المقدمة
الحمد لله الذي خلق الأرض والسماء وما بينهما ليقهر عباده بعظيم قدرته ويكون بديع صنعه الظاهر للحواس والمتجلي للعقول سبباً لجذبهم لمنازل الإيمان، وبرزخاً دون الكفر والضلالة، وبياناً لقانون إنفراده سبحانه بالملك والسلطان , قال تعالى[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( )، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
الحمد لله الذي لا إله إلا هو , الذي لا تليق الربوبية في الأرض والسماء إلا له سبحانه لتتغشى الرحمة الخلائق , وتعم الغبطة والسعادة الكائنات وتكون ضياء يدّلها على التسبيح والتقديس له، قال تعالى[يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ). لتلتقي الخلائق على أمر جامع وهو التسبيح، وشرّف الله الإنسان بقوله تعالى للملائكة[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ]( ).
ليكون من مصاديق هذه الخلافة إتصاف وتحلي الإنسان بضروب من العبادة والتسبيح منها:
الأول : التشريف والإكرام بنزول الكتب السماوية على أفضل الناس، وهم الأنبياء.
الثاني : إستمرار الصلة بين الله عز وجل والإنسان بالوحي من غير واسطة أحد من البشر.
الثالث : عصمة الأنبياء عن الخطأ والزلل والإثم، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة عندما قالوا إن الإنسان يفسد في الأرض بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ), فمن علمه تعالى تنزه الأنبياء عن الفساد وعن سفك الدماء بغير حق ليكونوا أسوة حسنة للناس، وحجة عليهم وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] بأن يكون من أفراد تداولها أن يتولى بعض الأنبياء الحكم والسلطان ليكون الحق والعدل هو السائد في الحكم، ويكون مقدمة لحكم الإسلام.
وعن ابن عباس في قوله[يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] ( )، قال : إذا ارتفع إليك الخصمان ، فكان لك في أحدهما هوى ، فلا تشتهِ في نفسك الحق له ، فيفلح على صاحبه ، فأمحو اسمك من نبوتي ، ثم لا تكون خليفتي ، ولا كرامة ( ).
الرابع : جهاد المسلمين في سبيل الله، ومحاربتهم للفساد والبغي وتضحيتهم بالنفس والمال لجعل كلمة الله هي العليا.
الخامس : جمع المسلمين بين الجهاد والفرائض العبادية.
السادس : تحلي المسلمين بالصبر في طاعة الله.
السابع : تلقي المسلمين الأذى، وتعرضهم للإصابات والجروح في القتال مع الكفار كما تدل عليه آية البحث (ان يمسسكم قرح) وإصابة المسلمين بالقروح من مصاديق قوله تعالى أعلاه[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]لأنه شاهد على أمور:
الأول : إحتراز المسلمين من الفساد وإجتنابهم له.
الثاني : محاربة المسلمين الفساد، سواء كان صادراً من الكفار أو من المنافقين لقوله تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ]( ).
الثالث : ماذكرته الملائكة من فساد الإنسان في الأرض ليس دائماً فهو ينقطع بجهاد المسلمين والبشارة الواردة في آية البحث [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ].
الرابع : بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن الفساد في الأرض تترتب عليه أمور في الحياة الدنيا منها:
الأول : إنتصار الله للمظلومين مجتمعين ومتفرقين .
الثاني : وجود أمة مؤمنة تحارب الفساد.
الثالث : الأجر والثواب للمؤمنين في فضحهم للفساد والنفاق، وقتالهم للمفسدين، ومن فضل الله عز وجل ترشح الثواب عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد أو اللسان بل وحتى الإنكار النفسي بالقلب، ومن أسرار خلافة الإنسان في الأرض أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصاحبان للحياة الدنيا، فلا ينقطعان ولايفارقان يوماً من أيامها.
الرابع : العقاب العاجل للمفسدين، ومنه سلب الحكم والسلطان والجاه منهم بدلالة آية البحث، فان قلت تدل الآية أيضاً على سلب الحكم من أهل الإيمان، الجواب هذا السلب إن حصل فهو مؤقت بخلاف سلبه من الكفار , قال تعالى[قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
الخامس : بعث الناس للحساب يوم القيامة وحضور أعمالهم جلية واضحة معهم يومئذ، قد تم إحصاؤها وضبطها في صحف خاصة قال تعالى[وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا]( ).
ومن الإعجاز في آية البحث إجتماع البشارة مع حسن المواساة للمؤمنين في موضوع متحد وهو قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ].
فان كان الحكم والجاه بيد الكفار إنقطع المسلمون إلى الدعاء وإتخذوا الرجاء بلغة لنيل الرغائب ومداولة الأيام، وإن وصلت إليهم حكموا بما يرضي الله عز وجل، وقاموا بتثبيت سنن الشريعة في المجتمعات.
وتتضمن الآية المائز الذي يتصف به المسلمون ويجعلهم أقرب إلى النصر والظفر بالأيام من جهات:
الأولى : ذكر إصابة المسلمين بالقروح على نحو الجملة الشرطية.
الثانية : تقدم زمان إصابة الكفار بالقروح والجراحات فلا تصيب المسلمين القروح إلا مستقبلاً وعند اللقاء الذي تكون فيه الخسارة عامة في طرفي القتال، مما يدل على طرو القروح والجراحات على المؤمنين، بينما تكون مضاعفة عند الكفار الجروح السابقة التي أخبرت عنها آية البحث[فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ].
والقروح الجديدة التي تأتي تحصل عند التقاء الصفين والقتال الذي قد يصاب فيه المسلمون بالجراحات، وتتجلى رشحات هذا التباين بقوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ]( ).
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ثلثمائة أو يزيدون ، علينا أبو عبيدة بن الجراح ، ليس معنا من الحمولة إلا ما نركب فزوّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جرابين من تمر ، فقال بعضنا لبعض : قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أين تريدون وقد علمتم ما معكم من الزاد ، فلو رجعتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألتموه أن يزوّدكم ، فرجعنا إليه ، فقال : إني قد عرفت الذي جئتم له ، ولو كان عندي غير الذي زوّدتكم لزوّدتكموه . فانصرفنا ، ونزلت { فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً } فأرسل نبي الله إلى بعضنا ، فدعاه ، فقال : أبشروا فإن الله قد أوحى إليّ { فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً } ولن يغلب عسر يسرين ( ).
فلن يغلب قرحان يصاب بهما الكفار قرحاً واحداً لاحقاً للمؤمنين بل تزداد جراحات الكفار عند اللقاء مما يجعلهم أكثر وهناً، وأشد ضعفاً وهو الذي ظهر جلياً بعجزهم وحيرتهم في معركة الخندق، وحضور عدد من فرسانهم وقد أثقلتهم الجراح في معركة بدر وأحد، وإضطرارهم للإنسحاب بخزي مع كثرة عددهم، إذ بلغ عدد أفراد جيش الكفار عشرة آلاف، ولم يجتمع مثل هذا العدد من الجنود في الجزيرة قبلها.
لتدور الأيام، فيتم فتح مكة ويغادرها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه إثنا عشر ألفاً من المقاتلين، أربعة آلاف من الأنصار ، وألف من جهينة ، وألف من مزينة ، وألف من أسلم ، وألف من غفار ، وألف من أشجع ، وألف من المهاجرين وغيرهم ، فكان معه عشرة آلاف . وخرج بإثني عشر ألفاً ، وفيها قال الله تعالى في كتابه { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً ( ).
وفيه بيان ومصداق واقعي لفضل الله على النبي والمسلمين باق إلى يوم القيامة , يتجلى بالتباين بين خروج الهجرة إلى المدينة خشية قتله في فراشه وبين خروج الفتح هذا , وموضوع هذا التباين يستحق مجلداً خاصاً
ليكون من الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجئ الوقائع والأحداث مصاديق وشواهد على صدق نزول آيات القرآن من عند الله وهو من أسباب سلامة القرآن من التحريف.
فحينما تضمنت الآية السابقة نهي المسلمين عن الوهن والضعف والذي يدل بالدلالة الإلتزامية أو بقاعدة النهي عن الشئ أمر بضده فان تجليات شجاعة وإقدام المسلمين ظهرت في ميادين المعارك كلها، وتعطل عندهم جانب الحزن وفقدان وغياب الخوف الذي يستحوذ على الجوارح ويؤثر سلباً على القرار ومقدمات دخول المعركة ووجوب التفاني في مرضاة الله .
وفي كل يوم تتبين للمسلمين دلائل بأنهم أمة الصلاح والعز والتقوى لقوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
وإبتدأت هذه الآية بصيغة الجملة الشرطية (ان يمسسكم قرح) الذي يفيد التعليق وإمكان الوقوع وليس الحتم والقطع، وفيه أسرار من وجوه:
الأول : دعوة المسلمين للدعاء وسؤال النجاة من الجراحات والكلوم.
الثاني : بيان موضوعية الدعاء بالتخفيف من الإصابات والخسائر التي تنزل بالمسلمين.
الثالث : البشارة بنزول الملائكة لنصرة المسلمين، وفي معركة بدر ورد قوله تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
الرابع : جعل المسلمين مستعدين للقتال والقتل في سبيل الله، وعلى المعنى الأعم للقرح في الآية وإرادة سقوط الشهداء من معاني القرح وهو الأصح يكون للآية إعجاز ذاتي وغيري يترشح عنه التخفيف عن المسلمين والمسلمات عند فقدان الأحبة في مواجهة الكفار لرجحان الصلة وهي تثبيت كلمة التوحيد في الأرض، فلا يخالط المسلمين الحزن والأسى الشديد عند تقديم الشهداء لأنهم [أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
ويقترن بشهادة نفر من المؤمنين النصر والظفر ومقدمات الفتح، فيكون المقتضي للحزن مفقوداً، والمانع منه موجوداً , وإنتفاء أسباب هذه المخالطة من الإعجاز في مجئ الآية بصيغة المس(ان يمسسكم).
فان قلت وصفت الآية بذات لفظ المس حال الكفار بقوله تعالى[فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ] والجواب من جهات:
الأولى : في الآية تحذير للمسلمين بأن الكفار وإن كثر عدد قتلاهم، وظهرت جلية جراحاتهم إلا أنهم مصرون على التعدي على الإسلام والدفاع عن مفاهيم الكفر والضلالة.
الثانية : بعث المسلمين إلى قتال الكفار بما يجعلهم يدركون فادح الخسارة والضرر الذي يلحقهم بالنفوس والأموال والجاه.
الثالثة : الإخبار بأن اللقاء والقتال القادم يزيل الكفار من منازل الشأن، فلا يأتي قرح على قرح بل تأتي الهزيمة بعد القرح خاصة وأن المسلمين يدخلون القتال من غير قرح وجراحات، لقوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ].
ليكون من إعجاز الآية في مفهومها أن ما يصيب المسلمين لا يتعدى القرح والجراحات خاصة مع الوهن والضعف الذي لحق ويلحق الكفار مع إقترانه بالهموم والأحزان.
وتقدير الآية : إن يمسسكم قرح فتكون هزيمتهم باللقاء لأنهم قد مسهم قرح مثله قال تعالى[أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ]( ).
وهذا الجزء هو الثاني عشر بعد المائة من معالم الإيمان في تفسير القرآن، وهو القسم الثاني من تفسير قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ……. ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أن كل شطر وجملة منها قانون كلي متجدد وإلى يوم القيامة إلا فاتحة الآية التي جاءت بصيغة الجملة الشرطية والتعليق لأنها تتضمن القرح والجراحات والخسارة للمسلمين.
وفي المستثنى والمستثنى منه بلحاظ عموم الخبر في الآية وإستثناء الشرط منها رحمة بالمسلمين وترغيب بالإيمان وبشارة الفتح المبين، ومواساة متقدمة زماناً على القرح والجراحات التي قد تصيب المؤمنين، وهو من إسرار إفتتاح الآية بالشرط والتعليق وموضوع القرح والكلوم التي يبتلى بها المؤمنون في الدفاع عن الإسلام ولبيان أن مضامين الآية الأخرى التي جاءت لاحقة له من فضل الله عليهم، ورشحات صبرهم في جنب الله، وهو مناسبة لبناء صرح دولة الإسلام، ومن مصاديق الوعد الكريم في قوله تعالى[وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ]( ).
قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]سورة آل عمران 140.
الإعراب واللغة
قرأ قرح بالضم أبو بكر وحمزة والكسائي، والفتح والضم في القرح لغتان، وقيل: المفتوح: الجرح، والمضموم: ألمه( ).
إن : حرف شرط جازم، يمسس: فعل مضارع مجزوم فعل الشرط، والضمير(كم) مفعول به، قرح: فاعل مرفوع بالضمة.
فقد مس القوم: الفاء: رابطة لجواب الشرط، قد: حرف تحقيق.
مس: فعل ماض، القوم: مفعول به مقدم منصوب.
قرح: فاعل مرفوع .
مثله: صفة لقرح مرفوع، والهاء : ضمير مضاف إليه.
وتلك الأيام : الواو : إستئنافية، تلك : اسم اشارة مبني في محل رفع مبتدأ، واللام : للبعد، والكاف : للخطاب.
الأيام : بدل من (تلك) مرفوع، وقيل خبر بلحاظ أن تلك مبتدأ وهو ضعيف، وعن ابن مالك.
وكل اسم معرّف بأل بعد اسم الإشارة فعطف أو بدل
كما تقول: هي الأيام.
نداولها : جملة من فعل مضارع مرفوع، وفاعل ضمير مستتر تقديره(نحن) والضمير (ها) مفعول به.
بين : ظرف مكان منصوب وهو مضاف، الناس : مضاف إليه مجرور.
وليعلم الله : الواو : حرف عطف، اللام : للتعليل.
يعلم : فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام.
اسم الجلالة : فاعل مرفوع، الذين : اسم موصول مبني في محل نصب مفعول به.
آمنوا : فعل ماض مبني على الضم، الواو : فاعل.
ويتخذ : الواو : حرف عطف، يتخذ : فعل مضارع منصوب معطوف على(يعلم)، والفاعل ضمير مستتر تقديره ( هو) يعود لله عز وجل.
منكم : من : حرف جر، الضمير(كم) في محل مجرور إليه.
شهداء : مفعول به منصوب بالفتحة لأنه جمع تكسير.
والله : الواو : إعتراضية، واسم الجلالة مبتدأ مرفوع، لا : نافية ، يحب: مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر يعود لله عز وجل.
الظالمين : مفعول به منصوب ، وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم .
وجملة (قد مس القوم قرح) في محل جواب الشرط مقترنة بالفاء وقيل جواب الشرط محذوف تقديره فتأسوا فقد مس القوم.
والمس : أصل المس مسك الشئ باليد يقال: مسست الشئ أمسه.
ثم إزداد إستعمال العرب لهذا اللفظ ليشمل الطلب والسعي لنيل المنفرد، وتأتي الملامسة كناية عن النكاح، قال تعالى[أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً]( ).
والرحم الماسة : أي القريبة.
والقرح: الجرح، والقروح التي تسيل بسبب الجرح، والقريح: الجريح( ).
وردت الآية بالإظهار بالتضعيف بسينين في(ان يمسسكم قرح) وقال أبو زرعة (ولو قرئت إن يمسكم قرح كان صواباً والإدغام لغة غيرهم( )، أي غير قريش.
ولكن لابد من فارق بينهما يتجلى بالتعدد المستقرء من قوله تعالى(ان يمسسكم) ففيه دلالة على تكرار هذا القرح والجراحات، وبقاء أثرها في النفوس والمجتمعات وفي الأبدان، وفقد الأحبة الذين إختاروا الشهادة، ولو لو قلت إن يمسكم قرح فقد يجمل على المرة الواحدة ويكون المراد من (قرح) التنكير، ولا تفيد النكرة في سياق الإثبات العموم إلا مع القرينة كما في قوله تعالى[وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ]( )، فيأتي التعدد والتضعيف بذات الفعل لبيان التعدد في من جهات:
الأولى : كثرة أوان الجراحات.
الثانية : تعدد معارك المسلمين مع الكفار , وكل معركة تحصل فيها جراحات كما في معركة بدر وأحد والخندق.
الثالثة : تعدد المؤمنين الذين أصيبوا بالجراحات والذين قتلوا في سبيل الله.
الرابعة : سعة وتعدد أثر جراحات المسلمين، بالحزن والأسى والضرر الذي يلحق أهليهم وجيرانهم والمؤمنين جميعاً.
وورد ذكر الكفار في الآية باسم ( القوم) وفيه مسائل:
الأولى : إرادة الرجال منهم دون النساء لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ]( )، وربما دخل النساء فيه على سبيل التبع لأَن قوم كل نبي رجال ونساء القوم ( ).
الثانية : الإخبار عن عدم كون الكفار أمة واحدة متجانسة، بل إجتمعوا على أمر جامع يقومون به وهو محاربة الإسلام وهو جمع لا واحد له من لفظه، وجمعه أقوام وجمع الجموع (أقاوم).
الثالثة : إرادة تقدير محذوف مثل: فقد مس القوم الظالمين.
سياق الآيات
وفي صلة هذه الآية بالآية السابقة [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا]( ) مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : ولا تهنوا إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله.
الثاني : ولا تحزنوا إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله.
الثالث : وان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وانتم الأعلون.
الرابع : ولا تهنوا تلك الأيام نداولها بين الناس.
الخامس : ولا تحزنوا تلك الأيام نداولها بين الناس.
السادس : ولا تهنوا وليعلم الله الذين آمنوا .
السابع : ولا تحزنوا وليعلم الله الذين آمنوا.
الثامن : وليعلم الله الذين آمنوا وانتم الأعلون.
وتقدمت وجوه أخرى في الجزء السابق( ).
الثانية : تضمنت الآية السابقة نهيين وقانوناً دائماً وجملة شرطية هي الخاتمة لها، أما هذه الآية فقد إبتدأت بجملة شرطية تتضمن النبأ والمواساة وتدعو إلى الصبر.
الثالثة : كل من الآيتين ثناء على المسلمين من جهات :
الأول : لغة الخطاب وما فيها من الإكرام الخاص.
الثاني : تلقي المسلمين الخطاب كأمة متحدة.
الثالث : إرادة إمتحان المسلمين الذي يترشح عنه الثواب العظيم.
الرابعة : كل من الآيتين وثيقة تبين ما يلاقيه المسلمون من الأذى في جنب الله، وتقدير الجمع بين بدايتي الآيتين أنه مع الجروح والخسارات التي تصيبكم وسقوط الشهداء والقتلى منكم في ميادين القتال فان الله عز وجل ينهاكم عن القعود عن قتال الأعداء وعن الحزن والإنقطاع إلى البكاء والحسرة على فوات الغنائم.
الخامسة : من القرح الذي أصاب المسلمين قتل سبعين من الأنصار وخمسة من المهاجرين يوم أحد منهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصعب بن عمير حامل لواء النبي، وعبد الله بن جحش، وعثمان بن شماس.
السادسة : ليس من آية بين قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] وبين مواساة المسلمين على الأضرار التي نزلت بهم في معركة أحد، ليقترنا في الوجود الذهني عند المسلمين وفي توجيه وتلقي أوامر القتال والدفاع عن بيضة الإسلام، فلا تكون الخسارة ومصيبة فقد الأحبة سبباً للقعود وترك العدو يعبث بأرض المسلمين فساداً، قال تعالى[إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا]( ).
السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : إن يمسسكم قرح وأنتم الأعلون فقد مس القوم قرح مثله وهم الأدنون، وفيه بيان للتباين بين المسلمين والكفار أثناء القتال وبعد إنتهائه، وفي حال الحضر والسفر، فان الأمة التي هي أعلى تتدارك جراحها، وتتغلب على آلامها.
لقد خاطبت الآية السابقة المسلمين [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] وفيه وجوه :
الأول : المسلمون هم الأعلون في المعركة ببذل الوسع في القتال، وحسن التدبر والمكيدة، كما قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: الحرب خدعة.
إذ ورد عن ابن إسحاق قال: إنّ نعيم بن مسعود بن عامر بن (أنيف) بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن حلاوة بن أشجع بن زيد بن غطفان أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال : يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنَّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلّى الله عليه : إنّما أنت فينا رجل واحد، فخَذِّل عنّا إنْ استطعت فإنّ الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية، فقال لهم : يا بني قريظة، قد عرفتم ودّي إيّاكم وخاصّة ما بيني وبينكم، قالوا : صدقت لست عندنا بمتّهم، فقال لهم : إنّ قريشاً وغطفان جاءوا لحرب محمّد، وقد ظاهرتموهم عليه، وإنّ قريشاً وغطفان ليسوا (كهيئتكم)، البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أنْ تحولوا عنه إلى غيره، وإنّ قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره، وإنْ رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإنْ كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إنْ خلا بكم، فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أنْ يقاتلوا معكم محمّداً حتى تناجزوه، فقالوا : لقد أشرتَ برأي ونصح. ثمّ خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : يا معشر قريش قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّداً، وقد بلغني أمر رأيت أنَّ حقّاً عليَّ أنْ أبلّغكموه نصحاً لكم فاكتموا عليَّ. قالوا: نفعل. قال : تعلمُون أنَّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه، أنْ قد ندِمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنّا أنْ نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم (فنعطيكم) فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك على من بقي منهم؟فأرسل إليهم أنْ نَعَم، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً، ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال : يامعشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليَّ ولا أراكم تتّهموني، قالوا : صدقت، قال : فاكتموا عليَّ قالوا : نفعل، ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم، فلمّا كانت ليلة السبت في شوّال سنة خمس، وكان ممّا صنع الله برسوله، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل( ) في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم : إنّا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمّداً ونفرغ ممّا بيننا وبينه. فأرسلوا إليهم : إنّ اليوم السبت، وهو يوم لا يُعمل فيه شيئاً، وكان قد أحدث بعضنا فيه حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّداً، فإنّا نخشى إنْ (ضرستكم) الحرب واشتدّ عليكم القتال تسيروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمّد.
فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان : تعلمون والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بني قريظة، إنّا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال، فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلاّ أنْ تقاتلوا، فإنْ وجدوا فرصة انتهزوها، وإنْ كان غير ذلك إنشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وإلى غطفان : إنّا والله لا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد، حتّى انصرفوا راجعين والحمد لله ربّ العالمين( ).
الثاني : المسلمون هم الأعلون بقلة القتلى والجرحى والأسرى منهم في المعارك ، مع كثرة قتلى وجرحى وأسرى الكفار، ومن الإعجاز في ميادين قتال المسلمين أن يكون الكفار ثلاثة أضعاف المسلمين في العدد وأكثر من هذا الضعف في العدة، ومع هذا يقع العشرات من الكفار أسرى في أيدي المسلمين كما في معركة بدر، فيقابلهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصفح والفداء بالمال ومن تعذر عليه المال أمره بتعليم عشرة من صبيان المدينة الكتابة، فكثر عدد المتعلمين في المدينة ليكون من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، مصاحبة طلب العلم لهم، وإحرازهم الوسائل للكسب والتحصيل.
ولم تنحصر وظيفة التعليم بالأسرى ولا التعلم بأولاد المهاجرين والأنصار، فقد ذكر عن عبادة بن الصامت، أنه قال: عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ ( ).
أهل الصفة هم من فقراء المهاجرين يقيمون في مكان مظلل في مؤخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ ليس لهم مأوى ومساكن يلجأون إليها ممن هاجر إلى المدينة بعد أن إتسع الإسلام وظهر المسلمون في معركة بدر وأحد وعجز الإنصار عن إيواء المهاجرين الجدد في بيوتهم وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يولي أهل الصفة عناية خاصة .
وعن مُجَاهِدٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ آللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِى عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِى مِنَ الْجُوعِ ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِى يَخْرُجُونَ مِنْهُ ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى ، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِى عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى ، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِى أَبُو الْقَاسم – صلى الله عليه وسلم – فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِى وَعَرَفَ ، مَا فِى نَفْسِى وَمَا فِى وَجْهِى ثُمَّ قَالَ « أَبَا هِرٍّ. قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ . وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ ، فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ ، فَأَذِنَ لِى ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ فَقَالَ « مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ . قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ . قَالَ « أَبَا هِرٍّ . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِى. قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ ، لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ ، وَلاَ عَلَى أَحَدٍ ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا ، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ ، وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا ، فَسَاءَنِى ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا ، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِى فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِى مِنْ هَذَا اللَّبَنِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ – صلى الله عليه وسلم – بُدٌّ ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا ، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ قَالَ « يَا أَبَا هِرٍّ . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ « خُذْ فَأَعْطِهِمْ . قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ « أَبَا هِرٍّ. قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ. قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « اقْعُدْ فَاشْرَبْ. فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ . فَقَالَ « اشْرَبْ . فَشَرِبْتُ ، فَمَا زَالَ يَقُولُ « اشْرَبْ . حَتَّى قُلْتُ لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا . قَالَ « فَأَرِنِى . فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى ، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ( ).
الثالث : المسلمون هم الأعلون بالمقاصد الحميدة من القتال، إذ تترشح المنافع العظيمة لهذه المقاصد على الهمّة، والعزيمة في القتال، والإستعداد للتضحية وبذل النفس في سبيل الله، لبيان مائز في القتال وهو الإيمان وماله من موضوعية وأثر عظيم في ذات القتال وخاتمته، فإن قيل كيف إنتصر المسلمون في القتال مع قلة عددهم وعدتهم بالنسبة للعدد الكثير من كفار قريش، والجواب لأن المسلمين هم الأعلون.
الرابع : هل في قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، زجر للكفار عن محاربة المسلمين، وإخبار عن عدم لحوق الضرر بهم عند الجروح والخسارة .
الجواب نعم، بلحاظ أن من خصائص الأمة الأعلى من غيرها الصبر في ميدان القتال والشوق للقاء الله عز وجل، وكل من هذا الزجر والإخبار من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، أي إطلاق الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشمولها للكفار من جهات:
الأولى : نهي الكفار عن قتال المسلمين، والتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : منع القبائل والناس من الإنصات للكفار.
الثالثة : بعث الخوف والفزع في قلوب الكفار من ملاقاة المسلمين، قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
وعن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فضلت على الأنبياء بأربع : أرسلت إلى الناس كافة ، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً ، فأينما رجل أدركه من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره ، ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي ، وأحل لنا الغنائم)( ).
الرابعة : المسلمون هم الأعلون حتى مع سقوط شهداء وجرحى منهم في المعارك، بلحاظ الثواب الذي يأتيهم عن كل قول وفعل يريدون به وجه الله، قال تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
وكان عدد قتلى المسلمين نحو أربعة أضعاف قتلى المشركين في معركة أحد، إذ كان عدد قتلاهم (ثمانية عشر رجلاً) ( )، ومع هذا نزلت آيتان في موضوعين متباينين:
الأول : بيان الخلود لقتلى المسلمين قال تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الثاني : ذكر البلاء والقطع الذي أصاب الكفار يوم أحد بقوله تعالى[ِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ) ( )، ويحتمل قوله تعالى أعلاه وجوهاً:
الأول : إنه من قطع الكفار وهدم ركن من أركان الشرك.
الثاني : إنه إخبار خال من الأثر والتأثير في ذات الموضوع.
الثالث : إنه نتيجة ومعلول لنصر الله كما تدل عليه لام التعليل في (ليقطع).
الرابع : إنه مقدمة لقطع طرف آخر من الكفار.
وبإستثناء الوجه الثاني فإن الوجوه الأخرى كلها صحيحة ليكون من الإعجاز الغيري للآية القرآنية أنها تخبر عن موضوع وتكون ذات الآية من أسبابه ومنافعه.
ومن الإعجاز الذاتي للآية أعلاه أن كل مرة يقرأ فيها المسلم هذه الآية يكون قطعاً ووهناً للكفار، فتخبر الآية عن قطع طرف وهلاك ثلة من الكفار ثم يصبح زوالها وتلاوة المسلمين لها قطعاً لطرف آخر منهم، مما يدل على تعاقب إصابة الكفار بالضعف والوهن.
الخامس : المسلمون هم الأعلون بنصر الله، فقد جاء القرآن بقانون كلي يتغشى أيام الدنيا بأن النصر بمشيئة الله عز وجل , قال تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
وهل تشمل الآية أعلاه النصر في أي معركة أم المقصود النصر النهائي، ولا عبرة معه بالخسارة في معركة، الجواب هو الأول لوجوه:
الأول : أصالة الإطلاق، وعدم وجود مقيد في البين.
الثاني : صدق معنى النصر حتى في خصوص المعركة الواحدة.
الثالث : من معاني النصر الغلبة وجلب الغنائم وصد العدو، فإن قلت هل نصر المشركين في معركة أحد من عند الله ليبتلي المؤمنين، الجواب لا دليل على تحقق النصر للمشركين يوم أحد، والحق بخلافه، وقد إنسحبوا ولم يقع المؤمنون أسرى في أيديهم ولم يغنموا شيئاً ولم يتحقق لهم الهدف الخبيث الذين جاءوا من أجله وهو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشطر من أصحابه وأسر الشطر الآخر.
السادس : المسلمون هم الأعلون بتقوى الله، والتنزه عن فعل السيئات، وتلك آية في ميادين القتال بأن يكون الرجحان للفئة التي تتوكل على الله ولا تخشى الخسارة، بينما يكون الظالمون في حال من الفزع لحبهم للدنيا، وتعلقهم بزينتها ومباهجها.
الوجه السابع : المسلمون هم الأعلون والطرف الراجح في مواجهة كفار قريش لفضل الله عز وجل في فضح النفاق، وبيان وجود جماعة من بين المسلمين تعلن الإسلام ولكنها تخفي الكفر الذي لم تتخلص منه.
وإذا كان عدد المنافقين قليلاً مع كثرة الداخلين في الإسلام كل يوم وأسبوع وشهر، لماذا لم يسكت عنهم القرآن ويحصر بيان العداوة والمواجهة بالكفار، الجواب من وجوه:
الأول : لقد نزل القرآن بعناية خاصة بتنبيه المسلمين بالأضرار الناجمة عن النفاق.
الثاني : تأكيد قانون وهو أن المنافقين لا يتركون منازل النفاق من تلقاء أنفسهم، ولا يتوبون إلى الله مع كثرة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحقيق المؤمنين النصر في ميادين القتال بآية ومعجزة تتجلى بتفوق العدو في العدد والعدة في كل معركة مع المسلمين وتكون النتيجة بالنصر للمؤمنين، قال تعالى[وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]( )، على إرادة المعنى الأعم للعاقبة وعدم إختصاصها بعالم الجزاء في الآخرة.
الثالث : من مصاديق رحمة الله بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله عز وجل لا يرضى للذي يعلن إسلامه إخفاء الكفر، لأن هذا الإخفاء يقوده إلى المعاصي والخزي في الدنيا، وإلى الخلود في النار، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
لقد إبتدأت سورة البقرة بخمس آيات في الثناء على المؤمنين، ثم آيتين في ذم الكافرين ثم جاءت ثلاث عشرة آية في بيان صفات المنافقين وتوبيخهم، وهذا الترتيب في نظم آيات القرآن بلحاظ الموضوع مدرسة عقائدية تبين بغض الله عز وجل للنفاق والتحذير منه، ودعوة المسلمين إلى الإحتراز من أمور:
الأول : دبيب النفاق إلى النفوس، قال تعالى[بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
الثاني : صيرورة المنافقين عيوناً وعوناً للكفار.
الثالث : أخلاق النفاق، وإنتشار الإشاعات الضارة.
الرابع : رؤوس وأشخاص المنافقين.
ومن أسرار مجيء ذم النفاق في الآيات الأولى من سورة البقرة الإخبار عن مجيء دروس الإبتلاء والإمتحان للمسلمين لتمييز المؤمنين وإصلاحهم لمواجهة هجومات الكفار المتتالية وتلقي الخسائر والمصائب بالقبول والرضا، قال تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ*وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا]( ).
ومن الإعجاز في الآيتين أعلاه أن المؤمنين ذكروا كطائفة إستقر الإيمان في نفوسهم، ولم تقل(وليعلم المؤمنين وليعلم المنافقين) بل ذكرت الآية النفاق بصيغة الفعل لإرادة النفاق عند القتال والخوف من لقاء العدو، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لم يقصدوه.
ومن الحجة في المقام تعدد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة إعراضاً عن الكفار وأذاهم ولكنهم زحفوا بجيوش عظيمة لمرات متعددة على المدينة فلم يكن بد من الدفاع عن الإسلام والنفس والعرض.
قال الشاعر الكميت بن زيد:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب فلا رأي للمضطر إلا ركوبها( ).
الثامن : حسن توكل المسلمين على الله عز وجل، وتفويضهم الأمور إليه بالصدور عن القرآن والسنة، وتلقي الأوامر بالقبول والإمتثال، والنواهي بالإنزجار والترفع عن مواطن الشبهات، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في الدعاء واللجوء إلى الله.
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت إلهي لا إله إلا أنت) ( ).
ومعنى (كان يقول) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكرر هذا الدعاء ويواظب عليه، وفيه دعوة للمسلمين للإقتداء به من جهات:
الأولى : التوجه والمسألة بذات الدعاء.
الثانية : ترغيب المسلمين بالدعاء.
الثالثة : تأديب المسلمين على سنن الدعاء، وتقديم إعلان الإيمان والإنقياد لأوامر الله عز وجل.
الرابعة : تضمن الدعاء إظهار التوكل على الله، وهي مرتبة سامية في الإيمان، ومقامات العبودية لله عز وجل، وطريق العلو والرفعة، وسبب لتعاهده، وفي التنزيل[حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( )، وقد نطق بها إبراهيم عندما ألقي في النار، لتكون إرثاً وتركة دائمة لأجيال المسلمين المتعاقبة.
التاسع : قد يخشى الفرد والجماعة فقدَ منزل الريادة والرئاسة والنعم التي بين يديه خاصة عند الشدائد والفتن، ونشوب المعارك، وإحتمال غلبة العدو وإستيلائه على الأرض، فجاءت الآية السابقة بقانون ثابت بخطاب المسلمين[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، لإفادة بقاء المسلمين في ذات المرتبة السامية حتى في حال الخسارة والجراح في المعركة لقوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ]( ).
ليفيد الجمع بين الآيتين البشارة للمسلمين بدوام نعمة العلو من بين الأمم وأهل الملل في كل الأحوال من باب الأولوية فما داموا يحافظون على ذات المنزلة الرفيعة في حال الشدة والمحنة فلابد أنهم يقيمون فيها في حال الرخاء، ويحتمل قوله تعالى(وأنتم الأعلون) من جهة بلوغ هذه المرتبة وجوهاً:
الأول : نال المسلمون هذه المرتبة بسعيهم وجهادهم.
الثاني : لم ينل المسلمون هذه المرتبة إلا بفضل الله عز وجل.
الثالث : جاءت مرتبة العلو للمسلمين ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : صار المسلمون هم الأعلون لعملهم بالكتاب والسنة.
الخامس : إنما نال المسلمون مرتبة الأعلون لأن غيرهم لا يستطيع الإرتقاء إلى هذه المرتبة الإيمانية.
السادس : بيان الملازمة بين الإيمان وأسنى المراتب بين الأمم.
والوجه الثاني هو الأصل، وفضل الله علة ونوع طريق للوجوه الأخرى التي هي من رشحاته، قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
الوجه العاشر : تبين الآية نعمة إلهية عظيمة على المؤمنين وهي أنهم لا يغادرون مرتبة العلو والرفعة في أقسى وأشهر الأحوال، ولكن الكفار حينما ينزل بهم البلاء كما في قوله تعالى[فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]( )، فماذا يكون حالهم الجواب فيه وجوه:
الأول : يبقى الكفار في ذات المرتبة.
الثاني : يهبط الكفار مع البلاء درجة.
الثالث : يرتقى الكفار درجة مع البلاء الذي ينزل بهم.
والصحيح هو الثاني، إذ يفتخر الكفار إلى الصبر وليس عندهم موضوع يقاتلون عليه، وينكشف مع المصائب والهزائم عجز آلهتهم عن النصرة أو التأييد، ويتخلى عنهم حلفاؤهم.
وهل يزداد المسلمون رفعة في حال تدني درجة الكفار أم أن الأمر مستقل ولا صلة بينهما، الجواب هو الأول لقاعدة ضعف ووهن العدو قوة للطرف الآخر، ومن الآيات أن ذات مس المشركين القرح والخسارة والضعف يبقى مصاحباً لهم في حياتهم اليومية ويصير برزخاً دون إصرارهم على العناد ومزاولتهم الجدال.
الحادي عشر : المسلمون هم الأعلون بشكرهم لله عز وجل وثنائهم عليه سبحانه، وتلك نعمة تتجلى من وجوه:
الأول : صدور الشكر والحمد لله من كل مسلم.
الثاني : وجوب شكر المسلم لله عز وجل كل يوم.
الثالث : التعدد في صدور الحمد لله من كل مسلم ومسلمة كل يوم.
الرابع : مجيء شكر المسلم لله جزءً من هيئة عبادية وهي الصلاة.
الخامس : نطق المسلم بكلمات الحمد والشكر مقترنة بأصدق حالات الخشوع والخضوع لله عز وجل.
السادس : إتصاف حمد وشكر المسلمين لله عز وجل بالإطلاق والعموم من جهة توالي النعم من الله وتغشيها الخلائق كلها، إذ يتلو كل مسلم ومسلمة قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، سبع عشرة مرة باليوم على نحو الوجوب العيني , ومن الإعجاز أن هذه الآية هي من أول ما يفتح بها المسلم صلاته اليومية.
ليكون من أسرار الصلاة حفظ كل مسلم ومسلمة كلمات الحمد لله عن ظهر قلب، وفيه مسائل:
الأولى : تنمية ملكة الشكر لله عز وجل في نفوس المسلمين.
الثانية : إستحضار كلمات الحمد في الوجود الذهني.
الثالثة : التوجه إلى الله عز وجل بالشكر على كل نعمة مستحدثة.
الرابعة : إتخاذ الحمد لله وسيلة لجلب المنافع ودفع المضار.
الخامسة : لما واظب المسلمين على قول[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] كل يوم بكرة وعشية جاء الجواب والشكر من عند الله بأن خاطبهم(أنتم الأعلون) وليكون من معاني الشرط في الآية (إن كنتم مسلمين) أي يواظبون على إقامة الصلاة وتعاهد الحمد لله.
الثاني عشر : المسلمون هم الأعلون بالجهاد في سبيل الله، فليس من أمة تدافع أجيالها المتعاقبة عن مبادئ التوحيد وتدعو بالتضحية بالنفس إلى الإيمان إلا المسلمين، ومن البيان القرآني أن الجهاد جاء في القرآن من وجوه:
الأول : الدفاع عن بيضة الإسلام، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
الثاني : التحلي بالصبر في صد العدوان عن ثغور الإسلام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثالث : الجهاد فرض كفائي على المسلمين.
الرابع : تعدد صنوف وطرق الجهاد، وعدم إختصاصها بالسيف وسوح القتال، وعن طارق الأحمسي أن رجلاً سأل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وقد وضع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر) ( )، ومنه جهاد النفس ومنع إستحواذ النفس الشهوية والغضبية، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما رجع من معركة تبوك قال: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)( ).
الثالث عشر : إن قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) شهادة من عند الله عز وجل للمسلمين وجوه:
الأول : الشهادة للمسلمين بالأفضلية على الأمم، وتحليهم بالصلاح والتقوى.
وهل تقر الأمم للمسلمين بهذه المرتبة العالية الجواب نعم، بلحاظ أن شهادة الله ملزمة للناس، وتنعكس على الوجود الذهني الخاص والعام عند الناس، وهذا الإنعكاس أثر ومرآة لقوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، لبيان قانون كلي ينبسط على أيام الحياة الدنيا وهو أن منافع وآثار هذا النفخ المبارك متصلة وحاضرة في نفس كل إنسان وقد تنعكس على قوله وفعله، فحصل ذات النفخ في آدم لتنبعث الحياة فيه مقرونة بالعقل وإمكان تعلم ضروب الحكمة، وهو الذي يتجلى في قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، أي ليس من برزخ بينه وبين تعلم أي موضوع وفق قواعد الخلافة في الأرض.
ويتجلى هذا النفخ في كل إنسان بالروح التي بين جنبيه، فيعلم الضروريات وما يشاء الله أن يدرك الإنسان بما يساعد في سبل تحصيل مصداق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( )، وطريق تحصيل المصداق العبادي في الأرض، من جهتين:
الأولى : إصلاح المسلمين لتعاهد عباداتهم لله بشرطها وشروطها.
الثانية : دعوة الناس للإقتداء بالمسلمين في سبل الإيمان.
الثاني : إحاطة الخلائق علماً بأمر الله عز وجل بإختيار وجعل المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] وفيه بيان يومي متجدد لعظيم قدرة الله عز وجل وسعة سلطانه، وأن ملكيته للنفوس من مصاديق[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الثالث : التوثيق السماوي لمراتب الأمم من حين هبوط آدم إلى الأرض وإلى يوم القيامة، وبيان إختصاص المسلمين بأفضل وأحسن المراتب بينها.
ومن الإعجاز أن الآية جاءت بلفظ الفعل الماضي (كنتم) ليدل على إفادة أفراد الزمان كلها وإلى يوم القيامة من غير أن تصل النوبة إلى أن معناه (صرتم خير أمة) وحده , لأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جعلت المسلمين (خير أمة) في كل جيل بالعبادة والتصديق بالنبوات والتحلي بالخشية من الله.
(وقال مرة: العبادة لا تليق بالأغنياء مثل العبادة على الغني مثل روضة على المزبلة، ومثل العبادة على الفقير مثل عقد الجوهر في جيد الحسناء، وقد استنبطنا ذلك من كتاب اللّه تعالى فمعنى وصف الفقراء في العبادة في قوله سبحانه وتعالى[لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )، ثم قال [تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا]( )، فحسنت لبسة العبادة عليهم لحسن سيماهم بالفقر، وروينا في وصية لقمان لابنه وهو يحذّره مداخل العدو , قال: وإذا جاءك من قبل الفقر فأخبره أن الغني من أطاع اللّّه تعالى والفقير من انتهك معصيته وإذا شهى إليك الغني فأخبره أنه لا يحسن جمع الغنى والقراءة)( ).
ولكن العبادة زين وبهاء لأي إنسان غنياً أو فقيراً، ذكراً أو أنثى، وكل من الغنى والفقر إمتحان وإبتلاء، والغنى مناسبة للثواب العظيم كما في أداء الزكاة وتسخير المال في مرضاة الله عز وجل، وعدم الإنشغال به عن ذكر الله وأداء الفرائض , .
وإحتج مرة لترجيح الفقراء في العبادات بقوله تعالى[لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]، وهو أيضا حجة وإكرام ووعد للأغنياء من المسلمين لأنهم يخرجون الزكاة وما هو أعم منها من الصدقات والخيرات , لذا قالت الآية التي قبلها[وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ]( ).
وعن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور( ) بالدرجات العُلَى والنعيم المقيم. فقال: “وما ذاك؟” قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق! قال: “أفلا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين”. قال: فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. قال: “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”)( ).
ويتضمن قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] الشهادة للمسلمين بعلو المنزلة بالمقارنة الأمم السابقة التي إنقضت أيامها، وبلحاظ الأمم التالية بلحاظ بقاء المسلمين في مرتبة السمو والرفعة التي تترشح عن التقوى والصلاح ليكون قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] أمر سماوي نازل كل يوم إلى الخلائق لتشهد أفعال المسلمين التي هي مصداق الخلافة في الأرض.
الرابع عشر : من إعجاز القرآن إمكان إستقراء مصاديق متعددة من كل آية قرآنية لقوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] سواء في الواجبات أو المحرمات أو المندوبات أو المكروهات أو المباحات، وما في آيات القرآن من الوصف والثناء على المسلمين بحسن السمت والسيرة.
الخامس عشر : إيمان وأعمال المسلمين العبادية حجة على الناس، وترغيب لهم بالإسلام، وهو من أسرار إنتشار المسلمين في ربوع الأرض وإختلاطهم بالناس في الجوار وميادين العمل وإتحادهم معهم في الإنتساب للقبيلة والقومية والبلد، ليكون قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] أمانة عقائدية ذات صبغة عبادية وأخلاقية في عنق كل مسلم ومسلمة ويصبحا مرآة لهذه المرتبة السامية بالتقيد بالأحكام الشرعية.
السادس عشر : المسلمون هم الأعلون بالجهاد في سبيل الله، فليس من أمة تدافع أجيالها المتعاقبة عن مبادى التوحيد وتدعو بالتضحية بالنفس إلى الإيمان إلا المسلمين، ومن البيان القرآني أن الجهاد جاء في القرآن على وجوه :
الأول : الدفاع عن بيضة الإسلام , قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ).
الثاني : التحلي بالصبر في صد العدوان عن ثغور الإسلام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثالث : الجهاد فرض كفائي على المسلمين.
الرابع : تعدد صنوف وطرق الجهاد، وعدم إختصاصها بالسيف وسوح القتال.
السابع عشر : المسلمون هم الأعلون بلحاظ آية البحث [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] لينالوا مرتبة العلو من جهات:
الجهة الأولى : قبل الإستعداد أو الخروج للمعركة لأن خروجهم في سبيل الله، قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
لتكون الآية أعلاه تزكية للمسلمين من وجوه:
الأول : توجه الخطاب التشريفي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : الإمضاء لفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحة خروجه للتهيأ للقتال.
الثالث : نعت صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآل وسلم بأنهم (المؤمنون) وفيه مسائل كل واحدة منها تدل على أن المسلمين (هم الأعلون) وهي:
الأولى : الثناء على المسلمين لإستعدادهم للبذل والتضحية في سبيل الله.
الثانية : الشهادة للمسلمين بأنهم المؤمنون، ويدل بالدلالة التضمنية على ذم أعدائهم الذين يخرجون لقتالهم لأن القتال يحصل بين الفريقين المتضادين، وضد الإيمان الكفر، وهو الذي تلبست به قريش وصار سبباً لتجهيزها الجيوش ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالثة : التوثيق السماوي لخروج المسلمين للجهاد في سبيل الله.
الرابعة : نزع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرداء الدنيا وزينتها وتقديمه الجهاد في سبيل الله، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ( )
وبينت الآية أعلاه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هجر النساء والطيب سواء بذاته أو أنه أمارة على حياة الدعة والسكينة وأعطى الأولوية للجهاد في سبيل الله أي أن الجهاد زينة الدنيا وهو أحب إليه من أي شئ.
الخامسة : إمارة وإمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في الحرب وتعبئة الجند وبيان الخطط القتالية وكيفية ملاقاة العدو، ومواقع كل جماعة وطائفة بحسب الأحوال والتضاريس، ورص الصفوف فمثلاً إختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمسين من الرماة وجعل عليهم عبد الله بن جبير وأمرهم أن يكونوا على الجبل لحماية ظهور المقاتلين , وأن لا يتركوا مواضعهم حتى في حال رؤية إنتصار المسلمين وهزيمة الكفار.
السادسة : تعيين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمواضع الجند في ساحة المعركة برزخ دون الفتنة والخلاف، ولبيان خصوصية وهي تدافع وتزاحم المسلمين في الصفوف الأمامية، وفي قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا ]( )، ذكر أن المراد مجالس القتال ومواضع القتال فكان الرجل يأتي الصف، فيقول: تفسحوا، فيأبوا لحرصهم .
وإن كان الظاهر والمتبادر هو مجالس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم كانوا يتضامّون فيه إقتراباً وحرصاً على الإستماع إلى كلامه ولا مانع من عموم المعنى ليشمل مواضع القتال وإظهار الطاعة والتعاون فيه.
ويحتمل تعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمواضع الجند في الميدان إستعداداً لمعركة أحد وجوهاً:
الأول : إنه إجتهاد من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إنه ثمرة لتجربة وخبرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القتال، وقد حضر في صباه حرب الفجار مع عمومته التي جرت بين قبيلة كنانة (ومنها قريش) وقبائل قيس عيلان مثل هوازن وغطفان وثقيف) أيام الجاهلية سنة(43-33) قبل الهجرة النبوية , ومن غرائب التأريخ أن هؤلاء الذين إقتتلوا بينهم لنحو عشر سنوات إجتمعوا على قتال النبي وأصحابه المؤمنين .
وحتى بعد فتح مكة زحفت هوازن وثقيف للإجهاز على المسلمين ومباغتتهم في كمائن في مداخل ومضايق وادي حنين ولم تنفع المسلمين كثرتهم التي أعجبت كثرتهم والذين قالوا (لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلّة) ( ). لولا فضل الله عز وجل وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان , قال تعالى[وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ]( ).
الثالث : إنه من أسرار الوحي، ومصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
والصحيح هو الثالث، ليكون تقدير الآية: وإذ غدوت من أهلك بأمرنا تبوئ للمؤمنين مقاعد للقتال بأمرنا) وهذا المعنى من بشارات وأسباب النصر للمؤمنين، وعدم تعرضهم للهزيمة في أي معركة , إن قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] إخبار عن تعرض المسلمين للخسارة والضرر ولا يختص بعالم الإمكان، بل يفيد الوقوع والحدوث.
والقرح والخسارة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ومع هذا جاءت الآية بالبشارة بأنه أي كان كم وكيف خسارة المسلمين في المعارك فانهم الأعلون , والأمة السامية التي تتعاهد إخلاص العبادة لله عز وجل.
الجهة الثانية : في ساحة المعركة وعند إلتقاء الصفين إذ يتحلى المسلمون بأمور:
الأول : اللجوء إلى الدعاء وسؤال النصر من عند الله.
الثاني : تجلي معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين في الميدان بما يبعث الخوف في قلوب الكفار، وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر ( )، بلحاظ أن مسيرة شهر هي لأبعد وأقصى مسافة وأن ما هو أقل منه يدخل بالأولوية في سبب النصر، فمسيرة يوم أو ساعة تكون من مصاديق الحديث، وكذا أوان اللقاء وتقابل الجيشين.
الثالث : تسابق المسلمين لمبارزة الأعداء شوقاً للجنة، وإيثاراً بالنفس في سبيل الله، ومن مصاديق قوله تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ]( ).
الرابع : شوق المسلمين للشهادة، وحبهم للقاء الله عز وجل وتجلي بعض الآيات في إستقبال الملائكة والحور العين للجريح منهم ليكون من مصاديق آية البحث وجهان:
الأول : إن يمسسكم قرح تتلقاكم [الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ]( ).
الثاني : إن يمسسكم قرح زوجناكم[بِحُورٍ عِينٍ]( ).
الخامس : الإقدام وبذل الوسع في ملاقاة العدو، وعدم الإنهزام في المعركة.
وتدل الوقائع التأريخية على أن القتل في الكفار هو الأكثر، عند المبارزة واللقاء مطلقاً، ومنهم فرسان موصوفون بالشجاعة يبرز لهم بعض المسلمين ليجندلوهم إلى الأرض بمرأى ومسمع من الفريقين فيكون جزء علة لهزيمة جيوش الكفار كما في معركة بدر والخندق وغيرها.
السادس : مصاحبة ذكر الله للمسلمين في ميدان المعركة، وحرصهم على الصلاة في أوقاتها، لذا شرعت صلاة الخوف.
السابع : مجئ المدد للمسلمين من السماء، ونزول الملائكة لنصرتهم.
الجهة الثالثة : المائز الذي يتصف به المسلمون بعد إنتهاء المعركة , وفيه وجوه:
الأول : عصمة المسلمين من الضعف والوهن وهو مرتبة من مراتب العلو، ومقدمة لبلوغها.
الثاني : تقسيم المسلمين الغنائم وفق ضوابط وقواعد شرعية، خالية من الإجحاف والظلم.
الثالث : خروج المسلمين بالنصر والظفر في المعركة.
الرابع : شكر المسلمين لله عز وجل على التوفيق للجهاد في سبيله تعالى.
الثامن عشر : المسلمون هم الأعلون بدوام ذكر الله والتسبيح والتهليل، ويحب الله عز وجل ذكر عباده له ، لا عن حاجة لهذا الذكر فهو سبحانه[الَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( )، وهذا الذكر لمنفعة الناس أنفسهم في النشأتين، ومن الآيات أن يسبح الفرد لله فتأتي النعمة للجماعة وتؤدي(خير أمة) الصلاة اليومية فتنزل البركات على أهل الأرض جميعاً.
إن موضوع ذكر الله ميدان للتسابق بين الأمم في بلوغ مراتب الرفعة والعلو، وليس من حصر لموضوعات الذكر إذ لا يختص بما يجري على اللسان فيشمل العبادات مطلقاً كالصلاة والصيام والحج والزكاة لذا يشترط بأداء أي عبادة قصد القربة إلى الله عز وجل، وهذا القصد من مصاديق الذكر، قال تعالى[وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ]( ).
وآية البحث من إعجاز القرآن لأن العقول تغرق في ذخائرها وكنوزها، إذ تتعدد معانيها، من غير تعارض بينها وتكون النسبة بينها التساوي والعموم والخصوص المطلق والعموم والخصوص من وجه، ونسبة المطلق والمقيد , ويصدق الواجب العيني في الذكر على قراءة المنفرد في الصلاة , والكفائي على قراءة الإمام، أما ذات الصلاة فهي من الذكر الواجب والفرض العيني على كل مكلف ليكون من معاني أفعل التفضيل(أكبر) في الآية أعلاه تعدد الذكر في الموضوع العبادي المتحد، وهو من مصاديق نيل المسلمين مرتبة (الأعلون) وفيه دعوة للناس للإجتهاد في عبادة الله، فليس من برزخ أو حائل بينهم وبين العبادة والتقوى.
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى(ولذكر الله أكبر) قال: ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه)( ).
وهل يكون من المعاني المترشحة عن قوله تعالى(ولذكر الله أكبر) أن الأمة التي تكون أكثر ذكراً لله عز وجل هي الأمة الأعلى بين الأمم، الجواب صحيح أن المسلمين هم أكثر الأمم ذكراً لله عز وجل وإلى يوم القيامة وهم الأمة الأعلى والأكبر شأناً إلا أن إستقراء هذا المعنى من الآية أعلاه يحتاج إلى واسطة ودليل ثانوي من آية قرآنية أو سنة نبوية كما في قوله تعالى(فأذكروني أذكركم) , ومن الشواهد عليه أن المسلمين هم أكثر الأمم في عباداتهم وتقيدهم بها .
بشارات القرآن
جاءت آيات البشارة وهي:
الأول : البشارة لبني آدم مطلقاً على الهدى , قال تعالى[فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ). ومن الإعجاز في الوعد في الآية أعلاه مسائل:
الأولى : مجئ هذه الآية وما فيها من الوعد الكريم عند هبوط آدم وحواء إلى الأرض.
الثانية : ورود هذه الآية في بدايات سورة البقرة لترغيب الناس بالهدى والإيمان.
الثالثة : هذا الوعد عهد من عند الله مصاحب للناس وإلى يوم القيامة، ويكون هذا العهد حاضراً بأبهى حلة ويشع منه ضياء يملأ الخافقين تراه الخلائق كلها ليستنير به أهل الهداية ويسعون إلى مصدر الضياء لاجئين مستجيرين من أهوال الآخرة.
الرابعة : بيان فضل الله على الناس بعدم التخلية بينهم وبين الشيطان , فالهدى جلي وقريب من الناس في كل زمان، وهو من مصاديق علم الله عز وجل في إصلاحهم لخلافة الأرض عندما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بقولهم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الخامسة : دعوة المسلمين للتصديق بالنبوات السابقة.
الثاني : الوعد والإكرام للمؤمنين والصالحين من أتباع الأنبياء، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثالث : البشارة للذي أخلص دينه لله عز وجل وفوض أمره إليه سواء قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق بالأنبياء أو بعدها والتصديق برسالته , وتنزه عن الشرك ومفاهيم الضلالة ودرن النفاق، قال تعالى[مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ومن الإعجاز أن ذات الآية أعلاه جاءت بصيغة المضارع أيضاَ قال تعالى[وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى]( ).
الرابع : البشارة والوعد الكريم للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، ، لأن فعلها يصدر عن خصال الإيمان والتقوى، ورجاء الثواب من عند الله، وفيه ترغيب بالإيمان وبيان للملازمة بينه وبين عمل الصالحات ومنها أداء العبادات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس : البشارة بالأجر العظيم للمؤمنين الذين يبذلون المال في طاعة الله , ويخرجون الزكاة والخمس قربة إليه سبحانه، قال تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
السادس : الوعد الكريم للمسلمين الذين يواظبون على أداء الفرائض، ومنها تعاهد الصلاة ودفع الزكاة.
السابع : الوعد الكريم للذين يقتلون في سبيل الله ودفاعاً عن الإسلام، ومن أجل إعلاء كلمة التوحيد في الأرض , عن عدي بن حاتم قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءه رجلان احدهما يشكو العيلة والاخر يشكو قطع السبيل , فقال لا يأتي عليك الا قليل حتى تخرج المرأة من الحيرة إلى مكة بغير خفير ولا تقوم الساعة حتى يطوف احدكم بصدقته فلا يجد من يقبلها ثم ليفيض المال ثم ليقفن احدكم بين يدى الله ليس بينه وبينه حجاب يحجبه ولا ترجمان فيترجم له فيقول الم اؤتك مالا فيقول بلى فيقول الم ارسل اليك رسولا فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى الا النار وينظر عن يساره فلا يرى الا النار فليتق احدكم النار ولو بشق تمرة فان لم يجدها فبكلمة طيبة( ).
الثامن : لايختص زمان ومكان البشارة بيوم القيامة , بل تشمل الدنيا وعالم البرزخ، بلحاظ أن القبر من مصاديق الآخرة لما فيه من إنقطاع الإنسان عن الدنيا والعمل فيها، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: أتى جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وآله فأخذه فأخرجه إلى البقيع فانتهى به إلى قبر فصوت بصاحبه فقال: قم بإذن الله، فخرج منه رجل أبيض الرأس واللحية يمسح التراب عن وجهه وهو يقول: الحمد لله والله أكبر، فقال جبرئيل: عد بإذن الله، ثم انتهى به إلى قبر آخر فقال: قم بإذن الله فخرج منه رجل مسود الوجه وهو يقول، يا حسرتاه يا ثبوراه، ثم قال له جبرئيل: عد إلى ما كنت بإذن الله، فقال: يا محمد هكذا يحشرون يوم القيامة، والمؤمنون يقولون هذا القول، وهؤلاء يقولون ما ترى( ).
وقد تقدم قانون (الدنيا دار البشارة) ، لتكون البشارات في الدنيا طريقاً إلى الهداية، ومادة للرشاد، وموضوعاً للتآزر والأخوة بين المسلمين وهو من مصاديق قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( )، بلحاظ أن كل فرد وتعاون في هذا الباب صلاح للذات والغير، ودعوة للإيمان ونبذ للشرك والضلالة.
الجمع بين[وَلاَ تَهِنُوا][ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ]
إبتدأت الآية السابقة بأداة النهي (لا) وجاءت على نحو متكرر ومتعاقب مما يدل على موضوعية كل فرد من السلامة من الوهن والعصمة من الحزن في حياة المسلمين، ليكون من القوانين العامة التي تصاحب المسلمين أمران:
الأول : عدم الوهن أو الضعف والإعياء.
الثاني : التوقي من الحزن وشدة الأسف وكثرة الهم على ما فات , ليتعاهد المسلمون مرتبة (الأعلون) التي تتضمن الآية نيل المسلمين لها بفضل ولطف من عند الله عز وجل.
ويحتمل النهي في الآية السابقة وجوهاً:
الأول : النهي عن الوهن لذاته.
الثاني : النهي عن الحزن لذاته.
الثالث : النهي عن الوهن لذاته وأما الحزن فإن النهي عنه لغيره.
الرابع : النهي عن الحزن لذاته، أما النهي عن الوهن فأنه لغيره.
الخامس : النهي عن الوهن والحزن وشدة الأسى مطلوب لغيره.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية، ويدل على هذا الإطلاق والتعدد ما جاء في الآية السابقة[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] من جهات:
الأولى : التباين بين مرتبة العلو وكل من الوهن والحزن.
الثانية : حاجة مرتبة العلو إلى السلامة من الوهن والحزن.
الثالثة : من رشحات مرتبة العلو التوقي من الوهن والحزن.
الرابعة : الأمة التي تبلغ مرتبة العلو تدفع أضرار الوهن والحزن.
الخامسة : من اللطف الإلهي بالأمة الأعلى من بين الأمم تحذيرها من الوهن والحزن، وإعانتها على الأمن والإحتراز منهما.
وتبين الآية التباين بين الأمم وأهل الملل بخصوص الوهن والحزن وأسباب كل منهما , ومدى التأثر والإنفعال بهما، فيصيب الوهن الكفار من أدنى شئ، بينما يتسلح المسلمون بالصبر من جهات:
الأولى : عند نزول المصيبة والخسارة، ولجوؤهم إلى الذكر والإسترجاع، قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
الثانية : إتخاذ المسلمين الصبر جناحاً لإنجاز الرغائب وتحقيق الأماني في مرضاة الله.
الثالثة : الصبر واقية من الخوف، ويتجلى بحسن التوكل على الله عز وجل، وقيل: التوكل يكون مجاهدة بترك الأسباب ثم يكون مكابدة بالصبر على مرارة تصرفات الأقدار( ).
ولا دليل على التنافي بين التوكل والأسباب، وإشتراط تركها في صدق التوكل على الله عز وجل، فمن بركات التوكل إختيار أحسن الأسباب وتيسيرها، وتسخيرها.
وقال عمرو بن أمية قلت: يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل، قال : إعقلها وتوكل ( )، والتوكل موضوع للتخفيف عن الإنسان وسبب لرزقه من حيث يحتسب، ويكون الصبر مدداً مترشحاً عن التوكل، وفيه تبديد وتشتيت لمرارة الإبتلاء، قال تعالى[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
وقوله تعالى[فَهُوَ حَسْبُهُ] يفوق في دلالاته ومنافعه التصور الذهني، ويتعدى ذات الموضوع الذي لجأ فيه العبد إلى الله متوكلاً مستجيراً، وكذا إذا إتخذ التوكل جلباباً ورداءً ملازماً فاذا سأل المسلم كيف السبيل إلى السلامة من الوهن والحزن كان الجواب هو التوكل على الله.
ويكون تقدير الآية: ولا تهنوا ولا تحزنوا بالتوكل على الله، وفيه مسائل:
الأولى : بعث السكينة في النفوس.
الثانية : الترغيب بالإسلام.
الثالثة : تجلي منافع الإيمان للفرد والجماعة، والذات والغير، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( )، وإذا كان التوكل على الله سبباً لتزيين الإيمان وزيادته في القلوب فان الإيمان علة لإتخاذ التوكل منهجاً في أمور الدين والدنيا، وواقية من الشرور ومدلهمات الأمور.
ويجتمع في الآيتين النهي ولغة الشرط مع إتحاد جهة الخطاب وإرادة المسلمين على نحو الخصوص من بين الناس، إذ يدفع عدم الوهن والضعف المسلمين للسعي في مرضاة الله والجهاد في سبيله، وقد يترشح عنه الخسارة وسقوط القتلى وما هو أعم، كما لو كان السعي والمرابطة سبباً لقلة الموارد والقصور في الكسب والتجارات وسبل المعاش وتعطيل الزراعات.
وتقدير الجمع بين أول الآيتين على وجهين:
الأول : ولا تهنوا إن يمسسكم قرح.
الثاني : إن يمسسكم قرح لا تهنوا.
وبين الوجهين عموم وخصوص مطلق، فالمراد من الوجه الأول إتخذوا من عدم الوهن والضعف وسلة لملاقاة البلاء والضرر، وحرزاً وسلاحاً تخوضون به غمار المعارك ، ويفيد المعنى الأعم بلحاظ لغة الشرط أي إذا أصابتكم الخسارة فلا تهنوا.
وأما الوجه الثاني فمعناه إذا تعرضتم للخسارة والإنكسار والهزيمة في معركة فلا تهنوا ولا تضعفوا.
ويتجلى العموم بالوجه الأول بارادة الإستمرار في عدم الوهن والضعف، ولا تظهر الحاجة له عند الخسارة والهزيمة وحدها، بل هي مطلقة حتى في حال النصر والغلبة، وفي أحوال السلم، والحضر والسفر.
أما بالنسبة للوجه الثاني فيفيد لزوم التسلح بعدم الوهم عند نزول الخسارة بالمسلمين، ولا يعني الحصر بهذه الحالة لأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
وجاءت الآية بتقديم النهي على الوهن والضعف، وفيه أمور:
الأول : أولوية زمن المستقبل على الماضي ليس لذات أفراد الزمان وحدها بل لترجيح موضوعية المستقبل في الأحداث وماهية الوقائع على الأرض.
الثاني : ضرورة التحلي بالعزيمة وقوة الإرادة والقدرة على التحمل في الدفاع عن بيضة الإسلام.
الثالث : الوهن طريق إلى الحزن المتعدد والمستمر.
الرابع : عدم الوهن سبيل للتدارك وإزاحة للحزن عن النفوس والمجتمعات، وهذا السبيل متعدد من جهات:
الأولى : ترك الوهن والخور والجبن حسن ذاتاً.
الثانية : في إجتناب الضعف والجبن منعة وقوة .
تجمع الآيتان بين النهي والخبر مع التباين الموضوعي بينهما فعدم الوهن خاص بالمؤمنين، والإصابة بالقروح والخسارة خاصة بعدوهم، فان كلاً منهما بشارة للمسلمين وحسرة على الكافرين.
وقد يسأل بعضهم كيف يكون النصر حليف المسلمين مع قلة عددهم ومؤنهم، وتكون الخسارة والخزي مصاحبين للكفار مع كثرتهم وعدتهم ووجود الفرسان بين ظهرانيهم، والجواب من وجوه:
الأول : نزول النصر بمشيئة الله، قال سبحانه[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
الثاني : مجئ المدد المتعدد للمسلمين، ومنه نزول الملائكة لنصرتهم , ونزول هذه الآية بالزجر عن الوهن والنهي عن الحزن.
الثالث : تبعث هذه الآيات الفزع والرعب في قلوب الكفار.
الرابع : إتصاف المسلمين بالتعضيد فيما بينهم ، ومسارعتهم في الجهاد وبذل النفوس شوقاً للقاء الله سبحانه.
الخامس : تخويف الكفار بعضهم لبعض.
السادس : إستيلاء الحزن على نفوس الكفار من جهات:
الأولى : كثرة قتلى الكفار في معركة بدر.
الثانية : سقوط كبراء الكفار في معركة بدر ممن كان لهم شأن ومنزلة بين العرب وغيرهم.
وعن ابن إسحاق: انه لما أصيب أصحاب القليب يوم بدر وقدم زيد بن حارثة إلى اهل السافلة و عبدالله بن رواحة إلى اهل العالية بشيرين بالفتح قال كعب وكان رجلا من طيء ثم احد بنى نبهان وكانت امه من بني النضير , أحق هذا أترون ان محمدا قتل هؤلاء الذين يسمي هذا الرجلان فهؤلاء اشراف العرب وملوك الناس والله ان كان محمد اصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها( ).
الثالثة : تخويف الشيطان للكفار، قال تعالى[إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ]( ).
وقد يقوم الشيطان باستدراج الكفار للوقوع في الهلكة ثم يتبرأ منهم، فعندما أرادت قريش غزو المدينة وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ذكرت ما كان بينها وبين بني بكر من العداوة، وخشيت قريش أن تفتك بها هذه القبائل من خلفها، وكاد هذا الأمر والخوف يثنيهم عن الخروج فتمثل لهم إبليس في هيئة سُراقة بن مالك المدلجي سيد بني كنانة وكان كافراً، فقال: انا جار لكم من ان تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه فخرجوا سراعا ( ).
السابع : توالي نزول آيات الإنذار والوعيد للكفار، وما تدل عليه بالدلالة التضمنية من ذمهم وتقبيح إصرارهم على الإقامة في منازل الجحود مع توالي المعجزات ودلائل النبوة، ومن خصائص هذا الذم مسائل:
الأولى : صيرورة الكفار في حال خوف وفزع.
الثانية : تفكر الكفار بمآلهم يوم القيامة بلحاظ أن آيات الإنذار تقربه وأهواله إلى الأذهان، وتجعله حاضراً عند الإنسان وفي المجتمعات، ويكون الإستكبار والعناد عند الكفار من الكلي المشكك فهو على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، فيتبدل ويفتضح عند أكثرهم مع توالي آيات الإنذار، وهو من أسرار دخول كبرائهم الإسلام مرة واحدة.
الثالثة : إعانة المسلمين في القتال وعدم الوهن أو الخشية من الكفار إذ تدل هذه الآيات على بطلان نهج الضلالة الذي يسلكون ولزوم توبتهم.
ويحتمل عدم وهن المؤمنين بخصوص ما أصاب الكفار وجوهاً:
الأول : زيادة وتعدد جراحات الكفار.
الثاني : بقاء جراحات الكفار على حالها ومرتبتها.
الثالث : النقص والقلة في جراحات الكفار.
والصحيح هو الأول ، وهو من الإعجاز في نظم هذه الآية والآية السابقة، فمن خصائص عدم الوهن في المقام أمور:
الأول : مبادرة المؤمنين للنفير.
الثاني : إمتناع المؤمنين عن الفرقة والخصومة والخلاف الذي يضعف همتهم.
الثالث : محاصرة النفاق، وإزدراء أهله.
الرابع : إمتلاء نفوس الكفار بالفزع والخوف، وهل هذا الفزع من القرح الذي تذكره آية البحث، الجواب لا، إذ أن القدر المتيقن من القرح هو الجراحات والخسارة في النفوس والأموال التي أصابت الكفار في معركة بدر وأحد وفي كساد تجارتهم، وإنكسار شوكتهم وذهاب هيبتهم بين القبائل.
و(لا تهنوا) نهي يتضمن الإكرام للمؤمنين ليكون من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أمور:
الأول : تلقي النهي عن الوهن والضعف من عند الله عز وجل فليس من أمة وإلى يوم القيامة تتلقى النهي عن الوهن والضعف من عند الله عز وجل غير المسلمين.
الثاني : مجيء العون والمدد من عند الله عز وجل للمسلمين ببلوغ مرتبة عدم الوهن والخوف أي بالوقاية والسلامة من الوهن والخوف والجبن.
ومن مصاديق الإعجاز في النواهي الإلهية وجوه:
الأول : النهي عن مقدمات وأسباب المنهي عنه.
الثاني : حضور المنع في الوجود الذهني.
الثالث : ما أن يداهم الفعل المسلم حتى يستذكر النهي والحرمة، والعقاب على الفعل , والثواب على ترك المهني عنه.
الرابع : اللطف الإلهي المتجدد بدفع المؤمن عن الحرمات في كل مراحل الهم والعزم على الفعل ومحاولة إرتكاب المآثم، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]( )، إكرام يوسف النبي عليه السلام بالعصمة من المعصية عند حال الهم بالفعل لتكون الآية تأسيساً لقاعدة كلية , وهي أن الأنبياء والأولياء يأتيهم اللطف الإلهي من جهات:
الأولى : مجيء اللطف قبل مرحلة الهم بالفعل المنكر، فلا يقع.
الثانية : عدم طرو فعل السيئات على القلب والخاطر.
الثالثة : دفع السيئة والفاحشة حالما يهم بها الطرف الآخر، والشواهد التأريخية عليه كثيرة ومتعددة، ومنها ما جاء محاكاة وإقتداء الله يوسف عليه السلام، فحالما همت امرأة العزيز بالفاحشة صرفها الله عز وجل عنه، فلم تقع حتى مقدمات الفاحشة، ليكون من مصاديق قوله تعالى[إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( )، علة لهذه العصمة والسلامة وعدم حصرها بالأنبياء وحدهم، بل تشمل كل الذين أخلصوا الطاعة لله(وفي قصة عيسى عليه السلام ورد عن أبي لبابة قال: قال الحواريون: يا روح الله، أخبرنا عن المخلص لله. قال: الذي يعمل لله، لا يحب أن يحمده الناس)( ).
وليس من تقييد لصيغ اللطف الإلهي الزاجر عن المعصية وهل لتقوى العبد موضوعية في فورية حضوره وكيفيته وسرعة أثره وعموم نفعه، وبقاء موضوعه كحصانة.
وفي يوسف عليه السلام ورد عن ابن أبي مليكة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “فَلَمْ يَتَّعِظْ بِالنِّدَاءِ، حَتَّى صَكَّهُ جِبْرِيلُ فِي صَدْرِهِ، فَطَارَتْ كُلُّ شَهْوَةٍ فِي رَأْسِهِ، فَخَرَجَتْ مِنْ أَنَامِلِهِ، فَوَثَبَ إِلَى الْبَابِ، فَوَجَدَهُ مُغْلَقًا، فَرَفَعَ يُوسُفُ رِجْلَهُ، فَضَرَبَ بِهَا الْبَابَ الأَدْنَى، فَانْفَرَجَ لَهُ، فَانْفَرَجَتْ لَهُ الأَبْوَابُ الَّتِي دُونَهُ، وَاتَّبَعَتْهُ فَأَدْرَكْتُهُ عِنْدَ آخِرِ بَابٍ مِنْهَا( ).
الأمر الثالث : بيان حاجة الديانة الناسخة إلى عدم الوهن وإتخاذ بلغة لتثبيت معالم الإسلام وأحكام الشريعة في الأرض.
الأمر الرابع : التنبيه والتحذير للمسلمين بأن عدوهم وهم الكفار يعدون الجيوش ويسخرون المؤون والأموال للصد عن سبيل الله ومحاربة أهل الإيمان، فمع الوهن والخوف يزحفون للهجوم على المؤمنين ، ومن مقدماته قول المنافقين[أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]( )، فهذا القول نوع تحريض على المؤمنين، ويدل بالدلالة الإلتزامية على نية الإجهاز عليهم مع تهيئ الأسباب ومنها ظهور الوهن والجبن والحزن على المسلمين .
فتفضل الله عز وجل وقطع هذا السبب وزاد من فضله بأن أمر المسلمين أن يحزنوا , وفيه شاهد على سوء نوايا الكفار وقيامهم بالتعدي والدعوة للقتال والهجوم على ثغور المسلمين وسقوط الجرحى والشهداء من بين صفوف المسلمين وكما خاطب الله عز وجل النار التي أُلقي فيها إبراهيم[كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )، ليقترن الأمن والسلام مع البرد فيحول دون إنجماده، فكذا وردت هذه الآيات باجتماع أمور:
الأول : النهي عن الوهن والضعف .
الثاني : النهي من إستحواذ الحزن على نفوس ومجتمعات المسلمين.
الثالث : التذكير بالإيمان بقوله تعالى[إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، ليكون مدداً لهم وبرزخاً دون التقيد بالنهي الوارد في الآية السابقة، لتخبر الآية عن الملازمة بين الإيمان وعدم الوهن ، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : المؤمنون لا يهنون ولا يحزنون.
الصغرى : المسلمون هم المؤمنون.
النتيجة : المسلمون لايهنون ولا يحزنون.
الرابع : وقوع الخسارة والجراحات في المسلمين لقوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] .
وتحتمل الجراحات بلحاظ الآية السابقة وجوهاً:
الأول : كثرة وشدة الجراحات مع الوهن والتلبس بالحزن.
الثاني : خفة وقلة الجراحات مع تقيد المسلمين بالنهي عن الوهن والحزن.
الثالث : مرتبة الوسط في الجراحات في حال إمتناع المسلمين عن الوهن دون الحزن أو العكس.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , لأصالة الإطلاق .
الخامس : تجلي صبغة الإيمان للناس جميعاً بجهاد المسلمين، لقد أبى الله عز وجل إلا أن توجد أمة مؤمنة في كل زمان تتعاهد صيغ الطاعة لله سبحانه، وتتخذ من العبادة صفة ملازمة وحلية لها، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
السادس : رجاء المسلمين الثواب العظيم من عند الله عز وجل وهو بلغة وغاية ليس مثلها شيء في تحقيق النصر والغلبة، وهم من مصاديق قوله تعالى[وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ]( ).
السابع : بيان النسبة بين المؤمنين والكفار، وهي العموم والخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء هي إحساس كل من الفريقين بالألم .
ومادة الإفتراق أن المؤمنين يرجون فضل الله , والكفار لا يرجون شيئاً.
لتكون هي ذات النسبة في آية البحث، ويكون تقديرها:إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وترجون من الله ما لا يرجون)، ومن الإعجاز في صيغة التنكير في الآية أعلاه(ما لا ترجون) تعدد معاني ومصاديق رجاء المؤمنين في الآية ومنها:
الأول : رجاء فضل الله عز وجل الظاهر والخفي.
الثاني : النصر والغلبة من عند الله.
الثالث : تخفيف الألم عن المؤمنين.
الرابع : بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الخامس : الخزي والهزيمة للكفار.
السادس : نزول المدد من عند الله وهو أمر يختلف عن المدد بين الناس إذ ينزل الله عز وجل الملائكة لنصرة المؤمنين، وأختلف في نزول الملائكة من وجهين:
الأول : نزلت الملائكة حقيقة كما ينزل الجسم والجوهر من المكان العالي إلى مكان أسفل منه، وهو على شعب:
الأولى : نزلت الملائكة , وقاتلت يوم بدر وأحد الخندق.
الثانية : نزلت الملائكة ولم تقاتل فوقفت وحضرت يوم بدر.
الثالثة : نزل الملائكة لزيادة السواد وتثبيت أقدام المؤمنين وإلا فقد رفع جبريل بريشة من جناحه قوم لوط فأهلكهم.
الثاني : لم تنزل الملائكة حقيقة، إن هي بشارة ووعد .
والمشهور شهرة عظيمة هو الشعبة الأولى من الوجه الأول، وهو المختار، وتكون الشعبة الثانية والثالثة في طولها .
وفيه نصوص تصل إلى حد التواتر , قال الواقدي: فروي عن سهيل بن عمرو قال : لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض معلمين يقبلون ويأسرون . قال الواقدي وكان أبو أسد الساعدي يحدث بعد أن ذهب بصره ويقول : لو كنت معكم الآن ببدر و معي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك فيه و لا أمتري .
قال وكان أسيد يحدث عن رجل من بني غفار حدثه قال أقبلت أنا و ابن عم لي يوم بدر حتى صعدنا على جبل ونحن يومئذ على الشرك ننظر الوقعة , وعلى من تكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب إذ رأيت سحابة دنت منا فسمعت منها همهمة الخيل وقعقعة الحديد وسمعت قائلا يقول أقدم حيزوم فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات وأما أنا فكدت أهلك فتماسكت وأتبعت بصري حيث تذهب السحابة فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثم رجعت وليس فيها شي ء مما كنت أسمع).
فمن إعجاز آية البحث وجوه:
الأول : الإكتفاء بالمس في الجراحات، وليس مخالطة الأبدان والأعضاء والمجتمعات.
الثاني : ذكر القرح والجراحات دون القتل والهلاك وضياع الأموال، وتعرضها للنهب والسلب من قبل الأعداء.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجليات المدد الإلهي له ولأصحابه أن الكفار جاءوا في السنة الثالثة للهجرة في معركة أحد بثلاثة آلاف مقاتل ولم يستطيعوا الوصول إلى أطراف الدينة مع أن جش المسلمين أقل من ربع عددهم، قم جاءوا بعدها بعشرة آلاف مقاتل في معركة الخندق فعجزوا عن إقتحام المدينة مع بقائهم سبعاً وعشرين ليلة على مشارفها في خزي لحق بقريش وغطفان إنكسرت هيبتهم بعده وضعف شأنهم بين القبائل وعند الدول.
ومن خصائص وآثار هذا العجز والإخفاق وجوه:
الأول : دخول الناس في الإسلام جماعات وأفواجاً.
الثاني : إعلان المستضعفين في مكة وغيرها إسلامهم، بعد أن كانوا يخفونه.
الثالث : قوة ومنعة المسلمين في المدينة.
الرابع : وهن وضعف المنافقين والفاسقين الذين يريدون السوء بالإسلام.
الخامس : هذا العجز والإخفاق شاهد عملي على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : تخلف القبائل والأحلاف والأحابيش عن الإستجابة لدعوة قريش لقتال المسلمين.
السابع : لحوق الضرر والخسارة لتجارة قريش، وتجرأ أفراد عليها بعد أن كانوا يكرمون قريش لجوارهم للبيت الحرام، وزال هذا الإكرام والسكوت عن قوافلهم حينما قاموا بتجهيز الجيوش الكبيرة ويخوضون المعارك ضد النبوة والإيمان.
الثامن : إظهار الذين مالأوا الكفار الندم والحسرة.
التاسع : إمتثال المؤمنين لأمر الله , وإظهارهم طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين لقتال، وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب الكفار.
وعن عروة ومحمد بن كعب القرظي قالا : لما أقبلت قريش عام الأحزاب ، نزلوا بمجمع الأسيال من بئر رومة بالمدينة قائدها أبو سفيان، وأقبلت غطفان حتى نزلوا بتغمين إلى جانب أحد ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر ، وضرب الخندق على المدينة وعمل فيه ، وعمل المسلمون فيه ، وابطأ رجال من المنافقين ، وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا اذن .
وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لابد منها ، يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق لحاجته ، فيأذن له فإذا قضى حاجته رجع ، فأنزل الله في أولئك المؤمنين [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ] إلى قولهوَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
الأمر الخامس : من مصاديق[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، رؤية الناس جميعاً لإمتثال المسلمين لأمر الله عز وجل في عدم الوهن والخوف من جهات:
الأولى : بقاء المسلمين على ذات المرتبة من المنعة والقوة مع قلة عددهم والنقص الظاهر في مؤونهم وأسلحتهم.
الثانية : كثرة عدد المسلمين والمسلمات , وإزدياد عددهم طردياً.
الثالثة : الذين يدخلون الإسلام لا يغادرونه مما يدل على إدراكهم لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : تقديم المسلمين قوافل الشهداء من دون أن يستولي الحزن على نفوسهم، أو تفتر همتهم في الدفاع عن الإسلام و( كان الذين استشهدوا من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا، من المهاجرين ستة وهم: عبيدة بن الحارث بن المطلب، قطعت رجله فمات بالصفراء رحمه الله، وعمير بن أبى وقاص، أخو سعد بن أبى وقاص الزهري قتله العاص بن سعيد وهو ابن ست عشرة سنة، ويقال إنه كان قد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع لصغره فبكى فأذن له في الذهاب فقتل رضى الله عنه، وحليفهم ذو الشمالين ابن عبد عمرو الخزاعى، وصفوان بن بيضاء، وعاقل بن البكير الليثى حليف بني عدي، ومهجع مولى عمر بن الخطاب وكان أول قتيل قتل من المسلمين يومئذ.
ومن الانصار ثمانية وهم: حارثة بن سراقة رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فمات، ومعوذ وعوف ابنا عفراء، ويزيد بن الحارث، ويقال: ابن فسحم، وعمير بن الحمام، ورافع بن المعلى بن لوذان، وسعد بن خيثمة، ومبشر بن عبد المنذر رضى الله عن جميعهم.وكان مع المسلمين سبعون بعيرا كما تقدم.قال ابن إسحاق: وكان معهم فرسان على أحدهما المقداد بن الاسود واسمها بعزجة، ويقال سبحة، وعلى الاخرى الزبير بن العوام واسمها اليعسوب( ).
صلة قوله تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ][ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]
مع إتحاد صيغة الخطاب، وإرادة المسلمين في كلتا الآيتين، فهناك تباين موضوعي في المقام.
إذ يتضمن قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] أموراً:
الأول : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بنيل أسمى المراتب بين الناس.
الثاني : الشهادة للمسلمين بالتقوى والصلاح.
الثالث : البشارة للمسلمين والمسلمات بتعاهد أبنائهم منهج الإيمان وحفظهم لسنن عبادة الله، والتنزه عن الشرك والضلالة، لكبرى كلية وهي أن الخطاب الإلهي[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] دائم ومتجدد في كل زمان.
الرابع : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة العلو وأسبابها وما يترشح عنها.
أما أول آية البحث [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] ففيه بيان للأذى الذي يلحق المسلمين في ميادين القتال.
ليكون لنعت المسلمين بأنهم الأعلون موضوعية في كيفية تلقي المسلمين لهذا الأذى من جهات:
الأولى : التخفيف عن المسلمين في ذات القرح والجراحات.
الثانية : منع دبيب اليأس والقنوط لنفوس المسلمين.
الثالثة : عدم خشية المسلمين من مضاعفة وكثرة القرح، وصيرورته سبباً للإنكسار والتخاذل، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلامة المسلمين من الجبن والخور في القتال، قال تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ).
ونزلت الآية أعلاه في معركة أحد بخصوص حيين من الأنصار، وذكرت خصوص الهم أو العزم على الفعل والإرادة النفسية للفشل والخور، وقد يطلق الهمّ على حب الشئ والميل إليه وإيلائه عناية كما يقال: هذا الأمر أهمني، والمراد في الآية هو المعنى الأول، مثل همّ امرأة العزيز الوارد في قوله تعالى[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( )، فان قلت إن امرأة العزيز مزقت قميص يوسف عليه السلام أي أرادت جذبه وإبتغت السوء والجواب هذا أمر آخر غير الهم المذكور في الآية أعلاه .
ليفيد الجمع بين هذه الآية وآية البحث أن الله عز وجل ينجي المؤمنين من الفشل في ميدان المعركة كما عصم يوسف عليه السلام من همّ وفعل امرأة العزيز، وفيه شاهد على وراثة المسلمين للأنبياء في مواطن الإبتلاء والأذى ولا غرابة أن يتفضل الله وينزل الملائكة مدداً للمسلمين يوم أحد لنصرتهم، ودفع الهم بالفشل عن طائفة منهم، ليدل بالدلالة التضمنية على سلامة طوائف المسلمين، وعموم المقاتلين الآخرين من ألهم بالفشل.
وكانت ولاية ولطف الله بهم برزخاً دون حدوث هزيمتهم أو إنسحابهم من المعركة , وفيه شهادة لهم بمزاولة القتال والمسايفة في ميدان المعركة وعدم الفشل أو الجبن أو الخوف من جيوش قريش.
وذكرت الآية ولاية الله بخصوص الطائفتين من الأنصار، وفيه مسائل:
الأولى : إرادة إختصاص موضوع الآية بالطائفتين.
الثانية : بيان الأولوية القطعية في ولاية الله لجميع المقاتلين من الصحابة بلحاظ أن غير الطائفتين لم يهموا بالفشل لولاية الله عز وجل لهم.
فقد جاءت قريش بخيلها وخيلائها، وقاتلت بضراوة , فتغشت السكينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة، ورزقهم الله عز وجل الصبر في ميادين القتال، لذا ورد في قراءة عبد الله (والله وليهم)( ).
أي بصيغة الجمع، وتحتمل وجهين:
الأول : الرجوع إلى صيغة الجمع كما في قوله تعالى[هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ]( )، ولأن الإثنين أقل الجمع.
الثاني : إرادة الرجوع إلى الآية السابقة لها، وهي[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، والمقصود ولاية الله لجميع المؤمنين الذين إشتركوا في القتال يوم أحد.
ولا تعارض بين الوجهين وإن كان بين موضوعيهما عموم وخصوص مطلق، لأن الآية قانون مستديم لايختص بمعركة أحد , وهل سلامة المؤمنين من القتال والجرح يوم الخندق من مصاديق الولاية والتخفيف والنصرة في قوله تعالى[وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] الجواب نعم، ومن ولايته تعالى نصر المؤمنين مع قلة عددهم، قال تعالى[فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
وتحتمل الجملة الشرطية في أول آية البحث وجوهاً:
الأول : إن يمسسكم قرح وانتم الأعلون، ومن أفراد موضوعية (الواو) أن المسلمين يتلقون القرح والكلوم من مقامات الرفعة والعلو، وفيه زيادة في ذم الكفار وإنذار لهم لأنهم يصرون على الإعتداء على[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فالأصل أن يكرم الناس جميعاً الأمة الأعلى من بين أهل الملل وينصتوا إليهم وينتفعوا منهم، لا أن يجهزوا عليهم الجيوش ويروموا قتلهم وإطفاء ضياء النبوة الذي أراد الله عز وجل له أن يشع على ربوع الأرض، قال تعالى[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
الثاني : تأكيد قانون عموم الإبتلاء والإمتحان في الدنيا، وأن الأمة الأعلى لا تسلم منه، ومن الآيات أن إبتلاءهم لا يأتي من أسباب وآفات كونية سماوية أو أرضية بل من إخوانهم في الإنسانية ومن ذات قبائلهم وعشائرهم إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من سادة قريش , وكذا شطر من المهاجرين.
الثالث : من أسباب النصر في القتال الطمأنينة وإدراك المقاتل أنه على حق، ويسعى إلى هدف معلوم، وقد أنعم الله عز وجل على المؤمنين بهذه الخصال، وزادهم من فضله بأن شهد لهم بأنهم ( الأعلون) في كل زمان ومكان وعند ملاقاة الأسنة، لتكون هذه الشهادة باعثاً على الطمأنينة.
الرابع : تقدير الآية : أن يمسسكم قرح وانتم الأعلون فلن يضركم القرح والجرح)، ليفيد الجمع بين الآيتين الوعد الكريم من عند الله عز وجل بعدم لحوق الأذى والضرر بالمسلمين من القتال وما يترشح عنه من مغادرة الشهداء إلى الرفيق الأعلى وكثرة الجرحى بين صفوف المسلمين.
الخامس : تقدير الجمع بين الآيتين هو : إن يمسسكم قرح وانتم الأعلون فانكم تبقون الأعلون) وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة المس .
وتحتمل مرتبة الأعلون وجوهاً:
الأول : إنها من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة وإن تباينت آنات الزمان.
الثاني : إنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة تزيد وتنقص , ولكن المسلمين يبقون بذات المرتبة.
الثالث : المراد (أنتم الأعلون) بلحاظ أن غيرهم أدنى منهم درجة في كل الأحوال إذ تتضمن مرتبة(الأعلون) نوع مفاعلة بين إثنين أو أكثر، وتدل على أن الدنيا ميدان سباق وتنافس، وفاز المسلمون بالسبق في الخيرات وعمل الصالحات , قال تعالى في خطاب للناس جميعاً[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( )، لبيان برهان وهو أن المسلمين فازوا بمرتبة الأعلون بالتقوى وخشية الله والتفاني في الإخلاص في طاعته، والحرص على إجتناب الشيطان وخطواته المهلكة.
وعن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، ألا إن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ألا هل بلغت؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : فليبلغ الشاهد الغائب ( ).
وقد يظن بعض الناس أن هناك نوع ملازمة بين مرتبة الأعلون وبين الأمن والسلامة من القروح، فيدخل الإنسان الإسلام ليفوز بالأمن والعافية من الإبتلاء، ولكنه يفاجئ بزحف الكفار وإرادتهم القتال ووأد الإسلام فيكون الدفاع عليه واجباً كفائياً أو عينياً، فجاءت هذه الآيات لتتضمن النهي والزجر عن الوهن والحزن وتخبر عن الإصابة بالجروح والكلوم، وهو من مفاهيم القول بأن الجملة الشرطية تحمل صبغة الخبر , ومعنى الخبر في الجملة الشرطية [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] على وجوه:
الأول : نزول الجرح والقرح بالمسلمين قبل نزول الآية، ولما أشرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الشهداء يوم أحد، قال: أنا شهيد على هؤلاء القوم لفوهم في دمائهم ، فإنه ليس جريح يجرح إلا جرحه يوم القيامة يدمى ، لونه لون الدم وريحه ريح المسك ( ).
الثاني : مصاحبة إصابة المسلمين بالجروح والخسائر أوان نزول آية البحث.
الثالث : الإخبار عن تعرض المسلمين لعدوان المشركين في المستقبل وإصابتهم بالجروح وتقديم الشهداء.
ومن الآيات أن هذه الوجوه الثلاثة حدثت واقعاً بلحاظ أن أوان نزول الآية هو معركة أحد ويتعلق بالوجه الثاني ويخص الوجه الأول معركة بدر، ويخص الوجه الثالث معركة الخندق وحنين ونحوها.
ومن أسرار مجئ الآية بصيغة المضارع (ان يمسسكم) أن المسلمين تجاوزوا حال الخسارة وتداركوا أسبابها، وإمتنعوا عن الوهن والحزن الذي قد يترشح عنها، فصاروا وكأنهم يستقبلون أيامهم من غير خسارة بينما يعيش الكفار تحت وطأة الأحزان والنياحة على رؤسائهم الذين قتلوا في معركة بدر وهو من مصاديق وصف الآية لما لاقوه بصيغة الماضي (فقد مس القوم قرح) خاصة وأنهم لم يكونوا يظنون الهزيمة والخسارة يوم بدر.
وعندما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخروج إلى الحديبية واستنفر الناس، تشاغل بعضهم في أهليهم وأموالهم .
وقالوا: حين مر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” إنما محمد في أكلة رأس، يخرج إلى قوم موتورين معدين، ومحمد لا سلاح معه ولا عدة ” فأبوا أن ينفروا ( ).
وتمر الأيام لينعت المشركون أنفسهم بأنهم أكلة رأس أمام تنامي قوة المسلمين وإتساع سلطان الإسلام.
وفي قصة اسلام خالد بن الوليد قال: لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الاسلام وحضرني رشدي، فقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد صلى الله عليه وسلم، فليس في مواطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شئ، وأن محمدا سيظهر. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية خرجت في خيل من المشركين فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان، فقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليهم ثم لم يعزم لنا – وكانت فيه خيرة – فأطلع على ما في أنفسنا من الهم به فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعا وقلت: الرجل ممنوع، فاعتزلنا، وعدل عن سنن( ) خيلنا وأخذ ذات اليمين.
فلما صالح قريشا بالحديبية ودافعته قريش بالرواح قلت في نفسي: أي شئ بقى ؟ أين أذهب ؟ إلى النجاشي ؟ فقد اتبع محمدا وأصحابه عنده آمنون، فأخرج إلى هرقل فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية ؟ فأقيم في عجم ، فأقيم في داري بمن بقى ؟ فأنا في ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضية [ فتغيبت ولم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية) فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتابا فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الاسلام وعقلك عقلك! ومثل الاسلام جهله( ) أحد؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك وقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به، فقال: ” مثله جهل الاسلام؟ ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين كان خيرا له، ولقد مناه على غيره “فاستدرك يا أخي ما قد فاتك[من] مواطن صالحة. قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الاسلام، وسرني سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة مجدبة فخرجت في بلاد خضراء واسعة، فقلت: إن هذه لرؤيا. فلما أن قدمت المدينة قلت: لاذكرنها لابي بكر، فقال: مخرجك الذي هداك الله للاسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك. قال: فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: من أصاحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب أما ترى ما نحن فيه ؟ إنما نحن كأضراس( ).
وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد واتبعناه فإن شرف محمد لنا شرف ؟ فأبى أشد الإباء فقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدا.فافترقنا وقلت: هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر. فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان بن أمية، فقال لي مثل ما قال صفوان بن أمية. قلت: فاكتم علي. قال: لا أذكره.فخرجت إلى منزلي فأمرت براحلتي فخرجت بها، إلى أن لقيت عثمان بن طلحة فقلت: إن هذا لي صديق، فلو ذكرت له ما أرجو. ثم ذكرت من قتل من آبائه، فكرهت أن أذكره، ثم قلت: وما علي وأنا راحل من ساعتي. فذكرت له ما صار الامر إليه، فقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب فيه ذنوب من ماء لخرج، وقلت له نحوا مما قلت لصاحبي، فأسرع الاجابة، وقلت له: إني غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفج مناخة. قال: فاتعدت أنا وهو يأجج( )، إن سبقني أقام وأن سبقته أقمت عليه. قال: فأدلجنا سحرا فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة فنجد عمرو بن العاص بها، قال: مرحبا بالقوم. فقلنا: وبك. فقال: إلى أين مسيركم ؟ فقلنا: وما أخرجك؟ فقال: وما أخرجكم ؟ قلنا: الدخول في الاسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم. قال: وذاك الذي أقدمني. فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة، فأنخنا بظهر الحرة ركابنا فأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر بنا، فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلقيني أخي: فقال أسرع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم فأسرعنا المشي فاطلعت عليه فما زال يتبسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق.
فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: ” تعال ” ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الحمد لله الذي هداك قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير ” قلت: يا رسول الله إني قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندا للحق فادع الله أن يغفرها لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الاسلام يجب ما كان قبله ” قلت: يا رسول الله على ذلك. قال: ” اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيل الله، قال خالد: وتقدم عثمان وعمرو فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وكان قدومنا في صفر سنة ثمان( ).
ومن وجوه تقدير الآية(وانتم الأعلون إن يمسسكم قرح) ليكون من معانيه أن القرح والجرح والخسارة في معركة أحد لم تصبهم إلا وهم في مرتبة القوة والمنعة.
فقد وقعت أولى معارك المسلمين وهي معركة بدر، والمسلمون قلة في عددهم، والنقص في مؤونهم وأسلحتهم ظاهر لهم ولعدوهم , وهو من أسباب تعجل قريش بالهجوم على المدينة لأنهم أدركوا أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجذب الناس للإسلام وأن قوته في نمو متصل، وتدل بالدلالة التضمنية على إصابة الكفار بالنقص والوهن لأن الناس ينتقلون من مستنقع الشرك إلى رياض الهدى، فتعلوهم الغبطة فيزداد رؤساء الضلالة حنقاً.
وقيل الجيوش تزحف على بطونها أي أنها تحتاج إلى الغذاء والمؤون والتجهيز وليس عند المسلمين إلا الإيمان، بينما خرج كفار قريش إلى القتال يوم بدر وكأنهم في نزهة وكانوا يذبحون كل يوم نحو عشرة أباعر، فجاء النصر من عند الله عز وجل.
وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست ، فلما اصطف الناس أخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن في وجوه المشركين فانهزموا( ).
وعن الزهري في حديث عبد الله بن ثعلبة بن صقير: وأمر جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأخذ كفا من الحصى بيده، ثم خرج فاستقبل القوم فقال: ” شاهت الوجوه ” ثم نفحهم بها، ثم قال لاصحابه: احملوا، فلم تكن إلا الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديدهم، وأسر من أسر منهم.
وقال زياد عن ابن إسحاق: ثم إن رسول صلى الله عليه وآله وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال: ” شاهت الوجوه ” ثم نفحهم بها وأمر أصحابه فقال: ” شدوا ” فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم.
وقال السدى الكبير: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي يوم بدر: ” أعطني حصباء من الارض ” فناوله حصباء عليها تراب، فرمى به في وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شئ، ثم ردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، وأنزل الله في ذلك: ” فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ( ).
وفي علم الأصول قاعدة وهي إذا تبدل الموضوع تغير الحكم، وقد تبدلت حال المسلمين بعد معركة بدر من وجوه:
الأول : صار المسلمون أقوياء بعد حال الضعف.
الثاني : بلوغ المسلمين مراتب العز الظاهر والجلي للناس.
الثالث : ترتب الأثر والنفع على نصر المسلمين في حياتهم اليومية.
الرابع : إدراك أهل الكتاب ويهود المدينة خاصة معاني نصر المسلمين يوم بدر.
الخامس : صيرورة عدو المسلمين في حال وهن وضعف بعد القوة والمنعة، وسقوط هيبة رؤساء قريش عند القبائل العربية وفي مكة وداخل بيوتهم.
السادس : جني المسلمين المنافع المادية والحسية من معركة بدر من جهات:
الأولى : دخول الغنائم إلى المدينة من الأنعام والمؤون، إذ ترك المشركون أثقالهم خلفهم، وفروا بأنفسهم.؟
الثانية : مجئ الأموال الكثيرة فدية للأسرى من قريش، وكان الفداء يتم على نحو القضية الشخصية بين الأسير ومن أسرّه، ولم يشترط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على العدو شروطاً للصلح أو تجدد العدوان والهجوم على المسلمين، ولم يتخذ مسألة الأسرى وسيلة ضغط وتشديد على قريش وتأديب إضافي لهم , مع أنهم من رؤسائهم وكثير من الأسرى أطلقهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من دون فداء أو مقابل أو إرجاء في إعادتهم إلى أهليهم منهم المطلب بن حنطَب، وصيفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجمحي.
وعن عروة بن الزبير قال: جَلَسَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْحِجْرِ بِيَسِيرٍ وَكَانَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ شَيْطَانًا مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ ، وَمِمّنْ كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابَهُ وَيَلْقَوْنَ مِنْهُ عَنَاءً وَهُوَ بِمَكّةَ وَكَانَ ابْنُهُ وَهْبُ بْنُ عُمَيْرٍ فِي أُسَارَى بَدْرٍ . قَالَ ابن هِشَامٍ : أَسَرَهُ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ أَحَدُ بَنِي زُرَيْقٍ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ فَذَكَرَ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ وَمُصَابَهُمْ فَقَالَ صَفْوَانُ وَاَللّهِ إنْ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ قَالَ لَهُ عُمَيْرٌ صَدَقَتْ وَاَللّهِ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيّ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي قَضَاءٌ وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمْ الضّيْعَةَ بَعْدِي ، لَرَكِبْتُ إلَى مُحَمّدٍ حَتّى أَقْتُلَهُ فَإِنّ لِي قِبَلَهُمْ عِلّةً ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ قَالَ فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ وَقَالَ عَلَيّ دَيْنُك ، أَنَا أَقْضِيهِ عَنْك ، وَعِيَالُك مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا بَقُوا ، لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيَعْجِزُ عَنْهُمْ فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ فَاكْتُمْ شَأْنِي وَشَأْنَك ، قَالَ أَفْعَلُ قَالَ ثُمّ أَمَرَ عُمَيْرٌ بِسَيْفِهِ فَشُحِذَ لَهُ وَسُمّ ثُمّ انْطَلَقَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ .
فَبَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَتَحَدّثُونَ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ وَيَذْكُرُونَ مَا أَكْرَمَهُمْ اللّهُ بِهِ وَمَا أَرَاهُمْ مِنْ عَدُوّهِمْ إذْ نَظَرَ عُمَرُ إلَى عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ حِينَ أَنَاخَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ مُتَوَشّحًا السّيْف ، فَقَالَ هَذَا الْكَلْبُ عَدُوّ اللّهِ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ وَاَللّهِ مَا جَاءَ إلّا لِشَرّ وَهُوَ الّذِي حَرّشَ بَيْنَنَا ، وَحَزَرْنَا لِلْقَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ . ثُمّ دَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ هَذَا عَدُوّ ، قَالَ فَأَدْخَلَهُ عَلَيّ قَالَ فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتّى أَخَذَ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ فَلَبّبَهُ بِهَا ، وَقَالَ لِرِجَالٍ مِمّنْ كَانُوا مَعَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ : اُدْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ وَاحْذَرُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ فَإِنّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ ثُمّ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعُمَرُ آخِذٌ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ قَالَ أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ اُدْنُ يَا عُمَيْرُ ، فَدَنَا ثُمّ قَالَ انْعَمُوا صَبَاحًا ، وَكَانَتْ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيّةِ بَيْنَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَكْرَمَنَا اللّهُ بِتَحِيّةِ خَيْرٍ مِنْ تَحِيّتِك يَا عُمَيْرُ بِالسّلَامِ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَنّةِ فَقَالَ أَمَا وَاَللّهِ يَا مُحَمّدُ إنْ كُنْتُ بِهَا لَحَدِيثُ عَهْدٍ قَالَ فَمَا جَاءَ بِك يَا عُمَيْرُ ؟ قَالَ جِئْت لِهَذَا الْأَسِيرِ الّذِي فِي أَيْدِيكُمْ فَأَحْسِنُوا فِيهِ قَالَ فَمَا بَالُ السّيْفِ فِي عُنُقِك ؟ قَالَ قَبّحَهَا اللّهُ مِنْ سُيُوفٍ وَهَلْ أَغْنَتْ عَنّا شَيْئًا ؟ قَالَ اُصْدُقْنِي ، مَا الّذِي جِئْتَ لَهُ ؟ قَالَ مَا جِئْتُ إلّا لِذَلِك ، قَالَ بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فِي الْحِجْرِ ، فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ ، ثُمّ قُلْت : لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْتُ حَتّى أَقْتُلَ مُحَمّدًا ، فَتَحَمّلَ لَك صَفْوَانُ بِدَيْنِك وَعِيَالِك ، عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ وَاَللّهُ حَائِلٌ بَيْنَك وَبَيْنَ ذَلِكَ .
قَالَ عُمَيْرٌ أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ قَدْ كُنّا يَا رَسُولَ اللّهِ نُكَذّبُك بِمَا كُنْت تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السّمَاءِ وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْك مِنْ الْوَحْيِ وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَحْضُرْهُ إلّا أَنَا وَصَفْوَانُ فَوَاَللّهِ إنّي لَأَعْلَمُ مَا أَتَاك بِهِ إلّا اللّهُ فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ وَسَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ ثُمّ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ . وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ فَفَعَلُوا( ).
الثالثة : تعليم الأسرى لأولاد المسلمين القراءة والكتابة، وتجلي صبغة التعلم والعلم حتى عند صبيان المسلمين، فمن لم يكن عنده فداء من الأسرى يقوم بتعليم عشرة صبيان من أهل المدينة، فإذا حذقوا فهو فداء له ويخلى سبيله، وفيه رسالة وتأكيد إلى الناس جميعاً بالملازمة بين الإسلام والعلم.
الرابعة : تحسن أحوال المسلمين، وإزدهار التجارات، والجلب من الأمصار، وفي أسباب نزول قوله تعالى[وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا]( )، قال ابن عباس: جاءت عير عبد الرحمن بن عوف تحمل الطعام، فخرجوا من الجمعة، بعضهم يريد أن يشتري، وبعضهم يريد أن ينظر إلى دِحية، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً على المنبر، وبقي في المسجد اثنا عشر رجلاً وسبع نسوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم ناراً)( ).
السادس : مجيء وفود القبائل إلى المدينة معلنين إسلامهم ومن خلفهم.
السابع : توجه المسلمين والمسلمات إلى التفقه في الدين، والتدبر في آيات القرآن وأسرارها وأسباب نزولها.
الثامن : ظهور فئة المنافقين الذين يضمرون الكفر مع إعلانهم الإسلام بعد أن أدركوا قوة الإسلام وكثرة المسلمين وإخلاصهم في مسالك الجهاد وفي ذم المنافقين، قال تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( ).
نعم هناك وجوه بقي المسلمون فيها على حالهم كالعز الذي يتصفون به إذ أنه مصاحب للإيمان لا ينفك عنه ومن الإعجاز أن الله عز وجل قرن عز المؤمنين بعزته سبحانه , قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : إشتقاق عز المؤمنين من عزة الله عز وجل، وهو القوي الغالب، قال تعالى[فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
الثانية : في الآية أعلاه نوع تحد، وهي رد على المنافقين الذين قالوا[لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( ).
الثالثة : الآية ذم وتوبيخ للكفار والمنافقين وإنذار لهم.
الرابعة : الآية بشارة النصر والظفر للمسلمين.
الخامسة : الآية وعد من الله عز وجل للمسلمين بالوقاية من الذل والهوان.
ترى ما هي النسبة بين الأعلون وحال العز للمؤمنين، الجواب هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول : كل من مرتبة العلو والعز فضل من عند الله عز وجل.
الثاني : إختصاص المسلمين بكل مرتبة منهما.
الثالث : مصاحبة العلو والعز للمسلمين إلى يوم القيامة.
الرابع : التوثيق السماوي لبلوغ المسلمين لمرتبة العلو وحال العز والرفعة.
الخامس : تعاهد أجيال المسلمين لمراتب العلو والعز بلطف من عند الله.
السادس : توجه المسلمين بالشكر لله على نعمة درجات العلو والعز مجتمعة ومتفرقة، إذ أن كل درجة منها نعمة مستقلة تستلزم الشكر واللطف، فقوله تعالى(وأنتم الأعلون) إخبار عن إرتقاء المسلمين في سلم العلو والرفعة بصبرهم وجهادهم وتحملهم الجراحات والضرر من غير تهاون أو حزن أو خوف من الكفار.
السابع : كل من حال العلو والعز موضوع تشريف وفخر للمؤمنين.
الثامن : كل من المرتبتين بشارة للمؤمنين بحسن العاقبة واللبث الدائم في الجنة.
أما مادة الإفتراق بين العلو والعز فمن وجوه:
الأول : جاء قوله تعالى(وأنتم الأعلون) بصيغة الخطاب، وذكرت الآية عز المؤمنين بصيغة الجملة الخبرية.
الثاني : العز طريق العلو وكذا العكس فإن العلو طريق للعز من غير أن يلزم الدور بينهما، إذ أن الجامع المشترك بينهما هو الإيمان والتقوى.
الثالث : إخبار وتذكير المسلمين بنيلهم مرتبة العلو دعوة لهم لعدم الضعف أو الدعوة إلى الصلح والرضا بشروط العدو، قال تعالى[فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، ومن معاني العزة القوة والغلبة على الكفار.
الرابع : قيدت الآية السابقة مرتبة العلو بالإيمان لقوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، بينما ورد ذكر عزة المؤمنين بصيغة الوصف بالإيمان بقوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الخامس : تتجلى أبهى مراتب عز المؤمنين بإظهارهم حسن العبودية لله عز وجل وتفانيهم في طاعته وطلب مرضاته، ويترشح علو المرتبة عن الخضوع والخشوع لله عز وجل والخشية منه في السر والعلانية.
ويحتمل الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول : الملازمة بين الإيمان والإصابة بالجراحات وتقديم الشهداء.
الثاني : الملازمة بين مرتبة العلو والإصابة بالجراحات.
الثالث : ليس من ملازمة بين الإيمان والجراحات، وكذا بين مرتبة العلو والجراحات.
الرابع : مصاحبة الجراحات للمؤمنين حينما بلغوا مرتبة العلو بين الأمم.
والصحيح هو الثالث، فليس من ملازمة في البين , ولكن القوم الكافرين في بغيهم وظلمهم وعتوهم يصيرون سبباً ومباشراً للإضرار بالمسلمين وإصابتهم بالجراحات، إنها سيوف الغدر ورماح الإستكبار تواجه الحق والدلالات الباهرات والبرهان القاطع بصدق النبوة.
لذا فمن إعجاز آية البحث مجيؤها بصيغة الشرط وما فيه من لغة الإحتمال في الوقوع والأثر، وهل لغة الشرطية موضوع ودليل على القلة في ذات القرح الذي يصيب المسلمين كماً وكيفاً، وهذه القلة ليست من الكلي المتواطئ بل هي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة ومتباينة في شدتها وضعفها، وكثرة الشهداء والجراحات التي تصيب المسلمين أو قلتها، ليكون قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] في الآية السابقة مناسبة لقلة عدد الشهداء بين المؤمنين، وخفة وقلة الجراحات بينهم لذا جاءت آية البحث بصيغة المس وليس الإصابة، وتقدير الجمع بين الآيتين: ولا تهنوا ولاتحزنوا ليكون القرح عندكم قليلاً.
قانون(أنتم الأعلون) حرب على النفاق
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودلائل صدق نبوته أنه خرج مهاجراً من مكة المكرمة خائفاً من قريش هارباً من بطشها، بعد الدعوة إلى الله فيها نحو عشر سنوات، فدخل مدينة يثرب ليحقق أعظم إنتصار في تأريخ النبوة في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة , وتنهزم قريش شر هزيمة، ويقع عدد من رؤساء الضلالة والشرك صرعى في المعركة، فتجلى حكم الإسلام في المدينة ووفد الناس جماعات معلنين إسلامهم وقبائلهم ولكن الكفر بقي كامناً في نفوس بعض الناس وهم المنافقون.
وينطق المنافق بالشهادتين، ويحضر الصلاة، وقد يخرج في السرايا والغزو عند ترجيح النصر وجلب الغنائم، فهل يشمله قوله تعالى (وأنتم الأعلون) أم يخرج بالتخصص أو التخصيص، الجواب إنه يخرج بالتخصيص لورود القيد في خاتمة الآية [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] وفيه بشارة تنزيه المسلمين والمسلمات من النفاق للتباين بين الإيمان والنفاق، بلحاظ أن النفاق إبطان للكفر وإصرار على الإقامة الخفية عليه.
وإشترطت الآية السابقة علو المسلمين بتحليهم بصفة الإيمان، وجاءت الآيات بنفي الإيمان عن المنافقين، قال تعالى في ذمهم[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية السابقة، أن قوله تعالى(ولا تهنوا ولا تحزنوا) حرب على النفاق، ويكون تقيد المسلمين بالعمل بمضامينه براءة من النفاق، لأن من خصائص المنافقين الخوف والجبن وتحريض الأقربين لهم من المسلمين على القعود عن القتال، وإظهارهم التشكي والخيبة والحزن.
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول : أنتم الأعلون بشرط عدم وجود منافقين بينكم.
الثاني : أنتم الأعلون مع وجود منافقين بين ظهرانيكم.
الثالث : ترشح صفة الأعلون حتى على المنافقين بالتبعية والإلحاق.
الرابع : أنتم الأعلون لتنزهكم من النفاق والمنافقين على نحو تدريجي.
الخامس : أنتم الأعلون بشرط تعيين وكشف المنافقين والإعراض عنهم، وعدم الإنصات لهم.
السادس : أنتم الأعلون بشرط المواظبة على سلامة نفوسكم من النفاق، ومحاربته وفضح أهله.
والصحيح هو الثاني والرابع والسادس، ومن مصاديق الإبتلاء والإمتحان في الدنيا إبتلاء المسلمين بظهور حالة النفاق ووجود جماعة أظهروا الإيمان ونطقوا بالشهادتين ولكنهم يخفون في نفوسهم الكفر، فلم يكونوا سبباً لمنع المسلمين من نيل مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ليكون المنافقون من الناس الذين خرج لهم المسلمون بالتقوى، والتوافق بين الظاهر والباطن في الإيمان.
وكل تلاوة مسلم لآية من القرآن هي حرب على النفاق، وإزاحة للكفر من النفوس، وتدخل فيها تلاوة المنافق نفسه لآيات القرآن , وهو من الإعجاز الغيري للقرآن بأن تشع أنوار الهداية من رسم الحرف القرآني والنظر إليه وتلاوته بالمصحف أو مكتوباً على نحو الإطلاق أو قراءته عن ظهر قلب .
إن قوله تعالى(أنتم الأعلون) بشارة إنحسار النفاق وقلة أصحابه وغياب حملة لوائه من بين صفوف المسلمين، إذ أنه يبعث العز في نفوسهم، ويدعوهم إلى تعاهد مسؤوليات حفظ أمانة التوحيد في الأرض وعدم التفريط بمقامات الإمامة بين الناس التي تستلزم إخلاص النوايا وصدق السرائر والتشابه بين الظاهر والباطن بأن يكون لسان المسلم مرآة الإيمان الذي في داخله، ويتفضل الله عز وجل ويجذب المسلمين إلى مراتب العلو ليجتهدوا في طاعته.
صلة قوله تعالى[إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ] بــ[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ]
من إعجاز القرآن إختتام الآية السابقة وإبتداء هذه الآية بصيغة الجملة الشرطية مع إتحاد الخطاب وتوجهه للمسلمين على نحو التعيين , وفيه مسائل:
الأولى : يبان المسؤوليات العبادية التي يتحملها المسلمون.
الثانية : بعث المسلمين لبذل الوسع في مرضاة الله.
الثالثة : لغة الشرط في الآيتين من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وقد يقول بعضهم لماذا الملازمة بين الإيمان والأذى , فقد يعيش المسلمون في رغد من العيش سنوات وأحقاباً بعد القيام بالدفاع عن بيضة الإسلام، وإلحاق الهزيمة بالكفار الذين يصرون على محاربة النبوة والإيمان.
ومن الإعجاز في المقام مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد سيادة الإيمان وإستتباب الأمن في مكة والحجاز بعد المدينة المنورة والدفاع عنها وخروج السرايا إلى القبائل تدعوهم إلى الإسلام.
فجاءت صيغة الشرط في آية البحث (ان يمسسكم قرح) بشارة وباعثاً للسكينة وإخباراً بعدم الملازمة بين الإيمان والجراحات، فبعد العناء والجهاد في سبيل الله يكون قطف الثمار بأداء العبادات والمناسك بأمن وسلام.
وستبقى حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه شاهداً على أن الإسلام لم يبدأ القتال حتى مع الكفار المشركين في مكة، مع أن هذ الشرك أكثر قبحاً لموضوعية جوار البيت الحرام وعمارته بالصلاة، قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( )، نعم تؤكد مضامين هذه الآية أن الدنيا دار إمتحان وإختبار وأن القرح والجراحات التي تصيب المؤمنين خير ونفع لهم في الدنيا والآخرة، وهي مصداق عملي على التقوى وحمل أمانة النبوة ورفع لواء التوحيد الذي يكون علة لإستدامة الحياة الإنسانية على الأرض لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ليتصف المسلمون بلحاظ الآية أعلاه بخصال كريمة هي:
الأولى : الإخلاص في عبادة الله.
الثانية : توارث عبادة الله عز وجل.
الثالثة : الصبر وتحمل الأذى في جنب الله.
الرابعة : الحرص على أداء الواجبات والمناسك العبادية بشرائطها.
إذ يتلقى كل جيل الصلاة والفرائض الأخرى من الجيل السابق بالتداخل أي لا ينتظر مغادرة الجيل السابق كي يؤدي الفرائض بل يؤدي السابق واللاحق العبادات في آن واحد، فيقف الجد والأب والابن بين يدي الله عز وجل في الصلاة اليومية، ويصومون شهر رمضان ويحجون معاً بيت الله الحرام للتساوي بتلقي الخطاب التكليفي بعرض واحد.
ومن الإعجاز في أحكام الشريعة الإسلامية حث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على تعليم أولادهم الصلاة لتنمو معهم وتصاحبهم في سن الصغر وعند الكبر وتكون مقدمة وعوناً لتلقي الجراحات في جنب الله بقبول ورضا وثبات في مقامات الإيمان، ووردت روايتان بخصوص أوان صلاة الصبي:
الأولى : عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا عرف الغلام يمينه من شماله فمروه بالصلاة ( ).
الثانية : عن عبد الله بن خبيب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :قال علموا أولادكم الصلاة إذا بلغوا سبعاً ، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً، وفرقوا بينهم في المضاجع( ).
ومن الإعجاز في السنة القولية ودلالات ترشحها عن الوحي جعل الرواية الأولى أعلاه مندوحة للآباء والأمهات في أمر الصبيان الصلاة بلحاظ التباين في الفطنة والنباهة بينهم، وجاءت الرواية الثانية بالتعيين والتفصيل بلحاظ أن سن السابعة كافية للتمييز بين الأشياء عند عموم الصبيان، وفيه منع من التهاون في أداء الصلاة، وقيل إن هذه الصلاة تمرينية، ولكن الأصل هو الإطلاق وإرادة ذات الصلاة وإن لم يتوجه الخطاب التكليفي للعبد إلا عند البلوغ، ليكون أداء الصلاة سابقاً لسن البلوغ .
والصلاة خير محض ومن منافعها المحافظة على ذات الأبناء ووقايتهم من الأخلاق المذمومة.
ويتعلق موضوع الجملة الشرطية في خاتمة الآية السابقة بالإخبار عن إرتقاء المسلمين لمرتبة العلو والرفعة والجاه والشأن العظيم بين الأمم بالتقوى والإيمان[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، وهذا لا يمنع من إتصالها موضوعاً وحكماً بآية البحث خصوصاً مع عدم وجود فاصلة بينهما .
وهل تكون صبغة الشرطية في كل من الآيتين برزخاً دون إتحاد الموضوع بينهما الجواب لا، لتعدد الموضوع.
آية البحث وأيام العرب
تقدير الجمع الموضوعي للغة الشرط في الآيتين على وجوه:
الأول : وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح، أي أن المسلمين بلغوا مرتبة الأعلون بالإيمان ودخول المعارك في سبيل الله، وسقوط الشهداء وتلقيهم للجراحات والكلوم في جنب الله , وبناء صرح دولة الإسلام .
الثاني : إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله…)، وفيه مسائل:
الأولى : يأتي القرح والجرح للمسلمين بلحاظ أنهم مؤمنون.
الثانية : يحصل التباين في نزول القرح بين المؤمنين والكفار، فلولا الإيمان لما جاء القرح والجراحات إلى المؤمنين، لأن الكفار يتركونهم وشأنهم، لكن حينما إختاروا الإيمان جاءهم الأذى، وجنّد الكفار الجيوش لقتالهم، بينما يدل قوله تعالى[فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]( )، على أن الجراحات والضرر لابد وأن يحصل للكفار سواء بقتالهم المسلمين أو من دونه .
ومصداقه التأريخي الغزو والثأر بين القبائل قبل الإسلام وطول مدة المعارك بينهم مثل حروب ذبيان وغطفان، وحروب عبس مع القبائل العربية من نزار واليمن، وحرب داعس والغبراء وهي حرب رهان بين عبس وذبيان إستمرت أربعين سنة.
ويوم الكُلاب، ويوم خزاز، (وهو جبل ما بين البصرة ومكة، وهو قريب من سالع)( ) ومقتل شاس بن زهير، وحرب بعاث بين الأوس والخزرج التي إستمرت بينهم إلى أن أسلموا .
وكانت حروب كثيرة تحصل بين طوائف منهم غسان وعك، وحرب البسوس التي وقعت بين شيبان وتغلب , وعلة هياجها قتل جساس بن مرة لرميه لناقة امرأة تسمى البسوس(واتصلت حتى أفنتهم، ودامت أربعين سنة)( ).
ومن أيام العرب يوم جبلة بين بني تميم وبين عامر، وذكر أنه قبل الإسلام بثلاثين أو أربعين عاماً، ويوم الكلاب الثاني ويوم عبد يغوث بين النمر وتميم، وكان قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ويوم ذي قار بين بكر بن وائل والفرس( كانت حروب ذي قار، وهو اليوم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا أوَل يوم انتصفت فيه العرب من العجم، ونُصِرَتْ عليهم، وكانت وقعة ذي قار لتمام أربعين سنة من مولد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة بعد أن بعث، وقيل: بعد أن هاجر، وفي رواية أخرى أنها كانت بعد وقعة بدر بأشهر، ورسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة)( ).
وإقتتلت العرب في الشهر الحرام كما في حرب الفجار سمي به لأنهم فجروا بالقتال في الشهر الحرام ولما(إستحل فيه هذان الحيان، كنانة وقيس عيلان من المحارم بينهم)( ).
وكان سبب حرب الفجار أن النعمان بن المنذر كان يبعث بلطيمة أي بضاعة عطور إلى سوق عكاظ باجارة رجل من العرب، وفي تلك السنة قال النعمان: من يجير هذه العير , قال عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب الرحال أنا أيها الملك وقال البراض بن قيس وكان خليعا والخليع من خلع حلفاءه فمن قتله فدمه هدر أنا أيها الملك فقال أتجيرها على أهل الشيح والقيصوم وأنت كالكلب الخليع إنما أنت أضيق إستا من ذلك فقال البراض أتجيرها على كنانة قال نعم وعلى الخلق جميعا فسلم النعمان اللطيمة إلى عروة وتبعه البراض حتى إذا كان بتيمن ذى طلال أصاب فرصة من عروة فوثب عليه فقتله في الشهر الحرام وقال في ذلك
وداهية يهم الناس قتلي … شددت لها بني بكر ضلوعي
هدمت بها بيوت بني كلاب … وأرضعت الموالى بالضروع
قتلت به بتيمن ذى طلال … فخر يميد كالجدع الصريع
وتسامع الناس به فخرجت كنانة وقريش بطلب ثأر عروة وخرجت قيس بن عيلان لأجل البراض واقتتلوا قتالا شديدا بعكاظ في الشهر الحرام ثم تحاجزوا.
وفي حرب الفجار: قَيّدَ حَرْبُ بْنُ أُمَيّةَ وَسُفْيَانُ وَأَبُو سُفْيَانَ أَبْنَاءُ أُمَيّةَ أَنْفُسَهُمْ كَيْ لَا يَفِرّوا ، فَسُمّوا : الْعَنَابِسَ وَيَوْمُ الْحُرَيْرَةِ عِنْدَ نَخْلَةَ ، وَيَوْمُ الشّرِبِ انْهَزَمَتْ قَيْسٌ إلّا بَنِي نَضْرٍ مِنْهُمْ فَإِنّهُمْ ثَبَتُوا ، وَإِنّمَا لَمْ يُقَاتِلْ رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – مَعَ أَعْمَامِهِ وَكَانَ يَنْبُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ كَانَ بَلَغَ سِنّ الْقِتَالِ ( ).
ولم يقاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حرب الفجار ولم يحمل السلاح مع أن عمره يومها عشرون سنة لأن القتال بين الكفار ولأمور الدنيا، وفي الشهر الحرام، وتمر الأيام وترى أبا سفيان ينجو بنفسه وقافلته هارباً من المسلمين قبل معركة بدر، ثم يفر مرة أخرى من ميدان القتال يوم أحد مع أن جيشه ثلاثة آلاف مقاتل وعدد جيش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبعمائة مؤمن، ثم ينسحب خائباً في معركة الخندق مع أن جيشه عشرة آلاف رجل.
وكانت حرب الفجار: لقيس على قريش، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما شاهدها صارت لقريش علىِ قيس، وكان على قريش يومئذ عبد اللّه بن جُدْعَان التّيْمِيُّ، وكان نخاساَ في الجاهلية بياعاً للجواري، وكانت هذه إحدى الدلائل المنزرة بنبوته عليه السلام والتيمن بحضوره( ).
وكان إنقضاء حرب الفجار عن طريق عتبة بن ربيعة وهو صبي صغير إذ تواعد طرفا القتال هوازن وكنانة للعام القادم بعكاظ، فلما حان الوقت وحضروا كان عتبة يتيماً في حجر حرب بن أمية فضن به ولم يخرجه معه للقتال، ولكن عتبة تسلل إلى موضع اللقاء وفاجئ الجميع بظهوره بين الصفين فنادى: يا معشر مضر علام تفانون، أي أنكم إخوان , فلماذا تعرضوا أنفسكم للقتل والفناء، فلم تعرفه هوازن ولكن سألوه: ما تدعو إليه، قال: الصلح على أن ندفع لكم دية قتلاكم وتعفوا عن دمائنا، قالوا : وكيف، قال : ندفع لكم رهناً منا، فرضيت هوازن بهذا العرض السخي والذي هو كالنصر لهم قالوا: ومن لنا بهذا، أي أرادوا كفيلاً ضامناً وأهلاً لتحمل أعباء هذه المسؤولية الكبيرة، قال: أنا، قالوا، ومن أنت، قال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فرضوا به، ورضيت به كنانة ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلاً، فلما رأت هوازن الرهن والرجال في أيديهم عفوا عن دياتهم وأطلقوهم.
ولما رجعت قريش من الفجار في شهر شوال، إجتمعوا في ذي القعدة دعاهم الزبير بن عبد المطلب إلى حلف الفضول، فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وبنو أسد بن عبد العزى في دار ابن جدعان فصنع لهم طعاما فتعاقدوا وتعاهدوا بالله لنكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة .
وعن جبير بن مطعم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم ولو دعيت له لأجبتُ، وهو حلف الفضول ( ).
وكان سبب هذا الحلف رجل من زبيد من اليمن إذ كان باع سلعة له من العاص بن وائل السَّهْمي، فَمَطَلَه بالثمن حتى يئس، فعلا جبل قُبْيس، وقريش في مجالسها حول الكعبة، فنادى بشعر يصف فيه ظُلاَمتَه. رافعاً صوته منادياً يقول:
يا للرجال لمظلوم بضاعته … ببطن مكة نائي الحي والنفر
إن الحرام لمن تمت كرامته … ولا حرام لثوب الفاجر الغَدر( ).
وبُعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فخرج عتبة بن ربيعة نفسه مع قريش إلى معركة بدر , وقد تقدم في سنه وصار من أشياخهم، والأصل أن يزداد حكمة وتدبراً في معجزات النبوة , وكنه إتبع هواه, وقال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حين اصبحت فأقبلت فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذى جاءوا منه إلى الوادي قال اللهم هذه قريش قد اقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذى وعدتني اللهم احنهم الغداة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له احمر ان يك في احد من القوم خير فعند صاحب الجمل الاحمر ان يطيعوه يرشدوا .
وقد كان خفاف بن ايماء بن رحضة أو ابوه ايماء بن رحضة الغفاري بعث إلى قريش حين مروا به ابنا له بجزائر اهداها لهم , وقال ان احببتم ان نمدكم بسلاح ورجال فعلنا قال فأرسلوا إليه مع ابنه ان وصلتك رحم قد قضيت الذى عليك فلعمري لئن كنا انما نقاتل الناس ما بنا ضعف ولئن كنا انما نقاتل الله كما يزعم محمد ما لاحد بالله من طاقة فلما نزل الناس اقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حكيم بن حزام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم فما شرب منه رجل يومئذ الا قتل الا ما كان من حكيم بن حزام فانه لم يقتل ثم اسلم بعد ذلك فحسن اسلامه , فكان إذا اجتهد في يمينه قال لا والذى نجاني من يوم بدر( ).
وتعلم قريش بمساعي عتبة وسعيه إلى الصلح ودرء الفتن فأتاه حكيم بن حزام فقال: يا ابا الوليد انك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها هل لك إلى ان لا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر قال وما ذلك يا حكيم قال ترجع بالناس وتحمل امر حليفك عمرو بن الحضرمي قال قد فعلت انت علي بذلك انما هو حليفي فعلي عقله وما اصيب من ماله فائت ابن الحنظلية يعنى ابا جهل بن هشام، ثم قام عتبة خطيبا فقال يا معشر قريش انكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا صلى الله عليه وسلم واصحابه شيئا والله لئن اصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه وابن خاله ورجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب فان اصابوه فذاك الذى اردتم وان كان غير ذلك الفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون قال حكيم فانطلقت حتى جئت ابا جهل فوجدته قد نثل درعا له من جرابها فقلت له يا ابا الحكم ان عتبة ارسلني اليك بكذا وكذا للذى قال فقال انتفخ والله سحره حين رأى محمدا واصحابه كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وما بعتبة ما قال , ولكنه قد رأى ان محمدا واصحابه اكلة جزور وفيهم ابنه قد تخوف عليه ثم بعث إلى عامر الحضرمي فقال هذا حليفك يريد ان ترجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينيك فقم فانشد خفرتك ومقتل اخيك فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ واعمراه فحميت الحرب وحقب امر الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر وافسد على الناس الرأى الذى دعاهم إليه عتبة فلما بلغ عتبة قول ابى جهل انتفخ والله سحره قال سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره ( ).
وكانت شهرة عتبة بن ربيعة قد بلغت الآفاق لما يتصف به من خصال حميدة، وعن أبي سفيان بن حرب، أن أمية بن أبي الصلت كان بغزة أو بإيلياء، فلما قفلنا قال لى أمية: يا أبا سفيان هل لك أن تتقدم على الرفقة فنتحدث ؟ قلت: نعم. قال: ففعلنا فقال لي: يا أبا سفيان إيه عن عتبة بن ربيعة ؟ قلت: كريم الطرفين، قال : ويجتنب المحارم والمظالم ؟ قلت: نعم.
قال: وشريف مسن ؟ قلت: وشريف مسن. قال: الشرف والسن أزريا به. فقلت له: كذبت، ما ازداد سنا إلا ازداد شرفا. قال: يا أبا سفيان إنها كلمة ما سمعت أحدا يقولها لي منذ تبصرت، فلا تعجل علي حتى أخبرك.قال قلت: هات. قال: إني كنت أجد في كتبي نبيا يبعث من حرتنا هذه، فكنت أظن بل كنت لا أشك أني أنا هو، فلما دارست أهل العلم إذا هو من بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الامر غير عتبة بن ربيعة، فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس به، حين جاوز الاربعين ولم يوح إليه. قال أبو سفيان: فضرب الدهر ضربه، فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة، فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به: يا أمية قد خرج النبي الذى كنت تنعته قال: أما إنه حق فاتبعه. قلت: ما يمنعك من اتباعه ؟ قال: ما يمنعني إلا الاستحياء من نساء ثقيف، إنى كنت أحدثهن أنى هو، ثم يريننى تابعا لغلام من بنى عبد مناف ،ثم قال أمية: كأنى بك يا أبا سفيان قد خالفته ثم قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه فيحكم فيك بما يريد( ).
وعندما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً إلى الناس يدعوهم إلى التوحيد ونبذ الشرك طلبت قريش من عتبة بن ربيعة أن يكلم النبي ويثنيه عن قصده وغاياته السامية، وعن جابر بن عبد الله قال: اجتمع قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذى فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه. فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التى عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل ! إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” فرغت ؟ ” قال: نعم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بسم الله الرحمن الرحيم حم *تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( )، إلى أن بلغ [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ]( ).
فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا ؟ قال: لا.
فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك ؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته. قالوا: فهل أجابك ؟ فقال: نعم. ثم قال: لا والذى نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك ! يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال ؟ قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة( ).
وفي يوم بدر خَرَجَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ، حَتّى إذَا فَصَلَ مِنْ الصّفّ دَعَا إلَى الْمُبَارَزَةِ فَخَرَجَ إلَيْهِ فِتْيَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ثَلَاثَةٌ وَهُمْ عَوْفٌ وَمُعَوّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ – وَأُمّهُمَا عَفْرَاءُ – وَرَجُلٌ آخَرُ يُقَالُ هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فَقَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟ فَقَالُوا : رَهْطٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، قَالُوا : مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ . ثُمّ نَادَى مُنَادِيهِمْ يَا مُحَمّدُ أَخْرِجْ إلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ وَقُمْ يَا عَلِيّ ، فَلَمّا قَامُوا وَدَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالَ عُبَيْدَةُ عُبَيْدَةُ وَقَالَ حَمْزَةُ حَمْزَةُ وَقَالَ عَلِيّ : عَلِيّ ، قَالُوا : نَعَمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ . فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنّ الْقَوْمِ عُتْبَةَ ( بْنَ ) رَبِيعَةَ ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَبَارَزَ عَلِيّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ . فَأَمّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ وَأَمّا عَلِيّ فَلَمْ يُمْهِلْ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ وَكَرّ حَمْزَةُ وَعَلِيّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ فَذَفّفَا عَلَيْهِ وَاحْتَمَلَا صَاحِبَهُمَا فَحَازَاهُ إلَى أَصْحَابِهِ .
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : أَنّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ قَالَ لِلْفِتْيَةِ مِنْ الْأَنْصَارُ ، حِينَ انْتَسَبُوا : أَكْفَاءٌ كِرَامٌ إنّمَا نُرِيدُ قَوْمَنَا( ).
ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد قتلى المشركين بل وقف عليهم يناديهم ليقيم الحجة ويتعظ الناس، وعن إنس بن مالك قال: سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ ، يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ وَيَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَيَا أُمَيّةُ بْنَ خَلَفٍ ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ، فَعَدّدَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي الْقَلِيبِ : هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا ، فَإِنّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيّفُوا ؟ قَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أنُ يُجِيبُونِي ( ).
لقد خاضت قريش وقبائل العرب وأهل الأرض الحروب وسقط من كل فريق وطائفة القتلى وأصيب آخرون بالجراحات على أمور شخصية وبسيطة لاتستحق أكثر من كلمة لوم أو عتاب فأشرقت الأرض بنور نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتتبدل المفاهيم والأعراف ويصدر الناس عن القرآن.
صلة [وَلاَ تَهِنُوا] بقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]
من إعجاز القرآن أن الجمع بين شطرين من آيتين يبين الإتحاد الموضوعي بينهما , وكأنهما من آية واحدة، وهذا الأمر لاينحصر بالآيات المتجاورة بل يشمل الآيات المتباعدة، وكل آية من سورة غير السورة التي تأتي فيها الآية الأخرى، وقد يكون الشطر من آية مبيناً للحكم في آية أخرى , وبرزخاً دون التردد أو إثارة الجدال فيه .
وليس من كتاب في تأريخ الإنسانية أقل جدلاً فيه من القرآن بلحاظ سعة وإستدامة العمل به، وهو من إعجاز القرآن في سبر أغوار الناس على إختلاف مشاربهم وسلامة القرآن من كثرة الجدال فيه، قال تعالى[وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً]( )، ليكون علم الجمع بين آيات القرآن وإستحضار الدليل القرآني من الجدل الدفاعي الحسن، لقوله تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
ومن الإعجاز الذاتي للقرآن عجز الكفار عن جعل الجدال في القرآن موضوعاً يومياً متعارفاً عند الناس، وعن تأليف المجلدات في صيغ الشك والريب في القرآن مع أنه يتحدى أهل الشك ويدعوهم للتوبة والإنابة .
وعن الزهري أخبرني عروة أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركب على حمار، عليه قطيفة فَدكيَّة وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سَعْدَ بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، قَبْل وقعة بَدْر .
قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سَلُول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين، عَبَدَة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبدُ الله بن رَوَاحة، فلما غَشَيت المجلسَ عَجَاجةُ الدابة خَمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: “لا تُغَبروا علينا. فسلّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله عز وجل، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبَي: أيها المَرْء، إنه لا أحْسَنَ مما تقول، إن كان حقا فلا تؤْذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فَاغْشنَا به في مجالسنا فإنا نُحب ذلك. فاستَب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يَتَثَاورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دَابته، فسار حتى دخل على سعد بن عُبَادة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “يا سعد، ألم تَسْمَع إلى ما قال أبو حُبَاب يريد عبد الله بن أبي-قال كذا وكذا”.
فقال سعد: يا رسول الله، اعف عنه واصفح , فوَالله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة على أن يُتَوِّجوه وَيُعَصِّبُوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فَعَل به ما رأيتَ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ).
لقد عجز رأس النفاق قبل أن يسلم أن يجد تعارضاً في القرآن أو السخرية به في مجلس عام من الناس، فلجأ إلى محاولة التضييق والترغيب بالحصار على القرآن وعلومه وجعلها خاصة بالمسجد النبوي، ولم يفلح في ذات المجلس إذ تصدى له المؤمنون وأظهروا شوقهم لسماع الحكمة والعلوم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
بحث أصولي
يحتمل النهي في قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا] ( )، أموراً:
الأول : الزجر عن ذات الوهن والضعف.
الثاني : إرادة بقاء المسلمين على الأصل وهو قوة الشكيمة والعزيمة في مواجهة الأعداء.
الثالث : المقصود من النهي هو الأمر بالعزيمة والقوة على القول بأن النهي عن الشئ أمر بضده الذي فيه ثلاثة وجوه:
الأول : النهي عن الشئ هو عين الأمر بضده، كما لو قال لا تسافر، فهو عين الإقامة في المكان.
الثاني : ليس من ملازمة بين النهي وضده، ولا يتضمن النهي معنى الأمر، وبه قال المعتزلة، والإنباري من المالكية، وإمام الحرمين والغزالي من الشافعية.
الثالث : النهي عن الشئ ليس هو الأمر بضده، ولكن يستلزمه، لإستحالة الجمع بين الضدين.
ويتقوم الأمر بالطلب والبعث على الفعل، أما النهي فهو لفظ يفيد الترك والزجر والإمتناع عن الفعل، ولا تصل النوبة إلى ما قيل من تقسيم الأمر إلى قسمين:
الأول : الأمر نفسي.
الثاني : الأمر اللفظي هو المعنى الموجود في الذات الخالي من الصيغة.
وبنى بعضهم مسائل على هذه القاعدة، فعل القول بأن الأمر بالشئ نهي عن ضده فان الأمر بالصلاة نهي عن السرقة، وعن لبس الحرير، وان النهي عنهما يفيد فساد الصلاة معهما أو مع أحدهما لأن النهي يقتضي الفساد.
ولا دليل على الوجه الأول أعلاه، والوجه الثالث هو الأرجح إلا مع القرينة على الخلاف وعدم الملازمة بينهما , والوجه الثاني في طوله في حالات:
الأول : عدم وجود الضد.
الثاني : تعدد الضد.
الثالث : التباين الرتبي بين أفراد الضد.
الرابع : وجود الضد الذاتي والعرضي، والمستقر والمتزلزل.
وقد لا تحيط مثل هذه القواعد بالموضوعات وأحكام الأوامر والنواهي وهو من الأسرار القرآنية والإعجاز والمتكامل في الشريعة الإسلامية، ويدل لهذا التعدد وإستقلال كل من الأمر والنهي قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، فلم تكتف الآية بالأمر ووجوب أخذه والعمل به بل ذكرت النواهي التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إجتناب مصاديقها.
الخامس : بيان الوظائف العقائدية والجهادية التي يتحمل أعباءها المسلمون في بناء صرح الدولة الإسلامية، وتثبيت أحكام الحلال والحرام، وبيان الصحة من الفساد في المعاملات.
السادس : تهيئة ودعوة المسلمين لقادم الأيام، وأخذ الحائطة من شرور المشركين، وطرد الغفلة في أمور الدين والدنيا.
السابع : تأديب المسلمين على قانون ثابت وهو إعطاء الأولوية إلى الغد وتقديمه على الأمس، ولا يعني هذا ترك التراث والتجربة، بل جاءت النصوص بالعناية بهما وبالإنسان وإتخاذ الوقائع والحوادث موعظة ودرساً ومادة للنهج القويم، وليكون الإحتراز والنهل منها من مصاديق قوله تعالى[وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( ).
وتقدير الجمع بين الآيتين(ولا تهنوا إن يمسسكم قرح لا تحزنوا) لبيان حقيقة وهي أن الدفاع والدعوة إلى الله سبب لتلقي الأذى والضرر، فالذي يجتهد في السعي في مرضاة الله ويصاب بالجراح وقد يفقد الأحبة عليه ألا يحزن ويكتئب.
وهل يصح التقدير: ولا تحزنوا إن يمسسكم قرح لا تهنوا، الجواب نعم ولكن يجتمع هنا النهي عن الحزن والشرط عند الإصابة بالجروح ثم يأتي ترك الوهن والضعف بينما يكون من الإعجاز في تقديم عدم الوهن على الإصابة بالجروح الدلالة على أن هذه الجروح أصابت المسلمين وهم مقبلون على القتال، عازمون على بذل الوسع في سبيل الله، قال تعالى[فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الثامن : يسعى الإنسان مع الحزن، ويدافع المؤمن عن بيضة الإسلام من غير أن يثنيه الحزن الذي ألم به، أما الوهن فانه بذاته سبب للقصور والتقصير، ليكون من إعجاز الآية أولوية ما يتم معه السعي والدفاع من غير عوائق ذاتية خاصة، وهو من مصاديق قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
وفي معركة أحد ومع ما تعرض له المؤمنون من الجراحات والكلم فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر مؤذناً ينادي بالخروج في طلب جيش المشركين المنهزم إلى مكة المكرمة، وفيه مسائل:
الأولى : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلف العدو من مصاديق[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وفيه آية لإقتباس الدروس والمواعظ والعبر من نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : فيه شاهد بأن المسلمين لم ينهزموا في معركة أحد، فالخاسر والمنهزم يجر أذيال الهزيمة ويتمنى ألا يرجع العدو ولا تعود المعركة في ذات الوقت.
الثالثة : بيان إخلاص أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجهاد في سبيل الله، وتلقين الكفار دروساً لزجرهم عن إعادة الكرة في الهجوم على المسلمين.
الرابعة : إنصياع الصحابة لأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بملاحقة المشركين مع ما فيهم من الجراحات، وهو من مصاديق الجمع بين[وَلاَ تَهِنُوا] و[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ].
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إلى حمراء الاسد، وهى من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والاربعاء ثم رجع إلى المدينة( ).
الجمع بين[وَلاَ تَحْزَنُوا][ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ]
من فضل الله عز وجل على المسلمين تتابع صيغة الخطاب القرآني لهم بما يتضمن إكرامهم، سواء بالأمر أو النهي أو الإباحة، أو لغة الشرط، ويفيد كل فرد منها الثواب العظيم للمسلمين في النشأتين فان قلت إذا كان الثواب يأتي للمسلمين باجتناب الحزن والجبن، فهل يأتيهم بحصول الحزن والحسرة، الجواب نعم، لأن ذات الحزن في مرضاة الله عز وجل، نعم إجتناب الحزن إمتثالاً للنهي الوارد في الآية أعظم أجراً، وأحسن ثواباً ومثاباً.
وجاء النهي عن الحزن معطوفاً على النهي عن الوهن والضعف، وفيه إعجاز بصيرورة عدم الوهن مدداً لعدم الحزن والأسى وهو أمر يتجلى بالمصداق الخارجي لأن الإندفاع بهمة في سبل التقوى واقية من الأثر المترتب على الحزن.
وعن ابن عباس قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} قال : مخرجاً من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة( )، ويحتمل عدم الحزن وجوهاً:
الأول : الحاجة إلى مقدمات ومستلزمات وأسباب السلامة والوقاية من الحزن الشخصي والعام.
الثاني : يجتنب المسلمون الحزن من غير واسطة وأسباب.
الثالث : إرادة المعنى الأعم بالحاجة إلى المستلزمات والأسباب، وبالتحلي بعدم الحزن من رأس.
والصحيح هو الثالث إذ لا تعارض بينها بلحاظ أن مقدمات السلامة من الحزن من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة بحسب أمور:
الأول : ذات أشخاص المؤمنين , من جهة كيفية تلقي نبأ وموضوع الحزن خاصة على القول بأن النساء أكثر عاطفة , ولا دليل عليه من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه حينما رجع من معركة أحد أخذ يواسي بنفسه النساء اللائي أصبن بمصيبة فقد الأحبة (عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: قمن النساء حين رجع رسول الله من أحد يسألن الناس عن أهليهن فلم يخبرن حتى أتين النبي، صلى الله عليه وسلم، فلا تسأله امرأة إلا أخبرها، فجاءته حمنة بنت جحش فقال: يا حمنة احتسبي أخاك عبد الله بن جحش. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمه الله وغفر له. ثم قال: يا حمنة احتسبي خالك حمزة بن عبد المطلب. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمه الله وغفر له. ثم قال: يا حمنة احتسبي زوجك مصعب بن عمير. فقالت: يا حرباه! فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: إن للرجل لشعبة من المرأة ما هي له شيء.
قال محمد بن عمر: في حديثه وقال لها النبي، صلى الله عليه وسلم: كيف قلت على مصعب ما لم تقولي على غيره؟ قالت: يا رسول الله ذكرت يتم ولده. قال وقد كانت حضرت أحدا تسقي العطشى وتداوي الجرحى، قال قد أطعمها رسول الله في خيبر ثلاثين وسقا)( )، ثم بيّن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنساء أنه صاحب مصيبة بفقد عمه(وذكر الواقدي قال : لم تبك امرأة من الأنصار على ميت بعد قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” لكن حمزة لا بواكي له إلى اليوم” إلا بدأت بالبكاء على حمزة ثم بكت ميتها
وأنشد أبو زيد عن عمر بن شبه لكعب بن مالك يرثي حمزة وقال ابن إسحاق هي لعبد الله بن رواحة :
بكت عيني وحق لها بكاها … وما يغني البكاء والعويل
على أسد الإله غداة قالوا … لحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا … هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلي لك الأركان هدت … وأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك في جنان … يخالطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيار صبرا … فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم … بأمر الله ينطق إذ يقول
ألا من مبلغ عني لؤيا … فبعد اليوم دائلة تدول
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا … وقائعنا بها يشفي الغليل
نسيتم ضربنا بقليب بدر … غداة أتاكم الموت العجيل
وعتبة وابنه خرا جميعا … وشيبة عضه السيف الصقيل
ألا يا هند لا تبدي شماتا … بحمزة إن عزكم ذليل
ألا يا عند فابكي لا تملي … فأنت الواله العبري الهبول)( ).
الثاني : موضوع الحزن.
الثالث : خصوص أو عموم الحزن.
الرابع : علة وسبب الحزن الأسى.
الخامس : الأثر المترتب على الحزن والأسى.
ومن مصاديق ومعاني تقدير الجمع بين الآيتين وجهان:
الأول : ولا تحزنوا إن يمسسكم قرح، وتحتمل الجملة الشرطية مسألتين:
الأولى : إرادة عالم الإمكان دون الوقوع.
الثانية : وقوع الفعل وتحقق الشرط.
الثاني : إن يمسسكم قرح لا تحزنوا
ولا تعارض بين الوجهين , ويدل على الأول ذات آية البحث بسبق إصابة الجراحات الكافرين , وعلى الثاني قوله تعالى[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول : الإصابة بالجروح ليست علة تامة للحزن والأسى الشديد.
الثاني : إرادة التخفيف عن المؤمنين فيما يصيبهم من الأذى والضرر في المعارك.
الثالث : دلالة الآية بالدلالة التضمنية على شدة ما يلاقيه المؤمنون من الضرر والخسارة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة لتدعو الآية المسلمين للإستعداد للبلاء والأذى ولكنها تبشرهم بالأمن والسلامة، وتخفيف وطأة الخسارة وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وتحتمل الآية بلحاظ أصل وماهية الحزن وجوهاً:
الأول : لا أصل للحزن عند المصيبة والخسارة، لأن الشهيد يدخل الجنة ويفوز بالنعيم الدائم، والجريح له الأجر والثواب وحسن المآب، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ]( ).
الثاني : الدنيا دار إمتحان وإختبار، وهذه المصائب من وجوه الإبتلاء في الدنيا.
الثالث : من لم يتعرض للأذى والجرح في المعارك كمؤمن خرج في سبيل الله، فانه يصاب بذات الإبتلاء في حياته اليومية العامة.
أما بالنسبة للوجه الأول فان أصل الحزن موجود بلحاظ أنه كيفية نفسانية تكون إنعكاساً وأثراً لحدث وفعل ضار يقع على الإنسان بدناً وروحاً، فجاءت الآية للتخفيف منه، من جهات:
الأولى : الخسائر والمصائب التي تعرض لها المسلمون في المعارك السابقة.
الثانية : كلوم وجروح المسلمين في الزمن الحال.
الثالثة : ما يلقاه المسلمون في الأيام والأشهر والسنين اللاحقة.
وهذا من إعجاز القرآن بأن تأتي الآية بأمر وإرادة حال فينبسط موضوعه على أفراد الزمان الثلاثة، ويبقى حاضراً في الوجود الذهني سلاحاً للمسلمين والمسلمات.
وتقدير الآية بلحاظ الأولى أعلاه من وجهين:
الأول : ولا تبقوا على حال الحزن التي أنتم عليها عندما تصيبكم خسارة.
الثاني : لا تتذكروا الخسارة السابقة فتحزنوا عليها.
وتقدير الآية على الجهة الثانية : أتركوا الحزن على المصيبة والجراح التي أنتم فيها الآن.
وأما على الجهة الثالثة فتقديرها: ستصيبكم وسوف تصيبكم جروح وكلوم فلا تحزنوا.
وبالنسبة للوجه الثاني والثالث أعلاه فصحيح أن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ولكن هذا لا يعني حتمية وقوع ذات المصيبة والخسارة بالفرد والجماعة في كل الأحوال، إذ أن الدنيا مزرعة للإختبار، وأراد المسلمون الجهاد في سبيل الله، نعم ورد قوله تعالى[قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ]( ).
وجاءت الآية أعلاه في الرد على رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول وغيره حينما بلغهم استشهاد عدد من قبيلة الخزرج في معركة أحد إذ قالوا لو كان لنا رأي مطاع ولو إستشارنا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج لما قتل أفراد من قبيلتنا.
فبينت الآية حقيقة وهي أن الكفار جاءوا مهاجمين، ولو لم يتصد لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون خارج المدينة لدخلوا إليها وعاثوا فيها فساداً، وقتلوا الذي كتب عليه القتل وحلول الأجل بينما كان الثواب العظيم مصاحباً للخروج، وفاز الذي قتل في ميدان المعركة بمرتبة الشهادة التي هي أسنى المراتب، وليس لها من مكان إلا في الميدان وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
ويحتمل قوله تعالى[وَلاَ تَحْزَنُوا]بلحاظ الإصابة بالجروح والخسارة وسقوط القتلى من المسلمين وجوهاً:
الأول : الآية خطاب مواساة للجرحى من المؤمنين وإرادة المعنى الأخص من قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ].
الثاني : المقصود التخفيف عن أخوة وذوي الشهداء في معركة أحد.
الثالث : توجه الخطاب للطوائف والقبائل من المؤمنين الذين خلفوا عدداً من القتلى من أصحابهم في المعركة , وورد ذكر الطائفة يوم أحد بقوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ).
ومن إعجاز نظم القرآن أن كلاً من آية البحث والآية السابقة فيها مسائل:
الأولى : المنع من دبيب الفشل والخوف والجبن للمؤمنين.
الثانية : كل من الآيتين من مصاديق ولاية الله عز وجل للمؤمنين.
الثالثة : نهي المؤمنين عن الوهن والحزن برزخ دون الهمّ بالفشل والتلبس به.
الرابع : مجئ الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، وصيغة الجمع للإكرام.
الخامس : إرادة صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت.
السادس : المقصود عموم المسلمين والمسلمات أيام وقائع الإسلام الأولى بدر وأحد والخندق.
السابع : المقصود المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة.
والصحيح هو الأخير، لأصالة العموم، وإتحاد الموضوع في تنقيح المناط، وتجلي وجوه الإبتلاء , ويحتمل موضوع الآية وجوهاً:
الأول : إرادة الوقائع الأولى في الإسلام.
الثاني : المقصود واقعة أحد بلحاظ كثرة الشهداء يومئذ وهم:
1- الحمزة بن عبد المطلب.
2- حنظلة الغسيل بن أبي عامر بن صيفي بن النعمان بن مالك.
3- مصعب بن عمير.
4- عبد الله بن عمرو بن وهب بن ثعلبة بن وقش بن ثعلبة بن طريف.
5- عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام.
6- خارجة بن زيد بن أبي زهير.
7- سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير.
8- النعمان بن مالك بن ثعلبة بن فهر بن غنم بن سالم.
9- عبادة بن الحسحاس.
10- مالك بن سنان، والد أبي سعيد الخدري.
11- شماس بن عثمان المخزومي.
12- سهل بن قيس بن أبي كعب.
13- عمرو بن معاذ بن النعمان.
14- عبد الله بن جبير بن النعمان، أمير الرماة.
15- الحارث بن أنس بن رافع.
16- عمارة بن زياد بن السكن.
17- سلمة بن ثابت بن وقش.
18- عمرو بن ثابت بن وقش.
19- رفاعة بن وقش.
20- اليمان، وهو الحسيل بن جابر، والد حذيفة حليف لهم.
21- صيفي بن قيظي.
22- حباب بن قيظي.
23- عباد بن سهل.
24- الحارث بن أوس بن معاذ، ابن أخي سعد بن معاذ.
25- ثابت بن وقش.
26- عبد الله بن جحش.
27- إياس بن أوس بن عتيك بن عمرو
28- عبيد بن التيهان.
29- حبيب بن زيد بن تيم.
30- يزيد، أو زيد، بن حاطب بن أمية بن رافع.
31- أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد
32- أنيس بن قتادة.
33- أبو حبة بن عمرو بن ثابت، أخو سعد بن خيثمة لأمه.
34- خيثمة، والد سعد بن خيثمة.
35- عبد الله بن سلمة.
36- سبيع بن حاطب بن الحارث بن قيس بن هيشة.
37- عمير بن عدي، ولم يكن في بني خطمة يومئذ مسلم غيره
38- عمرو بن قيس.
39- قيس بن عمرو بن قيس بن زيد بن سواد.
40- ثابت بن عمرو بن زيد.
41- عامر بن مخلد.
42- أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة بن عمرو بن ثقف بن مالك بن مبذول.
43- عمرو بن مطرف.
44- أوس بن ثابت بن المنذر، أخو حسان بن ثابت
45- أنس بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام
46- قيس بن مخلد.
47- كيسان، عبد لهم.
48- أوس بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب، وهو أخو زيد بن أرقم.
49- سعيد بن سويد بن قيس بن عامر بن عباد بن الأبجر
50- عتبة بن ربيع بن رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة بن عبد ابن الأبجر.
51- ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج ابن ساعدة.
52- ثقف بن [فروة بن] البدن.
53- ضمرة، من جهينة حليف لبني طريف رهط سعد بن عبادة.
54- نوفل بن عبد الله.
55- العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان.
56- المجذر بن ذياد البلوي.
57- عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر بن عبد الله.
58- خلاد بن عمرو بن الجموح.
59- أبو أيمن، مولى عمرو بن الجموح.
60- عنترة مولى سليم بن عمرو.
61- سليم بن عمرو بن حديدة.
62- ذكوان بن عبد قيس
63- عبيد بن المعلى بن لوذان
64- مالك بن نميلة، حليف بني معاوية بن مالك.
65- لحارث بن عدي بن خرشة بن أمية بن عامر بن خطمة.
66- مالك بن إياس.
67- إياس بن عدي.
68- عمرو بن إياس.
وقد تقدمت ترجمة شهداء أحد في الجزء السابق .
ومن أسرار المدد الإلهي يوم أحد أن المشركين كانوا ثلاثة أضعاف المؤمنين في ساحة المعركة، وبعد إبتداء المعركة إنهزم المشركون بأنفسهم وتركوا الأمتعة والمؤن والأثقال التي معهم كدأب المنهزم تخفيفاً عن نفسه في سرعة الهروب.
وهل كان هروب المشركين مكيدة وإستدراجاً لينزل الرماة الذين جعلهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الجبل برئاسة عبد الله بن جبير ليأخذوا من الغنائم، الجواب لا، من وجوه:
الأول : عدم الدليل، إذ كانت هزيمة المشركين إضطراراً ووهناً.
الثاني : إمتلاء أنفسهم بالرعب والفزع، وكانت هزيمتهم وكثرة قتلاهم يوم بدر حاضرة في أذهانهم ولأنهم لم ينتفعوا من نزول الرماة كثيراً.
الثالث : يدرك الكفار أن المسلمين مطيعون لله ورسوله طاعة تامة، ولا يظنون أن الرماة يتركون مواضعهم , وقد ثبت عبد الله بن جبير وعدد منهم على الجبل، (وقال لأصحابه الذين تركوه: انسيتم ما أمركم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: الغنيمة الغنيمة.
وسقط لواء المشركين، فرفعته امرأة منهم هي عمرة بنت علقمة فتحمسوا للقتال , وإضطرب المسلمون وإنسحب أكثرهم إلى الوراء فتجلت إمامة النبوة في الميدان بثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان بنفر من أهل بيته وأصحابه وهو ينادي: إلي عباد الله إلي عباد الله، أنا رسول الله.
وعن أنس بن مالك: أن المشركين لما رهقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في سبعة من الانصار ورجل من قريش، قال: من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ؟ فجاء رجل من الانصار فقاتل حتى قتل. فلما رهقوه أيضا قال: من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ؟ حتى قتل السبعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنصفنا أصحابنا( ).
ويقرأ أنصفنا بسكون الفاء أي أننا لم ننصف الأنصار بأن قتلوا جميعاً واحداً بعد واحد، ويقرأ بالفتح والمراد لم ينصفنا أصحابنا الذين تراجعوا وتركونا وحدنا نواجه طغيان وغرور كفار قريش .
وهل يصح الجمع بين الوجهين الجواب نعم.
وكان آخر السبعة من الأنصار هو عمارة بن يزيد بن السّكن دافع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أثبتته الجراح فسقط وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال أدنوه منى، فادنوه منه فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبه أربع عشرة جراحة .
ومن المصائب والقرح الذي أصاب المسلمين يوم أحد تمثيل المشركين بجثث الشهداء، وقامت بعض النسوة منهم بتقطيع آذانهم وأنوفهم، ليصنعن منها قلائد وخلاخيل يلبسنها وشقت هند بنت عتبة بطن حمزة عم النبي وأخرجت قطعة من كبده، وأرادت مضغها فلم تستطع فلفظتها من فمها، وكانت موتورة إذ فقدت في معركة بدر كلاً من:
الأول : أبوها عتبة بن أبي ربيعة.
الثاني : عمها شيبة بن أبي ربيعة.
الثالث : أخوها الوليد بن عتبة.
الرابع : ابنها حنظلة بن أبي سفيان.
ومن المصائب يوم أحد كسر رباعية النبي محمد صلى الله وآله وسلم، وسيلان الدماء من رأسه، وصعد الجبل، وصب الصحابة الماء على رأسه , ولكن الدماء لم تنقطع.
وعن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أما والله إنى لاعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووي.
قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغسله , وعلي يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه( ).
وعندما حان وقت صلاة الظهر لم يستطع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة عن قيام لكثرة جراحاته، فأم المسلمين قاعداً وهم قيام , وكل فرد من الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد مصيبة لعموم المسلمين والمسلمات.
ولقد أشاع المشركون يوم أحد بأنهم قتلوا النبي وسرعان ما إنتشر الخبر في أرض المعركة خاصة وأن كثيراً من المسلمين غادروا مواضعهم التي رتبهم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال منافق: إن رسول الله قد قتل فارجعوا إلى قومكم، فإنهم داخلوا البيوت( ).
فهل هذه الإشاعة من القرح الذي يجب أن يقابله المسلمون بعدم الوهن والحزن , أم ليس منه إذ لا أصل له.
الجواب هو الأول بلحاظ ما يترتب عليها من الأثر على الفرد والطائفة من المقاتلين، وما يترشح عنها من الإحباط لولا رحمة الله عز وجل بالمؤمنين وسرعة إنكشاف زيف هذه الإشاعة، ومجئ هذه الآيات بعدم الوهن والحزن يثبت عند مواصلة القتال كذب تلك الإشاعة، ويكون بذل المسلمين الوسع في ميدان المعركة حصناً وحرزاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين والمؤمنات.
وَمَرّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَتَشَحّطُ فِي دَمِهِ فَقَالَ يَا فُلَانُ أَشَعَرْت أَنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ ؟ فَقَالَ الْأَنْصَارِيّ إنْ كَانَ مُحَمّدٌ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلّغَ فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ فَنَزَلَوَمَا مُحَمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ.
وأقبل ثابت بن الدحداحة يومئذٍ والمسلمون أوزاعٌ( )، قد سقط في أيديهم، فجعل يصيح: يا معشر الأنصار، إلي! إلي! أنا ثابت بن الدحداحة، إن كان محمدٌ قد قتل فإن الله حي لا يموت! فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم! فنهض إليه نفرٌ من الأنصار، فجعل يحمل بمن معه من المسلمين، وقد وقفت لهم كتيبةٌ خشناء، فهيا رؤساؤهم: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فجعلوا يناوشونهم. وحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح، فطعنه فأنفذه فوقع ميتاً. وقتل من كان معه من الأنصار. فيقال إن هؤلاء لآخر من قتل من المسلمين، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الشعب مع أصحابه، فلم يكن هناك قتالٌ( ).
وآية البحث واقية للمسلمين من الحزن، وهي حرب على الإشاعات الخبيثة بذاتها وآثارها وغاياتها، وهي تدعو المسلمين للصبر ومجاهدة الكفار بالتقوى والسلامة من الوهن وترك الحزن والخوف عند الشدائد.
ومن مفاهيم الجمع بين قوله تعالى[وَلاَ تَحْزَنُوا][ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] دعوة المسلمين والمسلمات للدعاء والمسألة لأمور:
الأول : صرف الحزن عن المسلمين عند المصيبة والخسارة.
الثاني : دفع الخسارة عن المسلمين، ونجاة المسلمين منها وإن إجتمعت أسبابها، قال تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )، فان قلت مع حصول العلة التامة للخسارة مثلاً لابد من حصولها لقانون عدم تخلف المعلول عن علته .
والجواب العلة التامة هي وجود المقتضي وفقد المانع وليس من مقتض لهزيمة المسلمين، كما أن الدعاء مانع من حصولها، فهو سلاح الأنبياء ولقوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، ومن خصائص الدعاء أنه مقتض ومانع في ذات الموضوع، فهو بلغة لنيل المطلوب، وبرزخ دون موانعه.
الثالث : إدراك المسلمين لعدم الملازمة بين الحزن والخسارة، لأنهم في عين الله، والدعاء مناسبة لنيل حبه ورضاه.
الرابع : إمتثال المسلمين لأمر الله عز وجل بعدم الوهن والحزن عند الخسارة ونزول المصيبة، ليكون الدعاء عوناً ووسيلة لتقيد المسلمين بالأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة.
مصاديق العلوم
ترى ما هي مصاديق العلو التي يتصف بها المسلمون، الجواب من وجوه:
الأول : علو المسلمين في سلم التقوى، فلو قيل من هي الأمة التي تتقي الله عز وجل في أقوالها وأفعالها، كان الجواب هم المسلمون، وذات التقوى علو ورفعة ويترشح عن الصدور عنها العلو والرفعة.
الثاني : المسلمون هم الأعلى في ميادين القتال بالنصر والغلبة والظفر على الأعداء، وهذا العلو في حالات:
الأولى : قبل بدء المعركة، فإن قلت المسلمون أقل عدداً وعدة من الكفار وأكثر من هذا فإن المنافقين يعتذرون بما لا أصل له كيلا يشاركوا في القتال، قال تعالى في ذمهم وحكاية عنهم يوم الخندق[إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ]( )، أي خالية مكشوفة من جهة العدو، وغير حصينة، وعرضة للسرقة والعبث، ويحتمل إستئذانهم وجوهاً:
الأول : تحصين بيوتهم ثم العودة للقتال.
الثاني : الذهاب ساعة الخطر الدائم والرجوع عند الأمن وزوال الخطر.
الثالث : ترك مواقع القتال مع التربص وإنتظار النتائج خاصة وأن الظاهر والراجح في معركة الخندق عدم تحقيق غنائم في المعركة لأن المسلمين في حال دفاع خلف الخندق.
وأخرج ابن إسحاق أن آوس بن فيضي قال في ملأ من قومه من بني حارثة (إن بيوتنا عورة) وهي خارجة من المدينة: إئذن لنا فنرجع إلى نسائنا وأبنائنا وذرارينا)( ).
الرابع : الإنسحاب من المعركة وعدم العودة إليها.
والصحيح هو الأخير لقوله تعالى[إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( )، ومع خذلان المنافقين فإن المسلمين يبقون هم الأعلون وجاءت الآية لتوكيد هذه الحقيقة.
الثانية : عند الإستعداد والتهيء للمعركة , وإتخاذ مواضع القتال وهو الأمر الذي جاء القرآن بتشريف المسلمين به بقوله تعالى[تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )، وهذا التشريف من وجوه:
الأول : تولي رسول الله صلى الله وآله وسلم بشخصه الكريم تعيين مواضع المقاتلين.
الثاني : ترشح البركة عن قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوزيع المسلمين في ميادين القتال.
الثالث : عزم الصحابة على قتال الكفار.
الرابع : حرص المسلمين على طاعة الله ورسوله في أشد الأحوال وهو ميدان القتال.
الثالثة : علو المسلمين عند الله بذكره تعالى ، والتفاني في مرضاته، وبذل النفس في سبيله سبحانه.
الرابعة : علو المسلمين عند إنتهاء المعركة من جهات:
الأولى : شكر المسلمين لله عز وجل.
الثانية : وقاية دولة الإسلام من الإنهيار.
الثالثة : سلامة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه وسط المعركة.
الرابعة : تنزه المسلمين عن قتل الأسرى.
الخامسة : علو ورفعة المسلمين في تقسيم الغنائم، (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لَا يَتَّبِعْنِي رَجُلٌ قَدْ مَلَكَ بُضْعَ امرأة وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمْ يَبْنِ وَلَا أَحَدٌ قَدْ بَنَى بُنْيَانًا وَلَمَّا يَرْفَعْ سُقُفَهَا وَلَا أَحَدٌ قَدْ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَوْلَادَهَا فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ أَنْتِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا فَأَقْبَلَتْ النَّارُ لِتَأْكُلَهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَ فَقَالَ فِيكُمْ غُلُولٌ فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَبَايَعُوهُ فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ فَبَايَعَتْهُ قَبِيلَتُهُ قَالَ فَلَصِقَ بِيَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ أَنْتُمْ غَلَلْتُمْ فَأَخْرَجُوا لَهُ مِثْلَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ فَوَضَعُوهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ بِالصَّعِيدِ فَأَقْبَلَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا)( ).
وجاءت الآية أعلاه من سورة الأحزاب بصيغة الفعل المضارع يقولون إن بيوتنا عورة مما يدل على تجدد هذا القول والإعتذار من المنافقين وأن القرآن ذكر قولهم (بيوتنا عورة) من باب المثال، فهم في كل مرة يجدون عذراً للقعود والتخلف عن الجهاد أو أداء العبادات كالزكاة مثلاً، وفي الطريق إلى أحد إحتج رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول من أجل الرجوع إلى المدينة وسط الطريق إلى المعركة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمع كلامه بالبقاء فيها لقتال المشركين.
وعن ابن شهاب وغيره قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أحد في ألف رجل من أصحابه ، حتى إذا كانوا بالشرط بين أحد والمدينة انخذل عنهم عبد الله بن أُبَيَّ بثلث الناس ، وقال : أطاعهم وعصاني والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا ، فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق وأهل الريب)( ).
الثالث : المسلمون هم الأعلون بالسلامة من النفاق، والوقاية من شرور وأضرار المنافقين فلقد أشرقت شمس الإسلام على ربوع الأرض على نحو سريع، إرتفعت رايته على المدن والقرى بالتعاقب والتوالي ففي كل يوم يدخل وفد قبيلة من قبائل العرب إلى المدينة المنورة ليعلنوا إسلامهم ويتفقهوا في الدين فمثلاً (قال الواقدي: كان وفد بنى حنيفة بضعة عشر رجلا عليهم سلمى بن حنظلة، وفيهم الرحال بن عنفوة وطلق بن علي , وعلي بن سنان ومسيلمة بن حبيب الكذاب، فأنزلوا في دار مسلمة بنت الحارث وأجريت عليهم الضيافة، فكانوا يؤتون بغداء وعشاء مرة خبزا ولحما، ومرة خبزا ولبنا، ومرة خبزا، ومرة خبزا وسمنا، ومرة تمرا بنزلهم.
فلما قدموا المسجد أسلموا وقد خلفوا مسيلمة في رحالهم، ولما أرادوا الانصراف أعطاهم جوائزهم خمس أواق من فضة، وأمر لمسيلمة بمثل ما أعطاهم، لما ذكروا أنه في رحالهم)( ).
الرابع : العلو في مراتب الإيمان لأن المدار في مراتب الناس في الدنيا على الإيمان وسلم درجاته، وقد أخلص المسلمون الطاعة لله عز وجل، وإمتلأت نفوسهم بالإيمان.
وعن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن(أو تملأ) ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها) ( ) .
إن إتيان الأفعال العبادية حرز للتنزه من النفاق، وسبيل للسلامة من أخلاقه المذمومة.
الخامس : إرتقى المسلمون لمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بتحليهم بالصبر وتقيدهم بآدابه وإستحضارهم لشرائطه حال الرخاء والشدة.
فإن قلت يحتاج الفرد والجماعة الصبر عند الشدة والضراء فما هي حاجته له في حال الرخاء , والجواب الحاجة للصبر مستديمة في كل الأحوال، ومن ضروبه الصبر عن المعاصي والسيئات والجحود بالنعمة والطغيان والظلم والعتو ونحوها من الأخلاق المذمومة عند توالي النعم، وقال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ) .
وصحيح أن تفسير الصبر في الآية جاء بمعنى الصيام إلا أنه لا يمنع من التعدد في معانيه خاصة وإن الآية أعلاه جاءت مرتين في القرآن إحداهما بإضافة واو(وأستعينوا)( )، وجاءت في نظم آيات تتضمن الخطاب لبني إسرائيل وليس فيه مانع من العموم وإرادة المسلمين.
وتضمنت قانوناً كلياً بخصوص الصلاة وهو[وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( )، وفيه دلالة على الملازمة بين الأمة الأعلى وبين الإرتقاء في مراتب الخشوع لله عز وجل .
والصلاة واجب يومي يتكرر خمس مرات في اليوم بكيفية وأفعال مخصوصة , والصبر حاجة للمؤمن في كل يوم إذ يداهمه الإبتلاء في البيت والسوق وميدان العمل، وتتزاحم في ذهنه الآمال والأوهام، وتتاح أمامه الفرص وأسباب العمل الذي قد يظنه مكسباً وسعادة فيكون وبالاً، أو بالعكس فإنه يتردد عن العمل والكسب ويتباطئ عنه، فيفوته ربح كثير، قال تعالى[وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( )، فبلغ المسلمون مراتب الإنسانية بالإيمان وإختيار الفعل أو الترك وفق الضوابط الشرعية.
السادس : نال المسلمون مرتبة الأعلون بالخطاب التشريفي لهم[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والذي ورد تسعاً وثمانين مرة في القرآن، وفيه آية في الإكرام والشهادة لهم بالتقوى والصلاح بذات الخطاب وبمضامينه القدسية وسنن الأحكام التي جاءت معه، ليكون هذا التشريف باعثاً عليها، كما أنها سبب لبلوغ مرتبة (الذين آمنوا) من غير أن يلزم الدور بينهما لأن إستحقاق المسلمين لهذا الوصف الكريم متجدد في كل يوم بلحاظ تعاهدهم للإيمان وسنن الصلاح وتعاهدهم للفرائض والوجبات العبادية.
ويتضمن كل فرد من الخطاب القرآني(يا أيها الذين آمنوا) نوع تحد للناس بأن الملاك والمعرفة بالتقوى وأسباب الهداية والرشاد.
السابع : من مقومات خلافة الإنسان في الأرض الملازمة بين النبوة وبين وجوده فيها، إذ كان آدم أبو البشر نبياً رسولاً، وكان إنقطاع النبوة برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية في موضوع الخلافة ومصداقاً إعجازيا في قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بحيث يمتنع التمايز والتباين بين مصاديق الخلافة وهي:
الأول : إرادة خلافة آدم عليه السلام على نحو التعيين.
الثاني : خلافة الأنبياء والرسل.
الثالث : خلافة الأولياء والصالحين.
الرابع : خلافة الإنسان مطلقاً بلحاظ تسخير الأشياء له.
ومن الآيات أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام شريعته باقية في الأرض من جهات:
الأولى : تصديق أجيال المسلمين المتعاقبة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير.
الثالثة : تعاهد المسلمين لوراثة الأنبياء في المناسك والخلق الحميد.
الرابعة : حفظ المسلمين لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية بأداء العبادات بالكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال بخصوص أداء الصلاة: صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ).
ليمنع هذا الحديث الخلاف والإجتهاد في مقابل النص كيفية وأجزاء الصلاة، وفيه وجوه:
الأول : سلامة الأمة من الخلاف في الصلاة من مصاديق مرتبة الأعلون.
الثاني : تعاهد المسلمين لصلاة النبي من مصاديق وراثة الخلافة في باب العبادة.
الثالث : إجتهاد المسلمين في طاعة الله، وعدم الإنشغال بالخصومة والنزاع.
الرابع : تقيد المسلمين بالأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة النبوية من الشواهد على إستدامة الخلافة في الأرض , وإمتثالهم لما أمر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وتدل هذه الآية على بقاء الخلافة في الأرض بإستدامة مناهج الأنبياء، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الخامس : التصديق بنبوة كل الأنبياء على نحو العموم المجموعي والإستغراقي وعدم التفريق بينهم أو إنكار نبوة بعضهم، وكأنهم حاضرون بسننهم وعباداتهم بعمل وسنة المسلمين وصلاحهم وتقواهم, والضابطة في المقام هي عمارة الأرض بالمناسك وسنن التقوى.
الثامن : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم، ومع الناس جميعاً، وهو سنة ومنهج الأنبياء وطريق النجاح والفلاح في النشأتين، إذ يجتهد المسلمون في دوام إصطباغ الأرض بصيغ التقوى وتنزيه النفوس من مفاهيم الضلالة وزجرها والجوارح عن فعل السيئات وإرتكاب المعاصي.
وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل( ).
التاسع : المسلمون هم الأعلون , بتقيدهم حاكما ومحكوماً بما أنزل الله عز وجل , قال تعالى[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ]( )، [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( )، [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ).
فإن قلت هناك الأحكام الوضعية عند المسلمين، والرشا في الحكم، والجواب المدار على التشريع وبقائه وإن ترك فريق العمل به فلا يعني هذا إبتعاد المسلمين عن العمل بالتشريع.
ومن الإعجاز في القرآن أن أحكام الحلال والحرام فيه، وكذا سنن الفرائض والمواريث تامة خالية من التعارض، وقد تقدم في الآية قبل السابقة نعت القرآن بأنه (بيان للناس) ( )، وحفظ وتقديس المسلمين لألفاظ وكلمات القرآن وحرصهم على العمل بمضامينها القدسية دليل على عدم إنحرافهم عن الحكم بما أنزل الله، هذا قبل أن تصل النوبة إلى القول بأن أكثر الأحكام الوضعية مقتبسة من الشريعة.
وهل في قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] دعوة سماوية للمسلمين لتعاهد المبادئ والأحكام والسنن التي جاءت في القرآن وتضمنتها السنة النبوية الجواب نعم، وفيه تأكيد لفضل الله عز وجل على المسلمين بأن تخبر الآية السابقة عن فوز المسلمين بمرتبة العلو والسمو بين الأمم، ويخاطبهم الله (وأنتم الأعلون) ويتفضل في ذات الوقت بإعانتهم للبقاء في هذه المرتبة وعدم مفارقتهم لها، وهو من اللطف الإلهي بهم وبالناس فإن قلت علمنا أنه لطف إلهي بالمسلمين فكيف يكون لطفاً بغيرهم من الناس، والجواب من جهات:
الأولى : وجود أمة طائعة لله عز وجل، تكون لهم أسوة، ومن الآيات في أحكام الشريعة الإسلامية أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أسوة بالمسلمين بقوله تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )، ويكون المسلمون أسوة لغيرهم من الناس، في العبادات والمعاملات والخلق الحميد، وتلك آية في بقاء وإستدامة الخلافة في الأرض بمعانيها ومناهجها ببقاء سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غضة طرية إلى يوم القيامة، ترّغب الناس بالإيمان، وتدعوهم للصلاح , نعم قيدت الآية السابقة علو المسلمين بقوله تعالى[إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، ليكون تقديرها (وأنتم الأعلون ما دمتم مؤمنين) وفيه بعث للسكينة في نفوس أجيال المسلمين المتعاقبة لبقائهم في منازل الإيمان.
الثانية : بيان أجلى مصاديق قاعدة نفي الجهالة والغرر، بأن يرى الناس أمة تعمل بالأوامر والنواهي الإلهية، وهذا العمل برزخ دون طغيان صيغ الضلالة وإنتشار الفسوق.
الثالثة : لا تختص صفة الأعلون بالأشخاص والجماعات بل بالمبادئ والإيمان والتقوى، والمناجاة ودعوة كل إنسان للتقيد بالهدى وعدم مغادرة مواطنه.
الرابعة : تدل الآية بالدلالة التضمنية على حقيقة وهي ليس بين أي إنسان والدخول في الأمة الأعلى إلا الإيمان.
إعجاز الآية
ذكرت الآية المسلمين بصيغة الخطاب وصفة الإيمان [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] بينما ذكرت الكفار باسم القوم، والنسبة بينهما على وجوه:
الأول : نسبة التباين من جهة إيمان المسلمين، وكفر مشركي قريش الذين يكثرون من الهجوم على بلد المسلمين وهو آنذاك المدينة المنورة، وخوض المعارك معهم.
الثاني : نسبة التساوي من جهة خوض المعارك، فكل من المسلمين والمشركين يخوضون المعارك في ميادين القتال.
الثالث : نسبة التساوي من جهة الخسارة والجروح في المعارك، ففي القتال يصاب كل فريق بالجروح ويفقد بعض رجاله، ولكن هذا الأمر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في ذاته وأثره فلذا جاءت هذه الآية والآية السابقة لحث المسلمين على الجهاد حتى تحقيق النصر والغلبة على الأعداء.
الرابع : نسبة التباين في المدد، فليس من مدد يأتي للكفار، أما المسلمون فان المدد يأتيهم من عند الله عز وجل، وقد تقدم قانون (الآية القرآنية مدد) فآية البحث مدد سماوي للمسلمين ليواصلوا القتال مع ما ألم بهم من الجراح وقلة المؤونة ونقص العدد.
الخامس : نسبة التباين من جهة إصابة الكفار بالجزع والضعف والحزن بينما يكون المؤمنون في مأمن من أسباب الضعف لما تقدم في الآية السابقة[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا].
ويحتمل قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] وجوهاً:
الأول : إرادة عالم الإمكان وليس الحدوث الفعلي.
الثاني : الإخبار عن أمر يحدث مستقبلاً لتهيئة أذهان المسلمين له.
الثالث : إفادة وقوع القرح والخسارة والجروح للمسلمين في ميادين القتال.
والصحيح هو الثالث بدليل لغة التشبيه في الآية، وصيغة الماضي فيها[فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ] ويكون الوجه الثاني أعلاه في طوله ليكون من إعجاز الآية إخبار المسلمين في كل زمان باحتمال تعرضهم للضرر والخسارة وأن عدوهم يصاب بذات الضرر أيضاً.
وتتضمن الآية إكرام المسلمين من جهات:
الأولى : لغة الخطاب التشريفي.
الثانية : الدلالة التضمنية بأن الضرر والأذى يلحق المسلمين هم في مرضاة الله بدليل نعت الآية السابقة المسلمين بأنهم الأعلون.
الثالثة : مواساة المسلمين بما يصيب عدوهم من الضرر، فقد يولي الإنسان العناية لما يلحقه من الأذى والضرر، وينشغل بمصيبته، ولا يلتفت إلى ما أصاب عدوه من الضرر، فجاءت الآية ليرتقي المسلمون في مراتب الفقاهة وسلم المعرفة بأن يتخذوا ما لحق عدوهم من الخسارة مادة للصبر، وسبباً لمواصلة الدفاع والجهاد في سبيل الله، والإجهاز على العدو لأنه جريح مكسور ليس عنده إلا الأوثان يتوسل بها ولا تفيد شيئاً , قال تعالى[لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ]( ).
ومن إعجاز الآية بلحاظ المفهوم أنها أمن من الهزيمة والإنكسار لجيش المسلمين، إذ أنها قيدت سنخية وكم الخسارة بالقرح والجرح والتعليق على المستقبل لصيغة المضارع فيها[إِنْ يَمْسَسْكُمْ] فان قلت ذات المعنى من القرح جاء بخصوص الكفار، والجواب من جهات:
الأولى : ذكرت الآية ما أصاب القوم أي كفار قريش بصيغة الماضي.
الثانية : إخبار الآية السابقة بعلو رتبة المسلمين وتفوقهم على عدوهم بقوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، لموضوعية وحدة نظم الخطاب في الآيتين.
الثالثة : ذكر هذه الآية لقانون في الإرادة التكوينية وهو تبادل وتقاسم الناس للأيام في الشأن والجاه والحكم.
الرابعة : ذكر الآية خسارة وقرح المسلمين بصيغة الجملة الشرطية بينما ورد ما أصاب الكفار بلغة الجملة الخبرية وما يدل على الوقوع كما في معركة بدر إذ قتل من المشركين سبعون وأسر سبعون.
وتتضمن الآية الثناء والذم الدائمين مع تباين الموضوع ، الثناء على المؤمنين الذين يصابون بالجراحات والكلوم في سبيل الله والذين سوف يصابون بها، والذم والتبكيت للكفار الذين تنزل بهم الجراحات لإختيارهم الكفر وصدودهم على الدفاع عن الأوثان ومفاهيم الشرك والضلالة.
ويتجلى هذا التباين بين الثناء والذم بصيغة الخطاب للمسلمين، وذكر الكفار باسم القوم (فقد مس القوم) وفيه نكتة وهي كان الإنتماء عند العرب بلحاظ النسب والقبيلة.
فجاءت الآية لتؤكد أن الإنتماء والإنتساب بحسب الإيمان أوالكفر، وأن خطاب الإكرام خاص بالمؤمنين، وإن كانوا من قبائل وأمصار وشعوب مختلفة فان الجامع بينهم تلقي خطاب التشريف من عند الله.
وأن الكفار وإن كانوا من قبائل وأخلاط متعددة فان الذم يتوجه لهم، فلا غرابة أن يقاتل الأخ أخاه أو أباه في معركة بدر أو أحد.
ليكون من رشحات آية البحث التأسيس لتقسيم جديد بين أطراف النزاع والقتال على أساس عقائدي، فليس من سبب يفرق بين الناس مثل السيف والإقتتال.
وهذا التقسيم في ميادين القتال من مصاديق ما ورد في الآية السابقة[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] كيلا يتردد المؤمنون في قتال الكفار خاصة وان بعضهم كان موصوفاً بحسن الرأي وله شأن وجاه بين القبائل ولكنه عندما تلقى الأمر بترك إكرام وعبادة الأوثان صدّ ونفر وإنقاد مع قومه الجاحدين للقتال بالسيف ليخسر الدنيا والآخرة.
وقد تجلى هذا المعنى المترشح عن الجمع بين الآية السابقة وآية البحث بقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ]( ).
ومن أسرار التباين بين لغة الشرط الخاصة بالمؤمنين، وصيغة الجملة الخبرية بخصوص الكفار إتحاد ما يصيب المسلمين من الجراحات، وتعدد ما يصيب الكفار منها بلحاظ أن تقدير الآية هو: ان يمسسكم قرح فسيصيب القوم قرح لتكون جراحات المسلمين فيما يخص المستقبل والمعارك اللاحقة , أما الكفار فجراحاتهم من جهتين:
الأولى : ما ذكرته آية البحث ( فقد مس القوم قرح).
الثانية : ما سيصيب الكفار من الجراحات في المعارك اللاحقة لدلالة قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] على حصول القتال والكر والفر بين المسلمين والكفار , قال تعالى في الثناء على المؤمنين [يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ]( )، فيدخل المسلمون المعركة وكأنهم ليس عندهم جراح ولم يغادرهم اخوانهم الذين قتلوا في سبيل الله لأن الله عز وجل أخبر بأنهم أحياء، قال تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ]( )، بينما يحزن ويرثي الكفار قتلاهم خاصة وأنهم من رجالاتهم وفرسانهم .
ويكون تقدير الآية هو: ان يمسسكم قرح يمس القوم قرح وقد مس القوم قرح مثله).
فيكون القرح الذي يصيب الكفار متعدداً، سابقاً ولاحقاً , وهل يصح أن نجعل تقدير الآية بتكرار المثلية أيضاً إن يمسسكم قرح يمس القوم قرح مثله , الجواب لا، إذ إزدادت قوة ومؤن المسلمين , وكثر عددهم وأسلحتهم، وأخذوا يتسابقون للخروج إلى سوح المعارك بينما وهن الكفار وظهر عليهم الضعف، وفقدوا كبراءهم وفرسانهم بالمعارك, وكسدت تجارتهم، وتخلى عنهم الأتباع، فاذا أصاب المسلمين قرح وجراحه فتصيب الكفار أضعافها , قال تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( ).
ويمكن تسمية هذه الآية آية(أن يمسسكم قرح) ولم يرد لفظ(يمسسكم) في القرآن إلا في هذه الآية، ومجموع المرات التي ورد فيها لفظ(قرح) في القرآن ثلاث مرات، جاءت إثنتان منها في هذه الآية، فيمكن تسميتها آية القرح.
الآية سلاح
وتبعث الآية السكينة في نفوس المسلمين عند التعرض للخسارة أو الهزيمة في ميدان القتال، أو رؤية علو سلطان وشأن الكفار، وتتضمن الإخبار عن عدم حصر الشأن والسلطان بقومية وعرض مخصوص إذ أنها وردت بصيغة العموم (نداولها بين الناس) فقد تكون طائفة أو فئة مستضعفة لتصبح ذات شأن وجاه بالعلم والتقوى أو بالقوة والغلبة، أو بالمال والجاه، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وبلحاظ الآية السابقة يكون تداول الأيام بين الناس من جنود الله عز وجل في تثبيت سنن الإيمان.
من رحمة الله عز وجل نزول القرآن بنواهي مخصوصة , وكل نهي منها مدرسة في العقيدة والأخلاق، ومصداق لقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، ومن بديع صنع الله عز وجل أن النهي القرآني من أفراد الزراعة فيها بلحاظ أن الإمتناع عما نهى الله عز وجل عنه على وجوه:
الأول : إنه أمر وجودي وليس عدمياً.
الثاني : الإمتناع عما نهى الله عز وجل عنه عبادة وطاعة لله سبحانه.
الثالث : الثواب العظيم لمن إجتنب ما زجر الله عنه.
الرابع : إرادة قصد القربة في النواهي بلحاظ أن ترك المنهي عنه أمر وجودي وليس عدمياً .
الخامس : كل نهي له منافع عظيمة في ذاته وأثره.
ومن الإعجاز في آية البحث أنها ومع قلة كلماتها إبتدأت بنهي متعدد من وجوه:
الأول : النهي عن الوهن والضعف.
الثاني : النهي عن الحزن وإستيلاء اليأس على النفوس.
الثالث : النهي الجامع عن الوهن والحزن.
وفيه شاهد على أهلية المسلمين لتلقي النواهي المتعددة في آن واحد، وكل واحد منها يتضمن الترك والزجر ولزوم عدم الفعل.
ومن الإعجاز أن كل فرد من هذه الأفراد بالأصل كيفية نفسانية وإن إنعكس بعالم القول والفعل، وفيه مسائل :
الأولى : بلوغ المسلمين مرتبة رفيعة بأن يصلح الله عز وجل نفوسهم.
الثانية : بقاء المسلمين على مرتبة من القوة والمنعة في كل الأحوال، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة : عصمة المسلمين من الإنكسار والتشتت وضياع الدولة.
الرابعة : تنمية ملكة التقوى عند المسلمين، وإستحضارهم الخشية من الله عز وجل حتى في خلجات النفس، مما يدل على تجلي التقوى في القول والفعل من باب الأولوية القطعية.
وعن الإمام علي عليه السلام قال: إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها و حد لكم حدودا فلا تعتدوها ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها و سكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها( ).
إن الوهن والحزن يدفعان ويمحوان درجات من الهمة وقد يمنعان من حرص المؤمنين على شحذ العزائم.
فأراد الله عز وجل إعطاء المسلمين الأولوية للمناجاة للدفاع عن بيضة الإسلام، وعدم القعود , لأن كفار قريش يكيدون لهم ويجهزون الجيش بعد الآخر لقتالهم.
بحث أصولي
تتضمن صيغة (لا تفعل) ترك الفعل، ولا بد أن يكون الترك وعدم الفعل هو الراجح، وفيه وجوه:
الوجه الأول : الوهن والحزن ممتنعان، فتنشر حرمة التلبس بهما.
الوجه الثاني : لا دليل على إمتناع الوهن والحزن، فتنتفي الحرمة، ليكون الحكم هو الكراهة، وهو على شعب:
الأولى : المصلحة الأخروية.
الثانية : المصلحة الدنيوية.
الثالثة : المصلحة الدنيوية والأخروية.
والصحيح هو الشعبة الثالثة من جهات:
الأولى : إرادة طاعة الله، والإمتثال لما ورد في الآية السابقة.
الثانية : قصد القربة في إجتناب الوهن والحزن.
الثالثة : تجلي النفع الحال بالسلامة من الهزيمة ومن الأمراض ولا تختص المصلحة هنا بالمسلمين بل تشمل غيرهم لما في عدم الوهن والحزن من مقدمات الدعوة إلى الله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( )، وتحتمل العصمة من الوهن والتباعد عن الحزن بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً:
الأول : كل فرد من عدم الوهن وعدم الحزن من الدعوة إلى الخير.
الثاني : كل فرد منهما من الأمر بالمعروف.
الثالث : كل من فرد منهما من النهي عن المنكر.
الرابع : عدم الوهن من الدعوة إلى الخير، وعدم الحزن من الأمر بالمعروف.
الخامس : عدم الوهن من الأمر بالمعروف وعدم الحزن من النهي عن المنكر.
السادس : عدم الوهن من النهي عن المنكر، وعدم الحزن من الدعوة إلى الخير.
والصحيح هو الأول والثاني والثالث، ليكون المجاهدون في سوح المعارك من الأمة التي ذكرتها الآية أعلاه[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] فيأتيهم الثواب العظيم والأجر بذات الفعل والترك والأثر على الذات والغير، وهل ينحصر الغير هنا بالمجاهدين والمرابطين الذي يرونهم في أمن وسلامة من الوهن.
الجواب لا، فالنفع والأثر لهذا الفعل المبارك متصل ومتجدد إلى يوم القيامة وقد تكون بعض الخيرات ذات مصلحة أخروية لباذلها إن قصد بها القربة إلى الله ودنيوية للقابل كما في الضيافات وإنقاذ الغرقى والإقراض، نعم قد يكون القرض لمصلحة أخروية للمقترض أيضاً إن صرفه في مرضاة الله، وقد يكون لمصلحة دنيوية لذات المقرض إن أراد به مصلحة دنيوية ولم ينو قصد القربة، أو أن ينوي الفرد الجامع لهما من غير أن تصل النوبة إلى الرياء.
الوجه الثالث : النهي حقيقة في الحرمة ومجاز في الكراهة ونحوها.
الرابع : إرادة الكراهة حقيقة.
الخامس : التوقف وعدم القطع بالحرمة أو الكراهة، وهو مذهب الأشعري بلحاظ الوجوب في الأمر، وبه قال القاضي أبو بكر والغزالي من أصحابه وغيرها، ومال إليه الآمدي( ).
السادس : الإشتراك بين الحرمة والكراهة ولا يعرف أحدهما إلا بالقرينة والأمارة.
ونضيف قولاً آخر وهو أن ذات الأمر قد يكون مرة واجباً وأخرى مندوباً بحسب اللحاظ والقرائن والكم والكيف، وكذا النهي قد يكون محرماً مرة وأخرى مكروهاً والبيان تابع للمبين.
وبخصوص قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا] فانه يدل على حرمة الوهن والضعف، قال تعالى[فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، وهل يحمل عدم الوهن على الكراهة في حالات كما لو كان المسلمون في حال من المنعة والقوة.
الجواب لا دليل عليه، أما أحكام التقية والصبر وقاعدة الميسور فهي أمور خارجة بالتخصص عن هذا الباب، وأما قوله تعالى[وَلاَ تَحْزَنُوا] فهو على وجوه:
الأول : حرمة الحزن في حالات:
الأولى : الحزن الطاغي المستحوذ على النفس.
الثانية : الحزن المانع من التدبير.
الثالثة : ما يؤدي إلى القعود عن الدفاع.
الرابعة : الحزن الذي يجعل المؤمن منشغلاً بالبكاء ونفسه ممتلئة بالحسرة والأسى.
الخامسة : الحزن الذي يكون مقدمة للهزيمة والإنكسار، لقاعدة حرمة المقدمة لحرمة ذيها.
الثاني : كراهية الحزن في حال قلته وعدم غلبة أثره على الجوارح.
الثالث : إباحة الحزن في المصائب الخاصة وفي حزن يعقوب على فراق يوسف وإنقطاع خبره لسنوات، قال تعالى[وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ]( ).
فمن الإعجاز في الآية أعلاه إقتران الحزن بكظمه وكبته ومنعه من الظهور على الجوارح وفي عالم الأفعال ليكون حلية للمصاب، وشاهداً على حسن التوكل على الله.
ويستقرأ التفصيل بين الحرمة والكراهة في ذات الموضوع المنهي عنه، وكذا بين الوجوب والندب في أمور:
الأول : ما يكون من الكلي المشكك الذي هو على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، فيكون أدنى مراتب الوجوب متصلاً مع أشد مراتب الكراهة.
الثاني : ما يتباين موضوعه وأثره بحسب الحال وإختلاف المزاج والمناسبة.
الثالث : موضوعية القرائن والأسباب، والأمور الخارجية، والأثر الذي يأتي من الغير.
الرابع : حصول وضع وحالة طارئة تنقل الحكم من الحرمة المتعارفة إلى الكراهية أو بالعكس.
وقد أختلف في النهي عن الشئ هل هو أمر بضده أو لا، وليس من قاعدة كلية في المقام، فقد يفيد النهي عن الشئ أمراً بضده، وقد لا يفيده، أو ليس من ضد في المقام.
فقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا] يعني ضرورة البقاء على الأصل وهو بذل الوسع في القتال، وعدم القعود أو التهاون في ملاقاة العدو أو التفريط بالواجبات العبادية.
أما قوله تعالى[وَلاَ تَحْزَنُوا] فضد الحزن الفرح والسرور، ومن أمثالهم:الترحة تعقب القرحة ( ).
والترح: الحزن والأسى، و(الترح: الهبوط)( )، ولم تدل الآية في مفهومها على البعث على الفرح والسرور , فالقدر المتيقن منها إجتناب إستيلاء الحزن على النفوس، قال تعالى[لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ]( ).
ليدل الجمع بين قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ][ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] على عدم إطلاق المثل أعلاه وأن المسلمين يخرجون بالتخصص منه، فمع التقوى ليس مع القرح والجرح والضرر إلا العز والفخر وأسباب النصر.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية بصيغة الخطاب الموجه إلى أجيال المسلمين إلى يوم القيامة لتكون كنزاً ينهلون منه، وحرز أمان في مواجهة الشدائد وضروب التعدي , وتضمنت الآية أموراً:
الأول : الجملة الشرطية.
الثاني : الجملة الخبرية.
الثالث : بيان أسرار تقلبات الزمان.
الرابع : علة تصريف الأيام بين الناس.
الخامس : إختتام الآية بقانون كلي من الإرادة التكوينية وهو أن الله عز وجل(لا يحب الظالمين).
ولأن القرح والجراحات التي تصيب المسلمين في سبيل الله فانه تعالى أكرمهم بالتخفيف من آلامها , وتفضل بدفع شدتها وثقل وطأتها بالمواساة بأن القروح والجراحات أصابت الكفار أيضاً، وبدأت بهم فان جاءت المثلية في القرح والجراحات بقوله تعالى[قَرْحٌ مِثْلُهُ] فان التباين جلي في الزمان وأوان وقوع الجراحات، إذ أنها أصابت الكفار في الزمن الماضي.
ومن الإعجاز في الآية مجئ الإخبار عن إصابة الكفار بالجراحات والقروح عقب الإخبار عن إصابة المسلمين بها، مع الفارق وهو ثبوت جراحات الكفار، لتكون المواهب للمسلمين في المقام متعددة، ولايختص الأمر بالمواساة وحدها ففي ذكر إصابة الكفار بالجراحات أمور:
الأول : الصبر على الجراحات وعدم إظهار الجزع وما يؤدي إلى تثبيط العزائم.
الثاني : الترغيب بالدفاع عن الإسلام وإن أحتمل الجرح والقرح.
الثالث : بيان الوهن والضعف الذي أصاب المشركين، فحينما رجع الكفار من معركة بدر إلى مكة أخذوا يبكون قتلاهم، ويولون عناية فائقة بفك الأسرى الذين عند المسلمين، والمجئ بالفداء والمال لتخلية سبيلهم.
الرابع : إنذار عموم الناس من إعانة الكفار لأنهم في حال جراحات وقروح وظلم لأنفسهم بالمعاندة والجهالة والإستكبار.
الخامس : مع قروح وجراحات المسلمين فان الله عز وجل يأمرهم بالصبر والجهاد والسعي لإنتزاع سلطان الأيام من الكفار وإزاحتهم عن الجاه والشأن أو جذبهم إلى منازل الإيمان، أما الكفار فان أوثانهم وأصنامهم لا تنطق بشئ، وفي إحتجاج إبراهيم على قومه ورد في التنزيل[فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ] ( ).
السادس : تبعث جراحات المسلمين الرضا والرجاء في النفس، الرضا على الذات والفعل في جنب الله، والرجاء بالأجر والثواب، أما جراحات الكفار فانها سبب للوم النفس ورؤساء الضلالة، ومناسبة للتدبر والتفكر بسوء الفعل وقبح الإصرار على الضلالة لتكون المثلية بقوله تعالى[فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ] على جهات:
الأولى : ذات جنس الجراحات والكلوم وسقوط القتلى.
الثانية : عدد قتلى المشركين وهم سبعون قتيلاً مع أسر سبعين منهم على المشهور وكذا عدد قتلى المسلمين في أحد.
الثالثة : التباين في نتيجة معارك المسلمين مع الكفار، وعن عبد الله بن منيب قال: تلا علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كل يوم هو في شأن ، فقلنا : يا رسول الله ، وما ذاك الشأن ؟ قال : أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين( ).
وبعد ذكر القرح المتعدد والعام في الطرفين مع التضاد بينهما، طرف الإيمان والتقوى وطرف كفار قريش، جاءت الآية بقانون كلي من الإرادة التكوينية[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ].
وهذا القانون بسيط غير مركب يتضمن أموراً:
الأول : تبادل الناس لأيام الحياة الدنيا.
الثاني : هذا التبادل لايتم إلا بمشيئة الله عز وجل، وهو من مصاديق ملك الله عز وجل للسموات والأرض، وأن ملكيته تتضمن التصرف المطلق الدائم.
الثالث : تداول الأيام بين الناس رحمة بهم جميعاً، ومناسبة لمعرفة أهل الإيمان والتقوى.
الرابع : إستجابة الأيام لمشيئة الله بتداولها بين الناس.
وفيه بيان بأن الأيام ملك لله عز وجل يجعل الشأن فيها لمن يشاء من عباده , وفيه دعوة للمؤمنين بالدعاء من جهات:
الأول : جعل الأيام تنقاد لأهل الإيمان والتقوى.
الثاني : عمارة الأيام بالذكر والعبادة.
الثالث : إستدامة حكم ودولة أهل الإيمان، قال تعالى[وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ]( )، وفي الآية إرادة المعنى الأعم من أيام النعم لأهل الإيمان، وبطش الله بالظالمين من الأمم السالفة، إذ تتجلى في هذه الأيام قدرة الله عز وجل، ومنها تداول الأيام بين الناس في الملك والشأن والجاه ثم إنتقلت إلى بيان علة تداول الأيام بين الناس من جهتين:
الأولى : علم الله عز وجل بالذين آمنوا، الذين يثبتون في مقامات التقوى والصلاح، في حال إقبال الدنيا والأيام عليهم أو إدبارها عنهم، وفضح المنافق الذي يخفي الكفر في ذات الوقت الذي يظهر الإيمان، وكشف الذي إختار الدين للنفع الخاص، والذي يجحد عند مواجهة البلاء.
وفي قوله تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ]( )، ورد عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن ، قالوا : إن ديننا هذا صالح فتمسكوا به؛ وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط ، قالوا : ما في ديننا هذا خير . فأنزل الله { ومن الناس من يعبد الله على حرف } .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال : كان أحدهم إذا قدم المدينة – وهي أرض وبيئة – فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً ، رضي به واطمأن اليه وقال : ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً؛ وإن رجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شراً . وذلك الفتنة ( ).
ويحتمل تعلق لام التعليل في(وليعلم الله) وجوهاً:
الأول : مداولة وتناقل الأيام بين الناس.
الثاني : إصابة المشركين بالجراحات ووقوعهم في الأسر في معارك الإسلام , والفتن التي تقع بينهم.
الثالث : وقوع الجراحات والقتل بين صفوف المؤمنين في معركة بدر وأحد.
الرابع : إرادة الوجوه الثلاثة أعلاه بالإضافة إلى معاني أخرى بلحاظ واو العطف الواردة في قوله تعالى(وليعلم الله) كما في قوله تعالى[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ]( ).
والصحيح هو الأخير، لبيان حقيقة وهي أن كل يوم في الدنيا هو إمتحان وإختبار بذاته وبما فيه من الوقائع والربح والخسارة والفرح والحزن، فالإنسان إن كان في حال عز وغنى أو في ذل وفقر فان ذات يومه يدعوه إلى الإيمان والصلاح والتقوى، وهو من مصاديق تقليب الأيام.
ليكون تقدير الآية: وتلك الأيام نقلبها بين الناس ليؤمنوا).
فلا تكون للإنسان حجة يوم القيامة بأن بعض الأيام مرت عليه ولم تذكره بوظائفه العبادية، أو أن بعض الليالي لم تجذبه إلى الهدى والصلاح، ولا يستطيع الإنسان في الآخرة عتاب ولوم الأيام بأنها قصرت في دعوته إلى الله عز وجل، إذ أنها تتقلب بين يدي الناس لتكون عوناً وممداً لهم للهداية، وهو من الإعجاز في مجئ الآية بصيغة العموم(بين الناس) التي هي من مصاديق رحمة الله في الدنيا التي تصيب البر والفاجر، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ]( ).
ومن بركات الأيام ومصاديق نسبتها إلى الله[قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ]( ) إشراقة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الزمان ونزول القرآن كتاباً جامعاً كافياً يدل على إعجازه وبقاؤه سالماً من التحريف والتغيير إلى يوم القيامة.
وكانت الأيام السابقة لبعثته ملأى بالرسالات التي تدعو إلى الله وتبشر برسالته ولزوم التصديق بنبوته، ثم جاءت أيام بعثته ليعلم الله عز وجل الذين يصدقون بنبوته والنبوات السابقة.
وعن أبي موسى قال: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصاب أرضاً فكانت منها بقية قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به( ).
ومن مصاديق علم الله عز وجل بالذين آمنوا بلحاظ المضامين السابقة لآية البحث أمور:
الأول : يعلم الذين يدخلون الإسلام أنهم يواجهون قوى الكفر وأرباك الشرك والضلالة.
الثاني : يقدم المسلمون على القتال وهم يعلمون أن الحرب سجال، والدنيا يوم لك ويوم عليك.
الثالث : إذا أصيب المؤمنون بالجراحات فانهم لايفترون ولا يجزعون لأن آية البحث تخبرهم عن وقوع هذه الجراحات والخسائر، وهو من أسرار مجئ هذه الآية بصيغة المضارع، وكذا النهي الوارد في الآية السابقة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الخلق أعجب إليكم إيماناً؟ قالوا : الملائكة . . . قال : وما لهم لايؤمنون ، وهم عند ربهم . قالوا : فالأنبياء . قال : فما لهم لا يؤمنون ، والوحي ينزل عليهم . قالوا : فنحن . قال : وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ، ألا إن أعجب الخلق إلي إيماناً ، لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيه( ).
وتقدير الجمع بينهما(ولا تهنوا ولا تحزنوا ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) ليكون بين المؤمنين والكفار في ميدان القتال عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي أن كل طرف من طرفي القتال أصابته الجراحات، أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول : يقاتل المسلمون من منازل الإيمان والتقوى، ويقاتل الكفار على ضلالة ومن منازل الجحود والجهالة.
الثاني : يستحضر المسلمون في القتال قصد القربة، فيهجرون النساء وعذوبة دفئ العيال والأولاد طلباً لمرضاته تعالى ليبارك لهم في ذرياتهم.
الثالث : سلامة المؤمنين من الوهن والضعف وإن أصيبوا في ذات المعركة بالجراحات أو في المعارك السابقة، بينما يلحق الكفار الهوان والضعف والإرباك .
ومن خصائص هذا التباين أن المسلمين يواصلون الزحف اثناء القتال من غير كلل أو ملل، بينما يتراجع الكفار، وهو من مصاديق قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الرابع : لا يطرأ الحزن والأسى على المسلمين، وإن حلّ بساحتهم بادروا إلى الإسترجاع فكان مواساة وبلسماً للجروح، قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ] ( ).
الخامس : يرجو المسلمون الأجر والثواب من عند الله، بينما يلحق الكفار الإثم.
السادس : يدخل المسلمون المعركة وهم سالمون من القروح والجراحات لتكون الكلوم والخسارة الطارئة جديدة عليهم وليست مضافة إلى سابقة لها، بينما يدخل الكفار المعركة بجراحاتهم وحزنهم على قتلاهم في المعارك التي مضت , وفيه رجحان لكفة المسلمين، ووهن وضعف للكفار.
ولم يطرأ على أذهان المسلمين يوم بدر التمثيل بجثث قتلى المشركين، ولم يتركوهم غذاء للسباع، بل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقائهم في القليب أي البئر وأهال المسلمون عليهم التراب مع كثرتهم، ووقف يلومهم ويوبخهم: بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس ( ).
وعندما مثّل الكفار في بجثة حمزة وأغلب شهداء أحد , وجاءت معركة الخندق وسقط فيها قتلى من المشركين أصروا على التعدي، لم يمثل بهم المؤمنون بل أبى الإمام علي عليه السلام سلب درع عمرو بن ود، وكان أفضل درع عن العرب.
ففي يوم الخندق إشترك في القتال عمرو بن ود العامري، وكان ( قَدْ قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ حَتّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ فَلَمْ يَشْهَدْ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ خَرَجَ مُعْلِمًا لِيُرَى مَكَانُهُ . فَلَمّا وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ قَالَ مَنْ يُبَارِزُ ؟ فَبَرَزَ لَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ يَا عَمْرُو ، إنّك قَدْ كُنْت عَاهَدْت اللّهَ أَلّا يَدْعُوك رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى إحْدَى خَلّتَيْنِ إلّا أَخَذْتهَا مِنْهُ قَالَ لَهُ أَجَلْ قَالَ لَهُ عَلِيّ : فَإِنّي أَدْعُوك إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ قَالَ لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ قَالَ فَإِنّي أَدْعُوك إلَى النّزَالِ فَقَالَ لَهُ لِمَ يَا ابن أَخِي ؟ فَوَاَللّهِ مَا أُحِبّ أَنْ أَقْتُلَك ، قَالَ لَهُ عَلِيّ : لَكِنّي وَاَللّهِ أُحِبّ أَنْ أَقْتُلَك ، فَحَمِيَ عَمْرٌو عِنْدَ ذَلِكَ فَاقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهُ وَضَرَبَ وَجْهَهُ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيّ فَتَنَازَلَا وَتَجَاوَلَا ، فَقَتَلَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ مُنْهَزِمَةً حَتّى اقْتَحَمَتْ مِنْ الْخَنْدَقِ هَارِبَةً . قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ
نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ … وَنَصَرْت رَبّ مُحَمّدٍ بِصَوَابِي
فَصَدَدْت حِينَ تَرَكْته مُتَجَدّلًا … كَالْجِذْعِ بَيْنَ دَكَادِكٍ وَرَوَابِي
وَعَفَفْت عَنْ أَثْوَابِهِ وَلَوْ أَنّنِي … كُنْت الْمُقَطّرَ بَزّنِي أَثْوَابِي
لَا تَحْسَبُنّ اللّهَ خَاذِلَ دِينِهِ … وَنَبِيّهِ يَا مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَأَلْقَى عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ رُمْحَهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ عَنْ عَمْرٍو ، فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ :
فَرّ وَأَلْقَى لَنَا رُمْحَهُ … لَعَلّك عِكْرِمَ لَمْ تَفْعَلْ
وَوَلّيْت تَعْدُو كَعَدْوِ الظّلِيمِ … مَا إنْ تَجُورَ عَنْ الْمَعْدِلِ
وَلَمْ تَلْقَ ظَهْرَك مُسْتَأْنِسًا … كَأَنّ قَفَاك قَفَا فُرْعُلِ( )( ).
ثم أقبل علي عليه السلام نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ مُتَهَلّلٌ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ هَلّا سَلَبْته دِرْعَهُ فَإِنّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ دِرْعٌ خَيْرٌ مِنْهَا ، فَقَالَ إنّي حِينَ ضَرَبْته اسْتَقْبَلَنِي بِسَوْأَتِهِ فَاسْتَحْيَيْت ابن عَمّي أَنْ أَسْتَلِبَهُ وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ مُنْهَزِمَةً حَتّى اقْتَحَمَتْ الْخَنْدَقَ هَارِبَةً فَمِنْ هُنَا لَمْ يَأْخُذْ عَلِيّ سَلَبَهُ وَقِيلَ تَنَزّهَ عَنْ أَخْذِهَا( ).
وجاء التقييد والتبعيض(منكم) بخصوص إتخاذ الشهداء فهل يشمل الذين آمنوا، ويكون تقدير الآية: وليعلم الذين آمنوا ويتخذ منهم(شهداء) الجواب نعم، من جهات:
الأولى : إرادة المعنى الأعم للذين آمنوا ,والمنبسط على أفراد الزمان الماضي والحاضر والمستقبل فيشمل المؤمنين من الأمم السابقة، وهو من أسرار تعلق تداول وتناقل الأيام بعموم الناس وليس خصوص المؤمنين.
الثانية : بيان قانون كلي ملازم للحياة الدنيا، وهو الإبتلاء والإختبار للمؤمنين ليتجلى صدق إيمانهم في حال الرخاء والشدة , قال تعالى[أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ]( ).
الثالثة : مجئ قوله تعالى[وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ] بصيغة الخطاب للمسلمين والمسلمات جميعاً وإرادة الحضور الزماني للشهداء.
الرابعة : تتعدد النسبة بين الكليين في الآية على وجوه:
الأول : بين الذين آمنوا المذكورين في آية البحث وبين المسلمين عموم وخصوص مطلق، لأن المراد من الذين آمنوا في الأزمنة كلها ومنهم أتباع الأنبياء.
الثاني : النسبة بين المسلمين والمؤمنين هي العموم والخصوص المطلق، فكل مؤمن هو مسلم، وليس كل مسلم هو مؤمن، قال تعالى[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
الثالث : النسبة بين المؤمنين والشهداء منهم هي العموم والخصوص المطلق، سواء كان المراد من الشهادة القتل في سبيل الله أو المعنى الأعم، وإرادة الحضور والشهادة يوم القيامة على الناس، وعن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن رجلاً قال : يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة( ).
ولقد ورد حرف العطف الواو في قوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] ليفتح أبواباً من العلم ويكون دعوة لإستقراء وجوه من الإعجاز في الآية الكريمة منها:
الأول : بيان الضبط والدقة في توثيق المسلمين لحروف وكلمات القرآن، وسلامته من الإضافة أو النقص أو التبديل.
الثاني : وردت الإشارة في هذا الجزء بخصوص حرف العطف الواو في قوله تعالى[الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ]( )، وكيف تم تثبيت الواو في (والذين) في المصحف وما لها من دلالات عقائدية وقبلية وأخلاقية أكدت أن الأنصار بعرض واحد مع المهاجرين في الرتبة والشأن والأجر العظيم، وفيه دلالة بأن ورود حرف العطف في الآية القرآنية له معان مستقلة بلحاظ أنه يفيد التعدد والمغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.
الثالث : كما يداول الله عز وجل الأيام بين الناس فانه سبحانه يبتلي الناس جميعاً بما يتبين معه المؤمن من الكافر.
الرابع : من سبل معرفة المسلمين وصدق إيمانهم مداولة الأيام بين الناس، فمرة تكون الغلبة للمؤمنين وأخرى للكفار، لتفيد الواو معنى المعية والمصاحبة، أي مع تداول الأيام بين الناس يكون التفريق بين المؤمنين والكفار، فلذا جاء في الآية التالية[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( ).
ومن معاني الآية الكريمة أنه مع تبدل أحوال الناس في جريان الإيام وإطلالة شروق الشمس ومغيبها على نحو منتظم ودقيق وكأنها لا تعلم بالناس وما يجري فيها من دخول أفراد إلى الدنيا ومغادرة آخرين في كل يوم، وتحول الناس من حال إلى حال على نحو دفعي أو تدريجي، فقد يأتي العز والظفر مرة واحدة وفي ساعة واحدة، أو قد يأتي على نحو الدفعات وبذل الوسع في سنوات للإرتقاء في مراتبه، وكذا العكس في فقد منازل العز والظفر.
وأختتمت الآية بقانون كلي وهو أن الله عز وجل لا يحب الظالمين، ليكون من معانيه بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : إن يمسسكم قرح فان الله عز وجل ينتقم من الكفار الذين إعتدوا عليكم.
الثاني : فقد مس القوم قرح مثله لظلمهم وعتوهم.
الثالث : من مصاديق بغض الله عز وجل للظالمين إصابتهم بالجروح وسقوط القتلى منهم عقوبة عاجلة، وجزاء لضلالتهم ومحاربتهم النبوة.
الرابع : تداول الأيام بين الناس لبغض الله عز وجل للظالمين.
الخامس : إقبال الأيام على الظالمين والكفار زيادة في إثمهم وأوزارهم , قال تعالى[لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ]( ).
السادس : تدل خاتمة الآية على البشارة بأن أيام الظالمين لا تدوم، ولن تكون الدنيا منبسطة لهم لذا جاء بعد تداول الأيام قوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] وفيه بشارة بأن ظفر أو غلبة الظالمين ليست برزخاً دون الهداية، ولا يكون مانعاً دون ثبات المؤمنين في منازل التقوى والصلاح.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : دعوة الناس جميعاً للشكر لله عز وجل على نعمة الأيام ومداولتها بينهم وليس بين غيرهم، فلم يجعل الله عز وجل جنساً آخر حاكماً على بني آدم في الأرض كالملائكة أو الجن، بل جعل الناس يحكمون أنفسهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أي لكم أيها الملائكة سلطان على الناس فهم خلفاء الله في الأرض.
وهل يكون من مصاديق قوله تعالى[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( )، أن الملائكة أرادوا الرئاسة والحكم على بني آدم وعندئد لا تكون الأيام دولاً بينهم بصيغ القتال والغلبة وظفر بعضهم ببعض.
الجواب لا دليل على هذا المعنى، وتتضمن الآية نفيه لأن الملائكة أخبروا عن إنشغالهم بالتسبيح والإنقطاع إلى الذكر والعبادة وليس تولي شؤون الناس وتصريف أمور الملك إلا أن يكون ثناؤهم على أنفسهم لتزكيتها والإخبار عن أهليتهم للخلافة والحكم، ولا تكون علة تامة لسؤال تولي السلطنة على بني آدم في الأرض، ترى لو كانت أمور الحكم والولاية في الأرض بيد الملائكة والناس تبع لهم ومنقادون لأوامرهم، كيف يكون الحال؟ سؤال يستحق التحقيق والإستقراء وإستنباط المسائل، فلذا تفضل الله عز وجل ورد على الملائكة بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وليكون من علم الله عز وجل الذي يجهله الملائكة بلحاظ مفهوم تولي الملائكة الخلافة في الأرض مع وجود بني آدم أمور وأحوال أكثر من أن تحصى.
ولو كان الحكم في الأرض للملائكة فهل حدث قتل قابيل ابن آدم لأخيه هابيل، الجواب نعم لأنه من مشيئة الله في الأرض، وأن الأمر خارج سلطان الملائكة لأنه بسبب غلبة القوة الغضبية والسبعية في نفس قابيل، قال تعالى[فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
ولو أقام الملائكة القصاص عليه ربما إنقطع نسل آدم في الأرض، ولا يعلم الإفاضات الكونية في خلافة الإنسان وتداول الأيام بين الناس إلا الله عز وجل، وفيه دروس ومواعظ للخلائق كلها، وهل من ملازمة بين الخلافة وتداول الأيام الجواب نعم، إذ أراد الله عز وجل دوام عبادة الناس له، وإستدامة ذكره في الأرض وبقاء كلمة التوحيد هي العليا.
الثانية : أخبرت الآية السابقة عن بلوغ المسلمين أعلى المراتب بين الناس بقوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، وأخبرت هذه الآية عن لحوق الأذى بالمسلمين في ميادين القتال مما يدل على أن هذه المرتبة السامية لا تعني سلامتهم من الجراحات وتقديم القتلى نعم فيها بشارة أن المسلمين على الحق والهدى وأن قتلاهم شهداء خالدون في النعيم.
الثالثة : من خصائص المؤمنين الجهاد في سبيل الله والدفاع عن بيضة الإسلام وقد فاز المسلمون بهذه الصفة المباركة، فلا يظنون أنهم في مأمن من التعدي والظلم ليتضمن قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] لزوم عدم الخضوع والإنقياد للظالمين والرضا بشروطهم في صيغ المعاملة وضروب العبادة، ويستقرأ من الجمع بين خاتمة الآية السابقة وأول آية البحث(إن كنتم مؤمنين أن يمسسكم قرح) أن البلاء في محاربة الظالمين والكفار مصاحب للتحلي بصبغة الإيمان.
الرابعة : إصلاح المسلمين والمسلمات إلى ملاقاة الأذى والضرر بمواجهة الكفار، فمن خصائص هذه الآية ذكر فريقين:
الأول : المؤمنون.
الثاني : الكفار.
إلا أن هذا التقسيم لا يتغشى الناس على نحو العموم الإستغراقي ليكون من إعجاز الآية ذكر الكفار الذين يقاتلون المسلمين بلفظ(القوم) والمراد منه ثلة وجماعة من الناس إجتمعوا على أمر مخصوص، ومجيء الألف واللام للعهد أي أن المراد من القوم أمة وطائفة معروفة وهم كفار قريش الذين زحفوا للإجهاز على النبوة والإسلام.
ولما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين أراد الله عز وجل سلامته وإظهار دولته ونزول القرآن كاملاً وحفظه إلى يوم القيامة رسماً وتلاوة وقيام[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
بالعمل بأوامره وإجتناب ما نهى عنه، وإتصافها بخصوصية زائدة على الأمم وهي القتال لتعاهد كلمة التوحيد ونفي الكفر من الأرض.
ونعت الكفار بالقوم في الآية إخبار سماوي عن قلتهم وضعفهم وعجزهم عن الأثر والتأثير، وفيه أمور :
الأول : بشارة بأن القروح التي تصيب المسلمين ليست كثيرة.
الأمر الثاني : الخسارة التي تصيب المسلمين أقل بكثير من خسارة الكفار لأن المسلمين في إزدياد وتكاثر من وجوه:
الأول : تناسل المسلمين، وإنجابهم للأولاد والذرية.
الثاني : دخول أفواج من الناس في الإسلام، ومن الآيات إلحاق الأبناء والذرية بالآباء في إسلامهم مع حرمة الإرتداد وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : ترك القبائل نصرة كبراء الشرك في قتالهم للمسلمين وخيبة الذين بقوا على عهدهم والولاء لهم.
وفي صلح الحديبية دخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإختارت بنو بكر الدخول في عقد قريش وإعتدوا على خزاعة وظاهرتهم قريش وقاتل بعض رجالها معهم سراً وخفية خلافاً لشروط صلح الحديبية.
قال ابن إسحاق: ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصيب منهم ومظاهرة قريش بنى بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشد العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا للذى صنعوا، فلما لقى أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل ؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل في بطن هذا الوادي. قال: فعمد أبو سفيان إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى. فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته، فقال: يا بنية ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أو رغبت به عنى ؟ فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه. فقال: يا بنية والله لقد أصابك بعدي شر( ).
الرابع : تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس في الجزيرة وخارجها، فقوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، يدل بالدلالة التضمنية على وجود صلات تجارية وإجتماعية بين قريش ودولة الروم والفرس آنذاك وبلاد اليمن وأهلها، ثم أن التجارة تملي على الناس معرفة أحوال المدن التي يأتي منها التجار ببضائعها أو يشترون لها البضائع والتجارات ودلالة كثرة البيع وإزدهار التجارة على الإستقرار الإجتماعي وحسن المعيشة، إلى جانب معرفة أشخاص التجار لأمور تتعلق بالمعاملة والديون.
ليكون تقدير الآية أعلاه :إيلافهم رحلة الشتاء والصيف لينقلوا أنباء نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن إلى الأمصار.
ويحتمل هذا النقل بلحاظ فاتحة آية البحث وجوهاً:
الأول : التخفيف عن المؤمنين بمجئ التأييد والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة(ان يمسسكم).
الثاني : لا موضوعية وأثر يعتد به لهذه الرحلات في جراحات المسلمين كماً أو كيفاً.
الثالث : هذه الرحلات سبب لزيادة آلام وجراحات المسلمين، لأن أكثر أصحابها كانوا من كبار قريش الذين أصروا على الكفر والضلالة.
الرابع : رحلات قريش للتجارة مناسبة لمعرفتهم بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بشارات الأنبياء وأخبار الأمم وأنه نبي آخر الزمان كما تقدم في قصة سفره صلى الله عليه وآله وسلم في تجارة خديجة.
والصحيح هو الأول والرابع، فقد أراد الله عز وجل لهذه الرحلات أن تكون حجة على قريش وسبباً في أصابة أيديهم بالشلل، وعزائمهم بالوهن والضعف فلا يأتي للمسلمين منهم ضرر فادح، ولتبقى هذه الرحلات زاجراً للدول العظمى آنذاك من نصرة مشركي قريش.
الأمر الثالث : من الإعجاز في تسمية الآية لجيوش الكفار(القوم) عدم قدرتهم على تحمل القروح المتعددة وسقوط قتلى كثيرين منهم في كل معركة، وتجلت هذه الحقيقة بحذر وإرتباك الكفار يوم أحد من جهات:
الأولى : إحضار كفار قريش للنسوة معهم.
الثانية : سرعة إنهزامهم في الساعات الأولى من المعركة مع كثرتهم وقلة عدد المؤمنين.
الثالثة : تركهم الغنائم من خلفهم، لولا نزول أكثر الرماة من المسلمين من الجبل.
الرابعة : تعجيل الكفار بالإنسحاب من ساحة المعركة، ولا عبرة بوعيد أبي سفيان في ساعتها لأنه شاهد على خوفهم وخزيهم.
الخامسة : عدم تحقيق الكفار أي غاية من الغايات الخبيثة والمقاصد السيئة التي جمعوا من أجلها ثلاثة آلاف مقاتل، وقطعوا مسافة خمسمائة كيلو متر بين مكة والمدينة.
المسألة الخامسة : تداول الأيام شؤون الحكم بين الناس مناسبة ووسيلة لمعرفة أهل الإيمان الذين يؤمنون بالتوحيد ويصدّقون بالأنبياء، ويقيمون على نبذ الشرك والضلالة.
وتبين الآية أن الإيمان لايختص بالنطق بالشهادتين بل يتضمن الصبر والإستعداد للتضحية بالنفس والمال، وفي قوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] دعوة للجهاد وعدم الجزع أو الحزن والأسى عند الإصابة بالخسارة في الأرواح والأموال، وتعرض الأبدان للجراحات عند ملاقاة العدو، مع أن الحياة تكون أبهى وأجمل عند خلوها من القتال والحروب،ومناسبة لأداء المؤمنين الفرائض بأمن وسلام ولكن الظالمين لا يرضون بسيادة مبادئ الإيمان في الأرض فيعتدون على أهله من غير حق، ويصرون على البقاء على مفاهيم الضلالة والشرك.
السادسة : إكرام الله عز وجل لنفر من المسلمين بالشهادة والقتال في سبيله بمداولة الأيام، وفي قوله تعالى[وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ] نكتة عقائدية وهي أن قتلى المسلمين أحياء عند الله وأنهم يحضرون للشهادة للمؤمنين بالإيمان، وعلى الكافرين بالجحود والظلم والتعدي.
وقد دأب علماء التفسير على تفسير لفظ الشهداء في الآية على قتلى المؤمنين، والمختار أن المراد من لفظ الشهداء معنى أعم ليشمل المجاهدين والمرابطين والمدافعين عن الإسلام وثغوره ليشهدوا على الناس، وبيبنوا علة وأسرار تداول الأيام بين الناس.
السابعة : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين وإكرامهم باتخاذ شهداء منهم على أنفسهم وعلى الناس، وفيه دليل على تزكيتهم لأن من شرائط الشهادة العدالة، وهو من مصاديق قوله تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ]( ).
الثامنة : تأكيد رحمة الله بالناس في الحياة الدنيا، وأنه سبحانه خلقهم لعبادته، لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وتدل هذه الآية بالدلالة الإلتزامية على تهيئة مقدمات هذه العبادة، ومنع الأسباب القاهرة التي تحول دونها، ومن مصاديق هذا المنع عدم حب الله عز وجل للظالمين وما فيه من الإنذار لهم، وضروب السكينة للمؤمنين، والحجة البالغة على الناس في لزوم سبل التقوى.
التفسير
قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ]
ويحتمل قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] وجوهاً:
الأول : إرادة النفع للمسلمين من جهات:
الأولى : النفع وجلب المصلحة في الدنيا.
الثانية : نيل الأجر والثواب في الآخرة.
الثالثة : ليس من نفع للإصابة بالخسارة لا في الدنيا ولا في الآخرة، بلحاظ أنها من الخطأ والزلل والعمل خلاف الأصل والتكليف، كما في مغادرة الرماة الجبل يوم أحد مع نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصريح لهم عن مغادرته على أي حال، فجاء جيش الكفار من جهتهم وهجم على المسلمين من خلفهم.
الرابعة : هذا القرح والخسارة سبب ومادة لنفع المسلمين في الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الأخير، لأنه أصابتهم في مرضاة الله، وحال الجهاد في سبيله والدفاع عن رسوله والكتاب الذي أنزله وجذب الناس للعمل بأحكامه ومضامينه القدسية، وعن السائب بْنِ خَلَّادٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ حَتَّى الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً)( ).
ويحتمل الخطاب في الآية وجوهاً:
الأول : إرادة عموم المجاهدين في سوح المعارك والذين يتعرضون للجروح والأضرار.
الثاني : المقصود خصوص الجرحى في ميدان القتال، والذين يتلقون الأذى من الكفار.
الثالث : توجه الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة جميعاً، من خرج منهم للقتال وأصابته الجراح، أو عاد سالماً، ومن لم يخرج إلى القتال.
الرابع : تغشي الخطاب للمرابطين في الثغور.
الخامس : أصالة العموم بشمول الخطاب للمسلمين جميعاً.
والصحيح هو الأخير، والآية متجددة في خطابها، وهو من أسرار لغة الخطاب في القرآن.
وهل يشمل الخطاب النساء من المسلمات أم يخرجن بالتخصيص لأن الجهاد موضوع عن المرأة، الجواب هو الأول وتقدير الآية: وإن يمسس الأباء والأزواج والأبناء قرح فقد مس القوم قرح مثله ) .
بلحاظ أن المراد من الجرح إرادة معنى الخسارة العامة والخاصة في الأفراد وإصابة بعضهم بالجراحات أو الوهن الطارئ كما في قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( )، وهذا المعنى هو الأرجح، فان الخطاب في الآية يشمل المسلمات جميعاً ومن دلالات هذا الشمول أمور:
الأول : دعوة المسلمات للتحلي بالصبر، وعدم الجزع والفزع.
الثاني : إكرام المرأة المسلمة، وبيان ما تلاقيه من الحروب والقتال وإن لم تخرج لميادينه وتتعرض للقتل والجرح.
الثالث : من خصائص القتال آنذاك تعرض المرأة للسبي وهو أشد من الأسر على الرجال، فجاءت الآية للبشارة بالأمن منه بتقييد موضوعها بالقرح والجرح والخسارة المحدودة.
ويحتمل القرح المذكور في الآية وجوهاً:
الأول : إرادة الجراحات في المعارك، والقريح هو الجريح.
الثاني : المقصود الأذى الذي يلاقيه المؤمنون مجتمعين، كارادة الإضرار بهم إقتصادياً ومحاربتهم بالمكاسب والمعايش.
الثالث : حال القحط والجفاف الذي يصيب بلاد المسلمين.
الرابع : الأذى والضرر الشخصي الذي ينزل بالأفراد.
الخامس : الإنفاق على السلاح ومؤن القتال.
السادس : تعطيل الأعمال والزراعات عند الخروج للقتال والمرابطة في الثغور.
السابع : المقصود من القرح هو ألم الجراح، قال الشاعر :
لا يسلمون قريحا كان وسطهم
يوم اللقاء ولا يشؤون من قرحوا( ).
وفي القرح لغتان، بفتح القاف وضمها(وقيل هو بالضم الاسم وبالفتح المصدر) ( ).
الثامن : إرادة ما نال المسلمين من القتل والهزيمة يوم أحد( ).
والمختار عدم تعرض المسلمين للهزيمة يوم أحد وآية البحث تنفي الهزيمة لأنها تخبر عن التساوي بين المسلمين وعدوهم في حصول الأذى والجراحات.
التاسع : الجهد والعناء بعد معركة أحد، ذكر هنا للتباين في حال المسلمين بين يوم بدر إذ جلبوا الغنائم والأسرى معهم مع قلة عدد القتلى، وبين الخسارة والحرمان من الغنائم في واقعة أحد، وفي حديث جابر: وَكُنَّا نَخْتَبِطُ بِقِسِيِّنَا وَنَأْكُلُ، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقنَا( ).
وفي حديث جابر بن عبد الله قال: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ( ، وَكَانَ قُوتُ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا ، فِي كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً ، فَكَانَ يَمَصُّهَا، ثُمَّ يَصُرُّهَا فِي ثَوْبِهِ ، وَكُنَّا نَخْتَبِطُ بِقِسِيِّنَا وَنَأْكُلُ ، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا ، فَأُقْسِمُ أُخْطِئَهَا رَجُلٌ مِنَّا يَوْمًا ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ نَنْعَشُهُ ، فَشَهِدْنَا أَنَّهُ لَمْ يُعْطَهَا ، فَأُعْطِيَهَا ، فَقَامَ فَأَخَذَهَا( ).
العاشر : موضوع الآية هو القتل والجراحات التي أصابت المؤمنين يوم أحد.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، والمشهور هو الوجه الأخير أعلاه وفي أسباب النزول ورد عن راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كئيباً حزيناً جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها وأبيها مقتولين وهي تلدم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «أهكذا يفعل برسولك فأنزل الله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] جرح يوم أُحد[فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]يوم بدر ( ).
ويدل على تعدد وجوه الآية ومعاني القرح الذي يصيب المسلمين التباين في صيغة وزمان الفعل إذ خاطبت الآية المسلمين بصيغة الفعل المضارع(يمسسكم) بينما ذكرت ما نزل بالكفار من الألم بصيغة الماضي، وهذا المعنى لا يتعارض مع إتحاد زمان الإصابة بالقرح عند المسلمين وعند عدوهم لأن الآية جاءت للتنبيه، والتذكير بأن القتل والجرح أصاب كفار قريش يوم بدر، ولا زالوا موتورين متألمين، وعانوا كساد التجارة وخسروا الأموال بعد معركة بدر، وانكسرت هيبتهم عند القبائل، بالإضافة إلى الإنفاق على الجيوش العظيمة التي زحفت من مكة إلى المدينة للقتال، مع إنعدام الأمل عندهم بالحصول على الغنائم لفقر المؤمنين وإستبسالهم في القتال، وهو من الإعجاز في إخبار الآية عن إصابة الكفار بالقرح بصيغة الفعل الماضي الذي يدل على الثبوت والقطع، أي أنهم جاءوا إلى أحد , وهم في حال القرح وألم الجراحات والخسارة وتراكم الهموم , فان قلت جاءوا ليثأروا لما ألم بهم يوم بدر، والجواب هذا شاهد بالدلالة التضمنية على خسارتهم وحسرتهم ورغبتهم بالإنتقام.
ترى لماذا لم تقل الآية (ان يصبكم قرح) الجواب لإرادة التخفيف عن المؤمنين، والبشارة بأن الأذى الذي يلقونه في ميادين القتال لن يضرهم ولا يسبب لهم الخسارة الفادحة، فبين المصيبة ومس القرح عموم وخصوص مطلق، والأول أعم وأكبر وأشد.
ولو جمعنا بين الآيتين بمعنى أعم وهو(ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن يمسسكم قرح) لترشح عن الجملة الشرطية الواردة في المقام نهيان وخبر.
وروي أن عمر بن الخطاب قرأ: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان برفع الواو وحذف الواو من الذين،
قال له أُبيّ بن كعب : إنما هو والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وإنه قد كرّرها مراراً ثلاثة .
فقال له : إني والله لقد قرأتها على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والذين اتبعوهم بإحسان،
وإنك يومئذ شيخ تسكن ببقيع الغرقد،
قال : حفظتم ونسينا وتفرغتم وشغلنا وشهدتم وغبنا ثم قال عمر لأُبيّ : أفيهم الأنصار؟
قال : نعم ولم يستأمن الخطاب ومن ثمّ قال عمر : قد كنت أظن إنّا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا فقال أبي : بلى،
تصديق ذلك أول سورة الجمعة وأواسط سورة الحشر وآخر سورة الأنفال. قوله : {وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} إلى آخره وقوله تعالى : {وَالَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ} إلى آخر الآية، وقوله : {والذين آمنوا من بعده وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم})( ).
وتقدير الآية على وجوه:
الأول : والسابقون الأولون إلى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : والسابقون الأولون إلى الهجرة.
الثالث : والسابقون الأولون إلى نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : والسابقون الأولون إلى أداء الفرائض والعبادات.
الخامس : والسابقون الأولون إلى العمل بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : والسابقون الأولون إلى التنزه عما نهى عنه الله ورسوله، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
السابع : والسابقون الأولون إلى الجهاد في سبيل الله.
الثامن : والسابقون الأولون الذين صاروا أسوة لأصحابهم وقبائلهم ونفوسهم لدخول الإسلام، فقد يدخل الفرد الإسلام بعد معركة بدر أو بعد الفتح ولكن بإسلامه تدخل قبيلة أو أهل مصر.
وكانت القبائل تبعث الوفود إلى المدينة لإستقراء أمر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته، فيؤمنون ويأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء في المدينة أياماً لتعليم الصلاة والفرائض، وإدراك الحاجة لتنمية ملكة الإيمان في نفوسهم ليعودوا إلى قبائلهم أئمة في الصلاة وتلاوة القرآن وسبل الهداية.
والمس لمس مقرون بادراك بحاسة اللمس، ليكون بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل مس هو لمس وليس العكس، لأن اللمس إتصال وإدراك بظاهر البشرة.
وقال الراغب الأصفهاني: اللمس إدراك بظاهر البشرة، كالمس ، ويعبر به عن الطلب ).
ومن السعة والمجاز قوله تعالى حكاية عن الجن[وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا]( )، أي سعينا بتدبر ورصد وإستراقة لمعرفة غَيْبَ السَّماءِ فنخبر به الكهنة الكَهَنَة، وليس هو من اللَّمْسِ بالجارِحَةِ ٍ, وفي بيت الحَمَاسَة:
أُلامُ على تَبَكِّيْهِ … وألْمُسُهُ فَلا أجِدُهْ
ويكنى بالملامسة عن الجماع ، وقرىء( لامستم ـ ولمستم النساء ) حملا “على المس وعلى الجماع، ونهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الملامسة وهو أن يقول إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك ، فقد وجب البيع بيننا واللماسة الحاجة المقاربة( ).
وقد يؤتى بأحدهما بدل الآخر لإرادة إتحاد المعنى، قال ابن منظور : ويقال مَسِسْتُ الشيءَ أَمَسُّه مَسّاً لَمَسْتَه بيدك ( ).
ومنهم من أكثر وأسهب في بيان الفرق بينهما خاصة في معنى وتأويل قوله تعالى[لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ]( ).
ونضيف معنى آخر وهو أن اللمس يكون غالباً مع القصد والإرادة، أما المس فيأتي عرضاَ أو قهراً لذا لم تقل الآية (أن تمسوا قرحاً) وفيه نكتة من جهات:
الأولى : لم يقصد المسلمون القتال والهجوم إنما كانوا في حال الدفاع.
الثانية : إحتراز المسلمين في القتال، وحرصهم على الوقاية من الجراحات.
الثالثة : بيان فضل الله عز وجل في سلامة المسلمين من كثرة القتل وشدة الجراحات.
الرابعة : وهن العدو الكافر الذي يلاقي المسلمين في ميادين القتال، وحال الفزع التي تصيبه عند اللقاء، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله عز وجل نصره بالرعب وهو من البشارات التي تلقاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنتهيت إلى سدرة المنتهى وأنا أعرف أنها سدرة المنتهى وأعرف ورقها وثمرها فغشيها من نور الله ما غشيها وغشيتها الملائكة كأنهم جراد من ذهب من خشية الله تعالى فلما غشيها ما غشيها تحولت حتّى ما يستطيع أحد منعها، قال : وفيها ملائكة لا يعلم عدّتهم إلاّ الله عزّ وجلّ، ومقام جبرئيل في وسطها فلما إنتهيت إليها قال لي جبرئيل : تقدم. فقلت : أقدم من؟ تقدم أنت يا محمّد فإنك أكرم على الله مني، فتقدمت وجبرئيل على أثري حتّى انتهى بي إلى حجاب فراس الذهب فحرك الحجاب. فقال : من ذا؟ قال: أنا جبرئيل ومعي محمّد.
قال الملك : الله أكبر فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني وخلف جبرئيل فقلت له : إلى أين؟ قال : يا محمّد وما منا إلاّ له مقام معلوم إن هذا منتهى الخلائق، وإنما أذن لي في الدنو إلى الحجاب لاحترامك ولجلالك، قال : فإنطلق بي الملك أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ فحرك الحجاب. قال الملك : من وراء الحجاب : من هذا؟ قال : أنا صاحب فرَاش الذهب ( )وهذا محمّد رسول العرب معي.
فقال الملك : الله اكبر وأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني حتّى وضعني بين يديه فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب حتّى جاوزوا بي سبعين حجاباً غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام وما بين الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام، ثمّ دلّى لي رفرف أخضر يغلب ضوءه ضوء الشمس فألتمع بصري ووضعت على ذلك الرفرف ثمّ إحتملني حتّى وصّلني إلى العرش فلما رأيت العرش إتضح كل شيء عند العرش فقربني الله إلى سند العرش وتدلى لي قطرة من العرش فوقف على لساني فما ذاق الذائقون شيئاً قط أحلى منها فأنباني الله عزّ وجلّ بها نبأ الأولين والآخرين وأطلق الله لساني بعد ما كلّ من هيبة الرحمن، فقلت : التحيات لله والصلوات الطيبات.
فقال الله تعالى : سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال : يا محمّد هل تعلم فيم اختصم الملأ الأعلى، فقلت : أنت أعلم يارب بذلك وبكل شيء وأنت علام الغيوب.
قال : اختلفوا في الدرجات والحسنات، فهل تدري يا محمّد ما الدرجات وما الحسنات ؟ قلت : أنت أعلم يارب. قال : الدرجات إسباغ الوضوء في المكروهات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإنتظار الصلوات بعد الصلاة والحسنات إفشاء السلم وإطعام الطعام والتهجد بالليل والناس نيام ثمّ قال : يا محمّد آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه؟ قلت : نعم أي رب. قال : ومن؟ قلت : والمؤمنين {كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَاكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} كما فرقت اليهود والنصارى. فقال : ماذا قالوا؟ قلت : قالوا : سمعنا قولك وأطعنا أمرك. قال : صدقت فسل تعط. قال : فقلت : {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} قال : قد غفرت لك ولأمتك سل تعطه ورفعت إدريس مكاناً علياً، وآتيت سليمان ملكاً عظيماً، وآتيت داود زبوراً، فما لي يارب؟ قال ربي : يا محمّد اتخذتك خليلي كما اتخذت إبراهيم خليلاً وكلمتك كما كلمت موسى تكليماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة وكانا من كنوز العرش ولم أعطها نبياً قبلك، وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعاً أبيضهم وأسودهم وإنسهم وجنّهم، ولم أرسل إلى جماعتهم نبياً قبلك وجعلت الارض كلها برّها وبحرها طهوراً ومسجداً لك ولأمتك وأطعمتك وأمتك الفيء ولم أطعمه أمة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوك مسيرة شهر، وأنزلت عليك سيد الكتب كلها ومهيمناً عليها قرآناً فرقناه ورفعت لك ذكرك فتذكر كلما ذكرت في شرائع ديني، وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الانجيل المبين ومكان الزبور الحواميم، وفضلتك بالمفّصل وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس وجعلتهم أمة وسطاً وجعلتهم الأولين وهم الآخرون فخذما أتيتك وكن من الشاكرين.قال صلى الله عليه وسلم ثمّ فوّض لي بعهد بعدها أمور لم يؤذن لي أن أخبركم بها( ).
ومع أن الله عز وجل أرسل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً فانه تعالى يبعث الرعب في قلب عدوه، وهذا الرعب معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى من جهات:
الأولى : طرو كيفية نفسانية زاجرة على الكافر، وفيها نفع من وجوه:
الأول : منع الكافر من محاربة الإسلام.
الثاني : دعوة الكافر للتدبر في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : ترك الكافر للإستكبار والعناد والإصرار على القتال.
الرابع : منع إستدامة العصبية بين الكفار في حال القتال بلحاظ التباين والتضاد بين الفزع والعصبية وتعذر إجتماع الضدين.
الخامس : فساد رأي وخطط الكفار عندما يداهمهم الرعب والفزع، ويحصل عندهم السهو والنسيان والإرباك.
السادس : إنتفاء موضوع العصبية لإدراك العقول عند الشدائد سفاهة القتال دفاعاً عن عبادة الأوثان .
السابع : البشارة بعدم إنتفاع الكفار من الحمية والعصبية مع دخول الرعب إلى نفوسهم طوعاً أو قهراً , قال تعالى[إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى]( ).
وفي الآية أعلاه شاهد على أن إستيلاء الرعب على نفوس الكفار عقوبة عاجلة لهم، إذ أنهم إختاروا الحمية والعصبية لآلهتهم، والإصرار على الجحود والأنفة والإنتقال من عبادتها إلى غيرها، والإمتناع عن دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة معتمرين، فصبر النبي وأصحابه، وكان صلح الحديبية ليعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في السنة الثانية , ويقضون عمرتهم بقهر لقريش .
السابع : التيسير والتخفيف عن المسلمين في دحر العدو وقهره.
الثامن : لما وعد الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالنصر، فان إمتلاء نفوس الكفار بالرعب من مقدمات هذا النصر، وتقديم أوانه.
وعن ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قلت : بلى : قال : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وأن ما أخطأك لم ليصيبك ، وإن الخلائق لو اجتمعوا على أن يعطوك شيئاً لم يرد الله أن يعطيكه لم يقدروا على ذلك ، أو أن يصرفوا عنك شيئاً أراد الله أن يعطيكه لم يقدروا على ذلك ، وأن قد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فإذا سألت فسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، وإذا اعتصمت فاعتصم بالله ، واعمل لله بالشكر في اليقين ، واعلم أن الصبر على ما تكره خير كثير ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا( ).
التاسع : قلة خسائر المسلمين، ليكون إبتلاء الكفار بالرعب حالما يبلغ أسماعهم خبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإحتمال قدومه مع جيشه سبباً لقلة وخفة القرح والجراحات عند المسلمين، وهو من الإعجاز في مجئ آية البحث بصيغة الجملة الشرطية، وما فيها من التعليق ومعنى السالبة الجزئية، ويحتمل حديث الإسراء القدسي (ونصرتك بالرعب) وجوهاً:
الأول : إرادة خصوص شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو ظاهر الحديث.
الثاني : المقصود والسرايا والجيوش التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها خرجت بأمره، ولظن الكفار باحتمال أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو القائد والإمام للجيش.
الثالث : جيوش المسلمين أيام البعثة النبوية وبعدها.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، بلحاظ أن قذف الرعب في قلوب الأعداء نعمة من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ومن فضل الله بقاء هذه النعمة وعدم مغادرتها الأرض، وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل عليها.
العاشر : ذكر موضوع الرعب بلحاظ مسيرة شهر يدل على عدم إختصاصه بالعدو القريب والذي يلي منهم، قال تعالى[قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً]( )، فالفرع والخوف يشمل الكفار الذين خلفهم مما يجعلهم يهمون بالفرار وترك منازلهم ومدنهم.
الحادي عشر : ترتب الأثر على الرعب الذي يصيب الكفار، بأن يكون بذاته نصراً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهزيمة لأعدائه، والمراد من ( مسيرة شهر) في الحديث المسافة التي يقطعها الجيش في تقدمه وزحفه في مدة ثلاثين يوماً مشياً على الأقدام , وركوباً على الدواب.
الثاني عشر : في الحديث حث للمسلمين على الجهاد في سبيل الله.
الثالث عشر : بيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، فمن الأنبياء ما كان مستضعفاً في قومه، ومنهم من أعرض عنه قومه ولم يتبعه إلا القليل منهم وجعل الرعب في قلوب أعدائه وهو على مسيرة شهر منهم، وقيل ذكر مدة الشهر لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منها، ولكن المعنى أعم.
ولو بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلداً مسيرة شهر فهل يقف وينتهي رعب وفزع الكفار في البلاد التي بعده أم يبدأ شهر جديد، الجواب هو الثاني إذ أن الأصل في الحديث هو شهر من الموضع والمكان الذي فيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فاذا كان بين مكة والمدينة مسيرة عشرة أيام فانه حين الوصول إلى مكة وفتحها يكون الرعب منه على مسيرة شهر من جهات مكة الأخرى بالإضافة إلى جهات المدينة لأصالة التبادر وتجدد موضوع مسيرة الشهر من كل مكان تطأه قدما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المباركتان.
وفي الآية تخفيف عن المسلمين لمجيئها بصيغة الجملة الشرطية التي تفيد التعليق وإحتمال الوقوع، وفيه وجوه:
الأول : دعوة المسلمين لإجتناب الجراحات والقروح، بالإحتراز والتدبر في أمور القتال، وقد تقدم أن نعيم بن مسعود حينما أسلم قال يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنَّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إنّما أنت فينا رجل واحد، فخَذِّل عنّا إنْ استطعت فإنّ الحرب خدعة ( ).
ليكون هذا الحديث بلحاظ آية البحث دعوة للمسلمين لإستعمال الخدعة للسلامة من الجراحات، وهناك مسائل:
الأولى : هل لبس المسلم الحرير في الحرب من الخدعة.
الثانية : هل إخفاء المسلمين جراحاتهم عن العدو من الخدعة.
الثالثة : هل التظاهر بكثرة الجراحات من الخدعة.
أما الأولى فان لبس الحرير في الحرب أمر مستقل وليس من الخدعة إنما هو بيان لحال العز والغنى التي يتمتع بها المسلمون وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام.
أما الثانية فهي أعم من الخدعة، لأن في إخفائها بعث لليأس والقنوط في قلوب الكفار.
وأما الثالثة فان إظهار كثرة الجراحات إغراء للعدو، إلا مع وجود الراجح الخاص في واقعة، كما لو كانت المبالغة بكثرة الجراحات نوع إستدراج للعدو، وسبباً لميله إلى الإسترخاء والكف عن القتال.
الثاني : حث المسلمين على التجهز للقاء الكفار والإعداد لهم بالقوة والمنعة والسلاح، قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
الثالث : الآية نوع تحد للكفار بأن المسلمين لم يصبهم القرح والجراحات إلا على نحو الإحتمال والتعليق.
الرابع : ترغيب الكفار بالإسلام للسلامة من الأذى والضرر والكيد، نعم قد يقع الأذى لقوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، وللشواهد التأريخية وسقوط الشهداء من المسلمين في معارك بدر وأحد والخندق ولأنه مدخل إلى الثواب والأجر العظيم، وفيه وبال على الكفار، وهو سبب لإنتقام الله عز وجل منهم , وقيل أن معنى القرح هو الجرح والقتل .
والآية ظاهرة في قلة الإصابة سواء إرادة حصول الجروح أو حالات القتل القليلة التي تعرض لها المسلمون، ويدل عليه لفظ (يمسسكم) فلم تقل الآية إن يصيبكم أو ان ينزل بكم.
وجواب الشرط في قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] على وجهين لا تعارض بينهما، والفرق بينهما صغروي، وهما:
الأول : جواب الشرط هو : فقد مس القوم.
الثاني : جواب الشرط محذوف إذ أن جواب الشرط هنا يتبادر إلى الذهن , ولا ينحصر بفرد واحد، والتقدير على وجوه:
الأول : إن يمسسكم قرح فلكم الأجر.
الثاني : إن يمسسكم قرح فهو عرض زائل.
الثالث : إن يمسسكم قرح فاصبروا.
الرابع : إن يمسسكم قرح فانظروا فقد مس القوم قرح مثله.
الخامس : إن يمسسكم قرح فهو في عين الله، قال تعالى[وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا] ( ).
السادس : إن يمسسكم قرح[فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ).
السابع : إن يمسسكم قرح فتأسوا.
الثامن : ان يمسسكم قرح فلا تهنوا ولا تحزنوا فقد مس القوم قرح.
التاسع : ان يمسسكم قرح فانتم الأعلون.
العاشر : إن يمسسكم قرح فلا تقنطوا.
الحادي عشر : أن يمسسكم قرح فانتصروا.
ترى هل من أسرار لحذف جواب الشرط، الجواب نعم، من جهات:
الأولى : مجئ المواساة للمسلمين من عند الله بتعقيب ذكر ما أصاب الكفار من القروح للجملة الشرطية باصابة المسلمين بالقرح.
الثانية : الإخبار عن النسبة بين ما أصاب المسلمين وما أصاب الكفار وهي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هو نزول القرح والجراحات بكل من المسلمين والكفار، أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول : فوز المسلمين بالأجر والثواب على ما يلاقون من الجراحات.
الثاني : جراحات الكفار عقوبة وإنذار لهم.
الثالث : جراحات المؤمنين فخر وعز لهم، وجراحات الكفار خزي وذل لهم، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ]( ).
الرابع : جراحات المسلمين على نحو الشرط وإحتمال الوقوع، أما جراحات الكفار فهي نازلة بهم، وظاهرة عليهم.
الخامس : جراحات الكفار ألم وحزن لهم في الدنيا، وسبب للعقاب والعذاب الأليم في الآخرة إذ أنها تحضر لتشهد عليهم بمحاربتهم لأهل الإيمان والتقوى.
الثالثة : بيان فضل الله على المسلمين في الفتح والظفر واللامحدود من الأجر والثواب .
الرابعة : بعث المسلمين على الدعاء والتضرع إلى الله بدفع فعل الشرط ذاته .
وهل من موضوعية للجراحات في دخول الناس الإسلام، الجواب نعم من وجوه:
الأول : إصابة الكفار بالجراحات ولحوق الخسائر بهم سبب لدخول الناس الإسلام لأنه دليل على قبح فعلهم، وبطلان مفاهيم الشرك والضلالة التي يدافعون عنها.
الثاني : إصابة المسلمين بالجراحات دليل عملي بأنهم على الحق، وشهادة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : لقد ترك المسلمون عبادة الأوثان، وتحملوا تلقي الجراحات والقتل في سبيل الله، وفيه دعوة للناس للتدبر بمعجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : جراحات الكفار سبب لنفرة الناس من الكفر والشرك لأنه لا يستحق التضحية، وجراحات المسلمين ترغيب بالإسلام لأن فيه الأجر والثواب.
الثاني عشر : إن يمسسكم قرح فردوا بمثله.
الثالث عشر : إن يمسسكم قرح فتعاونوا فقد مس القوم قرح مثله.
الرابع عشر : إن يمسسكم قرح فالنصر آت.
وقال زهير بن أبي سلمى:
وما أَدرِي وسوفَ إخالُ أَدري أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِساء( ).
وهل يحتمل إرادة الزمن الحاضر بالجملة الشرطية بلحاظ سبب وأوان نزولها يوم أحد، ويكون تقدير الآية : إن يمسسكم قرح يوم أحد فقد مس القوم قرح مثله يوم بدر، الجواب نعم، وإليه ذهب علماء التفسير إلا أنه لا يمنع من المعنى الأعم وإرادة فضل الله عز وجل على المؤمنين في دخولهم المعارك من غير ضرر سابق أو وجود آثار له.
الثناء على الصحابة
لقد جاء القرآن بالمدح الجلي والشكر للصحابة على جهادهم في سبيل الله لينجو الأوس والخزرج من الإقتتال بينهم، ويسميهم الله عز وجل نفسه الأنصار في موضعين من القرآن أحدهما خاص وهو قوله تعالى[لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ]( ).
ونزلت الآية في المهاجرين والأنصار الذين خرجوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة تبوك صوب الشام في شدة الحر، وعن قتادة: ذكر لنا أن الرجلين كان يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها أحدهم ثم يشرب عليها الماء ثم يمصها الآخر ، فتاب الله عليهم فأقفلهم من غزوتهم .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن محمد بن عبد الله بن عقيل بن أبي طالب في قوله { الذين اتبعوه في ساعة العسرة } قال : خرجوا في معركة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير ، وخرجوا في حر شديد فأصابهم يوماً عطش حتى جعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها ، فكان ذلك عسرة من الماء وعسرة من النفقة وعسرة من الظهر( ).
وفي الآية أعلاه مسائل :
الأولى : تقسيم الصحابة إلى قسمين:
الأول : المهاجرون.
الثاني : الأنصار.
ومن خصائص التقسيم أو الجمع القرآني بقاؤه إلى يوم القيامة بين الناس، ومن الآيات أن هذا التقسيم ليس من باب التفريق، إنما هو لغة في الشكر لهم، ويفيد تعدد الوصف الكريم والتقسيم في المقام أموراً:
الأول : بيان صفحة الجهاد لكل فريق من المهاجرين والأنصار.
الثاني : الإخبار عن حقيقة وهي أن الصحابة ليسوا على سنخية واحدة في دخول الإسلام أو أن المحاكاة المطابقية شاملة لهم، فمنهم من آوى وإستقبل إخوته في الإيمان بايثار , ومنهم من ترك الأهل والمال وآثر الإيمان.
الثالث : هذا التقسيم والتعدد شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبراهين القاطعة التي جاء بها.
الرابع : مع التباين في النسب والسكن والبلد بين المهاجرين والأنصار، ورشحات النزاعات القبلية بينهم، فانهم إتحدوا جميعاً تحت راية النبوة.
الخامس : في الآية شهادة للصحابة الذين خرجوا إلى تبوك بصدق النية وأنهم خرجوا مطيعين لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغزو، وهو من مصاديق الطاعة والرحمة في قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( )، فمن مصاديق رحمة الله عز وجل بالذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسميتهم بالمهاجرين والأنصار.
السادس : البشرى بفوز الذين خرجوا إلى تبوك بالتوبة والعفو من عند الله.
السابع : الثناء على الصحابة في خروجهم للجهاد في حال الضنك والفاقة وشدة الحر ليقاتلوا دولة عظمى ذات عدد وعدة ومؤون وثروات.
فان قلت هل تختص التوبة والرضا من عند الله بخصوص الصحابة الذين خرجوا إلى تبوك , الجواب لا، فان إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من قال دبر كل صلاة أستغفر الله العظيم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف، وعن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يُلَاحِظُ امرأة عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا بِيَدِهِ عَلَى عَيْنِ الْغُلَامِ قَالَ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ حَفِظَ فِيهِ بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ غُفِرَ لَهُ( ).
الثانية : إكرام الصحابة بالجزاء العاجل في الدنيا.
الثالثة : بيان النفع العظيم لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال الشدة والأذى.
الرابعة : ذكر الدروس والمسائل في توبة ثلاثة من الصحابة تخلفوا عن معركة تبوك، وعن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بين أولاده حين أصيب بالعمى , قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة تبوك قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة قط إلا في معركة تبوك غير أني تخلفت في معركة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .
ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر , وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزاة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم فأخبرهم وجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ يريد الديوان .
قال كعب رضي الله عنه : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل وآن لها أن تصفر فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئا فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إن أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا وقلت الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى انتهوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم – وليت أني أفعل – ثم لم يقدر لي ذلك فطفقت إذ خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه من النفاق أو رجلا ممن عذره الله ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك « ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه , فقال له معاذ بن جبل : بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني همي فطفقت أتذكر الكذب وأقول : بماذا أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما راح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي « تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال : ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرك ؟ فقلت : يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكنه – والله – لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله يسخطك علي ولئن حدثتك الصدق وتجد علي فيه أني لأرجو قرب عتبي من الله والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون فلقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحدا ؟ قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا , لي فيهما أسوة حسنة فمضيت حين ذكروهما لي قال : ونهى رسول الله الناس عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض التي كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي فإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد السلام علي فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال : فسكت قال : فعدت فنشدته فسكت فعدت فنشدته قال : الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان – وكنت كاتبا – فإذا فيه : أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك فقلت حين قرأتها : وهذا أيضا من البلاء فيممت بها التنور فسجرته فيها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل إمرأتك فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ ! قال : بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك فقلت لإمرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع وليس له خادم فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : لا ولكن لا يقربنك فقالت : إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي من لدن إن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت : والله لا استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقول إذا استأذنته وأنا رجل شاب قال : فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال : ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عنا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى جبل سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبيّ مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته – والله ما أملك غيرهما يومئذ – فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنئونني بالتوبة يقولون : ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره , قال : فكان كعب رضي الله عنه لا ينساها لطلحة قال كعب رضي الله عنه : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور « أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : لا بل من عند الله .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال : أمسك بعض مالك فهو خير لك قلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت : يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت قال : فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى والله ما تعمدت منذ قلت ذلك إلى يومي هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي وأنزل الله[ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]( )، فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه فإن الله قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال[سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ]( ).
قال : وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلفوا فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال وعلى الثلاثة الذين خلفوا وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخلفنا عن الغزو وإنما هو حلف له واعتذر إليه فقبل منه( ).
الخامسة : بيان عظيم فضل الله عز وجل على المسلمين وسعة كرمه إذ يهب التوبة للعدد الكثير من الصحابة مرة واحدة.
السادسة : شمول التوبة للصحابة الثلاثة الذين تخلفوا عن معركة تبوك بعد إظهارهم الأسى والندم على هذا التخلف، وهم : كَعْب بن مالك ، وهِلال بن أمية ، ومُرَارَة بن الربيع وعندما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك تخلف بعضهم .
ويمكن تقسيم المتخلفين إلى أقسام:
الأول : رأس النفاق عبد الله بن أبي ومن معه.
الثاني : الذي لم يتخلفوا عن شك أو إرتياب كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع.
الثالث : الذين تأخروا ثم بادروا إلى الخزرج واللحوق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهما أبو خيثمة وأبو ذر.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في ثلاثين ألفاً من الناس، والخيل عشرة آلاف فرس، وأقام بها عشرين ليلة يقصر الصلاة وهرقل يومئذ بحمص) ( )، ثم أن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أياماً إلى أهله.
ووقف بأبي ذر جمله فتخلف عليه، فقيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر. فقال: دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللّهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللّهُ مِنْهُ وَتَلَوّمَ عَلَى أَبِي ذَرّ بَعِيرُهُ فَلَمّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَاشِيًا وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا الرّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطّرِيقِ وَحْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُنْ أَبَا ذَرّ فَلَمّا تَأَمّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ هُوَ أَبُو ذَرّ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَحِمَ اللّهُ أَبَا ذَرّ يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ ( ).
فلما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة أصابه بها أجله ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن يغسلاه ويكفناه ثم يضعاه على الطريق، فأول ركب يمر بهما يستعينان بهم على دفنه؛ ففعلا ذلك، فاجتاز بهما عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق، فأعلمته امرأة أبي ذر بموته. فبكى ابن مسعود وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك؛ ثم واروه.
وانتهى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، فأتى يوحنا ابن رؤبة صاحب أيلة فصالحه على الجزية وكتب له كتاباً، فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار، ثم زاد فيها الخلفاء من بني أمية. فلما كان عمر بن عبد العزيز لم يأخذ منهم غير ثلاثمائة، وصالح أهل أذرح على مائة دينار في كل رجب، وصالح أهل جرباء على الجزية، وصالح أهل مقنا على ربع ثمارهم. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وكان نصرانياً من كندة، فقال لخالد: إنك تجده يصيد البقر.
فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه على منظر العين وأكيدر على سطح داره فباتت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فقالت امرأته: هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال: لا والله، ثم نزل وركب فرسه ومعه نفر من أهل بيته، ثم خرج يطلب البقر، فتلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذته وقتلوا أخاه حساناً، وأخذ خالد من أكيدر قباء ديباج مخوص بالذهب فأرسله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل المسلمون يلمسونه ويتعجبون منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا ؟ لمناديل سعد بن عبادة في الجنة أحسن من هذا. وقدم خالد بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحقن دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله( ).
ليكون من إعجاز النبوة المواعظ والعبر المستقرأة والمستنبطة من معركة تبوك وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجع بالنصر المبين والسلامة والأمن من الجراحات والقروح مع العسر والشدة وقساوة الطريق وبعد السفر، وإمتلاء نفوس الذين تخلفوا عن الخروج معه بالندم، وهو من مصاديق صيغة الشرط في آية البحث(ان يمسسكم قرح) فقد يخرج المسلمون ويتحقق النصر ولا تصيبهم الجراحات والكلوم.
وكيف أن بعض الصحابة لم يمكنهم التأخر فمشوا فرادى حتى التحقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز في نبوته صلى الله عليه وآله وسلم أنه مع كثرة الجيش وبلوغه ثلاثين ألفاً، فانه يذكر الصحابة بأسمائهم.
السابقون الأولون
تفضل الله عز وجل وذكر الصحابة بذات الوصف الكريم والتقسيم بقوله تعالى[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا]( ).
وفي الآية أعلاه وصف إكرام وثناء إضافي على الصحابة بأن تفضل بوصفهم بصفتين كل واحدة تعدل الدنيا وهما:
الأولى : السابقون.
الثانية : الأولون.
وفي المقصود من السابقين الأولين وجوه:
الأول : الصحابة الذين شهدوا بدراً.
الثاني : الذين صلوا القبلتين، وحولت القبلة إلى البيت الحرام قبل معركة بدر بشهرين أي في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة.
الثالث : الذين شهدوا حجة الرضوان( ).
الرابع : إرادة الذين أسلموا بمكة وهاجروا.
الخامس : الأنصار وكل من هاجر إلى المدينة إلى إنقطاع الهجرة.
السادس : أصحاب بيعة العقبة الأولى والثانية، والعقبة جبل في منى.
أولاً: بيعة العقبة الأولى:
في العام الثاني عشر للبعثة التقى النبي صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلاً من يثرب , وقيل سبعة , وبعد أن دخلوا في الإِسلام بايعوه على :
1- ألا يشركوا باللّه شيئاً.
2- أن يأتمروا بما أمر اللّه به.
3- أن ينتهوا عما نهى اللّه عنه.
وأرسل معهم الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وعمرو بن أم مكتوم رضي اللّه عنهما ليعلِّموا الناس أمور الدين الإسلامي وقراءة القرآن والصلاة وغيرها.
ثانياً : بيعة العقبة الثانية:
في العام الثالث عشر للبعثة جاء مصعب بن عمير رضي اللّه عنه ومعه من الذين أسلموا من أهل يثرب ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان (نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو بن عدي) والتقوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عند العقبة ليلاً وجاء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس بن عبد المطلب وكان مشركاً إلا أنه أراد أن يأخذ عليهم الأمان لابن أخيه، وكان العباس أول متكلم، ثم تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى اللّه ورغّب في الإِسلام، فبايعوه على :
1- السمع والطاعة في المنشط والمكره.
2- النفقة في العسر واليسر.
3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4- ألاَّ تأخذهم في اللّه لومة لائم.
5- أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم.
وبعد البيعة رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة، واستمر في الدعوة، فاشتد أذى قريش على المسلمين، فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى يثرب، فهاجر المسلمون فرادى وجماعات سراً، حتى لا يعلم المشركون بالهجرة، وكان أول من هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد ومصعب بن عمير وعمرو بن أم مكتوم، ثم بلال بن رباح وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر وعمر بن الخطاب في عشرين من الصحابة، وبقى صلى الله عليه وآله وسلم .
وقيل بيعة العقبة الثانية فكانت في السنة الثانية عشرة من البعثة وعدد أصحابها سبعون رجلاً وإمرأتان.
السابع : المهاجرون والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن احدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك فضل أحدهم ولا نصيفه)( ).
الثامن : منهم من فسر لفظ (السابقين) بالواحد وأوائل المسلمين، وقال بانطباقه على علي بن أبي طالب عليه السلام، وخديجة، وأبي بكر، وزيد بن حارثة.
والصحيح إرادة الجمع وحمل اللفظ على ظاهره , وهو المتبادر والمتعارف عند أجيال المسلمين، وللتسالم على عظيم فضل الله , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا]( ).
التاسع : السابقون الأولون من المهاجرين الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدراً) عن ابن عباس( )، أي أنه قيد الوصف بقيدين:
الأول : إرادة خصوص المهاجرين.
الثاني : الجمع بين الصلاة إلى القبلتين وبين حضور معركة بدر.
العاشر : الذين أسلموا قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ليدخل فيه المهاجرون والأنصار، والمستضعفون الذين أسلموا وعجزوا عن الهجرة، بلحاظ أن المدار في السبق على دخول الإسلام.
الحادي عشر : جميع الصحابة لحصول السبق لهم بصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , قاله محمد بن كعب القرظي، وقيل هو ضعيف لأن من أسلم يوم الفتح ليس مهاجراً ولا من الأنصار.
قانون التآزر بين آيتين
ورد لفظ (ولا تهنوا) مرتين في القرآن وبصيغة الخطاب والنهي عن الضعف والجبن، وفيه تشريف للمسلمين، وبيان لما يلزمهم من الجهاد في سبيل الله، إذ ورد قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ]( )، وفي الصلة بين الآيتين وجوه:
الأول : إرادة الإطلاق والتقييد، وان النهي عن الوهن في آية البحث مقيد في موضوعه بخصوص طلب ملاقاة الكفار، والإجتهاد في القتال والصبر في ميادين المعارك.
الثاني : التعدد في موضوع الآيتين.
الثالث : بين الآيتين عموم وخصوص مطلق، فآية البحث أعم.
الرابع : إرادة نسبة التساوي بين الآيتين، وأن القرآن يفسر بعضه بعضاَ، فالمراد من آية البحث خصوص حال القتال، وعدم الضعف في طلب قتال للكفار والمشركين.
الخامس : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الآيتين.
والمختار هو الثاني والثالث أعلاه، لتكون آية البحث مطلقة في كل الأحوال، وحاضرة عند القتال ومقدماته ومطاردة القوم، وحضورها هذا مصاحب لقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ] فلا يغني موضوع إحداهما عن الأخرى، بل يتآزران في بعث المسلمين للقتال، والعزم على دحر الكفار وقهر الشرك في ميدان المعركة، ويمكن تأسيس قاعدة من جهات:
الأولى : الجمع والتعدد في آيات البعث على الفعل العبادي والصالحات مطلقاً أظهر وأبين وأنفع من الإتحاد بينها في الموضوع والدلالة والأثر.
الثانية : إتحاد اللفظ بين الآيتين لا يدل على الحصر الموضوعي لهما، ويستقرأ التعدد والتباين من القرائن والأمارات.
الثالثة : إستنباط القواعد المصاحبة والمترشحة عن كل من الآيتين، إذ إقترن النهي في آية البحث بقانون[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] وهو أمر وحال مستديمة يتصف بها المسلمون في كل زمان، ويكون عدم الوهن بخصوصها على وجوه:
الأول : إنه من شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة الفوز بمرتبة الأعلون.
الثاني : في عدم الوهن تعاهد لمقامات العلو والرفعة بين الأمم.
الثالث : من رشحات مرتبة الأعلون عدم الوهن أو الخوف أو الحزن.
الرابع : بيان التباين والتضاد بين مرتبة العلو وعدم الوهن والحزن.
الخامس : عدم الوهن من مراتب العلو والرفعة وطريق للظفر والنصر في قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ]( ).
السادس : ترغيب الناس بالإسلام لما يتصف به المسلمون من إخلاص الطاعة لله عز وجل والتفاني في مرضاته حتى في ميادين القتال، وحرصهم على تعاهد منزلة الأعلون التي تتجلى بعدم الضعف والجبن عند اللقاء , ومن مصاديق صيغة العموم في عدم الوهن في آية البحث أمور:
الأول : الإقدام، والتضحية في ميادين القتال.
الثاني : المرابطة في الثغور من غير ملل أو كلل أو تفريط، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( ).
وذكر أن هذه الآية نزلت في تعاهد فرائض الصلاة بلحاظ أنه لم يكن في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرابطة لمدة مديدة إلا أنه لا يمنع من المعنى الأعم والذي يدل على إعجاز القرآن وأنه نزل لكل الأزمنة، وكانت معركة الخندق نوع مرابطة لنحو شهر، لذا كان المنافقون يتسللون ويعتذرون , كما قال الله تعالى[إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( ).
وأخرج أبو نعيم عن أبي الدرداء قال: : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا…} على الصلوات الخمس، وصابروا على قتال عدوّكم بالسيف، ورابطوا في سبيل الله لعلكم تفلحون ( ).
الثالث : عدم الوهن في التدريب والتأهيل للمبارزة والمنازلة.
الرابع : المبادرة إلى الخروج لقتال العدو، وعدم الإبطاء أو التواني في لقائه لحين قيامه بالمباغتة، ومن وجوه تأويل قوله تعالى[انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً]( )، انفروا خفافاً إلى اللقاء والمبارزة، وثقالاً في المصابرة والمرابطة.
الخامس : عدم الوهن أو الضعف في المبارزة ومقدماتها .
السادس : والجدال والإحتجاج في إقامة البرهان على التوحيد والنبوة.
وعن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف { وكفى الله المؤمنين القتال } بعلي بن أبي طالب( )، لقتله عمرو بن ود في مبارزة تأريخية غيّرت وجه التأريخ.
وذكر أنهم إنهزموا بالجنود من عند الله وبالريح التي أرسل على كفار قريش، وأقتحم نوفل بن الحارث ، من قريش ، الخندق بفرسه ، فقتل فيه . وقتل من الكفار أيضاً : منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق , أصيب ثم مات في مكة .
واستشهد من المسلمين ، في معركة الخندق : معاذ ، وأنس بن أوس بن عتيك ، وعبد الله بن سهل ، وأبو عمرو ، وهم من بني عبد الأشهل؛ والطفيل بن النعمان ، وثعلبة بن غنمه ، وهما من بني سلمة؛ وكعب بن زيد ، من بني ذبيان بن النجار ، أصابه سهم غرب فقتله( ).
وكان للمرابطة يوم الخندق منافع عظيمة، وعن سليمان بن صرد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يوم الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزونا ( ).
وهذا الإخبار من علم الغيب، إذ لم تكن هناك أمارات جلية تدل عليه.
والمرابطة من الكلي المشكك وهو على مراتب متفاوتة في مدته وكيفيته وعدد المرابطين، فيمكن إحتساب إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخندق قريباً من شهر من أبهى وجوه المرابطة , لأنها حالة قتال وليس فقط مرابطة خشية قدوم وغزو العدو.
السادس : عدم الوهن بعد إنتهاء المعركة، خاصة مع تعدد وكثرة العدو وخشية عودته للقتال، وبعد معركة الخندق بستة عشر يوماً غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنو قريظة (وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة) ( )، لأنهم كانوا على عهد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنقضوه وظاهروا وأعانوا قريشاً.
السابع : عدم الوهن بالدعاء والمسألة، وسؤال النصر من عند الله للمؤمنين، والخزي والإنكسار للكافرين.
الثامن : تهيئة مقدمات القتال على نحو الإطلاق أي مع العزم عليه، وظهور أمارات وورود أخبار عن نية العدو الهجوم والقتال أو بدونه ومن غير حاجة ظاهرة، وهذا الإطلاق من مصاديق قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
فلم تقيد الآية الإعداد وأخذ الأهبة للقتال بحال المبارزة أو بدأ وإشتداد القتال بل مطلقاً في كل زمان ليكون فيه زاجراً للكفار عن التعدي على حرمات وثغور المسلمين، فمتى ما علموا أن المسلمين على أهبة الإستعداد للقتال في أي حال فانهم يجتنبون التعدي عليهم ويطلبون الصلح ويرضون بالشروط.
كما في أحكام الفقه الجنائي في قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، فمتى ما علم الإنسان أنه يقُتل ويقام عليه حكم القصاص إذا قتل غيره عمداً فانه يتجنب القتل فتكون فيه نجاة للقاتل والمقتول، ويعيش الناس في أمن ويكون معنى الحياة في الآية أعلاه أعم من سلامة هذين الشخصين فتشمل السكينة والأمن الإجتماعي وسعي الناس في معاشاتهم وحفظ الحقوق من غير خشية من أهل الحسد للإجهاز عليهم.
التاسع : أداء المسلمين الفرائض ، وإنفاذ الأحكام .
سفر قريش للتجارة
قال تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، لقد وثّق القرآن تجارة قريش وبيان منزلتهم وصلتهم بالأمم والدول الأخرى كيلا يأتي بعضهم في آخر الزمان، ويقول كانت الجزيرة في عزلة وتخلف وفقر مدقع.
فقد كانت لقريش عشيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحلتان، إحداهما في الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حامية، وقد يركبون البحر للوصول إليه أو العودة منه ورحلة الصيف إلى الشام لبرودتها.
وفي ذكر الرحلتين في القرآن مسائل:
الأولى : بيان فضل الله عز وجل على قريش في السفر وإختيار البلدان.
الثانية : أمن قريش وسلامتهم في الطريق فلا يتعرض لهم العرب بالنهب والسلب والأسر لأنهم مجاوروا البيت الحرام.
الثالثة : الكسب والتجارة وتحصيل الأرباح في المضاربة.
الرابعة : لزوم شكر الله عز وجل على هذه النعم لذا قال سبحانه[فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، ويتجلى هذا الشكر بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : بيان عظيم النعمة على قريش بأن يختاروا الناحية التي تدفع عنهم برد الشتاء، والناحية التي تصرف عنهم لهيب حر الصيف مع الريح والكسب عند هذا الإختيار فيختار الناس موضعاً لقضاء شطر من الصيف كما يجري في هذا الزمان، ولكن قريشاً أنعم الله عز وجل عليهم بالرحلة في الشتاء لطلب الدفئ، وفي الصيف لدفع شدة الحر، وفي كل واحدة منهما يجلبون التجارات ويكسبون الأموال وتكون سبباً لرغد العيش وإعانة الفقراء والمحتاجين وجاء قوله تعالى[فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، للتذكير بلزوم تسخير هذه النعم في طاعة الله، وإعانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم فعلوا خلاف وظيفتهم وأصالة وجوب شكر المنعم، إذ سخروا هذه الأموال في تجييش الجيوش من الأحابيش وقبائل كنانة وأهل تهامة والعبيد لمحاربة النبوة والتنزيل، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ]( ).
وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحى قد منّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، وكان فقيرا ذا عيال وحاجة، وكان في الاسارى، فقال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة، إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك واخرج معنا. فقال: إن محمدا قد منّ علي فلا أريد أن أظاهر عليه.قال: بلى، فأعنا بنفسك، فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن قتلت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بنى كنانة ويقول:
أيا بني عبد مناة الرزام * أنتم حماة وأبوكم حام
لا يعدونى نصركم بعد العام * لا تسلموني لا يحل إسلام( ).
وكان جبير بن مطعم من سادة قريش، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكلمه في أسرى بدر فقال له: لو كان الشيخ أبوك حياً فاتانا فيهم لشفعناه) إذ أن أباه المطعم بن عدي أجار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم من الطائف ودعوته ثقيفاً إلى الإسلام، وهو أحد الذين نقضوا الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم وبني عبد المطلب، وكانت وفاة المطعم قبل معركة بدر بسبعة أشهر.
وفي معركة أحد(دعا جبير بن مطعم غلاماً له حبشياً يقال له وحشي يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطئ بها فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق. قال: فخرجت قريش بحدها وحديدها وجدها وأحابيشها، ومن تابعها من بنى كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن إلتماس الحفيظة وألا يفروا. وخرج أبو سفيان صخر بن حرب، وهو قائد الناس، ومعه زوجته هند بنت عتبة بن ربيعة. وخرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته ابنة عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة. وخرج عمه الحارث بن هشام بزوجته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة. وخرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهى أم ابنه عبدالله بن عمرو. وذكر غيرهم ممن خرج بامرأته. قال: وكان وحشي كلما مر بهند بنت عتبة أو مرت به تقول: ويها أبا دسمة إشف وإشتف. يعنى تحرضه على قتل حمزة بن عبدالمطلب( ).
وأسلم جبير بن مطعم يوم الفتح، وقيل بعد صلح الحديبية وقبل الفتح، والصحيح هو الأول لما روي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ليلة قربه من مكة في معركة الفتح: إن بمكة أربعة نفر من قريش أربا بهم عن الشرك، وأرغب لهم في الإسلام، عتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو.
فمع الأذى والضرر الذي لحق المسلمين من رؤساء قريش فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرجو دخولهم الإسلام.
وكان للقرح الذي أصابهم موضوعية في تفرق الأتباع الأعوان عنهم وفي دخولهم الإسلام ، وهو برهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الناس الإسلام طوعاً وقهراً، وهذا القهر ليس على نحو السالبة الكلية ولكن لسقوط ما في أيدي الكفار وإقامة الحجة عليهم وحملهم على التسليم بلزوم ترك مقامات الرئاسة بالباطل التي كانوا يتمتعون بها.
وقريش: ولد النضر بن كنانة سموا به من القرش لإرادة الكسب وتعاطي التجارة والضرب في الأرض وجمع الأموال، وذكرت وجوه أخرى للتسمية، منها ما روي عن ابن عباس بأن النضر كان في سفينة فطلعت عليهم دابة من دواب البحر يقال لها قرش فخافها أهل السفينة، فرماها بسهم فقتلها وقطع رأسها وحمله معه إلى مكة، وقيل نسبه إلى جدهم قريش بن بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، وذكرت وجوه أخرى لهذه التسمية، وتنقسم قريش إلى قسمين:
الأول : قريش البطاح، وهم الذين يقيمون في بطن مكة , وبطحاء الحرم وحول البيت وهم قبائل عبد مناف وبني عبد الدار وزُهرة، ومخزوم، وتيم بن مرة، وجمح وغيرهم.
الثاني : قريش الظواهر وهم الذين بقوا خارج مكة وفي البادية التي حولها، ومنهم بنو محارب والحارث بن فهر، وغيرهم.
قال الشاعر :
فلو شهدتني من قريش عصابة قريش البطاح لا قريش الظواهر( ).
وذكر أن بطون قريش تسعة وهي:
1 ــ بنو عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
2 ــ بنو عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
3 ـ بنو عبد الدار بن قصي.
4 ـ بنو زهرة بن كلاب.
5 ــ بنو تيم بن مرة.
6 ــ بنو مخزوم بن يقظة بن مرة.
7 ــ بنو عدي بن كعب.
8 ــ بنو جُمَح بن عمرو بن هُصَيص بن كعب.
9 ــ بنو سهم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب
وقيل أن رحلتي قريش، في الصيف إلى الطائف حيث لطافة الجو والبساتين، وفي الشتاء إلى مكة للسكن فيها، ولكن الرجوع إلى البلد لا يسمى رحلة.
وعن قتادة[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ] قال: كان أهل مكة يتعاورون البيت شتاء وصيفاً تجاراً آمنين لا يخافون شيئاً لحرمهم ، وكان العرب لا يقدرون على ذلك ولا يستطيعونه من الخوف ، فذّكرهم الله ما كانوا فيه من الأمن حتى إن كان الرجل منهم ليصاب في الحيّ من أحياء العرب فيقال حرمي . قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : من أذل قريشاً أذله الله، وقال : ارقبوني وقريشاً فإن ينصرني الله عليهم فالناس لهم تبع , فلما فتحت مكة أسرع الناس في الإِسلام فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الناس تبع لقريش في الخير والشر كفارهم تبع لكفارهم ومؤمنوهم تبع لمؤمنيهم( ).
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رحلة الشام مع القوافل للتجارة وعمره إثنتا عشرة سنة إذ أخرجه معه عمه أبو طالب لشدة تعلقه به، ورغبته بأن لا يفارقه ولكن الله عز وجل أراد أن تكون هذه السفرة مناسبة لمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقدمة للإحتراز والعناية الفائقة به فاول نزول الركب في الشام في مدينة بصرى من بلاد الشام، وكان بها راهب إسمه بحيراً يقيم في صومعة له، ووصل إليه علم دين النصرانية، وكانت قريش في رحلة الصيف والتجارة يمرون عليه فلا يكلمهم، فلما نزلوا قريباً منه رأى غمامة تظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونظر إلى الغمامة كيف صارت تظل الشجرة، فنزل من صومعته وصنع طعاماً كثيراً، ثم ارسل إليهم اني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش وأحب ان تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبيدكم وحركم فقال له رجل منهم والله يا بحيرا ان بك اليوم لشانا ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا ما شأنك اليوم , قال له بحيرا صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت ان أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم فاجتمعوا إليه , وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم فلما نزل بحيرا في القوم لم ير الصفة التى يعرف ويجد عنده فقال يا معشر قريش لا يتخلفن احد منكم عن طعامي قالوا له يا بحيرا ما تخلف أحد ينبغى له ان يأتيك الا غلام وهو أحدث القوم سنا فتخلف في رحالهم قال لا تفعلوا أدعوه فليحضر هذا الطعام معكم فقال رجل من قريش واللات والعزى ان كان للؤما بنا ان يتخلف ابن عبد الله بن عبدالمطلب عن طعام من بيننا ثم قام إليه فاحتضنه واجلسه مع القوم .
فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى اشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا , قام إليه بحيرا فقال له يا غلام أسألك بحق اللات والعزى الا ما أخبرتني عما أسألك عنه وانما قال له بحيرا ذلك لانه سمع قومه يحلفون بهما فزعموا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تسألني باللات والعزى شيئا فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيرا فبالله الا ما أخبرتني عما أسألك عنه فقال له سلنى عما بدا لك فجعل يسأله عن اشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره ويخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته .
ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التى عنده فلما فرغ اقبل على عمه ابى طالب فقال ما هذا الغلام منك قال ابني قال ما هو بابنك وما ينبغى لهذا الغلام ان يكون ابوه حيا , قال فانه ابن اخى قال فما فعل ابوه قال مات وأمه حبلى به قال صدقت فارجع بابن اخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا فانه كائن لابن اخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى اقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام فزعموا ان نفرا من اهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما رأى بحيرا في ذلك السفر الذى كان فيه مع عمه ابى طالب فأرادوه فردهم عنه بحيرا في ذلك وذكرهم الله تعالى وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفاته وأنهم ان أجمعوا لما ارادوا لم يخلصوا إليه حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال , فتركوه وانصرفوا عنه ( ).
ويدل قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، على أن المهنة الغالبة لرجال قريش هي التجارة والضرب في الأرض من أجل الكسب، إذ أن قوله تعالى[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، أعم من أن يختص بزمن أو بلد مخصوص، ولكنه يدل على أنه في حال تأهب للسفر والكسب وهذا دأب التجار، فقد يحتاج التاجر السفر في الصيف إلى المكان الحار والخروج بقافلة لجلب بضاعة خاصة وأن موسم الحج متباين في زمانه إذ يتقدم كل سنة أحد عشر يوماً فمرة يكون في الصيف وأخرى في الشتاء أو الربيع أو الخريف، وقيل من لم يكن من قريش تاجراً فليس بشيء.
قال ابن عباس: كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ]( ) في مواسم الحج) ( ).
ومع هذا فإن الآية تدل على أمر ثابت وهو رحلة الشتاء والصيف، إذ كانت القوافل تستعد وتتهيئ في أوان معين في السنة لتنطلق إلى الشام أو إلى المسلمين ويبدو أن التجارة مع الشام هي الأكبر والأوسع، وعندما بلغ النبي الخامسة والعشرين من العمر وقد شاع في مكة أنه صادق أمين، وكانت خديجة بنت خويلد وهي من أشراف قريش وذات مال تضارب به في التجارة وتستأجر الرجال لتدفع لهم المال مضاربة أو إستئجاراً فبعثت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلبت منه الخروج إلى الشام مع غلامها ميسرة، وقالت له(إنه دعاني إلى البعثة اليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك وأنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلا من قومك)( )، وأخذ أبو طالب وأعمام النبي الآخرون يوصون أرباب القوافل وأهل العير بالنبي خيراً، ولكن المعجزات تجلت في سفرته الثانية هذه للشام بأبهى حلة.
وقد يبقى بعض الأنبياء بين قومه فيلقى منهم أشد صفوف الأذى كما في نوح عليه السلام إذ طال عمره وقضاه بين قومه، قال تعالى[فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا]( )، يدعوهم إلى الإسلام فيزدادون عتواً وطغياناً، وكان الرجل منهم يأتي بإبنه ويقف على نوح ويقول لإبنه: إحذر هذا فإنه كذاب وإن أبي حذرني منه فيتوارثون الجحود بالنبوة لذا قال تعالى[أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ]( )، وتوجه نوح بالدعاء عليهم، بينما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة بالتجارة أولا ثم بالهجرة بعد البعثة إلى الطائف ثم إلى المدينة المنورة.
وفي سفر وهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دليل على تفضيله على الأنبياء السابقين فلم يبق بين أهل مكة بل خرج في التجارة ليكون هذا الخروج مناسبة لشهادة أئمة الملل السابقة على نبوته وتجلي علامات النبوة الخاتمة فيه، ثم يهاجر في الدعوة إلى الله فيكون النصر المبين.
وعندما ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشام للتجارة بمال خديجة , وبرفقته غلامها ميسرة , نزلا في سوق بصرى قريباً من صومعة راهب يقال له نسطورا فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه فقال يا ميسرة من هذا الذى نزل تحت هذه الشجرة , فقال ميسرة رجل من قريش من أهل الحرم , فقال له الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي ثم قال له في عينيه حمرة قال ميسرة نعم لا تفارقه قال الراهب هو هو , وهو آخر الانبياء , ويا ليت أنى أدركه حين يؤمر بالخروج فوعى ذلك ميسرة .
ثم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق بصرى فباع سلعته التى خرج بها واشترى فكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة فقال الرجل أحلف باللات والعزى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حلفت بهما قط فقال الرجل القول قولك ثم قال لميسرة وخلا به يا ميسرة هذا نبي والذى نفسي بيده وإنه لهو تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم فوعى دلك ميسرة .
ثم انصرف أهل العير جميعا وكان ميسرة يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره قال وكان الله عزوجل قد ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة من ميسرة فكان كأنه عبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية لها معها نساء فيهن نفيسة بنت منية فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظلان عليه فأرته نساءها فعجبن لذلك ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرها بما ربحوا فسرت بذلك فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت فقال لها ميسرة قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام وأخبرها بقول الراهب نسطورا وقول الآخر الذى خالفه في البيع قالوا وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح وأضعفت له( ).
سفر النبي محمد(ص) للتجارة
من الإعجاز في سفر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور:
الأول : السلامة من أذى قريش ولو على نحو مؤقت.
الثاني : إدراك الناس لعلامات النبوة التي تظهر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : توالي الشهادات من علماء أهل الكتاب على خصال النبوة التي يتصف بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : البشارات بظهور دولة الإسلام.
الخامس : الدعوة الصامتة لدخول الناس الإسلام.
السادس : محاربة الشرك في الأمصار , وتسفيه ما عليه قريش من الشرك والضلالة، ففي سفر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشام قبل بعثته وأثناء بيعه سلعته كانت تتجلى مكارم الأخلاق والسمت الحسن .
السابع : بيان عملي لمعجزة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي سلامته في سفره، وإحاطته بعناية وفضل من الله عز وجل، وهذه السلامة لا تنحصر بالبدن والذات بل تشمل إعلانه النبوة بين ظهراني قوم مشركين، وليس معه مؤازر إلا الله عز وجل.
وعن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ فقال كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركوا العرب وافناء الناس في الموسم ، فنزل عليّ جبريل فقال [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( )، قال : فقمت عند العقبة ، فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة ، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، وتنجحوا ولكم الجنة . قال : فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون عليّ بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهي ويقولون : كذاب صابئ ، فعرض عليّ عارض فقال : يا محمد ، إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه( ).
الثامن : تهيئة أذهان الناس في مكة والأمصار لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسع : عدم إنشغال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأذى قريش فلم يمنعه صدودهم عن جذب الناس إلى الإسلام بالبينات الواضحات، بل إجتهد بدعوة الناس في مكة وخارجها، وفيه دعوة للمسلمين للإقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم في مصاديق الإمتثال لقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
العاشر : سفر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتجارة في شبابه وقبل البعثة مناسبة لمعرفته لأحوال الناس ومدى شيوع الكفر والضلالة بينهم، وحاجتهم إلى البعثة وهو من مصاديق قوله صلى الله عليه و آله وسلم: أدبني ربي فأحسن تأديبي( ).
الحادي عشر : تلمس أمارات نصرة الناس له، وأن من بينهم من يصدّق بالمعجزة وينصر النبوة، وكما سمي السفر لما فيه من الكشف، فانه يكشف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إمكان وجود ناصرين للحق، متلقين الهدى بالقبول .
الثاني عشر : في السفر مقدمة للهجرة في سبيل الله، وترغيباً بها, وبرزخ دون التردد والتسويف فيها، فحالما يأتي الأمر الإلهي بالهجرة يبادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للخروج ولم يخش كيد وإنتقام الظالمين، لذا تراه يخرج من مكة مهاجراً إلى يثرب وليس معه إلا أحد أصحابه وهو أبو بكر، مع طلب قريش له ليتئذ وفي الطريق , ومبيت الإمام علي عليه السلام في فراشه، قال تعالى[إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ]( ).
قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]
تتضمن الآية الإخبار بأن أفراد الزمان ملك لله عز وجل، وأنها تنتقل بين أيدي الناس بالمشيئة من جهة الحكم والشأن وليس التصرف في ذات الأيام فهي بيد الله ليس لأمة أو أهل ملة سلطان عليها، وهذا الحصر من مصاديق التوحيد وملك الله عز وجل المطلق للسموات والأرض، وبه إحتج إبراهيم خليل الرحمن على نمرود كما ورد في التنزيل[فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ]( ).
لتكون الشمس في الآية عنوان ثبات وإستدامة تعاقب الليل والنهار في نظام دقيق سوف يكتشف العلم والتقنية الحديثة أسراراً تعجيزية فيه , وموضوعية هذا التعاقب في تداول الحكم والشأن بين الناس.
وتحتمل مداولة الأيام بين الناس بلحاظ موضوع الخلافة وجوهاً:
الأول : لا ملازمة أو صلة بين مداولة الأيام بين الناس وموضوع الخلافة.
الثاني : من خصائص خلافة الإنسان تبادل الجاه والسلطان بين الناس.
الثالث : التفصيل بلحاظ تعدد معاني مداولة الأيام وصيرورتها مرة لهؤلاء، وأخرى لغيرهم، عدواً كان لهم أو مؤالفاً.
والصحيح هو الثاني، وتلك آية في ضروب الإبتلاء في الدنيا، وتجليات طاعة الله في الأرض، وليستبين المؤمن ويفتضح الكافر والمنافق.
وإحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
ليكون هذا الإحتجاج نوع توسل بأن لا تكون الدولة وسلطان الزمان للكفار , وتقدير الآية: قالوا اتجعل الدولة فيها لمن يفسد فيها، وتكون على نحو الدعاء والسؤال من الملائكة، قالوا: لا تجعل الدولة فيها لمن يفسد فيها.
ومن الإعجاز في آية البحث ورود لفظ الناس ويحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة أهل الأرض جميعاً.
الثاني : المراد الأجيال المتعاقبة من الناس، وعدم حصر موضوع الآية بأهل زمان مخصوص.
الثالث : إرادة كل أهل مصر وما يجري بين الأطراف المتخاصمة من القبائل والبطون وغيرها، قال ابو سفيان يوم أحد:
يوم لنا ويوم علينا ويوم نُساءُ ويوم نُسر( ).
وقد ثبت أن يوم بدر كان خزياً لقريش، ولكن يوم أحد ليس لهم، بل هو عليهم أيضاً.
الرابع : إرادة ذات الأمة والجماعة والقبيلة الواحدة.
الخامس : المقصود الأشخاص الذين يتبوأون مناصب الرياسة والإمامة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة إذ أنها أعم من أن تختص بشأن أو سلطان دون آخر، فكما يتعاقب الجديدان ثم لايعودان إلى يوم القيامة فان الناس يتعاقبون بالشأن والجاه والسلطان وقد يعود لبعضهم , ليكون هذا التعاقب على وجوه:
الأول : بيان بديع صنع الله في الناس.
الثاني : اللطف الإلهي في تعاقب الناس في أمور السلطنة والولاية وبيان خصائص ومنافع الإيمان في المقام عندما يتولى المؤمن زمام الأمور، والأذى الذي يلحق الناس من سلطان الظلم والجور.
الثالث : دعوة المؤمنين للسعي لمنازل الشأن والرفعة والسلطان بالتوكل على الله.
الرابع : إرادة الأجر والثواب للمؤمنين سواء كانوا في منازل الشأن والسلطان أو حينما يقع عليهم الظلم وينزل بهم الأذى.
لذا جاءت آيات القرآن بالحث على الصبر ولزوم مصاحبته للإيمان، وعدم الإنفكاك بينهما، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( )، ليكون من منافع تحلي المؤمنين بالصبر بخصوص تبادل المنازل بين الناس في الدنيا أمور:
الأول : الصبر عندما تكون الدولة للمؤمنين بالتنزه عن الجور والفساد، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجوا على جعل خليفة في الأرض وأنه يفسد فيها، فان المؤمنين يتولون شؤون الحكم والسلطنة بما أنزل الله مع التحلي بخصال حميدة وهي:
الأولى : محاربة الفساد.
الثانية : بيان قبح الفساد.
الثالثة : فضح المفسدين.
الرابعة : ذم النفاق، ودعوة الناس للحذر والحيطة من المنافق .
فمن صفات المنافقين المصاحبة لهم إشاعة الفساد مع إدعاء الإصلاح، قال تعالى في توبيخهم وفضحهم[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ]( ).
الثاني : تحلي المؤمنين بالصبر عندما تكون الدولة لعدوهم، ومن خصائص هذا الصبر أنه يتقوم بالتقوى والصلاح، ويكون حجة على الظالمين، وسبباً لزوال دولتهم، وإزاحة ملكهم، ويكون تقدير الآية على وجوه:
الأول : وتلك الأيام نداولها بين الناس لإصلاح الأرض وعمارتها بعبادة الله.
الثاني : وتلك الأيام نداولها بين الناس لتصل إليكم أيها المؤمنون.
ليكون تداول الأيام بين الناس وتعاقبهم فيها وفي مقاماتها رحمة بالناس وسبيلاً إلى هدايتهم وإجتثاثاً للظلم والفسوق، وفيه مواساة للمستضعفين والمنكسرة قلوبهم، ودعوة لهم للتدبر في عظيم قوة الله، وسلطانه في الأرض .
وتداول الأيام بين الناس من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وبيان قانون كوني وهو إفادة هذه الملكية المشيئة المطلقة، وبما يصلح السموات والأرض ويجعلها وعاء دائماً لذكر الله.
الثالث : الصبر في السعي لمنازل الرفعة والعز وإقامة حكم الله في الأرض.
الرابع : الصبر في دفع الذل والهوان عن المؤمنين، فقد يتعرض المؤمنون إلى الخسارة والهزيمة ولكنها لا تتعارض مع العز والرفعة، لمصاحبة العز للإيمان، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
فحتى مع خسارة المؤمنين في معركة أحد فانهم لم يغادروا منازل العز، وكذا لو حدث مثلها، وهذا العز سبب الغلبة والظفر من جديد.
ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث عدم الملازمة بين تداول الأيام بين الناس وبين حال العز أو الذل، فالمؤمنون أعزة في دولتهم أو دولة عدوهم، والكفار في حال ذل وهوان حتى في أيام سلطانهم ويدل عليه رجوع الكفار خائبين من معركة أحد مع ما إدعوه من نصر، لذا وثّق القرآن هذا الأمر بقوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وتدل الآية أعلاه على حقيقة وهي أن مداولة الأيام والنصر والشأن بين الناس من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، فقد يتحقق نصر جهتي، أو نصر مقترن بخسارة فادحة وتضحيات تفوق المكاسب من النصر كما لو سقط عدد كثير من القتلى من الفريق الغازي مقابل إمتلاك بقعة من الأرض يستلزم الحفاظ عليها النفقات الباهضة وصد الهجومات والثأر، أما المؤمنون فان هذا التباين منتف عندهم لأنهم لايسعون إلى الإستيلاء على الأرض بل يقصدون نشر كلمة التوحيد، وهداية الناس إلى الإيمان، والتخلي عن مفاهيم الشرك والضلالة.
ويحتمل تداول الأيام بين الناس وجوهاً:
الأول : إنقياد الأيام للمسلمين في الرزق والشأن والأمن والحكم.
الثاني : عدم وصول الأيام والشأن إلى الكفار إلا بالمشقة والعناء، وعلى نحو السالبة الجزئية ويتصف بعدم الدوام.
الثالث : إقبال الأيام على المؤمنين مناسبة لنشر مفاهيم التقوى، وتقيد الناس بأحكام الحلال والحرام، وفي حال إدبار الدنيا فانها موضوع للدعاء والحرص على أداء الوظائف العبادية لتكون مادة ومصداقاً للصبر، وهو مفتاح للفرج .
لذا عدّ من محاسن الكلام: الأدب غذاء الروح .
الشيب عنوان الموت .
النار فاكهة الشتاء .
الوحدة قبر الحي .
العيال سوس المال .
الصبر مفتاح الفرج .
الدَين داء الكرام .
النمام جسر الشر .
الإرجاف زند الفتنة .
الشكر نسيم النعيم .
الولد ريحانة الروح .
الشمس قطيفة المساكين .
الطيب لسان المروءة.
ولا يخلو بعضها من إشكال أو أن فيها تسامحاً مثل: العيال سوس المال، إنما العيال باب للرزق، وسبب لجلب المال وحصول البركة فيه قال تعالى[نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ]( )، وما فائدة المال إن لم يكن للإنفاق على العيال، إذ يكون بعد وفاة المالك إرثاً لهم أو لغيرهم من المرتبة الثانية .
وأفراد الزمان الثابتة والمتعاقبة هي:
الأول : الأيام، وهي جمع يوم.
الثاني : الشهور، وهي جمع شهر، سمي شهراً لإشتهاره بين الناس بالهلال في أوله، وهل يتعلق أيضاً باختتامه بهلال الشهر اللاحق، الجواب لا، إذ أن الشهر ينقضي برؤية هلال الشهر اللاحق أو بتمام ثلاثين يوماً، قال تعالى[وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ]( )، أي تمام صيام شهر رمضان.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم الشهر فأكملوا العدة، وفي لفظ : فعدوا ثلاثين ( ).
وتكون الأيام والدولة من جهة الرجحان والشأن والسلطان ومصدر القرار على وجوه:
الأول : المسلمون.
الثاني : أهل الكتاب.
الثالث : الكفار.
الرابع : التداخل في السلطان والشأن بين المسلمين وأهل الكتاب.
الخامس : تقاسم الحكم والشأن بين المسلمين والكفار.
السادس : التداخل في السلطان بين أهل الكتاب والكفار، ويكون المسلمون محكومين أو في مرتبة أدنى، أو هم الحكام وكلتا الحالتين من مصاديق قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ].
السابع : التداخل بين أهل الملل جميعاً ومنهم المسلمون.
وذهب جمع من العلماء إلى تفسير الآية بأمرين متباينين وهما:
الأول : إدالة المؤمنين بالظفر والغلبة والنصر.
الثاني : إدالة الكفار بالخسارة والهوان.
ولكن معنى الآية أعم ويتضمن إتحاد مفهوم التداول، لأصالة الإطلاق، وتعدد مصاديقها، نعم المؤمنون حتى في حال الخسارة هم في عز ونصر على النفس الشهوية، وسلامة من الشك والريب في صدق العقيدة، وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: أنهم يدالون كما تنصرون) ( ).
ويحتمل الحديث في موضوعه وأفراد الزمان وجوهاً:
الأول : إرادة معارك الإسلام الأولى.
الثاني : القدر المتيقن من الآية هو خصوص المعركة التي جاء الحديث في مناسبتها.
ليكون هذا الحديث بياناً لقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، وأنه يشمل في دلالته إصابة الكفار بالوهن والضعف عند نصر المسلمين، وفيه تهيئة لأذهان المسلمين لمعارك الإسلام اللاحقة وإنذار للكفار بتوالي هزائمهم وكثرة خسائرهم.
الثالث : إرادة معارك الإسلام التي يخوضها المسلمون ضد الكفر والكافرين، وفي كل مرة ينتصر فيها المسلمون يتضاءل معها شأن وأثر الكفار.
الرابع : إرادة المعنى الأعم للنصر وأنه لاينحصر بميادين القتال، فيشمل الصلح والعهد والمواثيق التي تكفل للمسلمين الدولة والشأن وأداء العبادات، ويشمل النصر في الحديث إزدياد قوة المسلمين، وكثرة عدتهم، وحسن معيشتهم، وتلمس ضروب السعادة المصاحبة للإيمان والمترشحة عنه.
وجاءت آية البحث بذكر الأيام على نحو التعيين، مع أن أفراد الزمان كثيرة فلم تقل الآية وتلك السنين، أو تلك الدهور أو تلك الأزمنة، أو تلك القرون، أو تلك الأحقاب.
بل جاءت بذكر الأيام على نحو الخصوص، وهو من إعجاز الآية من جهات:
الأولى : إرادة التفصيل في أحوال الناس.
الثانية : بيان حقيقة وهي أن الإنسان والجماعة يكونون في الصباح في حال وشأن ويمسون في شأن ضد ونقيض له، من السعادة والحزن، أو الغنى والفقر، أو الغبطة والكدورة، أو القوة والضعف، وكم من ملك أمس أسيراً، وضعيفاً بات فقيراً ذليلاً فاصبح سيداً غنياً.
الثالثة : دعوة المسلمين والناس لأخذ الحائطة للأيام والدواهي بالتقوى والصلاح، وعدم الركون إلى الدنيا وزينتها.
الرابعة : إخبار الآية عن تداول الأيام بين الناس من مصاديق قوله تعالى[كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]( )، وفيه دعوة للناس للإنتفاع من كل يوم من أيام الدنيا وجعله وعاء ومناسبة لجلب الحسنات ومحو السيئات، وعن عبد الله بن منيب قال: تلا علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} فقلنا : يا رسول الله وما ذاك الشأن، قال : «يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين( ).
وتقدير الآية بصيغة المفرد(وهذا اليوم نداوله بين الناس، و(ذلك اليوم نداوله بين الناس).
لماذا (تلك)
( تلك ) اسم إشارة , ويتألف من ثلاثة حروف:
الأول : تي: اسم إشارة مبني على السكون في محل مبتدأ، ويعرب بحسب محله من الجملة.
الثاني : اللام: حرف لا محل له من الإعراب، يأتي للدلالة على البعد، ويتضمن إخبار المخاطَب بأن المشار إليه أمر بعيد.
الثالث : الكاف: للخطاب، وهو حرف لا محل له من الخطاب، وقد يأتي بلحاظ المخاطَب وليس المشار إليه، كما ورد حكاية عن إبليس وخطابه لآدم وحواء الوارد في التنزيل[مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ]( ).
وفي خطاب امرأة العزيز بجمع القلة من النسوة بخصوص إفتتانها بيوسف عليه السلام[فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ]( )، فورد باسم الإشارة الملائم لجمع النسوة ولم تقل(ذلك الذي) لطلبها العذر , ولم تقل آية البحث (هذه الأيام) بل وردت باسم الإشارة للمفرد المؤنث البعيد(تلك) وفيه مسائل:
الأولى : صيرورة أيام الحياة الدنيا مع كثرتها وأنها من اللامتناهي أمراً متحداً بلحاظ أنها من خلق الله، وبمشيئته وإذنه سبحانه يكون حال وشأن الناس فيها.
الثانية : إرادة أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل، فلو قالت الآية (هذه الأيام) لإنصرف المعنى إلى خصوص أيام البعثة النبوية ولفسرت الآية بمعركة بدر , وكيف إنتصر فيها المسلمون، ومعركة أحد وخسارة المسلمين فيها، ولم يلتفت إلى حقيقة وهي أن خسارة قريش يوم أحد اكبر وأكثر من خسارة المسلمين يومئذ .
الثالثة : يحتمل لفظ الأيام وجوهاً:
الأول : إرادة المعارك والحروب، كما يقال يوم بغاث لخصوص المعركة التي نشبت بين الأوس والخزرج قبل الهجرة النبوية، وكانت قريظة والنضير مع الأوس في حلف ونصرة، وأخذوا يتجهزون للحرب أربعين يوماً ولما التقوا تحمسوا للقتال وإجتهدوا فيه إلى أن إنهزمت الأوس ولكن أميرهم وهو حضير الكتائب والد الصحابي الجليل أسيد بن حضير برك وطعن قدمه بسنان رمحه وصاح: واعقراه كعقر الجمل ! والله لا أعود حتى أقتل، فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا. فعطفوا عليه وقاتل عنه غلامان من بني عبد الأشهل يقال لهما محمود ويزيد ابنا خليفة حتى قتلا، وأقبل سهم لا يدرى من رمى به فأصاب عمرو بن النعمان البياضي رئيس الخزرج فقتله، فبينا عبد الله بن أبي بن سلول يتردد راكباً قريباً من بعاث يتجسس الأخبار إذ طلع عليه بعمرو بن النعمان قتيلاً في عباءة يحمله أربعة رجال، كما كان قال له. فلما رآه قال ذق وبال البغي ! وانهزمت الخزرج، ووضعت فيهم الأوس السلاح، فصاح صائحٌ: يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب ! فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم. وإنما سلبهم قريظة والنضير، وحملت الأوس حضيراً مجروحاً فمات. وأحرقت الأوس دور الخزرج ونخيلهم، فأجار سعد بن معاذ الأشهلي أموال بني سلمة ونخيلهم ودورهم جزاء بما فعلوا له في الرعل،ونجى يومئذٍ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي، أخذه فج وأطلقه، وهي اليد التي جازاه بها ثابت في الإسلام يوم بني القريظة ( ).
وحرب بعاث آخر الحروب والفتن بين الأوس والخزرج إذ دخلوا الإسلام معاً وجاهدوا تحت لوائه , وتلك آية في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ دخل الأوس والخزرج التأريخ من جهات:
الأولى : التوثيق السماوي لحسن إسلام الأوس والخزرج.
الثانية : تفضل الله عز وجل بتسمية الأوس والخزرج باسم الأنصار في موضعين من القرآن، وكلاهما في سورة التوبة، قال تعالى[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه نعتهم والمهاجرين بصفتين كريمتين فهم السابقون لقومهم والناس في الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإستعداد لبذل النفس في مرضاة الله، بلحاظ كبرى كلية وهي أن ذات الهجرة تضحية بالنفس والمال وهجران للأهل والوطن والمال، وقصد المجهول من الأحوال ومتقلبات الزمان وهو من مصاديق قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]وتصديق كل من المهاجرين والأنصار بهذه الآية ومضامينها قبل نزولها بلحاظ أنها آية مدنية، وبالهجرة والنصرة إعلان قولي وعملي للتصديق بها، ليكون هذا التصديق على وجوه:
الأول : إنه من إعجاز القرآن بأن يفعل الصحابة ما يدل على التصديق بمضامين الآية قبل نزولها، فلا غرابة أن تأتي آيات موافقة لفطنة ورغائب وأقوال بعض منهم.
الثاني : الثناء على الصحابة لإيمانهم المطلق، وتفويض أمورهم إلى الله سبحانه.
الثالث : رجاء الصحابة النصر والغلبة وإقامة الدولة الإسلامية بفضل ولطف من الله تعالى، فالذين هاجروا إلى المدينة أفراد معدودون، والذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل يثرب في بيعة العقبة الأولى والثانية , بايعوا النبي بيعة توحيد وإيمان وليس فيها حرب ولا جهاد , ووراء كل مهاجر إلى المدينة المنورة قصة تقتبس منها المواعظ والعبر، تبدأ من إيذاء قريش له، وسعيها لمنعه من الخروج وملاحقته ومطاردته والإستيلاء على أمواله إن كان له مال، وكذا بالنسبة لهجرة النساء.
وأول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قريش من بني مخزوم، أبو سلمة عبدالله بن عبد الاسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وكانت هجرته إليها قبل بيعة العقبة بسنة، حين آذته قريش مرجعه من الحبشة، فعزم على الرجوع إليها، ثم بلغه أن بالمدينة لهم إخوانا فعزم إليها.
قال ابن إسحاق: فحدثني أبى، عن سلمة بن عبدالله بن عمر بن أبى سلمة، عن جدته أم سلمة قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه وجعل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره، فلم رأته رجال بنى المغيرة قاموا إليه , فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه.
قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الاسد رهط أبى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.
قالت: فتجاذبوا إبني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الاسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.
قالت: ففرق بيني وبين ابني وبين زوجي.
قالت: فكنت أخرج كل غداة , فأجلس في الابطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبا منها.
حتى مر بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تحرجون من هذه المسكينة ؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها.
قالت: فقالوا لي : الحقي بزوجك إن شئت.
قالت: فرد بنو عبد الاسد إلي عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة.
قالت: وما معي أحد من خلق الله.
حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة ابن أبى طلحة أخا بنى عبد الدار، فقال: إلى أين يا ابنة أبى أمية ؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة.
قال: أو ما معك أحد ؟ قلت: ما معي أحد إلا الله وبني هذا.
فقال: والله ما لك من مترك.
فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوى بي، فو الله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عنى حتى إذا نزلت استأخر ببعيرى فحط عنه ثم قيده في الشجر، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها.
فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني وقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل بي.
فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء , قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلا، فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة.
فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الاسلام أصابهم ما أصاب آل أبى سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.
أسلم عثمان بن طلحة بن أبى طلحة العبدرى هذا بعد الحديبية، وهاجر هو وخالد بن الوليد معا، وقتل يوم أحد أبوه وإخوته، الحارث وكلاب ومسافع، وعمه عثمان بن أبى طلحة، دفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وإلى ابن عمه شيبة والد بنى شيبة مفاتيح الكعبة، أقرها عليهم في الاسلام كما كانت في الجاهلية، ونزل في ذلك قوله تعالىإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.
الرابع : تدل الآية بالدلالة التضمنية على الخصال الكريمة التي تجمع السابقين من المهاجرين والأنصار، ومنها:
الأول : الجهاد بالنفس في سبيل الله على نحو الإنفراد , إذ لم تكن هناك أمة مؤمنة يتآزر فيها الجماعة في الدفاع والتضحية إلا هم.
الثاني : الخروج عن إجماع القوم على الباطل ومفاهيم الشرك، وفيه نوع تحد لهم وإثارة لعصبيتهم، وإستعداد لتلقي الأذى منهم.
الثالث : الجامع المشترك بين السابقين هو الإيمان ببراهين النبوة من غير واسطة جماعة أو أمة.
الرابع : عدم التردد أو التأخير والتسويف في إظهار حب الله ورسوله , وعن عبد الرحمن بن الحارث السلمي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا بطهور ، فغمس يده فيه ، ثم توضأ ، فتتبعناه ، فحسوناه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حملكم على ما صنعتم ، قلنا ، حب الله ورسوله قال : فإن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله فأدوا إذا ائتمنتم ، واصدقوا إذا حدثتم ، وأحسنوا جوار من جاوركم ( ).
ويحتمل حرف الجر (من) في قوله تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] وجوهاً:
الأول : التبعيض ، وبين المهاجرين والأنصار وبين السابقين منهم عموم وخصوص مطلق، فقد يكون صحابي من المهاجرين ولكنه ليس من السابقين الأولين، كما لو هاجر قبل الفتح بسنة أو سنتين، وقد يكون من الأنصار ولكنه ليس من السابقين منهم لأنه لم يحضر بيعة العقبة الأولى والثانية.
الثاني : البيان وإرادة الجنس، والمقصود فريق وصنف خاص من المسلمين يتصف أحدهما بالهجرة، والثاني بالنصرة، إذ أن المهاجرين جمع مهاجر، والأنصار جمع نصير.
و (من) البيانية هي التي يحسن جعل الذي أو الذين محلها , ويكون التقدير: والسابقون الأولون الذي هم مهاجرون وأنصار.
وأنكر كثير من المغاربة مجئ(من) للبيان، فخالفوا المشهور وقالوا أن(من) في قوله تعالى[فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ] ( )، إنما هي لإبتداء الغاية وانتهائها ولو قالوا أنها للتبعيض لكان أقرب في الإحتجاج.
الثالث : التعليل، كما في قوله تعالى[يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ] ( )، ويكون تقدير الآية: والسابقون الأولون للمهاجرين والأنصار، لتدل الآية على أوائل المسلمين من الصحابة وأهل البيت في مكة المكرمة , وأصحاب بيعة العقبة الأولى أو الأولى والثانية من الأنصار الذين كانوا النواة للمهاجرين والأنصار، فكانوا أسوة لهم في أمور:
الأول : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : تحمل الأذى وتلقي الضرر في جنب الله.
الثالث : إعلان الإسلام وعدم الخشية من الكفار.
واستتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم في السنة الخامسة للبعثة , فتشمل الآية الذين هاجروا إلى الحبشة وهم:
1- عثمان بن عفان.
2- محمد بن ابي حذيفة.
3- الزبير بن العوام .
4- عبدالرحمن بن عوف .
5- مصعب بن عمير .
6- الحارث بن زهرة.
7- ابو سلمه بن عبد الاسد بن هلال ومعه زوجه آنذاك ام سلمه بنت ابي اميه بن المغيرة.
8- عثمان بن مظعون .
9- عامر بن ربيعه ومعه زوجته ليلي بنت ابي حثمه.
10- أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى بن أبي قيس.
11- بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر ويقال : بل أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر ( بن لؤي )
ويقال : هو أول من قدم إلى يثرب.
12- سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال.
وفي السنة السادسة للبعثة اسلم حمزة وعمر، وفي إسلام حمزة قال ابن إسحاق : حدثنى رجل من أسلم كان واعية ان أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه , وقال فيه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لامره فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاة لعبد الله بن جدعان بن عمرو بن سعد بن كعب بن تيم بن مرة في مسكن لها تسمع ذلك ثم انصرف عنه فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم .
فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن اقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص , وكان إذا رجع من قنصه لم يصل اهله حتى يطوف بالكعبة وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم ، وكان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة ، فلما مر بالمولاة وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته , قالت له يا أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام وجده ههنا جالسا فآذاه وسبه , وبلغ منه ما يكره , ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد.
فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته فخرج يسعى لم يقف على أحد معدا لابي جهل إذا لقيه أن يوقع به فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة , وقال أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول فرد ذلك علي إن استطعت فقامت رجال بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل دعوا أبا عمارة فاني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا وتم حمزة على إسلامه وعلى متابعة النبي صلى الله عليه وسلم .
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع وأن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم( ).
والقرآن يفسر بعضه بعضا وقد ذكر المهاجرين في القرآن خمس مرات، وذكر الأنصار مرتين، جاء ذكرهم في كل منهما معطوفاً على المهاجرين، وقد بينت الآية ذكر المهاجرين والأنصار في قوله تعالى[لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ]( )، ومعركة تبوك في سنة تسع.
والأقوى إرادة العموم في معنى المهاجرين والأنصار إلا أن يرد دليل على الخصوص .
من أسرار تداول الأيام
من إعجاز القرآن مجئ آية البحث بصيغة العموم (بين الناس) , ومن أسرارها وجوه :
الأول : تذكير المسلمين والناس جميعاً بخصلة إتحاد الخلق والنسب بين الناس جميعاً.
الثاني : بيان سعة رزق الله عز وجل وأنه يتغشى الناس جميعاً.
الثالث : إقبال الدولة والسلطان من أكثر وأشهر وجوه الإبتلاء للحاكم والمحكوم، الذي جاءه السلطان والذي سلب منه وفقده قهراً أو طوعاً.
لذا جاءت كل من هذه الآية والآية التالية بلام التعليل، وحرف العطف الواو في ذات موضوع تداول الأيام بين الناس.
الرابع : سلامة المسلمين من القنوط واليأس عند إدبار الدنيا، قال تعالى[وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ]( ).
الخامس : طرد الشك واليأس عن نفوس المسلمين حتى عندما يكون الشأن والحكم لغيرهم.
السادس : إستدامة الأخوة والتعضيد بين المسلمين وإظهارهم التعاون فيما بينهم في حال الرخاء والشدة، قال تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ]( ).
السابع : إقامة الحجة على الكفار بأن ما في أيديهم فضل وإمتحان من عند الله.
الثامن : دعوة الناس جميعاً للتدبر بآية تداول الأيام فيما بينهم، وإتخاذها وسيلة للإيمان ومناسبة للتوبة والصلاح.
التاسع : تفقه الناس جميعاً في أمور وأحوال الدنيا ببركة القرآن وما فيه من قوانين الإرادة التكوينية والوضعية وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، الذي يدل بالدلالة التضمنية على حتمية إكتساب الناس من علوم القرآن طوعاً أو قهراً وبالذات أو العرض، ولا بد من ترتب النفع الخاص أو العام على هذا الإكتساب، وقد يكون مقدمة لدخول الإسلام.
العاشر : تعدد مصاديق وسبل الثواب التي يفوز بها المؤمنون مع التضاد والتباين بينها، فيأتيهم الثواب عندما تكون الدولة لهم ويقيمون حكم الله، وفي حال إستضعافهم وتولي عدوهم أو غيرهم مطلقاً.
الحادي عشر : إنذار الذين يتبوأون مقامات الرياسة والجاه بأن هذه النعمة لن تدوم , وكما وصلت إليهم فستصل إلى غيرهم، وإذ يتعذر إجتماع الضدين فلابد من زوال رئاستهم وإستيلاء غيرهم عليها، الأمر الذي يدعوهم إلى التدبر والتنزه عن الظلم والجور.
الثاني عشر : بذل الوسع لبلوغ المراتب العالية مع الدعاء ورجاء فضل الله في البلغة والغاية الحميدة مجتمعتين ومتفرقتين، وعن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: ” يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف”. ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ” اللهم، مُنزل الكتاب، ومُجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم ( ).
فمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ميدان المعركة وفي ملاقاة الكفار فانه بين الأولى والأهم ويتقوم بطرفين:
الأول : عدم تمني لقاء العدو، ومن أسرار قول النبي في الحديث أعلاه (يا أيها الناس) إرادة الإطلاق ومخاطبة الناس جميعاً وبيان كراهة الحرب والقتال مع الأعداء لأنه باب خسارة للمتحاربين، إذ يسقط القتلى ويصاب بعض الأفراد بالجراحات، وتتكبد الدولة والناس الخسائر المادية وتتعطل المعاشات.
الثاني : اللجوء إلى الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل قبل بدء القتال:
الأول : جعل الدعاء مقدمة للقتال.
الثاني : إتخاذ الدعاء وسيلة لجلب النصر.
الثالث : بيان المائز بين المسلمين والكفار، إذ يدخل المسلمون القتال بالدعاء.
الرابع : بيان قانون كلي وهو أن الدعاء حاجة في حال السلم والحرب.
الخامس : منافع الدعاء قبل القتال أكثر من أن تحصى فقد يكون سبباً للسلامة من القتال ودخول القوم بالإسلام، أو قبولهم شروط المسلمين أو هداية شطر منهم، أو هزيمتهم العاجلة، والدعاء في المقام من مصاديق قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] إنحلالي من طرفين:
الطرف الأول : كل يوم من أيام الدنيا يداوله الله بين الناس، من جهات:
الأولى : إستدامة حكم طائفة أو دوام نعمة عليهم.
الثانية : إنسلاخ الحكم عن طائفة أو إنقطاع نعمة عنها.
الثالثة : إقبال الدنيا والحكم على طائفة، ومجيء نعمة مستحدثة لها.
الرابعة : تبعيض اليوم، فيصبح الشخص بالملك والسلطان في أول النهار والأعوان والحشم والخدم يحيطون به والكل يطلب نواله، ويمسي في آخره وحيداً فريداً وقد تفرق عنه الأعوان وذمه أو شكا منه الذين كانوا في الصباح يطلبون نواله وصلته.
الخامسة : صيرورة الإنسان في منزل مهاب محسود عليه، ثم تنتقل الحال إلى الذلة والشماتة به، ويحتمل إنتقال الناس من حال هيبة وحسد جانب شخص أو طائفة إلى الشماتة بهم وجوهاً:
الأول : إنه من مصاديق الآية (وتلك الأيام نداولها).
الثاني : هذا الإنتقال أثر للتداول المذكور في الآية.
الثالث : ليس من ملازمة بين الأمرين بلحاظ أن حال الحسد والشماتة والإنتقال بينهما كيفية نفسانية، أما تداول الأيام فهو واقع ذو مبرز خارجي.
والصحيح هو الثاني وهو من إعجاز القرآن في بيان أن الحكم والإخبار القرآني تترشح عنه حال متعددة، وتترتب عليه أمور كثيرة لا تختص بذات الفعل أو الشخص أو أفراد الزمان , لذا ترى التأريخ يوثق تداول الأيام بين الدول، ويذكر علة وأسباب الغلبة أو الهزيمة لأي منها، وقد نال الإسلام السهم الأوفى، والشرف الأسنى في إقامة دولته بالمدد الملكوتي وهزيمة الكفار مع كثرتهم وكثرة مؤونهم وعدتهم.
الطرف الثاني : وصول طائفة أو فريق من الناس إلى منازل الشأن والجاه في أيام الحياة الدنيا، وهل يعني هذا أن كل فريق يصل إلى الحكم حتماً، الجواب لا، إذ لا ملازمة بين تداول الأيام والحكم، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فيكون تداول الأيام في أمور:
الأول : مدة العمر والعيش في الحياة الدنيا، ففي كل زمان جيل وطبقة من الناس غير الأخرى، ولا تنحرم هذه القاعدة بالتداخل الإفرادي بين أفراد جيلين أو ثلاثة معاً , قال تعالى[خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] ( ).
الثاني : التداول في الأموال والرزق الكريم ورغد العيش ليصبح باباً من أبواب الإمتحان , ويكون التعليل الوارد في هذه الآية وليعلم الله الذين آمنوا) جلاء لمصاديق الإيمان بأداء الصلاة ودفع الزكاة وحج البيت الحرام مع الإستطاعة والقدرة عليه.
وعن أبي أمامة الباهلي قال: جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا . قال : ويحك يا ثعلبة . . أما ترضى أن تكون مثلي؟ فلو شئت أن يسير ربي هذه الجبال معي لسارت . قال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا ، فوالذي بعثك بالحق إن آتاني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه . قال : ويحك يا ثعلبة . . قليل تطيق شكره خير من كثير لا تطيق شكره . فقال : يا رسول الله ، ادع الله تعالى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهمَّ ارزقه مالاً . فاتَّجَرَ واشترى غنماً فبورك له فيها ونمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة فتنحى بها – فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشهدها بالليل ، ثم نمت كما ينمو الدود فتنحى بها ، فكان لا يشهد الصلاة بالنهار ولا بالليل إلا من جمعة إلى جمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى به ، فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الأخبار.
وفقده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأل عنه؟ فأخبروه أنه اشترى غنماً ، وأن المدينة ضاقت به وأخبروه بخبره . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويح ثعلبة بن حاطب . . . ! ثم إن الله تعالى أمر رسوله أن يأخذ الصدقات ، وأنزل الله تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً]( )، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين ، رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سلمة يأخذان الصدقات ، فكتب لهما اسنان الابل والغنم كيف يأخذانها على وجهها ، وأمرهما أن يمرا على ثعلبة بن حاطب وبرجل من بني سليم ، فخرجا فمرا بثعلبة فسألاه الصدقة . فقال : ارياني كتابكما ، فنظر فيه فقال : ما هذا إلا جزية ، انطلقا حتى تفرغا ثم مرا بي . قال : فانطلقا وسمع بهما السليمي فاستقبلهما بخيار إبله فقالا : إنما عليك دون هذا . فقال : ما كنت أتقرب إلى الله إلا بخير مالي! فقبلاه ، فلما فرغا مرا بثعلبة فقال : أرياني كتابكما . فنظر فيه فقال : ما هذا إلا جزية . انطلقا حتى أرى رأيي . فانطلقا حتى قدما المدينة ، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلمهما : ويح ثعلبة بن حاطب . ودعا للسليمي بالبركة ، وأنزل الله { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن }( ) الثلاث آيات . قال : فسمع بعض من أقارب ثعلبة فأتى ثعلبة فقال : ويحك يا ثعلبة . . . ! أنزل الله فيك كذا وكذا . قال : فقدم ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هذه صدقة مالي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى قد منعني أن أقبل منك قال : فجعل يبكي ويحثي التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عملك بنفسك أمرتك فلم تطعني ، فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى .
ثم أتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر اقبل مني صدقتي ، فقد عرفت منزلتي من الأنصار . فقال أبو بكر : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلها؟! فلم يقبلها أبو بكر ، ثم ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأتاه فقال : يا أبا حفص يا أمير المؤمنين اقبل مني صدقتي . وتوسل إليه بالمهاجرين والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم . فقال عمر : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر أقبلها أنا؟! فأبى أن يقبلها ، ثم ولي عثمان فهلك في خلافة عثمان، وفيه نزلت { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات} قال: وذلك في الصدقة)( ).
الثالث : التداول وتبادل المناصب ودفة الحكم والإمارة بين الناس من جهات:
الأولى : سقوط وإنهيار دولة ومجيء دولة قوم آخرين.
الثانية : هلاك وموت الملك والسلطان ومجيء وريثه أو واحد من أهل بيته أو حزبه بحيث يبقى ذات النظام قائماً.
الثالثة : التبادل السلمي للسلطة والحكم كما يجري في هذا الزمان بصيغ الإنتخابات إذا كانت نزيهة.
الرابعة : الإنقلاب العسكري والشخصي، ومباغتة الناس بظهور ملك وحاكم جديد.
الخامسة : إزاحة طائفة وجيش لسلطان دولة بالغزو والحصار والقتال.
السادسة : إنشاء دولة ونظام مستحدث في قرية أو مصر لم يحكمها سلطان .
السابعة : زوال حكم وشيوع الفوضى , أو حال التكافل .
الرابع : مقامات العلم والعلماء وصدور الناس عن العلماء في أحكام الشريعة وغيرها، كالقانون والإجتماع والإقتصاد والفلك، وعن عبد الله بن عمرو قال: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول أن الله عز و جل لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكنه يقبض العلماء بعلمهم فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا( ).
الخامس : الغنى وكثرة المال وحاجة الناس لصاحب المال، وتوظيفه لأعداد من العمال في مصانعه أو مزارعه وغيرها من سبل العيش والمكاسب.
السادس : ظهور مذهب مخصوص وإستيلائه على الحكم أو شيوعه بين الناس.
السابع : التغيير الحاصل في الناس نحو الهداية والإيمان . وذكر أنه استضاف مجوسي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: بشرط أن تًسلم، فمر المجوسي،أي إنصرف ولم يرض بالشرط , فأوحى الله تعالى إليه: منذ خمسين سنة نطعمه على كفره، فلو ناولته لقمة من غير أن تطالبه بتغيير دينه؟! فمضى إبراهيم عليه السلام، على أثره، حتى أدركه.. واعتذر إليه، فسأله عن السبب، فذكر له ذلك؛ فأسلم المجوسي ( ).
الدعاء وتداول الأيام
لقد أراد الله عز وجل لهذه الآية أن تكون مدرسة في تأديب المسلمين للإجتهاد بالدعاء بخصوص شؤون الولاية والشأن والجاه، وإرشاداً لهم للإنقطاع إلى الدعاء في حال قيام دولتهم أو إدبار الأيام عنهم، وهو من آيات خلق الإنسان بأن جعل الله عز وجل الدعاء سلاحاً نافعاً وماضياً في كل أحوال الفرد والجماعة والأمة، ويأتي على نحو القضية الشخصية فتنتفع منه الجماعة والأمة، ويصرف به البلاء، وينفع الدعاء في أمور:
الأول : كشف البلاء وصرف الأذى.
الثاني : إبدال حال الشدة إلى حال الرخاء، والضراء إلى سراء (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: واستعينوا على حمل البلاء بالدعاء والتضرع.
الثالث : تقريب النصر والظفر والدولة والجاه.
الرابع : تثبيت الشأن والدولة.
الخامس : إجتهاد المسلمين بالدعاء لدفع البلاء وتخفيفه، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدوا للبلاء الدعاء( ) .
ليكون الدعاء بالأمن من البلاء سابقاً له، لسؤال دفعه ومحوه، ومقارناً له رجاء رفعه ومحوه ومقارناً له رجاء رفعه، ومتعقباً له شكراً لله عز وجل على نعمة صرفه , وتضرعا لعدم عودته خصوصاً وأن قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] مطلق من جهة أفراد الزمان الطولية طولاً وقهراً، من جهات:
الأولى : تعجيل حكم الصالحين ودولة الحق.
الثانية : إطالة حكم الصالحين.
الثالثة : إستتباب الأمن بين الناس.
الرابعة : تهيئة مقدمات وأسباب ذكر الله وإقامة الشعائر في الأرض.
الخامسة : نشر مفاهيم المودة والأخوة التي تتقوم بمرضاة الله، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
السادسة : منع تولي الكفار والظالمين أمور الناس، وإدارة شؤونهم.
السابعة : طرد شبح الحرب والقتال عن الناس جميعاً، فإن قلت قد يكون القتال طريقاً لنشر الإسلام، والجواب هذا صحيح، وتم في بدايات الإسلام بصيغة الدفاع وصد كفار قريش وغطفان ومن والاهم، وينشر الإسلام بالعلم والحكمة وبيان معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتجلي البراهين الدالة على التوحيد، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الثامنة : سرعة إنقضاء الحرب والقتال في حال نشوبه.
التاسعة : الدعاء لإنتهاء القتال لما فيه النصر والظفر والعز للمؤمنين وبسط أيديهم في الأرض بالحق، وجاء قوله تعالى[غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ]( ) إعجازاً في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبياناً للمائز بين أهل الكتاب , ورجاء نصرهم، وبين الكفار ورجاء دحرهم، والروم أكثر سكان أوربا من اليونان والصقالبة، وقيل الرومان هم الإغريق اليونانيون.
وإنهزم الروم أمام الفرس في معركة أنطاكينة 613م وهي في تركيا الآن وقريبا من حدود سوريا ولهذا البعد أطلق القرآن عليها (أدنى الأرض) أي في أطراف الأرض المعهودة عند المسلمين وأهل الجزيرة لأن بلاد الشام هي أبعد من يصلون إليه من الأرض، وقد تقدم في بيان قوله تعالى[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، ثم إنتصرت الروم على فارس ففرح المؤمنون لما جاء الركبان بنصر وغلبت الروم لأنهم أهل كتاب ووافق نصرهم يوم بدر، وقيل صلح الحديبية لتدل الآية بالدلالة التضمنية على دعوة المسلمين للزحف نحوها ولشكر الله عز وجل على فتحها، وهل ينحصر هذا الشكر بالفاتحين وأهل زمان الفتح عقب معركة اليرموك بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وإستمر حكم المسلمين فيها إلى سنة 491 إذ إستولى عليها الروم في بداية الحملات الصليبية وإعتنوا بتحصينها، وبنوا حولها سوراً طوله إثنا عشر ميلاً وأنشأوا عليها أكثر من مائة وثلاثين برجاً وفيها نحو أربعة وعشرون ألف شرفة، يتناوب عليها الحراس والرصد، إلى أن عادت لحكم المسلمين سنة 666 للهجرة على يد الملك الظاهر بيبوس من ملوك المماليك.
العاشرة : تعاهد منازل الشأن التي كان عليها الآباء بالتقوى والصلاح ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: “أكرمهم عند الله أتقاهم” قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: “فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله”. قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: “فعن معادن العرب تسألوني؟” قالوا: نعم. قال: “فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقِهُوا” ( ).
فمعنى الحسب راجع إلى الأنساب، وقد بينا أن ثمرة الأنساب وفائدتها إنما هي العصبية للنعرة والتناصر، فحيث تكون العصبية مرهوبة ومخشية والمنبت فيها زكي محمي تكون فائدة النسب أوضح وثمرتها أقوى. وتعدد الأشراف من الآباء زائد في فائدتها، فيكون الحسب والشرف أصليين في أهل العصبية لوجود ثمرة النسب.
وتفاوت البيوت في هذا الشرف بتفاوت العصبية، لأنه سرها. ولا يكون للمنفردين من أهل الأمصار بيت إلا بالمجاز، وإن توهموه فزخرف من الدعاوى)( ).
ولكن الحديث النبوي يبين تقوم التفضيل بين بفعل الخيرات، والأخلاق الحميدة، وأنه ينطبق على ذي النسب وعلى غيره، بل يشمل ذات الشخص أنه كان معروفاً بين الناس بحسن السمت وقول المعروف فإنتقل إلى الإسلام بذات الصبغة وقصد القربة ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيده بالتفقه في الدين، لتكون بعثة صلى الله عليه وآله وسلم سبباً في التغيير النوعي في باب التفضيل ومداولة الأيام بين الناس وأنه يتقوم بمعرفة أحكام الحلال والحرام والعمل بها بلحاظ قاعدة كلية وهي أن الأخيار المسلمين يكونون على وجوه:
الأول : تعاهد السيرة الحسنة بين الناس وإجتناب الظلم وهو قبيح شرعاً وعقلاً وعرفاً.
الثاني : العلم بأحكام الحلال والحرام الواردة في الكتاب والسنة النبوية.
الثالث : عمل المسلمين بما علموا من الفرائض والعبادات والإمتثال للأوامر الإلهية وإجتناب ما نهى الله عز وجل ورسوله عنه.
الرابع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يكون كالشعاع والضياء المترشح بلحاظ الحديث النبوي أعلاه وعن إجتماع صفتين:
الأولى : الصلاح الذاتي.
الثانية : التفقه في الدين.
ليكون في هذا الحديث حث على إكتساب العلوم الشرعية والإجتهاد في طاعة الله، وطلب الحسب بصدق الإيمان وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
فإن قلت تدل الآية أعلاه على المنزلة عند الله وعظيم الثواب الذي يستحقه المتقون، الجواب من كان كريماً عند الله فإنه يكون كريماً ومهاباً بين الناس إذ يجعل الله عز وجل له شأناً وجاهاً وأسباباً للحفظ والأمن والسلامة، ويبعث في النفوس الرغبة للإنصات له والإقتباس من سيرته الحسنة وقد تساعد الناس في كل الأزمنة، ويلتقي في هذا الذكر أصحابه وأعداؤه على حد سواء.
ويدل الحديث النبوي أعلاه على صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من دعوة الأخيار والناس جميعاً إلى أمرين:
الأول : دخول الإسلام، ونبذ عادات الجاهلية ومفاهيم الشرك.
الثاني : التفقه في الدين، وتلاوة آيات القرآن ومعرفة أحكام الشريعة الإسلامية.
وفيه ترغيب بطلب العلم ومعاني تفسير القرآن ودلائل التأويل فمن يبغي منازل السمو بين الناس والنهل من قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، والصيت الحسن فليتفقه في الدين ويرتقي في مقامات العلم، وإكتساب المعارف الإلهية ليكون من مصاديق آية البحث شمول مراتب العلماء بتداولهم للأيام .
وهل يستقرأ هذا اللحاظ بتقدير الآية: وتلك الأيام نداولها بين العلماء وليعلم الله ورثة الأنبياء .
الجواب نعم، فهم الدعاة إلى فعل الخيرات وإتيان الصالحات وتنمية ملكة قصد القربة في النفوس، وجعلها حاضرة في أداء الفرائض والعبادات، وفي الدفاع عن بيضة الإسلام.
نظرية ابن خلدون بلحاظ آية البحث
من الإعجاز الغيري للقرآن ظهور علماء مسلمين في كافة ميادين العلم والتحقيق بما يجعل الإنسانية تتزود من نظرياتهم وثمرات بحوثهم، منهم عبد الرحمن بن خلدون الذي ولد في بلاد المغرب (في تونس) سنة 732هـ – 1332م , وأقام في المغرب إلى سنة 784 هـ , ودرس في جامع القرويين ثم انتقل إلى مصر ، وأقام في عدد من مدن المغرب العربي مثل سكرة , وغزناطة، وبجاية، وتلمسان، وعندما أقام في مصر ولاه سلطانها الظاهر برقوق قضاء المالكية، ومدة إقامته في مصر نحو خمس وعشرين سنة .
وكانت أسرة ابن خلدون ذات شأن وجاه وأموال في اشبيلية، وبعد إستيلاء الأسبان عليها رحلت أسرته إلى تونس وإختارت الإقامة فيها لصلاتها مع أسرة الحفصي الحاكمة فيها توفى ابن خلدون في مصر سنة 1406 ميلادية.
وقسم ابن خلدون أجيال الدولة إلى أقسام وأجيال:
الجيل الأول : هو الذي يقطن الريف والبوادي، ويعيش حياة صعبة تتقوم بالكسب باليد وبذل الوسع للحصول على لقمة العيش، والتعاهد اليومي للزراعات أو للمواشي والأنعام، والتطلع إلى السماء رجاء نزول الغيث الذي يكون حديثهم أيام الموسم تفاؤلاً أو تشاؤماً.
وقد أنعم الله عز وجل على المؤمنين بتشريع صلاة الإستسقاء وتتكون من ركعتين تصلى توسلاً وتضرعاً لله عز جل لنزول المطر وقطع الجفاف مع الإستغفار والإنابة، وفيه شاهد بأن نزول الغيث ليس بالأسباب وأحوال الطبيعة وان كانت ظاهرة للحواس بل هو شاهد على إرادة الفاعل المختار، والمشيئة المطلقة لله عز وجل.
والإستسقاء وعلته وغايته مناسبات لذكر الله وتنمية لملكة اللجوء اليه سبحانه في حال الرخاء والشدة( ).
الجيل الثاني : وهو الذي ينتقل من البداوة إلى الحضارة، ويصل إلى الملك والسلطان، ويترقى من حياة الشقاء والفاقة إلى النعيم ورغد العيش، وينفرد فيه البعض بالمجد بعد أن كان مشتركاً بين الطائفة والأمة.
الجيل الثالث : وهو الذي يعيش رغد العيش، وعز السلطان والترف المترشح عن المال والجاه، ويصبحون فيه عيالاً على بيت المال والدولة، ويحتاج الملك والحاكم إلى الركون إلى غيرهم في المشورة والسلم والحرب.
الجيل الرابع : الذي يكون ضعيفاً، فاقداً لأسباب حفظ الملك وتعاهد الرياسة والمال.
ويذكر ابن خلدون خمسة أطوار لقيام وإستدامة وزوال الحكم، وأن الطور الخامس هو طور الإسراف والبذخ والهبات، إذ يتلف الحاكم ما جمع وهيئ ما جمعه أسلافه على الشهوات والملذات وعلى خاصته فتصاب البلدة بالهرم والشيخوخة، جعل للدولة عمراً كعمر الإنسان نحو مائة وعشرين سنة .
وليس بتام للتباين بين الدول والمؤثرات الخاصة والخارجية، وللمشيئة الإلهية , وليس من ضابطة زمانية عامة في المقام , فقد تزول الدولة حال نشوئها وفي بدايات إستقرارها , لأسباب ذاتية وإنشقاق أو إتفاق صعود جيل من أمة أخرى , وقد تبقى أجيالاً , ويأتي في الجيل الرابع من يحييها وكأنها أقيمت حديثاً , وهذا التعدد من ذخائر لغة إطلاق مداولة الأيام في آية البحث .
ويرجع إنهيار الدولة إلى أمرين:
الأول : إنحلال العصبية.
الثاني : التبذير والفساد المالي.
ولكن ليس من حصر لأسباب إنهيارها الدولة وخرابها، وقد تنهار لأسباب أخرى كما في الظلم والجور وإيذاء المؤمنين، والتعدي على الحرمات، قال تعالى[وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( )، لأن آية البحث جاءت مطلقة بقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]، والتي تبين شدة التنافس بينهم في طلب الحكم والجاه فقد يكون قوم في السلطان ويحكمون بالعدل ولكن تأتيهم قوة أخرى تبغي العدل أيضاً فتزيحهم وهو من مصاديق قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] وبيان حقيقة وهي أن تغيير الحكم والنظام لا ينحصر بموضوع واحد وهو دبيب الفساد والإسترخاء إلى سلطان الحكم ونزعهم العصبية والتعاضد لدوام الحكم، فقد تأتي قوة عظمى تأكل طائفة أو دولة صغيرة بمشيئة الله عز وجل ولعلة حاضرة أو آجلة لا يعلمها إلا هو سبحانه ولكنها لا تخرج عن كبرى كلية وهي أن هذه الوقائع سبب لتعاهد ذكر الله واللجوء إليه سبحانه وبعث الناس على أداء الفرائض، ولن يعجز الظالم الله عز وجل إذا تمادى في ظلمه وغيه، نعم تزول الممالك في الغالب بتغشى الظلم والفساد بين أركانها , ومع أن نظرية ابن خلدون مدرسة في علم الإجتماع فإنها نتاج التجربة وحال النزوح والتهجير التي عاشها وأسرته .
روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما هلك قوم حتّى يعذروا من أنفسهم. قال: قلت: كيف يكون ذلك؟ فقرأ هذه الآية : {ما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا})( ).
قانون (تلك الأيام نداولها)
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار , وكما يتعذر على الناس معرفة البعد والمسافات الشاسعة بين السماء والأرض فأنه يتعذر عليهم إحصاء الفرص السانحة في الحياة الدنيا سواء للأشخاص أو الطوائف أو الأمم، وسر هذا التعذر العجز عن إدراك فضل الله على الناس عامة أو الأفراد والجماعات على نحو الخصوص، فقد تأتي الرئاسة لشخص مغمور ليس له حسب أو نسب أو تأهل بلحاظ الضوابط في زمانه وبلده وهو من مصاديق العموم الوارد في الآية بلفظ الناس (وتلك الأيام نداولها بين الناس).
وفي هذا العموم مسائل:
الأولى : ترغيب الناس بالدعاء لتحقيق الأماني والحاجات.
الثانية : إدراك موضوعية التوكل على الله وإتخاذه بلغة للغايات الحميدة.
الرابعة : رجاء فضل الله ورحمته (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل وأن من أفضل العبادة إنتظار الفرج) ( ).
وفي الحديث إرشاد وتأديب وأن من مقدمات بلوغ الغايات وأسرار مداولة الأيام إنتظار الفرج وإزاحة العوائق التي تحول دون الصلاح لإصلاح ونيل المراد خاصاً كان أو عاماً، ويدعو الحديث إلى التحلي بالصبر طريقاً وبلغة لنيل النصيب من الأيام.
الخامسة : من قوانين الإرادة التكوينية تغشي رحمة الله للناس جميعاً في الدنيا برهم وفاجرهم , قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( )، ولكن هذه الرحمة لا تأتي بعرض ومرتبة واحدة للناس، إذ تتباين بلحاظ الإيمان والتقوى والصلاح، والثبات على الإيمان في حال البأس وعند الشدة لذا إبتدأت الآية السابقة بقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
فمن الشواهد على نيل المسلمين مرتبة العلو حال العز التي هم عليها , وهل هذا العز والشأن من قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] الجواب نعم وهو من أظهر مواضيع تداول الأيام، فهو مقدمة للسلطان ومصاحب له ورشحة له، فان غاب السلطان عن أهل العز والإيمان والرفعة فلابد وأن يصل إليهم لأن العز طريق إليه، وهو مصاحب للمؤمنين لا يفارقهم في الدنيا والآخرة.
وفيه نكتة وهي هناك مواضيع ثابتة مع تعاقب الأيام، وتقدير الآية بخصوص المؤمنين: وتلك الأيام نداولها بين المؤمنين في عزهم) أي تتوالى الأيام والأشهر والسنين ولكن المؤمنين ثابتون في منازل العز والتعاقب بذات الأيام وإشراقة كل يوم جديد، وكذا تتعاقب الأيام والكفار والمنافقون في منازل الخزي والهوان، وقد يشكل على هذا المعنى وجود ظرف المكان (بين) مما يدل على تناوب الناس في الأيام وتقسيمها بينهم .
والجواب إنه لا يتعارض مع المعنى الأعم للآية بلحاظ تعدد مصاديقها، وحينما يكون الملك والجاه والمال تتباين أحوال الناس وعندما يتعلق الأمر بالعز والذل فان المؤمنين لايتبادلون الحال فيه مع الكفار.
ويفتح قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] أبواباً من فضل الله تعالى، وكنوزاً من ذخائر رحمته، وفيها ترغيب للمؤمنين لبذل الوسع في كسب الأيام وجعلها مسخرة لهم في عبادتهم وصلاحهم وحكمهم، وفق الكتاب والسنة، إذ أن الآية تدعو الناس لتسخير الأيام لهم ولرغائبهم، ولكن الأيام ليست مجردة أو منفردة بذاتها تستطيع أي طائفة أو فرقة أن تغنمها.
فمن إعجاز الآية نسبة تداولها إلى الله عز وجل وأنه سبحانه الذي يجعلها تنتقل بين الناس، ويحتمل هذا التنقل والتداول وجوهاً:
الأول : يتم هذا التداول وفق قوانين خاصة في الإرادة التكوينية.
الثاني : كل تداول له موضوعه وأسبابه الخاصة، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]( ).
الثالث : ليس من قانون أو قاعدة في المقام، فكما أن الأيام تتباين في ذاتها وماهيتها فكذا التداول فهو أمر راجع إلى الله عز وجل ليكون هذا التداول علة للصلاح وسبباً للإجتهاد في مرضاة الله وجعل الأيام تنقاد لأهل التقوى والصلاح، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وفي الآية أعلاه بلحاظ تداول الأيام بين الناس مسائل:
الأولى : الإخبار عن دولة الكفر، وحياة المؤمنين فيها بحال من الضعف والقهر والأذى.
الثانية : نجاة المؤمنين من الإستضعاف بلطف ومنّ من عند الله، وفيه منع من دبيب الغرور إلى نفوسهم فلا يظنون أن أنهم جلبوا النصر وأزاحوا الظلم عنهم بأيديهم وسعيهم، إنما هو بفضل الله عز وجل وتهيئة أسباب ومقدمات هدم سلطان الظالمين , وفيه أمور:
الأول : حث المؤمنين على الدعاء لدفع الإستضعاف والضرر عنهم.
الثاني : دعوة المسلمين للإحتراز من أسباب الوهن والضعف , قال تعالى[يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
الثالث : إجتهاد المسلمين في الشكر لله على نعمة السلامة من الإستضعاف.
الرابع : التدبر في عظيم فضل الله على المسلمين والناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول : إنشاء دولة الإسلام والتي بدأت نواتها من المدينة المنورة.
الثاني : إتساع وإستدامة دول الإسلام.
الثالث : بعث الهيبة للمسلمين وعباداتهم في نفوس القوم الظالمين.
الرابع : كل آية من القرآن هي من فضل الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومنها آية البحث ومضامينها القدسية.
الثالثة : بيان عجز المؤمنين عن الهجرة إلى موضع آمن أحياناً، وفيه رزق كريم لهم لأن الآية جاءت بصيغة الإطلاق[اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ] لتتضمن دعوة للظالمين إلى إجتناب الإستبداد وملاحقة الناس في معايشهم وبيوتهم.
الرابعة : بيان قانون وهو أن الأيام بيد الله عز وجل يسلب السلطان فيها من الظالمين ليمنحه للمؤمنين، ويتفضل ويجعلهم أئمة للناس في الدعوة إلى الله وفعل الصالحات.
الخامسة : ترغيب المسلمين بالصبر وإقترانه بالدعاء وإنتظار الفرج، لأن هذه الآية وعد كريم وعهد من عند الله عز وجل , ومن أسرار مجئ الآية بصيغة المضارع تجدده في كل زمان , وتكون الشواهد التأريخية شاهداً عليه، ومصداقاً له، ومنها موضوع ذات الآية وهو إستضعاف فرعون لبني إسرائيل، وغرقه وجنوده وزوال ملكه، وإنتقال الشأن والسلطان إلى موسى عليه السلام وبني إسرائيل ليؤكد قوله تعالى[وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( ) النعمة على بني إسرائيل من وجوه:
الأول : فلق وشطر ماء البحر إلى قسمين منفصلين ليعبر موسى عليه السلام وبنو إسرائيل بأمان، والبحر هو بحر القلزم ويسمى في هذه الأزمان البحر الأحمر، وورد في مواضع عديدة من التوراة باسم(بحر سوف) كما في سفر الخروج: مركبات فرعون وجيشه القاها في البحر فغرق أفضل جنوده المركبية في بحر سوف( ).
الثاني : نجاة بني إسرائيل لقوله تعالى[فَأَنْجَيْنَاكُمْ] لتكون نجاتهم من جهات:
الأولى : النجاة من إستضعاف فرعون وملئه.
الثانية : الخلاص من الذل والضعف والإضطهاد.
الثالثة : السلامة من الغرق في البحر.
الرابعة : الأمن من العدو وصيرورة البحر برزخاً بين بقية آل فرعون وعبيدهم وبين بني إسرائيل.
الخامسة : الإنتقال إلى بر الأمان وعدم البقاء في مصر.
الثالث : هلاك فرعون وجنوده وعدتهم في البحر بآية ومعجزة من عند الله سبحانه .
وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانزل الملائكة بين مكة والمدينة مدداً لنصرته والمؤمنين.
الرابع : رؤية وشهود بني إسرائيل لكيفية غرق فرعون وقومه لطرد الشك والريب من نفوسهم بخصوص العدو الهالك.
السادسة : بيان نفع تولي المؤمنين السلطان والحكم في إمامة الناس في الخيرات، وتنزيه الأرض من الظلم والفساد.
وحينما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء الرد من عند الله بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
لتكون هذه الآية من مصاديق علم الله عز وجل بأنه سبحانه يزيح الفساد ويمنع من إستدامته ولا يجعل حال الإستذلال يصاحب المؤمنين على نحو الدوام بما يضعف جذوة الإيمان عندهم، أو ينسون أحكام الحلال والحرام وينشغلون عنها، بل يأتيهم الفضل الإلهي بالغلبة وهم مستضعفون مع إتصافهم بحال الإيمان والتقوى وفيه موعظة وإرشاد للمسلمين بلزوم تعاهد سنن الإيمان في حال القهر والإستضعاف وفي حال تولي شؤون الرياسة والحكم أيضاً، لأن الإيمان سبب لجلب الفرح والإنتقال إلى حال الرفعة والعز، ليكون من علم الله عز وجل في المقام أن الفساد لن يستمر وأن الله عز وجل يهدم صرح الكفر ويجعل المؤمنين هم الوارثون .
ومن علم الله عز وجل أن الملائكة تدعو للمؤمنين وهم في حال الإستضعاف وتكتب لهم الحسنات لصبرهم على القهر والظلم وعدم مغادرتهم منازل الإيمان مع الأذى والضرر، ثم تشكر الملائكة الله عز وجل على نعمة إزاحة الظلم عنهم وصيرورتهم أئمة للناس.
ومن الإعجاز في الآية إبتداؤها بذكر المن والإحسان والفضل المتعدد من عند الله، ويحتمل قوله تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا] ( )، وجوهاً:
الأول : المنّ والإحسان بزوال الإستضعاف وإبداله بالإمامة والرياسة.
الثاني : إرادة المنّ في حال الإستضعاف والإستذلال.
الثالث : المقصود الموضوع الجامع الشامل لحال الإستضعاف والإمامة مجتمعين ومتفرقين.
والصحيح هو الأخير، من جهات:
الأولى : أصالة الإطلاق، وعدم وجود مقيد في البين.
الثانية : ورود صيغة العطف بالواو [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً] ليكون المن على المؤمنين غير صيرورتهم أئمة وقادة.
الثالثة : وصف الآية للمؤمنين في حال توالي المن والإحسان عليهم بكونهم (مستضعفين).
الرابعة : من أبهى مصاديق المن والإحسان الإلهي الهداية إلى الإيمان، قال تعالى[بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
مما يدل على مصاحبة المن الإلهي للمؤمنين حتى وهم في حال الاستضعاف والقهر والأذى.
الخامسة : بيان فضل الله في التخفيف من آثار وآصار الإستضعاف على المؤمنين لإنقطاعهم إلى ذكر الله وإمتلاء نفوسهم بحبه تعالى، ورجائهم لفضله وإحسانه.
السادسة : من المنّ الإلهي على المؤمنين في حال الإستضعاف تعاهدهم للعبادات والفرائض، وعدم الإفتتان باغراء السلطان، ولا إغواء الشيطان.
السابعة : حاجة الناس مطلقاً وفي كل الأحوال إلى رحمة الله قال تعالى[وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
وإذا كان المؤمنون مستضعفين في بلد ومصر، فهل تنحصر صيرورتهم أئمة في ذات البلد على نحو التعيين، الجواب لا، وهو من أسرار الإطلاق في قوله تعالى[اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ] والتنكير المكاني في قوله تعالى[وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً] وفي بني إسرائيل الذين نزلت فيهم هذه الآية شاهد على التعدد في المقام، فقد إستذلهم فرعون وقومه كما ورد في التنزيل حكاية عن فرعون[قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ]( ).
وقد أختتمت الآية بالسعة والإطلاق بقوله تعالى[وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] وفيه بشارة هلاك الظالمين وبقاء ديارهم خالية من الملك والسلطان ليرثها المؤمنون ويعمروها بالتقوى والعدل وهو من مصاديق الغنيمة والكسب في تداول وإنتقال الأيام بين الناس.
وذات تداول الأيام نعمة، وتكون مقدمة وطريقاً ووسيلة للمغانم الكثيرة، وكل يوم هو فرصة ومناسبة لإكتساب المنافع المادية والمعنوبة والإعتبارية وهو من مصاديق تسمية اليوم والليلة الجديدين.
معنى لفظ(الناس) في الآية
تتغشى رحمة الله عز وجل الناس جميعاً في الحياة الدنيا، ويعجز الناس عن عدّ أفراد ومصاديق فضل الله تعالى على أي واحد منهم مؤمناً كان أو كافراً، أي لو إجتمعوا على حساب وإحصاء النعم الإلهية على فرد واحد منهم لكانوا عاجزين عن إحصائها لأنها تأتي في كل ساعة على نحو متعدد من جهات:
الأولى : النعمة التي تأتي على نحو دفعي.
الثانية : الإمتنان من عند الله بتكرار ذات النعمة.
الثالثة : النعمة التي تأتي في غير أوانها.
الرابعة : فضل الله والنعمة التي تصيب العبد من دون السبب أو المقدمة، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
الخامسة : النعمة التي تنزل تدريجياً وهي على مراتب , وهل يكون هذا التدريج من مصاديق[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] الجواب نعم بالتباين النسبي والإرتقاء في سلم النعم التي ليس لها حد ليكون كل جزء متجدد منها على وجوه :
الأول : فيه غبطة للنفس .
الثاني : إنه مؤنس للخاطر , قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثالث : إنه باعث على الشكر لله سبحانه .
الرابع : فيه بيان وشاهد على الإعجاز في توالي النعم , وأنها لا تصيب الإنسان بسعيه وجهده بل بلطف وفضل من الله عز وجل.
السادسة : النعمة التي تأتي بالدعاء والمسألة والتضرع إلى الله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، ليكون تقدير الآية أعلاه بلحاظ ضروب النعمة المتعددة: أدعوني بالنعم التدريجية والدفعية.
السابعة : النعم الظاهرة والباطنة.
وكثرة صنوف النعم على الناس مجتمعين ومتفرقين آية من عند الله والنعم على كل واحد من الناس من مصاديق قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] بتقدير (وإن تعدوا نعمة الله على أحدكم لا تحصوها).
ومن هذه النعم نعمة تداول الأيام بين الناس بلحاظ المعنى الأعم لتداول الأيام وأنه أعم من أن يختص بالسلطنة والأمارة فيشمل أموراً:
الأول : الجاه والشأن الرفيع بين الناس، ويأتي هذا الشأن بالذات أو بالواسطة، فقد يناله الإنسان بسعيه وجهده وقد يكون ميراثاً وتركة وحسباً ونسباً، أو بواسطة صلته مع صاحب الحكم والسلطان.
الثاني : الثروة والمال، وتبديل الحال من الفقر إلى الغنى، ومن الشقاء إلى السعادة، أو العكس إذ يجزع الكافر مع الفقر والفاقة أما المؤمن فأنه يلجأ إلى كنز القناعة والتحلي بالزهد، وإتخاذ الدعاء سلاحاً، وهي أسباب تبدل الأيام وتجعلها تشرق بالرزق الكريم والسعة في المال.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) ( ).
وآية البحث من جوامع الكلم إذ أنها تطرد الغرور عن النفس عند إقبال الأيام وتحث على لبس جلباب الصبر عند إدبارها , والتحلي بالقناعة والتطلع إلى فضل الله، وعن الزهري عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، قَالَا: حَدّثَنَا “حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُنَيْن مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَأَعْطَانِيهَا، ثُمّ سَأَلْته مِائَةً فَأَعْطَانِيهَا، ثُمّ سَأَلْته مِائَةً فَأَعْطَانِيهَا، ثُمّ قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا حَكِيمُ بْنَ حِزَامٍ، “إنّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَاَلّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ السّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ” قَالَ: فَكَانَ حَكِيمٌ يَقُولُ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَك شَيْئًا فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَدْعُوهُ إلَى عَطَائِهِ فَيَأْبَى يَأْخُذُهُ فَيَقُولُ عُمَرُ أَيّهَا النّاسُ إنّي أُشْهِدُكُمْ عَلَى حَكِيمٍ أَنّي أَدْعُوهُ إلَى عَطَائِهِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَه)( ).
الثالث : الحياة والموت، فيأتي جيل من الناس ويستثمر أيام الدنيا، ويكون لكل إنسان يوم يستقبله في الدنيا ويوم من أيامه يغادرها فيه، ولا يعلم هذين اليومين بالنسبة للإنسان من جهة ولادته ووفاته إلا الله عز وجل.
يتجلى الجمع بين الإطلاق الزماني والمكاني في المقام بقوله تعالى[وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( ).
وقد يشكل على هذه الوجوه بأن التداول يدل على التقلب ومجيء الأيام والجاه والسلطان ثم مغادرتها ثم عودتها من جديد ولكن لا دليل على هذا التقييد والحصر , وإن كان أحد مصاديق الآية وعموم لفظ الناس فيها لإفادة التداول والإنتقال بين الناس جميعاً، فيدخل فريق في الدنيا ويتنعمون بنعمة الأيام , وفي كل يوم يغادر بعضهم بالموت، ويأتي آخرون بالولادة .
ومن الدلائل على أن تداول الأيام بين الناس بيد الله وحده أنه لا سبيل إلى الدخول بالدنيا وأيامها إلا بالولادة وما قد يلحق بها ولا يغادر أحد الأيام إلا بالموت.
ترى لماذا لم تقل الآية (وهؤلاء الناس نداولهم بين الأيام) الجواب من جهات:
الأولى : لقد جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض وسخر له الأشياء , قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ….]( ).
الثانية : لقد جعل الله سبحانه الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار، إنما تنتقل الأيام والدنيا بين الناس للإبتلاء وتجلي معالم الإيمان والتقوى , وبه جاءت آية البحث بقوله تعالى(وليعلم الذين آمنوا).
الثالثة : لو كان التداول للناس بين الأيام لقال الظالمون : فوّض الله عز وجل لنا الدنيا والسلطان وفضلنا في قسمت الأيام على الناس، وهذا المعنى لا يمنع من تقلب الناس في أيام الحياة الدنيا وهم يعلمون مغادرتهم لها ومجيء غيرهم، وترى الكافر لا يؤمن بالمعاد ولكنه يجتهد بترك إرث نافع وكريم لأولاده وورثته من بعده.
عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وآله : قال الله عزوجل: يا بني آدم كلكم ضال إلا من هديت، وكلكم عائل إلامن أغنيت، وكلكم هالك إلا من أنجيت، فاسألوني أكفكم وأهدكم سبيل رشدكم إن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفاقة، ولو أغنيته لافسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أمرضته لافسده ذلك، وإن من عبادي لمن يجتهد في عبادتي وقيام الليل لي فالقي عليه النعاس نظرا مني له فيرقد حتى يصبح ويقوم حين يقوم وهو ماقت لنفسه، زار عليها، ولو خليت بينه وبين ما يريد لدخله العجب بعمله، ثم كان هلاكه في عجبه ورضاه عن نفسه، فيظن أنه قد فاق العابدين، وجاز باجتهاده حد المقصرين فيتباعد بذلك مني، وهو يظن أنه يتقرب إلي ألا
فلا يتكل العاملون على أعمالهم، وإن حسنت، ولا ييئس المذنبون من مغفرتي لذنوبهم، وإن كثرت، لكن برحمتي فليثقوا، ولفضلي فليرجوا، وإلى حسن نظري فليطمئنوا، وذلك أني ادبر عبادي بما يصلحهم، وأنا بهم لطيف خبير)( ).
وهذا الحديث من وجوه تفسير آية البحث وفيه بيان لعلة تداول الأيام بين الناس وأنه خير محض ونفع متجدد للناس جميعاً لما فيه من الموعظة ومنه قوله تعالى[كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، وفي أن تداول الأيام بين الناس تركة كريمة يعتبر ويتعظ منها المؤمنون، ويقتبسون منها الدروس والحكم، ليكون من مصاديق[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وجوه:
الأول : وراثة المسلمين لقصص الأمم السابقة.
الثاني : توثيق قصص الأنبياء وأهل الملل والنحل في القرآن , الكتاب السماوي المصاحب للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
الثالث : سلامة القرآن من التحريف ليتلقى كل جيل في المسلمين نعمة قصص الأمم السابقة بعرض واحد.
الرابع : إنتفاع المسلمين من قصص الأمم السابقة، ومن قصص المسلمين أنفسهم.
الخامس : قراءة سيرة وسنة الأنبياء بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإقتداء به، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
السادس : ترغيب المسلمين بما يذكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الأنبياء وصبرهم وجهادهم في سبيل الله وهو من مصاديق[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( )، من جهات:
الأولى : ما يرويه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أحوال الأنبياء ثروة إختص الله عز وجل بها المسلمين.
الثانية : تلقي المسلمين لأخبار الأنبياء الواردة بالسنة النبوية القولية أو التدوينية بالقبول وإتخاذها مدرسة في الحكمة وسبل الهداية والصلاح، وهو من عمومات قوله تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
السابع : إكرام الأنبياء بحفظ سننهم بالقرآن وتلاوة المسلمين له وإقرارهم بنبوة الأنبياء , على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، ليكون من معاني اسم التفضيل (خير) إختصاصهم بالتسليم بنبوة الأنبياء جميعاً، وفي التنزيل[لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ]( ).
الثامن : تعاقب الناس على شؤون الحكم والإمامة إلى أن وصل إلى المسلمين، فلا يغادرون منازلها إلى يوم القيامة، فان قلت هذا خلاف الإطلاق ولغة الإستمرار في إنتقال الأيام بين الناس بقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] والجواب من وجوه:
الأول : التداول أعم ولا يختص بأمور الإمامة فيشمل النصر والظفر في المعارك والجاه وأمور المعاشات والصناعات وأعمار الناس.
الثاني : من مصاديق قراءة الآية: وتلك الأيام نداولها بين المسلمين، إذ أنهم من الناس فينتقل الحكم والإمامة والشأن والعلم بينهم , وفيه دعوة لهم للإيثار وعدم الإستئثار، وزجر عن الملاحاة والخصومة وحب الرياسة والجاه بما يؤدي إلى الفتنة.
وجاء قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] لتنمية ملكة الصبر عند المسلمين، ومنع الصراع على الجاه والملك والسلطان بينهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن يتخذ المسلمون كل آية في القرآن موعظة وعبرة، ونبراساً في سبل الإستقامة , وفيه الأجر والثواب لهم، وهو مناسبة لإقتباس الناس من سيرتهم الإيمانية التي هي حجة لمن عمل بها، وحجة على الذي أعرض عنها.
قوله تعالى[فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]
تتضمن الآية الإخبار عن أهوال القتال وفيه مسائل:
الأولى : التحدي بأن الجراحات والقتل نزلت بالكفار على نحو اليقين والقطع.
الثانية : ليس لأحد أو جماعة من أهل الكفر والنفاق أن ينكروا ما نزل بالكفار من الجراحات والخسائر بالأنفس فلا يأتي من يقول كيف يغلب وينتصر المسلمون على قلتهم ونقص أسلحتهم وعدتهم الكفار على كثرتهم والوفرة في سلاحهم، وبينهم فرسان معروفون في تأريخ العرب.
الثالثة : ليس للكفار التدليس وإخفاء جراحاتهم.
الرابعة : دعوة المسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة لتوثيق وبيان ما لحق الكفار من الجراحات والخسائر في المعارك.
ومن أسرار نعت الكفار بلفظ (القوم) في المقام إفادة الألف واللام العهد، وبيان حقيقة وهي أن المسلمين يعرفون الكفار الذين قاتلوهم باشخاصهم وأعيانهم، ويمكن إستحضار أسماء الذين قتلوا أو جرحوا منهم.
وفي معركة اليرموك طلب باهان أمير جيش الروم اللقاء بخالد بن الوليد فخرج له وإلتقيا في وسط جيش باهان وقادته وتكلم باهان فقال: الحمد لله الذي جعل نبينا أفضل الأنبياء وملكنا أفضل الملوك وأمتنا أفضل الأمم فلما بلغ هذا المكان.
قال خالد وقطع على باهان منطقه والحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم وبجميع الأنبياء وجعل الأمير الذي وليناه أمورنا رجلا كبعضنا فلو زعم أنه ملك علينا لعزلناه عنا , ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلا إلا أن يكون أتقى منه عند الله وأبر .
والحمد لله الذي جعل أمتنا تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتقر بالذنب وتستغفر منه وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا قل الآن ما بدا لك فاصفر وجه باهان وسكت قليلا ثم قال الحمد لله الذي أبلانا فأحسن البلاء عندنا فأغنانا من الفقر ونصرنا على الأمم وأعزنا فلا نذل ومنعنا من الضيم فلا تباح حرمتنا ولسنا فيما أعزنا الله به وأعطانا من ديننا ببطرين ولا مرحين ولا باغين على الناس وقد كانت لنا منكم يا معشر العرب جيران كنا نحسن جوارهم ونعظم رفدهم ونفضل عليهم ونفي لهم بالعهد وخيرناهم بلادنا ينزلون منها حيث شاءوا فينزلون آمنين ويرحلون آمنين.
وكنا نرى أن جميع العرب ممن لا يجاورنا سيشكرون لنا ذلك الذي آتينا إلى إخوانهم وما اصطنعنا عندهم فلم يرعنا منهم إلا وقد فاجأتمونا بالخيل والرجال تقاتلوننا على حصوننا وتريدون أن تغلبونا على بلادنا وقد طلب هذا منا قبلكم من كان أكثر منكم عددا وأعظم مكيدة وأقوى جدا فلم يرجعوا عنا إلا وهم بين أسير وقتيل وأرادت ذلك منا فارس فقد بلغكم كيف صنع الله بهم وأراد ذلك منا الترك فلقيناهم بأشد مما لقينا به فارس وأرادنا غيرهم من أهل المشرق والمغرب من ذوي المنعة والعز والجنود العظيمة فكلهم أظفرنا الله بهم وصنع لنا عليهم.
ولم تكن أمة من الأمم بأدق عندنا منكم شأنا ولا اصغر أخطارا إنما جلكم رعاء الشاء والإبل وأهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء أفأنتم تطمعون أن نتخلى لكم عن بلادنا بئس ما طمعتم فيه منا وقد ظننا أنه لم يأت بكم إلى بلادنا ونحن ننفي كل من حولنا من الأمم العظيمة الشأن الكثيرة العدد إلا جهد نزل بكم من جدوبة الأرض وقحط المطر فعثتم في بلادنا وأفسدتم كل الفساد وقد ركبتم مراكبنا وليست كمراكبكم , ولبستم ثيابنا وليست كثيابكم , وطعمتم من طعامنا وليس كطعامكم , وأصبتم منا وملأتم أيديكم من الذهب الأحمر والفضة البيضاء والمتاع الفاخر .
ولقد لقيناكم الآن وذلك كله لنا وهو في أيديكم فنحن نسلمه لكم فأخرجوا به وانصرفوا عن بلادنا فإن أبت أنفسكم إلا أن تخرجوا وتشرهوا وأردتم أن نزيدكم من بيوت أموالنا ما نقوي به الضعيف منكم ويرى الغائب أن قد رجع إلى أهله بخير فعلنا ونأمر للأمير منكم بعشرة آلاف دينار ونأمر لك بمثلها ونأمر لرؤسائكم بألف دينار ألف دينار ونأمر لجميع أصحابك لكل واحد منهم بمائة دينار على أن تحلفوا لنا بالأيمان المغلظة أن لا تعودوا إلى بلادنا ثم سكت.
فقال خالد الحمد لله الذي لا إله إلا هو فلما فسر ذلك الترجمان رفع باهان يديه إلى السماء ثم أشار إليه بيده وقال لخالد نعم ما قلت.
قال خالد وأشهد أن محمدا رسول الله فلما فسرها الترجمان قال باهان الله أعلم ما أدري لعله كما تقول , ثم قال خالد أما بعد فإن كل ما ذكرت به قومك من الغنى والعز ومنع الحريم والظفر على ألأعداء والتمكن في البلاد نحن به عارفون وكل ما ذكرت من إنعامكم على جيرانكم منا فقد عرفناه وذلك لأمر كنتم تصلحون به دنياكم فكان زيادة في ملككم وعزا لكم ألا ترون أن ثلثيهم أو شطرهم قد دخلوا في دينكم وهم يقاتلوننا معكم وأما ما ذكرتنا به من رعي الإبل والغنم فما أقل ما رأيت واحدا منا يكرهه وما لمن يكرهه منا فضل على من يفعله.
وأما قولك إنا أهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء فحالنا والله كما وصفته وما ننتفي من ذلك ولا نتبرأ منه وكنا على أسوأ وأشد مما ذكرت وسأقص عليك قصتنا وأعرض عليك أمرنا وأدعوك إلى حظك إن قبلت ألا إنا كنا معشر العرب أمة من هذه الأمم أنزلنا الله وله الحمد منزلا من الأرض ليست به أنهار جارية ولا يكون فيه من الزرع إلا القليل وجل أرضنا المهامة ( ) والقفار وكنا أهل حجر ومدر وشاة وبعير وعيش شديد وبلاء دائم لازم نقطع أرحامنا ونقتل خشية الإملاق أولادنا ويأكل قوينا ضعيفنا , وكثيرنا قليلنا , ولا تأمن قبيلة منا قبيلة إلا أربعة أشهر من السنة وهي الأشهر الحرم رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم , نعبد من دون الله أوثانا وأصناما ننحتها بأيدينا من الحجارة التي نختارها على أعيننا , وهي لا تضر ولا تنفع ونحن عليها مكبون , فبينا نحن كذلك على شفا حفرة من النار من مات منا مات مشركا وسار إلى النار , ومن بقي منا بقي مشركا كافرا بربه قاطعا لرحمه .
إذ بعث الله فينا رسولا من صميمنا وخيارنا دعانا إلى الله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخلع الأنداد التي يعبدها المشركون وقال لنا لا تتخذوا من دون ربكم إلها ولا وليا ولا نصيرا ولا تجعلوا معه صاحبة ولا ولدا ولا تعبدوا من دونه نارا ولا حجرا ولا شمسا و لا قمرا واكتفوا به ربا وإلها من كل شيء دونه وكونوا أولياءه وإليه فارغبوا وإياه فادعوا.
وقال لنا قاتلوا من اتخذ مع الله آلهة أخرى , وكل من زعم أن لله ولدا وأنه ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة حتى يقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له ويدخلوا في الإسلام فإن فعلوا حرمت عليكم دماؤهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها وهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فإن هم أبوا أن يدخلوا في دينكم وأقاموا على دينهم فاعرضوا عليهم الجزية أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم فإن أبوا فقاتلوهم فإنه من قتل منكم كان شهيدا حيا عند الله مرزوقا وأدخله الله الجنة , ومن قتل من عدوكم قتل كافرا وصار إلى النار مخلدا فيها أبدا ثم قال خالد وهذا والله الذي لا إله إلا هو هو الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فعلمناه وأمرنا به وأمرنا أن ندعو الناس إليه ونحن ندعوكم إلى الإسلام وإلى أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإلى أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتقروا بما جاء به من عند الله فإن فعلتم فأنتم إخواننا في الدين لكم ما لنا وعليكم ما علينا فإن أبيتم فإنا نعرض عليكم أن تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن فعلتم قبلنا منكم وكففنا عنكم وإن أبيتم أن تفعلوا فقد والله جاءكم قوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة فاخرجوا بنا على اسم الله حتى نحاكمكم إلى الله فإنما الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم سكت خالد.
فقال باهان إما أن ندخل في دينكم فما أبعد من ترى من الناس أن يترك دينه ويدخل في دينكم , وإما أن نؤدي الجزية ثم تنفس الصعداء وثقلت عليه وعظمت عنده فسيموت من ترى جميعا قبل أن يؤدوا الجزية إلى أحد من الناس وهم يأخذون الجزية ولا يعطونها.
وأما قولك فاخرجوا حتى يحكم الله بيننا فلعمري ما جاءك هؤلاء القوم وهذه الجموع إلا ليحاكموك إلى الله , وأما قولك إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده فصدقت والله ما كانت هذه الأرض التي نقاتلكم عليها وتقاتلوننا إلا لأمة من الأمم كانوا قبلنا فيها فقاتلناهم عليها فأخرجناهم منها , وقد كانت قبل ذلك لقوم آخرين فأخرجهم منها هؤلاء الذين كنا قاتلناهم عليها فابرزوا على اسم الله فإنا خارجون إليكم ( ).
وكتب باهان إلى قيصر : فأسال الله لك أيها الملك ولجيشك النصر ولأهل سلطانك العز والنصر , وإنك بعثتني فيما لا يحصى من العدد وإني قدمت على هؤلاء العرب فنزلت بساحتهم وأطمعتهم فلم يطمعوا وسألتهم الصلح فلم يقبلوا وجعلت لهم جعلا على أن ينصرفوا فلم يفعلوا وقد فزع جند الملك منهم فزعاً شديداً , وإني خشيت أن يكون الفشل قد عقهم والرعب قد دخل في قلوبهم وذلك لكثرة الظلم فيهم وقد جمعت ذوي الرأي من أصحابي وذوي النصيحة للملك , وقد أجمع رأينا على النهوض إليهم جميعاً في يوم واحد ولا نزايلهم حتى يحكم الله بيننا فإن أظهر الله عدونا علينا فارض بقضاء الله، واعلم أن الدنيا زائلة عنك فلا تأسف على ما فات منها ولا تغتبط منها بشيء في يدك والحق بمعاقلك وبدار ملكك بالقسطنطينية وأحسن إلى رعيتك يحسن الله إليك وارحم ترحم وتواضع لله يرفعك الله فإنه لا يحب المتكبرين( ).
وفي معركة اليرموك قال أبو عبيدة الجراح بعد صلاة الصبح وكان أمير الجيش (رأيت كأني واقف بإزاء أعدائنا من الروم إذ حف بنا رجال وعليهم ثياب بيض لم أر كهيئتها حسناً، لبياضها إشراق ونور يغشى الأبصار وعلى رؤوسهم عمائم خضر وبأيديهم رايات صفر وهم على خيول شهب، فلما اجتمعوا حولي قالوا: تقدروا على عدوكم ولا تهابوهم فإنكم غالبون، فإن الله ناصركم، ثم دعوا برجال منكم وسقوهم بكأس كان معهم فيه شراب، وكأني أنظر عسكرنا وقد دخل في عسكر الروم فلما رأونا ولوا بين أيدينا منهزمين، فقال رجل من المسلمين: أصلحك الله أيها الأمير وأنا رأيت الليلة رؤيا، فقال أبو عبيدة: خيراً تكون إن شاء الله تعالى ما الذي رأيت يرحمك الله. فقال: رأيت كأنا خرجنا نحو عدونا فصادفناهم للحرب، وقد انقضت عليهم من السماء طيور بيض لها أجنحة خضر ومخاليب كمخاليب النسور، فجعلت تنقض عليهم كانقضاض العقبان، فإذا جاءت للرجل ضربته ضربة فيقع قطعاً. قال: ففرح المسلمون بتلك الرؤيا( ).
وفي آية البحث ثناء على المسلمين على نحو متعدد بإخبارها عن إصابة الكفار بالقرح والجراحات فيما سلف من الأيام سواء بخصوص معركة بدر أو ما جرى قبلها أو بينها وبين معركة أحد , وهذا القرح بجهاد المسلمين وبسالتهم وإخلاصهم في القتال، وهناك مسألتان:
الأولى : لم ينحصر سبب جراحات الكفار وسقوط القتلى منهم يوم بدر بقتال المسلمين، بل نزلت الملائكة لنصرتهم، وأخرج عن ابن عباس في قوله[وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ]( ) قال: أقبلت عير أهل مكة من الشام فبلغ أهل المدينة ذلك ، فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد العير ، فبلغ أهل مكة ذلك فخرجوا فأسرعوا السير إليها لكي لا يغلب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الله عز وجل وعدهم إحدى الطائفتين ، وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم وأيسر شوكة وأخصر نفراً .
فلما سبقت العير وفاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم ، فكره القوم مسيرهم لشوكة القوم ، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة ، فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ فوسوس بينهم ، يوسوسهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين ، وأمطر الله عليهم مطراً شديداً فشرب المسلمون وتطهروا ، فأذهب الله عنهم رجز الشيطان واشف الرمل من إصابة المطر ، ومشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم ، وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة عليهم السلام ، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وجاء إبليس في جند معه راية في صورة رجال من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان للمشركين[لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ]( ).
فلما اصطف القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره . ورفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه , فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً . فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين ، وأقبل جبريل عليه السلام فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته , فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال : إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله والله شديد العقاب ، فذلك حين رأى الملائكة( ).
الثانية : مجئ النصر بمدد من عند الله حتى في ذات الرمي وضربه السيف، لقوله تعالى[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( )، والتي تحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة خصوص رمية مخصوصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : المراد كل مرة يرمي بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء بالسهم أو النبل أو الحصى.
الثالث : المقصود كل رمية يرميها المسلمون.
الرابع : إرادة كل ضربة سيف من المسلمين في ميادين القتال، وجاءت مادة الرمي للمثال والبيان .
وكل هذه الوجوه من مصاديق الآية، وهو من الإعجاز في المقام الذي تتجلى شواهده في هذه الأيام أن القتال ليس بالمبارزة والسيف، ولكنه بالرمي سواء قصد العدو المنفرد كما في البندقية أو المتعدد كما في الرمي من الأسلحة الثقيلة أو الرمي من الجو أو البحر إلى الجو، ومن الجو إلى الأرض وبالعكس .
ولا يعلم نوع وسنخية الأسلحة والقنابل ودقة تعيين هدفها والتي ستصبح في قابل الأيام إلا الله عز وجل وفيه إنذار للناس ودعوة للتفقه في معنى خلافة الإنسان في الأرض , وإشاعة صيغ الرحمة والود بين الناس وتغليب لغة العقل والحكمة.
فالخاسر من كثرة وتطور هذه الأسلحة هو الإنسان مطلقاً لتعرضه للفتك، وخزائن وأموال الشعوب لصرفها في الإنفاق على الأسلحة وأمور القتال، لذا جاء القرآن بدعوة الناس جميعاً إلى الصلح لقوله تعالى[وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( )، وبيان الضرر من القتال على الباطل والضلالة، والمنافع الخاصة، وما فيه من سفك للدماء، وقد إحتجت الملائكة على خلافة الإنسان في الأرض لخصلتين مذمومتين هما الفساد وسفك الدماء، كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
فجاءت الآية السابقة وما فيها من نهي المسلمين عن الوهن والضعف عند إشتداد القتال والعلم بقوة وكثرة وعدة العدو، والنهي عن الحزن والأسى عند المصيبة وفقد الأحبة وحصول الجراحات لإجتثاث الفساد من الأرض.
وجاءت آية البحث لتكون وسيلة لإقامة شعائر الله بالصبر والجهاد، وسلاحاً لمنع الفساد في الأرض، وحرباً على الشرك والضلالة , ولنشر السلام المتقوم بالإيمان بالله في الأرض، ومعيشة الناس جميعاً في صفاء وود، فمن الآيات أن المسلمين لم يغزوا المشركين وعبدة الأصنام عند بيت الله الحرام، بل كان المشركون هم الذين كرروا الهجوم وإستعملوا شتى الأسلحة ومثلّوا في قتلى المسلمين فكان أن إبتلاهم الله بالجراحات والكلوم وفقد الأحبة ومن غير أجر أو ثواب، ومن معاني قوله تعالى[فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ] أمور:
الأول : إنه وثيقة سماوية تؤكد ما لحق الكفار من الخسارة والضرر.
الثاني : بيان حقيقة وهي أن سقوط القتلى من الكفار وجراح بعضهم لاتخصهم بالذات وذويهم، بل هي مصيبة تنزل بالكفار جميعاً سواء الذين إشتركوا في القتال ضد الإسلام في معركة بدر وأحد أو الذين من خلفهم والذين يناصرونهم، وهو من أسرار تسميتهم القوم لإجتماعهم على العداء للإسلام، مع التباين بينهم وبين المسلمين في أصل وموضوع عموم الخسارة لتنزل الخسارة والجراحات على المسلمين جميعاً للأخوة الإيمانية بينهم، أما الكفار فانها تنزل بساحتهم جميعاً لما تبعثه في نفوسهم من الفزع والخوف.
الثالث : بيان التباعد والتنافر بين المؤمنين والكفار، وتعطيل صلة النسب بينهم، فترى المؤمن يقاتل أخاه وأباه من الكفار ليكون من مفاهيم قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، تقدم صلة الإيمان إذا تعارضت معها صلة النسب، فيكون الأعجمي أخا العربي في بلاد العرب بصلة الإيمان، وكذا العكس، فالعربي أخو لغير العربي في بلاده البعيدة، ليكون من صفات المسلم إنتفاء حال الغربة عنه في بلاد المسلمين مطلقاً، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حصول هذا الواقع في بدايات الإسلام , وجرى على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله مسلم حين ( قال: سلمان منا أهل البيت ( ).
وعن عمرو بن عوف قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق في عام الأحزاب. ثمّ قطع أربعين ذراعاً بين كلّ عشرة، قال : فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون : سلمان مِنّا. وقال الأنصار : سلمان منّا. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم «سلمان منّا أهل البيت. قال عمرو بن عوف : كنتُ أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى بلغنا الصدى أخرج اللَّه من بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقَّت علينا. فقلنا يا سلمان : آت إلى رسول اللَّه وأخبره خبر هذه الصخرة. فإمّا أنْ نعدل عنها فإنَّ المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمر، فإنّا لا نحب أن نجاوز خطة. قال : فرقى سلمان إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبّة تركية. فقال : يا رسول اللَّه خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق، وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيء منها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك فإنّا لا نحب أن نجاوز خطك، قال : فهبط رسول اللَّه مع سلمان الخندق وبقينا نحن التسعة على شفة الخندق. فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، يعني المدينة، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبَّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تكبير فَتْح، وكبَّر المسلمون، ثم ضربها {صلى الله عليه وسلم} فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيتُ مظلم، فكبَّر رسول اللَّه {صلى الله عليه وسلم} تكبير فتح، وكبَّر المسلمون معه. فأخذ بيد سلمان ورقى. فقال سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه لقد رأيتُ شيئاً ما رأيتُ مثلهُ قط فالتفت رسول اللَّه {صلى الله عليه وسلم} إلى القوم فقال : رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا : نعم يا رسول اللَّه (بأبينا أنت وأمّنا وقد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج، فرأيناك تكبّر فنكبّر ولا نرى شيئاً غير ذلك) قال : ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل عليه السلام أنَّ أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور نصرى من أرض الروم كأنَّها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل (عليه السلام) أنَّ أمتي ظاهرة عليها. (ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل أنَّ أمتي ظاهرة عليها) فأبشروا. فاستبشر المسلمون، وقالوا : الحمد لله موعود صدق بأن وعدنا النصرُ بعد الحصر. (فطبقت الأحزاب فقال : المسلمون : {هذا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}( ).
وتقدير الآية : إن يمسسكم قرح فاصبروا فقد مس القوم قرح مثله فهم مهزومون) فان قلت لماذا هذا التباين في التقدير والأثر مع الإتحاد في القرح، والجواب من جهات:
الأولى : لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالصبر في حال السراء والضراء.
الثانية : مجئ المدد من عند الله عز وجل للمؤمنين في ميدان القتال.
الثالثة : موضوعية الإيمان في تحقيق النصر للمؤمنين.
وإذا كانت أسباب وصيغ التخفيف تترى على المسلمين فيكون وقوع الخسارة عندهم وتقديمهم الشهداء وحصول الجراحات بينهم من(المس) وليس الإصابة والمخالطة العامة لأفراد المسلمين، فكيف يكون عند الكفار مس بقوله تعالى(فقد مس القوم قرح مثله) .
الجواب فيه بيان من وجوه:
الأول : إخبار المسلمين بأن الكفار لازالوا متحمسين للقتال.
الثاني : دعوة المسلمين لأخذ الحيطة والحذر، وعدم الظن بأن الكفار وهنوا وضعفوا نتيجة الخسارات التي أصابتهم، كما في فقدهم السبعين من كبرائهم في معركة بدر وأسر سبعين آخرين.
الثالث : قد يقيس المسلمون حال الناس بلحاظ تسليمهم بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن غيرهم يصدق بها ولو على نحو الموجبة الجزئية، مما يجعله يمتنع عن محاربة الإسلام خصوصاً مع الآيات في خسارة الكفار وهم الأكثر عدداً وعدة.
فجاءت الآية بأن الكفار ولعصبيتهم وإستيلاء حمية الجاهلية الأولى عليهم لم يلتفتوا إلى هول خسارتهم وأن أصحابهم الذين قتلوا[َمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) حتى رأوا المسلمين يتسابقون في ميادين القتال حباً لله عز وجل وفناء في طاعته ومرضاته.
أسرار صيغة العموم في الآية
إبتدأت الآية بالخطاب بلغة الجمع الإستغراقي فلم تقل الآية (ان يمسس المقاتلين) أو (إن يمسس المجاهدين) أو ( ان يمسس الرسول قرح).
ليكون الخطاب في الآية معطوفاً على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، الوارد قبل عشر آيات، وهو من إعجاز نظم القرآن، فان قلت , وهل يشمل الخطاب في آية البحث المنافقين، الجواب نعم لأنهم آمنوا بالدعوة الإسلامية ظاهراً وقاموا بأداء العبادات وخرجوا مع المؤمنين إلى الجهاد، ومنهم من يكون النفاق عنده أمراً متزلزلاً قد يزول في أي ساعة خاصة عند رؤية الآيات والمعجزات، وجاءت صيغة العموم من جهات:
الأولى : ما أصاب المسلمين من الجراحات.
الثانية : ذات القرح بلحاظ أن قوله تعالى[قَرْحٌ] اسم جنس يقع على الكثير والقليل منه.
الثالثة : العموم في الكفار وذكرهم بلفظ(القوم).
ومن معاني ودلالات صيغة العموم وجوه:
الأول : دعوة المسلمين للتهيئ للجهاد وتلقي الأذى من الكفار، وتجلي إشراقة مصداق قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، فكان الحشد لملاقاة كفار قريش بصبغة الإيمان.
الثاني : بيان حقيقة وهي أن المؤمن قد يكون في بيته ويصيبه القرح والضرر، وفيه تحريض على الخروج للقتال , ومنع العدو من دخول المدينة.
الثالث : إذا المؤمن جرح أصاب الأسى والألم المؤمنين جميعاً وهو من مصاديق لفظ المس في قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] فان قلت قد ورد ذات اللفظ بخصوص الكفار(فقد مس القوم) والجواب هناك تباين بين الأمرين فان الجرح الذي يصيب أحد الكفار سبب باصابتهم جميعاً بالفزع والخوف من المؤمنين.
شيوع الآية القرآنية بين الناس
من إعجاز القرآن الذي نبينه في هذه الجزء هو شيوع آيات وسور مخصوصات منه عند عموم المسلمين يتداولونها بالنص والمعنى، وأكثرهم لا يعرف موضع الآية من أي سورة كانت، وهل هي آية كاملة أم شطر آية , ومن أسباب هذا الشيوع أمور:
الأول : مناسبة موضوع الآية للواقع اليومي وأحوال الناس وتجلي مصاديقها على نحو متكرر.
الثاني : مجئ الشواهد في حياة الناس بما يؤكد الإعجاز في ذات الآية والشواهد التي تدل عليها.
الثالث : إدراك المسلمين للملازمة بين الآية ومصاديقها في الخارج.
الرابع : ورود سور وآيات بقصص الأنبياء كما في سورة يوسف التي جاءت بكاملها في قصته عليه السلام , وضروب الإفتتان التي نزلت به، وما فيها من دروس أخلاقية وإنزجار عن إرتكاب الفاحشة، ولا يعلم أحد غير الله عز وجل سبل الصلاح التي ترشحت عن هذه السورة، وأعداد الذين امتنعوا عن فعل الفاحشة بسبب إستحضارها، سواء كانوا رجالاً أو نساء .
والفاحشة نوع مفاعلة بين طرفين، فاذا امتنع أحدهما عنها فان الآخر ينجو منها أيضاً، ولو في واقعة عين [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( ).
الخامس : بعث الشوق في نفس المسلم والمسلمة لقراءة القرآن, والتدبر في معانيه , والترغيب في حفظ آياته , والسعي في تفسيرها.
السادس : إتخاذ الآية القرآنية سلاحاً في الجدال والإحتجاج.
السابع : مجئ آيات بخصوص الظالمين وطغيانهم وسوء عاقبتهم وهلاكهم، وفي فرعون قال تعالى[وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ]( ).
لماذا اعطى النبي (ص) أكثر غنائم حنين للمؤلفة قلوبهم
بعد واقعة حنين وإنتصار المسلمين بآية من عند الله وثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه وسط الميدان ، وقعت بأيدي المسلمين غنائم كثيرة، فأراد تأليف قلوب كبراء قريش الذين دخلوا الإسلام حديثاً، ولأن قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي فلابد لهذا العطاء من دلالات ومواعظ.
ورد عن ابن إسحاق في إسناده عن إبي سعيد الخدري قال: لَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا ، فِي قُرَيْشٍ وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ ؟ حَتّى كَثُرَتْ مِنْهُمْ الْقَالَةُ( )، حَتّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقَدْ لَقِيَ وَاَللّهِ رَسُولُ اللّهِ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْك فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْت فِي هَذَا الْفَيْءِ ، الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ . قَالَ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَنَا إلّا مِنْ قَوْمِي . قَالَ فَاجْمَعْ لِي قَوْمَك فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ . قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ . قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا ، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدّهُمْ.
فَلَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ لَك هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيّ فِي أَنْفُسِكُمْ ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا فَهَدَاكُمْ اللّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قَالُوا : بَلَى ، اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ.
ثُمّ قَالَ أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؟ قَالُوا : بِمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ .
قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاك ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاك . أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ( )، مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا . وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ ؟ فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا ، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ . اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ . وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ . قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللّهِ قَسْمًا ، وَحَظّا . ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَفَرّقُوا( ).
وقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤلفة قلوبهم كل واحد مائة من الأبل، إذ ورد عن رافع بن خديج : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من سبي حنين كل واحد مائة من الابل، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائة، وأعطى صفوان بن أمية مائة، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى الاقرع بن حابس مائة، وأعطى علقمة بن علاثة مائة، وأعطى مالك بن عوف مائة، منهم شيبة بن عثمان (كان شيبة قد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين مشركا يريد أن يغتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى من رسول الله صلى الله عليه و سلم غرة فأقبل يريده فرآه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ” يا شيبة هلم لا أم لك ” . فقذف الله في قلبه الرعب ودنا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ووضع يده على صدره ثم قال : اخسأ عنك الشيطان فأخذه أفكل ونزع وقذف الله في قلبه الإيمان فأسلم وقاتل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان ممن صبر معه يومئذ وكان من خيار المسلمين ودفع رسول الله صلى الله عليه و سلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة أو إلى ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وقال خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة يا بني أبي طلحة لا يأخذها منكم إلا ظالم . قال : فبنوا أبي طلحة هم الذين يلون سدانة الكعبة دون بني عبد الدار، قال أبو عمر : شيبة هذا هو جد بني شيبة حجبة الكعبة إلى اليوم دون سائر الناس أجمعين ( ).
وأعطى العباس بن مرداس دون المائة، ولم يبلغ به أولئك فأنشأ يقول:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والاقرع
فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما * ومن تخفض اليوم لا يرفع
وقد كنت في الحرب ذا تدرأ * فلم أعط شيئا ولم أمنع
قال: فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ( ).
ومن الآيات أن الأنصار هم الذين إحتجوا على إعطاء المؤلفة قلوبهم هذا المال الوفير من الغنائم ولم ينالوا منها شيئاً، بينما لم يحتج المهاجرون على هذا الإعطاء، وقال حسان بن ثابت يشكو حال الأنصار:
زَادَتْ هُمُومٌ فَمَاءُ الْعَيْنِ مُنْحَدِرُ … سَحّا إذَا حَفَلَتْهُ عَبْرَةٌ دَرِرُ
وَجْدًا بِشَمّاءَ إذْ شَمّاءُ بَهْكَنَةٌ … هَيْفَاءُ لَا دَنَسٌ فِيهَا وَلَا خَوَرُ
دَعْ عَنْك شَمّاءَ إذْ كَانَتْ مَوَدّتُهَا … نَزْرًا وَشَرّ وِصَالِ الْوَاصِلِ النّزِرُ
وَأْتِ الرّسُولَ فَقُلْ يَا خَيْرَ مُؤْتَمَنٍ … لِلْمُؤْمِنِينَ إذَا مَا عُدّدَ الْبَشَرُ
عَلَامَ تُدْعَى سُلَيْمٌ وَهْي نَازِحَةٌ … قُدّامَ قَوْمٍ هُمْ آوَوْا وَهُمْ نَصَرُوا
سَمّاهُمْ اللّهُ أَنْصَارًا بِنَصْرِهِمْ … دِينَ الْهُدَى وَعَوَانُ الْحَرْبِ تَسْتَعِرُ
وَسَارَعُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْتَرَفُوا … لِلنّائِبَاتِ وَمَا خَامُوا وَمَا ضَجِرُوا
وَالنّاسُ أَلْبٌ عَلَيْنَا فِيك لَيْسَ لَنَا … إلّا السّيُوفَ وَأَطْرَافَ الْقَنَا وَزَرُ
نُجَالِدُ النّاسَ لَا نُبْقِي عَلَى أَحَدٍ … وَلَا نُضَيّعُ مَا تُوحِي بِهِ السّوَرُ
وَلَا تَهِرّ جُنَاةُ الْحَرْبِ نَادِيَنَا … وَنَحْنُ حِينَ تَلَظّى نَارُهَا سُعُرُ
كَمَا رَدَدْنَا بِبَدْرٍ دُونَ مَا طَلَبُوا … أَهْلَ النّفَاقِ وَفِينَا يُنْزَلُ الظّفَرُ
وَنَحْنُ جُنْدُك يَوْمَ النّعْفِ مِنْ أُحُدٍ … إذْ حَزّبَتْ بَطَرًا أَحْزَابَهَا مُضَرُ
فَمَا وَنِيّنَا وَمَا خِمْنَا وَمَا خَبَرُوا … مِنّا عِثَارًا وَكُلّ النّاسِ قَدْ عَثَرُوا( ).
ترى لماذا خصّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(المؤلفة قلوبهم) بهذا العطاء، الجواب من وجوه:
الأول : لا يقول ولا يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر ولا يفعل شيئاً إلا بأمر من عند الله عز وجل , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثاني : إعطاء رسالة لكبراء الشرك والضلالة بكثرة النعم في الإسلام.
الثالث : بعث الحسرة والندم في قلوب المؤلفة قلوبهم من جهات:
الأولى : إيذاؤهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والسابقين إلى الإسلام في مكة.
الثانية : التذكير بشهداء الإسلام الذين قتلوا تحت شدة وطأة تعذيب قريش، وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال، أول شهيد كان في أول الاسلام استشهد: أم عمار سمية، طعنها أبو جهل بحربة في قلبها. وهذا مرسل. قال محمد بن إسحاق: وكان أبو جهل الفاسق الذى يغري بهم في رجال من قريش، إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزاه , وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفيلن( )، رأيك، ولنضعن شرفك.
وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به. لعنه الله وقبحه( ).
الثالثة : بيان خيبة قريش وسوء فعلهم بالحصار الذي ضربوه على أهل بيت النبوة في شعب أبي طالب لسنتين من شهر محرم من السنة السابعة للبعثة النبوية .
لقد أرادت قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحجبهم الله وشلّ أيديهم ووقفت بنو هاشم وبنو المطلب دون تحقيق مأربهم، مع أن أكثرهم لم يكونوا مسلمين ولكنهم رأوا الآيات وأدركوا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عنده حق في دعوته، وكرهوا أن يذلوا ويسلموه إلى العتاة فاجتمعت قريش وكتبت صحيفة بمقاطعة بني هاشم وبني المطلب و( أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَتَعَاقَدُوا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُكَلّمُوهُمْ وَلَا يُجَالِسُوهُمْ حَتّى يُسَلّمُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَتَبُوا بِذَلِكَ صَحِيفَةً وَعَلّقُوهَا فِي سَقْفِ الْكَعْبَةِ يُقَالُ كَتَبَهَا مَنْصُورُ بْنُ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَاشِمٍ وَيُقَالُ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَالصّحِيحُ أَنّهُ بَغِيضُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمٍ فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَشُلّتْ يَدُهُ فَانْحَازَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ إلّا أَبَا لَهَبٍ فَإِنّهُ ظَاهَرَ قُرَيْشًا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ وَحُبِسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ مَعَهُ فِي الشّعْبِ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ لَيْلَةَ هِلَالِ الْمُحَرّمِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ الْبَعْثَةِ وَعُلّقَتْ الصّحِيفَةُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَبَقُوا مَحْبُوسِينَ وَمَحْصُورِينَ مُضَيّقًا عَلَيْهِمْ جِدّا مَقْطُوعًا عَنْهُمْ الْمِيرَةُ وَالْمَادّةُ نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَتّى بَلَغَهُمْ الْجَهْدُ وَسُمِعَ أَصْوَاتُ صِبْيَانِهِمْ بِالْبُكَاءِ مِنْ وَرَاءِ الشّعْبِ وَهُنَاكَ عَمِلَ أَبُو طَالِب ٍ قَصِيدَتَهُ اللّامِيّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوّلُهَا : جَزَى اللّهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلِ( ).
الرابعة : لقد علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ميل المؤلفة قلوبهم إلى الطمع والشره فاعطاهم ما يكفيهم.
الخامسة : كفاية وإجتناب أذى المؤلفة قلوبهم، فقد أبتلى الإسلام بعد إنتصار المسلمين في معركة بدر بظهور جماعة المنافقين، وتكرار صدور الأذى منهم، لذا جاءت الآيات(8-20) من سورة البقرة في فضحهم والتحذير من خبثهم وكيدهم، فأراد الله ورسوله بعد معركة حنين التخفيف عن المسلمين وقطع نشوء أو نمو جماعة أخرى تشابه المنافقين وهم المؤلفة قلوبهم فاغدق عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين.
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذكر المؤلفة قلوبهم في التنزيل وجعل لهم نصيبا في الزكاة , وجعلهم الصنف الرابع من بين الأصناف الثمانية الذين تعطى لهم , قال تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
ولم يرد نص بان أبا سفيان وأصحابه الذين أعطاهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غنائم حنين هم المؤلفة قلوبهم بالذات، ولكنه من المصداق والتأويل الذي ذهب إليه العلماء.
ففي المراد من المؤلفة قلوبهم وجوه:
الأول : هم كفار أظهروا الميل إلى الإسلام، فيعطوا من الزكاة لبعث الرغبة في نفوسهم في الإسلام، قاله مالك.
الثاني :أنهم قوم دخلوا الإسلام، بنية وعزم ضعيف، فيعطوا من الزكاة لجذبهم إلى منازل الإيمان.
الثالث : هم حديثوا حديث بدخول الإسلام من ذوي الشأن.
الرابع : أنهم من الملأ وأشراف العرب يعطون من الزكاة ترغيباً لهم لغيرهم بدخول الإسلام.
الخامس : وجهاء القوم من الكفار ممن لايعتدي على المسلمين لترغيبهم بدخول الإسلام.
السادس : ورد عن ابن عباس في قوله تعالى[وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ]( ) قال: هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أسلموا ، وكان يرضخ لهم من الصدقات ، فإذا أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها خيراً , قالوا : هذا دين صالح ، وإن كان غير ذلك ، عابوه وتركوه ( ).
السابع : هم ناس من الأعراب وغيرهم كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يألفهم بالعطية كيما يؤمنوا( ).
الثامن : هم بعض أشراف العرب أستألفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لدفع أذى قومهم، ولجذبهم لمنازل إعانته والمسلمين على الكفار.
التاسع : بعض رؤساء الكفار يعطون من الزكاة لدفع أذاهم، ولإستحالة نفعهم، أو لكسب مودتهم ونفعهم، وذكر مثالاً عليه أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أعطى صفوان بن أمية من غنائم حنين، وكان وقتها كافراً فاسلم، وقال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه أبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحبّ الخلق إليّ ( ).
وكان صفوان قد فرّ يوم الفتح، ولكنه عاد وشهد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حنيناً والطائف وهو كافر، وأسلمت امرأته فاختة بنت الوليد يوم الفتح قبله بشهر , وأًقرا على نكاحهما , وكان أبوه أمية بن خلف من كبراء قريش أعلن عزمه على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، فطعنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمات من جرحه.
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إستعار أدراعاً من حديد من صفوان يوم حنين، وضاع بعضها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن شئت أغرمتها لك، فقال: لا، أنا أرغب في الإسلام من ذلك.
وروى أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أتاكم كريم قوم فاكرموه ) ورد في صفوان بن أمية الجمحي( ).
ولا تعارض بين الوجوه أعلاه وهي من مصاديق آية البحث وموضوع صفوان بن أمية قضية عين منفردة لا تصلح للإستدلال على جواز إعطاء الكفار من الصدقات لاحتمال وجوه:
الأول : شكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له لإعارته الدروع للنبي , وإمتناعه عن أخذ البدل والعوض عما فقد منها.
الثاني : علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسلام صفوان بن أمية.
الثالث : الحيلولة والفصل بين رؤساء قريش وبين المنافقين، ومنع إجتماعهم ومن هو على شاكلتهم على معاداة الإسلام.
الرابع : حضور صفوان مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة حنين، وعدم صدور أذى أو كيد منه نحو المسلمين.
الخامس : لم يعط النبي للمؤلفة قلوبهم ولذات الأشخاص إلا بوحي من عند الله، وفيه تخفيف عن أئمة وحكام المسلمين لإستحالة إعانة قومهم من غير المسلمين لهم , وإعطائهم الهدايا أو من الصدقات، وكان لإعطاء النبي لهم أثر ونفع عظيم، وقد دخل صفوان الإسلام يومئذ، وشهد معركة اليرموك أميراً من أمراء المسلمين.
ولم يختص إعطاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤلفة قلوبهم بغنائم يوم حنين، وقد ورد عن أبي سعيد الخدري , قال: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ فِيهَا تُرْبَتُهَا فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيُّ وَبَيْنَ عَلْقَمَةَ بْنِ عُلاثَةَ الْعَامِرِيِّ وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْلِ الطَّائِيِّ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ , وَالأَنْصَارُ: أَيَقْسِمُ بَيْنَ صَنَادِيدِ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ” ( ).
كنوز المواساة من الله
نزول المواساة من عند الله للمؤمنين خير سلاح لهم، فكل مواساة تكون تخفيفاً عن المصاب، والتقليل المؤقت من شدة وطأته، أما المواساة من عند الله للمسلمين عند سقوط قتلى أو جرحى منهم فتتصف بأمور:
الأول : إنها بعث على الإقدام والبذل في مرضاة الله.
الثاني : المواساة من عند الله حث على مواصلة الجهاد في سبيله.
الثالث : فيها ترغيب بالثواب، وما أعدّ الله عز وجل للمدافعين عن الإسلام، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لَغَدْوَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ( ).
الرابع : الترغيب بفعل الخيرات عند المصيبة، وعدم ترك باب الإحسان، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنا وكافل اليتيم له أو لغيره في الجنة ، والساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ( ).
الخامس : المواساة من الله عز وجل دعوة لتعاهد الصلاة في أوقاتها وأداء الفرائض والعبادات كما أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير تكاسل او ملل ومادة للتحلي بالصبر.
وعن عبد الله بن عمرو قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يضرب خباءه ومنا من هو في جشره( )، ومنا من ينتضل إذ نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة قال فانتهيت إليه وهو يخطب الناس ويقول ايها الناس انه لم يكن نبي قبلي الا كان حقا عليه ان يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم وينذرهم ما يعلمه شرا لهم الا وان عافية هذه الامة في اولها وسيصيب آخرها بلاء وفتن يدفق بعضها بعضا تجئ الفتن فيقول المؤمن هذه مهلكتي , ثم تنكشف , ثم تجئ فيقول هذه هذه , ثم تجئ فيقول هذه هذه , ثم تنكشف فمن احب ان يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر , ويأتي إلى الناس ما يجب ان يؤتى ( ).
السادس : المواساة من عند الله تشريف وإكرام.
السابع : مواساة الله للمؤمنين وعد كريم بالثواب، وبعث للشوق للقائه تعالى ورؤية الثواب العظيم الذي أعده الله عز وجل للمؤمنين، وهل في ذات المواساة أجر، أي أن قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] هل فيه ثواب.
الجواب نعم فيه ثواب للمؤمنين والمؤمنات لدلالة لغة الخطاب في الآية(يمسسكم) فيترشح الأجر والثواب على المسلمين والمسلمات لإيمانهم وتقواهم ودفاعهم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإسلام.
وبلحاظ صيغة العطف على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( ), يكون تقدير الآية هو: يا أيها الذين آمنوا إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) وفيه شهادة للمسلمين بأن الأذى والضرر الذي يلحقهم في ميادين القتال هو طاعة لله عز وجل ولرسوله.
ومن الإعجاز في موضوع المواساة في آية البحث أنه لايختص بالإخبار عن الإصابة بالقرح والجروح بل يتضمن أموراً:
الأول : إصابة المسلمين بالجروح في سبيل الله، وفي حبه ومرضاته تعالى , بدليل لغة الخطاب لهم بما أنهم مؤمنون.
الثاني : إصابة القرح المتحد المسلمين جميعاً، ليكون من أسراره تفريق الأذى والألم على الجميع فيكون فيه تخفيف ومواساة.
الثالث : مواساة المسلمين بما يصيب عدوهم.
الرابع : مجئ الآية بصيغة التضعيف (يمسسكم) لتهيئة أذهان المسلمين إلى تكرار الإصابة بالجراحات من وجوه:
الأول : تكرار الجراحات في معركة واحدة، كما في قتل سبعين من المؤمنين في معركة أحد.
الثاني : تعدد المعارك التي يخسر فيها المسلمون عدداً منهم بين قتيل وجريح، والحرب كر وفر.
الثالث : عدم وقوع الضرر بالمسلمين عند إصابة بعضهم بالجراحات، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الرابع : إزدياد عدد المسلمين والمسلمات، وإندفاع المؤمنين إلى سوح القتال.
وقد ردّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدداً من أبناء المهاجرين والأنصار يوم بدر، ويوم أحد لصغرهم فلم يتمكنوا من حضور معركة أحد مع حاجة المسلمين إلى السواد وكثرته .
وعن عبد الله بن عمر قال : عُرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم احد وانا ابن اربع عشرة سنة فاستصغرني وعرضت عليه يوم الخندق وانا ابن خمس عشرة فاجازني ( ).
وكذلك رد يومئذ أسامة بن زيد، وزيد بن ثابت والبراء بن عازب، وأُسيد بن ظُهير، وعرابة بن أوس بن قيظي.
ذكره ابن قتيبة وأورده السهيلي، وهو الذى يقول فيه الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين
ومنهم ابن سعيد بن خيثمة. ذكره السهيلي أيضا، وأجازهم كلهم يوم الخندق , وهذه الإجازة من الإعجاز في نبوته صلى الله عليه وآله وسلم لعدم حصول قتال عام بين المسلمين والمشركين .
وكان قد رد يومئذ سمرة بن جندب ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة سنة، فقيل: يا رسول الله إن رافعا رامٍِ فأجازه. فقيل: يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعا فأجازه( ).
تقسيم أصولي جديد في الواجب
تبعث المواساة من عند الله السكينة في النفوس، وتطرد الفزع والخوف لتكون مقدمة للأمن الإجتماعي والإستقرار، ومناسبة لطلب المعاشات وحسن الصلات بين المسلمين ، والسمت في بيوتهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه أن الله عز وجل يتعاهد أسباب ومقدمات الأخوة بين المؤمنين، ويصلحهم لإستدامة هذه الأخوة، وهو من مصاديق إصلاحهم لها مواساتهم وجذبهم لمنازل الصبر والإقامة فيها.
وهو من إعجاز الآية أعلاه جاء بيانه في هذه الجزء، وتدل عليه لغة الحصر في الآية ب(إنما) فلا فرقة وشقاق وخصومة مستديمة بين المؤمنين، فان قلت قد وقع قتال بينهم وليس خصومة فحسب، والجواب من جهات:
الأولى : تبين الآية السابقة للآية أعلاه موضوع هذا القتال بقوله تعالى[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا]( )، لبيان قانون كلي وهو عدم خروج طائفة عن الإيمان بسبب قتالها لطائفة أخرى من المؤمنين.
الثانية : الإنذار والتخويف من الإصرار على القتال والإمتناع عن الصلح.
الثالثة : توجه الأمر الإلهي للمؤمنين جميعاً بوجوب الصلح بين المتخاصمين منهم.
الرابعة : تدل الآية على أن الخصومة والإقتتال لم يقعا بين عموم المسلمين إنما هو بين فئة قليلة منهم، وأن الأكثر والأعم منشغل باصلاحهم.
ليكون من مصاديق الأخوة الإيمانية عدم ترك المؤمنين يتقاتلون بينهم فيكون الإصلاح بينهم من وظائف وشرائط الإيمان، ولو إقتتل شخصان أو فريقان من المؤمنين ولم يسع الباقون في إصلاحهم يؤثمون جميعاً، لأن قوله تعالى[فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] يحمل على الوجوب، لصيغة الأمر فيه، ويقسم الواجب عند الأصوليين إلى قسمين:
الأول : الواجب العيني: وهو الخطاب التكليفي الذي يلزم كل مكلف ذكراً كان أو أنثى كأداء الصلوات اليومية، وصيام شهر رمضان من المعافى والمقيم ، مع قضاء المريض عند البرئ في سنة الواجب، والمسافر عند العودة من السفر، قال تعالى[فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( )، فهذا الخطاب يتوجه إلى ذات المكلف من غير واسطة إكراماً له، وبشارة الثواب العظيم على الإمتثال.
الثاني : الواجب الكفائي، وهو الذي يتعلق بذات الفعل الشخصي، والإتيان به فيتوجه الخطاب للأمة والجماعة، ويجزي أداؤه من الفرد الواحد من المكلفين أو العدد الكافي منهم، مثل رد السلام فاذا سلم شخص على جماعة يكفي رد أحدهم، وبناء المسجد، وقضاء حاجة المحتاج، ودفن الميت، فاذا قام به بعض المؤمنين كفى عن الباقين، ولو إمتنع الجميع أو كان بعضهم يتكل على بعض ويرجو أن يؤديه غيره وليس من متصد له أثم الجميع.
ويمكن ان نضيف للواجب العيني والكفائي قسيماً ثالثاً وهو:
الثالث : الواجب المتجدد، وهو أن يتكرر أداؤه من أكثر من فرد أو طرف لحين تحققه كما في قوله تعالى[فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ]( )، فاذا قام فرد أو جماعة بالإصلاح بين الفريقين ولم يتم الصلح , فلابد من تكراره ولا يسقط الفرض بحصول السعي للإصلاح بل لابد من تحقيق ذات الصلح وهو الذي قد لايتم في المرة والمرتين وقد يلزم التكرار من ذات الجهة التي سعت في الإصلاح لأسباب تتعلق بما عندها من خصائص تؤهلها للإصلاح، أو لأنها قطعت مراتب لتحقيق الإصلاح أو أهليتها للكفالة وإعطاء العهود .
ومن خصائص هذا القسم أن قيام فرد أو جماعة أو طائفة من المسلمين بالواجب لا يسقطه عن الباقين بل يجب أن يقوموا بجهود إضافية وتهيئة مستلزمات ومقدمات نجاح هذه الطائفة، وبذل الوسع وإعانتهم أو المبادرة بدلاً عنهم لوقف القتال ونزيف الدم , وتحتمل النسبة بين الواجب العيني والكفائي وجوهاً:
الأول : هما بعرض واحد، وعلى نحو التساوي في الموضوع والأثر.
الثاني : الواجب العيني مقدم على الواجب الكفائي.
الثالث : الواجب الكفائي هو المقدم والأهم والأكثر.
والصحيح هو الثاني من جهات:
الأولى : فوز المسلمين بالتكليف على نحو العموم الإستغراقي.
الثانية : الواجب العيني من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثالثة : نيل كل مسلم ومسلمة الثواب العظيم بالإمتثال للواجب العيني.
الرابعة : الواجبات العينية فيصل بين الإيمان والكفر.
الخامسة : أركان الإسلام كالصلاة والصيام والزكاة والحج واجبات عينية.
السادسة : الواجبات العينية شواهد يومية ومتجددة على إيمان المسلم بالله ورسوله واليوم الآخر، قال تعالى[وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ]( ).
وقيدت الآية كيفية الصلح والسعي بالتقوى والخشية من الله عز وجل[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، فمن الإعجاز في الآية لزوم تقوم الصلح بالخشية من الله تعالى ، وبإقامة الحدود، وأداء الحقوق ودفع الديات أو الصلح بالتراضي.
ولو دار الأمر بين الصلح مطلقاً، وإن كان فاقداً لبعض شرائط التقوى، أو بقاء حال الإقتتال , فالصحيح هو الأول للإطلاق الوارد في قوله تعالى(والصلح خير) ولكن وظيفة المصلحين هي التقوى وخشية الله، ودفع التعدي والظلم والجور بالميسور.
وقد ورد النهي عن الفرقة وبيان ضررها العام بقوله تعالى[وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( )، ليكون النهي عن الإقتتال بين المسلمين من باب الأولوية القطعية ويكون السعي للصلح بينهم من عمومات الآية أعلاه، لذا فما من قتال بين المسلمين إلا وينتهي بالصلح والوئام ووقوف الطرفين في صفوف متراصة في صلاة الجماعة، وهم يحضرون موسم الحج ويلبون مجتمعين حتى في حال القتال ليكون من خصائص الفرائض العبادية تعاهد الأخوة الإيمانية بين المسلمين، وإزاحة الكدورات التي بينهم، لذا جاء القرآن والسنة بالتأكيد عليها، قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
ترى لماذا تأت آية جامعة للفرائض كلها وما يسمى بأركان الدين، الجواب من جهات:
الأولى : التباين الذاتي بين الفرائض فمنها ما يؤتى بها عدة مرات في اليوم كالصلاة ومنها ما يؤتى مرة واحدة في العمر, قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
وعن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج . فقام الأقرع بن حابس فقال : أفي كل عام يا رسول الله؟ قال : لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها . الحج مرة فمن زاد فتطوّع)( ).
الثانية : بيان مصداق لبلوغ المسلمين مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن يتقيدوا بالفرائض وإن كانت متفرقة في القرآن.
الثالثة : بعث المسلمين على التفقه في علوم القرآن ومعرفة أحكام الحلال والحرام وما فيه من الأوامر والنواهي، فيتلو المسلم القرآن ليعلم الفرائض والواجبات فيجد قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، فيتقيد بأحكامها.
الرابعة : تفريق الفرائض بين سور وآيات القرآن من حكمة الله، ورحمته بالمسلمين والناس جميعاً، وهو من مصاديق قوله تعالى[كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( ).
الخامسة : نظم وسياق آيات القرآن وما فيها من الأحكام من ذخائر التنزيل وكنوز العلوم، ولا يقدر عليه إلا هو سبحانه، قال تعالى[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
ومن مصاديق هذا القسم (الواجب المتجدد) موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيه وجوه :
الأول : كفاية المرة الواحدة، ويمتثل المأمور للأمر بالصلاح والهدى، وينزجر عن المنكر وفعل السيئات من المرة الواحدة , ويكفي قيام شخص أو جهة واحدة بالأمر.
الثاني : عدم كفاية المرة الواحدة، ولكن موانع في البين تحول دون التكرار ولإعادة من ذات الشخص أو غيره.
الثالث : الحاجة إلى تعدد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذات الموضوع لعدم إستجابة الطرف الآخر ولعدم الإستجابة أسباب منها:
الأول : ما يتعلق بالمأمور وإصراره على الإقامة على الفساد، وعدم الإمتثال للأمر بالصلاح.
الثاني : لزوم زيادة البيان والوضوح وتقريب المفاهيم العقلية بالشواهد الحسية.
الثالث : موضوعية الشأن والتأثير من جهة الأمر بالمعروف , فقد تحول أسباب دون إستمرار قيام فرد بالأمر بالمعروف في موضوع مخصوص فيأتي آخر ليس من موانع وأسباب تحول دون قيامه بذات الأمر بالمعروف وإلى نفس الشخص.
فرد السلام واجب كفائي، يكفي فيه رد واحد من الذين جاء السلام عليهم، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو وظيفة الأنبياء، وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله عزوجل ، فمن نصرهما أعزه الله ومن خذلهما خذله الله عزوجل( ).
وكل أمر بالمعروف، ونهي عن منكر له غايات حميدة من جهات:
الأولى : ما يتعلق بالمأمور، وجذبه إلى منازل الصلاح.
الثانية : إرادة الآمر قصد القربة إلى الله، والرغبة في نيل الثواب العظيم.
الثالثة : المنافع العامة التي تترشح من جهات:
الأولى : نشر مفاهيم الصلاح والسعي للخلق الكريم، وتنزيه المجتمعات وأفعال الذوات من القبيح.
الثانية : إظهار الحرص على هداية الغير، وأداء الفرائض بشرائطها, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق قوله تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
الثالث : نقل المأمور بالمعروف إلى منازل الأمر بالمعروف وصيرورته داعية إلى الله.
إضافة قسيم للواجب العيني والكفائي باسم الواجب المتجدد، يختلف عن تقسيمه إلى المرة والتكرار، والفور والتراخي اللذين يتعلقان بذات الأمر وصيغته , لأن المراد من الواجب المتجدد الذي نشرعه هنا هو تجدد توجه الخطاب للمكلفين , أما المراد من التكرار فهو إتيان المكلف بفردين من ذات الطبيعة، والدفعة والدفعات، إذ أختلف في صيغة الأمر على وجوه:
الأول : إنها توجب العموم والتكرار.
الثاني : لا توجب العموم ولا التكرار ولا تحتمله.
الثالث : إرادة إحتمال العموم والتكرار، وبه قال الشافعي( ) .
ومن منافع ذكر قسيم ثالث للواجب العيني والكفائي عدم إكتفاء المؤمنين بأداء واحد منهم للفعل أو الأمر إذ لم يتنجز الأمر به، ولا يعتذرون بسقوط الأمر الكفائي بصدور الإمتثال من أحدهم بل يكون الأمر متجدداً.
شمول النساء بمداولة الأيام
وتحتمل مداولة الأيام بين الناس وجوهاً:
الأول : إرادة خصوص الرجال.
الثاني : شمول النساء مع الرجال.
الثالث : المقصود الرجال وشمول النساء بالتبعية والإلحاق والصحيح هو الثاني ويكون الثالث في طوله من جهات:
الأولى : شمول لفظ الناس للذكور والإناث لغة وشرعاً.
الثانية : مجيء القرآن بذكر تولي النساء لشؤون الحكم، إذ جاءت الآيات(20-44) من سورة النحل بخصوص ملك بلقيس وسعة سلطانها وكثرة أعوانها وعدد أفراد شعبها، وحكاية عن الهدهد وخطاب إعتذاره لسليمان ورد في التنزيل[إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ]( ).
وعن ابن عباس قال: كان لصاحبة سليمان اثنا عشر ألف قيل ، تحت كل قيل مائة ألف)( )، وبلقيس اسم مركب من كلمتين مثل حضرموت، وسببه أن فرداً من حمير سأل عن سيرتها في الملك فقالوا: بلقيس أي على قياسه.
وعن عبد الله بن رافع مَوْلَى أم سَلَمَةَ ، عَنْ أم سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – ، انَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ اسْمَعُ النَّاسَ يَذْكُرُونَ الْحَوْضَ ، وَلَمْ اسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمَّا كَانَ يَوْماً مِنْ ذَلِكَ وَالْجَارِيَةُ تَمْشُطُنِى ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ . فَقُلْتُ لِلْجَارِيَةِ : اسْتَاْخِرِى عَنِّى . قَالَتْ : إِنَّمَا دَعَا الرِّجَالَ وَلَمْ يَدْعُ النِّسَاءَ . فَقُلْتُ : إِنِّى مِنَ النَّاسِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِِ – صلى الله عليه وسلم – : إِنِّى لَكُمْ فَرَطٌ عَلَى الْحَوْضِ فَإِيَّاىَ لا يَاْتِيَنَّ احَدُكُمْ فَيُذَبُّ عَنِّى كَمَا يُذَبُّ الْبَعِيرُ الضَّالُّ . فَاقُولُ : فِيمَ هَذَا ؟ فَيُقَالُ : إِنَّكَ لا تَدْرِى مَا احْدَثُوا بَعْدَك. فَاقُولُ: سُحْقاً)( ), فإن إن سلمة علمت أن خطاب النبي أيها الناس شاملاً للذكور والنساء وأنصتت للحديث.
الثالثة : جاء قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] للموعظة وإقتباس الدروس منها والتي يحتاجها الرجل والمرأة , والكبير والصغير، والفرد والجماعة.
الرابعة : تنتفع المسلمة من هذه الآية فتصلح نفسها وأبناءها لمضامينها وكيفية الإستعانة بالله عز وجل لجعل الأيام تجري لنفع المسلمين ونشر مفاهيم الصلاح في الأرض.
الخامسة : جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية، ولكنها تتضمن معنى الإنشاء والخطاب الموجه لعموم الناس كيلا يغتر الذي تقبل عليه الدنيا، ويصبر الذي تعرض وتتولى عنه لتشمل الآية في دلالتها الرجال والنساء.
السادسة : قد تأتي أيام الدنيا إلى المرأة بالذات , وتكون صاحبة ملك أو مال أو جاه، وقد تأتيها بالإلحاق والتبعية، كما لو كانت أماً أو أخاً أو زوجة للملك والسلطان، فتكون من أهل هذه الآية وإن كان أثرها وسلطانها الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، ليكون من إعجاز صيغة العموم في الآية من جهات:
الأولى : صيغة الجمع في الأيام , وعدم إستثناء بعضها.
الثانية : تداول وتناقل الأيام بين الناس بمشيئة الله عز وجل، فليس من سلطان وشأن في تداولها لغير الله عز وجل.
الثالثة : مجيء لفظ الناس الشامل للرجال والنساء جميعاً.
ليكون من المقاصد والغايات السامية للآية بعث المرأة المسلمة على السعي للإرتقاء في سلم الجاه والشأن وأن فرص الحياة مفتوحة أمامها وأن قوله تعالى[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ]( )، تبعيتهن لهم في مداولة الأيام، إنما تكون المرأة مستقلة في هذا الشأن , وفيه شواهد كثيرة في هذا الزمان بأن تتبوأ المرأة المناصب العالية، وترث وتملك الأموال ويكون زوجها عاملاً عندها، وحتى في بدايات الإسلام فقد يكون الزوج عبداً والزوجة حرة، أو أنها ذات نسب رفيع وشأن في المجتمع.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في سن الخامسة والعشرين من خديجة بنت خويلد لتفوز بخير الدنيا والآخرة، ويكون هذا الزواج من مصاديق تداول الأيام بين الناس من جهات:
الأولى : المنزلة العظيمة التي فازت بها خديجة بين العرب.
الثانية : المضاعفة والمباركة في أموال خديجة بآية جلية.
الثالثة : توظيف خديجة أموالها طاعة لله ورسوله.
وهل ذهاب أموالها في نصرة وتعضيد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق إدبار الدنيا، الجواب لا، لأنه إنفاق معوض في سبيل الله.
الرابعة : نيل خديجة مرتبة أم المؤمنين لقوله تعالى[النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( )، ومن الإعجاز في دلالات الآية أعلاه شمول مصاديقها لأفراد سابقة لنزولها وأفراد مصاحبة ولاحقة له، فالآية أعلاه مدنية، وتوفت خديجة في مكة قبل الهجرة.
الخامسة : كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة والثناء عليها حتى بعد مغادرتها الدنيا، وهجرته إلى المدينة، وتعدد وكثرة نسائه.
السادسة : فوز خديجة بالثواب العظيم والمقام الرفيع في الآخرة، لمبادرتها بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصبرها وجهادها في سبيل الله .
وعن عكرمة عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط ثم قال: ” أتدرون ما هذا ” . قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون( ).
قانون مداولة الأيام بين ذات الناس
قد يتبادر إلى الذهن أن القدر المتيقن من مداولة الأيام هو تصريفها بين الدول، فمرة تكون للدولة أو القبيلة الفلانية، وظفر قوم بقوم، وتغيير شؤون الملك ومن أمثال العرب(الأيام دول) ومرة أخرى لقوم أو طائفة غيرهم.
ولكن الآية أعم وليس من حصر لمضامينها القدسية، وهو من مصاديق إحاطة كلمات القرآن المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث.
وورد لفظ الأيام لإرادة الأوقات وأفراد الزمان مطلقاً إبتداء من هبوط آدم إلى الأرض وإلى يوم القيامة، لم يحصل تغيير في أحوال الناس مجتمعين ومتفرقين إلا بمشيئة الله، لقوله تعالى[نُدَاوِلُهَا].
وهذا الأمر هو الأهم في المعنى والدلالة لما فيه من إستحضار المؤمنين لفضل الله في حال الشأن والسلطان والتحلي بلباس الصبر عند الشدائد إذ أن المداولة هي نقل الشئ من فرد أو جماعة إلى أخرى، ومعاني وموضوعات الآية متعددة , فيكون النقل على وجوه:
الأول : نقل ومداولة الأيام بين الناس، وهو على شعب:
الأولى : النقل بين أهل ملة وأخرى، فمرة يحكم أهل دين مخصوص ويحملون الناس على دينهم، أو يتركونهم على مذاهبهم، أو يفرضون عليهم شرائط، وأخرى يغلب أهل دين أو مذهب على ذات المصر وليس من حصر لصيغ تداول الأيام وكيفية تصديقها , قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الثاني : النقل بين شعب وآخر، وقد جاء تقسيم الناس إلى شعوب بقوله تعالى[وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، وفي الآية أعلاه بلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى : التعارف بين الناس من فروع تداول الأيام بين الناس.
الثانية : تداول الناس للأيام سبب للتعارف بينهم.
الثالثة : بيان حكمة الله وعظيم قدرته بأن جعل الناس شعوباً وقبائل ليحصل تداول الأيام بينهم.
الرابعة : مرة يكون الحكم للشعب الفلاني وأخرى لغيره، ومرة للقبيلة الفلانية وثانية لغيرها وهكذا.
الخامسة : قد يحكم شعب ثم قبيلة في ذات المصر.
ومن الإعجاز أن كلاً من الآيتين ذكرت لفظ(الناس) وإرادة عموم الجنس البشري منه.
قوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]
فان قلت إن الله عز وجل يعلم الذين آمنوا قبل أن يخلقهم، والجواب هذ صحيح , والمراد من الآية ظهور مصداق الإيمان في الواقع وسنخية الأيام التي يقلبها الله بين الناس، ويكون تقدير الآية على وجوه:
الأول : وليعلم الله الذين آمنوا منكم.
الثاني : وليعلم الله الذين آمنوا بتداول الأيام بين الناس ولا يظنون أن شؤون الحكم خاصة بالمؤمنين.
الثالث : ليعلم الله الذين آمنوا وجاهدوا وصبروا، ويكون تقدير الآية بلحاظ آيات القرآن ومواضع ذكر(الذين آمنوا) على وجوه:
الأول : ليعلم الله الذين آمنوا ويغفروا للذين لا يرجون أيام الله( ).
الثاني : ليعلم الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إذ جاء القرآن بالملازمة بين الإيمان وأداء العبادات وفعل الخيرات.
الثالث : ليعلم الله الذين آمنوا فلا يجعلهم مثل الذين إجترحوا السيئات سواء محياهم ومماتهم( ).
الرابع : ليعلم الله الذين آمنوا وصبروا في تداول الأيام فيدخلهم [فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ]( ).
بحث أخلاقي
من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، تلقي الخطاب من عند الله على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، وهو غاية التشريف والإكرام فالجراحات والقتل تصيب بعضهم ولكن الخطاب جاء للمسلمين جيمعاً[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] فلا يختص الأمر بمن يصاب بالجروح، ولا تصح إستدامة توجه ذات الخطاب لمن يقتل في سبيل الله وتفارق روحه الدنيا، مما يدل على أن الآية تخاطب المسلمين كلهم سواء الذين يصابون بالجراحات أو الذين هم في مأمن منها ومن القتل، ويدل عليه مجئ الخطاب بصيغة الجمع بينما ذكر القرح بصيغة المفرد.
ومن أسرار هذا المعنى دعوة المسلمين إلى التعاون في مرضاة الله ويحتمل موضوع الآية والإصابة بالقروح بلحاظ قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( )، أموراً:
الأول : تعاون المسلمين لدفع الجرح والإصابة عن بعضهم.
الثاني : تأزر وتعاضد المسلمين في القتال، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ]( )، ليكون التعاون مقدمة وسبيلاً للنصر والغلبة، وبرزخاً من كثرة الجروح بين المؤمنين لأنهم عند المجالدة والمسايفة كالرجل الواحد، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً( ).
الثالث : التعاون في العبادات وعمل الصالحات طريق للتعاون عند القتال، وسبب للثبات عند القتال، وهو مانع من طمع العدو وبرزخ دون زيادة همته في القتال، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
ليكون ذكر الله عز وجل أثناء القتال على وجوه:
الأول : الإقدام على القتال، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ]( ).
الثاني : الصبر في ساحة المعركة.
الثالث : إستحضار وظائف الأخوة الإيمانية.
الرابع : الشوق إلى لقاء الله.
الخامس : بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار , لأن ذكر المسلمين لله مدد لهم وإخبار عن صدق النوايا في اللقاء والثبات في الميدان وعن أنس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم( ).
السادس : الإمتثال لقوله تعالى أعلاه بالذكر، والحرص على الثبات طاعة لله سبحانه.
الأمر الرابع : إتخاذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلاحاً في التعاون بن المقاتلين والإيثار، وإجتناب الإثم والظلم والتعدي.
ومن أسرار التعاون بين المسلمين قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، فجعل لكل واحد منهم أخاً منهم، وكان لهذه الأخوة منافع عظيمة في ميادين القتال، وحرص الصحابة على التعلق بها حتى بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
وعن عبيدة بن خالد السلمي أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين رجلين فقتل أحدهما ومات الآخر بعده فصلينا عليه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قلتم قالوا دعونا له اللهم اغفر له اللهم ألحقه بصاحبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم فأين صلاته بعد صلاته وأين عمله بعد عمله فما بينهما كما بين السماء والارض ( ).
أي لعظيم الثواب على العبادات الذي لحق الذي مات لاحقاً في المدة والأيام التي قضاها بعد مغادرة الأول شهيداً، وفي رواية أنه مات بعده باسبوع فكان الفارق في العبادة مدة هذا الأسبوع وثقلها في الميزان كما في بعد المسافة بين السماء والأرض، مع أن الأول مات شهيداً في سبيل الله، والتالي مات على فراشه، وفيه ترغيب بتعاهد الفرائض والعبادات وإدراك عظيم ثوابها، وبعث للشوق للقاء الله بها واقية من النار وسلاحاً للعبور على الصراط الأخروي.