن رأسه، فأخذ الحجر ورجع القهقري وهو ينكص على عقبيه وخر مغشياّ عليه .ولما سئل قال لما دنوت منه أي من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رأيت فحلاّ يخطر بذنبه ما رأيت فحلاّ اعظم منه حال بيني وبينه .
وتحتمل نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من محاولات الإغتيال المتكررة وجوهاّ:
الأول : كل مرة ينجو فيها النبي بواقية جلية من عند الله.
الثاني :حضور جبرائيل لنجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودفع الكيد عنه.
الثالث : تلك النجاة بالأسباب الحسية ومن غير معجزة.
الرابع : الإعجاز في نجاة الرسول رحمة من الله , وإن تجلى بالأسباب المادية .
الخامس : تجتمع مصاديق السلامة من الإغتيال بفرد واحد من المعجزة.
والصحيح هو الأول والثاني والرابع، وكل مرة ينجو فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكيد والإغتيال معجزة قائمة بذاتها وفي أسباب نزول قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا]( ).
ذكر أنه لما قتل أهل بئر معونة نجا من القوم عمرو بن أمية الضميري ورجل آخر معه ، فلقيا بقرب المدينة رجلين من سليم قد كانا أخذا عهداً من النبي صلى الله عليه وسلم وانصرفا ، فسألهما عمرو ممن أنتما؟ فانتسبا إلى بني عامر بن الطفيل وهو كان الجاني على المسلمين في بئر معونة، فقتلهما عمرو وصاحبه وأتيا بسلبهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال لقد قتلتما قتيلين لأدينهما ثم شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع الدية فذهب يوماً إلى بني النضير يستعينهم في الدية ومعه أبو بكر وعمر وعلي . فكلمهم فقالوا: نعم يا أبا القاسم انزل حتى نصنع لك طعاماً وننظر في معونتك.
فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ظل جدار فتآمروا بينهم في قتله ، وقالوا ما ظفرتم بمحمد قط أقرب مراماً منه اليوم ، فقال بعضهم لبعض من رجل يظهر على الحائط فيصب عليه حجراً يشدخه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش فيما روي ، وجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام رسول الله من المكان وتوجه إلى المدينة ونزلت الآية في ذلك)( ).
وبعد معركة بدر أغرى صفوان بن أمية عمير بن وهب الجمحي لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان إبنه وهب بن عمير في أسرى بدر ، ووعده صفوان بقضاء دينه وكفاله عياله، وكتمان الأمر ، فجاء عمير وكان شريراّ يخشى منه ولكن النبي قربه (فقال: أنعم صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم.
فقال رسول الله: ” قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة ” قال: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد، قال: “فما جاء بك يا عمير؟” قال: جئت لهذا الاسير الذى في أيديكم فأحسنوا فيه، قال: “فما بال السيف في عنقك؟” قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت شيئا!.
قال: “اصدقني ما الذى جئت له؟” قال: ما جئت إلا لذلك، قال: “بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك” فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحى، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فو الله إنى لاعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذى هداني للإسلام وساقني هذا المساق.
ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن وأطلقوا أسيره ” ففعلوا، ثم قال: يا رسول الله إنى كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الاذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لى فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله وإلى الاسلام لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم.
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة، وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف ألا يكلمه أبدا ولا ينفعه بنفع أبدا.
قال ابن إسحاق: فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الاسلام ويؤذي من خالفه أذى شديدا، فأسلم على يديه ناس كثير)( ).
وهل إبدال التحية بالسلام كما في الحديث أعلاه من السنة الدفاعية الجواب نعم، وهو دليل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في نشر معاني الود وما يمحو النفرة ويزيل الكراهة وفيه ترغيب بالإسلام وبالسلام وإتخاذه وسيلة للدعوة إلى الله، وهو من البيان للناس في ماهية الإسلام والأخلاق الفاضلة التي يريد إشاعتها بين الناس جميعاً.
وعن الإمام علي عليه السلام قال: السلام سبعون حسنة , تسعة وستون للمبتدئ وواحدة للراد)( ).
الثاني عشر : العهود والمواثيق التي امضاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين مدرسة في إجتناب الحرب والقتال وشاهد على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : إمهال الناس حتى يروا الآيات ويتدبروا المعجزات التي جاء بها.
الثاني : عدم أخذ الناس على حين غرة.
الثالث . الرحمة بالناس وعدم التعجيل عليهم بالسيف.
الرابع : الرفق والرأفة بأهل بيت النبي وأصحابه بعدم زجهم وإقحامهم في الحروب والمعاركة.
الخامس : المندوحة والمهلة للصحابة وأهل المدينة المنورة لعمارة الأرض والزراعات.
السادس : الإلتفات إلى الحاجة إلى كثرة الإنجاب عند المسلمين ، وتعليم أولادهم القراءة والكتابة .
السابع : تمرين المهاجرين والأنصار على فنون القتال .
الثامن : دراسة حال المسلمين في المعارك السابقة ومواطن القوة وما هو خلافها وكيفية التدارك، وزيادة التأهيل والتحريف.
التاسع : التدبر بالمدد الإلهي في المعارك السابقة كما في قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ومن الإعجاز في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن هذه الآية وما فيها من النصر مع الذل وإنتقال المسلمين إلى حال من القوة والعز بعد هذا النصر لم يجعلهم يكثرون من الغزو أو يعرضون عمن يطلب الصلح أو يزهدون بالعهود والمواثيق ، فقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعفو ويغفر للناس ويدعوهم إلى الإسلام بالبينة والبرهان وكان الصبر على الأذى مصاحباّ له إلى حين إنتقاله إلى الرفيق الأعلى، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ما اوذي نبي مثل ما أوذيت( ).
والسنة الدفاعية ليست مطلقة بل هي مرآة لآيات القرآن التي جاءت بالضبط والدقة في القتال والهدنة وأسباب القتال وحرمة القتال في البيت الحرام كما في قوله تعالى[وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( )، أي إذا إبتدأ قتال الكفار في البيت الحرام ، فيجوز للمؤمنين الإستمرار فيه لحين قتلهم وهلاكهم، قال تعالى[وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( ).
وعن قتادة أن الآية أعلاه وقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِير]( )، نسختا في سورة التوبة [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ).
ولا دليل على النسخ والأصل عدمه إذ جاءت السنة بيانا للقرآن ففي اليوم الثاني للفتح قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس خطيباً وفي البيت الحرام فحمد الله وأثنى عليه وقال (يأَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليومِ الآخرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيها دَماً أَوْ يُعَضِّدُ بِهَا شَجَراً، وَأَنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلاَّ هَذِهِ السَّاعَةَ غَضَباً عَلَى أَهْلِهَا، ألاَ وَهِيَ قَدْ رَجِعَتْ عَلَى حَالِهَا بِالأَمْسِ، ألاَ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ)( ).
ليكون المسلم في هذا الموضوع , أما شاهداً يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وأما غائباً وقد بلغته حرمة القتال في البيت ، وهي ليست هنا من المطلق والمقيد بل من البيان والتفسير وتأكيد نفي النسخ للآية التي تمنع من القتال في البيت الحرام إلا أن يبدأه الكفار.
أما أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل ابن خطل فهو من ضمن الساعة من النهار التي أباح الله عز وجل له مكة فيها لتطهيرها من دنس الشرك ورجز الأوثان، (وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عام الفتح مكة وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال ان ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه)( ).
وابن خطل هو عبد العزى بن خطل التيمي كان ممن أسلم ثم كفر وأخذ يسب النبي ويتعدى على الإسلام، فاهدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دمه، ومنهم من استدل بهذه الواقعة على نسخ قوله تعالى[وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ]( ).
لكنها قضية في واقعة وجاءت الآية بالإطلاق وفي موضوع القتال ولا ملازمة بين نزع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المغفر وبين إنتهاء الساعة التي أباح له فيها مكة بالإضافة إلى أن صدور الأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتله سابق لمجئ أبي برزة ، ويحتمل قتل ابن خطل قتل حدٍ وليس قتل حرب، وكان قد أسلم فبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصدقاً ومعه رجل من الآنصار ومولى له مسلم يخدمه وأمر المولى أن يذبح له تيساً ويصنع له طعاماً ونام ابن خطل ولما استيقظ لم يجد الطعام فقتله وارتد مشركاً.
لقد جاء الخطاب في الآية أعلاه للمسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة وهي غير منسوخة وهي من مصاديق الرحمة والحكمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولو دار الأمر بين حكمين أحدهما فيه حفظ لحرمة البيت والآخر بخلافه فالأصل هو الأول .
وإذا ورد الأحتمال بطل الإستدلال والنسخ تبديل الحكم بحكم أخر ولا تكفي هذه الواقعة في نسخ الآية ولا في نسخ أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحرمة مكة إلى يوم القيامة .
ويأتي العام على الخاص مع وجود القرائن التي تدل على الإطلاق في حكم الناسخ وتأخره زماناً على الخاص وإجتناب قتال الكفار في المسجد الحرام من المنفصل، وهو الذي يأتي في كلام آخر وفي مناسبة وموضوع غير موضع العام ،ويكون قرينة على إستثناء الخاص من العام .
ثمار كل فرد من السنة الدفاعية
يطلب كل علم وموضوع من السنة النبوية من جهات متعددة منها :
الأولى : الأسباب .
الثانية : المقدمات .
الثالثة : ذات وماهية الموضوع .
الرابعة : نتائج وثمار قول وفعل وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتتجلى في دراسة نتائج ثمار كل فرد من السنة الدفاعية والتدوينية لتتجلى آيات من حسن التدبير والحكمة المتعالية التي هي مرآة للوحي لما فيها من إعجاز وأمور تفوق مدارك الإنسان ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
وهذه الدراسة والتدبر في السنة إقتباس من الوحي . وجعل مصاديقه حاضرة في الواقع اليومي للمسلمين والمسلمات وفي الأحوال المختلفة ، ففي صلح الحديبية مثلاً منافع كثيرة منها :
الأول : تفرغ المسلمين للعبادات والتفقه في الدين ومعرفة أحكام الشريعة.
الثاني : توجه المسلمين لسؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أحكام الحلال والحرام .
الثالث : دخول الأفواج من الناس إلى الإسلام بعد صلح الحديبية ، فبعد صلح الحديبية بسنتين خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة بستة أضعاف الذين كانوا معه يوم الحديبية ولعل عدد الذين اسلموا خلال هاتين السنتين أكثر من مجموع الذين اسلموا في السنوات السابقة من سني الدعوة قبل وبعد الهجرة . قال ابن شهاب الزهري(ولقد دخل في تينك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك )( ).
الرابع : دخول القبائل في الإسلام.
الخامس : إظهار العبيد والمستضعفين إسلامهم.
السادس : تدارس الناس آيات القرآن وأسرار الإعجاز فيه.
السابع : صيرورة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حديث الناس.
الثامن : قيام المسلمين بدعوة الناس للإسلام.
التاسع : إرسال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوفود إلى الملوك والأمراء ودعوتهم للإسلام.
العاشر : معرفة الناس والدول العظمى بالصلح، وهو شاهد على المنعة والعزة التي يتصف بها الإسلام.
الحادي عشر : إنعاش الزراعة وإزدهار التجارة في المدينة المنورة.
الثاني عشر : عناية المسلمين بشؤون أسرهم مع زيادة النسل والتكاثر.
الثالث عشر : ضرب المسلمين في الأرض وعدم الخوف من الكفار للصلح والعهد معهم، وهذا الضرب وسيلة ومقدمة لنشر مبادئ الإسلام وجذب الناس له.
الرابع عشر : شيوع حال السكينة بين المسلمين وفي أسواقهم ومساكنهم فليس من نفير لحرب أو قتال بالإضافة إلى إقتران الصلح بوفود القبائل إلى المدينة معلنين إسلامهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا]( ).
الخامس عشر : وهن وضعف جماعة المشركين وتفكك جيشهم وعجزهم عن حشد الآلاف التي كانوا يجمعونها ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين خاصة وإن أكثر جنودهم هؤلاء رجال القبائل والمستضعفون الذين هجروا الكفر ودخلوا الإسلام، وتخلى عن رؤساء الشرك والضلالة أبناؤهم ، وأصبحت مكة تدعو النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لدخولها وفتحها , والبيت يشتاق إليه .
السادس عشر : لحوق الذل بقريش باعترافها بالمسلمين وإبرام الصلح مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن كانوا يرمونه والمؤمنين بأقبح النعوت، فقالوا في النبي أنه شاعر، وساحر، [وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ]( ).
وطعنوا في القرآن لصد الناس عن التدبر في آياته وقالوا أنه سحر ورجز وإفك ومفترى[وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ]( )، مع أن أكثر آياته تتعلق بالأحكام والسنن، المراد من أساطير الأولين(كذب الأولين وباطلهم)( ).
وزعموا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تعلم القرآن من جبر ويسار وهما غلامان نصرانيان في مكة، وتبين للناس وفي كل زمان أن علومه من اللامتناهي .
السابع عشر : ثبوت حقيقة وهي إنقياد الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال الحرب والسلم ، والقتال والصلح ، ونزول السكينة عليهم بهذا الإنقياد.
الثامن عشر : التخفيف عن المؤمنين وتوقف معارك الدفاع ، وهو توقف حسن إذ أنه من معالم النصر والظفر.
ومن خصائص السنة الدفاعية البيان القولي والتفسير من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشواهد والعلة والمعلول بحسب الحال .
وعند عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة بدر، قال سلمة بن سلامة الأنصاري(قتلنا عجائز صلعاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أولئك الملأ من قريش لو حضرت أفعالهم لاحتقرت فعلك)( ).
وفي الحديث مسائل:
الأولى : زجر المسلمين عن الإستخفاف بالعدو وقدراته، وتتجه بعض النظريات العسكرية في هذا الزمان إلى المبالغة في قدرة العدو وتصورها بأكبر حد تكون عليه، وتستطيع بلوغه ليأخذ أفراد الجيش أهبة الإستعداد للمواجهة وكيلا يفاجئوا أثناء المعركة بقوة للعدو لم تكن في الحسبان .
الثالثة : عند إنطواء صفحة المعركة بعد إنتهائها وحصول النصر ليبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موضوعية النصر بذكر شأن العدو المهزوم .
الرابعة : إرسال رسالة إلى القبائل والمنافقين بادراك قوة الإسلام .
الخامسة : دعوة المسلمين لنزع هيبة العدو من أعينهم وان كان ذا سلطان وشأن .
السادسة : بعث الفزع والخوف في قلوب الأعداء من جيش المسلمين .
السابعة : عدم وجود برزخ وحجاب يمنع المسلمين من الوصول إلى الملأ من الكفار .
الثامنة : إنطواء أيام الشأن والهيبة لرؤساء الكفر والضلالة .
فتح مكة
يصلح كل غزوة وحال قتال أن يكون عنواناً مستقلاً وموضوعاً لإقتباس المواعظ والعبر , وتتصل مقدمات الفتح إلى السنة السادسة للهجرة عندما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه لأداء العمرة ، وكان عددهم ألفاً وأربعمائة ، ليس معهم سلاح للقتال إذ كانوا في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة .
وأرسل بُسر بن سفيان الكعبي عيناً ليأتي لهم بخبر قريش مما يدل على موضوعية العين وتتبع أحوال العدو في حال السلم والحرب فأرسلت قريش خالد بن الوليد بمائتي فارس ليروا النبي وأصحابه .
ومن خصائص السنة الدفاعية الإستتار عن طلائع المشركين ومداهمة الجيش لهم فسلك النبي محمد صلى لله عليه وآله وسلم طريقاً وعرة.
وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من يصعد ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل فكان أول من صعدها خيل بني الخزرج فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر قال: و إذا هو أعرابي ينشد ضالة له قلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم)( ).
وبركت ناقة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم القصواء فتنادى المسلمون وقالوا : خلأت القصواء ، ويبدو انهم استحضروا بروك ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند دخوله المدينة في أول الهجرة قادماً من مكة إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم ( دعوها فانها مأمورة ) في أول معجزة حسية يراها الأنصار أول دخوله المدينة وكأنها بشارة لهم وباعث للسكينة في نفوسهم على صدق نبوته ، وفيها زاجر للمنافقين وأهل الشك والريب .
ليأخذ ابو أيوب الأنصاري رحل النبي لأن الناقة بركت قريباً منه ، فقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المرء مع رحله في مواساة وثناء على الذين تنافسوا على إستضافته، ليشتري النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما بعد هذا الموضع وجعله مسجداً وفيه شاهد على تعاهد المواضع التي تحكي معجزات وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعناية بها لتكون موعظة وعبرة للأجيال.
أما في الحديبية فحينها بركت الناقة في ثنية المرار (ما حلأت، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل. ثمّ قال: والّذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون بها حرمات الله، وفيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إيّاها)( ).
لبيان حرمة البيت وأن الحيوانات بما جعل الله عندها من حسن الإنقياد والعبودية له تعالى تقدس البيت الحرام وأن إبرهة لم يلتفت من بروك الفيل وإمتناعه عن التوجه إلى مكة في تلك المواضع وقيامه بالركض حين يوجه إلى جهة أخرى .
وفي حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إعلاه إظهار لتقديسه حرمة مكة وتهيئته لأذهان المسلمين للصلح والرجوع إلى المدينة من غير بلوغ مكة وأداء مناسك العمرة .
والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولى الناس بتعظيم شعائر الله وإكرام مكة وتجنيبها وأهلها القتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
بلحاظ أن إبراهيم أقام قواعد البيت الحرام ودعا الناس لأداء الحج ، وسأل الله عز وجل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون موضوع الأمن والأمان لمكة وأهلها .
وزجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ناقته القصواء لينزل باقصى الحديبية عند بئر قليل الماء ، فشكا الناس إلى رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} العطش فنزع سهماً من كنانته، وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له : ناجية بن عمير بن يعمر بن دارم، وهو سائق بدن رسول الله، فنزل في ذلك البئر، فغرزه في جوفه، فجاش الماء بالريّ، حتّى صدروا عنه)( ).
وبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه فاخبره بمجيء قريش وعزمهم على قتال النبي وصده وأصحابه عن البيت فقال صلى الله عليه وآله وسلم “إنَّا لَمْ نأْتِ لِقِتالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنا مُعْتَمِرِينَ)( ).
وهذا الكلام من أفراد سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية وإشعار بأنه يفضل حال السلم والصلح على القتال والغزو ، وإلا فان قريشاً كانت في حال من الوهن والفزع وقعدت عن نصرتها الكثير من القبائل التي دخل أبناؤها الإسلام.
وقد في صلح الحديبية ومن بين أسبابه ورضوخ قريش للصلح أن أحلافهم من الأحابيش أرادوا الرجوع دفعة واحدة وهددوا بالانسحاب إذا همّت قريش بقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
إذ أخذت قريش تبعث إلى النبي الوفود فجاءه عروة بن مسعود الثقفي وتحاور معه طويلاً ، ورأى إنقطاع أصحاب النبي له وإكرامهم له ولمرتبة النبوة(فرجع عروة إلى أصحابه، فقال : أي قوم لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إنْ رأيت مَلكاً يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّداً)( ).
وبعثت قريش رجلاً من كنانة فلما اشرف عليهم (قال النبي : هذا فلان من قوم يعظّمون البُدن، فابعثوها له فبعثت له، واستقبله قوم يلبّون، فلمّا رأى ذلك، قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت)( ).
ثم بعثت قريش الجليس بن علقمة وهو سيد الاحابيش( ) قال الزهري: فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسير إليه من عرض الوادي بقلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعظاما لما رأى فقال لهم ذلك، فقالوا له إجلس فانما أنت أعرابي لا علم لك فحدثني عبدالله بن أبى بكر أن الحليس غضب عند ذلك
وقال يا معشر قريش والله ما على هذا حالفنا كم، ولا على هذا عاقدناكم؟ عن بيت الله من جاءه معظما، والذى نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد قال فقالوا مه كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به)( )، أي أظهرت قريش أنها تهدد وتتوعد للتشديد في الشروط وتعدد المطالب التي تريدها من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يكتف بمجئ وفود القوم من الذين حضروا الحديبية بل ارسل إلى مكة حيث مصدر القرار لجذب القلوب وإلقاء الخلاف بين المشركين
وإذ (دعا خراش بن أمية الخزاعى فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فمنعه الاحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وقام معسكر قريش بارسال أربعين رجلاً يطوفون بمعسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورموه بالحجارة والنبل فأخذهم الصحابة.
وأتوا بهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما حضروا عنده عفا عنهم وأمر بتخلية سبيلهم لبيان أنه لم يأت للقتال والحرب وليكون هذا العفو حجة على قريش(ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال يا رسول الله إنى أخاف قريشا على نفسي بمكة وما بمكة من بنى عدى بن كعب أحد يمنعنى وقد عرفت قريش عدواني إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل أعزبها منى عثمان بن عفان
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبى سفيان واشراف قريش يخبر هم أنه لم يأت لحرب وانه لم يأت إلا زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته فخرج عثمان بن عفان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فجعله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
لقد رضي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصلح لمدة عشر سنوات إبتداءً من شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة مع أن كفار قريش وهنوا وقعدوا، وتبددت هيبتهم بين القبائل ، وصارت قوافل تجارتهم عرضة للنهب والسلب ورضاه هذا باذن وأمر من عند الله لأنه من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، والله عز وجل يعلم أن قريشاً لن يستمروا على الوفاء بالعهد.
وفي شهر رمضان من سنة ثمان للهجرة نقضت قريش العهد والصلح وعلى نحو صارخ وظهر الندم على وجوه وألسنة كبراء قريش لهذا النقض لتتجلى السنة الدفاعية بأخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زمام المبادرة والتوجه لفتح مكة واستئصال الكفر والضلالة فلم يكن الأمر عهداً وصلحاً بين طرفين متكافئين ، بل كان بين متضادين:
الأول : أهل الحق والصدق بصبر وحلم وموادعة.
الثاني : أرباب الكفر وأهل العتو والعناد الذين حدث منهم تعد وتماد وتفريط .
فجاء فتح مكة ليكون فتحاً لباب التوبة لهم وبركة لهم ولذراريهم.
وليكون الفتح من مصاديق حرمة مكة , وعن ابن عباس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والارض، وصاغه يوم صاغ الشمس والقمر، وما حياله من السماء حرام، وإنه لا يحل لاحد قبلى، وإنما حل على ساعة من نهار ثم عاد كما كان”)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم افتتحها فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست، ثم أخذ بعضادتي الباب فقال: ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده، ماذا تقولون ؟ وما ذا تظنون ؟ ” قالوا: نظن خيرا، ونقول خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، قال: ” فإني أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والارض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ” فقال العباس: يا رسول الله إلا الاذخر فإنه للقبر والبيوت: فقال رسول الله صلى الله عليه واله: إلا الاذخر)( ).
وفيه زجر لأصحابه من إستباحة مكة أو سلب أهلها أموالهم أو أخذ أسرى وسبايا منهم , ولتكون هذه الوصية وسيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين إلى يوم القيامة باجتناب التعدي على أهل مكة وممتلكاتهم، وهو مصادق قوله تعالى حكاية عن إبراهيم[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا]( ).
ولتتغشى مضامين خطبة يوم الفتح موسم الحج كل سنة وإلى يوم القيامة ولا عبرة بالشاذ النادر كما في أحداث سنة 317 للهجرة المؤلمة، ليكون موعظة وسيرة للمسلمين ولزوم توفير الأمن لوفد الحاج والسهر للعناية بهم .
إن قوله تعالى[وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ) على فرض إطلاق موضوعه وهو المختار وأنه لا يختص بتسوية الخصومة بين الزوجين ليكون قانوناً كلياً ترتكز عليه السنة النبوية ، وزاجراً لمن يصر على مواصلة القتال مع المشركين وهل هذا الاصرار من مصاديق قوله تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا]( ) الجواب هناك تباين موضوعي فالاصرار في الآية اعلاه يتعلق بفعل السيئات وإرتكاب المعاصي وهو صفة مذمومة , وجاء الثناء على المؤمنين لتنزههم عنها . أما الإصرار في مواصلة قتال الكفار فانه في الغالب ترك للأولى ، فجاءت الآية أعلاه لبيان حقيقة وهي أن الفلاح والرجحان للصلح ،ويفتح الله عز وجل به فيضاً من رحمته على المسلمين خاصة والناس عامة , وتجلى هذا المعنى في صلح الحديبية مع أن بعض الصحابة أبوا يومئذ الصلح وهم عزل من السلاح، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أظهر حكمة النبوة بقبوله فكرة الصلح، وبيّن لأصحابه منافعها , وبما ينقله الناس إلى قريش: قال: إنا لم نجيء لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم .
فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره)( )، ليبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لاصحابه وأجيال المسلمين المتعاقبة والناس جميعاً أمور :
الأول : وجود المقتضي للصلح وفقد المانع عنه .
الثاني : تعظيم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه البيت الحرام والتضحية والفداء من أجل الوصول إليه بلحاظ أن الخروج إلى العمرة بأهل البيت والأصحاب من غير سلاح نوع مخاطرة ، ولكنها السنة التي هي مرآة للوحي والمصداق العملي للوحي .
الثالث : رحمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقريش وإمهالهم بالصلح ليتدبروا بالآيات ويتركوا أبناءهم والمستضعفين يدخلون الإسلام، وفيه شاهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف .
الرابع : في الصلح بعدما ضعفت ووهنت قريش , والمسلمون في حال العز والمنعة وعدم الخوف أو الجبن شاهد على أن الإسلام دين الرحمة والحلم , وعن الإمام الحسين عليه السلام عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام في حديثة مع اليهود الذي قال (فهذا نوح عليه السلام صبر في ذات الله عزوجل، وأعذر قومه إذ كذب. قال له علي عليه السلام: لقد كان
كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله صبر في ذات الله وأعذر قومه إذ كذب وشرد وحصب بالحصى، وعلاه أبو لهب بسلا شاة، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جابيل ملك الجبال أن شق الجبال، وانته إلى أمر محمد صلى الله عليه وآله، فأتاه فقال له: إني قد امرت لك بالطاعة فإن أمرت أطبقت عليهم الجبال فأهلكتهم بها، قال صلى الله عليه وآله: إنما بعثت رحمة , رب إهد أمتي فإنهم لا يعلمون)( ).
النبي والأسرى
الأسرى والأسارى جمع أسير مأخوذ لغة من الآسار وهو القيد، فسمي به وإن لم يقيد أو يربط وكل محبوس عنه الخصم هو أسير.
وقيل الأسرى في إصطلاح الفقهاء ( الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بهم أحياء)، ولكن المعنى أعم فهو لا يختص بأسرى المشركين عند المسلمين بل مطلق . قال تعالى في خطاب وتذكرة وحجة على بني إسرائيل[وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ]( ).
فاذا حدث قتال بين الأوس والخزرج في أيام الجاهلية خرج فريق من يهود يثرب وهم بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرج فريق آخر منهم وهم النضير وقريظة مع الأوس فتسفك دماؤهم لمظاهرة كل طائفة منهم لطرف في القتال ، فاذا انتهت الحرب ووضعت أوزارها افتدوا اسراهم عملاً بالتوراة .
ويفرق في الاصطلاح بين السبي والأسرى ، فالسبي هو أخذ أفراد وأهل العدو الحربي الذي قاتل المسلمين أحياء عند ظفر المسلمين كنساء وأطفال أهل الحرب ، ليكون عند المقابلة بين اللفظين معنى الأسرى بخصوص الرجال المقاتلين من الكفار .
وجاء القرآن بجواز الأسر ومشروعيته وما فيه من الحكمة قال تعالى [فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً]( )، ليدل بالدلالة الإلزامية على عدم قتل الأسرى وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، وليرى الأعداء مبادئ الأسلام ويتدبروا في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويعلم الأسرى بعبادات المسلمين وتقواهم وفيه جذب لهم لدخول الإسلام فحينما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِى حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ. فَقَالَ عِنْدِى خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِى تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ. حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ.
قَالَ مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ. فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ. فَقَالَ عِنْدِى مَا قُلْتُ لَكَ. فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَىَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ دِينِكَ،
فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَىَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَىَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَىَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِى وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى .
فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ صَبَوْتَ. قَالَ لاَ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ وَاللَّهِ لاَ يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم)( ).
فسرعان ما دخل هذا الأسير الإسلام ونفذ إلى شغاف قلبه فقد اطلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سراحه وامتلك حريته ليخرج إلى أقرب مكان ويغتسل وكأنه يطرح آثام ومفاهيم الجاهلية ، ويدخل المسجد صادقاً بالشهادتين ويحسن إسلامه , وبادر إلى سؤال الخروج إلى العمرة فلم يخش النبي من إرتداده أو إحتمال دخوله الإسلام خدعة بل أذن له بالخروج وبشره بالأجر والثواب على حسن سمته.
فحينما دخل مكة معتمراً تعرض له رجال قريش وهو أمير اليمامة ومن كبار ساداتها فأعلن عدم دخول الحنطة والحبوب إلى مكة إلا باذن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واراد إظهار سيادة الإسلام وقهر لقريش وارتفعت الأسعار في مكة وأصابت الفاقة والجوع أهلها , فاجمعت قريش على الكتابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشكوا إليه ما فعله ثمامة واستعطفوه قائلين ( ان عهدنا بك وانت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا فان رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا .
فكتب اليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أن خل بين قومي وبين ميرتهم)( ).
لذا يعّد ثمامة أول مسلم يدخل مكة ملبياً مع وجود الكفار والأصنام فيها وكان سبب أسره أنه أظهر نيته بغزو يثرب فبلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله(فقال: بل انا اغزوه ان شاء الله)
ملحقات السنة الدفاعية
السنة الدفاعية هي القسيم الخامس الذي أسسناه في باب أقسام السنة النبوية بعد تأسيسنا للسنة التدوينية ’ ليكون بين ثنايا السنة الدفاعية مصاديق من السنة القولية والفعلية والتدوينية والتقريرية.
وللسنة الدفاعية مقدمات تتداخل معها ، ولها ملحقات تترشح عنها وتكون أثراً لها وهذه الملحقات قد تكون من أفراد السنة الدفاعية أيضاً ومن مقدماتها، وتلك آية إعجازية في مضامين السنة النبوية وأنها ليست لكلام وفعل عامة الناس، وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي]( ).
والمراد من ملحقات السنة الدفاعية في إصطلاحنا هذا على وجوه :
الأول : ما يتعقب المعركة مثل تقسيم الغنائم .
الثاني : ما يصاحب الدفاع وليس منه ، وإن كان من السنة القولية أو الفعلية ، فقد يأتي المصداق الواحد وينطبق على أكثر من فرد من أفراد السنة النبوية.
الثالث : ما يتعقب المعركة من القول أو الفعل ،وقال موسى بن عقبة : ولما دخل رسول الله أزقة المدينة إذا النوح والبكاء في الدور قال: “ما هذا؟” قالوا: هذه نساء الانصار يبكين قتلاهم فقال: “لكن حمزة لا بواكي له)( ).
وتتجلى في هذا الخبر بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحقيقة وهي أن أهل البيت قدموا الشهداء .
‎‎الثانية : فقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعمه الحمزة في معركة أحد وهو من الشواهد على صدق نبوته , إذ أن الحمزة قتل وهو في حال الهجوم والكر إذ رماه وحشي بالرمح غدراً , الذي قال بعد أن دخل الإسلام يصف قتله مقابل عتق جبير بن مطعم له : والله إني لأنظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه ما يليق به شيئاً) ( ).
الثالثة : مواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنساء الأنصار بمصيبته بعمه وذكر مصيبته.
الرابعة: الزجر عن دبيب الوهن إلى نفوس المسلمين.
الخامسة : السلامة من إستحواذ الحزن على مجتمعات المسلمين.
السادسة : التصدي للمنافقين والمنع من شماتتهم وسعيهم في القعود عن القتال ،(وأخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر والتفريق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحزين المسلمين، وظهر غش اليهود، وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل. وقالت اليهود: لو كان نبيا ما ظهروا عليه ولا أصيب منه ما أصيب، ولكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه. وقال المنافقون مثل قولهم، وقالوا للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذي أصابوا منكم) ( ).
السابعة : إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصبر وبيان درس عملي في الرضا بأمر الله.
الثامنة : دعوة المسلمين للأستعداد للقادم من الوقائع والأحداث فبينما إنسحب المشركون من أحد توعدوا المسلمين ولم تمر الأيام حتى كانت واقعة الحندق .
ولقد أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمتثال لقوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا] لأن قتلى المسلمين أحياء خالدون في النعيم .
وأراد العمل بمضامين قوله تعالى (وَلاَ تَحْزَنُوا) بالخروج عن طوق الحزن والبكاء والإنشغال بالمؤاساة فبدل أن ينتقل الحزن والبكاء من النساء إلى الرجال لهول مصيبة الموت دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النساء للصبر والرضا بقضاء الله عز وجل والكف عن البكاء الذي هو مرآة ومصداق ظاهري للحزن .
علم بلاغي جديد
البلاغة مأخوذة من مادة ( بلغ ) أي وصل وتعني بلوغ الغاية والوصول إلى الشىء المطلوب، وهي في الإصطلاح البلاغي إجتهاد المتكلم في ايصال ما في نفسه من المعاني إلى السامع ، وفي أبهى صيغة وأتم لغة وافصح لفظ مع مطابقة المعنى للحال باقصر عبارة وإيجاز ومن غير لبس أو ترديد ، وقد تأتي البلاغة بالإطناب .
وقالوا أن إعجاز القرآن في بلاغته ، والحق أن بلاغته أحد شواهد إعجازه الذي هو من اللامتناهي وتطل منه على الناس مصاديق كلما حلّ الجديدان، وكأن الثمار والدرر والآلي تتناثر عن الفاظه مع أنها ذاتها ممتنعة عن الزيادة والإضافة والتبديل والتغيير.
وبين الفصاحة والبلاغة عموم وخصوص مطلق، فالفصاحة سلامة الألفاظ من الغموض والركاكة والعامية فتشمل الكلمة ومطلق الكلام .
أما البلاغة فانها تخص ذات الكلام ، فلا يقال للكلمة أنها بليغة ، ولكن تترشح بلاغتها بالجملة والكلام المنتظم .
ونؤسس لعلم جديد في البلاغة القرآنية وهو إختصاص المصطلح البلاغي القرآني بعلوم اضافية تتجلى فيها معان عقائدية وأخلاقية ومنها ما يخص عالم الآخرة وهو مناسبة لإستنباط القواعد الفقهية وضياء ينير دروب الجهاد وسبل الصلاح .
ومن ضروب الإطناب في البديع وجوه ثلاثة متقاربة ومتداخلة هي:
الأول :التتميم: وهو مجىء كلمة في عقب الكلام تزيده بياناً، وترفع عنه اللبس ، وتجعله قريباً من الفهم على نحو التبادر ،والتتميم لغة زيادة الناقص بما يجعله تاماً، وفي الإصطلاح البلاغي إضافة لفظ في الكلام ليزداد حسناً ويستبين المعنى.
ومن مفاهيم التتميم أنه برزخ دون الوهم ، ومانع من ترجيح خلاف المقصود بالإتيان بنكتة ما، لمبالغة ومن التتميم التأكيد ، ومنه مثلاً قوله تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً]( )، فقوله تعالى [وَهُوَ مُؤْمِنٌ] بيان متمم للمعنى، ومن خصائصه في القرآن أمور :
الأول :بيان وجوب قصد القربة في عمل الصالحات .
الثاني : العمل الصالح مطلق يشمل الإحسان للآخرين وحسن الضيافة والقرض وإعانة المحتاج ونصرة المظلوم، فقيدت الآية الموضوع بلحاظ الثواب بالإيمان والعمل طاعة الله كما في قوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( ).
وكثير من البلاغيين يستشهد بالآية أعلاه في معنى التتميم لقوله تعالى [عَلَى حُبِّهِ].
الثالث : حرمان الكافر من الأجر والثواب وإن عمل صالحاً ، فلو أدى الزكاة مثلاً فانه لا ثواب له لترتبه على شرط قصد القربة.
الرابع : الآية من مصاديق قاعدة نفي الجهالة والغرر، لتكون هذه القاعدة ومفهوم التتميم والتكميل البلاغي من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، فلا يأتي الكافر يوم القيامة ويقول أني فعلت ذات الفعل من الصدقة مثلاً فلماذا يثاب عليها المؤمن وحده ،قال تعالى [يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا] ( ).
الخامس : الملازمة بين العمل الصالح والإيمان في الدنيا وبين الحياة الطيبة في الدنيا والثواب في الآخرة .
السادس : لا يختص معنى [وَهُوَ مُؤْمِنٌ] بتمام ما قبله بل هو شرط في الثواب وسبب للخلود في النعيم، قال تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
السابع : من تجليات حاجة الإنسان سعيه وأمله في الكمال الإنساني وفي رغد العيش والسلامة من الهموم، فأخبرت الآية بأن السعادة في الدنيا والغبطة في الآخرة لا تنال إلا بالإيمان وترشح فعل الصالحات عنه .
الثامن : دعوة المسلم إلى استحضار ذكر الله عند العمل الصالح وأنه يريد مرضاته ويرجو فضله .
التاسع : الإخبار بأن الله عز وجل يسمع ويرى الناس في أعمالهم وأنه يعلم النوايا وما تخفيه الصدور من القصد والعزم ، لتكون هذه النوايا حاضرة مع صاحبها يوم الحساب .
ويتصف القرآن بخصوصية في المقام وهي مجئ اللفظ متمماً لغيره ثم يأتي لفظ آخر متمم له كما في آية البحث ، فقوله تعالى [وَلاَ تَحْزَنُوا] متمم لقوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا] للنقص والأذى الذي يترتب على الحزن المصاحب لعدم الوهن وللكآبة الملازمة للإقدام والبذل في سبيل الله .
ثم جاءت الجملة الحالية [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] لتمام المعنى وأن الوهن والحزن ضد منزلة العلو التي جعل الله المسلمين بها .
الثاني: التكميل: وهو أن يأتي الكلام والنثر والشعر بمعنى ثم يأتي ببيان يكمل به المعنى ويزيده إيضاحاً ، كما في قوله تعالى [وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ] ( )
فلو إختصر الكلام عن عجز الشركاء وأولياء الكفار عن نصرهم لأحتمل أن هذا العجز لأسباب قاهرة خارجة عن إرادتهم وأن الأصل قدرة الشركاء على النصر فورد البيان وكمل ذلهم بتخلف الشركاء عن نصر أنفسهم ، والإمتناع بالذات عن الذب عنها، ومما يختلف فيه التكميل القرآني عن تكميل الشعراء والبلغاء كلامهم أمور :
الأول : إفادة معنى مستقل لذات التكميل .
الثاني : مع بيان الكلام بكلمة وشطر التكميل فان معاني أخرى لأصل الكلام تترشح من ذات التكميل فيخص موضوع التكميل في الآية أعلاه الشركاء، ولكنه يكشف حال الكفار من جهات :
الأولى : حاجة الكفار للنصير مع عدم وجوده.
الثاني : إنعدام النصرة والمدد للكفار كما تجلى في معركة بدر وأحد والخندق ، فانهزم وإنسحب الكفار من غير أن يصلهم مدد ، ومن كانوا يظنون إعانته لهم مما لهم معه عهد وميثاق فانه يتخلى عنهم عند القتال وفي ساعة الشدة .
وبخصوص معركة بدر ورد عن ابن عباس قال : جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجل من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان [لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ] ( )، وأقبل جبريل عليه السلام على إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين فلما رأى جبريل انتزع يده، وولى مدبراً هو وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة انك جار لنا، فقال { إني أرى ما لا ترون } وذلك حين رأى الملائكة { إني أخاف الله والله شديد العقاب })( ).
الثالثة : من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرحمة من عند الله بالناس جميعاً والتكميل هنا رحمة بالكفار بلغة الإنذار ببعث اليأس في نفوسهم من أوليائهم وشركائهم، فلو اكتفت الآية بالقول[وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا] لبقي الكفار عاجزين عن معرفة أسباب عدم العون ، وزوال المانع خاصة وأن نفوسهم تعلقت بهؤلاء الأولياء الشركاء فجاء التكميل لكشف وبيان هذه الحقيقة ورفع الجهالة والضرر عن الناس وجعلهم يعلمون وهن رؤساء الكفر والضلالة، قال تعالى[وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ]( ).
الثالث: الإستقصاء : هو بيان المتكلم لموضوع مع استقصاء معانيه وحدود رسمه .وأوصافه الذاتية ولوازمه وعوارضه ، بحيث لا يجعل ثغرة وموضوعاً لمقال إضافي ، وآيات القرآن مدرسة للإستقصاء ، وهو من إعجاز القرآن والشواهد على نزوله من عند الله.
وهل من فارق بين الإستقصاء في المنظوم والمنثور وبين الإستقصاء في القرآن , الجواب نعم وليس من حد لهذا الفارق وموضوعه ودلالاته .
قوله تعالى [وَلاَ تَحْزَنُوا]
جاء النهي عن الحزن في القرآن صريحاً , وينصرف إلى الحزن على الخسارة في المعركة بدليل إقترانه بالنهي عن الوهن وتعقبه له ،وتقدير الآية على وجوه:
الأول : ولا تهنوا في القتال ولا تحزنوا أثناء المعركة كما لو سقط بعض الشهداء ، ووقع القتل بين المسلمين ، أو أن ثغرة حدثت في دفاع المسلمين أو مكيدة من العدو .
وفائدة إجتناب الحزن في المقام عدم حصول الإرباك والخذلان في صفوف المسلمين، وهل هو من مصاديق قاعدة تقديم الأهم على المهم وأن الإنشغال والفطنة في الحرب وضروب القتال أولى من الحزن، الجواب لا لمجيء الأمر للمسلمين بالقتال بينما جاء النهي عن الحزن من الأصل، ليكون تقدير الآية (ولا تحزنوا فتفشلوا) وكأنه أمر توليدي من جهة الموضوع والسبب، اذ يترشح عنه القنوط والإحباط أو غلبة النفس الغضبية والتعجل في أمور القتال ، والابتعاد عن المكر وصيغ المبالغة في القتال .
وعن جابر بن عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الحرب خدعة ) ( )
وورد هذا القول عن النبي في معركة الخندق لان المسلمين حفروا الخندق ومنعوا الأحزاب من إقتحام المدينة ، والخدعة إظهار أمر وإخفاء خلافه , والمباغتة في خطط القتال والمفاجئة في فنونه ، ومن منافع المخادعة في القتال أمور :
الأول : إجتناب المواجهة.
الثاني : تحصيل الظفر .
الثالث : قلة الغدر والخسائر .
الرابع : أخذ زمام المعركة .
الخامس: اليقظة والفطنة والإستعداد للهجوم والفعل .
السادس : نصب الكمائن .
وجاء النهي عن الوهن وعن الحزن لبقاء المبادرة بين المسلمين طيلة وقت المعركة ، وما بعدها .
وفي النهي عن الحزن في آية البحث وجوه :
الأول: طرد الحزن والكآبة قبل دخول المعركة ، فقد يستحضر المسلمون خسائرهم في معركة سابقة أو تركهم لأعمالهم وحال الحضر ورغد العيش ، فينعكس الحزن بالتردد وحب القعود قال تعالى [فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً]( ).
الثاني التنافي بين حال القتال وضرر الحزن ، فالحزن كيفية تنقبض فيها النفس ويتسرب إليها دبيب الجزع.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين خوض المعركة برضا وإقبال على الآخرة والشوق للقاء الله فان قلت هذه الحال والإرتقاء العلمي والأخلاقي يجعل الحزن سالبة بانتفاء الموضوع ، الجواب هذا صحيح ، وهو الذي تدل عليه آية البحث بقوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
إنما جاء النهي عن الحزن إبتداء وإستدامة ليجتمع الأمر والنهي في موضوع واحد فيتحصل الإمتثال الأتم والأحسن.
فإن قلت تدل ظواهر الوجدان على عدم إمتلاك الإنسان نفسه عند الشدائد والمصائب، والجواب من وجوه:
الأول : يتوجه النهي في الآية للمسلمين كأمة مجتمعة.
الثاني : ضرر الحزن المنهي عنه في المقام عام ولا يختص بأيامه وموضوعه بل يتعدى لحال السلم وللذراري. لذا فإن الآية جاءت رحمة بالمسلمين وأبنائهم.
ويحصل الحزن على فوات منفعة أو حدوث خسارة في الماضي، أما الخوف فهو كيفية نفسانية بسبب الخشية من ضرر قادم، قال تعالى في الثناء على المؤمنين وجزائهم بالأوفى[فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ومن أسرار آية البحث أنها تمنع من ترتب الخوف على الحزن كالذي يخسر في معركة أو مشروع فيخشى تكرار الخسارة وتحزن نفسه , ويهاب الدخول في معركة أخرى أو في فعل مشابه للخوف من ذات الخسارة، فجاءت الآية كيلا يخوّف المسلمون بعضهم بعضاً بعد معركة أحد، ولا يميلوا إلى القعود ومهادنة العدو، ويؤيد هذا المعنى ترشح الهمّة والعزيمة من ثناء الله عز وجل للمسلمين في الآية ونعتهم ووعدهم بالعلو والرفعة[وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الثالث : بالتنزه عن الحزن حال الخسارة في ميادين القتال بناء لصرح الإسلام، وتعاهد لحال العز والمنعة عند المسلمين.
الرابع : مجيء آيات القرآن باللجوء إلى ذكر الله والإسترجاع والتحلي بالصبر عند الخسارة والمصيبة، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
الخامس : فوز المسلمين بالثواب في حال الجهاد وعند وقوع الخسارة أو عدم وقوعها.
كل مناسبة وحال يكون ذكر الله فيها نعمة ورحمة وباباً للأجر والثواب ، ووسيلة للتقرب إلى الله وتجديداً للإقرار بالعبودية والرق له سبحانه، فعند مجئ النعمة يقول المسلم ( الحمد لله ) وعند حاله الشدة يظهر الصبر وفي حال الوقوع في المعصية يبادر إلى الإستغفار ، وفي حال المصيبة يجتمع الصبر والإسترجاع، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
وكان رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة في المواطن كلها , وعندما مات إبنه ابراهيم بكى ثم قال (إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالَقْلَبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)( )، وري ان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله، تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال: “ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين : صوت عند الفرح، وصوت عند الترح”)( ).
وجاء هذا الشطر من الآية بالعطف على النهي عن الوهن وفيه مسائل:
الأولى : إتحاد الموضوع والملازمة بين الوهن والحزن.
الثانية : بيان حقيقة وهي عدم الإكتفاء بعدم الوهن مع إستمرار الحزن، فقد يقاتل المجاهدون ببسالة , ولكنهم في حال من الكآبة والحزن، وقد يتنزهون عن هذه الحال ويصبرون عند المصيبة، ولكنهم يترددون في حال القتال، ويميلون للعذر والإنذار والتسويف، فجاء الجمع بين عدم الوهن والحزن آية إعجازية في نظم الآية وإصلاح نفوس المسلمين لمراتب السمو والرفعة، وهو من مصاديق قوله تعالى(وأنتم الأعلون).
الثالثة : تتجلى في هذا العطف تقديم الأهم على المهم، بلحاظ أن الوهن أمر خاص بالمستقبل للماضي موضوعية في حصوله، أما الحن فيتعلق بالماضي ولكن أثره بحال وفعل المسلمين في الحاضر والمستقبل هو المقصود بالنهي.
وهل يصح النهي عن الحزن الذي يترشح عن وهن أصاب فريق وطائفة أو أشخاص من المسلمين، الجواب نعم، وهو من أسرار العطف والترتيب في الآية للإبتداء بحياة ونهج خال من الوهن والحزن وتقدير الآية: ولا تهنوا ولا تحزنوا على وهن أصابكم.
وفيه نكتة وهي إنقطاع أثر الوهن والضعف والجبن، وعدم ترتب الأثر عليه من وجوه:
الأول : عدم جواز تعيير وتوبيخ الذي أصابه الوهن.
الثاني : الآية من مصاديق ولاية الله للمسلمين والدفاع عنهم وتدبرهم في ماهية الأشياء، وتبصرهم في عواقب الأمور، قال تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
ويحتمل دفع الحزن قلة وكثرة وجوهاً:
الأول : دفع الشطر الأكبر من الحزن.
الثاني : صرف الجزء الأقل من الحزن.
الثالث : الترتيب والتفصيل فيدفع بعض الحزن في أول المصيبة ثم يقل الحزن بتقادم الأيام والمواظبة على الذكر والإسترجاع.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال : بينما أنا في الحجر جالس إذ أتاني رجل فسأل عن العاديات ضبحاً فقلت : الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم ، فانفتل عني فذهب عني إلى علي بن أبي طالب عليه السلام وهو جالس تحت سقاية زمزم ، فسأله عن العاديات ضبحاً . فقال : سألت عنها أحداً قبل؟ قال نعم . سألت عنها ابن عباس . فقال : هي الخيل حين تغير في سبيل الله . فقال : اذهب فادعه لي . فلا وقفت على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك والله إن أول غزوة في الإِسلام لبدر ، وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود ، فكيف يكون العاديات ضبحاً إنما العاديات ضبحاً من عرفة إلى المزدلفة ، فإذا أدوا إلى المزدلفة أوروا إلى النيران { والمغيرات صبحاً } من المزدلفة إلى منى فذلك جمع وأما قوله : { فأثرن به نقعاً } فهو نقع الأرض حين تطؤه بخفافها وحوافرها . قال ابن عباس فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال عليّ( ).
الرابع : الإمتناع على نحو السالبة الكلية من الحزن وجاءت الآية بارادة الفرد الأخير أعلاه، لوجوه:
الأول : أصالة الإطلاق وعدم وجود قرينة صارفة إلى التقييد.
الثاني : إرادة التمام في الفعل الجهادي، وبلوغ الغاية فيه، وهو من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
الثالث : إنتفاء الحزن عند المسلمين حاجة لهم في بناء صرح دولة الإسلام.
وينقسم الحزن المنهي عنه إلى أقسام:
الأول : الحزن على نحو القضية الشخصية , بأن يحزن الفرد من المسلمين لأمر خاص.
الثاني : الحزن على نحو العموم المجموعي الذي يصيب الأمة كما لو طرأت خسارة ومصيبة عامة.
الثالث : الحزن الذي ينزل بفرقة أو طائفة من المؤمنين .
وجاءت الآية بالنهي عن هذه الوجوه مطلقاً، وهو من أسرار لغة الجمع في الآية، ولأن الحزن الشخصي يضر الأمة وكذا العكس فان الحزن العام تترشح معه الكدورة على الأفراد.
وتنحل الآية إلى وجوه:
الأول : أيها المسلم لا تحزن عند الخسارة وعند فوات الغنيمة .
الثاني : ايتها المسلمة لا تحزني بالخسارة التي تطرأ في جهاد المسلمين في سبيل الله وسقوط شهداء منهم، قال تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
الثالث : لا تحزنوا ايها المسلمون لما يصيبكم , فأبى الله إلا قانون التداول والتبادل في النصر والخسارة , وتفضل على المسلمين فلم يخسروا معركة واحدة أو قل لم ينتصر الكفار في أي معركة بما فيها معركة أحد.
الرابع : أيها المسلم لا تكون سبباّ في حزن غيرك من المسلمين، ولا تجعل الحزن يخيم على منتديات ومجالس المسلمين.
الخامس : الخطاب إلى القاعدين وذوي الأعذار.
السادس : نهي الأمهات والزوجات والأخوات عن صيرورتهن سبباً بإظهار الوهن والحزن في مجتمعات المسلمين وساعة النفير وقعود الزوج عن القتال، ويدل عليه ظاهر قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لم يلقوا إحتجاجاً وإعتراضاً من أسرهم في توجههم للقتال مع أن قريشاً جاءت لتبطش وتثأر بثلاثة أضعاف جندهم وعددهم في معركة أحد التي تتعلق بها الآية أعلاه وهو ثلاثة آلاف مقاتل.
السابع : دعوة أمراء السرايا بعدم الوهن والحزن، فمن وظائف الإمامة والقيادة التماسك واظهار معاني العزم والإقدام في مواجهة العدو، لتكون خصوصية للحال النفسية وموضوعية للخطاب الحماسي والأسوة في الصبر والجهاد، والتأريخ يوثق الوقائع، وما عند الله أعظم.
وقيل أول مراتب الحزنGrief reaction هو الإنكار Denial ثم يتمدد ويتغلغل في النفس ويظهر على الجوارح والأعضاء ، فجاءت الآية الكريمة للمنع من أول مراتب الحزن ، فإذا حلت مصيبة عند المسلم فانه يتذكر هذه الآية ويلجأ إلى الإسترجاع والذكر ويرجو الأجر والثواب.
ففي القرآن الوقاية المتعددة من الحزن والعلاج الشافي له ، ويترشح الثوا ب عن العصمة منه التي هي أمر وجودي وليس عدمياً مما يدل سلامة أبدان المسلمين من الأدران لتكون هذه السلامة عوناً لهم في أداء الفرائض والعبادات وفي مواجهة الأعداء.
وليكون من أعجاز الآية التداخل والأثر المتبادل بين أفراد النهي المتعدد فيها ، ويتجلى هذا التداخل ايضاً بين الأمر المتعدد في آيات القرآن الأخرى كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( )، فأداء كل فرد من الصلاة والزكاة عون لأداء الفرد الآخر.
وقد وردت أقوال عديدة في معنى الإستقامة في الآية منها:
الأول : الإستقامة هي شهادة لا إله إلا الله( ).
الثاني : الإستقامة على فرائض الله.
الثالث : إستقاموا على إخلاص الدين والعلم إلى الموت قاله أبو العالية والسدي( ).
وجاءت هذه الأقوال من باب المعنى الجلي والواضح، وإلا فإن مضامين آية البحث والتقيد بأحكامها من الإستقامة وهي مقدمة وطريق لتلقي البشارة في الدنيا والآخرة.
علم المناسبة
ورد لفظ (لا تهنوا) ثلاث مرات في القرآن، وكلها خطاب للمسلمين، بموضوع القتال ومواجهة الكفار ولكنها متباينة في موضوعها سعة وضيقاً، قال تعالى[فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، وفيه نهي عن إبتداء المسلمين بطلب الصلح ووقف القتال من منازل الوهن مع أنهم الأغلب والنصر حليفهم , لأن الله عز وجل معهم، وفيه إعجاز بأن الآية لا تنهى عن الصلح ووقف القتال، ولا عن قبوله والرضا به، ولكن القدر المتيقن هو الأمر الجامع بين أمرين:
الأول : الوهن والضعف.
الثاني : طلب الموادعة والصلح.
أي أن الآية لم تنه عن الوهن الدعوة إلى السلم وحدها، بل عن التخلف عن منازل المنعة والقوة وطلب الصلح معه مما يطمع العدو بالمسلمين فيكون حينئذ على وجوه:
الأول : إمتناع العدو عن الصلح، طمعاً بالمسلمين إذ أصابهم الوهن.
الثاني : فرض العدو لشروط وقيود في الصلح، وطلبه من المسلمين التنازل.
الثالث : تقاعد طائفة من المسلمين عن القتال.
الرابع : تمادي العدو في غيه , وظنه بصيرورة المسلمين في حال من الذل.
الخامس : مناجاة الكفار فيما بينهم بالتعدي والقتال .
السادس : ميل ونصرة فريق من الناس للعدو بعد رؤية المسلمين في حال الوهن وطلب الموادعة.
ولما جعل الله عز وجل العزة للمسلمين من بين الناس، وهو سبحانه
ناصرهم فإنه تفضل وأمرهم بعدم الوهن والضعيف لأن الأصل هو أن ينزل الناس على حكم الله، ولو كان المسلمون في حال قوة وعدم وهن أو ضعف، فهل يصح إبتداؤهم بالدعوة إلى السلم والصلح، الجواب لا، وهو من مصاديق حمل الواو في (وتدعوا) على العطف والإستئناف في آن واحد، ويكون تقدير الآية[فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ]( ).
ولا ينحصر طلب السلم والموادعة بحال القتال، بل يشمل مقدماته والزمان السابق له، وما بعد وقوع وفض القتال، ويدل قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ]( )، بمعناه الأعم في جهاد الكفار وإن كان سبب النزول مقيداً بخصوص إنتهاء معركة أحد، وإنصراف المشركين متوجهين إلى مكة، فأمر الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يتبعهم فإشتكى بعض أصحابه من الجراحات التي أصابتهم فنزلت الآية , وفي هذا الإتباع مسائل:
الأولى : إنه من الدلائل العملية على عدم إصابة المسلمين بالوهن والضعف حتى في حال الخسارة والجراحات.
الثانية : تقيد المسلمين بمضامين آية البحث من عدم الحزن والأسى عند المصيبة والخسارة، والحرمان من الغنائم.
الثالثة : رجاء المسلمين الثواب والأجر بسعيهم وجهادهم.
الرابعة : بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين كيلا يهموا مرة أخرى بغزو المدينة والتعدي على بلاد المسلمين.
وجاءت آية البحث لتؤكد وجوب تحلي المسلمين بحال عدم الوهن
مطلقاً في حال الحرب والسلم.
مسائل في الإسترجاع
الإسترجاع هو قول ” إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ” عند المصيبة، وهو صيغة كريمة لمواجهتها بإعلان التسليم لأمر الله تعالى والإقرار له بالعبودية، وعلى اســـتحبابه الكتــاب والســنة والإجمــاع، فمــن الكتـــاب قوله تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُواإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ومن السنة نصوص مستفيضة منها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته واحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه”.
(مسـألة942) لا ينحصر الإتيان بالإسترجاع بالبلاء والفتن وما هو خلاف المتعارف وقانون العلة والمعلول وعدم تخلف المعلول عن علته، بل يشمل كل ما فيه أذى وابتلاء وان كان محدوداً للندب لإتخاذه مناسبة لذكر الله تعالى، وروي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم طفئ سراجه فاسترجع.
(مسـألة943) الإسترجاع باب للثواب وعظيم الأجر ومناسبة كريمة لسؤال الخلف والعوض واعلان بتفويض الأمر لله تعالى، ولعل فيه وقاية وحرزاً من تجدد المصيبة واستحداث البلاء لما في الإسترجاع من الإستغاثة بالله تعالى واقرار بالنقص الذاتي عند الإنسان وحاجته المستديمة الى رحمته تعالى.
(مسـألة944) يؤتى بالإسترجاع بإبرازه خارجاً بالتلفظ والصوت المسموع، وفيه ايضاً تعظيم لشعائر الله وحث للآخرين على تذكر الآخرة.
(مسـألة945) يجزي في الإسترجاع مرة واحدة عند المصيبة والتعدد مستحب.
(مسـألة946) الإسترجاع سبيل لطرد وسوسة الشيطان ومنع لليأس والقنوط والجزع والهلع، وهو سبيل مبارك لتلقي المصيبة واختيار الفعل المناسب وفق القواعد الشرعية.
يستحب الإسترجاع ساعة المصيبة وعند تذكرها بأن يقول: “انا لله وانا اليه راجعون”، والإكثار منه خصوصاً عند موت الولد.
إن ترك الحزن مناسبة للإنقطاع للعبادة وتعاهد سنن الصلاح وعدم صدور الجارحة إلا في مرضاة الله.
إن التنزه عن الحزن جهاد مع النفس، وقهر للكآبة ومنع من إستحواذها على النفس والجوارح.
وعن فضالة بن عبيد، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله)( ).
وتخاطب آية البحث المسلم بصيغ من جهات :
الأولى: لا تحزن عند المصيبة.
الثانية : إجعل عدم حزنك طاعة لله عز وجل.
الثالث : لا تحزن , وستجد المنافع العظيمة.
الرابع : وظائفك العقائدية والعبادية تستلزم التنزه عن الحزن .
الخامسة : إقتداء المسلمين بك في حال عدم الحزن وفوزك بالثواب الإضافي من الإتباع بينكم بالخيرات.
والخطاب في الآية على وجوه :
الأول : نهي المسلم عن الحزن للمصيبة التي تنزل به كإصابته بجرح وداء أو فقد عزيز .
الثاني : زجر المسلمين عن الحزن على المصيبة التي تصيبهم جميعاً.
الثالث : حصانة المسلم من الحسرة والحزن عند نزول البلاء والمصيبة العامة.
الرابع : دعوة المسلمين للإمتناع عن الحزن والأسى عند المصيبة الخاصة .
بحث بلاغي:الإستقصاء
وفي قوله تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )، إذ إبتدأت الآية بذكر الله عز وجل، وفيه تذكير بأن السموات والأرض ملك لله سبحانه وأن مقاليد الأمور بيده تعالى.
وبعد أن جاءت الآية بالوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين، بينت الآية أن من يختار الإيمان يفوز بنصرة الله عز وجل له في الدنيا والآخرة، ويجذبه من مواطن الضرر والهلكة إلى سبل النجاة، ويجعله في غبطة وسعادة دائمة، ثم ذكرت الآية الذين كفروا بالذم وأن أولياءهم وأنصارهم الطاغوت من أرباب الضلالة والجحود فيجذبون من يتبعهم إلى منازل الكفر والجحود ويجعلونهم يعرضون عن أسباب الهدى، ويميلون نحو الضلالة والإصرار على العناد من غير أن يلتفتوا إلى القبح الذاتي للعناد.
وقد اثنى الله عز وجل على المؤمنين فقال[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( )، وعدم الإصرار هذا من ولاية عز وجل لهم.
وبينما إبتدأت الآية بلفظ الجلالة في موضوع ولاية الله للمؤمنين، فان الشطر المتعلق بولاية الطاغوت للكفار لم تبدأ بذكر الطاغوت، كاسم جنس لأولياء الكفار، وفيه آية بأن الله عز وجل نزه إسمه وربوبيته وولايته على التشابه في إبتداء الشطر الخاص بالكفار بذكر الطاغوت , وجاء ذكر النور والظلمات في الحالتين مع التباين والتضاد في الأثر والتأثير للبيان والإستقصاء ومنع اللبس وطرد الجهالة.
وجاءت خاتمة الآية أعلاه لبعث النفرة في نفوس الناس مطلقاً من الكفر بأن عاقبته هي النار، ليكون من معاني الإستقصاء القرآني أمور:
الأول : الدراسة المقارنة بين الإيمان والكفر.
الثاني : بيان حقيقة وهي أن المائز والفارق بين المؤمن والكافر يشمل العاقبة المتباينة.
الثالث : ذكر الفوز العظيم بولاية الله باختيار الإنسان للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : بعث السكينة في نفوس المسلمين وطرد الفزع من الفقر والجوع والفاقة.
الخامس : بيان سوء عاقبة الكفار وخلودهم في النار.
ومن إعجاز القرآن أن الإستقصاء يأتي بذات الآية , ويأتي بيان إستقصاء آخر في الآيات القرآنية الأخرى في ذات الموضوع.
فهذه الآية من سورة البقرة ذكرت لبث الكفار الدائم في النار، ولكنها لم تذكر حسن عاقبة المؤمنين وعظيم الثواب الذي ينتظرهم لأنها ذكرت ولاية الله عز وجل لهم.
علم المناسبة
وكما ورد لفظ (لا تهنوا) ثلاث مرات في القرآن فإن لفظ (لا تحزنوا) ورد ثلاث مرات أيضاً، وإحداها تتضمن البشارة بعظيم ثواب المسلمين في الآخرة بالأمن والسلامة من الحزن والوهن، قال تعالى[ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ]( ).
وورد عن أنس قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية ثم قال: قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فهو من إستقام عليها)( )، وعن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى(تنزل عليهم الملائكة) يعني عند الموت)( )، وبه قال مجاهد والسدي.
وبلحاظ آية البحث تحتمل الإستقامة المذكورة في الآية أعلاه وجوهاً:
الأول : العصمة من الوهن والضعف من ضروب الإستقامة.
الثاني : السلامة من الحزن من مصاديق الإستقامة.
الثالث : موضوع الإستقامة أجنبي عن النهي الوارد في آية البحث من عدم الوهن والحزن.
الرابع : الإستقامة في المقام الجامع من عدم الوهن وعدم الحزن فلا يصدق على أحدهما أنه إستقامة إن حصل التخلف عن الآخر، وفيه تفصيل من جهتين:
الأولى : ترك أحدهما عمداً معصية لمضامين آية البحث.
الثانية : ترك أحدهما سهواً أو قهراً.
والصحيح هو الرابع ويدخل الأول والثاني في طوله، فمن الإستقامة التقيد بأحكام آية البحث وما فيها من النهي، ولا يضر به، ما ورد في الشعبة الثانية أعلاه، لحديث الرفع، وكل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر.
بحث أصولي
يتألف النهي بالإستقراء الفعلي من جزئين:
الأول : أمر وجودي وهو الزجر عن فعل مخصوص.
الثاني : أمر عدمي، وهو عدم الترخيص في فعله وإتيانه، لذا يأتي الطلب بخصوص الجزء الأول، ويضاف بخصوص النهي القرآني جزء ثاني وهو: قبح الأمر والفعل المنهي عنه شرعاً وعقلاً[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه ورود الأمر في ثلاث موضوعات، وجاء النهي فيها بثلاثة أيضاً والثلاثة الأخيرة سور جامع للأمور المكروهة والبغيضة، وأخرج البيهقي عن الإمام الحسن عليه السلام أنه قرأ الآية أعلاه(ثم قال: إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله، والشر كله في آية واحدة، فو الله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئا إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلا جمعه)( ).
ويتألف المكروه من جزئين، كل فرد منهما أمر وجودي يستلزم البيان:
الأول : النهي عن الفعل.
الثاني : الإذن والترخيص في إتيانه.
فيأتي النهي بصيغة الخبر بالنهي عن الكفر والجحود بآيات الله ومعجزات النبوة، كما في قوله تعالى[بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ] ( ).
وقد يأتي الأمر والنهي بصيغة الجملة الإنشائية وهي التي لا تحتمل الصدق والكذب، وهي على شعبتين:
الأولى : الإنشاء غير الطلبي، وهو الذي لا يترتب عليه إتيان السامع فعلاً أوان الطلب أو الإمتناع عنه، بلحاظ أن الإنشاء يتضمن الأمر، وقد يتضمن النهي:
الأول : لغة المدح مثل نعم، ولغة الذم مثل بئس.
الثاني : أحرف وجمل القسم مثل:الواو والباء.
الثالث : التعجب , وهو كيفية نفسانية طارئة وإنفعال بأمر مفاجئ أو أن سببه خفي , وقد يأتي التعجب بصيغة الإستفهام التي يكون معناها أعم، كما في(كيف) فهو للإستفهام عن الأحوال، ولكنه يأتي للتعجب كما في قوله تعالى[كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ]( ) .
وبلحاظ العلم البلاغي الجديد الذي ذكرناه في هذا الجزء( )، فإن صيغة التعجب في القرآن أعم في موضوعها فهي في الآية أعلاه مدرسة لبعث النفرة في النفوس من الكفر والكافرين، وزجر عن المغالطة تعصباً للكفر، وفيها تفقه للمسلمين في صيغ الجدال في سبيل الله وإتخاذ التعجب من الكفر وسيلة للدعوة إلى الله تعالى.
الرابع : صيغة الرجاء لما هو ممكن وجائز مثل، عسى، حرى، وتدخل في طولها أفعال المقاربة أي قرب وقوع الحدث ووصول والخبر مثل: كاد،كرب، أوشك.
الخامس : التمني، وهو طلب ماهو مستبعد أو متعذر والأداة الأصلية له، ليت، وغير الأصلية،لعل، لو، هل.
الثانية : الإنشاء الطلبي، وهو الذي يستلزم أمراً مطلوباً يبتغي تحصيله وهو على أقسام:
الأول : الأمر وصيغته إفعل، وإفعلي، وافعلا، وافعلوا.
الثاني : النهي وصيغته لا تفعل، لا تفعلي، لا تفعلا، لا تفعلوا.
وجاءت آية البحث بالنهي الصريح في قوله تعالى(ولا تهنوا) (ولا تحزنوا) ويحمل على النهي وعدم الترخيص بالفعل فالوهن والحزن أمران محرمان وليسا مكروهين، لأصالة حمل النهي على الحرمة إلا مع القرينة الصارفة إلى الكراهة , ويمكن القول بالتفصيل وهو الحرمة في الوهن, والكراهة في الحزن.
وجاءت القرينة في الآية لتؤكد النهي من جهتين:
الأولى : إخبار الآية بأن المسلمين هم الأعلون وتنتفي معه حال الوهن والحزن والضعف.
الثانية : لغة الشرط في كون المسلمين هم المؤمنون التي تبعث على التقيد بالنهي المولوي الوارد في الآية.
وفيه بشارة الثواب والأجر على التقيد بعدم الوهن والخوف والحزن، خصوصاً وأن هذا التقيد طاعة لله عز وجل وبناء في صرح الإسلام وتثبيت لمبادئ التوحيد، وقهر لقوى البغي والضلالة.

قانون التقية
أصل التقية التوقي والحذر خوفاً ودفعاً للضرر المحتمل .
التقية هي نطق المؤمن بقول أو إتيانه فعل خلاف مقتضى الإيمان والحق وما يبطنه في قراءة نفسه، خشية الضرر الحال أو اللاحق على الذات أو الغير من الكافر أو من سلطان جائر أو من ذي جاه وبما يكون أشبه بالإكراه.
ومن إعجاز القرآن مجئ جملة من الآيات بخصوص التقية منها ما ذكرت فيه بالنص والاسم كما في قوله تعالى[لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ) , أو بالإخبار البياني لصبر الأنبياء والمؤمنين , كما في الآية التالية من سورة النحل .
وقال عبد الله بن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان ، إلا كنت متكلماً به ( ).
وصحيح أن الآية أعلاه جاءت بخصوص عدم جواز ولاية القوم الكافرين إلا أن المورد لا يخصص الوارد، ومعنى المورد في المقام سبب النزول , وموضوعه كالواقعة أو كالآيات بخصوص غنائم معركة بدر وعدم تخصيص الوارد بإنطباق ذات الحكم على الغنائم في معارك أخرى، نعم لو كان هناك دليل أو قرينة على تخصيص المورد للوارد يعمل بها كما في مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل زيادة نسائه على الأربع.
وقال الحسن البصري في الرجل يقال له: اسجد لصنم وإلا قتلناك ، قال ، إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد يجعل نيته لله ، فإن كان إلى غير القبلة فلا وإن قتلوه( ).
ولكن الفارق بين جهة القبلة وغيرها رتبي، وقال تعالى[فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( ).
والإجماع على صحة التقية في القول واللسان إلا أنه أختلف في الفعل والعمل، وظاهر ما نسب إلى ابن عباس هو المنع( قال: فالتقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإِيمان، فإن ذلك لا يضره إنما التقية باللسان)( ).
وهل في الصلاة تقية من الكفار وإرادة الإطلاق كما في قوله تعالى[أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]( )، الجواب فيه وجوه:
الأول : ليس في أداء الصلاة تقية، لإطلاق قوله تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثاني : التقية في القراءة أثناء الصلاة بالإخفات حتى في الصلاة الجهرية وهي صلاة الصبح، وصلاة المغرب وصلاة العشاء.
الثالث : اللجوء إلى التقية في إتيان الصلاة بالإيماء وأدنى الحركات التي تكون عنواناً للركوع والسجود كصلاة المريض , أي يمكن أن تكون التقية فيها على نحو الموجبة الجزئية بما لا يتنافى مع قاعدة الميسور , خاصة وأن موضوع التقية جاء على نحو الإستثناء وليس الحكم المستقل.
الرابع : قد تؤدى الصلاة في التقية كصلاة الخوف بحسب الحال لأن صلاة الخوف لها كيفيات متعددة منها ما يؤدى في شدة الخوف، كما لو كان المسلمون في حال يتعذر عليهم الإنقسام إلى شعبتين فيصلون فرادى وبالإيماء ويكون السجود أدنى وأخفض من الركوع قليلاً، ويجزئ في الركعة الواحدة قراءة الفاتحة أو تسبيحة واحدة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) وتصح عن وقوف وفي حال المشي والركوب وتسمى صلاة المسايفة.
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال في صلاة الخوف عند المطاردة والمناوشة: يصلي كل إنسان منهم بالايماء حيث كان وجهه وإن كانت المسائفة والمعانقة وتلاحم القتال فإن أمير المؤمنين عليه السلام صلى ليلة صفين وهي ليلة الهرير لم تكن صلواتهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء عند كل وقت صلاة إلا التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد والدعاء فكانت تلك صلواتهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة)( ).
الخامس : جواز التقية في تأخير الصلاة عن وقت الفريضة، مع الحرص على إتيانها في وقت الأداء، كما في صلاة الظهر فلا يصليها المكلف، عند خشية الضرر من الكفار وأسباب أذاهم إلا عندما يزول هذا المانع وقبل غروب الشمس.
السادس : العمل بالتقية في الصلاة بأدائها خارج وقتها، وفيما يزول المانع وسبب الخوف ويعود إلى محل سكناه وبيته ليلاً يصلي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
السابع : جواز تأخير صلاة يوم كامل أو أيام متعددة تقية وقضاؤها فيما بعد.
الثامن : سقوط الصلاة ليوم أو أكثر تقية.
وباستثناء الوجه السابع والثامن فان الوجوه الأخرى من مصاديق التقية في المقام، وبالنسبة للوجه الأول فإن أدلة التقية مطلقة وتكون التقية بالتخفيف في كيفية الصلاة وتأخير وقتها وليس تركاً لها، ومع التباين والإكتفاء بالميسور في أداء الصلاة في حال التقية والضرورة فإن قصد القربة يبقى على حال الوجوب ودوام حضوره في الوجود الذهني .
ولا تتعارض التقية مع الثوابت العقائدية وسنن الشريعة، ولزوم إستدامة الإخلاص في طاعة الله، وإستدامة حب الله عز وجل والسعي في مرضاته (عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: أي عرى الايمان أوثق ؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم وقال بعضهم: الصلاة، وقال بعضهم: الزكاة، وقال بعضهم: الصيام، وقال بعضهم: الحج والعمرة، وقال بعضهم: الجهاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لكل ما قلتم فضل وليس به ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، وتوالي أولياء الله، والتبري من أعداء الله)( ).
ومن الإعجاز في القرآن أنه يبعث على تنقية قلوب المسلمين من حب الكفار لتبقى رياض نضرة بذكر الله، وفيه شاهد على عدم إجتماع المتناقضين في محل واحد.
ومن إعجاز القرآن واللطف الإلهي بالمسلمين تحقق المصاديق والشواهد لآيات القرآن في أيام النبوة الشريفة لتكون السنة بياناً لها وتفسيراً بطرد الخلاف والخصومة بين المسلمين بخصوص مضامينها موضوعاً وحكماً , ففي قصة عمار وأبويه ياسر وسمية وما لاقوه من التعذيب من رؤساء قريش , قال تعالى[مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ]( ).
وتدل الآية أعلاه على الإطلاق في ذم مصاديق الكفر الظاهر المخالف للإيمان الثابت في النفس والجوارح , والمختار جواز التقية بالفعل وإن كان بصفة الكفر الظاهر مع الإضطرار وعدم الإضرار بالمؤمنين لحكومة قاعدة لا ضرر , ولأن التقية شرعت لنجاة الذات وأهل الإيمان، وقد يكون الكلام تقية أشد وأظهر من الفعل تقية , فليس من قانون ثابت يفيد أن الكلام تقية أخف وطأة من الفعل تقية.
ورد عن الإمام علي عليه السلام في حديث قال: وآمرك أن تستعمل التقية في دينك فان الله يقول: ” لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقية”)( ).
وقد كان بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين في سني الهجرة الأولى معاهدات وموادعات وليس فيها مودة أو نصرة.
هل يدخل الوهن والحزن في التقية من وجوه:
الأول : جواز الوهن والحزن عند المسلمين تقية من الكفار.
الثاني : إظهار الوهن والحزن تقية ومداراة للكفار ودفعاً لأذاهم.
الثالث : عدم بيان حال المسلمين من عدم الوهن والحزن، الجواب لا تجوز هذه الوجوه من جهات:
الأولى : إطلاق النهي في الآية عن الوهن والضعف.
الثانية : في إعلان الوهن والضعف والجبن أذى عام بالمسلمين، ويتعارض مع قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
الثالثة : حرمة الوهن والضعف لأنه قد يبعث الخوف والجبن في نفوس المسلمين ويغزي بهم الكفار.
الرابعة : إظهار الوهن والحزن من غير ضرورة عون للكفار في تعديهم وبرزخ دون أستدامة الفزع والخوف في نفوسهم، أما الثاني فقد يجوز ولكنه خلاف الأصل.
الخامسة : فضل الله في جعل المسلمين هم الأعلون ومن معانيه توالي النصر والظفر للمسلمين.
قوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]
جاءت الآية بصيغة الجملة الحالية، ومن أسراره أنها قانون قائم بذاته لتقتبس المواعظ وتستنبط المسائل منه ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : المسلمون هم الأعلون حال الخروج من معركة أحد، فقد يظنون أن الكفار رجعوا بالنصر أو بقلة الخسائر خاصة مع المقارنة والقياس مع معركة بدر حيث خسر فيها مشركوا قريش وحلفاؤهم سبعين قتيلاً وأسُر منهم سبعون وإنهزموا من ساحة المعركة، إلى جانب الغنائم التي استولى عليها المهاجرون والأنصار في ساحة المعركة وبعد معركة بدر لم يمكث النبي محمد صلى الله وآله وسلم في المدينة سوى سبع ليال ليغزو بني سليم لأنهم كانوا يعدون العدة لغزو المدينة فهربوا من ديارهم حالما سمعوا بقدوم المسلمين وخلفوا وراءهم خمسمائة بعير مع الرعاة ، فاراد الله عز وجل ذات الحال والعزيمة على الجهاد بعد معركة أحد، فقال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا].
الثاني : صار المسلمون هم الأعلون بعد معركة بدر بعدما إنهزم الكفار، ودخلت الغنائم المدينة وجاء المال الوفير من فداء أسرى قريش .
الثالث : المسلمون هم الأعلون بالإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لتكون معركة بدر والعز الذي جاء للمسلمين بعدها وزوال أسباب العوز والفاقة عنهم من مصاديق العلو التي يرفلون بها ويتربعون على عرشها بفيض ولطف من الله .
الثالث : الملازمة بين إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعلو فالمسلمون هم الأعلون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونبوته والتصديق به ، ولفظ العلو ينطبق على ذات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أوان البعثة وناله أول الذين دخلوا في الإسلام وبقي صبغة ثابتة ودائمة عند أجيال المسلمين وليس من فترة بين دخول الإنسان الإسلام وبين مرتبة العلو.
والصحيح هو الثالث ويكون الأول والثاني في طوله.
وكانت دعوة النبي بالسر ثلاث سنين حتى نزل قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ) وأخرج عن الزبير قال: لما نزلت{وأنذر عشيرتك الأقربين} صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قبيس: يا آل عبد مناف ، إني نذير فجاءته قريش ، فحذرهم وأنذرهم. فقالوا: تزعم أنك نبي يوحى إليك، وأن سليمان عليه السلام سخرت له الريح والجبال، وإن موسى عليه السلام سخر له البحر ، وإن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ، فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ، ويفجر لنا الأرض أنهاراً فنتخذها محارث ، فنزرع ونأكل وإلا ، فادع الله أن يحيي لنا الموتى فنكلمهم ويكلمونا وإلا ، فادع الله أن يجعل هذه الصخرة التي تحتك ذهباً فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف ، فإنك تزعم أنك كهيئتهم . فبينا نحن حوله ، إذ نزل عليه الوحي،
فلما سرى عنه الوحي قال : والذي نفسي بيده لقد أعطاني الله ما سألتم ، ولو شئت لكان ، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم ، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة ولا يؤمن مؤمنكم ، فاخترت باب الرحمة ويؤمن مؤمنكم ، وأخبرني إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم يعذبكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين)( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحقق ما سألوه من جهات :
الأولى : وصول الماء إلى بيوت مكة مع أن عددها وقاطنيها أكثر من ألف ضعف لما كانت عليه .
الثانية: أيام البعثة النبوية ، وهو أمر ظاهر بالوجدان لذا قال بعض الفقهاء بأن الإحرام للحج من داخل مكة القديمة ، والمختار جوازه في التوسعة الحالية أيضاً ، وكذا التوسعة في المستقبل إذا صدق على الموضع أنه من بيوت مكة.
و قالت قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( فنتخذها محارث) وفعلاً إنتشرت الزراعات حول مكة وارتفعت قامات الأشجار وكأنها تخبر عن إزدهار عالم الفرائض وأنتشرت حول مكة المزارع ، وأخذوا يزرعون ويأكلون، وهو من مصاديق ما ورد في التنزيل[وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ]( ).
الأولى : سألت قريش تسيير النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجبال لهم ومع أنها لم تسر مع داود إنما كانت تصلي وتسبح معه قال تعالى [وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ] ( ).ومعنى قوله تعالى [يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ] أي كرري ورجعي التسبيح مع داود ، فاذا مرّ داود على الجبال وسبح، يجعل الله الجبال تسبح معه بذات التسبيح فيسمعه داود وهو معجزة له لبيان عظيم قدرة الله وإستجابة الخلائق لمشيئته وإن كانت خلاف قاعدة السبب والمسبب فالأصل في الجبال أنها تسبح كباقي المخلوقات وأراد الله عز وجل منها تسبيحاً خاصاً مقترناً بتسبيح داود وجواباً وتأكيداً له أما قريش فطلبت تسيير الجبال التي تحيط بمكة وجعلها تتحرك، فقد كانوا يذهبون إلى الشام واليمن ويرون الأرض المنبسطة السهلة والزروعات والأشجار وجريان الماء فرغبوا أن تكون مكة مثلها ، إنما جعل الله عز وجل بيته الحرام في أشد تضاريس الأرض ليكون فيه إبتلاء وإمتحان للناس باداء الحج ، وليكون موضعاً وظرفاً لإقامة نواة الدولة الإسلامية بعيداً عن الدول العظمى آنذاك مثل دولة الروم وفارس.
وفي هذا الزمان تجلت معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتسيير جبال مكة وإزاحتها لبناء العمارات الشاهقة عليها لإستضافة وفد الحجاج والمعتمرين خاصة ، وشق هذا الجبال والأرض الصخرية وإنِشاء أنفاق تحت الأرض بتقنية عالية ومقاومة الحمل الميت وذات التركيب وفق الإصطلاح الهندسي , والحمل الحي وهو وزن العربات والناس داخل وفوق النفق .
ونظام تهوية يكفل تبديل الهواء وما يأتي من إرتقاء هندسي في باب الإنشاء والإعجاز في السنوات اللاحقة، لا يعلمه إلا الله ، وينتفع منه المؤمنون عامة ووفد الحاج أيضاً.
الثالث : سألت قريش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل الصخرة التي تحته ذهباً وفي رواية عن مجاهد أنهم سألوه أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال نعم، وهو كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم، فأبوا ورجعوا، فانزل الله [أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ]( ) أن يريهم الله جهرة)( ).
وتجلت المعجزة بوفود الملايين من المسلمين على مكة لأداء فريضة الحج والعمرة كل سنة بما يجعلها أعظم وأكبر سوق في العالم وينفق فيها وفد الحاج ما لا ينفق في أي مدينة أخرى ليدر الذهب والفضة إلى أهل مكة كل سنة ولو جعل جبل الصفا ذهباً لأنفقوه في زمانهم وباسعار بخسة ولطلبوا آية أخرى أكبر ، وجاء من بعدهم من ينكر تلك الآية .
بالإضافة إلى موضوعية جبل الصفا في أداء مناسك الحج قال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّالْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]( ).
فلم يأت الوصف بالشعيرة على الطواف والسعي بينهما ، بل نعتت الآية أعلاه جبل الصفا بأنه من شعائر الله ، وكذا وصفت جبل المروة ولم لم يرد في القرآن وصف لبقعة في الأرض غيرها بأنها من شعائر الله، ليترشح عن السعي بين الصفا والمروة وأداء مناسك الحج والعمرة الذهب والفضة والمال الوفير في موسم الحج وعلى مدار أيام السنة وإلى يوم القيامة.
الرابعة : سأل أهل مكة النبي الأسباب التي تغنيهم عن رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام للتجارة والجلب ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )
وقد أغناهم الله عز وجل عن هذه الرحلة وصارت التجارات والصناعات تأتي إليهم من غير أن يغادروا مكة أشهراً متعددة من السنة .وان كانت هذه النعمة ظاهرة على أهل الأرض إلا انها بينة على أهل مكة لأنهم من أكثر الناس طلباً للبضائع إستعداداً لموسم الحج ، وقد كانت الأسواق تنتشر في مكة أيام موسم الحج .
فتقام سوق عكاظ مع هلال شهر ذي القعدة بين مكة والطائف وتستمر عشرين يوماً ، ثم ياتون سوق مجنة فتقوم عشرة أيام ، واذا أطلّ هلال ذي الحجة مضت القبائل إلى سوق ذي المجاز على يمين الموقف بعرفة)( ).
ومن أسرار إقامة هذه الأسواق أنها تقام في أشهر حرم يمتنع صاحب الثأر عن طلب ثاره ، وتباع في هذه الأسواق الحبوب والتمور والأقطان واللحوم والتوابل والزيوت والجلود والمنسوجات والثياب والأحجار الكريمة والسيوف والرماح والدروع والحيوانات والطيب والمسك والأصباغ كالحناء والزعفران وتلقى في هذه الأسواق القصائد الشعرية ويتبارى فيها الأدباء ويحتمل العلو من جهة العوالم الطولية وجوهاً:
الأول : العلو بين الناس في الحياة الدنيا.
الثاني : العلو والأمن في الدنيا وعالم البرزخ.
الثالث : إرادة العلو والإقامة في الجنان في الآخرة.
وكل هذه الوجوه صحيحة لأصالة الإطلاق ولأن الآخرة دار الثواب فان القدر المتيقن من الآية هو الحياة الدنيا والغلبة على الكفار، وقهر المسلمين لأعدائهم ،قال تعالى [وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ]( ).
ونال المسلمون رتبة العلو بالتقوى والصلاح قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يزور الأعلون من أهل الجنة الأسفلين، ولايزور الأسفلون الأعلون، إلا من كان يزور في الله في الدنيا، فذلك يزور الجنة حيث يشاء)( ).
لقد نذر المسلمون أنفسهم في طاعة الله ورسوله ومن مصاديقها العصمة من الوهن والحزن وإتخاذ هذه العصمة بلغة للثواب والبقاء في منزلة العلو بلحاظ أنها رحمة ونعمة في الدنيا يضاعفها الله عز وجل في الآخرة بصيغة الثواب بما يجعلهم فوق الكافرين قال تعالى [زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
وتحتمل هذه الفوقية وجوهاً :
الأول : إرادة الظرفية المكانية حقيقة .
الثاني : الفوقية بلحاظ التضاد بين النعيم الذي يخلد فيه المؤمنون ، والجحيم الذي يلقاه الكفار .
الثالث: إرادة التباين بين تنعم الكفار في الدنيا ، والنعيم الذي يستقر به المؤمنون في الآخرة .
الرابع : كرامة المؤمنين وهو أن الكفار خالدون في العذاب الأخروي.
وباستثناء الوجه الثالث فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة إذ لا دليل على أن الكفار هم الأعلون في الدنيا ، وتؤكد آية البحث على أن المسلمين هم الأعلون في الدنيا أيضاً.
قوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]
تدل الآية على بلوغ المسلمون هذه المرتبة السامية ، وإنفرادهم بها خصوصاّ وأنها لا تكون وعاءً ومنزلاً لأكثر من أمة واحدة ذات خصائص كريمة معينة، وهذه الدلالة من وجوه:
الأول : مجئ الآية بصيغة الجملة الإسمية وإفادتها معنى الثبوت .
الثاني : إبتداء هذا الشطر من الآية بواو الحال .
الثالث : ورود الألف واللام في [الأَعْلَوْنَ] وإفادتها العهد والإختصاص .
وتحتمل جهة الخطاب وجوهاً:
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجئ الخطاب بصيغة الجمع للإكرام ولورود الوصف بالأمة للنبي ، كما في ابراهيم عليه السلام , قال تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ).
الثاني : إرادة الصحابة الذين خرجوا للقتال في معركة بدر وأحد وخاضوا غمار القتال فيها .
الثالث : المقصود خصوص المقاتلين من المسلمين بأجيالهم المتعاقبة .
الرابع : المراد المسلمون من الذكور إلى يوم القيامة.
الخامس : المراد المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة .
والصحيح هو الأخير، فقوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] شجرة سماوية يتفيأ ويستنير بضلالها كل مسلم ومسلمة ، كما أن الجملة حالية في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانها حالية أيضاّ في كل يوم تطلع عليه الشمس على أهل الأرض.
ولا تختص مضامين الآية بحال الحرب والقتال بل هي شاملة لحال السلم والحضر أيضاً .
وهل لقوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] موضوعية في تنزه المسلمين عن الوهن و الحزن .
الجواب نعم، بلحاظ أنه مدد وعون لهم في حال الرخاء والشدة، والسلم و الحرب ليكون من دلالته إستدامة ذات المرتبة وتقديرها(وانتم الأعلون لتبقوا انتم الأعلون ).
وتدل الآية على قانون وهو أن المسلمين ورثة الأنبياء في ذات نهج التقوى والصلاح، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
وهل هذه المرتبة تفيد الحصر من جهة الأفراد والجماعات .
الجواب لا، لأن كل إنسان مدعو للفوز بها وبلوغها بالنطق بالشهادتين ليترشح عنه التكليف بعدم الوهن والحزن، فقد يكون الإنسان في مجتمع مشركي قريش ويشعر بالفزع والحيرة ويظهر الإرتباك على أفعاله ويقف عند المصيبة بالحسرة والحزن ليشعر معها بالحاجة إلى دخول الإسلام، حيث يتغير الموضوع فيتبدل الحكم، ويكون ملزماً بعدم الوهن والخوف وهو قبل هذا الإلزام يدرك الحاجة والتوفيق إليه في آن واحد .
علم المناسبة: (الأعلى)
ورد لفظ الأعلى في القرآن على صيغتين:
الأولى : لغة المفرد، وجاءت تسع مرات منها في الثناء على الله عز وجل وتمجيده[سَبِّحْ اسم رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى]( )، ومنها بخصوص الملأ الأعلى، وورد في ذم فرعون وتوثيق تجبره وحكاية عن طغيانه[فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( )، وقد أخزاه الله عز وجل في نفس الوقت إذ كان مرتبكاً لما هاله من معجزة عصا موسى عليه السلام فلجأ إلى مشورتهم وبصيغة السؤال [فَمَاذَا تَأْمُرُونَ]( )، فكان هذا الكلام حجة عليه بأنه ليس بإله إنما هو محتاج للأمر والمشورة، وكل محتاج ممكن، فنزل به عذاب الله بالغرق في الدنيا، وبالخلود في الجحيم في الآخرة، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي جبرئيل : ما أبغضت أحداً من عباد الله إلاّ أني أبغضت عبدين أحدهما من الجنّ, والآخر من الأنس، فأما من الجنّ فإبليس حين أبى بالسجود لآدم وأما من الإنس ففرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى( ).
وجاء لفظ الأعلى بخصوص موسى عليه السلام بقوله تعالى[فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى]( ).
فلم يظهر على موسى عليه السلام وملامحه علامات الخوف من فعل السحرة وإلقائهم العصي ولكن دبيب الخوف سرى في نفسه فجاءه المدد من عند الله بالنهي عن الخوف من الأصل.
ليحول الله عز وجل بين الخيفة التي سرت في أعضاء موسى وبين ظهورها في الخارج ويمنع من وضوح أماراتها على لون بشرته وحركة أعضائه وعلى لسانه، وهو من أسباب مبادرة السحرة إلى الإيمان بتجلي المعجزة على ذات شخص موسى ليكون النبي نفسه موضوعاً للمعجزة, بلحاظ كبرى كلية أدركها السحرة بالوجدان وهي ما من إنسان يباريهم إلا ظهر الخوف على جوارحه، مما يدل على أن عصمة موسى من الخوف هو بمدد وفضل من عند الله فلذا أسرعوا إلى السجود والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل [فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى]( ).
ولعله من أسرار تقديم هارون على موسى في قولهم وإقرارهم في الآية أعلاه لما فيه من الدلالة بأنهم لم يؤمنوا بسبب العصا التي صارت ثعباناً وحدها بل آمنوا لما تجلى من عظمة خلق الله وقدرته في السكينة التي ظهرت على هارون وموسى عندما ألقى السحرة عصيهم وحبالهم.
فان قلت إن الآية أعلاه جاءت بنهي موسى على نحو التعيين عن الخوف والوجل، والجواب يلحق هارون مع موسى بالتبعية لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، ولإتحاد وظائف النبوة عند المباهلة والمبارأة.
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين، وجاءت شواهد كثيرة تدل على أنهم ورثة الأنبياء منها في المقام أن طائفتين من المسلمين همّوا بالخوف والجبن عند إشتداد القتال يوم أحد، فجاءهم المدد من عند الله وحال بين هذا الهم وبين ظهوره في الخارج بالهزيمة والفرار ونحوه فبقوا في مواضعهم في القتال، قال تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ).
ثم جاءت آية البحث في ذات موضوع الخوف الذي دب في نفس موسى عليه السلام إذ نهى الله عز وجل المسلمين عن الوهن والضعف والحزن وبيّن لهم مرتبتهم وهي أنهم الأعلون وأنهم الغالبون، ومع النصر والغلبة على العدو تهون الخسارة لأنها شخصية ومؤقتة، وفيها الأجر والثواب، أما النصر فهو بناء متجدد لصرح الإسلام إلى يوم القيامة.
الثانية : صيغة الجمع المذكر (الأعلون) وورد مرتين في القرآن، وكلاهما في خطاب للمسلمين على نحو التعيين وبذات اللغة(وانتم الأعلون) وهو آية في الثناء عليهم وأنهم ورثة الرسل الذين قادوا قومهم في الجهاد ضد الظالمين، وصاروا سبباً في زوال الطواغيت كما في قصة موسى عليه السلام وهلاك فرعون، قال تعالى[فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ]( ).
فجاءت آية البحث بالنهي المتعدد عن الوهن والحزن، أما الآية أعلاه فتضمنت النهي عن الوهن وحده، مما يدل على إرتقاء المسلمين في مسالك الجهاد، مع إختتام آية البحث بقوله تعالى[إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد شرائط الإيمان وخصال التقوى.
قوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]
وفي الآية حذف وتقديره على وجوه :
الأول : إن كنتم مؤمنين بأن النصر من عند الله .
الثاني : إن كنتم مؤمنين بوهن وضعف الكفار وأوليائهم ، قال تعالى [وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ] ( ).
الثالث : إن كنتم مؤمنين بأن ما عند الله خير محض ونفع متصل في الدنيا وعالم البرزخ وفي الآخرة، فيهجر المسلم الوهن والحزن لغبطته بما رزقه الله ، ورجائه بالنهل من النعم التي يتفضل بها الله على المسلمين عامة ، وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله”)( ).
الرابع : إن كنتم مؤمنين بأن هذه الآية من بيان القرآن للناس كما ورد في الآية السابقة .
الخامس : إن كنتم مؤمنين بأن الكفار [لاَ مَوْلَى لَهُمْ].
السادس : إن كنتم مؤمنين بأن المدد ينزل من عند الله عليكم ، وأن الله عز وجل لن يترك الكفار يعيثون في الأرض فساداً .
السابع : إن كنتم مؤمنين بقضاء الله ووعده فيما نالكم من الهزيمة وما فاتكم من الغنيمة قاله الثعلبي( ).
الثامن : بعث المسلمين على الثبات في منازل الإيمان إذ تدل الآية وما فيها من النهي عن الوهن والضعف والحزن على إتصال الجهاد وتدفع أسباب الأذى من الكفار .
التاسع : إن كنتم مؤمنين بحاجتكم إلى عدم الوهن والحزن ، فان نيل المسلمين مرتبة العلو والرفعة وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يغنيهم عن عدم الوهن والحزن .
العاشر : إن كنتم مؤمنين بلزوم طاعة الله ورسوله ، ومن مصاديق هذه الطاعة هجران الوهن وترك الحزن .
الحادي عشر : إن كنتم مؤمنين بنصر الله للأنبياء والمؤمنين من الأمم السابقة فاتركوا الوهن والحزن ، قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا]( ).
الثاني عشر : وجوب تقوى الله والخشية منه بالغيب، وفي التنزيل [وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )
ومن مصاديق الإيمان والتقوى بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : تعاهد وحدة المسلمين في حال الشدة والقتال ، ويتقوم هذا التعاهد باتصاف المسلمين مجتمعين ومتفرقين بروح الإقدام والإقبال على الدفاع وميادين القتال دفاعاً عن الإسلام ، بالعصمة عن الحزن عند الخسارة أو الحرمان من الغنائم وفوات المنافع الدنيوية العاجلة .
الثاني : العلم بان الله عز وجل لا يضيع أجر المؤمنين الذين يمتنعون عن الوهن والضعف وتأبى نفوسهم الإستجابة لأسباب الحزن والأسى .
الثالث : إدراك ضروب الإمتحان في مواجهة البلاء وتعدي الكفار ، قال تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ] ( ).
وقيل (ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله، ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيراً فهو خير إلى خير)( ).
ولكن الصلاة والصيام من أهم مصاديق التقوى ويؤكده ذات القول أعلاه (وأداء ما افترض الله) وتترشح عن أداء الصلاة والصيام مصاديق كثيرة من التقوى ، ومنها التنزه عما حرم الله ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )
وتدعو الآية المسلمين إلى عدم جعل الخوف من الظلم سبباً للإمتناع عن طاعة الله في عدم الوهن والحزن ،قال تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( )
الثالث عشر : إن كنتم مؤمنين بحاجتكم إلى التوكل على الله في أموركم كلها ، فلا تهنوا ولا تحزنوا لأنه تعالى ينزل عليكم شآبيب رحمته ويمدكم بأسباب المنعة والوقاية من الوهن والحزن ،قال تعالى [وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn