معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 114

المقدمــة
الحمد لله الذي جعل الناس محتاجين لإفتتاح كل مقالة وعمل ومنسك بالحمد لله والثناء عليه لتترشح البركة على ذات العمل ويكون نفعه متصلا ومتجدداً ومضاعفاً في النشأتين.
الحمد لله ذي القدرة المطلقة التي تتباهى بها الخلائق من مقامات التحلي بالعبودية والخضوع والخشوع لله عز وجل.
الحمد لله الذي أسبغ النعم على الناس البر منهم والفاجر لتكون وسيلة لجذبهم لمنازل التقوى وجعلها بلغة للصالحين للبث الدائم في الجنان، وصلى الله على محمد الذي بعثه للناس كافة بشيراً ونذيراً بالكتاب السماوي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
الحمد لله الذي جعل القرآن جامعاً للعلوم مبيناً لأحكام الحلال والحرام ، وخطاباً لأولى الألباب، وأمثلة وقصصاً ذات حسن لا تصل إليه أوهام البشر، وجعله معصوماً من الزيادة والنقيصة، سالماً عن المعارضة، قاضياً بالعدل بين الخصوم وإماماً يقود إلى الجنان، ومن مصاديق هذه الإمامة قوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] ( ).
الآية التي جاء والحمد لله هذا الجزء وهو الرابع عشر بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) خاصاً بتفسيرها وتأويلها وصلتها مع بعض الآيات المجاورة لها ، أما لو أخذت صلتها مع آيات كثيرة مجاورة لها فان أيام العمر لا تكفي لإستيفاء شطر من معانيها ، وهو من مصاديق الإعجاز في قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) بتقريب وهو أن أي تفسير للقرآن لا يرقى إلى دلالات ذات آيات القرآن ورشحات العلوم التي تفيض من بين ثنايا آياته.
[وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ] وقد مرّ على علم التفسير أكثر من ألف وثلاثمائة سنة ولم يكن متعارفاً أن يصدر كل جزء في تفسير آية واحدة بقوانين ومسائل مقتبسة من مضامين ذات الآية الشريفة.
ومن فضل الله عز وجل أن القلم لا يستطيع مجاراة المعاني والكلمات التي تتزاحم وتتدافع في الوجود الذهني إستقراءاً وإستنباطاً إنما القصور مني في صرف أوقات كثيرة لأمور علمية وحياتية وإكرام الضيوف وعدم تسخير الذات فيها لهذا السفر الخالد، نسأل الله عز وجل المدد والهداية منه سبحانه.
وتتجلى البشارات في آية البحث عند التدبر في كلماتها وإبتدائها بصيغة الخطاب العام إلى المسلمين[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ]( ) ثم تتجه الآية إلى التبعيض في شرط دخول الجنة بأن تتصدى طائفة من المسلمين للجهاد في سبيل الله بقوله تعالى[وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ].
وكأن الغاية من الجهاد وبلحاظ نظم آية البحث هو دخول عامة المسلمين الجنة ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[إِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) أي اللهم إهدنا لتكون طائفة منا تجاهد في سبيلك لندخل الجنة بتحصيل هذا الشرط وشرط الصبر الذي ذكرته الآية، الجواب نعم.
وهو من الإعجاز بصيغة الجمع في الآية أعلاه، وكل مسلم ومسلمة يدعوان الله عز وجل لبذل الوسع بحسب المقدرة قال تعالى[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
فمن إعجاز آية البحث أن عامة المسلمين يدخلون الجنة بجهاد طائفة منهم وصبر أخرى.
فلم تقل الآية (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله جهادكم ويعلم صبركم).
وهذا التفسير منا للآية أمر مستحدث ولكنه جلي في ظاهر الآية ومعاني الرحمة التي تتضمنها كل آية من آيات القرآن فيدخل شطر من المسلمين الجنة بتحلي فريق منهم بالجهاد والصبر ، وهل منه شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكبائر من أمته، [وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : لكل نبي دعوة مستجابة وقد إدخرت دعوتي شفاعة لأمتي]، الجواب لا، لأن الشفاعة أمر إضافي في الآخرة غير الجهاد والصبر أمور وأفعال في الدنيا.
ونفى المعتزلة الشفاعة لأهل الكبائر، واستدلوا بآيات ورد أكثرها بخصوص الكافرين الذين ذكرتهم الآية السابقة لآية البحث بقوله تعالى وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ.
ومما إستدلوا به قوله تعالى [فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ]( )وقوله تعالى[مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ]( )، وقوله تعالى [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( ) بحجة أن صاحب الكبيرة ليس ممن يرتضي الله عز وجل ، ولا دليل على هذا المعنى .
وأصول المعتزلة خمسة هي :
الأول التوحيد.
الثاني : العدل.
الثالث :المنزلة بين المنزلتين.
الرابع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس : الوعد والوعيد.
وسبب تسميتهم بالمعتزلة هو أن واصل بن عطاء من تلامية الحسن البصري وقال : أن مرتكب الكبيرة منزلة بين المنزلتين فليس هو بمؤمن ولا كافر وشاطره هذا القول عمرو بن عبيد فقال لهما الحسن البصري : إعتزلا مجلسنا ، ولو بقيا معا يسمع منهما ويحضران حلقته وينصتان له لكان أفضل لهم وللأمة لأن هذا الخلاف سبب شرخاً كبيراً لأحقاب وأجيال وحصلت بسببه فتن منها فتنة خلق القرآن وسيأتي بيانه.
الحمد لله الذي جعل القرآن الواقية والحرز السماوي من الخلاف والخصومة والشقاق بين المسلمين ، والفيصل الحاضر بين ظهرانيهم يدعوهم إليه على نحو الوجوب خمس مرات في اليوم , والندب أضعافها وهو من أسرار وثمرات سلامته من التحريف والتبديل والتغيير، ليكون برهاناً ودليلاً للناس وحجة عليهم .
وتبقى سلامة القرآن من التحريف معجزة توليدية، فهي معجزة بذاتها، وتترشح عنها الدلالات الباهرات كل يوم بما يبعث المسلمين على السعي في سبيل الصلاح وطرق الهداية إلى الجنان والقصور التي تجري من تحتها الأنهار.
والآية الكريمة التي تضمن هذا الجزء تفسيرها باعث على العمل الصالح وترغيب بالعفو والصفح، وصرح في الدفاع عن الإسلام ليتجلى الصبر والجهاد بقوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).

قوله تعالى[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]الآية 142
الأعراب واللغة
أم: حرف مهمل وهو على أقسام:
الأول : أم المتصلة وتشبه في عملها همزة التسوية، وتقدير الآية أحسبتم….).
الثاني : أم حرف عطف وهو المشهور.
الثالث : أم المنقطعة.
الرابع : أم الزائدة، وأستدل عليه بقوله تعالى[أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ]( ) وليس بتام.
الخامس : أم التي هي حرف تعريف، وأستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ليس من امْبرِّ امْصِيامُ في امْسَفَر) ( ).
حسبتم: فعل ماض مبني على السكون، والتاء: ضمير في محل فاعل والميم للذكور.
أن تدخلوا: (أن) حرف مصدري وهو أداة نصب وسيأتي مزيد بيان في الجزء القادم( )، تدخلوا: فعل مضارع منصوب وعلامة نصبه حذف النون، واو الجماعة فاعل.
الجنة: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
ولما يعلم: الواو: حالية، لما: حرف نفي وجزم وقلب، يعلم: فعل مضارع مجزوم، جاءت الكسرة في آخره تحريكاً لإلتقاء ساكنين.
الله: لفظ الجلالة فاعل مرفوع.
الذين اسم موصول مبني في محلّ نصب مفعول به.
جاهدوا: فعل ماض مبني على الضم، وواو الجماعة فاعل.
منكم: (من) حرف جر، الضمير(كم) في محل جر متعلق بمحذوف حال من الفاعل.
ويعلم: الواو للمعية، يعلم: مضارع منصوب ب(أن) مضمرة بعد واو المعية، والفاعل ضمير مستتر تقديره(هو) وقال الكوفيون: الواو ناصبة بنفسها، ولا تصل النوبة لإضمار(أن) بعدها ولو دار الأمر بين الإضمار وعدمه، فالثاني هو الأولى.
الصابرين: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم وجملة (تدخلوا) لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي وجمل(جاهدوا) لا محل لها لأنها صلة الموصول (الذين).
[قال الخليل : والحُسْبان من الظنّ، حَسِبَ يحسَبُ، لغتان، حُسْباناً، وقوله – عز وجل – : ” الشَّمْسُ والقَمَرُ بحُسْبانٍ ” ، أي قُدِّرَ لهما حِسابٌ معلوم في مواقيتِهما لا يَعدُوانِه ولا يُجاوزانِه] ( ).
ولكن حسب غير الحسبان وتفيد الآية أعلاه أن المراد من الحسبان الحساب المعين الذي لا يقبل التردد كما قال الخليل في بيانه وتفسيره للآية أعلاه، مع إجماع اللغويين والنحويين على منزلة الخليل، ووصف بأنه [مِفْتَاحُ العلوم ومصرفها] ( ) وفيه مبالغة والمختار أن المراد من حسبتم ما هو أرقى من المعتبر فيبنى حسابهم على دخول الجنة ويتباشرون به ، فجاءت آية البحث للإخبار عن شرطين هما الجهاد والصبر من قبل طائفة منهم .
ولكن هل من تعارض بين ما يتباين به المسلمون رتبة في هذين الشرطين وهل هما برزخ دون صيرورة الحسبان حقيقة , الجواب لا ، لأن آية البحث نزلت والنبي محمد صلى الله عليه وآله وأهل بيته وأصحابه يجاهدون في سبيل الله ويواجهون أشد هجمات في تأريخ الجزيرة العربية مع قلة عددهم ومؤونتهم .
ودخل ويدخل دخولاً : أي ولج ولوجاً ، والدخول نقيض الخروج والمراد من الجنة محل النعيم الآخروي الذي أعده الله مستقراً دائماً للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ولاقوا البأساء والضراء في جنب الله [وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات]( ).
ومع سعة التصور الذهني وعالم الخيال فانه لا يحيط بافراد النعيم الآخروي [وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب فيه ظلها مائة عام لا يقطعها، وإن شئتم فاقرأوا{وظل ممدود} وماء مسكوب]( ).
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المتجاورة على شعبتين:
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة:
الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( ) وفيه مسائل:
الأولى : يتعلق موضوع آية البحث بعالم الآخرة، والثواب العظيم الذي أعده الله للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، أما الآية السابقة فتخص عالم الدنيا بلحاظ أنها طريق إلى الآخرة، وتلك آية إعجازية في نظم آيات القرآن بأن يأتي الزرع قبل جني الثمار وفيه بعث على العمل، والتحلي بالتقوى.
الثانية : يفيد الجمع بين الآيتين الترتيب بين البلغة والغاية، والعمل والتحصيل، والسبب والمسبب، وفيه بيان لعلة خلق الدنيا، وأنها طريق إلى الآخرة، وهذا المعنى حرز من النفس الشهوية، وواقية من الغرور بزينة ومباهج الدنيا وتندب آية البحث إلى خصال كريمة من الجهاد والصبر بما يجعل المسلم في أمن من الغرور(عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها على رأسها يعني الخمار خير من الدنيا وما فيها)( ).
الثالثة : ذكرت الآية السابقة صنفين متضادين من الناس بينهما تنافر في الإعتقاد وسنخية العمل وهما:
الأول : الذين آمنوا بالله عز وجل ورسوله ونطقوا بالشهادتين.
الثاني : الكفار الذين أصروا على الجحود بالربوبية والتنزيل، وهذا الذكر ليس بعرض واحد، إذ تضمنت الآية الثناء على المسلمين لقوله تعالى[وَلِيُمَحِّصَ] وذم الكافرين ويرميهم بالوهن والذل والهوان.
أما آية البحث فجاءت بثلاثة أقسام لمقسم واحد من حيث سنخية الإيمان والتقوى، وهي:
الأول : عموم المسلمين الذي يدل عليه الخطاب(أم حسبتم).
الثاني : المجاهدون في سبيل الله.
الثالث : الصابرون في جنب الله عز وجل.
ليكون من ضروب الفروق بين مضامين الآيتين المصداق الحاضر لتمحيص الذين آمنوا ببشارتهم بالجنة، والمحق والنقص للكافرين بحرمانهم من نعمة الإكرام في هذه الآية والخاصة بالمؤمنين، ودلالتها على أن الكفار لن يشموا رائحة الجنة.
ومن الفروق في المقام بيان الآية لماهية محق الكافرين في الآخرة، فليس بين الإخبار عن نزول النقص والمحق بالكافرين وبين بعث اليأس في نفوسهم فاصلة أو آيات متعددة، وهو من مصاديق الإنذار في قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ).
ليكون من خصائص الإنذار في هذه الآيات صبغة الإطلاق وشموله للعوالم الطولية المتعددة، فيشمل الإنذار في هذه الآيات محق ووهن وضعف الكفار في الدنيا والآخرة، ليكون من قوانين الخلق مصاحبة المحق والنقص للكفار أحياء وأمواتاً.
الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : ليمحص الله الذين آمنوا أن تدخلوا الجنة.
الثاني : ليمحص الله الذين آمنوا يعلم الذين جاهدوا منكم.
الثالث : ليمحص الله الذين آمنوا يعلم الصابرين.
الرابع : أن تدخلوا الجنة ويمحق الكافرين.
الخامس : يعلم الله الذين جاهدوا ويمحق الكافرين.
السادس : يعلم الله الصابرين ويمحق الكافرين.
الخامسة : تضمنت الآية السابقة البشارة والإنذار، والثناء والذم، والشكر والسخط، والوعد والوعيد مع التباين الموضوعي بينهما، إذ تأتي البشارة ونظائرها أعلاه للمؤمنين، ويأتي الإنذار وأشباهه للكافرين الجاحدين.
وجاءت هذه الآية بالبشارة والخير المحض للمؤمنين وتضمنت أسباب بعثهم على فعل الصالحات والمبادرة إلى عمل الخير والإحسان، قال تعالى[أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
السادسة : ورد اسم الجلالة في كل من الآيتين وبصيغة الفاعل المختار القادر على كل شيء، ومن خصائص مضامين فضل الله عز وجل في الآيتين المدد واللطف بالمؤمنين وجذبهم لسبل اللبث الدائم في النعيم، وحجب المعاصي والسيئات عنهم كما ورد في يوسف عليه السلام[كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
وهل يراد المعنى المجازي وأن المقصود من الآية أعلاه كذلك لنصرفه عن السوء، بل تفضل الله عز وجل وصرف عنه ذات السوء والفحشاء فلم يصلا إليه، وإن أرادته امرأة العزيز، وهذا الصرف ودفع أسباب الإفتتان والفتنة عن المؤمنين من مصاديق التمحيص الذي تذكره الآية السابقة خاصة وأن الآية أعلاه لم تذكر نعمة صرف المعصية والسوء عن يوسف بصفة النبوة، بل قالت إنه[مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] لأمن وسلامة للمؤمنين منذ أن هبط آدم وحواء وإبليس إلى الأرض، كما ورد في التنزيل حكاية عن إبليس[فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
وجاءت آية البحث لتأخذ بأيدي المسلمين لمنازل الوقاية من السوء والفحشاء بالتذكير بالجنة، والإخبار عن السبل التي هي بلغة لها.
السابعة : جاءت الآية السابقة بصيغة المعلول وترتبها على علة مؤثرة في موضوعها ذكرها الله في الآية السابقة، أما هذه الآية فجاءت على صيغة الإستفهام التقريري الذي يفيد حث المسلمين على الإجتهاد في طاعة الله عز وجل، قال تعالى[وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ] ( ).
الثامنة : تمحيص المؤمنين طريق ومقدمة لجهادهم وتنمية ملكة الصبر عندهم، وكذا جهادهم وصبرهم فأنهما مجتمعين ومتفرقين طريق ومقدمة لتمحيصهم وتنقيتهم وتطهيرهم من غير أن يلزم الدور بينهما.
التاسعة : إخبار آية البحث عن شرائط دخول الجنة دعوة للمسلمين للإجتهاد في سبل التمحيص والتطهير وحث لهم للمسارعة في عمل الصالحات، وهو زجر للكافرين ومنع عن البقاء على الكفر والجحود، فبعد قانون المحق الذي جاء بكلمتين في الآية السابقة(ويمحق الكافرين) جاءت هذه الآية بالأمل والبشارة والحث على التوبة والإنابة لبيان حقيقة وهي عدم الملازمة بين الكافر والكفر، وبين الضال ومفاهيم الضلالة، فكل ساعة تطل على الإنسان هي مناسبة للتوبة والإنابة.
وآية البحث ترغيب للكفار بالإيمان، لما في الإخبار عن دخول المسلمين الجنة بالجهاد والصبر من البعث لإتباع ذات النهج القويم، ومع أن أصل آية البحث: أم حسبتم أيها المسلمون أن تدخلوا الجنة ولما…) فيمكن تقديرها: أم حسبتم أيها الناس أن تدخلوا الجنة ولما يعلم) مع قيد الإيمان وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، كما في قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، فلم يأت الفرض بقصد المؤمنين خاصة، أو المسلمين والمسلمات، أو بني آدم عامة بل أخبرت عن تعلق وجوب الحج بالناس جميعاً، وقد تقدم أنه بين الناس وبني آدم عموم وخصوص مطلق، فالناس أعم بلحاظ إضافة آدم وحواء، وحجب الكفار عن أنفسهم تلقي الدعوة إلى دخول الجنة بإمتناعهم عن الإيمان بالله والنبوة، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، ولكن حثهم على الإيمان وترغيبهم به بالإخبار عن الجنة وشرائط دخولها لم ينقطع عنهم بل هو متجدد في كل آية من القرآن وهو من معاني صبغة العقلية معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي القرآن.
فتأتي الدعوة إلى الكفار متعددة من أمور:
الأول : بيان القبح الذاتي للكفر وضلالة الذي يختاره.
الثاني : الدعوة السماوية لنبذ الكفر وهجران منازله.
الثالث : الإخبار بأن الكافرين مقطوعون في الإرث والتركة العقائدية، وهل يقطعون في الذرية الجواب لا، للتباين الموضوعي ولحصر العقاب بذات الفاسق والكافر، وعدم شموله لموضوع الذرية قال تعالى[أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ *حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ]( ).
ومن خصائص الآية القرآنية الترغيب بالهداية وسبل الرشاد، ومن خصائص تعقب آية البشارة بالجنة لمحق الكافرين تأهيل أبناء المشركين لرؤية ضياء الإيمان، ومنع صيرورة كفر الآباء غشاوة على بصائر الأبناء، ليكون من مصاديق (ويمحق الكافرين) عدم مغادرتهم الدنيا إلا وهم يسمعون أبناءهم يتلون آية البحث ليدركوا معها صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل، ويكون إيمان الأبناء حثاً للآباء على التوبة من الكفر، وهو من سبل (محق الكافرين).
وعند توبة أحد من الكفر أو جماعة منهم فهل يصدق عليه أنه محق لهم، الجواب لا، إنما هو نجاة لهم ومحق للذين أصروا على الإقامة في منازل الكفر والجحود.
والنسبة بين مضامين الآية السابقة وهذه الآية هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول : ذكر اسم الجلالة في الآيتين.
الثاني : نسبة الفعل في الآيتين إلى الله عز وجل.
الثالث : البشارة وتغشي السكينة للمؤمنين.
الرابع : كل من الآيتين سبب لإمتلاء نفوس الكفار بالحسرة والأسى ( وعن رسول الله عليه وآله وسلم: الظلم ظلمات يوم القيامة)( )، أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول : مجيء الفعل في آية البحث بخصوص الحياة الدنيا، وإن كان الأثر أعم ويتعدى إلى الآخرة أما آية البحث فتتضمن ذكر الجنة والطريق إليها.
الثاني : ذكرت الآية السابقة أمرين بينهما تباين من جهة الفعل وتلقيه وهما:
الأول : تمحيص وتطهير المسلمين.
الثاني : محق ووهن الكافرين.
وجاءت هذه الآية بخصوص المؤمنين.
الثالث : مضامين الآية السابقة معلولة لعلة متعددة في الآية السابقة لها لذا وردت بصيغة التعليل(وليمحص) أما هذه الآية فجاءت قانوناً مستقلاً.
الرابع : إبتدأت الآية السابقة بحرف العطف الواو، وهذه الآية لم تعطف على الآية السابقة إلا بلحاظ الموضوع.
الخامس : تعلق موضوع الآية السابقة بخصوص التمحيص والمحق، أما هذه الآية فتخص المؤمنين وجهادهم وصبرهم.
العاشرة : لقد جعل الله عز وجل الدنيا داراً لرحمته إذ تتغشى البر والفاجر، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ]( )، وسبقت رحمة الله للإنسان خلقه ولازمته فلا تغادره، ومن الآيات عدم إنقطاع الرحمة عن الناس جميعاً حتى الذين كفروا.
فان قلت ذكرت الآية السابقة محق الكافرين ، والمحق بلاء شديد ، والجواب نعم ، ولكن هذا المحق والبلاء إنذار من عذاب الآخرة ودعوة للناس جميعاً لأخذ الحائطة والحذر من الكفار وإجتناب الفسوق وأسباب الظلم والجور ، فمن منافع محق الكافرين سلامة الناس من الكفر وإقتباس مفاهيمه.
ومن خصائص الإنسان الإكتساب من غيره ، وكلما كان الإنسان والطائفة في مقامات الشأن والرفعة فان الناس يميلون إليهم فيتحمل الكفار شطراً من آثامهم ، قال تعالى [ِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ]( ).
لتكون الرحمة في محق الكافرين من وجوه:
الأول : الرحمة بالمؤمنين بوهن وضعف عدوهم، ويحتمل محق الكافرين بالنسبة لتمحيص المؤمنين مسائل:
الأولى : إنه من ضروب تمحيص وتزكية المؤمنين.
الثانية : إنه مقدمة لتمحيص الذين آمنوا وتثبيت أقدامهم في منازل الإيمان.
الثالثة : ليس من صلة بين محق الكافرين وبين تمحيص الذين آمنوا خاصة وأن الآية جاءت بصيغة العطف الواو [وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ].
والصحيح هي الأولى والثانية، وتقدير الآية على جهتين:
الأولى : وليمحص الله الذين آمنوا ليمحق الكافرين.
الثانية : ليمحق الله الكافرين ليمحص الله الذين آمنوا.
ولم تقل الآية ليمحص الله المؤمنين ويمحق الكافرين، لأن هذا التقسيم يخرج الذين لم يستقر الإيمان في صدورهم والمنافقين، ويكون حكمهم الإلحاق بالكافرين أو يكون لهم حكم آخر يقتبس من دليل مخصوص، كما أن جزاءهم في الآخرة لقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ]( ) ولكن الآية وردت بذكر الذين آمنوا وبينهم وبين المؤمنين عموم وخصوص مطلق ،إذ تشمل لفظ [الَّذِينَ آمَنُوا] كل من نطق بالشهادتين وأعلن إنتسابه للإسلام ظاهراً ، ومنهم المنافقون والمقصرون في واجباتهم العبادية ليكون من اللطف الإلهي شمولهم بالتمحيص وليس المحق وفيه مسائل:
الأولى : تغشي رحمة الله عموم الذين نطقوا بالشهادتين ،لأن هذا الإعلان والحمد باللسان حرب على الكفر ومعول لهدم الأصنام التي كانت قريش تتخذها آلهة ووسائط زلفى إلى الله .
الثانية : بيان فضل الله عز وجل على الذين أعلنوا إتباعهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولو باللسان وحده .
الثالثة : يحتمل ما يلقاه المنافق وجوهاً :
الأول : الإختبار الذي يداهمه في البيت والسوق والمسجد ، وفي الحوادث العامة والأمور الخاصة ليتبين ما يضمره الخبث والجحود.
الثاني : التمحيص لتطهير المنافق ، وجذبه إلى منازل التوبة.
الثالث : تخلف المنافع عن ضروب التمحيص.
الرابع : فضح المنافق بإصراره على التجافي عن أسباب التطهير.
الحادية عشرة : بينت آية السياق أن تمحيص المؤمنين على نحو متجدد بدليل صيغة الفعل المضارع (وليمحص) لبيان حقيقة وهي تتعلق بآية البحث وهي أن باب الجنة مفتوح للمسلمين في كل آن من نوبات الزمان بإقتناء الثمرات بعمل الصالحات والسعي في مرضاة الله وتحمل الأذى في سبل التقوى والفلاح، ليكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الذين يمحصهم الله يدخلون الجنة.
الصغرى : الذين آمنوا يمحصهم الله.
النتيجة : الذين آمنوا يدخلون الجنة.
وعن أبي معاذ البصري أن علياً عليه السلام قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ، إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون بنوق لها أجنحة عليها رحال الذهب ، شرك نعالهم نور تلألأ ، كل خطوة منها مد البصر ، فينتهون إلى شجرة ، ينبع من أصلها عينان ، فيشربون من احداهما ، فيغسل ما في بطونهم من دنس ، ويغتسلون من الأخرى ، فلا تشعث أبشارهم ، ولا أشعارهم بعدها أبداً ، وتجري عليهم نضرة النعيم، فيأتون باب الجنة ، فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب ، فيضربون بالحلقة على الصفحة ، فيسمع لها طنين فيبلغ كل حوراء : أن زوجها قد أقبل ، فتبعث قيمها فيفتح له ، فإذا رآه خر له ساجداً فيقول : ارفع رأسك إنما أنا قيمك وكلت بأمرك ، فيتبعه ويقفو أثره ، فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه ثم تقول : أنت حبي وإنا حبك ، وأنا الخالدة التي لا أموت ، وأنا الناعمة التي لا أبأس ، وأنا الراضية التي لا أسخط)( ).
الثانية عشرة : يأتي التمحيص للمسلمين على نحو الإنطباق والفضل الإلهي، إذ تدل الآية السابقة على تقريب المؤمنين من منازل التمحيص والتطهير، في الموضوع والحكم.
ومن الآيات أن النسيان وعدم العلم بالحكم أمران يرفعان الحرج عن المسلم لحديث الرفع الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه)( ).
الثاني : الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ…] ( )، وفيه مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة أن يمسسكم قرح.
الثاني : أم حسبتم أم تدخلوا الجنة فقد مس القوم قرح.
الثالث : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتلك الأيام نداولها بين الناس.
الرابع : وليعلم الله الذين آمنوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم.
الخامس : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ويتخذ منكم شهداء.
السادس : يعلم الله الذين جاهدوا منكم والله لايحب الظالمين.
السابع : يعلم الله الصابرين والله لايحب الظالمين.
الثانية : إتحاد لغة الخطاب في الآيتين، إذ يتوجه إلى المسلمين، وهل يشمل الخطاب في الآيتين المسلمات ،فيه وجوه:
الأول : إختصاص شمول المسلمات بآية البحث دون آية السياق التي تذكر الجراحات والكلوم التي تصيب المؤمنين في ميادين القتال.
الثاني : شمول النساء المؤمنات بالخطاب في كل من آية البحث والسياق.
الثالث : شمول النساء بمضامين آية السياق خاصة ما يتعلق بموضوع آية البحث بالجهاد والصبر وما يترشح عن إجتماعهما من إرادة القتال والمرابطة في الثغور ،قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( )، والصحيح هو الثاني من جهات:
الأولى : أصالة الإطلاق وإرادة عموم المسلمين والمسلمات في الخطاب القرآني إلا ما دل الدليل على خلافه، وهل قوله تعالى[إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ…]( )، من هذا الإستثناء والدليل الذي يفيد الخلاف بلحاظ وقوع الطلاق على النساء، الجواب لا، ولزوم تقيد المرأة بأحكام العدة والطلاق، وتقدير الآية: يا أيها المسلمات إذا طلقتن).
ومن أسرار مجئ الآية أعلاه بصيغة التذكير، موضوعية الرجل في تنظيم شؤون الأسرة وملكه بضع المرأة بالمهر ولقوله تعالى[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ]( )، ولأن لفظ النساء أعم فيشمل نكاح المسلم الكتابية ثم طلاقها منه: وفي الزواج من الكتابية وهي النصرانية واليهودية وجوه:
1- الحرمة دواماً وملك يمين.
2- الجواز مطلقاً.
3- المنع مطلقاً.
والمختار هو جواز الزواج من الكتابية على كراهة، وتزول الكراهة مع وجود الراجح العقلي أو الشرعي، وقد بيناه تفصيلاً في رسالتنا العملية(الحجة)( ).
إن إتحاد لغة الخطاب في الآيتين مدرسة في الصبر والجهاد، وبعث للمسلمين لبذل الوسع للفوز باللبث الدائم في جنة النعيم، وفيه إكرام لهم من وجوه:
الأول : تعدد لغة التشريف والثناء على المسلمين في كل من الآيتين فقد تضمنت آية السياق الثناء والشهادة للمسلمين بحسن السمت من جهات:
الأولى : إصابة المسلمين بالكلوم في سبيل الله.
الثانية : دفاع المسلمين عن الإسلام وثباتهم في ميادين القتال، وإصابة الكفار بالجراحات.
الثالثة : شهادة عدد من المسلمين في سبيل الله ،وبقصد إقامة شعائر الله ومحاربة الشرك ،وعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض أجابها الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليرى الملائكة كيف أن المؤمنين يقاتلون لمحاربة الفساد وإستئصاله من الأرض، ويقتل عدد منهم فيتحصل سفك الدماء الذي أخبرت عنه الملائكة، ولكن عاقبة الشهداء هي الخلود في النعيم، يذوق الشهيد حر السيف ساعة من نهار لينعم بالرخاء في اللامتناهي من أفراد الزمان .
الرابعة : دعوة المسلمين للصبر وتحمل الأذى من الكفار والوعد الكريم بالإنتقام منهم بقوله تعالى[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية: ولما يعلم الله الشهداء منكم، الجواب من وجوه:
الأول : إرادة رحمة عموم المسلمين والتخفيف عنهم بالتكليف.
وتتجلى معالم التخفيف في التكاليف من جهات:
الأولى : التكاليف مصداق حاضر لتمحيص الذين آمنوا، فما أن ينطق المسلم بالشهادتين حتى تتوجه له التكاليف لتجعله يرتقي في سلم التمحيص.
الثانية : التكاليف واقية من المحق والضعف والذل، فلا غرابة أن تحصر آية السياق المحق بالذين كفروا، لأن التكاليف واقية منه.
الثالثة : كل تكليف طريق إلى الجنة، ومصداق من مصاديق الجهاد والصبر، فمن إعجاز القرآن أن تأتي الأوامر والشروط المتعددة ليكون فرداً وفعلاً متحداً مصداقاً لها، وإستيفاء لموضوعاتها.
الثاني : قصد تعدد وجوه الجهاد، وعدم إنحصاره بخصوص ميادين القتال، فيشمل مجاهدة النفس الشهوية ونزع الشيطان، وإغراءات الدنيا، ومكر وكيد الكافرين.
الثالث : بين الجهاد والشهادة عموم وخصوص مطلق، فالجهاد هو الأعم، وقد يقاتل المسلم، ويُرزق النصر والغلبة من غير أن يقع قتيلاً في المعركة فيحرز دخول الجنة بهذا القتال وصدق الإيمان وقصد القربة في بذل النفس، قال تعالى[يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ]( ).
الرابع : مع عزم المؤمنين على قتال المشركين، وخروجهم لميادين القتال يصيب المشركين الرعب ويلجأون إلى الصلح، ويكفون عن التعدي على المسلمين وثغورهم، فيأتي ثواب الجهاد والشهادة إلى المسلمين جميعاً، وإن لم يزاولوا القتال.
الخامس : لا ملازمة بين آنات الزمان وجهاد المسلمين فتأتي سنوات وأحقاب على المسلمين يتنعمون فيها بحال من السراء والأمن والعيش بسلامة مع الأمم وأهل الملل أخرى وليس من إنقطاع لأحكام الشريعة، أو غلق لأبواب الجهاد، إذ جعل الله عز وجل صيغه وضروبه متعددة منها ما يتعلق بالذات والنفس، ومنها ما يخص طلب المعاش، وحسن العشرة ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من أبهى المصاديق الملحقة بالجهاد والذين دخلوا الإسلام وأصلحوا أنفسهم بواسطته أكثر بكثير من الذين دخلوا بالسيف مع شمول الجهاد للدفاع والذب عن النفوس والأعراض، والدعوة إلى الله بالحكمة والبرهان، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
ويرى الملأ والناس جميعاً إنقطاع المسلمين إلى عبادة الله، فيدخل شطر منهم الإسلام ويكف شطر آخر عن التعدي عليهم فلا يحدث قتال، ولكن التبليغ والجهاد مستمران بالدعوة الظاهرة والصامتة ،قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
السادس : بينما جاءت كل من آية السياق والبحث بصيغة الخطاب فان الآية السابقة جاءت بينها بصيغة الجملة الخبرية وبيان قانون من جهتين:
الأولى : تمحيص وتطهير المسلمين في اليوم والليلة، وفي البيت والسوق والمسجد، وفي السفر والحضر، وحال الرخاء والشدة.
الثانية : محق الكافرين، ورمي الله عز وجل لهم بالوهن والنقص والضعف، فلماذا لم تقل الآية السابقة: وليمحصكم الله ويمحق الكافرين، الجواب من وجوه:
الأول : لغة الخطاب في آيات القرآن من كنوز الحكمة في ثنايا القرآن، وتلح على العلماء لإستظهار علومها، وهو من عمومات قوله تعالى[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
الثاني : أختتمت آية السياق بصيغة الجملة الخبرية[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( ).
فجاءت الآية السابقة على ذات النسق والصيغة.
الثالث : ذكرت الآية السابقة قانوناً كلياً يتيح للكفار التوبة والإنابة، ولو قالت، ليمحصكم الله ويمحق الكافرين) لفسره بعضهم بأن التمحيص لا يشمل الذين يدخلون الإسلام فيما بعد وهم كالذين قال فيهم الله[وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ]( )، فحينما ينتقل العبد من منازل الضلالة إلى الهدى يفوز بالتمحيص بل ذات الإنتقال من أبهى وأحسن مصاديق التمحيص ودخول له من أوسع أبوابه ومنهم من دخل الإسلام فخرج إلى المعركة واستشهد ليفوز بالوعد الكريم والثناء المتعدد الوارد في آية السياق والبحث.
الرابع : تبين الآية قانوناً كلياً يتغشى الحياة الدنيا من آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة خاصة وأنها معلول لعلة وردت في الآية السابقة لها ومنها قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
السابعة : لقد جعل الله عز وجل الحياة دار التمحيص والذي لا يختص بالمسلمين بل يشمل المؤمنين في كل الأزمنة مع ترغيب الناس بالإيمان وبيان حقيقة وهي أن التمحيص بانتظارهم، وكذا السلامة من المحق بنبذ الكفر والشرك والضلالة، فالآية حرب على الكفر مثلما هي وعيد للكافرين.
الثامنة : أخبرت آية السياق عن إصابة المسلمين بالقروح والكلوم وسقوط بعضهم شهداء وإن تضمن الإخبار صيغة التعليق، وإرادة الزمان المستقبل الذي من خواصه دعوة المسلمين للدعاء بالأمن والسلامة من القروح والجراحات ولو على نحو الموجبة الجزئية.
وقد يقول بعضهم لم هذه الإصابات والتضحيات فيأتي الجواب في آية البحث [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ]( )، لتأكيد أن هذه الجراحات طريق لدخول الجنة.
إن البشارة بالجنة وتقييد الدخول بها بالجهاد والصبر تخفيف عن المؤمنين فيما يصيبهم من الجراحات ومواساة لهم وإخبار عن حال الشهداء الذين سقطوا في سبيل الله، وهو من مصاديق قوله تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ]( )، ليكون من مصاديق (انا لله) في الآية أعلاه الجهاد والصبر في جنب الله وتلقي القروح والجراحات في الدفاع عن الإسلام وأعلاء كلمة الله، ويكون من مصاديق قوله تعالى[وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] دخول الجنة والإقامة الدائمة فيها ،قال تعالى في الثناء على المتقين الذين يعملون الصالحات[جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ]( ).
ومن الإعجاز أن التخفيف ورد في الآية السابقة بالإخبار الذي يفيد كون كل جراحة تصيب أحد المؤمنين في سبيل الله هي تمحيص لهم جميعاً، ومحق للكافرين جميعاً، وتلك آية من فضل الله عز وجل بأن ينزل الضرر والكلم بأحدهم فيتألمون له فيأتيهم مثل ثوابه، ويكتبه الله عز وجل ثواباً لهم.
وبينما ذكرت آية السياق إصابة المسلمين والمشركين بالقروح والجراحات في المعارك، وذكرت الآية السابقة التباين الحكمي بينهما مع إتحاد موضوع القروح، إذ أن جراحات المسلمين تمحيص وتطهير لهم أما جراحات الكفار فانها محق وخزي لهم.
ثم جاءت آية السياق بالجزاء والثواب الحسن للمسلمين على إصابتهم بالقروح بأنها صراط مستقيم وعبور لجسر الصراط المؤدي إلى الجنة.
الثامنة : ذكرت آية السياق أن الله عز وجل هو الذي يعلم الذين آمنوا وهو الذي يتخذ الشهداء من بين المسلمين ولا يحب الظالمين، فلا يحبهم الملائكة والخلائق , قال تعالى في ذم الكافرين[أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ).
وذكرت الآية السابقة أن الله عز وجل هو الذي يمحص ويطهر الذين آمنوا، وهو الذي يمحق ويوهن الكافرين، وجاءت هذه الآية بأمور:
الأول : بشارة المسلمين بدخول الجنة.
الثاني : علم الله عز وجل بالمجاهدين من المسلمين.
الثالث : علم الله عز وجل بالصابرين من المسلمين.
التاسعة : إذا كانت إصابة المؤمنين بالقروح والجراحات طريقاً لدخولهم الجنة، فهل إصابة الكفار بالقروح تكون موضوعاً آخر لدخول المؤمنين الجنة أم لا، الجواب هو الأول، بلحاظ أمور:
الأول : قاعدة التسبيب وأن المؤمنين هم الذين أصابوا الكفار بالقروح، وأزاحوهم عن منازل القوة والمنعة، وكشفوا عن النقص والضعف المترشح عن الكفر .
الثاني : نزول الكلوم بالمشركين وقتلهم في ميدان المعركة شاهد على جهاد المسلمين وقتالهم في سبيل الله، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ]( ).
الثالث : جاءت إصابة الكفار بالقروح والجراحات بعد صبر المؤمنين في ميدان المعركة، وقبل المعركة وبعدها، وعن الإمام علي عليه السلام: الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد ، ولا إيمان لمن لا صبر له( ).
فلا يتقوم الإيمان إلا بالصبر، وليس من حصر لوجوه الصبر التي تحلى بها المسلمون الأوائل، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ].
العاشرة : أخبرت آية السياق عن قانون كلي ،ويتجلى موضوعه بقوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
ترى ما هي صلة هذا القانون بآية البحث، فيه وجوه:
الأول : تصريف الأيام بين الناس مقدمة وطريق لدخول الجنة.
الثاني : ترشح قانون عن الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث يتضمن القطع بوجود الجنة والدار الآخرة.
الثالث : تعيين الذين يدخلون الجنة لمنع الجهالة والغرر فلا يأتي أحد يوم القيامة ويقول لا أعرف ما يلزم لدخول الجنة لأن الله عز وجل تفضل ببيان شرائط دخولها في القرآن الكتاب الباقي إلى يوم القيامة، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الرابع : تصريف الأيام وتبدل الأحوال مناسبة لتمحيص المؤمنين، وكشف المنافقين وجذبهم والكافرين إلى التوبة والإنابة، فقد ينشغل المؤمن بأموره الخاصة والمكاسب وهموم المعيشة اليومية، ولكن عندما يداهم الإسلام خطر يتصدى له ويقف شامخاً صابراً في دفع البلاء ورد الإعتداء بقيد قوله تعالى[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] ( ).
الحادية عشرة : علقت آية البحث دخول المؤمنين الجنة على الجهاد في سبيل الله والصبر، ليكون في حقيقته بلحاظ آية السياق وعداً كريماً من عند الله عز وجل للمؤمنين إذا أصابهم القرح والجراحات، وهو من الإعجاز في صيغة مس القرح لهم ليكون تقدير الجمع بين الآيتين(ان يمسسكم قرح تدخلوا الجنة) وفيه وجوه:
الأول : ترغيب المسلمين بالجهاد والدفاع عن الإسلام، والتصدي لقريش في هجومها على المدينة لمحاولة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان تصدي الصحابة هذا حاجة لإستمرار نزول القرآن وإستدامة العمل بأحكام الحلال والحرام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل، ويكون واقية للعمل بمضامين قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( )، فتفضل الله وجعل الجنة هي الثواب للذين دفعوا كفار قريش عن المدينة وذبوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذ بات الإمام علي عليه السلام في فراش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة عندما عزم الكفار على قتله في الفراش، فقد ذبّ الصحابة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد بشواهد عديدة وشاركت فيها حتى المؤمنات وسط المعركة.
فجاءت البشارة للمسلمين بالثواب العظيم على الأذى الذي يلحقهم من مقاتلة الكفار، ومنع إستباحتهم للمدينة التي هي بيضة الإيمان والمصر الوحيد للإسلام آنذاك، وتكون القروح التي تصيب المسلمين بلحاظ آية البحث وما فيها من البشارة بالجنة على وجوه:
الأول : إنه من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، لأن البشارة بدخول الجنة تجعل المسلمين يبذلون الوسع ويتعاضدون في الدفاع والثبات في ميدان المعركة.
الثاني : إنه مقدمة للتخفيف عن المؤمنين، وصيرورة الضرر والقروح والجراحات أذى عرضي، بلحاظ أن النسبة بين الضرر والأذى هي العموم والخصوص المطلق، فكل ضرر هو أذى وليس العكس.
الثالث : القروح والجراحات ضرر حال في المعركة، وكذا سقوط القتلى، ولكن موضوعية البشارة بالجنة تتجلى باستحالة الضرر فيما بعد إلى أذى من جهات:
الأولى : تحقق إنتصار المسلمين.
الثانية : ظهور الوهن والضعف على الكافرين، وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة[وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( ).
الثالثة : ورود الغنائم إلى المسلمين، والإستعانة بها لزيادة قوة المسلمين، وتبعث هذه الزيادة السكينة في قلوب المسلمين، لأنها واقية وحرز من تكرار حدوث الضرر والقرح للمسلمين.
الرابعة : دخول فريق من الناس في الإسلام، فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تكرار هجوم كفار قريش بجيوش عظيمة على المدينة ،وإصابة المسلمين بالقروح وسقوط شهداء منهم لم يمنع الناس عن دخول الإسلام، وهو من الشواهد على غزو معجزاته النفوس، وملائمة دعوته للفطرة الإنسانية، وصيرورة آيات القرآن وتوالي نزولها علة حادثة لإستبانة ضلالة الكفار، والوهم الذي هم فيه ولزوم تخلصهم منه.
ولا تعارض بين هذه الوجوه الثلاث وجهات الأخير منها، فأبى الله عز وجل أن تكون قروح وجراحات المؤمنين بعرض واحد من جهة التأثير والأثر الباقي، كما في تساوي عدد القتلى إذ سقط سبعون قتيلاً من الكفار في معركة بدر فكانت ثلمة ظاهرة للقبائل في هيبة وشأن قريش، وسقط سبعون شهيداً في معركة أحد فصاروا أنواراً تضئ دروب الجهاد للمسلمين وشاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت هذه الآية لتبشرهم بدخول الجنة بالجهاد والمشاركة في الدفاع عن الإسلام ليكون من باب الأولوية القطعية فوز الشهداء بالمنازل العالية في الجنة لأن الشهادة ذروة الجهاد وغاية التضحية والبذل.
ذكرت آية السياق الكافرين بالذم والتبكيت من جهات:
الأولى : إصابة الكفار بالجراحات والقروح كما في قوله تعالى[فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]( ).
الثانية : إقامة الحجة على الكفار بإنصراف الأيام إليهم على نحو الجزئية بدليل قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] وقد يقال لماذا تكون دولة للكفار والأصل أن يكونوا أذلاء ضعفاء الجواب إنه جزء من قانون الإبتلاء في الحياة الدنيا .
وجاءت الآية التالية لبيان العلة والنتيجة والأثر، بقوله تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( ).
الثالثة : نسبة تداول الأيام إلى الله عز وجل إنذار للكافرين، وإخبار بأن الله تعالى يصرفها عنهم مع إصابتهم بالضعف والنقص ،وإن كانت الدولة لهم فهي حجة عليهم.
وهل يختص محق الكفار بانصراف الأيام عنهم، الجواب لا، بل تكون دولتهم وإقبال الأيام عليهم سبباً لرميهم بالنقص.
الرابعة : تحقيق المسلمين النصر وظهور دولة الإسلام وإقبال الأيام على المسلمين بالأمرة والعز والمال والشأن والمندوحة في أداء الفرائض سبب لمحق الكافرين.
الخامسة : يدل علم الله عز وجل بالذين آمنوا بالدلالة التضمنية على حرمان الكافرين من المنافع العظيمة للذين كتبهم الله مع الذين آمنوا، ومحق لهم، ولأن الله عز وجل [أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا]( )، فتدل الآية على علمه تعالى بالكافرين، مع التباين في موضوع العلم من جهتين:
الأولى : علم الله بالذين آمنوا وتفانيهم في مرضاة الله، وكتابة الملائكة حسناتهم في الليل والنهار سبب لتمحيصهم.
الثانية : علم الله بالذين كفروا وسوء إختيارهم وإصرارهم على الباطل سبب لمحقهم.
الثانية عشرة : هناك مسألتان تتعلقان بالنسبة والقياس:
الأولى : النسبة بين الذين جاهدوا المذكورين في هذه الآية وبين الذين يتخذهم الله شهداء هي العموم والخصوص المطلق، فالمجاهدون الذين يدخلون الجنة هم الأعم من وجهين:
الأول : إرادة المجاهدين في أفراد الأزمنة التي أطلقت على الإنسان في عمارته الأرض، ليشمل المجاهدين من أهل الملل الأخرى، وهل يشمل الأنبياء الجواب نعم فهم أئمة الجهاد وقادة الأمم في التضحية والفداء في سبيل الله، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ]( ).
الثاني : النسبة بين المجاهدين والشهداء هي العموم والخصوص المطلق، فليس كل مجاهد يستشهد في ميدان المعركة ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ] ( )أي النصر والغنيمة أو الشهادة في سبيل الله.
الثانية : ورد الخطاب في آية البحث لعموم المسلمين في اجيالهم المتعاقبة ، والمسلمون طائفة منهم .
وفي المرسل عن أبي فروة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الشهداء ثلاثة ، فأدنى الشهداء عند الله منزلة رجل خرج منبوذاً بنفسه وماله لا يريد أن يقتل ولا يقتل أتاه سهم غرب فأصابه فأول قطرة تقطر من دمه يغفر له ما تقدم من ذنبه ، ثم يهبط الله جسداً من السماء يجعل فيه روحه ثم يصعد به إلى الله ، فما يمر بسماء من السموات إلا شيَّعته الملائكة حتى ينتهي إلى الله ، فإذا انتهى به وقع ساجدا ، ثم يؤمر به فيكسى سبعين حلة من الاستبرق ، ثم يقال : اذهبوا به إلى إخوانه من الشهداء فاجعلوه معهم ، فيؤتى به إليهم وهم في قبة خضراء عند باب الجنة يخرج عليهم غداؤهم من الجنة)( ).
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن كعب قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ، ونزلت الملائكة صفوفاً فيقول الله لجبريل : ائت بجهنم ، فيأتي بها تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ، ثم تزفر زفرة ثانية ، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثى لركبتيه ، ثم تزفر الثالثة ، فتبلغ القلوب الحناجر ، وتذهل العقول ، فيفزع كل أمرىء إلى عمله حتى أن إبراهيم عليه السلام يقول : بخلتي لا أسألك إلا نفسي . ويقول موسى : بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي . ويقول عيسى : بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي ، لا أسألك مريم التي ولدتني . ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول : أمتي . . . أمتي . . . لا أسألك اليوم نفسي . فيجيبه الجليل جل جلاله ألا إن أوليائي من أمتك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . فوعزتي لا قرن عينك في أمتك ، ثم تقف الملائكة بين يدي الله تعالى ينتظرون ما يؤمرون)( ).
وقيدت آية السياق الشهداء بأنهم من المسلمين، وقد يرد إشكال وهو حتى في حالة التبعيض فان المسلمين هم الأكثر بدليل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة( ).
وهل آدم عليه السلام من المجاهدين أم لم يكن في زمانه كفار يضمرون له العداوة، ويقومون بمحاربته، الجواب هو الأول، وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وقد جاهد آدم عليه السلام في إصلاح أبنائه لوراثة سنن الإيمان والنبوة، وفي دفع إغواء إبليس وكان آدم حياً عندما قتل أحد ولديه وهو قابيل أخاه هابيل، هذه المسألة أجنبية عن موضوع الآية لتقييد إرادة المجاهدين في آية البحث بخصوص المؤمنين بدليل قوله تعالى[الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ].
وتحتمل شهادة المسلمين من جهة متعلقها , وموضوع آية البحث وجوهاً:
الأول : الشهادة للمجاهدين من المسلمين.
الثاني : الشهادة للصابرين من المسلمين.
الثالث : الشهادة للمجاهدين من الأمم السابقة.
الرابع : الشهادة للمجاهدين والصابرين من الأمم والملل الأخرى.
الخامس : لا ملازمة بين موضوع الشهادة , وما مذكور في آية البحث بخصوص المجاهدين والصابرين .
والصحيح هو الأول والثاني بلحاظ أمور :
الأول : لغة الخطاب في آية الحث وتوجهها للمسلمين على نحو التعيين [أَمْ حَسِبْتُمْ].
الثاني : نظم الآيات وإرادة المسلمين فيها إذ وردت هذه الآية معطوفة على الآيات التي تخاطب المسلمين .
الثالث : وردت أكثر مضامين هذه الآيات بصيغة المضارع ، وإذا كان قوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ] يتعلق بالعالم الآخر ، فان قوله تعالى [وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا] يدل على إرادة الفعل في المستقبل .
الرابع : صيغة المضارع في الآية نوع إكرام للمسلمين لما فيه من بعثهم على العمل والسعي في مرضاة الله .
وما ورد في هذه الآية بخصوص الجهاد والصبر، لأن الآية ذكرت كلاً من الفريقين بلحاظ كونه معلوماً لله عز وجل وباستثناء الوجه الأخير فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة، وان شهادة المؤمنين مرآة لعلم الله، وحجة على الكفار ودليلاً على عظيم منزلتهم، ولتأتي الحجة والرفعة للمؤمنين من وجوه:
الأول : علم الله عز وجل بجهادهم وإخلاصهم العبودية لله عز وجل.
الثاني : شهادة الخاصة من المؤمنين لعموم المسلمين بأداء الفرائض والعبادات، وتلقي الأذى من الكفار.
أما الذي يكون الكفار سبباً بحجبه عن الإيمان ولو بالقهر فهل يكون المؤمنون شهداء له أم عليه، الجواب هو الثاني ، لإمكان الإيمان بالسر والخفاء عن الكفار، وهو من مصاديق خاتمة آية السياق [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، بأن جعلهم الله عز وجل عاجزين عن منع أي إنسان حراً أو عبداً، ولداً أو زوجة عن الإيمان.
الثالث : شهادة الشهداء للمسلمين، وشهادة الشهداء لأنفسهم، وهو خلاف أحكام الشهادة في الدنيا، إذ لا يصح أن يشهد الإنسان لنفسه كما ترد شهادة ذي التهمة والظنة والذي يجلب النفع لنفسه من الشهادة، أما نواميس الآخرة فيجوز فيها شهادة الإنسان لنفسه بقيد الإيمان، أي أن نعمة الشهادة للذات تحجب عن الكافر ،وهو من مصاديق الآية السابقة[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ].
وتقدير الآية بلحاظ آية البحث على وجهين:
الأول : ويتخذ منكم شهداء على جهادهم.
الثاني : ويتخذ منكم شهداء على صبرهم.
لتكون النعمة في المقام على وجوه:
الأول : شهادة المؤمن لنفسه.
الثاني : تفضل الله عز وجل باجازة شهادة المؤمن لنفسه.
الثالث : موافقة شهادة المؤمن لعلم الله عز وجل بقوله تعالى[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
الرابع : شهادة المؤمن على غيره وإمضاؤها من باب الأولوية القطعية، فالذي تقبل شهادته لنفسه تقبل شهادته على غيره.
الخامس : ليس عند المؤمن في سيرته إلا الجهاد والصبر كما ذكرت هذه الآية، فلذا تكون شهادته حقاً وصدقاً، فان قلت وإن إرتكب المؤمن السيئات، الجواب يغفر الله تلك السيئات بفضله ورحمته، ويصرف عنه العذاب.
[وعن ابن سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ النَّارَ عَنْ وَجْهِهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا] ( ).
السادس : شهادة المؤمنين على الناس دعوة لتوبتهم، وسبيل إلى الصلاح.
الثالثةعشرة : أختتمت آية السياق بقوله تعالى[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، وفيه بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : بعث اليأس في نفوس الظالمين من رؤية رياض الجنان، ويدل دخول المؤمنين الجنة بقيد الإيمان والجهاد والصبر بقصد القربة في مفهومه على حجب دخولها على الظالمين.
الثاني : يكون الظالمون سبباً لدخول المؤمنين بايذائهم لهم ومحاربتهم لهم.
الثالث : الملازمة بين دخول الجنة وحب الله للعبد الذي يدخلها، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : لا يدخل الجنة الذين لا يحبهم الله.
الصغرى : الظالمون لا يحبهم الله.
النتيجة : الظالمون لا يدخلون الجنة.
الرابع : قد يدّعي الكفار الجهاد والدفاع عن عقائد الشرك التي كان الآباء عليها كما في قوله تعالى[وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا] ( )، فجاءت آية البحث للإخبار بأن الكفار ظالمون وأن اسم المجاهدين إنما هو خاص بشطر من المسلمين.
الرابعة عشرة : ذكرت آية البحث الجهاد كأحد شرطين لدخول المؤمنين الجنة ويرتقي المسلمون إلى هذا الشرط بلحاظ آية البحث من وجوه:
الأول : خروج المسلمين إلى ميادين القتال دفاعاً عن الإسلام، ويدل عليه الكتاب والسنة والسيرة والمغازي والتأريخ، ومن الكتاب قوله تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] والذي يدل بالدلالة التضمنية على أن المسلمين زاولوا القتال، ولاقوا حر السيف، ومن السنة أخبار وأحاديث مستفيضة والمغازي علم مستقل بذاته ، أما التأريخ فان الأخبار المتواترة تفيد وقوع معركة بدر وأحد والخندق وغيرها من المعارك بين المسلمين والكفار، وتم توثيقها بالأشعار التي ألقيت يوم المعركة وبعدها وهي تبين تفاصيل حوادثها، وأظهرت مواطن الفخر أو الهجاء فيها، وليس من حصر لأحاديث أهل البيت والصحابة وغيرهم عن تلك الوقائع والآيات التي تجلت فيها.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزور قبور شهداء أحد ويصلي عليهم عندما يذكرهم.
ويحتمل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص قتلى أحد: يا ليتني غودرت مع أصحاب نحص الجبل( ))( )، وجوهاً:
الأول : إنه من مصاديق آية السياق إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] ( ).
الثاني : إنه من أثر ونتيجة إصابة المؤمنين بالقروح والجراحات.
الثالث : لا صلة لموضوع رجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم المغادرة إلى الرفيق الأعلى باصابة المؤمنين بالقرح وان كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه قد أصيب بالجراحات يوم أحد من جهات:
الأولى : كسر رباعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أسنانه الأمامية.
الثانية : إصابة وجنة ووجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : جرح الكفار لشفته السفلى.
الرابعة : سيل الدم من وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمسح الدم وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فانهم ظالمون) قال ابن هشام وذكر ربيح بن عبدالرحمن بن ابى سعيد الخدري عن أبيه عن ابي سعيد الخدرى ان عتبة بن ابى وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى، وان عبدالله بن شهاب الزهري شجه في وجهه ،وان ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من المغفر في وجنته ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التى عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون فأخذ على بن أبى طالب بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه طلحة بن عبدالله حتى استوى قائما ومص ملك بن سنان أبو أبي سعيد الخدرى الدم من وجهه ثم ازدرده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مس دمى دمه لم تصبه النار)( ).
لتكون وظيفة النبوة بخصوص القروح والجراحات التي تصيب المسلمين على وجوه:
الأول : تلقي الجراحات مثلما تلقاها عدد من المؤمنين في مواطن القتال، فلا ملازمة بين النبوة والعصمة من الأذى، إنما العصمة بخصوص الوقاية من فعل السيئات.
فمن مصاديق تمحيص المؤمنين في الإرادة الوضعية وهي أن الله عز وجل يأمر السوء بأن لا يقربهم فهم في مأمن من الإفتتان، وكما في قوله تعالى[إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( )، فالرجس أمر وجودي مستجيب لأمر الله عز وجل بالإبتعاد عن أهل البيت عليهم السلام، ولكن القرح والجراحات تنزل بالأنبياء وقد تعرض عدد منهم إلى القتل، والذين قتلوا النبي هم قومه ،وهو يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد، والإيمان بالله إلهاً واحداً لا شريك له ومنهم لا يقتلون النبي ولكنهم يؤذونه ويتلقون معجزته والآية التي جاء بها بالتكذيب والإستهزاء ،وقام قوم صالح بعقر ونحر الناقة التي أنزلت من السماء، قال تعالى[فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا]( ).
الثاني : التذكير بالقروح والجراحات التي أصابت المسلمين.
الثالث : الثناء على الشهداء الذين قتلوا في ساحة المعركة.
الرابع : العناية بأبناء الشهداء والأرامل التي خلفوا من ورائهم كما في أم سلمةً، فقد تزوجها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعاهد أولادها ، وفازوا بالرواية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما توفى زوجها عبد الله بن عبد الأسد بن هلال المخزومي ، خطبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع كبر سنها ، وإعتذرت بكثرة صبيانها وأنها غيورة .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أما الصبيان فهم إلى الله وإلى رسوله ، وإما الغيرة فانا أسال الله غير ذلك وموضوع الغيرة هو كثرة أزواج النبي وفاز أبنائها بأن صاروا ربائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من كتب له الخلود بالرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعن زينب بنت أم سلمة أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غير اسم برّة إلى اسم جويرية ، وقالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يسمى بهذا الاسم ، وأخوها عمر بن أبي سلمة ولد بأرض الحبشه وحين إنتقل الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى كان عمره تسع سنين ، وهو الذي قال له النبي : يا بني كل بيمينك وكل مما يليك ] ( ).
السادس : العفو عن الذين يدخلون الإسلام ممن قتلوا المؤمنين وأصابوهم بالجراحات، كما في وحشي قاتل حمزة عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الإستثناء من العفو يوم فتح مكة
لقد كانت مقدمات فتح مكة والحوادث التي سبقته والمعارك التي كانت فاتحة الطريق إليه إزاحة لألغام الكفر والضلالة التي كانت تزرعها قريش حولها ، وفي مجتمعات شاعت فيها عبادة الأصنام ، وأهل صحارى إعتادوا على عدم الإنقياد لسلطان وحكم مركزي موحد يجمعهم ، وإستطاع كفار قريش وأعوانهم أن يحشدوا طوائف منهم لمحاربة النبوة والتنزيل في معركة بدر وأحد والخندق .
وكان أكثر الأنبياء حين يقع القتال يكونون قلة وقد يقتل النبي ، باستثناء عدد منهم كما في داود وسليمان عليهما السلام ،ومع زحف عشرة آلاف رجل من قريش وحلفائها لقتال المسلمين في معركة الأحزاب فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما فتح مكة عنوة لنشر الأمن والسلام .
وعن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم فتح مكة أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمان للناس جميعاً إلا أربعة رجال وامرأتين [ وقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة] ( ).
وهم :
الأول : عكرمة بن ابي جهل ، وأبو جهل هو عمر بن هشام بن المغيرة ، وكان يكنى في الجاهلية أبا الحكم ، وكناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل وقتل يوم بدر مشركاً .
وهرب عكرمة بعد الفتح من مكة [فركب البحر فأصابهم عاصف فقال أصحاب السفينة أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم ههنا شيئا فقال عكرمة والله لئن لم ينجني في البحر الا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره اللهم إن لك علي عهدا إن عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلا أجدنه الا عفوا كريما قال فجاء فأسلم] ( ).
ولما أسلم عكرمة ، شكى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناداة المسلمين له عكرمة بن أبي جهل فنهاهم وقال : [لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات] ( ) .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبيت وكان عليها ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل كلما مر بصنم منها يشير إليها بقضيب في يده ، ويقول : جاء الحق وزهق الباطل فيهوي الصنم إلى الأرض ،ثم جاء إلى مقام إبراهيم وكان ملاصقاً للبيت فصل خلفه ركعتين لقوله تعالى [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] ( ) ثم أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة وفتح الباب ودخلها فصلى ركعتين .
الثاني : عبد الله بن عبد العزيز خطل وقيل إسمه هلال وكان قد أسلم وبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصدقاً ، وبعث معه رجلاً من المسلمين ، فقتله ولحق بالمشركين ، وسبب قتله له الغرور والطغيان [قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ خَطَلٍ ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ غَالِبٍ : إنّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ أَنّهُ كَانَ مُسْلِمًا ، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مُصَدّقًا ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُ يَخْدُمُهُ وَكَانَ مُسْلِمًا ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا ، وَأَمَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ لَهُ تَيْسًا ، فَيَصْنَعَ لَهُ طَعَامًا ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا ، فَعَدَا عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ ثُمّ ارْتَدّ مُشْرِكًا] ( ).
ورؤي متعلقا باستار الكعبة يوم الفتح خائفاً لائذاً [فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيدٌ إليه فقتله] ( ).
الثالث : عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان كاتباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتب له الوحي [أن عبد الله ابن سعد بن أبي سرح أسلم ثم ارتد فلحق بالمشركين ووشى بعمار وجبر عبد بن الحضرمي أو بن عبد الدار فاخذوهما وعذبوهما حتى كفرا فنزلت ” إلا من الحره وقلبه مطمئن بالإيمان] ( )،[إني كنت أصرف محمداً حيث أريد كان يملي علي عزيز حكيم فأقول: أو عليم حكيم ؟! فيقول: كلٌّ صواب! فلما كام يوم الفتح أمر سول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتله وقتل عبد الله بن خطل ومقيس ابن صبابة ولو وجدوا تحت أستار الكعبة، ففر عبد الله بن سعد إلى عثمان – وكان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان – فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدما اطمأن أهل مكة فأستأمنه له، فصمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طويلاً ثم قال: نعم! فلما انصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: ما صمتُّ إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه! فقال رجل من الأنصار: فهلا أو أومأت إلي يا رسول الله ؟ فقال: إن النبي لا ينبغي أن تكون خائنة أعين] ( ).
الرابع : مقيس بن حبابة ، فقد جاء إلى المدينة وأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله لقتله أخاه خطاً مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث معه [رجلاً من بني فهر ليأخذ عقله من الأنصار، فلما جمع له العقل ورجع نام الفهري فوثب مقيس فأخذ الحجر فجلد به رأسه فقتله وأقبل يقول:
شفى النفس من قد بات بالقاع مسندا … تضرج ثوبيه دماء الأخادع
وكانت هموم النفس من قبل قتله … تلم وتنسيني وطاء المضاجع
قتلت به فهراً! وغرمت عقله … سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به نذري وأدركت ثورتي … وكنت إلى الأوثان أول راجع( ).
وقتله يوم الفتح نميلة بن عبد الله الليثي وهو ابن عمه .
الخامس : الحويرث بن نقيذ تصغير الحارث وقيل إسمه عكرمة، [وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيّ ، وَكَانَ مِمّنْ يُؤْذِيهِ بِمَكّةَ . قَالَ ابن هِشَامٍ : وَكَانَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ حَمَلَ فَاطِمَةَ وَأُمّ كُلْثُومٍ ، ابْنَتَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ يُرِيدُ بِهِمَا الْمَدِينَةَ ، فَنَخَسَ بِهِمَا الْحُوَيْرِثَ بْنَ نُقَيْذٍ فَرَمَى بِهِمَا إلَى الْأَرْضِ] ( ).
السادس : قريبة قينة لابن خطل ، كانت تغني بهجو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم من ابن خطل .
السابع : فرنتا وهي جارية لابن خطل أيضاً ، كانت تؤذي وتهجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وقد قتلت إحدى الجاريتين واستؤمنت الأخرى فامنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وكانت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأستؤمن لها، فأمنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم بقيت إلى أيام عمر بن الخطاب حيث أوطأها رجل بفرسه بالإبطح خطأ فقتلها.
وأستدل بقتل عبد الله بن عبد العزي بن خطل وهو متعلق باستار الكعبة على أن [أَنّ الْكَعْبَةَ لَا تُعِيذُ عَاصِيًا ، وَلَا تَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ حَدّ وَاجِبٍ وَأَنّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } إنّمَا مَعْنَاهُ الْخَبَرُ عَنْ تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فِي الْجَاهِلِيّةِ نِعْمَةً مِنْهُ عَلَى أَهْلِ مَكّةَ] ( ).
وليس هو بدليل من وجوه :
الأول : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة حرام محرم لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ، ثم هي حرام إلى يوم القيامة .
مما يدل على أن الحرمة أعم من أن تختص بالبيت الحرام فتشمل البلد والحرم ،وأن الإستثناء ورفع الحرمة لساعة واحدة .
الثاني : تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليوم فتح مكة ( يوم المرحمة ) وقوله [مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَلْقَى السّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ] ( ).
الثالث : قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإجارة حتى فيمن إستثناه وأباح دمه [وعن أُمّ هَانِئٍ أَجَارَتْ رَجُلًا ، فَأَرَادَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَتْلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمّ هَانِئٍ وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا : لَمّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكّةَ ، أَجَرْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي ، فَأَدْخَلْتهمَا بَيْتًا ، وَأَغْلَقْت عَلَيْهِمَا بَابًا ، فَجَاءَ ابن أُمّي عَلِيّ فَتَفَلّتَ عَلَيْهِمَا بِالسّيْفِ فَذَكَرْتُ حَدِيثَ الْأَمَانِ وَقَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمّ هَانِئٍ وَذَلِكَ ضُحًى بِجَوْفِ مَكّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ] ( ).
الرابع :لما قتل ابن خطل ، [قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لَا يُقْتَلُ قُرَشِيّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا] ( ) .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ارقبوني وقريشاً فإن ينصرني الله عليهم فالناس لهم تبع فلما فتحت مكة أسرع الناس في الإِسلام فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الناس تبع لقريش في الخير والشر كفارهم تبع لكفارهم ومؤمنوهم تبع لمؤمنيهم)( ).
ليكون من دلائل إرادة فتح مكة من قوله تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، سرعة دخول القبائل في الإسلام بعد فتح مكة من جهات:
الأولى : إدراك القبائل الملازمة بين الأمن والإيمان لقد سئمت العرب القتال والإقتتال ومن أسرار نفخ الله من روحه في آدم توارث الإنسان لدرك الحقائق والتمييز بين الحق والباطل، وقد يقاتل الإنسان بعصبية الجاهلية ولكنه سرعان ما يلتفت إلى عدم إستحقاق الموضوع للقتال وإن إستمر في وجوده وسط الميدان، وقد يقتل ظالماً لنفسه ومن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الأمن يأتي مع الإيمان فليس من نهب وغزو وتشريد .
ونفذت أحكام الإسلام إلى حفظ الأنثى حين ولادتها بقوله تعالى[وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ).
ليكون من مصاديق الآية أعلاه بعث الناس على لوم أنفسهم على حالات وأد بناتهم السابقة للإسلام، فإذا كان الأب يدفن إبنته حية من غيرته عليها خشية أن تسبى وتكون عاراً عليه، ولغضبه أنه لم يولد له ولد محلها فإن الإسلام جاء بأمور:
الأول : حرمة السبي والغزو بين المسلمين.
الثاني : الأجر والثواب في إعالة العيال ومنها البنات المؤمنات .
الثالث : النفع العظيم الذي يأتي للأب بإصلاح إبنته في دينها وصلاحها.
الرابع : تنمية الإسلام لملكة إحترام النفس الإنسانية ليكون من ضروب إحتجاج الملائكة في جعل خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، لجوء بعض العرب لدفن إبنته حية، وجاء الجواب منه تعالى على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليكون من علم الله في المقام إكرام الإسلام للمرأة، وتنزه المسلمين من وأد البنات.
الخامس : حاجة الإسلام للمجاهدين والمرابطين والصابرين، وكثرة النسل، وتلك آية في تهيئة مقدمات الجهاد الذي جاءت به آية البحث، فلما قيدت الآية دخول المسلمين الجنة بوجود طائفة منهم مجاهدة وأخرى صابرة، تفضل الله عز وجل وحرم الوأد، وإذا كان الرجال قليلين لقلة الزوجات بالوأد ونحوه فانهم يمسكون عن القتال وما فيه من التعرض للفناء.
السادس : بروز نساء عرفن بالتقوى والإجتهاد في العبادة بما يجعل أهلهن يفتخرون بهن.
السابع : إعطاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شأناً للمرأة في سؤالها، والإنصات لها.
الثامن : مجيء القرآن بأحكام الأسرة على نحو التفصيل بما يضمن حقوق الزوجة والبر بالأم والعناية بالبنت.
التاسع : بروز نساء مؤمنات في ميادين القتال، يساعدن المقاتلين ويداوين الجرحى، ويتدخلن بالقتال لنصرة النبي والصحابة.
الثانية : إنقياد رجال القبائل إلى أهل الحرم في الإعتقاد والقول.
الثالثة : بركات البيت الحرام في جعل الناس يوقنون بقبح الكفر والضلالة، ويميلون إلى الإسلام ويتدبرون بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )،كشاخص قدسي مبارك.
ليكون من مصاديق الآية أعلاه دعوة البيت الحرام الناس للإيمان نبذ الشرك .
الخامس: تلاوة الآيات التي تبين إصابة المسلمين بالقروح ،ومنها آية السياق، وهل آية البحث منها، الجواب نعم من جهات:
الأولى : لغة خطاب الآية وتوجهه إلى المسلمين بصفة الإيمان.
الثانية : نعت المسلمين بالمجاهدين، وجعل الجهاد طريقاً لدخول الجنة.
الثالثة : الثناء على المسلمين لصبرهم في ذات الله، وتحملهم المشاق طاعة له سبحانه.
الرابعة : ترغيب المسلمين بدخول الجنة، وبيان قربهم منها، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، جريانها بما يجعل المؤمنين يزدادون قرباً ودنواً من الجنة وهو من مصاديق قوله تعالى [يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا] ( )، إذ يتفضل الله عز وجل وييسر للمؤمنين الإهتداء لطريق الجنة وجعله مزداناً بالمصابيح التي تشع على النفوس، لذا يدعو المسلمون مجتمعين وفرادا في الصلاة الله عز وجل للفوز بالهداية، ليكون تقدير آية الصراط مع آية السياق [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) بتلك الأيام وتصريفها بين بين الناس، فتتبدل الأحوال وتصيب المؤمن السراء تارة وأخرى الضراء، ولكنهم مواظبون على السعي إلى الجنة بالجهاد والصبر.
ومن ذخائر الحكمة وعلوم الغيب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلتقاء أخبار أول البعث بالإنتصارات اللاحقة ،إذ كان محاصراً في مكة, وأهل بيته وأصحابه مستضعفون ويتلقون الأذى والتعذيب من كفار قريش ، ومع هذا تأتي البشارة بظهور دولته وتفيد الأخبار وعلى نحو القطع البياني أن هذا الظهور مقيد بصفة النبوة التي أنعم الله عز وجل بها عليه وعلى الأمة لتخلف الأسباب وقانون العلة والمعلول المادي عن تحقيق الإنتصارات التي حققها والمؤمنون .
[وأخرج ابو نعيم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال قال العباس خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب فيهم ابو سفيان بن حرب فورد كتاب من حنظله بن أبي سفيان فيه أن محمد اقام بالأبطح فقال انا رسول الله ادعوكم إلى الله ففشا ذلك في مجالس اليمن فجاءنا حبر من اليهود فقال بلغني ان فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال العباس فقلت نعم قال أنشدك هل كانت لابن اخيك صبوة وسفهة قلت لا واله عبد المطلب ولا كذب ولا خان وإن كان اسمه عند قريش الأمين قال
فهل كتب بيده قال العباس فظننت انه خير له ان يكتب بيده فأردت ان اقول نعم فخشيت من أبي سفيان ان يكذبني ويرد علي قلت لا يكتب فوثب الحبر وترك رداءه وقال ذبحت يهود وقتلت يهود قال العباس فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن اليهود تفزع من ابن اخيك قلت قد رأيت ما رأيت فهل لك يا ابا سفيان فيه ان تؤمن به فإن كان حقا كنت قد سبقت وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك قال لا أؤمن به حتى أرى الخيل قد طلعت في كداء قلت ما تقول قال كلمة جاءت على فمي إلا اني أعلم ان الله لا يترك خيلا تطلع على كداء قال العباس فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة ونظرنا إلى الخيل قد طلعت من كداء قلت يا ابا سفيان تذكر الكلمة قال أي والله إني لذاكرها] ( ).
صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )
فيه مسائل:
الأولى : إتحاد لغة الخطاب في الآيتين، إذ ورد الخطاب في كل منهما للمسلمين، وفيه وجوه:
الأول : إرادة عموم المسلمين والمسلمات في الخطاب.
الثاني : يتضمن الخطاب في كل من الآيتين معاني الإكرام والتشريف للمسلمين.
الثالث : يتعلق موضوع الخطاب بحال الدفاع عن الإسلام.
الثانية : تضمنت آية السياق نهيين أفتتحت بهما الآية الكريمة وليس في آية البحث أمر ولا نهي.
الثالثة : وردت في كل من الآيتين صيغة الشرط، إذ أفتتحت بها آية البحث بينهما أختتمت بها آية السياق.
الرابعة : لما أخبرت آية البحث عن شرطية الجهاد والصبر عند المسلمين لدخول الجنة واللبث الدائم فيها، جاءت آية السياق بالنهي عن أمرين:
الأول : الوهن والضعف والذل وإظهار الإنكسار أمام العدو، ترى ما هي صلة النهي عن الوهن بآية البحث، الجواب من وجوه:
الأول : التضاد والتنافي بين الجهاد والوهن، فالذين يكونون في حال وهن وضعف يعجزون عن الجهاد في سبيل الله.
الثاني : الذي يتلقى البشارة بالجنة، لا يغلب عليه الوهن والضعف، بل يكون في حال عز دائم.
الثالث : من مقدمات دخول الجنة الجد والسعي الدؤوب في الطاعات وفعل الخيرات.
الثاني : النهي عن الحزن وإستحواذ الكآبة على النفوس بعد الخسارة والمصيبة أو الحسرة والندامة عند الحرمان من الغنائم وفوت تأسير رجالات العدو.
الرابع : يدّب الحزن إلى النفس على نحو دفعي أو تدريجي بفقد شيء أو الحرمان من أمر قريب أو فوات نفع، وجاءت آية البحث لتدعو المسلمين للسعي إلى مقامات إنتفاء الحزن والبكاء والحسرة وفي وصف أهل الجنة والثناء عليهم قال تعالى[وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ]( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه عن الإمام الباقر عليه السلام قال: إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى، لو يسير الراكب الجواب في ظلها، لسار فيه مائة عام قبل أن يقطعه، وورقها برود خضر، وزهرها رياط صفر، وأقتادها سندس واستبرق، وثمرها حلل خضر، وصمغها زنجبيل وعسل، وبطحاؤها ياقوت أحمر وزمرد أخضر، وترابها مسك وعنبر، وكافور أصفر، وحشيشها زعفران منبع، والأجوج ناجحان في غير وقود، ينفجر من أصلها. أنهارها السلسبيل والمعين في الرحيق، وظلها مجلس من مجالس أهل الجنة يألفونه، ومتحدث يجمعهم. فبينما هم يوماً في ظلها يتحدثون، إذ جاءتهم ملائكة يقودون نجباً جبلت من الياقوت ثم نفخ فيها الروح، مزمومة بسلاسل من ذهب كأن وجوهها المصابيح نضارة، وبرها خز أحمر ومرعز أحمر يخترطان.
لم ينظر الناظرون إلى مثله حسناً وبهاء، ولا من غير مهانة، عليها رحال ألواحها من الدر والياقوت، مفضضة باللؤلؤ والمرجان فأناخوا إليهم تلك النجائب، ثم قالوا: ربكم يقرئكم السلام ويستزيركم لتنظروا إليه وينظر إليكم، وتحيونه ويحييكم، وتكلمونه ويكلمكم ويزيدكم من فضله وسعته إنه ذو رحمة واسعة وفضل عظيم، فتحوّل كل رجل منهم على راحلته حتى انطلقوا صفاً واحداً معتدلاً، لا يفوت منه شيء ولا يفوت اذن ناقة إذن ، ولا بركة ناقة بركة صاحبها، ولا يمرون بشجرة من أشجار الجنة إلا أتحفتهم بثمرها ورجلت لهم عن طريقها كراهية أن تثلم صفهم، أو تفرق بين رجل ورفيقه، فلما دفعوا إلى الجبار تعالى، سفر لهم عن وجهه الكريم وتجلى لهم في عظمته العظيم يحييهم بالسلام. فقالوا: ربنا أنت السلام، ومنك ، لك حق الجلال والإِكرام.
قال لهم ربهم: أنا السلام ومني السلام ولي حق الجلال والاكرام، فمرحباً بعبادي الذي حفظوا وصيتي ورعوا عهدي وخافوني، وكانوا مني على كل حال مشفقين. قالوا: أما وعزتك وعظمتك وجلالك وعلو مكانك، ما قدرناك حق قدرك، ولا أدينا إليك كل حقك، فأذن لها بالسجود لك.
قال لهم ربهم: إني قد وضعت عنكم مؤنة العبادة وأرحت لكم أبدانكم طالما نصبتم لي الأبدان وأعنتم لي الوجوه، فالآن أفضتم إلى روحي ورحمتي وكرامتي وطولي وجلالي وعلو مكاني وعظمة شأني. فما يزالون في الأماني والعطايا والمواهب حتى أن المقصر منهم في أمنيته ليتمنى مثل جميع الدنيا منذ يوم خلقها الله تعالى إلى يوم يفنيها. قال لهم ربهم: لقد قصرتم في أمانيكم ورضيتم بدون ما يحق لكم، فقد أوجبت لكم ما سألتم وتمنيتم، وألحقت بكم وزدتكم ما قصرت عنه أمانيكم… فانظروا إلى مواهب ربكم التي وهبكم…. فإذا بقباب في الرفيق الأعلى وغرف مبنية من الدر والمرجان، أبوابها من ذهب وسررها من ياقوت وفرشها من سندس واستبرق، ومنابرها من نور يفور من أبوابها، وأعراصها نور مثل شعاع الشمس عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهر نورها. فلولا أنه مسخر إذن لالتمع الأبصار، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض، فهو مفروش بالحرير الأبيض. وما كان منها من الياقوت الأحمر، فهو مفروش بالعبقري. وما كان منها من الياقوت الأخضر، فهو مفروش بالسندس الأخضر. وما كان منها من الياقوت الأصفر، فهو مفروش بالأرجوان الأصفر مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء. قواعدها وأركانها من الجوهر، وشرفها قباب من ، وبروجها غرف من المرجان. فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم، قربت لهم براذين من ياقوت أبيض منفوخ فيها الروح، بجنبها الولدان المخلدون، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت، سروجها سرر موضونة مفروشة بالسندس ، فانطلقت بهم تلك البراذين تزف بهم وتطأ رياض الجنة، فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعوداً على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنوهم كرامة ربهم. فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم ربهم مما سألوا وتمنوا، وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان{جنتان}{ذواتا أفنان} وجنتان {مدهامتان} و{فيهما عينان نضاختان} وفيهما من كل فاكهة زوجان و{حور مقصورات في الخيام}
فلما تبوأوا منازلهم واستقروا قرارهم، قال لهم ربهم: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ قالوا: نعم وربنا. قال: هل رضيتم بثواب ربكم؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا.
قال برضاي عنكم حللتم داري ونظرتم إلى وجهي وصافحتم ملائكتي، فهنيئاً لكم عطاء غير مجذوذ ليس فيه تنغيص ولا تصريد، فعند ذلك قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وأحلنا دار المقامة من فضله، لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب، إن ربنا لغفور شكور)( ).
الخامس : تقدير آية السياق بلحاظ آية البحث على جهات:
الأولى : ولا تهنوا في السعي لدخول الجنة.
الثانية : ولا تهنوا فإن الله عز وجل يعلم ما تفعلون.
الثالثة : ولا تهنوا في الجهاد في سبيل الله.
الرابعة : ولا تهنوا في الصبر، ومن معاني الوهن فيه الجزع وعدم المداومة على الطاعات.
الخامسة : تضمنت آية السياق النهي عن الحزن، وهو كيفية نفسانية تفيد إنقباض النفس وغياب السرور عن البشرية بسبب مصيبة وأذى سابق بخلاف الخوف الذي يختص بأذى متوقع في المستقبل، ترى هل من خوف يتعلق بآية البحث، الجواب من وجوه:
الأول : الخوف من التقيد في مقدمات دخول الجنة، وإتخاذ الدنيا مزرعة لها، قال تعالى[وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ]( ).
الثاني : الخوف من القعود والإنصات للمنافقين والظالمين.
الثالث : الخوف من إستيلاء الخوف على النفس من قوة وبطش العدو، قال تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ…]( ).
الرابع : الخوف من عدم التقيد بآداب الصبر، ولكن هذه الوجوه ليست الأصل في الخوف المنهي عنه في آية السياق، وقد يكون شطر منها محبوباً لما فيه من الدلالة على الإيمان والحرص على عدم التفريط في ضروب العبادة كما في الوجه الأول أعلاه، إنما المراد هو الخوف من الظالمين، ومن ملاقاتهم وإحتمال حدوث الخسارة.
ومن وجوه إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين وتفضيله على الأنبياء إنتفاء الخوف عنده من ملاقاة المشركين ويتجلى عدم الخوف هذا من جهات:
الأولى : مقدمات لقاء العدو، قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، فبعد أن صلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح خرج ليصلح الصحابة للقاء الكفار المشركين مما يدل على حسن توكله على الله، وثقته بالمدد من عنده سبحانه.
الثانية : حالما إستعد الصحابة للخروج لمعركة أحد منحهم الله وسام وصفة المؤمنين، وفيها شاهد على بلوغ تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة التضحية بالنفس، وهي أعلى مراتب التصديق، وقد أثنى الله عز وجل على الحواريين في القرآن، [قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ]( ) و[عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أخي عيسى : معاشر الحواريين احذروا الدنيا لا تسحركم ، لهي والله أشد سحراً من هاروت وماروت ، واعلموا أن الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة ، وإن لكل واحدة منهما بنين فكونوا من أبناء الآخرة دون بني الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغداً الحساب ولا عمل]( ).
وشارك في القتال يوم أحد دفاعاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام سبعمائة من المسلمين، فإن قلت: كان الذين خرجوا من المدينة المنورة للقاء المشركين ألفاً ثم إنخزل عبد الله بن أبي بن أبي سلول رأس النفاق بثلاثمائة.
ومن الخبث الذي يصاحب النفاق أن ابن سلول لم يجهر بصيغة الخذلان والتخاذل التي دفعته إلى الإنسحاب ، بل إدّعى الإحتجاج على كيفية الخروج ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمع كلامه في البقاء في المدينة لمواجهة العدو فيها ،[ وقال : أطاعهم وعصاني] ( ) [وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال : أُنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم. فقال عبد الله بن أُبي : لو نعلم قتالا لاتّبعناكم. وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا،
ومضوا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ،فذكرهم الله عظيم نعمته بعصمته فقال : {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} ناصرهما وحافظهما. وقرأ ابن مسعود : (والله وليهم) لأنّ الطائفتين جمع] ( ) .
فيحتمل لفظ المؤمنين الذين هيئ لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقاعد القتال كما في الآية أعلاه وجوهاً:
الأول : شمول المنافقين بهذا اللفظ بلحاظ ساعة خروجهم من المدينة والعزم على لقاء العدو قبل أن يستحوذ عليهم المكر والكيد وتزيين الرجوع عن المعركة.
الثاني : إرادة الفرد الغالب من الذين خرجوا للقتال وشمول الآخرين بالتبعية والإلحاق وليس بالذات.
الثالث : المقصود خصوص الذين حضروا معركة أحد من الصحابة، أما الذين إنسحبوا فهم خارجون بالتخصيص.
الرابع : شمول جميع الذين لبوا نداء النفير من المؤمنين، وكثروا السواد وحرضوا الآخرين، وأظهروا الإمتثال للأمر النبوي بالخروج للجهاد، فنالوا صفة الإيمان بالحضور ومسمى الخروج.
الخامس : لفظ[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ]( ) أعم في موضوعه من أن يكون عند المسجد النبوي والتهيء للخروج وهم في المدينة، بدليل قوله تعالى(مقاعد للقتال) وتعيين مواضع المقاتلين لا يكون إلا في ميدان المعركة ولم يثبت أن محل المعركة كان معروفاً على نحو الدقة [وقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل أُحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل حنين وهو جبل عن يساره] ( ).
ويمكن القول بعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم به بالوحي وإخبار الملك ولكن بيانه التفصيلي والواقعي لا يكون إلا في أرض المعركة وهو الذي تجلى بخصوص الرماة وعددهم خمسون حينما عيّن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليهم أميراً هو عبد الله بن جبير.
(وعن البراء بن عازب قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة: [إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم. قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن.
فقال أصحاب عبدالله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنظرون ؟ قال عبدالله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة] ( ).
وليس من ملازمة زمانية في ظاهر الآية الكريمة بين الخروج من البيت وبين تهيئة مقاعد المؤمنين في قتالهم العدو إذ وردت الآية بصيغة التعليل ومعنى الشرطية(إذ) فيكون المراد في الآية الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتركه بيته وأمهات المؤمنين ، وخروجه لقتال عدو موتور جاءت جيوشه للثأر والبطش ومحاولة إستئصال الإسلام.
وتدل وقائع المعركة على الإتفاق الضمني على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والثأر من الحمزة وعلي عليهما السلام لخوضهما أول مبارزة مع المشركين وقتلهما لعتبة بن ربيعة وإبنه الوليد وهما من سادات قريش فلم يكن تحريض وإغراء هند لوحشي بقتل أحدهما من غير إمضاء من رؤساء جيش قريش ويدل عليه الأشعار التي قيلت في المناسبة والأرجح هو الرابع، وأن صفة المؤمنين في الآية الكريمة خاصة بالذين إشتركوا فعلاً بالقتال، وإستجابوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج إلى المعركة والوقوف في منازل القتال.
واللام في للقتال لام الغاية، وتقدير الآية (وإذ غدوت من أهلك لتبوء للمؤمنين مقاعد للقتال) ليكون الذين إشتركوا في معركة أحد من الذين تشملهم آية البحث من جهتين:
الأولى : إنهم من المجاهدين.
الثانية : إنهم من الصابرين، وفيه مسائل:
الأولى : بين نيل المؤمنين وإستحقاقهم صفة الجهاد عموم وخصوص مطلق، فصفة الصبر أعم وهي سابقة للجهاد ومصاحبة لها ومتأخرة عنها.
الثانية : قد يقترن الصبر بالجهاد فلا يفارق أحدهما الآخر إلا بالشهادة في سبيل الله[وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ]( ).
الثالثة : يصاحب الجهاد الصبر , وتنتهي المعركة والمرابطة ليبقى الصبر وحده.
الرابعة : يكون المؤمن في حال صبر وتحمل، ولم يجاهد في ميدان المعركة من وجوه:
الأول : إنتفاء الموضوع، فليس من معركة يخوض غمارها، وفي التنزيل[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
ونزلت الآية أعلاه بخصوص معركة الخندق، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ[وكفى الله المؤمنين القتال]( ) بعلي بن أبي طالب)( )، بلحاظ قتل علي عليه السلام لعمرو بن ود العامري، وإنحسار تهديد وإرهاب قريش.
ومعنى الآية أعم من أوان وموضوع النزول فتتضمن التخفيف عن أجيال من المسلمين في أمصار متعددة من جهات:
الأولى : عدم حصول قتال مع المشركين فيعيش المسلم أيام حياته وليس من معركة تحصل وملاقاة للعدو تتم.
الثانية : كفاية مؤمنين آخرين في القتال، لذا قسم الواجب تقسيماً إستقرائياً في علم الأصول إلى قسمين:
الأول : الواجب العيني.
الثاني : الواجب الكفائي.
وقد ذكرت في بحث أصولي قسيماً ثالثاً لهما وهو الواجب المتجدد( ) وهو برزخ بين العيني والكفائي .
الثالثة : عدم توجه الخطاب بالجهاد لصاحب العذر الخاص، قال تعالى[لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ]( ).
الرابعة : القعود عن القتال، وإختيار طاعة الله ،وتحقق مصداق الصبر بأداء الفرائض، قال تعالى[لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ….]( ).
فقد شهد الله عز وجل في الآية أعلاه للقاعدين بأنهم من المؤمنين أو قل على نحو أدق وجود مؤمنين قاعدين أوان المعركة، وأن صفة الإيمان لا تغادرهم بهذا القعود، ويتجلى في موضوعه الإعجاز في آية البحث إذ ذكرت الصبر مع الجهاد للمندوحة وقبول أعمال المسلمين والمسلمات.
وتبين الآية أن الصبر طريق مستقل لدخول الجنة يتصف بالسعة والمندوحة من جهات:
الأولى : قدرة كل مسلم ومسلمة على التحلي بالصبر، وبلوغ المسلم مرتبة الصابر، ونيل المسلمة مرتبة الصابرة.
الثانية : تعدد مصاديق الجهاد في الحياة اليومية للمسلمين، وكما في أداء فريضة الحج في مكة المكرمة فإنه يقترن بأداء الصلاة، بينما لا يكون في الأمصار حج، إنما هي الصلاة وحدها فلذا كانت عمود الدين، فكذا بالنسبة للجهاد فإن معه صبراً، وهو بذاته صبر، بينما لا يستلزم الصبر جهاداً ومشاركة في القتال.
الثالثة : الصبر عند السعة والرخاء والغنى، فصحيح أن المقام يستلزم الشكر، ولكن ذات الشكر يحتاج إلى الصبر وعدم الإفتتان بالدنيا، ولزوم الإحتراز من الغرور والظلم والفسوق عند تدفق المال وإقبال الجاه والسلطان.
(أن عيسى رأس الزاهدين يوم القيامة ، وأن الفرارين بدينهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى ابن مريم ، وأن عيسى مر به إبليس يوماً وهو متوسد حجراً وقد وجد لذة النوم فقال له إبليس : يا عيسى أليس تزعم أنك لا تريد شيئاً من عرض الدنيا فهذا الحجر من عرض الدنيا؟ فقام عيسى فأخذ الحجر فرمى به وقال : هذا لك في الدنيا)( ).

صلة [وَلاَ تَحْزَنُوا] بهذه الآية
وفيها مسائل :
الأولى : لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار عبور زائلة ,ليس للإنسان فيها بقاء ,ويدرك هذه الحقيقة كل فرد ومن صغره حيث تصاحبه وتنمو مع مداركه العقلية ، فيرى خطف الموت للأحبة مع اليأس من عودتهم ليأتي الدفن عنواناً لعدم خروج الإنسان من الأرض فجاء الأنبياء والكتب السماوية بالإخبار عن النشور وعالم ما بعد الموت ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ) ليكون من مصاديق البشارة آية البحث ودخول الجنة .
وهل تنخرم أو تنخدش البشارة بصيغة الإستفهام في الآية [أَمْ حَسِبْتُمْ] والتقييد بالجهاد والصبر ، الجواب لا ، للتفكيك بين حقيقة وجود الجنة وأنها دار المأوى وبين شرط الدخول إليها .
ومن صيغ الإنذار في الآية منطوقاً ومفهوماً وجوه :
الأول : حرمان الكفار من دخول الجنة لفقد شرط الجهاد والصبر .
الثاني : توجه الخطاب بخصوص دخول الجنة إلى المسلمين ويحتاج غيرهم إلى دليل وآية أخرى ، وجاءت الآيات والسنة النبوية بحرمان الكفار الأبدي من نعيم الجنة .
[عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. فقال رجل : يا رسول الله ، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر من بطر الحق وغمص الناس] ( ).
وأبى الله أن يجمع المؤمنين والكافرين في مقام واحد يتصف بالدوام إلى جانب مفهوم آية البحث .
الثالث : الملازمة بين الإيمان وبين دخول الجنة .
الرابع : الآخرة دار الجزاء ، وتفيد كل من آية البحث والسياق تلقي المؤمنين الأذى والضرر من الكفار ، وتكون آيات القرآن على أقسام :
الأول : آية تزف البشارة .
الثاني : آية تتضمن الإنذار .
الثالث : آية جامعة تجمع بين البشارة والإنذار ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ).
الرابع : آية تتضمن المدح والذم مع التباين الموضوعي بينهما ، قال تعالى [أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ ]( ).
الثانية : إستيلاء ذكر الجنة على نفس المؤمن، وإمتلاؤها به سكينة ورضاً ، فلا يبقى محل للحزن والأسى ، والحزن المنهي عنه في آية السياق على قسمين :
الأول : ما يكون ساعة المصيبة والضرر .
الثاني : ما يستمر بعد المصيبة .
أما الأول فقد جاءت الآيات بالندب إلى الإسترجاع عند المصيبة ، وهو قول إنا لله وإنا إليه راجعون، وفيه مسائل :
الأولى : تخفيف وقع المصيبة على المؤمن .
الثانية : ذكر الله عز وجل شاهد على إنتفاء الجزع، وعلى إمتثال المؤمن لقوله تعالى [وَلاَ تَحْزَنُوا].
الثالثة : تهون المصيبة عند التسليم بأن الرجوع إلى الله عز وجل أمر حتمي والذي يدل بالدلالة التضمنية على أن الدنيا زائلة غير باقيه .
الرابعة : الإسترجاع مناسبة للتدبر في ماهية الفعل في المستقبل ،وكيفية تدارك أضرار المصيبة .
ومن إعجاز القرآن ذكر آية الإسترجاع المترتب عليه ،وعدم ترك الأمر للسنة وعلم التفسير مع أن السنة المصدر الثاني للتشريع والتفسير بيان للقرآن .
ومن دلالات آية الإسترجاع الثناء الجميل والثواب العظيم على المسلمين ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ]( )وجاء الثواب على الإسترجاع متعدداً وواسعاً .
الخامسة: المصيبة على قسمين :
الأول : مصيبة خاصة بشخص كوفاة قريب .
الثاني : مصيبة عامة ، تنزل بالأمة والفرقة والجماعة .
وجاء الإسترجاع في الآية أعلاه بصيغة الجمع ،لبيان حقيقة وهي أن الضرر الذي يقع على أحد المسلمين يقع عليهم جميعاً ، لذا ورد قبل آيتين قوله تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] ( ) فصحيح أن لفظ [قَرْحٌ] اسم جنس يفيد التعدد ، بدليل صيغة الجمع في يمسسكم ولغة التنكير فلم تقل الآية ( أن يمسسكم القرح ) لإحتمال إرادة معركة مخصوصة ، والتعدد في المقام لا يتعارض مع إرادة إتحاد معناه وتقدير الآية حينئذ ( إن يمسس أحدكم قرح) ويكون من دلالات صيغة الجمع حينئذ في [يَمْسَسْكُمْ] أن الضرر الذي يصيب أحد المسلمين يؤذيهم جميعاً .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [قال: “المُؤْمِنُونَ كالجَسَدِ الواحِد إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سائِرُ جَسَدِهِ بالحُمَّى والسَّهَر] ( ).
ويأتي المؤمن بالإسترجاع ويستحضر نعمة الخلق ، وتفضل الله بالرزق الكريم والإقرار بالقدوم عليه سبحانه عند وقوع المصيبة بدليل أداة الشرط في قوله تعالى [إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ]ولكن آية البحث تنفع المؤمنين قبل وأثناء وبعد وقوع المصيبة من جهات :
الأولى : الخطاب للمسلمين بصفة الإيمان .
الثانية : الملازمة بين الإيمان والصبر .
الثالثة : مجئ البشارة بالجنة للمسلمين والمسلمات في آية البحث وهل ذكر الجنة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ) الجواب نعم ،لأن من معاني الرجوع في المقام هو الرجوع إلى دار جزائه ، وعظيم ثوابه ، وبين الرجوع إلى الله ودخول الجنة عموم وخصوص مطلق فتبدأ رحلة الرجوع القهرية من حين دخول القبر، وليس من إنسان إلا ويبعث بعد الموت ويحضر قهراً في المحشر بأعماله التي عملها في الدنيا.
المسألة الثالثة : لما جاءت آية السياق بالنهي عن الوهن والحزن فإنها ذكرت علة لزوم إمتناع المسلمين عن الوهن والحزن ،وهي أنهم [الأَعْلَوْنَ] ( ) وفيه وجوه :
الأول : إفادة الحصر وأن منزلة الأعلون واقية من الوهن والحزن .
الثاني : بيان مصداق وسبب من أسباب أهلية المسلمين لعدم الوهن والحزن .
الثالث : نيل المسلمين لمرتبة الأعلون بأسباب ومقدمات لها أثر في سلامتهم من الوهن والحزن .
والصحيح هو الثاني والثالث ليكون من معانيه أن العلة والمعلول يجتمعان ليكونا علة متعددة لأمر آخر ، كما في لزوم أمرين خاص وعام لأداء الصيام :
الأول : إطلاله هلال شهر رمضان على نحو التعيين ، وفيه آية عبادية بأن يرقب المسلمين الأهلة ويميزون بينها مع إتحادها في الهيئة وتعدد منازل إطلالة الهلال ،فلا يجب الصيام إلا في شهر رمضان .
الثاني : حلول الفجر من نهار شهر رمضان فلا يجب قبله .
الثالث : بلوغ الإنسان سن التكليف مع السلامة من المرض .
والأول والثاني أعلاه عله وسبب عام والأخير خاص ، لتكون الآيات الكونية عوناً وآله تذكير للمسلمين في دخولهم الجنة .
ومن أسباب حصانة المسلمين من الوهن والحزن بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : إخبار المسلمين عن دخولهم الجنة مع وجود المجاهدين والصابرين فيهم .
الثاني : ذكر الآية للجنة كدار قرار ومثوى للمؤمنين طرد للوهن والضعف عنهم ،وإذ جاءت آية السياق بخصوص عدم الضعف عند ملاقاة العدو ، فان آية البحث لها الحكومة في توسعة السلامة من الوهن لتشمل العبادات والمعاملات وحسن أداء الأولى والسمت في الثانية وينفي ذكر الجنة الحزن عن المسلمين مجتمعين ومتفرقين .
الثالث : النسبة بين الجهاد والوهن هو التباين والتضاد لذا فان جهاد طائفة من المؤمنين على نحو الوجوب الكفائي سلامة من الوهن والحزن .
الرابع : من مصاديق الصبر العصمة من الحزن ، ومجاهدة المؤمن لإسحواذ الحزن على نفسه بلحاظ أن الإمتناع عن الحزن أمر وجودي يستلزم الإرادة والقصد ، ولا ينحصر إجتناب الحزن بالمسلمين ، فقد تجد أشخاصاً وقوماً يدفعون الحزن عن أنفسهم ، كما في كفار قريش بعد أن بكوا ورثوا قتلاهم بعد معركة بدر وعزمهم على الهجوم على المدينة مرة أخرى في معركة أحد وإدراكهم أن إستمرار الحزن على قتلاهم ببدر سبب للضعف وتجرأ القبائل عليهم ويتصف المسلمون في المقام بأمور :
الأول : إرادة المسلمين قصد القربة من الإمتناع عن الحزن .
الثاني : تعاون وتأزر المسلمين بينهم في دفع الحزن عنهم .
الثالث: كل فرد من أفراد الفرائض العبادية مدد للمسلمين في سلامتهم من الحزن ، فحينما يقول المسلم في الصلاة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )فان هذا الحمد يتغشى النعمة والبلاء وهذا الحمد نعمة وواقية من الحزن .
الرابع : من الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الحزن لم يأت لأمته مستقلاً ومنفصلاً عن أسباب البشارة ومعالم الظفر فحزن المسلمين بسبب سقوط عدد منهم شهداء ، ويكون دفع الحزن من جهات :
الأولى : تحقيق المسلمين النصر والغلبة في سوح المعارك .
الثانية : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، وعودته للمدينة ليستمر معه نزول الوحي والتنزيل والبناء الدفعي السريع لصرح الإسلام .
الثالثة : إخبار آيات القرآن عن حسن عاقبة الشهداء وخلودهم في النعيم .
الرابعة : إستيلاء الحزن على الكفار وما يسببه من التخلف عن معاودة الهجوم .
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : لا تحزنوا أيها المسلمون وأنتم تحسبون أنكم تدخلون الجنة .
الثاني : اسم الجنة طارد للحزن لأن ذكرها سياحة في الرياض الناضرة، ومن خصائصه أنه لا يبقى عند حدود البصر عند القراءة أو الإذن عند الإستماع .
الثالث : الوعد الإلهي للمسلمين بدخول الجنة .
الرابع : السعي والعمل لتحقيق كل من الشرطين اللذين ذكرتهم الآية كمقدمة وطريق لدخول الجنة .
الخامس : التلبس بالجهاد والسعي في موارده من وجوه إنتفاء الحزن من جهات :
الأولى : عدم الحزن مقدمة للندب إلى الجهاد ، والمسارعة في الخيرات، فمن خصائص الحزن أنه إنشغال بالماضي ، وبكاء على المفقود والفائت مما قد يترشح عنه الخوف من فوت أمر آخر ، وتكرار ذات الحزن أو أقل أو اشد منه كماً وكيفاً .
الثانية : ترك الحزن والإعراض عنه مدد للمؤمن في تهيئة مقدمات الجهاد والإستعداد له بالنفس والعدة والتدريب وهو من مصاديق الإمتثال لقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ) .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين إخافة العدو، ويحتمل إرهابه في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : البطش بالعدو والفتك به .
الثاني : كف اذى العدو .
الثالث : فضح المنافقين وجعلهم عاجزين عن الصد عن سبيل الله .
الرابع : عدم دبيب الوهن والحزن إلى المسلمين .
الخامس : إرهاب العدو من مصاديق الجهاد التي تكون طريقاً لدخول المسلمين الجنة حسب آية البحث ، فقد يقوم المسلمون بإرهاب وإخافة العدو لغرض كفاية اذاه ودعوته للتوبة والإنابة وترك منازل الكفر والضلالة ، ولكنه يبادر إلى الهجوم المباغت ،الأمر الذي يستلزم أن يكون المسلمون في حال من عدم الوهن والحزن على نحو مستديم ، قال تعالى [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ] ( ) .
وهل الوهن والحزن سببان للغفلة عن الأسلحة الجواب نعم ، لذا إحتاج المسلمون البشارة بالجنة في آية البحث وتقييد هذه البشارة بالجهاد في سبيل الله ليعطوا موضوعية لإرهاب العدو ، ومن إعجاز آية رباط الخيل أعلاه أن إرهاب العدو لا يكون بالكلام والوعيد والمبالغة بالقوة الذاتية ، والإنتقاص من قوة وجيش العدو بل يكون بالقوة الفعلية وكثرة العدد والعدة بلحاظ أن كثرة الخيل المعدة للقتال دليل على كثرة الفرسان والرجال المدربين .
ترى لماذا لم تقل الآية ( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة وخيل ) الجواب لفظ الخيل مطلق يفيد الإقتناء والإستخدام لأغراض النقل والسفر والزراعة والتجارة فلا يخاف منها العدو لأن تلك الخيل أنهكتها الخدمة والركوب عليها ، وحتى لو نشبت الحرب فقد يشح الناس بخيلهم لإبتناء حياتهم المعاشية وشؤون الزراعة والتجارة والمكاسب عليها فجاءت الآية بتقييد الخيل بأنها رباط في سبيل الله تدخل الحرب من غير إجهاد ، كما يلزم من معنى الرباط أن تكون الخيل قوية غير هرمة .
ويحتمل إعداد القوة وإصلاح الخيل للقاء العدو وجوهاً :
الأول : إنه من مقدمات الجهاد .
الثاني : إنه شاهد على عدم الوهن والضعف، وتجلى في الأيام التي تلت معركة بدر وأحد والخندق، وظهر عل قوة المسلمين، وعجز الكافرين عن إقتحام المدينة أو صد الناس عن دخول الإسلام.
الثالث : التدريب وتهيئة السلاح الذي يخيف العدو مناسبة لطرد الحزن لما فيه من الإنشغال بالقادم من الأيام وإزاحة أسباب الحزن بالنصر والغلبة على المكاره، وجاء ذكر رباط الخيل من باب المثال الحاضر آنذاك، ويشمل المعنى السلام مطلقاً بحسب زمانه، بيان وتأويل القرآن تعدد الآيات التي تسمى آية السيف كما في قوله تعالى[فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ…]( )، ومع هذا فليس في القرآن لفظ(السيف).
الرابع : السعي في تهيئة وإعداد وسائل الدفاع من الجهاد الذي ذكرته آيه التمحيص ليقوم به فريق من المسلمين فيكون طريقاً لدخولهم جميعاً الجنة.
الخامس : إصلاح حال جيش المسلمين تعبئة وتدريب وتقنية وأسلحة من الصبر الذي جعله الله سبباً وحجة لدخول الجنة .
الثالثة : من وجوه إنتفاء الحزن بالجهاد أنه سبب لدفع العدو وكسر شوكته وجعله عاجزاً عن الإضرار بالإسلام والمسلمين [قال محمد بن إسحاق: لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلغنا: “لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم” فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان هو يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة.
وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق حديث صحيح، كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق قال: سمعت سليمان بن صُرَد يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الأحزاب: “الآن نغزوهم ولا يغزونا] ( )، وجهاد المسلمين وعملهم بمضامين آية البحث وسعيهم لدخول الجنة ليكون فتح مكة وبعث الأمن فيها شاهداً على جهادهم وصبرهم وهما القيدان اللذان ذكرتهما آية البحث لدخولهم الجنة وهو من مصاديق [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ) وفيه مسائل :
الأولى : إنه من علم الغيب الذي تفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : بيان رحمة الله عز وجل بالمسلمين بأبلاغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم من المغيبات الخاصة بحياتهم .
الثالثة : التخفيف عن المسلمين بمجئ البشارة لهم بتخلف العدو عن غزوهم .
الرابعة : دعوة الأفراد والقبائل لدخول الإسلام .
الخامسة : إنذار الكفار بأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم باسرار وعلوم لا يعلمها بشر إلا أن يشاء الله ، قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] ( ) .
السادس : بعث السكينة في نفوس المسلمين وعوائلهم .
السابعة : جعل المسلمين يستعدون للغزو.
الثامنة : شرعية غزو الكفار في مكة وتطهير البيت الحرام من دنس الشرك وعبادة الأصنام ، وهو من مصاديق دعاء إبراهيم [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا] ( )فيتحقق الأمن ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : الجهاد سبيل لنزول الملائكة من السماء لنصرة المسلمين ، تلك النصرة لم تتحصل إلا عندما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون في السنة الثانية من الهجرة للقاء المشركين في معركة بدر وكان هناك بئر اسمه بدر باسم الذي حفره فنزل قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
لقد هبط جبرئيل بالوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة والمدينة وفي الحضر والسفر وفي النهار والليل في حال اليقظة ، [وعن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَةِ الجَرَس، وهو أشده عَلَيّ فيفصم عني قد وَعَيت ما قال. وأحيانا يأتيني الملك رجُلا فيكلمني، فأعي ما يقول] ( ).
أما يوم بدر فقد نزل جبرئيل بألف من الملائكة للنصرة والقتال والمدد للمسلمين ليكون من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء نصرة الملائكة له ومشاركتهم في القتال، وهل يحتسب قتال الملائكة جهاداً للمسلمين لدخولهم الجنة، الجواب لا دليل عليه إنما جاءت الآية بصيغة الخطاب، وإرادة خصوص المسلمين في جهادهم وتضحيتهم، وكان الملائكة مدداً من السماء.
نعم نزول الملائكة من اللطف الإلهي بالمسلمين بلحاظ آية البحث من وجوه:
الأول : القطع بدخول المسلمين الجنة، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الذين تنزل الملائكة مدداً لهم يدخلون الجنة.
الصغرى : المسلمون تنزل الملائكة مدداً لنصرتهم.
النتيجة : المسلمون يدخلون الجنة.
الثاني : لقد هبط الملائكة من السماء ومن عالم الملكوت وإختلطوا بالمؤمنين وعندما تنقطع الدنيا ويحصل النشور يختلط المؤمنون بالملائكة في السماء رحمة من عند الله .
الثالث : نزل الملائكة يوم بدر وأحد والخندق وحنين ليشهدوا للمسلمين يوم القيامة أنهم جاهدوا وصبروا .
الرابع : من معاني مدد الملائكة للمسلمين في معارك الإسلام الأولى تقريبهم إلى منازل الجهاد وهو من اللطف الإلهي ومصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس : ليس من حصر لضروب الصبر في حياة المؤمنين وأظهرها وأشدها على النفوس والجوارح الصبر في ميادين القتال ، كما في قوله تعالى في معركة حنين [وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ]( ) فتفضل الله عز وجل وأنزل الملائكة لتنمية ملكة الصبر عند المسلمين لتكون طريقاً إلى الجنة .
وإذ إنتفع الصحابة من نزول الملائكة في إنطباق اسم الجهاد وصدق تحقق الصبر فهل تنتفع منه الأجيال اللاحقة من المسلمين ، الجواب نعم ، بمعنى أن جهاد وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه تنتفع منه أجيال المسلمين وهو من أسرار ذكر وقائع الإسلام الأولى في القرآن وتلاوة المسلمين لها كتنزيل ، وورد النص على الأجر والثواب بهذه التلاوة ، وبالإقتداء بالمسلمين الأوائل والإقتباس من جهادهم وصبرهم ، وترشح صفة الجهاد والصبر على الإجيال اللاحقة بتحلي الأوائل بهما مجتمعين ومتفرقين .
المسألة الرابعة : تتقوم السلامة من الحزن الذي تضمنت آية السياق الدعوة إليها بالصبر الشخصي والعام والتنزه عن الجزع والإكتئاب والبكاء على الخسارة والضرر والأذى ،لتكون آية البحث عوناً للمؤمنين للتقيد بالنهي الوارد في آية السياق [وَلاَ تَحْزَنُوا]فيكون من إعجاز القرآن أن عدم الحزن عون للتحلي بالصبر ، وأن الصبر طريق للوقاية من الحزن فليس من امة تحترس من الحزن قبل وقوع المصيبة إلا المسلمين ، وتقدير آية السياق على وجوه :
الأول : ولا تهنوا بسبب الخسارة التي لحقت بكم كما في معركة أحد.
الثاني: ولا تهنوا عندما تزحف جيوش الكفار .
الثالث : ولا تهنوا لما قد يلحقهم من الخسارة في المستقبل .
الرابع : ولا تحزنوا لما اصابكم من المصائب والقروح وسقوط عدد من الشهداء كحمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : لا تحزنوا لما قد يصيبكم في معارك الإسلام اللاحقة ،إذ نزلت آية السياق بعد معركة أحد ، ولم تكن آخر معارك الإسلام فما جاء بعدها أكثر مما كان قبلها ، وإن كان بلحاظ معارك الإسلام الأولى فانها وسط بين معركة بدر والخندق وأن معركة بدر هي الحاسمة لذا سمى الله عز وجل يومها بأنه [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
المسألة الخامسة : لا تجمعوا الوهن والحزن على ما فات وانقضى من الحدثان، وقتال الكفار لكم للزوم الجهاد والتحلي بالصبر كطريق إلى الجنة والسعادة الدائمة ،ومن يبتغي الخلود الدائم في النعيم يجتهد في إجتناب الموانع .
المسألة السادسة : أيها المسلمون إستعدوا لدخول الجنة بالتوقي والتحصن من الوهن والحزن مجتمعين ومتفرقين .
المسألة السابعة : بيان التضاد بين الحزن من جهة والجهاد والصبر من جهة أخرى وإن لم يكن بينهما تضاد كما لو كان الحزن غير مستول على القلب والأركان فانه سبب للأذى النفسي والعناء ،ولكنه لا يرقى إلى مرتبة البرزخية دون تلبية نداء الجهاد .
المسألة الثامنة : جاء ذكر الجهاد والصبر في آية البحث من باب المثال الأمثل والعمل الصالح المتعلق بموضوع النزول ، وإلا فان دخول الجنة يترتب على إتيان ما أمر الله به ، وإجتناب ما نهى عنه ، ومنه النهي المتعدد الذي جاء بكلمتين من آية السياق [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] ( )وقدمت الآية عدم الوهن لبيان قانون وهو أن الحزن يحصل بعد دخول المعركة الذي قد تكون معه الخسارة في الأنفس والأعضاء.
وتقدير آية السياق بلحاظ آية البحث (ولا تهنوا في الجهاد والصبر كي لا تحزنوا في المعركة وبعدها ).
فان قلت إذا كان عدم الوهن نوع طريق للوقاية من الحزن ، فلماذا جاء النهي عنه بعرض واحد مع النهي عن الوهن والجواب من جهات :
الأولى : الحزن المنهي عنه أعم من الذي يترشح عن معارك القتال ، وحدوث القروح والكلوم وسقوط الشهداء من المؤمنين .
الثانية : قد يأتي الحزن بسبب الوهن والضعف ، فتفضل الله وقدم الزجر عن الوهن ليكون بالدلالة التضمنية نهياً عن الحزن ، وتقدير الآية ( ولا تهنوا فتحزنوا ) وتلك آية في إعجاز القرآن بأن يكون من أسرار النهي المتعدد ، أن الإمتناع عن الأول يكون وقاية من الثاني وحتى في الأوامر إذ ورد الأمر بالمتعدد من العبادات بقوله تعالى [وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ] ( )،فان إتيان الصلاة اليومية بأوقاتها باعث لإخراج الزكاة ، وتذكير بها وبوجوبها خمس مرات في اليوم.
وهل يصح العكس أي ولا تحزنوا فتهنوا الجواب نعم من غير تعارض أو دور بينهما بلحاظ أن الوهن والضعف سبب للحزن على التخلف عن المنعة وأسباب الظفر ، وكذا فان الوهن يؤدي إلى الإنكسار والحسرة والخسارة .
الثالثة : النهي عن الجمع بين الوهن والحزن مجتمعين ، وأن وظيفة الواو في [وَلاَ تَحْزَنُوا] الجمع وحده ، وهو لا يتعارض مع إختيارنا أنها للجمع والترتيب ، فيكون معناها على ثلاث وجوه :
الأول : الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه .
الثاني : الترتيب بين المعطوف عليه والمعطوف ، بتقدم الأول مرتبة ودرجة ،وتقدير الآية على شعب :
الأولى : ولا تهنوا ولا تحزنوا .
الثانية : ولا تهنوا ثم تحزنوا .
الثالثة : ولا تجمعوا بين الوهن والحزن .
الرابعة : ولا تهنوا فتحزنوا بلحاظ أن الوهن سبب للحزن من جهات:
الأولى : الحسرة والندم على حصول الوهن .
الثانية : الأسى واللوم للذات على عدم إجتناب الوهن .
الثالثة : يؤدي الوهن إلى الحزن .
الرابعة : الوهن سبب للضعف وقد يكون سبباً لإغراء العدو الظالم، فيكون سبباً للخسارة والحزن ، قال تعالى [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ] ( )،ليكون بعث المسلمين في مسالك السعي لدخول الجنة ، ونهيهم عن الوهن والحزن مدداً لهم في ميادين القتال ، وسبباً لبعث الفزع في قلوب الكفار ، وسلاحاً يجعلهم يصابون باليأس لأن كلاً من آية البحث والسياق تطرد الغفلة عن المسلمين .
الثالث : إفادة واو العطف الجمع والترتيب .
ولا تعارض بين هذه الوجوه لإمكان تحقق مصداق كل منها،ويستلزم سعي المسلمين لدخول الجنة الإحتراز منها مجتمعة ومتفرقة ولما كان إتصاف المسلمين بعدم الوهن والضعف والحزن طريقاً لدخولهم الجنة فهل يتغشاهم الله عز وجل بلطفه لإصلاحهم لأمور :
الأول : العزم على ملاقاة الكفار والثبات في ميدان المعركة ودلالته على إنتفاء الوهن والضعف .
الثاني :الإقامة على ذكر الله والحرص على أداء الفرائض إستجابة لأمر الله ،وفيه واقية من غلبة الحزن على النفوس وظهوره على اللسان وفي عالم الأفعال ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثالث :إستحضار قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا] عند الشدائد وملاقاة الأعداء، وهذا الإستحضار مدرسة في تنمية ملكة الشجاعة عند المسلمين، وقهر النفس الشهوية وحب الدنيا وزينتها .
الرابع : إمتلاء نفس المسلم بالرضا بقضاء الله والشكر على فضله تعالى والتسليم بأن ما أصابه والمسلمين إنما هو بمشيئة الله عز وجل ، وفي التنزيل [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها جاءت بالأمر بصيغة المفرد الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن ورائه الأمة كلها ، لأصالة العموم وإذا أصاب المسلمين مصيبة وخسارة بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ففيه وجوه :
الأول : القدر المتيقن من الآية حصول سبب النزول .
الثاني : إرادة ما يلحق المسلمين من القرح والخسارة وسقوط الشهداء بعد نزول الآية بدليل صيغة المضارع فيها [لَنْ يُصِيبَنَا]ومن ومعاني [لَنْ] إفادة المستقبل .
ويدل عليه قوله تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] ( )بصيغة المضارع والشرط.
الثالث : جاءت الآية للرد والإحتجاج على الكفار والمنافقين ، ومنع شماتتهم.
الرابع : وقاية المسلمين من الوهن والحزن ، فعندما يعلم المؤمن والأمة بأن الذي حلّ بهم من الأذى في علم الله عز وجل تخف عنهم وطأة المصيبة .
الخامس : المقصود ما أصاب ويصيب المسلمين من القرح والخسارة والصحيح هو الأخير ، لأصالة الإطلاق ، ولصدق الكتابة والإنصاف عند الله ، فتشمل الآية الوقائع والقروح التي تصيب المسلمين في إجيالهم المتعاقبة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد شهد قبل وقوعها بأنها من عند الله ، وفيه حث على الدعاء ،وندب للتوسل إليه سبحانه لجلب المصلحة وتحقيق الغلبة ودفع الوهن والحزن وأسبابها ونتائجها مجتمعة ومتفرقة .
وفي الدعاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : [اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَنَفَسٍ لَا تَشْبَعُ وَعِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَدَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا] ( ).
وهل لصلاح المسلمين ووراثتهم الأنبياء في سنن التقوى وإصابتم بالجراحات وسقوط القتلى منهم ، وتمحيصهم وتطهيرهم موضوعية في هذه الشفاعة.
الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله والمسلمين ، ودعوة لهم للصبر في مرضاة الله لأن عاقبته شفاعة النبي يوم الفزع الأكبروهي مطلوبة بالذات والأثر ، إذ أنها نوع طريق لدخول الجنة.
[عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة ، ومن سكن المدينة وصبر على بلائها كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة ، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة] ( ) وهل المراد من الحديث مجئ المسلم زائراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته أم المعنى الأعم وإرادة زيارة قبره بعد دفنه وإنتقله إلى منازل الخلود .
الجواب هو الثاني لنصوص منها ما ورد [عن الإمام علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث : من زارني بعد مماتي كان كمن زارني في حياتي ، ومن زارني في حياتي كان في جواري يوم القيامة] ( ) و[عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من زار قبري وجبت له شفاعتي]( )
[عن حاطب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي] ( ).
وهو من البركة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإعجاز الغيري للقرآن ، ودلالات آية البحث وما فيها من تعليق دخول جميع الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجنة إذا علم الله عز وجل أن فيهم مجاهدين في سبيله ، ثم تفضل وخفف عنهم ، وذكر الصابرين وهو أعم وأوسع ، فهو سبحانه يريد أن يرحم المسلمين في الآخرة بدخول الجنة بأسباب وفعل الصالحات في الحياة الدنيا ، وهذا الفعل على وجوه :
الأول : ما ورد في القرآن من الأحكام ، لذا هناك آيات في القرآن تسمى آيات الأحكام ،وفي عدد آيات الأحكام شعبتان :
الأولى : حصر وتعيين عدد آيات الأحكام ،وهو على وجوه :
الأول : مائتا آية .
الثاني : ثلاثمائة آية .
الثالث: مائة وخمسون آية .
الرابع : نحو خمسمائة آية وبه قال الغزالي وغيره( ).
الخامس : اكثر من ثمانمائة آية عن ابن العربي .
الثانية : ليس من حصر لآيات القرآن التي تستنبط منها الأحكام والسنن ، ومنها آيات القصص ويتغشى إصطلاح آيات الأحكام القرآن كله ، وليس من آية إلا وفيها حكم من وجوه :
الأول : منطوق الآية القرآنية وتجلي الحكم صريحاً في اللفظ .
الثاني : الأوامر والنواهي التي ترد في الآية القرآنية ، وهي على جهات :
الأولى : آية فيها أمر وبعث على الفعل أو القول[عن ابن سيرين . أن رجلين اختصما إلى شريح في حق ، فقضى عليه شريح وأمر بحبسه ، فقال رجل عنده : إنه معسر ، والله تعالى يقول { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } قال : إنما ذلك في الربا إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار ، فأنزل الله { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } وقال { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }( )] ( ).
وفيه مسائل :
الأولى :لا دليل على تقييد الإمهال بموضوع الربا .
الثانية : والأصل هو الإطلاق .
الثالثة : ووردت نصوص باستحباب إمهال المقترض في حال إعساره وجاءت بابراء ذمته وإسقاط الدين عنه .
الرابعة : كما ورد [أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله] ( ).
الخامسة : التباين بين قضاء الدين ، وإداء الدين في أصل المعاملة ، وكيفية الأداء والقضاء ، وصحيح أن كلاً منهما نوع مفاعلة إلا أن الأمانة نوع إيقاع ولا يصح التصرف فيها إلا مع الأذن ، أما الدين فان المقترض يمتلكه ويحق له التصرف فيه .
الثانية : آية فيها نهي وزجر .
الثالثة : آية فيها أمر ونهي ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا] ( ).
الرابعة : صيغة الجملة الخبرية التي تتضمن الأمر في معناها ودلالتها ، منها قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ…]( ).
الخامسة : الإباحة الشرعية في منطوق الآية القرآنية ،ونفي الحرج عن المسلمين ، ومنع الإختلاف بينهم بخصوص الأوامر والنواهي .
الثالث : قصص الأنبياء، وما تدل عليه من الأوامر والنواهي وهل يخدش بها أنها من سنن الأمم السالفة ، الجواب لا ،لأن أحكام النبوة باقية في الأرض وهو من عمومات قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ).
الملازمة بين النبوة والصبر
لا يختص أو ينحصر حسن وبهاء القصص بذاتها بل يشمل دلالتها وأثرها ومنها أنها طريق لدخول المسلمين الجنة من جهات :
الأولى : إقتباس المسلمين الدروس والمواعظ جهاد الأنبياء وسعيهم لإصلاح النفوس والمجتمعات.
الثانية : تضحية الأنبياء وفناؤهم في مرضاة الله دعوة للمسلمين للإستقامة في سبل الهداية والحق.
الثالثة : تنزه المسلمين عن قبائح أمم الأنبياء وما يأتي بالعذاب العاجل أو الأجل، وهذا التنزه نوع وقاية من عذاب النار وفي إنذار شعيب لقومه يذكر الأمم التي جحدت بالنبوة كما ورد في التنزيل[وَيَاقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ]( )، لبيان أن قصة كل أمة تبين جهاد الأنبياء في سبيل الله وتبعث المسلمين على نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإخلاص في طاعة الله وإتخاذ الحياة الدنيا بلغة لدخول الجنة.
الرابعة : بذل المسلمين الوسع في طلب الدنيا وتحصيل المكاسب والرزق الكريم(وأخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قال لرجل عنده : أدن مني أحدثك عن الأنبياء المذكورين في كتاب الله . أحدثك عن آدم كان حراثاً ، وعن نوح كان نجاراً ، وعن إدريس كان خياطاً ، وعن داود كان زراداً ، وعن موسى كان راعياً ، وعن إبراهيم كان زراعاً عظيم الضيافة ، وعن شعيب كان راعياً ، وعن لوط كان زراعاً ، وعن صالح كان تاجراً ، وعن سليمان كان ولي الملك ، ويصوم من السهر ستّة أيام في أوله ، وثلاثة في وسطه ، وثلاثة في آخره ، وكان له تسعمائة سرية ، وثلاثمائة مهرية ، وأحدثك عن ابن العذراء البتول عيسى . إنه كان لا يخبىء شيئاً لغد ، ويقول : الذي غداني سوف يعشيني والذي غشاني سوف يغدّيني ، يعبد الله ليلته كلها ، وهو بالنهار يسبح ويصوم الدهر ويقوم الليل كله)( ).
الخامسة : بيان منافع النبوة، وإزاحة الأنبياء لمفاهيم الكفر، وهدمهم لصرح الشرك.
السادسة : النبوة والطواغيت مدرسة تحكي جهاد الأنبياء لفضح ضعف السلاطين والجبارة من الملوك الذين أشاعوا الفساد مع بيان حال الملوك الذين إستجابوا لدعوة الأنبياء وكانوا سبباً في إنقياد أممهم إلى الحق والهدى.
السابعة: تفقه المسلمين بمعرفة سنن الدعاء، وإتخاذ الأمم السابقة له، للتدارك وإظهار الندامة والتوبة، وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن يونس دعا قومه فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب فقال: إنه يأتيكم يوم كذا وكذا. ثم خرج عنهم وكانت الأنبياء عليهم السلام إذا وعدت قومها العذاب خرجت فلما أظلهم العذاب خرجوا ففرقوا بين المرأة وولدها، وبين السخلة وأولادها، وخرجوا يعجبون إلى الله علم الله منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب، وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر، فمر به رجل فقال: ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم. وانطلق مغاضباً يعني مراغماً)( ).
الثامنة : تدعو آية البحث بالدلالة التضمنية المسلمين إلى الصبر، وتحثهم عليه، وتبين على نحو النص الجلي أنه طريق إلى الجنة، والأنبياء أئمة الناس في الصبر فاز المسلمين بالإقتباس الأمثل من سنتهم في تحمل الأذى في جنب الله، وتعلموا منهم ما يكون ضياء لهم في السعي نحو الجنان بخطى إيمانية.
التاسعة : توجه الأمر في القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإقتداء بسنن الأنبياء ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
وجاء الخطاب أعلاه خاصاً في صيغة وجهه المخاطب ولكن المراد منه المسلمون والمسلمات جميعاً إلا أن يدل دليل خاص على إرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة .
وهل الجهاد والصبر من هدى الأنبياء المقصود في الآية اعلاه الجواب نعم، ليكون من التشريف الذي فاز به المسلمون هو أمر الله عز وجل لهم بالإقتداء بالإنبياء الذي يدل بالدلالة التضمنية على أمور :
الأول : ذكر هدى الأنبياء في القرآن ، وبيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمصاديقه في السنة النبوية ، وفي تفسير آيات القرآن سواء آيات الأحكام أو الآيات التي تخص قصص ونهج الأنبياء وصبرهم في مرضاة الله عز وجل، وعشق النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمحاكاتهم وعمله بسننهم .
الثاني : إستحضار المسلمين لجهاد الأنبياء ، ويتجلى بتلاوة آيات القرآن الخاصة لجهادهم التي وردت في القرآن وأيهما أكثر في القرآن .
الأول : آيات جهاد الأنبياء .
الثاني : آيات صبر الأنبياء .
الجواب هو الثاني بلحاظ أن الصبر مصاحب للأنبياء في حياتهم اليومية ، ودعوتهم قومهم إلى التوحيد ونبذ الشرك ، وحتى الهجرة قد تكون من الصبر وليس من الجهاد والقتال كما في هجرة إبراهيم عليه السلام المتعددة من سواد العراق إلى حرّان ثم خروجه إلى مصر ، وعاد منها إلى الشام ، وأقام في نابلس ثم إنتقل إلى مصر بعد مجاعة ليعود من مصر إلى السكن في بئر سبع وتكون حجج وبراهين متعددة على فرعون والملأ من قومه ، ومات إبراهيم عليه السلام في مدينة الخليل ،بعد أخذ زوجته زوجة هاجر وإبنها إسماعيل إلى مكة ، كما ورد في التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ] ( ).
وتزوج إبراهيم بعد وفاة سارة قطورة بنت يقطن من الكنعانيين ومعناها (العطر ) وولدت له ستة أولاد هم : [يقسان بن إبراهيم، وزمران بن إبراهيم، ومديان بن إبراهيم، ويسبق بن إبراهيم، وسوح بن إبراهيم، وبسر بن إبراهيم، فكان جميع بني إبراهيم ثمانية بإسماعيل وإسحاق، وكان إسماعيل يكره أكبر ولده. قال: فنكح يقسان بن إبراهيم رعوة بنت زمر بن يقطن بن لوذان بن جرهم بن يقطن بن عابر، فولدت له البربر ولفها. وولد زمران بن إبراهيم المزامير الذين لا يعقلون. وولد لمديان أهل مدين قوم شعيب بن ميكائيل النبي، فهو وقومه من ولده بعثه الله عز وجل إليهم نبياً] ( ).
وفيه آية بنشر أحكام الإسلام بالحكمة والموعظة وتحمل الأذى وإجتناب الشدة والغلظة والبطش في جذب الناس للهدى والإيمان وفي بيان معالم التوحيد ، ليكون إقتداء المسلمين بصبر الأنبياء الحاق بهم في منازلهم في الجنة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط على نحو جهتي بلحاظ اللطف الإلهي ، ليكون تقدير الآية أعلاه : فبهداهم اقتده ليدخل المسلمون الجنة .
وليس من تعارض بين صيغة الإفراد في الخطاب اعلاه وبين صيغة الجمع في معلولها ، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين وإنتفاعهم من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإقتباس من سنن الأنبياء .
وهل يمكن الجمع بين آية البحث والآية أعلاه ، الجواب لا دليل عليه، لتكون آية البحث من إعجاز القرآن بأن تبين الشرائط العامة لدخول الجنة وتبعد عنهم أسباب الحرج والإمتثال وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
الثالث :بيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين بجهاده وتفانيه في مرضاة الله وخوضه وأهل بيته وأصحابه المعارك ضد الكفر والكافرين ولم يغادر الدنيا إلى الرفيق الأعلى حتى تم بناء صرح الإسلام ،وتجلت للناس أحكام الحلال والحرام وواظب المسلمون على أداء الفرائض .
الرابع : من إعجاز القرآن ، ومن آياته للمسلمين بخصوص قصص وسيرة الأنبياء مجئ سور بأسماء الأنبياء لتكون مدرسة لإقتباس المسائل وإستنباط الأحكام وهي :
الأولى : سورة يونس وتقع في (109) آية .
الثانية : سور هود وتقع في (123) آية .
الثالثة : سورة يوسف وتقع في (111) آية .
الرابعة :سورة إبراهيم وتقع في (52) آية .
الخامسة :سورة طه (135) آية .
السادسة :سورة الأنبياء (112) آية.
السابعة : سورة لقمان وتقع في (34) آية .
الثامنة : سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقع في (38) آية .
التاسعة : سورة نوح وتقع في (28) آية .
الخامس: الخيل واسطة النقل وتتصف بخصائص هي :
الأولى : هي أسرع واسطة في إزمنة إنحصار النقل بالدواب ، وفيه دعوة للمسلمين لإتخاذ أسرع واسطة كلاً حسب زمانه ومكانه ، من الوسائط البرية والبحرية والجوية.
الثانية : الراكب في المعركة أشد قدرة على القتال ، وأقرب للغلبة ، وأكثر أمناً من المقاتل الراجل .
الثالثة : الخيل أسرع حركة ، وأيسر في الإنسحاب والتراجع من أجل إعادة الكرة للهجوم لقبح وحرمة الفرار من الزحف، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات . قالوا : وما هن يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات]( ).

صلة [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] بهذه الآية
وفيها مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة إن كنتم مؤمنين ) و التقدير الذي نذهب إليه بالربط والصلة بين الآيات تقريبي نسأل الله أن يكون موافقاً لمنطوق القرآن ولا يتعارض مع قوانينه التي يكون عليها المدار والحكم، إن قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ) دليل على الملازمة بين مرتبة العلو والرفعة وبين الإيمان، و هذه الملازمة تحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة الحياة الدنيا ، وأن المؤمنين هم الأعلون في الدنيا على نحو الخصوص .
الثاني : المقصود رجحان كفة المؤمنين في القتال ،قال تعالى [وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ]( ).
الثالث : آية السياق بشارة بالصلة والملازمة بين الأيمان ومرتبة العلو والإيمان في الآخرة ، وهو دليل على جهات :
الأولى :المقصود العلو في الحياة الدنيا .
الثانية :إرادة السلامة والأمن من عذاب القبر في عالم البرزخ [وأخرج أحمد عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :ما عمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب القبر من ذكر الله] ( )، وذكر الله عز وجل من مصاديق الصبر الذي ندبت آية البحث إليه ، وجعلته سبيلاً للفوز بالجنة .
الثالثة : المقصود الأمن يوم النشور وفي مواطن الحساب .
الرابعة : الفوز بالنعيم الدائم يوم القيامة .
والقدر المتيقن هو الأول ،ولكن الوجوه الأخرى في طوله لأصالة الإطلاق، وتدل عليه آية البحث ،التي تتضمن معنى تقييد دخول الجنة بالجهاد والصبر لإفادة أمور:
الأول : النطق بالشهادتين ليس علة تامة لدخول الجنة في الآخرة إلا أن يشاء الله فلا بد من مصاحبة العمل للقول وتجلي الإيمان بشواهد وأفعال تدل على الإخلاص وسلامة المعتقد .
الثاني : لقد أخبر القرآن عن وجود فئة من الناس أظهروا الإيمان على ألسنتهم مع تعمد البقاء على الكفر والإجتهاد في إخفاء المكر فتضمنت كل من آية البحث والسياق فضح المنافقين من جهات:
الأولى : دلالة لفظ التبعيض في(الذين جاهدوا منكم) على إتحاد السنخية بين عموم المخاطبين بآية البحث وبين المجاهدين فينتمي المجاهدون للذين آمنوا والذي يقعد أو يتخلف عن القتال يدعو للمجاهدين، ويآزرهم في تعاهد الفرائض، وحفظ عوائلهم، وتقوية العزائم والإعانة على المرابطة داخل المدن لمنع إنهيار الجبهة الداخلية.
أما المنافق فإنه يشيع أسباب الإحباط واليأس، وإذا جاءت أخبار نصر المؤمنين فإنه يشكك بها، وإذا ثبت موضوعها الغبطة والرضا ومن أسباب نزول قوله تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ]( )، ورد أن بعض الأعراب يأتي إلى المدينة مهاجراً فيدخل في الإسلام ويسمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا صح بدنه وولدت زوجته ذكراً، ونتجت فرسه مهراً، وزاد ماله وماشيته إطمأن وإمتلأ سكينة وقال: هذا الدين وهو الإسلام خير لي، أما إذا أدبرت معه الدنيا وولدت جاريته بنتاً، وظهر النقص في ماله، وتأخر عنه العطاء وتطير، وإرتد عن الإسلام فنزلت الآية أعلاه لبيان أن الدنيا دار إبتلاء وإن الصبر طريق دخول الجنة.
لذا تفضل الله عز وجل على المسلمين بتلاوة سورة الفاتحة لتنزيه المسلمين عن النفاق والشره، ولبيان قانون وهو أن تحمل الأذى في الإسلام طريق الخلود في النعيم، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لنزول القرآن في جذب المسلمين إلى الصراط الذي يقودهم إلى النعيم الدائم.
الثانية : قصور المنافقين عن مراتب الجهاد ، وتخلفهم عن المترشح عن الإيمان والتقوى ،إذ تدل آية البحث عليه وتقدير الآية : ويعلم الصابرين من الذين أمنوا.
الثالثة : منع آية السياق المنافقين من نيل مرتبة العلو التي يتصف بها المؤمنون ، لأنها قيدت العلو بقوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )والذي يدل بالدلالة التضمنية على أمور :
الأول :إختصاص المؤمنين بدرجة العلو والرفعة بين الناس .
الثاني : ترغيب المسلمين بخصال الإيمان .
الثالث : دعوة المسلمين للتفقه في الدين لمعرفة سنن الإيمان وكيفية بلوغ درجاته .
الرابع : حث الناس على الإيمان وبعث الشوق في النفوس للتحلي بآدابه قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
الخامس : ندب المسلمين والمسلمات للسعي، وبذل الوسع لبلوغ مرتبة الأعلون .
السادس :تدارس المسلمين لصفات المؤمنين وسنن الإيمان حسب الكتاب والسنة للتحلي بها ، [عن عائشة، عن فاطمة، رضي الله عنها، أسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي] ( )،وعارضه أي تدارس معه القرآن وقابله بما عنده لتأكيد عدم سقوط حرف أو زيادة فيه وهو من الشواهد على سلامة القرآن من التحريف .
السابع : حث المسلمين على اليقظة والحيطة والحذر من التفريط بمعالم الإيمان لأنها الجادة العظمى إلى نيل مرتبة العلو .
الثامن : من إعجاز آية السياق أن الله عز وجل تفضل ببيان صفات المؤمنين بدليل أنه جعلها شرطاً لبلوغ مرتبة الأعلون التي تندب وترغب الآية بها .
وهل يصح تقدير الآية بصيغة الإفراد للمسلم وأنت الأعلى إن كنت مؤمناً ، الجواب لا ، لوجوه :
الأول : ينال المسلمون مرتبة [الأَعْلَوْنَ] بمسارعتهم في الصالحات وتحليهم بالصبر.
الثاني : لا دليل على وجود مرتبة أفراد بين الناس إسمها (الأعلى ) وقد ورد هذا الاسم في ذم فرعون وبيان غروره وطغيانه ،كما ورد في التنزيل [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( ) وصحيح أن الآية أعلاه ذكرت الأعلى صفة لإدعاء الربوبية ولكنه لا يمنع من قبح إدعائه العلو بلحاظ كفره وسوء العاقبة والعذاب الأليم الذي نزل به .
الثالث : نطلق صفة الأعلى في القرآن والحديث النبوي على الله عز وجل وحده ، فهو الذي تقر له الخلائق بالربوبية المطلقة إذ جعلها كلها محتاجة له مع تسليمها بتنزهه عن تشبه الخلائق به وقصورها عن هذه المرتبة على نحو التأييد قال تعالى [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] ( ).
الرابع : من أسباب وعلل نيل المسلمين مرتبة الأعلون خضوعهم وخشوعهم لله عز وجل وتطا منهم اليومي لمقام الربوبية وتعفير وجوههم وجباههم بالأرض طاعة له سبحانه وكان أداء الصلاة باركانها وأجزائها شرطاً في دخول الإسلام .
ومن الآيات أن السجود في الصلاة جامع للركنية والشرطية من الأول السجدتان معاً في الركعة الواحدة فتركها عمداً يوجب الإعادة وكذا ترك أحدهما عمداً ، أما ترك إحدهما سهواً فهو واجب غير ركني ولا يوجب إعادة الصلاة ويلزم سجدتي السهو.
وفي السنة التاسعة للهجرة قدم وفد ثقيف إلى المدينة بعد أن أدركوا ضرر الحصار الذي نصبته القبائل العربية لهم ، ونهب أموالهم إذ أصروا على الجحود بالنبوة والتنزيل [فأرسلوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، والحكم بن عمرو بن وهب، وشرحبيل بن غيلان، وهؤلاء من الأحلاف، وأرسلوا من بني مالك عثمان بن أبي العاص، وأوس بن عوف، ونمير بن خرشة، فخرجوا حتى قدموا على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزلهم في قبة في المسجد، فكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي بينهم وبين النبي، صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يرسل إليهم ما يأكلونه مع خالد، وكانوا لا يأكلون طعاماً حتى يأكل خالد منه، حتى أسلموا وكان فيما سألوا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يدع الطاغية، وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم، وكان قصدهم بذلك أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم، فنزلوا إلى شهر فلم يجبهم. وسألوه أن يعفيهم من الصلاة فقال: لا خير في دين لا صلاة فيه، فأجابوا وأسلموا. وأمر عليهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عثمان بن أبي العاص، وكان أصغرهم، لما رأى من حرصه على الإسلام والتفقه في الدين. ثم رجعوا إلى بلادهم، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب ليهدما الطاغية، فتقدم المغيرة فهدمها، وقام قومه من بني شعيب دونه خوفاً أن يرمى بسهم، وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها، وأخذ حليها ومالها] ( ).
الخامس : من معاني العلو في آية السياق رجحان كفة المسلمين على الكفار بصيغة الإيمان وما يترشح عنها من خصال حميدة منها :
الأولى : حسن التوكل على الله ، قال تعالى [وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ).
الثانية: إتيان الفرائض والعبادات بقصد القربة إلى الله عز وجل .
الثالثة : الصبر في جنب الله وتحمل الأذى من الكفار في دعوتهم النجاة بأنفسهم من براثن الكفر التي تسوقهم صاغرين إلى النار .
الرابعة : دخول المعركة دفاعاً عن الإسلام ، وإرادة إزاحة مفاهيم الكفر عن النفوس والمجتمعات .
الخامسة : إتخاذ النصر وسيلة لتثبيت مبادئ الإسلام ، وبناء صرح أحكامه، وهو الذي يتجلى بصيغة الشرط في آية السياق ، وتقدير الآية :وأنتم الأعلون إن تقيدتم بأحكام الحلال والحرام .
السادسة :إظهار المسلمين التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القلب واللسان ، ومبادرتهم للإمتثال لقوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
السابعة : تعاون وتعاضد المسلمين لنيل وتعاهد مرتبة [الأَعْلَوْنَ] والمحافظة عليها .
السادس : بلوغ المسلمين مرتبة التقوى والخشية من الله في السر والعلانية ويتجلى بأدائهم الفرائض والسنن على نحو العموم الإستغراقي ويكون وفق القياس الأقتراني :
الكبرى : المتقون هم الأعلون .
الصغرى : المؤمنون هم المتقون .
النتيجة : المؤمنون هم الأعلون .
السابع : يؤدي المؤمنون الفرائض والعبادات التي توصلهم لمنزلة [الأَعْلَوْنَ] بعرض واحد ، وهو لا يتعارض مع التسابق في الخيرات قال تعالى [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ] ( ) ولهذا التنافس والتسابق ومعنى وغاية ولا تصل النوبة إلى بلوغ احدهم مرتبة الأعلى بل تكون مساهمة كل واحد من المسلمين في هذا التسابق لإرتقائهم جميعاً لمرتبة الأعلون لأنها أمر وجودي بسيط لا يقبل التفكيك إلى الإفراد والتثنية، فيكون الأكثر والأقل منهما في فعل الخيرات سبباً لنيل الأمة درجة الأعلون من غير أن يتعارض مع التمايز الرتبي بينهم.
الثامن : ينال المسلمون منزلة [الأَعْلَوْنَ] بتعاضدهم في عمل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
التاسع : جاءت صفة الأعلون لجهاد المسلمين في سبيل الله وتآزرهم وتعاونهم في القتال ومقدماته ، إذ يدخلون المعركة أمة واحدة والجامع المشترك هو الإيمان .
العاشر : هل يصدق أن يقال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الأعلى من البشر فهو سيد الأنام وخاتم النبيين وإمام المتقين، وإفادة التقييد أعلاه من البشر لإرادة إتصافه بالكمالات الإنسانية ،الأولى تركه وورد هذا الوصف لعيسى في بعض كتب أهل الكتاب إذ وردت صفات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبين أنه سمو منزلته بين الأنبياء والناس جميعاً [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ – آدم فمن سواه – إلا تحت لوائي ، وأنا أوّل من تَنْشَقُّ عنه الأرض ولا فخر . . . فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم عليه السلام فيقولون : أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك . فيقول : إني أذنبت ذنباً أهبطت منه إلى الأرض ، ولكن ائتوا نوحاً . فيأتون نوحاً فيقول : إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم . فيأتون إبراهيم فيقول : ائتوا موسى . فيأتون موسى عليه الصلاة والسلام فيقول : إني قتلت نفساً ، ولكن ائتوا عيسى . فيأتون عيسى عليه السلام فيقول : إني عُبِدْتُ من دون الله ، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم . فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها ، فيقال : من هذا؟ فأقول : محمد . فيفتحون لي ويقولون : مرحباً . فأخرّ ساجداً فيلهمني الله عز وجل من الثناء والحمد والمجد ، فيقال : ارفع رأسك . . . سل تُعْطَ ، واشفع تُشَفّعْ ، وقل يسمع لقولك . فهو المقام المحمود الذي قال الله : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}( )]( )
المسألة الثانية : ( )، يحتمل جمع صيغة الخطاب في آية السياق والبحث وجوهاً:
الأول : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وأنتم الأعلون .
وإرادة اللبث في الجنة ومقامات أهلها حسب درجات الإيمان أي أن أهل الجنة على مراتب والذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وقد جعل الله عز وجل الجنان ثمانية ، فهل المسلمون هم الأعلون من بين أهل الجنة لمسارعتهم في الإيمان بالله ورسوله وجاهدهم وصبرهم في سبيل الله ، الجواب تتغش صفة الأعلون جميع أصحاب الجنان بفضل الله ،ولا دليل على إختصاص أهل ملة واحدة بجنة معينة .
الثاني : القدر المتيقن من [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ] ( )هو حال طرق باب الجنة وأول دخولها كما في قوله تعالى [سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا] ويكون تقدير الآية أ علاه ،( إدخلوها وأنتم الأعلون طبتم ) ( ).
الثالث : لا ملازمة بين نيل المسلمين مرتبة الأعلون وبين دخولهم الجنة ، بتقريب أنهم ينالون هذه المرتبة كأمة تتصف بالتقوى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أما دخول الجنة فهو حكم إفرادي ، يحضر كل مكلف ومعه أعماله التي فعلها في الحياة الدنيا، قال تعالى[كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ]( ).
الرابع : التساوي والإنطباق بين صفة الأعلون والفوز بمرتبة دخول الجنة من المسلمين والموحدين من أهل الملل السابقة ، فكل الذين يدخلون الجنة يستحقون درجة الأعلون في الآخرة ، لتكون هذه الدرجة ثواباً لهم وجزاء على حسن سمتهم وتكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين يدخلون الجنة هم الأعلون .
الصغرى : المؤمنون يدخلون الجنة .
النتيجة : المؤمنون هم الأعلون .
الخامس : من خصائص المسلمين أنهم فازوا بمرتبة الأعلون في الحياة الدنيا كما تدل عليه آية السياق ، ليكونوا من أهل الجنة الذين يمشون على الأرض ويعيشون بين الناس ولكن يمتازون عنهم بحمل علامة دخول الجنة ليكونوا أسوة حسنة للناس، ويكون تحليهم بعدم الوهن والحزن فيما يصيبهم في سبيل الله دعوة لدخول الإسلام ، وحجة في الدعوة إلى الله عز وجل [عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ قَالَ قُلْنَا وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ] ( ).
السادس : لما قيدت آية السياق نيل مرتبة الأعلون بصيغة الإيمان أخبرت آية البحث عن دخول المسلمين الجنة ،وفيه شاهد على الإنتفاع الأمثل من مرتبة الأعلون كتسمية مباركة وصبغة وسمة يراها الملائكة ليقودوا أصحابها من الموحدين إلى الجنة بعملهم الصالحات ويدخل المسلمون بذات الصبغة والتزكية مع إنفرادهم بمرتبة الأعلون في الدنيا. فقد يدخل أتباع نبي من الأنبياء السابقين الجنة وكانوا في الدنيا مستضعفين ولم يبلغوا درجة الجهاد في سبيل الله ويدخل آخرون منهم الجنة مع تلبسهم بمراتب أقل من الصبر في طاعة الله ولم يحاربوا الكفار ، بل إختصوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم .
فأخبرت آية السياق أن المسلمين هم الأعلون من بين الموحدين في الدنيا ، أي لو أجريت دراسة مقارنة بين خصال أجيال الموحدين المتعاقبة في الأرض لكان المسلمون هم الأعلون في الصلاح والجهاد في سبيل الله بدليل بعث هذه الآيات لهم للتنزه عن الوهن والحزن في ملاقاة الأعداء وتحقق مصداق السلامة منه في معارك الإسلام الأولى، ليستحقوا دخول الجنة بذات المرتبة التي هي رشحة عن جهادهم وصبرهم في مرضاة الله.
صلة [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] بهذه الآية
وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وأنتم الأعلون، وفيه نكتة وهي لا يدخل أهل الجنة لها إلا بفضل ولطف من عند الله، [وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة”. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: “ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل] ( ).
الثاني : يعلم الله الذين جاهدوا منكم وأنتم الأعلون .
الثالث : يعلم الله الصابرين وأنتم الأعلون .
الثانية : يفيد الجمع بين الآيتين حقيقة وهي أن دخول الجنة في الآخرة ليس بالأمر السهل ذي الطريق المعبد فاذا كانت الأمة التي جعلها الله عز وجل [ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )وشهد لهم بأنهم الأعلون، وبدخولهم الجنة بعلم الله بالمجاهدين والصابرين منهم في جنب الله، فكيف تكون حال الأمم الأخرى ، لتكون آية البحث مدرسة في التفقه في علوم الآخرة بما يقود الفرد والجماعة إلى السبيل القويم للنجاة من أهوالها.
لذا تفضل الله عز وجل على المسلمين وأمرهم بأن يضجوا إليه عدة مرات في اليوم بقوله [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ]( ) أي منهاج الذين جاهدوا وصبروا في ذات الله ، فاحرزوا دخول الجنة .
الثالث : قد يتبادر إلى الذهن أن الذين وصفهم الله في القرآن بأنهم [الأَعْلَوْنَ] يدخلون الجنة على نحو التأثير بلحاظ قاعدة وهي لزوم وجود أهل للجنة، وأمة تدخل لها، وأن[الأَعْلَوْنَ] يدخلونها قبل غيرهم من باب الأولوية القطعية فجاءت آية البحث بعد الشهادة للمسلمين بانهم [الأَعْلَوْنَ] بآيتين وفيه مسائل :
الأولى : المنع من التهاون والتفريط في فعل الصالحات .
الثانية : بيان شرائط دخول الجنة التي تتغشى الناس جميعاً ومنهم الأعلون .
الثالثة : تقوم مرتبة الأعلون ودخول الجنة بالجهاد والصبر في جنب الله .
الرابعة : يمكن القول بإفادة الجمع بين الآيتين البشارة للمسلمين بأن آية السياق تأكيد لفوز المسلمين بمرتبة الجهاد والصبر في سبيل الله فلما ورد قوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ]( )جاءت آية السياق للإخبار بأن المسلمين هم الأعلون ولم ينالوا هذه المرتبة إلى بأمرين :
الأول : الجهاد في سبيل الله عز وجل .
الثاني :الصبر في جنب الله، والقدر المتيقن من آية السياق هو العلو
بالتقوى والصلاح ، وهما شرط لدخول الجنة لذا أختتمت آية السياق بصيغة الجملة الشرطية [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
الخامسة : صيرورة صفة [الأَعْلَوْنَ] التي نالها المسلمون طريقاً للتحلي بشرائط دخول الجنة، من غير تعارض بين أمور:
الأول : مرتبة الأعلون طريق ومقدمة لدخول الجنة.
الثاني : نيل مرتبة الأعلون من الدلائل على تحقق جهاد المسلمين وصبرهم في جنب الله عز وجل.
الثالث : بلوغ المسلمين مرتبة [الأَعْلَوْنَ] رشحة من رشحات جهادهم وصبرهم في منازل الإيمان، ويكون تقدير الآية: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وانتم الأعلون ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) وفيه حجة على الأمم الأخرى ، ودعوة لهم للسعي لدخول الجنة بشرطه وشروطه، ويكون الجمع بين الآيتين وفق القياس الإقتراني على وجوه منها:
الكبرى : الأعلون لا يدخلون الجنة إلا مع الجهاد والصبر .
الصغرى :المسلمون هم الأعلون .
النتيجة : المسلمون لا يدخلون الجنة إلا مع الجهاد والصبر .
ومنها :
الكبرى : الأعلون هم الصابرون المجاهدون في سبيل الله .
الصغرى : المسلمون هم الصابرون المجاهدون في سبيل الله .
النتيجة : المسلمون هم الأعلون .
السادسة : تكون شرائط ومقدمات دخول الجنة بلحاظ آية السياق على وجوه :
الأول : التنزه عن الوهن والضعف في أداء العبادات، وفي الدعوة إلى الله عز وجل .
الثاني : إحتراز المؤمنين من إستحواذ الحزن على نفوسهم ، وظهوره في القرار وعالم الفعل بضعف الهمة ، وإجتناب ملاقاة العدو والميل إلى حياة الدعة، كما في قوله تعالى [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
ليفيد بلحاظ آية السياق أن النهي ليس عن الدعوة إلى الصلح بالذات بدليل الإطلاق في قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( )، ولكن النهي عن اللجوء إلى الهدنة التي تتضمن التنازل وما يفيد التفريط بالحقوق التي يستحقها الأعلون.
الثاني : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة بلوغ مقامات العلو بين الناس .
الرابع : تعاهد المسلمين لمراتب العلو بالصلاح والإصلاح والإمتثال لقوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الخامس : سلامة المسلمين من الفشل والجبن عند ملاقاة العدو لدلالة قوله تعالى [وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا]( )على لزوم الإخلاص في الدفاع عن الإسلام، وعدم التخاذل.
السادس : المدد من عند الله، والدعاء للإحتراز والوقاية من الجبن والخور ، وهل يخدش بجهاد المسلمين الهّم بالإنسحاب وترك القتال ، كما في قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( )، الجواب لا، لأن المدار على عالم الفعل ولفضل الله بالعفو عن خطرات القلب.
السابعة : تجلي صيغة العموم في أمرين :
الأول : مرتبة الأعلون التي تذكرها آية السياق بصيغة الخطاب للمسلمين .
الثاني : مرتبة الأعلون كلي طبيعي يتغشى المسلمين من الله.
وهل تشمل المرتبة المسلمات ،فيه وجوه :
الأول : إشتراك المسلمين والمسلمات بذات مرتبة الأعلون بعرض واحد .
الثاني : القدر المتيقن من الآية إرادة الرجاء من المؤمنين الذين تنهاهم آية السياق عن الوهن والضعف في ميادين القتال ، وعن الحزن مما لحقهم من الخسارة .
الثالث : الحاق المسلمات بالمسلمين في مرتبة الأعلون بالتبعية، والصحيح هو الأول ، فالآية معطوفة على قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( ). والنهي عن الربا شامل للنساء والرجال بعرض واحد خاصة وأن من النساء من تزاول التجارة والبيع والشراء فان قلت قد ذكرت الآية الجهاد وهو ساقط عن النساء ، قال تعالى [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ] ( ).
والجواب المدار على صيغة الخطاب وهي عامة للمسلمين والمسلمات وقد ذكرت الآية الجهاد بصيغة التبعيض [الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ]( ) فيدخل المسلم في المشرق الجنة بجهاد أخيه المسلم في المغرب، فمن باب الأولوية القطعية أن تدخل البنت بجهاد أبيها والأم بجهاد إبنها، والزوجة بجهاد، زوجها والأخت بجهاد أخيها، قال تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
الشعبة الثانية ( ): صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية، وفيها وجوه:
الأول : صلة هذه الآية بالآية التالية[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( )، وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه.
الثاني : ولقد كنتم تمنون الموت ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم.
الثالث : ولقد كنتم تمنون الموت ولما يعلم الله الصابرين.
الرابع : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وأنتم تنظرون .
الخامس : ولقد كنتم تمنون الموت ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم .
السادس : ولقد كنتم تمنون الموت ولما يعلم الله الصابرين .
السابع : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم وانتم تنظرون .
الثانية : وردت آية البحث بصيغة الإستفهام الذي يبعث على العمل، وجاءت بعدها آية السياق بلغة الخبر الذي يتضمن الكشف والتوثيق لحال المسلمين عند مواجهة العدو، وفيه إعجاز من نظم الآيات بتعلق المستقبل البعيد بالحاضر القريب وبما يفيد إصلاح المسلمين لعالم الآخرة وحسن الإقامة فيها، إذا إبتدأت بعدها آية السياق بقوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ] وفيه دلالة على موضوعية الفعل في الزمن الماضي بالحال والمستقبل، وذات المعنى تدل عليه آية البحث بالذات لأنها تؤكد بأن الجهاد والصبر طريقان لدخول الجنة.
الثالثة : يفيد الجمع بين الآيتين بيان رحمة الله عز وجل بالمسلمين، فقد تمنوا الموت ولكن الله أمهلهم وصرف عنهم الموت ليتحقق المصداق العملي للجهاد في سبيل الله ، والصبر وتحمل الأذى بلحاظ أن معارك الإسلام جاءت متتالية ، وفي كل مرة يكون الكفار هم الذين يزحفون للهجوم ويطلبون القتال وهم الخاسرون، ويسألون المبارزة ، فوقعت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة .
ومن إعجاز القرآن بخصوص الآيات الزمانية أن شهر رمضان هو الشهر الوحيد الذي ورد ذكره في القرآن بقوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ]( ).
ويحتمل المراد من الهدى في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إرادة القرآن ، وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية .
الثاني : المقصود شهر رمضان وفيوضاته ، وما يترشح عنه من البركات.
الثالث : بيان موضوعية فريضة الصيام ، وهي بذاتها هدى ، ويتفرع عنها الهدى لأنها دعوة للإيمان، ومناسبة للصلاح والتهذيب .
الرابع : المقصود واقعة بدر وإنتصار المسلمين فيها، وهو هدى للناس من جهات :
الأولى : بعث السكينة في نفوس المسلمين ، وتثبيت أقدامهم في منازل الإيمان ، وهو من معاني زيادة الهدى في قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثانية : معركة بدر فيصل بين الحق والباطل ، وبين الهدى والضلالة ، ووقعت في أحد أيام شهر رمضان وقد جعل الله عز وجل له إسماً مستقلاً خاصاً به فاسماه يوم الفرقان ،وفيه وجوه :
الأول : تعيين اسم يوم واقعة بدر في القرآن بقوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
الثاني : إقتران يوم الفرقان بمسائل :
الأولى : نزول آيات القرآن كما في الآية أعلاه .
الثانية : إقتران يوم بدر بنصر المسلمين والظفر المبين بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الثالثة : ورود اسم بدر مرة واحدة في القرآن ليكون توثيقاً سماوياً للواقعة إذ تبين الآية أعلاه أموراً.
الرابعة : بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر هدىً للناس وتأكيد بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وصدق .
الخامسة : معركة بدر هدىً للناس بالملازمة بين النبوة الخاتمة وبين النصر .
السادسة : معركة بدر هدىً للناس بأن كفار قريش في ضلالة .
السابعة: بيان حقيقة بصيرورة المسلمين أقوياء ، وأصابة قريش بالوهن والضعف ، وجميع الناس شرع سواء في النفع من هذه الحقيقة .
الثامنة : من مصاديق الهدى لغة التنبيه والإنذار إلى الأمراء والقادة ورؤساء القبائل بعدم إعانة قريشاً في حربها على الإسلام لذهاب هيبتها، وصيرورتها ضعيفة عاجزة عن منع الزحف والسيل .
التاسعة : صيرورة معركة بدر تأريخاً تعرف به الوقائع بلحاظ تقدمها الزماني أو تأخرها عنه.
عن سعد بن أبي وقاص قال: بعد ما قدم المدينة النبي ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثم حول بعد ذلك قبل المسجد الحرام قبل بدر بشهرين)( ).
ويحتمل قوله تعالى [بِبَدْرٍ]وجوهاً .
وجاءت الباء في [بِبَدْرٍ]للإلصاق وهو أم معانيها التي تصل إلى ثلاثة عشر معنى ، ويحتمل المراد من لفظ [بَدْرٍ]وجوهاً :
الأول : إرادة بئر قريب من موضع أول المعارك التي وقعت بين المسلمين والمشركين ، [وكان الصحابي الحباب بن المنذر بن الجموح بن زيد حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي يكنى أبا عمرو شهد بدراً وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة هكذا قال الواقدي وغيره وكلهم ذكره في البدريين إلا ابن إسحاق في رواية سلمة عنه.
كان يقال له ذو الرأي وهو الذي أشار على رسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل على ماء بدر للقاء القوم قال ابن عباس فنزل جبرائيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الرأي ما أشار به حباب وشهد أحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو القائل يوم السقيفة أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير] ( ).
ومن الآيات أن المسلمين أخذوا لا يسمون أبناءهم بإسمه(بدر) تبركاً وتيمناً لأن ذات الاسم مذكور في القرآن والسنة النبوية وتلمساً لليمن والبركة وتجديداً للصلة بين واقعة نصر الإسلام والأجيال اللاحقة من المسلمين.
وكان عمر الحباب يؤمئذ ثلاثاً وثلاثين سنة .
الثاني : عائدية اسم بدر في الآية إلى اسم سوق في ذات الموضوع كان العرب يقيمونه مرة في السنة .
الثالث :المقصود اسم المعركة وتقدير الآية (ولقد نصركم الله بمعركة بدر وأنتم أذلة ).
والصحيح هو الأخير ، ولا يخدش بذات المعنى تسمية الموضع بالأصل والأظهر أنه نسبة للبئر وتسمية السوق مأخوذة من اسم البئر لموضوعية البئر في تلك الأزمنة ، وورود الناس إليه لشرب الماء وشرب الدواب منه في السفر والإقامة أياماً في السوق لتبعث التسمية السكينة في نفوس الذين يرجون السوق وإن كانت مسألة السوق بذات الموضع تستلزم التحقيق إذ ليس من مدينة وحاضرة قريبة منه.
وكان رجل أسمه بدر من غفار من بني النار هو الذي حفر هذه البئر، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يرى جثة إنسان ميت يأمر بدفنه ولا يتركه ورائحته تؤذي الناس سواء كان مؤمناً أو كافراً، وأمر بالقاء قتلى المشركين في قليب بدر ولأن بدر الذي حفر البئر من بني النار وكأنها أمارة لسوء عاقبة الكفار .
الثالث : بيان عظيم قدرة الله وأن مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه ، وهو الذي يجعل التغيير والإنقلاب في أحوال الناس يقع في يوم واحد وساعة من نهار هي مقدار واقعة بدر ،إذ برز ثلاثة من المشركين هم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة ، وإبنه الوليد بن عتبة فطلبوا المبارزة في وقت أمر فيه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن لا يبدأوا القتال ، وتلك آية مشرفة في تأريخ الإسلام ، ووثيقة دامغة بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف من جهات :
الأولى : إتصاف نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى الله بالبينة والبرهان .
الثانية : إتخاذ نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة السرية إلى الله عز وجل ، لتكون الحجة لله عز وجل على مشركي قريش ، فمع أن الأرض والسماوات ملك لله عز وجل وأنه تعالى بعث النبي محمداً لدعوة الناس لعبادته إستكبرت قريش وأظهرت الجحود والطغيان، قال تعالى[الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ]( )، ومن إعجاز القرآن أن السور الملكية تتصف بصبغة الإنذار والوعيد والتخويف لزجر قريش عن الإصرار على الكفر.
الثالثة : كأن زحف المشركين إلى معركة بدر إستدراج لهم للبطش بهم بقلة من الجنود مستضعفين ليكون من معاني قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )، أمور:
الأول : تبكيت كفار قريش.
الثاني : تجلي معاني خزي المشركين ، وبعث القبائل والناس للنفرة منهم في أمور العقيدة والتجارة والمعاملات ليكون من معاني قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ) تذكير قريش بنعمة التجارة وإكرام أهل الشام وفارس لهم ، وإجتناب القبائل نهب قوافلهم وفتور وزوال هذا كله بمحاربتهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو قانون دائم في الأرض بأن من يحارب الأنبياء وأتباعهم يلقى الخزي العاجل في الدنيا ليتعض الناس وورد قوله تعالى [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] ( ).
فكذا بخصوص التشبيه في هذا الموضوع فمن باب الأولوية القطعية أن الذي يحارب النبوة والتنزيل وأهل الإيمان يلاقي الضراء وقلة الأموال ويرمى بالقحط والجفاف وركود الأسواق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( )وفيه مددً للمسلمين في جهادهم وصبرهم ، وعون لهم للسير والإسراء الحثيث نحو دار النعيم [عن عكرمة مولى ابن عباس قال قال ابو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنت غلاما للعباس بن عبدالمطلب وكان الاسلام قد دخلنا اهل البيت فأسلم العباس واسلمت ام الفضل واسلمت انا وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم فكان يكتم اسلامه وكان ذا مال فلما جاء الخبر عن مصاب قريش ببدر وكنت رجلا ضعيفا اعمل الاقداح ( ) انحتها في حجرة زمزم .
فوالله انى لجالس فيها انحت اقداحي وعندي ام الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذ اقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهرى فبينا هو جالس إذ قدم أبو سفيان بن الحرث فقال أبو لهب هلم إلى فعندك الخبر فقال والله ما هو الا ان لقينا القوم فمنحناهم اكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والارض والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شئ.
قال ابو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدى ثم قلت ذلك والله الملائكة قال فرفع أبو لهب يده فضرب وجهى ضربة شديدة قال وثاورته فاحتملني فضرب بى الارض ثم برك على يضربني فقامت ام الفضل إلى عمود فضربته به ضربة فلغت في رأسه شجة منكرة وقالت استضعفته ان غاب عنه سيده فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش الا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته.
قال ابن اسحق في رواية يونس بن بكير عنه انهم لم يحفروا له ولكن اسندوه إلى حائطوقذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط حتى واروه.
وذكر محمد بن جرير الطبري في تاريخه ان العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها ويرون انها تعدى اشد العدوى فلما اصابت ابا لهب تباعد عنه بنوه وبقى بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه] ( ).
الثالث : إنذار قريش والمشركين عامة بالكف عن الظلم والتعدي والجحود ، ليكون الإنذار المترشح عن نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وتتضمن الآية في مفهومها الخطاب للمشركين بالذم والفضح والخذلان بأمر من عند الله ويمكن تقدير الآية : ايها الكفار لقد هزمكم الله ببدر وأنتم أقوياء .
لتكون نتيجة المعارك التالية هزيمتهم من باب الأولوية القطعية ، وهو من إعجاز القرآن ولغة الإنذار فيه ومصاديق رأفة الله عز وجل بقريش وأهل مكة والإخبار بنصر الإسلام في المعارك اللاحقة ، ولكن المشركين لم يكتفوا بالإصرار على الشرك بل اعادوا الكرة بالهجوم على المسلمين.
الرابع : تذكير قريش وغيرهم بوجوب عبادة الله ، فهو سبحانه الذي ينصر المؤمنين بالمعجزة .
وفيه بلحاظ آية البحث مسألتان :
الأولى : بيان مصداق لجهاد المسلمين بقوله تعالى [وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ] ( ).
الثانية : الإخبار عن شاهد يدل على صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في ميدان المعركة ومع موضوعية المباغتة في حسم سير المعركة فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يؤدب المسلمين على التنزه عنها صبراً وإحتساباً ، ولأن الله عز وجل يتفضل على المسلمين بالنصر ، فمع وجود المقتضي للصبر وفقد المانع منه تقيد أهل البيت والصحابة ولم يرموا سهماً ولم يشهروا سيفاً وانتظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى إجتناب القتال التي كانت تحصل في معسكر المشركين ولكن أبا جهل أصر على رفضها ، مع علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتحقيق المسلمين النصر ، إذ سبقت البشارات بالظفر في المعركة .
وعندما جاءت قريش بجيش عظيم إلى المدينة إستشار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه ، وأولى الأنصار عناية خاصة وأحب الإستماع لقولهم لأنهم تعهدوا بالذب عنه في المدينة وبايعوه على نصره إذا هاجمه عدو في المدينة ولم يبايعوه على الخروج منها لقتال عدو ، فتكلم سعد بن معاذ وأظهر السمع والطاعة ، وأعلن نصرة الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه لقتال العدو فاستبشر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال [سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم] ( ).
ولو لم تقع معركة بدر وحصل الصلح والتصالح فيها أو إنسحب المشركون من غير قتال فهل يسمى هذا اليوم يوم الفرقان ، وهل يصدق أنه يوم جهاد وصبر للمسلمين ، الجواب نعم ، إذ أنه كان مناسبة لبيان أهلية المسلمين كأمة لملاقاة العدو .
ويطرد خروج المهاجرين والأنصار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوهم بأن إسلامهم يقف عند حدود التصديق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأداء الفرائض والعبادات .
الرابع : يوم بدر هو يوم الفرقان بين الإيمان والكفر إذ تقابل الفريقان في الميدان بالسيوف والرماح والنبال ، وبينما كانت قريش تؤذي الذين أسلموا وتعذبهم أشد العذاب وهم في مكة ، فروا بدينهم وحضروا يوم بدر أعزة مدججين بالسلاح ولم يبادروا إلى الثأر والإنتقام ممن آذوهم في مكة مثل أمية بن خلف وأبي جهل ، نعم لم يعفوا ، ولكنهم أظهروا الصبر المقترن بالإستعداد للقتال وهذا الإستعداد من مصاديق الجهاد في قوله تعالى [وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ]( ).
الخامس :لما وردت آية البحث بتعليق دخول المسلمين الجنة على الجهاد والصبر في جنب الله ، كان يوم الفرقان مصداقاً حاضراً للأمرين معاً ، فهو جهاد في سبيل الله ، صبر في طاعة الله عز وجل ، وهو من مصاديق الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخاصة بالمسلمين ، والعامة للناس جميعاً .
السادس : تبين واقعة بدر قانوناً من رحمة الله عز وجل بأن يتفضل بكتابة شرط متعدد للإقامة في النعيم الدائم ، ثم يأتي أحد الأيام ليكون مصداقاً لهذا الشروط .
ومن معاني الفرقان : التمييز بين الأيام السابقة ليوم بدر في حياة المسلمين ، والأيام اللاحقة لها ، ومنها أنهم أسحقوا دخول الجنة بتحصيل شرطي الجهاد والصبر اللذين تذكرهما آية البحث في يوم واحد،
[ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنى لارجو أن لا يدخل النار من شهد بدرا إن شاء الله] ( ).
وحلّ يوم احد على المسلمين ليكون سبباً لدخولهم الجنة ومصداقاً للشرط المتعدد الذي يعلق عليه دخولها ، فليس من مشروط في تأريخ الإنسانية مثل الجنة ودخولها ، ومن الرحمة إستيفاء المسلمين لشرطه في ساعة من نهار ، بذلوا فيها الوسع وأظهروا أعلى مراتب الإخلاص في طاعة الله وأعطوا للناس درساً في التفاني والفداء لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصاروا نبراساً لأجيال المسلمين المتعاقبة في تحصيل شرط دخول الجنة ، وحجة في إستحقاق المسلمين بلوغ مرتبة الأهلية للفوز باللبث فيها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
المسألة الثالثة : لما أخبرت آية البحث عن تعليق دخول المسلمين الجنة بعلم الله عز وجل بالمجاهدين والصابرين منهم جاءت آية السياق متعقبة لها لتتضمن المندوحة والسعة ومدّ أعمار المسلمين لتحقق مصداق الجهاد والصبر لهم مجتمعين ومتفرقين ، ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال [عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا يتمنين أحدكم الموت لضُرٍّ نزل به، فإن كان لا بدّ متمنيا الموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي]( ) ويدل قوله صلى الله عليه وآله وسلم[فإن كان لا بدّ] إي قد يشتاق المؤمن للقاء الله ، وأنه يصاب بابتلاء شديد مصاحب أو غيره فيفوض أمره إلى الله عز وجل بما ينتفع معه بالإقتراب من الجنة والدعاء اعلاه من مصاديق الصبر ومواجهه إبتلاءات الدنيا بالدعاء ورجاء الأجر والثواب ، لتكون إستدامة الحياة بالنسبة للمسلم والمسلمة مناسبة للجهاد والصبر.
المسألة الرابعة : إتحاد صيغة الخطاب في الآيتين ، وكل فرد منهما موجه إلى المسلمين والمسلمات ، وفيه دعوة للمسلمين للإنصات للقرآن، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( ) ليكون من منافع قراءة القرآن والإستماع لآياته بلحاظ آية البحث والسياق أمور :
الأول : التدبر في معاني ودلالات الآية القرآنية .
الثاني : تلقي الخطاب القرآني بالقبول والرضا والشكر لله عز وجل فكل آية قرآنية نعمة عظيمة على المسلمين والناس جميعاً .
الثالث : إستحضار نعيم الجنة عند ذكر الموت أو قبض قريب ، وهذا الإستحضار نعمة فاز بها المسلمون لتبعث الشوق في نفوسهم للإستماع للقرآن ، ليكون من إعجاز القرآن في المقام أمور :
الأول : تفضل الله عز وجل بالأمر بالإنصات والإصغاء للقرآن عند تلاوته لأنه خير محض ونفع متجدد.
الثاني : جعل قدسية خاصة لأداء الصلاة وتأديب الذي يرى مصلياً قائماً بين يدي الله بالإنصات لقراءته وإكرامه ، وعدم إيذائه أو إشغاله عن الصلاة ، وكان الذي يؤمر بقتله من المسلمين في الفتن والبلاء يسأل الصلاة ركعتين والسيف شاهر فيؤذن له [ليث بن سعد قال : بلغني أن زيد بن حارثة اكترى من رجل بغلا من الطائف اشترط عليه الكرى أن ينزله حيث شاء . قال : فمال به إلى خربة فقال له : انزل فنزل فإذا في الخربة قتلى كثيرة فلما أراد أن يقتله قال له : دعني أصلي ركعتين قال : صل . فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئا . قال : فلما صليت أتاني ليقتلني : فقلت : يا أرحم الرحمين : فسمع صوتا لا تقتله: فهاب ذلك فخرج يطلب فلم ير شيئا فرجع إلي فناديت : يا أرحم الراحمين ففعل ذلك ثلاثا فإذا أنا بفارس على فرس في يده حربة حديد في رأسها شعلة من نار فطعنه . بها فأنفذه من ظهره فوقع ميتا ثم قال : لي لما دعوت المرة الأولى يا أرحم الراحمين كنت في السماء السابعة فلما دعوت في المرة الثانية يا أرحم الراحمين كنت في السماء الدنيا فلما دعوت في المرة الثالثة يا أرحم الراحمين أتيتك] ( ).
الثاني :جعل نفوس المسلمين تشتاق لآيات القرآن ففي كل مرة يستمعون فيها للقرآن يدركون النفع العظيم منها ومن التدبر في معانيها ، وهو من أسرار الأمر الإلهي للمسلمين للإستماع لآيات القرآن ، فهو طريق لدخولهم الجنة وتأتي آية البحث لتذكرهم كل يوم بالجنة وتبين الطريق المستقيم لها وهو الجهاد في سبيل الله والصبر في طلب مرضاته .
الثالث : إرتقاء المسلمين في مراتب المعرفة الإلهية عند الإستماع لآيات القرآن، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الرابع : تلاوة آيات القرآن والإنصات لها مقدمة لعلم التفسير وشيوعه بين المسلمين .
المسألة الرابعة : يتعلق موضوع آية البحث بأمور الدنيا والآخرة إذ تذكر سعي المسلمين لبلوغ الإقامة الدائمة في الجنة ،بينما ذكرت آية السياق خصوص موضوع الموت وتميني فريق من المسلمين له ، لتكون النسبة بين الآيتين هي العموم والخصوص المطلق موضوعاً وحكماً وأشخاصاً فقد تمنت طائفة من المسلمين لقاء العدو ومقاتلته ، ونيل درجة الشهادة في ميدان المعركة .
الخامسة : ذكرت آية السياق كيفية نفسانية وهي تمني طائفة من المسلمين الموت بصيغة الفعل الماضي [وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] بينما ذكرت آية البحث الجهاد في سبيل الله والصبر طاعة لله وهو من عالم الفعل ،وورد بصيغة الإطلاق الزماني في الزمن الماضي والحاضر والمستقبل ، وفيه تأكيد لفضل الله عز وجل على المسلمين بتهيئة أسباب دخول الجنة في كل أنات الزمان ، لتكون الدنيا مزرعة لجني ثمار الجزاء الحسن ،وبلغة لبلوغ منازل السعادة في الجنة والنعيم الدائم.
لقد أبى الله سبحانه إلا أن يجعل أمة مؤمنة في كل زمان تتبع الإنبياء ، وهو من مصاديق ترتب الأثر على الآية القرآنية مطلقاً فلما جاء قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( )تفضل الله عز وجل وجعل في كل زمان أمة تتوارث تلقي هذه البشارات والإنذارات فان قلت إن حديث الرفع يشمل المقام فمن الناس من لا يعلم من تلك البشارات والإنذارات .
الجواب تفضل الله عز وجل بنزول وحفظ وسلامة القرآن من التحريف ، وفيه تلك البشارات والإنذارات بما يستطيع الناس مع إختلاف مداركهم النهل والإنتفاع منها ، وقد تولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصها أموراً :
الأول : العمل بذات نهج الأنبياء ودعوة قومه والناس جميعاً لعبادة الله عز وجل وعدم إتخاذ الشريك .
الثاني : دعوة الناس للإسلام والتصديق بالأنبياء السابقين طوعاً وقهراً .
الثالث : تجلي هدى الأنبياء بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليدل قوله تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( )أي بهدى وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إقتدوا أيها المسلمون بل أيها الناس وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )ويحتمل تلقي المسلمين لسنة الأنبياء وجوها :
الأول : بواسطة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرآة لسنن الأنبياء .
الثالث : الإقتداء بذات سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : هداية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعمل بسنة الأنبياء ،وتكون هذه الآية على وجوه:
الأول : السنة النبوية القولية : ولقد إجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببيان سنن الأنبياء، وجهادهم في سبيل الله، وهو علم خاص يستلزم تأليف مجلدات ورسائل علمية بخصوصه.
الثاني : السنة النبوية الفعلية التي تبين بالفعل والعمل سنن الأنبياء ومحاكاتهم.
الثالث : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآيات التي تتضمن قصص الأنبياء.
الرابع : بيان وتفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآيات الخاصة، بقصص الأنبياء وجهادهم وصبرهم في سبيل الله، وتحلي شطر من الأمة بالصبر.
الخامس: الإستدلال بقصص الأنبياء، وبيان الصلة ووجوه الشبه بين سنة الأنبياء وإخلاص بعض الصحابة وأهل البيت ليكون مصداقاً لمحاكاة المسلمين للأنبياء.
إيمان خديجة
كانت خديجة زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتاجر في مالها، قبل الزواج لتصبح هذه التجارة سبباً في أمور مباركة منها :
الأول : تجلي أمانة وصدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : الزواج الميمون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خديجة وهي أول زوجاته ، ولم يتزوج عليها في حياتها.
الثالث : ظهور البركة في تجارة ومضاربة النبي وتصريف تجارته قبل غيره من التجار مع الربح الوفير الذي يأتي به إلى خديجة بأمانة ظاهرة.
الرابع : معرفة علامات النبوة التي تصاحب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حله وترحاله ،وإحاطة شطر من علماء أهل الكتاب باطلالة زمان خاتم النبيين .
الخامس : الإنتفاع الأمثل من مال خديجة في نشر مبادئ الإسلام ، وبيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والأصل في مال التجارة النماء والزيادة ، ولما كانت بركات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرة في نماء مال خديجة فلا بد أن تظهر كثرته في الجنس والعروض والنقد ولكن الذي حصل هو تسخير هذه الأموال في سبيل الله فكان النماء والبركة في دخول الناس الإسلام ، وتعظيمهم لشعائر الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ).
السادس : من بركات تجارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمال خديجة أنها بادرت إلى التصديق بنبوته ، فكانت رائدة للرجال والنساء في دخول الإسلام ، فحالما أخبرها عن الوحي ونزول جبرئيل عليه أعلنت عن تصديقه وأظهرت إتباعه بالقول والفعل ومواجهة كفار قريش مع أنها امرأة ، وقامت بأداء العبادات التي جاء بها من عند الله عز وجل [حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد قال سلمة حدثنى محمد بن اسحاق عن يحيى ابن أبى الأشعث قال أبو جعفر وهو في موضع آخر من كتابي عن يحيى بن الاشعث عن اسماعيل بن اياس بن عفيف الكندى وكان عفيف أخا الأشعث بن قيس الكندى لامه وكان ابن عمه عن أبيه عن جده عفيف قال كان العباس بن عبد المطلب لي صديقا وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر فيبيعه أيام الموسم.
فبينا أنا عند العباس بن عبد المطلب بمنى فاتاه رجل مجتمع فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم قام يصلي فخرجت امرأة فتوضأت وقامت تصلى ثم خرج غلام قد راهق فتوضأ ثم قام إلى جنبه يصلي فقلت ويحك يا عباس ما هذا قال هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله بعثه رسولا وهذا ابن أخى علي بن أبى طالب قد تابعه على دينه وهذه امرأته خديجة ابنة خويلد قد تابعته على دينه قال عفيف بعد ما أسلم ورسخ الاسلام في قلبه يا ليتنى كنت رابعا ] ( ).
وفي هذا الخبر مسائل :
الأولى : أداء خديجة الصلاة في البيت الحرام بمرأى ومسمع من كفار قريش ، وعدم خشيتها أذاهم .
الثانية : إكتفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخديجة رضي الله عنها وعلي عليه السلام في إظهار الدعوة الإسلامية وفيه شاهد بأن ظهور الدعوة لم يكن بخروج الصحابة من دار ابن الأرقم عندما بلغوا أربعين رجلاً إلا أن يراد معنى الإجهار باسلام الصحابة والتحدي الجمعي ، وعدم خشيتهم من قريش ، وقد أظهرت خديجة وعلي الإسلام وأداء الصلاة قبلها .
الثالثة : لم تكن صلاة خديجة وعلي عليه السلام خلف النبي محاكاة وأداء الفعل عبادي فقط بل كانت إعلاناً بالتسليم بنبوته ، وأن الصلاة مظهر وعنوان هذه النبوة وفعلها هذا مصداق للجهاد والصبر المذكورين في آية البحث ،إذ كان تعريضاً للنفس للقتل كما تجلت نوايا ومكر قريش ليلة مبيت الإمام عليه السلام في فراش النبي .
الرابعة : البيان العملي لقانون وهو أن الناس مأمورون بالصلاة طاعة وعبادة لله عز وجل ، وفيه حرب على الضلالة وعبادة الأصنام .
الخامسة : يدل إيمان خديجة وسرعة تصديقها بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقوفها خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة في البيت الحرام على شمول النساء بلفظ الجهاد ، ويكون تقدير الآية : (ولما يعلم الله اللائي جاهدن منكم ) .
وهل يصح أن يقال : (اللائي جاهدن منكن ) الجواب لا ،من وجوه:
الأول : ينفع جهاد المؤمنات المسلمين والمسلمات جميعاً .
الثاني : ليس على المرأة جهاد فان جاهدت فانه شاهد على أن المسلمين هم الأعلون الذين يسعون رجالاً ونساءً إلى دخول الجنة .
الثالث : من الدلائل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إجتهاد المسلمين رجالاً ونساء في طاعة الله وبذلهم النفوس طلباً لرضاه وجهاد المرأة سواء بالمعنى الأخص أو الأعم من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وبعد أن كان العرب يقتلون البنات أحياء خشية الإملاق والفاقة والعار ، صارت النساء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألوية للشهادة وأسوة للرجال .
ولقد بادرت خديجة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبذلت نفسها في سبيل الله وتحملت وأهل البيت أشد أنواع الحصار من قبل قريش في شعب أبي طالب لتذب المؤمنات عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سوح المعارك .
الرابع : يمكن تأسيس قانون للتقدير في منهجية التفسير وهو تخصيصه بقدر البيان والتأويل ، وورد التذكير في قوله تعالى الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ]( ) بعد كلمات الآية الثلاث أعلاه وعلامات :
الأولى : صيغة التذكير في الخطاب، ودلالة ميم التذكير(حسبتم).
الثانية : واو الجماعة للذكر في [جَاهَدُوا].
الثالثة : تذكير التبعيض بدلالة الكاف في [مِنْكُمْ]والأصوب باللغة العربية إلحاق المؤنث بالمذكر في الخطاب وليس العكس ، فيقال القمران الشمس والقمر ، ولا يقال الشمسان.
المراد من المعنى الأخص جهاد المرأة في الدفاع عن الإسلام باليد واللسان أما المعنى الأعم فهو الجهاد في بناء الأسرة وتربية الأبناء ومداراة الزوج ، [وفي حديث عن الإمام عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : إنما تكون الصنيعة إلى ذي دين أو حسب و جهاد الضعفاء الحج و جهاد المرأة حسن التبعل لزوجها ] ( ).
وكانت قريش أهل تجارة ، وهو من بركات البيت الحرام وجوارهم له ، ووفود الحجاج إليه كل عام ، فينشأ القرشي وسط مجتمع تجاري جامع للحضر والأعراب تستحوذ على أيامه معاملات البيع والشراء ، وتستوعب مجالسه مسائل التجارة والربح والمقارنة فيه ، ويتفرع عن العمل بالتجارة السفر للإستيراد أو التصدير وهو الذي كان تخليده في القرآن معجزة عظمى وكشفاً سماوياً يوثق الأحوال العامة التي إنبثقت من رحمها النبوة الخاتمة بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
صلة هذه الآية بقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
وفيه مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم هذا بيان للناس .
الثاني : أحسبتم أن تدخل الجنة ولما يعلم الله الصابرين منكم هذا بيان للناس .
الثالث : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم هذا هدى .
الرابع: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الصابرين منكم هذا هدى .
الخامس : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم هذا موعظة للمتقين .
السادس : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الصابرين منكم هذا موعظة للمتقين .
الثانية : وردت آية السياق بصيغة الجملة الخبرية ، وجاءت آية البحث بلغة البحث بلغة الخطاب وإرادة المسلمين على نحو التعيين .
المسألة الثالثة : آية السياق قانون متعدد من جهات :
الأولى : القرآن بيان وتوضيح وإعلام ، وليس من حصر لضروب البيان في القرآن وتلك آية آعجازية يتجلى فيها اللامتناهي من البيان والإخبار القرآني في أمور الدين والدنيا ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )وإذ تفضل الله عز وجل على آدم عليه السلام وعلًمه الأسماء كلها فانه سبحانه أنعم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لبيان كل شئ مع وراثة ذات الأسماء التي علمها الله عز وجل لآدم ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
ويمكن تسمية آية السياق بأنها (كنز البيان ) فينهل منه المسلمون لتفتح لهم خزائن العلم ، ويحتمل البيان القرآني كبلغة وجوهاً :
الأول : إرادة طلب البيان بذاته وموضوعه .
الثاني : طلب ما يترشح عن البيان القرآني .
الثالث : تسخير البيان القرآني لجلب المصلحة ودفع المفسدة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ، وكل فرد منها يتعلق بآية البحث من وجوه :
الأولى : إختصاص المؤمنين بخطاب التشريف ، وفيه بيان للناس بمصاحبة الإكرام لأهل الإيمان وحجب الخطاب في آية البحث عن الكفار لخروجهم بالتخصيص منه إلا أن آية السياق تفيد حقيقة وهي أن دعوة المسلمين للسعي إلى الجنة بيان للكفار من جهات :
وجود عالم الجزاء ، وهو غير الحياة الدنيا.
الثانية : حاجة الذي يبتغي السعادة في الآخرة إلى الجد والمثابرة في مرضاة الله، وفيه بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : توجه خطاب الترغيب بالجنة في القرآن إلى المسلمين والمسلمات .
الثاني : قيدت آية البحث دخول المسلمين الجنة بشرط الجهاد والصبر.
الثالث : نزلت آية البحث , والمسلمون مستوفون لشرطي دخول الجنة فهم في جهاد مع العدو الكافر ، ويدافعون بصبر عن أنفسهم ودينهم , وفي آية السيف قال تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ).
الرابع: ترغيب الناس جميعاً بالجنة والإقامة فيها بواسطة سعي المسلمين نحو الإقامة في النعيم الدائم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )فالمسلمون خير أمة لأنهم يتخذون من الدنيا مزرعة للآخرة ، وهم يخرجون للناس بآية البحث والبيان القولي والعملي بلزوم السعي إلى الجنة وشرائط دخولها .
الثالثة : عدم كفاية دخول الإسلام كعلة وسبب للثواب العظيم بدخول الجنة ، فلا بد من العمل الصالح والسلامة من الشك والريب ليخرج المنافقون من البشارة بالجنة إذ أنهم أخفوا الكفر وأقاموا عليه فلم ينفعهم إظهارهم الإسلام ونطقهم بالشهادتين ووقوفهم مع المصلين في صلاة الجماعة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترشح مظاهر الشك والريب والجحود في قول وفعل المنافقين من جهات :
الأولى : إختيار المنافقين الإعتذار عن الخروج إلى ميادين الجهاد عند دعوتهم له بأمور لا أصل لها وليست علة تامة للتخلف عن الدفاع عن الإسلام وعن أنفسهم وأعراضهم .
الثانية : تكاسل المنافقين عن الصلاة ، ومن إعجاز القرآن أنه جاء بتوثيق هذه الصفة المذمومة عندهم ، قال تعالى [وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى] ( ).
وتحتمل الآية أعلاه سعة وضيقاً وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص الصلاة لأنها عبادة يومية بدنية ، وهو القدر المتيقن من الآية .
الثاني : المراد العبادات البدنية مطلقاً كالصيام والحج بلحاظ أن الحج عبادة بدنية مالية .
الثالث : المقصود العبادات مطلقاً بدنية كانت أو مالية أو مالية بدنية .
الرابع : المقصود العبادات الظاهرة على نحو التعيين .
الخامس : عكس الوجه أعلاه ،وإرادة العبادات التي بين العبد وربه كما في الصيام [وأخرج أحمد عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله جعل حسنة ابن آدم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أجزي به] ( ).
فيستطيع المكلف أن يتناول المفطر خفية ولا يعلم به أحد من الناس ،ولكن المؤمن يعلم أن الله يراه ، وهو يصوم حباً لله وطاعة له ، فيتفضل الله فيجازيه .
والصحيح هو الثالث ، وجاء ذكر الصلاة على نحو التعيين لوجوه :
الأول : الصلاة ركن العبادات إذ تتقوم بها ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اقامها فقد أقام الدين [عمير الليثي عن أبيه عن جده قال : بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاءه رجل فقال : « يا رسول الله ما الإِيمان؟ قال : الصبر والسماحة . قال : فأي الإِسلام أفضل؟ قال : من سلم المسلمون من لسانه ويده . قال : فأي الهجرة أفضل؟ قال : من هجر السوء . قال : فأي الجهاد أفضل؟ قال : من أهرق دمه وعقر جواده . قال : فأي الصدقة أفضل؟ قال : جهد المقل قال : فأي الصلاة أفضل؟ قال : طول القنوت] ( ).
الثاني : الفضح اليومي المتكرر للمنافقين .
الثالث : من فيوضات نبوه محمد صلى الله عليه وآله وسلم إعانة المسلمين في كشف المنافقين ومعرفتهم بالذات والفعل .
الرابع : بيان موضوعية الصلاة والإخلاص في أدائها في معرفة المؤمنين .
الخامس : نهي المسلمين عن التثاقل في الصلاة .
السادس : الزجر عن التفريط بالصلاة وأوقاتها ، قال تعالى في ذم المنافقين [وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى]( ).
السابع : أداء الصلاة بشرائطها من الصبر الذي يقود المؤمنين إلى الجنة .
الثامن : تأديب المسلمين والمسلمات بأخلاص العبادة ونبذ رياء الناس أو إرادة السمعة .
التاسع : الصلاة أشرف وأفضل الأعمال .
العاشر : دعوة المنافقين للتوبة والإنابة ، وترك النفاق والتوبة منه من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
الحادي عشر : حث المنافقين على التوبة والإنابة ،وتدل الآية في مفهومها بأن من مصاديق التوبة القيام إلى الصلاة بهمة وشوق والحرص على أدائها في أوقاتها.
الثاني عشر : تشريع قانون ثابت إلى يوم القيامة وهو أن المبادرة إلى أداء الصلاة ملاك العدالة ومظهر السلامة من النفاق .
الثالث عشر : أداء الصلاة بسننها وآدابها وأوقاتها من مصاديق الجهاد والصبر في آية البحث ، فاراد الله عز وجل للذين دخلوا الإسلام ونطقوا بالشهادتين الفوز بغاية الإيمان وحسن الخاتمة ، والثواب العظيم .
الرابع عشر : من منافع ذم المنافقين في تكاسلهم عند القيام إلى الصلاة مسائل:
الأولى : حرص المؤمنين على أداء الصلاة في أوقاتها .
الثانية : تنزه وإجتناب المؤمنين لأخلاق النفاق .
الثالثة : بعث المنافقين للذم الذاتي والسعي للتنزه عن النفاق ،لإخبار الآية عن الملازمة بين النفاق والتكاسل عن الصلاة ، وهو من شكر الله عز وجل للذين نطقوا الشهادتين وإن إكتفوا بما يجري على اللسان من الإيمان .
الرابعة : ورد في آية السياق [وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] ( )بينت آية ذم التكاسل في الصلاة أن الله سبحانه يعلم كيفية أداء المسلمين للصلاة وهذه الكيفية وتفاصيلها لها موضوعية في تعيين منازل الإيمان .
الخامسة : ورد في آية السياق [وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ]( ) فيشهد المسلمون على المنافقين بالنفاق والتكاسل عن الصلاة .
وتحتمل النسبة بين النفاق والتكاسل عن الصلاة وجوهاً :
الأول : الملازمة بين النفاق والتكاسل في أداء الصلاة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : النفاق أعم من التكاسل عن الصلاة .
الثانية: التثاقل في الصلاة هو الأعم من النفاق .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
الرابع : نسبة التساوي ،وأن النفاق هو ذاته التكاسل عن الصلاة .
الخامس : التباين بين النفاق والتكاسل في الصلاة ، وهو الذي تنفيه الآية الكريمة .
والصحيح هو الوجه الثاني بشعبتيه وقد يقال بينهما تعارض ، والجواب ليس من تعارض بينهما بلحاظ أن خصال المنافقين أعم من التكاسل في الصلاة ، وأن التكاسل عن أداء الصلاة أمارة إخفاء الكفر بلحاظ أن النفاق إظهار الإيمان مع الإصرار على الكفر والجحود ، فيكون أداء المنافق الصلاة من هذا الإظهار الذي لا أصل له في ذات وقرارة نفس المنافق ليكون من الإعجاز في المقام أن هذا الإظهار ليس تماماً إنما أمر ناقص مفضوح وفيه تأكيد بأن ما يخفيه المنافق يتضح في فعله وأن الناس جميعاً يستطيعون معرفة المنافق بتقصيره في كيفية أداء العبادة وهو من مصاديق ذم المنافقين في قوله تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ] ( ) فمن خداع الله عز وجل لهم فرض الصلاة ومعرفة المسلمين والناس جميعاً بحقيقة رياء وكفر المنافقين عند النداء اليومي للصلاة وأدائهم لها .ويتجلى بالدعوة إلى الجهاد والمبادرة إليها والمسارعة في الخيرات ، واللجوء إلى الإستغفار والتوبة ، لذا تقدمت بضع آيات في وصف المتقين الذين أعدٍّ الله لهم الجنة قوله تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ).
المسألة الرابعة :قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] إنحلالي وهو على وجوه :
الأول : ما بين الدفتين بيان وكشف للناس جميعاً.
الثاني : كل سورة من القرآن هي بيان للناس باجتماع آياتها .
الثالث : كل آيتين متجاورتين من القرآن بيان للناس .
الرابع : كل آية مستقلة هي بيان وتوضيح للناس .
الخامس : كل آيتين وإن تباعدتا بيان للناس .
السادس : كل شطر من آية من آيات القرآن بيان للناس ، فتكون آية السياق بياناً من وجوه :
الأول :هذا بيان ،لأن اسم الإشارة يفيد الحصر والتعيين ليؤكد بأن القرآن تنزيل وعلم وأمر قائم بذاته لا يدخل معه غيره ، ولا يخرج منه شئ.
الثاني : [هَذَا بَيَانٌ] بلحاظ أن القرآن بيان وأمر جلي واضح بذاته،وفيه شاهد على سلامة القرآن.
الثالث : هذا بيان للناس من التحريف.
وهل تفيد اللام في [لِلنَّاسِ]الحصر والإستحقاق وأن القرآن خاص بهم من جهة بيانه ، الجواب لا ، إذ ينتفع الجن من بيان القرآن وما فيه من أحكام الحلال والحرام ، ولما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض جاء قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )ليكون مما إحتج به الله عز وجل على الملائكة رؤيتهم لنزول القرآن وما فيه من البيان ، ومنافعه في إستئصال الفساد في الأرض وإمتناع المؤمنين عن القتل بغير حق ، لذا ورد قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
ليكون القصاص برزخاً دون إشاعة القتل بين الناس إذ يخشى الإنسان قتل أخيه الإنسان فيقتص منه ويضرب عنقه ، فكان حكم القصاص حياة وسلامة لمن ينوي القتل ومن أريد قتله .
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه قال فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التى تربط بها الانبياء .
قال ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام باناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن .
فقال جبريل صلى الله عليه وسلم اخترت الفطرة ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد صلى الله عليه وسلم قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بى ودعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل قيل من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه قال ففتح لنا فإذا بابنى الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهما فرحبا بى ودعوا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم إذا هو قد أعطى شطر الحسن قال فرحب بى ودعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قال وبعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بادريس فرحب بى ودعا لى بخير قال الله عزوجل (ورفعناه مكانا عليا)
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل
ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون صلى الله عليه وسلم فرحب بى ودعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم فرحب بى ودعا لى بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة .
فاستفتح جبريل فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابراهيم صلى الله عليه وسلم مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة] ( )،فيدل الحديث على إنتظار الملائكة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحلول أوانها .
ومن فضل الله إتصال نبوته بأن خبرها لم يأت للملائكة من الأرض بل جائهم ذات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشخصة الكريم مع جبرئيل ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
وتقدير الآية هذا بيان للناس وغيرهم ، وذكر الناس لأنهم الفرد الغالب في حاجتهم للقرآن ومضامينه القدسية ، والأوامر والنواهي التي يتضمنها .
الرابع : هذا هدىً ،فمن البيان الوارد في آية السياق الإخبار بأن القرآن هدى ، وفيه نوع تحد متجدد إلى يوم القيامة .
الخامس : هذا موعظة ، فقد أنعم الله عز وجل على الناس وجعل الدنيا دار موعظة وعبرة وسبباً للإصلاح من جهات غير منتهية منها :
الأولى : إتعاظ الإنسان من أبناء جنسه وما لاقوه في حياتهم إبتداء من هبوط آدم إلى الأرض الذي يؤثقه القرآن .
الثانية : عواقب الناس في خاتمة الأمور ، فقوله تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]( )يفيد الإعجاز في سنن الموعظة في الحياة الدنيا ، بالإتحاد والمثلية في القرح ، مع مصاحبة العز والفخر للمؤمنين بجراحاتهم مع حسن الذكر والعاقبة الكريمة ، ولحوق الخزي بالكفار الذين جرحوا أو قتلوا في معارك الإسلام الأولى ، ولا يختص الأمر والمثلية بأهل القراحات بل يشمل الذين إشتركوا في المعركة والقتال وعوائلهم ، ويتغشى العز والفخر جميع المسلمين في أجيالهم المتعاقبة بهذا القرح الذي ذكرته آية البحث والذي حصل قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ، وصبغة العموم في هذا التغشي مستقرأة من لغة الخطاب في الآية [إِنْ يَمْسَسْكُمْ] المتجددة في كل زمان لبقاء القرآن حياً طرياً وهل يعني تجدد لغة الخطاب في الآية الحدوث المتصل والمتجدد لمصداقها العملي الجواب لا دليل عليه، ولورود العطف في هذه الآية وإرتكازه على قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، ثم توالي العطف بالحرف [الواو] أو بنظم ومنطوق ووحدة الخطاب إلى أن وصل إلى آية السياق ثم تجدد ذات النداء بعد آيات في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
الثالثة : من إعجاز القرآن قصصه ومضامينه القدسية التي هي موعظة للناس جميعاً ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( ) وقال سبحانه [َقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ) .
والنسبة بين الآيتين أعلاه هي العموم والخصوص المطلق ، بلحاظ أن لفظ [قَصَصِهِمْ] أعم ويشمل إلى جانب قصص القرآن ما ورد في السنة النبوية من قصص الأنبياء والأمم السالفة وما ذكرته الكتب السماوية السابقة ،وكل آية تتعلق بقصة وخبر عن الأمم السابقة مدرسة في الإصلاح وتنمية ملكة التقوى والزجر عن الإخلاق المذمومة .
لقد تفضل الله عز وجل وجعل الدنيا محلاً لتمحيص وتطهير المسلمين، ووهن وخزي الكافرين ، ولكون القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فقد جاءت قصص القرآن لتكون برهاناً وحجة سماوية لتمحيص المؤمنين باتباعهم لنهج الأنبياء، وإقتباسهم الدروس من سنن الصالحين التي وردت في آيات القرآن ، وحجة في محق الكافرين ، وكل فرد منها موعظة وعبرة للناس .
الرابعة : كل آية قرآنية موعظة للناس جميعاً، ولكن المتقين هم الذين يتعظون منها أكثر من غيرهم لتلاوتهم للآيات وتقيدهم بالأوامر والنواهي التي فيه ، ولثباتهم في مناهج طاعة الله ، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ] ( )، وهذه الخصال من أسرار التقييد في قوله تعالى [وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وإذا كانت كل آية من القرآن بياناً وهدى وموعظة فلماذا جاءت آية السياق بصيغة اسم الإشارة المفرد [هَذَا بَيَانٌ] والجواب من وجوه :
الأول: المراد اسم الجنس والسور الجامع مثل لفظ (كل) و (جميع) و (كافة).
الثاني : صدق صيغة البيان على كل آية من القرآن.
والتقدير بخصوص كل آية: [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] .
ويصدق لفظ القرآن على الآية الواحدة والآيات المتعددة، وفيه مسائل:
الأولى : بيان قدسية وعظمة الآية القرآنية الواحدة، والأسرار الإعجازية فيها.
الثانية : إنتفاع الناس من الآية الواحدة بما يقودهم نحو الهداية والصلاح.
ويحتمل هذا الإنتفاع وجوهاً:
أولاً : التدبر في ذات موضوع الآية.
ثانياً: إستنباط الأحكام من الآية القرآنية.
ثالثاً : الإنتفاع من الآيات القرآنية الأخرى بواسطة أي آية من القرآن.
رابعاً : تبعث الآية القرآنية الشوق في النفوس لتلاوة آيات القرآن ومعرفة الا مضامينها القدسية.
الثالثة : التأكيد بأن تقسيم القرآن إلى آيات قرآنية، وإستقلال كل واحدة منها بحد مخصوص كنز سماوي وذخيرة إعجازية، وهبة للأجيال تجذب الناس لسبل الإيمان.
الرابعة : دعوة الناس للتدبر في مضامين كل آية قرآنية، وحث العلماء على إستنباط المواعظ منها.
الثالث : كل شطر آية هو بيان.
الرابع : كل عدد متجاور من الآيات بيان للناس.
الخامس : آيات كل سورة بيان للناس.
السادس : البيان الموضوعي بلحاظ وحدة موضوع آيات متعددة.
السابع : بيان آيات الأحكام لضروب الحلال والحرام،[ وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة فقال : إن الحمد لله أحمده وأستعينه نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ان أحسن الحديث كتاب الله ، قد أفلح من زينه الله في قلبه ، وأدخله في الإِسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس أنه أحسن الحديث وأبلغه ، أحبوا من أحب الله ، أحبوا الله من كل قلوبكم ، ولا تملوا كلام الله تعالى وذكره ، ولا تقسوا عنه قلوبكم فإنه من كل يختار الله ويصطفي فقد سماه خيرته من الأعمال ، ومصطفاه من العباد ، والصالح من الحديث ، ومن كل ما أتى الناس من الحلال والحرام ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، واتقوا الله حق تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم ، إن الله يغضب أن ينكث عهده ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته] ( ).
الثامن : بيان آيات القرآن بعضها للبعض الآخر.
التاسع : إرادة حقيقة وهي إستقراء البيان من كل جملة وشطر من آية من القرآن ، وإستمرار هذا البيان إلى يوم القيامة .
وتقدير آية السياق على وجوه :
الأول : هذا بيان .
الثاني : هذا هدىً .
الثالث : هذا موعظة .
الخامس : لقد أراد الله عز وجل أن تكون الوقائع والحوادث أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم موعظة للناس جميعاً .، فجاء ذكرها في القرآن ، وتجلت في السنة القولية والفعلية ، وأخبار النبوة الواردة على لسان الصحابة وأحاديث الناس أنذاك وقصائد الشعر لحسان بن ثابت وكعب بن مالك وغيرهما.
وقال حسان في قصيدته الدالية من الطويل
أغر عليه للنبوة خاتم
من الله من نور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من إسمه ليحله
فذو العرش محمود وهذا محمد( )
وقصائد المؤمنات في المدح والرثاء والتحريض وبعث الهمم التي صارت وثائق تأريخية تدل بالدلالة التضمنية على صدق تمحيص المؤمنين ومحق الكافرين .
وتقدير آية البحث بلحاظ تقسيم وتفكيك مضامين آية السياق على ضروب.
الأول : البيان للناس بأن المسلمين فازوا بالخطاب التشريفي من عند الله عز وجل .
الثاني : البيان بقانون وهو دخول المؤمنين الجنة ، لتكون النسبة بين الناس وبين الذين يدخلون الجنة هي العموم والخصوص المطلق بلحاظ أن المؤمنين شطر من الناس ، فكيف مع تقييد الآية الكريمة بأن الذين يدخلونها هم المؤمنون الذين يجاهدون في سبيل الله، ويصبرون رجاء مرضاته وحباً له سبحانه .
الثالث : الآية بيان للمسلمين والمسلمات بشرائط دخولهم الجنة ، إذ أن الإطلاق في قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( )، يصح تقسيمه إلى وجوه:
الأول : هذا بيان للناس جميعاً، والألف واللام في الآية للجنس والعموم .
الثاني : هذا بيان للمؤمنين والمؤمنات .
الثالث : هذا بيان للمسلمين والمسلمات .
الرابع : هذا بيان لأهل الكتاب .
الخامس : هذا بيان للمشركين والكفار.
أما بلحاظ التقسيمات الفرعية بحسب الموضوع والحكم فيكون من اللامتناهي مثل:
الأول : القرآن بيان لأولي الألباب والذين يسخرون العقل للتدبر في الوقائع والأحداث .
الثاني : هذا بيان للتائبين .
الثالث : هذا بيان للذين مسهم القرح من المؤمنين .
الرابع : هذا بيان لذراري الكفار رجاء توبتهم وإمتناعهم مما كان عليه الآباء في ضلالتهم.
الخامس : هذا بيان للمتقين للثبات في منازل التقوى .
السادس : هذا بيان للمحسنين شكراً لهم ودعوة لهم لإستدامة الإحسان.
السابع : هذا بيان للمجاهدين لبذل الوسع في سبيل الله .
الثامن : هذا بيان للصابرين وإخبار لهم بأن الجزاء هو الجنة ، قال تعالى [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
التاسع : هذا بيان للناس بأن الله يداول الأيام بينهم بالإنصاف والعدل ولا يعني العدد في المقام تساوي الناس في السلطان والجاه بل بما يجعل تصريف الأيام بين الناس سبباً لهدايتهم وصلاحهم ، فهو رحمة وخير محض، كما في الخطاب الإلهي لإبراهيم [إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]( ).
العاشر : هذا بيان للناس بأن الله يعلم إيمانهم وتقواهم ونصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الحادي عشر: هذا بيان للمسلمين بأن الله يتخذ منهم الشهداء .
الثاني عشر : هذا بيان للشهداء من المسلمين ليتفقهوا في مسائل الشهادة، وسمو مرتبتها، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مَسِّ الْقَرْصَةِ( ).
الثالث عشر : هذا بيان بأن الله لا يحب الظالمين .
الرابع عشر :هذا بيان للناس بأن الله عز وجل يمحص الذين آمنوا .
الخامس عشر : هذا بيان للناس بأن الله يمحق الكافرين.
السادس عشر : هذا بيان بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، وبين هذه الرحمة وبيان القرآن عموم وخصوص مطلق، فالرحمة أعم، والبيان جزء منها.
السابع عشر :هذا بيان للناس بأن بيان القرآن من اللامتناهي .
الثامن عشر : هذا بيان للناس بأن القرآن هدى وموعظة للمتقين .
التاسع عشر : هذا بيان بأن كل آية في القرآن بيان من وجوه متعددة.
فاذا كان عدد آيات القرآن ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية فان كل آية منها تتضمن البيان المتعدد من جهات :
الأولى : ذات اللفظ القرآني .
الثانية : كل شطر من الآية القرآنية بيان .
الثالثة : كل جملة من الآية بيان .
الرابعة : كل كلمة من الآية القرآنية بيان .
الخامسة : الجمع بين آيتين متباعدتين في الآية بيان ، كما في آية السياق [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) فيمكن الجمع البياني على وجوه :
الأول : هذا هدى.
الثاني : هذا موعظة للمتقين .
الثالث : هذا بيان وموعظة .
الرابع : هذا بيان للمتقين .
الخامس : هذا بيان للناس وهدى للمتقين .
الثالثة : من ضروب البيان في آية البحث علم الله عز وجل بما يفعله المسلمون من الصالحات ، وأن الله عز وجل يثيبهم عليها، عن ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد يلتمس مرضاة الله عز وجل ، فلا يزال كذلك . فيقول الله : يا جبريل ، إن عبدي فلانا يلتمس أن يرضيني ، فرضائي عليه . قال : فيقول جبريل صلى الله عليه وسلم : رحمة الله على فلان ، وتقول حملة العرش ، ويقول الذين يلونهم ، حتى يقوله أهل السماوات السبع ، ثم يهبط إلى الأرض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهي الآية التي أنزل الله عليكم في كتابه: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ، وإن العبد ليلتمس سخط الله ، فيقول الله عز وجل : يا جبريل ، إن فلانا يسخطني . ألا وإن غضبي عليه ، فيقول جبريل : غضب الله على فلان ، ويقول حملة العرش ، ويقول من دونهم ، حتى يقوله أهل السماوات السبع ، ثم يهبط إلى الأرض ( ).
الرابعة : فتح باب الجهاد في الإسلام ، وصيرورته طريقاً لدخول الجنة ،ومن مصاديق هذا الفتح آية البحث وما فيها من الترغيب بالجهاد وبيان عظيم الثواب المترتب عليه للذات والغير .
الخامسة : يدل الإخبار عن دخول الجنة بالدلالة التضمنية على الإقامة الدائمة فيها ، قال تعالى [لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ]( ).
السادسة : علم الله عز وجل بالصابرين من المسلمين الذين يتلقون الأذى في سبيل الله .
السابعة : تعدد الطرق المباركة لدخول الجنة والإقامة فيها ، إذ ذكرت الآية خصلتين كريمتين من خصال التقوى واليقين ، وهما الجهاد والصبر.
الثامنة : من البيان العام في آية البحث للناس كافة أن جهاد شطر من المسلمين يدخلهم جميعاً الجنة ليستقروا فيها على نحو الدوام المستديم .
التاسعة : من بيان آية البحث أن تحلي فريق من المسلمين بالصبر مفتاحاً لدخول المسلمين كأمة إلى الجنة ، وهذا البيان من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ…] ( )، وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة أفائن مات محمد أو قتل انقلبتم على أعقابكم.
الثاني : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً.
الثالث : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم.
الرابع : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ويعلم الله الصابرين.
الخامس : أفان مات أو قتل ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) لبيان أن بقاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المسلمين رحمة بهم وسبيل للتوبة والإنابة، ومناسبة للتنزه من درن النفاق، [ وعن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تقيئه و لا يزال المؤمن يصيبه البلاء و مثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا يهتز حتى يستحصد ] ( ).
السادس : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم وسيجزي الله الشاكرين.
السابع : ويعلم الله الصابرين وسيجزي الشاكرين.
الثانية : جاءت كل من الآيتين بصيغة الخطاب، وإرادة المسلمين والمسلمات والترغيب بتحمل الأذى الذي يأتي للمسلمين قهراً وإنطباقاً لتكون الآيتان مجتمعتين ومتفرقتين مدرسة في إصلاح النفوس لمنازل التقوى، ومادة مباركة لتنمية ملكة الصبر عندهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( )بلحاظ كبرى كلية وهي أن الهداية إلى مقدمات الصبر وسبل دخول الجنة من النعم العظمى على أهل الأرض فاز بها المسلمون والمسلمات .
الثالثة : جاءت آية البحث بصيغة الخبر القاطع بلحاظ أن أخبار القرآن لا تحتمل إلا الصدق والحق ثم إنتقلت إلى الإستفهام الإنكاري.
الرابعة : يتعلق موضوع آية البحث بعالم الآخرة، وبيان شرائط دخول المؤمنين الجنة، وتضمنت آية السياق الإخبار عن وجه من وجوه التشابه بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين باللحوق بهم بالموت والإنتقال إلى الرفيق الأعلى، لتكون لهذا الإخبار موضوعية من وجوه:
الأول : إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبيل إلى دخول الجنة، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، لأن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته وإتباعه من مصاديق الصراط المستقيم .
الثاني : إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحياة الدنيا وسيلة وسبب للإقامة معه في النعيم الأخروي .
الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل بعث الأنبياء والرسل لهداية الناس إلى الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر ، فكل رسول يدعو إلى التوحيد وإقامة الفرائض وكما خلت الرسل من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد خلت أمم من الموحدين ، وأهل التصديق بالنبوة ، وفي متعلق شرائط دخول الجنة الواردة في آية البحث وجوه :
الأول : شمول الموحدين من الأمم السابقة بشرطي الجهاد والصبر المذكورين في آية البحث .
الثاني : ورود شرائط أكثر وأشد على مؤمني الأمم السابقة لدخول الجنة ، بلحاظ صيغ التخفيف المترشحة عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : شرائط دخول الموحدين من الأمم السابقة أخف من شرطي الجهاد والصبر المذكورين في آية البحث .
والصحيح هو الأول لأمور:
الأول : إتحاد حكم دخول المؤمنين الجنة .
الثاني :وحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثالث: يتعلق الأمر بشرائط دخول الجنة ، وأهلية الإنسان للفوز بصيرورته من أصحابها .
الرابع : بيان آيات القرآن لحقيقة صبر وجهاد أصحاب الأنبياء في مرضاة الله .
عن خباب بن الأرت قال : قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا؟ فقال : إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ثم قال : والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون] ( ).
الثالث : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً] ( ) الآية ،وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله .
الثاني : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة كتاباً مؤجلاً .
الثالث : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها .
الرابع : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها.
الخامس : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وسنجزي الشاكرين.
السادس : وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، قال تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
السابع : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم.
الثامن : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم وسنجزي الشاكرين .
التاسع : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ويعلم الله الصابرين .
العاشر : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ويعلم الله الصابرين .
الثانية : جاءت آية البحث بصيغة الجملة الإنشائية ولغة الخطاب بإرادة المسلمين أما آية السياق فوردت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنه لا يمنع من إرادة ذات الخطاب بلحاظ إتحاد موضوع نظم الآيات ، وهو الذي يدل عليه تفسير آية السياق وكيف أنها مواساة للمسلمين بفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومتقدمة زماناً على زمان حلول أجله .
الثالثة : تبعث آية البحث المسلمين على الجهاد في سبيل الله وترغب فيه ، وتبين أنه طريق السعادة الأبدية ،وقد يتردد المؤمن في الجهاد لما فيه من المشقة وفراق الأهل والتعرض لحرارة السيف ، فجاءت آية السياق بالإخبار عن قانون كلي وهو أن الإنسان لا يغادر الدنيا إلا بأذن وعلم وإرادة الله عز وجل.
فصحيح أن ملك الموت هو الذي يقبض أرواح بني آدم ، وأن ميادين المعارك يكون فيها قاتل ومقتول إلا أن هذا القتل وفيض الروح لا يتم إلا بأذن الله عز وجل لذا تفضل الله سبحانه وأنزل الملائكة يوم بدر وأحد والخندق لسلامة المؤمنين ، وفيه دلالة بانه سبحانه لم يأذن بعد بمغادرة المؤمنين الأوائل الدنيا، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
الرابعة : لقد كان المسلمون حديثي عهد بالإسلام وما ترتب عليه قهراً وإنطباقاً من الجهاد في سبيل الله بهجوم قريش وحلفائها المتكرر والمتعاقب على المدينة، في مكر ودهاء ظاهرين إذ أدرك رؤساء الشرك وأعوانهم من الفاسقين أن الإسلام ينتشر سريعاً وأن الناس يدخلون فيه جماعات وافراداً ، ومن يدخله لا يتركه ولا يغادر منازله ، فأرادت قريش الإجهاز على الإسلام قبل تنامي قوته ، ودخول الأغنياء والوجهاء والفرسان فيه .
ومن خصائص دعوة الأنبياء أن الفقراء والمستضعفين أول من يبادر للدخول فيه ، [عن ابن عباس أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوهم وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان فقلت أنا أقربهم به نسبا فقال أدنوه مني وقربوا أصحابه فأجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال كيف نسبه فيكم قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله قلت لا قال فهل كان من آبائه من ملك قلت لا قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم قلت بل ضعفاؤهم قال أيزيدون أم ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتد أحد منهم سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال
قلت لا قال فهل يغدر قلت لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال فكيف كان قتالكم إياه قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا منه قال بماذا يأمركم قلت يقول أعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة فقال للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا
فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله وسألتك هل من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم آتباع الرسل وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الأيمان حين يتم وسألتك أيرتد أحد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الأيمان حين تخالط بشاشته القلوب وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف.
فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني اخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ثم دعا بكتاب رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون
قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات واخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا لقد أمرأ ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي] ( ).
لقد نقلت آية البحث المسلمين إلى عالم الآخرة دفعة واحدة ومع تعدد وكثرة مواطن الآخرة وما فيها من الأهوال فان الآية ذكرت الجنة على نحو التعيين وجعلتها الغاية الحميدة للمسلمين، ولا يضر بهذا المعنى ذكر شرائط الدخول العرضية الخاصة بالفعل، إذ تدل آية البحث بالدلالة التضمنية على أهلية المسلمين لدخول الجنة بإختيارهم الإيمان بالله ورسوله والكتاب.
الخامسة : ذكرت آية السياق أمرين في أجل الإنسان :
الأول : إنه بمشيئة وإذن الله عز وجل .
الثاني : إنه كتاب مؤجل ولم ترد كلمة [مُؤَجَّلاً] بالنصب أو الرفع أو الجر في القرآن إلا في آية السياق لتفيد البشارة للمجاهدين ، وبيان حقيقة وهي عدم الملازمة أو الترابط بين الجهاد والموت ، فلا يلاقي كل من يخرج إلى الجهاد القتل أو الموت وسواء خرج إلى المعركة أو لم يخرج فان أجله ذاته وموعد وفاته هو نفسه ، قال تعالى [قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ]( ).
ليكون من إعجاز القرآن مجئ آية البحث بالندب إلى الجهاد بصيغة الترغيب في غايته وحسن خاتمته في الآخرة ثم تأتي آية آخرى تنفي أن يكون الجهاد والصبر سببين لتقريب الأجل .
السادسة : بعث السكينة في نفوس المسلمين والمسلمات ، فمن يقتل منهم فإنما هو بأذن الله عز وجل ، ويحتمل الإذن في المقام وجوهاً :
الأول : إختصاص الإذن بأوان الوفاة ، ومغادرة الروح الجسد ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
الثاني :شمول الإذن الإلهي لكيفية الوفاة وأنها القتل بالسيف .
الثالث : موضوع القتل هو التضحية والفداء في سبيل الله عز وجل .
الرابع : نزول القتل بالمؤمن وهو يجاهد في سبيل الله .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ،وكلها من مصاديق الآية الكريمة لأصالة الإطلاق في الإذن الإلهي ، لتكون آية السياق مدداً للمسلمين في جهادهم ، وسبباً لتحليهم بالصبر في طاعة الله وعدم ترتب الأثر على أذى الكفار ، فالمسلمون منقطعون إلى الذكر والعبادة ، ليصبح أوان حلول الأجل مناسبة لحضور البشارة بالجنة الواردة في آية البحث التي من إعجازها أنها تجعل السكينة تتغشى المحتضر وذويه بان الجنة ونعيمها بانتظاره .
السابعة : إبتدأت كل من آية البحث والسياق بصيغة النفي الذي ينفي بشرط ، وكل واحدة منهما تتعلق بالحدث والإنتقال إلى العالم الآخر ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ،فآية السياق أعم من جهات :
الأولى :ذكرت آية السياق موت الإنسان وتعليقه بإذن الله بقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) بينما وردت آية البحث خطاباً للمسلمين .
الثانية : ذكرت آية السياق ثوابين أحدهما عاجل وزائل وهو في الدنيا , والآخر دائم وهو النعيم الآخروي ، بينما ذكرت آية البحث الجنة ونعيمها ، ولم تذكر من الدنيا إلا الإيمان والصبر والجهاد في سبيل الله .
الثالثة : تضمنت آية السياق الجزاء من الله عز وجل للشاكرين من الناس ،أما آية البحث فانها ذكرت المجاهدين والصابرين .
الرابعة:آية البحث من آيات البشارة بالجنة ،أما آية السياق فموضوعها أعم والجزاء فيها شامل للدنيا والآخرة بقوله تعالى [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ]( ).
ويحتمل جهاد وصبر المسلمين بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : كل فرد من مضامين آية البحث من مصاديق الشكر لله عز وجل .
الثاني : الجهاد والصبر مقدمة للشكر لله عز وجل .
الثالث : يترشح عن الشكر لله عز وجل الجهاد في سبيله تعالى والصبر وتحمل الأذى طلباً لرضاه سبحانه .
ولا تعارض هذه الوجوه ، وهو من فضل الله عز وجل على المؤمنين بلحاظ كبرى كلية وهي أن إسلام العبد شكر منه لله على نعمة الهداية وأن الشكر لله ليس له حد أو منتهى في أفعال الإنسان ، فتتجلى معاني الشكر لله عز وجل في كل يوم للمسلم بعبادته وذكره وصلاحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وإستجابته لهما ويكون من مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).

إعجاز الآية
بعد أن جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن إصابة المسلمين بالقروح والجراحات وأخبرت الآية السابقة عن تمحيص الله للذين آمنوا جاءت هذه الآية ببشارة الجنة، وإستحضار ثواب الإيمان، وصيرورته قريباً من المسلمين، وكأن للجنة ثلاثة طرق وهي:
الأول : الإيمان.
الثاني : الجهاد في سبيل الله.
الثالث : الصبر في جنب الله، فان قلت إنما جاء القرآن باتحاد الطريق بقوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، والجواب إرادة اسم الجنس من لفظ الصراط وإفادة أداء الفرائض وعمل الصالحات والجهاد والصبر في طاعة الله، وتحمل الأذى القادم من الكفار كريح السموم اللاهبة بل هو أشد بدليل ذات آية البحث التي تتضمن البعث على الجهاد ،والذي يدل بالدلالة التضمنية على الحاجة لملاقاة الأعداء وهجوم الكفار على ثغور الإسلام.
ولقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بين أمرين لا ثالث لهما:
الأول : الحياة وتبليغ الرسالة ونشر مبادئ الإسلام، لثباتهم في مقامات الإيمان والعزم على عدم التفريط أو التهاون في الدعوة إلى الله .
الثاني : القتل والشهادة في سبيل الله.
فجاءت تباشير النصر في الآية السابقة بقوله تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( )، والذي يفيد إنحسار الكفر وعجز الكفار عن إضعاف الإسلام ،وسلامة المؤمنين بالمدد الإلهي ونزول الملائكة في سوح المعارك، وفي معركة بدر قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وذكرت الآية دخول المسلمين الجنة[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ]( )، ولم تذكر أن الله عز وجل هو الذي يدخل المجاهدين والصابرين في طاعته الجنة، لبيان حقيقة من وجوه:
الأول : إنحصار ملك الجنة والنار بالله عز وجل قال الله سبحانه بخصوص الآخرة[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
الثاني : لا يدخل أحد الجنة إلا بمشيئة الله عز وجل وفضله ورحمته، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
الثالث : آية البحث عهد من الله عز وجل للمؤمنين بدخول الجنة لتحقق مصداق الصبر بأداء الفرائض والعبادات، ومن أسرار آية البحث أنها حرب على النفاق، وإستئصال لمفاهيمه وإلجام لأهل الريب والشك، وهو من الإعجاز في مخاطبة الآية للذين آمنوا مطلقاً ليشمل الخطاب والترغيب بالجنة المنافقين والضلال، وكأن الجنة تلفظ المنافقين الذين لا يشاركون في الجهاد ولا يتحلون بالصبر في العبادات أو الصبر الذي هو مانع من إقتحام مداخل الفساد والمعصية.
ومن الإعجاز في نظم الآيات مجئ البيان أولاً ثم النهي عن الوهن والجبن والخور، ثم الإخبار عما تعرض له المؤمنون.
ومن الإعجاز في السنة النبوية بخصوص دخول الجنة أنه لا ينحصر بحال الحساب والميزان بل يناله شطر من الذين دخلوا النار ،[عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها ، وآخر أهل الجنة دخولاً للجنة رجل يخرج من النار حبواً ، فيقول الله له اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى ، فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملأى . فيقول الله تعالى له اذهب فادخل فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها ، أو أن لك مثل عشرة أمثال الدنيا ، فيقول أتسخر بي وأنت الملك فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحك حتى بدت نواجذه] ( ).
ويمكن أن تسمى الآية آية [أَمْ حَسِبْتُمْ] وورد هذا اللفظ في القرآن ثلاث مرات ، كل واحدة منها خطاب للمسلمين إثنتين بخصوص دخول الجنة وكأنها قريبة منهم ، والثالثة قوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ] ( ) وفيه بيان وإضاءة للطريق المؤدي إلى دخول الجنة.
الآية سلاح
لقد جعل الله عز وجل عالم الآخرة داراً للجزاء ، ومن الآيات فيه أنه يتصف بالدوام والإستدامة فليس من موت بعد البعث والنشور يوم القيامة فهذا الموت الذي يقف قريباً من كل إنسان ذكراً أو أنثى في أيام وليالي الحياة الدنيا يغيب عن أهل الآخرة ويتمناه أهل النار عسى أن يعودوا إلى الحياة الدنيا ، أو لا أقل يسلموا من العذاب الأليم ولكن دونه خرط القتاد.
ومن الإعجاز في السنة النبوية ورود الأحاديث بتحذير الناس من إنعدام الموت في الآخرة من أجل أن يعملوا الصالحات بما يجعلهم [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ) [وعن عبد الله بْنِ عُمَرَ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ فَازْدَادَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَازْدَادَ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ] ( ).
وفي حديث أبي سعيد الخدري يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم [فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا مَاتَ فَرَحًا لَمَاتَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا مَاتَ حَزَنًا لَمَاتَ أَهْلُ النَّارِ]( ).
ولم تذكر آية البحث النار وأهلها، بل إختصت بذكر الجنة لأن الخطاب فيها للمسلمين وفيه غاية الإكرام والتشريف ، وجاءت الآية السابقة بأمرين :
الأول : تمحيص وتطهير المسلمين .
الثاني : محق ووهن الكافرين .
ثم جاءت هذه الآية بمسائل :
الأولى : بيان محق وإذهاب الكافرين بأن لم تذكرهم الآية .
الثانية : تمحيص المسلمين ببعثهم على الجهاد والصبر والتحمل في طاعة الله .
الثالثة : بيان عاقبة التمحيص والتطهير وهو دخول الجنة .
الرابعة : دلالة الآية على بعث المسلمين إلى عمل الصالحات وإتيان ما يدخلهم الجنة ، وفيه حجة على الكافرين بأن التمحيص طريق ومقدمة لدخول الجنة.
وتتقوم العلة التامة لدخول الجنة بالتمحيص والتطهير وإختيار المسلمين البذل والفداء والصبر في مواطن البلاء حباً لله عز وجل ، ورضا بقضائه وقدره مع التباين في منازل الإيمان .
[عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله إذا أحب عبداً أو أراد أن يصافيه صب عليه البلاء صباً، ويحثه عليه حثاً، فإذا دعا قالت الملائكة عليهم السلام : صوت معروف قال جبريل عليه السلام: يا رب عبدك فلان اقض حاجته. فيقول الله تعالى: دعه إني أحب أن أسمع صوته . فإذا قال يا رب . . قال الله تعالى ، لبيك عبدي وسعديك . وعزتي لا تدعوني بشيء إلا استجبت لك ، ولا تسألني شيئاً إلا اعطيتك . أما أن أعجل لك ما سألت ، وأما أن أدخر لك عندي أفضل منه ، وأما أن أدفع عنك من البلاء أعظم منه . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وتنصب الموازين يوم القيامة ، فيأتون بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الصيام فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ، ويصب عليهم الأجر صباً بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية أنهم كانوا في الدنيا تقرض أجسادهم بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل، وذلك قوله[إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }( )]( ).
تجمع الآية بين أمور الدنيا وأحوال الناس في الآخرة التي يكون الفيصل والمدار فيها على الإيمان والتقوى إذ تضمنت الآية بعث المسلمين للسعي في مسالك الجهاد والصبر، لإخبار الناس جميعاً بأن الدنيا مزرعة للآخرة، فالآية حرز في عالم الأفعال، ونور يضئ مسالك الهداية، وإتخاذ الدنيا بلغة لدخول الجنة واللبث الدائم فيها.
وتأخذ الآية بيد المسلمين نحو طرق الجنة فيتوجه المسلمون بالدعاء إلى الله على نحو الوجوب[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
وفيه وجوه :
الأول : الطريق إلى الجنة والصراط المستقيم.
الثاني : كل ما يتخذ بلغة للأمن والسلامة يوم القيامة.
الثالث : ما ذكرته آية البحث صراط مستقيم ،وهو على شعبتين:
الأولى : الجهاد في سبيل الله.
الثانية : الصبر في مرضاة الله.
الرابع : دخول الجنة صراط مستقيم، والغاية العظمى.
فان قلت هل من تعارض بين كون البلغة إلى الجنة صراط مستقيم وذات الجنة صراط الجواب ليس من تعارض بينهما، وهو من أسرار وذخائر الإرادة التكوينية في خلافة الأرض ،وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الغاية الأخروية الحميدة صراط مستقيم.
الصغرى : الجنة هي الغاية الأخروية الحميدة.
النتيجة : الجنة صراط مستقيم..
وبعث المؤمن إلى سبل الجهاد ومسالك الصبر واقية من الوقوع في المهالك، قال تعالى[وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( ).
وجاءت بداية الآية الكريمة [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ]( ) سلاحاً سماوياً يجذب المسلم إلى مقامات الصبر وتحمل الأذى في مرضاة الله، وليس من أمة كالمسلمين يصاحبها الصلاح والمدد السماوي الذي يقودها في العمل بمقدمات وأسباب دخول الجنة وفق الكتاب والسنة، وتحصيل شرائطه من قبلهم جميعاً باخلاص شطر منهم في مناهج الإيمان وسنن الجهاد، مع تقيد الجميع بأداء الفرائض والواجبات.
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالبشارة بالجنة لمن أمن بالله واليوم الآخر ، وجاءت آية البحث للبيان والتفصيل وأن الجنة لها طريق هو الجهاد والصبر ليلح المسلمون بالدعاء لمنهجه والإقتداء بالأنبياء وأتباعهم من الصالحين لذا قال تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] ( )، فجعل الله عز وجل الشرط في آية البحث وتفضل وجعلهم يدعونه تعالى كل يوم في الصلاة اليومية لبلوغ هذا الشرط وتحصيل مصداقه وتقدير آية البحث : أحسبتم أن تدخلوا الجنة بالنطق بالشهادتين بل لابد من جهاد وصبر طائفة منكم .
مفهوم الآية
في الآية مسائل :
الأولى : تفضل الله باكرام المسلمين بالخطاب الذي ليس فيه وسائط ولو ملكوتية إذ يكلم الله عز وجل أجيالهم المتعاقبة في القرآن كل يوم بما يخص أمور دنياهم وآخرتهم وهو من أسرار حفظ الله للقرآن ، وبقائه سالماً من التحريف والنقص والزيادة ، وهو من رحمة إضافية بالمسلمين ، وسبب لجذبهم إلى مقامات اللبث الدائم في الجنة ، ليكون قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( )مناسبة للعمل بمضامين آية البحث والسعي الحثيث إلى الجنة بأمور :
الأول : الجهاد في سبيل الله .
الثاني : إعانة المجاهدين والمرابطين في الثغور [عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من جهز غازياً في سبيل الله فله مثل أجره ، ومن خلف غازياً في أهله بخير وأنفق على أهله كان له مثل أجره] ( ).[عن سمط بن عبد الله البجلي عن سلمان الفارسي : أنهم كانوا في جند المسلمين ،فأصابهم ضرّ وحصر فقال سلمان لصاحب الخيل : ألا أحدّثك حديثاً سمعته من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيكون لك عوناً على الجند، سمعت رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} يقول : «من رابط يوماً أو ليلة في سبيل الله كان عدل صيام شهر وصلاته الذي لا يفطر ولا ينصرف من صلاة إلاّ لحاجة، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله له أجرة حتى يقضي بين أهل الجنة وأهل النار]( ).
الثالث : حفظ القرآن وآياته سبب لتنمية ملكة الصبر عند المسلمين .
الرابع : معرفة المسلمين والناس جميعاً بطرق وشرائط دخول الجنة والسكن الدائم فيها .
الخامس : وقاية المسلمين من البرزخ والحواجز التي تحول دون دخول المسلمين الجنة .
الثانية : الإخبار عن دخول المسلمين الجنة بشرطها وشروطها .
وتدل الآية في مفهومها على ترغيب الناس بدخول الجنة وبمقدمات وطرق دخولها .
الثالثة : طرو الوهم بان دخول الجنة أمر سهل إذ أنه يستلزم السعي الحثيث في الصالحات وعدم مغادرة منازل الصبر والتحمل .
الرابعة : دعوة المسلمين للدعاء والمناجاة بسؤال الجنة ، إذ تخبر الآية الكريمة عن قربها من المسلمين من وجوه :
الأول : دلالة آيات القرآن على أن الجنة مثوى للمؤمنين ،وهل منه قوله تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( )،الجواب نعم من جهات :
الأولى : تجلي صيغة الإطلاق في لفظ ودلالات رحمة الله الوارد في الآية أعلاه .
الثانية : إرادة المؤمنين والمؤمنات من لفظ [الْمُحْسِنِينَ] الوارد في الآية أعلاه بلحاظ أنهم محسنون إلى أنفسهم في النشأتين بطاعة الله وإجتناب ما نهى عنه .
الثالث : المقصود قرب رحمة الله المكاني والزماني ، أما قربها المكاني فانه طريق لدخول الجنة والأصل في القرب هو المكان ولصقه ومجاورته ، ويحتمل إطلاقه على القرب الزماني في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة المجاز والرجاء .
الثاني : المعنى الحقيقي أيضاً .
الثالث : لا دليل على شمول الزمان بالقرب في الآية .
والصحيح هو الثاني وقد جاء القرآن بإرادة القرب الزماني بقوله تعالى[إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا] ( ) ولأصل هو الحقيقة ولا ينتقل إلى المجاز إلا مع القرينة والمراد من الضمير المتكرر [الهاء]في الآية أعلاه هو يوم الحشر والنشور وقيل العذاب ،ولا يضر بأرادة الزمان من الآية قصد المرجو الوقوع.
الثاني : تجلي شرط دخول الجنة في آية البحث ليكون من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى] ( ) ذكر القرآن لقانون شرائط الإقامة في الجنة وتقومها بالعمل الصالح .
الثالث : بعث المسلمين للعمل في ميادين ذات شرط الدخول ، فذكرت آية البحث علم الله بالمجاهدين والصابرين من المسلمين في طاعة الله عز وجل.
الرابع : بيان إمتثال المسلمين الأوائل لسنن وأحكام القرآن ، وفيه دعوة لأجيال المسلمين المتعاقبة بمحاكاتهم ، لأن عملهم يقود إلى الجنة وهو من أسرار آية البحث [يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ] ( )بلحاظ عموم الخطاب القرآني وشموله للمسلمين والمسلمات جميعاً.
إفاضات الآية
تتضمن الآية الندب إلى فعل الصالحات بلحاظ غاياتها الحميدة وعاقبتها في الآخرة ، والثواب العظيم الذي جعله الله عز وجل ثواباً عليها ، وتلك [حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ] ( ) أن يتفضل الله عز وجل بالإخبار عن تدلي أغصان أشجار الجنة في الحياة الدنيا ، وذكر وسيلة مباركة لدنو العبد منها ، وإقترابها منه وهو من فضل الله عز وجل بأن يكون التقارب بين المؤمن والجزاء الحسن نوع مفاعلة من طرفين ، فكما يسعى المؤمن إلى الجنة فان الجنة تشتاق إليه .
[عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله عز وجل: يا ابن آدم إذا ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة. أو قال: في ملأ خير منهم، وإن دنوت مني شبراً دنوت منك باعاً، وإن أتيتني تمشي أتيتك بهرولة]( )، بإرادة المعنى المجازي وقرب رحمة الله من المؤمن وصيرورتها سبباً لإقبال الخيرات عليه وواقية له من المهالك والحوادث المفاجئة [روى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان بن ربيعة] ( ) ، وجاء الحديث من باب المثال الأمثل ، وترغيب المؤمنين بالعمل بمضامين آية البحث والفوز بالحور العين في الجنان العالية .
ومن مصاديق التقارب المتبادل بين المؤمن والجنة أن آية البحث ذكرت شرائط دخولها وجاءت الآيات البيانية لنعم الجنة وأن العاقبة في الآخرة مرددة بين مقامين متضادين ، إما القصور والحدائق الناضرة والأنهار الجارية في الجنان ، وإما العذاب الأليم في النار للبعث على السعي في الصراط المستقيم إلى الجنة والنفرة من الطرق المظلمة المؤدية إلى النار ، وتبين آية البحث أن البلغة إلى الأمن والسلامة في الآخرة تتألف من شعبتين :
الأولى : الجهاد والتضحية في سبيل الله بالنفس والمال .
الثانية : إتخاذ الصبر رداءً ، لقد بينت آية البحث أن كلاً من الجهاد والصبر باب واسع إلى الجنة فتحه الله عز وجل للمسلمين ليحرزوا دخوله وهم في الدنيا ، ولا يستطيع الناس تقدير المسافة بين السماوات العليا وبين الأرض وعلى فرض تقدير التقريب تتضح حقيقة وهي أن هذه المسافة تفوق التصور الذهني وتجعل آية البحث الجنة قريبة من المسلمين وليس ثمة مسافة بين المؤمنين وبينها إذ تطوي تلك المسافات اللامتناهية بالجهاد والصبر المقرون بقصد طاعة الله ، وإرادة مرضاته .
الصلة بين أول وآخر الآية
وذكرت الآية علم الله تعالى بالمجاهدين والصابرين وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً:
الأول : التساوي وأن المجاهدين هم أنفسهم الصابرون.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين :
الأولى : الصابرون أعم من المجاهدين.
الثانية : المجاهدون هم الأعم والأكثر من الصابرين.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، وأن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الرابع : نسبة التباين وأن لا صلة أو ملازمة بين الجهاد والصبر.
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ،وعن الإمام علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال [ الصبر ثلاثة : فصبر على المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر على المعصية] ( ).
وإذا كان الصبر هو الأعم فلماذا تقدمت صفة الجهاد عليها الجواب من وجوه:
الأول : بيان موضوعية الجهاد في بناء صرح الإسلام.
الثاني : ترغيب المسلمين بالجهاد والندب إليه.
الثالث : الإخبار بأن الجهاد واجب كفائي بدليل التبعيض في قوله تعالى(المجاهدين منكم) بينما أطلقت الآية صفة الصابرين.
الرابع : إذا سأل سائل لماذا ينال المجاهدون المنزلة والأجر العظيم الجواب إن الله تفضل بتفضيلهم باختيارهم نصرة النبوة والكتاب والدفاع عن مبادئ التوحيد بانفسهم .
[عن البراء بن عازب قال : لما نزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ادع فلاناً . وفي لفظ : ادع زيداً ، فجاء ومعه الدواة واللوح والكتف ، فقال : اكتب { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله } وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله إني ضرير؟! فنزلت مكانها { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله]( ).
الخامس : قد تحرم النساء من ثواب الجهاد فيأتيهن ثواب الصبر والأذى بجرح وفقد الأحبة دفعياً،[وبالإسناد عن أسماء بنت يزيد الأنصارية من بني عبد الأشهل ، أنها أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين أصحابه ، فقالت : بأبي أنت وأمي أنا وافدة النساء إليك ، واعلم ، نفسي لك الفداء ، أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع إلا وهي على مثل رأيي ، إن الله بعثك إلى الرجال والنساء كافة ، فآمنا بك وبإلهك ، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم ومفضى شهواتكم ، وحاملات أولادكم ، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمع ، والجماعات ، وعيادة المريض ، وشهود الجنائز ، والحج بعد الحج ، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل ، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم ، وغزلنا لكم أثوابكم ، وربينا لكم أولادكم ، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله ؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال : « هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن في مسألتها عن أمر دينها من هذه ؟ فقالوا : يا رسول الله ، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا ، فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها ، فقال : « انصرفي أيتها المرأة ، وأعلمي من خلفك من النساء ، أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته ، واتباعها موافقته تعدل ذلك كله قال : فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا] ( ).
السادس : إبتدأ الجزاء في الآية بالأخص وهو الجهاد، لتكون الخاتمة بالأعم وهو الصبر للدلالة على فتح أبواب الجنة للمؤمنين جميعاً رجالاً ونساءً، وقد تقدم ذكر خصال أهل الجنة[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( ).
الآية لطف
يعيش الأنسان في الحياة الدنيا بآمال وأماني لا يبلغ معشارها ، وينسى أكثرها ولكن الله عز وجل لا ينسى تلك الأماني سواء طرأت على قلب المؤمن من الرغبة بالمسارعة في الخيرات أو التي طرأت على قلب الكافر من إدراك لزوم التوبة والإنابة أو إنحرافه عن هذا الإدراك وغلبة النفس الشهوية والهوى وحب زخرف الدنيا على جوارحه وأفعاله وفي ثناء الله على نفسه قال تعالى [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ).
وآية البحث من اللطف الإلهي بالناس جميعاً والمسلمين خاصة بجعل موضوع آمالهم الجنة والنعيم الأخرون بالدعاء والعبادة والجهاد والتحلي بالصبر ،ومن الإعجاز في السنة النبوية الدعوة إلى السلامة من قتال الأعداء والتضرع إلى الله لسؤال العافية ،[عن يحيى بن أبي كثير : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تتمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم ستبلون بهم وسلوا الله العافية ، فإذا جاءوكم يبرقون ويرجفون ويصيحون بالأرض ، الأرض جلوساً ثم قولوا : اللهم ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك وإنما تقتلهم أنت ، فإذا دنوا منكم فثوروا إليهم واعلموا أن الجنة تحت البارقة] ( ).
وسؤال العاقبة والأمن وصرف شرور العدو لا يتعارض مع ملاقاته ومقاتلته إن إختار القتال وجاءت آية البحث لتجمع بين الصبر والجهاد وتجعل المسلمين يقدمون على القتال ببذل الطاقة والتفاني في طاعة الله والشوق إلى لقائه ، فهم في حال السلم بناة وعمال وفلاحون وكسبة وفقهاء يجمعهم ذكر الله عز وجل وأداء الفرائض في أوقاتها وفي حال الحرب جنود يذبون عن الكتاب والسنة، ولا ينقطع ذكرهم لله عند اللقاء وعدم الإنقطاع هذا من معاني لغة التبعيض في قوله تعالى [الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ]وهل يحتسب ذكر وأداء عوائل المجاهدين والعلماء في النصر وتكون له موضوعية في ميدان القتال وإن بعدت المسافة بينهم وبينه ، الجواب نعم ، وتلك آية في فضل الله على المسلمين .
وهذا الذكر من مصاديق قوله تعالى [وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا] ( )ويدرك الإنسان حاجته إلى التنفس والغذاء والسكن ويشارك البهائم في حاجات عديدة إلا أنه يمتاز بالعقل والتكليف في الحياة الدنيا وبالبعث للحساب يوم القيامة ليكون إدخاره لحاجات عالم الآخرة أكثر وأعظم من حاجاته للدنيا ، ومن بديع صنعه وأسرار خلافته في الأرض ، قال تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ]( )وآية البحث من فضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات وتقريبهم إلى النعيم الأخروي، وجعل السعادة تغمرهم وفي الحياة الدنيا لأنها تخبر عن دخولهم الجنة بصدق جهاد فريق منهم وصبر آخرين .
[عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا يُنَجِّي أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ فَقَالَ رَجُلٌ وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ] ( )، نعم تبعث الآية الشوق في النفوس للجهاد في سبيل الله والصبر على المكاره وإيذاء الكفار وتشديدهم على المؤمنين وتجهيز الجيوش ضدهم ليكون من المسلم من الذين يدخل بهم غيرهم الجنة وعندما يكون مجاهداً صابراً فانه يدخل الجنة من باب الآولوية القطعية .
ويكون تقدير الآية في خطاب المجاهد الصابر (أم حسب المسلمون أن يدخلوا الجنة ولما يعلم الله جهادك ويعلم صبرك).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : في الآية دعوة لكل مسلم ليكون سبباً لدخول إخوانه المسلمين الجنة بأن يجتهد في الجهاد في سبيل الله، ويحرص على الإتصاف بالصبر بتعاهد الفرائض وبذل الوسع في الجهاد في سبيل الله فيتغشى الثواب المسلمين جميعاً ،ويكون تزكية لهم للعبور إلى شاطئ الأمان في الآخرة.
ومن مصاديقه في الدنيا بروز الإمام علي عليه السلام لعمرو بن ود العامري إذ نزل قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( )، فصرف الله وجوه مشركي قريش، ورماهم بالفزع والخوف من إقتحام الخندق وملاقاة المسلمين، الذين أظهروا أسمى ضروب الصبر والتحمل والتآزر في معركة الخندق.
ويستشهد أحد المؤمنين في ميدان المعركة فيكتبه الله جهاداً لأحد المسلمين ويصبح سلاحاً ووثيقة عبور إلى الجنة، وقانون إنتفاع الأمة الأمثل في الآخرة من فعل أحد أئمتها ورجالها في الدنيا من مصاديق قوله تعالى [ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بمعنى أنه ليس من أمة تدخل الجنة بعمل فرد منها إلا المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وفيه ترغيب للناس بأمور:
الأول : دخول الإسلام وجني الثمرات من عمل المؤمنين.
الثاني : التسابق في الخيرات، وبذل الوسع في مواجهة الكفار ومحاربة المفسدين في الأرض، قال تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ]( ).
الثالث : إنزجار الناس عن التعدي على المسلمين إذ أن كل مسلم يبادر إلى الإجتهاد في طاعة الله، وتحمل أشد الاذى صابراً محتسباً، وتجلت هذه الحقيقة الناصعة والبرهان الدامغ بتراجع قريش وعجزها عن معاودة الكرة في الهجوم على ثغور المسلمين.
أسباب النزول
قال قتادة والسدي: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والمشقة(الحر والبرد) وضيق العيش، وأنواع الأذى(وبلغت القلوب الحناجر) وقيل أنها نزلت في حرب أحد ونظيرها في آل عمران ،[عن جابر بن عبد الله قال : لما حفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الخندق ، وأصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين جهد شديد ، فمكثوا ثلاثاً لا يجدون طعاماً حتى ربط النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بطنه حجراً من الجوع] ( ).
موضوعية المؤمنات في علو المسلمين
جاءت آية السياق بالنهي عن الوهن والحزن والمرأة أكثر عاطفة من الرجل وأسرعهما تأثراً باسباب الوهن والحزن وأضعف حالاً عند تلقي المصيبة وأسباب الحزن وأرق أفئدة ومن خصائص الإنسان الإكتساب من غيره فتظهر حاجته عند الشدائد وملمات الأمور وعندما تداهم المسلمين خسارة واذى من الكفار ، يكون حال الناس عند المصيبة على وجوه :
الأول : تأثر الرجال بضعف وحزن النساء على فرض وقوعه .
الثاني : إتخاذ النساء حال الصبر والتحمل محاكاة للرجال .
الثالث : عدم إنفعال أي الطرفين بالآخر .
الرابع : التأثير المتبادل بين الطرفين بين الرجال والنساء .
الخامس : عدم ثبوت ظهور الوهن والحزن عند النساء قبل الرجال أو أكثر منهم ، وهي دعوى وجدانية قائمة على شواهد متعددة ، ولكنها
لا تصلح أن تكون قاعدة كلية .
السادس : تحلي النساء بدرجة من الصبر والتحمل عند المصيبة أكثر من الرجال ، وصيرورة صبرهن أسوة لهن .
السابع : النساء أكثر حزناً عند المصيبة وأقرب إلى الوهن والجزع عندما يشتد البلاء .
والصحيح هو الأول والرابع والسابع ، فجاءت كل من آية البحث والسياق لتغيير هذه الحال عند المسلمين خاصة ، وجعل النساء المؤمنات لا يكتفين بالوجه الثاني أعلاه من إتخاذ حال الصبر والتحمل محاكاة للرجال بل يقبلن على الواجب التكليفي من عدم الوهن والحزن على نحو مستقل ومن غير أن تصل النوبة إلى محاكاة الرجال .
و تقدير آية السياق في الخطاب للنساء هو : ولا تهنّ ولا تحزنّ وأنتم الأعلون .
أي يكون كل فرد من النهي الوارد في آية السياق متوجهاً إلى النساء المسلمات بعرض واحد مع توجهه إلى الرجال من المسلمين مع بقاء مرتبة العلو عامة للمسلمين والمسلمات .
وينحصر الوجه الرابع أعلاه بالتأثير المتبادل بين الرجال والنساء ولكن بنهج واحد وهو طرد الوهن والتوقي من الحزن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ) فمن البر في المقام أمور :
الأول : تعاون المسلمين بدفع الوهن الخاص والعام.
الثاني : عدم ظهور الوهن على اللسان وافعال الجوارح والأركان.
الثالث : إظهار الإخلاص في طاعة الله .
الرابع : التآزر والإيثار عند نزول المصيبة أو حصول الخسارة .
الخامس : تلاوة هذه الآية ، والتدبر في معانيها ومقاصدها السامية .
السادس : إجتهاد المسلمين بالدعاء بدفع الوهن عنهم وعصمتهم من الفشل والجبن [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله هل من شيء نقول : فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال : « نعم . قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، قال : فضرب الله وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله بالريح] ( ).
السابع: حفظ النساء للبيوت والعبادات وحفظ الأموال وإجتناب الجزع والقنوط والوهن .
ومن التقوى تفويض الأمور إلى الله والإقرار بأن القرح والجراحات التي تصيب المسلمين جاءت باذنا لله ، وهي ذخيرة لهم في النشأتين ، ومن التقوى عدم تثبيط همم المجاهدين وهو من تجليات تنزه المؤمنات عن أفعال المنافقين ليصبحن حجة عليهم ، وسبباً في فضحهم وعزلتهم فيكون هذا الإحتجاج من صيغ جهاد المؤمنات والشواهد على إختيارهن عدم الوهن والحزن طاعة لله وإجتهاداً في طلب مرضاته ،لتبذل المسلمة الوسع في قهر النفس الشهوية وتمنع من مزاحمة العاطفة للتكليف بعدم الوهن والحزن .
فيتفضل الله عز وجل ويحتسبه جهاداً في سبيله ، وصبراً في طاعتة وكنزاً نافعاً لأب وزوج وأخ وابن وبنت المؤمنة لغفران الذنوب والشفاعة وطريقاً إلى دخول الجنة ، ليكون نبتة كريمة تبعث على الإمتثال لأمر الله عز وجل عند المسلمة وحرزاً من وسوسة النفس والعاطفة من مصاديق قوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] وفيه بيان لفضل الله عز وجل على المجاهدين بأنه سبحانه حرر نسائهم من الوهن والحزن فصاروا [الأَعْلَوْنَ]إذ يقاتلون من غير تحريض من النساء على الكف عن القتال أو دعوة منهن للرجوع إلى حياة الدعة والأمن .
لقد تفضل الله عز وجل وخفف عن المؤمنين وطأة صدود وخبث المنافقين ، فالأصل أنهم يصلحون سرائرهم ، ويبادرون إلى الدفاع عن بيضة الإسلام ، فلما أظهروا الرياء وسعوا في وهن وخذلان المؤمنين ، تجلت معاني التعضيد للمؤمنين من النساء بكلمتين من القرآن وردتا على نحو النهي [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] وتسليم المسلمين والمسلمات بأن المنع الوارد في الآية شامل للنساء المؤمنات فصرن يتسابقن في مناهج الصبر والتحمل والتسليم بأمر الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) إذ أن إختيار النساء لتحريض المؤمنين على الجهاد، وحرصهن على إظهار الصبر عون ومدد للمؤمنين في جهادهم.
وفي معركة أحد وحدها شواهد كثيرة على صبر المسلمات تصلح أن تكون مدرسة في كيفية تلقي مصيبة القتل في سبيل الله ، وقد ذكرنا بعضها في القسم الأول ( )من تفسير قوله تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]( ).
[ عن أنس، قال: لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة وقالوا: قتل محمد حتى كبرت الصوارخ في نواحي المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار، فاستقبلت بأخيها وأبيها وزوجها، لا أدري بأيهم استقبلت أولاً، فلما مرت على آخرهم قالت: من هذا؟ قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وابنك، قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقولون: أمامك، حتى ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله صل
الله عليه وآله وسلم ما أبالي إذ سلمت من عطب] ( ) ليكون فعلها وقولها هذا جهاداً في سبيل الله ودعوة للمسلمين والمسلمات للصبر على الخسارة وسقوط الشهداء في ميدان المعركة ما دامت راية التوحيد والنبوة عالية بشموخ وقد شاركت أم عمارة المازنية في القتال يوم أحد وذبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الطرف الأخر جاءت نساء المشركين معهم في معركة أحد للتحريض على القتال على الباطل والشرك ولجعلهم يجتنبون الفرار خشية العار ، [قال ابن سعد وجعلوا على الخيل صفوان بن امية وقيل عمرو بن العاص وعلى الرماة عبدالله بن ابى ربيعة وكانوا مائة وفيهم سبعمائة دارع والظعن خمس عشرة امرأة] ( ) .
وفيهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان التي قتل أبوها وأخوها وعمها مشركين يوم بدر مع وجود أخيها حنظلة في جيش المسلمين ، فمن باب الأولوية القطعية أن تظهر المؤمنات العزم والهمة والتحريض في ملاقاة الكفار .
وفي جبهة الإيمان كانت فاطمة الزهراء عليه السلام وصفية بنت عبد المطلب ولمة من المؤمنات حاضرات يوم أحد ميدان المعركة , خاصة وأنها على أطراف المدينة المنورة ، وكأن حضورهن بشارة النصر كما في حضور أهل البيت المباهلة ودلالة حضورهم على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
[قالوا: وخرجت فاطمة في نساءٍ، وقد رأت الذي بوجهه صلى الله عليه وآله وسلّم فاعتنقته وجعلت تمسح الدم عن وجهه، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله! وذهب علي عليه السلام يأتي بماءٍ من المهراس، وقال لفاطمة: أمسكي هذا السيف غير ذميم. فأتي بماءٍ في مجنه، فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أن يشرب منه وكان قد عطش فلم يستطع، ووجد ريحاً من الماء كرهها فقال: هذا ماءٌ آجنٌ. فمضمض منه فاه للدم في فيه، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها. ولما أبصر النبي صلى الله عليه وسلّم سيف علي عليه السلام مختضباً قال: إن كنت أحسنت القتال، فقد أحسن عاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسيف أبي دجانة غير مذموم. فلم يطق أن يشرب منه، فخرج محمد بن مسلمة يطلب مع النساء ماء، وكن قد جئن أربع عشرة امرأة، منهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، يحملن الطعام والشراب على ظهورهن، ويسقين الجرحى ويداوينهم] ( ).
ومن مصاديق عدم وهن وحزن المؤمنات تطوع بعضهن للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما إقترب العدو منه ، فأصابتها الجراحات وبقيت شاهداً ظاهراً في بدنها يحكي للأجيال حقيقة وهي أن عدم الوهن والحزن من المؤمنات لا ينحصر بالسلامة الذاتية منهما بل يتجلى بالعزم والإقدام والمشاركة في القتال عند الحاجة مع سقوط القتال عن النساء ، فقد أدركت هذه المؤمنة أن الضرورة والحاجة أعم من التكليف ويكون جهادها وصبرها وتفانيها في الذب والدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضياء ينير دروب الجنة للمسلمين والمسلمات .
وفيه بيان لقانون كلي وهو أن النصر حليف المسلمين لأن نساءهم منزهات عن الوهن والحزن ، ويجاهدن عند الحاجة ويبادرن إلى الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام بأنفسهن ليأتيهن الثواب متعدداً ومركباً من الصبر والجهاد ومقدماتها ، وهو الإمتثال الجلي والنافع [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا]وفيه مسائل :
الأولى : إنه درس دون إعتذار النساء عن تحمل أعباء المسؤولية عند الشدائد .
الثانية : بيان قانون وهو تجلي الإمتثال الحاضر للنهي القرآني ، فليس ثمة مدة أو فترة بين نزول الأمر أو النهي من عند الله وبين الإمتثال له [رُوي عن البراء بن عازبٍ أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قدِم المدينةَ فصلَّى نحوَ بيتِ المقدس ستةَ عشرَ شهراً ثم وُجِّه إلى الكعبة وقيل : كان ذلك في رجبٍ بعد زوال الشمسِ قبل قتال بدرٍ بشهرين ورسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد بني سَلَمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوَّل في الصلاة واستقبل الميزاب وحوّل الرجالَ مكانَ النساء والنساءَ مكانَ الرجال فسُمِّيَ المسجدُ مسجدَ القِبلتين] ( ).
الثالثة : بعث المؤمنين على الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية لأن حرص النساء على عدم الوهن والحزن ، وظهور عصمتهن من إستحواذه على النفوس دعوة عامة للمسلمين للعمل بالأوامر وإجتناب النواهي الإلهية .
الرابعة : وجود شاخص كريم وأسوة تقتدي بها المؤمنات في الإجيال المتعاقبة ، فيأتي فعل لإحدى الصحابيات ليبقى مناراً وموعظة لأجيال المسلمين والمسلمات ، وجاء زمان الرسائل الجامعية لتختص بهذه الشواهد وإستنباط المسائل والأحكام منها مع لزوم الرجوع إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تشمل الموضوع ، ومنها آية البحث وتعضيد المرأة للمجاهدين وإظهارهم الصبر والتأسي عند المصيبة ، وعند الجهاد وذهاب الزوج إلى الثغور والمرابطة ، ويستلزم الصبر في تحملها جهداً إضافياً ومسؤوليات معاشية وعائلية عند غياب الزوج في مرضاة الله.
ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لإظهار بعض ذريته الفساد في الأرض وإشاعة القتل بغير الحق أقام الله عز وجل الحجة عليهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، وكان من علم الله عز وجل قيام المسلمين بلحاظ آية البحث بأمور:
الأمر الأول : الجهاد في سبيل الله، والقتال لمنع الفساد في الأرض، وأشد مصاديق الفساد الكفر والجحود، فأراد الله عز وجل للمسلمين نيل مرتبة وشرف محاربته وإجتثاثه من الأرض ليتفضل عليهم بالجنة ، قال تعالى[وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا]( ).
الثاني : الجهاد وبذل الوسع لمنع سفك الدماء من جهات:
الأولى : إزاحة الكافرين والظالمين عن منازل الرئاسة التي تتيح لهم الفتك بالناس والحكم بغير الحق.
الثانية : حكم المسلمين بين الناس بالعدل والإحسان وابتناء هذا الحكم على الكتاب والسنة ،قال تعالى[وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ]( )،[ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ في الآية أعلاه قَالَ: نَزَلَتْ فِي الأُمَرَاءِ خَاصَّةً] ( ) .
ولكن الآية أعم فتشمل الحكم والفعل بين الأطراف المختلفة والمتنازعة فتشمل القضاة ورجال السياسة والإدارة ورؤساء القبائل والعرفاء ، ومن يرجع إليهم وفق العرف السائد بالفصل في القضايا .
ويدل عليه صيغة العموم في الخطاب، ولغة الشرط[وَإِذَا حَكَمْتُمْ] ويستقرأ من عموم الخطاب تعاون المسلمين في الحكم وموضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه ، فاذا كان الحكم خلافاً للعدل فلا بد من البيان والتنبيه والزجر وفق مراتب الأمر والنهي الواجبين.
الثالثة : بيان سوء عاقبة الذي يسفك الدماء بغير حق.
الرابعة : تفضل الله بتشريع القصاص ولا يختص هذا الحكم بالمسلمين، فقد جاء به الأنبياء السابقون، وبخصوص التوراة قال تعالى[وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ]( )، وهل يتعارض العفو وترك القصاص الوارد في قوله تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( )، مع جهاد المسلمين لمنع القتل بغير الحق في الأرض، الجواب لا، من جهات:
الأولى : يأتي هذا العفو بعد ثبوت القصاص.
الثانية : يكون العفو على نحو القضية الشخصية.
الثالثة : الآية أعلاه ندب وترغيب بالعفو.
الرابعة : ترشح العفو عن التقوى والخشية من الله عز وجل فكما أن العفو إقتراب من تقوى الله، فان الجهاد في سبيل الله والصبر في مرضاته.
الخامسة : العفو حق خاص لولي الدم، كابن المقتول، فليس للحاكم أن يحمله على العفو أو عدمه،وهل تجوز الشفاعة والترغيب فيه ، الجواب نعم ، لأنه من مصاديق الإقتراب من التقوى .
السادسة : العفو عن القتل من التنزه عن سفك الدماء، وإجتناب القتل وان كان قصاصاً وحقاً وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فيعلم الله سبحانه بأن المسلمين يعفون عن حقهم في القصاص حباً لله تعالى ورجاء القرب من رحمته والفوز بعفوه ،قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثالث : تنمية الإسلام لملكة الورع في الدماء وإجتناب القتل والثأر، ومن الآيات في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إستئصال الوأد، من جهات:
الأولى : نزول القرآن بذم وتقبيح وأد البنات، قال تعالى[وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ).
الثانية : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنع الوأد، [عن عمر بن الخطاب في قوله: { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [بأَيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]}، قال: جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إني وأدت بنات لي في الجاهلية، فقال: “أعتق عن كل واحدة منهن رقبة”. قال: يا رسول الله، إني صاحب إبل؟ قال: “فانحر عن كل واحدة منهن بدنة] ( ) وهناك أخبار تدل على أنهم يقومون بالوأد وهم في حال أسى وندم .
وورد عن [عَنْ عِكْرَمَةَ، قَالَ: قَالَ ابن عَبَّاسٍ:”أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ فَقَدْ كَذَبَ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: “وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ”، قَالَ ابن عَبَّاسٍ: هِيَ الْمَدْفُونَةُ]( )، وفيه مسألتان :
الأولى : لا ملازمة بين سؤال الموؤدة عن سر وسبب قتلها وبين دخولها الجنة .
الثانية : أطفال المشركين أعم من موضوع الوأد الذي هو حالة خاصة في مكان محدود وقد إنقضى زمانه باشراقة الإسلام على الأرض والنفوس ، وهيمنته على الجوارح وعالم الأفعال ، وفيه دعوة للنساء للشكر لله عز وجل على الأمن والنجاة من الوأد .
ويتجلى هذا الشكر بلحاظ آية البحث بالصبر على العبادات والإعانة في أبواب طاعة الله .
الثالثة : إنتفاء موضوع الوأد، لأن العرب كانت تقتل بعض البنات عند الولادة وفي الصغر لأمرين:
الأول : خشية سبي البنت وما فيه من القهر والذل والخزي.
الثاني : الفقر والفاقة.
أما بالنسبة للأول أعلاه فقد إنقطع الغزو بين القبائل ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتآزرت القبائل في الجهاد في سبيل الله، وتعضيد هذه المؤازرة من السماء بقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، ليكون من أسراره لزوم إستدامة مفاهيم الأخوة بين المسلمين إلى يوم القيامة ، ويتجلى بيانه في السنة النبوية إذ آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين كل إثنين من أصحابه من المهاجرين والأنصار .
وأما بالنسبة للثاني فان آيات القرآن جاءت بالوعد بالرزق الكريم، وعدم وجود فترة بين هذا الوعد ومصاديقه الواقعية التي تجلت بداياتها بمعركة بدر من جهات:
الأولى : تحقق النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثانية : نزول النصر من عند الله، وتوثيق هذا النزول بآية قرآنية يتلوها ملايين المسلمين وإلى يوم القيامة.
الثالثة : وقوع الغنائم بيد المسلمين يوم بدر.
الرابعة : أخذ المسلمين لسبعين من المشركين أسرى، ودفع أكثرهم المال فداء، وإمتلاك الذي قام بالأسر لهذا المال، ومنهم من قتل عند إنتهاء المعركة كما من أمية بن خلف وإبنه ،إذ عرضا نفسيهما للأسر بعد معركة بدر وهزيمة المشركين ، [وعن عبدالرحمن بن عوف : فو الله إنى لاقودهما إذ رآه بلال معى، وكان هو الذى يعذب بلالا بمكة على الاسلام، فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا.
قال قلت: أي بلال، أسيرى، قال: لا نجوت إن نجا.
قال: ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا.
فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة فأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط.
قال: قلت: انج بنفسك ولا نجاء [ بك ] ، فو الله ما أغنى عنك شيئا.
قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما] ( ).
وهل في قتله فعل مخالف لقوله تعالى[وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( )، الجواب لا، من وجوه:
الأول : كان القتل في ساحة المعركة، وعند نهاياتها.
الثاني : شدة إيذاء أمية للمسلمين الأوائل في مكة.
الثالث : ذب الذي أسره عنه، ومحاولته دفع قتله أو الإجهاز عليه.
الرابع : قتل أمية أقرب للقصاص لقتله المسلمين الأوائل مثل ياسر وسمية.
الخامسة : وجود فئة يرجع لها أمية وهو من رؤساء الشرك والضلالة إذ يقوم بتحريض الناس على الإسلام .
ومن الآيات في السنة التقريرية عدم ورود خبر بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وجه اللوم لبلال وغيره على قتل أمية بن خلف.
الخامس : أختلف في نزول سورة الدهر على أقوال :
الأول : السورة كلها مدنية ورد عن ابن عباس وروي حديث إطعام أهل البيت عليهم السلام علي وفاطمة والحسن والحسين وخادمتهم فضة للمسكين واليتيم والأسير وإيثارهم على أنفسهم عن عدد من الصحابة وعن أئمة أهل البيت وذكر جمع من المفسرين أن إيثارهم هذا هو سبب نزول السورة رواها الحافظ الحسكاني ت 470 هجرية بطرق عديدة عن علي عليه السلام وابن عباس والإمام الصادق وزيد بن أرقم والأصبغ بن نباته .
الثاني : إن شطراً من آياتها مكي وشطراًُ مدني وعن الحسن : السورة مكية إلا آيات [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ) إلى آخر السورة فمدني ، وقال بعضهم أن قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً] ( )إلى آخر السورة مكية والباقي مدني( ) وعلى كلا القولين فان آيات إطعام الطعام مدنية .
الثالث : السورة مكية ،ذكره عن يسار بعد أن نقل عن الجمهور منهم مجاهد وقتادة أنها مدنية .
السادس : الجهاد في سبيل الله بالسيف، وفيه بيان عملي من جهات:
الأولى : جذب الناس إلى منازل الإيمان قهراً وإنطباقاً.
الثانية : دعوة الناس لأداء الفرائض والعبادات التي هي واقية من القتل بغير حق، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
الثالثة : تأكيد قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن يجعل المسلمون أنفسهم فداء لتنزيه الأرض من الفساد وسفك الدماء بغير حق، ومن مصاديق خروجهم للناس بلحاظ هذه التضحية والبذل تأكيد قبح القتل بغير حق.
السابع : إتخاذ المسلمين الجهاد وسيلة لترغيب الناس في ثواب الآخرة، وهو الذي تدل عليه آية البحث بالدلالة التضمنية، فصحيح أن قوله تعالى[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ] خطاب موجه للمسلمين ولكن الأصل فيه هو إرادة جميع الناس، بلحاظ وجوب إيمانهم، ولكنهم وبسوء إختيارهم الكفر حجبوا عن أنفسهم نعمة البشارة بالجنة وبيان صراط الإيمان المستقيم لها.
الأمر الثاني( ) : تلقي المسلمين نزول آيات القرآن بالتصديق والعمل بمضامينها، وكل من هذا التصديق والعمل واقية من سفك الدماء بغير حق، وهو من أسرار وجود أمة مؤمنة في كل زمان، فمن خصائص المؤمنين التنزه عن سفك الدماء بغير حق فيكونون أسوة حسنة للناس بحسن سمتهم، وإجتنابهم سفك الدماء، وهل يشمل هذا الترغيب في ذاته وموضوعه ومقاصده الذين يعتدون على المسلمين، ويقتلونهم في ميادين المعارك وغدراً وغيلة أم أنهم يخرجون من هذا الترغيب تخصصاً أو تخصيصاً.
الجواب هو الأول، وهو من مصاديق خروج المسلمين للناس جميعاً بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ويدل عليه أمور منها:
الأول : أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأمراء والقادة بأن يبدأوا بوعظ العدو ودعوتهم للإسلام، ونبذ الكفر والضلالة، ومن الآيات أن هذه الموعظة تأتي لأفراد العدو تابعاً ومتبوعاً بعرض واحد لإقامة الحجة عليهم، وحث الأتباع على عدم الإنقياد للظالمين في جورهم وتعديهم.
الثاني : عدم إبتداء المسلمين بالقتال إلى أن يبدأ العدو، وفيه تعجيل بالنصر للمسلمين والخزي لعدوهم اللئيم.
الثالث : إظهار المسلمين الصدق في جهادهم في سبيل الله وحب الشهادة والشوق للقاء الله عز وجل ليرى الملائكة إستدامة جهاد المؤمنين لإستئصال الفساد، وإتخاذهم السيف بالحق لمنع إستعماله بالباطل.
الرابع : حرص المسلمين وأهل الحل والعقد منهم على إجتناب سفك الدماء ومجئ أحكام الشريعة بعصمة الدماء إلا بالحق.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : [أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله ، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله] ( ).
الأمر الثالث : جهاد علماء الإسلام، وإجتهادهم وتصديهم لبيان الأحكام ومنها:
الأول : بيان حرمة الفساد.
الثاني : ذكر موضوع الفساد وضروب المعصية وإستحضار قاعدة نفي الجهالة والغرر.
الثالث : النهي عن الفساد والدليل من الكتاب والسنة ، ومن إعجاز القرآن أنه ليس من آية من آياته إلا وتتضمن النهي عن الفساد في منطوقها أو مفهومها، ومنها آية البحث إذا تتضمن النهي عن الفساد من جهات:
الأولى : إخبار الآية عن الجنة وأنها مثوى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويدل في مفهومه على لزوم الإنزجار عن الفعل القبيح الذي يكون برزخاً يمنع صاحبه من دخول الجنة.
الثانية : تشريف وإكرام المسلمين بتلقي الخطاب من الله بكيفية وطرق دخول الجنة، لإيمانهم وصلاحهم، ويدل في مفهومه على أن التلبس بالفساد سبب لمنع الإنسان من تلقي هذا الخطاب الذي هو بذاته مقدمة لدخول الجنة.
الثالثة : يدل ذكر الجنة وإختصاص أهل الإيمان بها في مفهومه على أن النار مثوى المفسدين بلحاظ إنعدام البرزخ بينهما، وهو لا يتعارض مع فضل الله باخراج من يشاء من النار، وعن جابر بن عبد الله قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(فأما الذين شقوا) ……إلا ما شاء ربك)
وقال: قال: إن شاء الله أن يخرج أناساً من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل)( ).
الرابعة : بيان الآية لقبح الفساد لآنه حائل من تلقي الخطاب بدخول الجنة وشرائطه .
الخامسة : حمل المفسدين للأوزار على ظهورهم يوم القيامة من وجوه:
الأول : التلبس بالفساد والأصرار على المعصية والإثم .
الثاني : محاربة الإسلام والإمتناع عن ركوب جادة الهدى، والإصرار على إتباع صراط ضلالة وغواية.
الثالث : تلقي المؤمنين الأذى والضرر من الكفار والمفسدين.
الرابع : صدود المفسدين عن دعوة الحق، وتكذيبهم للتنزيل وآيات النبوة العقلية والحسية.
الخامس : حمل المؤمنين على جهادهم وقتالهم، ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إتخاذ دعوته صبغة السلم، فبقي يدعو إلى الله في مكة والوحي ينزل إليه ثلاث عشرة سنة، لم يقاتل فيها، ولم يرد إعتداء بمثله سواء عليه أو على أصحابه، بل كان يلاقي وأهل بيته وأصحابه أذى الكفار بصبر ليكون هذا الصبر نبراساً للأجيال المتعاقبة من المؤمنين، وشاهداً على الحلم والحكمة التي كان يلاقي بها أذى الكفار، أذى قريش من الفساد الذي ذكره الملائكة في إحتجاجهم على جعل آدم خليفة بقولهم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( ) .
وفي صبر وتحمل النبي له مصداق لقوله تعالى في الرد والإحتجاج والبرهان الدامغ من الله إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، لأنه طريق لإستئصال هذا الفساد وما يترشح عنه من الظلم للنفس والغير، فلم تمر الأيام والشهور حتى دخل أهل مكة الإسلام عنوة، ليكون من معاني ووجوه الآية أعلاه أمور:
الأول : عدم إستدامة الفساد.
الثاني : سوء عاقبة المفسدين، إذ قتل رؤساء الكفر والضلالة في معارك الإسلام الأولى , قال تعالى[عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ] ( )، ومن الآيات التوثيق التأريخي لهلاكهم ووروده في السنة النبوية، وأشعار العرب وكتب اللغة والسيرة والمغازي والتأريخ.
الثالث : من علم الله عزو جل في المقام أن فساد فرقة من الناس سبب لقطع وقتل منهم، ومن الآيات أن ذات الملائكة الذين إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان يفسد في الأرض، نزلوا يوم بدر وأحد والخندق وحنين لإستئصال الفساد، وتطهير الأرض من المفسدين.
الرابع : تثبيت معالم التوحيد وأحكام الحلال والحرام، بما يجعل الفساد أمراً قبيحاً تنفر منه النفوس، ويعزف عنه الناس.

التفسير
قوله تعالى[أَمْ حَسِبْتُمْ]
جاءت الآية السابقة بصيغة الجملة الخبرية ولغة التعليل التي تدل على إتصالها مع الآية السابقة لها والتي وردت بصيغة الخطاب للمسلمين [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ] ( )وتلك آية في نظم آيات القرآن بأن يتعقب القانون العام الذي يكون سوراً حتمياً يحيط بالناس جميعاً لحال مخصوصة تصيب المسلمين وهو الجراحات والقروح في المعارك.
لقد خاض المسلمون معركة بدر وأحد والخندق ليتغير مجرى التأريخ، وتكون فيصلاً بين الناس بلحاظ الإيمان والكفر ، قال تعالى [لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ]( )لتكون هذه المعارك فضحاً للمنافقين ، وخزياً للكافرين .
إبتدأت الآية الكريمة بالخطاب بصيغة العموم الذي تدل عليها التاء في قوله تعالى[أَمْ حَسِبْتُمْ] ويحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة المؤمنين.
الثاني : المقصود المؤمنون والمؤمنات.
الثالث : المراد المسلمون والمسلمات جميعاً.
الرابع : يخص الخطاب في الآية المسلمين الذكور دون النساء.
الخامس : الآية خاصة بالمجاهدين، وأنهم المقصودون بدخول الجنة، وفي المرابطين في سبيل الله وجوه:
الأول : إلحاق المرابطين بالمجاهدين في الإسلام والمرتبة.
الثاني : المرابطون شطر من المجاهدين، والنسبة بينهما التساوي ولا تصل النوبة إلى الإلحاق.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه بين المجاهدين والمرابطين، إذ يلتقون في مادة ويفترون في أخرى.
الرابع : التباين الموضوعي بين المجاهدين والمرابطين فكما يكون الإختلاف في الاسم يكون في المسمى.
والصحيح هو الثاني، ولا يضر به نسبة العموم والخصوص المذكورة في الثالث أعلاه لتعدد مصاديق وضروب الجهاد[وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
(أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن سلمان الفارسي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « » من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر ، وأجرى عليه الرزق ، وأمن الفتانين ، وأقرأوا إن شئتم وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * َيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ( ).
السادس : توجه الخطاب إلى المسلمين والمسلمات الصابرين في ذات الله.
السابع : المقصود من لفظ [أَمْ حَسِبْتُمْ] هم الصابرون من المسلمين، بلحاظ أن النسبة بين الصابرين والمجاهدين هي العموم والخصوص المطلق، إذ يستلزم الجهاد الصبر، بينما يكون الصبر بخصوص أداء العبادات، ويصدق على حال الإستضعاف وتلقي الأذى.
والصحيح هو الثالث فالدعوة والبشارة بدخول الجنة التي تتضمنها هذه الآية عامة للمسلمين والمسلمات وهو من اللطف الإلهي بأن تكون الآية على قسمين:
الأول : إخبار المسلمين والمسلمات عن دخولهم الجنة بلحاظ إقامتهم على أداء الفرائض والعبادات التي هي من مصاديق الصبر في مرضاة الله.
الثاني : علم الله عز وجل بالمجاهدين، والصابرين.
فلا ملازمة بين دخول المسلم الجنة وقيامه بالجهاد والصبر، وقد يتبادر إلى الذهن بأنه لا يدخل الجنة إلا من كان مجاهداً أو صابراً، ولكنها شبهة بدوية تزول بالتدبر في مضامين ودلالات آية البحث إذ إبتدأت بصيغة العموم والخطاب المتضمن البشارة بدخول الجنة التي تتغشى جميع المسلمين والمسلمات ثم جاء الشرط بعلم الله عز وجل بالمجاهدين والصابرين من المسلمين، ليكون معنى الآية الكريمة على وجوه:
الأول : لا يدخل الجنة الا الذين جاهدوا في سبيل الله .
الثاني : يدخل الجنة خصوص المجاهدين والصابرين.
الثالث : فوز الذين يمدون المجاهدين بالجنة أيضاً، لإنطباق مسمى الجهاد عليهم ولو بصرف الطبيعة.
الرابع : إلحاق ذرية المجاهدين بهم قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ]( ).
الخامس : فوز الصابرين بالجنة لأن الآية جاءت بالوعد الكريم لهم.
السادس : إرادة دخول عموم المؤمنين والمؤمنات الجنة.
والصحيح هو الأخير وتكون الوجوه الأخرى في طوله، ويدل عليه أول الآية وإن جاءت بصيغة الشرط الذي يدل عليه حرف(أم) ومع بعده من البيان.
ولأن الآية وعد كريم على أمر يتحقق بفضل الله كل يوم إذ يمتثل المسلمون للأوامر الإلهية في إقامة الفرائض كالصلاة اليومية فتكون مصداقاً للصبر، ووسيلة لدخول الجنة.
وجاءت الآية بصيغة الإستفهام الذي يفيد أموراً :
الأول : البعث على عمل الصالحات الذي يؤدي إلى اللبث الدائم في الجنة ، فان قلت لا يتم هذا الدخول إلا بفضل الله ،الجواب نعم ، ومن مصاديقه تقريب وهداية العبد إلى مقدمات وأسباب هذا الدخول ولو إحتج غيره يوم القيامة ممن لم ينل هذا التوفيق واللطف الإلهي فالجواب إن هذا التقريب خاص بأهل الإيمان ، وجزاء لهم على هدايتهم للإسلام وإتباع الرسول الكريم ، وتدل عليه صيغة الخطاب في آية البحث [أَمْ حَسِبْتُمْ] التي تتضمن البشارة المقرونة بالتعليق الباعث على العمل ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : جاهدوا واصبروا كي تدخلوا الجنة .
الثاني : سوف تدخلون الجنة بالجهاد والصبر .
الثالث : الجهاد والصبر طريقكم أيها المؤمنون إلى الجنة.
وهل يمكن تقدير الآية: إذا أردتم دخول الجنة فجاهدوا وأصبروا، الجواب نعم ولكنه لا يخلو من تكلف في المعنى إذ أن الله عز وجل والملائكة والناس أجمعين يعلمون أن المسلمين يريدون دخول الجنة ويسعون لها بجد ومثابرة لذا تفضل الله وأخبر في الآية الخلائق بأن المسلمين يريدون دخول الجنة وعليهم أن يتخذوا البلغة التي تؤدي بهم إلى نعيمها وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، بلحاظ أن إرادتهم وسعيهم ومسارعتهم في الصالحات التي تقود إلى الجنة من الهداية إلى الصراط، وكذا آية البحث ومضامينها القدسية.
وتدل الآية الكريمة بالدلالات التضمنية على أمور :
الأول : تفضل الله عز وجل بخلق الجنة لتكون مسكناً دائماً للمؤمنين الذين أخلصوا الطاعة لله عز وجل، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا]( ).
ويتجلى الإخلاص بالجهاد وبذل الوسع في مرضاة الله، وبالصبر والتحمل في رفع لواء التوحيد.
وهل تدل آية البحث على أن الجنة مخلوقة الآن أم أنها لم تخلق بعد لأن موضوع وأوان الحاجة إليها لم يحن بعد ، الجواب لا دليل فيها على هذا الخلاف الفرعي مع أن المختار هو الأول.
وتتضمن الآية الزجر عن الإنشغال عن إصلاح النفس لدخول الجنة والتفقه في الدين معرفة شرائط اللبث الدائم في الجنة وكيفية إحرازها، فهناك مسائل خلافية في علم الكلام علمها لا ينفع وجهلها لا يضر ،أو قل إن اموراً أخرى أكثر موضوعية وحاجة يجب أن تولى العناية في هذا العلم منها ما تدل عليه آية البحث من لزوم السعي الحثيث في الصالحات لدخول الجنة ، والإلتفات إلى أداء الفرائض والواجبات العبادية لأنها مصداق جامع للجهاد والصبر ، قال تعالى[وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى]( ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصر الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)( ).
الثاني : إنعدام المانع من دخول المسلم أو المسلمة مطلقاً الجنة .
فصيغة الخطاب في آية البحث إنحلالية شاملة لجميع المسلمين والمسلمات ، لذا تفضل الله عز وجل بالندب إلى الإستغفار ، وأخبر عن تغشيه لكل ذنب ومعصية، وفي هذا الإطلاق في منافع الإستغفار ومجيئه على الذنوب والآثام مسائل:
الأولى : وروده في القرآن .
الثانية : مجيؤه بالنص الصريح الذي لا يقبل تعدد التأويل.
الثالثة : تعدد الآيات التي تفيد شمول الإستغفار، لكل ذنب ومجيئه على كل معصية، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( ) نعم ورد الإستثناء في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( )وفيه بشارة للمسلمين والمسلمات بالسلامة والأمن من هذا الإستثناء لتصديقهم بنزول القرآن من عند الله وإجتهادهم في السعي لدخول الجنة .
الثالث : يفيد إستحضار الآية أعلاه عند التدبر في آية البحث أن دخول الجنة مقيد بالإيمان والتنزه عن الشرك ، وفيه انذار للمنافقين وإخبار بحرمانهم من دخول الجنة لإفتقارهم وإمتناعهم عن الإيمان الصادق ، وهو من إعجاز القرآن بأن يدخل المنافقون مع عموم المسلمين في خطابات التكليف كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )وكما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( )، وحينما يأتي موضوع دخول الجنة تتجلى معاني الإستثناء وحرمان المنافقين منه بالتخصيص، ويدل عليه قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
من خصائص آية البحث أنها تذكر بالموت بالعرض ولكنها تجعله طريقاً إلى الجنة وإنتقالاً إلى عالم السعادة الأبدية ، فلم تذكر الآية الموت بالذات بل ذكرته بعاقبته وما بعده، ليكون الموت على قسمين:
الأول : موت الكافر وبلحاظ عاقبته بدخول النار.
الثاني : موت المؤمن وحسن عاقبته في الآخرة.
وهذا التقسيم من الإعجاز في صيغة الخطاب في الآية [أَمْ حَسِبْتُمْ] وتوجهه للمسلمين على نحو التعيين بلحاظ صبغة الجهاد والصبر التي يتصفون بها .
ويحتمل الخطاب في إطلاقه وجوهاً :
الأول : شمول النساء المسلمات بالخطاب، وتقدير الآية من جهات :
الأولى : أم حسبتم أن تدخلن الجنة ولما يعلم الله اللائي جاهدن منكن والصابرات .
الثانية : أم حسبتن أن تدخلن الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ، بلحاظ أن الجهاد فرض على الرجال دون النساء .
الثالثة :أم حسبتن أن تدخلن الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرات .
الرابعة : أم حسبتن أن تدخلن الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا ويعلم اللائي جاهدن منكم ويعلم الصابرين ويعلم الصابرات .
والصحيح هو الجهة الرابعة أعلاه ، وتلك آية في عموم اللفظ القرآني وإرادة النفع العام منه ، ليكون جهاد المسلمين والمسلمات كل بحسبه وشأنه وقدرته ، قال تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
ويتجلى جهاد المرأة بحسن الخلق مع الزوج ولبس أحسن الثياب له، والتعطر في البيت، أما الصبر في قوله تعالى [وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] فانه عام للرجل والمرأة لأن أثر المصيبة وسقوط الشهداء من المسلمين يقع على المسلمين والمسلمات، وقد تكون مصيبة المرأة أكبر بفقد الزوج مثلاً، لتجد نفسها فجأة أمام إعاشة العيال والعناية بهم ، وتولي شؤونهم داخل وخارج البيت ، مع وطأة فقد الحبيب الذي إعتادت أن يدخل عليها كل يوم بكرة وعشية ، ليكون صبرها إحتساباً ورضا بأمر الله وحسن قضائه.
وطرو موضوع الزواج من آخر أو عدمه، ومشقة الدخول في عالم مجهول في ذاته وأثره.
وعن ابن عباس أنه جاءت امرأة لرسول الله فقالت [إني رسول النساء إليك وما منهم امرأة علمت أو لم تعلم إلا وهي تهوي مخرجي إليك الله رب الرجال والنساء وإلههن وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء كتب الجهاد على الرجال فأن أصابوا أثروا وإن استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم فما يعدل ذلك من أعمالهن؟ قال: طاعة أزواجهن والمعرفة بحقوقهم وقليل منكن تفعله]( ).
لقد كان جهاد النساء المؤمنات في بدايات الإسلام مضاعفاً فلا يختص بحسن التبعل وطاعة الأزواج ، بل الصبر وبذل الوسع عند غياب الأزواج في الكتائب والمرابطة ، وإنتظار تلقي أخبار القتال وهي على وجوه :
الأول : أخبار تحقق نصر المسلمين والتطلع إلى مجئ البشير، إذ كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبعث من يبشر أهل المدينة بالنصر والظفر . فبعد أن إنتهت معركة بدر قدّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إثنين من أصحابه لنقل البشارة لأهل المدينة ، الأول زيد بن حارثة وأرسله إلى أهل السافلة، والثاني عبد الله بن رواحة أرسله لأهل العالية( )، ووصلا ضحى يوم الأحد ، وقد خرج الناس لأعمالهم وإفترقا في العقيق( ).
وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما وصل إلى المصلى صاح وهو على راحلته : قتُل عتبة وشيبة إبنا ربيعة وأخذ يذكر أسماء رؤساء الكفار الذين قتلوا يوم بدر ، ثم انتقل إلى الأسرى فقال : وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثير، فلم يصدق المنافقون وأخذوا يشككون في الخبر ، وقالوا إن زيداً جاء منهزماً وقال اليهود إن زيداً جاء فاراً من القتال .
[وقالت يهود: ما جاء زيد إلا فلاًّ! قال أسامة بن زيد: فجئت حتى خلوت بأبي، فقلت: يا أبه، أحق ما تقول؟ قال: إي والله حقاًّ يا بني! فقويت في نفسي، فرجعت إلى ذلك المنافق فقلت: أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين، ليقدمنك رسول الله إذا قدم فليضربن عنقك! فقال: يا أبا محمد، إنما هو شيء سمعت الناس يقولونه] ( ).
أما عبد الله بن رواحة فأخذ ينادي على راحلته: يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتل المشركين وأسرهم واخذ يعدد القتلى من مشركي قريش، ثم ذهب إلى دور الأنصار بالعالية وأخذ يبشرهم داراً داراً والصبيان يشتدون معه ويقولون: قتل أبو جهل الفاسق ، حتى إنتهوا إلى دار بني أمية بن زيد في العوالي.
وتحتمل صيغة البشارة وجوهاً :
الأول : أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لقن البشيرين ما يقولان على نحو التفصيل.
الثاني :إتفق البشيران في الطريق على الصيغة والكيفية التي يخبران بها أهل المدينة بالنصر والفتح.
الثالث : ليس من إتفاق بينهما فكل واحد منهما أخبر عما رآه .
والأرجح هو الثالث، فكان البشير كالإعلامي والصحفي الذي يروي الوقائع كما هي.
وكان الناس بين مصدق للخبر وبين شاك في الأمر لأنه معجزة خلاف العادة وسير المعارك بحساب عدد الجيوش والمؤون ،وكثرة المشركين ، وقلة المؤمنين ، ومنهم من كان يظن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خرجوا لتلقي عير قريش وتجارة لهم ، وليس رؤوس وأكابر قريش ووقوع المعركة، وبينما هم يتدارسون الأمر إذ أدخل الأسرى المدينة وعدد الذين أحصوا منهم تسعة وأربعون ، وعليهم شقران مولى رسول الله وكان قد شهد بدراً [قال الواقدي: وهم سبعون في الاصل مجتمع عليه لا شك فيه]( ).
وخرج الناس إلى الروحاء يستقبلون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويهنئونه وأصحابه بالنصر ، ومنهم من أخذ يعتذر فيقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعتذاره فقال أسيد بن الحضير وهو من النقباء في بيعة العقبة [يا رسول الله الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوا، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت]( ).
وكان لواء الأوس يوم أحد بيد أسيد هذا، كما أنه أقام مائتي رجل من المسلمين على الخندق يوم الأحزاب.
ومن قصة أسر سهيل بن عمرو وهو الذي تفاوض باسم قريش يوم الحديبية وإمتنع عن الإقرار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله وإحتج على البسملة وقوعه أسيراً يوم بدر , وكان مع مالك بن الدخشم وهو الذي أسره، وعن إن إسحاق: أنه لما وصلا إلى شنوكة( ).
قال له سهيل: خل سبيلي للغائط. فقام به، فقال سهيل: إني أحتشم فاستأخر عني! فاستأخر عنه، ومضى سهيل على وجهه، انتزع يده من القران ومضى، فلما أبطأ سهيل على مالك أقبل فصاح في الناس، فخرجوا في طلبه. وخرج النبي صلى الله عليه وسلّم في طلبه. فقال: من وجده فليقتله! فوجده رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد دفن نفسه بين سمرات، فأمر به فربطت يداه إلى عنقه، ثم قرنه إلى راحلته، فلم يركب خطوة حتى قدم المدينة فلقي أسامة بن زيد.
وعن جابر بن عبد الله، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، ورسول الله على راحلته القصواء، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بين يديه، وسهيل مجنوب، ويداه إلى عنقه، فلما نظر أسامة إلى سهيل قال: يا رسول الله، أبو يزيد! قال: نعم، هذا الذي كان يطعم بمكة الخبز.
وعن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقدم بالأسرى حين قدم بهم، وسودة بنت زمعة عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ، وذلك قبل أن يضرب الحجاب. قالت سودة : فأتينا فقيل لنا : هؤلاء الأسرى قد أتي بهم. فخرجت إلى بيتي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فيه ، وإذا أبو يزيد مجموعةٌ يداه إلى عنقه في ناحية البيت ، فوالله إن ملكت حين رأيته مجموعةً يداه إلى عنقه أن قلت: أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم ! ألا متم كراماً؟ فو الله ما راعني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من البيت :
يا سودة أعلى الله وعلى رسوله؟ فقلت: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق نبياً ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعةً يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت)( ).
فيدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدخل أحد كبار الأسرى إلى بيته ومع عياله، وهو أمر لم يحدث في التأريخ وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إكتفى بتنبيه زوجه على الزلل في كلامها.
و[دخل خالد بن هشام بن المغيرة وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة في منزل أم سلمة، وأم سلمة في مناحة آل عفراء، فقيل لها: أتي بالأسرى. فخرجت فدخلت عليهم، فلم تكلمهم حتى رجعت، فتجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت عائشة، فقالت: يا رسول الله، إن بني عمي طلبوا أن يدخل بهم علي فأضيفهم، وأدهن رءوسهم، وألم من شعثهم، ولم أحب أن أفعل ذلك حتى أستأمرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: لست أكره شيئاً من ذلك! فافعلي من ذلك ما بدا لك]( ).
فدخل الأسرى وعلى نحو متعدد في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يخش من غدرهم ، ولم يأمر بإلقائهم في سجن خاص وفيه دعوة للمسلمين للعناية بهم ولكي يرى الأسرى ماهية الإسلام وآيات التغيير النوعي في النفوس وعالم الأفعال، لينقل الأسرى للمشركين قوة الإسلام وعزائم المؤمنين ، وفيه دعوة لقريش للكف عن التعدي على الإسلام وإدراك أن صلاحهم وإستدامة حياتهم بتصديق وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فبينما كان العرب يغزو بعضهم بعضاً، ويفتك أحدهم بالآخر لسبب شخصي وتدوم معركة كالبسوس أربعين سنة على قول، والمقلون قالوا دامت بضعاً وعشرين سنة بسبب ناقة، فلا أحد يعلم ما يلحق العرب من الهوان والتشذرم لو لم يبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءت معركة بدر فرقاناً بين أمور:
الأول : بين الإيمان والكفر، لتشع شمس الإسلام على الحجاز وما حوله، وتستأصل مفاهيم الكفر والوثنية[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
الثاني : معركة بدر فرقان بين الحياة والموت، ليبقى المسلمون أمة متحدة في طاعة الله، وينجو الناس من الهلاك بالإضافة إلى إرادة معنى الإيمان من الحياة، قال تعالى[أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ]( )، فالحياة هي الإيمان وعمارة القلب بالذكر، وحلول الهداية محل الضلالة والغواية.
لتتوجه آية البحث إلى المسلمين بلغة الخطاب(أم حسبتم) وفيه شاهد على أنهم أحياء في باب العقيدة والدين وليكون النور الذي يمشون به عوناً في التخفيف من العناء في مرضاة الله والسعي في ميادين الدفاع عن الإسلام والنبوة.
الثالث : معركة بدر فرقان وفاصل بين العز والذل، فقد إنقطعت بها أسباب الضعف والذل التي كانت تواجه المسلمين في المجتمعات وعند صدور الأذى من قريش ونحوهم من الكفار والفاسقين، ومن الإعجاز في قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) أمور:
الأول : تأكيد نصر المسلمين في معركة بدر، وتسمية المعركة من عند الله لحاجة الأجيال المتعاقبة لذكرها والإستدلال بها وعليها بينما لم يرد اسم معركة أحد مع مجيء آيات كثيرة بخصوصها من جهة سبب النزول والموضوع والبيان.
الثاني : لم تخاطب الآية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة فلم تقل(ولقد نصرك الله ببدر وأنتم أذلة) وفيه أن الخطاب عام ومستغرق للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلا أنه يدل بالدلالة التضمنية على تنزهه عن الذل , وإن كان بمعنى الضعف وقلة المؤونة فكانت الملائكة تأتيه بالوحي، كما بادرت ونزلت لنصرته.
الثالث : لم تقل الآية بتبدل حياة الذل إلى العز ولكنها أخبرت عن النصر حال تلبس المبدأ بالحال كما في مبحث المشتق، وفيه وجوه:
الأول : دلالة نصر المسلمين على بلوغهم مرتبة العز والفخر.
الثاني : النصر مقدمة لإرتقاء المسلمين إلى مقامات العز والهيبة بين الناس.
الثالث : لا ملازمة بين النصر وصبغة العز.
والصحيح هو الأول لذا ذكرت الآية حال الذل بصيغة الفعل الماضي[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ].
وهل تشترك المؤمنات في ثواب المجاهدين يوم بدر، الجواب نعم، وكان من فضل الله عليهن تلقي البشارة بالفتح والظفر ليكون يوم بدر يوم الفرقان بالنسبة للمسلمات أيضاً بأن بلغن به مرتبة الوثوق بالنصر والغلبة للإسلام ، وصرن لا يخشين على مستقبل أولادهن في دينهم وأنفسهم، وهو من مصاديق ذهاب الذل الذي ذكرته آية[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، إذ يدل في مفهومه على إنقطاع حال الذل التي كان عليها المسلمون بالنصر والغلبة يوم بدر، وتقدير الآية أعلاه: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فزالت عنكم وإلى الأبد حال الذل .
لقد جاء المشركون لإستئصال الإسلام وقتل المسلمين ، فردهم الله عز وجل بالخزي والقتل والأسر، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها جعلت الجنة الغاية العظمى لكل مسلم ومسلمة وفيه دلالة على تفقههم في الدين، ومعرفة حتمية عالم الجزاء وأن للجنة أهلاً واصحاباً ، ولا يدخلها أحد إلا بالإيمان والعمل الصالح ، فكانت هذه الغاية باعثاً لهم جميعاً لفعل الصالحات وتعاهد العبادات [عن جابر بن عبد الله قال : كان معاذ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العشاء ، ثم يرجع فيصلي بأصحابه ، فرجع ذات يوم فصلى بهم ، وصلى خلفه فتى من قومه ، فلما طال على الفتى صلى وخرج ، فأخذ بخطام بعيره ، وانطلقوا ، فلما صلى معاذ ذكر ذلك له ، فقال : إن هذا لنفاق ، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبره معاذ بالذي صنع الفتى ، فقال الفتى : يا رسول الله ، يطيل المكث عندك ، ثم يرجع فيطول علينا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « أفتان أنت يا معاذ ؟ ، وقال للفتى : « كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت ؟ قال : أقرأ بفاتحة الكتاب ، وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ، وإني لا أدري ، ما دندنتك ودندنة معاذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني ومعاذ حول هاتين أو نحو ذي قال : قال الفتى : ولكن سيعلم معاذ إذا قدم القوم وقد خبروا أن العدو قد دنوا قال : فقدموا قال : فاستشهد الفتى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لمعاذ : ما فعل خصمي وخصمك ؟ قال : يا رسول الله ، صدق الله ، وكذبت، استشهد)( ).
وورد موضوع آية البحث بصيغة التعليق من جهات:
الأولى : عدم حلول أوان دخول الجنة والدنيا زاهرة عامرة، فما دامت الحياة الدنيا، فأمر دخول الجنة معلق لأنه عالم آخر لا يجتمع أوانه مع أيام الحياة الدنيا.
وصحيح أنه ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه من مات فقد قامت قيامته)( ).
إلا أن دخول الجنة أمر آخر إذ أنه جزاء محض بعد الحساب وتجاوز مواطن الآخرة من الحوض والصراط وغيرها، ولن يدخل الناس الجنة والدنيا قائمة، فالنسبة بين وجود الناس في الدنيا وبين وجود شطر منهم في الجنة وشطر في النار هي التباين والتنافي الزماني والمكاني، وإذ يعيش الناس في الدنيا بحالة متقاربة في المعيشة ويشتركون بالتنعم بالمباحات فأنهم في الآخرة على قسمين بينهما تنافر وتضاد:
القسم الأول : أصحاب النعيم الدائم، وسكان الجنان، وعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله الله عليه وآله وسلم لمّا خلق الله جنة عَدْن، خلق فيها ما لا عين رأت، [ولا أذن سمعت]، ولا خطر على قلب بشر. ثم قال لها: تكلمي. فقالت: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ })( ).
وعن الحسن البصري(أخفى القوم أعمالاً في الدنيا ، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت)( ).
ونقل عدد من المفسرين هذا القول، وقاموا ببيانه وتقريب معناه، ولكن لا دليل عليه، فلا ينحصر الثواب العظيم بخصوص أعمال صالحة خفية عن الناس، فذات الأجر والثواب يأتي لعمل الصالحات علانية قربة إلا الله ومن غير رياء، قال تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( ).
وورد الجزاء في الآيات التي تبين ما أخفي من الجزاء للمؤمنين على الإنفاق مطلقا من غير تقييد بالسر والإخفاء، وكذا بالنسبة للعمل الذي نالوا به الجزاء والثواب العظيم بقوله تعالى[تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
ومن خصائص الإنسان جعله موضوعية للغاية والنتيجة في القول والعمل، فجاءت آية البحث لتنقل المسلمين إلى أسمى غاية وأبهى علة في خلق الإنسان وهي دخول الجنة والإقامة الدائمة فيها، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، من جهات:
الأولى : إقامة الخليفة في الجنة والنعيم الدائم.
الثانية : عمارة الإنسان للأرض بأسباب ومقدمات دخول الجنة.
الثالثة : إدراك الإنسان لحقيقة زوال الدنيا والإنتقال إلى عالم الجزاء في الآخرة، وهل تبقى صفة (الخليفة) مصاحبة للنبي أو المؤمن مطلقاً في الآخرة وعند السكن في الجنة.
الجواب القدر المتيقن من لفظ الخليفة إرادة الحياة الدنيا بدليل التقييد في قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فالخلافة خاصة في الأرض، بينما تطوى الأرض يوم القيامة قال تعالى[وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً]( ).
وعن الزهري في الآية أعلاه قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: لمن الملك أين ملوك الأرض)( ).
الرابعة : الدنيا عالم عمل وإختبار، وهم من خصائص الخلافة وتفضل الله عز وجل وجعل الدنيا دولة بين الناس مع التقييد بأن المؤمنين لهم دولتهم التي يتخذونها مناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ]( ).
وتبين الآية أعلاه إمتناع أن يكون الكفار هم المقصودون من لفظ الناس في قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] فلابد من حكم المؤمنين في الأرض وإنبساط الوسادة لهم وإزاحة معالم الكفر.
الخامس : دلالة آية البحث على إنقطاع الخلافة في الأرض بالجزاء الحسن والثواب العظيم للمؤمنين بالإقامة في الجنان.
السادس : بيان آية البحث لقانون تقوم الخلافة بالجهاد والصبر وكل منها سبب لإستدامة الخلافة.
وقد يقول فريق من المؤمنين كيف نكون على مرتبة واحدة نحن والمنافقون إذ نلتقي بالنطق بالشهادتين وأداء الفرائض العبادية في وقت نحن نعلم أن قلوب المنافقين مملوءة بالضلالة ، وهم بين ظهرانينا ولكنهم ينتظرون الشماتة بنا.
فجاءت هذه الآية لبعث السكينة في نفوس المسلمين بأنكم تختبرون وتبتلون بما يميز المؤمن ويفضح المنافق ، قال تعالى [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ]( ).
وفي سبب نزول الآية أعلاه [وقال السدي : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرضت عليَّ أُمّتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم (عليه السلام) وأُعلمت من يؤمن بي ومن لا يؤمن فبلغ ذلك المنافقين واستهزؤا وقالوا : زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر به ممّن لم يخلق بعد، ونحن معه ولا يعرفنا،
فبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} فقام على المنبر خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «ما بال (القوم) حملوني وطعنوا في حلمي،
لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلاّ أنبأتكم] ( ).
وعلى فرض عدم وجود فريق من المؤمنين يتساءل كيف يكون بمرتبة واحدة مع المنافقين فان آية البحث جاءت لمنع ودفع القول ، وللإخبار عن قانون كلي في الإرادة التكوينية وهو حتمية التمييز بين المؤمن والمنافق ولأن القرآن بيان وتبيان فان الله عز وجل يتفضل بالإخبار عن كيفية هذا التمييز ومقدماته وطرقه ، ومنه ما ذكرته آية البحث بجلاء والذي يتألف من أطراف :
الأول : دخول الجنة ، بلحاظ أنه الغاية العظمى والهدف الأسمى .
الثاني : عدم إستثناء أحد من المسلمين والمسلمات من الأمل بدخول الجنة , ومن بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعاني الرحمة فيها تنمية ملكة الرجاء عند المسلمين، قال تعالى[وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ]( ).
الثالث : بيان شرائط دخول الجنة التي تجعل المنافق يتخلف عن هذا الدخول وذكر منها في الآية أمران :
الأول : الجهاد في سبيل الله .
الثاني : الصبر في جنب الله .
فان قلت إن ذكر أمرين لدخول الجنة ضرب من السهولة والتيسير وليس فيه مشقة حتى على المنافق ، والجواب يتجدد الإختبار بكل من الأمرين في كل ساعة من ساعات النهار والليل ، بما يجعل المنافق عاجزآ عن التوفيق والنجاح في هذه الإختبارات فيتكرر الإختبار ويتوالى الإبتلاء على المسلمين مجتمعين ومتفرقين حتى يفتضح حال المنافق ، ويحذر منه المؤمنون .
ويحتمل الخطاب في الآية وجوهاً :
الأول : شمول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب من باب الأولوية القطعية ،وتقدير الآية على جهات :
الأولى : أم حسبت يا محمد أن تدخل الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين .
الثانية : أم حسبت يا محمد أن تدخل أمتك الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين .
الثالثة : أم حسبت يا محمد أن تدخل الجنة ولما يعلم الله جهادك وصبرك.
الرابع : ام حسبت أن تدخل أمتك الجنة ولما يعلم الله جهادك وصبرك .
الثاني : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتخصيص من السؤال الإستفهامي في الآية لأن دخوله الجنة أمر محرز ، وقد دخلها ليلة الأسراء ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ]( ) .
الثالث : الرجوع إلى آية أخرى لبيان شمول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب في آية البحث أو لا.
والمختار هو الجهة الثانية من الوجه الأول وفيه تزكية لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين إلى الدفاع عن الإسلام وإلى تحمل الأذى والصبر في جنب الله .
القسم الثاني :أهل النار الذين ساقتهم أعمالهم في الدنيا إلى الخلود في العذاب الأليم في الآخرة والتي تستعد للقائهم ، وكأنها تنتظرهم بأشخاصهم ، قال تعالى [إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا] ( ).
ويبين القرآن العذاب النفسي والمعنوي لأهل النار المصاحب لعذابهم البدني بالخصومة بينهم وأظهارهم الحسرة والندامة مع مقتهم لأنفسهم ، ومن الإعجاز أن الله عز وجل يخاطب النار يوم القيامة من غير واسطة ملك أو نبي لقوله تعالى [يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ]( ).
وذكر في التفسير أنها تطلب المزيد مع كثرة الفي فيها ، ومن معانيه أنه نوع إعتذار رحمة بالنار ، [كما ورد عن ابن عباس في قوله { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } قال : وهل فيَّ من مكان يزاد فيَّ] ( ).
ومع ان آية البحث من آيات البشارة إلا أنها تتضمن الإنذار في معناها ومفهومها فلا سبيل للذين يصرون على الجحود والمعاصي إلى دخول الجنة يوم القيامة إلا الخسارة والعذاب الأليم ، [وعن أنس بن مالك قال :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- « يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْكُفَّارِ فَيُقَالُ اغْمِسُوهُ فِى النَّارِ غَمْسَةً. فَيُغْمَسُ فِيهَا ثُمَّ يُقَالُ لَهُ أَىْ فُلاَنُ هَلْ أَصَابَكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ مَا أَصَابَنِى نَعِيمٌ قَطُّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الْمُؤْمِنِينَ ضُرًّا وَبَلاَءً. فَيُقَالُ اغْمِسُوهُ غَمْسَةً فِى الْجَنَّةِ. فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً فَيُقَالُ لَهُ أَىْ فُلاَنُ هَلْ أَصَابَكَ ضُرٌّ قَطُّ أَوْ بَلاَءٌ فَيَقُولُ مَا أَصَابَنِى قَطُّ ضُرٌّ وَلاَ بَلاَءٌ] ( ).
قانون الخطاب العام يقود إلى الخاص في القرآن
ليس من خطاب يتغشى الناس جميعاً مثل خطابات القرآن وفيه شاهد بأن بيان القرآن أعم وأوسع بيان في الحياة الدنيا، وهو شاهد على إمامة القرآن للناس جميعاً، ومن الإعجاز في القرآن شمول خطاباته للأحكام التكليفية الخمسة وهي:
الأول : الوجوب، وعدم جواز ترك الفعل مثل قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( ).
الثاني : الندب والإستحباب للفعل وهو الذي يثاب فاعله ولا يؤثم على تركه كما في كتابة وتوثيق القرض ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ] ( ).
الثالث : الإباحة والحلية والجواز العام مثل قوله تعالى[وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ] ( )والأصل في الأشياء الإباحة .
الرابع : الكراهة، والنهي على نحو السالبة الجزئية، مع جواز إتيان الفعل وتارك المكروه ممدوح ، وليس من ذم لفاعله ، لذا قد تطلق الكراهة على ما يلزم التنزه عنه ،ولكن ليس من إثم في إتيانه ، قال تعالى [لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ]( ) الذي يحمل النهي فيه على الكراهة .
الخامس : الحرمة وعدم جواز إتيان الفعل وتعلق الإثم بفعله كما في حرمة الربا والزنا .
ولا تنحصر موضوعات الخطاب القرآني للناس بالأحكام التكليفية فتشمل الحث على الإيمان ، وإصلاح النفوس والسعي للنجاة يوم القيامة والفوز بتلقي الخطاب التشريفي للمسلمين وتدعو إلى نبذ الشرك، كما في آية البحث، وهو من إعجاز القرآن بأن يهدي الخطاب القرآني الذي يشمل الناس على نحو العموم الإستغراقي إلى جذب الناس إلى منازل ذات صبغة التقوى بلحاظ خطابات القرآن الأخرى من وجوه:
الأول : معرفة الناس لتقسيم خطابات القرآن إلى عام وخاص.
الثاني : تقسيم الخطاب القرآني إلى أقسام بلحاظ صيغة المخاطب إلى:
الأول : مخاطبة المسلمين والمسلمات، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، ويحتمل التقييد في الآية أعلاه(من قبلكم) وجوهاً:
الأول : توجه الخطاب الخاص بالصيام للذين آمنوا من الأمم السابقة بالصيام.
الثاني : توجه الخطاب العام للناس جميعاً بالصيام، والمراد من الذين قبلم الأمم والأجيال كلها، إبتداءً من آدم عليه السلام.
الثالث : إرادة الأنبياء السابقين إذ كان الصيام واجباً عليهم ، ثم كتبه الله عز وجل على المسلمين ليكون من الشواهد على وراثة المسلمين للأنبياء وفي عالم الأمر والتكليف وهو أشرف شئ في الحياة الإنسانية ،ومن وجوه إستدامة خلافة الإنسان في الأرض بقيد عمارته لها بالعبادة وسنن التقوى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )في رد الله عز وجل على إحتجاج الملائكة على جعل من يفسد في الأرض ويسفك الدماء خليفة في الأرض .
والصحيح هو الثاني ويكون الوجهان الآخران في طوله لوجوه:
الأول : الصيام عبادة مصاحبة لوجود الإنسان في الأرض .
الثاني :من فضل الله عز وجل على الناس فرض الله عز وجل الصيام .
الثالث : الصيام طريق لتلقي الخطاب بآية البحث من جهتين :
الأولى : شمول الصائمين بقوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ]لشرطين:
الأول : الإيمان بالكتاب والنبوة .
الثاني : أداء الصيام وقبوله ، وهو الذي تدل عليه الآية أعلاه من سورة البقرة إذ بينت أمرين :
الأول : فرض الصيام على المسلمين والمسلمات .
الثاني : فرض الصيام قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : تحقق شرط الصبر لدخوله الجنة والذي أختتمت به آية البحث.
الرابع :قاعدة تكليف الكفار بالفروع لتكليفهم بالفروع وهو المختار، وبه قال المشهور.
قوله تعالى [أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ]
وجاءت الآية بخصوص دخول الجنة ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة ذات الدخول ، والشروع فيه ، كالذي يدخل من الباب ولم يتعداه بعد.
الثاني : المقصود الإقامة في الجنة بالإتيان بالجزء وإرادة الكل ، ولكن تسمية الإتيان بالبداية وإرادة العموم تأكيد لفضل الله .
الثالث : الإخبار عن الفوز بنيل مرتبة دخول الجنة في الآخرة ، أي أن الآية إخبار في الدنيا عن الأهلية للدخول في الجنة يوم القيامة.
والصحيح هو الثاني لإختصاص الجنة بقانون من الإرادة التكوينية وهو أن الذي يدخل فيها لا يغادرها فكأن أبوابها تعمل بإتجاه واحد، وهو الدخول فقط، قال تعالى وقال وهب: كان يرفع لإدريس كلّ يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه، فعجبت منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربّه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم، وكان إدريس صائماً يصوم الدهر، فلّما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس فقال له الليلة الثالثة: إنىّ أُريد أن أعلم من أنت،
قال: أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك فأَذن لي، قال: فلي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال : تقبض روحي، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن اقبض روحه، فقبض روحه وردّها الله عليه بعد ساعة.
قال له ملك الموت: ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال: لأذوق كرب الموت وغمّته فأكون له أشدّ استعداداً، ثم قال إدريس له : لي إليك حاجة أُخرى، قال : وما هي؟ قال : ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجّنة وإلى النار، فأذن الله له في رفعه إلى السماوات، فلمّا قرب من النار قال : حاجة قال : وما تريد؟ قال : تسأل مالكاً حتى يفتح لي بابها فأردها، ففعل ثمّ قال : فكما أريتني النار فأرني الجّنة، فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنّة، ثم قال له ملك الموت: اخرج لتعود إلى مقرّك فتعلّق بشجرة وقال : لا أخرج منها، فبعث الله ملكاً حكماً بينهما ينظر في قولهما فقال له الملك : ما لك لا تخرج؟
قال : لأن الله تعالى قال : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآقَةُ الْمَوْتِ} وقد ذقته، وقال {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا} وقد وردتها، وقال {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} فلست أخرج، فأوحى الله سبحانه إلى ملك الموت : دخل الجنة وبأمري يخرج، فهو حيّ هناك فذلك قوله : {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا})( )،ليبين قوله تعالى [أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ]( )مسائل :
الأولى : التأكيد على فضل الله عز وجل بأن يذكر الإبتداء والمراد اللبث الدائم ، والإقامة الأبدية في النعيم ، فلم تقل الآية (أم حسبتم أن تقيموا في الجنة ).
الثانية : أول دخول الجنة نعمة عظيمة يجب أن يسعى إليه المسلمون والمسلمات.
الثالثة : دعوة المسلمين للتفقه في الدين ، ومعرفة كيفية وسبل دخول الجنة.
الرابعة : ذكر القرآن خصائص الجنان والنعيم الآخروي بما يفوق التصور الذهني للعيش الرغيد والسعادة الأبدية، عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لمّا خلق الله سبحانه جنّة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثمَّ قال لها: تكلّمي، قالت: قد أفلح المؤمنون ثلاثاً ثمَّ قالت: أنا حرام على كلّ بخيل ومرائي)( ).
وجاءت الآية بصيغة الفعل المضارع [تدخلوا]وهو سيال من حيث إستيعابه لأفراد زمان المستقبل القريب والبعيد ، ومن الآيات أنه في القرآن يشمل يوم القيامة وعالم الآخرة، ومن الدلائل على تفقه المسلمين في الدين التمييز بين جنة الآخرة وجنة الدنيا، إذ يرد لفظ الجنة لغة بمعنى البستان والحديقة الناضرة .
و يعلم المسلمون مجتمعين ومتفرقين أن المراد من الجنة هو جنة الدار الآخرة والفوز بهذا النعيم وسط أهوال يوم الحساب ، وتطاير الصحف ومحنة العبور على الصراط المستقيم الذي يستعد له المسلمون من بين أهل الأرض بأن يسأل كل واحد منهم تجاوزه سبع عشرة مرة في اليوم مما يدل على لزوم العناية بأمره وإجتناب السهو والغفلة عنه.
وهذا السؤال اليومي المتكرر من المتحد والمتعدد من المسلمين من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بأن تلحون المسألة ومن منازل الخضوع والخشوع والإستكانة في الصلاة لعبور الصراط الذي هو جسر على جهنم يوم القيامة ، فان قلت تدل أكثر النصوص على أن موضوع الصراط المستقيم هو الحياة الدنيا وأن المراد هو القرآن والإسلام والصلاة .
والجواب هذا صحيح , وليس من تعارض بين إرادة صراط الدنيا وصراط الآخرة.
لقد ورد قبل بضع آيات صفات الذين يدخلون الجنة في بيان سماوي خال من الترديد، وطارد للجهالة وبرزخ دون اللبس والإجمال بالأمر للمسارعة والمبادرة إلى الجنة التي أعدّها الله عز وجل ثواباً للعباد الذين تعاهدوا مرتبة الخلافة في الأرض ، وعمرّوا الأرض بالصلاح بقوله تعالى في بيان غاية خلق الجنة [أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وهذه الصفات هي:
الأول : التحلي بالتقوى والخشية من الله عز وجل .
الثاني : البذل والإنفاق في سبيل الله في حال السعة والمندوحة .
الثالث : الإنفاق في حال السعة والشدة والضراء.
الرابع : الذين يكتمون غضبهم، ويحبسون غيظهم، ولا يظهرون سخطهم.
الخامس : الذين يعفون عن الناس مطلقاً سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين .
السادس : الذين يبادرون إلى الإستغفار عند فعل السيئة ، وإرتكاب المعصية ، فأي واحد منهم لا يبقى مصراً على المعصية ، ولا ينساها ويترك موضوعها ، بل يدرك زلـله وسوء فعله، ويتدبر في كيفية الإصلاح والتدارك فيبادر إلى الذكر والإستغفار ، ومن الإعجاز موضوعية التوبة والندامة للنعيم الدائم قوله تعالى في ذكر صفات أهل الجنان [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ).
ومن الإعجاز عدم إنحصار سبيل التوبة بالذكر أو الإستغفار بل يكون الجامع منهما ، ويحتمل هذا السبيل وجوهاً :
الأول : ذكر الله الآية أعلاه هو الصراط المستقيم .
الثاني : قول أستغفر الله ربي وأتوب إليه هو الصراط المستقيم .
الثالث : الجامع للذكر والإستغفار وعدم الإصرار على المعصية هو الصراط المستقيم.
والصحيح هو الثالث مع أن كلاً من الذكر والإستغفار صراط مستقيم بذاته وعلى نحو مستقل ، ولكن المقام يتعلق بالتوبة وبذل الوسع لمحو فعل الفاحشة وإرتكاب الذنب وذكرت الآيات السابقة لصفات الذين يدخلون الجنة بقيد التقوى الذي إبتدأت به هذه الآيات[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ]( ).
ولم تذكر هذه الآيات الجهاد والصبر اللذين ذكرتهما آية البحث ،وفيه وجوه :
الأول : إرادة الجمع بين الصفات الواردة في الآيات السابقة وهذه الآية بلحاظ أن الجهاد والصبر من خصائص المتقين .
الثاني : إستقلال كل صفة في إستحقاق الدخول في الجنة ، فسواء جاء المسلم بخصلة من بصفات المتقين التي ذكرتها الآيات السابقة أو إختار الجهاد في سبيل الله والتحلي بالصبر فانه يدخل الجنة .
الثالث : ورد أن الجنان متعددة ، وكذا أبوابها وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : للجنة ثمانية أبواب : باب للمصلين، وباب للصائمين ، وباب للحاجين ، وباب للمعتمرين ، وباب للمجاهدين ، وباب للذاكرين ، وباب للشاكرين( )، أما الطرق إلى الجنة فانها متعددة وكثيرة وليس لها حصر .
ووردت سبعة أبواب في الحديث أعلاه والظاهر أن الباب الثامن أعم وأوسع، لذا ورد عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: للجنة ثمانية أبواب : سبعة مغلقة ، وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه( ).
الرابع : الخصال التي ذكرتها الآيات السابقة هي ذاتها من مصاديق الجهاد ومصاديق الصبر ، فهي سور جامع لمقدمات وأسباب دخول الجنة.
الخامس : التباين الجهتي في الموضوع ، إذ ذكرت آية البحث شرائط دخول الجنة ، بينما ذكرت آية [وَسَارِعُوا] وما بعدها صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة.
والصحيح هو الرابع وإرادة التداخل بين صفات أهل الجنة الذين ذكرتهم هذه الآيات ، وللسعة في مصاديق كل من الجهاد والصبر وإنطباقها على التقوى في قوله تعالى [أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]وعلى المؤمنين الذين ينفقون في السراء والضراء، وعلى جهاد النفس باللجوء إلى ذكر الله والإستغفار ، وحبسها عن إتباع الشهوات وإرتكاب المحرمات ، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين، ومن مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى] ( )وهو من الدلائل على التفسير الذاتي للقرآن وإخبار الآية القرآنية عن كيفية العمل بمضامين الآية الأخرى .
علم المناسبة [أَمْ حَسِبْتُمْ]
ورد لفظ [أَمْ حَسِبْتُمْ] بصيغة المفرد خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص معجزة أهل الكهف بقوله تعالى [أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا] ( )لبيان حقيقة مركبة من جهات:
الأولى : الإخبار عن الإعجاز في أهل الكهف وموتهم أكثر من ثلاثمائة سنة ثم إحيائهم بآية حسية عظمى من عند الله.
الثانية : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من بعده بهذا الإخبار .
الثالثة : معجزة أهل الكهف ونجاتهم من الطاغوت وإحيائهم ليست أعظم أو أعجب آية من عند الله .
وفيه دعوة للتدبر في آيات السموات والأرض والشمس والقمر وآية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن إذ أن آية أهل الكهف واحدة من مجموع آيات القرآن البالغة ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية .
وإختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ [أَمْ حَسِبْتُمْ] في القرآن من وجوه إكرامه وتفضيله ، وهي من الشواهد على قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [ادبني ربي فاحسن تأديبي ]( ).
وفيها مادة لاحتجاجه على أهل الملل الأخرى ، ونقل عن النصارى أنهم جعلوا مدة نوم أهل الكفار مائتين وأربعين سنة .
وورد لفظ [أَمْ حَسِبْتُمْ] في القرآن ثلاث مرات كلها في خطاب للمسلمين إثنتين منها في شرط دخولهم الجنة التعليقي ،إحداهما آية البحث والأخرى قوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ) لبيان أنهم صبروا في جنب الله ، ولاقوا الشدة والبلاء بالثبات على الإيمان ولم تذكر هذه الآية جهاد الذين آمنوا من الأمم السابقة .
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ [أَمْ حَسِبْتُمْ] في آية أخرى من القرآن تتضمن الحث على الجهاد وإرادة تحققه واقعاً بقوله تعالى [َامْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً] ( ).
وفيه أن جهاد المسلمين فضل من الله عز وجل يسوقه إليهم كما يسوق السحاب لنماء الزرع ،قال تعالى [وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ]( )فان الجهاد سبيل لتجديد الإيمان وتثبيت أركانه في الأرض ، تلك المسؤولية التي نهض وينهض بها المسلمون إلى يوم القيامة، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
قانون شرائط دخول الجنة
لقد خلق الله عز وجل الإنسان ليتولى وظائف الخلافة في الأرض ، ومنها الأمانة كما في قوله تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً]( ).
وبين الخلافة والأمانة عموم وخصوص مطلق ، فالخلافة أعم ، وجاءت للإنسان على نحو التعيين والحصر ، لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وبعد إحتجاج الملائكة على جعل آدم خليفة تفضل الله وعلّمه الأسماء أي لم يكن له خيار بالخلافة بينما جاءت الأمانة بالعرض على الإنسان وإختياره لها .
ولم يرد لفظ الأمانة في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان ثقلها ووطأتها وتشرف الإنسان بحملها ، ولما كانت الخلافة تعييناً فان الله عز وجل يتفضل على الإنسان بالمدد والعون لإصلاحه لها ، وهدايته للتوفيق في مسالكها ، ومنها الأمانة [عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { إنا عرضنا الأمانة . . . } الآية . قال : الامانة الفرائض ، عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدُّوها أثابهم ، وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك واشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها . وهو قوله { وحملها الإِنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } يعني غراً بأمر الله] ( ).
لتكون الدنيا ( دار الأمانة )يتعاهد فيها الناس سنن الخلافة التي تتقوم بإتيان الواجبات العبادية والتنزه عن المحرمات ، ومن مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض أن من مصاديق الأمانة جهاد وصبر المسلمين لتثبيت كلمة التوحيد في الأرض .
وهذا الجهاد ليس إجتهاداً من المسلمين أو أنه جاء على نحو الإستحباب أو إنحصر الأمر به بالسنة النبوية ، بل إنه فرض من عند الله مصاحب للإيمان ، ولم يهبط آدم وحواء إلى الأرض إلا وهما مؤمنان ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الإيمان مصاحب لوجود الإنسان في الأرض .
الصغرى : الجهاد مصاحب للإيمان .
النتيجة : الجهاد مصاحب لوجود الإنسان في الأرض .
وإذ إبتدأت الحياة في الأرض بالإيمان ، فقد تنتهي بذات الإيمان أو تكون الغلبة لجنود إبليس الذي هبط مع آدم وحواء لغواية الإنسان مطلقاً ، لتكون الحجة لله عز وجل في طوي السماء والأرض ، وقيام الناس للحساب ، وفيه دعوة لكل جيل من الناس لعمارة الأرض بالإيمان وهو من عمومات قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( )ومن مصاديق ومعاني الأمانة التي تذكرها الآية اعلاه ، وتدعو إليها ، أنها خير محض ونفع للناس جميعاً .
وكل جيل يتعاهد أمانة الهدى وسنن التقوى فانه يحفظ أبناءه وذريته ومن حوله من الناس في دنياهم وآخراهم ، أما في دنياهم ففي أداء شطر من الناس الفرائض العبادية سلامة لأهل الأرض من آفات الهلكة السماوية والأرضية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
ومن خروج المسلمين للناس بلحاظ المقام وجوه :
الأول : بيان المسلمين طريق الجنة ومقدمات دخولها ، وهذا البيان عام يصل إلى الناس جميعاً بحفظ المسلمين للأمانة لذا قال الله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وجاءت خاتمة الآية أعلاه بالتقييد بالتقوى ، لمنع اللبس أو التأويل الخاطئ والظن بأن المراد من الناس في الآية خصوص المسلمين فأختتمت الآية بالخاص الكريم للدلالة على إرادة عموم الناس البر والفاجر من بدايتها وحفظ المسلمين للأمانة من البيان للناس .
وليس من حصر لمصاديق هذا البيان سواء في أفعال أو أقوال المسلمين ومن أظهرها إتيان الواجبات والفرائض ومن الآيات أداء المسلمين لها بمثل ما أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتلك آية في حفظ أجيال المسلمين للأمانة , وحرص رسول الله على تعاهد المسلمين لحفظ الأمانة ، لذا ورد عنه أنه قال : [صلوا كما رأيتموني أصلي]( ) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم [خذوا عني مناسككم]( ) إلى جانب سنته الفعلية في أداء الصيام والترغيب بالفرائض , وبيانه للثواب العظيم لكل فريضة وكأنها هي المقصودة بذات آية البحث والوعد الكريم بدخول الجنة .
الثاني : تعاهد المسلمين لآيات القرآن , ومن فضل الله عز وجل في أمانة الإنسان وحفظه لها أن هذه التلاوة واجبة وجوبا عينياً على كل مكلف ومكلفة فاذ يسقط فرض الجهاد عن المرأة فانه لا يسقط عنها فرض الصلاة والتلاوة فيها ، وهو من جهاد المرأة بخصوص الأمانة [وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ] ( ).
والمراد اسم الجنس وعموم الناس رجالاً ونساء من أيام أبينا آدم إلى قيام الساعة وهذا العموم تدل عليه آيات كثيرة في القرآن مثل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ]( )،[ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى]( )،[ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى]( ).
الثالث : خروج المسلمين والمسلمات للناس بتعاهد أمانة السماء في الأرض ومنها كلام الله لتنزل البركات على أهل الأرض ، وتسود معاني المودة بينهم ، وتصرف أسباب الكدورة ومقدمات الحروب الطاحنة ، ولا يعلم فضل الله عز وجل على الناس بتعاهد وحفظ الجنس البشري إلا الله عز وجل .
وكل من مرتبة الخليفة والخلافة أمانة في الأرض , ولولا التنزيل وما جاء به الأنبياء لا يصدق شطر من الناس أن هذه المليارات من البشر أصلها رجل واحد وامرأة واحدة حفظهما الله عز وجل لتتناسب منهما الذراري ، ليتجلى التحدي في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( )وحصل خرق وغدر وخيانة للأمانة في بدايات هبوط الإنسان إلى الأرض بقتل قابيل ابن آدم لأخيه هابيل عدواناً وبغير حق .
فجاء القرآن ببيان قبح هذا الفعل وأنه خلاف الأمانة التي أودعها الله عز وجل عند الإنسان ، وان ذات النفس الإنسانية أمانة يلزم حفظها وتعاهدها ويحرم سفك الدماء إلا بالحق ، [وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابن آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ] ( ).
الرابع : جهاد المسلمين لتثبيت معالم وأحكام الأمانة في الأرض فيؤمنون بالله ورسوله ثم يزحفون لجذب الناس إلى الإيمان ومنعهم من ترك الأمانة والتفريط بها ، لذا جاءت آية البحث بالحث على الجهاد وكأن الوعد بالجنة للمؤمنين في آية البحث إنما هو وعد وجزاء لحمل أعباء الأمانة وحث الناس على حفظها وتقدير الآية : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم بتعاهد أمانة التقوى ويعلم الصابرين في حفظ الأمانة .
الخامس : إقامة المسلمين على الأمانة مجتمعين ومتفرقين ،ومن الشواهد عليه أداؤهم للصلاة جماعة وفرادا في إعلان يومي متكرر بحفظ سنن الأمانة كل يوم والتي تتقوم بطاعة الله عز وجل وطاعة رسوله ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
السادس : تجدد تلاوة المسلمين لآية البحث والعمل بمضامينها ،وكل عمل من المسلمين بأحكام آية من القرآن مصداق لحفظهم للأمانة، وحرز من التفريط بوديعة الخلافة في الأرض .
السابع : جزاء حفظ الأمانة السماوية في الأرض الإقامة في النعيم ، لذا جاءت آية البحث بالندب إلى الجهاد والصبر بما يبين لكل جيل من المسلمين ان حفظ الأمانة أمر حسن ذاتاً ومحمود عند الناس جميعاً ، [وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: : ثلاث لم يجعل الله لاحد من الناس فيهن رخصة : بر الوالدين برين كانا أو فاجرين ، ووفاء بالعهد للبر والفاجر وأداء الامانة إلى البر والفاجر] ( ).
وتدل آية الأمانة على أن للسموات والأرض والجبال إدراك وإرادة وإختيار وقدرة على الإجابة الحسنة والمناسبة وهذا الإدراك محدود ولكنه يشمل معرفة الأنبياء وأسرار الرسالة ،[روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:”إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن] ( ).
وتحتمل صيغة سلامة الحجر وجوهاً :
الأول : سلامة الحجر بالحركة الذاتية ، إذ يتحرك الحجر عندما يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الثاني :صدور صوت غير مفهوم من الحجر.
الثالث : صدور صوت مفهوم من الحجر يفيد أنه سلام .
الرابع : صدور السلام من الحجر باللغة العربية .
والصحيح هو الرابع لحمل الكلام العربي على الحقيقة ولا ينتقل إلى المجاز إلا بالقرينة [وقد روى أنه حين طلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له ثبير اهبط يا رسول الله فإنى أخاف أن يقتلوك على ظهرى فيعذبني الله فقال حراء إلي يا رسول الله] ( ) .
أي أن الجبل نطق باللغة العربية ، وهو من بديع صنع الله وقدرته على الخلائق وإستجابتها لأمره سبحانه ، ويحتمل السلام في كيفيته وجوهاً :
الأول : أداء السلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الرسالة ( السلام عليك يا رسول الله ).
الثاني : السلام على النبي باسمه لأنه كان في أيام الجاهلية للحرص على سلامة النبي من أذى الكفار فيقول الحجر : السلام عليك يا محمد .
الثالث : السلام العام من غير تعيين الاسم فحينما يقترب النبي من الحجر يقول الحجر : السلام عليك ورحمة الله وبركاته .
والصحيح هو الأول ، وذكر أنه [لما أتى الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول المبعث ، وانصرف إلى منزله سلمت عليه الحِجَارَةُ فكلها كانت تقول : السَّلام عليك يا رسول الله]( ).
علم المناسبة [الْجَنَّةَ ]
مع أن آية البحث هي الحادية والأربعون بعد المائة من سورة آل عمران فقد جاءت بذكر لفظ [الْجَنَّةَ] لأول مرة في السورة ، مع ورود ذكر الآخرة وثوابها في آيات السورة ، نعم ورد لفظ [جَنَّةٍ] من غير تعريف في قوله تعالى [وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) وورد لفظ الجنة مرة أخرى في هذه السورة بقوله تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] ( ).
ومجموع المرات التي ذكر فيها لفظ [جَنَّةٍ] في القرآن ثمانون مرة ، ومجموع آيات سورة آل عمران مائتا آية لتكون حصة هذه السورة من لفظ الجنة ثلاثة فقط وهو ذات النسبة لعدد آياتها من عدد آيات القرآن ولو قسمنا آيات القرآن على عدد آيات آل عمران لكانت النتيجة هي ثلاثة:
6236÷200 = 3,1 .
وكذا تكون ذات النتيجة لو قسم عدد آيات القرآن على (80 ) مجموع ذكر لفظ الجنة في القرآن ثم ضرب بثلاثة عدد مرات ذكرها في سورة آل عمران وهو نوع إعجاز بأن تأخذ السورة القرآنية حصة تناسب عدد آياتها من لفظ الجنة ، لتكون وقائع معركة بدر وأحد بشارة نيل المسلمين الرزق الكريم بدخول الجنة .
وورد لفظ [جَنَّاتٌ] في سورة آل عمران أربع مرات من أصل تسع وستين، وكلها ترغيب بالتقوى وسننها ، وورد ذات اللفظ [جَنَّاتٌ] في سورة البقرة مرة واحدة بينما ورد فيها لفظ [جَنَّةٍ] سبع مرات .
الخامسة : بيان التباين والتضاد بين قصد دخول الجنة وبين الإرتداد الذي لا يقود إلى النار ، ليفيد الجمع بين الآيتين وجهاً من وجوه الإعجاز في نظم الآيات بالعصمة والوقاية من الإرتداد .
السادسة : تأكيد قانون وجود طائفة من المسلمين صابرة وأخرى تجاهد في سبيل الله حتى في حصول إرتداد من عدد من المسلمين وهو الأمر الذي حصل بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ببذل النفوس من أجل عودة المرتد إلى الحق والهدى، وحمله على أداء فريضة الصلاة والزكاة والصيام وغيرها، وهل تشمله التوبة، الجواب نعم، لصيغة الإطلاق في قوانينها، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
وأستشهد في محاربة المرتدين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض من أهل بدر كما في عكاشة [قاتل عكاشة بن محصن الاسدي يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه حذلا من حطب فقال قاتل بهذا يا عكاشة فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هزه فعاد سيفا في يده طويل القامة شديد المتن ابيض الحديدة فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين وكان ذلك السيف يسمى العون ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل في الردة وهو عنده] ( ).
السادسة : أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ) وجاءت الآية بالسين فلم تقل(وسوف يجزي الله الشاكرين ) وفيه دلالة على قرب الثواب من المؤمنين وأن أفراداً منه تأتي للعبد في الدنيا، ومن أبهى مصاديق جزاء الله هو الجنة والإقامة فيها ، وإذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأوفى والأتم .
وتبين آية السياق أن الطريق إلى الجنة هو الإنقطاع إلى شكر الله عز وجل باللسان والجوارح ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )على نحو الوجوب العيني عدة مرات كل يوم وبصيغة القرآنية وحال الخشوع والخضوع في الصلاة وهو سبيل لقبول الحمد والشكر منهم ونزول النعم عليهم ، والأمة التي تلهج بالحمد لله عز وجل لا يخشى عليها من الجوع والفقر والأدران والمحق، إذ تترى النعمة مع الإقامة على الحمد لله ويكون واقية من الإرتداد .
وقد ذم الله قوماً من ذريات أتباع الأنبياء لتركهم الصلاة والذكر بقوله تعالى [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ]( ).
وتنفي مواظبة المسلمين على قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] على نحو الوجوب العيني صفة إضاعة الصلاة عنهم ، ويأتي جهاد وصبر فريق منهم ، ونهوضهم باعباء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرآة للعبادة والنسك .
السابعة : ترى ما هي النسبة بين الشاكرين والذين يدخلون الجنة، فيه وجوه :
الأول : التساوي وأن كل الشاكرين يدخلون الجنة ، ولا يدخلها غيرهم .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الذين يدخلون الجنة أقل من الشاكرين .
الثانية : يدخل الجنة الشاكرين لله وغيرهم .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه فمن الشاكرين من يدخلون الجنة ، ومنهم يتخلفون عن دخولها لأن آية البحث قيدت دخولها بالجهاد والصبر ولم تذكر الشكر لله كشرط لدخولها .
والمختار هو الأول أعلاه لسعة لفضل الله عز وجل ولأنه لا يقطع رجاء من رجاه ، ولقانون الشفاعة الذي جعله الله عز وجل رحمة وتخفيفاً عن الناس ، ولا يدخل الجنة إلا من كان شاكراً لله بلحاظ أن الله عز وجل يقبل القليل من الشكر لذا قيد الله تعالى الشفاعة بقوله تعالى [لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( )،إلا أن يقال بأن رحمة الله عز وجل أعم ، وهو سبحانه ينشر واسع رحمته يوم القيامة.
وكل من الجهاد في سبيل الله والصبر في مرضاته من الشكر لله عز وجل ، ولا يختص الشكر في المقام بذات الذين يقومون بالجهاد والذين يقيمون على الصبر بل يشمل عوائلهم وأهليهم وذراريهم ، وهو من مصاديق المعنى الأعم الذي تذهب إليه في الخطاب العام في أول الآية وشموله للمسلمين والمسلمات من جاهد وصبر منهم ، ومن أحب المجاهدين أو أعان على الجهاد ، وحث على الصبر ، وتنزه عن النفاق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
الثامنة : ذكرت آية البحث الجهاد والثناء على المجاهدين وبيان الثواب العظيم الذي ينتظرهم ، وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن هذا الجهاد لا يكون إلا تحت لواء وشريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي تذكره آية السياق بالاسم وبصفة الرسالة [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ]( ) وفيه منع للجهالة والغرر ، وإستعاذة من إغواء شياطين الإنس ومحاولتهم لبس التعدي بلباس الجهاد زوراً وبهتاناً وتضليلاً للناس ، لذا قيدت آية البحث صفة الذين جاهدوا بأنهم [مِنْكُمْ] أي من الذين يتحلون بصفات الإيمان عند الجهاد بما يفيد معرفة مواطن وكيفية الجهاد والجهة التي تستحق الجهاد وأوانه وصيغ الصلح والعفو.
[عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أن أبا هريرة ، قال : شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل ممن معه يدعى بالإسلام : « إن هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال ، حتى كثر به الجراح ، فأثبته ، فجاء رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت الرجل الذي ذكرت أنه من أهل النار قد والله قاتل في سبيل الله أشد القتال ، وكثرت به الجراح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « أما إنه من أهل النار فكاد بعض الناس يرتاب ، فبينا هو على ذلك وجد الرجل ألم الجراح فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهما ، فانتحر بها ، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا : يا رسول الله قد صدق الله حديثك ، قد انتحر فلان فقتل نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا بلال ، قم فأذن : لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وإن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر ] ( )، ليبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم قانون الفصل بين القتال والجهاد ، وأن الجهاد أخص منه ، ويقيد بارادة قصد القربة المترشح عن صدق الإيمان والإخلاص في طاعة الله ، لذا ذكرت الآية الجهاد بصيغة التبعيض وتقدير الآية ) الذين جاهدوا من الذين آمنوا ) فيخرج الفاجر والمنافق والذي قاتل من أجل الغنيمة والكسب من مصاديق الآية الكريمة بالأضافة إلى حرمة قتل الإنسان نفسه وما يسمى بالإنتحار .
التاسعة : آية السياق حاجة للمسلمين لما ورد في آية البحث من نفر طائفة منهم للجهاد وإختيار المسلمين الصبر عند الضراء والبأساء لأن الإنقلاب والإرتداد أمر يلزم التصدي له من قبل المؤمنين والمؤمنات ، لتكون آية البحث من أفراد الإحتراز والأمن من آثار الإرتداد .
ومن الإعجاز فيها أنها بدأت بذكر الجنة ودخولها لتكون فاتحتها مدخلاً وطريقاً لخاتمتها .
العاشرة : يفيد الجمع بين الآيتين بيان التضاد من جهات :
الأولى : التضاد بين الجهاد وبين الإرتداد عن الإسلام .
الثانية : التباين والتضاد بين الصبر في مرضاة الله وبين الإنقلاب إلى الجاهلية وعبادة الأوثان .
الثالثة : تجلي حسن عاقبة الجهاد والصبر ، وقبح سوء عاقبة الإرتداد لذا فان كلاً من آية البحث والسياق فضل من عند الله، وطريق إلى التنزه من المعاصي والسيئات التي تقود إلى النار ، وهل الشوق إلى الجنة واقية وحرز من الإرتداد.
الجواب نعم ، لذا تفضل الله بآية البحث والإخبار عن صفة شرط دخول الجنة من جهات :
الأولى : تعاهد الإيمان وعدم مغادرة منازله ، فيخرج المسلم من الدنيا ونفسه مملوءة بالإيمان ، ولم يستطع الشك والريب النفاذ إليها ،قال تعالى [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
الثانية : بذل الوسع في الجهاد في سبيل الله .
الثالثة : الجمع بين الجهاد والصبر سواء في ذات الموضوع أو المتعدد منه كماً وكيفاً.
الحادية عشرة : القدر المتيقن المقصود من الجهاد في آية البحث أيام التنزيل هو مجاهدة الكفار والمسابقة في ميادين القتال ، ولم يطرأ على بالهم محاربة المرتدين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتفضل الله بقوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
وجاءت آية السياق للإشارة والدلالة عليه ليكون من الإعجاز في الجمع بين الآيتين أمور :
الأول :الإخبار عن حصول الردة .
الثاني : بيان القرآن لكيفية مواجهة الردة .
الثالث : لزوم عدم التهاون مع المرتدين .
الرابع : قتال المشركين جهاد في سبيل الله وطريق إلى الجنة .
الخامس : تحلي المسلمين بالصبر المقترن بالحزم في إرجاع المرتدين إلى الإسلام.
الثانية عشرة : تتضمن آية البحث الترغيب بالجهاد والحث على الصبر وفيه زجر عن الإرتداد والنكوص عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيدرك المسلم أنه بحاجة إلى الجهاد والصبر كسبيل إلى الجنة والنعيم الدائم ، فيجتنب ما هو ضد لهما أو لأحدهما ، وليس من أمر أقبح من الإرتداد وهو ضد لهما مجتمعين .
لقد أراد الله عز وجل إصلاح المسلمين لملازمة حال الإمتناع عن الإرتداد إلى يوم القيامة ، ولا يختص الأمر بحال وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآية البحث في مفهومها تنهى عنه على نحو مستديم بلحاظ أمور :
الأول :جهاد النفس ومنع إستحواذ الهدى عليها .
الثاني : تلاوة القرآن وتعاهد الفرائض ، ليكون من منافع وجوب قراءة القرآن في الصلاة عصمة المؤمن من الشك ودبيب الريب إليها .
الثالث : جهاد المرتدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابع: الصبر في طاعة الله والتقيد بأحكام الحلال والحرام والتحلي بسنن التقوى والصبر عليها وجعل الناس يقتدون بالمؤمن ويتبعونه في الثبات في مقامات الإيمان ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( ).
وآية السياق لا تمنع من العموم في حرمة الإرتداد بلحاظ أنها تقسم أفراد الزمان إلى قسمين :
الأول : أيام وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين .
الثاني : السنوات والأحقاب بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
أما أيام النبوة فليس من إرتداد بل يجتهد المسلمون في الجهاد في سبيل الله والتفقه في الدين وتعاهد سنن الصبر والتقوى وأما بعد وفاته فقد جاءت آية السياق بالزجر عن الإرتداد وعن التلبس بسنن الضلالة والجحود فانتقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وإنقطع التنزيل والوحي ، ولكن آية البحث بقيت حاضرة في الوجود الذهني للمسلمين وجارية على السنتهم ، وظاهرة في أفعالهم بالصبر في طاعة الله والجهاد في سبيله ، لتكون عوناً لهم وموضوعاً لتقوية قلوبهم في سنن الإيمان والحرب على الإرتداد .
وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الإنبياء السابقين بأن تبقى أمته تتعاهد فرض الجهاد إلى يوم القيامة حباً لله وإمتثالاً لأمره ورجاء ثوابه في الآخرة ، وهذه النعم تنفرد بها [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )ومن مصاديق خروجهم المبارك هذا سلامة أجيالهم المتعاقبة من الإرتداد والنكوص إلى الوراء .
الثالثة عشرة : لقد أخبرت آية السياق عن قانون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ] وهو أسمى تقييد وحصر لشهادة الله عز وجل بصدق نبوته وصحة وسلامة ما يأتي به من السماء ، ومنه بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : البشارة بدخول المسلمين الجنة ، وهل يضر بهذه البشارة تقييدها بالجهاد والصبر ، الجواب لا ، إنما تبين خصال الإيمان ، وقيد التقوى ، فمن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه حمل للمسلمين أمانة عظيمة وهي البشارة بالجنة واللبث الدائم فيها .
الثاني : جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد في سبيل الله بالنص الجلي الذي تتضمنه آيات القرآن والسنة النبوية التي هي من مصاديق الوحي ، قال تعالى [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ]( ) .
الثالث : إظهار الصبر في المحن والبأساء وفي إداء العبادات لذا سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهر رمضان شهر الصبر كما ورد [عَنْ مُجِيبَةَ الْبَاهِلِيَّةِ عَنْ أَبِيهَا أَوْ عَمِّهَا أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- ثُمَّ انْطَلَقَ فَأَتَاهُ بَعْدَ سَنَةٍ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالَتُهُ وَهَيْئَتُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا تَعْرِفُنِى قَالَ « وَمَنْ أَنْتَ . قَالَ أَنَا الْبَاهِلِىُّ الَّذِى جِئْتُكَ عَامَ الأَوَّلِ. قَالَ « فَمَا غَيَّرَكَ وَقَدْ كُنْتَ حَسَنَ الْهَيْئَةِ . قَالَ مَا أَكَلْتُ طَعَامًا إِلاَّ بِلَيْلٍ مُنْذُ فَارَقْتُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- « لِمَ عَذَّبْتَ نَفْسَكَ . ثُمَّ قَالَ « صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَيَوْمًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ . قَالَ زِدْنِى فَإِنَّ بِى قُوَّةً. قَالَ « صُمْ يَوْمَيْنِ . قَالَ زِدْنِى. قَالَ « صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ . قَالَ زِدْنِى. قَالَ « صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ . وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلاَثَةِ فَضَمَّهَا ثُمَّ أَرْسَلَهَا] ( ).
الرابعة عشرة : ورد في آية السياق [وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ] ( ) ومن مصاديقه بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى :من الإنقلاب على العقبين عدم السعي إلى الجنة ، إذ ورد القرآن بالمسارعة إليها بالعمل الصالح .
الثاني : العقود عن الجهاد وصد المؤمنين عنه .
الثالثة : التلبس بالنفاق ، وظهوره على اللسان وفي عالم الأفعال .
الرابعة : الإتصاف بالجزع الذي هو ضد الصبر ، وإيذاء المؤمنين بما يحملهم على الصبر.
الخامسة : الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف كما في وصف القرآن المنافقين وفعلهم المذموم( ).
الخامسة عشرة : إبتداء آية السياق بالشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول الله وأختتمت بالإخبار عن جزاء الله عز وجل للشاكرين من عباده ، ليكون من مصاديق الشكر لله عز وجل في المقام وبلحاظ آية البحث وجوهاً :
الأول : دخول الإسلام والنطق بالشهادتين وهو شكر قولي وعملي لله على تفضله ببعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للعالمين.
الثاني : صدق الإيمان وإخلاص العبودية لله بالبقاء على الإيمان حتى عند مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
الثالث : الجهاد في سبيل الله والذب بالسيف عن الملة وأحكام الشريعة .
الرابع : من رشحات ومنافع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنمية ملكة الصبر عند المسلمين ،ليكون آلة لقهر النفس الشهوية والغضبية وسلاحاً للغلبة على مكاره الدنيا ، [عن أبي سعيد الخدري: انّ ناساً من الاَنصار سألوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاهم، ثمّ سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده، قال: ما يكن عندي من خير فلن أدّخره عنكم، و من يستعفف يعِفّه اللّه و من يستغن يُغنه اللّه و من يصبر يصبِّره اللّه، و ما أُعطي أحد من عطاء خيراً وأوسع من الصبر] ( ).
السادسة عشرة : أكدت آية البحث حاجة المؤمنين إلى الجهاد في سبيل الله فكانت آية السياق مدداً لهم ، وشاهد صدق على سلامة إختيارهم الصبر والدفاع عن الإسلام ، كما ورد [أن سالماً مولى أبي حذيفة قيل له يومئذ، يعني يوم اليمامة في اللواء أن يحفظه، وقال غيره: نخشى من نفسك شيئاً فنولي اللواء غيرك، فقال: بئس حامل القرآن أنا إذاً. فقطعت يمينه فأخذ اللواء بيساره، فقطعت يساره فاعتنق اللواء، وهو يقول: [ وما محمد إلا رسول ] ( )،وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير”( )، فلما صرع قال لأصحابه: ما فعل أبو حذيفة؟ قيل: قتل. قال: فما فعل فلان؟ لرجل سماه، قيل: قتل. قال: فأضجعوني بينهما.
ولما قتل أرسل عمر بميراثه إلى معتقته ثبيتة بنت يعار، فلم تقبله، وقالت: إنما أعتقه سائبة، فجعل عمر ميراثه في بيت المال] ( ).لقد صارت آية السياق حجة على المسلمين ، وبلغة لهم في الثبات في منازل الإيمان والدفاع عن الإسلام .
وكذا آية البحث فانها ضياء ينير للمسلمين سبل الهداية وسور حاجز بين الناس وبين الضلالة [وأخرج ابن جرير عن السدي قال : فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل ، فقال بعض أصحاب الصخرة : ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي ، فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان .
يا قوم إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلونكم . قال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، اللهم إني أعتذر إليك ممَّا يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء . فشد بسيفه فقاتل حتى قتل ، [وانطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه يرميه فقال: أنا رسول الله.
ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا.
فقال الله عز وجل في الذين قالوا: إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم: ” وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ] ( ).
السابعة عشرة : تخبر آية السياق عن شمول الموت للأنبياء والرسل وأنهم كباقي البشر لهم آجال يقبضهم الله عز وجل إليه عند إنقضائها وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( )فيترتب على وحدة سنخية البشرية الموت ومغادرة الروح الجسد عند حلول الأجل ، لتكون الآية أعلاه عوناً في تفسير آية السياق وإخبارها عن موت الرسل ، ومن الإعجاز فيها أنها ذكرتهم بصفة الرسول وليس الأنبياء أي بذكر الأخص وإرادة عموم الأنبياء ، فما من رسول إلا وهو نبي دون العكس.
ليكون في هذا الإخبار تمحيص وتزكية للمؤمنين وإعانة لهم على الجهاد، ومنع من وصول اليأس والقنوط إلى أنفسهم أو ظهوره على أفعالهم.
ولم يمت الرسول إلا وقد جاهد الذين آمنوا برسالته وإتبعوه في سبيل الله ولم يقصروا ولم يهنوا في الدعوة إلى التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فاراد الله عز وجل بالتذكير بهم حث المسلمين على الإقتداء بهم ، وإتباع نهجهم والموت على ذات العاقبة الحميدة التي غادروا بها الدنيا ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
وتقدير الجمع بين آية البحث والآية أعلاه على وجوه:
الأول : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما تتبعوا هدى الأنبياء .
الثاني : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما تموتوا على ما مات أو قتل عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم كما جاهد الأنبياء .
الرابع : لقد جاهد الأنبياء في سبيل الله وصبروا ففازوا بدخول الجنة فاتبعوا هداهم واقتدوا بهم وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين يقتدون بالإنبياء يدخلون الجنة .
الصغرى : المسلمون يقتدون بالأنبياء .
النتيجة : المسلمون يدخلون الجنة .
قوله تعالى[وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ]
[لَمَّا] حرف يأتي على ثلاثة وجوه :
الأول : حرف نفي وقلب يجزم الفعل المضارع ويقلبه إلى الماضي المتصل إلى أوان الكلام والنطق به مع رجاء حدوثه في الزمن اللاحق ، قال تعالى [بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ]( ).
الثاني : ظرف زمان يختص موضوعه بالزمن الماضي بمعنى حين ، ويستلزم جملتين إذا وردت الأولى جاءت الثانية ،قال تعالى [وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا] ( ).
الثالث : حرف إستثناء بمعنى (إلا ).
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الجهاد واجب كفائي وليس واجباً عينياً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ) ولكنها تبين قانوناً وهو أن عدم المشاركة في الجهاد لا يحرم المسلم من دخول الجنة ، لذا جاءت آيات البشارة بالجنة بذكر الإيمان وعمل الصالحات ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] ( ) .
وبين عمل الصالحات والجهاد عموم وخصوص مطلق فليس من إنحصار وتعيين لأفراد وضروب الصالحات وورد ذكر الإيمان في الآية أعلاه لإرادة قصد القربة في عمل الصالحات .
ويحتمل موضوع الجهاد والصبر في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة الجهاد والصبر في الزمن الحال وزمان نزول الآية القرآنية .
الثاني : إرادة الزمن الماضي وما تقدم من صبر وجهاد المؤمنين ، كما لو كان المراد معركة بدر لنزول الآية بعدها .
الثالث : المقصود مستقبل الأعمال ، وإرادة ما سيقوم به المسلمون من مصاديق الصبر والجهاد ، وهو ظاهر الآية الكريمة .
الرابع : تجدد المقاصد الكريمة من الآية وما يفيد بعث المسلمين على الجهاد والتحلي بالصبر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية بالإضافة إلى قانون إنتفاع اللاحق من المسلمين من السابق وبالعكس بخصوص السعي إلى الجنة ودخولها.
وإبتدأت الآية من الأشد ، فلم تقدم الصبر ،وبين الصبر والجهاد عموم وخصوص مطلق ، فالجهاد أحد مصاديق الصبر ، وهو أسمى مراتبه ، وأعلى ضروبه وأشدها على الفرد والجماعة ، وكل من الجهاد والصبر أمر وجودي ، وقد يكون الصبر كيفية نفسانية أما الجهاد فهو قول وفعل وفي الجهاد صبر ، وليس في كل افراد الصبر جهاد، وقدمت الآية الأسمى والأرقى في مراتب الإيمان.
إن ملكة الصبر وحدها لا تكفي لتثبيت الإيمان في الأرض ، فقام المسلمون بأعباء الجهاد لذا جاءت آيات القرآن بالأمر به والذي يحمل على الوجوب أربع مرات كل واحدة منها خطاب للمسلمين ، قال تعالى [انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً .
وجاءت هذه الآيات بما يدل على أن المراد من قوله تعالى [وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ]( ) هو الجهاد باخلاص وبذل الوسع والمرابطة والصبر في ميادين القتال ، وعدم الجنوح للسلم ضعفاً ووهناً وتنازلاً. وعن رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله] ( ).
والمراد من الجهاد هو المعنى الحقيقي من قتال الكفار ومحاربتهم وتحديهم والإحتجاج عليهم وبذل الوسع في الدعوة إلى الله عز وجل وإن إقترنت هذه الدعوة بالخشية على النفس .
وقيل الآية أعلاه منسوخة كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ( )بقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]( ) ولا دليل على النسخ في الآية والأصل عدم النسخ وتدل عليه صيغة الخطاب في أول الآية [أَمْ حَسِبْتُمْ]ولا يختص الصبر الذي يلزم المسلمين كطريق إلى الجنة ، وشرط من شروطها بميادين القتال،[ عن الأصبغ بن نباته قال : دخلت مع علي بن أبي طالب إلى الحسن بن علي نعوده فقال له علي : كيف أصبحت يابن رسول الله؟
قال : أصبحت بنعمة الله بارئاً.
قال : كذلك إن شاء الله.
ثم قال الحسن : أسندوني. فأسنده عليّ إلى صدره ثم قال : سمعت جَدي رسول الله يقول : «يابني أدِّ الفرائض تكن من أعبد الناس،وعليك بالقنوع تكن أغنى الناس، يا بني إن في الجنّة شجرة يُقال لها : شجرة البلوى،
يؤتى بأهل البلاء فلا يُنصب لهم ميزان ولا يُنشر لهم ديوان، يُصبّ عليهم الأجر صبًّا ثم تلا رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} هذه الآية {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}( )]( ).
وتتعدد ضروب الصبر في حياة المسلمين وجاء القرآن ببيان أصولها، وقال الله عز وجل [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ] ( )، لبيان تعلق دخولهم الجنة على الصبر وتحمل الأذى في جنب الله وهو الظاهر من منطوق ومفهوم الآية .
ليكون تفضيل المسلمين على الموحدين من الأمم السابقة الشرط الكفائي بأن تجاهد طائفة وتصبر طائفة أخرى منهم ليدخلوا الجنة جميعاً ، ويخرج المنافقون والفساق بالتخصيص لمجئ الآيات بالحث على الصبر وهو شرط يتقوم به الجهاد لما فيه من المشاق والمذاق المر لحرارة السيف ، ويفيد الجمع بين الآيتين لزوم جهاد المسلمين .
وهل يمكن القول بشمول النسخ والتقييد في قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]( ) شاملاً للجهاد في سبيل الله بلحاظ كبرى كلية وهي بين التقوى والجهاد عموم وخصوص مطلق ، فالجهاد أحد أفراد ومصاديق التقوى ومن أسناها ،الجواب هذا صحيح إلا أن الجهاد ورد فيه دليل خاص لا يقبل الترديد لأن فيه عز الإسلام ، وأي تفريط أو تقصير شخصي فيه يضر بعامة المسلمين ، فلم يصبر الرماة على جبل أحد في مواضعهم ، وأرادوا الحصول على سهم من الغنيمة لرؤيتهم فلول كفار قريش تولي الأدبار مذعورة فتركوا حفظ ظهر المؤمنين ونزلوا من الجبل فكانت النكسة والخسارة لولا أن منّ الله عز وجل على المسلمين وأهل الأرض بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقالة أصحابه ودعوتهم إلى ميادين القتال فهم لم يكتفوا بالقتال قدر الإستطاعة بل بذلوا النفوس والأموال وهو من مصاديق قوله تعالى [حَقَّ جِهَادِهِ] ( ) لذا تفضل الله عز وجل على المسلمين بآية البحث وجعل جهاد طائفة من المسلمين سبباً وعلة لدخولهم جميعاً في الجنة .
ويحتمل التبعيض الوارد في الآية بحرف الجر(من) في(منكم) وجوهاً:
الأول : الإخبار عن علم الله بأن الجهاد يقوم به شطر من المسلمين، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الثاني : التخفيف عن المسلمين بعدم اتصال الجهاد , ووجود فترة فيه مع عدم إنقطاع ثوابه.
الثالث : الجهاد واجب كفائي، فيقوم به فريق من المسلمين ويكون الأجر على وجوه:
الأول : إختصاص المجاهدين بأجر الجهاد لقوله تعالى[لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى]( ).
الثاني : شمول الأجر للذين يمدون ويساعدون المجاهدين بالسلاح والمال والعناية بالعيال.
الثالث : تغشي الثواب للمؤمنين جميعاً.
والصحيح هو الثالث، وهو من مصاديق لفظ العموم الذي تم التبعيض منه، وهو لفظ الكاف في(منكم) مع التباين في مراتب ودرجات الثواب، ويدل عليه قوله تعالى[لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ….]( ).
ومن إعجاز القرآن تعليق دخول المؤمنين هذه الآية بجهاد فريق منهم، ومجيء آيات من القرآن تأمر المسلمين بالجهاد وتحث عليه منها قوله تعالى[يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ]( ).
كما وردت أحاديث نبوية عديدة بالندب إلى الجهاد، وكانت السنة الفعلية خير مصداق على تقوم الإيمان بالجهاد، وصيرورته طريقاً للأمن والسكينة التي فازت بها أجيال لاحقة من المسلمين إذ إستطاعوا أن يؤدوا الفرائض بأمن من بطش قريش.
وقال الأخفش({وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} فانتصب الآخر لأنَ الأوّلَ نوى ان يكون بمنزلة الاسم وفي الثاني الواو. وان شئت جزمت على العطف كأنك قلت “ولمّا يعلمِ الصابرين”. فان قال قائل: “ولما يَعْلمِ الله الصابرين” {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} فهو لم يعلمهم؟ قلت بل قد علِم، ولكنّ هذا فيما يذكر أهل التأويل ليبين للناس، كأنه قال “ليَعْلَمَه الناسُ” كما قال {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} وهو قد علم ولكن ليبين ذلك . وقد قرأ أقوام أشباه هذا في القرآن {لِيُعْلَم أَيُّ الحزبين} ولا أراهم قرأوه إلاَّ لجهلهم بالوجه الآخر)( ).
ولكن هناك فرق بين يعلم الله، وبين ليبين للناس لإضافة أمرين فيه وهو تبدل العلم بالبيان، والعلم الذاتي، بالبيان للناس ،والأصل في الكلام العربي الحقيقة ولا يذهب إلى المجاز إلا مع القرينة الصارفة، وهذا المعنى الذي ذكره الفراء أبعد عن المجاز بمراتب نعم هو فرع من علم الله عز وجل ورشحة من رشحاته والله عز وجل يعلم بالأشياء قبل وجودها، والأفعال قبل حدوثها، والمعدوم والموجود حاضران عنده ولكنه سبحانه أراد من العلم هنا تحقق الفعل من المسلمين وبعثهم إليه، وفيه مسائل:
الأولى : بيان إحاطة الله عز وجل علماً بكل شيء.
الثانية : حب الله عز وجل للمؤمنين وهم يجاهدون في سبيل الله، ويصبرون طلباً لمرضاته.
الثالثة : دعوة المسلمين لإستحضار ذكر الله عند الجهاد والصبر، وفيه حث على إستدامة الجهاد والصبر.
الرابعة : علم الناس والخلائق بوجود أمة مؤمنة في كل زمان تتعاهد علة خلق الإنسان، ليكون من معاني قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) أمور:
الأول : وجود أمة تجاهد في سبيل الله، ويبذلون النفوس والأموال لجعل كلمة الله هي العليا.
الثاني : الدفاع عن الإسلام، من أبهى مصاديق العبادة.
الثالث : تستلزم عبادة الله في الأرض الجهاد والصبر، وهو أمر غير موجود في السماء، فكل الملائكة منقطعون إلى عبادة الله، أما في الدنيا فإن المؤمنين يجاهدون في سبيل الله، فلذا إستحقوا لقب الخلافة فيها.
الرابع : يتقوم كل من الجهاد والصبر متفرقين ومجتمعين بقهر النفس الشهوية والغضبية، ليكون الجهاد مع الذات والغير، وهل يصح القول أن إبتداء الجهاد مع النفس والذات.
الجواب نعم، ولكنه غير تام بالدقة العقلية، لأن هذا الجهاد مصاحب للإنسان في أيام حياته، لذا ورد قوله تعالى[إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي]( )، بأن عصم الله الإنسان من وسوسة الشيطان، ومنازعة النفس لإتباع الهوى، وليس لشهوات النفس حد ومنتهى سواء في الموضوع أو الكيف أو الكم.
ومن إعجاز التنزيل والنبوة إنتفاء التناقض بين قوة العقل وقوة الشهوة عند المؤمن وهو الذي تجلى في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فجاء القرآن بالترغيب بالجهاد والصبر بالذات والأثر وحسن العاقبة، وذكر القرآن كلمة إشتهت، تشتهي، تشتهيه بخصوص نعيم الجنة الأبدي، وقال تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ* وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ]( )، فيجد المؤمن في القرآن اللذات البدنية والبهيمية على نحو الأمل القريب والوعد الأكيد، قال تعالى[إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
وقد يكون المجاز عارضاً من جهة التركيب، وبناء الألفاظ، كما في ورود الأمر بصيغة الخبر مثل قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، لبيان أن بلوغ المسلمين مرتبة الأمر والنهي الواجبين طاعة لله، وإمتثال لأوامره، وقد يرد الخبر بصيغة الأمر، والإيجاب بصيغة النفي، وكذا العكس ويرد الواجب بلغة الإمكان أو الممتنع، والمدح بلغة الذم، والتكثير بلغة التقليل أو العكس.
وكأن الخلائق على موعد مع الأمة التي تبذل النفوس في ميادين المعارك لقهر مفاهيم الشرك، ودحر أعداء الله الذين أطبقت الجهالة والجحود عليهم، ليكون كل من الجهاد والصبر كرامة حسية يفوز بها المؤمنون يلتمسون بها الجزاء العاجل للتقوى وتطمئن نفوسهم لعظيم الثواب في الآخرة.
قانون مداد العلماء
من إعجاز الآية أنها ذكرت أمرين هما أم مصاديق الإيمان، ومظهر سنن التقوى، فكل قول وفعل للمؤمنين مجتمعين ومتفرقين يدخل في باب الجهاد أو الصبر أو هما معاً، وهذا الجمع من فضل الله ليفوز المسلمون بالثواب العظيم.
منها سعي العلماء في بيان أحكام الحلال والحرام وإجتهادهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحث الناس على الصلاح والإصلاح وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما أنكروا وجود خليفة في الأرض[يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، إذ أخبرهم تعالى بإحاطته علماً بخصائص عند الإنسان تستحق الخلافة بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومنها وراثة العلماء للنبوة في إقامة شعائر الله وتعاهد الفرائض(وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء)( ).
وفيه شاهد على أن بيان العلماء جهاد بالنفس وينمي ملكة حب الجهاد في سبيل الله عند عموم المسلمين وينير دروب الهداية، ويطرد الشك عن الصدور، وواقية من أهل الريب والعداوة كما أن مداد العلماء فعل يتقوم بالصبر والمثابرة والتحصيل فهو من مصاديق خاتمة آية البحث (ويعلم الصابرين).
وقيل في علة تفضيل مداد العلماء(دَمَ الشُّهَدَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ أَوْ سَاعَاتٍ ثُمَّ انْفَصَلَ الْأَمْرُ فِيهِ لِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ، وَمِدَادُ الْعُلَمَاءِ هُوَ وَظِيفَةُ الْعُمُرِ لَيْلًا وَنَهَارًا)( ).
ولكنه ليس علة تامة لتفضيل مداد العلماء لأن الشهيد يقدم في تلك الساعة أغلى شيء عنده ويفني ذاته في مرضاة الله، وصيرورة مداد العلماء بمرتبة دماء الشهداء بفضل الله، ولأن مدادهم وكتبهم وجهادهم في إظهار كنوز القرآن وعلوم السنة النبوية.
والمداد: الحبر والقلم والكتابة والحكمة ومنه سمي العالم حَبراً، وحِبراً لأنه كالحبر في سيلان نفعه وقلمه.
فهو في الحديث أعم من معناه في اللغة إذ أن معناه مستقرأ من القرآن، وقد ورد لفظ مداد مرة واحدة فيه بقوله تعالى[قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي]( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من يكون لك حمر النعم)( ).
وفي تزكية مداد العلماء مسائل:
الأولى : الثناء على العلماء.
الثانية : دعوة الناس لإكرام العلماء.
الثالثة : عدم ترك اللجوء إلى العلماء والإقتباس منهم حتى في حال الحروب وخوض المعارك والمرابطة، قال تعالى[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ]( ).
وتبين الآية أعلاه صدق المؤمنين في المبادرة للخروج في السرايا فيبقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع قلة وأغلبهم ضعفاء، فنزلت الآية أعلاه لبيان موضوعية بقاء طائفة من الصحابة لحفظ ما ينزل من القرآن، وتوثيق السنة النبوية القولية والفعلية وليخبروا أصحابهم عند عودتهم بالتنزيل ويشتركوا معهم بتدوين الآيات، وهو من الإعجاز في مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه، لتكون الأخوة سوراً جامعاً لعلوم التنزيل والإحاطة بما أستحدث وإستبان من الأحكام .
وإذ تأتي سنوات وعقود على المسلمين وليس فيها من الجهاد بالسلاح فضلا من عند الله عز وجل عليهم وللسعة في سبيل الهداية والإحتجاج ولغة البرهان فإن مداد العلماء لا ينقطع ولا يتوقف يوماً من الأيام ليبقى المسلمون متوثبين حذرين مستعدين للجهاد بالإضافة إلى إستحضار المؤمنين والناس جميعاً لتراث العلماء وما خطته أياديهم، ومنها هذا السِفر المبارك من التفسير الذي لم يشهد له التأريخ مثيلاً والحمد لله.
ومن خصائص مداد العلماء وآثار علومهم المباركة أنها لا تنقطع إلى يوم القيامة، وفيها تعظيم لشعائر الله وهي دعوة للعمل بالواجبات وزاجر عن المنكر والفواحش
قانون الحب الإلهي
يتجلى التباين في موضوع خاتمة الآيتين فمع أن آية السياق إبتدأت بالخطاب للمسلمين وبصيغة(إن) الشرطية التي تجزم فعلين والتي هي أم أدوات الشرط (ان يمسسكم قرح) فانها أختتمت بصيغة الخبر وقانون عدم حب الله للظالمين، والذي يدل بالدلالة التضمنية على حب الله عز وجل للمؤمنين من غير أن تصل النوبة إلى قانون التضاد، كما في علم الأصول وأن الأمر بالشئ نهي عن ضده، بل جاءت الآيات القرآنية بحب الله لكل من:
الأول : المحسنون الذين يحسنون لأنفسهم والناس في عمل الصالحات قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثاني : الذين يخشون الله بالغيب، ويتجنبون معاصيه، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث : من إعجاز القرآن وبيان لطفه بالعباد وترغيبهم بالإيمان مجئ آية واحدة بحب طائفتين من الناس، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
الرابع : تفضيل الصابرين بحب الله عز وجل لهم، بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، وهذا الحب مدد كريم، لتقريبهم إلى أبواب الجنة في حياتهم وبعد مماتهم بمضاعفة حسناتهم وغفران ذنوبهم.
الخامس : تغشي رحمة الله عز وجل للذين يحكمون بالعدل، ويتخذون الإنصاف سبيلاً ومنهاجاً ،قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
ويحتمل الأصل في المقام وجوهاً:
الأول : الأصل هو حب الله عز وجل للعباد مجتمعين ومتفرقين، إلا أن يفعلوا ما يحجب عنهم نعمة الحب الإلهي.
الثاني : الأصل هو البغض من الله عز وجل للعباد إلا الذي يقوم بطاعته ويستجيب لأوامره، ويتجنب نواهيه.
الثالث : الأصل هو عدم الحب أو البغض، إنما يترشح أحدهما عن عمل العبد، لذا قد تراه في منازل الظالمين وإتباعهم ويلاحقه البغض الإلهي في ميادين العمل المختلفة وفي الليل والنهار، فيتوب إلى الله فيأتيه الحب الإلهي دفعة، ولقد ذم الله عز وجل الذين يخفون البينات ومعجزات النبوة وتفضل واستثنى بقوله تعالى[إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ]( ).
والصحيح هو الأول، ومن الشواهد عليه تفضل الله عز وجل بجعل آدم عليه السلام خليفة في الأرض، وتسخير ما في الأرض للإنسان، وتوالي الفضل الإلهي عليه، ومجئ آيات اللطف التي تقربه من سبل الطاعة، ونعمة الله عز وجل عليه بامهاله وزجره عن إرتكاب المعاصي.
وتعقب قوله تعالى في خاتمة السياق[ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، مجئ الآية السابقة بقانونين متضادين في الموضوع ،وهما تمحيص المسلمين ومحق الكافرين ،فهل لهما صلة بقانون الحب الإلهي أو أنه موضوع مستأنف بعد خاتمة آية السياق، الجواب هو الأول من جهات:
الأولى : بغض الله عز وجل للظالمين علة لتمحيص المسلمين ومحق الكافرين، بلحاظ كبرى كلية وهي نفرة المسلمين من الظالمين، وإجتنابهم ومذموم أفعالهم، قال تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
الثانية : بعث السكينة في نفوس المسلمين بلحاظ أن من مصاديق تمحيصهم تطهيرهم من الظلم للذات والغير.
الثالثة : تعدد مضامين السخط الإلهي على الكافرين في الحياة الدنيا، إذ جاءت آية السياق بأمور منها:
الأول : إصابة الكافرين بالقروح والجراحات من غير ثواب أو أجر لتلاحقهم اللعنة والذم على هذه الجراحات، فليس من أمة من بعدهم تثني عليهم أو تمدحهم على تعديهم على الإسلام والمسلمين.
الثاني : بعث المسلمين للإستعداد للأذى ولتلقي الجراحات والكلوم في الدفاع عن الإسلام.
الثالث : الوعيد للكفار بأنهم إذا أعادوا الكرة بالإعتداء على المسلمين فسيصابون بالقرح والخسارة وسنبين في الجزء التالي قانون خسارة الكفار في معركة احد ، ومنه سقوط إثنين وعشرين قتيلاً منهم على قول ابن إسحاق ، وقيل بأنهم أكثر من ثلاثين قتيلاً .
الرابعة : بيان حاجة المسلمين إلى التمحيص والتطهير، لإحاطة أسباب وضروب الإبتلاء والإفتتان بهم، فجاء ذكر الظالمين في خاتمة آية السياق، وورد ذكر الكافرين في الآية السابقة.
وبعد الإخبار عن تمحيص وتطهير المسلمين، ليكونوا دعاة إلى الله وحاملين للواء التوحيد، ومتحملين لأذى الظالمين، ومجاهدين للكافرين لردعهم عن غيهم وغرورهم وجحودهم.
الخامسة : من دلالات خاتمة آية السياق[ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، إعانة المسلمين على حسن التمحيص والتزكية، والتوفيق في مسالك التقوى، وإتخاذهم ما يصيب الظالمين من البلاء والشدة والضيق مناسبة للثبات في مقامات التقوى فيشكر المسلمون الله عز وجل على نعمة الهداية وهذا الشكر من مصاديق التمحيص.
السادسة : من معاني لام التعليل في(وليمحص) التخفيف عن المسلمين برمي الظالمين بالوهن والضعف والإرباك ، وهو من رشحات عدم حب الله عز وجل لهم، لتكون أمام المسلمين سعة في ميادين العمل في مرضاة الله.
السابعة : من معاني آية السياق أن الله عز وجل لا يحب الظالمين من وجوه:
الأول : محاربة الظالمين للمسلمين.
الثاني : قتل الظالمين للشهداء من المسلمين ومفهوم قوله تعالى(ان يمسسكم قرح) هو إن إعتدى عليكم الكفار بالسيوف والنبال والرماح وأصابوا منكم)، فقد قتل شطر منهم وهم مقيمون على الكفر، معتدون على المسلمين مجتهدون في العزم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الثالث : يفضح تداول الأيام بين الناس الكافرين ويثبت للناس جميعاً ظلمهم وتعديهم، وهو من الإعجاز في ورود آية السياق بلفظ(الناس) بلحاظ أن معاني ودلالات العموم في الآية أعم من تصريف وتداول الأيام بين الناس، فهم شهود على حسن سمت المؤمنين أيام دولتهم، وظلم وجور الكافرين عندما تقبل الأيام عليهم.
الرابع : قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، إنذار ووعيد للكافرين، وتقدير الآية:وتلك الأيام نداولها بين الناس فنصرفها عن الظالمين.
فان قلت كيف إستنبط هذا الحكم والتقدير ليس من منطوق الآية، الجواب من مصاديق ورشحات عدم حب الله للظالمين مسائل:
الأولى : نفرة الأيام من الظالمين، ومناجاتها بالسلامة والوقاية من إستحواذهم عليها.
الثانية : سؤال الملائكة لله عز وجل بصرف الأيام والدولة عن الظالمين.
ليكون من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة عندما[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، حث الله عز وجل الملائكة على الدعاء والتضرع إليه تعالى بحجب الأيام عن الكافرين، وصرف الكافرين عن الأيام.
فصحيح أن آية السياق ذكرت وقوع الفعل والأمر الإلهي على الأيام وأنها تستجيب للمشيئة الإلهية، إلا أنه لا يمنع من أمرين:
الأول : اللطف الإلهي بالمؤمنين بجذب الأيام إليهم وإظهار سلطانهم عليها من غير تعارض مع سلطانه عليهم.
الثاني : عدم حب الله للظالمين بحجبهم عن تسخير الأيام لهم، وتهيئة المقدمات لصرفها لهم وتداولهم لها.
الثالثة : تلاوة المسلمين لآية السياق، وتسليمهم بقانون بغض الله عز وجل للظالمين، وهل هذه التلاوة دعاء بسؤال الله عز وجل ببغض وإزدراء الظالمين، الجواب نعم، ليسمع الملائكة بغض المؤمنين للكفار، وإعلانهم عدم حبهم للظالمين، لأن الله عز وجل لا يحبهم.
الرابعة : يترشح عن حب الله عز وجل للمؤمنين حجب الأيام وسلطانها عن الظالمين.
الخامسة : تبعية الخلائق جميعاً في الحب والبغض إلى إرادة الله عز وجل، فالذين يحبهم الله عز وجل يبغضهم أهل السموات والأرض.
وهل يشمل عدم حب الخلائق للظالمين معاداتهم الجواب لا، إلا أن يأذن الله ، وفيه وجوه:
الأول : لا تعادي السماء الظالمين وتقوم بحجب الغيث والمطر عنهم، بل يتفضل الله عز وجل بالنعم على الناس جميعاً، قال سبحانه[نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ).
الثاني : الدنيا دار إمتحان وإختبار، ويقترن هذا الإمتحان برحمة الله عز وجل بالناس جميعاً.
الثالث : تفضل الله عز وجل وجعل الإنسان خليفة في الأرض، فانه أكرمه بمنع الخلائق من معاداته ومحاربته.
الرابع : إقامة الحجة على الناس بلحاظ فعله .
وهل نصرة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وأحد والخندق وحنين وقتلهم الكافرين معاداة لهم، الجواب نعم.
ولكن الأصل فيها هو نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وتأتي هذه المعاداة بالعرض والإنطباق ولم تتم إلا بمشية الله وإستجابته لدعاء النبي ، قال تعالى بخصوص معركة بدر [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) ولأن الكافرين تمادوا في التعدي والظلم، فأن هذه المعاداة رحمة بالكافرين أنفسهم لزجرهم ومثلما هي رحمة بالمؤمنين لنصرهم.
الرابع : من أسرار مجئ اسم الإشارة (تلك) في قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ] أن مداولة وتصريف الأيام في الأجيال اللاحقة من جهات:
الأولى : مفاهيم البعد باسم الإشارة (تلك) وشموله للماضي السحيق، والمستقبل البعيد من أفراد الزمان.
الثانية : إتحاد اسم الأيام جمع تكسير يتغشى أيام الحياة الدنيا.
الثالثة : صيغة العموم في لفظ الناس، ودلالتها على رحمة الله بالناس جميعاً وتسخير الأيام لهم.
الخامس : تخلف الكافرين عن الشكر لله هز وجل على نعمة تصريف الأيام مطلقاً وأخذ نصيبهم منها، وكل يوم يمر على العبد يستلزم منه الشكر لله حتى مع إنصراف الأيام عنه، وفوز عدوه أو غيره مطلقاً بنعمة الدولة سواء في السلطان أو الجاه أو الشأن ، وقد فاز المسلمون بثناء الله عز وجل عليهم بلجوئهم إلى ذكر الله والإسترجاع عند مداهمة البلاء ونزول المصيبة، قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
السادس : إنعدام الناصر للكافرين في جلب الأيام لهم، وفي صدودها عنهم، قال تعالى[وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ]( ).
السابع : أسى وحزن الأيام على الكافرين، فبينما يتخذها المؤمنون مزرعة وراحلة كريمة لدخول الجنة بالجهاد والصبر المستمر فيها وإن تعاقبت السراء والضراء، فان الكافرين يفرطون بها كنعمة ومناسبة لإكتناز الصالحات .
بحث أخلاقي [الَّذِينَ جَاهَدُوا]
من ضروب الإطناب التنكيت وهو إتيان المتكلم بكلام يريد منه ذكر أمر مخصوص ولكنه يجزي بإرادة معنى آخر، وحصر الذكر بالأول لوجود راجح فيه، كما في قوله تعالى[هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ] ( ) فذكرت الآية الصادقين بالقول والعمل لأن الصدق عنوان الإخلاص ويدل على حسن التوكل على الله وذكرت آية البحث صنفين من المسلمين هما :
الأول : الذين جاهدوا في سبيل الله .
الثاني : الصابرون في طاعة الله، لأن جهاد طائفة من المسلمين سلامة لعموم المسلمين وحفظ للعقيدة وأحكام التوحيد، فقد قاتلت طائفة من المسلمين في معركة بدر وأحد ليكونوا سبباً لزجر الكفار عن التعدي على الذين دخلوا الإسلام فيما بعد ولذراري المسلمين.
وذكرت الآية الصبر لأنه على وجوه :
الأول : الصبر عن المعصية، إذ أن الإمتناع عن الفواحش أمر وجودي يستلزم حبس النفس عن الشهوات ، وتنمية ملكة الإحجام عن السيئات.
الثاني : الصبر في أداء الفرائض وإتيان الصالحات.
الثالث : الصبر على الإنفاق وإخراج الزكوات.
الرابع : الصبر عن التعدي وظلم الغير.
الخامس : الصبر عما يسوق صاحبه إلى النار، [ومما يذكر في الإسرائيليات: إن رجلاً تزوّج امرأة في بلدة وأرسل عبده يحملها إليه فراودته نفسه وطالبته بها فجاهدها واستعصم بالله، قال: فنبأه اللّه تعالى فكان نبياً في بني إسرائيل] ( ).
السادس : الصبر عند مداهمة الفتن، ومباغتة البلاء.
السابع : الصبر بإختيار العفو عن الجاني، قال تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
الثامن : الصبر في البأساء والضراء وحال العوز والفقر .
التاسع : الصبر على الشكر لله عز وجل .
العاشر : الصبر على داء البدن والأمراض وترك الجزع الذي هو ضد الصبر .
الحادي عشر : الصبر في أداء المستحبات والنوافل والرغبة فيها.
الثاني عشر : الصبر في مقامات القناعة ، وترك الفضول .
الثالث عشر : الصبر في الإيثار بقصد الأخوة الإيمانية ، قال تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] ( ).
الرابع عشر : الصبر على الصبر بما يجعله ملكة ثابتة في المتشابهات والمتضادات ، [وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أعطي أحد من عطاء خيرا وأوسع من الصبر] ( ).
الخامس عشر : الصبر في المكاسب ، ومعيشة العيال لذا وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه الجهاد الأكبر .
السادس عشر : الصبر في منازل التوبة والإلحاح بالدعاء والصدور عن التنزيل ، والمواظبة على الإستغفار والصبر على مراتب ودرجات سواء بذاته أو بلحاظ إستدامته في أفراد زمان طولية متعاقبة ، لذا فان الصبر على طاعة الله أعلى درجة من الصبر عند المعاصي ، ويتجلى هذا العلو من وجوه :
الأول : الطاعة من عالم الأمر وله شأن ومنزلة .
الثاني : إستدامة طاعة الله في الواجبات العبادية المتعددة .
الثالث : الصبر على طاعة الله برزخ دون فعل السيئات ، وحرز من الموانع التي تطرأ على البصر والبصيرة في السعي في الصراط المستقيم.
الرابع : يستلزم الصبر على الطاعة بذل الجهد في كل فعل وجزء من الفعل العبادي، ولا يختص الصبر بخصوص أوله وبدايته.
ومن معاني الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الأخلاق الحميدة تقود إلى الجنة وتكون حرزاً وواقية من لهيب النار بلحاظ أن حسن الخلق صبر وجهاد للنفس الشهوية والغضبية .
ولا يرتقي الصبر إلى مراتب السمو في الأخلاق إلا بالتقوى فتفضل الله عز وجل بآية البحث لتكون الأخلاق الحميدة بلغة إلى الأجر والثواب العظيم .
قراءة في [وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( )
فازت خديجة عليها السلام بصفة الأمومة للمؤمنين من جهات :
الأولى : زواج خديجة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : تصديق خديجة بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم حالما نزل عليه الوحي.
الثالث : إجهار خديجة بايمانها وتصديقها بالنبوة.
الرابع : بذل خديجة أموالها في سبيل الله، وقيل أنفقت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعين ألفا وأربعين ألفاً , عن الزهري .
الخامس : ملاقاة خديجة أذى حصار قريش مع أهل البيت.
السادس : شمول خديجة بعمومات قوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ) مع أنها توفت قبل نزول الآية مما يدل على أن موضوعها أعم من سبب النزول الذي ورد بخصوص عائشة , ولا تصل النوبة للإستصحاب القهقري في شمول خديجة بالآية بلحاظ أن نزولها في المدينة وخديجة ماتت في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل لأصالة الإطلاق .
وهل يختص لفظ المؤمنين والنبوة في الآية أعلاه بأهل زمان النبوة وإرادة الزجر عن نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى ، الجواب لا ، من وجوه :
الأول : اصالة العموم في اللفظ القرآني إلا مع ورود الدليل على التخصيص ، وهو مفقود في المقام .
الثاني : وحدة الموضوع في تنقيح المناط ، وصدق إنطباق الأمومة على المؤمنين.
الثالث : قوله تعالى [وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] أعم من الإنحصار بزمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحرمة النكاح من أزواجه بدليل عطفه على قوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( ) فلم يقل أحد من المسلمين بأن الأولوية في الآية أعلاه خاصة بالصحابة ، بل هو قانون باق إلى يوم القيامة وهو رحمة من عند الله بالناس.
وتقدير الآية هو النبي أولى بأجيال المؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم فيكون الضمير [هُمْ]معطوفاً على المؤمنين بأجيالهم المتعاقبة مع أن أسباب نزول الآية وردت بمسألتين كل واحدة مستقلة في موضوعها:
الأولى : روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا أَرَادَ غَزْوَةَ تَبُوكَ أَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ، فَقَالَ قَوْمٌ: نَسْتَأْذِنُ آبَاءَنَا وَأُمَّهَاتِنَا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ})( ).
الثانية : قال رجل: لو مات محمد تزوجت عائشة، وعن ابن عباس وقتادة إنه طلحة بن عبيد الله وأنها كانت هفوة منه وتاب وكفّر بالحج ماشياً وباعتاقه رقاباً كثيرة وغيرها.
وعن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال : أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ، ويتزوج نساءنا من بعدنا ، لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده . فنزلت هذه الآية)( ).
وتبين الآية أن كل مسلم ومسلمة يتشرفان بأولوية وأبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي مقدمة لفوزهم بشفاعة يوم القيامة.
الرابع : ترشح أمومة أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين والمسلمات بلحاظ إقترانهن به ، فهذا الشرف والمنزلة تشريف وإكرام لهن للفوز بزواجه منهن ومعاشرته لهن، وإجتماعه معهن في بيت واحد وتلقي التأديب منه مباشرة ومن دون واسطة .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحسنكم أحسنكم لعياله وأنا أحسنكم لعيالي).
الخامس : بيان ضوابط مدرسة عقائدية تتجلى فيها الأحكام الخاصة بالنكاح والأسرة والأبناء .
السادس : حضور الحياة اليومية والأسرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الوجود الذهني للمسلمين ، وإقتباسهم الدروس والمواعظ من حسن معاشرته لأزواجه ، وهذه المعاشرة من أسباب تسميتهن بأمهات المؤمنين .
السابع : كما أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة ، فكذا بالنسبة لنكاحه وحياته داخل بيته ،فهي حاضرة عند المسلمين وكأنه حي بينهم بشخصه وشؤون بيته الخاصة وهي خير محض.
الثامن : ليس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يخفيه على المسلمين والمسلمات من أمور حياته في العبادات والمعاملات، وهم فيها شرع سواء يتزودون منها لدنياهم وآخرتهم .
التاسع : بيان سر من أسرار تعدد أزواج النبي وبلوغهن إثنتي عشرة امرأة ممن عقد عليهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخل بهن وكان النكاح كل واحدة منهن قصة وموضوع مع أنه ليس فيهن باكر إلا واحدة هي عائشة ، والباقي تتباين أعمارهن ومنهن كبيرة السن، كما في سودة بنت زمعة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمرها خمس وخمسون سنة وعمره الشريف خمسون سنة، بينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحث بعض اصحابه على الزواج من الباكر ، وبيان المائز الذي تتصف به ، وورد عن جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع من نخل، فلما قفل الناس، وكنت على جمل لي قد أبطأ علي، فجعلت الرفاق تمضي حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لك يا جابر؟ فقلت: يا رسول الله، أبطأ بي جملي هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنخه، فأنخته، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعطني هذه العصا التي في يدك، فأعطيته إياها، أو قطعت له عصية من شجرة فأعطيته إياها، فنخسه بها نخسات ثم قال: أركب يا جابر، فركبت، فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة، وتحدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ فقلت: بل أهبه لك يا رسول الله، فقال: لا، ولكن بعنيه، فقلت: نعم، إن شئت يا رسول الله، قال: فبكم هو؟ فقلت: سمني، فقال: قد أخذته بدرهم، قلت: لا والله يا رسول الله، فلم يزل يرفع لي حتى قال: أوقية، فقلت: قد رضيت، قال: نعم، قلت: هو لك.
فقال: هل تزوجت يا جابر؟ قلت: نعم، فقال: بكرا أم ثيبا؟ فقلت: ثيبا، فقال: هلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ فقلت: يا رسول الله ، إن أبي قتل يوم أحد، وترك سبع بنات، فنكحت امرأة جامعة تجمع رءوسهن، وتقوم عليهن، وتغسل ثيابهن، فقال: أحسنت وأصبت)( ).

قانون السنة النبوية بخصوص آية البحث( )
يمكن تأسيس علم جديد في الكتاب والسنة، وهو ما قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص كل آية قرآنية من وجوه:
الأول : تلاوة الآية في الصلاة اليومية.
الثاني : تلاوة ذات الآية على المنبر.
الثالث : الإستشهاد النبوي بالآية القرآنية، وهذا الإستشهاد من عمومات الوحي في قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الرابع : إستماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية من أفواه أهل البيت والصحابة.
الخامس : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية في الحضر والسفر.
السادس : إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآية القرآنية.
السابع : تدوين الآية القرآنية.
الثامن : تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية( ).
التاسع : مصاديق الآية القرآنية في السنة النبوية، بلحاظ قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستنباطه من القرآن، وكونه مرآة له.
العاشر : أحاديث العرض، [عن ثوبان : أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال : ( ألا إن رحى الاسلام دائرة ) قال : فكيف نصنع يا رسول الله ؟ قال : ( إعرضوا حديثي على الكتاب فما وافقه فهو مني وأنا قلته] ( ).
الحادي عشر : ما يخص سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أسباب نزول الآية القرآنية، وللسنة موضوعية في أكثر أسباب نزول الآيات.
الثاني عشر : السنة النبوية التي ترتبت على نزول الآية القرآنية، سواء حال النزول أو بعده .
الثالث عشر : إنتظار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للوحي بخصوص واقعة أو حكم، وهو على أقسام:
الأول : مجيء الوحي على نحو الإطلاق بما يظهر بالسنة القولية أو الفعلية، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثاني : نزول جبرئيل عليه السلام بالوحي وهداية النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قول أو فعل مخصوص، كما في فقد ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، [وقال المنافق زيد بن اللصيت، حين ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلنى الله عليها، فهى في هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها ” فذهب رجال من المسلمين فوجدوها كذلك] ( ).
الثالث : توجه أسئلة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين أو أهل الكتاب أو الكفار، ونزول الملك بالجواب في آية حسية وعقلية ظاهرة.
الرابع : نزول آية القرآنية بحكم مخصوص ولحاظ أسباب معينة لتبقى السنة النبوية بخصوص الآية القرآنية كنزاً وثروة لأجيال المسلمين المتعاقبة، كما في قوله تعالى[قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا]( ).
الرابع عشر : إحتجاج الصحابة والعلماء بالسنة النبوية الواردة بخصوص الآية القرآنية خاصة وأن السنة هي المصدر الثاني للتشريع.
الخامس عشر : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمضامين الآية القرآنية سواء عن سؤال أو إبتداءً.
السادس عشر : دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الآية القرآنية.
السابع عشر : الآية القرآنية مدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن عشر : نزول الآية القرآنية تصديقاً وإمضاء لفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسع عشر : تجلي السرور على وجه النبي عند سماعه للمؤمنين وهم يتلون الآية القرآنية.
العشرون : إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآية القرآنية مادة وموضوعاً لتحريض المسلمين على الجهاد في سبيل الله والتفاني في طاعته وأداء الواجبات العبادية وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بلحاظ إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالقول والفعل في الصراط الذي يؤدي إلى دخول الجنة .
الحادي والعشرون : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحفظ الآية القرآنية وسلامتها من التحريف وطرو الزيادة أو حصول النقيصة فيها.
الثاني والعشرون : مجئ المسلمين من القرى والمدن الأخرى لرؤية كيفية نزول الوحي على النبي وحاله عند تلقيه ثم إنفصاله عنه .
الثالث والعشرون : حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على تدوين الآية القرآنية حال نزولها ، وإفراد باب إسمه كتاب الوحي .
الرابع والعشرون : حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن ، وهو آية إعجازية لكثرة وتزاحم وظائف النبوة ، وعدم وجود حاجب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمنع الناس عنه .
الخامس والعشرون : جمع القرآن أيام حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه أخبار متعددة [قال الحاكم في المستدرك: جمع القرآن ثلاث مرات. إحداها: بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم] ( )، وقول أن القرآن كتب في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه لم يجمع في مصحف أي لم يكن بين دفتين .
السادس والعشرون : ترغيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعاهد الآية القرآنية وحفظها عن ظهر قلب.

العناية بالآية القرآنية
ويحتمل تعاهد المسلمين للآية القرآنية بلحاظ آية البحث وجوهاً:
الأول : إنه جزء ومصداق للجهاد في سبيل الله الذي جعلته هذه الآية طريقاً لدخول الجنة، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الثاني : إنه من الصبر في ذات الله , ومصداق قوله تعالى[وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] وتلاوة المسلم للآية القرآنية صبر في مرضاة الله، وكذا كل سعي وجهد يبذله في حفظ الآية القرآنية من جهات:
الأولى : إختيار الإنقطاع إلى القرآن تلاوة وتدبراً، وترك الإنشغال بأمور الدنيا.
الثانية : بذل الجهد لتلاوة وكتابة الآية القرآنية من غير تبديل أو تغيير بحروفها أو تقديم وتأخير بكلماتها.
الثالثة : الإقامة على حفظ الآية القرآنية، والحرص على عدم مغادرتها للقلب، أو إعراضه عنها.
الثالث : في تلاوة وحفظ الآية القرآنية تنمية لملكة الصبر في النفوس، وهي موضوع لبعث السكينة فيها، ويتفرع عن هذا العلم قانون وظائف الإمامة بخصوص الآية القرآنية[عن قتادة قال: لما أخذ موسى الألواح قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في قلوبهم فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد] ( ).
الرابع : التفصيل فقد يكون الجهاد هو الأكثر نفعاً في بعض الأحيان وقد يكون العكس.
والصحيح هو الثالث، ويكون الرابع في طوله، إذ يتقوم بقاء معالم الإسلام وأحكام الشريعة بالصبر الخاص والعام للمسلمين بمعنى كل مسلم يكون صابراً عاملاً بتكليفه، والمسلمون جميعاً صابرون في مرضاة الله.
قانون الجهاد واجب كفائي والصبر واجب عيني
وجاءت الآية بعطف الواجب العيني العام على الكفائي الخاص، وفيه وجوه:
الأول : إنه من عطف الخاص على العام.
الثاني : إنه من عطف الحال القليل والطارئ على المستقر المتجدد، فقد تطرأ الحاجة إلى الدفاع عن الإسلام ودفع الكفار عن الثغور في بعض الأحيان، بينما يلزم الصبر في كل يوم سواء بأداء التكاليف أو بتحمل الضراء والبأساء تسليماً بقدر الله عز وجل.
الثالث : إنه من عطف الشاق على الأشق فيستلزم الصبر عناء وجهداً ومشقة ولكن الجهاد يحتاج إلى مراتب وكيفية أكثر من العناء والجهد.
الرابع : عطف قليل النفقة على كثيرها، أو كثير النفقة على الأكثر فيحتاج الجهاد وإرادة النفاق بذل الأموال لشراء العدة والأسلحة وتهيئة مقدمات القتال، كما يدل عليه قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، ولعله يدل بالدلالة التضمنية على تخصيص مالية مستقلة وثابتة للدفاع .
ولا يتوقف هذا الإعداد والإنفاق على إرادة العدو الزحف أو التعدي على المسلمين وبلادهم، وتفيد الآية لزوم مبادرة وإبتداء المسلمين بإعداد وتهيئة الأسلحة ووسائط القتال.
نعم تبين الآية وجود عدو على نحو فعلي وظاهر، وليس الإحتمال وإرادة عالم التصور وما يسمى في هذا الزمان بنظرية المؤامرة وفيه تمحيص من جهة إلحاقه بالخطر الفعلي مع أمارات الظن المعتبر وهل يصلح القول أن الصبر قد يكون واجباً كفائياً، فيتقيد بآدابه نفر من المسلمين ويكفي عن الجميع وإن لم يكن جهاداً.
الجواب الصبر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة ، وأداء الفرائض من أبهى مصاديق الصبر وضروب الصبر متعددة ، بلحاظ تبدل الحكم مع تغير الموضوع، وتحلي بعض المؤمنين بالصبر والقيام بالأمر الذي يستلزم الصبر ويخفف عن الأمة، ويكون بلغة كافية لتحصيل المراد، كما في قوله تعالى[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ]( )، إذ يستلزم طلب العلم الصبر في التحصيل والمواظبة على الإكتساب العلمي والتفرغ للدراسة والتفقه ولو على نحو الموجبة الجزئية، خاصة وأن الفقاهة تتطلب تحصيل مقدمات في لغة القرآن وقواعدها النحوية وبديع البلاغة والصرف وعلم الدراية وطبقات الرجال على نحو الإجمال وفهم معنى ودلالة الآية وأسباب نزولها، والإحاطة بالسنة النبوية بحسب الحاجة ومناسبة الإستدلال وهو إمامة الجماعة من أفراد الصبر الكفائي لتحمله القراءة في الصلاة عن المأمومين ولإقتدائهم به.
وأداء الصلاة موضوع للصبر لجميع أفراد الجماعة ولكن المائز بين إمام الجماعة والمأمومين رتبي وكل فرد منهم هو صابر محتسب في تهيئة مقدمات الصلاة كالوضوء، وفي الوقوف بين يدي الله عز وجل بخضوع وخشوع.

قانون كسر الأصنام
تتجلى معاني الرحمة الإلهية على الناس جميعاً في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكسر الأصنام في الجزيرة العربية، وتدبر الناس في حقيقتها ، وظلم الذات في تقديسها لتصبح نبوة محمد صلى الله عليه وآله الفيصل بين الإيمان ومظاهر الشرك في الأرض فبعد أن كان في كثير من بيوت مكة ويثرب والجزيرة أصنام تعبد، صار يرفع فيها الأذان بالتكبير والشهادة بالتوحيد، والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وكانت الأصنام على الصفا والمروة حتى تحرج جمع من المسلمين بالسعي بينهما لأن الكفار كانوا يسعون بينهما فنزل قوله تعالى[إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]( )، لإفادة أمر الله للمسلمين بالطواف والسعي بينهما على أي حال لأنهما من معالم الدين وسنن التوحيد، وأن سعي العرب بين الصفا والمروة من بقايا حنيفية إبراهيم عليه السلام إلى أن نزل قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( ).
فإنقطعت ظاهرة الأصنام، وإنزجر وأزدري عبدة الأصنام ليكون من معاني كسر الأصنام نقاء القلوب، وسلامة النفوس من درن الشك والريب فكسرها مرآة للتبدل النوعي في حياة الناس ، وحلول ضياء الهدى بدل ظلمة الضلالة ، وهو من مصاديق مقدمات التمحيص بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقريب الناس إلى صيغ التوفيق والتطهير، فقد يثاب المرء قهراً، ويدعى إلى الإسلام إنطباقاً، فمن يصر على عبادة الأصنام لا يجد لها مصداقاً، ويدرك أنها أحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تدفع عن نفسها ،وكان هذا الإدراك من أسباب دخول فريق من الناس الإسلام، وجهادهم في سبيل الله.
وعندما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كان بعضهم يتخذ الأصنام ولكنهم كسروها وخروجوا إلى معركة بدر وأحد والخندق.
[وكان عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام له صنم اسمه مناف، فأخذوه فكسروه ثم ربطوه مع كلب في بئر، فأسلم وجعل يرتجز ويقول:
الحمد لله العلي ذي المنن … الواهب الرازق ديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن … أكون في ظلمة قبر مرتهن
والله لو كنت إلهاً لم تكن … أنت وكلب وسط بئر في القرن
والآن فتشناك عن شر الغبن
وكان عمرو أعرج فلم يشهد بدراً، فلما حضر أحداً أراد الخروج فمنعه بنوه.
وقالوا: قد عذرك اللّه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن الخروج، والله إني أرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال: أما أنت فقد عذرك الله ” وقال لبنيه: لا عليكم أن تمنعوه لعل اللّه أن يرزقه الشهادة، فتركوه.
قالت امرأته هند: كأني أنظر إليه مولياَ قد أخذ رقبته، وهو يقول: اللهم لا تردني إلى أهل حزبي وهي منازل بني سلمة.
فقتل هو وابنه خلاد جميعاً، ودفن هو وعبد الله بن عمرو وأبو جابر في قبر واحد] ( ).
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم وعلَّقوا عليها بعض النعام وجعلوا في آذانها السيوف وهم يسجدون لها. فقال : يا معشر قريش واللَّه لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام. فقالت له قريش : يا محمَّد إنَّا نعبدها حبَّاً لله، ليقرّبونا إلى الله زلفى.
فقال الله تعالى : قل يا محمّد إنْ كنتم تحبّون الله وتعبدون الأصنام ليقرّبوكم إليه فاتبعوني يحببكم اللَّه، وأنا رسوله إليكم وحجتَّه عليكم وأنا أولى بالتعظيم من الأصنام( ).
ولم تكن عبادة الأصنام خاصة بالعرب أيام الجاهلية، بل كانت أمم أخرى على ذات الجهالة، فأشرقت الأرض بألوية التوحيد وإشراقات القرآن.
وأسلم أيام الدولة العباسية ملك من ملوك التبت ، وكان له صنم من ذهب يعبده في صورة إنسان ، وكان على رأس الصنم تاج من الذهب مكلل بخرز الجوهر والياقوت الأحمر والأخضر والزبرجد ، وكان على سرير مربع مرتفع من الأرض على قوائم ، والسرير من فضة ، وكان على السرير فرشة الديباج( ) ، وعلى أطراف الفرش أزرار من ذهب وفضة مرخاة، والأزرار على قدر الكرين في وجه السرير ، فلما أسلم ذلك الملك ، أهدى السرير والصنم إلى الكعبة ( ).
وفي سنة إحدى ومائتين عرض السرير وما عليه من الفرشة والصنم بين الصفا والمروة ثلاثة أيام في موسم الحج، ومعه لوح من فضة مكتوب فيه :بسم الله الرحمن الرحيم، هذا سرير فلان بن فلان ملك التبت أسلم وبعث بهذا السرير هدية إلى الكعبة، فاحمدوا الله الذي هداه للإسلام.
وكما إنقطعت الشياطين عن الصعود إلى السماء بنبوة عيسى عليه السلام، فقد إمتنع الناس عن الإنصات للوسوسة والغرر في باب العبادة باشراقة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأقر الناس بقانون إنحصار إستحقاق العبادة بالله عز وجل.
وهل التماثيل لبعض الزعامات والأشخاص في هذه الأزمنة من ذات السنخية في عبادة الأصنام التي كانت أيام الجاهلية، الجواب لا، للتباين الموضوعي، وإذا تغير الموضوع تبدل الحكم، فلم تصنع للعبادة ، نعم قد يأتي النهي عنها و كراهتها من النصوص والأحاديث الواردة بذمها والنهي عن تماثيل ذات الأرواح .
لقد بدأت الحياة الإنسانية على الأرض بالتوحيد وعبادة الله ، فلم يكن على سطحها آنذاك إلا نبي وهو آدم ، وزوجه حواء التي عاشت معه في الجنة ، وفاز برؤية الملائكة وحديثهم ، ثم أمر الله عز وجل الملائكة أن يسجدوا له فهبط إلى الأرض لعمارتها بالتقوى ، ولا يضر هبوط إبليس إلى الأرض معه ، لتكون بدايات الحياة في الأرض إنتصاراً للحق على الباطل ، والنبوة على الغواية ،والعبادة على الضلالة .
ومن مصاديق الإطلاق في التمحيص وتغشيه المؤمنين جميعاً شموله لآدم وحواء لقوله تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
فان قلت جاءت آية البحث بصيغة المضارع [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]والقدر المتيقن منه هو زمان نزول الآية وما بعده .
والجواب وردت الآية بلغة التعليل المتصل بتداول وتصريف الأيام بين الناس وإرادة الإطلاق في لفظ الناس الشامل لأفراد الزمان الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل ولو نظرنا إلى حياة آدم عليه السلام وما بعده من ذريته فهل كان فيها تمحيص ،الجواب نعم ، ومنه وجوب أداء الصلاة والصيام والحج .
[وعن زر بن حبيش قال: سألت ابن مسعود عن ايام البيض( ) ما سببها وكيف سمعت؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول ان آدم لما عصى ربه تعالى ناداه مناد من لدن العرش يا آدم اخرج من جواري فانه لا يجاروني أحد عصاني، فبكى وبكت الملائكة فبعث الله عز وجل إليه جبرئيل فاهبطه إلى الارض مسودا فلما رأته الملائكة ضجت وبكت وانتحبت وقالت: يا رب خلقا خلقته ونفخت فيه من روحك واسجدت له ملائكتك بذنب واحد حولت بياضه سوادا فنادى منادي من السماء ان صم لربك اليوم فصام فوافق يوم الثالث عشر من الشهر فذهب ثلث السواد ثم نودي يوم الرابع عشر أن صم لربك اليوم فصام فذهب ثلثا السواد ثم نودي يوم الخامس عشر بالصيام فصام فاصبح وقد ذهب السواد كله فسميت أيام البيض للذي رد الله عز وجل فيه على آدم من بياضه، ثم نادى مناد من السماء يا آدم هذه الثلاثة أيام جعلتها لك ولولدك من صامها في كل شهر فكانما صام الدهر، فجلس آدم عليه السلام جلسة القرفصاء ورأسه بين ركبتيه كئيبا حزينا .
فبعث الله تبارك وتعالى إليه جبرئيل فقال يا آدم ما لي اراك كئيبا حزينا قال لا ازال كئيبا حزينا حتى يأتي أمر الله قال فانى رسول الله اليك وهو يقرؤك السلام ويقول: يا آدم حياك الله وبياك قال أما حياك فاعرفه فما بياك قال اضحكك قال فسجد آدم فرفع رأسه إلى السماء وقال يا رب زدنى جمالا فاصبح وله لحية سوداء كالحمم فضرب بيده إليها فقال يا رب ما هذه؟ قال هذه اللحية زينتك بها أنت وذكور ولدك إلى يوم القيامة] ( ).
لبيان قانون كلي وهو أن الجزاء العاجل يأتي للمؤمنين باتيانهم الفرائض والعبادات فتتجلى في أخبار الأنبياء مع الملائكة شذرات من هذا الجزاء ليكون مدرسة وموعظة للمؤمنين ، فان قلت قد يكون الجزاء العاجل الذي يرد في أنباء الوحي للأنبياء خاصاً بهم ، والجواب إذا أنعم الله عز وجل نعمة على أهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها ، والأنبياء رسل الله عز وجل إلى قومهم ، لذا فان الخطاب القرآني الذي يتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يراد منه عامة المسلمين والمسلمات إلا ما ورد الدليل أو القرينة على إختصاصه بالنبي محمد صل الله عليه وآله وسلم ،كما في قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ) وحتى هذا المعنى الخاص موجه للمسلمين بالواسطة لإستحضاره في أمور العقيدة ومعرفة مقام النبوة والجدال والإحتجاج وبيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [عن زر بن حبيش قال : أتيت المدينة فلقيت أبيّ بن كعب فقلت : يا أبا المنذر إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه ، فقال : أما والذي بعث محمداً بالحق قد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهما وما سألني عنهما أحد منذ سألته غيرك . قال : قيل لي قل فقلت فقولوا ، فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] ( )
وفيه تأكيد بكون المعوذتين من القرآن .
ويتعلق قانون كسر الأصنام بمضامين هذه الآية من جهات :
الأولى : في هذا القانون تمحيص للمؤمنين لأن من واجباتهم مجتمعين ومتفرقين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن أظهر ضروب النهي الزجر عن عبادة الأصنام وكسر التي يتخذها الناس أرباباً من دون الله وتنقيه المجتمعات من درن الشرك .
وقد أولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الأمر عناية خاصة ، إذ بعث أصحابه لكسر تلك الأصنام وعقد راية لجرير بن عبد الله البجلي لهدم صنم كانت تعبده خثعم وبجيلة إسمه ذو الخلصة وكأنه يرسله إلى غزوة ومعركة ، وفيه مسائل :
الأولى : تنبيه جرير ومن معه من الجنود باحتمال مواجهة مقاومة ومنع كسر الصنم من الناس الذين حوله .
الثانية :التحذير من ظهور التهاون والخشية من المشركين وكانوا يسمون هذا الصنم الكعبة اليمانية ، ويسمون الكعبة البيت الحرام الكعبة الشامية .
الثالثة : دعوة المسلمين لمحاربة الأصنام وعدم التهاون فيها.
وبالإسناد[ عن جرير قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” ألا تريحنى من ذى الخلصة ؟ ” فقلت: بلى.
فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فضرب يده في صدري حتى رأيت أثر يده في صدري وقال: ” اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا ” قال: فما وقعت عن فرس بعد.
قال: وكان ذو الخلصة بيتا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يقال له الكعبة اليمانية.
قال: فأتاها فحرقها في النار وكسرها.
قال: فلما قدم جرير اليمن كان بها رجل يستقسم بالازلام فقيل له: إن رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هاهنا فإن قدر عليك ضرب عنقك، قال: فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير فقال: لتكسرنها وتشهد أن لا إله إلا الله أو لاضربن عنقك.
فكسرها وشهد.
ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أرطاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك.
قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله والذى بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب.
قال: فبارك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات] ( ).
الثانية : كسر الأصنام تمحيص للمؤمنين ، وبيان قولي وفعلي لتنزههم عن عبادتها وإتخاذها وسيلة وزلفى وقربة إلى الله عز وجل ، وفيه دلالة على الثواب العظيم الذي يلحق المسلمين من وجوه :
الأول : نبذ عبادة الأصنام وترك اللجوء إليها في الحاجات أوالنذر والفداء والقربان لها فانه من نزغ الشيطان .
الثاني : الإخلاص في عبادة الله عز وجل غنى عن غيره .
الثالث : دعوة الناس للإيمان حرب على الأصنام ، وكسر لهيبتها وإزاحة لشأنها في النفوس .
الرابع : تنمية ملكة العصمة عند المسلمين من إتباع الهوى والإنقياد للنفس الشهوية ، قال تعالى [أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ] ( )
[وحكي عن الحسن البصري أنه قال : لكل أمة صنم ، وصنم هذه الأمة الدينار ] .
ولا أصل له كبرى وصغرى ، أما الكبرى فلم يثبت أن لكل أمة صنم، وأما المسلمون فليس لهم صنم وقد أكرم الله عز وجل المسلمين بقوله [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وأيهما يحصل أولاً ، ميل وعزوف النفوس عن تقديس الأصنام أو هدمها .
الجواب إنهما أمران متداخلان ،والأول أسرع للنفوس ببركة نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،ولا عبرة بالقليل النادر الذي يصر على بقائها ، وهذا الإصرار قصير الأجل لا يدوم طويلاً ، ولم تمر الأيام والشهور إلا وقد خلت الجزيرة العربية من الأصنام وعبادتها ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )إستدامة صرح التوحيد الذي أشاد بناءه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون .
وإذ أثنى الله عز وجل على إبراهيم وإسماعيل في جهادهما بقوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ]( )،فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع قواعد التوحيد وأنبت سنن عبادة الله في الأرض ، وفيه تخفيف عن الناس لأن هدم وكسر الأصنام مناسبة لتدبر الناس بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجذبهم إلى منازل الإيمان ، وفيه تمحيص للمؤمنين بجهادهم لإصلاح الناس لمبادئ التوحيد ، ومحق للكافرين الذين يعرضون عن النبوة والتنزيل ، ويتعلقون باوهام لا أصل لها .
لقد بنى إبراهيم البيت الحرام ودعا الناس للحج، قال تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( )، ومع تعاقب السنين دبّ الشرك إلى المجتمعات، وتفشى التزلف للأوثان فبعث الله عز وجل النبي محمداًَ صلى الله عليه وآله وسلم لتزول وتمحى عبادة الأصنام إلى يوم القيامة.
قال سعيد بن جبير : كان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم ، لكل قبيلة من قبائل العرب صنم أو صنمان . فأنزل الله [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ]( )، قال: فأصبحت الأصنام كلها قد خرت سجداً للكعبة)( ).
بحث فلسفي الآية القرآنية حاجة للإنسان
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً لقانون من الإرادة التكوينية وهو ملازمة الحاجة لعالم الإمكان ، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : كل ممكن محتاج .
الصغرى : الإنسان ممكن .
النتيجة : الإنسان محتاج .
ولما كان الإنسان بذاته ومفرده محتاجاً لجأ إلى الإجتماع والإشتراك مع غيره فهل يغنيه عن الحاجة أو يكفيه ما يحتاج اليه ، الجواب لا ، وتلك آية في بديع خلق الإنسان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ] ( ).
وتحتمل حاجة الأنسان وجوهاً :
الأول : حاجة الأنسان إلى نظائره من البشر .
الثاني : الإنسان محتاج إلى الخلائق الأخرى في الأرض .
الثالث : حاجة الأنسان للملائكة وأهل السماء .
الرابع : حاجة الأنسان لما سخره الله عز وجل لهم في الأرض ، قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن لفظ [وَسَخَّرَ لَكُمْ] ورد ست مرات في القرآن أربعة منها في الآيتين المتجاورتين أعلاه لبيان قانون وهو أن فضل الله عز وجل يأتي للناس على نحو دفعي ومتعدد، وفيه دعوة للشكر له سبحانه ويتجلى بلحاظ آية البحث بالجهاد والصبر قربة إليه سبحانه ، قال تعالى [وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ] ( ).
الخامس : حاجة الإنسان لرحمة الله عز وجل والصحيح هو الأخير والوجوه الأخرى وغيرها من مصاديقها الحاجة كلها من رشحات رحمة الله ، وضروب فضله غير المتناهي .
ولما تفضل الله عز وجل وجعل الإنسان خليفة في الأرض فانه سبحانه جعل رحمته تتغشاه ،ومنها آية البحث التي تقود الإنسان إلى منازل السعادة في الآخرة وتبين قانوناً في ضروب حاجة الإنسان وأنها على أقسام :
الأول : حاجة الإنسان في الدنيا .
الثاني : حاجة الأنسان في عالم البرزخ.
الثالث: حاجة الإنسان يوم القيامة .
وآية البحث ذات نفع عظيم للإنسان في العوالم الطولية المختلفة .
ومن خصائص آية البحث في المقام أمور :
الأول : جذب الإنسان إلى منازل الإيمان .
الثاني : تنزيه ووقاية المسلمين من النفاق ، وكان المنافقون أيام النبوة من كبار السن في الجملة كأمارة على تضاؤل وإنحسار النفاق .
الثالث: دعوة المسلمين للجهاد في سبيل الله بالنص الجلي .
الرابع : بيان منافع الصبر الدنيوي والآخروي وتأديب المسلمين على أداء التكاليف بشوق ورجاء الفوز بالثواب العظيم .
الخامسة :تنمية ملكة التكافل بين المسلمين في وجوه الجهاد والصبر ، والتعاون بينهم لإصلاح النفوس وإتخاذ الدنيا بلغة لمقامات الغبطة والسرور في الآخرة ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين الذين يخشون عذاب يوم القيامة فيجتهدون في طاعة الله [فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا] ( ).
التباين بين خسارة المشركين ببدر وخسارة المسلمين بأحد :
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التشابه والمثلية في عدد قتلى المشركين يوم بدر ، وقتلى المسلمين يوم أحد ، وكل منهم سبعون والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه فمادة الإلتقاء في عدد القتلى ، أما مادة الإفتراق فهي من وجوه :
الأول : كانت خسارة المشركين في أول معركة بدر وبقتال بين المسلمين والكفار وفيه مسائل :
الأولى :تثبيت دعائم الدين في الأرض .
الثانية : إعطاء رسالة للقبائل والدول أن المسلمين قوة ذات شأن يصعب دحرها .
الثالثة : مزاولة المسلمين للقتال وإدراكهم للحاجة للتدريب والتأهيل [عن عقبة بن عامر الجهني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل }( ) ألا إن القوّة الرمي ثلاثاً ، إن الأرض ستفتح لكم وتكفون المؤنة ، فلا يعجزنَّ أحدكم أن يلهو باسهمه] ( ).
الرابعة : سعي المسلمين لجمع السلاح والمؤون إستعداداً للمعارك .
ومن الإعجاز الحسي في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوع الغنائم في أيديهم وأخذهم الفداء عن عدد من الأسرى ، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيت المال من الفداء ولم يفرض فيه الخمس.
الخامسة : قيام المسلمين الذين كانوا يخفون إيمانهم بإعلان إسلامهم، وتجاهرهم بأداء الفرائض وتلاوة آيات القرآن .
السادسة : خزي وكبت المنافقين وعدم قدرتهم على تخويف المسلمين بقريش ولذهاب قوتها وبطشها أدراج الرياح .
السابعة : إزاحة الخوف والفزع عن قلوب المسلمين من مواجهة جيوش المشركين .
الثامنة : دعوة المسلمين والمسلمات للشكر لله عز وجل على نعمة النصر مع حال الضعف ونقص المؤونة .
التاسعة :تمحيص المؤمنين ، وتزكيتهم وتوثيق نصرهم بما يكون شاهداً على جهادهم في سبيل الله وإذ رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قواعد البيت الحرام بقوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيل ] ويرغبون بنصرهم من أهل الضلالة ، جاءت خسارة المشركين في معركة بدر للتذكير بقدسية البيت الحرام ولزوم إكرام مجاوريه له بالإسلام.
الثاني : خسارة الكفار يوم بدر سبب لمحقهم وإمتلاء نفوسهم بالحنق المقرون بالخوف والفزع ،أما خسارة المسلمين يوم أحد ، فقد كانت موعظة لهم ، وسبباً لزيادة الإيمان ، وبياناً عملياً لتلقي المسلمين الخسارة بالصبر وحسن التوكل على الله عز وجل، وفي أسباب نزول قوله تعالى [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا]( )ورد أنها نزلت في معركة أحد .
الثالث : بعد معركة بدر بقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في موضع المعركة ثلاثة أيام، أما بعد معركة أحد فإن الكفار إنسحبوا منهزمين في ذات اليوم وقبل أن يغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ميدان المعركة .
الرابع : فاز قتلى المسلمين يوم أحد من جهات :
الأولى : الشهادة والقتل في سبيل الله والثواب العظيم المترشح عنه.
الثانية : الحياة الأبدية عند الله من حين مغادرتهم الدنيا ، فيقضي الناس عالم البرزخ ، أما الشهداء فقد جاء التنزيل ببعث الحياة فيهم حال مغادرتهم الدنيا ، بدليل قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
الثالثة : العز والمجد التأريخي للمؤمنين والخزي للكافرين .
الرابعة : إمامة المسلمين في الجهاد دفاعاً عن الإسلام والنبوة ، فهم لم يخرجوا للغزو ، إنما خرجوا للدفاع عند قدوم المشركين بجيش عظيم لقتلهم أو أسرهم .
الخامسة : إكرام الشهداء بذكرهم في القرآن ،ومن الآيات أن أجيال المسلمين المتعاقبة تستحضر ذكر حمزة وأصحابه من شهداء أحد ( ).
وهل يمكن القول إن تقدير قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )هو : ولكم في شهداء أحد أسوة حسنة ) بلحاظ خطهم لطريق الشهادة وبذل النفس دفاعاً عن الإسلام والنبوة .
الجواب لا، لأن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو سنة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أنها من الوحي ، وللتباين الموضوعي وصيغ ومراتب التكليف لذا ذكرت آية البحث الصابرين لبيان كفاية الصبر كطريق لدخول الجنة .
الخامس : لقد ترحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على شهداء أحد ، وكان يذكرهم بين الفينة والأخرى ويستغفر لهم ويزورهم.
السادس : بقاء النبي وأصحابه في ميدان المعركة إذ تولوا دفن الشهداء بعد صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليهم .
أما قتلى الكفار يوم بدر فقد وقف عليهم رسول الله وخاطبهم بصيغة التبكيت والتوبيخ وبعد إنقضاء معركة بدر وعند الليل ،[ كما ورد عن أنس بن مالك قال : سمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله من جوف الليل و هو يقول يا أهل القليب يا عتبة بن ربيعة و يا شيبة بن ربيعة و يا أمية بن خلف و يا أبا جهل بن هشام فعدد من كان منهم في القليب هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ]
فقال المسلمون : يا رسول الله أتنادي قوما قد جيفوا ؟
فقال : [ما أنتم بأسمع لما أقول منهم و لكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني]( ).
السابع : وقوع قتلى من الكفار يوم بدر سبب لوهنهم وشماتة الناس بهم، وإستشهاد المسلمين يوم أحد مناسبة لدخول الناس في الإسلام.
الثامن : نزول القرآن بالثناء على المسلمين وشهدائهم بعد معركة بدر وأحد ،ونزول الآيات بذم الكفار في المعركتين .
التاسع : نصر الملائكة للمسلمين يوم بدر وأحد بما يدفع عنهم الهزيمة، أما كفار قريش فليس لهم من مدد ، قال تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
العاشر : من وجوه الإفتراق أن خسارة الكفار يوم بدر بهزيمتهم وترك مؤونهم من خلفهم ، وعجزهم عن حمل أو دفن قتلاهم، حتى ألقاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في القليب أما خسارة المسلمين فكانت في ساعة وسط بين بداية ونهاية المعركة .
الحادي عشر : بعد مرور نحو ثمان سنوات على معركة أحد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى شهداء أحد ليزورهم ويدعو لهم قبل أن يغادر إلى الرفيق الأعلى بأيام لتكون زيارتهم سنة مستحبة من بعده [عن عقبة ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات فقال: إن بين أيديكم فرطات أنا عليكم شهيد ، وإن موعدكم الحوض ، وإني أنظر إليه في مكاني هذا، وإن عرضه كما بين أيلة والجحفة ، وإني أتيت بمفاتيح خزائن الأرض وأنا في مقامي هذا ، وإني لست أخاف عليكم أن تشركوا ، ولكني أخاف عليكم الدنيا أن تنافسوها ، قال عقبة : فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
ويحمل لفظ [صلى على]على الدعاء والإستغفار لهم ،لأن العرب تسمي الدعاء صلاة .

إجتماع الحقيقة والمجاز
أختتمت الآية السابقة بقوله [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، والحب والبغض ضدان , وهل عدم حب الله للظالمين من المجاز بلحاظ أنه لأجل سوء أفعالهم ومعصيتهم لأوامر الله وأنه جاء بياناً لقبح أفعالهم ، الجواب لا ،إنما يحمل الكلام العربي على الحقيقة ولا ينتقل إلى المجاز إلا مع القرينة , ومن إعجاز اللفظ القرآني أنه ذو وجوه ,فيكون البغض من الله للظالمين على أقسام :
الأول : ذات الظالمين حال التلبس بالظلم .
الثاني : صدود وإعراض الظالمين عن سبل التوبة .
الثالث : قبح أفعال الظالمين .
الرابع : الأثر المترتب على جور وتعدي الظالمين والكفار .
الخامس : ظلم الكافر لنفسه ، قال تعالى [وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
فلا يختص بغض الله عز وجل للظالمين بأفعالهم القبيحة بل يشمل ذواتهم وأشخاصهم لاتيانهم الأفعال المنكرة التي نهى الله عز وجل عنها ، ولإضرارهم بالناس وقوانين الإنسان للأرض ، نعم بغضهم أمر عرضي غير مستقر لزواله وإنقلابه إلى حب من الله عند إختيارهم التوبة والإنابة .
وإختتام الآية قبل السابقة بعدم حب الله عز وجل للظالمين له منافع تتعلق بآية البحث من وجوه .
الأول : دعوة المسلمين للإعراض عن الظالمين .
الثاني : تفقه المسلمين بأمور الحياة الدنيا والتمييز بين الناس بلحاظ العدالة والظلم ، والإيمان والكفر .
الثالث : أخذ الناس الحيطة والحذر من الظلم والتعدي لأنه علة للحرمان من حب الله للعبد في الدنيا ، وحجب رحمة الله في الآخرة ، قال تعالى [قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] ( ).
الرابع : إبتعاد المسلمين عن الظالمين جهاد ضد النفس الأمارة ، ومقدمة للسعي في مسالك الهداية ، والسبل الموصلة إلى الجنة ، ومن أسرار اللفظ القرآني إجتماع الحقيقة والمجاز فيه إن لم تكن قرينة على إرادة أحدهما ، وعالم المجاز واسع وهو من بحور ذخائر التفسير ، ويكون عدم حب الله في الآية على وجوه :
الأول : عدم حب الله لما يفعله الظالمون .
الثاني : بغض الله لإصرار الكافرين على الظلم والتعدي .
الثالث: عدم حب الله للظالم لسوء عاقبته
قوله تعالى[وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]
الصابرون جمع صابر ،وهو الذي يتحمل الأذى ويتلقى الضرر بالحلم والتأسي وعدم الجزع أو الرد القاسي، وتقدير الآية على وجهين:
الأول : ويعلم الله الصابرين) إذ ورد ذكر اسم الجلالة، ونسبة العلم إلى الله عز وجل في قوله تعالى[وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا] ورد هذا الشطر من الآية بصيغة الضمير المستتر للفاعل.
الثاني : ويعلم الصابرين منكم) لوجوه:
الأول : وحدة الموضوع في تنقيح المناط، لورود الآية بخصوص المؤمنين.
الثاني : صيغة الخطاب في الآية، وتوجهها للمسلمين.
الثالث : تعليق دخول المسلمين الجنة بتصدي فريق منهم للجهاد، وإتصاف آخرين بالصبر، وإذا كان الجهاد صبراً فلماذا لم تكتف الآية بذكر الصبر وحده، ويتجلى شطر من الجواب في أكثر من مناسبة وموضوع في باب سياق الآيات المتقدم، وكما في إبراهيم عليه السلام ونجاته من النار التي أراد نمرود إلقاءه فيها بقوله تعالى[قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
فلو كانت النار برداً وحده لجمد إبراهيم من شدة البرد، ولكن الله تفضل وأمرها بأن تكون أيضاً سلاماً وأمناً له. وكذا في آية البحث فلو وقفت الآية عند قوله تعالى[وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ] لكان فيه حرج على المسلمين في الأزمان التي ليس فيها قتال وجهاد في سبيل الله، لتكون خاتمة الآية(ويعلم الصابرين) لطفاً وفضلاً من الله على المسلمين، ومناسبة لهم جميعاً للتحلي بالصبر، وإتخاذه سبيلاً لدخول الجنة.
ولما تفضل الله عز وجل ووعد المسلمين بقوله[أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى]( )، تضمنت آية البحث الوعد الكريم من عند الله عز وجل بأنه سبحانه يجعل صبر فريق من المسلمين طريقاً لدخولهم جميعاً الجنة.
ويحتمل النفع في المقام وجوهاً:
الأول : الجهاد أكثر نفعاً للإسلام من الصبر.
الثاني : الصبر أكثر نفعاً من الجهاد.
الثالث : التساوي في النفع بين الجهاد والصبر.
لم يرد لفظ [وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] في القرآن إلا في هذه الآية ، وجاء بصيغة العطف الموضوعي على ما قبله وهم المجاهدون، ومن معاني الرحمة الإلهية في آية البحث أنها تجعل دخول المسلمين الجنة معلقاً على الصبر وحياتهم كلها صبر، إذ فرض الله عز وجل عليهم التكاليف وما تستلزمه من الصبر ،وتقدير الآية على وجوه:
الأول : ويعلم الله الصابرين الذي يؤدون الصلاة اليومية.
الثاني : ويعلم الله الصابرين في أداء الصيام والإمساك عن الأكل والمفطرات الأخرى من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس.
الثالث : ويعلم الله الصابرين بأداء حج بيته الحرام وتحمل الأذى في الطريق إليه، وبذل المال والنفعة في مقدمات الحج وأدائه وذبح الهدي لذا قيد الله فريضته على المؤمنين بالقدرة على الزاد والراحلة، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الرابع : يعلم الله عز وجل المؤمنين الصابرين على أذى قريش وعتوهم، ومن الآيات في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصاحبة الحاجة إلى الصبر لأهل بيته وأصحابه، فلا يظن أحد أن قريشاً تفرض حصاراً في المعاش اليومي على أهل البيت في ذلك الزمان وأنها تنجح في إحكامه وهم ويتلقونه بالصبر والثبات ليكون صبرهم مقدمة لصبر المسلمين كسبيل لنيل الثواب العظيم في الآخرة.
الخامس : الصبر في الإعداد للمعركة، ومقدماتها، وهذا الصبر يشمل الرجال والنساء لإشتراكهن في تجهيز المقاتلين، والإحتراز من تثبيط الهمم.
السادس : الصبر عند لقاء العدو، وهو من أكثر الميادين التي يلزم فيها الصبر، وتكون نتيجته النصر والظفر.
السابع : الصبر في دفع الزكاة، وفي أداء المستحبات، وإجتناب المحرمات.
وتقسم الآية المسلمين إلى ثلاث أقسام:
الأول : عموم المسلمين من الذكور والأناث ، وهم الذين يتوجه لهم الخطاب في الآية ببيان شرائط دخول الجنة والتي تفيد الحصر ولكن إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، ففي الموحدين من الملل الأخرى وجوه :
الأول : شمول الموحدين بذات شرط الجهاد والصبر المذكور في آية البحث .
الثاني : سقوط شرط الجهاد عن الملل الأخرى من المؤمنين .
الثالث : إستثناء الموحدين من الملل الأخرى من شرط الجهاد والصبر.
الرابع : فرض شروط إضافية على الموحدين من الملل الأخرى لدخولهم الجنة بلحاظ قانون التخفيف عن المسلمين الذي هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامس : إختصاص المسلمين بقانون دخولهم الجنة بقيام فريق منهم بالجهاد في سبيل الله والتحلي بالصبر وإنتفاعهم جميعاً من شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم [ادخرت دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] ( ).
أما الأمم الأخرى فيتوجه شرط الجهاد والصبر إلى كل مكلف على نحو مستقل غير إرتباطي والأرجح هو الأول والأخير أعلاه ، ليكون من فضل الله عز وجل على المسلمين نيلهم شرط دخول الجنة بقيام فريق وطائفة منهم بالجهاد ، مع تحليهم بالصبر ، فلا بد أن يكون المسلم والمسلمة صابرين محتسبين .
فمن يتعذر عليه الجهاد أو يتخلف عنه قصوراً أو تقصيراً فان التحلي بالصبر كشرط لدخول الجنة لا يسقط عنه ، وهو من الإعجاز في التقييد والإطلاق في خاتمة الآية .
التقييد والتبعيض في الجهاد بقوله تعالى [يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ]، والإطلاق وعدم الإستثناء في قوله تعالى [وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] فلم تقل الآية (ولما يعلم الله الذين جاهدوا ويعلم الذين صبروا منكم ) والظاهر هو عطف [الصَّابِرِينَ] على الذين جاهدوا في التبعيض أيضاً لإرادة الإطلاق في العطف وشموله لموضوع التبعيض والإطلاق ودلالة صيغة الخطاب العام في أول الآية ومجئ الخاتمة بصيغة الغائب ، فلو كان المراد من الصابرين كل المسلمين لقال سبحانه ويعلم صبركم ولكن هذا العطف لا يعني تقسيم المسلمين إلى قسمين :
الأول : الصابرون .
الثاني : غير الصابرين .
إنما جاءت خاتمة الآية رحمة بالمسلمين والمسلمات جميعاً فقد يسر الله للمسلمين طرق الصبر ، وجذبهم إليها بأداء الفرائض والعبادات ، وتحمل الأذى في الإسلام وتلقي التعدي من الكفار بسبب تعاهد المسلمين أركان الإيمان ليفوزوا بمرتبة الصبر التي تدخلهم الجنة ، وتجعل الخلائق تغبطهم .
وتقدير خاتمة آية البحث ويعلم صبركم.
ليكون من الشواهد على الرحمة العامة والخاصة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تكليف المسلمين بالفرائض وجعلها مصداق الصبر ، ولجوئهم إلى ذكر الله والإسترجاع وقول [إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ) عند نزول المصيبة وإن كانت شخصية لا صلة لها بدخول الإسلام والأذى الذي يترشح عنه، كموت قريب ، ليكون من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( )بلحاظ هذه الآية أمور :
الأول : تبليغ المسلمين بدخولهم الجنة .
الثاني : التبليغ عن شروط دخول المسلمين الجنة .
الثالث : الجهاد والصبر شرط لدخول الجنة وهو حكم نازل من السماء فلا يقبل النقض أو النسخ أو التبديل .
الرابع : تبليغ المسلمين والمسلمات بمصاديق كل من الجهاد والصبر .
الخامس : نزول الأوامر والنواهي التي تؤدي بالمسلمين إلى الإرتقاء إلى مرتبة المجاهدين والصابرين في جنب الله .
ولم تذكر آية البحث عالم البرزخ ، وفيه وجوه :
الأول : عالم البرزخ وبقاء الميت في القبر أمر غير دائم ، فلابد ان يبعث الإنسان من قبره .
الثاني : الإنسان في قبره جثة هامدة ، قال تعالى [قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ] ( ).
الثالث : عالم البرزخ من الآخرة ، بلحاظ خلوه من العمل، وفيه مقدمات للحساب.
الرابع : السعي إلى الجنة وعمل الصالحات واقية للإنسان في عالم القبر.
أما الأول أعلاه فكون عالم القبر غير دائم لا يعني تركه في التنزيل والقرآن الذي جاء [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وأما الثاني فان الناس في البرزخ على أقسام منهم من يكون قبره روضة من رياض الجنة ، وهم الذين عملوا بمضامين آية البحث ، ولم يغادروا الحياة الدنيا إلا بالتوبة والإنابة والصلاح، وأما الثالث فهو صحيح إلا أن الآخرة أعم من عالم الجزاء بالجنة والنار، أما الرابع فهو صحيح أيضاً وتدل عليه آية البحث بالدلالة التضمنية وتقوم إحراز دخول الجنة بالتقوى والجهاد والصبر أمان من عذاب القبر ، وعن أبي أمامة قال: أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بقيع الغرقد فوقف على قبرين ثريين فقال أدفنتم ههنا فلانا وفلانة أو قال فلانا وفلانا قالوا نعم قال قد أقعد فلان الآن يضرب ثم قال (والذي نفسي بيده لقد ضربه ضربة سمعها الخلائق إلا الثقلين ولولا تمريج في قلوبكم وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع ثم قال الآن يضرب هذا ثم قال والذي نفسي بيده لقد ضرب ضربة ما بقي منه عظم إلا انقطع ولقد تطاير قبره نارا قالوا يا رسول الله وما ذنبهما قال ( أما هذا فأنه كان لا يستبرىء من البول وأما هذا فأنه كان يأكل لحوم الناس)( )( ).
ومع قلة كلمات آية البحث فقد وردت فيها كلمة [يَعْلَمَ] مرتين والفاعل فيها هو الله عز وجل والإخبار بأن دخول الجنة أمر يتوقف على علم الله عز وجل وحده بعمل العباد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ] ( ) ويحضر الملائكة والأنبياء الصالحون شهوداً وشفعاء حيث يأذن الله عز وجل .
وإذ قيدت الآية المجاهدين بصيغة التبعيض [وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ] ( ) أي المجاهدين من المسلمين ، جاءت خاتمة الآية من غير تقييد، وتحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة الإطلاق ، وقصد الصابرين من الناس جميعاً .
الثاني : المقصود لفظ الصابرين خصوص الخصوص .
الثالث : عطف الصابرين على المجاهدين بذات لغة التبعيض .
والصحيح هو الأخير ، وتقدير الآية : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين منكم.
وفي الآية حذف، وتقدير الآية:
الأول : ويعلم الصابرين من المسلمين والمسلمات.
الثاني : ويعلم الصابرين في البأساء والضراء.
الثالث : ويعلم الصابرين في السعة والرخاء ويخرجون الزكاة.
الرابع : ويعلم الصابرين في ميادين القتال.
الخامس : ويعلم الصابرين في أداء العبادات والمناسك.
السادس : ويعلم الصابرين عند المصيبة ووقوع الخسارة.
السابع : ويعلم الصابرين في الدعوة إلى الله.
الثامن : ويعلم الصابرين في التفقه في الدين.
وعن ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قلت: بلى: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم ليصيبك، وإن الخلائق لو اجتمعوا على أن يعطوك شيئاً لم يرد الله أن يعطيكه لم يقدروا على ذلك، أو أن يصرفوا عنك شيئاً أراد الله أن يعطيكه لم يقدروا على ذلك، وأن قد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، فإذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وإذا اعتصمت فاعتصم بالله، واعمل لله بالشكر في اليقين، واعلم أن الصبر على ما تكره خير كثير، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)( ).
التاسع : ويعلم الله الصابرين عن المعاصي ،قال تعالى[وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ]( ).
بحث بلاغي [وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]
من خصائص العطف التعدد والمغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، إلا بخصوص عطف البيان الذي هو كالصفة ويأتي تابعاً للمذكور لتوضيحه ولكنه يسمى في الإصطلاح النحوي عطفاً ويأتي لمنع اللبس والترديد كما في قوله تعالى [وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ]( ) فإبراهيم عطف بيان على عبادنا وكذا [إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ] .
وتضمنت آية البحث عطف علم الله بالصابرين من المسلمين بعلمه بالمجاهدين والصابرون أعم وأكثر من المجاهدين إذ أن باب الجهاد من ضروب الصبر الذي يكون مقدمة له وهو وعاء له فالجهاد صبر في ميادين القتال له خصوصية وهو باب للنصر والغلبة على الكفار [ولما سئل الإمام علي عليه السلام عن الشجاعة قال : الشجاعة صبر ساعة]( ).
والصبر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً ويحتاج الإنسان أقصى مراتب الصبر في ميادين القتال ، ليكون تقديم الذين جاهدوا في الآية ترغيباً بالجهاد وحثاً على الصبر ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ) ، بلحاظ أن القاعدين يحتاجون الصبر ويتخذونه لباساً أيضاً .
وتدل الآية على أن الله عز وجل يبعث المسلمين على ما يقربهم إلى الجنة بأن الذي لا يستطيع الجهاد أو لم يكن في زمانه جهاد وقتال ،فان باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفتوح وهو الغالب في حياة الناس في هذه الأزمان فان عالم الصبر رحب وواسع ويصاحب أفراده الإيمان والتقوى .
وهل يشترط إتصال ودوام الجهاد والخروج للغزو كل مرة , الجواب لا فهو واجب كفائي عند إجتماع شرائطه إلا أن يكون على نحو الوجوب على نحو قضية عين على ذات المكلف ، وقد إعتذر عدد من الصحابة عن الخروج لمعركة بدر أو أحد فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعتذارهم وكان يأذن حتى للمنافقين للذهاب إلى بيوتهم يوم الخندق ولكن الله فضحهم بقوله تعالى [يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ] ( ).

قانون تحصيل الصبر بالذات وبمصاديقه
يشمل قوله تعالى [وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] ( )مصاديق الصبر الواردة في القرآن والسنة النبوية وهي أكثر من أن تحصى ، ويمكن تقسيمها إلى :
الأول : الصبر في طاعة الله .
الثاني : الصبر في أداء العبادات ومقدماتها .
الثالث : الصبر عن المعصية .
الرابع : الصبر من أجل دخول الجنة .
الخامس : الصبر عما يسوق العبد إلى النار.
وهل من يعبدون الله طمعاً وتلك عبادة ، الجواب لا ، [وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ]( )ويحتمل الجهاد أقساماً :
الأول : إنه نوع مفاعلة ضد طرف آخر خصم وعدو .
الثاني : إرادة الجهاد الذاتي مع النفس وحجبها عن الإنقياد للشهوات.
الثالث : الجهاد في طاعة الله عز وجل باداء العبادات ، فالوقوف بين يدي الله عز وجل في الصلاة جهاد ، والإمساك عن الطعام والشراب في نهار شهر رمضان جهاد ، وحج البيت وقطع المسافة له والإنفاق فيه جهاد، وعلى القول بالمعنى الأعم للجهاد ، ورجاء فضل الله باحتسابه من الجهاد.
والمراد من قوله تعالى[الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ] هو الأول بدليل التبعيض في الآية وتكون الوجوه الأخرى أعلاه في طوله ومقدمة له .
فلو كان المراد أداء الفرائض وجهاد النفس لما وردت الآية بصيغة التبعيض [مِنْكُمْ]وفيه مسائل :
الأولى : بيان حاجة المسلمين إلى الجهاد .
الثانية : بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بين قوم مشركين يتولون الزعامة في مكة ولهم الهيبة والسطوة بين القبائل العربية، فاراد الله عز وجل للفئة القليلة من أهل بيته وأصحابه الذب عنه ، حتى يتلقى آيات سور القرآن كلها التي جعل الله عز وجل لكل واحدة منها زمناً مخصوصاً وسبباً ظاهراً في الجملة ، ويدل عليه قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( )الذي هو من آخر آيات القرآن نزولاً وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل ، والتفقه في الدين أصولاً وفروعاً وإتخاذ سنن العبادة طريقاً ووسيلة للفوز بالإقامة فيه .
الثالثة : لما أثنى الله عز وجل على المسلمين ووصفهم بكونهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )فانه سبحانه جعل تفضيلهم باتصافهم بالجهاد في سبيله والصبر في طاعته ، وجعل موضوع خروجهم للناس هو جذبهم للإيمان ومحاربة الكفار الذين يتبعون إغواء الشيطان .
وهل يكون تقدير الآية هو (أم حسبتم أن تكونوا خير أمة أخرجت للناس ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) الجواب لا ، لأن موضوع ومرتبة التفضيل وخير أمة أمر متحقق إذ تفضل الله عز وجل ورزق المسلمين هذه المرتبة بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]أي صرتم وأصبحتم خير أمة من بين الأمم أما آية البحث فانها دعوة متجددة لتعاهد سنن الجهاد وآداب الصبر كطريق إلى الجنة , ومن الشواهد على أن المسلمين(خير أمة) مخاطبتهم بآية البحث ومضامينها القدسية.
الرابعة : من مصاديق خروج المسلمين للناس دعوتهم الناس إلى الجنة وبيان طريقها بتلاوة آية البحث والتعاهد القولي والفعلي لمضامينها ورسمها ودلالاتها.
نعم يفيد الجمع بين الآية أعلاه وبين آية البحث سعي المسلمين نحو قصور الجنة العالية من منازل [خَيْرَ أُمَّةٍ] وفيه مدد إضافي لهم وتهيئة أسباب هذا الدخول وفيه نوع رجاء وأمل، من جهات:
الأولى : الأمة التي فضلها الله عز وجل في الدنيا يرحمها الله في الآخرة ، قال تعالى [إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الثانية : نال المسلمون مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ]لعلم الله بتفانيهم في الجهاد في سبيل الله وحسن سمتهم بالتزين بالصبر وإتخاذه جلباباً.
الثالثة : لما جعل الله عز وجل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ]فانه سبحانه هداهم إلى طريق النعيم الدائم ، وبيّن لهم في آية البحث بأنه يعبد بالجهاد ويضاء بالصبر
علم المناسبة [وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]
ورد اللفظ [الصَّابِرُونَ] بصيغة الرفع بالواو ثلاث مرات في القرآن ، قال تعالى [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ]( ) ويفيد الجمع بين خاتمة آية البحث والآية أعلاه وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق بين الآيتين، فالمراد من الصابرين في الآية أعلاه أعم وهو شامل للمؤمنين الذين تحملوا ويتحملون الأذى في الأجيال السابقة واللاحقة ، وموضوع الآية من أيام أبينا أدم وإلى يوم القيامة .
بينما المراد من لفظ[الصَّابِرِينَ] في آية البحث خصوص المسلمين وتقدير الآية ( ويعلم الصابرين من المسلمين والمسلمات ) ، فان قلت لما ذكرت الآية المجاهدين بقوله تعالى [وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ] وعطفت عليهم علم الله عز وجل بالصابرين ،فالقدر المتيقن من الصابرين هم خصوص المسلمين من الرجال .
والجواب : الآية أعم لأن لغة التذكير في الآية بصيغة التغليب كما يقال القمران والمراد الشمس والقمر ، مع أن ضياء الشمس هو الأظهر والأكثر سعة ونفاذاً ، ويدل على العموم وشمول النساء المؤمنات بالآية قوله تعالى [وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ] ( )إلى أن قال تعالى [أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا].
الثاني : مصاحبة الصبر للإيمان ولا أقول أنهما صنوان ( ) أو توأمان، أنما الصبر عون وعضد وملازم للإيمان .
الثالث : كل من الآيتين بشارة للمسلمين وحث لهم على التقيد بآداب الصبر وتحمل العناء وحبس النفس المصاحب له .
الرابع : ظاهر قوله تعالى [يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ] ( ) إرادة البدل والعوض في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة والله هو الرؤوف الرحيم ، أما آية البحث فتتعلق بخصوص الجزاء بعالم الآخرة والبعث إليه .
الخامس : الصبر نعمة على المسلمين من أيام أبينا آدم وهو مناسبة لذكر الله والثناء عليه والرضا بحكمه وقدره وبلغة لدخول الجنة جزاءً وثواباً بفضل الله عز وجل ، [وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن] ( ).
وصبر المؤمن تحمله المكاره وتوطين النفس على المشاق طاعة لله ورجاء مرضاته ، وحبس النفس ودفع الجوارح عن الشهوات المحرمة، والصبر محمود وهو حسن ذاتاً ، وتحتمل النسبة بين صبر الرجال وصبر النساء من المسلمين وجوهاً :
الأول : التساوي ، وأنه على مرتبة واحدة في موضوعه والأثر المترتب عليه .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه وبينهما مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق وهو على شعبتين :
الأولى : صبر الرجال أعم وأشد على النفس من صبر النساء .
الثانية : صبر النساء يلزم جهداً لحبس النفس على المكاره .
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثالث ، بلحاظ صبر الرجال عند ضرب السيوف وإختيار الحتوف في ميادين القتال ،[وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل: يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ فقال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة] ( ).
ومع ورود لفظ[الصَّابِرِينَ] بصيغة الجمع خمس عشرة مرة في القرآن ،إلا أنه لم يرد لفظ (يعلم الصابرين ) إلا في آية البحث مما يدل على موضوعيتها في بعث المسلمين على الصبر ، وتحمل المكاره في جنب الله ، نعم ورد قوله تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ]( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ويتوجه الإختبار للمسلمين بأمر الله عز وجل ليكون من مصاديق الآية السابقة [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] ( ) وما دام الإبتلاء يأتي من عند الله عز وجل فانه لا يكون إلا حسب قدرتهم وضمن طاقاتهم مجتمعين ومتفرقين فلا يأتي للمؤمنين من عند الله إلا ما هو خير وحسن ذاتاً وعرضاً وبلحاظ أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس ، فان تقدير الآية أعلاه (ولنبونكم رحمة بالعالمين حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ).
فتنة خلق القرآن
في مسألة خلق القرآن أقوال :
الأول : القرآن قديم غير محدث .
الثاني : القرآن مخلوق .
الثالث : بعض القرآن مخلوق كأسماء وصفات وأفعال المخلوقين وبعضه غير مخلوق كعلم الله.
الرابع : القرآن أزلي قائم بالله سبحانه لم يسبقه .
وليت فتنة خلق القرآن لم تحدث أو ولدت ميتة، ولم يلتفت إليها الملوك والفقهاء، ولكن أبتلى بها عدد من خلفاء بني العباس، وربما ساهمت في ضعف الدولة وتآكل أركانها ، وقام الخليفة العباسي المأمون سنة 218 هجرية وهو في مدينة طوانة بالقرب من طرطوس بالكتابة إلى أحد نوابه في بغداد وهو إسحاق بن إبراهيم أن يمتحن العلماء والقضاة بخلق القرآن، ومن أقر بخلق القرآن تركه في محله، ثم جاء المعتصم وإنشغل بهذه البدعة مع كثرة الفتن التي لاقته منها.
ومنها فتنة الزط التي إنتهت بأسر الزط جميعاً وعددهم سبعة وعشرون ألفا والمقاتلة منهم إثنا عشر ألفاً في شهر ذي الحجة 219 هجرية.
و[فتنة بابك الخزامي] الذي عاث في الأرض فساداً عشرين سنة، ونسب إليه القول بالتناسخ وكان خروجه سنة إحدى ومائتين بناحية أذربيجان، وأقام يحارب جيوش المأمون والمعتصم عشرين سنة ، ويقال أنه قتل (150500) إنسان وفتح مدينته الافشين ، وجاء به إلى المعتصم الذي قتله بأن أمر جزاراً أن يقطع يديه ورجليه ، ثم أمر بذبحه وشق بطنه، وبعث برأسه إلى خراسان ، وصلب بدنه بسر من رأى التي بناها المعتصم لتكون دار الخلافة ، قريباً من بئر يسمى القاطول نسبة إلى نهر بهذا الاسم .
و[القَاطَولُ: فاعول من القطل وهو القطع وقد قطلته أي قطعته والقطيل المقطول أي المقطوع: اسم نهر كأنه مقطوع من دجلة وهو نهر كان في موضع سامرا قبل أن تُعَمر وكان الرشيد أول من حفر هذا النهر وبنى على فوهته قصراً سماه أبا الجند لكثرة ما كان يسقي من الأرضين وجعله لأرزاق جنده وقيل بسامرا بَنَى عليه بناء دفعه إلى شناس التركي مولاه ثم انتقل إلى سامرا ونقل إليها الناس] ( ).
وبعد المعتصم ولي الخلافة إبنه الواثق الذي بقي غارقاً بفتنة خلق القرآن أيضاً مع شدة الضنك فتضجر منها.
ولم تكن مسألة خلق القرآن جزءً من أصول المعتزلة، وكانت مسألة كلامية تتعلق بلفظ(خلق) وهل يعلم الله بكلامه من قبل نزوله أو أنه إستحدثه وإخترعه وهو مبحث يجب أن يتنزه عنه علماء الإسلام والحكام ويكونوا في حذر من الذين يدسون بينهم الفتن والإختلاف في المسائل الكلامية، فقد أحاط الله عز وجل علماً بكل شيء، قبل وجود الأشياء وقد قال المأمون بأن القرآن مخلوق ومحدث ولم يرض عن الذي يكتفي بالقول أنه كلام الله فيعزله عن القضاء والوظيفة العامة، وقد يتعرض للسجن والجلد وبخلق القرآن قال المعتصم من بعد المأمون .
ولم تستمر فتنة القول بخلق القرآن طويلاً مع تعضيد ونصرة خلفاء متعاقبين لها، مما يدل على إعجاز القرآن وحفظ الله عز وجل له، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، إذ أراد الله عز وجل إستدامة قدسيته.
وذكرت آية البحث الجنة وشرائط دخولها، ولا تدل على مسألة فتنة خلق القرآن من قريب أو بعيد، بل تدعو المسلمين للتعاضد والتعاون في الصالحات والعمل بما ورد في كتاب الله فأنه الصراط المستقيم للسعادة الأبدية.
بحث فلسفي
وتنقسم العلة إلى أقسام، منها:
الأول : العلة الفاعلية : التي تؤثر في المعلول وجوداً وعدماً.
الثاني : العلة الصورية : ما يوجد المعلول بالفعل.
الثالث : العلة المادية التي يكون معلولها موجوداً بالقوة.
الرابع : العلة الغائية : وهي التي يوجد الشيء لأجله، لتكون الغاية من تصريف الأيام تمحيص وتطهير المؤمنين ورمي الكفار بالضعف والعجز .
وجاءت آية البحث بالإخبار من عند الله عن شرائط دخول الجنة وليكون نعيم الجنة حاضراً في التصور الذهني للمسلمين ووسيلة لبعثهم على الصلاح والسعي الحثيث في السبل التي تهدي إليها.
وتحتمل حاجة الإنسان وجوهاً :
الأول : حاجة الإنسان ضرورة وأمر حتم.
الثاني : الإنسان محتاج على نحو الموجبة الجزئية ، وفي بعض أمور حياته .
الثالث : إمكان إستغناء الإنسان عن غيره .
والصحيح هو الأول وتتجلى الحاجة عند الإنسان بحاجته إلى المؤثر لإفتقاره كممكن الوجود إلى العلة في فعله فتفضل الله عز وجل وجعل عند الإنسان العقل رسولاً باطنياً وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لأمور :
الأول : إبلاغ الإنسان بأن الدنيا دار إمتحان وإختبار ، فليس من إمتحان أطول في الدنيا من عمر الإنسان حيث يقضي ليله ونهاره بالإختبار والملائكة تدون ما يفعل ، قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ( )مما يدل بالدلالة التضمنية على كتابة أفعاله وأعماله .
الثاني :حاجة الإنسان لأداء التكاليف وعمل الصالحات .
الثالث : الإخبار عن الدار الآخرة وأن الإنسان محتاج للسعي إليها لتكون الثمرة من وجهين :
الأول : الفوز بالإقامة في النعيم.
الثاني : النجاة من عذاب النار الأليم، قال تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ]( ).
ومن إعجاز القرآن مجئ آية البحث بالوجهين أعلاه لبيان قانون وهو أن الآية القرآنية تسد حاجة الإنسان ، وتكون ضياء ينير له دروب السلامة والنجاة في النشأتين ، إذ تدعو آية البحث إلى أداء المؤمن واجباته وتصلحه لعمارة الأرض بما يفي بحاجاته إذ تكون عبادة الله علة لنزول الرزق الكريم وواقية لصرف البلاء .
بحث كلامي
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعد النصر العظيم في معركة بدر جاء التنبيه والتحذير لمنع الإنشغال بالدنيا، ولدعوة المسلمين للإستعداد للمعارك القادمة، وتلقي وفود القادمين للمدينة لدخول الإسلام ليجتمع دخولان مباركان في آن واحد وهما:
الأول : دخول المدينة المنورة، التي كثر عدد سكانها دفعة واحدة وضاقت أزقتها وتزاحموا في المسجد النبوي وحواليه وهم يرون آية الصلاة اليومية وما يبعثه كل جزء من أجزائها من الخشوع على الأركان.
الثاني : الدخول في الإسلام، وأعلان التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أشرف وأسمى دخول في الحياة الدنيا، ليكون مقدمة وطريقاً لفتح مكة وللدخول في النعيم الدائم الذي تذكره آية البحث بقوله تعالى[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ]( )، بلحاظ أن نزع رداء الكفر البالي، وإتخاذ الإسلام عقيدة ولباساً من الجهاد في سبيل الله، وفيه جذب للناس للإسلام، إذ يدل قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، على أن الأفواج والجماعات من الناس دخلت الإسلام بعد فتح مكة لتعدد معجزات النبوة وإقترانها بالنصر والغلبة على الكفار، ويدل بالدلالة التضمنية على الثناء على المسلمين الأوائل الذين بادروا لدخول الإسلام حينما كان غريباً والأفواج جمع فوج، وفي معناه وجوه:
الأول : الفوج أربعون رجلاً.
الثاني : الفوج الأمة، الأفواج الأمم المتعددة.
الثالث : الأفواج القبائل، قاله الكلبي( )، وجمع الأفواج أفاويج.
الرابع : الأفواج أهل مكة والطائف وهوازن وثقيف.
الخامس : الفوج، الجماعة من الناس.
وفي قوله تعالى[تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا]( )، فنعت الله عز وجل المال والغنائم بأنها عرض لأنها أمر متزلزل قابل للزوال والعرضي في إصطلاح علم الكلام هو المعنى الذي لا يقوم بنفسه وليس بجنس ويحتاج إلى محل يظهر ويقوم به.
وكان بعضهم يسميها أعراضاً وأشياء وصفات ولكن النسبة بين الأشياء والأعراض هي العموم والخصوص المطلق فالأشياء أعم وأكثر وبين الأعراض والصفات عموم وخصوص من وجه فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق وأختلف في قلب الأعراض أجساماً والأجسام أعراضاً.
ومن الذين ينكرون جواز قلب الأعراض إلى جواهر وبالعكس الجبائي إذ قال: لا نقول أن الله خلق جوهراً واللون لوناً والشيء شيئاً والعرض عرضاً لأن الله يعلمه جوهراً قبل أن يخلقه، وكذلك اللون يعلمه لوناً قبل أن يخلقه.
ولا أصل لموضوع هذا الخلاف لإنحزامه بقانون الإرادة التكوينية[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
فإذا نسب الفعل إلى الله عز وجل إنتفت الإستحالة، وزال الممتنع إلا ما بينه الله عز وجل في القرآن من إنتفاء الشريك كما في قوله تعالى[لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا]( ) ويدل هذا الإنتفاء على الوحدانية، وعظيم قدرة الله عز وجل وسعة سلطانه وتطامن وخشوع الخلائق كلها لعظمته وإنقطاعها إلى التسبيح بحمده والثناء عليه.
وبلحاظ آية البحث فإن شرائط دخول الجنة ليست ممتنعة ولا مستحيلة، وهي كشجرة تتدلى أغصانها قريباً من متناول كل إنسان، وفاز المسلمون بالتعلق بها والتبصر في دلالاتها والإهتداء بمعانيها , قال تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn