المقدمة
الحمد لله الذي خلق كل شيء، وأحاط بالعوالم اللامتناهية علماً ومشيئة وقهرها باقرارها بقدرته المطلقة، وشملت إرادته الأشياء جميعاً، وجعلها مستجيبة لمشيئته راضية بقضائه، منقطعة إلى تسبيحه وحمده، وهذا الإنقطاع من مظاهر قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، ليتجلى المائز والفارق بين ملكه وملك غيره المتزلزل والمنقطع للأشياء، فلا يغيب عنه تعالى شيء من ملكوت السموات والأرض، ولا يتخلف فرد منها عن الإمتثال له سبحانه.
الحمد لله الذي سخر ما في السموات والأرض للإنسان مطلقاً البر والفاجر، وجعله من خصائص خلافته بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ولا يحصي مضامين ومصاديق وذخائر هذه الخلافة إلا الله تعالى، بالإضافة إلى كونها متجددة ومتكثرة وليس لها إنقطاع، ومن أبهى أفرادها بعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية من السماء لتكون إمتداداً لقوله تعالى[ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، وليكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخليفة الحاضر مع الناس في سنته وسيرته المباركة التي هي دعوة خالصة للتوحيد ونبذ العداوة والإقتتال بين الناس[قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ].
ويبقى القرآن صاحباً ملازماً للناس جميعاً، يقتبسون منه المعارف، ويستخرجون منه العلوم والمسائل، وفاز المسلمون بهذه النعمة وبتلاوته عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب لتكون سبباً في حفظه، وشاهداً يشهد خمس مرات في اليوم على تسليمهم بنزوله من عند الله، وإقرارهم بالربوبية له سبحانه ليتصفوا بخصال حميدة بلحاظ أمور :
الأول : المسلمون هم الأمة التي يتآزر ويتعاون جميع أفرادها ذكوراً وأناثاً على تعاهد التنزيل، وسلامته من التحريف والتبديل والتغيير، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد جعل الله عز وجل كل آية من القرآن حبلاً متصلاً متدلياً من العرش إلى الأرض وهو من مصاديق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( )، وكل آية نور يشع على القلوب فيملأها بالسكينة والإيمان ويزيح عنها وعن المجتمعات درن الضلالة وكدورات الفساد، وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى سور وآيات، وعدد آياته هو (6236) ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية.
الثاني : كل آية من القرآن كنز سماوي وذخيرة للعلوم أبى الله إلا إمتناع ضياعها أو تحريفها، فتفضل وأصلح المسلمين لهذه الأمانة السماوية، فكما حفظ جبرئيل الآيات والسور في تنزيلها وتبليغها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي قام بتلاوتها وأمر بكتابتها وتدوينها، وتولى قراءتها في صلاة الجماعة بإنصات من المهاجرين والأنصار والذين يغدون إلى المدينة، وهو من أسرار قوله تعالى[فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( )، ففي هذا الإنصات حفظ للقرآن وتدبر في معانيه.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستحضر الآيات بحسب مناسبة الموضوع والحكم، ويحث أصحابه على تلاوتها، فورث المسلمون حفظ آيات القرآن في رسمها وتلاوتها ومضامينها القدسية، وتسالموا على أن ما بين الدفتين هو قرآن لا يقبل الزيادة أو النقيصة، قال تعالى[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
الثالث : جاءت آيات القرآن بالدعوة إلى الهدى ، وتنمية ملكة الإيمان، وإصلاح النفوس لسبل الخير والسلام، وتولى المسلمون العمل بأحكامها وسننها ليكونوا أسوة للناس في صدق إتباع النبوة والتنزيل، وإذ تحجب الشمس نور القمر وبريق النجوم فإنها قاصرة عن حجب أنوار الآية القرآنية، بل تشرق الشمس على الأرض ليتلو الناس آيات القرآن وينصتوا إليها وهو من مصاديق تسخير السموات والأرض للإنسان.
ومنها آية[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( )، التي جاء هذا الجزء وهو الثالث عشر بعد المائة من (من معالم الإيمان في تفسير القرآن) في بيان كنوزها , والحرث في ذخائرها، والتذوق من ثمارها بلطف من عند الله وإفاضات منه ظاهرة وباطنة ليكون مدرسة في التفسير، وصرحاً من العلوم لم يشهد له التأريخ مثيلاً، وترتقي العلوم على نحو تدريجي بجهود العلماء .
فتفضل الله عز وجل على المسلمين بإرتقاء أفضلها وأشرفها وهو علوم وتأويل القرآن دفعة واحدة بهذا السِفر المبارك، ويكون دعوة للعلماء لتعاهد هذا العلم وإتمام أجزاء هذا التفسير التي تصل وفق منهجيتنا فيه إلى أكثر من ثلاثة ملايين جزء بلحاظ الصلة بين الآيات نتطلع إلى العلماء في الأجيال اللاحقة بإتمامه ويزيد على هذا العدد إذا كانت الجهود جماعية بتداخل الإختصاصات العلمية وجعلها روافد تصب في نهر التأويل ومن غير خروج عن مضامين الآية القرآنية، فيجتمع في تفسير كل آية علماء اللغة، النحو، الصرف، البلاغة، الفقه، الأصول , علم الكلام، الفلسفة، التأريخ، السياسة، الإجتماع، الأخلاق، الكيمياء، الهندسة بأقسامها، الجغرافية، الطب بفروعه، الفلك، الهيئة، علوم الأرض، القانون، الفيزياء، العلوم العسكرية الرياضيات .
ويلزم تأسيس علم جديد إسمه (علم الصلة بين الآيات) يكون له متخصصون وتعدّ فيه الرسائل الجامعية , وهذا العلم القرآني من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ) بلحاظ فيوضات علم التفسير وبحار التأويل.
ليأخذ كل فريق من العلماء بتفسير الآية وفق إختصاصه، ثم تجمع هذه التفاسير وتستخرج منها علوم إضافية، فيكون تفسير القرآن من اللامتناهي، لنؤسس لوظيفة علمية للمسلمين وهي توارث العلماء لتدوين وتأليف تفسير واحد في أزمنة متعددة ، مع بقاء ما ألفناه من هذه الأجزاء من غير تغيير .
ويستلزم هذا المشروع العلمي إنشاء جامعة خاصة بعلوم القرآن في كل مصر يجعل لهذا العلم موضوعية في مناهجها وإختيار طلبتها والدراسات والبحوث التي تصدر عنها وعن طلابها ويكون ذا نفع عظيم في تأليف تفاسير ودراسات مستقلة بذاتها لتخرج بحلة ناضرة تحكي إعجاز القرآن .
وقد يقول بعضهم هذا إطالة ومن الذي يقرأه، وليس هو بإطالة ولا إطناب إنما هو إستظهار للآلئ من العلوم بين ثنايا الآية القرآنية، ولا يلزم أن يقرأ الإنسان أجزاء التفسير كلها، ولكنه يأخذ بغيته ويتزود منه لأمور الدين والدنيا ، ويعلم أن الكتاب الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تنتهي مسائله، ولا تفنى خزائنه ويؤسس هذا السِفر لتجليات قانون (علوم القرآن من اللامتناهي) وتنقطع أيام الحياة الدنيا ولم يستوف الناس أو يستخرجوا كنوز وذخائر القرآن، ليكون هذا القانون دعوة للناس في كل زمان للإيمان وباعثاً على نبذ الكفر والضلالة.
وفي بداية بناء البيت الحرام ورد عن الإمام الباقر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: ” إن الله عز وجل أوحى إلى جبرئيل عليه السلام أني قد رحمت آدم وحواء فأهبط عليهما بخيمة من خيم الجنة، فأضرب الخيمة مكان البيت وقواعدها التي رفعها الملائكة قبل آدم
فهبط بالخيمة على مقدار أركان البيت فنصبها وأنزل آدم من الصفا وحواء من المروة وجمع بينهما في الخيمة، وكان عمود الخيمة قضيباً من ياقوت أحمر، فأضاء نوره جبال مكة فامتد ضوء العمود وهو موضع الحرم اليوم فجعله الله حرماً لحرمة الخيمة والعمود لانهما من الجنة، ومدت أطناب الخيمة حولها، فمنتهى أوتادها ما حول المسجد الحرام.
وأوحى الله عز وجل إلى جبرئيل أن أهبط على الخيمة بسبعين ألف ملك يحرسونها من مردة الشياطين ويؤنسون آدم ويطوفون حول الخيمة فكانوا يطوفون حولها ويحرسونها، ثم أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى جبرئيل عليه السلام بعد ذلك أن أهبط إلى آدم وحواء فنحهما عن موضع القواعد وأرفع قواعد بيتي لملائكتي وخلقي من ولد آدم.
فهبط عليهما وأخرجهما من الخيمة ونحاهما عن البيت ونحى الخيمة عن موضع البيت وقال: يا آدم أن السبعين ألف ملك الذين أنزلهم الله إلى الأرض سألوا الله عز وجل أن يبني لهم مكان الخيمة بيتاً على موضع الترعة المباركة حيال البيت المعمور فيطوفون حوله كما كانوا يطوفون في السماء حول البيت المعمور.
فأوحى الله تبارك وتعالى اليّ أن أنحيك وأرفع الخيمة، فرفع قواعد البيت بحجر من الصفا وحجر من المروة وحجر من طور ســيناء وحجر من جبل السـلام وهو ظهر الكوفة فأوحى الله عز وجل الى جبرئيل عليه السلام ان ابنه واتمه.
فأقتلع جبرئيل عليه السلام الأحجار الأربعة من مواضعها بجناحه فوضعها حيث أمره الله تعالى في أركان البيت على قواعده ونصب أعلامها.
ثم أوحى إلى جبرئيل أن أبنه وأتمه من حجارة أبي قبيس( ) وأجعل له بابين، باباً شرقاً، وباباً غرباً، فأتمه جبرئيل عليه السلام فلما فرغ طافت الملائكة حوله فلما نظر آدم وحواء إلى الملائكة يطوفون حول البيت انطلقا فطافا سبعة اشواط ثم خرجا يطلبان ما يأكلان)( ).
ليشع ضياء كل آية قرآنية على أرجاء الأرض، وتكون سبباً للبركة ونزول شآبيب الرحمة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن خصائص آية البحث بيانها لقانون الإختبار والإبتلاء في الحياة الدنيا، وأنه ليس بعرض واحد لعامة الناس، ففيه تفصيل وتمايز بلحاظ الإيمان وعدمه، فإختبار المؤمنين يختلف عن إبتلاء الكفار، وهو الذي يتجلى بتمحيص وتطهير الذين آمنوا، ومحق ووهن الكفار ورميهم بالضعف.
وليس من حصر لضروب كل من التمحيص أو المحق، لذا جاءت الآية السابقة بذكر الأيام وعاء للتغيير والتبدل كأفراد غير إرتباطية بقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ) وإرادة العموم للناس جميعاً، وعدم إستثناء يوم أو أيام مخصوصة من هذا القانون، وفيه تنبيه لموضوعية كل يوم من أيام الحياة الدنيا، والسعي لطلب المنفعة ودفع الضرر فيه.
ومن نعم الله عز وجل علينا أن أقوم بكتابة وتصحيح ومراجعة أجزاء التفسير بنفسي ويساعدني ولدان صغيران في التنضيد والتدوين على الكومبيوتر بمتابعة يومية مني أيضاً، وهكذا أصدرت كتبي الفقهية والأصولية والكلامية ودونت محاضراتي بلطف ومدد من عند الله لتبقى مناراً للأجيال، وصرحاً علمياً تتجلى فيه شذرات من إعجاز القرآن بفضل الله ووسيلة لرجاء رحمة الله , قال سبحانه[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ]( ).
حرر في مكة المكرمة
في السابع من ذي الحجة 1435
قوله تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]الآية 141
الأعراب واللغة:
ويعلم الصابرين(منصوب بإضمار أن) كما عن الخليل.
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر(يعلمٍٍ الصابرين) بالجزم على النسق وقرئ بالرفع على القطع , أي وهو يعلم وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو)( ).
وليمحص : الواو حرف عطف.
اللام : يمحص : فعل مضارع منصوب بــ(أن) مضمرة بعد اللام.
اسم الجلالة : فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضمة على آخره.
الذين : اسم موصول مبني في محل نصب مفعول به.
آمنوا : فعل ماض مبني على الضم، الواو : فاعل.
ويمحق : الواو حرف عطف.
يمحق : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
والفاعل ضمير مستتر يعود لله عز وجل.
ومن الإعجاز في الآية أن هذا المحق والإستئصال لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، وهو بيان وتفسير للآية السابقة [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )، كما سيأتي إن شاء.
الكافرين : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مؤنث سالم.
والمحص : خلوص الشئ، محصته محصاً، خَلَّصْتُه من كلِّ عَيْب، قال:
يَعتادُ كلَّ طِمِــــــرَّةٍ … مَمْــــحُوصةٍ ومُقَلَّص
يقال: خَرَجَ يَمْحَص كأنَّه ظَبْيٌ. والتَمحيصُ: التَطهيرُ من الذُنُوب( ).
والمحق : النقصان، وذهاب وزوال الشئ والموضوع وقد يبقى منه فرد ومصداق.
وفي التعريفات : [المحق :فناء وجود العبد في ذات الحق تعالى، كما أن المحق: فناء أفعاله في فعل الحق، والطمس: فناء الصفات في صفات الحق]( ).
ولا دليل على هذا المعنى وإن كان إصطلاحياً إذ ورد لفظ المحق في القرآن بصيغة الذم والإستئصال والإبطال وقلة البركة [مَحَقَه اللهُ فانْمَحَقَ وامْتَحَقَ]( )، ولا مانع من وروده بصيغة المدح مع الدليل اللغوي أو القرآني.
وفي مفردات اللغة العربية مندوحة وسعة فتكون موضوعية للمعنى عند إختبار اللفظ المناسب له حقيقة كان أو مجازاً، والأصل في المعنى الإصطلاحي أن يكون مشتقاً ومقتبساً من المعنى اللغوي.
وقيل (الفرق بين المحق والاذهاب: أن المحق يكون للأشياء ولا يكون في الشئ الواحد يقال محق الدنانير ولا يقال محق الدينار إذا أذهبه بعينه ولكن تقول محق الدينار إذا أردت قيمته من الورق فأما قوله تعالى” يمحق الله الربا ” فإنه أراد أن ثواب عامله يمحق والثواب أشياء كثيرة والشاهد قوله تعالى “ويربي الصدقات” ليس أنه يربي نفسها وإنما يربي ثوابها فلذلك يمحق ثواب فاعل الربا ونحن نعلم أن المال يزيد بالربا في العاجل)( ).
ويبعث لفظ المحق على النفرة من ذات الشئ أو الأمر لأن عاقبته إلى خسران وزوال .
[عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما محق الإِسلام محق الشح شيء قط] ( ).
في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة على شعبتين:
الأولى : صلة هذه الآية بالآيات السابقة، وفيها وجوه:
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ…]( )، وفيها مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : إن يمسسكم قرح ليمحص الله الذين آمنوا.
الثاني : فقد مس القوم قرح ليمحص الله الذين آمنوا.
الثالث : تلك الأيام نداولها بين الناس ليمحص الله الذين آمنوا.
الرابع : ليعلم الله الذين آمنوا وليمحص الله الذين آمنوا.
الخامس : ويتخذ منكم شهداء وليمحص الله الذين آمنوا.
السادس : ليمحص الله الذين آمنوا والله لا يحب الظالمين.
السابع : ليمحص الله الذين آمنوا والله لا يحب الظالمين.
السابع : إن يمسسكم قرح يمحق الله الكافرين.
الثامن : فقد مس القوم قرح، ويمحق الله الكافرين.
التاسع : وتلك الأيام نداولها بين الناس ويمحق الكافرين.
العاشر : ويتخذ الله منكم شهداء ويمحق الكافرين.
الحادي عشر : والله لايحب الظالمين ويمحق الكافرين.
المسألة الثانية : لم تبدأ الآية السابقة بحرف عطف، أما هذه الآية فاتصفت بدايتها بأمرين:
الأول : الإبتداء بحرف العطف الواو.
الثاني : تعقب لام التعليل لحرف العطف الواو، مما يدل على تعلق موضوع هذه الآية بمضامين الآية السابقة، وهو على وجوه :
الأول : العطف على جميع مضامين الآية السابقة كما تجلى في المسألة الأولى أعلاه.
الثاني : العطف على أول الآية السابقة.
الثالث : العطف على وسط الآية السابقة .
الرابع : العطف على آخر الآية السابقة، والظاهر هو عطفها على كل من قوله تعالى:
الأول : ليعلم الله الذين آمنوا.
الثاني : ويتخذ منكم شهداء.
الثالث : والله لا يحب الظالمين .
لقد ذكرت الآية السابقة اسم الجلالة مرتين، وذكرته آية البحث مرة واحدة، ولكن مواطن ذكره في الآيتين أعم لذا تذكر الصناعة النحوية الضمير المستتر ونحوه في إشارة إلى وجود فاعل يتولى الفعل أو مفعول به يقع عليه الفعل، وذكر الله في الآية السابقة ظاهر ومقدر جلي، أما في هذه الآية فهو على وجهين:
الأول : التصريح باسم الله وأنه سبحانه الذي يمحص المؤمنين.
الثاني : الدلالة على ذكر الله بلحاظ سياق الآية وتقديرها هو: وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الله الكافرين.
المسألة الثالثة : ورد حرف العطف في الآية السابقة أربع مرات، وورد في هذه الآية مرتين، والتي إبتدأت بحرف العطف لبيان إتصال موضوعها بالآية السابقة، وفيه دعوة للمسلمين والناس لإقتباس المواعظ وإستظهار المسائل من العطف بين آيات القرآن، ومع قلة كلمات هذه الآية وتداخل موضوعها مع الآية السابقة فانها جاءت آية مستقلة، ولم تكن شطراً من الآية السابقة وفيه وجوه:
الأول : تأكيد إستقلال مضامين آية البحث .
الثاني : جذب الأذهان لقانون تمحيص المؤمنين، وما يترتب عليه في النشأتين .
الثالث: تعدد مسائل ومضامين الآية السابقة.
الرابعة : إبتدأت الآية السابقة بصيغة الجملة الشرطية ولغة الخطاب للمسلمين(إن يمسسكم قرح) وما فيه من الإكرام والوعد والإخبار بأن المسلمين في حفظ وعين الله ويتغشاهم لطفه وأن الإصابة بالجراحات والكلوم جسر وطريق معبد إلى الخلود في النعيم، وإذا كان الكفار يلهون ويلعبون في الدنيا لتكون عاقبتهم الإقامة في العذاب قال تعالى في ذمهم [فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا] ( )، فان المؤمنين لا يبكون قليلاً ولا كثيراً وأنهم سوف يضحكون كثيراً فلا يصح أن مفهوم الآية أعلاه بخصوص المؤمنين أنهم يبكون قليلاً ويضحكون كثيراً في الآخرة صحيح، أما بخصوص الدنيا فإن المؤمنين لا يبكون قليلاً أو كثيراً فهم شاكرون لله عز وجل نعمه وإحسانه وبكائهم إن حصل فهو من مصاديق هذا الشكر ، لذا ورد قبل آيتين قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، فليس من بكاء مع نيل مرتبة العلو والرفعة ونهت الآية عن الحزن الشخصي والعام عند المسلمين، والبكاء مظهر للحزن ومرآة له، فإذا إنتفى الأصل وهو الحزن إنعدم الفرع وهو البكاء وما يدل عليه في الآية من الألم والحسرة، إلا أن يكون بكاء المؤمنين شوقاً لله عز وجل وإظهاراً للخشوع له، وإقراراً بعظيم قدرته وسلطانه.
وعن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل فتقرح العيون، فلو أن سفناً أرخيت فيها لجرت)( ).
المسألة الرابعة : وردت لام التعليل في الآية السابقة (وليعلم الله) وإبتدأت هذه الآية بها(وليمحص الله) وفيه وجوه:
الأول : تقدم حرف العطف (الواو) في الحالتين أعلاه.
الثاني : مجيء الفعل بصيغة المضارع ،وهذه الهيئة ملازمة لصيغة التعليل، وإن كان موضوع العلة بالزمن الماضي كما في قوله تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ]( ).
وكما تقول حين الوصول إلى مكة في ذي القعدة قطعت المسافة لأداء مناسك الحج.
الثالث : جاء العطف في الآية السابقة على لام التعليل ،في قوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ]( )، فلم تقل الآية وليتخذ بل إكتفت بالعطف بالواو الذي يتضمن ذات معنى التعليل، ترى لماذا لم يكن العطف في أول الآية مثل العطف السابق بالواو، فلم تقل الآية (ويمحص الله الذين آمنوا) والجواب من وجوه:
الأول : تأكيد التعليل وإتصال موضوعه في هذه الآية بالآية السابقة.
الثاني : بيان سنخية العطف وأن تمحيص وتزكية المؤمنين متصل بتصريف الله للأيام بين الناس والأذى الذي يلاقونه.
الثالث : تعدد المعلول المترشح عن الصلة المتعددة لبيان فضل الله ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
وتقدير الجمع بين الآيتين: وتلك الأيام نداولها بين الناس ليمحص الله الذين آمنوا)، ليكون أوان ومحل تمحيص وإختبار وتطهير المسلمين على وجوه:
الأول : عند تولي المؤمنين شؤون الحكم والسلطنة.
الثاني : عندما يكون المؤمنون في حال السعة والسراء.
الثالث : تمحيص المؤمنين حال إدبار الأيام عنهم .
الرابع : طرد وهم وظن باختصاص عطف آية البحث على خاتمة الآية السابقة[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، فلا يدل هذا العطف على أن عدم حب الله للظالمين هو العلة التامة لتمحيص وتطهير المؤمنين بينما يكون مضمون ودلالات التعليل في الآية أعم، ومن خصائص الآية القرآنية البيان والهداية والتأديب، قال تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ).
المسألة الخامسة : قد يحصل تساؤل لماذا يصاب المؤمنون بالجراحات وهو على وجوه بلحاظ صدور التساؤل والغاية منه:
الأول : يتساءل عدد من المؤمنين لماذا نصاب بالجراحات والكلوم ونحن نقاتل في سبيل الله، وتقاليد الأمور بيده تعالى وهو الذي يتفضل بإنزال الملائكة مدداً لنا، فلماذا لا تكون نصرتهم مطلقة بحيث يكفون المسلمين المبارزة والمسايفة وضروب القتال الأخرى.
الثاني : يتساءل المنافقون عن أسرار مداولة الأيام بين الناس حسداً وبغضاً للمؤمنين الذين نصروا الله ورسوله كما ورد في التنزيل في ذم المنافقين[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ).
وفيه شاهد قرآني على سعيهم لتثبيط المؤمنين عن الجهاد، والحث على الفرار من الزحف، وكانوا يتخذون من الشهداء الذين قتلوا في معركة أحد عبرة وموضوعاً لزجر المسلمين عن نصرة الإسلام في معاركه القادمة، وكأنهم يهيئون المقدمات لقريش في هجومها في واقعة الأحزاب.
وتقدير كلامهم : إذا جاءت قريش مرة أخرى فلا تخرجوا أيها المسلمون فتقتلوا كما قتل سبعون من الشهداء يوم أحد، وهو من أسباب مجئ القرآن بالذم الشديد للمنافقين وتحذير المؤمنين منهم، فهم لا يكتفون بمعاول الهدم في صرح الإسلام، بل يسعون لبث روح اليأس في نفوس المسلمين ويقومون بترغيب الكفار بالهجوم عليهم لذا فان قوله تعالى قبل آيتين[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا]( )، حرب على النفاق، ودعوة للمسلمين لمواجهة خبث المنافقين بالصبر والعزم على ملاقاة الكفار ولا يهن ولا يضعف المؤمنون عندما يشيع المنافقون مقولات التوهين ويحاولون تثبيط العزائم بذكر كثرة وعدة العدو وقلة المؤمنين والنقص في مؤونهم.
وعندما يشمت المنافقون لسقوط عدد من المسلمين قتلى في معركة أحد فان المؤمنين لايحزنون، لتقدم النهي القرآني عن الحزن، ولعلمهم بأن الشهداء أحياء عند الله عز وجل، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلن بين الحين والآخر شوقه للحاق بهم، بل وتمنيه أن يكون غادر إلى الرفيق الأعلى مع شهداء أحد، ولكن أبى الله عز وجل إلا أن ينجيه ليتم نزول آيات القرآن وتبليغ الرسالة وهو من مصاديق قوله تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
وعن قتادة عن سليمان اليشكري أنه سأل جابر في الخوف أين أنزل وأين هو ؟ فقال : خرجنا نتلقى عيرا لقريش أتت من الشام حتى إذا كنا بنخل جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسيفه موضوع ، فقال : أنت محمد ؟ قال : نعم ، قال: أما تخافني ؟ قال : لا، قال : فمن يمنعك مني ؟ ، قال : الله يمنعني منك، قال : فسل سيفه ، وتهدده القوم وأوعدوه ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل وبأخذ السلاح ، ثم نادى بالصلاة ، فصلت طائفة خلفه ، وطائفة تحرس مقبلين على العدو ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائفة التي معه ركعتين .
وأقبلت الطائفة الأخرى فقامت في مصاف الذين صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرست الطائفة الذين صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم مقبلون على العدو ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ركعتين ، فصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا ولأصحابه ركعتين)( ).
الثالث : يدرك شطر من الناس معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويصبحون من الذين يسلمون بنبوته، ولكنهم يقصرون فيختارون الإبطاء والتسويف في دخول الإسلام، فهم يتساءلون لماذا يصاب الذين بادروا إلى دخول الإسلام بالجراحات.
فجاءت الآية السابقة لتهيئة الأذهان بأن المؤمنين قد يصابون بالجراحات لورود الآية بصيغة الشرط (إن يمسسكم قرح) وأخبرت عن علة هذه الإصابة .
ثم جاءت هذه الآية بقانون، وهو الفصل والتمييز بين المؤمنين والكفار بلحاظ أن الدنيا دار إمتحان وإختبار، فتكون جراحات المسلمين مقدمة لنصرهم ، وجراحات الكفار مصداقاً لخزيهم ومقدمة لهزيمتهم .
فتكون هذه الآية جواباً على التساؤل المتقدم من وجوه:
الأول : الثناء على المؤمنين، وإخبارهم بأن الجراحات والكلوم خير لهم في الدنيا والآخرة.
الثاني : تلقي المؤمنين الجراحات برضا ورجاء الثواب.
الثالث : عدم خشية المؤمنين من القتل في ساحة المعركة لأنه بمشيئة وإرادة الله عز وجل وهو طريق لنصر الإسلام وعلو راية التوحيد.
الرابع : الإخبار عن إحتمال إصابة المسلمين بالجراحات لتمحيصهم وتزكيتهم مناسبة لهم للدعاء وسؤال الفوز بمرضاة الله عز وجل من غير جراحات.
الخامس : من معاني آية البحث تمحيص نيات المسلمين ، وجعل مقاصدهم , والبلغة التي يتخذون نقية خالية من شوائب الرذائل .
والمختار أن الآية نزلت بالمعنى الأعم فيما يخص السابق واللاحق من المعارك والجراحات فيها.
وبلحاظ أسباب النزول فإن موضوع الآية أعم من التعليق وإحتمال الإصابة بالجراحات بل يشمل تحقق إصابة المسلمين لأن قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] نزل بعد سقوط القتلى والجرحى من المؤمنين في واقعة أحد.
فان آية البحث جاءت بجزء علة لهذه الجراحات وتكون منافع الدعاء اللاحق على وجوه:
الأول : زيادة ثواب المؤمنين على خروجهم لمعركة أحد وتلقي الجراحات.
الثاني : التخفيف عن المؤمنين في قادم الأيام بخصوص الجراحات وسقوط القتلى، وهو من مصاديق قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثالث : تسليم المسلمين بأن الأيام والدولة بيد الله عز وجل وهو الذي يداولها بين الناس.
الرابع : صرف البلاء والمكر ومقدمات الكيد عن المؤمنين لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو يوم الخندق لدفع الفتنة، وعن ابن إسحاق عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه، أو اغبر بطنه يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزل سكينة علينا
وثبت الاقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا
ورفع بها صوته: أبينا، أبينا( ).
وهل في الآية السابقة وعد من عند الله له موضوعية في تمحيص المؤمنين، الجواب نعم من جهات:
الأولى : وصف الآية الإصابة بالقرح بأنها بهيئة المس ، وما يدل عليه من التخفيف ،وكأن الآية تقول لهم أيها المسلمون إجتهدوا في طاعة الله ورسوله ولا تخشوا القتال لأن ضرره لايتعدى مس القرح ليكون مناسبة لتمحيص المؤمنين، قال تعالى[فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي]( ).
الثاني : لم تتضمن الآية الإخبار عن كثرة قتلى المسلمين بل قالت إن الذي يمسسكم قرح وجراحة، وفيه نوع تحد قرآني، فعندما فقد المسلمون سبعين من الصحابة شهداء في أحد، أربعة من المهاجرين والباقي من الأنصار، فان الناس قد يستصحبون الخسارة في المعارك التالية، خاصة وأن الإستصحاب أمر عقلي فطري وأن المشركين جاءوا بأعداد مضاعفة إذ قدموا في معركة الخندق بعشرة آلاف مقاتل، مما يجعل المسلمين يصابون بالفزع، ولكن آية البحث حالت دون الفزع ومقدماته، وأخبرت بأن الذي يمس المسلمين (قرح) وجرح وكلم محدود.
ومن إعجاز القرآن تضمن العلة التخفيف في المعلول وكذا العكس، فلما أخبرت هذه الآية بأن الله عز وجل يمحص ويزكي المؤمنين بصدق إيمانهم وإخلاصهم في الجهاد، فان الآية السابقة تضمنت إعانتهم من وجوه:
الأول : صيغة الإكرام في الخطاب الموجه للمسلمين وهم في حال الشدة والقتال، فمن ضروب الإبتلاء في الدنيا، قلة الناصر عند الشدة، وتفرق الأخوان عند طول البلاء والفاقة، ولكن نصرة الله عز وجل للمسلمين متجددة وغير متناهية، وتكون على ثلاثة وجوه:
الأول : ما يسبق الواقعة، ومنها تهيئة مقدمات الغلبة.
الثاني : ما يصاحب الواقعة من أسباب النصر , ومن ضروب الخزي للكافرين , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ].
الثالث : مصاديق النصر التي تترى بعد إنتهاء الواقعة كما في معركة بدر، ولما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها، قدّم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة من الأثيل فجاءا يوم الاحد حين اشتد الضحى، بالبشرى ، فلم يكن يومئذ وسائل إعلام مسموعة أو مرئية ،وفارق عبدالله بن رواحة زيد بن حارثة من العقيق، فجعل عبدالله بن رواحة ينادي على راحلته: يا معشر الانصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسرهم، قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وقتل زمعة بن الاسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو.
قال عاصم بن عدى: فقمت إليه فنحوته فقلت: أحقا يا بن رواحة؟ فقال: إي والله، وغدا يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى مقرنين.
ثم تتبع دور الانصار بالعالية يبشرهم دارا دارا، والصبيان ينشدون معه يقولون: قتل أبو جهل الفاسق، حتى إذا انتهى إلى دار بنى أمية وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء يبشر أهل المدينة، فلما جاء المصلى صاح على راحلته: قتل عتية وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وقتل أمية بن خلف وأبو جهل وأبو البختري وزمعة بن الاسود، وأسر سهيل ابن عمرو ذو الانياب، في أسرى كثير.
فجعل بعض الناس لا يصدقون زيدا ويقولون: ما جاء زيد بن حارثة إلا فلا حتى غاظ المسلمين ذلك وخافوا.
وقدم زيد حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع، وقال رجل من المنافقين لاسامة: قتل صاحبكم ومن معه.
وقال آخر لابي لبابة: قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون فيه أبدا، وقد قتل عليه أصحابه، قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدرى ماذا يقول من الرعب، وجاء فلا. ( )
فقال أبو لبابة: يكذب الله قولك، وقالت اليهود: ما جاء زيد إلا فلا، قال أسامة: فجئت حتى خلوت بأبى فقلت: أحق ما تقول ؟ فقال: إى والله حق ما أقول يا بنى، فقويت نفسي، ورجعت إلى ذلك المنافق فقلت: أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين لنقدمنك إلى رسول الله إذا قدم فليضربن عنقك.
فقال: إنما هو شئ سمعته من الناس يقولونه، قال: فجئ بالاسرى وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان قد شهد معهم بدرا، وهم تسعة وأربعون رجلا الذين أحصوا)( ).
وفي معركة أحد نزلت الآيات التي تبعث المسلمين على الصبر والإقدام كما في الآية قبل السابقة بقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا]، ودلالة الآية على تلقي المسلمين الأذى وإصابتهم بالضرر في معركة أحد، وخروجهم منتصرين غير خاسرين من جهات:
الأولى : تضمنت الآية نهي المسلمين عن الوهن والضعف الذي قد يترشح عن الإنكسار وكثرة الخسارة.
الثانية : دعوة المسلمين إلى عدم الإصغاء لدعوات المنافقين بالقعود، ليكون من إعجاز القرآن الغيري أمور:
الأول : ذهاب مكر المنافقين هباءاً.
الثاني : إمتلاء نفوس المنافقين والكافرين بالغيظ والخنق، ليكون غيظهم وبالاً عليهم قال تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
الثالث : يأس الكفار والمنافقين من إرتداد المسلمين.
الرابع : توبة شطر من المنافقين بتلقيهم الدروس والمواعظ من المؤمنين من الثبات على الإيمان وعدم الضعف والخوف في ملاقاة جيوش الكافرين.
الخامس : خيبة الكفار من الإنتفاع من المنافقين في تشتيت مساعي المؤمنين.
الثالثة : رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً الى المدينة مع بعض الجراحات التي تسجل للتأريخ جهاده الفعلي وتشهد له بأنه كان وسط الميدان، وهو السبب بفضل الله عز وجل في سلامة المسلمين من الخسارة والهزيمة بثباته في المعركة ورجوع المسلمين إليه بعد إنكشافهم.
أخبرت آية السياق بأن المسلمين ومع خسارتهم هم الأعلى ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وبين قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، الجواب من فضل الله عز وجل على المسلمين نيلهم المراتب السامية والدرجات الرفيعة من بين الناس وبينت آيات القرآن تعدد خصالهم الحميدة بما يؤهلهم لوراثة الأنبياء في الأرض وإلى يوم القيامة بحفظ سنن التوحيد بالقول والفعل والجهاد في سبيل الله.
ويفيد الجمع بين الآيتين أن[ خَيْرَ أُمَّةٍ ] ( )، هم الأعلى بالمدد والنصر من عند الله، ليكون خروجهم للناس من مراتب العلو والعز والشأن الرفيع من غير إستكبار لأن الخشوع لله عز وجل والتحلي بأداء الواجبات العبادية في أوقاتها وزهد واقية من الزهو والغرور والأخلاق المذمومة لذا قيدت الآية مرتبة العلو بالإيمان لبيان قانون كلي من جهات:
الأولى : الملازمة بين الإيمان ومرتبة العلو بين الناس.
الثانية : من شرائط مرتبة (العلو الإيماني) عدم الوهن والخوف من الكفار، والسلامة من الحزن عند وقوع الخسارة ونزول المصيبة.
الثالثة : توالي النصر والظفر للمسلمين لإجتماع شرائطه عندهم من وجوه:
الأول : عصمة المسلمين من الوهن والضعف.
الثاني : إدراك المسلمين لإصابتهم بالجراحات والكلوم أنها في سبيل الله عز وجل وقبولهم بها برضا وتسليم ورجاء الثواب.
إذ يدل قوله تعالى[وَلاَ تَحْزَنُوا] بالدلالة التضمنية على حصول موضوع وسبب للحزن بصبغة الإيمان، فلا يتعلق الحزن بالمصائب الشخصية كفقد حبيب أو حصول كساد في التجارة أو تلف في المزروعات، بل يأتي موضوع الحزن للمسلمين وهم مؤمنون كما في سقوط سبعين قتيلاً يوم أحد من المؤمنين مع كثرة الجرحى.
وتقدير الآية: ولا تحزنوا عند الخسارة في القتال وأنتم الأعلون، وهل مرتبة العلو للمسلمين من مواضيع الإمتحان والتمحيص الجواب نعم، وفيه رحمة بالمسلمين وإعانة لهم للتوفيق في الإختبار والتمحيص وحصولهم على أسباب التزكية والتطهير من جهات:
الأولى : عدم الوهن تمحيص للمسلمين، ودليل على صدق إيمانهم.
الثانية : من شرائط الإيمان التقيد بالأوامر والنواهي الإلهية، فليس للمؤمن أن يخالف أمر الله ونهيه، وحينما قال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] فهو تمحيص للمسلمين والمسلمات جميعاً بلزوم طاعة الله على نحو متعدد :
الأول : عدم الوهن عند لقاء العدو.
الثاني : العصمة من الحزن، وإجتناب إستحواذه علي النفوس عند نزول مصيبة الخسارة والإنكشاف.
الثالث : دخول المعركة اللاحقة بالسلامة من الخوف من العدو وكثرة جيوشه وعدته، وعدم إستحضار الخسارة في المعركة السابقة، لذا حينما جاء الكفار يوم الخندق بجيوشهم وأحابيشهم لم يخف المسلمون، وكانوا يكثرون من ذكر الله ويرجزون وهم يحفرون الخندق.
الثالثة : عدم الوهن طريق ومقدمة لأداء الواجبات العبادية وسلامة من قيام الكفار بإكراه شطر من المسلمين على تركها، وهو من إعجاز القرآن الغيري بأن يأتي بالأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج ثم تأتي آيات أخرى تزيح الموانع التي تحول دون أدائها، ومن تلك الموانع إستحواذ الكفار على شؤون الحكم والسلطنة وسعيهم في هدم صروح الإيمان، وهل الوهن والحزن من تلك الموانع، الجواب لا، لأنها كيفية نفسانية ذاتية، ولكن العصمة منها سبيل لإزاحة الموانع مجتمعة ومتفرقة، ومن مصاديق قوله تعالى(وأنتم الأعلون) تهيئة مقدمات بلوغ المسلمين درجة عدم الوهن والحزن لأنها سلاح ذاتي وغيري للسلامة من أسباب الضعف إذ تجعل مرتبة العلو المسلمين على بصيرة من أمرهم وأنهم على الحق فلا يخشون الموت سواء وقع عليهم أو سعوا إلى أسبابه بالدفاع عن بيضة الإسلام، وهو من أبهى صيغ التمحيص ،قال الشاعر:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها . والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
التباين الموضوعي في القرح المتشابه
من إعجاز القرآن حصر التشبيه والمثل بخصوص القرح، دون الأثر المترتب عليه، والذي يكون متبايناً من جهات:
الأولى : ما يصيب المسلمين من الأذى والخسارة يزيدهم إيماناً وتوكلاً على الله.
الثانية : الثناء من الله عز وجل على المؤمنين لصبرهم في جنب الله، وعدم تركهم للفرائض وأدائها بأوقاتها، قال تعالى[وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ]( ).
الثالثة : لحوق الإثم بالكفار بسبب تعديهم على الإسلام والمسلمين.
الرابعة : إصابة المسلمين بالجراحات شاهد على صدق إيمانهم.
الخامسة : إصابة المؤمنين بالقروح دعوة للناس للإسلام، وعدم الخشية من الكفار وسطوتهم.
السادسة : القروح التي تصيب الكفار سبب لدبيب الوهن إلى صفوفهم وتفرق الأتباع عنهم.
السابعة : كما يأتي الإثم للكفار بسبب تعديهم على المسلمين، فإن أفراداً أخرى منه تلحقهم بسبب إصابتهم بالقروح والجراحات في ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وإنقطاعهم للأوثان والطواغيت.
الثامنة : إصابة الكفار بالقروح والجراحات شاهد على قدرة المسلمين على الدفاع عن أنفسهم، والذب عن مبادئ التوحيد، وحفظ بيضة الإسلام، فالمتبادر من الآية حصول إصابة الكفار بالقروح بأيدي المؤمنين.
التاسعة : نزول القروح بالمسلمين من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لأنه في سبيل الله، وهو دفاع عن رسوله الكريم، وقد سقط عدد من الشهداء يوم أحد وهم يدافعون عن شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتلقون النبل بصدورهم ليتم صلاته في ميدان المعركة ويرجع سالماً إلى المدينة، فيكون هذا الرجوع أعظم مواساة لذوي الشهداء وفيه شواهد كثيرة تقدم شطر منها ليكون من وجوه الإعجاز في الآية السابقة بنعت إصابة المسلمين بالخسارة بأنه مسّ للجرح غير نافذ، وأنه قرح متحد.
ومن المؤمنين من بذل الوسع في القتال عندما سمع بخبر قتل النبي يوم أحد، وعندما دوّن عمر الديوان وفرض للمسلمين وفضل المهاجرين السابقين مرّ به النضر( ) فقال: افرضوا له في ألفين فقال له طلحة: جئتك بمثله ففرضت له في ثمانمائة – يعني ولده عثمان وفرضت له ألفين قال: إن أبا هذا الفتى لقيني يوم أحد فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقلت: ما أراه إلا قد قتل. قال: فسل سيفه وكسر غمده وقال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل فان الله حي لا يموت فقاتل حتى قتل)( ).
ووالد النضر هو أنس بن النضر الأنصاري الخزرجي عم أنس بن مالك الصحابي المعروف( ).
لقد وصل خبر وإشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وأصاب أهلها الحزن والحسرة والألم إلى أن أطل عليهم بطلعته البهية فأضاءت النفوس وأشرقت أنوار النبوة من جديد على الوديان والجبال، فكانت على موعدة مع جبل أحد بما يعز الإسلام ويمحص المؤمنين.
(لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة، قالوا : قتل محمد، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة ، فخرجت امرأة من الأنصار متحزمة، فاستقبلت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها ، لا أدري أيهم استقبلت به أول، فلما مرت على آخرهم قالت : من هذا ؟ قالوا : أبوك ، أخوك ، زوجك، ابنك ، تقول : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ يقولون: أمامك حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذت بناحية ثوبه ، ثم قالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لا أبالي إذ سلمت من عطب)( ).
العاشرة : بيان قانون كلي في الحياة الدنيا، وهو مصاحبة القروح للإيمان، مما يملي على المسلمين الصبر وعدم الجزع والفزع من المصائب والجراحات التي تصيبهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
الحادية عشرة : مع أن الآية السابقة جاءت بالتشابه والمثلية في القرح، إلا أن نظمها ومضامينها يدل على تعلق التشابه بموضوع الجراحات، وإلا فإن الآية إبتدأت بصيغة الشرط وإحتمال إصابة المسلمين بالجراحات والقروح[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ].
وقد: حرف إخبار يأتي مع الفعل الماضي ويفيد التحقيق، ويتضمن مجيؤه مع المضارع معنى التوقع في الغالب، وقد يفيد التحقيق وتقليل المتعلق بحسب القرائن قال تعالى[قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ]( ).
ومن خصائص (قد) تقريب الماضي من الحال , ليتجلى إعجاز القرآن في آية البحث، فتكون واقعة بدر وخسارة مشركي قريش الفادحة وهزيمتهم يومئذ بعد أن خلفوا سبعين قتيلاً وسبعين جريحاً حاضرة في أذهان المسلمين في كل زمان غضة طرية فلا غرابة أن يستذكر المسلمون هذه الواقعة كل سنة في يوم وقوعها وهو السابع عشر من شهر رمضان فورد ذكره بالذات في قوله تعالى[وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، إذ فرق الله عز وجل فيه بين الحق والباطل من وجوه:
الأول : بيان المصداق العملي للإيمان بثبات المسلمين في ميدان القتال.
الثاني : قتال المسلمين دفاعاً من أجل إعلاء كلمة التوحيد، وهجوم الكفار إصراراً على مفاهيم الشرك.
الثالث : تجلي معاني العبودية والخضوع الصادق من المسلمين لله عز وجل بحسن الإستجابة والصبر في مواطن القتال، لذا ذكرت الآية أعلاه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصفة العبودية مع دلالتها التضمنية على نبوته ورسالته للناس كافة بقوله تعالى[وَمَا أَنزَلْنَا] وأما عموم الرسالة فيدل عليه اسم الفرقان لأن يوم معركة بدر فيصل بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلالة.
الرابع : الفرقان بالأصل مصدر كالغفران، جاء في الآية أعلاه إسماً للفاعل للبيان والمبالغة اسم جامع وهو بلحاظ موضوعه على وجوه:
الأول : القرآن هو الفرقان، قال تعالى[وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ]( ).
الثاني : الفرقان اسم جامع لجنس الكتب السماوية المنزلة، وعن ابن عباس:الفرقان جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان( ).
الثالث : يمكن تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالفرقان لأن نبوته تفريق جلي بين الهدى والضلالة ، فيكون يوم بدر هو يوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار رسالته.
الرابع : يوم بدر هو يوم الفرقان.
الوجه الثالث : التشابه والمثلية في الجروح والكلوم والخسارة مع التباين في العدة والمؤونة والعدد، وكان المنافقون يحذّرون المؤمنين من الخروج لقتال المشركين، وفي قوله تعالى[بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا]( ).
الوجه الرابع : مداولة وتصريف الأيام بين الناس، وعدم جعل أمور الحكم والسلطنة ثابتة ومستقرة عند أشخاص أو قوم أو طائفة مخصوصة، وهذا الإطلاق من الإعجاز في صيرورة مداولة الأيام بين الناس جميعاً، لتكون من الكلي الطبيعي الذي فيه حصة وسهم لكل إنسان وطائفة، وفيه طرد لليأس من النفوس، ودعوة للعصمة من الضعف والوهن، والله عز وجل لا يفعل إلا ما فيه نفع عام وهو خير محض لذا ففي نسبة مداولة ودوران الإيام إلى الله عز وجل مسائل:
الأولى : أيام الحياة الدنيا ملك لله عز وجل فاذ أخبر القرآن عن ملكية الله عز وجل للسماوات والأرض وهي موجودات ثابتة، فانه تعالى أخبر بأن الأيام مع تعاقبها ملك له سبحانه.
الثانية : تسخير الأيام للناس ، ولكنه مقيد ، فلا يستطيعون جعلها مطية لأهوائهم ورغائبهم وتولي طائفة منهم شؤون السلطنة فيها ، بل إن الله عز وجل هو الذي يداولها بينهم مع الشخير ما في السموات والأرض لهم .
الثالثة : بعث المسلمين للدعاء وسؤال دولتهم ، وجلب المنافع ودفع المضار في مداولة الأيام .
الرابعة : لما أخبر الله عز وجل الملائكة عن خلافة الإنسان في الأرض بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ] ( )، فانه سبحانه جعل الأيام متداولة بين الناس وفيه أمور:
وفيه غاية الإكرام للإنسان من بين الخلائق، قال تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
وليس من حصر لسبل وصيغ التمحيص والتطهير ومنها ملاك التقوى والخشية من الله قال تعالى[وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ]( )، كما ورد لفظ لباس مرتين في الآية أعلاه من سورة البقرة لبيان أن الزوجية من مصاديق التقوى التقوى سواء للرجل أو المرأة، وهو من الإعجاز في تكرار لفظ(لباس) في الآية في آية البحث وكأنها تقول: الزواج باب من أبواب التقوى والخشية من الله سواء للرجل أو المرأة، ومن إعجازها أنها جاءت بصيغة الخطاب وتتعلق بموضوع الصيام لذا تجد المسلمين من أحسن الأمم في التقييد بآداب العفة في النكاح وعصمة الفروج وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ليكون النكاح مقدمة لتمحيص للمؤمنين والعصمة من الفواحش .
وورد عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من عبد عمل خيراً أو شراً إلا كسي رداء عمله حتى يعرفوه وتصديق ذلك في كتاب الله[وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ]( ).
ووردت فيه وجوه وأقوال هي:
الأول : إنه الدرع والساعدان والساقان والآلات التي يتقى بها في الحرب مع العدو( ).
الثاني : لباس التقوى هو الإيمان.
الثالث : هو الحياة( ).
الرابع : عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام:لباس التقوى: ثياب بيض.
الخامس : ورد عن ابن عباس عدة أقوال في لباس التقوى وهي:
أولاً : العمل الصالح.
ثانياً : السمت الحسن في الوجه.
ثالثاً : العفة( ).
السادس : خشية الله ، قاله عروة بن الزبير.
السابع : لبس ما يتّقي به الحر والبرد، قاله ابن بحر.
الثامن : ستر العورة للصلاة التي هي التقوى.
وليس من حصر لمعاني ووجوه لباس التقوى، وتتجلى في آيات القرآن والسنة النبوية، ومنها لباس الإحرام في الحج، إذ يرتدي كل فرد من وفد الحاج أبسط اللباس وأقله كلفة ومع هذا يتجلى فيه البهاء ونور الإيمان، ويشعر معه الحاج بالغبطة والرضا والزهد في الدنيا، وكل فرد من لباس التقوى من مصاديق قوله تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] وهو من التمحيص السنوي المتجدد، فان قلت لا يستطيع كل مسلم أداء مناسك الحج لقيد الإستطاعة والقدرة.
والجواب من التقوى العزم على أداء الحج مع توفر الزاد والراحلة ومقدمات الحج العقلية، وبخصوص مناسك الحج وصفات الهدي، قال تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( )، ليشمل التمحيص ما في القلوب من الإيمان والثبات على التوحيد، والتنزه من الرياء والسمعة، والزواج حكم وضعي، وهو مستحب مؤكد، وقد يكون واجباً إذا تعلقت به سلامة الدين والتنزه عن السفاح والحرام مطلقاً، وهو من التقوى ومقدمة لها ، وجاء الترغيب به في الكتاب والسنة وتيسيره وبيان أحكامه ، وكراهة الطلاق لإعانة المسلمين في سبل تمحيصهم .
صلة[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]بــ[وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]
وفيها مسائل :
الأولى : بين الناس والكافرين عموم وخصوص مطلق، فالناس أعم وهم على أقسام:
الأول : المسلمون.
الثاني : أهل الكتاب.
الثالث : الكفار.
وتحتمل الصلة بين مداولة الأيام ومحق الكافرين وجوهاً:
الأول : تكون مداولة الأيام بين الناس والكفار بعرض واحد، من جهة تساوي نصيبهم في الملك والسلطنة والشأن.
الثاني : رجحان كفة المؤمنين وتسخير الأيام لهم إكراماً من الله عز وجل لهم، وتخفيفاً عنهم، وصيرورة هذا الرجحان سبباً لدخول الناس في الإسلام، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث : إنتفاع الكفار من مداولة الأيام أكثر من غيرهم.
والصحيح هو الثاني من وجوه:
الأول : إخبار الآية السابقة باصابة الكفار بالجراحات والكلوم قبل أن تصل إلى المؤمنين.
الثاني : إختتام الآية السابقة بقوله تعالى[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] وفيه دلالة على إنحسار شأن الكفار، وهل تحجب الأيام نفسها عن الكفار، وتمتنع عن ظهور نجمهم، لأن الله عز وجل لا يحب الكفار.
الجواب تبين الآية السابقة أن الأيام تستجيب للمشيئة الإلهية، فيكون إمتناعها فرع هذه الإستجابة ،وقد يأتيها الله عز وجل للكفار لتكون حجة عليهم وليسلبها عنهم فيورث هذا السلب الندامة ومقدمات الخصومة.
الثالث : تقطع هذه الآية بمحق ووهن الكفار، مما يدل بالدلالة التضمنية على تخلف الكفار عن الأهلية لبناء صرح لهم في الملك والسلطان والمجتمع في تعاقب الأيام خاصة مع بزوغ شمس الإيمان، ودخول الناس في الإسلام على دفعات ،قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
وهل دخول الناس جماعات في الإسلام من مصاديق مداولة الأيام، أم أن الآية خاصة بذات الأيام، الجواب هو الأول من وجهين:
الأول : كثرة عدد المسلمين نصر وظفر، وشاهد على صدق النبوة.
الثاني : تغشي الفضل الإلهي للذين دخلوا الإسلام , فيكون من تداول الأيام بالنسبة إليهم نسخ الكفر بالإيمان، والضلالة بالهدى، وظلمة الغواية بنور التقوى .
وهل هذا النسخ من مصاديق قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )،الجواب نعم بلحاظ الفرد والجماعة.
وجاء قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )، على نحو القانون الدائم الممتنع عن الإستثناء، أما قوله تعالى[وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] فجاء بصيغة المضارع، ويحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة أيام نزول القرآن، وبيان حال وأثر معارك الإسلام الأولى.
الثاني : المراد الزمن المستقبل واللاحق.
الثالث : الإطلاق الزماني.
والصحيح هو الثالث، لتضمن الآية الإخبار عن وهن وضعف الكفار ، وإلحاق الهزيمة بهم في المعارك التي يخوضها المؤمنون لأن الآية جاءت بصيغة التعليل المتعلق بالفعل المضارع، وهو من أسرار قوله تعالى[فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ] أي أن سبق إصابة الكفار بالجراحات وسقوط القتلى منهم سبب في محقهم وسرعة دحر المؤمنين لهم، ورجوع كيد الكفار إلى نحورهم.
ومن الإعجاز في الجمع بين هذه الآية والآية السابقة إصابة الكفار بالمحق حتى عندما تكون الكرة أو الدولة لهم ،فالأرض والسماء والأيام ملك لله عز وجل وهو سبحانه يبغض الظالمين، وكذا الخلائق تبغضهم.
وفي ذم الذين يخفون الآيات، ويمتنعون عن بيان ما يصلهم من التنزيل وأسباب الهدى ورد قوله تعالى[أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (يلعنهم) ولفظ(اللاعنون) في القرآن إلا في الآية أعلاه، وتكرر لفظ (يلعنهم) فيها مرتين، لبيان شدة الأذى الذي يلحق الكفار بسبب العذاب الإلهي وإنكار الخلائق لجحودهم وإخفائهم حقائق التنزيل وتجليات الكتاب التي تكون كالكلي الطبيعي الذي يدركه الناس جميعاً على التباين بين مداركهم، والإختلاف في مذاهبهم، ولعنة اللاعنين على الكفار من رشحات قوله تعالى[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ].
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على سلامة المؤمنين والمؤمنات من اللعن لحصر لعنة اللاعنين بالكفار لأن لعنتهم تعني سؤال ودعاء الطرد من رحمة الله، ومن يلعن مؤمناً يكون لعنه لغواً، وفي آية المباهلة ورد قوله تعالى[فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( )، لتأكيد حصر اللعن بالكافرين الذين يكذبون بالنبوة والتنزيل.
ترى لماذا جاء قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] بصيغة المتكلم وأن الله عز وجل هو الذي يصرّفها بين الناس، بينما جاء قوله تعالى[وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] بصيغة الغائب , الجواب من وجوه :
الأول : المعنى واحد وأن كلاً من مداولة الأيام ومحق الكفار بمشيئة الله عز وجل، ولا نقول باتحاد جهة الصدور تنزيها لمقام الربوبية.
الثاني :بيان أن محق الكافرين من رشحات قانون مداولة الأيام.
الثالث : ينقضي اليوم من الدنيا ولا يعود إلى يوم القيامة ، أما محق الكافرين فهو متجدد ، فحتى لو هلك الكافر فان محقه مستمر كما في غرق فرعون وجنوده فان آيات القرآن وتلاوة المسلمين لها محق وخزي إضافي لهم.
الرابع: يبين هذا التباين الجهتي بين صيغة المتكلم والغائب تعدد وجوه المحق ومجيئه ظاهراً وخفياً، وفي الدنيا والآخرة، إن النسبة بين تصريف الأيام ومحق الكافرين بلحاظ أفراد الزمان الطولية المقدرة وغير المقدرة هي العموم والخصوص المطلق، فمداولة الأيام بين الناس خاصة بالدنيا وهي جزء من الإمتحان ومصاديق الإبتلاء فيها، أما بالنسبة لمحق الكافرين فهو عام يتجلى في الدنيا بما يلحقهم من الخسارة والوهن والإنكسار والهزائم المتلاحقة .
وفي الدنيا تكون خسارتهم لواو العطف في(ويمحق الكافرين) موضوعية عند الجمع بين الآيتين، وهو أن إضعاف وخزي الكافرين لايختص بتداول الأيام وحدها بل يكون المحق بالأسباب والذات، ومنها سنن الصلاح في عمل الذين آمنوا وصبرهم في جنب الله، ومنها الدعاء بالفرج وتقريب الفتح، والبطش بالظالمين , وإزاحتهم عن مراتب الأمرة والسلطنة ، لذا جاء القرآن بذم المنافق , وبصيغة الشرط فيما يخص توليه، بقوله تعالى[وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ] ( ).
فتوجه المؤمنين بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل برزخ دون تولي المنافق للسلطنة والبطانة، وحتى إذا تولى فان الدعاء يمنعه من ممالئة الكفار على المسلمين وما يؤدي إلى الفتنة وأسباب الفساد.
الصلة بين[وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]وبين[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا].
من إعجاز نظم هذه الآيات تكرر لفظ الذين آمنوا في الآيتين المتجاورتين مع الإتحاد الموضوعي بينهما.
فلقد تكرر اسم الجلالة في الآيتين لبيان أن الفضل كله بيد الله وأنه سبحانه هو الذي يمتحن الناس في الدنيا ويميز الذين آمنوا بمعالم الهدى، وما يصدر عنهم من ضروب التقوى وفيه شاهد على حقيقة وهي أن قول الله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، يتضمن تقريب الناس إلى مراتب التقوى.
وكل فرد من التمحيص والمحق معلول لتداول الأيام بين الناس, والكر والفر في القتال بين المسلمين والكفار، والجراحات التي تصيب كل من الطرفين.
يتضمن العلم بالذين آمنوا وتعيينهم من بين الناس وتطهيرهم من دنس الشرك الظاهر والخفي، لتكون عبادتهم خالصة لوجه الله وخالية من الرياء والطمع مما في أيدي الناس.
ومن دلالات ورود اسم الجلالة في هذه الآية والآية السابقة مسائل:
الأولى : تعلق موضوع الآيتين بالمؤمنين.
الثانية : إكرام الله عز وجل للمسلمين وأنهم بعين الله.
الثالثة : الشهادة من الله للمسلمين بالإيمان وما يترشح عنه من التقيد بآداب وسنن التقوى.
الرابعة : عدم إختصاص مضامين الآية بالمسلمين فهي شاملة للذين آمنوا من الملل والأمم السابقة.
الخامسة : بعث المسلمين على اليقظة وأخذ الحائطة للدين فان الله عز وجل يريد أن يعلم صدق إيمانهم، وإنفصالهم وتميزهم عن المنافقين الذين يخفون الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان.
السادسة : دعوة المسلمين لتحري التأريخ والتدبر في مصاديق الآية، وقد كان بعض الأنبياء ملوكاً كداود وسليمان، وهل تخدش صيغة المضارع في الآيتين (وليعلم الله) (وليمحص الله) بشمول الآية للأمم السابقة والثناء على أهل الإيمان والتقوى الجواب لا ،من وجوه:
الأول : ورود اسم الإشارة للبعيد (تلك) الشامل للأيام على نحو العموم الإستغراقي، فلم تقل الآية (وهذه الأيام) مما يدل على أن مضامين الآية أعم من أسباب النزول، وأنها لا تختص بمعركة بدر أو أحد أو غيرها.
الثاني : صيغة الإطلاق في لفظ الأيام الشامل لأيام الحياة الدنيا وان قلت هل تشمل عالم القيامة الذي ورد تسميته بلفظ اليوم كما في قوله تعالى[وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ] ( )، الجواب لا تشمل الآية يوم القيامة من جهات:
الأولى : ملكية يوم القيامة المطلقة خاصة بالله عز وجل , قال تعالى في الثناء على نفسه[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( ).
الثانية : خروج يوم القيامة بالتخصص من لفظ الأيام في الآية واسم الإشارة(تلك) بلحاظ أن الموضوع الذي تقع الإشارة له ظاهر حسياً، ومدرك عقلياً.
الثالثة : دخول أفراد أيام الحياة الدنيا في المشار إليه أمر معلوم، فتتحد سنخية مدلول اسم الإشارة.
الرابعة : لايقبل يوم القيامة التداول بين الناس لأنه يوم حساب من غير عمل.
ولو تنزلنا وقلنا بدخول يوم القيامة في عمومات قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] فان الله عز وجل يجعل العز والأمن والسلامة واللبث الدائم في النعيم للمؤمنين، والفزع والخوف والعذاب الأليم مصاحباً للكافرين.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةَ أَصْنَافٍ صِنْفًا مُشَاةً وَصِنْفًا رُكْبَانًا وَصِنْفًا عَلَى وُجُوهِهِمْ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ قَالَ « إِنَّ الَّذِى أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَمَا إِنَّهُمْ يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يقبض الله الأرض يوم القيامة ، ويطوي السموات بيمينه ، ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض( ).
فليس من تداول مستمر بين الملوك ،ولابد أن تنتفي الملكية عن الإنسان، ومن الآيات في سنن الشرائع والأحكام التي تنبسط عليها كالصلاة والزكاة والصيام والحج أنها تبعث الناس على الإنتفاع من أيام الحياة الدنيا بالذكر والعبادة، والتنزه عن مفاهيم الجحود وأوهام الضلالة، ومن الإعجاز في العبادات أعلاه أن كل فرد منها يذكر بيوم القيامة وينقطع فيه المؤمنون إلى الله مستجيباً شاكراً.
فيقف المسلمون بين يدي الله في الصلاة مجتمعين ومنفردين مع أولوية وإستحباب صلاة الجماعة ووردت النصوص بزيادة الثواب طرداً مع كثرة المصلين وصفوفهم، ومع الصلاة خلف العالم.
ويجتمع المؤمنون في كل عام ومنذ أيام أبينا آدم في البيت الحرام لينادوا بصوت متحد (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك) وتأتي التلبية الأخيرة وتأكيد نفي الشريك عن الله لبيان حقيقة بأن عبادتنا لله لا تختص بأيام الحج أو عند القدوم إلى الديار المقدسة بل هو ملكة وفعل متصل ومطلق في أفراد الزمان والمكان المختلفة وفيه نكتة وهي أن المؤمنين مشغولون بعبادة الله، سواء كانت الدولة لهم أم عليهم، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
إذ يصاحب التطهير وأسباب الهداية المسلمين في الأحوال المختلفة والسلطان المتباين وهو من الحكمة في سن الفرائض والعبادات، وجعل بعضها يومياً وعلى نحو متعدد وهو الصلاة إذ يفزع فيها المؤمنون إلى الله لتثبيت دولتهم وإعانتهم للحكم بالحق والهدى، ولصرف أيام الظالمين ودولتهم وما فيها من الظلم والعتو والطغيان.
صلة [وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ] ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى : النسبة بين الآيتين هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول : نسبة الفعل في الآيتين إلى الله عز وجل، فهو سبحانه الذي يتخذ الشهداء ويمحص المؤمنين، وفيه شاهد على الوحدانية ودعوة لنبذ الشرك والضلالة، ليكون من إعجاز القرآن مجئ الآية بصيغة الجملة الخبرية لتتضمن في مفهومها ودلالتها، الأمر بالتسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل والنهي عن مفاهيم الشرك والضلالة.
الثاني : صبغة الإيمان في الشهداء وأهل التمحيص .
الثالث : كل من إتخاذ الشهداء والتمحيص فضل من عند الله .
لقد ذكرت الآية السابقة فضل الله عز وجل على المسلمين من وجوه:
الأول : إبتلاء المسلمين بالجراحات ليكون سبباً للظفر والنصر بمدد ولطف من الله، وطريقاً للأجر والثواب.
الثاني : بينما ذكرت الآية إصابة المسلمين بالقرح على نحو التعليق وإرادة أفراد الزمان الآتية، فإنها ذكرت تحقق وسبق إصابة الكفار بالقرح ،وفيه مسائل:
الأولى : لم تنزل الكلوم بالمسلمين إلا وقد ثقل كاهل الكفار بالجراحات، كما في معركة بدر وقتل سبعين من فرسان قريش وأسر سبعين من كبرائهم.
الثانية : تعقب الإخبار عن إصابة الكفار بالقروح.
الثالثة : بيان المثلية والتشابه في القرح والجراحات، ومن وجوه المثلية في المقام قتل سبعين من الكفار في معركة بدر، وشهادة سبعين من المسلمين في معركة أحد، قال تعالى[إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ]( ).
الثالث : علم الله بالمسلمين وطاعتهم له , وجهادهم في سبيله
الرابع : صيرورة المسلمين شهداء على أنفسهم وعلى الناس , ومن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أنهم يشهدون على الناس ولا يشهد عليهم أحد إلا الله ورسوله .
الخامس : بغض الله لأعداء المسلمين .
ترى لماذا التشابه في القرح ،الجواب لإخراج حال الجوع والفقر والعوز وحال المسلمين من النقص في الأموال وقلة الأزواد، وحال السعة والوفرة والعدة عند الكفار، ولكن البركة والنماء الذي يجعله الله عز وجل عند المسلمين يجعل أثر الفقر والفاقة منعدماً، وهو سبب لجلب النصر ونزول الملائكة بأمر من الله عز وجل، كما تجلى في معركة بدر، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
النسبة بين الآيتين هي العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول : مجئ كل من الآيتين بلغة العطف بالحرف [الواو ].
الثاني : صيغة المضارع لكل من الآيتين ،[يتخذ] [يمحق].
الثالث : نسبة الفعل إلى الله عز وجل في كل من الآيتين.
الرابع : مجئ الفاعل على نحو الإستتار لبيانه في الكلمات القرآنية السابقة لها .
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه :
الأول : توجه الخطاب في الآية السابقة إلى المسلمين والمسلمات، وتعلق خاتمة آية البحث في موضوعها بالكافرين .
الثاني : جاءت الآية السابقة بصيغة الخطاب ، أما آية البحث فوردت بصيغة الإخبار .
الثالث : لغة التبعيض في الآية السابقة ،فالشهداء شطر من المسلمين، بينما جاءت آية البحث بالعموم الإستغراقي ،فلا ينجو أحد من الكافرين من المحق .
الرابع : إتخاذ شهداء من المسلمين مدح شامل للمسلمين والمسلمات جميعاً على نحو العموم الإستغراقي ، فان قلت إنما الشهداء طائفة وفريق من المؤمنين فكيف يكون الثناء عليهم جميعاً.
الجواب : جاءت الآية بصيغة التبعيض وهو من الكلي في المعين ، فالشهداء من المسلمين ومن غير تعيين لطائفة منهم ، سواء على معنى تحمل الشهادة والإدلاء بها ، أو على معنى الشهداء جمع شهيد أي القتيل في سبيل الله ، لذا جاءت الآية التالية بالخطاب للمسلمين جميعاً ورجاء دخولهم الجنة بجهاد فريق وصبر فريق آخر منهم بقوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( ).
وقد ورد قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ] ( ).
ولما ورد التبعيض في إتخاذ الشهداء جاءت آية البحث بصيغة العموم [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
وتحتمل الصلة بين الآيتين وجوهاً :
الأول : إتخاذ الشهداء مقدمة لتمحيص وتطهير المؤمنين .
الثاني : تمحيص وتزكية المسلمين مقدمة لإتخاذ الشهداء منهم ، لشرطية العدالة في الشهادة وعلى معنى الشهادة والقتل في سبيل الله ، فلا بد من قصد القربة ، وعدم القتال عصبية أو طمعاً ونحوه .
الثالث : كل من إتخاذ الشهداء وتمحيص المؤمنين مقدمة للآخرة وطريق إلى النعيم فيها , وسبيل للهدى والرشاد.
والصحيح هو الأخير ، وتلك آية في إصلاح المسلمين لوراثة الأنبياء و عمارة الأرض بالتقوى ، ليكون من إعجاز القرآن أن المعلول المتعدد يؤثر بعضه ببعض ، فليس الصلة وحدها هي التي تؤثر في وجود وهيئة وماهية المعلول ، بل المعلول المتعدد ينتفع بعضه من بعض ، سواء تداخلت العلة أو المعلول أو ليس من تداخل في أي منهما.
وتبين الآية قانوناً وهو أن النبوة فيصل بين الناس بلحاظ العقيدة والمبدأ وصيرورتهم بها طرفا نقيض ، فاما مؤمنون تعاهدوا ما يجب عليهم كبشر وخلق لله عز وجل أنعم عليهم بالخلافة في الأرض وأما كفار يأتيهم الإنذار والمحق .
وكل من تمحيص المؤمنين ومحق الكافرين يزيد المسلمين إيماناً وهو من مصاديق قوله تعالى[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
وقدمت الآية تمحيص الذين آمنوا على محق الكافرين، وفيه مسائل :
الأولى : إكرام المؤمنين وتقديمهم في الموضوع ونظم الآية .
الثانية : الترغيب بالإيمان ،ودعوة الناس للهداية والرشاد .
الثالثة : تمحيص المؤمنين بذاته قوة وعز لهم، وفيه وهن وضعف للكافرين ليأتي المحق للكفار بتزكية وتطهير وسلامة المؤمنين ، وتقدير الآية : ويمحق الكافرين بتمحيص الذين آمنوا .
الرابعة : لحاظ نظم الآية السابقة ولغة الخطاب فيها للمسلمين، وما يلاقون من الأذى من الكفار .
الخامسة : أصالة تمحيص وتطهير المؤمنين سواء حلّ بالكفار المحق أو أمهلهم الله عز وجل بحلمه .
السادسة : إزدراء الكفار، وبيان تخلفهم عن الإنتفاع من نعمة الهداية.
يتصل موضوع هذه الآية بالآية السابقة بما يشبه الملازمة بين العلة والمعلول ، وعدم تخلف المعلول عن علته لذا إبتدأت الآية بحرف العطف الواو ولام التعليل ،أما حرف العطف فيدل على تعدد المعلول، وتقدم بعض أفراده في الآية السابقة بدليل مجئ ذات اللام فيها [وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]( )، وأما اللام فلتأكيد التعليل، ومنع التأويل غير المناسب خاصة أن لفظ [الَّذِينَ آمَنُوا]ورد في الآيتين .
فلولا مجئ اللام في أول هذه الآية لأحتمل التعدد الموضوعي وان تمحيص وتطهير المؤمنين لا يتعلق بتصريف الأيام ، فلو قالت الآية (ويمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) لأفاد التباين في كيفية وعلة تزكية المؤمنين وإضعاف الكافرين ، فتفضل الله عز وجل وأنزل هذه الآية التي هي من كلامه وقوله السالم من التحريف لتبتدأ بالعطف والتعليل ، وتأكيد إتصال مضامينها بالآية السابقة ، والإخبار بأن تداول الأيام بين الناس أمر عظيم بذاته وأثره ، وهو موضوع للحجة.
ومن مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) ليس من إنسان إلا ويشمله الإمتحان والإختبار بتقلب وتصريف الأيام والدول ، لذا جاءت الآية بصيغة العموم [نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
العطف بين خاتمة الآية السابقة وأول هذه الآية
قد يظن أحدهم بإختصاص العطف بين الآيتين بلام التعليل، ولكنه أعم، فقد أختتمت الآية السابقة بقانون عدم حب الله عز وجل للظالمين وأنهم مجتمعين ومتفرقين متخلفون عن بلوغ مرتبة حب الله عز وجل للعبد[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ]( ).
لتتضمن هذه الآية تعيين أهل الإيمان والتقوى وإختبارهم في سبل الصلاح، ومن صيغ هذا الإختبار والتمحيص موضوع الإبتلاء بالظالمين بالذات والفعل، بلحاظ أن تعدد وجوه ظلم الكافرين من جهات:
الجهة الأولى : ظلم الكفار لأنفسهم من وجوه:
الأول : إختيار الكفر.
الثاني : الإصرار على الجحود والكفر.
الثالث : الإعراض عن الآيات والبينات التي تجذب الإنسان إلى مقامات الإيمان، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ]( ).
الرابع : حال العناد الذاتي والنفسي عند الكفر بين العقل والهوى، وغلبة الأخير مع أنه كالوهم في مقابل اليقين.
الخامس : سعي الكفار إلى اللبث في نار الجحيم، فكل يوم يمر على الكافر يقترب فيه خطوات إلى النار، وهذا الإقتراب من عمومات قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
الجواب نعم , لتكون هذه المداولة وبالاً على الكافرين سواء كانت الدولة لهم أم عليهم أم لا لهم ولا عليهم، وتقدير الآية بحسب هذا اللحاظ: وتلك الأيام نداولها بين الناس ليقرب الكافر من النار، وهذا الإقتراب لا يتعارض مع دعوته كل ساعة للتوبة والإنابة وتذكيره بحقيقة إقترابه اليومي من النار من الإنذار والرحمة الإلهية به وبغيره للتوقي من الإنصات له في كفره وجحوده.
السادس : إجتماع الكافرين على الكفر، وإلتقاؤهم بمفاهيم تتنافى وعلة الخلق وما رزقهم الله عز وجل من العقل المتحد والجمعي، أي أن كل واحد منهم عنده عقل يجذبه للإيمان، وهم مجتمعون عندهم عقل إضافي يترشح عن التدبر المشترك والتآزر في سبيل الهدى والصلاح وليس إثارة الريب والشك الذي هو من مصاديق التعاون المنهي عنه في قوله تعالى[وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
وتبين آية البحث الحاجة إلى محق الكافرين كيلا يتغشى الكفر وتنتشر مفاهيمه بين الناس وتكون برزخاً دون تسليمهم بآيات النبوة والتنزيل، فهذا المحق نعمة من جهات:
الأولى : إنه نعمة على الكفار أنفسهم بمنعهم من التمادي في المعاصي، وحمل الأوزار الذاتية والغيرية يوم القيامة، أي الذنوب التي يمتلكونها بالذات وذنوب الآخرين التي يكون الكافرون سبباً بحدوثها وموضوعاً للإفتتان والأسوة القبيحة، قال تعالى[لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ]( ).
الثانية : النعمة على المؤمنين بضعف الكفار وتضاؤل أثرهم.
الثالثة : وهن وخزي الكفار رحمة من الله للناس جميعاً في الدنيا والآخرة.
الرابعة : محق الكافرين باب للعفو والمغفرة من عند الله، فمن العصمة إنعدام المعصية، وفي التنزيل[وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ]( ).
الجهة الثانية : ظلم الكفار لآبائهم بتفويت نعمة الذرية الصالحة عليهم، ولا تنخرم هذه القاعدة بكون الآباء سبباً في كفر الأبناء، لتجدد الخطاب بالتوبة والدعوة إلى الإيمان في كل آن، ولأن الابن مكلف مستقل حتى مع وجود الأب والأم، كما تجلى في دخول عدد من أبناء رؤساء الشرك من قريش في الإسلام، وتحملوا الأذى ومنهم من هاجر إلى الحبشة وإلى يثرب.
وهل صيرورتهم حجة على آبائهم والكفار مطلقاً من مصاديق قوله تعالى[وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] أم أن القدر المتيقن من محق الكافرين ما يصيبهم بالذات، الجواب هو الأول، وتلك آية في صنع الله وملكه للسموات والأرض إذ يأخذهم الله عز وجل بالعذاب بأن يروا أبناءهم يحسنون الإختيار، ويسعون إلى نجاتهم ليؤسسوا صرحاً من الإيمان في ذراريهم وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ التحول النوعي الذي يحصل في الأجيال المتعاقبة للأمم والشعوب إذ ينتقل شخص إلى مقامات الإيمان فيحصل تغيير مبارك في الأمم.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرمة الإرتداد وترك الإيمان ، قال تعالى[وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]( ).
ومن فضل الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلامة أعمال المسلمين من الحبط والنقص لذا ورد التمحيص والتطهير في هذه الآية بصيغة (الذين آمنوا) أي صدقوا ظاهراً بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويتجلى ظلم الكافر لأبيه وأمه، بمفهوم ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ : مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ( ).
وتتجلى في الحديث صيغة العموم وإرادة الناس جميعاً وورد الحديث بصيغة إذا مات ابن آدم، وبين الحديثين عموم وخصوص مطلق، إذ أن لفظ الإنسان أعم ويدخل فيه آدم وحواء، فالكافر يحرم أباه من إستدامة صلته بالدنيا في عمل الصالحات.
الثالثة : ظلم الكفار لعوائلهم وأسرهم، إذ يكون أثر وضرر الكافر على وجهين:
الأول : نشر الفساد ومفاهيم الضلالة.
الثاني : الصد عن سبيل الله .
والكافر بلحاظ الأسرة على أقسام:
الأول : أن يكون هو الأب ورب الأسرة.
الثاني : تكون الكافرة هي الأم.
الثالث : الكافر هو الإبن، ليكون من محق الله للكافرين إسقاط هيبة الكافر في أسرته، فيرى منهم ما يؤذيه، لذا كفل الإسلام العناية بالوالدين وقرن الإحسان لهما بطاعة الله عز وجل، وليس من مسلم أو مسلمة إلا وهو يحفظ عن ظهر قلب قوله تعالى[فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ]( ).
الرابعة : ظلم الكفار لمن حولهم من الناس بنشرهم مفاهيم الجحود ويتحقق صرف طبيعة هذا النشر بإصرار الكافر على الضلالة والتخلف عن أداء الفرائض عناداً وإن لم يقم بتحريض الناس على محاكاته، لذا جاءت خاتمة الآية السابقة بصيغة الإطلاق والعموم، الإطلاق في سنخية الظلم، وأن الله عز وجل لا يحب أي فرد منه، أما العموم فان الله يبغض الظالمين مجتمعين ومتفرقين، وسواء كان ظلمهم لأنفسهم أو لغيرهم.
وتبين الآية قانوناً وهو أن مدار الظلم هو الكفر والجحود، فان قلت هل أشارت الآية السابقة إلى ماهية الظلم الذي يكون سبباً لجلب بغض الله، وحجب حبه الذي هو حاجة وضرورة للعبد في النشأتين، الجواب نعم، من جهات:
الأولى : دلالة قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] على تلقي المسلمين الجراحات وسقوط شهداء منهم بسيوف الكفار، وهذا التعدي المسلح أشد وأبغض أنواع الظلم في تأريخ الإنسانية، فقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتنزيه الأرض من الكفر ولإنتفاع الناس الأمثل من أيام الحياة الدنيا بالفوز بحب الله فآمنت به طائفة من الناس، فكشر الكفر عن أنيابه وجهز أرباب الضلالة والفسوق الجيوش، وعسكروا الجزيرة وأخذوا يطوفون بين القبائل للإجهاز على الإسلام.
وقد أنعم الله عز وجل على أجيال المسلمين المتعاقبة بأن بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في الجزيرة التي تتصف بقلة المطر، وشدة الحر، وقلة الزرع والضرع مع وجود ممالك عظيمة من حولها كدولة الروم وفارس، وكانت جيوش هذه الممالك تخشى التوغل في الصحراء خوفاً من الموت عطشاً، وإغارة القبائل العربية عليهم لنهب معسكراتهم بسبب الجوع والعوز وحال الجفاء والغلظة التي تترشح عن السكن على إنفراد في الصحراء.
فإن قلت لماذا يبقى هؤلاء في الصحراء، ولم يرحلوا إلى حيث الأنهار والعشب، ولم يكن آنذاك ثمة حدود أو جوازات، والجواب إن بقاءهم من بركات البيت الحرام، قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( )، وليكون من معجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنقياد القبائل التي يخشاها الملوك والجيوش العظيمة لنبوته وإطاعتهم لأوامره ذات صبغة الإمامة في أمور الدين والدنيا، وصار الملوك يتجنبون دخول أراضيهم واللبث إلى جوارهم، وهذا الأنقياد مطلق في العبادات والمعاملات وفي التضحية بالنفس شوقاً إلى الله ودفاعاً عن الحق، ففازوا بالتمحيص والتطهير والتزكية، وصاروا قادة وأمراء في الأمصار في آية أخرى لم يشهد لها التأريخ مثيلاً بلحاظ أنهم ينشرون العلوم والفقه، ويجذبون الناس لمنازل الهدى ويبعثون السكينة في المجتمعات، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وقد خفّف الله عز وجل عن المؤمنين في هذا الباب بأن أخبر سبحانه في هذه الآية عن بغضه وعدم حبه للظالمين، وما يترتب على عدم حبه من زوال البركة وضيق صدر الظالم وكثرة إبتلائه، وعجزه عن منع دخول الناس في الإسلام وهدايتهم إلى الإيمان إلى جانب سوء عاقبة الظالمين يوم القيامة، قال تعالى[يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً]( ).
ويحتمل قوله تعالى[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، بلحاظ أفراد الزمان والعوالم المختلفة وجوهاً:
الأول : عدم حب الله عز وجل للظالمين في الدنيا.
الثاني : عدم حب الله عز وجل للظالمين في الآخرة.
الثالث : المعنى الجامع للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الوجه الثالث أعلاه لأصالة الإطلاق، وعدم وجود مقيد في البين فان قلت الدار الآخرة دار جزاء , والجواب نعم، ومن جزاء الكفار يوم القيامة عدم حب الله عز وجل لهم، ويترشح عنه عدم حب الملائكة لهم وإزدياد العذاب عليهم وعدم حب الله للظالمين عذاب إضافي لهم وسبب لبعث اليأس في نفوسهم من العفو والرحمة لذا يتجهون في الآخرة للتوسل بخزنة النار لسؤال تخفيف العذاب عنهم، قال تعالى[وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ]( ).
وتدل اللام في (وليمحص) على تضمن هذه الآيات قانون العلة والمعلول، والمقدم هو العلة، والتالي هو المعلول الذي لا يتأخر عن علته، فان قلت نزل القرآن ليناسب المدارك المتباينة للناس بحيث لا يتخلف فرد عن فقه وفهم معنى الآية القرآنية ولو إجمالاً.
وقانون العلة والمعلول من المباحث الفلسفية الذي ينحصر موضوعه بأرباب الإختصاص، والجواب إن قانون العلة والمعلول، والسبب والمسبب، وأصل الإستصحاب أمور عقلية يدركها الإنسان بالفطرة.
ليكون من إعجاز القرآن تنمية مدارك المسلمين الفكرية، وزيادة تبصرهم في الأمور ومنها تصريف الأيام بين الناس وتباين أحوالهم في الدنيا طوعاً وقهراً وإنطباقاً وهو من أسرار إستحضار المسلمين في الوجود الذهني لقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
ومن معاني الجمع بين خاتمة الآية السابقة وأول هذه الآية أن بغض الله للظالمين سبب لتنمية ملكة المعرفة المؤمنين من جهات:
الأولى : إختيار المؤمنين سبل الهدى حتى مع تعدي الظالمين.
الثانية : صيرورة المؤمنين على الضد والنقيض مع الظالمين.
الثالثة : بغض الله للظالمين مقدمة لتمحيص المؤمنين.
الرابعة : عدم حب الله عز وجل للظالمين أخذ على أيديهم، وعلة لمنع سلطانهم على المؤمنين.
الخامسة : دلالة بغض الله للظالمين في مفهومه على حب الله عز وجل للمؤمنين.
السادسة : بيان قانون وهو أن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل وكذا أحوال وشأن الناس طوائف وجماعات وأفراداً.
السابعة : بغض الله عز وجل للظالمين سبب لنفرة الناس منهم.
الثامنة : فيه تأكيد للقبح الذاتي للظلم.
التاسعة : بيان قانون علم الله عز وجل بما يفعل الناس، وحلمه سبحانه على الظالمين.
العاشرة : الوعيد من العقاب الأخروي الأليم المترتب على الظلم للذات والغير، وعن أنس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه قال : أتدرون ممن ضحكت؟ قلنا : لا يا رسول الله قال : من مخاطبة العبد ربه فيقول : يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى . فيقول : إني لا أجيز عليَّ إلا شاهداً مني فيقول : كفى بنفسك عليك شهيداً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول بعداً لكن وسحقاً ، فعنكن كنت أناضل)( ).
الحادي عشر : لزوم النهي عن الظلم ، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : وجوب النهي عن المنكر .
الصغرى : الظلم منكر .
النتيجة : وجوب النهي عن الظالم .
وهل حب وبغض الله للناس من مصاديق قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] أم أن القدر المتيقن منه الأمور الواقعية وموضوع السلطان والجاه والمال وعالم الأفعال، وعلى المعنى الأول يكون عدم حب الله للظالمين دولة عليهم وإدباراً للأيام عنهم.
والصحيح هو الثاني فمداولة وتصريف الأيام غير بغض الله للظالمين، لذا فمن إعجاز الآية لفظ العموم في المداولة وشمولها للناس جميعاً، فلم تقل الآية (وتلك الأيام نداولها بين المؤمنين) فقد يبغض الله عز وجل الظالم ولكن يؤتيه الملك ليكون على وجوه :
الأول: إنه سبب لقيام الحجة عليه .
الثاني :مناسبة لزيادة آثامه باصراره على الباطل , قال تعالى [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
الثالث : إنه وسيلة لتمحيص وإختبار المؤمنين.
الرابع : إنه موعظة لمعرفة الناس لصدق إيمان أهل التمحيص ولا ينحصر بالبلاء بل يأتي بأسباب تثبيت الإيمان ، ومقدمات الثروة والسلطان والجاه ، وتقريب الناس إلى منازل الإيمان بحال السعة والرخاء [وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( )، قال تعالى[أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( ).
(وكان معاوية يقول نحن الزمان من رفعناه إرتفع ومن وضعناه اتضع( ).
وفيه بلحاظ قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )، أن الزمان مسخر بأفراده اللامتناهية ليأتي لقوم ويعرض أو يجافي آخرين ليتعدى الفعل(نداول) إلى مفعولين، فالرفع والوضع بمشيئة الله.
ومن يظن نفسه أنه يرفع ويضع من الملوك والأمراء إنما أمره محدود أفراداً ومكاناً وزماناً ومتزلزل لا يستديم أي آن من الزمان إلا بفضل الله، وفيه الحساب والعقاب , ومن أسباب الإستدامة أظهار الخضوع والخشوع لله عز وجل، والإجهار بأن ما بيده فضل من عند الله، وقد يرفع الملك شخصاً فيكون هذا الرفع وبالاً عليه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً، أو يضعه فيكون سبباً لعزه ورفعه ومناسبة لقيامه وعلو شأنه لذا تفضل الله عز وجل وجعل تصريف الأيام بين الناس ورفعهم أو وضعهم بيده سبحانه لتستليم أمور الناس، وتصلح معاشاتهم وتكون الأيام مناسبة لعمارة الأرض بالعبادة، ولدرء الفتن ومنع الإستكبار والغرور.
الصلة بين خاتمة الآية السابقة وخاتمة هذه الآية
وفيها مسائل :
الأولى :إتحاد موضوع الآيتين ففي كل منهما ذم للكفار .
الثانية : تقديم الجمع بين الآيتين والله لا يحب الكافرين، وبين الظلم والكفر عموم وخصوص مطلق ، فالظلم أعم لذا لم تقل الآية ويمحق الظالمين، ولكن أخبرت عن عدم حب الله عز وجل للظالمين لأن الكفر أشد ضروب الظلم، وهو ظلم للنفس في الدنيا والآخرة ، وإقحام لها في العذاب الأليم في الآخرة، لذا فان الله عز وجل لا يحب الظالمين لتعديهم وركوبهم المعصية وسعيهم خلاف ما يجب عليهم من التقوى والصلاح ، قال تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] ( ).أي مع الكفر ينغمس الإنسان في السيئات ،ولا يتردد في إرتكاب الذنوب كبيرة كانت أو صغيرة.
لقد جاءت بدايات سورة البقرة باصرار الكفار على ظلمهم وجحودهم بكل ما هو حق وصدق ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ).فأخبرت آية البحث عن محق ووهن الكفار ليكون هذا المحق على وجوه :
الأول : إنه مقدمة وطريق إلى التدبر بالإنذارات .
الثاني : المحق مرتبة أشد من الإنذار، فحينما لم يتعظ الكفار بالإنذارات يأتيهم المحق .
الثالث : في المحق إزاحة لمفاهيم الكفر من الأرض، وهو من مصاديق [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )، فأبى الله سبحانه أن تستديم معاني وسنن الكفر بين الناس فيبطش الله عز وجل بالكافرين محقاً وتوهيناً وتوال في البلاء الخاص والعام.
ويأتي المحق على وجوه :
الأول : المحق التدريجي الذي يكون على مراتب ودرجات .
الثاني : وقوع المحق دفعة وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثالث :المعنى الجامع للمحق التدريجي والحال ، وتدل مضامين الآية السابقة على إرادة الوجوه الثلاثة أعلاه كما في سقوط الكفار قتلى في معركة بدر وأحد، وتصريف الأيام بين الناس، وفي التنزيل [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] ( ).
والتشبيه في الآية أعلاه من إعجاز القرآن لأنه يؤكد على قانون متجدد في كل زمان لا يقبل النقض، وهو أن الملوك إذا دخلوا بجيوشهم قرية أو مصراً لم يرضوا إلا بانقياد الناس لهم ويستحوذون على الموارد، وقد يصادرون الأموال، ولم يجعلوا للملأ منهم شأناً ، وفيه دعوة للمسلمين لأخذ الحائطة وتعاهد الثغور ، وإجتناب الفرقة والفتنة قال تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( ).
وبين بغض الله للظالمين ومحق للكافرين جاء المدح والثناء على المسلمين [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] ( )، ليدل في مفهومه على سلامة المسلمين من بغض الله ومن المحق وفيه زجر لأهل الفرقة والشقاق الذين يفترون على إخوانهم الموحدين، الذين ينطقون بالشهادتين فهم جميعاً في أمن من بغض الله، ومن المحق والإذهاب والإستئصال، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
فمن معاني الأخوة بينهم جلب حب الله ، والصيرورة في كنف رأفته بذكره سبحانه وأداء الفرائض، والسلامة من المحق والوهن والفرقة بالثبات في منازل التقوى والصلاح .
إن ذكر الذين آمنوا بين ذكر الظالمين والكافرين من عمومات البشارة والإنذار في القرآن وهو باعث على التقوى ولما جاءت الآية بصيغة التعليل ففي ذكر المؤمنين في المقام مسائل :
الأولى : إنه باعث للسكينة في النفوس.
الثانية : إنه برزخ دون القنوط واليأس .
الثالثة : التباين الموضوعي في مادة ذكر المؤمنين والثناء عليهم وذكر الكفار بصيغة الذم و الوعيد.
إذ أختتمت الآية السابقة ببغض الله عز وجل للظالمين ومن لا يحبه الله عز وجل يخسر الدنيا والآخرة، لأن علة الحرمان من الحب الإلهي في المقام مركبة من وجوه:
الأول : تلبس الظالم بالظلم للنفس والغير.
الثاني : ركوب الظالم للمبغوض من الأفعال.
الثالث : إصرار الكافر على الظلم، ومحاربة الإسلام، وقتل النفس بغير حق.
الرابع : سوء عاقبة الظالم يوم القيامة وسعيه للإضرار بنفسه ودفعها وبدنه إلى نار الجحيم .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ( ).
وجاءت آية البحث لبعث النفرة في النفوس من الظالم، وواقية من الركون إليه.
وأختتمت الآية السابقة بصيغة النفي [لاَ يُحِبُّ] بينما أختتمت هذه الآية بصيغة الإيجاب [يَمْحَقَ]مع إتحاد الموضوع بابتلاء الكفار بالضرر والنقص وقلة البركة إذ يحتمل عدم حب الله من جهة الأثر الفعلي وجوهاً :
الأول :ترتب الأثر على عدم حب الله للظالم بازدراء وأذى الظالمين، ويحتمل هذا الأذى وجوهاً :
الأولى : أذى الكفار في الدنيا .
الثانية : أذى وعذاب الكفار في الآخرة ، فمن لا يحبه الله يلقى العقاب والعذاب الأليم في الآخرة .
الثالثة : تلقي الظالمين الأذى في الدنيا والآخرة .
الثاني : عدم ترتب الأثر الفعلي على بغض الله عز وجل للظالمين لسعة رحمة الله وعظيم حلمه.
الثالث : عدم حب الله للظالمين إنذار ودعوة للتوبة والإنابة .
الرابع : إنه مقدمة لنزول العذاب بالظالمين ، فمن رحمة الله بالناس مجئ الآية السابقة بالإنذار من الظلم وتحذير هذه الآية من المحق المترتب عليه .
الخامس :الركون للظالمين ظلم وتعد .
وباستثناء الوجه الثاني فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة ، فان قلت ورد في التنزيل [وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ] ( )، الجواب ليس من تعارض بين المغفرة والإمهال وبين عدم حب الله للظالمين .
ويفيد الجمع بين الآيتين أن باب التوبة مفتوح للناس جميعاً وأن الله عز وجل يمهل الناس فيصاحب الإمهال العفو والمغفرة .
صلة(ويمحق الكافرين) بالآية السابقة
وفيها مسائل:
الأولى : يحتمل أثر مس المؤمنين بالقرح وجهين متضادين:
الأول : إصابة الكفار بالوهن واليأس.
الثاني : إزدياد قوة وشَكيمة الكفار، وطمعهم بإصابة المؤمنين بجراحات أخرى أكثر شدة.
والصحيح هو الأول، وفيه بيان وتفسير لقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، بلحاظ أن إصابة المسلمين بالجراحات والكلوم سبب لصبرهم وسعيهم للنصر والغلبة، وأن تعدي الكفار عليهم مناسبة لهدم صروح الضلالة، وإزاحة لمفاهيم الشرك، ومن مصاديق رمي الكفار بالمحق ، ضعف عزائمهم ، وتخلف شكيمتهم عن مراتب الشدة .
فأبى الله عز وجل إلا الإختبار والإمتحان للناس في الدنيا، وهذا الإختبار مطلق لا تستثنى منه طائفة أو أمة وهو إختبار يومي يشمل المسلمين مجتمعين ومتفرقين، قال تعالى[الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( ).
وتدعو آية البحث المسلمين إلى الصبر عند سقوط القتلى والجرحى منهم فهو ملحمة فيها العز والنصر في الدنيا، والأجر والثواب في الآخرة.
وهل يمكن أن يأتي النصر من غير خسارة وتضحيات، الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وترشح الفضل الإلهي على المؤمنين، وهذا الفضل لا يختص بهم وإن صارت الدولة لهم، بل ينتفع الناس جميعاً من دولة الإسلام ، لما فيها من أسباب الصلاح وإمامة الناس في سبل الهدى، وإتخاذ الدولة بلغة لإقامة الفرائض العبادية .
الثانية : القرح والجراحات نوع مفاعلة يتقوم بطرفين، أحدهما فاعل والآخر يقع عليه أثر الفعل، فاصابت المؤمنين بالقرح نتيجة تعدي وظلم الكافرين يترشح عنها الإثم عليهم، وصيرورة هذا القرح سبباً بنزول البلاء والعذاب الأليم بهم، وتقدير الآية: إن يمسسكم قرح يحل العذاب بالكفار).
ليكون من آيات الله عز وجل عدم خسارة المؤمنين حتى عند الإصابة بالجراحات وسقوط القتلى والأمور بخواتيمها، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ]( ).
الثالثة : لقد إبتدأ مصداق قوله تعالى(ويمحق الكافرين) من ساعة وقوع المواجهة والمبارزة بينهم وبين المسلمين، وكانت أول مبارزة بين المسلمين والكفار في معركة بدر آية إعجازية بفضل الله، وشاهداً على تصريف الأيام بين الناس، وتحول الريح والغلبة للمؤمنين، وهو من مصاديق قوله تعالى[كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي]( )، من وجوه:
الأول : أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بعدم الإبتداء بالقتال ولكن مع اليقظة والحذر، فقد أوصاهم أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: إن إكتنفكم القوم فأنضحوهم عنكم بالنبل) ( ).
وتزاحم الفريقان وإقترب بعضهم من بعض، وعن أبي أسيد: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: إذا أكثبوكم( ) فارموا بالنبل واستبقوا نبلكم)( )، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم)
الثاني : توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء والمسألة، فحالما رأى قريشاً زاحفة إلى ميدان المعركة، قال متضرعاً: اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك، اللّهُمّ فَنَصْرُك الّذِي وَعَدْتنِي ، اللّهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ)( ).
وفي رواية أنه صلى الله عليه وآله وسلم: قَامَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَاسْتَنْصَرَ رَبّهُ وَقَالَ اللّهُمّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللّهُمّ إنّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ”)( ).
الثالث : وقوع أول مبارزة فردية وجماعية بطلب من الكفار، فأول من برز من الكفار الأسود بن عبد الأسد المخزومي.
قال ابن إسحاق: وكان رجلاً شرسا سيئ الخلق فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه.
وخرج إليه حمزة بن عبدالمطلب، فلما إلتقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد، زعم، أن تبر يمينه، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض( )
وكاد القوم يرجعون فلا تقع الحرب أو تنشب المعركة، ولكن المشركين تناجوا فيما بينهم بأن بعث أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي وحرضه على إعلان الطلب بثأر أخيه فهاج المشركون.
أما المبارزة الجماعية، فقد وقعت بعد المسايفة الشخصية أعلاه بأن خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وإبنه الوليد بن عتبة من الصف، ودعا إلى المبارزة، فتطوع ثلاثة من الأنصار لقتالهم، فقال عتبة ما لنا بكم من حاجة، ونادوا: يامحمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
ليكون درساً في تضحية وتفاني المؤمنين في القتال، وطلبهم المبارزة وشوقهم إلى الشهادة في سبيل الله.
وقال ابن عقبة وابن عائذ حين ذكرا خروج الانصار قال فاستحيا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لانه كان اول قتال التقى فيه المسلمون والمشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد معهم فأحب النبي صلى الله عليه وسلم ان تكون الشوكة لبنى عمه فناداهم النبي صلى الله عليه وسلم ان ارجعوا إلى مصافكم وليقم إليهم بنو عمهم ( ).
وليس من إستحياء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في المقام، لأن خروج النفر( ) من الأنصار كان على وجوه :
الأول :أنه من السنة التقريرية وإمضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفعل الأنصار الثلاثة .
الثاني :كان درساً عقائدياً يبين تدافع وتسابق المؤمنين للقتال. الثالث : إنه زاجر لكفار قريش عن العودة للزحف على المدينة ولكنهم لم يتعظوا.
الرابع: لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لقريش والأجيال المتعاقبة من الناس وإلى يوم القيامة أنه لم يكره أحداً على القتال والمبارزة .
الخامس :عدم طلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأنصار أكثر من العهد على إيوائه وعدم تسليمه للكفار، ولكنهم رأوا المعجزات وهو بين ظهرانيهم فسبقوا إلى المبارزة ورجاء إحدى الحسنيين ولم يلمهم أحد من الأنصار على هذا الخروج.
ومن الإعجاز أن التأريخ كتب للثلاثة من الأنصار الذين برزوا ملحمة التحدي والفداء وهم عوف ومعوذ ابنا الحرث وأمهما عفراء، وعبد الله بن رواحة.
يدل إستفتاح أبي جهل اللهم : أقطعنا للرحم على مواخذتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو أنه قدم رجالاً من بني هاشم ومن قريش مطلقاً للقتال.
ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار بالخروج للمبارزة، فحينما طلب عتبة خروج الأكفاء من قريش صارت الحجة على كفار قريش بأنهم هم الذين يقطعون الرحم بلحاظ أن القتال والإقتتال يؤدي في الغالب إلى إصابة أحد الطرفين أو هما معاً، وهو الذي تضمنته الآية السابقة[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ] ( )،
الرابعة : يدل قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] بالدلالة التضمنية على بقاء المسلمين في مقامات الإيمان وتلقيهم الأذى بصبر، وفيه حرب على الكفر ومفاهيم الضلالة، وتلك آية في مقدمات تداول الأيام بين الناس وإشارة إلى رجحان كفة المؤمنين فيها.
وجاءت الآية السابقة بقانون يتغشى بقاع الأرض، وأفراد الزمان كلها وهو(وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) ( ) بلحاظ أن الأيام تتعلق بأفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل، ويدل لفظ الناس على العموم الزماني والمكاني وأن كل إنسان له حصة في تداول الأيام لا أقل بالتنعم بالحياة والرزق والطيبات.
وفي قوله تعالى[إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا]( )، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكاً)( ).
وتقدم الحديث في الجزء قبل السابق ليكون إخبار الآية السابقة عن مداولة وتصريف الأيام بين الناس وعداً كريماً من عند الله عز وجل لكل إنسان بأنه ينال نصيباً من الدنيا كفرد مستقل بذاته وشأنه، وكواحد من جماعة أو طائفة إلى جانب ما يترشح عليه من الشأن والنفع من إقبال الأيام على ذويه وأهله وقومه بإستثناء الكفار فإن الشأن الذي يأتي لبعضهم يكون سبباً للإثم، ووبالاً عليه وعلى الكفار مجتمعين ومتفرقين وهو من مصاديق قوله تعالى(ويمحق الكافرين) .
فسواء كانت الدولة لأهل الإيمان أو للكفار فان صرح الإيمان شامخ بينما يأخذ الكفر في التقهقر والتراجع في المجتمعات والنفوس.
وتقدير الجمع بين الآيتين (وان يمسسكم قرح يمحق الكافرين) وفيه مسائل:
الأولى : يأتى الأذى العرضي للمسلمين بصيغة المس والجرح فيكون الأثر هو محو وذهاب الكفر، ترى كيف يزول ويمحى الكفر مع أذى المؤمنين، الجواب من وجوه:
الأول : ثبات المسلمين في منازل التقوى.
الثاني : تآزر وتعاون وتكافل المسلمين عند إصابتهم بالقرح والجراحات.
الثالث : إمتلاء نفوس الكفار باليأس والقنوط.
الرابع : إتعاظ فريق من الناس بالآيات والمعجزات بسلامة المسلمين من الضرر الفادح والخسارة الكبيرة في القتال ودخولهم الإسلام بلحاظ الرجحان حسب العدة والعدد، كما في معركة بدر وأحد والخندق، وكثرة جيش الكفار وعدتهم، وخيلهم فيها ، قال تعالى[كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
الخامس : نزول المدد من السماء لنصرة المؤمنين، ومجئ الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لتثبيت دعائم التوحيد في الأرض وإلى يوم القيامة.
الثانية : تفضل الله بنزول الملائكة لنصرة المسلمين في معارك الإسلام الأولى وهو سبحانه يمحق الكافرين إذا أصاب المؤمنين قرح وجراحات في المعارك.
الثالثة : في إخبار آية البحث عن محق الكافرين ومحو مفاهيم الضلالة وعد كريم من عند الله عز وجل تهيئة مقدمات الدعوة إلى الله ، وبيان أحكام الشريعة .
الرابعة : هل يختص محق الكافرين بمداولة الأيام بين الناس، الجواب لا، فمن سنة الله عز وجل، رمي الكفر بالضعف وجعله واهناً منحسراً، لذا جاء التعليل في الآية السابقة [وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] مقترناً بحرف العطف الواو مع عدم وجود تعليل قبله يصلح أن يكون معطوفاً عليه لغة وصناعة نحوية لبيان حقيقة وهي من خصائص الحياة الدنيا أنها مناسبة لعلم الله بالذين آمنوا وإتخاذ شهداء منهم، وتزكيتهم وتطهيرهم، وإزاحة الكفار عن مقدمات الرياسة والشأن، ويكون تقدير الجمع بين الآيتين: إن يمسسكم قرح ليمحق الله الكافرين.
وهو من إنتقام الله عز وجل وبطشه بالظالمين، وفيه بيان وتفسير لسوء عاقبتهم كما في قوله تعالى[فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
والنسبة بين الكفار والمكذبين عموم وخصوص مطلق، إذ أن الكفار أعم فيشمل العصاة التاركين إتباع الحق وإتيان الفرائض جحوداً وعناداً مع التسليم بوجوبها، وقد يقال أن النسبة بين الكفار والمكذبين هي التساوي.
ولكن الآية جاءت بالمعنى الأعم لبيان إرادة الله عز وجل تغشي الأرض بمفاهيم الإيمان وعدم إجتماع الضدين فيها وهي ملك له سبحانه، تفضل فجعل الأيام وعاء زمانياً لتزكية المؤمنين ومحق الكاذبين.
وفي الجمع بين إصابة المسلمين بالجراحات ونقص وهلاك الكافرين مسائل:
الأولى : بعث السكينة في نفوس المسلمين، وسلامتهم من الفزع عند سقوط الشهداء وإصابتهم بالجراحات، فحينما تحل الخسارة والعدو حاضر أو أنه يهدد ويتوعد قد يصيب فريق من المسلمين الخوف والفزع فجاءت الآية بالبشارة للمسلمين بأن الكفار في نقص وضعف.
الثانية : حث المسلمين على الصبر الذي وردت الآيات بالأمر به، ليكون من إعجاز القرآن الأمر بالأمر والإعانة على الإمتثال له، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا]( )، وبينت آية البحث أن خسارة الكفار بسبب ما يلحق بالمسلمين من الكلوم والجراحات أشد عليهم، لأن عاقبة الكفار هي المحق والوهن.
الثالثة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الرحمة للناس جميعاً، ومن مصاديق الرحمة والإنذار والتخويف والوعيد والخصومة والصراع بين الحق والباطل ،ويدل عليه منطوق ومفهوم آية البحث والسياق من وجوه:
الوجه الأول : زجر الكفار عن التعدي على المؤمنين.
الوجه الثاني : إخبار الكفار بأن المؤمنين بعين الله وعنايته ويتغشاهم لطفه، ولابد من نزول العقاب بالذين يعتدون عليهم، ويحتمل هذا العذاب ثلاث شعب:
الأولى : نزول العقاب بالكفار في الحياة الدنيا، وهو على أقسام:
الأول : الفورية بنزول العقاب بالكفار ساعة المعركة، ومنه نزول الملائكة للبطش بالكفار، كما في واقعة حنين، إذ قال الله تعالى[وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( )، فعذبهم الله بالقتل والأسر، وأمد الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بخمسة آلاف من الملائكة وقيل ثمانية آلاف .
وبعد معركة حنين (قدم وفد هوازن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم أربعة عشر رجلا ورأسهم زهير بن صرد وفيهم أبو يرقان عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة فسألوه أن يمن عليهم بالسبي فقال أبناؤكم ونساؤكم أحب اليكم أم أموالكم قالوا ما كنا نعدل بالاحساب شيئا فقال ،أما مالى ولبنى عبدالمطلب فهو لكم وسأسأل لكم الناس فقال المهاجرون والانصار ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الاقرع بن حابس أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن أما أنا وبنو فزارة فلا وقال العباس بن مرداس أما أنا وبنو سليم فلا , وهل في إمتناعهم هذا معصية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله يقول [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ]( )الجواب لا ، فليس هو معصية لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال سأسأل , وفيه دلالة على تملكهم للسبايا وأن النبي لا يريد أن يأمرهم أو يكرههم على التخلي عنها ، وفيه إكرام للمجاهدين وجعل موضوعية لرغبتهم بالحيازة بالحق .
ويدل الحديث على رجوعهم عن هذا الإمتناع ليكون من تمحيص المسلمين وتنقية أقوالهم .
فقالت بنو سليم ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال العباس بن مرداس وهنتموني وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين وقد كنت استأنيتُ سبيهم وقد خيرتم فلم يعدلوا بالابناء والنساء شيئا فمن كان عنده منهن شئ فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك ومن أبى فليرد عليهم وليكن ذلك فرضا علينا ست فرائض من أول ما يفئ الله علينا قالوا رضينا وسلمنا فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن فانه أبى أن يرد عجوزا صارت في يديه منهم ثم ردها بعد ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كسى السبى قبطية قبطية( ).
المندوحة والسعة وتأخير عقاب الكفار رجاء توبتهم.
التعدد والتعاقب في ضروب العقاب التي تنزل بالكفار فمنها ما يكون حالاً ومنها ما يأتي متأخراً، لتكون دروساً ومواعظ للذي ينزل به العقاب ولطائفته والناس جميعاً.
الثانية : نزول العذاب بالكافر في عالم البرزخ، فيأتيه منكر ونكير ويذّكرانه بتعديه على المؤمنين الذّين صدقوا بالنبوة والتنزيل.
الثالثة : إرجاء عذاب الكفار إلى يوم القيامة وساعة الحساب، قال تعالى بخصوص وقائع يوم القيامة[إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
الوجه الثالث : مجئ الآية بالتصريح بالوعيد للكفار بالمحق والإذهاب فقد يقتل الكفار بعض المؤمنين، وقد يربحون معركة ويجدون حليفاً، ولكن الآية تتوعدهم بالمحق والنقص والوهن، فان قيل لا يستمع الكفار إلى القرآن، ولا يقرون بأنه تنزيل من عند الله ، فما هو نفع الوعيد فيه، الجواب من وجوه:
الأول : عدم الإقرار بأنه تنزيل أعم من عدم الإنصات والإتعاظ.
الثاني : الوعيد إخبار وإنذار عما سيقع من الضرر ،وتبين الأيام المصداق الفعلي لهذا الوعيد، وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ).
وتقدير الجمع بين الآيتين: وتلك الأيام نداولها بين الناس فنمحق الكافرين.
الثالث : إصرار الكفار على الجحود، وإمتناعهم عن التدبر في المعجزات حجة عليهم، وفي التنزيل حكاية عن الكفار[وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
الرابع : من خصائص الحياة الدنيا أنها دار الحجة والبرهان، فأبى الله عز وجل إلا أن يبين للناس مجتمعين ومتفرقين الحسن الذاتي والغيري للإيمان، والقبح الذاتي والغيري للكفر، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الخامس : تعدد سبل وصول البلاغ والوعيد إلى الناس جميعاً ويصل إليهم من جهات:
الأولى : نزول آيات القرآن، وما فيها من البشارة والإنذار.
الثانية : تلاوة المسلمين لآيات القرآن واستماع الناس لها طوعاً وإنطباقاً، وهو من الإعجاز في قراءة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة على نحو الوجوب العيني، والجهر بالقراءة في صلاة الصبح والمغرب والعشاء فيرى الناس المسلمين يقفون في صفوف متراصة ليقرأوا[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، لبيان أن الإسلام دين الرحمة والمحبة، وفيه تسليم باجتماع الخلائق في العبودية لله عز وجل، أن النطق الجماعي من قبل المسلمين كل يوم بالحمد لله من مقدمات الخشوع والخضوع وتأكيد حقيقة ان الله رب الناس والعالمين جميعاً دعوة أخاء وسلام ومحبة للناس جميعاً بالقول والفعل ولواء لنبذ الضعف والإرهاب والطائفية وأسباب الشقاق والخصومة والقتال لأمور الدنيا ومباهجها.
الثالثة : عمل المسلمين بالمضامين القدسية لآيات القرآن، وفيه ترغيب للناس بالعمل بما أمر الله عز وجل وإجتناب ما نهى عنه ، وهو من معاني العموم وإرادة الناس جميعاً في بشارات وإنذارات القرآن .
الرابعة : مجئ السنة النبوية القولية والفعلية بالتخويف والوعيد للكفار.
ويدل خطاب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( )، بالدلالة التضمنية على بلوغ آيات النبوة للناس جميعاً بفضل الله عز وجل، وتسخير الأسباب، وجذب الأسماع، وإقامة البرهان، إذ أن لفظ (كافة) في الآية سور الموجبة الكلية.
ومن الإعجاز في آية البحث أنها مع قلة كلماتها تتضمن البشارة بتمحيص المؤمنين، والإنذار رمي أهل الكفر بالنقص والضعف وتفرق الأتباع، وإصابتهم بالقتل في المعارك، كما في قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، والقتل والجراحات التي تصيب الكفار من مصاديق هذا القطع.
الصلة بين قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ) وبين هذه الآية
وفيها مسائل :
الأولى : جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الإنشائية ولغة الخطاب، بينما وردت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية .
الثانية : تضمنت الآية أعلاه النهي المتعدد، والمتبادر من النهي والزجر عن المعاصي والأفعال القبيحة كأكل الربا والزنا وشرب الخمر بينما جاء النهي في آية السياق عن كيفية نفسانية تتعلق بمقدمات وحال وآثار القتال .
فمن إعجاز الآية أعلاه تعلق النهي بذات المسلمين متفرقين ومجتمعين، أما حال التفرق فظاهر بالسلامة من الوهن والجبن ، وأما الإجتماع في المقام ، فيتجلى بأمور :
الأول : العزم على الدفاع عن الإسلام .
الثاني : الصبر في ميادين القتال .
الثالث: السلامة من النفاق وصبغة إخفاء الضلالة والكفر المذمومة.
الرابع :التقيد بأحكام الحلال والحرام ، والندب إلى فعل الخيرات ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الخامس : إجتناب القيام بالتوهين أو بث روح الفزع والخوف بين المقاتلين أو عند عوائلهم ومن خلفهم .
السادس : إجتناب الحزن عند وقوع الخسارة ومصيبة فقد الأحبة ، وترك الإقامة على الحزن خاصة مع إنتفاء موضوعه لصيرورة الشهداء [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( )لبيان أن حياتهم بعد قتلهم خير مما قبله من وجوه :
الأول :إرادة الحياة الأبدية في الآخرة .
الثاني : وصف حياة الشهداء بأنهم عند الله ، وكأنهم في ضيافة دائمة عند الباري عز وجل ، كما يطلق على وفد الحاج ضيوف الرحمن .
الثالث : إتصال الرزق من الله عز وجل للشهداء وعدم تقييده كيفاً أو كماً .
وفي المرسل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الشهداء ثلاثة ، فأدنى الشهداء عند الله منزلة رجل خرج منبوذاً بنفسه وماله لا يريد أن يَقتل ولا يُقتل أتاه سهم غرب فأصابه فأول قطرة تقطر من دمه يغفر له ما تقدم من ذنبه ، ثم يهبط الله جسداً من السماء يجعل فيه روحه ثم يصعد به إلى الله ، فما يمر بسماء من السموات إلا شيَّعته الملائكة حتى ينتهي إلى الله ، فإذا انتهى به وقع ساجدا ، ثم يؤمر به فيكسى سبعين حلة من الاستبرق ، ثم يقال : اذهبوا به إلى إخوانه من الشهداء فاجعلوه معهم ، فيؤتى به إليهم وهم في قبة خضراء عند باب الجنة يخرج عليهم غداؤهم من الجنة( ).
الثالثة : تتصف كل من الآيتين بقلة الكلمات مع تعدد الأحكام والمضامين القدسية فيها التي تشمل الدنيا والآخرة.
الرابعة : لما جاءت آية السياق بالنهي عن الوهن والحزن ، بينت آية البحث بأن هذا النهي من التمحيص والتزكية وأن الله عز وجل يطهر المسلمين بأمرين :
الأول : التنزه عن الوهن والضعف .
الثاني : العصمة من الحزن وإستيلائه على النفوس .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين السلامة والعصمة من موضوعية الحزن في العزم والإقدام ومنازل الدفاع ، وكل من الوهن والحزن برزخ دون تحقيق الغايات الحميدة في الدعوة إلى الله عز وجل .
ويدل مجئ قريش في معركة أحد بثلاث أضعاف عددهم يوم بدر على عدم الوهن أو الحزن لما أصابهم من الخسارة والخزي يوم بدر ، أو أنهم تستروا على وهنهم واخفوا حزنهم ، وسعوا إلى الثأر والإنتقام مع إدراكهم بأنهم على الباطل وأنهم ظالمون لأنفسهم ، مما يملي على المسلمين التحلي بالصبر والعزم على الدفاع وقهر الكفار ، ليكون عدم الوهن والحزن سلاحاً بيد المسلمين ، وزاجراً للكافرين وسبباً لفضح خذلانهم وزيف إدعائهم ،فكما أن المنافقين يخفون الكفر ويظهرون الإيمان ، فكذا الكفار يخفون الوهن والحزن ويظهرون العزم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويل للمصِّرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون( ).
وكانت شجاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثباته في الميدان سبباً لدفع الوهن والحزن عن نفوس المؤمنين كما في معركة أحد وبقائه في موضعه مع نفر من أهل بيته وأصحابه إلى أن رجع إليه عامة أصحابه ، وكما في معركة حنين إذ ثبت حيث مرت عليه كتائب المسلمين المتقدمة منسحبة .
وهل هذا الثبات من السنة الجواب نعم أنه من السنة النبوية الدفاعية ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الخامسة : لما أراد الله عز وجل تمحيص وتطهير المؤمنين تفضل وهداهم إلى سبيل من سبل التطهير، ويتقوم بأمرين:
الأول : عدم الوهن والضعف، للتنافي والتضاد بين الوهن والإيمان، فمن كان مؤمناً لا يجبن أو يضعف في طاعة الله ورسوله.
الثاني : التسليم بأمر الله والرضا بقضائه، قال تعالى[قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا] ( ).
وفي الجمع بين الآيتين حث للمؤمنين على التآزر والتعاون في طرد الوهن ودفع الحزن، بلحاظ أن كل واحد منهم يريد لنفسه ولاخيه المؤمن التزكية والتطهير (لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: حب لأخيك كما تحب لنفسك).
وهل من موضوعية لتداول الأيام في تمحيص المؤمنين، الجواب نعم، وفيه وجوه:
الأول : عندما تكون الدولة للمؤمنين يكون تطهير وتزكية المؤمنين أقرب وأسنى و لا يصيب المسلمين الوهن والحزن.
الثاني : عندما تكون الدولة للكافرين يدّب الوهن والحزن إلى المؤمنين وهو على شعبتين:
الأولى : يدب الوهن للمؤمنين على نحو الأفراد والأشخاص.
الثانية : يتسرب الوهن والحزن إلى المؤمنين مجتمعين ويظهر على عزائمهم .
الثالث : لا يدب الوهن والحزن إلى المؤمنين حتى في حال دولة الكفار، وإنصراف الأيام عن أهل الإيمان.
والصحيح هو الأول والثالث لأصالة الإطلاق في النهي الوارد في قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] والذي لا ينخرم في حال اليسر أو العسر، وأيام الشأن والسلطان، وعند الإصابة بالخسارة، وليس من دليل على تحقيق النصر للكفار حتى في معركة أحد والتي وإن خسر فيها المسلمون جولة لكنهم لم يخسروا المعركة كلها إذ كانت بدايتها هزيمة منكرة للكفار، ثم مالت الريح وتغيرت الحال بسبب خطأ فادح إرتكبه غالب الرماة، وفداحته من وجوه:
الأول : عدم تقيد الرماة بالبقاء في مواضعهم التي تم إختيارهم لها، كما في قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
ومن إعجاز الآية أعلاه استحقاق الذين خرجوا لمعركة أحد صفات، تتضمن كل واحدة فيها الإكرام والتشريف:
الأولى : صفة الإيمان.
الثانية : صفة القتال في سبيل الله.
الثالثة : تعيين موضع كل مؤمن من أهل البيت والصحابة بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الأمر من السنة الدفاعية( )، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، الجواب نعم، وفيه تشريف إضافي للمؤمنين، وحث لهم على التقييد بمواضعهم، وعدم مغادرتهم لها في أي حال من الأحوال، وهل فيه إثم زائد على الرماة الذين غادروا مواضعهم، الجواب إن الله عز وجل غفور رحيم، لذا لم يرد في السنة النبوية لوم متجدد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة الذين تركوا مواقعهم طمعاً بالغنيمة، وكانوا سبباً في الخسارة التي لحقت المسلمين، وعدم اللوم هذا شاهد على أمور:
الأول : كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي وعالم الملكوت.
الثاني : إكرام المسلمين الذين شاركوا بالقتال.
الثالث : إنه مصداق لتسميتهم بالمؤمنين في قوله تعالى[تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
الرابع : كانت الخسارة في أحد موعظة وعبرة.
الخامس : تدارك المؤمنين في ذات المعركة بالرجوع إلى القتال والإستبسال فيه.
السادس : تجدد مشاركة المسلمين في معركة الخندق وغيرها.
ومن عادة القادة العسكريين صب اللوم على الذي هو أدنى منهم وجعله سبباً للخسارة والبطش به ومعاقبته، ولم يعاقب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحداً من أصحابه، وهذا القانون من أسباب إقدام وحشي قاتل حمزة على دخول الإسلام , وصفح النبي عنه وقبول إسلامه.
السادسة : الرضا بالقتال في سبيل الله قبل الخروج إلى ميدان المعركة، وفيه حجة لأصحاب معركة أحد وأنهم لم يخرجوا طمعاً في غنيمة أو لتحصيل مطالب دنيوية بل خرجوا لقتال مقيد بأنه في سبيل الله.
فان قلت لم يذكر في الآية أن القتال في سبيل الله، والجواب تدل عليه الآية بالدلالة التضمنية لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يعين مواضع المقاتلين فلابد أن التعيين في سبيل الله، وتدل عليه آيات أخرى والنصوص المستفيضة , قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ]( ).
ومن إعجاز نظم هذه الآيات تقدم النهي عن الوهن والحزن على التمحيص والتطهير والتزكية، لإرادة تنمية ملكة التقوى وإصلاح المؤمنين للتمحيص، فلا تخبر الآيات عن التمحيص والتطهير ثم يأتي النهي عن الوهن والحزن، لما فيه من المشقة بالعسر، ولعل فيه تخلفاً عن أسمى معاني التمحيص.
وتحتمل النسبة في لغة الخطاب في الآية وجوهاً:
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين :
الأولى : الذين آمنوا أعم من المأمورين بعدم الوهن والحزن.
الثانية : الذين ورد نهيهم عن الوهن في آية السياق أعم من الذين آمنوا الذين ذكرتهم آية البحث.
الثاني : نسبة التساوي وأن الذين نهوا عن الوهن والحزن هم أنفسهم الذين أخبرت آية البحث عن تمحيصهم وتزكيتهم وتطهيرهم.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، وبينهما مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الرابع : بين الذين آمنوا الذين يمحصون وبين الذين جاءت آية السياق بنهيهم عن الوهن والضعف تباين وتضاد.
والصحيح هو الثاني وأن النسبة بينهما هي التساوي، إذ يتوجه النهي عن الوهن والحزن لجميع الذين آمنوا، وفيه آية في إصلاح الذين نطقوا بالشهادتين لصيغ التقوى، وجعل ملكة التضحية في سبيل الله راسخة في نفوسهم، وبما يبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
فان قلت إن لفظ الذين آمنوا عام يشمل كل الذين آمنوا بالدعوة ظاهراً ويدخل فيهم المنافقون، والجواب هذا صحيح، ليكون قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] ( )، على وجوه:
الأول : تنزيه المسلمين من درن النفاق، وهل هذا التنزيه من مصاديق قوله تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا]( )،الجواب إنه مثله لبيان قانون وهو تعدد ضروب رحمة الله عز وجل بالمسلمين بتعدد سبل التطهير والتزكية التي تخلصهم من الشوائب والأدران .
الثاني : كل من آية البحث والسياق حرب على النفاق.
الثالث : حث المنافقين على التنزه منه.
الرابع : بيان رحمة الله عز وجل بالمسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأتيهم التمحيص بعد النهي عن الوهن والحزن.
الخامس : إقتباس المسلمين بعضهم من بعض سنن الصبر، والأخلاق الحميدة، وآداب التوكل على الله، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
السادس : تجدد العزم على عدم الوهن والحزن برزخ دون التلبس بالنفاق وأوهام الضلالة ،فمن معاني الجمع بين الآيتين عصمة المسلمين من النفاق، وسلامة نفوسهم من إستحواذ الشك والريب عليها، ويحتمل النهي عن الوهن والحزن في موضوعه وجوهاً:
الأول : المراد الكيفية النفسانية للمسلمين مجتمعين ومتفرقين.
الثاني : المقصود الأثر القولي والفعلي المترشح عن الإمتناع عن الوهن والحزن.
الثالث : العنوان الجامع لحال النفوس، وأثر الحرص على عدم الوهن والحزن من عالم الفعل بما يصلح المسلمين لقواعد التزكية والتطهير.
والصحيح هو الأخير، وهو من المنافع العظيمة للآية القرآنية ورشحات مضامينها القدسية ومصاديق قوله [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ) بلحاظ تحصيل الإنتفاع الأمثل من تلاوة الآية القرآنية والتدبر في معانيها.
وفي الإمتثال والتقيد والنهي عن الوهن والحزن وجوه:
الأول : إنه أمر عدمي لإرادة إنعدام كل من الوهن والحزن.
الثاني : عدم الوهن والحزن أمر وجودي.
الثالث : التفصيل فمرة يكون أمراً وجوديا مع التعدد والثبات عليه، وأخرى يكون عدمياً ،كما لو ترتب على أمر أو فعل ترتب المعلول على علته.
والصحيح هو الثاني، وفيه الأجر والثواب من وجوه:
الأول : قصد المسلم الإمتثال لما نهى الله عز وجل عنه.
الثاني : تجلي مصاديق الإقدام والتفاؤل والرضا بما كتب الله عز وجل على المسلمين في حياتهم العامة، ويتجلى من جهات:
الأولى : أداء المسلمين لمناسكهم العبادية من غير نقصان أو تحريف أو تبديل.
الثانية : تقيد المسلمين بأوقات الفرائض وعدم المخالفة فيها.
الثالث : شوق المسلمين إلى لقاء العدو، وتلقيهم الجراحات والكلوم بصبر واستبشار بفضل الله والثواب العظيم على الأذى في مرضاة الله.
الرابع : إجتناب المسلمين للوهن والحزن مقدمة للنصر والغلبة في المعارك لما فيه من قوة الشكيمة.
الخامس : سلامة المسلمين من الوهن والحزن باعث للوهن والحزن في قلوب الكفار، وهل هو من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر( )، أم أن الرعب أمر مستقل قائم بذاته.
الجواب هو الأول إذ أن إظهار المسلمين العزم على القتال، والتفاني في الدفاع عن الإسلام والرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبب لإمتلاء نفوس الكفار باليأس، والخشية من لقاء المؤمنين.
وإذا علم الناس أن وراءهم تمحيص وإختبار وأن للوهن أو ضده من القوة والعزيمة، والحزن أو عدمه موضوعية في هذا التمحيص، وأثر في مقامات الآخرة والثواب فيها، فإنهم يحرصون على السلامة من الوهن والضعف عند لقاء العدو، ولمعان السيوف، ويتحملون الجراحات والكلوم ويصبرون عليها لتترجح كفتهم في القتال لأن الكفار في حال وهن مستديم، ويصاحبهم الحزن على قتلاهم وبعد معركة بدر أخذوا يبكون قتلاهم ولكنهم إلتفتوا إلى ضرر إستحواذ الحزن على نفوسهم ومجتمعاتهم، فسعوا للثأر.
فان قلت يدل هذا الأمر على أن الكفار ليسوا مقيمين على حال الوهن والحزن، والجواب من وجوه:
الأولى : الآية ناظرة إلى حال المسلمين على نحو الخصوص بأن لا يهنوا ولا يحزنوا.
الثانية : يدل الخبر أعلاه على طغيان الحزن والحسرة على نفوس كفار قريش وظهوره على أقوالهم وأفعالهم حتى إلتفتوا إلى أنفسهم وأرادوا التدارك، وتجلت أمارات قلة مهابتهم بين القبائل، وصيرورة هزيمتهم سبباً لدخول أفواج من الناس الإسلام، ومنهم شطر من أولاد رؤساء الكفر أنفسهم .
وهل نفعهم هذا الإلتفات، الجواب لا، فقد صار وبالاً عليهم لأنهم إنتقلوا إلى حال التحريض على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وإعادة الكرة بالهجوم على المدينة المنورة وطمس معالم الإسلام، فكانت معركة أحد , فقال تعالى في نتيجتها[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ترى ما هي الصلة بين الوهن والحزن من جهة وبين الخيبة , الجواب هي الملازمة بينهما عند الكفار، لذا جاءت الآية أعلاه على نحو الوعيد للكفار، وفيه إعجاز متجدد فليس من تكافؤ بين أمة مؤمنة معصومة من الوهن والحزن والخوف وقوم كفار أصيبوا بقتل عدد كبير من فرسانهم على الضلالة وإنقلبوا إلى أهليهم خاسرين تملأ صدورهم الحسرة والأسى والعجز عن نيل ثأرهم يوم أحد من المسلمين الذين قهروهم وقتلوا أبطالهم وأسروا سبعين من رجالات قريش يوم بدر.
وذكرت الآية أعلاه إنقلاب الكفار، ولم تبين موضوع وجهة الإنقلاب ،وفيه وجوه:
الأول : إرادة ترك الكفار ميدان المعركة، والرجوع إلى مكة، إذ ركبوا الأبل وساقوا الخيل في دلالة على عزمهم على قطع مسافة طويلة بين جبل أحد وبين مكة وهي نحو خمسمائة كيلوا متراً، ولو أرادوا الإغارة على المدينة المنورة ومباغتة عوائل المؤمنين الذين كانوا في ميدان المعركة بأحد لركبوا الخيل، ومن شدة فزع وخوف كفار قريش أنهم يفكروا بالخديعة ويركبوا الخيل ولو لمسافة قصيرة مما يدل على عجزهم عن الإيحاء بأنهم قادرون على مواصلة القتال، وإذ إستعملوا المكر بمجئ خيلهم من خلف جيش المسلمين فانه لم يخطر على بالهم عند الهزيمة ركوب الخيل .
الثاني : المقصود الإنقلاب بالنوايا والعزائم إذ جاءوا بنية الثأر، فانقلبوا بهزيمة وخيبة.
الثالث : كأن مضامين الآية من العلة والمعلول، فقد أمد الله عز وجل المسلمين بالملائكة لنصرتهم ليقتل فرسان الكفار من قريش، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( )أي تصبروا في ملاقاة الكفار، وتتقوا الله بالإخلاص في الدفاع عن الإسلام وإطاعة الله ورسوله ، وذكرنا للرسول هنا لأمرين :
الأول : قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) والذي ورد في نظم هذه الآيات وخصوص معركة أحد .
الثاني : صياغة الخطاب في الآية [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ]ومسومين أي معَلمين بعلامات يعرفون بها .
والسيما : العلامة ،وورد الخبر بخصوص الملائكة عن [أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ أَنّهُ قَالَ أَعْلَمُوا عَلَى أَذْنَابِ خَيْلِهِمْ وَنَوَاصِيهَا بِصُوفِ أَبْيَضَ فَأَمّا ابن إسْحَاقَ فَقَالَ كَانَتْ سِيمَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ بِيضًا] ( ) .
وهل العلامات التي يضعها الملائكة مثل العلامات التي يضعها الفرسان والمقاتلين أم أنها ذات صبغة سماوية ظاهرة لمن تدبر فيها ، الجواب هو الثاني ، وهو من معاني [مُسَوِّمِينَ]ٍ في الآية وفي قوله تعالى [حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ] ( )أي معلمة بانها ليست من حجارة الدنيا ، وكذا نزول البطش بكفار قريش وفي الآية أعلاه ورد [عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : ان الله تعالى بعث اربعة أملاك في هلاك قوم لوط : جبرئيل وميكائيل واسرافيل وكروبيل ، فأتوا لوطا وهو في زراعة قرب القرية ، فسلموا عليه وهم متعممون فلما رآهم رأى لهم هيئة حسنة ،عليهم ثياب بيض وعمائم بيض ، فقال لهم : المنزل ؟ فقالوا : نعم ، فتقدمهم ومشوا خلفه فندم على عرضه المنزل عليهم ، فقال ؟ أى شئ صنعت آتى بهم قومى وانا أعرفهم ـ طائفة ـ فالتفت اليهم فقال لهم انكم : لتأتون شرارا من خلق الله ، فقال جبرئيل : لا تعجل عليهم حتى يشهد عليهم ثلث مرات ، فقال جبرئيل : هذه واحدة ،
ثم مضى ساعة ثم التفت اليهم فقال : انكم لتأتون شرارا من خلق الله ، فقال جبرئيل هذه اثنتين ثم مشى فلما بلغ باب المدينة التفت اليهم فقال : انكم لتأتون شرارا من خلق الله ، فقال جبرئيل : هذه الثلثة ، ثم دخل ودخلوا معه حتى دخل منزله ، فلما رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصعقت فلم يسمعوا ، فدخنت فلما رأوا الدخان اقبلوا يهرعون حتى جاؤا إلى الباب ، فنزلت المرأة اليهم فقالت
عنده قوم ما رأيت قوما قط أحسن هيئة منهم ، فجاؤا إلى الباب ليدخلوها فلما رآهم لوط قام اليهم فقال لهم : (يَاقَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) ( )وقال : (هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) ( ) فدعاهم إلى الحلال (قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ) ( ) قال لهم (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) ( ) .
فقال جبرئيل : لو يعلم أى قوة له قال : فكابروه حتى دخلوا البيت فصاح به جبرئيل ، فقال : يا لوط دعهم يدخلون فلما دخلوا أهوى جبرئيل باصبعه نحوهم فذهبت أعينهم وهو قول الله (فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) ( ) ثم ناداه جبرئيل : (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ) ( ) وقال له جبرئيل : انا بعثنا في اهلاكهم .
فقال : يا جبرئيل عجل (إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) ( ) فأمره فتحمل ومن معه الا امرأته ثم اقتلعها يعنى المدينة جبرئيل بجناحه من سبع ارضين ثم رفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح الكلاب وصراخ الديوك ، ثم قلبها وامطر عليها وعلى من حول المدينة حجارة من سجيل] ( ) ومن بقي من الكفار حياً منهم ينقلب إلى أهله كئيباً واهناً يجر أذيال الخزي , ويحتمل الضمير(هم) في(يكبتهم) وجوهاً:
الأول : عائدية الضمير إلى الذين كفروا الذين قاموا بالإعتداء على المسلمين يوم أحد.
الثاني : إرادة الذين كفروا جميعاً، فخسارة فريق منهم في المعركة كبت لهم جميعاً.
الثالث : المقصود الذين قتلوا من الكفار على نحو الترديد، وتقدير الآية: ليقطع الله طائفة من الكفار ويكبت الباقين ، فمن لم يقتل في المعركة بواسطة الملائكة أو سيوف المسلمين فانه يكبت ويخنس وينحسر أثره وينعدم ضرره.
والأصل هو الثاني ويكون الوجهان الآخران في طوله، ومن الإعجاز تسمية الآية السابقة كفار قريش الذين قاتلوا يوم بدر بلفظ (القوم) بقوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ…]( ).
بينما وردت الآية أعلاه بلفظ الذين كفروا، وبينه وبين لفظ القوم عموم وخصوص مطلق، فالكفار أعم، ليكون من معاني العموم في الآية أن خسارة الكفار في أي معركة خسارة لهم جميعاً وقطع لطرف وطائفة منهم فمن معاني الطرف في المقام أن الذين خرجوا إلى المعركة واجهة لعموم الكفار الذين جحدوا بالربوبية، وانكروا النبوة , قال تعالى[فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ] ( ).
صلة[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] بــ[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]
وفيها مسائل :
الأولى : جاءت آية السياق بصيغة الخطاب ، وجاءت آية البحث بلغة الخبر .
الثانية : إتخاذ موضوع الآيتين والمراد فيهما هم المسلمون والمسلمات.
الثالثة : كل من الآيتين إكرام وثناء على المسلمين .
الرابعة : آية السياق بشارة للمسلمين بتطهيرهم وتزكيتهم و[الأَعْلَوْنَ] مرتبة سامية لم تبلغها أمة إلا المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ويحتمل التمحيص في أوان نفعه وجوهاً :
الأول : إرادة الحياة الدنيا ، فالتمحيص نعمة في الدنيا تتجلى بحسن السمت وعمل الصالحات والنفرة من السيئات وإجتناب الصغيرة منها والكبيرة .
الثاني : المقصود من التطهير هو الفوز بالمغفرة في الدار الآخرة والفوز بالثواب على فعل الحسنات، قال تعالى [لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ] ( ).
الثالث : تغشي منافع التمحيص والغايات الحميدة منه عالم الدنيا والبرزخ وعرصات يوم القيامة .
والصحيح هو الثالث ، وقوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]مطلق في الدنيا والآخرة ،وهذا الإطلاق لا يتعارض مع إرادة الحياة الدنيا وأهوال المعارك فيها من النهي الوارد في قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا]( ) بلحاظ أن الدنيا دار عمل بلا حساب لأن عزم المؤمنين على السلامة والإحتراز من الوهن والحزن في الحياة الدنيا عمل صالح تترشح بركاته في الدنيا والآخرة ، ومنها بلوغ درجة العلو والرفعة بين الأمم .
وقد تقدم في تفسير الآية( ) ان نيل المسلمين لهذه المرتبة الرفيعة ليس ذماً للأمم الأخرى من الموحدين ، بلحاظ أن [الأَعْلَوْنَ] اسم تفضيل ويفيد الرجحان في الصبر والتضحية والفداء وبذل الوسع في سبيل الله .
ويحتمل الترتيب بين نيل المسلمين لمرتبة [الأَعْلَوْنَ] وبين تمحيصهم وتطهيرهم وجوهاً :
الأول : نال المسلمون مرتبة العلو بعد التمحيص والتطهير .
الثاني : التطهير والتمحيص متقدم زماناً وفعلاً على الإرتقاء لدرجة [الأَعْلَوْنَ] فلا ينال المسلمون هذه المرتبة السامية إلا بعد التمحيص والتطهير .
الثالث : الملازمة والتداخل بين مقامات علو المسلمين وتمحيصهم .
الرابع : كل من درجة العلو والتطهير سبب ومقدمة للآخر من غير ان يلزم الدور بينهما .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، والتباين الظاهر بينهما بدوي يزول بأدنى تأمل .
فمن اللطف الإلهي بالمسلمين وقوع تمحيصهم وتطهيرهم وهم في مرتبة العلو ، وفيه إزالة للموانع التي تحول دون فعلهم الصالحات وفيه إعانة لهم لأداء الفرائض والواجبات العبادية وهم أسياد أنفسهم ، ليس من سلطان قاهر يحول دون تعظيمهم لشعائر الله وليكون من معاني تمحيص وتطهير المسلمين سلامتهم من الإستضعاف والذل ،قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهم في حال طهر وتزكية لتكون هذه الحال مقدمة لإرتقائهم لدرجة العلو والرفعة بينم الأمم ، وفيه ترغيب متعدد للناس بدخول الإسلام ، فليس من فرد أو جماعة إلا ويحبون بلوغ السمو والرفعة والإرتقاء فيه فأخبرت الآية عن عدم وجود الوسائط بين الإنسان وبين مرتبة العلو إلا الإيمان والإقرار بالوحدانية لله عز وجل ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )تقريب الناس للعبادة وجعلهم يصلون إلى مراتب العلو والرفعة بالنطق بكلمة التوحيد والتسليم بالنبوة وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : خلق الله الجن والإنس لترى الخلائق عباداتهم وإنقيادهم لأمر الله .
الثاني : اللطف الإلهي لتيسير عبادة الجن والإنس لله عز وجل .
الثالث : الملازمة والمصاحبة بين الخلق والعبادة وليكون من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) أن الخلافة تتقوم بالتقوى، وأن العبادة لا تغادر الناس ما دامت السموات والأرض .
الرابع : إمكان بلوغ الناس لمرتبة العلو لأنها من رشحات العبادة والإخلاص فيها ، وفيه حجة على الناس جميعاً ، فلا يتخلف أحد عن هذه المرتبة إلا بتركه ما يجب عليه من العبادة .
الخامس : تأكيد حقيقة وهي أن الله عز وجل بيّن ضروب العبادة للناس وأنها جلية واضحة منذ أن خلق الله عز وجل الإنس والجن ، فلم يخلق آدم إلا وقد بين الله عز وجل ما يجب على الناس من الصلاة والزكاة والصيام والحج .
ومن أسرار تمحيص المؤمنين تعاهدهم لمرتبة الرفعة والعلو بين أهل الملل والنحل بالصلاح والتقوى ، وهو من الإعجاز بمجئ الآية بصيغة الجملة الخبرية والمبتدأ والخبر[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ليكون قانوناً متجدداً في كل زمان .
ومن وجوه نيل المسلمين لهذه المرتبة السامية المدد والعون الذي تفضل الله عز وجل به عليهم يوم بدر , قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )وإن قلت سلمنا أن النصر يوم بدر إرتقاء إلى مرتبة العلو والرفعة ، ولكن حال الذل هل هي من مرتبة العلو أم أنها سابقة لها خاصة وأن الآية أعلاه والشهادة للمسلمين بأنهم الأعلون نزلت في معركة أحد أي بعد معركة بدر بأكثر من سنة , الجواب تدل صيغة الجملة الإسمية في الآية على الدوام والإستدامة وأن العلو مصاحب للمسلمين في حال الحرب والسلم وحال الضعف والقوة وحال النصر والخسارة .
وتقدير آية ببدر : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وأنتم الأعلون .
ويحتمل نصر المسلمين بخصوص موضوعيته في تمحيصهم وجوهاً :
الأول : النصر يوم بدر مقدمة لتمحيص المسلمين .
الثاني : ذات النصر تمحيص وتطهير ، لتكون النسبة بين التمحيص والنصر هي العموم والخصوص المطلق ، فكل نصر هو تمحيص وليس العكس .
الثالث : التمحيص والتطهير مقدمة للنصر بلحاظ أنه سبب للقوة والمنعة ونماء لملكة التقوى في النفوس .
صلة[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] بــ[وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار، وتفضل وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين لجذب الناس لمنازل الإيمان والصلاح وإعانتهم بالتقريب إلى التمحيص والتطهير، وتحمل شطر من الأنبياء الأذى من قومهم ،وقتُل بعضهم بالدعوة إلى الله عز وجل لينحسر ذات الكفر، ويمحى من النفوس، ولكن فريقاً من الناس أصروا على الكفر، فلم يتركوا وشأنهم ومن خصائص ملك الله للسموات والأرض تنحية الكفار عن مقامات الرفعة، فيتفضل الله عز وجل بمحقهم وإذهاب البركة عنهم، وهل صرف الناس عن إتباعهم والإصغاء لهم من المحق، الجواب نعم، وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا من جهات:
الأولى : الحيلولة دون إزدياد عدد الكفار، وجعل برزخ دون ميل الناس لهم، وهو من محق الكافرين:
الثانية : ترغيب الناس جميعاً بالإيمان.
الثالثة : التخفيف عن المؤمنين بجعل الكفار في حال ضعف ووهن مستمرين، فان قلت يدل تأريخ الوقائع والحروب في بدايات الإسلامم على خلاف هذه القاعدة لمضاعفة جيوش الكفار في المعارك المتعاقبة، فعددهم في معركة بدر نحو ألف رجل، وعددهم في معركة أحد ثلاثة أضعاف هذا العدد، وعددهم في معركة الخندق أكثر من ثلاثة أضعافه في معركة أحد، وهو عشرة أضعاف مجموع عددهم في معركة بدر، ليس بين معركة بدر والخندق إلا سنتان وبضعة شهور ، وفيه وجوه:
الأول : ليس من ملازمة بين مضاعفة عدد الكفار في المعركة اللاحقة وبين محقهم.
الثاني : مضاعفة عدد الكفار في معارك الإسلام الأولى سبب لمحقهم وهو حجة وبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن نصره بآية عقلية وحسية عند الله ، قال سبحانه [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا] ( ).
الثالث : لقد وقعت المبارزة والقتال الشديد بين المسلمين والكفار في معركة بدر ثم أحد، أما في الخندق ومع كثرة جيوش الكفار فانهم إجتنبوا القتال والتلاحم بين الجيشين فلا موضوعية لكثرة جيش الكفار وكانت وبالاً وخزياً لهم وسبباً لكثرة المؤون والإنفاق على الجيوش التي صارت شهوداً على عجز الكفار عن التعدي على ثغر الإسلام.
الرابع : لم تدم كل من معركة بدر وأحد أكثر من يوم واحد، ليتغير بهما تأريخ الإنسانية ويصدق عليه أن مكة أم القرى وأن الأرض دحيت من تحت الكعبة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ببيان مصداق وهو أن اليوم الواحد مناسبة لتغيير وجه التأريخ بصيغ التخفيف عن المؤمنين وهو آية باهرة في قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] بلحاظ جهات:
الأولى : وقوع التمحيص والمحق في ساعة من نهار.
الثانية : صيرورة ساعة اللقاء، في يوم بدر وأحد مناراً لتمحيص وتطهير المؤمنين، وحجة على الكفار.
الثالثة : كل من معركة بدر وأحد مدرسة لجلب الناس لمنازل الإيمان، ودفعهم عن مواطن الكفر.
الرابعة : الفصل بين أهل الإيمان والكفار، وهذا الفصل مظهر للتباين بينهم، وسبب لتمحيص وتطهير المؤمنين لذا جاء الثناء في القرآن والسنة على أهل معركة بدر وأحد، وذم الكفار الذين قدموا إلى المدينة حرباً وتعدياً على الإسلام والمسلمين.
ومن الإعجاز الغيري للقرآن تسمية معركة بدر بالفرقان بقوله تعالى[وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) ويحتمل هذا التفريق وجوهاً:
الأول : القدر المتيقن من التفريق هو بخصوص يوم الواقعة، لأنه تمحيص للمؤمنين الذين خرجوا للقتال، ومحق وإذهاب لمقامات الكفار الذين زحفوا لحربهم وقتالهم.
الثاني : التفريق بين أهل زمان الواقعة، فأما أن يكون الإنسان مع المؤمنين سواء بيده أو بقلبه، وأما أن يكون مع الكافرين، لذا حينما تم صلح الحديبية بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومشركي قريش , دخلت خزاعة في عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخلت بنو بكر في عقد قريش .
ويتجلى بوضوح التباين الموضوعي في موضوع الآيتين , فقد نال المسلمون مرتبة الأعلون بايمانهم وإخلاصهم العبادة لله عز وجل ، ونزل المحق والوهن بالكافرين الجاحدين ، ومن معاني ودلالات هذا التباين أمور :
الأول : حث المسلمين على تعاهد مرتبة الأعلون ، بالتقوى ونبذ مفاهيم الكفر التي تبين آية البحث أن عاقبة أصحابها المحق والإذهاب .
الثاني : ترغيب الناس بالإيمان وبعث الريب والنفرة في النفوس من الكفر والضلالة , وعن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في دبر الصلاة : اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر.
الثالث : إخبار الناس جميعاً بقرب مرتبة العلو منهم، وتدلي أغصانها لتلامس حواسهم ، وتخاطب عقولهم ، وليس عند الذين نالوها وهم المسلمون خصوصية في الخلق تميزهم عن غيرهم ، بل هي الهداية والتدبر في معجزات النبوة الجلية للناس من جهات :
الجهة الأولى : المعجزات العقلية التي تتضح بآيات القرآن ،وتحتمل النسبة بين الآيات والإعجاز وجوهاً :
الأول : سور وآيات القرآن كلها معجزة واحدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : كل سورة في القرآن معجزة قائمة بذاتها .
الثالث : التفضيل في إعجاز سور القرآن , فالسور الطوال وذوات الآيات الكثيرة معجزة بذاتها بينما يجتمع عدد من السور القصار في معجزة واحدة .
الرابع : كل سورة من القرآن معجزة مستقلة وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى سور تبدأ كل واحدة منها بالبسملة إلا سورة براءة ، وهذا الإستثناء بذاته يثبت حقيقة وهي أن البراءة أو التوبة سورة مستقلة ، ذكرت أسباب لعدم ذكر البسملة فيها تتعلق بأنذار الكفار والتبرأ منهم .
ومن إعجاز القرآن في هذا الباب أن البسملة جاءت في آية من سورة النمل( ) ليوافق عددها عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة ؟.
الخامس : كل آية من القرآن معجزة مستقلة ، وشاهد سماوي على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والصحيح هو الأخير ، وتكون الوجوه الأخرى في طوله ، لقانون تعدد أصول الإعجاز في القرآن .
وهل يحتاج المقام شاهدين عدلين كما في أحكام القضاء قال تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ] ( )الجواب لا ، للتباين الموضوعي في المقام ولأن الشاهد السماوي وحده دليل وحجة دامغة ، كما في نزول الملك من السماء لنصرة المؤمنين فان الواحد منهم يكفي لهزيمة جيش الكفار وان كثر عددهم وتجلى عتوهم وجعجعة أسلحتهم .
السادس: تعدد المعجزات في كل آية من القرآن , وفيه شعب :
الأولى : كل جزء من الآية معجزة مستقلة .
الثانية :كل كلمة من القرآن معجزة من وجوه:
الأول :اللفظ القرآني كلام الله عز وجل .
الثاني : الكلمة القرآنية تنزيل من عند الله .
الثالث :نزول القرآن على صدر صاحب الكمالات الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : كل شطر من الآية القرآنية معجزة وكل هذه الشعب صحيحة وهي من مصاديق إعجاز القرآن .
السابع :الصلة بين أجزاء الآية الواحدة معجزة كما تتجلى شذرات قليلة منه في العلم الذي أسسناه في هذا السفر المبارك باسم [الصلة بين أول وآخر الآية ].
الثامن :بحور العلم التي تترشح عن الجمع والصلة بين آيات القرآن.
وقد تقدم بيانه بالتفصيل وصدرت أجزاء متعددة من هذا التفسير تؤسس لهذا العلم( ).
ومن أسرار المعجزات العقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها تطرق باب العقل وتجذبه للتفكير في مضامينها وصيغ التحدي فيها ، وخرقها للعادة ، وسلامتها من المعارضة ، وهذا التفكر نوع طريق للهداية والإيمان ، وهو من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء السابقين بأن معجزاته عقلية متجددة في كل زمان، محفوظة بالذات لسلامة القرآن من التحريف بينما معجزات الأنبياء السابقين حسية حفظها الله عز وجل بالقرآن وإيمان المسلمين وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]أي الأعلون بحفظكم لمعجزات الأنبياء وسننهم في العبادات والمعاملات وسبل التقوى من وجوه :
الأول : حفظ معجزات الأنبياء من مصاديق الأمانة وليس من أمانة أطول زماناً وأوسع مكاناً من تعاهد أجيال المسلمين لمعجزات الأنبياء ، قال تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً] ( ).
الثاني : ينال المسلمون مرتبة العلو في المقام وفق القياس الإقتراني :
الكبرى :الذين يحفظون معجزات الأنبياء هم الأعلون.
الصغرى : المسلمون هم الذين يحفظون معجزات الأنبياء .
النتيجة : المسلمون هم الأعلون .
الثالث : إقتباس المسلمين المسائل من سنن الأنبياء وتدبرهم في معجزة كل نبي وأثرها في المجتمعات وهداية النفوس ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
الرابع :إقامة الحجة على الناس في كل زمان بسلامة وصحة إختيار المسلمين ، وأنهم على نهج الأنبياء السابقين .
وجاء حفظ معجزات الأنبياء الحسية وسلامتها من التحريف والتغيير والتشويه والنقص بأمور :
الأول : عصمة آيات القرآن من التحريف والتبديل ، ويترشح عنه بقاء معجزات الأنبياء نصاً ثابتاً بالبيان القرآني والوصف الجلي والآية السماوية المنزلة وهو من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ) .
الثاني : تلاوة المسلمين لآيات القرآن وفيها قصص الأنبياء ، ومن الإعجاز القرآني وجوب هذه التلاوة في الصلاة اليومية وغيرها فحتى في الصلاة المستحبة تجب قراءة سورة الفاتحة وسورة أو آيات أخرى من سورة لبيان عظيم منزلة القرآن عند المسلمين ولزوم حفظهم له بالتلاوة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]، وموضوعات التطهير والتمحيص للمسلمين ،وتتصف تلاوة المسلم للآية القرآنية بخصال :
الأولى :التسليم بنزول القرآن من عند الله .
الثانية : التدبر بمضامين الآية القرآنية عند تلاوتها .
الثالثة : الإقرار أثناء التلاوة أنها عبادة لذا يشترط قصد القربة في أداء الصلاة ، وهو أمر ينبسط على كل أجزائها الواجبة والمستحبة .
الرابعة : التدبر بمعاني الآية القرآنية ومضامينها القدسية أثناء قراءتها.
الخامسة :رجاء الأجر والثواب عند القراءة .
السادسة : تلاوة المسلمين مجتمعين ومتفرقين لآيات القرآن سبيل لوحدتهم ومناسبة لنبذ الفرقة والخلاف بينهم ، وهذه التلاوة اليومية من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( )ومن مصاديق [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ].
وهل هي من مصاديق قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]( )الجواب نعم ففي كل فرد من أفراد التلاوة تطهير وتمحيص للمؤمنين ، وتنقية للنفوس من شوائب الإنشغال بالدنيا ، واللهث وراء لذاتها .
الثالث : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقصص القرآن, وهو على شعبتين:
الأولى : تفسير قصص القرآن الواردة في القرآن .
الثانية : البيان والتفصيل لقصص أخرى للأنبياء وهو على شعبتين :
الأولى : التفصيل والتفسير لذات القصص الواردة في القرآن .
الثانية : ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقصص أنبياء لم يذكروا في القرآن .
فمن إعجاز الآية أنها جاءت بصيغة المضارع [لِيُمَحِّصَ] لدلالته على التكرار والتعدد والتوالي .
فحينما جاءت آية البحث بصيغة التعليل ونسبة تمحيص المؤمنين إلى الله عز وجل وأنه سبحانه هو الذي يطهر ويزكي وينقي المؤمنين فان طرق وسبل التمحيص تترى من عنده سبحانه ومنها تلاوة المسلم والمسلمة القرآن عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب لما فيها من المنافع العظيمة للتالي والمستمع ، وهو من أسرار قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( )وليس من أمة أتتها أو تأتيها صيغ التمحيص والتزكية على نحو الوجوب العيني اليومي المتكرر مثل المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]
ويترشح التطهير والتمحيص في التلاوة من وجوه :
الأول : تطهير اللسان بالنطق بكلام الله .
الثاني : عدم خلط كلام الله عز وجل بغيره .
الثالث : قهر النفس الشهوية والغضبية بالإنصياع للتلاوة .
الرابع : تطهير أسماع المسلمين بالإنصات لآيات القرآن ، والإستماع العرضي للآية القرآنية .
أما النفع من التلاوة بخصوص مرتبة العلو ، فمن وجوه :
الأول : لما جعل الله عز وجل العبادة علة خلق الناس فان الذين يعبدون الله حق عبادته هم الأعلون ، وتتجلى العبادة بطاعة الله ورسوله ، وإقامة الفرائض ،ويتقوم صرحها بالصلاة التي هي عمود الدين ، والتلاوة جزء واجب من الصلاة ليس من باب جزء الواجب واجب وحده ، بلى لأنها واجب بالذات لوجوه :
الأول : التلاوة تمحيص مستقل للمؤمنين لأنها تطهير للنفوس ، ونزع لرداء الدنيا .
الثاني : تلاوة الق آن في الصلاة محق للكفر ،وحرب على مفاهيم الضلالة .
الثالث : في التلاوة حفظ لآيات القرآن من الضياع ، وهي سلاح للتوقي من تحريف وتبديل كلام الله ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الرابع :التلاوة مناسبة لتفقه المسلمين في الدين ،ومعرفة أحكام الحلال والحرام من آيات الأحكام وغيرها ، ومن خصائص المسلمين التدبر والفهم للحذف والإطناب في القرآن ، فمثلاً قوله تعالى [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا] ( )فقد يتبادر إلى الذهن أن الله يأمرهم بغير العدل والصلاح ، ولكن القرآن يفسر بعضه بعضاً وتقدير الآية أعلاه ، (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها بالعدل والإحسان ولكنهم فسقوا فيها ) ،فيصدر هذا الفسق منهم بعد الأمر بالصلاح ، وإقامة الحجة عليهم ، فلم ينزل عليهم العذاب إلا بعد البينة وأسباب الهداية والصلاح وهم إستحقوا العقاب لمعصيتهم الأمر بالصلاح.
وتدل الآية على أن المترفين والذين ينعم الله عليهم من فضله أولى بعمل الصالحات ، لذا خصهم الله عز وجل بفريضة الزكاة التي يتقوم وجوبها بإمتلاك النصاب [عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى لِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا] ( ).
وبين المترفين وحكام الجور عموم وخصوص مطلق , فالمترفون أعم ولا يختص الموضوع بالسلطة وربما كانوا تجاراً وأرباب مصالح وذوي منزلة اجتماعية ، وفي قوله تعالى [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ] ( ) قد يتبادر إلى الذهن أن المراد من لفظ [لَنْ نَقْدِرَ]أن ذا النون يظن عدم قدرة الله عز وجل عليه ، وهو أمر يتنزه مقام النبوة عنه قبل أن تصل النوبة إلى القول بعصمة الأنبياء ولكن معنى [نَقْدِرَ] هو من التقدير والقلة والنقص , والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، ويفيد قوله تعالى [اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ] ( ) أن الله عز وجل أراد أن يبين لذي النون سعة رحمته بالناس ، وعدم إنغلاق باب العفو فصار ذو النون يدعو لقومه .
ولما جعل الله عز وجل خليفة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )تفضل وشرّع تلاوة كلامه في الصلاة على نحو الوجوب العيني على كل مكلف ومكلفة ، وتكون هذه التلاوة ميزاناً لتمحيص وتطهير الذين آمنوا إذ أن كل واحد منهم ذكراً أو أنثى لم يغادرها يوماً واحداً في حياته مع المؤمنين ، فيكون توالي هذا الوقوف مناسبة لتدبره في الآيات وتنزهه عن أخلاق النفاق ، وهي وسيلة لمحق الكافرين الذين يتخلفون عنها ،ومن خصائص المحق في التلاوة أنها باب للتوبة والإنابة من جهات :
الأولى : إستماع الكافر لآيات القرآن ، وتدبره في معانيها ، ومن الآيات أن الأمر لا يختص بالإستماع بل أن التلاوة تأتي من حال الخشوع والخضوع لله عز وجل وعدم الإلتفات لغير هيئة الصلاة .
الثانية : يتصف المنافق بأعلان الإيمان ، وإخفاء الكفر ، فهو يقف في صفوف الصلاة مع المؤمنين فيكون توالي هذا الوقوف مناسبة لتدبره في الآيات وتنزهه عن أخلاق النفاق .
الثالثة : إبتعاد ونفرة المنافق من التلاوة وإصراره على الكفر والجحود محق له وسبب لإمتلاء نفسه بالغيظ والحسرة .
ومن الإعجاز في الصلاة خاصة ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً الأمن والسلامة للمؤمنين في أدائهم الصلاة في كل زمان ومكان ، وهو من مصاديق الوعد الكريم في قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
وقد يقال أين الوعد في الآية أعلاه وهي جملة خبرية ، والجواب تتضمن الآية الإنشاء في دلالتها ، ومنه الوعد الكريم باباحة الأرض للعبادة ، وهو من مصاديق خلافة الإنسان وتسخير الأرض له بشرط ألا يفسد فيها , قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( )فحينما قال الله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( ) فانه سبحانه جعل أسباب التمحيص والمحق بأمر الإنسان بواجبات عبادية تكون فيصلاً بين الإيمان والكفر ، فلابد من موضوع يومي للتمحيص كالصلاة الواجبة ليكون فيها بيان من وجوه :
الأول : تأكيد إيمان المسلمين .
الثاني : تجدد التمحيص والتطهير كل يوم [عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر ( ) على باب أحدكم يغتسل كل يوم خمس مرات] ( ).
الثالث : الصدح كل وقت بكلام الله ، وإدراك الخلائق لعمارة المسلمين الأرض بعبادة الله .
الرابع : بيان سعة رحمة الله عز وجل بالناس من جهات :
الأولى : نزول البركة على المسلمين وهم يتلون القرآن ويقفون بين يدي الله خاشعين .
الثانية :إقامة الحجة على الكفار ، فليس في الصلاة إلا الخير والفلاح [عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ , فِي الْمَسْجِدِ جَالِسًا ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ ، فَأَقْصَرُوا عَنْهُ ، حَتَّى جَاءَ أَبُو ذَرٍّ فَاقْتَحَمَ ، فَأَتَى فَجَلَسَ إِلَيْهِ ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ فَقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ ، هَلْ صَلَّيْتَ الْيَوْمَ ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : قُمْ فَصَلِّ ، فَلَمَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتِ الضُّحَى أَقْبَلَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ ، تَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ، قَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، وَهَلْ لِلإِنْسِ شَيَاطِينُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ?شَيَاطِينُ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا? ثُمَّ قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ ، أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : بَلَى ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ ، قَالَ : قُلْ : لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ .
فَقُلْتُ : لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ , قَالَ : ثُمَّ سَكَتَ عَنِّي فَاسْتَبْطَأْتُ كَلاَمَهُ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، إِنَّا كُنَّا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ وَعِبَادَةَ أَوْثَانٍ ، فَبَعَثَكَ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، أَرَأَيْتَ الصَّلاَةَ مَاذَا هِيَ ؟ قَالَ : خَيْرٌ مَوْضُوعٌ ، مَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ ، وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ , قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَرَأَيْتَ الصِّيَامَ مَاذَا هُوَ ؟ قَالَ : فَرْضٌ مُجْزِئٌ , قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَرَأَيْتَ الصَّدَقَةَ مَاذَا هِيَ ؟ قَالَ : أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ ، وَعِنْدَ اللهِ الْمَزِيدُ , قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، فَأَىُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : سِرٌّ إِلَى فَقِيرٍ ، وَجُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ , قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَيُّمَا نَزَلَ عَلَيْكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : ?اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ? آيَةُ الْكُرْسِيِّ , قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَيُّ الشُّهَدَاءِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَنْ سُفِكَ دَمُهُ وَعُقِرَ جَوَادُهُ , قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَغْلاَهَا ثَمَنًا ، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا , قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، فَأَيُّ الأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّلَ ؟ قَالَ : آدَمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ , قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَوَنَبِيٌّ كَانَ آدَمُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ ، خَلَقَهُ اللهُ بِيَدِهِ ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ رُوحَهُ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : يَا آدَمُ قُبْلاً , قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، كَمْ وَفَّى عِدَّةُ الأَنْبِيَاءِ ؟ قَالَ : مِئَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا ، الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلاَثُمِئَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا] ( ).
الثالثة : ترغيب الناس بالإسلام ، فالصلاة دعوة متجددة في فرض للإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الرابعة :في الصلاة طرد لنزغ الشيطان ، ومنع لإستحواذه على النفوس ، وهي قهر للنفس الشهوية والغضبية .
ومن الآيات أن المسلمين ينالون مرتبة العلو بين الناس بالخضوع والذل لله عز وجل ، فيقفون خاشعين في صفوف طويلة أوان الصلاة لتكون هذه المسكنة هي الملاك في الإرتقاء وبلوغ أسمى مراتب العلو بين الناس في تأريخ الإنسانية ، وما دامت أمة محمد تتوارث هذه المرتبة بأداء الصلاة فان البركات تنزل على أهل الأرض وتدفع عنهم الآفات ، ليكون المسلمون هم الأمل بجلبهم الخير للناس جميعاً ، وهو لا يتعارض مع قوله تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( )وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وانتم الأعلون بأداء الصلاة .
الثاني : وانتم الأعلون بأدائكم الصلاة في أوقاتها .
الثالث : وأنتم الأعلون باتيان الصلاة جماعة .
الرابع : وأنتم الأعلون باتيان الصلاة بقصد القربة إلى الله ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) .
الخامس : وأنتم الأعلون بأدائكم الصلاة بذات الكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال :صلوا كما رأيتموني أصلي ] ( ).
السادس : وأنتم الأعلون بدعوتكم إلى الله بأداء الصلاة .
السابع : وأنتم الأعلون لأن الصلاة اليومية تمحو الذنوب التي قبلها [عَنْ أَبِى أُمَامَةَ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّراً إِلَى صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لاَ يُنْصِبُهُ إِلاَّ إِيَّاهُ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ وَصَلاَةٌ عَلَى أَثَرِ صَلاَةٍ لاَ لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِى عِلِّيِّينَ] ( ).
الثامن : وأنتم الأعلون لأنكم تمحصون بأداء الصلاة.
التاسع : وأنتم الأعلون باحترازكم من مفاهيم الضلالة بأداء الصلاة.
العاشر : وأنتم الأعلون بوقايتكم من المحق والوهن بأداء الصلاة، وفيه بيان للناس بان طريق السلامة من المحق والإرهاب هو أداء الصلاة.
الحادي عشر : وأنتم الأعلون بالبركات والفيوضات التي تترشح عن الصلاة.
الثاني عشر :وأنتم الأعلون بشهادة الملائكة لكم بأداء الصلاة طاعة لله ورسوله ، وفي قوله تعالى [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال [تشهده ملائكة الليل ، وملائكة النهار تجتمع فيها] ( ) .
الثالث عشر :وأنتم الأعلون بالتفقه في الدين والإجتهاد في معرفة أحكام وسنن الصلاة .
لقد أراد الله عز وجل إنارة طريق العلو والرفعة وجعله ملازماً للصراط المستقيم ، لذا يتلو كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم الواحد قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
وهل يصح القول أن في هذه التلاوة مرتبة العلو ، الجواب نعم بلحاظ أن هذه المرتبة لا تنال إلا بالإيمان والتقوى والخشية من الله عز وجل .
صلة قوله تعالى[إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]بــ[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]
وفيه مسائل:
الأولى : تحتمل النسبة بين الذين آمنوا والمؤمنين وجوهاً:
الأول : التساوي وأن المؤمنين هم أنفسهم الذين آمنوا .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى : الذين آمنوا أكثر وأعم من المؤمنين.
الثانية : المؤمنون هم الأكثر والأعم.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين المؤمنين والذين آمنوا.
والصحيح الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه , فالذين آمنوا أعم لأنه يشمل الذين نطقوا بالشهادتين ودخلوا الإسلام ظاهراً وإن أصروا على إخفاء الكفر نعم قد تكون النسبة أحياناً هي التساوي بحسب الموضوع والقرائن , ليكون قوله تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] على جهات:
الأولى : بيان فضل الله على كل الذين نطقوا بالشهادتين وفيه جزاء عاجل لهم.
الثانية : ترغيب عموم المسلمين بالإيمان ،وتنمية ملكته في النفوس وعالم الأفعال، قال تعالى[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
الثالث : لقد جاءت الآيات بذم المنافقين وجعلهم بعرض واحد مع الكفار، كما في قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا] ( ).
وجاءت آية البحث لتنقية وتنزيه المسلمين من النفاق، أما الذين يحشرون في جهنم من المنافقين، فهم الذين أصروا على إبطان الكفر وماتوا على النفاق، ولم ينفعهم التمحيص والتطهير الذي يتوجه لهم كل يوم.
الثالثة : إن مجئ الجملة الشرطية بصفة (المؤمنين) ومجئ التمحيص بالصيغة الأعم , وإرادة كل مسلم آمن ظاهراً بالإسلام دعوة للمسلمين جميعاً لنيل مرتبة العلو والتحلي بالإيمان الصادق، وفيه شاهد على الإعجاز في اللفظ القرآني ودقة إختياره وأن التباين في المعنى لذات اللفظ أو المترادف منه مدرسة عقائدية تقتبس منها المواعظ والدروس.
الرابعة : يكون تقدير خاتمة آية السياق على وجوه:
الأول : إن كنتم مؤمنين بالتمحيص.
الثاني : ان كنتم مؤمنين بأن الله يمحص الذين آمنوا.
الثالث : إن كنتم مؤمنين بأن الله يمحق الكافرين.
الرابع : إن كنتم مؤمنين بأن التمحيص والمحق لا يقدر عليه إلى الله عز وجل .
الخامسة : جاءت خاتمة آية السياق بصيغة الجملة الشرطية والخطاب لترغيب المسلمين بالإيمان ولبيان أنه الفرد الأهم في الحياة الدنيا، وبه تكون منازل الناس ومراتبهم يوم القيامة، فهو شرط العلو والرفعة، ليكون هو سبب الفوز والفلاح عند التمحيص، ومادة وموضوع التطهير والتزكية في الدنيا والآخرة.
السادسة : بيان كثرة الخطاب للمؤمنين والعناية بهم في القرآن، فمع قلة كلمات كل آية من الآيتين فانها تذكر للمؤمنين، وبما يتضمن الثناء عليهم وبعثهم على تعاهد الإيمان وسننه وآدابه.
السابعة : في الجمع بين الآيتين بعث للنفرة من الكفر في النفوس، وإزاحة للكافرين عن منازل الشأن والرفعة.
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )لتكون خالصة للمؤمنين ، ودعاء زمانياً لتجليات الإخلاص في العبادة ، وإزاحة مفاهيم الكفر والضلالة ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل يعني توقف وتحديد التداول ليكون تداولاً بين المؤمنين وحدهم ، وأن لفظ الناس مشترك لفظي ، فمرة يقصد منه العموم الإستغراقي لجميع البشر وآخر يراد منه معنى آخر أخص يعرف بالقرائن والأمارات ، كما في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] ( )فورد لفظ الناس في الآية مرتين كل فرد منهما يدل على قوم غير الآخرين بالإضافة إلى فرد ثالث يدل عليه الضمير [هُمْ] في [قَالَ لَهُمْ]وهم المؤمنون ، ليكون من مصاديق التمحيص والتطهير الصبر على حشد الكفار الجيوش ، وعلى التهويل والمبالغة فيه.
وذات البقاء في مقامات الإيمان تطهير وتمحيص وتزكية , وتلك آية في فضل الله عز وجل على المؤمنين وتعدد مصاديق الأجر والثواب التي ترد عليهم ففي كل أداء لفرض من الصلاة تمحيص ، وفي صيام كل يوم من شهر رمضان تمحيص وتزكية ، وفي أداء الحج وإخراج الزكاة تمحيص وتطهير للمسلمين .
ويحتمل هذا التمحيص وجوهاً :
الأول : إختصاص التمحيص بمن يؤدي الفرض .
الثاني : شمول الذين يهيؤون مقدمات أداء الغرض .
الثالث : عموم التمحيص والتطهير للمسلمين بصيغ الأداء الفردي والعام للفرائض .
والصحيح هو الثالث وهو من دلالات مجئ آية البحث بصيغة الجمع [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] ( )فيكون خروج نفر منهم للدفاع عن الإسلام كما في معركة بدر وأحد تطهيراً وتزكية لهم ،ولمن تخلف عن عذر عن الخروج .
ومن معاني التمحيص كشف المنافقين وإزدراء فعلهم ، فقد كان الخروج لمعركة أحد أبهى معاني التمحيص ، لينخزل ثلاثمائة من جيش المسلمين بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول ، فيتخلفون بسوء فعلهم عن التطهير والتزكية ، وهل بقى هؤلاء الثلاثمائة في منازل النفاق ، الجواب لا، ولو كان لبان ، بل ندم أكثرهم وإلتحقوا بصفوف المؤمنين ،وما أن قدم طواغيت قريش بعشرة آلاف رجل في معركة الخندق حتى هبّ هؤلاء لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عن المدينة وعن أنفسهم وأعراضهم وعوائلهم بدليل أن الآيات التي نزلت بخصوص معركة الخندق لم تذكر تخلف أعداد كبيرة من المسلمين ، كما أنها ذكرت المنافقين بما يدل على قلة عددهم ، وبه جاءت أسباب النزول والأخبار المتواترة .
وفي قوله تعالى[ويستأذن فريق منهم النبي] قال السدي: جاءه رجلان من الأنصار ومن بني حارثة، أحدهما يدعى أبا عرابة بن أوس، والآخر يدعى أوس بن قيظي، فقالا: يا رسول الله{إن بيوتنا عورة } يعنون أنها ذليلة الحيطان، وهي في أقصى المدينة، ونحن نخاف السرق فائذن لنا فقال الله{ما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً}.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله { ويستأذن فريق منهم النبي } قال : هم بنو حارثة قالوا : بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق .
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : إن الذين قالوا بيوتنا عورة يوم الخندق : بنو حارثة بن الحارث] ( ).
وعن[عن حذيفة قال : لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ، ونحن صافون قعود ، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا ، وقريظة اليهود أسفل نخافهم على ذرارينا ، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ، ولا أشد ريحاً منها ، أصوات ريحها أمثال الصواعق ، وهي ظلمة ما يرى أحد منا اصبعه ، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ }( ) فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، يتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك ، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً رجلاً حتى مر علي ، وما علي جنة من العدو ، ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ، ما يجاوز ركبتي ، فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال : من هذا؟ قلت : حذيفة فتقاصرت إلى الأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم فقال : قم . فقمت فقال : إنه كان في القوم خبر ، فأتني بخبر القوم قال : وأنا من أشد الناس فزعاً ، وأشدهم قراً .
فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوقه ، ومن تحته ، قال : فو الله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوف إلا خرج من جوفي ، فما أجد منه شيئاً ، فلما وليت قال : يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئاً حتى تأتيني ، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم ، نظرت في ضوء نار لهم توقد ، واذا برجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ، ويمسح خاصرته ويقول : الرحيل . . . الرحيل . . . ثم دخل العسكر فإذا في الناس رجال من بني عامر يقولون : الرحيل . . . الرحيل يا آل عامر لا مقام لكم ، وإذا الرحيل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبراً فوالله أني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم ، ومن بينهم الريح يضربهم بها ، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك ، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً متعممين ، فقالوا : اخبر صاحبك أن الله كفاه القوم ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حز به أمر صلى ، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يرتحلون . فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذا جاءتكم جنود ]( ) .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]وصيغته المضارعة تكرار الإبتلاء وصيغ العموم وشمول [الَّذِينَ آمَنُوا] جميعاً ومنهم المنافقون والضلال والذين إنسحبوا في الطريق إلى معركة أحد ليخذلوا المؤمنين ويكشفوا عنهم ، خصوصاً مع حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى المقاتلين وإلى كثرة السواد لمواجهة جيوش الكفار .
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بترك هؤلاء الذين إنخزلوا ورجعوا إلى المدينة لعلمه صلى الله عليه وآله وسلم بأن الملائكة في نصرته وان الذين إنخزلوا حرموا انفسهم من مناسبة جهادية للتمحيص تتجدد أخبارهم عند أجيال المسلمين ، وكأنها حاضرة في زمانهم .
إن فتح باب التوبة والمغفرة من مصاديق صيغة المضارع في الآية [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] فكلما إنحرف المنافق جاءته مناسبة للتمحيص والتطهير وترغيب بالعفو، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).ولما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض كما ورد عنهم في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )أقام الله عليهم الحجة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )ومن علم الله سبحانه تطهير وتمحيص المسلمين ليعمروا الأرض بذكر الله ويتنزهوا عن الفساد ، ويتجنبوا قتل النفس بغير حق وإذا كان هناك مفسدون في الأرض فان الله عز وجل يمحقهم وينقص عددهم ، ويضعف قوتهم .
الصلة بين خاتمتي الآيتين :
وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع هو : إن كنتم مؤمنين ويمحق الكافرين .
الثانية : ثبات المسلمين في منازل الإيمان حرب على الكفر ، وفضح لمفاهيمه، وخزي للكافرين .
الثالثة : كلما دخل شخص إلى الإسلام وسعى في مسالك الإيمان فهو محق للكافرين ، إن أداء المسلمين الفرائض وتلاوتهم للقرآن وعملهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على إيمانهم ، وفيه محق للكافرين وتوهين وخزي لهم . ويجعلهم قاصرين وعاجزين عن الإستمرار بذات الفساد ، وهو من مصاديق خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( )ليكون من معاني ووجوه علم الله عز وجل في المقام أنه سبحانه يمحق اولئك الذين أخبر الملائكة عن إفسادهم في الأرض وتكون عاقبتهم الخلود في النار ، وذات الفساد سبب للمحق والزوال ، قال تعالى [وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
الرابعة : بعث السكينة في نفوس المسلمين ، بوقوع المحق والنقص في صفوف عدوهم , وفي قوله تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ] ( )، ورد عن ابن عباس أنه(قال: السكينة هي الرحمة في قوله { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } قال : إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله فما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة ، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة ، فلما صدقوا بها ، زادهم الصيام ، فلما صدقوا به زادهم الحج ، فلما صدقوا به زادهم الجهاد ، ثم أكمل لهم دينهم فقال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإِسلام ديناً} قال ابن عباس رضي الله عنهما : فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله)( ).
صلة قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) بهذه الآية
وفيها مسائل :
المسالة الأولى :تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وليمحص الله الذين آمنوا هذا بيان للناس .
الثاني : ويمحق الله الكافرين هذا بيان للناس .
الثالث : هذا هدى ويمحص الله الذين آمنوا .
الرابع : هذا هدى ويمحق الله الكافرين .
الخامس : هذا موعظة للمتقين ويمحص الله الذين آمنوا .
السادس : هذا موعظة للمتقين ويمحق الله الكافرين .
المسألة الثانية : قد تقدم تسمية الدنيا ( دار البيان ) فمن فضل الله عز وجل أنه بيّن للناس الواجبات والنواهي ، وأخبر عن كون الدنيا دار عبور وطريق لعالم الخلود الذي يكون فيه الناس على قسمين بينهما تباين وتضاد ،ومن البيان قوله تعالى [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] ( ).
وليس من حصر لوجوه البيان في الحياة الدنيا , منها :
الوجه الاول : الآيات الكونية وهي على شعب منها :
الأولى : الآيات المستقرة كالسموات والأرض , وان كانت متحركة أيضاً قال تعالى[وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ] ( )، ويقدر علماء الفلك سرعة دوران الأرض حول الشمس ثلاثين كيلو متراً في الثانية الواحدة، وهو لا يعارض أو يزاحم إستقرارها في آية كونية متجددة لأولي الألباب والحاجة إلى رحمة الله باستدامة إستقرارها.
الثانية : الآيات المتحركة كالشمس والقمر .
الثالثة : الآيات الطارئة كنعمة المطر والسحاب أو العكس كالجفاف والقحط.
الرابعة : الآفات السماوية أو الأرضية التي تصيب الناس .
الخامسة : الآيات المتجددة .
ومن أسرار الآيات الكونية أنها أمر وجودي يخاطب العقول والمدارك ويلتصق بالحواس طوعاً وقهراً ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ).
ويحتمل تعلق موضوع الآيات الكونية مجتمعة بآية البحث وجوهاً :
الأول : الآيات الكونية مجتمعة تمحيص للمؤمنين ومحق للكافرين .
الثاني : كل طائفة من الآيات الكونية مناسبة لتزكية المؤمنين وفضح تدني مرتبة الكافرين ، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثالث : كل آية كونية هي حجة وموضوع مستقل في تمحيص وتطهير المؤمنين، وفي ذم وخزي الكافرين .
الرابع : القدر المتيقن من أسباب ووجوه التمحيص والمحق هو مضامين الآية السابقة , ومنها قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ) بلحاظ أن آية البحث جاءت بصيغة المعلول فإبتدأت بلام التعليل [وَلِيُمَحِّصَ].
والصحيح هو الوجه الثالث أعلاه ، وأن كل آية كونية معجزة حسية متجددة تكون مادة وسبباً وعلة لتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين ، وهو من أسرار إبتداء التعليل في الآية السابقة بحرف العطف الواو ، فلم تقل الآية السابقة ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ليعلم الله الذين آمنوا) بل جاءت بالعطف [وَلِيَعْلَمَ].
وموضع الواو أعلاه آية إعجازية تشير إلى حقيقة وهي أن العلة أعم من المذكور في الآية السابقة ، وكذا المعلول متعدد ومذكور في الآية السابقة.
وفي هذه الآية وفي تعدد العلة في المقام وجوه:
الأول : تذكير الناس جميعاً بالله عز وجل، وهو من مصاديق آية السياق [ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، أي من خصائص البيان القرآني أنه رحمة مزجاة من عند الله تكون بلحاظ آية البحث على وجوه:
الأول : البيان مقدمة لتمحيص المسلمين.
الثاني : ذات البيان القرآني تمحيص وتزكية وتطهير للمسلمين.
الثالث : البيان القرآني جذب للناس لمنازل الإيمان التي يترشح عنها بالإنطباق التمحيص والتطهير.
الرابع : البيان في القرآن حرب على النفاق، وتنزيه للنفوس منه.
الخامس : بيان القرآن محق للذين يصرون على الكفر والجحود.
الثاني :توالي وتعاقب كل من التمحيص والمحق على ذات الموضوع فلا يذهب التمحيص إلى الكفار، ولا ينصرف المحق عنهم، ولا يغادر التمحيص المؤمنين، ولا يتعدى أو يتجرأ المحق عليهم ,فهم في حصانة وعصمة منه بشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
الثالث : لما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار فانه تفضل باتصال البرهان الساطع الذي يجعل الناس في مقامات التمحيص والتطهير، ويبعدهم عن منازل المحق والذم.
الرابع : تعدد وكثرة مصاديق التمحيص والمحق فضل من الله[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ).
الخامس : البعث على التحقيق وبيان وذكر الآيات التي يصدق عليها أنها تمحيص للمؤمنين ومحق للكافرين.
الوجه الثاني : ذات الإنسان في خلقه وعمله، وعباداته، وصلاته مع غيره، وتسخير الموجودات الأرضية له بيان وآية متجددة تلح على الإنسان بالتدبر في ماهية خلقه وشأنه لتتجلى معاني وأسرار قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ] ( )، ورشحاته غير المنقطعة عن الإنسان ومنها التمحيص للمؤمنين شكراً لهم على التحلي بأخلاق الأنبياء والسير على آثارهم، والتقيد بسننهم، والمحق والقطع للكافرين لجحودهم بنعمة الخلافة، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
وجاءت (حتى) في الآية للتعليل ،وبيان حقيقة وهي أن وظائف الآية الكونية والنفسية مركبة ومتعددة، فذات الآية تكون تمحيصاً وتطهيراً، وتكون محقاً ونقصاً مع التباين في الذوات، الإختبار والإمتحان للمؤمن والكافر بالمرض مثلاً، أما المؤمن فيصبر ويدعو الله عز وجل الشفاء والعافية.
وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم عليه السلام[وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( )، وأما الكافر فانه يجحد ويصر على الكفر، ليصارع المرض بمفرده وهو من المحق وقهر الأسباب له، وتنزل النعمة والخير على البر والفاجر، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ]( )، فيتوجه المؤمن بالشكر لله عز وجل، ويتخذ النعمة مناسبة ووسيلة للإجتهاد في طاعة الله عز وجل، أما الكافر فانه يتلقى النعمة بوجوه من الجحود وهي:
الأول : الإستكبار عن الإقرار بأن النعمة من عند الله عز وجل.
الثاني : الإمتناع عن التدبر بالنعمة وكيف أنها موضوع للتمحيص أو المحق، قال تعالى[لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ]( ).
الثالث : التخلف عن الشكر لله عز وجل على النعمة، وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب.
الرابع : تسخير النعمة في معصية الله .
ويحتمل هذا التسخير وجوهاً :
الأول : إنه من المحق والنقص الذي يبتلى به الكفار .
الثاني : إنه سبب وعلة ومقدمة للمحق وهو حجة في إستحقاق الكافر للمحق والضعف ورميه بالوهن .
الثالث : لا صلة أو ملازمة بين تسخير الكافر النعمة في المعصية وبين المحق الذي ذكرته آية البحث .
والصحيح هو الأول والثاني ، وهل هو من إستدراج الكافر الجواب نعم ، ولكن الأصل فيه هو أنه نعمة عظيمة شاء الله عز وجل ان تصيب الإنسان رحمة منه تعالى في الحياة الدنيا على الناس جميعاً ، عن ابي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر يقول كأنه مذنب، فجعل يقول: أقصر أقصر عما أنت فيه، قال فيقول: خلني وربي، قال: حتى وجده يومًا على ذنب استعظمه، فقال: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أبدًا، ولا يدخلك الجنة أبدًا. قال: فبعث الله إليهما ملكًا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال: لا يا رب، فقال اذهبوا به إلى النار”]( ).
المسألة الثالثة : من معاني الجمع بين الآيتين إرادة الخاص والعام ، أما الخاص فهو أن التمحيص خاص بالذين آمنوا بلحاظ أنه تشريف وإكرام ، وأما العام فهو الإخبار والنداء للناس جميعاً (ليمحق الله الذين آمنوا هذا بيان للناس )، وقد تقدم أن الدنيا مناسبة ووعاء كريم لقانون البيان( ) .
ويمكن تأليف مجلدات بموضوع واحد وهو(البيان القرآني) أو(ضروب البيان في القرآن) وفيه وجوه:
الأول : كل آية قرآنية بيان مستقل.
الثاني : كل آيتين قرآنيتين مجتمعتين بيان في التعدد من الموضوع والحكم.
الثالث : الآيتان المتجاورتان بيان.
الرابع : كل سورة قرآنية بيان.
الخامس : كل شطر من آية قرآنية بيان للناس.
السادس : كل شطر من الآية القرآنية بيان متعدد سواء بلحاظ الموضوع أو الحكم، والمنطوق أو المفهوم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وهي من مصاديق التمحيص والمحق، وكل واحد منها لها مصاديق كثيرة وتستنبط منه قوانين وقواعد في البيان والتجليات، وهو من الدلائل والبراهين على أن بيان القرآن من اللامتناهي في علوم القرآن المتكثرة وكل فرد منها ليس له حد أو منتهى ومن معاني تقدير الجمع بين الآيتين (هذا بيان للناس ليمحص الله الذين آمنوا).
ويكون من معانيه وجوه :
الأول : ذات القرآن تمحيص وتطهير وتزكية .
الثاني : في القرآن بيان وإخبار وإعلام ودفع للوهم ومنع للبس .
الثالث : التمحيص من عند الله نوع بيان .
الرابع : البيان القرآني حجة وبرهان يترشح عنه التمحيص ، وكم من إنسان تاب إلى الله وأصلح أعماله بسبب البيان القرآني .
وينتفع الناس جميعاً من بيان التمحيص الإلهي من وجوه :
الأول : إقامة الحجة على الناس جميعاً ،وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الثاني :إنتفاع المسلمين على نحو الخصوص من البيان، ومن التمحيص ، ليكون بينهم وبين الناس في المقام عموم وخصوص مطلق ، فهم يلتقون مع الناس بتلقي البيان من التمحيص وينفردون عنهم بالفوز بالتمحيص والتطهير ، ويترشح عن هذا المائز فلاح المسلمين بتلقي البيان بالتدبر والقبول وحسن الإمتثال.
الثالث : إتخاذ التمحيص طريقاً إلى مراتب عالية تتغشى مسائل الدنيا والآخرة.
الرابع : التسليم بأن التنزيل حق، وأن العمل بمضامينه واجب، وهو تمحيص وتطهير.
المسألة الرابعة : النسبة بين البيان والتمحيص على وجوه :
الأول : التساوي، وكل فرد منهما نظير وشبيه للآخر .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : البيان أعم من التمحيص .
الثانية : التمحيص هو الأعم من البيان .
الثالث : بين البيان والتمحيص عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
الرابع : بين البيان والتمحيص تباين وإختلاف ، والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني .
فيأتي البيان بصيغ البشارة والإخبار والنبأ والوعيد ، ويكون تمحيصاً للمؤمن وحجة على الكافر ،وهل قصص القرآن من البيان ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : في قصص القرآن إخبار عن حياة الأمم السالفة وما لاقاه المؤمنون من الأذى في جنب الله ، وما نزل بالكافرين من العذاب وأسباب الإنقراض [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
الثاني : قصص القرآن وثائق سماوية باقية إلى يوم القيامة ،تقتبس منها المسائل ، وتستنبط منها الدروس والمواعظ ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثالث : أبى الله عز وجل إلا أن يتفضل بجعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )،فذكر فيه الأحقاب الماضية لإستقراء الدروس وإدراك حقائق منها :
الأولى : الدنيا دار تمحيص للمؤمنين ومحق للكافرين ، فالكفر في تضاؤل وإنحسار ، أما أهل الإيمان فهم في عز متوارث ، وهذا التوارث ليس بالأنساب إنما هو بالتقوى والصلاح والتمحيص ، نعم تترشح على الذرية بركات الإيمان والهدى .
الثانية : إستدامة مفاهيم التوحيد في الأرض مع وجود أمة مؤمنة في كل زمان ، ومن خصائص قصص القرآن بيانها لقانون عدم إنقطاع عبادة الله في الأرض ، والذي يتجلى بتعاقب بعث الأنبياء والمرسلين وإتباع طائفة من الناس لكل نبي سواء كثر أفرادها أو قلوا.
الثالثة : بشارات الأنبياء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتوارث أتباعهم لهذه البشارات التي وردت في الكتب السماوية السابقة .
الرابعة :البشارات التي جاءت على لسان الأنبياء السابقين ، ومنها ما وثقها القرآن كما ورد في التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
الخامسة : البشارات التي وردت في الوحي وخطاب الملائكة للأنبياء، ومن خصائص هذه البشارة أمور :
الأول : المدد للأنبياء السابقين وأتباعهم .
الثاني : تنمية ملكة الصبر عند المؤمنين .
الثالث : البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق التمحيص والمحق، من جهات :
الأولى : تلقي المؤمنين بشارات النبوة بالقبول والتصديق .
الثانية : توارث المؤمنين البشارات مع الإقرار بأنها من عند الله ، وأنها حق وصدق .
الثالثة : بشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت للإيمان في قلوب المسلمين من الأمم السابقة , وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء السابقين .
الرابعة :البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتناقل الناس لها ، وحرص المسلمين على توارثها حجة على الكافرين ، ومحق لمفاهيم الكفر ووعيد الكفار بأن الله عز وجل ينتقم منهم في الدنيا والآخرة .
الخامسة : البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طريق إلى النبوة وسبب للإنابة ونبذ الضلالة وتنزه عن الإصرار على الفسوق والمعصية .
السادسة : بلوغ البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمان بعثته عون للناس على دخول الإسلام ، وجزء علة لهدايته إلى الإيمان ، وبرزخ دون المبادرة إلى تكذيبه وإيذائه، وقد دخل عدد من الصحابة الإسلام بسبب ما تلقوه من البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في سلمان الفارسي.
السابعة : البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعاهد للنبوة ، وحفظ لسننها ، وحضور لموضوعها حتى في حال الفترة والزمان الذي ليس فيه نبي ،أو المصر والبلد الذي لم تصل إليه أنباء ومعجزات نبي العصر.
الثامنة : بيان تفضيل المسلمين باجتماع البشارة والمصداق ، فمن خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )أن المسلمين تلقوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارة بها بالتصديق والتسليم.
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن البشارات به مصاحبة للإنسان من أيام ابينا آدم إلى قيام الساعة ، وهو من أسباب إستدامة التمحيص والمحق .
الرابع : هذه البشارات من اللطف الإلهي بالناس لإقرارهم بالتوحيد ، وإجتناب التعدي على الأنبياء وأنصارهم الذين يحرصون على أداء الصلاة والفرائض العبادية الأخرى .
الخامس : نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وصدق ، فأراد الله عز وجل بيان حقيقة وهي أن مصداق البشارة السماوية لا يتخلف عنها ، وهو من ضروب الثبات والحتم في قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الصلة بين[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) و [وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( ).
بين الناس والكافرين عموم وخصوص مطلق فالناس أعم ، وجاءت آية البحث لترمي الكافرين بالنقصان العددي والوهن الذاتي ، والقصور عن محاربة الإسلام ، وكذا آية السياق ، فمن خصائص البيان القرآني أنه عام متوجه للناس جميعاً نزل مناسباً لمداركهم جميعاً وهذا العموم في البيان لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، لذا فان العموم في قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]إعجاز وتحد فلو إجتمعت الخلائق على أن يأتوا بكتاب من كلمات وجمل معدودة يكون بيانا ً للناس جميعاً بما يجذبهم إلى منازل الإيمان ويدفعهم عن مواطن الكفر والجحود لعجزوا عنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ).
ومن خصائص البيان القرآني أن الذي يعرض عنه من الكفار لا يمتنع البيان القرآني من الوصول إليه ، ليكون من معاني لفظ [لِلنَّاسِ] في الآية اعلاه أنه يأتيهم طوعاً وقهراً وعلى نحو الدوام .
وجاءت آية البحث بنسبة المحق إلى الله عز وجل ، وهل يصح نسبة المحق إلى ذات القرآن وبيانه ، الجواب لا ،فالقدر المتيقن أن محق الكافرين من قبل الله عز وجل ولا يقدر عليه إلا هو سبحانه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ]( )نعم البيان القرآني من الأسباب والجنود التي سخرها الله عز وجل وهي أن السبب الذي يمحق الكافرين هو نفسه يتضمن الهداية والتفقه في الدين والجذب إلى التوبة والإنابة .
فمن تمحيص المؤمن أنه لا يأتيه المحق ، ولكن مع المحق للكافر يأتي التقريب إلى منازل الإيمان والتوبة ولا ينقطع هذا التقريب عنه إلى حين مغادرته الدنيا وهو ظاهر الآية أعلاه .
ولو تردد الأمر بين إستدامة البيان للناس وبين إنقطاعه عنهم أو عن خصوص الكافرين الذين إختاروا صيرورة غشاوة على أبصارهم فالصحيح هو الأول , ففي كل نهار يطل على الناس باشراقته ، أو ليل يأتي بظلمته وسكونه يشرق البيان القرآني مصاحب لهما ، وكأنه شجرة تتدلى أغصانها في كل بيت، وتبعث الطيب إلى النفوس ، وتنحيها عن مواضع سخط الله ، وأسباب المحق والنقص .
ولما أخبرت آية البحث بأن الله عز وجل يمحق الكافرين ويصيبهم بالنقص والضعف ،فانه تفضل بأمور :
الأول: نزول القرآن .
الثاني : سلامة القرآن من التحريف .
الثالث : إتصاف القرآن بأنه بيان للناس ، وفيه تحد وإخبار بأن آيات ومضامين القرآن القدسية تصل إلى الناس جميعاً وبما يجعلهم يدركون أن بيان القرآن أمر متميز ليس مثله بيان في الأرض أمس واليوم وغداً .
الرابع : ترمي آيات القرآن الكافرين بالمحق والخزي بما فيها من البيان والسنن.
ومن أسرار آية السياق مجيؤها باسم الإشارة [هَذَا بَيَانٌ] لإرادة قرب القرآن من الناس ، ووضوح بيانه وخلوه من الإبهام واللبس ، فلم تقل الآية (ذلك بيان ) وما فيه من إفادة البعيد.
ولغة القرب في الآية جذب للناس لسبل الهدى ، ولطف لدفعهم عن المحق والنقص، وفيه إعجاز من وجوه:
الأول : تفضل الله عز وجل بجعل القرآن قريباً من الناس.
الثاني : عجز الكافرين عن الإعراض عن القرآن، وجعله بعيداً عن حياتهم اليومية، وهو من أسرار تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة اليومية جهراً وسماع الناس لها، وقراءتهم لها إخفاتاً في صلاة الظهرين وجعل الناس يتشوقون لمعرفة كنه الآيات.
الثالث : إقامة الحجة على الناس بعدم وجود البرزخ والحاجز بينهم وبين كلام الله.
الرابع : تيسير تلاوة وحفظ المسلمين للقرآن , وإتخاذه هادياً ودليلاً وعينا.
الخامس : صيرورة القرآن موضوعاً للإحتجاج، فهو قريب من المسلم يستحضره كبرهان، ومن خصائصه أنه نص جلي وغير خفي على السامع.
السادس : بيان عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل بأن منع وجود البرزخ أو البعد بين القرآن وبين الناس.
السابع : قرب القرآن من الناس رحمة مزجاة ولطف من عند الله، وباب للتوبة والإنابة وقرب القرآن وبيانه من الناس من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
قانون(البيان القرآني رحمة)
الحمد لله الذي ملأ الدنيا بالبيان اللفظي والعقلي والفعلي بما يفيض عن حاجات الناس في أغراض التدبر، وبلوغ مراتب الفلاح والنجاح، ولما تفضل الله عز وجل وجعل الدنيا دار التمحيص والتوفيق فانه سبحانه جعلها زاخرة بالبيان الذي يقود إلى مراتب التطهير، وفي البيان القرآني تزكية من وجوه:
الأول : الإستماع إلى البيان القرآني تنزيه للأسماع.
الثاني : تلاوة البيان بقصد القرآنية.
الثالث : التدبر في البيان القرآني.
الرابع : ترتب الأجر والثواب على تلاوة القرآن [عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له عشر حسنات : بالباء ، والتاء ، والثاء]( ).
الخامس : مجيء أجر إضافي للإلتفات إلى البيان في القرآن.
السادس : تفقه المسلمين بالبيان القرآني، ومعرفة مضامينه ودلالاته.
السابع : إنتفاع المسلم من البيان القرآني في باب العبادات والمعاملات.
الثامن : إقتباس المسائل من البيان القرآني وجعله مناراً في سبل الهداية فلا غرابة أن يتلو كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لتكون موضوعية البيان في الآية أعلاه على وجوه:
الأول : تجلي صيغ الهداية في القرآن.
الثاني : بيان الصراط في القرآن بما لا لبس فيه.
عن جابر قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطًا، وخط عن يمينه خطًّا، وخط عن يساره خطا، ووضع يده على الخط الأوسط وتلا هذه الآية: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ] ( ).
الثالث : من خصائص البيان القرآني وضوح معالم الصراط في ثناياه، بدليل الآية أعلاه، ومن ذخائر علم التفسير تعدد وكثرة مصاديق سبل الصراط من غير تعارض بينها ، وتسليم العلماء والمسلمين كافة بأن طرق الصراط المستقيم تقبل هذا لتعدد ، وهو من الرحمة الإلهية في البيان القرآني بما يفيد تحبيب الإستقامة وتعاهد الفرائض وحسن السمت ، وبذل الوسع في مرضاة الله والحرص على إتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وإذا كان الصراط المستقيم من البيان القرآني ، فهل البيان من الصراط المستقيم أم أن هذا القول يلزم الدور ، الجواب ، هو الأول من غير أن تصل النوبة إلى الدور بينهما.
وتلك آية في البيان القرآني ، والتداخل بين علوم القرآن من غير تعارض بينها ،وهو من الرحمة في البيان القرآني بالفعل والإنفعال بما يفيد النفع العام للمسلمين والناس جميعاً .
لقد خاطب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بلغة الثناء والوعد الكريم له وللناس جميعاً بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، وتفضل سبحانه بإنزال القرآن بواسطة ملك من أعظم الملائكة وهو جبرئيل على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعله خيراً محضاً ، ورحمة متجددة ، وتتجلى الرحمة بأبهى صيغها بالبيان القرآني ،ليكون على وجوه :
الأول : بيان الحسن الذاتي والغيري للإيمان .
الثاني : الترغيب بالهدى .
الثالث : الحث على الإحسان للنفس بتحليها بالإيمان .
الرابع : البيان القرآني دعوة ناطقة للإيمان ، ولقد نزل القرآن بواسطة جبرئيل عليه السلام ليصل بيانه إلى المسلم والإنسان مطلقاً من غير واسطة ، وهو من مصاديق نفخ الروح في آدم وتنقلها في ذريته .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن موسى قال يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة؟ فأراه الله آدم فقال : أنت أبونا آدم؟ فقال له آدم : نعم . قال : أنت الذي نفخ الله فيك من روحه ، وعلمك الأسماء كلها ، وأمر الملائكة فسجدوا لك؟ قال : نعم . فقال : ما حملك على أن أخرجتنا من الجنة؟ فقال له آدم : ومن أنت؟ قال : موسى قال : أنت نبي بني اسرائيل الذي كلمك الله من وراء الحجاب ، لم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه؟ قال : نعم . قال : فما وجدت أن ذلك كان في كتاب الله قبل أن أخلق؟ قال : نعم . قال : فلم تلومني في شيء سبق فيه من الله القضاء قبل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عند ذلك فحج آدم موسى . فحج آدم موسى( ).
الخامس : البيان القرآني واقية من الإنزلاق في مستنقع الضلالة .
السادس : في البيان القرآني فضح للكفر ومفاهيمه وزاجر عن ولوج أبوابه، وهو من الرحمة في البيان القرآني لأنه واقية للناس من عذاب النار .
السابع : البيان القرآني فرقان يومي متجدد بين الحق والباطل والهدى والضلال .
لذا ذم الله عز وجل الكفار ، ونعتهم بأنهم فرطوا بأعز شئ ليشتروا الضلالة التي هي ضرر محض في النشأتين ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] ( ).
الثامن : البيان القرآني من أفضل صيغ ومواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيتخذه الله حجة للهداية وسلاحاً في الزجر عن السيئات .
التاسع : من خصائص البيان القرآني أنه دعوة ملحة للتوبة ، تتضمن إكرام الإنسان وحفض شأنه وسلامته من العذاب الأخروي ، لذا جاء القرآن ببيان أهوال عذاب الكفار والفاسقين بما يبعث النفرة من الكفر والفسق والذين يصرون على البقاء على الجحود وإرتكاب المعاصي ، والقرآن مدرسة البيان الظاهر والجلي .
وعن الإمام علي عليه السلام قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ستكون فتن قلت : وما المخرج منها؟ قال : كتاب الله . فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل وليس بالهزل ، وهو حبل الله المتين ، وهو ذكره الحكيم ، وهو الصراط المستقيم( ).
والبيان القرآني علوم توليدية جعلها الله عز وجل قريبة من الأذهان غير عصية على الأفهام ، تلامس شغاف القلوب وتنكشف بها نافذة إلى مشارق أنوار الهداية ، وهو من أسرار الجهر بالتلاوة في شطر من الصلاة اليومية ليكون التدبر عاماً من قبل المسلمين والناس جميعاً بآيات القرآن .
ومن رحمة الله عز وجل في البيان القرآني ملازمة التدبر بمضامينه عند التالي له والمستمع والقارئ ، والذي تطرأ على ذهنه آيات القرآن وهذا الطرو من رحمة الله وعمومات ما ورد عن النواس بن سمعان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول الميزان بيد الرحمن . يرفع أقواماً ويضع آخرين إلى يوم القيامة ، وقلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن . إذا شاء أقامه ، وإذا شاء أزاغه ، وكان يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك] ( ).
الصلة بين قوله تعالى[وَهُدًى] وبين هذه الآية
تدل آية السياق بأن الله عز وجل تفضل وجعل الدنيا ( دار الهدى)، ففيها إصلاح للنفوس وجلاء للأبصار ، وتنمية لملكة التقوى بنزول آيات القرآن ، ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتكون كل آية من القرآن بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : القرآن هدى إلى الإيمان .
وكل آية تدعو الناس مجتمعين ومتفرقين إلى التوحيد والتصديق بالنبوة والتنزيل.
الثاني: القرآن هدى لقانون التمحيص وفيه مسائل :
الأولى: بيان موضوعية التمحيص ، وأنه جزء من حياة أهل الإيمان.
الثانية : بعث السكينة وأسبابها من الأمل والرجاء والفخر والعز في قلوب المسلمين لهدايتهم إلى منازل الإيمان والتطهير ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالثة : منع دبيب الجهالة للناس فلا يعلم أكثر الناس أن الدنيا دار تمحيص وتطهير لأهل الإيمان وهي محق للكافرين وسحق للكفر وتطهير للأرض من آثاره ومفاهيمه .
الرابعة : دفع الغفلة عن الناس، فمن منافع التمحيص والمحق في الدنيا منع الإنسان من الإنقطاع إلى لذات وشهوات الدنيا ، قال تعالى في بيان فضل الله بنزول القرآن[وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
الثالث : القرآن هدى وسبيل صلاح، وهو معجزة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بها واجب، وهو من مصاديق البيان في القرآن بلزوم الهداية إلى إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن القرآن هو كلام الله الذي يهدي إلى النبوة، وهل يهدي القرآن إلى نفسه، وأنه تنزيل ناطق, الجواب نعم، وهو من إعجاز القرآني الذاتي من غير أن يلزم الدور فيه.
الرابع : القرآن هدى إلى التوحيد، ونبذ الشرك ومن إعجازه الغيري إنقطاع عبادة الأصنام بنزوله ومحو وجودها في الأرض وإلى يوم القيامة، وهذا المحو من أبهى مصاديق الهدى بالقرآن وشاهد بان هدى القرآن عام وخاص وأنه يتعلق بتهيئة أسباب ومقدمات الهدى لتكون عوناً لكثرة الذين يتغشاهم التمحيص ، وقلة الذين يصيبهم المحق، وهو من معاني المحق.
وفي آية البحث مسائل :
الأولى : المحق قبل التلبس بالكفر ليصير البيان القرآني برزخاً دون تلبس الناس بالكفر فان قلت قد يكون الكفار هم الأكثر فان المنع والبرزخ والمحق الذي يمنع الناس من الكفر ، والجواب هذا ونسبة الكفار وهو في الأصل منحسر وأصابه النقص والقلة .
الثانية :عدم إنتماء الكفار إلى الكفر على نحو الإخلاص والإصرار فتراهم يتركون منازله مع أدنى تدبر بقبحه، لتكون الحياة الدنيا كالأرض الخصبة لدعوة الأنبياء.
الثالثة :محق ونقص عدد الكفار بالتوبة ، وهلاك الظالمين ، وظهور ذرية تتصف بالإيمان، ومنه قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وفيه شاهد على تعدد مراتب المحق، وأن الذي يصر على الكفر ويقرنه بالتعدي على المسلمين وثغورهم يأتيه القطع والبتر والإستئصال ومن يبقى منهم يصير معزولاً لا يسمع الناس قوله.
ومن معني الهدى في آية البحث أنها تهدي إلى قانون التمحيص وقانون المحق ، من جهات :
الأولى : التمحيص والمحق أمران بيد الله عز وجل .
الثانية : لا يقدر على التمحيص والمحق إلا الله عز وجل وحده، وهو من معاني التوحيد في الأرض ودلالات خلافة الإنسان وقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )بإكرام الخليفة بأن الله عز وجل لم يجعل تمحيصه أو محقه بيد أحد من الخلائق ، قال تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ]( ).
الثالثة : عدم التعارض بين قانوني التمحيص والمحق بلحاظ التباين في الموضوع والحكم بينهما.
الرابعة : بعث الشوق في النفوس للتمحيص والتزكية، وجعلها تنفر من المحق.
ويتعذر على الإنسان إحصاء وحصر مصاديق تكريم الله عز وجل لبني آدم، ومنها:
الأول : العقل والحكمة والتمييز بين الأشياء.
الثاني : الهداية إلى الإيمان وسنن الصلاح، قال تعالى[إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( ).
الثالث : خلافة الإنسان في الأرض.
الرابع : تسخير الأشياء كلها للإنسان.
الخامس : ورد عن ابن عباس في قوله تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ] كل شيء يأكل بفيه إلاّ ابن آدم يأكل بيديه)( ).
السادس : جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بني آدم، وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله خلق السموات سبعاً فاختار العليا منها ، فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم ، واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر ، واختار من مضر قريشاً واختار من قريش بني هاشم ، واختارني من بني هاشم ، فأنا من خيار الأخيار)( ).
السابع : قرب الإيمان من بني آدم، وصيرورة المؤمنين خالدين في الجنان، وعن عروة بن رويم الأنصاري إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة : يا رب ، خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون ، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة ، فقال الله تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي)( ).
الثامن : تكريم بني آدم بنزول القرآن والكتب السماوية، وبتلاوتهم لكلام الله خمس مرات في اليوم وهو أن تغبطهم عليه الخلائق.
التاسع : الوحي للأنبياء، وإرسالهم للناس، من أبناء جنسهم كل بلسان قومه، لبيان حقيقة وهي قدرة كل إنسان على بلوغ مراتب الإيمان والتحلي بالخلق الكريم والورع والزهد الذي إختاره الله لأنبيائه.
العاشر : بديع هيئة الإنسان، وإمتداد قامته، وجعل كل عضو منه بقدر مناسب لوظائفه وحاجة الإنسان له، قال تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
الحادي عشر : نعمة النطق وبيان اللفظ وهو آلة التلقي عند الإنسان للتنزيل وبلاغات الأنبياء، فلما قال الله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] فإنه سبحانه جعل عند الإنسان حاسة السمع والتمييز وكان أول ما تلقى آدم عند خلقه من الله عز وجل تعليم الأسماء ليكون التعلم والعلم والتعليم مادة الحياة، ويكون الثواب والعقاب عليها، وقال سبحانه[قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( )، ليكون الملائكة شهوداً على الإنسان بفوزه بالتعلم والتمييز بين الأشياء بالذات والأثر.
الثاني عشر : إكرام الرجال باللحى، والنساء بالذوائب، أي الضفائر نسبه الثعلبي إلى القيل( )، وذكر أنه من تسبيح الملائكة : سبحان من زين الرجال باللحى وزين النساء بالذوائب) ( ).
الثالث عشر : نسبة الإرتقاء والسرعة في وسائط الحمل إلى الله عز وجل، لأنه هو الذي يحمل الناس عليه، وفيه دعوة للشكر له سبحانه لتعم نعمة التنقل وتحرز السلامة في البر والبحر والجو، وهذه السلامة مستقرأة من قوله تعالى(وحملناهم).
الرابع عشر : كرمنا بني آدم بالتكاليف العبادية، وبعث الناس على أدائها شكراً لله عز وجل.
الخامس عشر : وجود[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بين الناس وهم من جنسهم، وبين بني آدم والمسلمين عموم وخصوص مطلق، فليس من مائز جعل المسلمين خير أمة إلا الفقه والتدبر والهداية وهي أمور جعلها الله شرعاً سواء للناس جميعاً.
السادس عشر : إكرام بني آدم بالتوبة والإنابة وغفران الذنب وعدم ترتب الأثر عليها في الدنيا أو في الآخرة، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
السابع عشر : فتح باب الدعاء للإنسان مطلقاً ، فهو شاهد على الإقرار بالعبودية لله عز وجل ، والتسليم بأن مقاليد الأمور بيده سبحانه.
الثامن عشر : إكرام الإنسان عند موته ومغادرة الروح الجسد بدفنه في الأرض ستراً له، وإظهار إكرام الأحياء له، وإمتثالهم لأمر الله بدفن الموتى وعندما قتل ابن آدم قابيل أخاه هابيل وإحتار في أمره لأنه أول مقتول من بني آدم وظلّ يحمله على ظهره لأشهر متتالية حتى تبعته السباع لإنتشار رائحته ولعل قابيل تمنى ورجا عودة أخيه إلى الحياة، وأنه لم يكن يظن بأن ضربة بحجر على رأسه تأتي على حياته إلى الأبد.
تفضل الله وأرسل غراباً كما قال سبحانه[فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ]( )، إذ أرسل الله عز وجل غرابين فأقتتلا، فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره وبحث في الأرض برجليه، إلى أن صارت حفرة، فألقاه فيها ثم غطاه بالتراب، وقابيل ينظر إليه، وفي إختيار الغراب نكتة وهي إتصافه بالميل إلى حفر الأرض، وأنه عنوان للغربة والمغادرة .
وفي قابيل وجوه:
الأول : إنه كان كافراً، إذ قتل أخاه على قبول الله قربانه في ذات الوقت الذي لم يتقبل قربان قابيل.
الثاني : كان قابيل مؤمناً عاصياً بدليل أنه لو كان كافراً لما إمتنع هابيل عن قتله كما ورد في التنزيل[لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ]( ).
الثالث : قابيل بن آدم مؤمن ولكنه بعد قتله لهابيل كفر وقيل أن آدم طرده فأخذ توأمته إفليما معه وهرب بها إلى أرض اليمن، فجاءه إبليس وأغواه، وقيل : لما قتل هابيل مكث آدم (عليه السلام) مائة سنة لا أكثر. ثم أتى فقيل : حيّاك اللّه وبياك أي ضحّكك( ).
ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حوّاء شيثاً وتفسيره : هبة اللّه، يعني إنه خلف من هابيل، وعلّمه اللّه تعالى ساعات الليل والنهار وأعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه هبة اللّه وصار وصي آدم عليهما السلام وولي عهده، وأما قابيل فقيل له : إذهب طريداً شريداً فزعاً مرهوباً لا يأمن من يراه فأخذ بيد أخته هبة اللّه ذهب بها إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس، فقال له : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النّار ويخدمها فانصب أنت ناراً يكون لك ولعقبك فنصب ناراً وهو أوّل من نصب ناراً وعبدها.
قالوا : كان لا يمرّ به أحد من ولده إلاّ رماه، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابن له فقال الأعمى : إنّ هذا أبوك قابيل فرمى الأعمى قابيل فقتله. فقال ابن الأعمى: قتلت أباك قابيل. فرفع يده فلطم إبنه فمات قال الأعمى : ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي.
قال مجاهد : فعلقت إحدى رجل قابيل إلى فخذه وساقه وعلقت يومئذ إلى يوم القيامة)( ).
ولا دليل أو نص جلي عليه وأن الأعمى من ولد قابيل رمى أباه وإبنه بساعة واحدة، وذكر أن شيثاً وهو ابن آدم ووصيه سار متقلداً سيف أبيه آدم، وقاتل قابيل بوصية أبيه له، وأخذه أسيراً وسلسله، إلى أن مات كافراً.
ومن إعجاز القرآن أنه بيّن المائز بين هابيل وقابيل بقوله تعالى[إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ]( ).
وعن الحسن البصري في قوله{واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق} قال: كانا من بني إسرائيل ولم يكونا ابني آدم لصلبه ، وإنما كان القربان في بني إسرائيل وكان أوّل من مات)( ).
التاسع عشر : الملكية الخاصة عند الناس، وصيرورتها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة والذي يقبل السعة والضيق، فمن مصاديق الخلافة في الأرض ملكية الإنسان للدور والبساتين والأراضي الواسعة وعمارتها، وتوارث هذه الملكية، وهو أمر ينفرد به الإنسان[ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
العشرون : حفظ الأنساب عند الناس وإن تعاقبت الأجيال، وتفاخر الناس بالنسب، ورجحان التفاخر بالإيمان والتقوى على النسب لقوله تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، وقد يجمع الله لشطر من عباده التفاخر بالتقوى والنسب والجاه ونحوه وجعلها في طاعة الله عز وجل.
الحادي والعشرون :مضامين آية (كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) ( ) ويفيد العطف فيها على تعدد النعم الإلهية على الإنسان وأنها غير التكريم، والنعم التي ذكرتها الآية أعلاه هي:
الأول : تفضل الله بإكرام بني آدم مطلقاً بالذات .
الثاني : حمل الناس في البر على الدواب، ومنه وسائط النقل السريعة ليكون من إعجاز القرآن عدم حصر آلة الحمل بالدواب، وهل النقل بالجو والطائرات منه، الجواب نعم لأنه ملحق بالبر، لذا جاءت نسبة الحمل في الآية لله تعالى، وأنه هو الذي يحمل الناس في تنقلهم،ولم تذكر الآية الدواب كواسطة للنقل مع أنها الوحيدة في زمان التنزيل ، ليكون من إعجاز القرآن ذكر الحمل والنقل دون الواسطة لتعددها وإستحداث وسائط حديثة تطوي الأرض طياً ، وقوله تعالى [وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ] ( )، أعم من الإنتقال بالراحلة والركوب والسيارة ، فيشمل سير الإنسان على رجليه ليكون من المقاصد السامية في قوله تعالى [وَحَمَلْنَاهُمْ] مسائل :
الأولى : إختيار الإنسان في السكن والإنتقال ولو على رجليه .
الثانية : إقامة الناس في مجتمعات متجانسة في المدن وتآزرهم وتعاونهم في المكاسب ودفع الأضرار .
الثالثة : عمارة الأسواق ، وصيرورتها وعاء للتجارة وسبباً لإستدامة الحياة والرزق الكريم .
الرابعة : حفظ الذراري بسلامة الآباء بلحاظ أن الحفظ والسلامة من معاني الحمل في الآية الكريمة .
الثالث : إتخاذ الناس البحر واسطة للإنتقال ، وهو أمر ينفرد به الناس ، مما يدل على أن خلافة الإنسان أعم من أن تنحصر بالأرض والبر ، فتشمل البحار وهل إنتقال الإنسان بالطائرات من خلافته في الأرض ، الجواب نعم وهو من الإعجاز في إجتماع السموات والأرض في تسخيرها له ، ليكون من مصاديق الآية أعلاه [وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ] ( )دعوة الناس إلى عدم إتخاذ البحار والآفاق محلاً للإنتقال بالسفن والطائرات الحربية والرمي بالأسلحة من الأرض إلى البحر ومن الأرض إلى الجو وبالعكس .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ]زجرهم عن الجحود بالنعمة بالإقتتال فيما بينهم وتسخير النعم لقتل بعضهم بعضاً والواقية من هذا القتال هو الإيمان لذا قال تعالى [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ] ( )فمن الإعجاز في الآية أعلاه ورود لفظ [خَيْرٌ]على نحو الإطلاق والتنكير ليكون التقدير على وجوه كثيرة وتوليدية ومتجددة .
الرابع : رزق الناس الطيبات من الرزق الكريم وهو أيضاً أمر ينفرد به الإنسان وهل من الطيبات إختيار الإنسان ما يشتهيه من الطعام أم أنه مقدمة لنيل الطيبات ، الجواب كلاهما صحيح ، وهو من فضل الله عز وجل على الإنسان .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الله عز وجل ضمن للناس رزقهم من الطيبات وإلى يوم القيامة ، وفيه رد على الذين يخشون تفاقم أزمة الغذاء ، نعم قد تكون هذه الأزمة بسبب شيوع المنكرات .
فصحيح أن آية [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ]لم تقيد هذا التكريم والرزق الواسع الكريم بالإيمان والتقوى إلا أن آية البحث تشمل المقام فمن مصاديق قوله تعالى [وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]تقدير الرزق على الظالمين ليكون مناسبة للتوبة والإنابة .
الخامس : تفضيل الناس على أكثر المخلوقات ومن إعجاز الآية مجيئوها بصيغة التبعيض [مِمَّنْ خَلَقْنَا] ( )لبيان حقيقة وهي أن خلق الله عز وجل أعم من أن تحيط بهم أذهان البشر ، ليكون تفضيلهم مدداً لله في تمحيصهم وتطهيرهم من دنس الذنوب والمعاصي .
والتمحيص والمحق حكم عام في الأرض ، ليس من إنسان إلا ويشمله فاما أن يفوز بالتمحيص وأما أن يأتيه المحق جزاء عاجلاً ، وبرزخاً دون تماديه في فعل السيئات وثقل كاهله بأوزار وأعباء في الدنيا والآخرة ، لذا يمكن تأسيس قانون وهو أن الحكم العام في الأرض خاص بالله عز وجل لذا جاءت الآية صريحة بنسبة كل من التمحيص والمحق لله عز وجل [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ].
ومن منافع حصر التمحيص والمحق بيد الله بلحاظ لفظ [وَهُدًى]في آية السياق .
الأول : هداية الناس إلى منازل التمحيص وزجرهم عن أسباب المحق والنقص .
الثاني : تنمية ملكة التفقه في الدين عند الناس ومعرفة أحكام التوحيد ، وأن الدنيا دار إمتحان وإختبار وجزاء أولى ، ويتجلى هذا بالتمحيص والمحق ليكون هذا الهدى موعظة ، لذا فمن إعجاز آية السياق [وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث : كل من العلة والمعلول بيد الله عز وجل، فلم يرد التمحيص والمحق إلا معلولين بعلة متعددة، وهذا التعدد من فضل الله، والمندوحة في الإختبار والإمتحان لتوفيق المؤمن ولتدارك الإنسان مطلقاً.
وتعددت العلة في الآية السابقة منها قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ). فتصريف الأيام بين الناس أمر بيد الله ولو إجتهدت طائفة أو فريق أو شخص لجلب الأيام إليه وصيرورة الدولة له فهل تستجيب له بلحاظ أن أمرها بيد الله فأنه لا يتعارض مع طلبها والسعي لتسخيرها وإتخاذها غاية للكسب والسعي وبلغة للدولة والسلطنة .
الجواب هو النفي ،إذ تدل الآية على عدم إستجابة الأيام إلا لله عز وجل ، نعم يكون هذا السعي مناسبة للتمحيص أو المحق وجلب الرزق، فاذا كان قربة إلى الله ، وطلباً لمرضاته تعالى ، ففيه التمحيص والتطهير والثواب ،قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).ويكون من معاني التمحيص هنا البركة في الأيام وإطالة ساعاتها وبذل السماء بركاتها ونشر الأخلاق الحميدة ، وإقبال الناس على أداء الفرائض .
أما إذا كان السعي للدنيا وإرضاء للنفس الشهوية والغضبية وإشاعة للفساد وأوهام الضلالة فانه سبب للمحق والنقص فاذا أقبلت الأيام والنعمة عليه فانها لا تدوم أو تستمر وهو من مصاديق المحق والنقص ، ليكون من معاني الهدى في المقام لجوء المؤمنين إلى الصبر والتمسك بالتقوى عند إقبال الأيام إلى أهل الدنيا والفاسقين ، والدعاء لإعراضها عنهم ، ومنع إستدامة سلطانهم .
الرابع : لما جعل الله الدنيا دار هدى فانه سبحانه جعل من أسباب الهداية العامة للناس بلحاظ آية البحث أموراً:
الأول : تمحيص وتطهير وتزكية المؤمنين سبب لهدايتهم إلى منازل تثبيت الإيمان والدعوة إلى الله، وهو من مصاديق وصف القرآن بأنه [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
فلو قيل كيف يأتي التمحيص للذين بلغوا مرتبة التقوى والخشية من الله فجاءت هذه الآية جواباً لهذا الإشكال فكل من التمحيص والمحق ، وإختصاص كل منهما بفريق دون آخر ، مع التباين والتضاد بين المؤمنين الذين يتغشاهم التمحيص، والكفار الذين يحل بساحتهم المحق من عند الله .
الثاني : تمحيص وتزكية المؤمنين تذكير للكفار بقبح إقامتهم على الجحود وخسارتهم بحرمانهم من التمحيص والتطهير وما في هذا الحرمان من ضياع النعم، وتعاقب الأذى ، ورؤية الأيام كيف تنصرف إلى أهل الصلاح والتقوى.
الثالث : هداية الناس إلى عدم إعانة الكفار والظالمين إن أقبلت عليهم الأيام والنعم ، لأن أمدها قصير ، وزوالها سريع ، للوعد الإلهي الذي يتجلى في آية البحث [وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( )
وتلك آية في الإنتفاع العام من آية البحث ، وهداية الناس إلى سبل الرشاد والصلاح .
ومن إعجاز القرآن عدم إنحصار اللطف الإلهي في الموضوعات والأحكام بخصوص المعنى المستنبط ، والدليل المستقرأ بل جاء القرآن بالأمر والنهي الصريحين ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
والآية أعلاه مطلقة وتشمل عدم الركون والميل إلى الظالمين أو إعانتهم حتى عندما تكون الدولة والشأن لهم ،لأن أيامهم إلى زوال ، وكم من إنسان وفئة مالوا إلى الظالم وسرعان ما هدم عرشه وإنهار بنيانه فلحقهم الضرر والذل إلى جانب الفرد الأهم وهو الإثم الذي يلحق الذين يناصرون الظالم ، لتكون آية البحث هدىً للإعانة بأسباب التمحيص وإجتناب إتباع الكافرين الذين أبى الله عز وجل إلا أن يرميهم بالمحق والنقص ويوم القيامة يسأل الذين إتبعوا الظالم ولم يتعظوا من الهدى القرآني الوارد في آية البحث العودة إلى الدنيا للتبرأ من الظالمين وعدم إعانتهم في غيهم وجورهم كما ورد في التنزيل[وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ]( ).
الرابع :تعدد صيغ ومواضيع الهدى في آية البحث من جهات :
الأولى : الهداية إلى العلم بماهية الحياة الدنيا وأنها دار تمحيص ومحق .
الثانية : تنمية ملكة التوكل على الله في النفوس .
الثالثة : التضرع إلى الله عز وجل للفوز بالتمحيص والبركة، والسلامة من المحق والنقص .
الرابعة : التعاون بين المسلمين لبلوغ مراتب التمحيص وتعاهدها وعدم مغادرتها إلى حيث النقص والمحق، وهذا التعاون من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
فكما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التمحيص فان وظيفة الإنسان السعي للفوز به كنعمة عظيمة من عند الله تترشح عنها النعم المتعددة فيكون شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة التمحيص متجدداً.
الخامسة : إتخاذ المسلمين أداء الصلاة واقية من المحق ، وهي من ضروب الإستعاذة بالله من المحق والنقص، لذا ورد قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
ليكون من دلالات الآية اعلاه أن الصلاة واقية من المحق باجتناب أسبابه وطرقه والأعمال التي تكون من سنخية الكفر الظاهر والأمر الخفي فان قلت قيدت آية السياق الهدى في القرآن بأنه خاص بالمتقين ، فكيف يشمل الكافرين ، والجواب من وجوه:
الأول : ورد وصف القرآن وآياته بأنه هدى الناس جميعاً ويدعو إلى المناسك التي هي هدى وصلاح للناس، قال تعالى[إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثاني : كل آية من القرآن هدى للناس في ذاتها ومفهومها ، ومصاديق العمل بأحكامها وسننها ومضامينها القدسية .
الثالث : ما كان هدى للمتقين فهو هدى وصلاح للناس جميعاً ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الرابع : من معاني ووجوه الواو في آية السياق [وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ]( ) الإستئناف وتقدير الآية : هذا بيان للناس وهدى للناس وموعظة للمتقين .
ليكون الهدى شاملاً للتمحيص والمحق , والموعظة خاصة بالمتقين ، وهذا الخصوص مدرسة للناس جميعاً ، ودعوة للنهل منها بلحاظ أن ذات القرآن هو موعظة ، وهو قريب من الناس جميعاً في رسمه وكلماته وتلاوته .
ترى كيف يكون محق الكافرين هدىً للناس ، الجواب من وجوه :
الأول :إتعاظ الناس مما يلحق الكافرين من البلاء والنقص .
الثاني : محق الكافرين مصداق عملي وبيان لقبح الكفر الذاتي والغيري.
الثالث : نفرة الناس من الكافرين، لتعاقب الخسارة عليهم.
الرابع : هداية الناس من مصاديق محق الكافرين، وتقدير الآية، ويمحق الكافرين بهداية الناس إلى الإيمان.
الخامس : دولة الأيام رحمة ونعمة ، وفي عروجها للكافرين دعوة لهم للتدبر بالنعمة والمبادرة إلى التوبة والصلاح والامتناع عن الإضرار بالمؤمنين وفي فرعون لو آمن برسالة موسى عليه السلام لبقي في سلطانه وعرشه، لذا فان موسى جاءه بالدعوة لعبادة الله ونبذ الشرك وترك إدّعاء الربوبية.
وكذا بالنسبة لقريش فقد إشتد إيذاؤهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بان تصديقهم له مناسبة لرئاستهم على العرب والعجم فابوا إلا الصدود حتى سقط سبعون منهم قتلى في معركة بدر ، وقتل عدد من فرسانهم يوم أحد وأيهما أشد على كفار قريش يوم يوم بدر أم يوم أحد في أسباب المحق والنقص هذا ما نتعرض له في الجزء التالي إن شاء الله، عن محمد بن كعب القرظي قال : اجتمع قريش؛ وفيهم أبو جهل على باب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا على بابه : ان محمداً يزعم أنكم ان بايعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ، وبعثتم من بعد موتكم ، فجعلت لكم نار تحرقون فيها ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ حفنة من تراب في يده قال : « نعم ، أقول ذلك ، وأنت أحدهم ، وأخذ الله على أبصارهم فلا يرونه ، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم ، وهو يتلو هذه الآيات { يس والقرآن الحكيم } إلى قوله[ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ]( )، حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الآيات ، فلم يبق رجل إلا وضع على رأسه تراباً ، فوضع كل رجل منهم يده على رأسه ، وإذا عليه تراب فقالوا : لقد كان صدقنا الذي حدثنا( )، ومن مصاديق محق الكفار يوم أحد:
الأول: كثرة عدد القتلى من المشركين الذين سقطوا يوم أحد ، وهم أربعة وعشرون.
الثاني : قصور كفار قريش عن تحقيق الغايات التي زحفوا من أجلها بثلاثة آلاف من الرجال ، وبانفاق أموال طائلة مؤونة للجيوش مع تعطيل الأعمال والمكاسب والزراعات.
الثالث : الخزي الذي لحق قريشاً وحلفائها في معركة أحد ، وما ترتب عليها ، وحسرة المنافقين عند رجوع قريش إلى مكة مع سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي نزول الآيات عليه وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ]( ).
صله [وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ]بهذه الآية :
وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : ليمحص الله الذين آمنوا موعظة للمتقين .
الثاني : يمحق الله الكافرين موعظة للمتقين .
الثالث : ليمحص الله الذين آمنوا موعظة للمتقين ويمحق الكافرين .
الرابع : يمحق الله الكافرين موعظة للمتقين ويمحص الذين آمنوا .
الثانية : لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار الموعظة ، وليس من حصر لمتعلقها وموضوعها ومتلقيها ، ولكن المؤمنين الذين يخشون الله عز وجل هم الذين يتخذون موعظة من وجوه :
الأول : نزول الكتب السماوية والذي بلغ غايته بنزول القرآن .
الثاني : البيان الذي يتجلى في القرآن موضوعاً وحكماً وإعجازاً ذاتياً أو غيرياً .
الثالث : بعث الأنبياء والمرسلين وتوالي الوحي عليهم تشريفاً وتمحيصاً لهم ولأتباعهم ومحقاً وخزياً للذين كفروا بنبوتهم والوحي الذي نزل عليهم، عن أبي أمامة قال : قلت : يا نبي الله كم الأنبياء؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً( ).
الرابع : تمحيص وتطهير المؤمنين وتجلي بركة الإيمان على أشخاصهم وحياتهم الخاصة والعامة .
الخامس : محق الكافرين ، وإصابتهم بالأذى والضرر ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
وبين الذين آمنوا وبين المتقين عموم وخصوص مطلق ، فجاء التمحيص للمعنى الأعم ليشمل المسلمين رجالاً ونساء ويكون التمحيص طريقاً وسبباً لبلوغ مراتب المتقين.
ومن إعجاز القرآن أنه سبب وعلة متعددة وبلحاظ آية السياق يتوجه البيان والهدى والموعظة مجتمعة ومتفرقة لتطهير وتزكية المسلمين ، والأخذ بأيديهم للإرتقاء في سلم التقوى ودرجات اليقين ، وتتوجه آية البحث إلى الناس جميعاً تدعوهم إلى التوبة والإنابة والتصديق بمعجزات النبوة التي تدل على الوحدانية ، وتدعو إلى الأخوة الإيمانية وتمنع من الزيغ.
ومن معاني الجمع بين الآيتين إقتران مجئ البيان القرآني للإنسان حتى في حال الكفر ونزول المحق والنقص والإبتلاء به ، ليكون ذات المحق الذي ينزل بالكافر بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : إنه بيان للناس باقتران النقص والمحق والقلة بالكفر .
الثاني : إنذار الناس من الكفر ، ودعوتهم للنفرة منه لما فيه من الأضرار الخاصة والعامة .
الثالث :تبكيت الكفار وجعلهم يرون ما يلحقهم من العذاب والأذى بسبب البقاء على الكفر ومفاهيم الشرك .
الرابع : دعوة الناس جميعاً إلى التدبر في قصص القرآن وسوء عاقبة الكفار.
قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ).
فان قلت هل يدخل بيان هلاك الظالمين وشدة عذابهم في أحسن القصص ، الجواب نعم ،من جهات:
الأولى : نزول هذه القصص من عند الله عز وجل .
الثانية : بيان عظيم قدرة الله ونفاذ مشيئته ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ]( ).
الثالثة : ذكر مصاديق وشواهد حسية لمحق الكافرين.
الرابعة : إتعاظ الناس من شواهد محق الكافرين ونزول البلاء بهم .
الخامسة : قصص محق الكافرين الواردة في القرآن حق وصدق وتكون وفق القياس الإقتراني.
الكبرى : القصص الحق والصدق هي أحسن القصص .
الصغرى : قصص القرآن حق وصدق .
النتيجة : قصص القرآن أحسن القصص .
وتفوق قصص القرآن غيرها من القصص بوجوه منها:
الأول : انها تنزيل من عند الله.
الثاني : قصص القرآن إخبار عن حوادث واقعة.
الثالث : سلامة قصص القرآن من الزيادة والتحريف.
الرابع : كل قصة في القرآن موعظة وعبرة.
الخامس : في تلاوة وإستحضار القصة القرآنية أجر وثواب عظيم.
السادس : من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، تعاهد قصص القرآن.
السابع : شهادة الله عز وجل لقصص القرآن بأنها[أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، وهذا الحسن يتعلق بها بالذات والموضوع والأثر العظيم.
وعن سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاه عليهم زماناً، فقالوا: يا رسول الله لو قصصت، فأنزل الله تعالى (الَرَ تِلكَ آَياتُ الكِتابِ المُبينِ) إلى قوله (نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحسَنَ القَصَصِ) الآية، فتلاه عليهم زماناً( ).
ولا يختص قوله تعالى[أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، بقصة يوسف عليه السلام وما فيها ،من وجوه:
الأول : حكاية سورة يوسف بقصة نبي من نعومة أظفاره.
الثاني : الصلة بين النبي وأخوته، ليكون فيها بيان لصلته مع الناس من باب الأولوية القطعية.
الثالث : آية الحسن في قصة يوسف ، وما ترتب عليه من الفعل القبيح من طرف الحاسد الذي يصل إلى قتل المحسود، وتعريض حياته للخطر مع صلة الرحم ووصية النبي الوالد بالعناية به.
الرابع : حصول ملكية ووصف رق بالباطل ليوسف النبي عليه السلام .
الخامس : صبر يوسف عليه السلام ، وتحمله الأذى ، إذ لم تذكر سورة يوسف إحتجاجه على شرائه ، وإخباره عن حريته ونسبه الشريف إلى أن أظهر الله الحق بمعجزة .
السادس : نجاة يوسف عليه السلام من غيابت الجب وعمق البئر بآية ورحمة من الله .
السابع : في قصة يوسف أسطورة عشق واقعية ، تفوق حد التصور في أطرافها وحوادثها وعصمة يوسف عليه السلام التي كانت بها نجاة للأمة من سني القحط .
الثامن : بيان قانون العشق لا يكون على نوع المفاعلة على نحو الدوام ، بل يقابل بالصبر والتنزيه عن الفحشاء .
التاسع : قصة السجن والحبس والحوادث التي تقع فيه بما تكون سبباً للفرج والخروج منه ،ومن إعجاز ألفاظ القرآن أن مادة (سجن ) وردت عشر مرات في القرآن ، كلها في قصة يوسف عليه السلام إلا واحدة جاءت حكاية عن فرعون وعيداً لموسى عليه السلام بالسجن [قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ] ( )ليكون من رشحات صبر يوسف عليه السلام في السجن ، سلامة موسى وهارون منه ، مع الإجهار بالدعوة إلى الله .
[وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب،: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها … فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا دخل السجان يوماً لحاجة … عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا فجل حديثنا … إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت كانت بطيئاً مجيئها … وإن قبحت لم تنتظر وأتت سعيا]( ).
العاشر : حال الخصب والجدب التي حلت بمصر مع كثرة سكانها ووفرة المياه فيها وخصوبة أرضها .
الحادي عشر : فيوضات النبوة في دفع المجاعة عن الناس وتولي يوسف عليه السلام إدخار الطعام بناء على رؤيا للملك لينتفع أهل الأقطار المجاورة منه ، ويكون سبباً للقاء بين يوسف وأبويه وأخوته .
الثاني عشر : قد يدخل الملك أو الوزير السجن ، ولكن قصة يوسف تبين أن خروجه من السجن مناسبة لإرتقائه إلى منصب الوزارة ، وفيه دعوة للحكام والأمراء للانتفاع من بركات الأولياء والصالحين وإتخاذهم بطانة وتوليتهم شؤون العامة مع النزاهة والتقوى ومحاربة الفساد .
إن قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( )عام وشامل لقصص القرآن كلها ، من غير تقييد بقصة مخصوصة ، وليس من حصر لوجوه الحسن فيها ، فكل قصة منها كنز علمي متجدد ، وذخيرة تقتبس منها المواعظ والأحكام ، ونبراس يتخذه المسلمون منهاجاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وآلة سماوية لجذب المسلمين لمنازل التمحيص.
السادسة : قصص القرآن أحسن القصص لأنها تتضمن الإخبار عن تمحيص الذين آمنوا ومحق الكافرين ،وتكون مقدمة وطريقاً لكل منهما بلحاظ التعدد والتباين بين الأجيال السابقة لأيام التنزيل واللاحقة له
السابعة : حاجة الناس إلى قصص القرآن وحضورها عندهم ، وقربها منهم .
الثامنة : قصص القرآن شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
صلة هذه الآية بالآية التالية [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] ( ):
وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول :أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم وليمحص الذين آمنوا .
الثاني : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويمحق الكافرين .
الثالثة : ويمحص الله الذين آمنوا ويعلم الصابرين .
الرابع : ويعلم الصابرين ويمحق الكافرين .
الخامس : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين .
المسأله الثانية : بعد مجئ آية البحث بصيغة الجملة الخبرية عادت آية السياق إلى لغة الخطاب وإرادة المسلمين ، وهو نوع إكرام بأن ينتفع المسلمون من صيغ الخطاب والخبر في القرآن ،وتقدير الإنشاء والخطاب في آية البحث هو : وليمحصكم الله ويمحق الكافرين .
المسألة الثالثة : ذكرت هذه الآية أمرين متضادين في الموضوع والحكم ، فالذين آمنوا ضد الكافرين، والتمحيص والتطهير ضد المحق والنقص ،ولا يلتقيان في شخص وموضوع واحد، نعم يتعاقبان في ذات الموضوع، وباتجاه واحد لا يقبل العكس فيأتي المحق للكافر، ولكن تدركه رحمة الله فيتوب إلى الله عز وجل فيأتيه التمحيص والتزكية دفعة واحدة، ويبقى معه لا يغادره، بينما لا يتعقب المحق التمحيص لحرمة الإرتداد وإمتناعه عقلاً وشرعاً ولأن من خصائص التمحيص الحصانة من المحق.
أما آية السياق فذكرت المترادف في الموضوع بالثناء على المجاهدين والصابرين مع إتحاد الحكم وهو الثواب بالخلود في النعيم .
الرابعة : ذكرت آية البحث تمحيص وتطهير الذين آمنوا ، وهو آية عظمى في الحياة الدنيا تترشح بركاتها على الناس جميعاً من جهات :
الأولى : إنتفاع المؤمنين من تمحيصهم في ميادين الصلاح والتقوى .
الثانية : نزول البركات من السماء على المؤمنين وأهل الأرض بالتمحيص والتطهير .
الثالثة : النفع العام لأهل الأرض من تطهير وتمحيص المؤمنين من وجوه :
الأول : الإتعاظ من المؤمنين .
الثاني : الإنزجار عن فعل السيئات .
الثالث : هداية الناس لسبل التطهير والتمحيص، فمن خصائص الإنسان حبه للخير لنفسه وسعيه للإقتناء ، وميله للتملك والحيازة الخاصة والعامة، والتمحيص نعمة عظيمة ظاهرة وباطنة .
الرابع : سلامة شطر من الناس من المحق والنقص والوهن باختيارهم الإيمان .
الخامس :إقرار الناس بالمشيئة المطلقة لله عز وجل،عن ابن عباس قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت فقال : جعلتني لله نداً ، ما شاء الله وحده ( ).
السادس : علم الناس بعلة تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى بما أنعم الله عز وجل عليهم من التمحيص والتطهير والسلامة من المحق وإذهاب الشأن والدولة ، وعلم الناس هذا ترغيب لهم بالإسلام ، وزاجر عن محاربته .
الرابعة : قد يسأل سائل ما هي آثار ونتائج التمحيص والمحق ، فجاءت الآية التالية بجواب هو حجة وبرهان في النشأتين ،إذ أخبرت بأن التمحيص والإمتحان للمسلمين والمسلمات قانون من أنظمة الحياة الدنيا وعلة خلق الإنسان وعمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ليكون تقدير الآية اعلاه بلحاظ آية البحث والسياق :وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون بالإمتحان والتمحيص ، على فرض شمول التمحيص والمحق لمعشر الجن .
(وأخرج ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار قال لأهل الجنة { كم لبثتم في الأرض عدد سنين } قالوا : { لبثنا يوماً أو بعض يوم } قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ، رحمتي ورضواني وجنتي اسكنوا فيها خالدين مخلدين ، ثم يقول : يا أهل النار { كم لبثتم في الأرض عدد سنين } قالوا { لبثنا يوماً أو بعض يوم } فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم . ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين)( ).
الخامسة : من الإعجاز في نظم الآية إلتقاء الخطاب والخبر فيها بلفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ]إذ بدأت هذه الآيات بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، ثم جاءت آية البحث بذات اللفظ [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]وتضمنت آية السياق ذات المعنى لنسق لغة الخطاب فيها [أَمْ حَسِبْتُمْ] .
وبين الذين آمنوا والمؤمنين عموم وخصوص مطلق وتقدم بيانه، بلحاظ أن الإيمان نطق باللسان وتصديق بالجنان وإمتلاء للقلب بالإيمان بالله والنبوة.
فمن فضل الله عز وجل في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيوضاتها على الذين نطقوا بالشهادتين ودخلوا الإسلام ظاهراً تلقيهم الخطاب والثناء بعرض واحد مع المؤمنين [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ]( )ليكون هذا الخطاب وتلقيه طريقاً للتوبة من النفاق ، لذا لو رجعت إلى تاريخ ووقائع السنين الأولى من الإسلام لوجدت عدد المنافقين في تناقص مستمر.
ويتجلى بغياب الصدود عن الإيمان والجهاد ، وعدم ظهور أصوات تؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ففي معركة تبوك نزل قوله تعالى حكاية عن المنافقين [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( )في ذم رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول، وجاء الإنكار الشديد لقوله في الحال من قبل إبنه عبد الله الذي إستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتله فلم يأذن له ولا إلى غيره بقتله .
لتكون هذه الواقعة شاهداً على حقيقة وهي إستئصال النفاق وخروج جيل من الأبناء ينكرون على الأب المنافق سوء قوله وفعله ويمنعون من حدوث سلطان له بين الناس ، وهو من الخزي العاجل الذي يلحق المنافق بأن يرى إبنه أول الذين يظهرون السخط من سوء القول الذي يظهر ما يخفي الكفر وضروب الشك في التنزيل والريب في النبوة .
ومن خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ]( )خروج جيل مؤمن تدبر في المعجزات وآمن بها ، فعصمه الله عز وجل من أسباب الشك والريب ليسهم في بناء قواعد صرح الإسلام في الأرض.
وقال الضحاك : خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال النبي : يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم، فحلفوا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما قالوا بشيء من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية إكذاباً لهم.
وقال الكلبي : نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك وذكر المنافقين فسمّاهم رجساً وعابهم.
فقال الجلاس : والله إن كان محمد صادقاً فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس.
فقال : أجل والله إن محمداً لصادق مصدق وأنتم شر من الحمير.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس.
فقال الجلاّس : كَذِب يا رسول الله عليّ، ما قلتُ شيئاً من ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم} أن يحلفا عند المنبر بعد العصر،
فحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو ما قاله، وإنه كذب عليّ عامر،
ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع عامر بيديه إلى السماء فقال : اللهم أنزل على نبيك الصادق منا المصدّق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون : آمين، فنزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ {فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ} فقام الجلاس، فقال : يارسول الله أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، صدق عامر بن قيس في ذلك، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه ثم تاب فحسن توبته. قال قتادة : ذُكر لنا أن رجلين اقتتلا : رجلا من جهينة، ورجلاً من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، وظفر الغفاري على الجهيني، فنادى عبد الله بن أُبي : أيّها الأوس انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلاّ كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك.
ثم قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ .
فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل صلى الله عليه وسلم إليه، فجعل يحلف بالله ما قال،
فأنزل الله عز وجل : يحلفون بالله ما قالوا {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ}( ).
وفي صيغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جهاد الكفار والمنافقين دعوة للمسلمين للإقتداء بسنته، وحث لهم على عدم الإفراط أو التفريط في صيغ الجهاد، فلا تصح إراقة الدماء وإزهاق وإذهاب الأرواح بغير حق.
لقد تفضل الله عز وجل على إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام برفع قواعد البيت الحرام بقوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا] ( ).
لينعم الله عز وجل على النبي وأصحابه وأهل بيته برفع قواعد صرح الإسلام في النفوس والمجتمعات وأقطار الأرض لتكون حفظاً وتعاهداً للبيت وحجة ومناسبة لتجديد وفد الحاج في كل عام لقول (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ).
وتطرد هذه التلبية النفاق من النفوس ، وتحصنها من مفاهيمه وأخلاقه ، ومعنى التلبية الإجابة والتقرب إلى رحمة الله، وإعلان المسلمين طاعتهم لله سبحانه.
وفيه تمحيص سنوي للمؤمنين ومحق للكافرين بلحاظ أن آية الحج ذكرت الكفار بصيغة الذم بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ) .
ولم تقل الآية أعلاه ان الله غني عن الكافرين ، إنما بينت قانوناُ ثابتاً في الإرادة التكوينية مستقرأ من الغنى المطلق لله عز وجل ولبيان أن قيام الناس بالحج لهم ولمنفعتهم ، لدفع وهم بأن اللام في [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ] تتضمن أن الله يريد حج الناس لنفسه ، بل هو واجب عليهم ولمصلحتهم في النشأتين ، ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : ولله على الناس حج البيت ليكون شكراً منهم على نعمة الخلق والتمكين في الأرض .
الثاني : ولله على الناس حج البيت لتفضله بخلافتهم للأرض فيقصدون [أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ]( )، عن ابن عباس قال : لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض ، بعث الله تعالى ريحاً هفافة فصفقت الريح الماء ، فأبرزت عن حشفة في موضع البيت كأنها قبة ، فدحا الله تعالى الأرض من تحتها ، فمادت ثم مادت فأوتدها الله بالجبال ، فكان أول جبل وضع فيه أبو قبيس ، فلذلك سميت أم القرى .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : كان البيت على أربعة أركان في الماء قبل أن يخلق السموات والأرض ، فدحيت الأرض من تحته ( ).
الثالث : ولله على الناس واجب عبادي حج البيت ، فلما تفضل الله عز وجل وجعل علة خلق الناس هي العبادة فانه سبحانه بيّن ضروب العبادة لتنزه مقام الربوبية عن التكليف من غير بيان .
ويحتمل حج الأنبياء البيت الحرام بلحاظ البيان من عند الله مسائل :
الأولى : حج الأنبياء من البيان الذي تفضل الله عز وجل به على الناس .
الثانية : حج الأنبياء مقدمة للبيان .
الثالثة : لا ملازمة بين حج الأنبياء والبيان .
الرابعة : البيان من عند الله في الوحي والتنزيل علة وسبب لحج الأنبياء.
وباستثناء الجهة الثالثة أعلاه فان الجهات الأخرى صحيحة لإفادة حقيقة وهي تعدد وجوه وطرق وكيفيات البيان الإلهي بما يجعل الناس ينهلون منه ، ويطرد الشك من النفوس.
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: لما أفاض آدم من منى تلقته الملائكة ، فقالت : ياآدم ، بر حجك ، أما إنّا قد حججنا هذا البيت قبل أن تحجه بألفي عام( ).
وبُرّ حجُك على البناء للمجهول، أي كان حجك مقبولاً وتاماً غير ناقص وليس فيه شائبة.
ليكون من البيان الإلهي في الحج إخبار الملائكة عن حجهم للبيت الحرام لدعوة الناس إلى محاكاتهم لأنهم عباد الله المقربون منه الذين جعل مسكنهم في السماء ، وهم عقول بلا شهوة ، فقد قادتهم عقولهم إلى وجوب الحج ، ليشعر المسلم بالفخر والرضا وهو يؤدي مناسك الحج أو يسعى إليها ، أو يدرك تخلفه عن الحج قهراً مع شوقه إليه ، وإقراره بأنه واجب سواء أدرك أنه ركن من أركان الإسلام أو لا ،لأن الإقرار بوجوب الحج من مصاديق الإيمان ،و الفخر والرضا في المقام من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الرابع : ولله على الناس حج البيت ليمحص الله الذين آمنوا .
الخامس: ولله على الناس حج البيت ليمحق الكافرين ، الذين يصدون عن البيت الحرام ويستكبرون عن العبادة .
السادس : ولله على الناس حج البيت ليكون الأنبياء أئمة الناس في أداء الحج .
السابع : ولله على الناس حج البيت لإستدامة خلافتهم في الأرض وعمارتهم لها ، لذا فان قوله تعالى [وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ) يتضمن الإنذار والوعيد.
الثامن : ولله على الناس حج البيت ليؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعثه الله عز وجل لحفظ الوجود الإنساني على الأرض بتعاهد فريضة الحج .
التاسع : ولله على الناس حج البيت ليتخذوا من الحج مناسبة لتثبيت أركان الدين والفرائض الأخرى ، فيقوم وفد الحاج بالصلاة جماعة وفرادى ، وقصراً وتماماً ، وجمعاً وتفريقاً ليتفقه أهل الأمصار بأحكام الشريعة .
العاشر : ولله على الناس حج البيت بجعلهم قادرين على الحج لأن [َلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه و سلم : من حج فلم يرفث( )، ولم يفسق رجع كما ولدته أمه( ).
وتدل آية الحج في مفهومها على تفضل الله بازاحة الموانع التي تحول دون أداء الناس الحج ، فلما فرض الله عز وجل على الناس حج البيت فانه تعالى ضمن أمنه وسلامة الطريق إليه ، لذا كان دعاء الأنبياء بسؤال الأمن للبيت الحرام كما ورد حكاية عن إبراهيم في التنزيل [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا]( ).
وفيه بيان لحب الأنبياء للناس ودعائهم لهم بالتوفيق في أداء المناسك، وبيان قانون الملازمة بين الإيمان والأمن.
الحادي عشر :ولله على الناس حج البيت ليفوزوا بالتمحيص والتطهير وينجوا من المحق والنقص .
الثاني عشر : ولله على الناس حج البيت لأنه جهاد في سبيل الله وتعظيم لشعائر الله .
الثالث عشر : ولله على الناس حج البيت لأنه أول بيت وضع لهم ، فهم كلي الطبيعي ينهلون من فيوضاته بازدياد التلبية حواليه .
الرابع عشر : ولله حج البيت رحمة بالناس ، وجعله الله سبباً لمغفرة الذنوب وهو الذي يجعل المؤمنين يسيحون في الأرض تعظيماً لشعائره، ومتخذون السفر وقطع المسافة مقدمة عقلية لطاعة الله بحج البيت الحرام.
الخامس عشر : ولله على الناس حج البيت [وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ] ( ).
وإذا كان الحج تمحيصاً للمسلمين فهل هو محق للكافرين في ذاته ومفهومه ، الجواب نعم فهو موضوع وحكم متجدد في الأرض لرمي الكفار بالضعف والوهن والنقص من جهات :
الأولى : سخط الله عز وجل على الذين يصدون عن البيت الحرام .
الثانية : تفويت الكفار على أنفسهم نعمة حج البيت والثواب العظيم فيه.
الثالثة : إزدياد قوة المسلمين وهن للكافرين ، وتتجلى قوتهم في أداء الحج وما فيه من معاني الأخوة الإيمانية .
الرابعة : من وجوه التمحيص والمحق في الدنيا بعث الأنبياء مبشرين ومنذرين وإنقطعت النبوة برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبقى العبادات ومنها أداء الحج صرحاً يدعو الناس إلى الإيمان ، وفيه حث على تقوى الله والصبر والبذل في سبيله ،إذ أن الحج عبادة بدنية ومالية، فهو عبادة بدنية للجهد في أداء المناسك وقطع المسافة وتحمل عناء السفر وعبادة مالية لما فيه من الإنفاق والبذل.
المسألة الرابعة : من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، تفسير وبيان الآية التالية لوجوه وكيفية التمحيص والمحق الواردين في آية البحث .
ودعوة المسلمين للتوفيق في الإختبار وإحراز الأمن والسلامة في مسالك الإمتحان فيها ، كما تخبر الآية التالية بأن نتيجة التمحيص هو الخلود في النعيم، وهو أمر لا يأتي من غير سعي حثيث في سبل الصالحات ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
وتحتمل الصلة بين التمحيص ودخول الجنة وجوهاً:
الأول : دخول الجنة من التمحيص والتطهير .
الثاني : التمحيص مقدمة لدخول الجنة .
الثالث : لا صلة بين موضوع التمحيص ودخول الجنة .
والصحيح هو الثاني، فاذا قيل لماذا التمحيص والله عز وجل جعل الدنيا دار الرحمة والتخفيف وتفضل بتغشي فضله الناس جميعاً ، والجواب من رحمة الله عز وجل جعل الدنيا دار الثواب والجزاء إذ أن الرحمة في الدنيا على وجوه :
الأول : الرحمة بالناس لذات الدنيا .
الثاني : الرحمة بالناس من أجل الذرية وإستدامة الحياة .
الثالث : الرحمة بإتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة .
لقد جعل الله عز وجل تمحيص وتطهير المؤمنين حرزاً من الفزع والخوف يوم القيامة ، قال تعالى [فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) وسبباً لحرمان الكفار من الأمن يوم القيامة إذ أن تضييع نعمة التمحيص والتفريط بالواجبات العبادية في الحياة الدنيا سبب لخسارة إستلام الكتاب يوم القيامة باليمين .
المسألة الخامسة : تبين آية السياق موضوعية الصبر في صيغ التمحيص والتطهير ، إذ يدل قوله تعالى [وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] ( )، على حقيقة وهي أن الصبر أمر وجودي ، فيتلقى المسلم الأذى في جنب الله عز وجل مع الثبات على الإيمان والتقيد بأحكام الحلال والحرام ، فيكون هذا الثبات من وجوه التمحيص والتطهير، وسبباً لمغفرة الذنوب والتجاوز عن السيئات وفيه بيان لحقيقة أن التمحيص مناسبة للعفو والمغفرة ، فلا يتعلق موضوع التمحيص بذات الفعل والإختيار ، بل تترشح عنه منافع في الحال منها المغفرة وستر الذنوب .
السادسة : ذكرت آية البحث تمحيص الذين آمنوا ، وجاءت آية السياق متعقبة لها لتخبر عن حقيقة وهي أن التمحيص بوجوه :
الأول : الجهاد في سبيل الله .
الثاني : الصبر في طاعة الله .
الثالث : الجمع بين الجهاد والصبر ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( )، فالرباط جهاد وصبر ، وكذا أداء الحج وفيه قهر للنفس الشهوية والغضبية.
وفي الجمع بين الآيتين ترغيب بالتمحيص وسعي إلى ضروبه وإستحضاره في الوجود الذهني عند إتيان فعل أو مداهمة أمر ما المسلم، بل الإنسان مطلقاً ،أي يلتفت الإنسان إلى صيغ التمحيص في ماهية الفعل ، وهو من رشحات تلاوة المسلمين آية البحث في الصلاة ونشر معانيها وبيان مفاهيمها .
والصلة بين التمحيص وبين الجهاد والصبر اللذين ذكرتهما الآية التالية على وجوه :
الأول : كل من الجهاد والصبر تمحيص للمؤمنين ومحق للكافرين .
الثاني : الجهاد والصبر طريقان ومقدمة للتمحيص .
الثالث : التمحيص مقدمة للجهاد ، وهداية إلى سبله وتأديب على الصبر وإرشاد إليه في حال الشدة والرخاء، والغنى والفقر ، وقد تقدم أن كلاً من الغنى والفقر من صيغ التمحيص والإمتحان ، فعندما يكون المسلم غنياً تترتب عليه واجبات عبادية منها إخراج الزكاة ، وتعاهد الصلاة في أوقاتها والإنفاق قربة إلى الله عز وجل وبذل الوسع في المحافظة على سلامة القرآن من التحريف ليكون من مصاديق تمحيص المسلمين بقاء القرآن في بيوتهم وهو شاهد على حفظهم لآياته ورسمه من التحريف.
وهو من مفاهيم آية البحث وإنحصار المحق فيها بالكافرين ، ونقص ثرواتهم وإزاحة أمجادهم ، فتنشر بين الناس آيات القرآن ويتدبرون في معانيها وليس عند الكفار إلا الجهالة والعناد.
الرابع : ليس من صلة بين التمحيص وبين الجهاد والصبر.
وباستثناء الوجه الأخير فان الوجوه الأخرى من إعجاز القرآن والتداخل بين الأوامر فيه ولغة الخبر التي تبعث على الفعل وتندب إلى الصالحات .
لقد جعل الله عز وجل القرآن طريق الجنة والسبيل إلى الفلاح، وسلاح النصر على الشيطان وأهل الضلالة فلما جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار تفضل وأنزل القرآن ليكون مدداً للمسلمين بالبيان والإخبار عن ماهية الدنيا وأن كل قول وفعل للإنسان يكون أحد أمرين :
الأول : إنه من التمحيص والتطهير .
الثاني : إنه من أسباب المحق والنقص، وهناك قانون وهو الملازمة بين فعل الصالحات وبين التمحيص من جهة، وبين المعصية والمحق من جهة أخرى [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ]( ).
وكان من نفع دخول الإسلام أمور :
الأول : العلم بالقانون أعلاه ، وهل هو من التفقه في الدين ومعرفة أصوله , الجواب نعم ، لتكون هذه المعرفة من خصائص وصفات [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني : إجتهاد المسلمين لإحراز التمحيص .
الثالث : الأمن والسلامة من النقص والضعف والوهن بالعصمة من الكفر ومفاهيمه .
الرابع : بذل الوسع لدخول الجنة لمجئ الآية التالية بصيغة الشرط ، وتعليق دخولها على الجهاد في سبيل الله والصبر والتحمل .
وبالجمع بين هذه الآية والآية التالية تكون النسبة بين تمحيص الذين آمنوا ودخول الجنة على وجوه :
الأول : نسبة التساوي ‘وأن التمحيص ودخول الجنة أمر واحد .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق وهو على شعبتين :
الأولى : دخول الجنة أعم ويستلزم التوفيق والنجاح في التمحيص واسباب الهداية والصلاح وقصد القربة .
الثانية : التمحيص هو الأعم لما فيه من النفع في الدنيا وعالم البرزخ ويوم القيامة أما دخول الجنة فهو أمر خاص بيوم القيامة وخواتيم الحساب ورجحان ميزان الحسنات والعبور على الصراط .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ،وهناك مادة للإلتقاء بين تمحيص الذين آمنوا ودخولهم الجنة ، ومادة للإفتراق بينهما .
الرابع : ليس من ملازمة أو صلة بين التمحيص ودخول الجنة ، لأن دخولها يتقوم بذات الإيمان والعمل الصالح ، وهو غير الإختبار والتمحيص .
والصحيح هو الوجه الثاني بشعبتيه من غير تعارض بينهما، لإفادة سعة رحمة الله عز وجل وأن التمحيص صراط إلى الجنة لذا أنعم الله عز وجل على كل مسلم ومسلمة بتلاوة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني ليكون من معانيه بلحاظ الجمع بين الآيتين وجوه :
الأول : الهداية إلى معرفة ضروب وسبل ومعاني التمحيص ، ليقترن العمل بالعلم .
الثاني : التوفيق في التمحيص باتيان الصالحات والتنزه عن السيئات.
الثالث : الهداية إلى السعي في سبيل الله، والتحلي بالصبر عند الملمات والنوازل القاهرة .
الرابع : إتخاذ الدعاء والتضرع وسيلة لجلب المنفعة في الدنيا ،والفوز باللبث الدائم في الآخرة ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )فحينما أمر الله عز وجل الناس بالدعاء وسؤال الحاجات منه تعالى ووعد بإجابة المؤمنين تفضل بأمر المسلمين بالدعاء الواجب وفي أبهى حالات العبودية والذل له سبحانه ، ليكون من خصائص [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وجوه :
الأول : الإمتثال لأمر الله عز وجل بالدعاء .
الثاني : صدور الدعاء من المسلمين وهم في حال مسكنة وخضوع له سبحانه في الصلاة .
ومن الإعجاز في تشريع الصلاة إبتداؤها بقول (الله أكبر ) والذي سمي تكبيرة الإحرام ، وبعدها يحرم على المصلي فعل ما ينافي الصلاة لتأتي بعد التكبيرة من غير فصل تلاوة سورة الفاتحة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عزّ وجلّ : قسمت الصلاة يعني هذه السورة بيني وبين عبدي نصفين؛ فنصفها لي ونصفها لعبدي .
فإذا قرأ العبد : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول الله : حمدني عبدي. وإذا قال العبد : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يقول الله تعالى : أثنى عليّ عبدي. وإذا قال العبد : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يقول الله : مجّدني عبدي. وإذا قال العبد : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله : هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها قال : هذه لعبدي ولعبدي ما سأل ( ).
الثالث : دلالة سورة الفاتحة على تفقه المسلمين في الدين لذكرهم أهل الإيمان من الأمم السابقة وفوزهم بالرشاد والهداية إلى الصراط لقوله تعالى [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] ( ).
فان قيل إن الصراط المستقيم هو نهج الذين آمنوا من الأمم السابقة وأن المسلمين يرجون الله عز وجل اللطف لإتباعهم ومحاكاتهم مما يدل على أنهم أفضل من المسلمين بلحاظ رجاء المسلمين إتباعهم فكيف يكون المسلمون [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وهم يرجون بلوغ مرتبة غيرهم ، والجواب من وجوه :
الأول : الآية تنزيل وتلقين من عند الله للمسلمين وإرشاد للمسلمين لسبل الهداية والفلاح .
الثاني : يشمل قوله تعالى [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] ( )، الأنبياء والمرسلين.
الثالث : إرادة إتحاد عمل المسلمين من الأمم المتعاقبة ، وأن الصراط المستقيم يتقوم بالتوحيد ، وملاكه الإخلاص في عبادة الله ، والتنزه عن الشرك ومفاهيم الضلالة .
الرابع : إثبات شئ لشئ لايدل على نفي غيره له من ذات الماهية، فقد تضمنت سورة الفاتحة عهد المسلمين والمسلمات لله عز وجل بحصر عبادتهم وتوسلهم وإستعانتهم به سبحانه بقوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، وهذ الحصر باق إلى يوم القيامة بتعاهده المسلمون والمسلمات على نحو يومي متجدد.
الخامس : إن قوله تعالى[ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، شاهد على أن المسلمين أفضل الأمم، وتتقوم هذه الأفضلية بالورع والتقوى والتمحيص والتزكية من عند الله، والعصمة من المحق والإذهاب، لتكون آية البحث بشارة ثبات ودوام دولة الإسلام لأنها تدل بالدلالة التضمنية على عصمة المسلمين من المحق والإذهاب والمحو.
السادس : لقد أنعم الله عز وجل على الموحدين من الأمم السابقة بالهداية إلى الصراط المستقيم بفضله وإحسانه ، وجاء المسلمون ليسألوا الله عز وجل الفوز بالصراط وفيه مسائل :
الأولى : سؤال الصراط تمحيص وتطهير .
الثانية : يسأل المسلمون الله عز وجل الصراط من مقامات العبادة والخضوع لله عز وجل .
الثالث : تفضل الله عز وجل وأمر المسلمين بسؤال الهداية إلى الصراط المستقيم.
وهل يمكن تأسيس قانون وهو إذا أمر الله عز وجل المسلمين بسؤال أمر فانه سبحانه يستجيب لهم.
الجواب نعم ، كما يتجلى بالإطلاق في قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) ليكون قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )مصداقاً لآية الدعاء أعلاه مع زيادة وهي هداية المسلمين إلى ماهية ونوع وموضوع الدعاء مع المثل الأمثل فيه.
فلما جاءت الآية أعلاه بأمر المسلمين بالدعاء تفضل الله وهداهم إلى موضوعه في الآية أعلاه وهو [الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ليكون ذات الدعاء تمحيصاً وتطهيراً للمسلمين وسبباً لنزول النعمة والبركة عليهم، ومصداقاً لكونهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]بأمور :
الأول : الإجتهاد بالدعاء إلى الله عز وجل، فكل واحد من المسلمين ذكراً أو انثى يسأل الله عز وجل بالهداية إلى الصراط المستقيم.
الثاني : تسليم وإقرار المسلمين مجتمعين ومتفرقين بيوم الحساب ، ومن معاني الصراط إرادة مواطن الحساب.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ويضرب جسر على جهنم فأكون أول من يجوزه ودعوة الرسل يومئذ : اللهم سلم سلم وبه كلاليب مثل شوك السعدان هل تدرون شوك السعدان ) ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : ( فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله فتخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموبق بعمله ومنهم المخردل ثم ينجو حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله أمر الله الملائكة أن يخرجوهم فيعرفونهم بعلامة آثار السجود قال : وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم اثر السجود قال : فيخرجونهم قد امتحشوا فيصب عليهم ماء يقال له : ماء الحياة فينبتون نبات الحبة في حميل السيل ) قال : ( ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار ) فيقول : يا رب قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فاصرف وجهي عن النار فلا يزال يدعو فيقول الله جل وعلا : فلعلي إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره ؟ فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره فيصرف وجهه عن النار ثم يقول بعد ذلك : يا رب وُربني إلى باب الجنة فيقول جل وعلا : اليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فلا يزال يدعو فيقول جل وعلا : فلعلك إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره ؟ فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره ويعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره فيقربه إلى بابل الجنة فلما قربه منها انفهقت( ) له الجنة فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول : يا رب أدخلني الجنة فيقول جل وعلا : أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك قال : فلا يزال يدعو حتى يضحك جل وعلا فإذا ضحك منه أذن له بالدخول دخول الجنة فغذا دخل قيل له : تمن كذا وتمن كذا فيتمنى حتى تنقطع به الأماني فيقول جل وعلا : هو لك ومثله معه( ).
الثالث : إيمان المسلمين بأن أفعالهم والعباد جميعاً بيد الله عز وجل من غير تعارض مع كون الإنسان مخيراً غير مجبور ،ودعاء الهداية إلى الصراط برزخ دون فعل السيئات وإرتكاب المعاصي ، وهو من أسرار نجاة المسلمين بالتمحيص والإختبار .
الرابع : إنتفاء الغرور والجهالة من المسلمين ، فهم يقرون بسبق أمم من المسلمين على زمانهم من أتباع الأنبياء السابقين قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ] ( )، وبلحاظ أجيال المسلمين المتعاقبة يحتمل المقصود من [الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] ( )وجوهاً :
الأول : قصد أجيال المسلمين اللاحقة بجيل الصحابة والتابعين إلى جانب المسلمين من الأمم السابقة.
الثاني : القدر المتيقن هو وحدة دعاء المسلمين في أجيالهم المتعاقبة وأن الذي يسأله أولهم وآخرهم بعرض واحد ، فيعود الاسم الموصول [الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ]إلى الأنبياء السابقين وأتباعهم وأنصارهم الذين أخلصوا الطاعة لله عز وجل .
الثالث: المندوحة والسعة فللمسلم أن ينوي قصد المسلمين الأوائل من الذين إتبعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وله أن يحصر قصد الدعاء بأهل الإيمان من الأمم السابقة .
الرابع : يترك المسلم قصد أمة، فيكتفي بارادة القرآنية في القراءة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه فمن مصاديق النعمة المبادرة إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وقت كفرت بها قريش وجندت الجيوش لقتاله وزحفوا أكثر من أربعمائة كيلو متراً ليتطوع الذين أنعم الله عز وجل عليهم بالدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونبوته وعن دولة الإسلام ويكون من مناسبة لتمحيصهم وتطهيرهم من الذنوب ومحق الكافرين ورميهم بالذل والهوان .
وقد جاء التطهير في قوله تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ]( ) لتكون الزكاة من مصاديق التمحيص الذي لا ينحصر بموضوع مخصوص، ففي كل واقعة تمحيص وإختيار للمؤمنين ليكون تمحيصاً إضافياً لهم ، وتلك آية في اللطف الإلهي ومضاعفة حسنات المؤمنين.
إعجاز الآية
تبين الآية قانوناً من الإرادة التكوينية يتغشى الأرض على نحو دائم من وجوه:
الأول : تزكية وتطهير المؤمنين، وتعيينهم وتمييزهم عن غيرهم.
الثاني : كشف المنافقين الذين يتجاهرون بالإيمان زوراً وكذباً لبقائهم على الكفر.
الثالث : رمي الكفار بالوهن والعجز لقوله تعالى(ويمحق الكافرين)، وتحتمل تزكية المؤمنين وإذهاب الكافرين وريحهم وجوهاً:
الأول : إرادة كل جيل على نحو مستقل.
الثاني : القدر المتيقن أيام النبوة.
الثالث : الآية إنحلالية، والمقصود القضية الشخصية، وتقدير الآية: وليمحص الله الذي آمن ويمحق الكافر.
الرابع : إرادة العموم المتصل.
والصحيح هو الأخير، وتكون الوجوه الأخرى في طوله فتصاحب مضامين الآية الكريمة الناس في وجودهم في الأرض من أيام آدم وحواء إلى يوم القيامة.
لذا يمكن تسمية الحياة الدنيا (دار التمحيص) لأنها الفيصل بين أهل الإيمان والكفار، وفيها تكون الحجة للمتقين وأهليتهم لما وعد الله من الثواب العظيم على التقوى، ورمي الكفار بالمحق والوهن والإنزواء، ومفاهيم الشرك بالإنحسار , وتجلت هذه الحقيقة بكسر الأصنام يوم فتح مكة، وإنقطاع هذه الظاهرة القبيحة في الأرض وإلى يوم القيامة، فلم يعبد صنم بعد الفتح والحمد لله، وهو من أسرار تسمية مكة أم القرى.
إن قوله تعالى(ويمحق الكافرين) نوع تحد حاضر، لأن المحق أمر ظاهر ويتجلى بوجوه:
الأول : نقص عدد الكفار.
الثاني : تخلي أتباع رؤساء الكفر عنهم.
الثالث : توبة فريق من الكفار، ودخولهم الإسلام.
الرابع : توالي نزول المعجزات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتمتلأ نفوس الكفار بالحسد والحنق، ليكون من إعجاز القرآن الغيري إصابة الكفار بالوهن والإرباك عند توالي نزول الآيات، وهو من أسرار نزولها نجوماً وعلى نحو التعاقب والتدريج مع لحاظ أسباب ومناسبة النزول ليكون بياناً حاضراً وعوناً على التفسير العام من قبل المسلمين والناس عند نزول الآية وتلاوتها ولو على نحو الموجبة الجزئية وهو من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى]( )، بتقريب وهو أن الناس تدرك معنى الآية ولو إجمالاً، وكلما تدبروا فيها رأوا ذخائر وكنوزاً من المعارف.
ومن إعجاز الآية ذكرها لمحق الكافرين على نحو القانون والذي يتصف بخصائص:
الأولى : إرادة العموم الإستغراقي للكفار في محقهم وإذهاب شأنهم.
الثانية : تأكيد الملازمة بين الكفر والمحق، وأنهما لن يفترقا أبداً، ليكون هذا المحق إنذاراً وتذكيراً للناس بالعذاب الأليم الذي ينتظر الكفار يوم القيامة.
الثالثة : بيان قانون دائم وهو أن مقامات الناس أمر بيد الله عز وجل، فلما أخبرت الآية السابقة عن تصريف الله عز وجل للأيام بين الناس، جاءت هذه الآية كالقيد لها بأن هذا التصديق ليس مطلقاً ومجملاً بل يتقوم بأمرين:
الأول : تمحيص وتطهير وإكرام المؤمنين.
الثاني : وهن وضعف الكفار، ومحو مفاهيم الكفر من النفوس والمجتمعات.
الرابعة : الإنحلال والتعدد في محق الكافرين، إذ تشمل الآية الأفراد من الكفار مستقلين وتقدير الآية: ويمحق الكافر) كما ينزل المحق والوهن والمحو بالكافرين مجتمعين فيدب الخلاف بينهم.
ومن دلائل النبوة الترغيب والوعيد، والبشارة والإنذار، قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
ومن إعجاز آية البحث أنها حرب على النفاق، بأن تدفعه عن المسلمين وتحصن نفوسهم منه، لأنها لم تقل: ليمحص الله المؤمنين، بل قالت[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] لإرادة كل من نطق بالشهادتين ظاهراً، فإن هذا النطق سبب للتزكية والتطهير مع تقادم الأيام وتقلبها بين الناس أو إتخاذ شهداء من المؤمنين، وقد بدأت هذه الآيات المتجاورة ذات الموضوع المتصل بواو العطف وبدأت بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً…]( ).
ليشمل النهي الوارد في الآية أعلاه جميع الذين نطقوا بالشهادتين ظاهراً رجالاً أو نساءً، لتكون كل آية من هذه الآيات واقية من النفاق وهو من مصاديق(وليمحص الله الذين آمنوا).
فمن أبهى وأسنى أفراد التمحيص والتطهير صيرورة كل آية من آيات القرآن حرزاً من النفاق، ومنها التنزه عن الربا الذي يؤسس لقانون وهو لزوم إجتناب المسلم المال الحرام وإن جاء بمعاملة سهلة تتقوم برضا الطرفين لذا ورد في التنزيل[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، فكل أمر في القرآن هو تمحيص للذين آمنوا ومحق ووهن للكافرين، وكذا كل نهي فيه.
لقد جاءت آيات القرآن بذم المنافقين وأخذ الحائطة منهم قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( )، لتكون آية البحث من الجهاد ضد الكفار والمنافقين، وتبين حقيقة وهي التباين الموضوعي بين الجهاد ضد الكافرين، والجهاد ضد المنافقين، إذ يتقوم الجهاد ضد المنافقين بالحيطة منهم وتوبيخهم وزجرهم، والسعي لإصلاحهم لسبل الهدى والإرتقاء في سلم الإيمان.
ويدل حرف اللام في بداية الآية على أن موضوعها معلول للآية السابقة بقوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ] .
وهل يصدق أن تكون هذه الآية في ذات الوقت علة للآية السابقة الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن وعجز قواعد اللغة والبلاغة عن الإحاطة بعلومه ومضامينه القدسية خاصة وانها وضعت بعد نزوله وإستقرأت علومها منه فالمعلول يكون علة لعلته ، والعلة تكون معلولاً لمعلولها ،فهذه الآية علة لمضامين الآية السابقة من وجوه :
الأول : إن يمسسكم قرح فانه معلول وسبب لتمحيص الله المؤمنين ومحق الكافرين ، فابى الله إلا أن يجعل الدنيا دار التمحيص والمحق ولا يأتيان إلا بالأسباب ، ومنها إصابة المسلمين بالقروح والجراحات لتكون سبباً للثناء على المسلمين وتطهيرهم ،وحجة لمحق الكافرين ورميهم بالضعف والوهن ، وتقدير الآية على هذا المبنى : يمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين إن يمسسكم قرح .
الثاني : تمحيص المؤمنين وبيان جهادهم وصبرهم في جنب الله ومحق الكافرين علة وسبب لإصابة القوم الكافرين بالجراحات والكلوم وتقدير الجمع بين الآيتين : يمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ليمس الكافرين قرح .
الثالث : يمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين بتداول الأيام بين الناس ، فيكون تطهير المسلمين وتنقيتهم من مفاهيم الشك والنفاق سبباً لتداول الأيام بين الناس ، ويكون تقدير الجمع بين الآيتين : يمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين لتلك الأيام نداولها بين الناس .
الرابع : جعل الله عز وجل الدنيا تطهيراً وتنقية للمؤمنين ، ومحقاً ونقصاً للكافرين ليتخذ الله عز وجل شهداء يحضرون يوم القيامة فيشهدون على الناس بأفعالهم ، ويخبرون عن الذين فازوا بالتمحيص وعلة تمحيص وتطهير كل واحد منهم بلحاظ عدم إنحصاره بطرق مخصوصة أو معلولة عند الناس وكل من هذا التمحيص والذين يفوزون به من مصاديق وأفراد الجند في قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) وكل منها عون من جهات :
الأولى : تمحيص المسلمين طريق إلى زيادة تمحيصهم وتطهيرهم كما في قوله تعالى [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى]( ).
الثانية : إتخاذ الدنيا دار تمحيص علة لجعل الكافرين في حال نقص متصل .
الثالثة : تمحيص المؤمنين نمو وزيادة في عددهم وحصن لسلامتهم من درن الريب الذي يصيب القلوب .
الرابع : كثرة عدد المؤمنين عون لهم لتمحيصهم وتطهيرهم ، ليكون من مصاديق [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ) ان زيادة العدد وسيلة ووعاء للتحلي بآداب الإيمان وسنن التقوى .
الخامس : تمحيص المؤمنين ومحق الكافرين سبب لبغض الله عز وجل للظالمين من جهات :
الأولى : حرمان الظالمين أنفسهم من إتصاف الدنيا بالتمحيص والتنقيح للذين آمنوا .
الثانية : محاربة الكافرين للذين يبذلون الوسع في مسالك التمحيص .
الثالثة : إختيار الكافرين الظلم لأنفسهم ولغيرهم .
الرابعة : تتضمن آية البحث الإخبار والقطع بمحق الكافرين ومن يختار الكفر فهو ظالم لنفسه ، ويكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : يبغض الله الظالمين .
الصغرى : الكافرون هم الظالمون .
النتيجة : يبغض الله الكافرين .
الخامسة : الكافرون أشحة على الخير ، يحرمون أنفسهم من التمحيص ، ويسعون إلى النقص والمحق ، قال تعالى [وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( ).
وهل يلزم الدور من صيرورة المعلول علة لعلته وبالعكس ، الجواب لا ،هذه الصيرورة والتبادل الموضوعي على نحو الموجبة الجزئية ، والمصاديق الحيثية , وشواهد الإعجاز في اللفظ القرآني .
الثاني : هذا التبادل الموضوعي في الصفة والأثر بين العلة والمعلول من أفراد رحمة الله عز وجل بالمؤمنين .
الثالث : دلالة قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )على التبادل والتغيير في السبب والمسبب ومواطن الفعل والتأثير .
الرابع : تعدد وجوه وصيغ إقامة الحجة على الكافرين ،وفي الفلسفة تذكر أمثله للعلة والمعلول منها :إذا طلعت الشمس فالنهار موجود .
وتبين الآية اللطف الإلهي بالمسلمين ، وأن الله عز وجل يقربهم إلى التوفيق في الإختبار ، وإجتياز ما يلاقيهم من صنوف الإمتحان في الحياة الدنيا بدليل قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ]وهو من أسباب تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم لقانون من اللطف الإلهي يتعلق بهم على نحو الخصوص وهو توجه أسباب التمحيص والتطهير لهم ، وصرف مقدمات الأذى والضرر والقهر عنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( )فاذا كان أمر يشق على المؤمن ويجعله يتخلف عن سبل التمحيص يصرفه الله عنه ، وكذا بالنسبة للجماعة والأمة .
وحينما زحف المشركون في معركة بدر كان النصر حليف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المؤمنين ، وهو من أعظم مصاديق التمحيص والتطهير ، وكذا في معركة أحد والتي ظهرت فيها الجراحات على المسلمين وإنتقل إلى الرفيق الأعلى سبعون شهيداً يومئذ ( )، ولما زحف المشركون في السنة الرابعة وقيل الخامسة للهجرة بعشرة آلاف مقاتل في ظاهرة نادرة لم يشهدها تأريخ الجزيرة العربية ولم يظنه أحد أمس واليوم وغداً وفق أحوال الجزيرة آنذاك من جهات :
الأولى : المفاخرة والمعاداة بين القبائل العربية سبب لتخلفهم عن الإجتماع .
الثانية : تعدد ضروب الثأر المعلق بينهم .
الثالثة : كثرة أفراد القبائل .
الرابعة : شيوع معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتناقل الناس لآيات القرآن وما فيها من التحدي اللغوي والعقلي وإقرار أساطين الشعر والسجع والخطابة والحكمة بالتخلف عن معارضتها مع تسليم الناس جميعاً بأنها أمر خارق للعادة .
الخامسة : دخول عدد ونفر من أفراد كل قبيلة الإسلام وهجرة شطر منهم إلى المدينة ، وخروجهم للقتال في معركة بدر وأحد .ولما زحفت جيوش قريش وغطفان من الأحباش يوم الخندق بغياً وعدواناً وإختياراً للمحق أنعم الله عز وجل على المسلمين بحفر الخندق حول المدينة برأي سديد من سلمان الفارسي وإمضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتلقي المسلمين له بالقبول والإمتثال ، وهو من التخفيف عن المسلمين .
وإستمر حفر الخندق ستة أيام, كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقل مع المؤمنين التراب , ويشارك في الحفر , وعندما جاءت له فاطمة الزهراء برغيف قال : لم يذق أبوك الطعام منذ ثلاثة أيام, ويحتمل التخندق بلحاظ التمحيص وجوهاً :
الأول : حفر الخندق وإجتناب المسلمين القتال في الجملة من تمحيص المؤمنين ،وهذا التمحيص على جهات :
الأولى : هذا التمحيص بعرض واحد مع التمحيص والإختبار في معركة بدر وأحد .
الثانية : التمحيص يوم الخندق أقل مرتبة وأجراً من التمحيص يوم بدر .
الثالثة : التمحيص يوم الخندق أشد وأعظم من التمحيص يوم بدر وأحد .
والصحيح هو الجهة الأولى ،وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين إذ أنهم برزوا للعدو وإستعدوا للقائه مع كثرة خيله وجنده ولم تفزعهم كثرة الكفار فليس بين خروج جند الإسلام وبين نزول الملائكة ثمة فترة .
الثاني : تقسيم التمحيص بحسب الموضوع إلى جهات :
الأولى : التمحيص بدخول الإسلام .
الثانية : التمحيص بأداء الفرائض والعبادات والصبر عليها والتقيد بأوقاتها ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثالثة : التمحيص بفعل المستحبات .
الرابعة : التمحيص في الوقاية من السيئات .
الخامسة : التمحيص في الجهاد والدفاع في ميادين الحرب ، كما في معركة بدر وأحد ، ووقعت مبارزة في معركة الخندق كما في قتل الأمام علي عليه السلام لعمرو بن ود العامري الذي طلب المبارزة بنفسه ولم يحصل تلاق للصفين يومئذ ، وينحسر القتال عن أجيال المسلمين أو عن أهل شطر من أمصارهم سنوات وأحقاباً وهو من اللطف الإلهي مع عدم إنقطاع تمحيص الجهاد عنهم .
ومن التخفيف واللطف الإلهي في المقام صرف الله عز وجل ضروب الإفتتان عن المؤمن إذا كان بعلم الله عاجزاً عن النجاح فيها والعصمة من الوقوع في المعصية ، وهو من المعنى الأعم لقوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]بتقريب أن الله عز وجل لا يبتلي المسلمين بما يجعلهم يتخلفون عن منازل التمحيص وأسباب التطهير ليكون من فضل الله عز وجل على الذين آمنوا أنهم لا يفعلون إلا ما هو تمحيص وتطهير لهم ، ولا يداهمهم أمر طوعاً أو قهراً أو إنطباقاً إلا ما يكون تمحيصاً وتطهيراً لهم ، وترغيب بالإيمان وحث للناس بدخول الإسلام ، وهل هذا التخفيف خاص بالمسلمين أم أنه عام وشامل للمؤمنين من الموحدين وأهل الكتاب من الأمم السابقة.
الجواب هو الثاني فهذا اللطف والتخفيف رحمة من الله وهي تتغشى المؤمنين منذ هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض .
لقد أخبرت آية البحث بأن الله عز وجل يمحص ويطهر الذين آمنوا، ويمحق الكافرين ، وأن هذا التطهير والمحق ملازمان لساعات وأيام الحياة الدنيا ، ولا يستثنى منهما أحد ، فاما أن يفوز الإنسان بالتمحيص ، وأما أن يصاب بالمحق والقهر ، ويتجلى في الآية قانون من جهتين :
الأولى : صبغة العموم ، وعدم إستثناء إنسان من التمحيص أو المحق.
الثانية : عدم إجتماع التمحيص والمحق في موضوع وفرد واحد ليس للمقولة الفلسفية ( عدم إجتماع الضدين ) إذ لا تصل النوبة إليها ، ولكن لنص الآية الكريمة الذي يطرد الجهالة وينفي عن الناس الجهالة بأن جعلت التمحيص خاصاً بالمؤمنين، والمحق والنقص مطارداً للكافرين، ليكون جاثوماً على صدورهم لإصرارهم على الكفر والجحود ، قال تعالى [صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] ( ).
فان قلت قد يتوجه التمحيص والمحق لفرد مخصوص من وجوه :
الأول : توجه التمحيص والمحق في آن واحد إلى شخص معين ، كما لو كان منافقا ً.
الثاني : تعاقب مجىء التمحيص والمحق إلى الإنسان ، وهو على شعبتين :
الأولى : مجىء المحق والنقص والضعف ثم يتعقبه التمحيص والتطهير.
الثانية : تقدم التمحيص والتطهير ثم يأتي المحق والنقص .
الثاني : مجئ التمحيص والمحق دفعة واحدة ويغادر احدهما ويبقى الآخر .
الثالث : التعدد والتعاقب والتوالي على الإنسان ،وهذا التعاقب على جهات :
الأولى :الإبتداء بالمحق ، ثم التمحيص ثم المحق ثم التمحيص .
الثانية : الإبتداء بالمحق ثم التمحيص ثم المحق ، أي ينتهي الإمتحان بالمحق والنقص ، بخلاف الجهة الأولى أعلاه .
الثالثة : الإبتلاء بالمحق ويتعاقب معه التمحيص وينتهي بالمحق أيضاً .
الرابعة : الإبتلاء بالتمحيص ثم يتعاقب معه المحق، وينتهي بالتمحيص أيضاً.
الرابع : توجه التمحيص خاصة إلى الفرد المؤمن .
الخامس : مجئ التمحيص أولاً ثم يصاحبه المحق ، كما لو كان الإنسان مؤمناً ثم إرتكب معصية أو كان من الذين [خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا]( ).
السادس : مجئ المحق أولاً بسبب جحود وكفر الإنسان ثم تدب أسباب الهداية في نفسه وجوانحه فيزاحم التمحيص حينئذ المحق .
أما الأول فتنفيه آية البحث لأنها تقسم الناس إلى قسمين :
الأول : الذين آمنوا ويتوجه لهم التمحيص على نحو الحصر .
الثاني : الكافرون وينزل بساحتهم المحق والنقص على نحو الخصوص .
أما الوجه الأول أعلاه فممتنع بفضل من الله عز وجل ويلحق المنافق بالكافر فيصيبه المحق إلا أن يشاء الله فتدركه التوبة .
أما الشعبة الأولى من الوجه الثاني فهي صحيحة وتتعلق بالشخص الذي كان بعيداً عن روضات الإيمان فيأتيه المحق ، فيتوب الله عز وجل عليه فيحس بعذوبة التمحيص .
وأما الشعبة الثانية من الوجه الثاني فهي غير تامة وليس لها مصداق واقعي بدلالة آية البحث لأن الذي يبلغ منازل الإيمان لا يغادرها , وعدم المغادرة هذا من منافع التمحيص والتطهير وهو من إعجاز آية البحث الغيري بان تكون الآية واقية من الإرتداد والنكوص عن سبيل الإيمان لأن التمحيص زيادة في الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَزِدْنَاهُمْ هُدًى] ( ).
ولما كانت ضروب التمحيص لكل مؤمن من اللامتناهي فانها سبيل للإرتقاء في مقامات الإيمان ، وحرز من مفاهيم الكفر والضلالة وأما الوجه الثاني فلا دليل عليه ونفيه ظاهر في منطوق ومفهوم الآية .
وأما الوجه الثالث أعلاه بشعبه الأربعة فلا مصداق له إلا على نحو الفرد النادر على فرض أن الإيمان يكون أحياناً متزلزاً غير ثابت فيطرأ عليه الكفر و الإرتداء ، وهو بعيد لأن من منافع التمحيص تجلي وتنقية الإيمان المتزلزل وصيرورته ثابتاً .
وأما الوجه الرابع فهو صحيح ، إذ يتوجه التمحيص للذي نشأ على الإيمان والصلاح ، ولم يغادر منازله ، ويتوجه المحق كالصواعق النازلة على الكافر الذي يصر على الكفر والضلالة، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا]( )، ولا دليل الوجه على الخامس أما السادس فهو من فضل الله.
ويمكن تسمية هذه الآية آية (وليمحص الله) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
لقد أبى الله عز وجل إلا الثبات للمسلمين على الإيمان، والعصمة والنجاة من المحق وإنقضاء المدة، وتفضل بهذه الآية ليكونوا في حال إرتقاء في سلم الإيمان لبلوغ مراتب اليقين والإستقرار في منازله بالتمحيص المتتالي والمتعاقب الذي يأتيهم على صيغ متعددة :
الأول : التمحيص الشخصي، لكل فرد من المسلمين، ذكراً أو أنثى.
الثاني : التمحيص والتطهير العام للمسلمين فيأتي شهر رمضان ليمتنعوا جميعاً رجالاً ونساءاً عن الأكل والشرب وسائر المفطرات فيكون تطهيراً وتزكية لهم.
الثالث : التمحيص الدفعي بأن يأتيهم مرة واحدة، فيعم الجميع، فيدخل وقت الزوال ويؤذن المؤذنون ليؤدي المسلمون الصلاة كل بحسب توقيت بلده فتكون التزكية متكررة في اليوم الواحد.
الرابع : التمحيص التدريجي بأن يأتي اللطف الإلهي للعبد فيجذبه إلى مقامات التقوى الصلاح على نحو تدريجي وبمراتب متتالية، ليرسخ الإيمان في نفسه وجوارحه، ويكون حجة على الكافرين وشاخصاً حسياً يدعوهم إلى التوبة والإنابة، ويبعث في نفوسهم اللوم الذاتي على الإقامة على الكفر، وهذا اللوم من المحق ومقدماته.
ويأتي المحق وأسباب الإذهاب وإزالة الجاه والحال والسلطان عن الكافرين في قوله تعالى[وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( )، من وجوه:
الأول : المشيئة الإلهية بالكاف والنون وقوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثاني : بعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية، فيكون المحق عقوبة للذين يصدون عنها، ويظهرون الجحود بها.
الثالث : قول وفعل المؤمنين وحسن سمتهم، وتحليهم بالتلبس بأداء الفرائض والواجبات العبادية.
الرابع : المحق الذاتي من نفوس الكفار وجماعتهم لإتفاقهم على الباطل، والغشاوة التي تتغشى أبصارهم وبصائرهم.
ومن خصائص الآية القرآنية أنها أمان وسلاح في النشأتين، وهو الذي يتجلى في مضامين آية البحث بأن يهدي الله عز وجل المسلمين لسبل التطهير والتزكية لتكون مناسبة لجني الحسنات وثمار عمل الصالحات، وكل تزكية وتمحيص يأتي للمسلم يقربه إلى دخول الجنة، فلذا تفضل الله عز وجل على كل مسلم ومسلمة بصيغ وضروب لامتناهية من التمحيص، وهذا التمحيص يأتي بالتكاليف من وجوه:
الأول : إتيان الواجبات العبادية بقصد القربة إلى الله.
الثاني : المبادرة إلى فعل الصالحات المندوبة والمستحبة طلباً لمرضاة الله.
الثالث : فعل المباحاة والعصمة بها عن المآثم.
الرابع : إجتناب المكروهات تنزهاً وخشية الوقوع في المحارم.
الخامس : العصمة مما نهى الله عز وجل عنه سواء بالقول أو الفعل أو الأعتقاد وكما يأتي التمحيص للمسلمين على نحو مباشر من غير واسطة، فإنه يأتيهم بمحق الكافرين ورميهم بالضعف بالوهن كيلا يكونوا برزخاً دون إتيان المسلمين ما فيه تمحيص وتطهير وتزكية والله عز وجل[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
مفهوم الآية
وفي الآية مسائل :
الأولى : ترشح المعلول والأثر الجلي لتصريف الأيام على الناس كل بحسبه بلحاظ الإيمان أو عدمه .
الثانية : البشارة للمسلمين بالفوز والإكرام والثواب سواء كانت دولة الأيام لهم أم عليهم .
الثالثة : لما كانت الأيام بيد الله عز وجل فانه سبحانه جعلها وتصريفها رحمة للمؤمنين ، ومناسبة لتمحيصهم وتطهيرهم ، ويحتمل هذا التطهير وجوهاً :
الأول : مغفرة الذنوب بتلقي الأذى في جنب الله وبالسعي لبناء صرح الإسلام .
الثاني : الإبتلاء والإختبار .
الثالث : تعاهد المسلمين للفرائض والواجبات تزكية وتطهير لهم .
الرابع : تصريف الأيام بين الناس جذب للمسلمين لمنازل الإيمان وتنزيه لهم من الشك والريب ، إذ يحكي ذات التصريف أنه آية من عند الله سواء جاء بالأسباب والمسببات ،أو حصل دفعة بأمر طارئ كهلاك ملك أو حدوث آفة أرضية أو سماوية أو أكل الكبير لحق الصغير .
الخامس : تصريف الأيام مناسبة للفظ الإسلام للمنافقين وفضح سوء أقوالهم وقبح أفعالهم وهو باب واسع لتوبتهم وصلاحهم وكفهم عن النفاق .
السادس : تمحيص الذين آمنوا بتصريف الأيام وغيره من الأسباب والأحوال ترغيب للناس بالإسلام ودعوة لهم للتدبر في ماهية الحياة الدنيا وأنها دار الإختبار ومزرعة الآخرة ، فاجتهد الذين آمنوا في طاعة الله ليكتنزوا الحسنات ، ويسلموا من وطأة السيئات ، ويكونوا حجة في محق الكافرين.
الرابعة : يدل ذكر الآية لتمحيص الذين آمنوا ومحق الكافرين على علم الله عز وجل بما يضمر الناس في نفوسهم من الإعتقاد بلحاظ أن الآية لم تجعل الملاك والتمييز على أساس الفعل ، وإن كانت مضامينها تشمله وتقدير الآية : وليمحص الله الذين آمنوا بقلوبهم وألسنتهم وأفعالهم ، ويمحق الكافرين الذين أقاموا على الكفر ، وجحدوا بالربوبية والتنزيل، فلم يكن بينهم وبين المحق برزخ أو مانع .
الخامسة : تقدير الآية الكريمة ليمحص الله الذين آمنوا ويتعاونوا ويتعاضدوا في سبل دخول الجنة ويمحق الكافرين ويمنعهم عن التآزر في محاربة الإسلام، قال تعالى في ذم الكفار[بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] ( )، وهذه الفرقة والنفرة الذاتية بين الكفار من المحق ومقدمات الضعف والوهن الذي تدل عليه آية البحث.
جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية ولغة التعليل ، وتقدير الآية بصيغة الأمر والنهي على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا سارعوا إلى التمحيص .
الثاني : يا أيها الناس إلتحقوا بالمسلمين في منازل التمحيص .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بادروا إلى ما ينجيكم وذويكم المحق والنقص ، وما يتقى من العذاب في الآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( ).
ليكون من معاني إعدادها للكافرين محقهم في الدنيا ، وقيام الحجة عليهم بآية البحث التي هي إنذار ووعيد لهم ، جعله الله عز وجل يجري على لسان المسلمين والمسلمات عدة مرات في اليوم .
الرابع : يا أيها الناس إجتنبوا المحق والنقص في الدنيا بالتوقي من الكفر والجحود .
الخامس : يا أيها الكفار توبوا إلى الله وإحرزوا لأنفسكم بها النجاة من المحق والهوان والنقص .
السادس : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على أمرين :
الأول : نعمة التمحيص والتزكية من عند الله .
الثاني :نعمة الأمن والسلامة من المحق والنقص .
وقد يصيب المؤمنين نقص كما يصيب الكفار ، والجواب هذا صحيح ، ولكن موضوعه مختلف ، فالنقص والمصيبة التي تطرأ على المسلمين ليست من المحق ، إنما هي إمتحان من عند الله ، وفيها الآجر والثواب وإن كان موضوعها متعدد كما لو كان البلاء عاماً ينزل في بلد أو حال جامع للمؤمنين، قال تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً]( ).
إفاضات الآية
تنمي الآية ملكة الخضوع والخشوع لله عز وجل عند المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، وتدعوهم والناس جميعاً إلى التسليم بأن مقاليد الأمور بيده سبحانه ، ويتجلى بلحاظ مضامين الآية السابقة وهذه الآية من وجوه :
الأول : مداولة وتصريف الأيام بيد الله عز وجل وحده ، ولا يقدر أحد على ليّ وتوجيه الأيام إلا الله عز وجل، ويكون تصرفها كتصريف الرياح من جهة حصرها بمشيئة الله .
الثاني : علم الله عز وجل بالذين آمنوا من بين الناس ، وجعل تداول الأيام مناسبة لفعلهم وتمييزهم ونزول المدد إليهم للثبات في منازل التقوى .
الثالث : تفضل الله عز وجل بإتخاذ شهداء من بين المؤمنين مع كفاية شهادته سبحانه [وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( )وتلك منزلة رفيعة ينالها المؤمنون من بين الخلائق بنيل مرتبة الشهادة مع الملائكة ، وهو من الدلائل على إصلاح الإنسان للخلافة في الأرض.
الرابع : حينما رد الملائكة على الله عز وجل في موضوع خلافة الإنسان في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا]( )، لم يغضب عليهم سبحانه مما يدل على أنهم في مأمن من سخط الله عز وجل وهم سكان سماواته وحملة عرشه ولا يعصونه في أمر ، وليس لهم من عمل إلا التسبيح والإنقطاع إلى العبادة .
وأخبرت الآية عن إكرام الله عز وجل للمؤمنين وإعانتهم لبلوغ مرتبة الملائكة في الأمن من سخط الله عز وجل بالتمحيص والتطهير والإكرام ، وهو من أسرار ومنافع النبوة والتنزيل لأنهما طريق إرتقاء الناس في مراتب اليقين وتحليهم بسنن عالم الملكوت.
وإجابة الله عز وجل الملائكة على إحتجاجهم على جعل آدم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ثم تفضل سبحانه وأخبر في الآية السابقة بأنه يصرف الأيام بين الناس ليعلم الذين آمنوا ، الذين يتنزهون عن سفك الدماء بغير حق، ويتصدون إلى المفسدين بسلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراتبه المتعددة بالقلب واللسان واليد، ويمدهم الله عز وجل بتداول الإيام ، ويجعلها وتداولها سبباً ومادة وطريقاً لجلب المصلحة ، وتحقيق الغلبة على الفساد.
ويتجلى علم الله بالذين آمنوا من جهات :
الأولى : إمتلاء النفوس بالإيمان ، وخلوها من درن النفاق ، وأثنى الله عز وجل على نفسه بقوله تعالى [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
الثانية : ظهور معاني ومفاهيم الإيمان على اللسان وفي عالم القول ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ]( )، الجواب هذه الآية أعم لأن الإتباع فيها لا يختص بإعلان الإيمان ونية الإقتفاء بل يشمل الفعل والإمتثال بأداء الفرائض والعبادات والنسك .
الثالثة : يعلم الله الذين يظهرون إيمانهم بالعمل في الليل والنهار ، والبذل في سبيل الله وإتيان الصالحات ، وفعل الخيرات بقصد القربة وحباً لله ، وطاعة له سبحانه ولرسوله الكريم والكف والإمتناع عن الحرمات ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الرابعة : إتخاذ الله عز وجل شهداء من الذين آمنوا ، يشهدون على أعمال العباد وتحتمل النسبة بين شهادة المؤمنين وتمحيصهم من جهة الزمان وجوهاً :
الأول : مرتبة شهادة المؤمنين على الناس متقدمة زماناً على تمحيصهم بدليل مجئ الشهادة في الآية السابقة ومجئ التمحيص في هذه الآية مع العطف بينهما مما يدل على كفاية الإيمان في الشهادة، وكون كل فرد منهما معلولاً لتصريف الأيام بين الناس.
الثاني : الإقتران الزماني بين إتخاذ المسلمين شهداء على الناس، وتمحيصهم بلحاظ التأهيل لكل فرد منهما بالإيمان.
الثالث : تأخر إتخاذ شهداء على التمحيص ، فالتطهير والتزكية أمر ذاتي، أما إتخاذ الشهداء فهو حكم ومرتبة تتوقف على شرط التمحيص.
الرابع : للغة التبعيض في طرف الشهادة موضوعية في المقام ، إذ يتخذ الله عز وجل الشهداء من بين الذين فازوا بالتمحيص .
الخامس : من مصاديق شهادة المؤمنين شهادتهم على الذين بلغوا مرتبة التمحيص من الذين آمنوا وعلى الذين ذاقوا مرارة المحق والنقص بظلمهم لأنفسهم وإختيارهم الكفر والضلالة .
السادس : بين التمحيص والشهادة عموم وخصوص مطلق ، لأن إختيار الشهداء من بين أهل التمحيص على نحو الحصر سواء على القول بأن المراد من الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أم المعنى الأعم وإرادة الذين يشهدون على الناس في أعمالهم في الدنيا والآخرة .
السابع : ليس من ملازمة بين الشهادة والتمحيص ، ولا يتعلق أحدهما على الآخر ، بل يسيران متوازيين وفي عرض واحد ، وقد يبلغ هذا المؤمن مرتبة التمحيص وذاك مرتبة الشهادة قبل الآخر، والصحيح هو الثاني للملازمة بين الإيمان والتمحيص، ويكون الوجه الرابع والخامس والسادس في طوله.
وذهب مشهور علماء التفسير بأن المراد من الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله ، وحينئذ لا خلاف بالقول أن نيل الشهادة والقتل في سبيل الله هو أسمى مراتب التمحيص ، ولكن المختار من لفظ الشهداء في قوله تعالى [وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ]( )، هو المعنى الأعم ، فيشمل الأحياء من المؤمنين والذين يموتون على فراشهم وهم بمنزله الشهداء.
وفي قوله تعالى[وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ]( )، ورد عن ابن عباس: أن الشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر( )، والآية أعم إذ يشمل لفظ الشهداء أيضاً كلاً من:
الأول : الذين قتلوا في سبيل الله.
الثاني : المؤمنون الذين يختارهم الله عز وجل للشهادة وفق ضابطة التقوى والصلاح.
الثالث : من يحضر واقعة مخصوصة من المسلمين فيأتي الله به شاهداً وهو من مصاديق التبعيض في الآية[وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ]( ).
الثامن : ولما أخبرت الآية السابقة عن إتخاذ الشهداء فانه سبحانه ختمها بقانون بغضه للظالمين وعدم حبه لهم ،ليكون قاعدة في شهادة المؤمنين على الناس وان [وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ]( ).
التاسع :تضمنت الآية السابقة أمرين بينهما تضاد وهما :
الأول : إتخاذ الله شهداء من المسلمين .
الثاني : بغض الله عز وجل للظالمين .
وجاءت هذه الآية بذات التضاد في ما هية الفعل مع صدوره من عند الله عز وجل وهو التمحيص والنقاء للذين آمنوا ، والمحق والنقص للكافرين .
العاشر : ذكرت الآية السابقة ثلاثة وجوه كل فرد منها معلول لتصريف الأيام وغيره من الأسباب بلحاظ أن خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، فرع مترشح عن تطرو الناس للأيام ،إذ تقبل الدنيا عليهم فيعملون بالمعاصي ويسرفون في فعل السيئات ، وتدبر عنهم النعم فيصرون على الباطل ويمتنعون عن الهدى فيأتيهم المحق أما على نحو التدريج والسالبة الجزئية وأما على نحو دفعي والسالبة الكلية ، كما في قوله تعالى [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا]( ).
الحادي عشر : إخبار الآية السابقة عن شهادة المؤمنين على الناس مناسبة لثبات المؤمنين في سبل الهداية ومسارعتهم في الخيرات وتسابقهم في الصالحات ، وفيه دعوة للظالمين بالتوبة والإنابة .
ولما تفضل الله عز وجل وأخبر بأن الدنيا دار التمحيص والمحق ، فانه سبحانه منع اللبس وطرو الوهم ، وتفضل بالنص الصريح بأمرين :
الأول : إختصاص التمحيص بالذين آمنوا لبيان نفع عظيم وثمرة حاضرة للإيمان تجذب الناس إلى سبله وتزينه في النفوس ، وتمنع من الإستهزاء والسخرية من المؤمنين ولا عبرة بالقليل النادر لأن الإستهزاء بهم مقدمة وسبيل لمحق وخزي المستهزئين ،قال تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ] ( ).
الثاني : توجه المحق ودلالاته من الذم والتبكيت إلى الكافرين ، وفيه عون ومدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نشر لواء الإسلام ، وقد أنزل الله عز وجل الملائكة لنصرته ومحق الكافرين ، ويأتي هذا المحق متعدداً وإن إتحد الحال والزمان والمكان كما في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) الذي يفيد المحق من جهات:
الأولى : هلاك عدد من فرسان قريش .
الثانية : فتح ثغرة وإظهار نقص في جيش الكفار ، وكان الجيش يسمى الخميس ، بلحاظ أعداد مخصوصة [عَنْ أبي بَكْرٍ الخُوَارزْمِي عَنِ ابن خَالَوَيْهِ:
أَقلُّ العَسَاكِرِ الجَرِيدَةُ ( وهي قِطْعَة جُرِّدَتْ مِنْ سَائِرِهَا لِوَجْهٍ )
ثُمَّ السَّرِيَّةُ وَهِيَ مِنْ خَمْسِينَ إلى أَرْبَعْمائةٍ
ثُمَّ الكَتِيبَةُ وهِيَ مِن أرْبَعمائةٍ إلى الأَلْفِ
ثُمَّ الجَيْشُ وهُوَ مِنْ ألْفٍ إلى أرْبَعَةِ آلافٍ
وَكَذَلِكَ الفَيْلَقُ والجَحْفَلُ
ثُمَّ الخَمِيسُ وهوَ مِنْ أرْبَعَةِ آلاَفٍ إلى إثْنَىْ عَشَرَ ألْفاً
والعَسْكَرُ يَجمَعُهَا ( ).
وفي شعر منسوب للإمام علي عليه السلام يثني على جنوده من ربيعة لما قاتلوا قتالاً شديداً :
لمن رايةٌ سوداء يخفق ظلها … إذا قيل قدمها حضين تقدما
ويقدمها في الموت حتى يزيرها … حياض المنايا تقطر الموت والدما
أذقنا ابن حربٍ طعننا وضرابنا … بأسيافنا حتى تولى وأحجما
جزى الله قوماً صابروا في لقائهم.. لدى الموت قوماً ما أعف وأكرما
وأطيب أخباراً وأكرم شيمةً … إذا كان أصوات الرجال تغمغما
ربيعة أعني، إنهم أهل نجدةٍ.. وبأسٍ إذا لاقوا خميساً عرمرما ( )( ).
ومنه شرطة الخميس أي الذين إشترطوا التضحية والفداء , ويدل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا]على أمور :
الأول : إن القطع والبتر تام وهو من مصاديق المحق .
الثاني :مجىء القطع على طرف وجهة من الكفار ، وهدم ركن من أركانهم .
الثالث : من معاني المحق في المقام عجز الكفار عن تدارك هذا القطع والنقص ،لأنهم أطراف فاي محاولة لتعويض هذا الطرف تكون سبباً في نقص وضعف الأطراف الأخرى، وفيه حث للمسلمين على جهاد الكفار بعد ظهور النقص والوهن في صفوفهم .
الرابع :بين المحق وقطع طرف الكفار عموم وخصوص مطلق ، فكل قطع لطرف منهم هو محق ،وليس العكس لأن المحق أعم ،مما يدل على أن محق وعقوبة الكفار لا تنقطع بقطع الطرف لذا أخبرت الآية عن كبتهم جميعاً ورجوعهم من معركة أحد خاسرين معترفين بعجزهم عن أخذ ثأرهم لما لحقهم سواء في يوم بدر أو ما ترشح عنه من إنحسار هيبة قريش والضعف الذي أصابهم ، مع كثرة دخول الناس الإسلام التي تبعث اليأس في قلوب الكفار ، وتفسد عليهم تدبيرهم ،إذ يرون الأبناء والإتباع والعبيد يدخلون الإسلام تدريجياً او على دفعات مع شدة البطش التي يقابل بها الكفار هذا الدخول .
الآية لطف
لقد أخبرت الآية عن تمحيص وتزكية المسلمين ونبذ الكافرين ودلالات وبراهين من عند الله عز وجل فهل يوكل الناس إلى أنفسهم في التمحيص أو ضده من المحق ، أم أن اللطف الإلهي يتجلى في المقام بتقريب الناس إلى مقامات التمحيص والتطهير ، وجعل نفوسهم تنفر من مفاهيم الكفر وأسباب الإضرار بالذات الذي هو من معاني المقت، وتبعثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتغشى التمحيص الناس ويصبحوا في مأمن من المحق.
الجواب هو الثاني فمن الأسماء الحسنى لله عز وجل أنه [لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ] ( ) فليس من إنسان إلا ويصيبه نصيب من اللطف الإلهي .
وبلحاظ آية البحث ليس للطف الإلهي بالناس حد أو صيغ معينة، ويتجلى اللطف الإلهي في المقام بوجوه :
الأول : ترغيب وتقريب الناس إلى منازل الإيمان .
وهو حال سابق لتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين ، وتلك آية في فضل الله عز وجل على الناس ومن معاني لفظ العموم في الآية أعلاه ، وذكر العباد مطلقاً ، فكل عبد يتلقى أسباب الجذب إلى الإيمان من عند الله والإعانة على البقاء في مسالكه ليفوز بالتمحيص ويتلقى الزواجر والنواهي عن الكفر والصد عن منازله .
الثاني : تفقه الناس في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام .
الثالث :بعث الأنبياء بالبشارة بالتطهير والتمحيص للمؤمنين ، والمحق والوهن للكافرين .
الرابع :تثبيت المسلمين في منازل الهدى والرشاد ، وتحصين إيمانهم .
الخامس :التخفيف في سبل التمحيص ، وعدم التشديد عليهم في ضروب الإبتلاء والإمتحان .
السادس :المدد من عند الله عز وجل للناس في باب التمحيص والمحق ، وهو على شعب :
الأولى :المدد الإلهي للناس كافة وهو على قسمين :
الأول : الجذب والتقريب إلى مقامات الإيمان .
الثاني : التنحية والزجر عن مسالك الكفر والضلالة .
الثانية : المدد من الله عز وجل للمؤمنين خاصة لترسيخ أقدامهم في سبيل الإيمان ، ودفع الشك والوهن عن قلوبهم ، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثالثة : المدد للناس للأمر بالمعروف واللطف الإلهي وأن جرى على السنة وجوارح الناس .
وهل يصح القول بوقوع هذا التمحيص على أيدي الناس ، الجواب لا ، إنما يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقدمة للتمحيص والمحق وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اللطف الإلهي من وجوه :
الأول : تفضيل الله عز وجل بالأمر بذات الأمر والنهي، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الثاني :تفضل الله عز وجل ببيان مصاديق المعروف التي يأمر بها المؤمنون، وضروب المنكر التي ينهون عنها .
الثالث : إيجاد مستمع يتلقى الأمر بالمعروف بالقبول والرضا والنهي عن المنكر بالإنزجار.
ويحتمل اللطف الإلهي في هيئته وكيفيته وجوهاً :
الأول : صيغة الخفاء ، وبه حصره بعضهم .
الثاني : مجئ اللطف الإلهي ظاهراً .
الثالث: التفعيل فيأتي للمؤمنين ظاهراً ، ولغيرهم خفياً أو العكس .
وكل هذه الوجوه من مصاديق اللطف الإلهي ، الذي ليس له حد أو رسم ، وفي يوسف عليه السلام قال تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ]( ).
فقد تفضل الله عز وجل وجعل يوسف عليه السلام يرى البرهان بالآلة الباصرة وهو أمر حسي ظاهر ، كما أمر الله سبحانه السوء بأن ينصرف عنه ولا يقربه.
الصلة بين أول وآخر الآية
وتذكر الآية صنفين من الناس بينهم تباين وتضاد ، وهم المؤمنون والكافرون ، ومن الإعجاز أن أمر الله عز وجل بخصوص كل فريق مباين لما يكون عليه بالنسبة للفريق الآخر ، فالمؤمنون يمحصهم ويزكيهم ويطهرهم الله عز وجل ، أما الكفار فان الله عز وجل يمحقهم ويفضحهم ويخزيهم .
وتحتمل الآية وجهين :
الأول : وجود قسيم ثالث للذين آمنوا والكافرين لم تذكره الآية ، ولابد من الرجوع إلى آيات القرآن الأخرى لمعرفة هذا القسيم متحداً أو متعدداً .
الثاني : ليس من برزخ أو وسط بين أهل الإيمان والكفار، والصحيح هو الثاني،لذا يكون مثوى الإنسان في الآخرة، إما إلى الجنة إذا كان صالحاً ، وإما إلى النار إذا كان كافراً .
لقد إبتدأت الآية باداة التعليل اللام لإتصال موضوع هذه الآية بالآية السابقة وترشحها عنها .
وتقدير آية البحث : وليمحص الله الذين آمنوا وليمحص الله الكافرين , وهل يمكن إعتبار الواو في (ويمحق ) إستئنافية ، الجواب نعم ، ولكن ليس على نحو الإستقلال والتجرد من معنى العطف ، بل تكون حينئذ عاطفة وإستئنافية ، والعطف فيها أمر ظاهر وأن التعليل يتغشى مضامين الآية ، ويترشح عن الإستئناف معنى إضافي وهو أن الله عز وجل يمحق الكافرين بتداول الأيام وغيره من العلل ، بل وحتى من دون علة ،للملازمة بين الكفر والمحق ، فذات الكفر يسبب المحق ويؤدي إليه ، فيكون مضمون الآية على وجوه :
الأول : مجئ موضوع التمحيص تطهير وتزكية المؤمنين .
الثاني : دوران الإيام لمحق ووهن وضعف الكافرين .
الثالث : إجتماع تمحيص المؤمنين ومحق الكافرين في الموضوع المتحد من تصريف الأيام وتقلبات الزمان .
ولم تتحد لغة الصرف في الآية , فلم تقل : وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الذين آمنوا .
أو : وليمحص الله المؤمنين ويمحق الكافرين .
وفيه نكتة وهي أنه بين الذين آمنوا والمؤمنين عموم وخصوص مطلق، ليدخل المسلمون والمسلمات جميعاً في لفظ الذين آمنوا وهو من سعة رحمة الله عز وجل بالذين نطقوا بالشهادتين، بينما جاء الذم والمحق للذين تلبسوا بالكفر , وبما يبعث على التوبة.
ولما ذكرت الآية السابقة إصابة المسلمين بالقرح والجراحات وكذا الكافرين ، جاءت آية البحث متعقبة لها لدفع وهم بالتشابه العرضي بين القرحين في الذات والأثر ، أما الذات فان القرح الذي يصيب المسلمين في ميدان المعركة وغيره تمحيص وتطهير لهم ، ليكون تقدير الجمع بين الآيتين على وجهين :
الأول : ليمحص الله الذين آمنوا إن يمسسكم قرح .
الثاني : فقد مس القوم قرح يمحق الله الكافرين .
وأما الأثر فيتجلى في الآية التالية إذ تكون عاقبة وثواب الذين آمنوا الإقامة الدائمة في الجنة جزاء لهم على تلقيهم القرح الذي نزل بالكفار فهو الخلود في العذاب الأليم عقوبة لهم على تعديهم على المسلمين ، وفيه دلالة على قانون لا يعاقب الله العبد مرتين ، فالذي ينزل به البلاء عقوبة لا يعاقب في الآخرة وقيدنا البلاء أعلاه بالعقوبة لأنه قد يرد بذات السنخية كماً وكيفاً ولكنه ليس عقوبة بل تمحيصاً وتزكية وتطهيراً.
وهو من الإعجاز في آية البحث ويكون تقدير على وجوه منها:
الأول : ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين بتصريف الأيام.
الثاني : ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين بالجراحات.
الثالث : ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين بالمرض.
والذي يتلقى العقاب في الدنيا، لا يعاقب مرة ثانية في الدنيا إنما هو خاص بالمؤمنين فلا يشمل الكفار، أما الكفار فيتلقون القرح والجراحات ويسقطون قتلى في معاركهم مع المسلمين ثم يكون مثواهم النار.
ومن ضروب الحكمة فيه أن العقوبة والإبتلاء العاجل للمؤمن تمحيص وتطهير له.
[وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة] ( )، [عن أنس قال : « أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شجرة ، فهزها حتى تساقط من ورقها ما شاء الله أن يتساقط ، ثم قال: الأوجاع والمصيبات أسرع في ذنوب بني آدم مني في هذه الشجرة]( ).
وهل يكون الحديثان أعلاه من المطلق والمقيد فيحمل لفظ بني آدم في الحديث الأخير على المؤمنين وما يصيبهم في الدنيا، أم يحمل على إطلاقه وإرادة الناس جميعاً ، الجواب هو الثاني من وجوه :
الأول : التباين الموضوعي بين الحديثين ،إذ خص الحديث الثاني الأوجاع والمصيبات ، بينما ذكر حديث عائشة الشوكة ونحوها من صغائر الأذى وما يلاقي الإنسان في نهاره وليله .
الثاني : تغشي رحمة الله عز وجل للناس جميعاً في الحياة الدنيا.
الثالث : قاعدة أصالة الإطلاق عند دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد.
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان الغايات الحميدة لتداول الأيام بين الناس .
الثانية : الإخبار عن موضوع من مواضيع إكرام المسلمين .
الثالثة : التدبر في مضامين الآية السابقة وصيرورة تقلب الناس في أيام الحياة الدنيا علة لما ورد في آية البحث على نحو الموجبة الجزئية ، إذ أن تمحيص المؤمنين ومحق الكافرين أعم في علته وأسبابه مما جاء في الآية السابقة.
الرابعة : تفضل الله بجعل الحياة الدنيا (دار التمحيص ) فكل ساعة من ساعات إيامها تتضمن التمحيص والتطهير والتزكية للمسلمين ، فلا غرابة أن تنبسط الفرائض على أيام السنة كلها .
الخامسة : مجئ الأجر والثواب للمسلمين طوعاً وإختياراً وإنطباقاً ، ويحتمل الثواب بلحاظ مضامين آية البحث وجوهاً :
الأول : التمحيص مقدمة وطريق إلى الثواب .
الثاني : ذات التمحيص ثواب وأجر، وهو كنز من كنوز الآخرة جعله الله عز وجل متدلياً وقريباً من المؤمنين والمؤمنات .
الثالث : الثواب مقدمة وطريق إلى التمحيص والتزكية .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من أفراد التطهير والتزكية في الحياة.
السادسة : تقسم الآية الناس إلى قسمين مع تباين موضوع الذكر لكل منهما ، إذ تذكر المؤمنين بالتمحيص والتطهير وهو غاية التشريف بالوعيد والتبكيت ، والإخبار عن إضمحلال شأنهم ، وقد طغى فرعون حتى قال [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ( )ثم جاء المحق والإتلاف له ولجيشه بآيات لم يشهد لها تأريخ الإنسانية مثيلاً مع تعدد الفرص والإنذارات وأسباب الزجر عن بلوغ مرتبة المحق , وفيه مسائل:
الأولى : مجئ موسى عليه السلام بآية العصا .
الثانية: تأكيد موسى وهارون عليهما السلام على الدخول إلى فرعون وإنذاره وتحقق اللقاء لتتجلى معجزة موسى بحضرة فرعون وبين الملأ والرؤساء من قومه لتكون حجة عليهم مجتمعين ومتفرقين وعندما القى موسى عصاه أغشي على فرعون من الفزع وهو من مقدمات ومصاديق [لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] ( ).
الثالثة : إيذاء وظلم فرعون لبني إسرائيل وثباتهم على الإيمان وعزمهم على إتباع موسى عليه السلام مع ضروب الإضطهاد المتجدد والمستغرق لهم ولأبنائهم ونسائهم كما ورد في التنزيل على لسان فرعون [يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ]( ).
الرابعة : خروج موسى وبني اسرائيل هاربين من فرعون وقومه ، وفيه مناسبة لتركهم والكف عنهم فهم لم يحاربوا فرعون في سلطانه أو دولته أو أرض مملكته ، فاصر فرعون على اللحاق بهم فاهلكه وجنوده الله عز وجل في البحر غرقاً، [أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: ثم إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل فقال{أسر بعبادي ليلاً} فأمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا ، وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط، وأمر أن لا ينادي أحد منهم صاحبه ، وأن يسرجوا في بيوتهم حتى الصبح ، وأن من خرج منهم أمام بابه يكب من دم حتى يعلم أنه قد خرج ، وأن الله قد أخرج كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل ، وأخرج كل ولد زنا في بني إسرائيل من القبط حتى أتوا آباءهم .
ثم خرج موسى ببني إسرائيل ليلاً والقبط لا يعلمون ، وألقى على القبط الموت فمات كل بكر رجل منهم ، فأصبحوا يدفنونهم فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس ، وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألفاً . لا يعدون ابن عشرين لصغره ، ولا ابن ستين لكبره ، وإنما عدوا ما بين ذلك سوى الذرية .
وتبعهم فرعون على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ماذيانة وذلك حين يقول الله {فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ، إن هؤلاء لشرذمة قليلون}( ) فكان موسى على ساقة بني إسرائيل ، وكان هارون أمامهم يقدمهم فقال المؤمن لموسى : أين أمرت؟ قال : البحر . فأراد أن يقتحم فمنعه موسى .
فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم قالوا : يا موسى { إنا لمدركون } قال موسى { كلا إن معي ربي سيهدين } يقول : سيكفين . فتقدم هارون فضرب البحر فأبى البحر أن ينفتح وقال : من هذا الجبار الذي يضربني؟ حتى أتاه موسى ، فكناه أبا خالد وضربه { فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم } يقول : كالجبل العظيم ، فدخلت بنو إسرائيل وكان في البحر اثنا عشر طريقاً في كل طريق سبط ، وكانت الطرق إذا انفلقت بجدران فقال كل سبط : قد قتل أصحابنا . فلما رأى ذلك موسى صلى الله عليه وسلم دعا الله ، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطبقات ينظر آخرهم إلى أولها حتى خرجوا جميعاً ، ثم دنا فرعون وأصحابه فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقاً قال : ألا ترون إلى البحر منفلقاً قد فرق مني ، فانفتح لي حتى أدرك أعدائي فاقتلهم ، فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم ، فنزل على ماذيانة ، فشامت الحصن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم . أمر الله البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم وتفرد جبريل بفرعون يمقله من مقل البحر ، فجعل يدسها في فيه] ( ).
وكذا كفار قريش أصروا على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خاصة المهاجرين منهم ،إذ خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة التي هي بلدتة آبائه هارباً خائفاً فزعاً من كفار قريش ووصل إلى المدينة المنورة بسلامة وأمن ، ورحلة الهجرة هذه ومقدماتها وكيفيتها وحوادث الطريق وإستقبال أهل المدينة له آية من عند الله عز وجل ، فصحيح أن الأنصار عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إيوائه وسلامته ، ولكن الواقع الفعلي أمر آخر فقد تظهر فيه مسائل وأحوال ومشقة لم تكن بالحسبان خاصة وان أهل المدينة من الأوس والخزرج كانوا يعدون لتنصيب عبد الله بن أبي سلول ملكاً عليهم، ولكنهم صاروا في فناء بالرسالة وإنقطاع إلى التنزيل ليؤسسوا لأجيال المسلمين صرح الإيمان.
وأخرج ابن أبي شيبة عن قيس بن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه قال: اللهمَّ صل على الأنصار ، وعلى ذرية الأنصار، وعلى ذرية ذرية الأنصار.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلكتم وادياً وشعباً لسلكت واديكم وشعبكم ، أنتم شعار والناس دثار ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ثم رفع يديه حتى اني لأرى بياض ابطيه فقال : اللهمَّ اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار)( ).
السابعة : بيان أن الدنيا دار عمل وجزاء يكون التمحيص فيها بلحاظ حسن السمت والإيمان ويترتب المحق على الكفر والجحود .
الثامنة : من غايات الآية ترغيب الناس بالإيمان وجعل نفوسهم تميل إليه لأن فيه تمحيصاً وتطهيراً وتزكية لتكون الآية الكريمة من مصاديق قوله تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
التاسعة : تتضمن الآية البشارة والإنذار ، البشارة بالتمحيص والتطهير ، والإنذار بالمحق والإذهاب ، ومن مصاديق ما ورد قبل ثلاث آيات [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( )التباين بين أهل التمحيص والذين يلحقهم المحق .
ومن خصائص البيان في آية البحث تعيين كل قوم وطرف منهما بما يمنع من التداخل أو التقارب بين بعض أفرادها فمع أن الإيمان على مراتب ودرجات , والنسبة بين الإسلام والإيمان هو العموم والخصوص، وكذا النسبة بين الإيمان واليقين فإن الآية جاءت بالعموم بأن كل مسلم يتغشاه التمحيص وهو من فضل الله وسعة رحمته وفيه دعوة للمؤمنين لعدم الإستخفاف بإسلام إخوانهم وهو مناسبة لإرتقاء المسلمين في منازل التقوى واليقين.
أما الكفار فقد تغشاهم المحق سواء كان كفرهم جحوداً أو أدنى منه مرتبة وفيه إنذار وتحذير من الكفر والجحود مطلقاً ، قال تعالى [وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( )،فملاك التمحيص هو الإيمان، وسبب المحق هو الكفر والجحود .
العاشرة : دعوة الناس جميعاً للإحتراز من الكفر وإجتناب الكافرين ، وهو من الرحمة الإلهية في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يكون النهي عن الكفر على وجوه منها :
الأول : النهي الصريح عن الكفر، قال تعالى [إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ] ( ).
الثاني : صيغة الجملة الخبرية التي تبين قبح الكفر .
الثالث : بيان أضرار وأوزار الكفر في الدنيا والآخرة .
الرابع : الإشارة والتنبيه والتعريض بالكافرين .
الخامس : التخويف والوعيد للكفار .
السادس : الإخبار عن سوء عاقبة الكافرين , قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ]( ) .
السابع : التحذير والإنذار من إتباع الكفار .
الثامن : الإخبار عن محق الكافرين ، وإلحاق الضرر بهم في الدنيا مجتمعين ومتفرقين ، فآية البحث مدرسة في النهي عن الكفر والضلالة .
التاسع :الثناء على المؤمنين في القرآن وليس من حدّ لوجوه ودلالات هذا الثناء , ومن مفاهيمه النهي عن الكفر ، وإزاحة الناس عن مستنقع الضلالة والغواية .
العاشر : إنعدام البرزخ والحاجز بين الإنسان والإيمان .
الحادي عشر: الوعيد على الكفر والجحود بالنبوة والتنزيل ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ]( ).
الثاني عشر : التخويف بالخلود بالنار على الكفر ، ومن الآيات في خلق الإنسان ونفخ الله فيه من روحه ، علم الناس جميعاً بهذا القانون الأخروي .
تقديم العلم على التمحيص
ترى لماذا تقدم قوله تعالى(وليعلم الله الذين آمنوا) ثم جاءت هذه الآية بتمحيص الذين آمنوا، الجواب إن العلم مقدم على الإختبار والتطهير، والله عز وجل هو الذي أحاط بكل شيء علماً وهو سبحانه يعلم بالشيء قبل وقوعه وبعد إنعدامه ما من شيء إلا وهو حاضر عنده مستجيب له ، إلا أن المراد من علمه تعالى في المقام هو إخبار الناس بأنه سبحانه يعلم الذين آمنوا ودخلوا الإسلام، وأن فعلهم هذا معلوم عند الله سبحانه ، وأنه سبب للثناء عليهم وفوزهم بالأجر والثواب من عند الله عز وجل.
ثم يأتي التمحيص والتطهير للتمييز بين المؤمنين والمنافقين، والإخبار عن تخلف المنافقين عن مراتب الإيمان التي يحبها الله، والتي يريدها من عباده ، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ]( )، إذ يعلن المنافق التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيأتي التمحيص فينكشف أمره وتقوم الحجة عليه فمن علم الله عز وجل بالذين آمنوا وقوفهم في صفوف للصلاة وأداؤهم الفرائض الأخرى، ثم يأتي التمحيص وشدة الإبتلاء بالدفاع عن بيضة الإسلام، ومنع إستحواذ الكفار على مقاليد الأمور، وهو من مصاديق الآية قبل السابقة[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
فأما المؤمن فانه يبذل الوسع في سبيل الله، وأما المنافق فأنه يقعد عن الدفاع , ويحاول صدّ الذين آمنوا عنه بالقول والفعل، فيكون من مصاديق تمحيص الله للمؤمنين خلو جماعتهم من المنافقين وهو من مصاديق التبعيض بخصوص الشهداء في الآية السابقة(ويتخذ منكم شهداء) فلا يدخل المنافق في الشهداء وإن كان ينطق بالشهادتين ويؤدي الفرائض ومنها مناسك الحج وتقدم , إتخاذ الشهداء على تمحيص المؤمنين لبيان أن النسبة بين الذين آمنوا والشهداء هي العموم والخصوص المطلق وأن الذين آمنوا أعم وأكثر.
ومن الإعجاز في تقديم موضوع الشهداء أن ما يقوله ويفعله المؤمن يشهد عليه نفر من أهل الإيمان والتقوى، وما من فعل صالح يفعله إلا ويشهد عليه الملائكة وفريق من المؤمنين، وفيه بعث لتعاهد الإيمان والصبر في مرضاة الله.
وعن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول(يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك، قلنا : يا رسول الله آمنّا بك فهل تخاف علينا؟ قال: إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف شاء إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه)( ).
وذكرت الآية السابقة علم الله عز وجل بالذين آمنوا بينما ذكرت هذه الآية تمحيصهم وتزكيتهم، ومحق الله عز وجل للكافرين، فهل ذكرتهم الآية السابقة، الجواب نعم، إذ أختتمت ببغض الله عز وجل للظالمين، قال تعالى[وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
ليكون تقدير خاتمة الآية السابقة: والله لا يحب الكافرين) وفيه بلحاظ الآية مسائل:
الأولى : لا يحب الله عز وجل الكافرين بالتوحيد الجاحدين بالربوبية .
الثانية : لا يحب الله عز وجل الكافرين بالنبوة والملائكة واليوم الآخر.
الثالثة : والله سبحانه لا يحب الذين يشهد عليهم المؤمنون بالكفر والجحود، فبعد أن ذكرت الآية السابقة إتخاذ الله شهداء من المؤمنين.
أخبرت الآية السابقة عن بغض الله عز وجل للظالمين ، ومنهم الذين ظلموا وحملهم على الهجرة إلى بلاد الحبشة مع بعد المسافة وأهوال الطريق وهل حملة التعذيب على المسلمين الأوائل أشد أم زحف قريش لقتال المسلمين في معركة بدر وأحد والخندق.
الجواب هو الثاني من جهات:
الأولى : إرادة الكفار قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في زحفهم لمعركة بدر، أما في أحد فقد أشاعوا في مساحة المعركة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل، وظن المسلمون يومئذ أن جعالاً بن سراقة هو الذي صرخ ان محمداً قد قتل، وأرادوا قتله لما في هذا النداء من الضرر على المسلمين، وتماسكهم وتآزرهم في القتال.
وقال رافع بن خديج في حديث يوم أحد: فلما انصرف الرماة وبقي من بقي، نظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكر بالخيل وتبعه عكرمة في الخيل، فانطلقا إلى بعض الرماة فحملوا عليهم. فراموا القوم حتى أصيبوا، ورامى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر، ثم كسر جفن سيفه، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه. وأقبل جعال بن سراقة وأبو بردة بن نيار، وكانا قد حضرا قتل عبد الله بن جبير، وهما آخر من انصرف من الجبل حتى لحقا القوم، وإن المشركين على متون الخيل، فانتقضت صفوفنا. ونادى إبليس وتصور في صورة جعال بن سراقة: إن محمداً قد قتل! ثلاث صرخات. فابتلي يومئذٍ جعال بن سراقة بيلية عظيمةٍ حين تصور إبليس في صورته، وإن جعال ليقاتل مع المسلمين أشد القتال، وإنه إلى جنب أبي بردة بن نيار وخوات بن جبير، فوالله ما رأينا دولة كانت أسرع من دولة المشركين علينا.
وأقبل المسلمون على جعال بن سراقة يريدون قتله يقولون: هذا الذي صاح إن محمداً قد قتل. فشهد له خوات بن جبير وأبو بردة بن نيار أنه كان إلى جنبهما حين صاح الصائح، وأن الصائح غيره. قال رافع: وشهدت له بعد ( ).
ونجاة جعال من تصور إبليس في صورته ومن مصاديق قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( )، والأصل هو عصمة المؤمنين من تلبس الشيطان بصورة أحدهم.
وجعال رجل صالح من فقراء المسلمين، وكان دميماً قبيحاً، وعن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال جعال بن سراقة وهو يتوجه الى أحد يا رسول الله : إنه قيل لي إنك تقتل غدا وهو يتنفس مكروبا فضرب النبي صلى الله عليه و سلم بيده على صدره وقال أليس الدهر كله غدا( ).
لبعث الأمل في نفسه ودفع الخوف عنه، وفيه إعجاز بالإخبار عن سلامته يوم أحد، وشهد جعال الخندق وهو يعمل مع المسلمين، ولم يعطه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غنائم خيبر إذ أعطى المؤلفة قلوبهم فدفع لكل من عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وأشباههما مائة من الأبل ، وقال: وكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه( )، وجعيل تصغير جعال.
وفي معركة ذات الرقاع، بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشيراً إلى المدينة بسلامته والمسلمين في المعركة، وشهد تبوك، مما يدل على وثاقته وتصديق الناس بقوله .
الثانية : وقع تعذيب المسلمين في مكة على نحو القضية الشخصية، ويوم بدر خرجت قريش بخيلها وخيلائها.
الثالثة : لقد أراد كفار قريش إستئصال الإسلام في معركة بدر وأحد والخندق، فابطل الله كيدهم، قال تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الرابعة : بين إرادة القتل في المعركة وبين التعذيب في مكة عموم وخصوص مطلق، فليس أشد من لمعان السيوف وحرارتها في المعركة.
الخامسة : لقد أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعض أهل بيته وأصحابه بالهجرة إلى الحبشة عندما إشتد إيذاء وظلم قريش.
أما في معركة بدر فقد أراد الكفار الإجهاز على الإسلام ومنع هجرة المسلمين جماعات إلى بلد آخر.
وكل من أذى قريش في مكة للمسلمين، وهجومهم على المدينة من الظلم والجحود، ليكون من معاني قوله تعالى[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] إستئصال الظالمين الذين يريدون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين سوءً وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا] ( )، وقال أبو السعود( )، في الآية أعلاه: كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لتوطينِ قلوبِ المُؤمنين ببيانِ أنَّ الله تعالى ناصرُهم على أعدائِهم بحيثُ لا يقدرُون على صدِّهم عن الحجِّ ليتفرَّغُوا إلى أداءِ مناسكِه . وتصديرُه بكلمةِ التَّحقيقِ لإبرازِ الاعتناءِ التَّامِّ بمضمونهِ وصيغةُ المفاعلةِ إمَّا للمبالغةِ أو للدِّلالةِ على تكرُّرِ الدَّفعِ فإنَّها قد تُجرَّدُ عن وقوعِ الفعلِ المتكرِّرِ من الجانبينِ فيبقى تكرُّره كما في الممارسةِ أي يبالغ في دفع غائلةِ المشركينَ وضررِهم الذي من جُملته الصَّدُّ عن سبيلِ الله مبالغةً من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرَّةً بعد أُخرى حسبما تجدَّدَ منهم القصدُ إلى الإضرارِ بالمسلمينَ كما في قولِه تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله }( ).
ونقل ذات العبارة الآلوسي في تفسيره للآية أعلاه فقال: { إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ } كلام مستأنف مسوق لتوطين قلوب المؤمنين ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج وذكر أن ذلك متصل بقوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ } وإن ما وقع في البين من ذكر الشعائر مستطرد لمزيد تهجين فعلهم وتقبيحهم لازدياد قبح الصد بازدياد تعظيم ما صد عنه ، وتصديره بكلمة التحقيق لإبراز الاعتناء التام بمضمونه ، وصيغة المفاعلة إما للمبالغة أو للدلالة على تكرر الدفع فإنها قد تتجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين فيبقى تكرره كالممارسة أي إن الله تعالى يبالغ في دفع غائلة المشركين وضررهم الذي من حملته الصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام مبالغة من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى حسبما يتجدد منهم القصد إلى الإضرار بهم كما في قوله تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله}( ).
العطف في القرآن
إبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) ويمكن تقسيم العطف في القرآن إلى أقسام:
الأول : العطف بين مضامين الآية الواحدة .
الثاني : العطف بين الآيات المتجاورة .
الثالث : عطف الآية اللاحقة على الآية السابقة .
الرابع : العطف في الأمر ، فتجد أمراً معطوفاً على أمر كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( )وينقسم الأمر القرآني إلى قسمين :
الأول : الواجب .
الثاني : المندوب .
الخامس : عطف النهي على مثله ، كما ورد قبل آيتين [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] ( )وينقسم النهي القرآني إلى قسمين :
الأول : النهي الذي يفيد الحرمة والزجر المطلق .
الثاني : النهي الذي يفيد الكراهية .
السادس : عطف الآية على ما قبلها ، والعطف بين مضامينها القدسية.
السابع : عطف المفرد على المفرد، وإشراك الثاني بإعراب الأول .
الثامن : عطف البيان في القرآن ودلالاته كما في قوله تعالى[وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ]( ).
التاسع :ترك العطف بالتكرار والحذف .
العاشر : حروف العطف تسعة وهي الواو ،الفاء، ثم، للترتيب والتراخي ،أو للتغيير أو الشك ،أم، لا للنفي ،لكن ، بل ،حتى ،لإفادة الغاية وسائر حروف العطف قوله الله عز وجل [أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ] ( )، والمختار أن العطف في القرآن يأتي بما هو أعم من هذه الحروف بلحاظ نظم الآيات والتداخل الموضوعي بينها.
الحادي عشر : عطف الخاص على العام في القرآن كما في قوله تعالى [مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ]( )، فقد دخل جبرئيل وميكائيل في ملائكة الله ورسله من الملائكة والبشر لأصالة الإطلاق، ثم خصهما الله بالذكر في ذات الآية أعلاه للحاظ سبب النزول وموضوع الآية وبيان أن جبرئيل عليه السلام هو الذي ينزل بالوحي على الأنبياء، ولا يصح القول بمعاداة جبرئيل والإكتفاء بولاية ميكائيل.
الثاني عشر :حروف العطف نوعان :
الأول : ما يلزم معه الإشتراك في اللفظ والمعنى، مثل : الواو، الفاء، ثم ، حتى.
الثاني :يكون الإشتراك فيه باللفظ دون المعنى ، وهو على شعبتين :
الأولى : بيان حكم مستحدث للتالي بحرف العطف دون السابق مثل لفظ [بل] كما في قوله تعالى [بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمِينَ ] ( ).
الثانية : وهو الذي يثبت حكماً للسابق بحرف العطف ، وينفيه عن اللاحق له.
وإبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو للدلالة على إتصال موضوعها بالآية السابقة .
وإقترن التعليل بالعطف ، وذات التعليل متصل مع التعليل الوارد في الآية السابقة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ،ومن معاني العطف في المقام أنه مصداق لقوله تعالى [أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ]( ).
وصحيح أن الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن أمرين:
الأول : الثناء على المسلمين .
الثاني: الذم للكافرين .
وتبين الآية قانوناً كلياً، وهو أن الله عز وجل يعلم أفعال العباد، وأنه سبحانه لن يتركهم وشأنهم ، بل يقرب المسلمين إلى سبل الطاعة، ويبعد الكفار عن منازل القرار والتأثير، وهناك مسألتان :
الأولى : أثر تمحيص المؤمنين على الناس عامة والكفار خاصة .
الثانية : أثر محق الكافرين على حال المؤمنين والناس .
أما الأولى فان تطهير وتزكية المؤمنين منار للهدى وسبيل للصلاح ، وحجة على المنافقين والكافرين إذ يحصل هذا التمحيص والتطهير بصيغ من الإبتلاء أو المدد والعون واللطف الإلهي بالتقريب إلى مقامات الهداية والفلاح .
وفي تمحيص وتزكية المؤمنين ترغيب بالإسلام وبيان، لصدق التنزيل بثبات المسلمين في سبل التقوى وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )فالتلاوة وسؤال الرشاد للصراط، وذات الهداية وتحقيق مصداقها بالتلاوة والعمل الصالح من سنن التمحيص .
أسواق العرب
يدل وجود أسواق عامة عند العرب على الإرتقاء الحضاري الذي يتصفون به .
وأختلف في عدد أسواق العرب الكبيرة في الجاهلية على أقوال منها ثمانية أسواق ، إحدى عشرة ، ثلاث عشرة ، عشرون سوقاً ،ومنهم من أوصلها إلى خمسين سوقاً .
والسوق: هو الموضع الذي يتعامل فيه ، ويتعاطى فيه الناس التجارة والبيع والشراء ، يذكر ويؤنث ، وفي التذكير قال الشاعر:
بسوق كثير ريحه وأعاصره( )
ومن خصائص أسواق العرب أمور :
الأول :إقامة أسواق العرب بأوقات متعاقبة، بحيث يمكن حضور وعمارة أغلبها .
الثاني :كان لقريش الشأن والموضوعية في التجارة والمعاملات في أسواق العرب ، ومنهم من صار له منزلة بسبب صلته مع قريش في تلك الأسواق وتأمين حمايتها والقادمين إليها .
الثالث : التنوع والتعدد في أصناف المعروض في تلك الأسواق .
الرابع : مجئ التجارات من مختلف الأمصار إلى تلك الأسواق فتجد فيها الخيل والابل والأنعام وأنواع السيوف والدروع، ومختلف الحبوب، والملابس والأحجار والتوابل وغيرها.
الخامس :يقع كل سوق إلا ما ندر تحت حماية قبيلة وأشخاص ذوي شأن بين القبائل .
السادس : تقع أغلب أسواق العرب في الأشهر الحرم ، لأنها برزخ دون الثأر والقتل وسفك الدماء ، فالذي يرى قاتل أبيه في أسواق العرب في الأشهر الحرم لا يثأر منه، نعم قد يتوعده، وتكون تلك الأسواق مناسبة لدفع الدية والصلح وهي سبب لنشر الوئام ونبذ الكراهية والحسد، قال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ] ( ).
فان قلت كيف يتقيد العرب في أيام الجاهلية بآداب الأشهر الحرم ولم ينزل القرآن بعد ، الجواب إنها من حنيفية إبراهيم وإرث الأنبياء الذي حفظه وتوارثه العرب لذا فمن إعجاز الآية أعلاه أنها أخبرت بأن عدة الشهور إثنا عشر شهراً.
مما يعني تعاهد الأنبياء لها، وشاء الله عز وجل أن يبقى شطر من أحكام شريعة إبراهيم لتكون مقدمة وعوناً لنشر الإسلام وتلقي الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتدبر في معجزاته وآيات القرآن.
فكانت الأشهر الحرم مانعاً من الإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وإستثمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيام موسم ( )الحج لتبليغ الرسالة ، واكتفت قريش حينها بتحذير القبائل والأفراد منه ، ولكن الناس صاروا يدركون أن الذي جاء به هو الحق والصدق إلى أن كانت بيعة العقبة إذ بايع سبعون من أهل يثرب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام مع إيوائه والذب عنه ، وتلك آية لم يشهدها تأريخ النبوة ، وقد ذكرها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقب واقعة حنين وعند توزيع الفيء يومئذ.
[عن السائب بن يزيد : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسم الفيء الذي أفاء الله بحنين في أهل مكة من قريش وغيرهم ، فغضبت الأنصار فأتاهم فقال : يا معشر الأنصار قد بلغني من حديثكم في هذه المغانم التي آثرت بها أناساً أتالفهم على الإِسلام لعلهم أن يشهدوا بعد اليوم وقد أدخل الله قلوبهم الإِسلام ، يا معشر الأنصار ألم يمن الله عليكم بالإِيمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الأسماء أنصار الله وأنصار رسوله؟
ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس وادياً وسلكتم وادياً لسلكت واديكم.
أفلا ترضون أن يذهب الناس بهذه الغنائم والشاء والنعم والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقالوا : رضينا . فقال: أجيبوني فيما قلت . قالوا : يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور ، ووجدتنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله بك ، ووجدتنا ضلالاً فهدانا الله بك . فرضينا بالله رباً ، وبالإِسلام ديناً ، وبمحمد نبياً . فقال : أما والله لو أجبتموني بغير هذا القول لقلت صدقتم ، لو قلت ألم تأتنا طريداً فآويناك ، ومكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وقبلنا ما رد الناس عليك ، لو قلتم هذا لصدقتم . قالوا : بل لله ورسوله المن والفضل علينا وعلى غيرنا] ( ).
ويكون مفهوم حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه بخصوص الأشهر الحرم : (ألم تأتنا طريداً لم يجهز عليك في الأشهر الحرم ، ومكذباً –بفتح الذال – فلم يبطش بك الكفار المكذبون في الأشهر الحرم وغدوت لنا إذ سلمت فلم يغتالك المجرمون في الأشهر الحرم وفي غيرها من الشهور، وإكتفى الناس بالرد والقبول أو الجدال في الأشهر الحرم).
فان قلت اذا كانت قريش تكف أيديها عن المؤمنين في الأشهر الحرم وهي الأشهر القمرية رجب، ذو القعدة، ذو الحجة، محرم، فلماذا لا تبطش في غيرها من الأشهر خاصة وأن الأشهر الحل ضعفها الجواب[يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ] ( ).
ومن مصاديق الآية أعلاه بخصوص أحكام الأشهر الحرم لإستبانة الحق وإيجاد أنصار للنبوة ودعاة للإسلام بحيث صار الكفار عاجزين مذهولين حتى في أشهر الحل.
ومن أشهر واكبر أسواق العرب في الجاهلية :
الأول : سوق دومة الجندل وهو أول الأسواق التي يأتيها العرب في بدايات فتح الأسواق الموسمية وتبعد عن المدينة المنورة نحو أربعمائة كيلو متراً، وتقام من أول يوم من شهر ربيع الأول إلى النصف منه ، ثم ترق وتقل البضاعة والمعروض فيها، وتبقى على رقتها إلى آخر الشهر فيتفرقون منها إلى قابل ، وكانت مبايعة العرب فيها بالقاء الحجارة فيجتمع عدد منهم على السلعة يساومون صاحبها فمن يرضى بالثمن الذي يدفعه يلقي حجره، ورؤساء سوق دومة الجندل من غسان وكلب أي الحيين غلب تولى الإشراف عليها.
وكانت قريش تذهب إليها من مكة لم يستجيروا بأحد ، لأن الناس لا يتعرضون لتجارة قريش ، إكراماً لهم وتعظيماً للبيت الحرام لأنهم مجاوروه.
الثاني : سوق المشقر : ويقع بهجر بلاد الإحساء ، يقام سوقها من أول جمادى الآخرة إلى آخر الشهر يأتيها من أهل فارس وملوكها، تقوم بها بنو تميم رهط المنذر بن ساوى( )، ويمسكون السوق أي يأخذون العشر وكانت أرضاً خصبة يكثر فيها النخيل ، لا تقدم قافلة للبيع والتجارة فيها إلا تخلف منهم نفر للإقامة فيها ، وهو من اسباب تعدد أنساب أهل هجر ، لأن فيها من كل حي من العرب وكان بيعهم بالملامسة والإشارة والإيماء ولا يتكلمون حتى يتراضوا إجتناباً لليمين الكاذبة وكان الناس لا يصلون الى هذه السوق إلا بخفارة .
الثالث :سوق صحار: من أرض عمان وهي ذات فاكهة وأشجار ، وأهلها أصحاب أموال ، وكانت ترسي فيها المراكب القادمة من الصين، وتجلب لها بضائع اليمن وتقام هذه السوق في رجب ، يحضرها من غاب عما سبقها من الأسواق ، وهو أمر ظاهر للتباعد بين هذه الأسواق والمشقة في قطع المسافات ، ويكون البيع فيها بالقاء الحجارة .
الرابع: سوق دبا : ثم يرتحل العرب ببضائعهم إلى سوق دبا ، ويلتقون بتجار الهند والسند والصين ويستمر سوقها إلى آخر يوم من رجب ، ويكون بيعهم بالمساومة وهو البيع بالإتفاق بين البائع والمشتري على الثمن من غير موضوعية لقيمة الشراء وسعر الكلفة ويقوم الجلندي بتأمين السوق وحفظ البضائع واللطائم فيها، لتكون هذه الأسواق مناسبة لنشر أنباء نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وملاكها , معجزاته وأخبار نصره بأمر خارق للعادة وحسابات الجيوش.
الخامس :ثم ينتقل تجار البحر والبر إلى الشحر بين مكة وعمان وتقام السوق في النصف من شعبان قال الشاعر :
اذهب إلى الشحر ودع عٌماناً إلا تجد تمراً مٌجد لٌبانا
ويباع فيها البر والأدم والمر والصبر والدخن، وليس فيها عشور وضريبة لانها ليست بأرض مملكة .
السادس: ثم يرتحل التجار إلى صنعاء وتقام سوقها في النصف من رمضان وبيعهم فيها بجس اليد .
ثم ينقسم الناس ويذهب شطر منهم إلى سوق رابية بحضرموت، وقسم إلى عكاظ في أعلى نجد وعكاظ قريبة من عرفات ، وتقام كل من السوقين في النصف من ذي القعدة ولا يصل لسوق الرابية إلا بخفارة لأنها ليست في أرض مملكة، وكانت قريش تتخفر ببني آكل المرار من كندة .
السابع :سوق عكاظ، وهو من أعظم أسواق العرب، وهو معروف عند أجيال العرب والمسلمين، تأتيها قريش وهوازن وغطفان وخزاعة والأحابيش وغيرهم، ولا يغادرونها إلا عند رؤية هلال ذي الحجة ، وليس فيها عشور ولا خفارة .
وتنفرد سوق عكاظ بأمور إذ ترسل الملوك لها اللطائم ، ويرسل ملك اليمن السيف والحلة الجيدة والمركوب الفاره ، ومن يأخذه فهو من أعزة العرب فيدعوه إليه ويصله، وبيعهم فيها بالسرار وهو أن يقول أحدهما للآخر [أُخْرِجُ يَدِي وَيَدَكَ فَإِنْ أَخْرَجْتُ خَاتَمِي قَبْلَكَ فَهُوَ بَيْعٌ بِكَذَا وَإِنْ أَخْرَجْتَ خَاتَمَكَ قَبْلِي فَبِكَذَا فَإِنْ أَخْرَجَا مَعًا أَوْ لَمْ يُخْرِجَا جَمِيعًا عَادَا فِي الْإِخْرَاجِ] ( ).
وكان النعمان بن المنذر يبعث بلطيمة أي قافلة محملة بالبضائع إلى سوق عكاظ وكانت فيها منابر يرتقيها الخطباء فيعددون خصالهم ومآثر قومهم.
الثامن : سوق ذو المجاز : وهو سوق لهذيل ، وهو على يمين الموقف بعرفة بسفح جبل كبكب وتقوم ذو المجاز عندما يهل هلال ذي الحجة ، ويقومون به حتى يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة ويتوافد عليه حجاج العرب خاصة الذين لم يشهدوا الأسواق السابقة ويتوافد إليها الأشراف وعلى وجه كل واحد منهم برقع كيلا يعرف فيؤسر طلباً بفداء كبير لفكه من الأسر ، وقال طريف:
أوكلّما وردت عكاظ قبيلةٌ … بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم
لا تنكروني إنّني أنا ذاكم … شاكي السلاح وفي الحوادث معلم
حولي فوارس من أسيد جمّةٌ … ومن الهجيم وحول بيتي خصّم
تحتي الأغرّ وفوق جلدي نثرةٌ … زغفٌ تردّ السيف وهو مثلّم( )
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحضر سوق عكاظ وذي المجاز في الموسم ويبين للناس ذخائر نبوته، ووجوب عبادة الله ولزوم التصديق به وإتباعه ، وقريش تسعى من خلفه تحذر القبائل منه ، [عن أشعث بن أَبي الشعثاء قال، سمعت شيخًا من بني كنانة قال: رأَيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في سوق ذي المجاز، قال، فقلنا: صفه لنا. قال: رأَيته وعليه بُرْدَان أَحمران، جعدًا مربوعًا، أبيض شديد سواد الرأس واللحية، كأَحسن الرجال وجهًا( ).
وكان عكاظ وذو المجاز سوقين في الجاهلية واعرض عنهما المسلمون إنقطاعاً إلى الذكر وأداء مناسك الحج حتى نزل قوله تعالى [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ] ( ) أي في موسم الحج .
وأضاف بعضهم سوق المجنة وهو قريب من ذي المجاز وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق، فسموا المحلين، وكان فيهم من ينكر ذلك، وينصب نفسه لنصرة المظلوم، و المنع من سفك الدماء، وارتكاب المنكر فيسمون الذادة المحرمين ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات البعثة النبوية يتصل بالقبائل في سوق عكاظ وذي المجاز ومَجنة، ويتصل بالقبائل ، ويذهب إليهم في رحالهم يدعوهم إلى الإسلام وعندما إشتد عليه وعلى أصحابه أذى قريش صار يدعو القبائل إلى منعه والذب عنه ليبلغ رسالته ، ومن الآيات في نبوته أن بيعة الأنصار له في السنة الحادية عشرة للبعثة كانت في العقبة وليس أسواق العرب وهي بين منى ومكة وتلك آية في نبوته صلى الله عليه وآله وسلم بأن بدايات موضوع هجرته ونصرته خارج مكة كانت في موضوع عبادي، وهو من أسرار إنشاء البيت الحرام والبركات التي تترشح عنه ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ولم تنقطع صلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسواق العرب والإنتفاع منها في الدعوة إلى الله بعد الهجرة الشريفة، ومن حديث أبي أزيهر بن أنيس بن الخيسق بن مالك بن سعد بن كعب بن الحارث بن عبد الله بن عامر وهو الغطريف بن بكر بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد أنه كان حليفاً لأبي سفيان بن حرب وكانت دوس أخواله، وكان لا يعرف إلا بالدوسي، فكان يقعد هو وأبو سفيان في أيا مهما في قبة لهما فيصلحان بين من حضر ذلك المكان الذي هما به، وكان أبو أزيهر قد زوج ابنته عاتكة أبا سفيان، فولدت له محمداً وعنبسة، وزوج زينب بنت أبي أزيهر عتبة بن ربيعة فولدت له ربيعة ونعمان، ثم خلف عليها أبو حبيب بن مهشم بن المغيرة فولدت له، وزوج ابنة له أخرى الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ثم أمسكها عنه، فلم يدخلها عليه حتى مات، قال: وكان بلغ أبا أزيهر بعد ما زوجه وأخذ المهر منه أنه غليظ على النساء يضربهن، فحبس أبو أزيهر ابنته عنه وأمسك المهر قال ابن حبيب: وذكر إبراهيم بن عبد الرحمن بن نعيم الأزدري عن أشياخ الأزد أنها كانت هديت إليه، فلما أهديت إليه قال: أنا أشرف أم أبوك؟ قالت: لا بل أبي لأن أبي سيد أهل السراة وأن العرب يصدرون عن رأيه وإنما أنت سيد بني أبيك وفيهم من ينازعك الشرف، فرفع يده فلطمها، فهربت إلى أبيها، فحلف أن لا يراها وأمسك المهر، قال ابن الكلبي: فلما نزل الناس سوق ذي المجاز وهو سوق من أسواق العرب فنزل أبو أزيهر على أبي سفيان بن حرب فأتى بنو الوليد فقتلوه، وكان الذي قتله هشام بن الوليد، وكانت عند أبي سفيان بنت أبي أزيهر، وكان أبو أزيهر شريفاً في قومه فقتله بعقر الوليد الذي كان عنده لوصية أبيه إياه وذلك بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأمر بدر وأصيب به من أصيب من أشراف قريش من المشركين .
ابن الكلبي قال: وإن رسول الله صلى الله عليه دعا حسان بن ثابت فقال له: يا حسان! إنه قد حدث بين المطيبين وأحلافهم شر فقتل فقل في مقتل أبي أزيهر شعراً تحرض به المطيبين على الأحلاف، والمطيبون خمسة أبطن: بنو عبد مناف قاطبة وهم بنو هاشم وعبد شمس والمطلب ونزفل بنو عبد مناف وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم بن مرة وبنو الحارث بن فهر، والأحلاف خمسة أبطن وهم لعقة الدم: بنو عبد الدار بن قصي وبنو مخزوم بن يقظة، وبنو جمح بن عمرو وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بنو عدي بن كعب .
واعتزلت بنو عامر بن لؤي ومحارب بن فهر وبنو الأدرم بن غالب الفريقين فكانت بنو عبد الدار تبعاً لبني أسد ومخزوم لتيم، وجمح لزهرة وعدي لبني الحارث بن فهر وسهم لبني عبد مناف، قال، وانبعث حسان يحرض في دم أبي أزيهر ويعير أبا سفيان خفرته ويجبنه فقال: من الطويل
غدا أهل حضني ذي المجاز بسحرة .. وجار ابن حرب بالمغمس ما يغدو
كساك هشام بن الوليد ثيابه … فأبل أخلق مثلها جدداً بعد
قضى وطراً منه فأصبح ماجداً … وأصبحت رخواً ما تخب وما تعدو
فلو أن أشياخاً ببدر شهوده … لبل نحور القوم معتبط ورد
وما منع العير الضروط ذماره … وما منعت مخزاة والدها هند
فلما بلغ قوله يزيد بن أبي سفيان خرج فجمع بني عبد مناف وصاح في المطيبين فاجتمعوا وأبو سفيان بذي المجاز قال: أيها الناس! أخفر أبو سفيان في جاره وصهره فهو ثائر، فتهيأ يزيد واجتمع بهم وبرز بهم، فلما رأت ذلك الأحلاف اجتمعوا فخيموا قريباً، فلما رأى ذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب خرج على فرس له حتى أتى أبا سفيان بن حرب فأخبره الخبر وكان أبو سفيان حليماً منكراً يحب قومه حباً شديداً، خشي أن يكون في قريش حرب في أبي أزيهر فدعا بفرسه فطرح عليها لبداً ثم قعد عليه وأخذ الرمح ثم أقبل إلى مكة وبهما الجمعان وجعل أبو سفيان بن الحارث يقول في الطريق لأبي سفيان بن حرب: فداك أبي وأمي! احجز بين الناس، فجعل لا يجيبه إلى شيء حتى قدم عليهم، فوقف بين الجمعين وقد تهيأوا للقتال، فنظر فإذا اللواء مع ابنه يزيد وهو في الحديد مع قومه المطيبين، فنزع اللواء من يده وضرب به بيضته ضربة هده منها، ثم قال: قبحك الله! أتريد أن تضرب قريشاً بعضها ببعض في رجل من الأزد سنؤتيهم العقل إن قبلوه، ثم نادى بأعلى صوته: أيها الناس إن خلفنا عدونا شامت يعني النبي صلى الله عليه – ومتى نفرغ مما بيننا وبينه ننظر فيما بيننا وبينكم، فلينصرف كل إنسان منكم إلى منزله، فتفرقوا وأصلح ذلك الأمر، وبلغ أبا سفيان قول حسان فقال يريد حسان أن يضرب بعضنا ببعض في رجل من دوس فبئس ما ظن( ).
ولكن الغاية من شعر حسان قد تحققت، بتحريض المطيبين على الأحلاف وإلا فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أشد حباً لقريش وأرأف بهم إذ بعثه الله لنجاتهم من النار.
علم المناسبة
لم ترد مادة [لِيُمَحِّصَ]في القرآن إلا مرتين ، وكل واحدة منها بلفظ [وَلِيُمَحِّصَ] أي بالعطف بالواو وبصيغة التعليل ليكون كل منهما شاهداً على أمور :
الأول : إختصاص المؤمنين بالتمحيص والتطهير والتزكية فورد ذكر التمحيص في آية البحث بصيغة الجملة الخبرية وموضوعها هو الذين آمنوا على نحو التعيين والحصر ، أما الآية الثانية فجاءت بصيغة الخطاب للذين آمنوا [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
الثاني : ورد كل من اللفظين في سورة آل عمران وبينهما إثنتا عشرة آية .
الثالث : في باب أسباب النزول ، كل آية من الآيتين نزلت بخصوص واقعة أحد ، وحال المسلمين فيها ، والبعث على تدارك الزلل وسد الفرجة والإمتحان في حسن التوكل على الله والإخلاص في عبادته، عن عبيدة بن حذيفة يحدث عن عمته فاطمة( ) قالت: عدت رسول الله في نسوة وإذا سقاء معلق وماؤه يقطر عليه من شدة ما يجد من حر الحمى، فقلنا: يا رسول الله لو دعوت الله فأذهب عنك هذا. فقال: إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم( ).
الخامس : بيان موضوعية معركة أحد في تأريخ الإسلام وأنها لم تكن مثل معركة بدر والنصر الساحق فيها إذ أصيب بها المسلمون ، ليكون النصر في معركة أحد على وجوه :
الأول : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين
الثاني :التفقه في الدين
الثالث :معرفة قواعد الإختبار المصاحبة للإيمان
الرابع : ليعلم الناس جميعاً أن إيمان المسلمين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة راسخة في صدورهم وأن الحرب لو تجددت مع الكفار فلا يجدون إلا قلوباً مؤمنة ، وعزائم ثابتة وسيوفاً مشرعة ، ونفوساً تعشق الشهادة وتجاهد للفوز بأحدى الحسنيين وهو من أسرار خشية كفار قريش من إقتحام المدينة في معركة الخندق مع أنهم جاءوا بعشرة آلاف رجل مقاتل ويدركون أنها الفرصة الأخيرة لهم من محاربة الإسلام وأنه بعد رجوعهم إلى مكة خائبين يتعذر عليهم جمع نصف هذا العدد من الرجال على الباطل والضلالة .
وبين الآيتين عموم وخصوص مطلق ، فقوله تعالى في آية البحث [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]( )، أعم من قوله [وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ]( )، وما يدل عليه من طرد الشك والوهم والوسواس من الصدور فكما كانت معركة بدر فيصلاً وفرقاناً وجاء النص القرآني بتسمية يوم بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( )، فان كل معركة من معارك المسلمين فرقان بين الحق والباطل ، وبين الحقيقة والوهم ، فقد أدرك المسلمون يوم أحد بأن الكفار عاجزون عن القضاء على دولة الإسلام ، وأن أيديهم لا تصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذا نزل قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
وقال الفخر الرازي :[ اختلفت الأخبار فيمن ثبت ذلك اليوم وفيمن تولى ، فذكر محمد بن اسحاق أن ثلث الناس كانوا مجروحين ، وثلثهم انهزموا ، وثلثهم ثبتوا ، واختلفوا في المنهزمين ، فقيل : إن بعضهم ورد المدينة وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، وهو سعد بن عثمان ، ثم ورد بعده رجال دخلوا على نسائهم ، وجعل النساء يقلن : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرون! وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن : هاك المغزل اغزل به .
ومنهم قال : إن المسلمين لم يعدوا الجبل . قال القفال : والذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا منهم تولوا وأبعدوا ، فمنهم من دخل المدينة ، ومنهم من ذهب الى سائر الجوانب ، وأما الأكثرون فإنهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك . ومن المنهزمين عمر ، الا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد ، بل ثبت على الجبل الى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم أيضا عثمان انهزم مع رجلين من الانصار يقال لهما سعد وعقبة ، انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم « لقد ذهبتم فيها عريضة .
وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا أربعة عشر رجلا ، سبعة من المهاجرين ، وسبعة من الانصار ، فمن المهاجرين أبو بكر ، وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام .
ومن الانصار الخباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحرث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير وسعد بن معاذ ، وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين : علي وطلحة والزبير ، وخمسة من الانصار : أبو دجانة والحرث بن الصمة وخباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل ابن حنيف ، ثم لم يقتل منهم أحد . وروى ابن عيينة أنه أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السلام غير مودع] ( ).
ومن التمحيص يومئذ تهيئة مقدمات التدارك للمسلمين والرجوع إلى ميدان المعركة والإستعداد للقادم والتالي قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ]( ) ففتح الله عز وجل للمسلمين باب الإعتذار وحال بينهم وبين اليأس والإكتئاب ، وعزى التولي إلى وسوسة الشيطان وتهويل أمر المشركين وكثرة جيوشهم وخيلهم ، ولم يكن عند المسلمين من الخيل إلا فرسان ،[ قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَتَعَبّأَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَبُوهَا( )] ( ).
وهو من إسباب حدوث ثغرة جبل الرماة إذ جاءتهم خيل المشركين من الخلف وقد ترك أغلب الرماة موضعهم ، ولم يبق منهم إلا ثمانية تصدوا لخيل المشركين ، وقتلوا جميعاً هم وأميرهم عبد الله بن جبير .
ومن مصاديق العموم والخصوص بين الآيتين أن آية البحث عامة في الذين آمنوا وتشمل في إطلاقها المسلمين من الأمم السابقة أما آية [وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ] ( ) فهي خاصة بالمسلمين بدلالة صيغة الخطاب فيها ، وهو نوع تشريف وإكرام للمسلمين بأن يأتيهم التمحيص العام الذي يشمل المسلمين في كل زمان ، ثم يذكرهم الله عز وجل بتمحيص وإختبار خاص لينفذ إلى قلوبهم فيطهرها من درن النفاق ولبعث سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ،ورجوع كفار قريش خائبين الحسرة والأسف في قلوب الثلاثمائة الذين إرتدوا في الطريق إلى أحد ويحتمل حالهم بلحاظ آية البحث وجوهاً :
الأول : فوز هؤلاء الثلاثمائة بالتمحيص والتطهير ، وعمومات قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
الثاني : شمول الثلاثمائة الذين إنسحبوا في الطريق إلى أحد بالمحق والوهن.
الثالث : إنهم خارجون بالتخصيص عن التمحيص أو المحق الواردين في آية البحث .
الرابع : التفصيل بشمول رؤساء الذين إنسحبوا في الطريق إلى المعركة وحرضوا عليه خاصة مثل رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول بالمحق والخزي ، إما عامة المنسحبين فيشملهم التمحيص والمختار هو الأول ولكنهم خسروا مراتب التوفيق في المقام.
وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الفعل المضارع ، إذ أن باب التوبة مفتوح لهم ، ولإمكان تداركهم في معركة الخندق وغيرها فيشملهم التمحيق ، لذا لم يحصل بعده إنسحاب مثل هذا العدد من المسلمين ، ولا نصفه أو ربعه ، بل ظهر النفاق في معركة الخندق على نحو القضية الشخصية والأفراد والقلائل مع أن الحصار القاسي إستمر سبعاً وعشرين ليلة وقيل شهراً، وإذا كانت أسر وعوائل الذين إنهزموا من معركة يلومونهم على الهزيمة ورجع عدد منهم إلى المعركة فلا بد أن أزواج وعوائل الذين إنسحبوا قبل المعركة أكثر لوماً وتوبيخاً لهم مع ضيق وعسر باب الإعتذار عند إرادتهم ولوجه ، نعم باب التوبة لا يقبل التضييق ، وليس دونه برزخ أو موانع ، لذا فان المسلمين يتوجهون كل يوم بالدعاء والسؤال وعلى نحو الوجوب العيني على كل واحد منهم ذكراً أو انثى بقول [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) الطريق الذي يؤدي إلى التوبة النصوح وذات التوبة ومقدماتها من الصراط المستقيم ، وتفضل الله عز وجل وجعل كل فرد من العبادة سبيلاً إلى العفو والمغفرة .
[عن عبادة ابن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: ” أيها الناس إن الله تطول عليكم في هذا اليوم فغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم.
وأعطى محسنكم ما سأل، فادفعوا باسم الله “.
فلما كانوا بجمع قال: ” إن الله قد غفر لصالحكم وشفع صالحيكم في طالحيكم، تنزل الرحمة فتعمهم ثم تفرق الرحمة في الأرض فتقع على كل تائب ممن حفظ لسانه ويده.
وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم ; فإذا نزلت الرحمة دعا هو وجنوده بالويل والثبور] ( ).
وقد تقدم في بحث علم المناسبة في هذا الجزء أن مادة [محص]لم ترد في القرآن إلا مرتين وكل منهما بلفظ [وَلِيُمَحِّصَ] وكذا مادة [محق ]فانها لم ترد في القرآن إلا مرتين وبذات اللفظ وصيغة المضارع [َيَمْحَقَ] إذ ورد في آية البحث ، وورد بقوله تعالى [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] ( ) ،وفي الجمع بينهما مسائل :
الأولى : نسبة المحق إلى الله عز وجل وبيان قانون كلي وهو لا يقدر على المحق وإذهاب الكفر والمعاملات الفاسدة إلا الله عز وجل .
الثانية : بيان قهر الله للعباد وأنه سبحانه الغالب البالغ لمراده في خلقه، يفعل ما يريد شاءوا أم أبوا، أحبوا أم كرهوا.
الثالثة : نسبة العموم والخصوص بين المحقين , فيأتي الإذهاب على ذات الكفار وعلى فعلهم المحرم .
قوله تعالى [وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]
ترى لماذا لم تقل الآية ( ويمحق الكفر ) الجواب من وجوه :
الأول : الآية إنذار وتخويف للكفار .
الثاني : دعوة المسلمين والناس لرؤية ضروب المحق والنقص التي تصيب الكفار دفعة وتدريجياً .
الثالث : الدنيا دار الإمتحان والإختبار وبعث الله عز وجل الأنبياء بالدعوة إلى عبادته ، وتفضل وجعل الآيات الكونية غير المتناهية سبيلاً لإنقاذ الناس من المحق وإبعادهم عن منازل الكفر والجحود ، ولكن شطراً من الناس أصروا على الإقامة في الضلالة ، وإمتنعوا عن الوقاية من المحق والنقص فتفضل الله عز وجل بهذه الآية لتذكيرهم بلزوم هذا التوقي عقلاً وشرعاً ، وأنه حاجة لهم في الدنيا والآخرة .
الرابع : لقد تفضل الله عز وجل على الإنسان بالخلافة في الأرض ، وقيده بأوامر ونواه وردت في الكتاب والسنة ، ليكون جزاء الذين آمنوا وتعاهدوا هذه القيود في القول والعمل التمحيص والتطهير والبشارة بالجنة كما في الآية التالية إذ يخاطبهم الله عز وجل بصيغة الوعد [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( ). ( )
الخامس : محق الكافرين سبب لمحو ذات الكفر وإنحسار مفاهيمه ، وبيان قبحه وإمتناع الناس عن ركوب جادته والتيه في ظلماته ، وفي دعاء نوح عليه السلام [لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا] ( ) لأن الكفر ينتشر وتشيع مفاهيمه بالكافرين ، فهم جند الشيطان ، فاراد الله عز وجل بهذه الآية دفعهم عن منازل الأثر والتأثير في الناس .
السادس : محق الكافرين عقوبة عاجلة لهم في الدنيا وجزاء وعقاب أليم في الآخرة ،[عن جابر رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { فأما الذين شقوا } إلى قوله { إلا ما شاء ربك } قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « إن شاء الله أن يخرج أناساً من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل] ( ).
السابع : قوله تعالى [وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]باعث على التوبة والإنابة ، وحث للكفار على نبذ الكفر لإقتران النقص والمحق والإذهاب به ، وليس من إنسان يرغب بالنقص أو تميل نفسه إليه ، ولو قالت الآية ( ويمحق الكفر ) لقال بعض الكافرين ننتظر محق ذات الكفر عسى أن نسلم منه ، فجاءت آية البحث لتبين للكافرين أنهم السبب في وجود مفاهيم الكفر في الأرض إذ تتقوم المفاهيم بحملتها كثرة وقلة ، وجاء قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) لإنذار الكفار بأن الأيام تأتي بالإيمان ، وتمكين أهل التقوى في الأرض ، وإذا كان المحق يصدق على الكافرين برميهم بالنقص والوهن ، فهل يصح القول بمحق الكفر أم أنه أمر متحد ، الجواب نعم يصح ومحقه إذهابه وإزاحته من النفوس والمعاملة ، لتكون العبادة في الأرض خالصة لله تعالى .
وإذا كان المحق يلحق الكفار في ذاتهم وأموالهم وتجارتهم فهل يصيب ذريتهم الجواب لا ، لإختلاف الموضوع فقد يلدون مؤمناً صالحاً، بل تجلى الأمر بإسلام شطر من أولاد مشركي قريش من الأولاد والبنات وتحمل هؤلاء الشباب صفوف الأذى والعوز ولكنهم صبروا ، وكان عدد منهم سبباً في إسلام آبائهم والأخذ بأيديهم إلى منازل التمحيص والتطهير.
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] أنه دعوة لأبنائهم لنبذ الكفر وإنذار من إتباع نهجهم لقبحه الذاتي ولما يجلبه من الأضرار في الدنيا والآخرة ، لتكون هذه الآية الكريمة وما فيها من الدعوة إلى التوبة على وجوه:
الأول : إنها خير محض ونداء سماوي للناس جميعاً بالصلاح.
الثاني : فيها حث لذراري المؤمنين على توارث وتعاهد سنن الإيمان.
الثالث : إنها زجر أبناء الكفار عن إتباع آبائهم في الضلالة والغي لدلالة ذهاب المحل على ذهاب الحال لأنه يكون سالبة بإنتفاء الموضوع.
وهذه الدعوة من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء ، إذ أن نوحاً عليه السلام وهو من الأنبياء الخمسة أولي العزم ورد عنه في التنزيل [إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا] ( )فجاءت آيات القرآن ترغيباً للناس جميعاً بالإيمان ، فلا غرابة أن يدخل رؤساء الشرك والضلالة في الإسلام طوعاً وقهراً ، وفي يوم فتح مكة دخلت قريش جميعاً الإسلام وهو من عمومات قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( )وهذه الكفاية من رشحات محق الكافرين .
وعند توبة فرد أو جماعة من الكفار هل يصدق عليه أنه محق للكافرين , فيه وجوه :
الأول : إنه محق للذين بقوا في منازل الكفر والضلالة .
الثاني : فيه محق للذين تابوا أنفسهم لتبدل الحكم بتغير الموضوع.
الثالث : فيه محق لعموم الكافرين وللذين تابوا .
والصحيح هو الأول ، فمن تاب لا يصدق عليه أنه كافر بل تغيرت صفته وصار من أهل قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]وهو من فيوضات هذه الآية وفيه حث للمسلمين على تلاوتها والتدبر في معانيها وإتخاذها حجة وبرهاناً لجذب الناس إلى مقامات الإنابة والصلاح .
وصحيح أن الآية جاءت بصيغة التحليل إلا أن محق الكافرين لا ينحصر بعلة مخصوصة كتداول الأيام بين الناس، فهذا المحق قانون متجدد.
يحتمل محق وإذهاب الكافرين وجوهاً:
الأول : وهن وضعف شأن الكافرين.
الثاني : إذهاب دولة الكافرين، وإزاحتهم عن شؤون الحكم والسلطنة لقصد الذات وإرادة الفعل فقد ورد المحق بخصوص الربا، قال تعالى[يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( )، لبيان قانون إعجازي في الحياة الدنيا وخلافاً للحساب والمتبادر الحسابي، فيظن الإنسان أن إقراض الناس بفائدة ومنفعة يحفظ له أصل ماله مع زيادة تضاف إليه، وأن دفع الصدقات والزكوات إخراج للمال من الملك الخاص، وعدم عودته لأنه يصبح ملكاً للغير فقيراً كان أو غيره، فبينت الآية أعلاه أن الرزق بيد الله عز وجل ومنه نماء المال وأبى سبحانه إلا إصابة المال الربوي بالمحق والنقصان قهراً وإستثناء من القواعد الحسابية، وظاهر المعاملات التجارية .
ويتفضل الله بالنماء والبركة في الصدقات , وسرعة العوض عنها بذات الجنس أو غيره ومنهم من قال [المراد في الآخرة: يمحق الله الربا يذهبه يعني في الآخرة حيث يربي الصدقات أي يكثرها وينميها]( ).
والصحيح أن المراد المعنى الأعم، وشموله للحياة الدنيا، وهو نوع تحد ودعوة للناس لتتبع أحوال المعاملات، وتجلي البركة والزيادة باخراج الزكاة والإنفاق في السراء والضراء، وكيف أن عاقبة الربا هي المحق والخسران، وخاتمة التقيد بأحكام الشريعة وإخراج الزكوات ودفعها لمستحقيها سبب للنماء والبركة، وفيه أمور:
الأول : دعوة الناس للإعتبار والإتعاظ.
الثاني : إنزجار الناس عن المعاملات الباطلة، والمعاملات المنهي عنها في الكتاب والسنة.
الثالث : نشر معاني التعاون بين الناس، ومنه القرض من غير فائدة، وفيه مسائل :
الأولى : فيه عمارة للأسواق.
الثانية :إنه حرب على البطالة.
الثالثة : إنه مانع من الذل بسبب الديون القهرية التي لا أصل لها إلا إشتراط الفائدة من المقرض والمربي للمال، ليكون محق الربا من الرحمة الإلهية بالناس، وسبباً لمداولة الأيام بين الناس، وعدم جعل المال والشأن بيد أناس مخصوصين يجمعون الأموال بالسحت والحرام.
الرابع : بيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه وتفضله بازاحة الموانع التي تحول دون مداولة الأيام بين الناس.
وهو لا يتعارض مع الجزاء في الآخرة، ورؤية الربا وقد صار وبالاً على صاحبه، ورؤية أهل الإحسان من المؤمنين في حال كرامة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً ، فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه( ).
لقد أراد الله عز وجل أن تكون الحياة الدنيا مدرسة للمواعظ ومناسبة للتدبر في حقيقة كنهها، وأسرار خلق الإنسان، والإقرار باليوم الآخر، والوقوف بين يدي الله للحساب.
وفي قوله تعالى[يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ] ( )، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ، ويُمَدّ لَهُ في جسمه ستين ذراعاً ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من نور يتلألأ ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون : اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول : أبشروا . . . لكل رجل منكم مثل هذا ( ).
إن إختيار وتطهير المؤمنين في الحياة الدنيا مناسبة لأمور:
الأول : تثبيت المسلمين في منازل الإيمان.
الثاني : جذب الناس للإيمان، وهدايتهم لسبل الصلاح.
الثالث : وهن وضعف الكفار.
فيرى الناس إنحسار الكفر والوهن الذي أصاب الكفار عند هجومهم وزحفهم على المدينة في معركة بدر وأحد والخندق، فان قلت كيف جئت بالفعل المضارع (يرى) أعلاه ثم عدلتَ إلى الماضي(أصاب)، الجواب يتجلى إنحسار الكفر بآيات القرآن التي تبين خيبة وخسارة كفار قريش، ومنها آية البحث والآية السابقة، وواقعة أحد أكثر معارك الإسلام التي ورد فيها قرآن، ولها موضوعية في أسباب نزول عدد من الآيات، وكل آية مناسبة لإستحضار ما لاقاه الكفار في تلك المعارك ونتائجها وآثارها، وتكون نتيجة المعركة على أحد وجوه:
الأول : ظفر الطرف الأول.
الثاني : ظفر وغلبة الطرف الآخر.
الثالث : ليس من غالب في المعركة.
الرابع : ظفر وغلبة كل من الطرفين، ولا يكون نصر إلا باذن الله، وهو من مصاديق تمحيص المؤمنين ومحق الكافرين ، قال تعالى [يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ] ( )، وفي الآية مسائل:
الأولى : ثناء الله على نفسه، فلا أحد من الخلائق يستطيع إختيار وتعيين المنتصر والله وحدة القادر عليه.
الثانية : بيان قانون كلي وهو أن من مصاديق ملك الله عز وجل للأرض والسموات يشمل تفضله بنصر من يشاء من عباده والذي يدل بالدلالة التضمنية على عدم ترك الناس يتقاتلون فيما بينهم، ولا تكون الغلبة بحسب رجحان كفة طرف معين في العدد والعدة أو لمبادرته للمكر والخدعة ونحوها، بل إن النصر هو الذي يأتي به الله بمشيئته وعلمه وهذا النصر على وجوه:
الأول : إنه مطلوب بذاته، والمراد تحصيله.
الثاني : النصر المذكور في الآية أعلاه مقدمة وبلغة لغاية حميدة أخرى.
الثالث : تحصيل النصر غاية بذاته، وهو وسيلة ومقدمة لغاية حميدة أخرى.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق النصر الإلهي.
الثالثة : حث المسلمين على الدعاء وسؤال النصر والظفر بالأعداء.
الرابعة : جاءت الآية أعلاه من سورة الروم بخصوص المعارك التي دارت بين الروم والفرس .
وكانت معارك الأولى عقائدية، ليست لمصالح شخصية ولا تتعلق بشؤون الحكم والسلطنة وجمع الأموال، وتتوالى الغلبة في معارك الإسلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بما ثبت مبادئ التوحيد في الأرض، وجذب القبائل إلى الإسلام ودحض مفاهيم الشرك وإلى يوم القيامة.
ولابد من دراسة آثار ونتائج كل معركة في المجتمعات والمعتقدات، وكل معركة من معارك الإسلام معاول تهدم الأصنام العامة والخاصة وتجعل النفوس تنفر منها وتزدريها للتسلم العام بقبح الشرك والضلالة، هذا التسليم الذي طرأ على الناس دفعة بفضل الله ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بتقريب أن هذه الرحمة تشمل تنزيه الإعتقاد وجاءت للناس دفعة واحدة.
وبالإسناد عن عبد الله النعماني قال: كان منا رجل يقال له مازن بن العضوب يسدن صنما بقرية يقال لها سمايا، من عمان، وكانت تعظمه بنو الصامت وبنو حطامة ومهرة وهم أخوال مازن، أمه زينب بنت عبد الله بن ربيعة بن خويص أحد بنى نمران.
قال مازن: فعترنا يوما عند الصنم عتيرة، وهى الذبيحة، فسمعت صوتا من الصنم يقول: يا مازن اسمع تسر، ظهر خير وبطن شر، بعث نبى من مضر، بدين الله الاكبر، فدع نحيتا من حجر، تسلم من حر سقر.
قال: ففزعت لذلك فزعا شديدا.
ثم عترنا بعد أيام عتيرة أخرى، سمعت صوتا من الصنم يقول: أقبل إلى أقبل، تسمع ما لا تجهل، هذا نبى مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كى تعدل، عن حر نار تشعل، وقودها الجندل.
قال مازن: فقلت إن هذا لعجب، وإن هذا لخير يراد بي، وقدم علينا رجل من الحجاز فقلت: ما الخبر وراءك ؟ فقال: ظهر رجل يقال له أحمد، يقول لمن أتاه:
أجيبوا داعى الله.
فقلت: هذا نبأ ما سمعت.
فثرت إلى الصنم فكسرته جذاذا وركبت راحلتي حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرح الله صدري للإسلام، فأسلمت، وقلت:
كسرت يا جر أجذاذا وكان لنا * ربا نطيف به ضلا بتضلال
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا * ولم يكن دينه منى على بال
يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها * أنى لمن قال ربى ياجر
قال يعنى بعمرو: الصامت.
وإخوتها: حطامة فقلت: يا رسول الله إنى امرؤ مولع بالطرب وبالهلوك إلى النساء وشرب الخمر، وألحت علينا السنون فأذهبن الاموال وأهزلن السراري، وليس لى ولد، فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتينا بالحياء، ويهب لى ولد.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال وبالإثم وبالعهر عفة، وآته بالحياء، وهب له ولدا “.
قال فأذهب الله عنى ما أجد، وأخصبت عمان، وتزوجت أربع حرائر، وحفظت شطر القرآن، ووهب لى حيان بن مازن.
وأنشأ يقول:
إليك رسول الله خبت مطيتي * تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
لتشفع لى يا خير من وطئ الحصى * فيغفر لى ربى فأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت في الله دينهم*فلا رأيهم رأيى ولا شرجهم شرجي
وكنت إمرءا بالخمر والعهر مولعا * شبابى حتى آذن الجسم بالنهج
فبدلني بالخمر خوفا وخشية * وبالعهر إحصانا فحصن لى فرجى
فأصبحت همى في الجهاد ونيتي * فلله ما صومي ولله ما حجى
قال: فلما أتيت قومي أنبونى وشتموني، وأمروا شاعرا لهم فهجاني، فقلت إن رددت عليه فإنما أهجو نفسي.
فرحلت عنهم فأتتنى منهم زلفة عظيمة، وكنت القيم بأمورهم، فقالوا: يا ابن عم: ؟ ؟ بنا عليك أمرا وكرهنا ذلك، فإن أبيت ذلك فارجع وقم بأمورنا، وشأنك وما تدين به.
فرجعت معهم وقلت:
لبغضكم عندنا مر مذاقته * وبغضنا عندكم يا قومنا لبن
لا يفطن الدهر إن بثت معائبكم * وكلكم حين يثنى عيبنا فطن شاعرنا
مفحم عنكم وشاعركم * في حدبنا مبلغ في شتمنا لسن
ما في القلوب عليكم فاعلموا وغر * وفى قلوبكم البغضاء والاحن.
قال مازن: فهداهم الله بعد إلى الاسلام جميعا ( ).
وتدل آية البحث على خسارة الكفار في كل معركة خاضوها مع الإسلام بدليل قوله تعالى[وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] الذي هو وعد كريم من عند الله بأن الله سبحانه يبتلي الكفار بالضعف والوهن والخور وأسباب الإذهاب والمحق ومنها دخول بعض الأفراد من قبائلهم في الإسلام لتحصل ثلمة كبيرة عندهم ، وتلك من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاذا كان عدد أفراد القبيلة الفاً ، ودخل أحدهم الإسلام كان حديث المجالس والمنتديات .
وليس من حصر لوجوه محق الكافرين، ومنها:
الأول : إذهاب سطوة الكفار.
الثاني : تخلي الأتباع عن رؤساء الكفر.
الثالث : دخول فريق من الناس في الإسلام، ولا نقول دخول شطر من الكفار في الإسلام، تنزيهاً لمن أعلن إسلامه عن نعوت الكفر والشرك.
الرابع : إبتلاء الكفار بنقص الأموال والعجز عن البذل والإنفاق على الجيوش، وتجلى بانشغال قريش بمحاربة الإسلام عن التجارة والكسب ليكون من مصاديق قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )، تذكير قريش بنعمة التجارة والكسب وتعطيلهم لها بسبب تعديهم على الإسلام، وقيام عدد من شباب المسلمين بقطع طريق القوافل القادمة من الشام نكاية بهم لإيذائهم المؤمنين، وإصرارهم على الكفر.
وفي صلح الحديبية وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يملي على الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام مضامينه ومواده وسهيل بن عمرو وكيل قريش في كتابة الصلح يرد على كل كلمة في الجملة بصيغة الإستفهام الإنكاري وقصد الحذف والتغيير.
فقد طلب تبديل حتى البسملة فحينما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا، ولكن أكتب باسمك اللهم.
ليتلو المسلمون البسملة في صلاتهم اليومية في مشارق الأرض ومغاربها وهم يعلمون لزوم تعاهد صرح البسملة، والإعراض عن إنكار المشركين، ولم يضرهم إشكال سهيل، وعندما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، قال سهيل:لو شهدت أنك رسول لم أقاتلك ولكن اكتب إسمك واسم أبيك( ).
لتصدح أصوات المؤذنين بقول أشهد أن محمداً رسول الله في ربوع الأرض وعبر مكبرات الصوت في هذا الزمان فتسمعه الخلائق كلها، ولا نعلم بالكيفية العامة التي يؤدى بها الأذان بتسخير التقنيات في الزمن المستقبل .
ومن مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، مجئ الشهادة بالرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد التكبير أربعاً والشهادة بالوحدانية وإنتفاء الشريك.
ويتقوم صلح الحديبية بوضع الحرب عن الناس عشر سنين، إذ أرادت قريش أن تستعيد بعضاَ من مكانتها بين القبائل وإنتعاش تجارتها.
ومن الآيات أنه عندما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومعه الصحابة الذين خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون.
فلما رأى سهيل إبنه أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا.
قال: صدقت، فجعل ينتره بتلبيبه ويجره يعني يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرُد إلى المشركين يفتنونني في ديني. فزاد ذلك الناس إلى ما بهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا.
إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم( ).
وأخذ سهيل أبا جندل بقيوده إلى مكة، ولكنه أفلت منهم(فلحق بأبي بصير الثقفي وكان معه في سبعين رجلاً من المسلمين يقطعون على من مر بهم من عير قريش وتجارتهم فكتبوا فيهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمهم إليه فضمهم إليه، وقال أبو جندل وهو مع أبي بصير:
أبلغ قريشاً من أبي جندل … أني بذي المروة بالساحل
في معشر تخفق أيمانهم …بالبيض فيها والقنى الذابل
يأبون أن تبقى لهم رفقة … من بعد إسلامهم الواصل
أو يجعل الله لهم مخرجاً … والحق لا يغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه … أو يقتل المرء ولم يأتل( ).
وكان معه أبو بصير واسمه عتبة بن ربيع بن رافع قد جاء مسلماً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بعد رجوعه من صلح الحديبية (فأرسلت قريش في طلبه رجلين فقالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلما فدفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرجلين فخرجا حتى بلغا به ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا جيداً يا فلان فاستله الآخر وقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال له أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه: ” لقد رأى هذا ذعراً ” . فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال يا رسول الله قد والله وفت ذمتك وقد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر ( ).
ولحق أبو جندل بن سهيل بن عمرو وجماعة ممن آمن من قريش فاخذوا يعترضون قوافل قريش التي يبلغهم خبرها فيقتلونهم ويستولون على أموالهم في مدة الهدنة وقبل فتح مكة فارسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تناشده الله والرحم إلا أرسل إليهم فمن أتاك منهم فهو آمن.
وكان أبو بصير يصلي لأصحابه وكان يكثر أن يقول: الله العلي الأكبر، من ينصر الله فسوف ينصر! ولما قدم عليهم أبو جندل، كان هو يؤمهم، واجتمع إلى أبي جندل ناس من بني غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاث مائة، فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين، أن يلحقوا ببلادهم وأهلهم، فقدم الكتاب إلى أبي جندل، وأبو بصير يموت، فمات رضي الله عنه وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرأه. فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه، وبنى عليه مسجداً ( ).
ودعوة باقي المؤمنين أي الثلاثمائة الذين معهما للرجوع إلى بلدانهم لأنه ليس من ضير عليهم، ولا عهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكونوا دعاة إلى الأسلام .
وفيه نكتة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بعدم حاجته إلى الرجال وأنه لن يخوض معارك مع المشركين تستلزم الرجال خاصة وأن هؤلاء الثلاثمائة الذين كانوا مع أبي جندل وأبي بصير ممن تمرس بالقتال، وإختار المرابطة والغربة من الأهل، وتحدي مشركي قريش التي عجزت عن قهرهم ومقاتلتهم فتوسلت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإعادتهم إلى المدينة، فمن باب الأولوية القطعية أن يعزفوا خائفين عن مهاجمة المدينة المنورة بعد مرور ثلاث سنوات على معركة أحد.
وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يغادر الدنيا إلا وقد صار الكفار عاجزين عن التعدي على ثغور المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( )، أي بسلامة أمصاركم وأنفسكم وأموالكم عن تعدي الكفار.
فقدم أبو جندل ومن كان معه من المسلمين المدينة على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يزل يخرج معه حتى قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى الشام في أول من خرج إليها من المسلمين، فلم يزل يخرج ويجاهد في سبيل الله حتى مات بالشام في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة ( ).
ويبين الخبر ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم: أراد سلامة تجارة قريش وعدم التعرض لها، مع أنهم كفار ولكنهم سألوه بالرحم وقد تقود الحرب الإقتصادية وتضييق المعاش إلى الإنتقام والبطش وقد تفضل الله عز وجل ووعد المسلمين بمحق الكافرين بالذات فلم تمر الأيام والشهور حتى مكرت وإعتدت قريش.
فجاء فتح مكة مصداقاً لمحق الكفر، وإذهاب معالم الشرك، وهدم الأصنام.
وليس من سبب لتضييق المعاشات على الناس خاصة وأنهم في معرض الدخول إلى الإسلام، وفيه شاهد بأنه إذا دالت الأيام إلى المسلمين فعليهم بالنظر للناس بعين الرأفة والرحمة والتخفيف، وإجتناب الظلم وما يؤدي إليه من المقدمات لأنه قبيح بالذات.
وتقدير خاتمة آية البحث: وليمحق الكافرين) بإضافة لام التعليل لوجود حرف العطف الواو، وإرادة العطف فيها، إذ أن آية البحث تتألف من شطرين بينهما إتحاد في العلة وتباين في الموضوع وهما:
الأول : تمحيص وتطهير المؤمنين، بما يفيد في دلالته فصلهم عن المنافقين، وفضح المفسدين والظالمين لأنفسهم.
الثاني : إذهاب الكفر، وخيبة وخزي الكفار، وهلاك أعداء الدين.
وجاءت الآية بصيغة العموم فيما يتعلق بمحق الكافرين، ليكون متعلقه على وجوه:
الوجه الأول : إبتلاء الكفار بنقص العدد، ويدب إليهم هذا النقص من جهات:
الأولى : دخول فريق منهم الإسلام، وتنزههم عن الضلالة وأسباب الغواية.
الثانية : تخلي الأتباع وأفراد القبائل عن الكفار، فمن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن إدراك الناس لضروب الإعجاز فيها، وبعث النفوس على إجتناب محاربته، ونصرة الكفار في تعديهم، فإن قلت تبين الزيادة الطردية في أعداد جيوش الكفار خلاف هذا القول، إذ كان عددهم في معركة بدر نحو ألف رجل، ثم جاءوا بعدها بعام وشهر بثلاثة آلاف مقاتل يوم أحد ثم زحفوا بعدها بأكثر من عام في معركة الخندق بعشرة آلاف رجل.
والجواب هذا صحيح إلا أن الأمور بخواتيمها إذ عجزوا بعدها عن حشد الجيوش للزحف إلى المدينة ورضوا بصلح الحديبية صاغرين، ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق آية البحث في تمحيص المسلمين ومحق الكافرين ، أن هؤلاء العشرة آلاف الذين زحفوا في معركة الخندق لم يحضروا في معركة بدر حيث كان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وليس معهم إلا فرسين ، وهو من عمومات قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ] ( ) فمن أسرار آية البحث أنها جاءت بصيغة الفعل المضارع (ويمحق) فكلما جاءت معركة وكثر فيها عدد المشركين يتطلع المسلمون إلى مشيئة الله تعالى بمحق الكافرين حتى جاء صلح الحديبية ثم فتح مكة، الذي كان مصداقاً تأريخياً لمحق وإندحار الكفار وإذهاب مفاهيم الشرك من مكة.
الثالثة : محق الكافرين باظهار أبنائهم الإيمان، وسعيهم للجهاد في سبل الله، ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجود الابن في صفوف المؤمنين، والأب مع المشركين، أما العكس وهو وجوه الابن مقاتلاً مع المشركين والأب مع المؤمنين فهو أمر نادر إن لم يكن معدوماً، مما يدل على أن الإسلام دين الحق وأن الشباب تلقوه بالقبول وفيه منعة وقوة للإسلام وفتوة مقاتليه ورجحان كفتهم في القتال، وفيه إندار للمشركين بالكف عن التعدي على الإسلام.
وفي معركة بدر كان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان أبوه رأساً وكبيراً في جيش مشركي قريش (ولما هزم المشركون جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام، ثم أمر بأبي جهل بن هشام فسحب فألقي في القليب، ثم أمر بعتبة بن ربيعة فسحب فألقي في القليب، ثم أمر بشيبة بن ربيعة فسحب فألقي في القليب، ثم أمر بأمية بن خلف فسحب فألقي في القليب، وأبو حذيفة بن عتبة قائم إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفطن إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إلى أبيه سحب حتى ألقي في القليب تغير وجهه، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه تغير وجهه قال: يا أبا حذيفة، كأنه ساءك ما صنعنا بعتبة؟ قال: يا رسول الله ما بي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله، ولكن لم يكن في القوم أحد يشبه عتبة في عقله وفي شرفه، فكنت أرجو أن يهديه الله إلى الإسلام، فلما رأيت مصرعه ساءني ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً، فلما كان في جوف الليل خرج النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه الناس وهو ينادي في جوف الليل: يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، أوجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. قال: فناداه الناس: يا رسول الله! أتنادي قوماً قد جيفوا؟ قال: والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا( ).
وفي معركة أحد كان حنظلة بن أبي عامر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أبوه مع المشركين، فاستشهد حنظلة وسمي غسيل الملائكة وترشح الاسم على أبنائه وذريته من بعده وساماً وفخراً فصاروا يسمون أبناء الغسيل، وسمى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أباه أبا عامر الفاسق.
الرابعة : حينما يدخل فريق من الناس إلى الإسلام، فان المحق لا يتعلق بهم وان كانوا من رؤساء الكفر، إذ أنهم صاروا من أهل التمحيص والتطهير والتزكية، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليس بين النفع المطلق والخسارة التامة إلا النطق بالشهادتين، لتكون أحكام القرآن ومضامين آياته مرآة لعالم الآخرة وليس من عاقبة فيها إلا الخلود في نعيم الجنة أو اللبث في عذاب النار.
الخامسة : نقص عدد الكفار بكثرة القتلى والجرحى منهم في حروبهم مع المسلمين قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، ويكون الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث: ويمحق الكافرين بقطع طرف وهلاك طائفة منهم.
السادسة : خسارة الكفار لفرسانهم ومن يتصفون بالشجاعة ومنهم، ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدوم كفار قريش في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة للقتال استشار أصحابه، وهو يريد أن يسمع قول الأنصار على نحو الخصوص.
فذكر لهم ما جاءه من خبر مسير قريش وطلب مشورتهم لأنه كان يستحضر شرط الأنصار بالذب عنه في المدينة وليس الخروج معه للقتال.
فقال سعد بن معاذ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل قال فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال سيروا على بركة الله وأبشروا فان الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذفران فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر ثم انحط منها على بلد يقال لها الدبة وترك الحنان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل ثم نزل قريبا من بدر فركب هو ورجل من أصحابه * وعن محمد بن اسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك فقال وذاك بذاك قال نعم قال الشيخ فانه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فان كان صدقنى الذى أخبرني فهو اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا فان كان الذى حدثنى صدقنى فهم اليوم بمكان وكذا وكذا للمكان الذى به قريش فلما فرغ من خبره , قال : ممن أنتما , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن من ماء ثم انصرف عنه.
وبقي الشيخ يتفوه: ما من ماء، أمن ماء العراق.
وقال ابن هشام: يقال لهذا الشيخ سفيان الغمري( ).
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن أبى طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر(فَأَصَابُوا رَاوِيَةً لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَسْلَمَ ، غُلَامُ بَنِي الْحَجّاجِ وَعَرِيضٌ أَبُو يَسَارٍ ، غُلَامُ بَنِي الْعَاصِ بْنِ سَعِيدٍ فَأَتَوْا بِهِمَا فَسَأَلُوهُمَا ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَائِمٌ يُصَلّي ، فَقَالَا : نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ ، بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنْ الْمَاءِ . فَكَرِهَ الْقَوْمُ خَبَرَهُمَا ، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَا لِأَبِي سُفْيَانَ فَضَرَبُوهُمَا . فَلَمّا أَذْلَقُوهُمَا قَالَا : نَحْنُ لِأَبِي سُفْيَانَ فَتَرَكُوهُمَا . وَرَكَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ , وَسَجَدَ سَجْدَتَيْهِ ثُمّ سَلّمَ وَقَالَ إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا ، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا ، صَدَقَا )( ).
والله إنهما لقريش أخبرانى أين قريش , قالا :هم وراء هذا الكثيب الذى ترى بالعدوة القصوى والكثيب العقنقل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما كم القوم قالا كثير قال ما عدتهم قالا لا ندرى قال كم ينحرون كل يوم قالا يوما تسعا ويوما عشرا قال رسول الله صلى الله عليه وآله القوم ما بين التسعمائة والالف.
ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فيهم من أشراف قريش قال عتبة بن ربيعة وشيبة) ابن ربيعة، وأبو البخترى بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويد والحارث بن عامر بن نوفل وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر بن الحارث بن كلدة وزمعة بن الاسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الناس فقال هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها( ).
وأكثر هؤلاء سقط قتيلاً يوم بدر، ولم يكن بالحسبان أن يتضرج بدمه أول ساعة في المعركة كل من عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة بن ربيعة، وإبنه الوليد بن عتبة، إذ خرجوا يطلبون المبارزة وعندما خرج لهم ثلاثة من الأنصار، إمتنعوا عن مبارزتهم ونادوا: يا محمد ، أخرج لنا أكفاءنا من قومنا، فكان نوع تحد بين الصفين، وإصراراً على قطيعة الرحم والناس ينظرون ماذا يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل يعيد الشبان الأنصار أنفسهم، إذ ليس للمبارز أن يختار وإن إختار فان خياره غير ملزم فأمر النبي محمد صلى الله وآله وسلم أقرب الناس إليه من أهل بيته للخروج فقال: قم يا علي قم ياحمزة قم ياعبيدة بن الحارث( ).
وإختلفت الأخبار فيمن قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنداء فمنها وردت بذكر حمزة أولاً( )( ).
ومنهم من ذكر اسم عبيدة أولاً في نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم( ).
ولكنهم لم يختلفوا في نهوضهم مرة واحدة والتقدم لمبارزة القوم من غير تردد، ولما دنوا من الذين طلبوا المبارزة سألوهم من أنتم، فعرّفوا أنفسهم، وفي هذا السؤال مسائل:
الأولى : كان أهل البيت لابسين المغفر والدرع ولا يعرفون.
الثانية : لم يسمع المشركون نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته بالخروج.
الثالثة : طول الغيبة والبعد منع قريش من التأكد من أشخاصهم.
الرابعة : سمع عتبة وأخوه وإبنه نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعرفوا مَن الذين برزوا إليهم، ولكنهم أرادوا التأكد.
الخامسة : على فرض سماعهم له، فأنهم أرادوا البيان العام والتثبت.
والصحيح هو الأولى والثالثة.
وكانت الإنذارات تترى لتنزجر قريش عن محاربة الإسلام وتصرف النظر عن الذهاب إلى بدر لخوض القتال، ولكن بعض كبرائهم كأبي جهل أصروا على القتال، فكانوا من المقتولين يومئذ ومن الإنذارات :
الأول : عندما سلمت عير وقافلة قريش أرسل أبو سفيان إلى جيش الكفار: أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله( ).
الثاني : رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا فقال انى رأيت فيما يرى النائم وإنى لبين النائم واليقظان إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له ثم قال قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف وفلان وفلان فعدد رجالا ممن قتل يومئذ من أشراف قريش، ورأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه قال فبلغت أبا جهل فقال وهذا أيضا نبي آخر من بني عبد المطلب سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.
ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا فقال أبو جهل بن هشام والله لا نرجع حتى نرد بدرا( ).
قال يونس بن عبيد: كان عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأبو سفيان لا يسقط لهم رأي في الجاهلية، فلما جاء الإسلام لم يكن لهم رأي ( )، وهو من مصاديق المحق الدفعي الظاهر ليكونوا عبرة للناس .
الرابع : لما وصلت جيوش كفار قريش وإطمأنوا (بعثوا عمير بن وهب الجمحى فقالوا احزر لنا القوم أصحاب محمد.
قال ابن إسحاق : فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر: أللقوم كمين أو مدد.
قال: فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ! ؟ فروا رأيكم ( ).
فإحتج أبو جهل، وأصر على القتال ، وذم عتبة، وحرض عامر بن الحضرمي الذي كشف عن عورته عند إصطفاف الصفين ونادى: واعمراه، إذ أن أخاه عمرو بن الحضرمي رماه واقد بن عبد الله التميمي أحد أفراد سرية للمسلمين فقتله في اليوم الأخير من شهر رجب وهو من الأشهر الحرم، فانكرت قريش الفعل وإتخذتها ذريعة وسبباً للتشنيع ضد المسلمين، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قدموا عليه لم يرض بما فعلوا، وقال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام( ).
وقال جماعة من المسلمين ممن كانوا في مكة لم يقتلوه في الشهر الحرام، بل قتلوه في أول شعبان.
وقُتل عامر بن الحضرمي يوم بدر ، وقتل يومئذ عتبة بن ربيعة وأبو جهل وغيرهم .
أما حكيم بن حزام الذي مشى في صفوف المشركين يدعوهم إلى الإمتناع عن القتال ، فإنه سلم من المعركة وأسلم فيما بعد وكان إذا حلف يقول في يمينه والله الذي نجاني من ماء بدر ،إذ ورد هو وجماعة من قريش حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدر فقال عليه الصلاة والسلام : دعوهم.
فما شرب احد منه إلا قتل يوم بدر ، إلا حكيم بن حزام إذ أراد الله عز وجل أن يكون شاهداَ على القوم وأن يفوز بالإسلام والأرجح أنه إجتنب القتال والمبارزة يوم بدر .
وفي قتل المشركين يوم بدر محق لهم ولمن خلفهم من الكفار ، وزجر للمنافقين ودعوة لهم للكف عن التحريض على المسلمين .
الخامس : خرج الاسود بن عبد الأسد المخزومي، وهو من جيش المشركين [وكان رجلا شرسا سيئ الخلق فقال اعاهد الله لاشربن من حوضهم أو لاهدمنه أو لاموتن دونه فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبدالمطلب فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو اصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد زعم ان تبر يمينه واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض] ( ) وكان أول قتيل من المشركين .
السادس : بعد أن قٌتل الأسود خرج عتبة بن ربيعة وأخوه وإبنه فالتمس عتبة بن ربيعة بيضة من حديد ليضعها واقية على رأسه ، [فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم رأسه، فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له] ( ).
ويقال للذي لا بيضة عليه أكشف ، وكأنه يتعجل برمي نفسه في النار بسبب إثارة أبي جهل له مع أنه كان معروفاً بالتدبير بين قومه ولكن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصلت بين الناس ، وكشفت سرائر النفوس ، وحقائق الأشياء ، ومن الذي يجعل العقل والتدبير طريقاً للهداية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( ).فكان هلاك عتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وإبنه الوليد بن عتبة دفعة واحدة آية من عند الله عز وجل ، أدرك الصفان دلالتها ومعانيها .
وكان سبباً في إندفاع المسلمين في القتال مع تقيدهم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل.
وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال الدفاع وتوقي القتال ، ودفع الشر والبلاء ، فلم يعتبر المشركون مما حل بهم ، وهو لا يتعارض مع إمتلاء نفوسهم بالفزع والخوف عند سقوط ربيعة وأخيه وإبنه حال المبارزة التي طلبوها بأنفسهم ، وأصروا على الإختيار الإجمالي لمن يبارزهم بأن يكونوا من قريش ، وكأنه من مصاديق قول أبي جهل : اللهم، أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة]( ).
فالكفار هم الذين قطعوا الرحم بإيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في مكة في بدايات البعثة النبوية فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم شطراً من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مع بعد المسافة ومشقة السفر، وهاجر بنفسه إلى يثرب لوجود الناصر فيها ولتسلم قريش من الإصرار على قطع الرحم ونزول العذاب بها، ولكنهم إختاروا الزحف إلى يثرب وهي المدينة المنورة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكفار قريش هم الذين جاءوا بما لا تعرف قريش هم الذين جاءوا بما لا تعرف قريش وأهل مكة والعرب، إذ كانوا على ملة إبراهيم الخليل في التوحيد بدليل توارث عمارتهم للبيت الحرام وحجه كل عام بذات المناسك التي أداها إبراهيم، والنزوح إلى عرفة ثم الإفاضة إلى مزدلفة في يوم مخصوص هو التاسع من شهر ذي الحجة كل عام، قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ] ( ).
وإستفتح أبو جهل على نفسه وقومه فاقام الحجة على نفسه أمام الفريقين فعجل الله عز وجل له بالعقاب ليكون موعظة للناس ، وزاجراً عن إعادة الكرة بالهجوم على المدينة المنورة مرة أخرى ، ولكن قريشاً لم يتعظوا إذ زحفوا في معركة أحد، فقال تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الوجه الثاني( ) : من وجوه إبتلاء الكافرين بالمحق حال العوز وقلة المؤونة والنقص في المعدات وتعطيل التجارات ، وتجلى بالركود التجاري الذي أصاب قريش والحصار الإقتصادي الذي فرضه بعض رؤساء القبائل من المؤمنين عليهم ، كما في ثمامة بن آثال الحنفي سيد أهل اليمامة الذي أسّره المسلمون بعد معركة بدر إذ جاء معتمراً فظفرت به خيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنجد فربط بسارية في المسجد النبوي.
وكان يسقى كل يوم حليب سبع نوق ،وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باطلاقه فأسلم طواعية وقد تقدم بيانه في أحد الأجزاء السابقة وطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يخرج معه في الطريق إلى أن بلغ مكة ، وعندما لامته قريش على دخول الإسلام وعيَروه بترك دين آبائه [قال لا أدري ما تقولون إلا إني أقسمت برب هذه البنية لا يصل إليكم من اليمامة شيء مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمداً عن آخركم
وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم ليبتلي الله قريشاً بالحصار الإقتصادي نتيجة ظلمهم وحصارهم لأهل البيت في شعب أبي طالب فلما أضر بهم كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلى بيننا وبين ميرتنا فافعل فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه آله و سلم : ” أن خل بين قومي وبين ميرتهم]( ).
وفيه مسائل:
الأولى : هذا الكتاب من السنة التدوينية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : تتجلى في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة وهي أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يهمل كتاباً يصله بل يجيب عليه وان كان من الكفار وهذا الجواب من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثالثة : مبادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإستجابة لقريش مع شدة إيذائهم له وللمسلمين، وأنهم في حال حرب معهم.
الرابعة : جاء جواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على سؤال قريش الأمر إلى ثمامة بكسر الحصار عن قريش، وإطلاق التجارة وما معتاد من البيع والشراء، وعدم كساد الحبوب في اليمامة.
الخامسة : تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقريش بأنهم قومه إشارة إلى أن الحصار يشمل أهل البلد والنساء والذراري ممن ليس لهم ذنب يؤدي إلى حجب أرزاقهم.
السادسة : حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مكة , مجاوري البيت الحرام.
السابعة : نسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الميرة إلى قومه، لبيان حقيقة وهي أنها رزق لهم، ونعمة عليهم.
الثامنة : من معاني تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً(قومي) بعث السكينة في نفوسهم، وبشارة الأمل لهم يوم فتح مكة.
التاسعة : بيان صفحة من تأريخ النبوة، فحينما سألت قريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجدته جواداً كريماً آمراً للملأ من المسلمين باللطف والرفق بهم.
العاشرة : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لثمامة بفك الحصار عن قريش من مصاديق قوله تعالى[أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( )، فلا يؤذى ويصيب الضرر جميع أهل مكة بسبب رؤساء الكفر منهم.
الحادية عشرة : كل كتاب أو جواب من النبي صلى الله عليه يتضمن الرحمة والإحسان وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثانية عشرة : بيان قانون وهو أن السنة تفسير للقرآن , وتأكيد إستجابة الله لإبراهيم, قال تعالى[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ]( ).
سبب معركة ذي قار
وفي معركة ذي قار التي وقعت بين كسرى وقبيلة بني شيبان وقبيلة بكر بن وائل وانتصر فيها هؤلاء العرب مع قلتهم وكثرة جيوش كسرى ، وكان مع جيش كسرى ثلاثة ألاف من أتباعه من العرب من تغلب وقضاعة وإياد ، إلى جانب ألف من الأساورة الفرس جمع أسوار وهو الرامي الجيد الرماية وأسند قيادة الجيش إلى إياس بن قبيصة الطائي ، وسبب المعركة مكر وحيلة من شخص إسمه عدي بن مرينا وزيد بن عدي من مستشاري كسرى العرب أراد الملك للأسود أخي النعمان بن المنذر بينما سعى عدي بن زيد وكان ذا حظوة وصلة عند كسرى ليكون النعمان هو الملك ولقنهم بما يكون معه الملك للنعمان لأن والده المنذر بن المنذر جعل النعمان في حجر عدي بن زيد.
وكان عدد أولاد المنذر اثني عشر ولداً ويسمى اخوة النعمان الأشاهب لجمالهم ، فعندما حضر النعمان وأخوته عند كسرى لقنهم عدي بن زيد بما جعل كسرى يختار النعمان ملكاً على الحيرة على أن يكفيه العرب ، والبسه تاجاً قيمته ستون ألف درهم فأخذ عدي بن مرينا يتقرب إلى النعمان بالهدايا والتحف ويغلظ قلبه على عدي بن زيد الذي سعى له عند كسرى بالملك ، فاستدعاه فلما وصل إليه حبسه النعمان وأمر كسرى باطلاق سراحه وحالما علم النعمان برسول كسرى وما جاء به أمر بقتل عدي بن زيد خنقاً وهو في السجن.
وندم النعمان على قتله , فهو الذي سعى له بالملك وتبين براءته مما نسب له من الكذب على النعمان وبعد مقتل عدي أخذ أعداؤه يتجرأون على النعمان إذ كان عدي قريباً من كسرى .
وخرج النعمان يوماً للصيد فرأى إبناً لعدي إسمه زيد ، ففرح به النعمان وإعتذر له مما فعل بابيه وسيَره إلى كسرى وسأله أن يجعله محل أبيه ، فاستجاب كسرى ، وكان يتولى الكتب التي توجه إلى العرب وكان لملوك فارس صفة للنساء مكتوبة عندهم يختارون التي تجتمع فيها هذه الصفات وسبب كتابتها[أن المنذر أهدى إلى أنوشروان جارية أصابها عند الغارة على الحارث بن أبي شمر الغساني، وكتب يصفها أنها معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء، وطفاء( )، قمراء، دعجاء( )، حوراء( )، عيناء، قنواء، شماء، شمراء، زجاء، برجاء، أسيلة الخد، شهية القد، جثيلة الشعر، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، لطيفة طي البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المنكبين، عظيمة الركبة، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموع للسيد، ليست بحلساء ولا سفعاء( )، ذليلة الأنف، عزيزة النفر، لم تغذ في بؤس، حييه، رزينة، زكية، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صنا الكفيين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها( )، ويحمر خداها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة.
فقبلها كسرى وأمر بإثبات هذه الصفة، فبقيت إلى أيام كسرى بن هرمز( ).
وسأل كسرى يوماً زيداً عن النعمان فاحسن الثناء عليه يظهر أنه غير كاره له ولا ينوي الكيد والمكر به ، وكان يكثر الدخول على كسرى .
وأراد كسرى أن يبعث في طلب النساء بهذه الصفات ولم ينو الطلب من العرب ولكن زيداً بن عدي أرادها فرصة للثأر بتحريض كسرى على النعمان فدخل زيد بن عدي على كسرى[وقال : إني رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عالماً، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. قال: فتكتب فيهن. قال: أيها الملك؛ إن شر شيء في العرب وفي النعمان خاصة أنهم يتكرمون – زعموا في أنفسهم – عن العجم، فأنا أكره أن يغيبهن عمن تبعث إليه، أو يعرض عليه غيرهن؛ وإن قدمت أنا عليه لم يقدر أن يغيبهن، فابعثني وابعث معي رجلا من حرسك يفقه العربية، حتى أبلغ ما تحبه ، أي أن كسرى أراد من زيد أن يقوم بالكتابة الى النعمان ، ويختار كسرى الرسول ولكن زيداً ألحّ با يذهب له بنفسه ليوقعه في ورطة ، فبعث معه رجلا جليداً، فخرج به زيد، فجعل يكرم ذلك الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة .
فلما دخل عليه أعظم الملك، وقال: إنه قد احتاج إلى نساءٍ لأهله وولده، وأراد كرامتك بصهره، فبعث إليك. فقال: وما هؤلاء النسوة ؟ فقال: هذه صفتهن قد جئنا بها( ).
وأراه ذات الصفات التي كتبها المنذر الأكبر ، فشق على النعمان لأن تلك الصفات كانت بخصوص جارية في السبي أصابها المنذر وقومه في غارة لهم على عدوهم ، ولم يذكرها المنذر بخصوص المخدرات من بناتهم وإن الملك العربي والفارسي وغيرهما يترفع عن ذكر هذه الصفات لبناته وليس فقط ملك مثل النعمان .
والظاهر أنه مكر وخبث من زيد لإثارة غضب النعمان في ملكه بما يشبه التشبيب ببناته، ولو علم كسرى بخصوصية الأمر وغيرة العرب والكيفية الملائمة في خطبة النساء منهم لما رضي لزيد ما فعل من المكر الخبيث ،ولا قراءته صفات المرأة التي يطلبون من بنات النعمان بمحضر رسول كسرى ، إذ كانوا يتولون شؤون الملك بالحكمة والعدل .
قال النعمان : أما في عين ومها السواد وفارس ما تبلغون حاجتكم ، فقال الرسول بالفارسية لزيد : ما العين ؟
قال زيد : كاوان أي البقر .
فقال زيد للنعمان وهو يريد تثبيت جرأة وتعدي النعمان : إنما أراد كسرى كرامتك أي بالزواج منكم ومصاهرتكم ،ولو علم أن هذا يشق عليك لم يكتب إليك به [ فأنزلهما النعمان يومين، ثم كتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي، وقال لزيد: اعذرني عنده، وقدم الهداية الجزيلة لزيد ولمن معه .
فلما رجع إلى كسرى، قال زيد للرسول الذي جاء معه: اصدق الملك الذي سمعت منه، فإني سأحدثه بحديثك ولا أخالفك فيه. فلما دخلا على كسرى، قال زيد: هذا كتابه، فقرأه عليه، فقال له كسرى: فأين الذي كنت خبرتني به ؟ قال: قد كنت أخبرتك بضنهم بنسائهم على غيرهم، وأن ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياش، واختيارهم السموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتى أنهم ليسمونها السجن؛ فسل هذا الرسول الذي كان معي عن الذي قال، فإني أكرم الملك عن الذي قال ورد عليه أن أقوله، فقال للرسول: وما قال ؟ قال: أيها الملك، أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا ! فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع، ولكنه قال: رب عبدٍ قد أراد ما هو أشد من هذا، فيصير أمره إلى التباب( )، وفيه وعيد له.
وشاع هذا الكلام، فبلغ النعمان، وسكت كسرى على ذلك أشهراً، وجعل النعمان يستعد ويتوقع؛ حتى أتاه كتابه: أن أقبل فإن للملك إليك حاجة؛ فانطلق حين أتاه كتابه فحمل سلاحه، وما قوى عليه، ثم لحق بجبلي طيىء آجا وسلمى .
وكانت فرعة ابنة سعد بن حارثة بن لأم عنده، وقد ولدت له رجلاً وامرأة، وكانت أيضاً عنده زينب ابنة أوس بن حارثة، فأراد النعمان طيئاً على أن يدخلوه بين الجبلين، ويمنعوه. فأبوا ذلك عليه، وقالوا: لولا صهرك لقاتلناك، فإنه لا حاجة لنا في معاداة كسرى، ولا طاقة لنا به. فأقبل يطوف على قبائل العرب ليس أحد من الناس يقبله، غير أن بني رواحة بن سعد من بني عبس قالوا: إن شئت قاتلنا معك – لمنة كانت له عندهم في أمر مروان القرظ – قال: لا أحب أن أهلككم، فإنه لا طاقة لكم بكسرى.
فأقبل حتى نزل بذي قار في بني شيبان سراً، فلقي هانىء بن مسعود ابن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وكان سيداً منيعاً، والبيت يومئذ من ربيعة في آل ذي الجدين، لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين.
$$ وأستجار النعمان عند بني شيبان قال له هانئ بن مسعود الشيباني ، أمض الى كسرى أما أن يعفو عنك فترجع إلى ملكك عزيزاً ، وأما أن أصابك الموت فهو خير لك من أن يلعب بك صعاليك العرب ، ويتخطفك ذئابها وتأكل مالك ، وتعيض فقيراً في جوار بعضهم مقهوراً .
فقال النعمان : كيف بحرمي .
قال هانئ بن مسعود الشيباني : هن في ذمتي .
وأقام النعمان سنة يرى نفسه سوقه، و ماله تحيف، و إنعامه لا تروح عليه كما تسرح. فقالت له امرأته المتجردة: إن هذا العيش لا يصلح لك فعد إلى صاحبك فاعتذر إليه، فاتى بني شيبان بذي قار فنزل على هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو المزدلف بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان و كان منيعاً فأجاره، و قال قد لزمني ذمامك و أنا مانعك ما بقي من عشيرتي الادنين رجل واحد، و إن كان ذلك غي مانعك بل هو مهلكي و مهلكك، و عندي رأي إن شئت سمعته. قال ما هو فأشار عليه بمثل ما أشارت عليه المتجردة، و قال له: إن الموت نازل بكل أحد، و كل أمر يجمل بالمرء إلى إن يصير سوقه بعد إن كان ملكاً فعد إلى صاحبك و الق نفسك بين يديه، فإن صفح عنك عدت ملكاً، و لئن أصابك فلأن تموت كريماً خير لك من إن تتلعب بك ذؤبان العرب، و تأكل مالك فتعيش فقيراً أو تقتل ذليلاً مقهوراً، فقال هذا و أبيك الرأي فما أصنع بحرمي؟ قال هن عندي و في ذمتي لا يخلص إليهن حتى يخلص إلى بناتي. فاختار خيلا و جوهراً و ظرفاً و عصباً واقطاً و سمناً و حمل ذلك هدية إلى كسرى و كتب يعتذر إليه و يقول أنني قادم، فكتب إليه و قبل هديته و عاد رسوله فاخبره بأنه ما رأى له عنده شراً، فترك عند هانئ بن قبيصة ماله و سلاحه و أهله و أبنتيه هندا – و هي صاحبة هذا الدير الباقي إلى اليوم بالحيرة – و حرقه و هي القائلة:
بيننا نسوس الناس و الامر أمرنا … إذا نحن فيهم سوقة تتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها … تقلب تارات بنا و تصرف( ).
(وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلة، فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك، وعلم أن هانئاً مانعه مما يمنع منه نفسه فأودعه أهله وماله، وفيه أربعمائة درع، وقيل ثمانمائة درع( ).
وتوجه النعمان إلى كسرى، فلقي زيد بن عدي على قنطرة ساباط، فقال: انج نعيم إن استطعت النجاء، فقال: أنت يا زيد فعلت هذا ! أما والله لئن انفلت لأفعلن بك ما فعلت بأبيك ! فقال له زيد: امض نعيم، فقد والله وضعت لك عنده أخية لا يقطعها المهر الأرن، فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه، فقيده وبعث به إلى خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فمات فيه، والناس يظنون أنه مات بساباط لبيت قاله الأعشى:
فذاك وما أنجى من الموت ربه … بساباط حتى مات، وهو محرزق
وإنما هلك بخانقين، وهذا قبيل الإسلام، فلم يلبث إلا يسيراً حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان سبب وقعة ذي قار بسبب النعمان( ).
$$وقيل إنه القاه للفيلة فقتله ففي ذلك يقول الاعشى:
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه … نحور الفيول تحت سقف مسردق
و يقول هانيء بن قبيصة الشيباني:
أن ذا التاج لا أبالك أضحى … و ذرى بيته تجور الفيول( ).
انما كان سبب المعركة بسبب المكر بين أفراد من العرب واستطاع مستشار كسرى من العرب استدراجه إلى المعركة ، وزينوا لله القتال ، وبينوا له بأن نصره أمر حتمي وسريع .
وأرسل كسرى إلى هانئ بن مسعود الشيباني يطلب تسليمه ودائع النعمان فأبى هانئ تسليمها فغضب كسرى وأمر باستئصال بني شيبان ، فجهز جيشاً عروماً من الأساورة الفرس ، ومن القبائل العربية الوالية له من تغلب وقضاعة وإياد .
وولى قيادتها إلى إياس الطائي ، فلما بلغ الخبر بني شيبان استجاروا بقبائل بكر بن وائل فوافقهم طوائف منه .
فبرزوا الى بطحاء ذي قار ، وهو ماء لبكر بن وائل قريب من مهاوعين قال له (كاوان) أي البقر .
حينما كسرى أرسل النعمان طبلاً وصلاً يمانية وجواهر الى كسرى فقبلها ، وطلب مجيئه ولم يظهر أمام رسول النعمان سخطاً عليه لأن عدد العرب الذي مع جيش كسرى ثلاثة ألاف من عدا الفرس مثلاً الف من الأساورة جمع أسوار وهو الرامي الجيد الرماية .
وأصاب جيش كسرى العطش في اليوم الثاني للمعركة وانسحبوا الى السواد فلحقهم بكر بن وائل .
وقتلت أكثرهم ، واستولوا على الغنائم ، وكان أول من وصل إلى كسرى إياس الطائي فلم يقل له انهزمنا ، لأن كسرى إذا جاءه أحد بالإخبار عن الهزيمة ينزع كتفيه ، فقال لكسرى قد انتصرنا وجئنا بنسائهم ، فأعجب به كسرى وأمر له بكسوة ثم استأذنه اياس وقال أن أخي مريض بعين تمر ثم جاء رجل من أهل الحيرة فقال هل دخل أحد على كسرى من جهة المعركة قالوا له نعم دخل عليه اياس بن قبيصة قال ثكلته أمه ، أظن أنه أخبر كسرى بالهزيمة وخلع كتفيه .
وقيل أن معركة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر ، وقيل قبلها ببضع سنوات .
ان يوم ذي قار كان مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن جبرئيل أراه الحرب وقتال بكر للفرس فقال اللهم انصر بكر بن وائل مرتين وأراد ان يدعو لهم الثالثة بأن يديم لهم نصرهم فقال له جبرئيل انك مستجاب الدعوة ومتى دعوت لهم بدوام النصر لم تقم لهم قائمة فلما دعا لهم وانهزمت الفرس تبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرورا وقال هذا اول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا] ( ).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم [وبي نصروا]يحتمل وجوهاً :
الأول :دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبكر بن وائل .
الثاني : بركات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث :مناجاة بكر بن وائل باسم النبي صلى الله وإتخاذه شعاراً في القتال يوم ذي قار .
الرابع : نصر بكر بن وائل مقدمة لإمتناع كسرى عن الهجوم على المدينة حينما جاءته أخبار النبوة ، ووصلته رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم يدعوه فيها إلى الإسلام .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الحديث ، وأخرج أبو نعيم من طريق خالد بن سعيد عن أبيه عن جده قال قدمت بكر بن وائل مكة في الحج فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر ائتهم فأعرضني عليهم فأتاهم فعرض عليهم قالوا حتى يجيء شيخنا حارثة فلما جاء قال إن بيننا وبين الفرس حربا فإذا أفرغنا مما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول فلما التقوا بذي قار هم والفرس قال لهم شيخهم ما اسم الرجل الذي دعاكم إلى ما دعاكم إليه قالوا محمد قال فهو شعاركم فنصروا على الفرس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بي نصروا)( ).
وكان هانئ بن مسعود يتصف بين قومه بالحكمة والعقل وحسن التدبير في حال السلم والحرب.
وعندما وقع خلاف وخصومة بينهم وبين أبناء عمهم من بني مرة بن ذهل بن شيبان: فاقتتلوا شيئاً من قتال ولم يكن بينهم دم. فقال هانئ بن مسعود، رئيس بني أبي ربيعة، لقومه: إني أكره أن يتفاقم الشر بيننا، فارتحل بهم فنزل على ماء يقال له بمائض، وهو قريب من مياه بني تميم، فأقاموا عليه أشهراً، وبلغ خبرهم بني تميم، فأرسل بعضهم إلى بعض وقالوا: هذا حي منفرد وإن اصطلمتموهم أوهنتم بكر بن وائل. واجتمعوا وساروا على ثلاثة رؤساء: أبو الجدعاء الطهوي على بني حنظلة، وابن فدكى المنقري على بني سعد، وطريف بن تميم على بني عمرو بن تميم. فلما قاربوا بني أبي ربيعة بلغهم الخبر فاستعدوا للقتال، فخطبهم هانئ بن مسعود وحثهم على القتال، فقال: إذا أتوكم فقاتلوهم شيئاً من قتال ثم انحازوا عنهم، فإذا اشتغلوا بالنهب فعودوا إليهم فإنكم تصيبون منهم حاجتكم.
وصبحهم بنو تميم والقوم حذرون فاقتتلوا قتالاً شديداً وفعلت بنو شيبان ما أمرهم هانئ. فاشتغلت تميم بالغنيمة، ومر رجل منهم بابن لهانئ بن مسعود صبي فأخذه وقال: حسبي هذا من الغنيمة، وسار به وبقيت تميم مع الغنيمة والسبي. فعادت شيبان عليهم فهزموهم وقتلوهم وأسروهم كيف شاءوا، ولم تصب تميم بمثلها؛ لم يفلت منهم إلا القليل، ولم يلو أحد على أحد، وانهزم طريف فاتبعه حمصيصة فقتله. واستردت شيبان الأهل والمال وأخذوا مع ذلك ما كان معهم، وفادى هانئ بن مسعود ابنه بمائة بعير، وقال بعض شيبان في هذا اليوم:
ولقد دعوت طرف دعوة جاهلٍ … غرٍّ وأنت بمنظر لا تعلم
وأتيت حيّاً في الحروب محلّهم … والجيش باسم أبيهم يستهزم
فوجدتهم يرعون حول ديارهم … بسلاً إذا حام الفوارس أقدموا
وإذا اعتزوا بأبي ربيعة أقبلوا … بكتيبة مثل النجوم تلملم
ساموك درعك والأغرّ كليهما … وبنو أسيدٍ أسلموك وخصّم ( ).
وقال أبو عبيدة: جاء الإسلام وليس في العرب أحدٌ أعز داراً ولا أمنع جاراً ولا أكثر حليفاً من شيبان. كانت عنينة من لخم في الأحلاف، وكانت درمكة بن كندة في بني هند، وكانت عكرمة من طيء، وحوتكة من عذرة، وبنانة كل هؤلاء في بني الحارث بن همام، وكانت عائذة من قريش، وضبة وحواس من كندة، هؤلاء في بني أبي ربيعة، وكانت سليمة من بني عبد القيس في بني أسعد بن همام، وكانت وثيلة من ثعلبة، وبنو خيبري من طيء في بني تميم بن شيبان، وكانت عوف بن حارث من كندة في بني محلم. كل هذه قبائل وبطون جاورت شيبان فعزت بها وكثرت( ).
فهل إستدرجت قريش يوم أحد المسلمين بفرارها وأنها كانت على موعدة مع خالد بن الوليد بالإنتفاع من هذه الخدعة ومباغتة المسلمين من الخلف كما فعل بنو شيبان خاصة وأن العرب كانوا يستحضرون الوقائع وما قيل فيها من الأشعار بلحاظ أنها توثيق لأظهر الحوادث والدروس في تلك المعارك.
الجواب لا دليل على مثل هذه الخدعة والإستدراج ،إنما كان فرار وهزيمة قريش حقيقة وعن فزع وجزع ورعب ملأ نفوسهم وصارت نساؤهم تنتظر السبي , وكان الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فان قلت إنما كان المدد خاصاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب جاءت الآيات بالمعنى الأعم بقوله تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
لماذا التمحيص والمحق
لقد تفضل الله عز وجل باخبار الملائكة عن فضله ومشيئته بجعل خليفة في الأرض كما في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، ليدل بالدلالة التضمنية على ملكية الله للسموات التي يسكنها الملائكة، والأرض التي أراد الله عز وجل أن يعمرها الإنسان بالعبادة ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه منها:
الأول : إني جاعل في الأرض خليفة ليعبدني.
الثاني : إني جاعل في الأرض خليفة لعمارة الأرض بالتقوى والصلاح.
الثالث : إني جاعل في الأرض خليفة لتنتشر ذريته في الأرض، قال تعالى[هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا]( )، أي في أقطارها وأطرافها.
الرابع : إني جاعل في الأرض خليفة لتكون قوانينها مختلفة عن قوانين السماء، فالملائكة سكان السماء، ولكنهم ليسوا خلفاء.
الخامس : إني جاعل في الأرض خليفة لتكون هذه الخلافة تمحيصاً للمؤمن ومحقاً للكافر.
السادس : إني جاعل في الأرض خليفة يقف يوم القيامة للحساب وفق ضوابط وسنن الخلافة، قال تعالى[وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
السابع : إني جاعل في الأرض خليفة ليفوز المؤمن بالخلود في النعيم، ويقيم الكافر في النار مخلداً.
ونظر الملائكة إلى جانب من أفعال قبيحة لشطر من الناس ، وإستدلوا به على سنخية خلافة الإنسان في الأرض لأنهم أهل التقوى والإنقياد التام لأمر الله عز وجل [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ]( )،أجابهم الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، فجاءت آية البحث للإخبار عن أمور :
الأول : تمحيص وتطهير المسلمين بما يساعدهم على تعاهد الإيمان والثبات في منازل التقوى وعمل الصالحات .
الثاني : التمييز بين المؤمنين والكفار بالاسم وجعل موضوعية للفصل بينهما ، لترسيخ التباين والتضاد سنن الإيمان ومفاهيم الضلالة .
الثالث : الترغيب بالإيمان ، وجعل النفوس تنفر من الكفر والضلالة.
الرابع : إصابة الكفار بالذل والضعف والوهن والنقص الذي يأتي بالأسباب الظاهرة والخفية ، إذ تفيد الآية الوعد والوعيد من وجوه :
الأول : الوعد للمسلمين بالتمحيص والتطهير .
الثاني : الوعيد للكفار بتمحيص المؤمنين وصيرورتهم أقوياء أعزة لا يخشون الكيد والمكر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( )فمن مكر الله عز وجل التمحيص للمؤمنين وحرمان الكفار منه ، والمحق للكفار وسلامة المؤمنين منه ، وهو من سلامة حكم الله من الظالم.
الثالث : الوعيد للكفار بنزول المحق بهم على نحو الحتم والقطع ، فلو إجتمعوا وإجتهدوا على رفع هذا المحق أو التخفيف منه لعجزوا وإزداد ضعفهم ووهنهم كما ظهر في معارك الإسلام الأولى ، فبعد الهزيمة التي أصيب بها الكفار يوم بدر جاءوا بثلاثة أضعاف عددهم في معركة بدر ، وزحفوا بثلاثة آلاف رجل لقتال المسلمين الذين هم شبه عزل عن السلاح والمؤون ، فاخبر الله عز وجل عن تجدد خسارتهم وخزنهم بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )وفي الآية أعلاه مسائل :
الأولى : انقلاب الكفار ورجوعهم من حيث جاءوا والذي يدل بالدلالة التضمنية على عدم إحرازهم نصراً أو مكاسب .
الثانية : عجز الكفار عن البقاء في ساحة المعركة أو إحتلال المدينة والإستيطان فيها ، أو الإستحواذ على شطر منها .
الثالثة : رمي الكفار بضرر متعدد من وجوه :
الأول : قتل فريق من فرسانهم لقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
الثاني : إصابة الكفار بالكبت وشل الأيدي والعجز عن المبادرة أو إتخاذ قرار هجوم والمباشرة فيه ، وهذا العجز من مصاديق [أَوْ يَكْبِتَهُمْ] وإذا كان نزول الملائكة سبباً في قتل الكفار ، فهل هو سبب في كبتهم، الجواب نعم ، لما يبعثه هذا النزول من الفزع والخوف في قلوب الكفار ، ولأن الملائكة يكثرون عدد جيش المسلمين في عيون الكفار ، ولا يختص كبت الكفار بسبب واحد لتعدد البلغة والطريق لحصول الكبت عند الكفار ، وقد يأتي من غير سبب خارجي ، بل تمتلأ نفوسهم بالكبت واليأس من تحقيق الغايات التي زحفوا من أجلها وقطعوا نحو خمسمائة كيلو متراً بين مكة والمدينة بلحاظ صعود الآكام( ) ونزول الأهضام( ) في الطريق وما فيها من زيادة المسافة بينهما عما هي عليه اليوم التي تبلغ نحو 450 كم وليكون هذا الغزو والزحف حجة في محق الكفار وجعلهم عاجزين عنه ، وسبباً لتمحيص المؤمنين بالصبر والجهاد وبأدائهم مناسك الحج بالزحف من الأمصار البعيدة قال تعالى في خطاب لإبراهيم عليه السلام [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
الثالث : إفادة الفاء( ) في قوله [فَيَنْقَلِبُوا] التعقيب ،وإنعدام الفترة بين قتل وهلاك طائفة من كبار المشركين وبين إنقلاب الباقين على وجوههم خاسرين، وهو الذي حصل في بدر وأحد .
نعم في معركة الخندق بقى المشركون محاصرين للمدينة المنورة أكثر من عشرين ليلة ويرامون بالنبل والحجارة , وفيه تمحيص للمؤمنين, ويدرك الكفار أثناءها قبح فعلهم إي أنهم لم ينقلبوا في الحال ولكنه لا يخرج عن مصاديق الفاء والفورية في إنقلابهم لأنهم كانوا مدة الحصار في حيرة وخوف وحسرة عاجزين عن القيام بأي فعل بعد أن قتل الإمام علي عليه السلام أحد أشهر فرسانهم وهو عمرو بن ود العامري عندما تجرأ وعبر الخندق فصدق عليه قوله تعالى [أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )بلحاظ تغشي الكبت لهم مدة الحصار .
الرابع :في قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا]وعد كريم للمسلمين من جهات :
الأولى :عدم تخلف إنقلاب ورجوع الكفار عن خسارتهم بفقد عدد من فرسانهم وخيبتهم ، ليكون من الضرر والخزي الذي لحقهم من وجوه :
الأول : الهزيمة التي لحقت الكفار في بدايات معركة أحد .
الثاني : عجز الكفار عن الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : رجوع الصحابة إلى مواقعهم في القتال ، خاصة بعد علمهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط ميدان المعركة وأنه لم يقتل .
الرابع : الوجوه أعلاه مجتمعة جعلت الكفار يستحضرون بالوجود الذهني نتائج معركة بدر وسقوط كبرائهم بين قتيل وأسير .
الخامس : يأس الكفار من إيجاد ثغرة جديدة ينفذون منها للنيل من المسلمين .
السادس : رؤية الكفار إستبسال المسلمين في القتال وإخلاصهم في الجهاد ، وتفانيهم في طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه .
وكل وجه من الوجوه أعلاه تمحيص للمؤمنين إلى يوم القيامة , ومحق للكافرين وموعظة وهدى
الثانية : حتمية إنقلاب ونكوص الكفار.
الثالثة : إنصراف وإذهاب الضرر المترتب على بقاء جيش الكفار بأطراف المدينة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ].
الرابعة : التوثيق السماوي لحقيقة وهي عدم إختلاف الكفار في الإنقلاب ، فليس فيهم راغب بالبقاء ومعاودة القتال وهو من أسرار ومعاني تقييد الإنقلاب بالخيبة .
الخامسة : من معاني الإنقلاب في المقام إنكسار الكفار ، ورجوعهم بهيئة نفسية وكيفية غير التي جاءوا بها من قصد الثأر والإنتقام لذا فمن معاني قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]خفوت أصوات شعرائهم عند الرجوع من أحد والخندق أما حال رجوعهم من معركة بدر فكانت قصائدهم تتعلق بالثأر والإنتقام والتحريض على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبطش بأصحابه خاصة المهاجرين ، وإعادتهم إلى مكة مكبلين بالأصفاد ولعل المشركين جاءوا معهم بالحبال لهذا الغرض فكانت النتيجة الرجوع بانكسار وذل وحرقة .
السادسة : تغشي الخيبة للكفار عند رجوعهم وانكسارهم بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] وتقدير الآية على وجوه :
الأول : فينقلبوا خائبين وصيرورة تحديهم أماني زائلة .
الثاني : فينقلبوا خائبين خاسرين .
الثالث : فينقلبوا خائبين بالعجز عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : فينقلبوا خائبين لعدم تحقق منع نزول القرآن بفضحهم ومحقهم وبتمحيص الذين آمنوا وندبهم إلى الجهاد .
ومن أصدق معاني خيبة الكفار كثرة الآيات التي نزلت بخصوص معركة أحد ، من جهات:
الأولى : مقدمات المعركة والتهيئ لها كما في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الثانية : في الطريق إلى معركة أحد ، وإنخذال المنافقين , ورجوع ثلث جيش المسلمين بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، وقد حصل مثله في تأريخ الأنبياء إذ ورد البيان القرآني في قصة طالوت .
[أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : خرجوا مع طالوت وهم ثمانون ألفاً ، وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأساً، فخرج يسير بين يدي الجند فلا تجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي ، فلما خرجوا قال لهم طالوت { إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي }( ) فشربوا منه هيبة من جالوت ، فعبر منهم أربعة آلاف ورجع ستة وسبعون ألفاً، فمن شرب منه عطش ، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضاً و { قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } فرجع عنه ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، وجلس في ثلثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر] ( ).
الثالثة : حال المسلمين أثناء القتال ودبيب الهم بالإنسحاب لصدور فريق منهم لولا فضل الله ورحمته لقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( ) .
ومن خزائن علوم القرآن أنه ذكر هذا الهّم الذي هو كيفية نفسانية لم يترجل إلى الخارج بالقول أو العمل ، بينما لم يذكر الخطأ الفادح الذي إرتكبه أغلب الرماة بتخليهم عن مواضعهم عند إنهزام المشركين في بدايات المعركة وتجلي بشارات النصر ، وقيام المؤمنين بالإستيلاء على الغنائم ، ولم ينزل القرآن بعتابهم لأن العدو يريد المجئ لهم من الخلف لا يزال في مواضعه لم يتركها، وكانت كتيبتان إحداهما بقيادة خالد بن الوليد قبل إسلامه والأخرى بقيادة عكرمة بن أبي جهل .
ولو شاء الله لثبت الرماة في مواضعهم كما منع من همّ طائفة من المسلمين من الجبن والخور ، ولكنه سبحانه أراد العبرة والموعظة للمسلمين إلى يوم القيامة وإقتباس الدروس والمواعظ منها ، وبيان حقيقة وهي أن المسلمين قادرون على التدارك والغلبة حتى عند التعرض لهزيمة وإنكسار وأن الخسارة التي تعرضوا لها في أحد تمحيص لهم لما بعد المعركة ونزول الآيات لشد عضد المسلمين ، وإزاحة الكدورة والضيق من نفوسهم ، ولإعانتهم في باب التمحيص والتطهير، قال تعالى [إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] ( ).
الرابع : ومن الآيات أن خسارة المسلمين في جانب من معركة أحد تمحيص لهم ومحق للكافرين من وجوه :
الأول : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين .
الثاني : توجه المسلمين إلى الدعاء والتماس الفرج والنصر من عنده تعالى ،وفي معركة بدر كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم منقطعاً إلى الدعاء قبل وأثناء المعركة باستثناء إدارته للمعركة وتوجيهه للمؤمنين في القتال وبيان فنونه وآدابه ، ومنها نهيه صلى الله عليه وآله وسلم على البدء بالقتال .
ومن الحجج في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المشركين هم الذين يعتدون ويصرون على القتال لا لسبب إلا لإختيار أبناء عمومتهم الإيمان والتصديق بالنبوة والتنزيل، وفي بغض الناس للمشركين مسائل:
الأولى :هذا البغض من المحق ونقص مراتب الكفار عند الناس .
الثانية : عزلة مشركي قريش وعجزهم عن تجنيد أفراد القبائل وتحريضهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تعطيل تجارات قريش ، وتردد الناس في إقراضهم والمعاملة معهم ، لذا يذكر القرآن رحلة التجارة بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ *فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( )لتكون نعمة التجارة وباب المكاسب فضلاً من الله يتجلى الشكر عليه باخلاص العبادة لله عز وجل .
الرابعة : دخول أبناء المشركين من الذكور والأناث في الإسلام ، وتجاهرهم بأداء الفرائض من غير خشية من رؤساء الكفر وهو من محق الكافرين وضعف شأنهم حتى في بيوتهم .
الخامسة : إعراض الناس عن كلام وأشعار قريش بخصوص تكذيبهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته العقلية والحسية ، وإدراكهم لحقيقة وهي أن كلام كفار قريش عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إفتراء عليه ومحاولة لصد الناس عن الحق .
السادسة : تهيئة مقدمات نشر معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين القبائل ، ومجئ وفودها إلى المدينة لمعرفة صدق نبوته ، وإعلانهم الإسلام ، ولا بد من تخصيص دراسات تتعلق بحقيقة وهي أن وفود القبائل التي كانت تدخل المدينة لا تخرج إلا بالإيمان .
وكم من وافد قوم التقى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورجع إلى قومه ثم جاء بهم جميعاً مسلمين .
السابعة : إستماع الناس لآيات القرآن ،وهو سبب لبغض الناس للمشركين من وجوه :
الأول : تلمس وجوه الإعجاز في الآية القرآنية .
الثاني : إجراء السامع مقارنة بالفطرة بين لغة القرآن وبين كلام العرب وأشعارهم ، والتباين الواسع بينهما وتخلف كلام البشر عن أسرار وذخائر لغة القرآن.
الثالث : التدبر في معاني ودلالات الآية القرآنية .
الرابع : غزو الفخر لنفس المستمع بأنه في زمان وبلد التنزيل .
لذا تفضل الله عز وجل وجعل التلاوة في كل من صلاة الصبح والمغرب والعشاء جهرية ليستمع الناس ويتدبروا في مفاهيم الآية القرآنية والبراهين الساطعة التي تتضمنها وتترشح عنها .
الخامس : إشغال الناس عن محاربة الإسلام وإمتناعهم عن نصرة المشركين.
السادس : وقوع الخلاف والخصومة بين رؤساء المشركين أنفسهم عند الإستماع لآيات القرآن مما يدل على أن كل آية منه مدد للمسلمين وسلاح ضد الكفر والضلالة ،وهي تمحيص للمسلمين ومحق للكافرين ، وهو من أسرار ووجوه التحدي في قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ).
السابع : السعة والمندوحة للمسلمين والمسلمات في تلاوة القرآن وإقامة الحجة به على الناس من غير نفرة أو حرج منهم .
الثالث : لم تكن خسارة المسلمين يوم أحد على نحو السالبة الكلية ، بل كانت مصيبة في جولة ووقوع سبعين شهيداً في ساحة المعركة ، ليبعث هذا العدد من الشهداء العزيمة في نفوس المسلمين على مواصلة القتال والفزع في قلوب الكفار , ومع كل شهيد يسقط من المسلمين هناك مسائل:
الأولى : إنه تمحيص وتطهير للمسلمين جميعاً.
الثانية : فيه خزي ومحق للكافرين.
الثالثة : إنه سبب لنزول البلاء الشديد بالكفار، ليكون من معاني والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم أنهم يدعون للمؤمنين بالنصر والغلبة، وعلى الكفار بالمحق والوهن.
الرابعة : كل قطرة دم من شهيد من المسلمين شاهد صدق على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى[وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ]( ).
بحث رجالي
عمرو بن شعيب محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي ت سنة 118هجرية كان يسكن مكة ، روى عن أبيه وسالم وسعيد بن المسيب ومجاهد وطاوس، وروى عنه أبو حنيفة والأوزاعي وابن جريج وغيرهم يروي عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجده تابعي وهو محمد بن عبد الله بن عمرو وكأن أحاديثه مرسلة ، وهو نوع ضعف .
وذكره ابن حبان في المجروحين وقال :في روايته عن ابيه عن جده مناكير كثيرة لا يجوز عندي الإحتجاج بشئ منها( ).
وعن أحمد : له مناكير ،إنما يكتب حديثه ، يعتبر به ،فاما أن يكون حجة فلا .
وعن أيوب قال : كنت إذا جئت إلى عمرو بن شعيب أغطي رأسي حياء من الناس .
وعن أحمد بن علي بن محمد بن محمد الشهيد ابن حجر العسقلاني ت 852 في كتابه طبقات المدلسين [عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي تابعي صغير مشهور مختلف فيه والاكثر على أنه صدوق في نفسه وحديثه عن غير أبيه عن جده قوي قال بن معين إذا حدث عن أبيه عن جده فهو كتاب ومن هنا جاء ضعفه إذا حدث عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة فهو ثقة وقال أبو زرعة روى عنه الثقات وانما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده وقالوا إنما سمع أحاديث يسيرة وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها وعامة المناكير في حديثه من رواية الضعفاء عنه وهو ثقة في نفسه إنما تكلم فيه بسبب كتاب كان عنده .
وقال بن أبي خيثمة سمعت هارون بن معروف يقول لم يسمع عمرو من أبيه شيئا إنما وجده في كتاب أبيه وقال بن عدي روى عنه أئمة الناس وثقاتهم وجماعة من الضعفاء الا ان أحاديثه عن أبيه عن جده مع احتمالهم إياه لم يدخلوها في صحاح ما خرجوا وقال هي صحيفة قلت فعلى مقتضى قول هؤلاء يكون تدليسا لانه ثبت سماعه من أبيه وقد حدث عنه بشئ كثير مما لم يسمعه منه مما أخذه عن الصحيفة بصيغة عن وهذا أحد صور التدليس والله أعلم] ( ).والمختار أنه ضعيف ، ولم يثبت سماعه للأحاديث الكثيرة التي ذكرها إنما يذكر حديثه في المواعظ وبما لا يخالف الكتاب والسنة
ولعمرو بن شعيب أخوة مثل شعيب ، وعمر بن شعيب الذي يحدث عن أبيه عن جده هذا الكم من الأحاديث التي يرويها ، مع السماع منهم ، فاخوه عمرو بن شعيب الذي يروي حديث سندر مولى زنباغ الجذامي الذي قام باخصائه وجوع أنفه لأنه رآه يقبل جارية له ، فاشتكى سندر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : من مُثل به أو أُحرق بالنار فهو حر وهو مولى الله ورسوله ، فاعتق سندرا الحديث .
[عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خطب الناس في يوم شديد الحرّ، ورجل أعرابي قائم في الشمس حتى فرغ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ” ما شأنك؟ ” قال: نذرت أن لا أزال قائماً في الشمس حتى تفرغ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ” ليس هذا بنذر، إنما النذر الذي ما ابتغي به وجه الله عزّ وجلّ ” ، ثم أمر به فأجلس] ( ).
ومنهم من ذهب إلى أن المراد من رواية عمرو بن شعيب عن جده هو عبد الله بن عمرو جده الأعلى خاصة وأنه قد ينسب إليه ، وليس المقصود من لفظ (عن جده ) محمد بن عبد الله الذي لم يذكر له أكثر المصنفين ترجمة وأن أباه شعيباً روى عنه عن عبادة بن الصمات وعبد الله بن عباس وعن جده عبد الله بن عمرو بن العاص( ).
تفسير قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]
يرد نعت الثناء والمدح لأهل الإيمان في القرآن بصيغ ووجوه :
الأول :وصف المسلمين بالمتقين ، لبيان أن دخول الإسلام والإيمان بالله واليوم الآخر هدىّ وشاهد على الخشية من الله ، قال تعالى [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا]( ).
الثاني :نعت المسلمين بالمتقين، وأن هذه التسمية سابقة لزمانهم وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]( ).
ومن إعجاز القرآن أنه ورد لفظ [أَبِيكُمْ] في أربع آيات منه ثلاثة منها في سورة يوسف بخصوص أبناء يعقوب ( )والرابعة الآية أعلاه بخصوص المسلمين ، ليكونوا ورثة الأنبياء في الإيمان .
الثالث :وصف المسلمين بالإحسان للملازمة بين الإيمان والإحسان للذات والغير ، وتلك آية في سنن الإختبار في الحياة الدنيا ، فكلما تأتي البشارة للمؤمنين ، والإنذار للكافرين يرد الثناء على المسلمين ، والذم للكافرين.
وتحتمل النسبة بين البشارة والثناء وجوهاً :
الأول :نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الثناء فرع البشارة ، وكل ثناء هو بشارة وليس العكس .
الثانية : البشارة فرع الثناء , وكل بشارة هي ثناء وليس كل ثناء هو بشارة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فبينهما مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
الثالث : نسبة التساوي بين البشارة والثناء .
والصحيح هو الثاني لأن البشارة السابقة لذات الأمر المبشر به والثناء يأتي متعقباً للفعل الحسن .
ويحتمل شمول المؤمنات بالتمحيص وجوهاً :
الأول : أصالة التساوي في الأجر والثواب بين الرجال والنساء في فعل الصالحات .
الثاني :القدر المتيقن في الآية إختصاص التمحيص بالذكور من المؤمنين ، جموداً على صيغة التذكير فيها .
الثالث : المدار على العمل والجهاد في سبيل الله، وقد خرجت بعض الصحابيات في معركة أحد لإعانة وإسعاف المقاتلين ، ومنهن من قاتلت دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما إقترب منه الكفار وأرادوا قتله .
والصحيح هو الأول ،فان التمحيص عام وشامل للمؤمنين والمؤمنات وفيه إجتماع للإختبار والإكرام في الحياة الدنيا [عن ابن عباس . « أن امرأة من خثعم أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : يا رسول الله أخبرني ما حق الزوج على الزوجة ، فإني امرأة أيم ، فإن استطعت وإلا جلست أيما؟ قال : فإن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها وهي على ظهر بعير أن لا تمنعه نفسها.
ومن حق الزوج على زوجته أن لا تصوم تطوعاً إلا بإذنه ، فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها ، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه ، فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء ، وملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب حتى ترجع] ( ).
ومن وجوه التمحيص في المقام الإبتلاء، وتلقي الأذى من الكفار والمصائب التي تحل بالإنسان في الحياة الدنيا كفقد عزيز ، أو خسارة ليست في التصور الذهني ، أو الإصابة بمرض عضال أو وقوع آفة من السماء أو الأرض ويرى الناس جميعاً كيف يتلقى المؤمنون الأذى بالصبر قربة إلى الله عز وجل ، ولا يستجيبون للسلطان في ظلمه بل يعلنون إخلاصهم لعبادة الله عز وجل ، وهو من معاني التمحيص والإختبار ، وهذا الإختبار والإبتلاء يصيب الناس جميعاً ، ولكنه يكون رحمة وعوناً للمؤمنين في حياتهم اليومية ، إذ تزدهر التجارات والصناعات فيظهرون عند المصيبة الثبات على الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ]( )، وليس من حصر لضروب تمحيص المسلمين ،ويمكن تقسيمها وفق لحاظ متعدد منه :
الأول : التمحيص الزماني ، ومنه قوله تعالى في الآية السابقة [َتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
الثاني : التمحيص المكاني في الحضر والسفر .
الثالث : التمحيص بالغنى والفقر لذا أثنى الله عز وجل على المؤمنين ووصفهم بالمتقين وأنهم [يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( ).
الرابع : التمحيص في الشأن والسلطان وفي إقبال الدولة أو إرهابها فتتجلى خصال المؤمنون بالعدل والإنصاف في الأول والصبر في الثاني مع عدم مغادرة التقوى ،إذ أن تعاهد المسلمين لسنن التقوى من أحسن وجوه التمحيص والتطهير .
الخامس : التمحيص في ميدان المعركة ، كما في النصر الذي حققه المسلمون يوم بدر ، والخسارة التي لحقتهم في معركة أحد، وتجلت معاني التمحيص والتطهير بتعاهد المسلمين لطاعة الله ورسوله ، وعزمهم على القتال يوم الخندق وثباتهم على الإيمان إلى أن تجلى محق الكافرين يوم فتح مكة ، وكسر الأصنام التي في البيت وعند القبائل .
من معاني التمحيص في آية البحث التطهير والتزكية وإصلاح المسلمين لوظائفهم العقائدية والجهادية، ومنها زيادة إيمان المسلمين ومنع دبيب النقص له، ويتمثل النقص بطرو الشك والوهم والإنصات للمنافقين والكافرين والإنقياد لأهل الريب والضلالة.
وعن الزهري قال: لما نزلت هذه الآية { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } قالوا : يا رسول الله قد علمنا أن الإيمان يزداد فهل ينقص؟ قال : إي والذي بعثني بالحق إنه لينقص قالوا : يا رسول الله فهل لذلك دلالة في كتاب الله؟ قال : نعم . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } فالإنقلاب نقصان لا كفر( ).
بحث بلاغي
[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]
من ضروب البلاغة والإيجاز الإدماج وهو التداخل في الغرض ، وإخفاء قصد وغرض في غرض آخر ظاهر أو بديع في بديع .
عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : رجل أتى قوما على إسلام دامج ، فشق عصاهم حتى استحلوا المحارم ، وسفكوا الدماء ، وسلطان جائر( ).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : من شق عصا المسلمين ، والمسلمون في إسلام دامج فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه( )، والدامج أي المجتمع والمتآلف.
والإدماج لغة اللف والتداخل بين أمرين أو أكثر سواء على نحو التساوي أو رجحان أحدهما على الأخر الذي يكون مستتراً ومضمراً فيه فيكون أحدهما مرجح والأخر مدمج فيه ، لبيان أمه نوع مفاعلة ويقال ، أدمج الشئ في توبه إذا لفه فيه.
ويقال: دمج في بيته أي دخل، والدُّموج الدُّخول.
وقال في إدماج الأعضاء: حمراء في حاركها دُموجُ( ).
ويتجلى الدمج في آية البحث من وجوه :
الأول : بيان النفع العظيم والأسرار الربانية في تصريف الأيام بين الناس وما يترشح عن قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
الثاني : بيان قانون كلي ، وهو ما من فعل لله عز وجل إلا وله غايات حميدة ومقاصد سامية كثيرة ، وفيه دعوة للعلماء لإستقراء شطر من هذه الغايات وإستنباط الأحكام والدلائل منها في بحور غير متناهية من فيوضات آيات القرآن .
الثالث : جاءت الآية بصيغة الإطلاق بخصوص تمحيص الذين آمنوا ومحق الكافرين ويكون بلحاظ أفراد الزمان الطولية من جهات :
الأولى : إرادة الحياة الدنيا ، فكل يوم من أيامها هو تمحيص وتزكية وتطهير للذين آمنوا ، ومحق ومقت ودنو مرتبة للذين كفروا ،ومن وجوه تطهير وتمحيص المسلمين إبتلاؤهم بالأمراض وصبرهم عليها والرضا بقضاء الله ، والحمد له سبحانه على كل حال وهو من الإعجاز في قراءة كل مسلم ومسلمة سورة الفاتحة كل يوم عدة مرات وعلى نحو الوجوب العيني فيقول المسلم [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) فيحسبه الله عز وجل شكراً له على النعم ورضا بما أصابه من الإبتلاء في ذات اليوم ، وما سبقه من الإيام ، ليكون فيه زيادة بالنعم ومغفرة للذنوب وواقية من البلاء والفتن ، عن ابن مسعود قال : دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أُوعَكُ وَعْكَ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ قُلْتُ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ نَعَمْ أَوْ أَجَلْ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحُتُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا)( ).
الثانية : إرادة عالم البرزخ ، وصيرورة قبر المؤمن روضة من رياض الجنة ، وقبر الكافر حفرة من حفر النيران كما ورد في آل فرعون بقوله تعالى [يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا]( ).
الثالثة : إرادة تمحيص الذين آمنوا ومحق للكافرين في عالم الآخرة بتطهير المؤمنين من ذنوبهم وشوائب الدنيا، ويواظب المسلم على فعل الطاعات وإتيان الواجبات فيفوز بغفران الذنوب ، ومحو السيئات بفضل من الله عز وجل، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتاني الليلة آت من ربي عز وجل قال: يا محمد . قلت : لبيك ربي وسعديك . قال : هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أعلم . قال : فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات وما في الأرض . قال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : نعم ، في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات( ) المكروهات أي في البرد الشديد وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
علم المناسبة
مثلما لم ترد مادة (محص) في القرآن إلا مرتين، فان مادة (محق) لم ترد فيه إلا مرتين، ليكونا من (المتضاد المتساوي) العدد في القرآن، وهذا الإصطلاح تأسيس لعلم جديد يبين موضوعية العدد في المتضادات في القرآن، وورد كل منهما بصيغة المضارع لإرادة المستقبل والفعل المتجدد منه تعالى في إصلاح المؤمنين لسبل الهداية والرشاد، وإبتلاء الكافرين بالضلالة.
وكما أن الفاعل في تمحيص المؤمنين هو الله عز وجل وحده فكذا بالنسبة للمحق، فلا يقدر عليه إلا الله سبحانه لتكون مداولة الأيام بين الناس، وإخلاص المسلمين في طاعة الله، وإصرار الكفار على الظلم والتعدي أسباباً لإستدامة سنن الإيمان، قال تعالى[يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( ).
وإذ تقدم تمحيص المؤمنين على محق الكافرين في آية البحث فان الآية أعلاه قدمت محق الربا على ربى ومضاعفة الصدقات لمجئ الآية قبلها في ذم الذين يأكلون الربا وجدالهم ودفاعهم عنه وإدعائهم أنه مثل البيع، فنفى الله قولهم هذا وفضحهم وذكرت الآية أعلاه التباين بينه وبين الزكوات والصدقات.
فمرة يأتي المحق للكافرين لتلبسهم بالكفر والجحود كما في آية البحث، لبيان قانون وهو أن المحق ملازم للكفر، لا يفارقه، فمن يختار الكفر يأتيه المحق، وهل يصح القول أن من يختار المحق يأتيه الكفر، الجواب لا إذ أن المحق معلول للكفر، وكذا فانه مصاحب ومعلول للربا وأخذ الزيادة والمنفعة على القرض الذي يجب أن يكون إحساناً محضاَ، فالذي يدفع الصدقات ويخرج الزكاة قربة إلى الله عز وجل لا يريد منها العوض والبدل ولا الزيادة فان الله عز وجل ينعم عليه بالأجر والثواب العظيم، فمن باب الأولوية القطعية أن يكون القرض إحساناً محضاً، وبدون فائدة ربوية وزيادة بالعين والجنس أو المنفعة كسكن الدار من غير إيجار.
وهل ينحصر المحق بالكافرين والربا أم أنه أعم جاء هنا من باب المثال الأمثل، الجواب هو الثاني، فان المحق يلحق الأفعال المحرمة المذمومة لذا ذكرت الآية السابقة لآية محق الربا حرمته بقوله تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، وفيه زجر عن فعل المحرمات وإتيان المنكرات.
وبعد آية البحث وإختتامها بمحق وإستئصال الكافرين , جاءت آية البشارة بالجنة وقربها من المؤمنين لأنهم يأتون ذات الشروط التي تذكرها الآية من الجهاد والصبر، وكذا في آية محق الربا فانه جاءت بعدها آية البشارة للمؤمنين بالأمن من الخوف والحزن بقوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).