المقدمــة
الحمد لله الذي خلق الخلائق بمشيئته، وخضع كل شيء لسلطانه، وإنقاد كل الموجود والمعدوم لعظيم لقدرته[وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى]( )، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون الذي جعل القرآن نهراً جارياً بعمود ضياء نازل من السماء إلى الأرض على جنباته يتناثر إعجازه الذاتي والغيري بكيفية غير متناهية.
الحمد لله الذي جعل الحمد طريقاً إلى دخول الجنة، وباباً إلى المغفرة والرضوان، ومذاقاً عذباً يعشقه المؤمنون فيروي ظمأهم وينير لهم دروب الهدى والصلاح ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله الله رحمة متجددة للعالمين ومن غير حصر لمصاديق هذه الرحمة لأنه سبحانه يعطي بالأتم والأوفى، ومنها تفضله بتوثيق أماني المسلمين بسنخية الإيمان بما يكون سراجاً زاهراً يبين جهادهم في سبيل الله، وصبرهم في ميادين القتال.
الحمد لله الذي هدانا لمناهج في تفسير القرآن على نحو دفعي لم تخطر على بال أحد ليكون رزقاً كريماً للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة ،ويفتح آفاقاً للعلماء والباحثين للإستقراء العلمي والتحقيق في رياض ذخائر آيات القرآن.
وهذا الجزء هو الخامس عشر بعد المائة من كنز(معالم الإيمان) الذي يبهر العقول بفضل الله وفيض منه سبحانه فله الحمد على نعمائه المتصلة وإحسانه المتجدد، وهو من المصاديق الفردية والعامة لقوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
بلحاظ أن نعم الله التي تذكرها الآية أعلاه على وجوه:
الأول : النعم الشخصية.
الثاني : النعم المرسومة التي تأتي لطائفة أو جماعة أو أمة مخصوصة.
الثالث : النعم الخاصة بالمؤمنين.
الرابع : النعم العامة للناس جميعاً.
وتترشح النعم العامة على المؤمنين ليفوزوا بالنعم الخاصة والعامة معاً، بينما لا ينال الكفار إلا من العامة التي تأتي للناس رحمة منه تعالى، ولكن فوز المؤمنين بنعم خاصة لا يعني عدم إنتفاع غيرهم منها بل تترشح بركاتها على الناس جميعاً منطوقاً أو مفهوماً، بالذات أو بالأثر، وكذا بالنسبة للنعم المرسومة والشخصية فإن فوائدها وبركاتها تتغشى الناس جميعاً من جهات :
الأولى : النهل من فضل الله.
الثانية : التدبر بآيات لطف الله .
الثالثة : جذب الناس لمنازل التوبة والصلاح .
ومن هذه النعم توثيق أمنية طائفة من المؤمنين وشوقهم إلى الشهادة وتجدد رشحاتها ببناء صرح الإيمان وصدّ هجوم كفار قريش على بيضة الإسلام.
إذ يختص هذا الجزء المبارك بآية واحدة وهو قوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( )، والتي تتضمن المدح والثناء للمسلمين، وتوثق الآية الوقائع التي صاحبت نزول القرآن وما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من الأذى الشديد لولا الحصانة الإلهية بصرف الضرر وقطع مدته ومنع إتصاله، وتبين كيفية مواجهتهم لأذى وتعدي وظلم الكفار الذين زحفوا من مكة الكرمة وقطعوا أكثر من أربعمائة كيلو متراً على الدواب ومشياً على الأقدام ليحولوا بأموالهم ودمائهم وسيوفهم دون ظهور كلمة الحق والهدى[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
وقال المفسرون تتضمن آية البحث العتاب واللوم للمؤمنين لتركهم مواقعهم يوم أحد، وجاء هذا الجزء لبيان نزول الآية ثناءً ومدحاً للمسلمين وإخباراً سماوياً عن تحديهم للكفار بتمني الشهادة وهي إحدى الحسنيين، وتقدير الآية: ولقد كنتم تمنون الموت لينصر الله نبيه ويظهر دينه).
وسيأتي باب خاص في هذا الجزء إسمه (تقدير الآية) ويتضمن وجهاً وصفحة مضيئة من الإيمان الذي ينفرد به المسلمون وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فهم أمة تعشق الشهادة إذا زحفت جيوش الكفار.
ومن الإعجاز في آية البحث أن طائفة من المؤمنين ممن فاته حضور معركة بدر هم الذي تمنوا ملاقاة العدو ولكن لغة الخطاب في الآية جاءت للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي، وفيه مسائل:
الأولى : تغشي الثواب لعموم المسلمين بسبب تمني طائفة منهم القتل في سبيل الله، كما تقدم في تفسيرنا للآية السابقة فإن المؤمنين ذكوراً وأناثاً يدخلون الجنة بفضل الله بسبب جهاد طائفة منهم وصبر آخرين لقوله تعالىأَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ.
الثانية : بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، فحينما يعلمون أن المسلمين مستعدون للقاء والمواجهة وبذل النفوس دفاعاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل فانهم يترددون في الهجوم ويمتنعون عن القتال.
الثالثة : إتجاه الكفار إلى الصلح فيكون بتمني الموت نجاة منه وتحقيق النصر والغلبة للمسلمين، لذا قال النبي بعد معركة الخندق، وجلاء الأحزاب المحاصرين (الآن نغزوهم ولا يغزونا نسير إليهم) ( ).
الرابعة : تنمية ملكة الدفاع عند المسلمين مع السلامة من حال اليأس والقنوط والوهن والضعف والحزن.
الخامسة : ليس من ملازمة بين تمني الموت والقتل في سبيل الله وبين وقوعه فعلاً لذا كان عدد قتلى المسلمين في المعارك قليلاً مع تحقيق الإنتصارات الحاسمة وفتح مكة بفضل الله من غير قتال يذكر، قال تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
السادسة : بيان قانون دائم وهو أن المؤمنين لا يرضون بزينة الدنيا المقرونة بالظلم والتعدي ،وقال تعالى[مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ]( )، ويكشف القرآن حقيقة وهي أن المؤمنين يجاهدون حتى في آمانيهم ويبنون الكيفية النفسية الخاصة والعامة بلحاظ أمور مباركة:
الأول: التفاني في مرضاة الله.
الثاني : السعي لبناء صرح الإيمان.
الثالث : دوام تعاقب نزول آيات القرآن.
الرابع : توالي بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها بما يصلح أحوال المسلمين.
ويتعلق موضوع الآية بمعركة أحد، ويمكن القول أنها أكثر معارك المسلمين التي نزلت بخصوصها آيات قرآنية ولكن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول وهو لا يمنع من صيرورة معركة أحد موعظة للأجيال، ومدرسة للأركان ،والآيات القرآنية التي نزلت بخصوصها ضياءً ينير مسالك الجهاد، ويحول دون وقوع الهزيمة للمسلمين.
لقد كان حشد المشركين لثلاثة آلاف مقاتل في الجزيرة آنذاك لمحاربة النبوة والتنزيل أمراً مستغرباً من جهات:
الأولى : المشقة والعسر في جمع آلاف الرجال للقتال في مناطق أكثرها صحراء جرداء، حتى أن القرآن وصف مكة والطائف بأنهما قريتان بقوله تعالى[وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ]( ).
فبعد أن عجز المشركون عن الجدال في إعجاز القرآن وبانت للناس مغالطتهم، إذ قالوا لو نزل هذا القرآن على الوليد بن المغيرة من مكة، ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف بينما سمّى القرآن مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة في أربع آيات من أصل أربع عشرة مرة ورد فيها هذا اللفظ في القرآن، قال تعالى[وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ]( )، ولم يرد هذا اللفظ مضافاً إلى نبي أو ملك أو طائفة أو قوم، بصيغة المتكلم أو المخاطب أو الغائب، فليس فيه مدينتي أو مدينتك أو مدينته.
بينما وردت نسبة لفظ القرية إلى القوم بصيغة المتكلم(قريتنا) ولغة الخطاب(قريتكم) وورد بلفظ المفرد مرة واحدة في القرآن خاصاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ]( ).
لتكون تسمية مكة قرية بصيغة الإطلاق، وصيغة التقييد (قريتك) بشارة عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة فاتحاً، وأنها ستبقى قريته إلى يوم القيامة بأن يكون أهلها مسلمين، وإسمه وذكره بالرسالة يكرر فيها خمس مرات في اليوم متعقباً للشهادة بالتوحيد، وليكون من مصاديق تمني المؤمنين الشهادة إزاحة الذين أخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة والسلطان فيها مع عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاتحاً.
وفي سبب نزول الآية أعلاه، ورد عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : أنت أحب بلاد الله إلى الله وأنت أحب بلاد الله إلي ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك فأعتى الأعداء من عدا على الله في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول أهل الجاهلية)( ).
وورد لفظ(المدائن) بصيغة الجمع ثلاث مرات في القرآن، كلها بخصوص فرعون وقومه وبيان سلطان فرعون عليها ونفاذ أمره وفيه دعوة للمؤمنين بعدم الإفتتان بدولة وسلطان الطاغوت.
إن تسمية مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة إنذار للكفار والمشركين من الإغارة عليها وإشارة إلى ضعفهم وعجزهم وقراهم من إقتحامها، وهو المعجزة التي تحققت في معركة بدر وأحد والخندق.
فلا يغلب أهل القرية أهل المدينة إن هجموا عليها، نعم قد يكون هذا عند إنتشار الفساد وغياب العصبية والإنتماء إلى المدينة وقيمها، لذا جاءت آية البحث في هذا الجزء بدفع هذا الظن بتمني المؤمنين وأهل المدينة الشهادة والقتل لمنع وصول المشركين إليها، ليكون من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، منع المشركين من التعدي على المدينة بأمانيهم المباركة التي يعلنون فيها على نحو قلبي ومصداقه العملي تفانيهم في مرضاة الله.
الثانية : تتجلى قدسية مكة لأهلها والناس جميعاً بأن فيها بيت الله الحرام وإقتران إسمها به بقوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( )، ومن بركات البيت الحرام أن خاتم النبيين والشريعة الباقية إلى يوم القيامة أضاءت على الأرض من ربوع مكة وظلال البيت الحرام، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات البعثة يصلي في البيت الحرام ويصلي معه الإمام علي عليه السلام وأم المؤمنين خديجة بنت خويلد، يراهم كفار قريش فيمتلئون غيظاً وحنقاً، ويقتبس عمار البيت وزوار مكة منهم الموعظة.
الثالثة : توارث قريش وغيرهم لسنن من حنيفية إبراهيم عليه السلام، وإقرارهم بنبوته، ومجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذات الحنيفية ومبادئ التوحيد، قال تعالى[ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
لقد أراد كفار مكة التفكيك والفصل بين إتباع ملة إبراهيم وبين التنزه عن الشرك إذ إختاروا عبادة الأوثان وجعلها واسطة تقرب إلى الله زلفى، وإتخذوا من هذا التقرب برزخاً دون التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن جهالة وعناد منهم.
الرابعة : حفظ سكان القرى لأهل مكة شأنهم، وإكرام الدول الكبرى آنذاك مثل الروم وفارس لهم، وكان يعملون بالتجارة ويختلطون بالتجار هناك، وتأتي قوافلهم محملة بالبضائع فلا يتعرض لها الناس لأنهم أهل البيت الحرام.
الخامسة : تجلي معجزات الرسالة والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم بدليل إيمان عدد منهم ،وثباتهم على الإيمان مع تلقيهم شتى صنوف التعذيب من قريش، وهذا الثبات حجة إضافية عليهم للتدبر في صدق الرسالة، وكراهة محاربتها.
السادسة : ترغيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقريش بالإسلام، وبيانه لهم بأنه طريق سيادتهم على الأمم، وفيه عزهم وفخرهم إلى يوم القيامة، ولكنهم إشتروا ذمهم بآيات القرآن وسقوط عدد من كبرائهم قتلى وأسرى يوم بدر في خزي تأريخي، وإنذار للذين يحاربون الإسلام، قال تعالى [لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] ( ).
وقال أبو جهل و عتبة و شبيبة ابنا ربيعة و العاصي بن سعيد و سعيد بن العاص [العاصي بن وائل ] و أمية بن خلف: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قبل الهجرة لأبي جهل وعتبة وشيبة إبني ربيعة والعاصي بن سعيد وغيرهم من كبراء كفار قريش: قولوا أسمع قولكم فقال أبو جهل بن هشام : ترفضنا من ذكرك و لا تلزمنا و لا من آلهتنا من شيء و ندعك وربك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أعطيكم ما سألتكم أمعطي أنتم كلمة واحدة ؟ لكم فيها خير تملكون بها العرب و تدين لكم بها العجم فقال أبو جهل وهو مستهزىء : نعم لله أبوك كلمة نعطيكها و عشر أمثالها، فقال : قولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له فنفروا من كلامه( ).
ومع سطوة وهيبة كبراء قريش والنفع في ترغيبهم بالإسلام بإنقياد الناس لرسالته وطاعته وهو من قريش فتترشح رفعة الشأن والعز عليهم، إنما ذكرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب التوحيد، وفيه مسائل:
الأولى : موضوع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو التوحيد.
الثانية : إستعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتحمل الأذى والضرر في الدعوة إلى الله عز وجل.
الثالثة : بيان الإتحاد في السنخية بين الناس بالعبودية لله، وإختصاص النبي بالوحي، قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ]( ). [وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : مرت برسول الله
صلى الله عليه واله امرأة بذية وهو يأكل، فقالت: يا محمد إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه، فقال لها: ويحك وأي عبد أعبد مني ؟ قالت: اما لا فناولني لقمة من طعامك، فناولها رسول الله صلى الله عليه واله لقمة من طعامه، فقالت: لا والله إلا إلى في من فيك، قال: فأخرج اللقمة من فيه فتناولها إياها فأكلتها، قال أبو عبد الله عليه السلام فما أصابت بداء حتى فارقت الدنيا] ( ).
الرابعة : يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخول الناس الإسلام عن إيمان وقصد القربة ليترشح عنه ، تمني طائفة من المسلمين الشهادة والقتل في سبيل الله.
الخامسة : منع ظهور الحسد على أقوال وأفعال قريش لأن الله عز وجل أنعم عليه بالنبوة والوحي من بينهم.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتصال تلقيه الوحي صبره وتحمله أذى قريش، وعدم الوهن والفتور في دعوته إلى الله، ولم يلتفت إلى كبراء قريش وهيبتهم وسطوتهم خشية، بل تحداهم بالبراهين الساطعة، وكما نزل القرآن بلغة إياك اعني وأسمعي يا جارة لإفادة المعنى الأعم، فان دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتوجه لقريش بالمعجزة والبرهان فيعرض عنها أكثرهم ولكن الذي يؤمن بها أضعاف مضاعفة من الناس، وهو أمر غاب عن أذهان قريش، خاصة وأن الذين آمنوا بدعوته من الشباب والفتوة والمستضعفين الذين أعلنوا بذل النفس في سبيل الله، وهو الذي تدل عليه آية البحث بقوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ].
لقد أمضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة من مدة النبوة يدعو قريشاً وأهلها جميعاً إلى الإسلام، ولم يجد من أكثرهم إلا الإعراض والجفاء وإرادة قتله في فراشه لولا أن نزل جبرئيل وأمره بالهجرة ليلتئذ ولم يؤمن بنبوته إلا القليل من المؤمنين مع أنه من أسنى بيوت أهل مكة نسباً، وكان يسمى قبل النبوة بالصادق الأمين.
وما أن حلّ بالمدينة حتى آمن أهلها بنبوته، فبادرت قريش بحنكة ودهاء إلى الخروج لقتاله في السنة الثانية للهجرة، ولابد أنه بلغهم تنامي قوة الإسلام وخشيتهم من العجز عن قهر المسلمين مع تقادم الأيام التي صارت رياضاً ناضرة بالمعجزات والدلالات الباهرات على صدق نبوته وبصيغ حسية وعقلية.
وكانت آيات القرآن تترى تذكرة وموعظة وحجة وبرهاناً وإماماً، ومدرسة جامعة ترتقي بالناس في ميادين المعرفة.
وغاب عن قريش أن الحنكة والدهاء يتخلفان عن حجب ضياء الإيمان ونفاذه إلى النفوس فكانت خسارتهم يوم بدر والمقرونة بالخزي والذل والهوان، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، ليتغير وجه التأريخ.
فان قلت كيف تكون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة وفضلاً ورحمة للناس جميعاً بقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، في حين أصيبت قريش بسبعين قتيلاً صرعى في قليب( ) بدر مع أنهم عشيرة وأهل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والجواب من وجوه:
الأول : لقد كانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة عظمى على قريش وأهل مكة خاصة وإبتدأت آيات النبوة بين ظهرانيهم، وكل آية تدعوهم إلى الهدى والإيمان.
الثاني : تلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأذى منهم صابراً من غير أن ينقطع عن دعوتهم إلى الإيمان، ليكون هذا التلقي حجة عليهم وزاجراً عن الكفر والجحود، وعن أنس بن مالك عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: لَقَدْ أُوذِيتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَىَّ ثَالِثَةٌ وَمَا لِي وَلِبِلاَلٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ مَا وَارَى إِبِطُ بِلاَلٍ( ).
وعن عائشة قالت: كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَوْقَ الْوَفْرَةِ وَدُونَ الْجُمَّةِ وَايْمُ اللَّهِ يَا ابن أُخْتِي إِنْ كَانَ لَيَمُرُّ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الشَّهْرُ مَا يُوقَدُ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ نَارٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللُّحَيْمُ وَمَا هُوَ إِلَّا الْأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ إِلَّا أَنَّ حَوْلَنَا أَهْلَ دُورٍ مِنْ الْأَنْصَارِ جَزَاهُمْ اللَّهُ خَيْرًا فِي الْحَدِيثِ وَالْقَدِيمِ فَكُلُّ يَوْمٍ يَبْعَثُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِغَزِيرَةِ شَاتِهِمْ يَعْنِي فَيَنَالُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ اللَّبَنِ
وَلَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَمَا فِي رَفِّي مِنْ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا قَرِيبٌ مِنْ شَطْرِ شَعِيرٍ فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ لَا يَفْنَى فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ فَلَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ كِلْتُهُ وَايْمُ اللَّهِ لَأَنْ كَانَ ضِجَاعُهُ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ)( ).
الثالث : جاء كفار قريش معتدين مصرين على القتال والحرب فكان المسلمون أمام النصر أو الشهادة ،قال تعالى[قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ]( ).
الرابع : صدّ هجوم قريش رحمة بالعالمين لما فيه من إعلاء كلمة التوحيد.
الخامس : ما لحق قريشاً من الخزي واقية للناس جميعاً من الإفتتان بهم وبجحودهم خاصة وأنهم عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد يقول المنافقون انظروا إلى أن عشيرته لم تؤمن به وأرادت قتله، فتفضل الله عز وجل وجعل أمة تؤمن به يعلنون إستعدادهم للتضحية بقوله تعالى في آية البحث[وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ].
السادس : أكثر الناس توجهت لهم إنذارات النبوة والتنزيل هم قريش من جهات:
الأولى : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين ظهرانيهم.
الثانية : نزول السور المكية بين ظهرانيهم في مكة وتتصف هذه السور بأنها آيات إنذار ووعيد منها مثل [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ]( ) [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ]( ) [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ]( ).
الثالثة : نزول قوله تعالى[وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوتهم وتبليغهم.
ليكون بينهم وبين عامة الناس في باب الإنذار كثرة وقلة عموم وخصوص إذ تتغش الإنذارات القرآنية الناس جميعاً ومنهم قريش ،قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، وما يرد منها في السنة القولية والفعلية والتقريرية والدفاعية والتدوينية وإختصت قريش بنزول الإنذارات الخاصة ومنها الآية أعلاه وهناك مسائل:
الأولى : هل تدخل إنذارات السنة والسيرة في مصاديق الآية أعلاه أم أن القدر المتيقن منها هو بشارات وإنذارات القرآن خاصة وأن صيغة العموم للناس جميعاً تتجلى في آيات القرآن بلحاظ بقائه إلى يوم القيامة غضاً طرياً، وتكون إنذاراته حاضرة عند الناس[وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً فلما أكلوا قال : ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : ليس بساحر ، وقال بعضهم : كاهن ، وقال بعضهم : ليس بكاهن ، وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم ليس بشاعر ، وقال بعضهم : سحر يؤثر ، فاجتمع رأيهم على أنه سحر يؤثر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخرج وقنع رأسه وتدثر ، فأنزل الله { يا أيها المدثر } إلى قوله : { ولربك فاصبر }]( ).
الثانية : هل تمني المؤمنين الموت والشهادة من الإنذارات، وإذا كانت منها فانها تحتمل وجوهاً:
الأول : تمني المؤمنين الشهادة من إنذارات القرآن، وتحذيره الكفار من الهجوم على ثغر الإسلام.
الثاني : إنه من إنذارات السنة النبوية لأنه من رشحات بشارات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالجنة، ولقيامه بوضعهم في أماكنهم من ميدان المعركة.
الثالث : إنه وجه آخر من وجوه الإنذار، يمكن أن تسميه إنذار الصحابة للناس، أو إنذار المؤمنين لهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، لذا تفضل الله عز وجل وجعل هذا التمني وثيقة نازلة من السماء، وباقية في الأرض إلى يوم القيامة.
الثالثة : هل تمني المؤمنين الشهادة إنذار لقريش، وإذا كان إنذاراً لهم فيكون على وجوه:
الأول : إنه من الإنذار الخاص بعشيرة النبي الأقربين.
الثاني : إنه إنذار خاص لهم، ولكن بلحاظ تعديهم وقيامهم بالهجوم وغزو المدينة لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه.
الثالث : تمني المؤمنين الموت إنذار لعامة الكفار ،ومن خلفهم من المنافقين والفاسقين، ويأتي لقريش بعرض واحد مثل أي طائفة من الناس.
الرابع : إرادة الفرد الجامع إذ يأتيهم على نحو خاص وعام.
أما بالنسبة للمسألة الأولى فإن الإنذارات الواردة في السنة النبوية من مصاديق قوله تعالى[وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، بلحاظ أنها تتضمن الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقيام بالإنذار ،ويأتي بوجوه:
الأول : تلاوة آيات القرآن التي تتضمن التخويف والوعيد.
الثاني : قيام النبي بالتحذير والتخويف بالقول والفعل.
الثالث : تذكير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعالم الآخرة وما فيها من الجزاء وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أنذركم النار، أنذركم النار، أنذركم النار)( ).
الرابع : بيان وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن.
ومن إعجاز القرآن أنه ما من آية من آياته إلا وتتضمن الإنذار في منطوقها أو مفهومها.
الخامس : إنذارات السنة الفعلية، ومنها بلحاظ آية البحث خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد قائداً وإماماً ليفوز المؤمنون يومئذ بآية لم ولن تحدث في التأريخ وهي أن خاتم الأنبياء وسيد المرسلين هو الذي يعين لهم مواضعهم قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
السادس : إنذارات السنة النبوية التقريرية بإمضاء وسكوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما يقوم به الصحابة سكوت رضا كما في آية البحث بقوله تعالى[كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] فلم يصدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم زجر عن تمني المؤمنين الشهادة تصريحاً أو تلميحاً قولاً أو فعلاً أو تقريراً لأن هذا التمني إنذار للكفار من جهات:
الأولى : ورد هذا التمني في القرآن، ونقل الركبان له ليدخل كل بيت من بيوت مكة من وجوه:
الأول : إيمان أولاد المشركين سواء من الذكور أو البنات.
الثاني : إيمان المستضعفين من العبيد والعاملين عند كبار رجالات قريش خاصة وأنهم كانوا أصحاب تجارة ومضاربة.
الثالث : نقل عامة الناس آيات القرآن إنبهاراً بإعجازها وإنجذاباً إلى بيانها.
الرابع : تناقل كفار قريش أنفسهم آيات القرآن طوعاً وقهراً ولإنطباع إنذارات القرآن في الوجود الذهني لتكون برزخاً دون تكرارهم الهجوم على المدينة.
الخامس : وجود جماعات من أهل مكة دخلوا الإسلام وبقوا في مكة، يعلنون إيمانهم على نحو الموجبة الجزئية أو يخفون إيمانهم، وهو لا يمنع من تناقلهم لآيات القرآن وما فيها من الوعيد للكفار، ومنها آية البحث التي تخبر عن رجحان كفة المسلمين بتمنيهم الشهادة والقتل في سبيل الله، وتسليمهم بعظيم الثواب في الآخرة، وهو علة لهذا التمني، أما الكفار فانهم يزحفون مع القينات( ).
ومن مقدمات معركة بدر أن أبا سفيان نجا بتجارته وقافلته التي خرجت قريش بسببها وإتجه صوب مكة آمناً بعث إلى قريش يطلب منهم العودة والإمتناع عن الإستمرار في الزحف والقتال وأخبرهم بأن يمدهم وأموالهم ورجالهم نجوا وهم في مأمن، وطلب منهم الرجوع، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نأتي بدرا – وكانت بدر سوقا من أسواق العرب – فنقيم بها ثلاثا ، فنطعم بها الطعام ، وننحر بها الجزر ، ونسقي بها الخمر ، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا ، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا . قال الأخنس بن شريق : يا معشر بني زهرة ، إن الله قد نجى أموالكم ، ونجى صاحبكم ، فارجعوا . فأطاعوه فرجعت زهرة فلم يشهدوها ، ولا بني عدي بن كعب ، وارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مسيره حتى إذا كان ببعض وادي ذفار نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم( ).
لقد كان موضوع خروج قريش لمعركة بدر حب المال والحرص عليه، وخشية صيرورته غنيمة وبرفقتهم أسباب اللهو والطرب، ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تلك القافلة لم يتعرض لها المسلمون، فكأن قتال قريش عن وهم وعناد، ثم تجدد الأمر قبيل المعركة وأخبروا بسلامة القافلة ولكن أخذهم الغرور وأرادوا البطش بالمسلمين، فكان تمني المؤمنين الشهادة في سبيل الله أعظم رد يواجه هذا العفو، ويكون هذا التمني مرآة للعزائم وبشارة النصر للتباين بينهم وبين المشركين في البلغة والغاية، قال تعالى[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
أما المسألة الثانية فان تمني المؤمنين الشهادة من الإنذار بوجوهه الثلاثة وهو من أسرار ذكره في القرآن وإخباره عن الكيفية النفسانية التي خرج بها المسلمون للقتال وما تدل عليه من الشوق للقاء العدو بهمة الإيمان وخوض غمار الوغى ببسالة لا موضوعية فيها للخشية من الموت والقتل.
فإن قلت تمني المؤمنين الموت لمواجهة هجوم كفار قريش خلاف قوله تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( )، والجواب التمني الذي تذكره الآية التي جاء هذا الجزء في تفسيرها مقدمة للعمل بمضمون الآية أعلاه، وإعلان للتهيئ للرد على تعدي الكفار ببذل الوسع في ساحة المعركة، وعن جابر قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال في الجنة فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قتل) ( ).
وهو من إنذارات السنة النبوية بالذات والعرض، فان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه في معارك الإسلام الأولى من مصاديق قوله تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )، وثباته في الميدان مع فرار الكثير من أصحابه، وقرب العدو منه وجرحه بعدة كلوم في وجهه الشريف دعوة للمؤمنين للإخلاص في الجهاد والتفاني في مرضاة الله.
أما بالنسبة للوجه الثالث من المسألة الثانية فان تمني المؤمنين القتال وإن أدى إلى الشهادة وجه آخر من وجوه الإنذار تجلى في آية البحث، ويتعلق موضوعه بجهاد المؤمنين ليكون من إعجاز القرآن تضمن كل آية منه علوم قائمة بذاتها، وهي موضوع لإستنباط المواعظ منها، وتبعث العلماء والمحققين على إستقراء المسائل منها.
وقد ذكرت شذرات منها في هذا الجزء المبارك وهو الخامس عشر بعد المائة في سحائب ذخائر التنزيل وكل آية عين جارية في رياض العلوم، وهل علوم التفسير والتأويل من مجالس الذكر الجواب نعم، عن جابر بن عبد الله قال: فارتعوا في رياض الجنة . قالوا : وأين رياض الجنة؟ قال : مجالس الذكر ، فاغدوا وروحوا في ذكر الله ( ).
إن تمني طائفة من المؤمنين الموت والقتل دفاعاً عن النبوة والإسلام شاهد على حب التضحية والفداء ليعمل الناس بما أمر الله وإجتناب ما نهى عنه، وفي خطاب موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
في الثاني والعشرين من صفر 1436
15/12/2014
قوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]الآية 143
الإعراب واللغة
قرأ الزهري: من قبل أن تلاقوه( )، ونسبها القرطبي إلى الأعمش( ).
وقرأ مجاهد(من قبلُ) بضم اللام مقطوعاً عن الإضافة( ).
[وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ]
ولقد : الواو : حرف عطف : اللام : للإستحقاق والتبيين والمشهور أنها واقعة في جواب قسم مقدر ، ولا دليل على هذا المعنى .
قد : حرف تحقيق.
كنتم : فعل ماضي ناقص مبني على السكون ، والضمير [تُمْ]اسم كان.
تمنون فعل مضارع ، وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو : فاعل .
الموت: مفعول به منصوب ، وعلامة نصبة الفتحة الظاهرة على آخره.
من قبل: جار ومجرور متعلق بـ [َتَمَنَّوْن].
أن: حرف مصدري مبني على السكون.
والحرف المصدري هو الذي يسبق الفعل ويكون معه مصدراً مؤولاً، ويصح أن يحل محله ويسمى مصدراَ صريحاً.
وتقدير الآية: من قبل ملاقاته.
ويكون المصدر المؤول في محل جر مضاف إليه ،ويتجلى الإعجاز في اللفظ القرآني لأن الآية تخص المسلمين وملاقاتهم للموت ، بينما يكون موضع المصدر أعم [ملاقاة]أو [لقائه ].
ويدخل [أَنْ]على الفعل الماضي والأمر فيكون مصدرياً وناصباً كما في هذه الآية .
فقد رأيتموه: الفاء :حرف عطف، قد: حرف تحقيق لأنها دخلت على الفعل الماضي ، وتكون حرف توقع إذا دخلت على الفعل المضارع مثل [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا]( ).
رأيتموه : فعل ماض وفاعل ، والظاهر أن الرؤية بصرية، والواو: زائدة من إشباع ضمة الميم.
الهاء: ضمير مفعول به.
وأنتم: الواو حالية، أنتم: ضمير منفصل مبني في محل رفع مبتدأ.
تنظرون : فعل مضارع منصوب بثبوت النون ،والواو فاعل.
و( ولقد كنتم تمنون) فيه حذف إحدى التاءين , والأصل تتمنون.
في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة لها ، وهي على شعبتين :
الأولى : صلة هذه الآية بالآيات السابقة : ومنها وجهان :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( )، وفيه مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين آية البحث والآية أعلاه على وجوه :
الأول : ولقد كنتم تمنون الموت .
الثاني : ولقد كنتم تمنون الموت ولا تحزنوا .
الثالث : ولقد كنتم تمنون الموت وأنتم الأعلون .
الرابع : ولقد كنتم تمنون الموت إن كنتم مؤمنين .
الخامس : ولا تهنوا ولا تحزنوا من قبل أن تلقوا الموت.
السادس : وأنتم الأعلون من قبل أن تلقوا الموت .
السابع : وأنتم الأعلون من قبل أن تلقوا الموت إن كنتم مؤمنين .
الثامن : ولا تهنوا فقد رأيتموه .
التاسع : ولا تحزنوا فقد رأيتموه .
العاشر : فقد رأيتموه وأنتم الأعلون .
الحادي عشر : ولا تهنوا وأنتم تنظرون.
الثاني عشر : ولا تحزنوا وأنتم تنظرون .
الثالث عشر : أنتم الأعلون وأنتم تنظرون .
الرابع عشر : وأنتم تنظرون إن كنتم مؤمنين .
الثانية : إتحاد لغة الخطاب في كل من آية البحث وآية السياق ، إذ تتوجه إلى المسلمين وتحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة الصحابة والمؤمنين أيام نزول الآية في السنوات الأولى من الهجرة النبوية ووجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة .
الثاني : إرادة واقعة بدر وأحد والخندق، وكيفية ملاقاة المسلمين للكفار ، قال تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ).
الثالث : المقصود المسلمون أيام النبوة .
الرابع : إرادة المسلمين بأجيالهم المتعاقبة وإلى يوم القيامة .
الخامس : المقصود خصوص المؤمنين ،فيخرج المنافقون والذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم ، ويكون ذوو الأعذار مع المؤمنين في تلقي الخطاب [وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
والصحيح هو الرابع ،وتدخل الوجوه الأخرى في طوله ،وهو من إعجاز القرآن والحجة في أصالة الإطلاق في مضامينه القدسية سواء كانت أوامر أو نواهي أو أحكاماً أو مواعظ.
وورد عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه في حديث تخلفه عن معركة تبوك [قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة غزاها قط إلا في كتيبة تبوك غير أني تخلفت في كتيبة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلما يريد غزاة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا( ) واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم فأخبرهم وجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ يريد الديوان
قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلى ظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل وغزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل وآن لها أن تصغر فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئا فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إن أردت
فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا وفلت الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى انتهوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم – وليت أني أفعل – ثم لم يقدر لي ذلك فطفقت إذ خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه من النفاق أو رجلا ممن عذره الله
ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه
فقال له معاذ بن جبل : بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ،فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني همي فطفقت أتذكر الكذب وأقول : بماذا أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أظل قادما راح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه.
وأصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا.
فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال : ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرك( )؟
فقلت : يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكنه – والله – لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله يسخطك علي ولئن حدثتك الصدق وتجد علي فيه أني لأرجو قرب عتبي من الله والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك]( ).
الثالثة : جاءت كل من آية البحث والسياق بصيغة الجمع ، وإرادة المسلمين والمسلمات وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]( ) بلحاظ أن طرد الوهن وأسباب الضعف عن الفرد والجماعة قوة ومصداق للمنعة.
الرابعة : كل من الآيتين مدد للمسلمين في حربهم ضد الشرك وكفار قريش ،ويكون على وجوه:
الأول : آية البحث عون وتعضيد للمسلمين في ملاقاة الحتوف ، وعدم الخشية من القتل في سبيل الله .
الثاني : آية السياق مدد للمسلمين بالأمن والسلامة من الضعف وغلبة الحزن بسبب الشهداء والحسرة على الحرمان من الغنائم ، فلم يرجع المسلمون من معركة احد بالغنائم التي رجعوا بها في معركة بدر.
الثالث : الجمع بين آية البحث والسياق مدد إضافي للمسلمين في جهادهم وصبرهم وتحملهم الأذى ، في نشر ألوية التوحيد ورجاء رحمة الله، وفي التنزيل [وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ]( ).
وفي التعدد في مصاديق المدد القرآني للمسلمين منطوقاً ومفهوماً وجوه :
الأولى : تخويف وإنذار الكفار .
الثاني : تحذير الناس من إتباع كفار قريش في حربهم على الإسلام ، فلم يكن أرباب الكفر في مكة إلا أفراداً وجماعة قليلة ،ولكنهم أخذوا يطوفون على القبائل يحرضونهم ضد الإسلام.
ومن إعجاز القرآن بيانه للتلاوم والخصومة يوم القيامة بين الكفار أمراء وجنوداً، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : بيان أن الظالمين على مراتب في الدنيا ، ولكنهم في الآخرة يشتركون في العذاب .
الثانية : لا يدفع المقدم والزعيم( ) في الظلم والطاغوت عن أتباعه ، وليس له أن يقول يوم القيامة أنا المسؤول دون هؤلاء لأمور :
الأول : شدة العذاب على كل واحد من الظالمين .
الثاني : وكأن الآية تقول للناس إن الذي يقودكم في طرق الضلالة والشر يتبرأ منكم في الآخرة لإنشغاله بنفسه .
الثالث : قيام الحجة على الظالمين رئيسا ومرؤوساً.
الرابع : تنبيه التابع والمنقاد للظالمين بأنه مكلف مستقل ولا ينجو من العذاب على سوء فعله ، والأصل في الجناية أن يتحملها المباشر إلا أن يرد دليل على تحمل المسبب لها ، وهذا في الدنيا ، وفي الآخرة تنكشف أعمال الناس وتتجلى مسؤولية كل من التابع والمتبوع في كل ظلم شخصي أو عام.
الثالثة : بيان قانون كلي وهو حضور الأعمال يوم القيامة ، ونطق الجوارح، [عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم فيقال : هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول : كذبوا فيقال : أهلك وعشيرتك فيقول : كذبوا فيقال : احلفوا فيحلفون، ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم ، ثم يدخلهم النار]( ).
الرابعة : دعوة الناس للتفقه وترك مواطن وأسباب الظلم ،فاذا إمتنع الناس عن نصرة الظالم فانه يعجز عن الفتك بالناس ونشر الخراب وإشاعة الفساد ، وهو من مصاديق إحتجاج الملائكة على خلافة الإنسان في الأرض بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
إذ تدل الآية أعلاه على أن الملائكة يقصدون المتعدد من الظالمين فذكروا الفساد في الأرض وسفك الدماء بصيغة الجمع ، فلم تقل الآية (ليفسد ويسفك الدماء).
وجاءت آية البحث مصداقاً لإحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) في وجود أمة تستقبل الموت بشوق لإستئصال أسباب الفساد في الأرض ، ولإقامة حكم الخلافة الإلهية في الأرض التي تتقوم بأمور :
الأول : التوحيد وإقرار الناس بالعبودية لله عز وجل .
الثاني : نبذ الشرك ومفاهيم الضلالة التي هي قبيحة بذاتها ، وتؤدي إلى ما هو قبيح وضار .
الثالث : التنزه عن الفساد والذي حذرت الملائكة منه الناس إذ يدل قولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]في مفهومه على حث الناس على إجتناب الفساد ، والإحتراز من الظلم خاصة وأن الملائكة تعلم أن أمر خلافة الإنسان في الأرض حتمي لأنه بمشيئة الله ، وقد جاءت آية الخلافة بصيغة الجملة الإسمية[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] التي تفيد الحدوث وتحقق الأمر وإنتفاء التعليق وأسبابه .
الرابع :إمتناع الناس عن القتال والحروب والقتل بغير حق ، ومن إعجاز القرآن أن إحتجاج الملائكة جاء بصيغة [وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : إشارة إلى أن بعض ممن يتولى الحكم والسلطة يقوم بالظلم والقتل ، كما في الطواغيت ورؤساء الكفر .
الثانية : مجيء الآية بصيغة الفعل المضارع الذي يفيد الحدوث، فصحيح أنه إخبار عن وقائع تحدث بعد خلق آدم وهبوطه إلى الأرض وولادة ونشوء ذرية له ،إلا أنه لا يمنع من دلالة الفعل على تجدد القتل وسفك الدماء خاصة وأنه لا عبرة بالقليل النادر أي لو كان سفك الدماء قليلاً عند الناس في الأرض ربما لا تحتج الملائكة به على موضوع خلافته في الأرض .
الثالثة :لم ينزل القرآن إلا وقد أدرك الناس جميعاً حقيقة إفساد الإنسان في الأرض وإشاعته للقتل لتكون الآية أعلاه حثاً للناس لدخول الإسلام لأن فيه وقاية من الفساد وأمناً من إزهاق الأرواح.
الرابعة : الفساد والقتل صفتان مذمومتان عند أهل السماء ، فسأل الملائكة الله أن ينزه الأرض وسكانها من هذا الفعل المذموم ، وأن يكون الخليفة في الأرض مرآة لأهل السماء ، ويعمل بما يجعله مؤهلاً لمراتب الخلافة ، أي أن الملائكة لم يحتجوا على خلافة آدم ، ولكنهم سألوه تنزيه سكان الأرض من القتل .
ويحتمل هذا السؤال وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص الحياة الدنيا والأمن فيها للإنسان ليؤدي الفرائض والعبادات .
الثاني : المقصود عالم الآخرة إذ أن تنزيه الإنسان عن الفساد والقتل والظلم طريق لدخول الجنة واللبث الدائم في النعيم .
الثالث : المعنى الأعم الشامل للحياة الدنيا والآخرة .
والصحيح هو الثالث لأصالة الإطلاق ، ورأفة الملائكة بالإنسان لأن الله عز وجل إختاره خليفة وهذا الإختبار رحمة وخير محض .
الخامسة : رجاء الملائكة ببعث الأنبياء وإعانتهم بالجنود والأتباع والنصرة لمحاربة سفك الدماء والذي يفسدون في الأرض ، وهذا المعنى المستقرأ من قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )تجلى يوم بدر وأحد والخندق بنزول ذات الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لمحاربة كفار قريش الذين أفسدوا من وجوه :
الأول : إختيار الكفر والإصرار على الجحود .
الثاني : وضع قريش للأصنام في البيت الحرام جهلاً وتجرأً وتفريطاً وجحوداً, وكانت الأصنام منصوبة وبارزة في البيت الحرام حتى يوم الفتح .
[عن جابر رضي الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأكبت لوجهها وقال: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}( ).
ووضعت العرب كعبات متعددة وجلبوا لها الأحجار الغريبة والنادرة ذات الألوان المتعددة من الأحجار البركانية والنيزكية وكأنها نازلة من إله السماء فيتبركون ويحجون إليها في أوقات مخصوصة ويطوفون حولها ويذبحون عندها الذبائح ، ويقدمون إليها النذور والهدايا ، منها :
الأولى :كعبة نجران .
الثانية : كعبة شداد الإبادي .
الثالثة : كعبة غطفان .
الرابعة: الكعبة اليمانية وهي بيت ذي الخلصة تعبده خثعم وبجيله ، وقد ورد ذكره في الجزء السابق ،إذ أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم له جرير بن عبد الله البجلي وعقد له راية وكأنه يرسله في غزوة لقتال جيش من الأعداء .
السادس : إخبار المؤمنين بأن الجهاد والصبر أمران ملازمان لوجودهم في الحياة الدنيا ، وهو مستقرأ من الآية السابقة [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] ( ).
ففي الجهاد ومنافعه وجوه :
الأول : قهر الكفر .
الثاني : إبطال سحر الطواغيت .
الثالث : تعاهد البقاء على الإيمان ، والحيلولة دون إكراه المؤمن على ترك منازل التقوى ، أو التخلف عن أداء الفرائض .
الرابع : إزاحة الكفار عن مراتب الرئاسة والحكم ، ومن الإعجاز مجئ القرآن بالتحذير من إتخاذ المنافقين والذين في قلوبهم مرض بطانة وخاصة ، قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ] ( ).
الخامس : لا يغادر كل جيل من المسلمين الدنيا إلا وقد صار الإيمان وأداء الفرائض هو التركة التي يتلقاها الأبناء والذرية بالإمتثال .
السادس : جهاد المسلمين شاهد على صدق إيمانهم وإقرارهم بالعبودية لله عز وجل وأن الجنة حق والنار حق ، لأن الآية السابقة تجعل الجنة هي الغاية العظمى للجهاد ، وهو الأمر الظاهر من البذل الجماعي للنفوس وإنفاق المؤمنين لأموالهم حباً لله وشوقاً للخلود في جواره .
السابع : بالجهاد يحفظ المسلمون أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ، فتجاهد طائفة منهم لتذب عن جميع المسلمين والمسلمات ، وينهزم العدو ويتقهقر خائباً .
الثامن : قدمت الآية السابقة الجهاد على الصبر بقوله تعالى [وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] ( )لأن الجهاد بذاته صبر ، وهو مقدمة للصبر وسلاح للبقاء في منازل الإيمان التي تستلزم الصبر على العبادات ،وقد إضطر المسلمون للجهاد بالسيف من أجل البقاء بصبغة الإيمان التي هي واجب على الناس جميعاً .
فان قلت إقترنت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال ونشوب المعارك ، ولم تشهد الجزيرة العربية قبلها تسيير جيوش بآلاف المقاتلين إنما كان غزواً ونهباً بين القبائل ويؤسر الغلمان والبنات ليباعوا في سوق النخاسة والرقيق.
وبعد أن يعلم ذووهم بمحل إقامتهم ينزلون على الذي أسرهم أو إشتراهم لدفع العوض والبدل وإعادتهم إلى أهليهم كما في قصة زيد بن حارثة، إذ كان صغيراً مع أمه سعدى بنت ثعلبة من بني طيء تزور قومها، وإتفق أن غارت خيل لبني القين بن جسر أيام الجاهلية، فحملوه سباء وعرضوه في سوق حباشة في ناحية من نواحي مكة، وكان العرب يجتمعون بها كل عام ، فاشتراه حكيم بن حزام بن خويلد لعمته خديجة بأربعمائة درهم من مالها الخاص ، ولما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهبت زيداً له قبل النبوة ، وعمره ثمان سنوات ، وقال ابوه حارثة بن شرحبيل في فقده قصيدة مطلعها:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل .. أحي فيرجى أم أتي دونه الأجل( )
وتقدم ذكرها لتحكي حرقة وأسى الوالد على فقد ابن له مفقود وهو أسى من نوع خاص يختلف عن الذي يموت إبنه ويعلم بموته وعدم عودته ، وقد تجلى هذا الأسى بأبهى بيان في سورة يوسف وحزن يعقوب على فقده وهو من إعجاز القرآن ودلالات قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( ).
وهو من الشواهد على كون القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) وفيه بعث على البحث عن المفقود إبناً كان أو أباً أو زوجاً أو أختاً أو ونحوهم ليكون هذا البحث من فضل الله عز وجل على الناس بعودة الغائب وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )بلحاظ أن إنحصار الملكية المطلقة بالله رحمة بالناس، وتجلت فيوضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام بأداء المسلمين لمناسك الحج كل عام وإجتماعهم في الموسم وخاصة في يوم عرفة ، فيعقوب وأولاده لم يلتقوا بيوسف ويعرفوه إلا بعد عشرين سنة ، قال تعالى [فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ]( )بينما يتجدد لقاء المسلمين كل سنة أيام الحج .
وجاء جماعة من كلب قوم زيد إلى مكة لحج بيت الله الحرام فرأوا زيداً وعرفوه بشمائله وعرفهم وأرسل أبياتاً من الشعر إلى أبيه وأهله يخبرهم عن محله ويطمئنهم بأنه بحال حسن ومنها :
فإني بحمد الله في خير أسرة … كرام معد كابرا بعد كابر( )
ورجع وفد كلب وأخبروا أباه ففرح فرحاً شديداً وقال : إبني ورب الكعبة ، وخرج هو وأخوه كعب إبني شراحيل إلى مكة وحملا معهما المال لفدائه ، فسألا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيل لهما إنه في المسجد فسلموا عليه وأثنوا عليه كثيراً لشمائله الكريمة التي شاعت بين الناس وظهور المعجزات والبينات الواضحة على نبوته وعظيم منزلته ، ومدحوا بني هاشم وأنهم أهل حرم الله يفكون العاني ويطعمون الأسير ثم سألاه أن يمّن عليهما بزيد وأن يخفف عنهم مبلغ البدل والعوض(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا غير ذاك؟ قالوا: ما هو؟ قال: أدعوه، فخيروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً. قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت. قال: فدعاه، فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم. قال: من هما؟ قال: هذا أبي، وهذا عمي. قال: فأنا من قد علمت، ورأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما. فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً. أنت مني بمكان الأب والعم. فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم، إني قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: يا من حضر، اشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني. فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما، فانصرفا)( ).
وقد أنعم الله عز وجل على زيد وقومه وذريته بأن ذكره في القرآن ، فهو الصحابي الوحيد الذي ورد إسمه صريحاً في القرآن بقوله تعالى [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ] ( )وفيه غاية الإكرام والفخر.
وهل مبادرة زيد بدخول الإسلام بعد علي عليه السلام وخديجة من موضوعية في إكرامه بذكره في القرآن أم أن القدر المتيقن من نزول الآية بيان المائز بين الابن الذي تحرم حليلته على الأب وبين ابن التبني الذي أبطله الإسلام .
المختار هو الأول فقد حفظ المسلمون لزيد مبادرته في دخول الإسلام، فصدق ما ورد في الآية اعلاه من الحرج المترتب على مثل هذا الزواج الشرعي ومجئ هذه الآية والسنة النبوية برفع هذا الحرج إلى يوم القيامة ، خاصة وأن إدعاء وتبني الولد معروف عند شعوب أخرى وقد يكون موجوداً إلى هذا الزمان ومستحدثاً وفق بعض القوانين الوضعية .
وفي حرمة التبني قال تعالى [وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ]( ) ورد نسب الأدعياء إلى آبائهم فالمقداد بن الأسود رد إلى أبيه الصلبي فصار إسمه المقداد بن عمرو،[وكان الأسود بن عبد يغوث الزهري قد تبناه] ( ).
ومع أن زينب بن جحش لم يذكر إسمها في القرآن ولكنها كانت تفتخر بهذه الآيات التي تتضمن في مفهومها الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالزواج منها ،وكانت تفتخر على نساء النبي بأمور :
الأول : إن الله عز وجل هو الذي زوجها من رسوله الكريم ، بينما زوجهن أهلهن .
الثاني : كانت زينب تقول لنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم [أنا أكرمكن وليا وأكرمكن سفيرا] ( ).فان الله عز وجل هو الذي زوجها من السماء والسفير هو جبرئيل.
الثالث : أولم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في زواجها خبزاً ولحماً.
الرابع :فيها نزلت آية الحجاب [عن أنس بن مالك قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فَطَعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو [كأنه] يتهيأ للقيام فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قام، فلما قام [قام] مَنْ قام، وقعد ثلاثة نفر. فجاء النبي صلى الله عليه آله وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم قد انطلقوا. فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقي [الحجاب] بيني وبينه، فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ }( )] ( )،[وقال ابن الأعرابي: الزَّيْنَبُ: شجر حسن المنظر طيب الرائحة، وبه سُميت المرأة زينب بهذه الشجرة] ( ).
الخامس : ربما كانت تفتخر بأنها إبنة عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمها أمية بنت عبد المطلب .
وتتعلق آية البحث باستحضار حال القتال والموت وتمني المؤمنين له في ميادين القتال وقد صدق زيد في إيمانه وإخلاصه وتقواه وإستشهد في أرض مؤته بالشام سنه ثمان للهجرة وكان الأمير على جيش المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال [فإن قتل زيد فجعفر فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة ” فقتلوا ثلاثتهم في تلك الغزوة . لما أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعي جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة بكى وقال : أخواي ومؤنساي ومحدثاي] ( ).
وعلى القول بأن آية البحث نزلت في واقعة أحد وإرادة أسباب الموت من المبارزة والمسايفة بعد فوات حضور معركة بدر عن بعضهم ، فان موضوع لقاء الصحابة والمؤمنين للموت أعم محلاً وزماناً ، ومنه معركة مؤته ، وتعرض جيش المسلمين إلى خسارة كبيرة .
وقد قابل الكفار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال وإحداث الفتن ونشوب المعارك وفيه بلحاظ رد الله عز وجل على الملائكة على جعل خليفة في الأرض بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) مسائل :
الأولى : الكفار هم الذين بدأوا القتال وجهزوا الجيوش فتكون معارك المسلمين مصداقاً لإحتجاج الملائكة وأنهم أخبروا عن حال واقع ، وأمر متحقق ،ولكن الأمور بخواتيمها .
الثانية : قاتل وجاهد المسلمون لإستئصال الفساد .
الثالثة : جاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنع القتل وسفك الدماء .
ومن الإعجاز الوقائي الجنائي قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( )، فمتى ما علم الإنسان أن تعديه وقتله لشخص آخر يعرضه للقتل قصاصاً فانه يتجنب القتل فيكون إستحضار حكم القصاص وقربه من عالم الفعل والجزاء الجنائي سبباً لسلامة الذي يريد القتل والمقتول ، ولا ينحصر موضوع الحياة في الآية أعلاه بسلامة الطرفين ، بل يشمل تثبيت الإيمان وبعث السكينة في نفوس المسلمين لتكون مقدمة لأدائهم الواجبات العبادية .
الرابعة : وقوع المعارك في بدايات البعثة النبوية الشريفة بين المسلمين والكفار مصداق لقول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) بلحاظ أن الكافرين هم المفسدون وأنهم يسفكون دماء المؤمنين الذين يدعون إلى الله عز وجل ويكون دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في سبيل الله مصداقاً لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ويكون تقدير الآية [قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا] ( ) ثناء من الملائكة على تفضل الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتهيئ منهم للنزول لنصرته والمؤمنين ومنع الكفار من الإسراف في سفك الدماء وإشاعة الفساد ، وصدّ الناس عن دخول الإسلام ، فلا يعلم أحد من الناس عاقبة وأضرار تمادي الكفار بالقتل ، أو حدوث عدم هزيمتهم في القتال على أجيال الناس ، خاصة وأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي الخاتمة للنبوات ، فأراد الله عز ودجل بتر دابر الكفار وشل أيديهم عن الفساد ، لتشرق شمس الأمن والعدل على الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وكل فرد من مضامين الآية أعلاه جزء علة لإستئصال الفساد والحيلولة دون القتل وهي :
الأول : قطع طرف من الكفار أي هلاك طائفة منهم في معركة أحد ، لتكون صيغة المضارع في الآية أعلاه إخباراً وتوثيقاً من جهات :
الأولى : إبطال القول بأن المشركين حققوا نصراً في معركة أحد .
الثانية : توثيق هلاك فئة وجماعة من فرسان المشركين يوم أحد .
الثالثة : تأكيد جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم أحد ومواجهة جيوش الكفار ، خاصة وأن قتل طرف من المشركين حصل بالمسايفة والمبارزة وإحتدام القتال بين الصفين ، ورمي كل فريق بالسهام والنبل والرماح ، وقيام الكفار بالقذف بالحجارة وأصابت بعضها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
[قال الواقدي: ثبت عندي أن الذى رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن قمئة، والذى رمى في شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبى وقاص] ( ).
وهو من مصاديق آية البحث وقوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ]( )، إذ كان المؤمنون يقاتلون العدو وسقط منهم يوم أحد سبعون شهيداً ، عدا الجرحى وكان الكفار قد زحفوا يومئذ وهم عازمون على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لولا رحمة الله به وبالمؤمنين والناس جميعاً .
[وذكر الواقدي عن ابن أبى سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبى فروة، عن أبى الحويرث، عن نافع بن جبير، قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتى من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يومئذ يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنبه ما معه أحد، فجاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان بن أمية، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إليه] ( ).
وهل توبة طائفة من الكفار ودخولهم الإسلام من مصاديق [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( )بلحاظ أنه إنفصال لطائفة منهم وتركوا منازل الكفر والجحود ، الجواب لا، من وجوه :
الأول : جاءت الآية بلغة التعليل ،وموضوع العلة هو نزول الملائكة لنصرة المؤمنين بلحاظ ما قبلها من الآيات [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الثاني : جاء الإخبار عن قطع طائفة من الذين كفروا بعد قوله تعالى [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ( ).
الثالث : توبة أفراد وجماعات وتركهم لمعسكر الكفر والضلالة فضل من الله لأن قطع الطرف من الكفار يكون على وجوه :
الأول : القتل بأن يقتل عدد من فرسانهم وشجعانهم ورؤسائهم .
الثاني : وقوع عدد من الكفار في الأسر كما حصل في معركة بدر .
الثالث : هروب الكفار من ساحة المعركة ، وإنعدام الثبات عندهم فبعد معركة بدر صار همّ الكفار عند القتال هو الإنسحاب والتقهقر ، لذا ما أن نشبت معركة أحد والتقى الصفان إلا إنكشفت جيوش الكفار لولا ترك الرماة لمواضعهم .
الرابع : تخلف عدد من المؤمنين عن القتال ، وإختيارهم القعود فقد تقدم أن تخلف كعب بن مالك عن معركة تبوك كان سبباً بنزول آية من القرآن ،كما فضح الله ورسوله المنافقين الذين تخلفوا عن معركة تبوك مع قلة عددهم .
الخامس : قصور الكفار عن مؤونة الجيوش المتعددة وظهور النقص في مواردهم المالية وضربهم بقلة التجارة ، وتجرأ القبائل والشباب المؤمن على قوافلهم ، وتخلف أهل الديون لسداد ما عليهم لقريش وتجارها .
السادس : قلة الريع والحاصل الذي يصل إلى أيادي قريش من حيطانهم وبساتينهم في الطائف ومضاربتهم في أمور التجارة والزراعة والمكاسب المتعددة.
ومن بديع صنع الله عز وجل ومصاديق قوله تعالى [فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( )التداخل والتأثير المتبادل بين دخول طائفة من الناس الإسلام وتركهم عبادة الأوثان ومفاهيم الكفر ، فكلما دخل شخص الإسلام فانه بذاته وحسن إختياره سبب و جزء علة لقطع طرف من الكفار ، وكذا فان قطع طرف من الكفار سبب لدخول فريق منهم ومن عامة الناس الإسلام ، ويحتمل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ) وجوهاً:
الأول : إرادة خصوص معركة أحد وتقدير الآية : ليقطع طرفاً من الذين كفروا يوم أحد .
الثاني : بيان الملازمة بين نزول الملائكة لنصرة المؤمنين وبين قطع طرف وهلاك طائفة من الكفار ، وهي وفق القياس الأقتراني :
الكبرى : إذا نزل الملائكة للنصرة يقطع طرف من الذين كفروا .
الصغرى : يوم أحد نزول الملائكة لنصرة المؤمنين .
النتيجة :يوم أحد قطع طرف من الذين كفروا.
الثالث : جاءت الآية بصيغة الفعل المضارع ، وإرادة المستقبل ، وقد يكون هلاك طائفة من الكفار في معركة أحد أو الخندق أو بينهما أو بعدهما أو فيها جميعاً ، وفيه دعوة للمسلمين للدعاء والمسألة لتقريب الظفر وخزي العدو الكافر .
الرابع :إرادة هلاك طائفة من الكفار مرة واحدة ، حيث يصابون بالضعف والوهن ويسهل على المسلمين هزيمتهم في القتال .
الخامس : المستقرأ من الآية التعدد في هلاك طائفة من الكفار .
والمختار هو الأخير لوجوه :
الأول : إن الله عز وجل يعطي المؤمنين بالأوفى والأتم .
الثاني : أصالة الإطلاق ، وعدم وجود دليل على التقييد من كتاب أو سنة .
الثالث: دلالات الفعل المضارع [يَقْطَعَ].
الرابع : مجئ الفعل [لِيَقْطَعَ] بصيغة التعليل وأنه معلول .
الخامس : المصداق الواقعي ، وتجدد هلاك طائفة من الكفار في كل معركة خاضها المسلمون ضد كفار قريش وحلفائهم ، فان قلت لم يقع قتال في معركة الخندق ، وسقط عمرو بن ود العامري قتيلاً قتله الإمام علي عليه السلام بينما جاءت الآية بصيغة التعدد بخصوص قتل المشركين بقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا]والجواب من وجوه :
الأول : كان عمرو بن ود فارس قريش .
الثاني : جاء الثناء على قتل الإمام علي عليه السلام لعمرو بن ود العامري على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لضربة علي خير من عبادة الثقلين) ( ).
الثالث :حصار قريش للمدينة المنورة أكثر من عشرين ليلة سبب لخسارة قريش لتجارتها إلى جانب الإنفاق على المقاتلين من غطفان والأحابيش وغيرهم .
الرابع : مجموع قتلى المشركين يوم الخندق أربعة ، وقيل ثلاثة أحدهم هو منبه بن عثمان بن عبيد من عبد الدار أصابه سهم فحمل إلى مكة ومات فيها ، والآخر هو نوفل بن عبد الله بن المغيرة الذي إقتحم الخندق فرماه المسلمون بالحجارة ( فجعل يقول : قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب فنزل إليه علي عليه السلام فقتله ، وطلب المشركون جثته وعرضوا الدية والعوض لأخذه.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم [إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، فلا أرب لنا في ديته، ولسنا نمنعكم أن تدفنوه]( )،وقيل أن الشراء حصل على جثة عمروا بن ود العامري وبعشرة آلاف ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبى أن يأخذ شيئاً وقال (هو لكم لا نأكل ثمن الموتى) ( ).
فبينما وقعت معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة فان معركة مؤته وقعت في السنة الثامنة للهجرة [629 ميلادي ] وكان سبب المعركة قتل شرحبيل بن عمرو الغساني الرسول الذي بعثه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك بصرى والبلقاء إذ قام شرحبيل بن عمرو بن جبلة عامل القيصر على البلقاء من أرض الشام بشد وثاقه ثم ضرب عنقه ومن العرف المتوارث أنه لا يضرب السفراء والرسل أو يعتدى عليهم لأنهم يوصلون رسالة ، ويبينون موضوعاً .
فجهز النبي جيشاً قوامه ثلاثة آلاف ، وهو أكبر جيش في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان ينهى أمراء الجيوش والسرايا عن قتل الوليد والمرأة والعسيف أي الأجير لقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] ( ).
فان قلت إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى أمراء المسلمين الذين دخلوا مكة يوم الفتح ان لا يقاتلوا إلا من قاتلهم وإستثنى نفراً بأسمائهم وأن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم قينتان لابن خطل استؤمن لإحدهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمّنها ، أما الأخرى فقد قتلت ، فهل فيه تعارض بين وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمرائه وإباحة دم الإمرأتين ، الجواب لا، لشدة تعديهما وإضرارهما بالإسلام وبذل الوسع في صد الناس عن الإيمان ، فكل واحدة منهما محاربة وليست سباء أو أسيرة ، ومع هذا فقد عفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التي أستؤمن لها ، كما استؤمن لسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب فعفى عنها.
صلة[وَلاَ تَهِنُوا] بهذه الآية
إتحاد لغة الخطاب في الآية بتوجهه إلى المسلمين ، والظاهر أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فالخطاب في آية السياق أعم ولا يختص بواقعة أحد.
وإبتدأت آية السياق بالنهي والزجر ويحتمل هذا النهي وجوهاً :
الوجه الأول : إرادة خصوص الصحابة وأهل البيت بلحاظ زمان نزول الآية الذي له موضوعية في أسباب نزولها.
الثاني : المقصود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، جاء الخطاب بصيغة الجمع للإكرام وهذا الخطاب والنهي على جهات :
الأولى :إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص .
الثانية : مجئ الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،والمراد الأمة بأجيالها المتعاقبة .
الثالثة : توجه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلحق به الأمة بالتبعية .
وهذه التبعية على شعبتين :
الأولى :ما ينتهي عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب أن ينتهي عنه المسلمون ، لعمومات إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته .
الثانية : تلقي المسلمين النهي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون النهي الذي يأتيهم متعدداً من الكتاب والسنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثالث : توجه الخطاب للمسلمين جميعاً مع خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخطاب بالتخصيص من جهات :
الأولى : يأتي النهي عن الوهن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي الخاص وعلى نحو مستقل ، وهو يحتمل وجوهاً :
الأول : مجئ النهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول آية السياق بالنهي للمسلمين عن الوهن .
الثاني : إتحاد زمان نزول النهي عن الوهن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع النهي للوهن للمسلمين في آية البحث .
الثالث : تأخر مجئ النهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نزول آية السياق ،وما فيها من النهي للمسلمين .
الثانية :عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الوهن ، فلا تصل النوبة إلى نهيه عن الوهن على نحو الخصوص .
الثالثة : مصاحبة الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،ففي كل واقعة لا يقول أو يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما يأمره الله عز وجل ، وفي التنزيل في الثناء عليه وبيان ما رزقه الله [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الرابعة : ملازمة السكينة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكرت في السكينة وجوه :
أحدها : أنها الرحمة ، قاله علي بن عيسى .
والثاني : أنها الأمن والطمأنينة .
والثالث : أنها الوقار ، قاله الحسن] ( ).
والظاهر أن هذه المعاني من خصائص ورشحات ولوازم السكينة وأنها موضوع مستقل قائم بذاته تعرفه الملائكة حين هبوطه ونزوله بقدسية عظيمة ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما إحتجوا على جعل خليفة في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء ، فنزول السكينة حرب على الفساد وواقية من إنشاء القتل بغير حق ،لأنها تصاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتكون مدداً وعوناً له وللمؤمنين لدفع الكفار ، فلذا لم ينسحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وسط معركة احد مع أنه لم يفصله عن الكفار إلا بضعة أمتار ونالوا منه وجرحوه برمي الحجارة وكانت السكينة سبباً لعودة أصحابه للقتال .
الوجه الرابع : صيغة الإطلاق في قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا] لتشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهل تختص الآية بالجهاد وميادين القتال ،وورد في معنى قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا] أي لا تضعفوا ،عن مجاهد ومقاتل والربيع بن أنس( ).
والصحيح هو الرابع أعلاه من غير أن يتعارض مع الجهة الثانية والثالثة والرابعة أعلاه ، وهو من إعجاز القرآن وبقائه غضاً طرياً إلى يوم القيامة ، وهذه الإستدامة والإستمرار بالنهي إنما هو في مفهومه نهي للكفار عن التعدي على الإسلام وثغوره ،وإنذار من المكر بالمؤمنين.
وفي صلة (ولا تهنوا) بهذه الآية مسائل:
الأولى : لفظ النهي (ولا تهنوا) جملة إنشائية ،وتتضمن الزجر عن فعل في المستقبل، بينما وردت آية البحث بصيغة الماضي (ولقد كنتم).
الثانية : عدم الوهن كيفية نفسانية ،والصلة بينها وبين آية البحث على وجوه:
الأول : حال الثبات والعزيمة وعدم الوهن في ملاقاة العدو سبب لتمني الموت.
الثاني : عدم الوهن هو ذاته تمني الموت.
الثالث : تمني الموت والشهادة في سبيل الله سبب لطرد الوهن والوجل والخوف من ملاقاة العدو.
الرابع : التباين الموضوعي بين عدم الوهن وبين ملاقاة الموت، فالأول في حال السلم والرخاء، أما الثاني فلا يكون إلا عند لقاء العدو.
الخامس : عدم الوهن مدد وعون وحاجة لملاقاة الكفار خاصة وأنهم يزحفون في كل مرة بثلاثة أضعاف المسلمين كما في معركة بدر، وأحد، والخندق.
وباستثناء الوجه الرابع أعلاه فان الوجوه الأخرى جميعاً من مصاديق الآية والنفع العظيم المترشح على المسلمين من حال تمني الموت ومواجهة العدو ومن عدم الوهن أو الضعف عند اللقاء، ليفوز المسلمون بخصوصية وهي إتصافهم بالمنعة وقوة الشكيمة عند الدفاع والقتال ،وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ويحتمل مجئ آية البحث بصيغة الفعل الماضي [وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن]( ) عدم إستمرار إرادة ملاقاة العدو عند المسلمين ، لأن الحرب أولها نجوى وأوسطها شكوى وآخرها بلوى ودبيب الملل إلى النفوس من القتال سبب للهزيمة والخسارة ،فجاءت آية السياق بالزجر عن هذا الملل ، وهذا الزجر من المدد السماوي للمسلمين ، وفيه بيان لقانون دائم وهو أن الجمع بين آيات القرآن مؤازر وعون دائم للمسلمين من جهات:
الأولى : إن قوله تعالى [مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ] دلالة على المواجهة والقتال بين المسلمين والكفار ،فيحتاج المسلمون إظهار التأزر والتعاون فيما بينهم ونبذ القبلية والعصبية ، وأسباب الحسد والبغضاء مثل حالات القتل والنهب التي كانت تحدث بين قبائلهم أو بين ذات الأشخاص قبل دخولهم الإسلام ، إذ أن الإسلام يجّب ويمحو ما قبله .
ومن إعجاز القرآن أنه ناظر إلى هذا الأمر فنزل من عند الله بالتأكيد على أخوة المسلمين والتراحم بينهم ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) وقد إستبق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذه الوقائع بالمؤاخاة بين أصحابه وأهل بيته .
ويلزم دراستها من وجوه :
الأول : إحصاء عدد الذين شملتهم المؤاخاة من المهاجرين والأنصار.
الثاني : إشتراك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه في المؤاخاة وجعل الإمام علي عليه السلام أخاه.
الثالث : بيان الجمع بين المهاجرين والأنصار الغني والفقير ،والأبيض والأسود ،والتباين في الإنتماء القبلي بين الأخوين .
الرابع : مواساة المهاجرين بمؤاخاتهم بالأنصار ،ومشاركتهم في أموالهم وقسمة الغنائم بين كل متآخيين ، والتوارث بينهما إلى أن نزل قوله تعالى [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ] ( ).
الخامس : من خصائص المؤاخاة تبادل النصيحة والشركة في العمل لتكون موعظة لأجيال المسلمين وتحلي الأنصار بالبذل في هذه المؤاخاة [عن أنس بن مالك أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري فقال له سعد أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا فانظر شطر مالي فخذه وتحتي امرأتان فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك فقال عبد الرحمن بن عوف بارك الله لك في أهلك ومالك دلوني على السوق فدلوه على السوق فاشترى وباع فربح بشيء من أقط وسمن ثم لبث ما شاء الله أن يلبث فجاء وعليه ردع من زعفران فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم مهيم( ) فقال يا رسول الله تزوجت امرأة قال فما أصدقتها قال وزن نواة من ذهب قال أولم ولو بشاة قال عبد الرحمن فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا رجوت أن أصيب تحته ذهبا أو فضة] ( ).
يحتاج المسلمون ثبات الجنان وقوة العزيمة وعدم الوهن في حالات :
الأولى : حال السلم والدعة والسراء ، كيلا ينشغلوا بزينة الدنيا ،لأن الميل إلى الدنيا وإتباع الهوى باب ينفذ منه الشيطان ، ومناسبة لتجرأ الكفار وتعديهم على الثغور .
الثانية : حال الضراء والأذى باتخاذ المسلمين الإيمان حلية ،والصبر واقية وبلغة للغايات الحميدة لذا أختتمت الآية السابقة بالإخبار عن كون صبر طائفة من المسلمين ضياء يقود الأمة إلى النعيم الدائم بقوله تعالى [وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( ).
الثالثة :عند التهيئ للقتال وملاقاة العدو ، كما في دفاع المسلمين عن المدينة المنورة وعن أنفسهم وأهليهم يوم أحد حينما جاءت الأخبار بزحف جيوش المشركين ودنوها من المدينة ، ويتجلى مصداق ثبات الجنان وعدم الوهن عند المسلمين يومئذ بتسمية القرآن لهم بالمؤمنين في قوله تعالى [َوإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) وفيه دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للخروج إلى أحد وعدم التهاون مع العدو والإستعداد لفراق الأهل وما يدل عليه من التخلي عن الدنيا ليكون إخبار الآية أعلاه عن خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهله إلى ساحات القتال إشارة إلى عدم رجوعه من أحد إلا بمعجزة من عند الله ، ولولا العصمة والحفظ من الله لوصلت إليه يد الآثمين إذ كانت غايتهم من حين الخروج إلى مكة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،وقد إنكشف شخصه الكريم للعدو فجعل الله غشاوة على أبصارهم .
وهو لا يتعارض مع دلالتها عن وجود جنود أشداء مع النبي وتنبأ بأنهم لن ينهزموا في المعركة .
وبلحاظ آية البحث فان قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا] تحذير من إغواء ووسوسة ابليس في ميدان المعركة ،ولقد إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
وفي المقصود بالفساد وجوه :
الأول : إرادة الإنسان ، وما يفعله الكفار .
الثاني : المقصود إبليس وسعيه في إغواء الناس ، كما ورد حكاية عنه في التنزيل [لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ]( ) .
فسأل الملائكة الله عز وجل أن ينجي الناس جميعاً من شرور إبليس ، فقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( ) ليس إحتجاجاً ، إنما هو توسل ورجاء من الملائكة لوقاية الخليفة والناس مطلقاً من فساد وكيد إبليس ليكون من مصاديق رد الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وفيه مسائل :
الأولى : تفضل الله بجعل كيد الشيطان ضعيفاً، وقاصراً عن الوصول إلى المؤمنين الذين يلجأون إلى الإستعاذة بالله منه،وعن معاذ بن جبل قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى عرف الغضب في وجه أحدهما فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب غضبه . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم( ).
الثانية : بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن الله عز وجل أرأف بالناس من الملائكة.
الثالثة : عجز الملائكة من الإحاطة بعلم الله وفيه دعوة للإنسان للإقرار بالقصور عن الإحاطة بأسرار خلقه وغاياته من باب الأولوية .
الثالث : المقصود فساد الناس المترشح عن وسوسة إبليس وهي ذاتها فساد وإفساد .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، فقد أراد الملائكة سلامة الناس من الفساد وأسبابه ومنها إغواء إبليس وتزيينه لهم الفساد.
صلة [وَلاَ تَحْزَنُوا] بآية البحث
الحزن كيفية نفسانية وإنقباض للنفس على حدوث مصيبة أو فوات منفعة وهو من ضروب الإبتلاء في الحياة الدنيا ، وملاقاة الإنسان للأذى .
فلا بد أن يتعرض الإنسان ذكراً أو أنثى ، غنياً أو فقيراً إلى الحزن وعلى نحو متعدد في أيام حياته ، وهذا الحزن من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة من جهات :
الأول : شدة أو قلة الحزن .
الثاني : كثرة أو قلة وطأة الحزن .
الثالث : سنخية ذات الإنسان في الإنفعال بالوقائع والحوادث من حوله ، فقد تنزل مصيبة بشخصين بعرض واحد فتظهر معاني وآثار الحزن على أحدهما أكثر من الآخر ، وقد لا يرى أحدهما أنها مصيبة .
الرابع : تعدد أسباب وموضوع الحزن ، وقد وردت مادة (حزن) في القرآن إثنتين وثلاثين مرة أغلبها بصيغة نفي الحزن ، وهو من إعجاز القرآن إذ يذكر اللفظ الذي هو مرآة الأذى والضرر ولكنه يأتي بصيغة النفي ، إذ ورد خمس عشرة مرة في الثناء على الذين آمنوا وبشارتهم بالجنة بقوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وحتى الحزن الذي يصيب المؤمنين في الدنيا فانه مبارك ولإرادة تعظيم شعائر الله والتفاني في طاعة الله ، وحب الجهاد في سبيله كما في سقوط التكليف بالخروج والغزو عن الذين لم يستطيعوا المشاركة في الغزو مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ]( ).
وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة وموسى بن عقبة قالا: ثم إن رسول الله تجهز غازياً يريد الشام فأذن في الناس بالخروج وأمرهم به، وكان ذلك في حر شديد ليالي الخريف والناس في نخيلهم خارفون، فأبطأ عنه ناس كثير وقالوا: الروم لا طاقة بهم. فخرج أهل الحسب وتخلف المنافقون، وحدثوا أنفسهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرجع إليهم أبداً، فاعتلوا وثبطوا من أطاعهم وتخلف عنه رجال من المسلمين بأمر كان لهم فيه عذر، منهم السقيم والمعسر.
وجاء ستة نفر كلهم معسر يستحملونه لا يحبون التخلف عنه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أجد ما أحملكم عليه. فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون، منهم من بني سلمة، عمر بن غنمة، ومن بني مازن ابن النجار أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، ومن بني حارث علية بن زيد ومن بني عمرو بن عوف بن سالم بن عمير، وهرم بن عبدالله، وهم يدعون بني البكاء، وعبدالله بن عم، ورجل من بني مزينة، فهؤلاء الذين بكوا واطلع الله عز وجل أنهم يحبون الجهاد، وأنه الجد من أنفسهم، فعذرهم في القرآن فقال[لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ]( ) والآيتين بعدها.
وأتاه الجد بن قيس السلمي وهو في المسجد معه نفر فقال: يا رسول الله ائذن لي في القعود فإني ذو ضيعة وعلة فيها عذر لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تجهز فإنك موسر لعلك ان تحقب بعض بنات بني الأصفر. فقال: يا رسول الله ائذن لي ولا تفتني. فنزلت[ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي ]( ) وخمس آيات معها يتبع بعضها بعضاً، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون معه، كان فيمن تخلف عنه غنمة بن وديعة من بني عمرو بن عوف، فقيل: ما خلفك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنت مسلم؟ فقال: الخوض واللعب. فأنزل الله عز وجل فيه وفيمن تخلف من المنافقين[وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ]( ) ثلاث آيات متتابعات)( ).
ويفيد الجمع بين قوله تعالى [وَلاَ تَحْزَنُوا] والآية أعلاه من سورة التوبة خروج الحزن بسبب التخلف عن الأداء الأمثل وبذل النفس في سبيل الله بالتخصيص ، فليس كل حزن منهياً عنه ، فمن مصاديق الحزن المنهي عنه:
الأول : الحزن للحرمان من الغنائم ، كما في معركة أحد ،إذ عاد المؤمنون من غير غنائم تذكر ، ولكنهم لم يحزنوا عليها ، بل تفضل الله وأرجعهم سالمين بعد أن تمنوا الموت ، وهو من الإعجاز في آية البحث بأنها تذكر بالمنافع لتصرف الحزن والأسى عن المسلمين بخصوص ما فاتهم .
وقد ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذين أسروا عدداً من رؤساء الشرك يوم بدر أن يفادوهم ويأخذوا الفداء والعوض ملكاً لهم .
الثاني : الحزن على الجاه والشأن الذي يفقده الإنسان عند إختياره الإيمان، ورجاء مرضاة الله، وكانت قريش تقول لمن أسلم : صبا ، أي خرج من دينه إلى دين آخر .
الثالث : الحزن عند ملاقاة العدو خشية الجرح أو القتل ومغادرة الدنيا.
الرابع : الحزن على المؤمنين الذين سقطوا شهداء في سوح المعارك خاصة مع إنتفاء موضوع الحزن لأنهم [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الخامس : الزجر عن الحزن مطلقاً مما يكون سبباً للخسارة والأذى في حال السلم والحرب.
ترى ما هي النسبة بين الحزن وتمني الموت، الجواب من جهات:
الأولى : الملازمة بين الحزن وتمني الموت، فمن يكون في حال من الكآبة يتمنى الموت وملاقاة العدو.
الثانية : التنافي بين الحزن وتمني الموت بلحاظ أن المراد منه ملاقاة الأعداء وإن كان فيها الحتف والقتل، فمن يتغشاه الحزن ينشغل بنفسه ويتجنب لقاء العدو.
الثالثة : نسبة التأثير النسبي بين عدم الحزن وتمني الموت.
الرابعة : ليس من صلة بين الحزن وتمني الموت.
الخامسة : الملازمة بين عدم الحزن وملاقاة العدو، لتقوم هذه الملاقاة بالإقبال على القتال، والإخلاص في الدفاع، والإيمان بأن الشهادة طريق الخلود في النعيم.
الخامس : الحزن على الحرمان من النعم الدنيوية التي فاتت المسلم بسبب دخوله الإسلام ، كما في المهاجرين الذين تركوا بيوتهم وأموالهم في مكة وغيرها من بلاد الجزيرة وقراها ، وهاجروا بدينهم إلى المدينة ولم يكتفوا بالهجرة بل تمنوا الموت والشهادة في ملاقاة الكفار .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البدل والعوض للصحابة بأمور :
الأول : العز والفخر بالإسلام .
الثاني : الأمن والسلامة.
الثالث : الثروة والمال والغنائم، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
الرابع : إمكان الإنتقال إلى بلدان الفتوحات حيث الأنهار والأشجار كالشام والعراق وبلاد الري أي طهران ، وإكرام أهل البلد للذين رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسمعوا منه ، فمنهم من سكن الشام ، وآخرون الكوفة والبصرة وبلاد فارس واليمن حيث تكاثر أولادهم هناك بسرعة بلحاظ إكرام عامة المسلمين لذراري أهل البيت والصحابة وقانون تعدد الزوجات ورغبة أهل الأنصار بمصاهرتهم .
وهو من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم مثل [اللهمَّ صل على الأنصار ، وعلى ذرية الأنصار ، وعلى ذرية ذرية الأنصار] ( ).
الخامس : الأمرة والولاية والحكم في الأمصار ، وهو من آيات الله في الخلق ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحينما بشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفتح بلاد الشام وفارس واليمن وتلقي الصحابة وأهل البيت البشارات بالقبول والتصديق ، وربما لم يعلم أكثرهم بدلالة هذه البشارات على توليهم أمور السلطنة وإدارة شؤون الحكم في تلك البلاد العريقة في الحكم المركزي المتوارث .
[عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لما نزلت: { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } ، قال المشركون لأبي بكر: ألا ترى إلى ما يقول صاحبك؟ يزعم أن الروم تغلب فارس. قال: صدق صاحبي. قالوا: هل لك أن نخاطرك؟ فجعل بينه وبينهم أجلا فحل الأجل قبل أن تغلب الرومُ فارسَ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فساءه ذلك وكرهه، وقال لأبي بكر: “ما دعاك إلى هذا؟” قال: تصديقًا لله ولرسوله. فقال: “تَعَرَّض لهم وأعظم الخَطَر واجعله إلى بضع سنين”. فأتاهم أبو بكر فقال لهم: هل لكم في العود، فإن العود أحمد؟ قالوا: نعم. قال: فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارسَ، وربطوا خيولهم بالمدائن، وبنوا الرومية، فجاء به أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هذا السحت، قال: “تصدق به] ( ).
وصحيح ان الحزن يتعلق بفوات منفعة أو حصول ضرر في الماضي إلا أنه لا يمنع من مزاحمة الحزن للخوف في ترتبه على أمر يحدث في مستقبل الأيام ، فيحزن الفرد والجماعة على مصلحة ستحجب عنهم في الزمن اللاحق سواء كانت بأيديهم أو يعلمون بأن المانع منها موجود أو المقتضي لها مفقود وقد يأتي الخوف والحزن متلازمين في القرآن ، وفي بشارة المؤمنين قال تعالى [ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه وموضوعها ورود لفظ ( الخوف ) بصيغة المصدر ، بينما وردت مادة الحزن بصيغة الفعل [تَحْزَنُونَ] وفيه مسائل:
الأولى : قد يداهم الخوف الإنسان بأمر قاهر ، فجاءت الآية الكريمة لتنفي طرو هذا الأمر .
الثانية : إرادة منع أسباب الخوف عن أهل الجنة .
الثالثة : الحزن كيفية نفسانية فجاءت الآية وعداً كريماً لسلامة أصحاب الجنة منه فلا يخشون إعادة الحساب عليهم ، وفضح ما تفضل الله بمحوه من الذنوب عنهم .
الرابعة : بيان عظيم قدرة الله بإصلاح نفوس أهل الجنان ، وتجلي قانون حجب الحزن في الآخرة عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعيم الأخروي ، وفضل الله عز وجل على أهل الجنان .
الخامسة : تقدم الخوف على الحزن عند إجتماعهما في آية واحدة في القرآن لأنه صفة غالبة عند المخلوقات ، فكل مخلوق ينتابه الخوف في بعض الأحوال ، ليكون فيه تذكير بحاجة الخلائق إليه ، ودعوة لها للتطامن والخشوع لله سبحانه .
وعدم الحزن شرط واقعي للمقاتلين في سوح المعارك فان قلت قد شرعت صلاة الخوف في سوح المعارك ، قال تعالى [فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا] ( ).
والجواب : صلاة الخوف من الحذر والحيطة واليقظة ، ومصدر الخوف أعم من العدو ومنه الخوف من فوات أوان الصلاة ، فلما أخبرت آية البحث عن ملاقاة المسلمين للعدو ، وإشتباك الطرفين بالقتال شهدت لهم بأنهم لم يحزنوا إذ أنهم كانوا يتمنون الموت مما يدل على عدم إستحواذ الحسرة على نفوسهم ، فمن رشحات الحسرة والحزن على فوات مصلحة السعي للتدارك بذات الموضوع أو غيره .
ولو كان المؤمنون يأسفون على الحرمان من الغنائم يوم أحد لم يتمنوا الموت والشهادة بل تمنوا اللقاء والإستحواذ على الغنائم ولو من غير قتال ، كما أن الآية توثق تمنيهم الموت قبل معركة أحد ، مما يدل على أنهم لم يطمعوا بمثل الغنائم التي حصلوا عليها في معركة بدر أو جمعها الذي إشترك منهم بالمعركة ، إذ تبين آية البحث وجود طائفة من المؤمنين فاتها الإشتراك بمعركة بدر فتمنوا الموت والشهادة بينما كانت نتيجة معركة بدر النصر والغلبة وجلب الغنائم مما يدل على أن الأخبار كانت ترد بأن قريشاَ تتهياً للثأر والإنتقام بعد معركة بدر ، أن وجود مسلمين في مكة ودخول جماعات في الإسلام فيها وحواليها يسر وصول أنباء حشد وتعبأت قريش للجيوش .
وبلحاظ قوله تعالى [وَلاَ تَحْزَنُوا] تتضمن آية البحث الثناء على المسلمين بأنهم لم يخشوا جيوش العدو وكثرة مؤنهم ، فقد كانوا يرغبون بلقائه على كل حال ،وعندما زحفت قريش وغطفان بثلاثة آلاف مقاتل وهم عازمون على القتال وأسر عدد من المسلمين إستقبلهم المسلمون وهم سبعمائة مقاتل وقد تمنوا الموت قبل الواقعة ، فجاهدوا عند إشتداد القتال ، وإستطاعوا منع الكفار من مواصلة القتال ومن إقتحام المدينة المنورة وقهر أهلها والتي كانت هي المصر الإسلامي الوحيد .
لقد كان سكان المدينة المنورة خليط من المؤمنين مهاجرين وأنصاراً ومن المنافقين على قلتهم ومن اليهود ، وكانت رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها سلامة لهم من شرور المشركين وباب رزق كريم وحفظ لهم وللذراري إلا من أصر على محاربته ونصب العداء له وتواطئ مع كفار قريش وقال تعالى في ذمهم والأذن في تأديبهم والوقاية من أذاهم [يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
السادسة : الغبطة النفسية، والسعادة للفوز بالإيمان وتلقي النعم بالشكر لله عز وجل.
السابعة : إخلاص العبادة لله عز وجل ،وفي التنزيل[قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ]( ).
وكأن الآية تقول لهم(لا تحزنوا فإن النعم العظيمة بإنتظاركم) وهو الذي تجلى في معركة الخندق فمع حصار المسلمين من قبل عشرة آلاف من الكفار فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبشر أصحابه بفتح قصور فارس والشام، وتلك آية في نبوته تتحدى المنافقين إذ قالوا حينئذ: نحن نخندق على أنفسنا وهو يعدنا قصور فارس والروم)( ).
مما يدل على أن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحيط بهم الخندق على قسمين:
الأول : المؤمنون الذين يصدقون بما يقول النبي محمد لعلمهم بأنه لا ينطق إلا عن الوحي.
الثاني : المنافقون الذين إمتلأت نفوسهم بالشك والريب، وقد نزل القرآن ببيان هذا التقسيم بخصوص الإستئذان من النبي أثناء حصار الخندق الذي إستمر أكثر من عشرين ليلة.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يأذن لهم، وهذا الإذن من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) لما فيه من الدلائل على التوكل على الله وعدم الخشية من الكفار مع قلة عدد المسلمين وورد القرآن بامضاء إستئذان المؤمنين وذم المنافقين في إستئذانهم أو تسللهم.
ومن فضل الله عز وجل أمور:
الأول : كثرة عدد الصحابة المؤمنين.
الثاني : قلة عدد المنافقين.
الثالث : نزول الآيات القرآنية التي تقوي إيمان المؤمنين وتشد عضدهم، وتوهن مكر المنافقين، وتجعل أثرهم محسوراً، قال تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ).
الرابع : نزول الآيات بتحذير المؤمنين من المنافقين، ومن إعجاز القرآن أن هذا التحذير يتضمن إنذار المنافقين بعضهم من بعض بلحاظ كبرى كلية وهي شمول خطابات القرآن لعموم المسلمين ويدخل معهم المنافقون إلا مع الدليل أو القرينة على استثنائهم أو خروجهم من الخطاب، قال تعالى[فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا]( ).
الخامس : تضاؤل ونقصان عدد المنافقين، وإختيارهم التوبة، والصلاح مع تقادم الأيام وإقتران معجزات النبوة لها.
صلة [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]بهذة الآية
وفيها مسائل :
المسألة الأولى :البشارة للمسلمين بالنجاة وعدم الهزيمة في المعركة لدلالة نعتهم بصفة [الأَعْلَوْنَ] على رجحان كفتهم في القتال .
المسألة الثانية : من مصاديق مرتبة الأعلون أن قتلى المسلمين شهداء ، ومن أسرار تسميتهم بالشهداء أمور :
الأول : حضورهم في الوجود الذهني للمسلمين ، لأنهم أئمة الجهاد في سبيل الله .
الثاني : إستحضار المسلمين لأسمائهم وكيفية قتالهم وتضحيتهم دفاعاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام .
الثالث : إجراء المسلمين مقارنة بين بذل الشهداء أنفسهم في سبيل الله وبين غيرهم من المسلمين .
الرابع : إتخاذ المسلمين الشهداء أسوة وقدوة كريمة .
الخامس :كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحث على الإعتناء بالكفن وينهى عن الغلو فيه وشرائه بثمن غال ، وإذا أحضرت عنده جنازة سأل أهلها : هل عليه دين ، وحينما جاءت الغنائم وصارت مندوحة عند المسلمين تولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى الدين عن الميت ويقوم بالصلاة عليه ، إلا الشهداء فانه لم يسأل عن ديونهم ، كما يتبين في أخبار شهداء أحد ، فهم في أمن من عذاب البرزخ وسؤال منكر ونكير لأنهم إشتروا الآخرة بحر ولمعان السيوف ، وسرعة الحتوف ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم القواد وأمراء السرايا بموضوعية قضاء الدين للصلاة على من يقتل أو يموت من جنودهم .
وكان من وصاياه لهم [واعلموا أن الجنة تحت البارقة]( )، أي تأكيد الملازمة بين الجهاد ودخول الجنة، [عن عتبة بن عبد السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: القتلى ثلاثة:
رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله ، حتى إذا لقي العدوّ قاتلهم حتى يقتل ، فذاك الشهيد الممتحن في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة .
ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا ، جاهد بماله ونفسه في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل ، فتلك ممصمصة( ) تحط من ذنوبه وخطاياه . إن السيف مَحَّاءٌ للخطايا ، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء ، فإن لها ثمانية أبواب ، ولجهنم سبعة أبواب ، وبعضها أفضل من بعض .
ورجل منافق جاهد بنفسه وماله ، حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله حتى يقتل ، فإن ذلك في النار . إن السيف لا يمحو النفاق] ( )نعم ورد [عن عبد الله بن جحش « أن رجلاً قال : يا رسول الله ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال : الجنة . فلما ولى قال : إلا الدين سارني به جبريل آنفاً]( ).
السادس : الإذن للمؤمنين بالشهادة لأنفسهم بأنهم قتلوا في سبيل الله وهل يشملهم قوله تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ] ( )، الجواب لا لأن الآية أعلاه نزلت بخصوص الكفار للوعيد وإقامة الحجة عليهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يلقى العبد ربه فيقول الله: أي قل ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والابل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب فيقول : أفطنت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول : فإني أنساك كما نسيتني . ثم يلقى الثاني، فيقول: مثل ذلك. ثم يلقى الثالث فيقول له: مثل ذلك فيقول: آمنت بك، وبكتابك ، وبرسولك ، وصليت ، وصمت ، وتصدقت ، ويثني بخير ما استطاع.
فيقول : ألا نبعث شاهدنا عليك؟ فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليَّ، فيختم على فيه ، ويقال لفخذه : انطقي . فتنطق فخذه ، ولحمه ، وعظامه . بعمله ما كان ذلك يعذر من نفسه ، وذلك بسخط الله عليه]( ).
السابع : من الإعجاز في شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه شهيد على الشهداء أنفسهم ، فنيلهم مرتبة الشهادة على الناس وعلى أنفسهم لا يمنع من حاجتهم لشهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم من وجوه :
الأول : إسلام الشهداء وأدائهم للفرائض والواجبات .
الثاني : صدق إيمان الشهداء ، وإخلاصهم الطاعة لله عز وجل ، فاغلب الشهداء كان حاضراً الصلاة وأدى الفرائض والعبادات في الحضر والسفر ، إلا القليل النادر كالذي قاتل حالما دخل الإسلام فقتل في المعركة .
الثالث : إكرام الشهداء وتوثيق هذا العمل العظيم الذي هو مرآة لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ] ( ).
الرابع : شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للشهداء بأنهم قتلوا في سبيل الله وليس لدنيا ومباهج الغنيمة وكثرتها .
وعن جابر بن عبد الله قال : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ويقول وأيهم أكثر أخذ للقرآن فإذا أشير إليه بأحدهما قدمه في اللحد وقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة( ).
الخامس : شهادة النبي للشهداء باستحضارهم قصد القربة في تمني الشهادة والموت في سبيل الله لتكون شهادته لهم تزكية وتطهيراً لهم ودفاعاً عنهم، وفي الزكاة قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا]( )، وهي بلحاظ إستكمال النصاب ويشهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم قدموا كل ما يملكون ولعموم المسلمين حتى الفقراء منهم بأنهم تلقوا وجوب الزكاة بالرضا والقبول والتسليم.
قال مسلم بن الوليد الأنصاري:
يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود( ).
السادس : بعث السكينة في نفوس المسلمين بأن الذي يقتل في سبيل الله يفوز بشهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له وتزكيته.
وعن محمد بن فضالة الأنصاري، وكان ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر ومعه ابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وناس من أصحابه، فأمر قارئاً فقرأ، فأتى على هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } فبكى حتى اضطرب لحياه وجنباه، وقال : يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أره( ).
وفي شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين الذين تمنوا الموت وملاقاة العدو وجوه:
الأول : يشهد لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم شهداء وإن لم يقتلوا في سوح المعارك.
الثاني : تشهد لهم ألسنتهم وجوارحهم في الإخلاص في طاعة الله.
الثالث : يشهد لهم المسلمون بالإيمان.
والصحيح هو الثالث، والوجهان الآخران في طوله، وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجمع الله في جوف رجل غباراً في سبيل الله ودخان جهنم ، ومن اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله سائر جسده على النار ، ومن صام يوماً في سبيل الله ختم له بخاتم الشهداء ، تأتي يوم القيامة لونها مثل لون الزعفران ، وريحها مثل المسك ، يعرفه بها الأولون والآخرون يقولون : فلان عليه طابع الشهداء. ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة.
وأخرج أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي مالك الأشعري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من نصل في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد ، أو رفصه فرسه أو بعيره ، أو لدغته هامة ، أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد ، وإن له الجنة( ).
ومن إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للميت إسراعه في تجهيزه وتغسيله ثلاثاً ، ويأمر أن تكون الغسلة الأخيرة بالكافور مع تطييبه وتكفينه بالثياب البيض من القطن ونحوه ، ثم يصلى عليه خارج المسجد ويشيع إلى قبره (وربما داخل المسجد كما في صلاته على سهيل بن بيضاء وأخيه) وقد توفى سهيل هذا في المسجد ، وهو من المسلمين العشرة الأوائل الذين خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة وشهد بدراً وإسمه سهيل بن وهب بن ربيعة، والبيضاء أمه، غلبت على نسبهم ، وإسمها وعد ومات سنة تسع.
وقد يذكر إسمه خطأ بأنه من أسرى المشركين يوم بدر ، وفي حديث بخصوص الأسرى عند إحضارهم المدينة ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه [أنتم اليومَ عالةٌ فلا يفلتن منهم أحدٌ إلاَّ بفداء أو ضرْب عُنُق”، قال عبد الله بن مسعود: إلا سُهَيْلَ بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكتَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عَليّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا سهيل بن بيضاء( ).
لكن المراد هو أخ له إسمه سهل إذ أن سهيلاً حضر بدراً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم( ).
الثالثة : جاء الإخبار عن كون المسلمين بمرتبة العلو والرفعة والعز من بين الناس بصيغة الجملة الحالية ، بينما ذكرت آية البحث تمنيهم للموت بصيغة الماضي[وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن]( ) وفيه وجوه:
الأول : الملازمة الزمانية بين نيل المسلمين مرتبة العلو وبين طلبهم الشهادة وتمنيهم الموت.
الثاني : مصاحبة مرتبة العلو للمسلمين وهي سابقة لتمنيهم الموت بلحاظ كبرى كلية، وهي الملازمة بين الإيمان والعلو وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : المؤمنون هم الأعلون .
الصغرى : المسلمون هم المؤمنون .
النتيجة : المسلمون هم الأعلون .
الثالث: نال المسلمون مرتبة العلو بعد النصر المبين في معركة بدر وظهورهم على الكفار ، وأسر سبعين وقتل سبعين منهم ، وهذا من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
ويمكن إقتباس قانون من هذه الآية وهو أن النصر الذي يأتي من الله علة وموضوع للعلو، وهو شاهد على حب الله للمسلمين وتزكيتهم بتصديقهم بالنبوة والتنزيل وهو من مصاديق ملك الله للسموات والأرض وخلافة الإنسان في الأرض وأنها تتقوم بصيرورة المؤمنين هم الأمة الأعلى ليشبه هذا العلو الصرح المنير الذي يجذب الناس إلى الإيمان ويزجر عن الكفر والضلالة .
الرابع : تمني المسلمين الشهادة من نيلهم مرتبة الأعلون ، لأن من خصائصها إستيلاء الإيمان على الجوارح والأركان وتسخير المؤمن نفسه للدعوة إلى الله وسعيه في الإصلاح وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الخامس : ليس من ملازمة بين حال تمني الموت والشهادة ، ومقامات العلو التي فاز بها المسلمون ، وكل واحدة منهما نعمة من عند الله ، ولا دليل على الملازمة بين كل نعمتين وإن كان النفع من كل واحدة ظاهراً في تعاهد الأخرى وكل فرد منهما شهادة على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ، وليكون من وجوه هذا الخروج المبارك أمور :
الأول : دعوة الناس للإرتقاء إلى مرتبة (الأعلون) التي تنحصر بإختيار الإيمان.
الثاني : البيان العملي لقانون وهو الملازمة بين الإيمان والعلو ، ومن خصاص الإنسان الطمع، وحب نيل الأماني وتحقيق الرغائب، وإكتساب ما ناله غيره من أقرانه.
الثالث : تأكيد القبح الذاتي للكفر والتخلف عن مراتب الإيمان وقد لا يدرك الإنسان سوء الحال الذي عليه لإشتراك من حوله بذات الفعل والحال ، ولكن عندما يطل عليه الأحسن والفعل السليم ويرى ما هو ممدوح عقلاً وشرعاً يلتفت إلى القصور والخلل في فعله، ويتطلع إلى إصلاحه.
ولما إنقطعت النبوة والوحي بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى تفضل الله عز وجل بخروج المسلمين للناس جميعاً ليكونوا بالهداية ورثة الأنبياء ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن أن آية [خَيْرَ أُمَّةٍ] ذكرت خروج المسلمين للناس ولم تقل (خير أمة أرسلت للناس) لدلالة الرسول على وجود رسالة يقوم بتبليغها، وهذه الرسالة جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل، ليعمل المسلمون بمضامينها، وعملهم كمسلمين خروج للناس، ودعوة للإقتداء بهم وزجر عن التخلف في مستنقع الكفر والضلالة.
الرابع : يفيد الجمع بين الآيتين البشارة للمسلمين بالأمن والسلامة وإن تمنوا الموت إذ أنه يؤسس لقاعدة بعدم الملازمة بين تمني الموت والقتل.
وقيد المؤمنين أعلاه للفعل والتمييز فقد يتمنى الكافر الموت فيأتيه بغتة ومن حيث لا يحتسب ، أما المؤمن فانه يرجو الشهادة في سبيل الله ، فيكتب له أجر الشهيد وينجيه الله عز وجل من الموت والقتل وإن كان مكتوباً عليه، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وهل يشمل المحو الجراحات والكلوم، الجواب نعم، فيدخل المؤمن المعركة فان شاء الله عز وجل أن ينجيه يصرف عنه النبال وسيوف الرجال إلا أن هذا لا يتعارض مع مشيئة الله في سقوط عدد من المؤمنين شهداء في المعركة، وفي المؤمنين الذين جعلوا انفسهم مشروع تضحية وفداء قال تعالى[فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
الخامس : من معاني الجمع بين الآيتين إنذار الكفار من ملاقاة المسلمين لإتصافهم بأمور :
الأول : نيل المسلمين مرتبة الأعلون ، وهي عون في القتال ورجحان الكفة عند اللقاء.
الثاني : إخبار الكفار بأن ملاك النصر في المعركة هو الرفعة ودرجات العلو، وليس كثرة عدد المقاتلين ومؤونهم، والإرتقاء في اسلحتهم هو الطريق إلى الغلبة والظفر، قال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
الرابع : الأصل هو إقتباس الناس من الذين بلغوا مرتبة العلو ، ومعرفة قانون دائم وهو تقوم هذه المرتبة بالتقوى والصلاح ، والذي يحاربهم يبوء باثمه وتكون عاقبته الخسران المبين .
الخامس : من الشواهد على نيل المسلمين درجات العلو والسمو والرفعة بين الناس تمنيهم الموت طاعة لله، وحبهم للإنتقال إلى عالم الآخرة وتوديع الدنيا بصيغة الإيمان، قال تعالى [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
السادس : لما أخبر الله سبحانه عن خروج المسلمين للناس بالحق والدعوة إلى الله، قال تعالى[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) فقد يتآزر عليهم أهل الباطل والضلالة ويكونون عليهم يداً واحدة خاصة وأن المسلمين يتمنون الموت ، فتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين هم[الأَعْلَوْنَ]، مع سلامتهم من الوهن والضعف والحزن وإتصال البكاء على الخسارة وفقدان الغنائم .
وحينما قال الله تعالى في آية السياق [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] ( ) ففيه أمور :
الأول : إعانة المسلمين لإرتقائهم لمنازل الأمن من الوهن والضعف، وليس من إعانة في التأريخ أفضل مما رزق الله المسلمين بأن أمدهم بالملائكة وفي ساعة الشدة والتقاء الصفين ، وتتجلى منافع إمتثال المسلمين لقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] بقيد الصبر والتقوى الوارد في قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
ويتجلى الصبر والتقوى بوجوه منها عدم الخشية من الكفار، وعدم الإقامة على الحزن والأسى على المصائب التي تحل بالمسلمين، فهم حينما إختاروا تمني الموت وعشقوا الشهادة في سبيل الله فان الخسارة قد تأتيهم في ميادين القتال وغيرها ، وتعطل المكاسب ويقل الريع، وينشغل المؤمنون بالمرابطة في الثغور فجاءت آية السياق لحثهم على الصبر والتحمل ، وهل فيها بشارة للنصر ومجئ الغنائم وتدارك الخسارة ، الجواب نعم ، وتلك آية في العناية بالأسرى ، والأمن بفضل الله عز وجل من أذاهم ، وشاهد على السكينة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعناية الإلهية به ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
وهل تتغشى العصمة المذكورة في الآية أعلاه عموم المسلمين فيكتب الله عز وجل لهم السلامة حتى مع تمنيهم الموت، الجواب لا دليل عليه، والقدر المتيقن هو إرادة الأمن والحياطة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقيامه بتبليغ الرسالة وآيات القرآن كاملة لأنها لم تنزل دفعة واحدة بل نزلت نجوماً وعلى نحو التدريج مع أسباب ومناسبة النزول في كثير من الآيات ليكون هذا التدريج مناسبة لتفقه المسلمين في الدين وتدارسهم لآيات القرآن وتدبرهم في معانيها من غير أن يهملوا مسألة الجمع بين الآيات ذات الموضوع المتحد ، فأخبرت آية البحث عن رغبة المسلمين بالشهادة ، ويحتمل أصل هذا الإخبار وجوهاً :
الأول : إنه من علم الغيب وأن تمني المسلمين الموت أمنية يضمرونها في نفوسهم .
الثاني : كان الصحابة يتناجون بالرغبة بالموت والفداء والتضحية في سبيل الله .
الثالث : مجئ المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإخباره برغبتهم بالشهادة ، وإستعدادهم للقتال.
الرابع : وعيد المؤمنين للكافرين، ومجئ شعر حسان بن ثابت وكعب بن مالك وغيرهما في المناجاة للحرب والقتال، وتناقل المسلمين لهذه الأشعار ولم ينظم شطر من تلك القصائد إلا عند تجلي رغبات المسلمين بالجهاد وشوقهم للقاء العدو والبطش به.
الخامس : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شوقه للشهادة وورد عنه أنه قال(لأن أقتل في سبيل الله أحب إليَّ من أن يكون لي أهل الوبر والمدر)( ).
وهل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا من مصاديق آية البحث وأنه تمنى الموت، الجواب لا، إنما ورد لبيان عظيم النفخ وحسن المقام بالشهادة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة خاصة وأنها جاءت في باب الإحتجاج والذكرى للمؤمنين بحالهم وما يصيبهم في ميادين الدفاع عن الإسلام.
وهل هذه الآية من مصاديق تحريض المؤمنين وأن القرآن يندبهم ويدعوهم للقتال كما يحرضهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
الجواب نعم، لتبقى الآية القرآنية موضوعاً متجدداً للحث على الجهاد، وهو من أسرار تلاوة المسلمين اليومية للقرآن على نحو الوجوب في الصلاة، فكل واحد منهم ذكراً أو أنثى إما أن يكون قارئاً وأماماً للجماعة، أو مستمعاً ومأموما وفي كلتا الحالتين يكون التدبر والتفكر.
لقد أراد الله عز وجل أن تعلم أجيال المسلمين برغائب الصحابة الأوائل من المهاجرين والأنصار ، وأنها خالصة لوجه الله ليس فيها حب الدنيا ، بل تدل إبتداء وإستدامة وخاتمة على الزهد بالدنيا ، وإرادة الإنتقال منها إلى الدار التي أخبر القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ما فيها من القصور والنعيم ، قال تعالى في وصف الجنة [وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
يحتمل حال المسلمين بلحاظ تمنيهم الموت وجوهاً:
الأول : بلوغ المسلمين مرتبة العلو بين الأمم قبل تمنيهم الشهادة.
الثاني : بتمني المسلمين الشهادة نالوا مرتبة الأعلون.
الثالث : الملازمة بين تمني المسلمين الموت وبين مرتبة الأعلون.
الرابع : نال المسلمون مرتبة الأعلون سواء تمنت طائفة من المسلمين الشهادة والقتل في سبيل الله أو لا.
والصحيح هو الأخير، فنعمة نيل المسلمين مرتبة الرفعة والعز ودرجات العلو بين أهل الملل أعم من تمنيهم القتل في سبيل الله من وجوه:
الأول : تفضل الله بجعل المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني : تلقي المسلمين دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق.
الثالث : جهاد المسلمين والمسلمات وإتخاذهم الصبر حلية وصبغة في مواجهة القوم الكافرين من قريش وعتاة المشركين.
الرابع : تضمن آية السياق نهي المسلمين عن الوهن والضعف والحزن، وهو من مصاديق العلو بين الناس من جهات:
الأولى : تلقي المسلمين النهي عن الضعف والحزن والكآبة العامة من عند الله عز وجل[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن خصائص النهي من عند الله إعانة العباد على الإمتثال وإجتناب المنهي عنه ومقدماته وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض والنفخ فيه من روح الله، بالإضافة إلى مدد غيري يأتي بالعرض بأن يأمر الله عز وجل مصاديق المنهي عنه فلا تصل إلى العبد، ويتفضل الله ويصرفها عنه، فيهم الإنسان بالمعصية فلا يجدها أو يجدها فتطيب نفسه وتتنزه عنها وفي يوسف عليه السلام ورد قوله تعالى[كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ]( ).
فإن الله عز وجل منع وصول السوء والفاحشة ومقدمات الزنا عن يوسف إعراضهم عن الفواحش، وتنزههم عن المحرمات، وتجافيهم عن المنكر، لأن همتهم وسعيهم متوجهان صوب إقامة شعائر الله، ودفع شر وضرر الذين جاءوا بالخيل والخيلاء والإصرار على القتال ليرد الله كيدهم بعزائم المؤمنين وعشقهم الشهادة، قال تعالى[كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ]( ).
الثانية : تفضل الله بإعانة المسلمين بالإنزجار عن الوهن والضعف، والإمتثال للنهي عن الحزن باللجوء إلى الذكر والتسبيح، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثالثة : تأكيد قانون علو المسلمين بتقيدهم بالتنزه عن الوهن والحزن، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الأمة التي تمتنع عن الوهن والحزن طاعة لله هم الأعلى بين الناس.
الصغرى : المسلمون هم الذين يمتنعون عن الوهن والحزن طاعة لله.
النتيجة : المسلمون هم الأعلى بين الناس.
المسألة الثالثة : يفيد الجمع بين الآيتين أن المسلمين في مأمن من القتل الجماعي وإن تمنوا الموت، لأنهم باقون في مرتبة العلو ، التي تستلزم المنعة وحاجة الأمم لها، وتكافل المسلمين في دفع المخاطر والأضرار.
الرابعة : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بأنهم لم يتمنوا الموت إلا وهم الأعلون .
الخامسة : إنذار الكفار من تمني المسلمين الموت والشهادة في سبيل الله لعجزهم عن قهر المسلمين الذين بلغوا مراتب العز والرفعة .
صلة قوله تعالى[إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]بهذه الآية
وفيها مسائل :
المسألة الأولى :لقد جعل الله الدنيا دار النعمة وهي محل رحمة الله ، فمن أسرار جعل الإنسان خليفة في الأرض توالي نعم الله عز وجل عليه وتعاقب أسباب الغبطة والرضا على الناس مجتمعين ومتفرقين ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ]( ).
وأراد الله عز وجل من الإنسان الشكر على هذه النعم، ويتقوم الشكر بالإيمان والتسليم بوجوب عبادته تعالى والإقرار بأن النعم من عنده تعالى ولا يقدر عليها غيره سبحانه ، فبادر المسلمون إلى الإيمان وتلقوا معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق وتصدي الكفار لهم بالتعذيب والتشريد والقتل ، فنهض المسلمون للدفاع عن أنفسهم وعن الحق بالسيف ، فلأن يقتلوا في سوح المعارك شهداء أفضل من دخول الكفار إلى المدينة وأسرهم وقتلهم بذل ووهن وتعريض عموم الذين آمنوا بالرسالة إلى الضرر، وهو من مصاديق آية السياق بقوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا] أي لا تعطوا الكفار إعطاء الذليل ليكون ثبات المسلمين في مقامات الإيمان ، وعدم خشيتهم من الكفار سبباً لدحرهم وفضح مفاهيم الضلالة.
وهل ينحصر ضرر هجوم الكفار على المدينة في معركة بدر وأحد والخندق بالمسلمين أم يشمل أهل الكتاب من اليهود والنصارى الجواب هو الثاني، وتلك آية في دفاع المؤمنين عن عقيدة التوحيد في الأرض، وعن تثبيت الآيات الحسية التي جاء بها الأنبياء السابقون إذ أن ذكرها في القرآن شهادة وتوثيق سماوي باق إلى يوم القيامة.
المسألة الثانية : يفيد الجمع بين قوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] وبين آية البحث ترتب الثواب على تمني المسلمين الشهادة وإن لم تحدث واقعاً في ميادين القتال ، وهو من فضل الله بأن يرزق الله المسلمين الأجر والثواب على النوايا الحسنة التي تنطوي عليها نفوسهم، وظاهر هذا التمني صدوره على اللسان وصيرورته مادة للمناجاة بين المسلمين ، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الخطاب العام المستغرق لجميع المؤمنين [وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] مع أن الذين تمنوه طائفة منهم ممن فاته الحضور في معركة بدر والمشاركة في مقاتلة الكفار الذين زحفوا إلى المدينة لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ومن إعجاز القرآن أنه لما همت طائفتان من المسلمين بالجبن وإعتزال القتال جاءت الآية بالخطاب العام مع التبعيض والحصر في الذين تسرب دبيب الخوف إلى نفوسهم [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( ).
وتتضمن الآية في مفهومها الثناء والمدح للمسلمين من جهات:
الأولى : عدم طرو الفشل وأسبابه على نفوس اغلب المسلمين يوم أحد مع كثرة عدد جيش المشركين وأنه ثلاثة أضعاف جيش المسلمين .
الثانية : تلقي المسلمين التنزيل بلغة الخطاب العام لهم وهم في ساحة المعركة ، بقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ] فالخطاب لجميع المسلمين.
الثالثة : بيان القرآن لأسباب ثغرة قد تحصل عند المسلمين ، فجاءت الآية أعلاه للتدارك والمنع من صيرورتها واقعاً، وهو من مصاديق المدد القرآني للمسلمين في ساحة المعركة ، فكما نزل الملائكة يوم أحد للقتال ونصرة المسلمين فانهم نزلوا بالوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يمنع من إنكسارهم.
الرابعة : لقد أبتلي المسلمون بترك أغلب الرماة لمواقعهم على الجبل وصيرورة مؤخرة جيش المسلمين مكشوفة ، وتدل وقائع معركة أحد على الإنضباط الحاصل عند جيش المسلمين لولا بعض الهفوات ، فعندما رأى الرماة أصحابهم المؤمنين يهزمون المشركين وينهبون العسكر وتتابع إشراقات معاني النصر المبين تناجوا بترك الجبل والأخذ من الغنائم .
وإنقسم الرماة إلى قسمين:
الأول : الرماة الذين طلبوا من إخوانهم الدخول إلى معسكر المشركين والمشاركة في جلب غنائم معسكرهم بعد أن أخزاهم الله بالهزيمة وهم الأكثر.
الثاني : الذين ردوا هذا الإقتراح باستحضار أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم مغادرة مواضعهم ، والتقيد به على نحو الإطلاق وإلى حين إنتهاء المعركة خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدهم باعطائهم سهامهم من الغنائم وقاموا بتذكيرهم وأنفسهم بأمره ونهيه في المقام وقالوا[ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال لكم: “احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا، احموا ظهورنا “؟ فقال الآخرون لم يرد رسول الله هذا، وقد أذل الله المشركين وهزمهم، فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم] ( ).
ولقد ناشدهم أمير الرماة عبد الله بن جبير بلزوم ترك النزول عن الجبل ، وقام بحثهم على التقيد بالبقاء في مواضعهم طاعة لله ورسوله، وكان معلماً بثياب بيض ليعرف من بينهم ويتبع الرماة أوامره.
وكأن هذه الثياب رتبة عسكرية يحملها من بينهم وخطبهم: فحمد الله وأثنى عليه ثم أمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله، وتتجلى هذه الطاعة ببقائهم في مواضعهم حتى إنتهاء المعركة ولكن أكثر الرماة تركوا الجبل ونزلوا صوب الغنائم والإشتراك بهزيمة المشركين، ومن أصل خمسين من الرماة لم يصبر مع أميرهم إلا أقل العشرة ، فجاء المشركون من خلف المسلمين وشطر منهم مشغول بالغنائم والكسب خاصة، وهذا الإنشغال لأسباب:
الأول : إنذار المشركين .
الثاني: عمل سيوف المسلمين بالمشركين قتلاً وجرحاً .
الثالث : ظهور الدلائل والآثار التي تدل على نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الرابع : رؤية نساء المشركين يفرّن على وجوههن ويصبحن عرضة للسبي ، فبعد أن كن يضربن بالدفوف ويأتين بالأشعار والزجر الذي يبعث الحماسة في نفوسهم صرن ينادين بالويل والثبور، قال الواقدي: وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحداً، قال كل واحد منهم والله إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات، ما دون أخذهن شيءٌ لمن أراد ذلك]( ).
الخامس : إستصحاب النصر في معركة بدر ، وجلب سبعين من المشركين أسرى إلى المدينة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وتشابه الحال ومن باب الأولوية ،لأن نصر المسلمين في معركة بدر مدد لهم ومناسبة للتفاؤل ومع هذا تمنوا الشهادة .
لقد أراد الله عز وجل أن يخفف عن المؤمنين فقد ترك الرماة مواضعهم ، فابى الله أن تظهر طائفتان من المسلمين الجبن والخور والوهن فتفضل سبحانه وصرف عنهم هذا الهم ، ومنع من صيرورته فعلاً واقعاً ، ليتجلى المائز بين الطائفتين بدفع الهم بالفشل عنهم وبين المنافقين الذين إنصرفوا في الطريق إلى المعركة وهم ثلث الجيش وعددهم ثلاثمائة .
ويتبين هذا المائز بلغة التبعيض في الآية [هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ]( ) من جهات:
الأولى : تدل لغة التبعيض [مِنْكُمْ] على عدم ترك الطائفتين لمقامات الإيمان .
الثانية : عدم مغادرة الطائفتين لمواقع القتال والمواضع التي ثبتهم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للتباين بين الهم والفعل ،كالتباين بين المقدمة وذيلها.
الثالثة : يفيد لفظ الطائفة إنتسابهم للمسلمين لأن الطائفة القطعة من الشيء والجماعة من الأمة .
ترى هل من موضوعية في المقام لآية البحث وتمني طائفة من المسلمين القتال ، الجواب نعم ، إذ استبسل فريق منهم بالقتال والذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وصحيح أن عدداً من المؤمنين تركوا مواقعهم وإنهزموا بعد أن عملت بهم سيوف المشركين من الخلف وإنتشار خبر مقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،إلا أنه لا يمنع من الإقرار بأن تمني المسلمين الموت قبل وأثناء معركة أحد جعل فريقاً منهم يقاتلون أحسن قتال ،ويبذلون النفوس دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
المسألة الثالثة : أخبرت آية البحث عن رؤية المسلمين الموت والمراد أسبابه ومقدماته ونشوب القتال بينهم وبين الكفار ، ولما جاءت آية السياق بصيغة الشرط [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] أخبرت آية البحث أن المسلمين نالوا مرتبة الإيمان بدليل صيغة الخطاب[فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ] أي أنكم رأيتموه وأنتم مؤمنون تحاربون الكفار ، وتدافعون عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
إن رؤية الموت أمر مفزع ويجعل الخوف يدّب في النفس ويبعث على الإرتباك فأخبرت خاتمة السياق عن إتصاف المسلمين بالإيمان وفيه بشارة الأمن من الفزع والخوف.
الوجه الثاني : صلة قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، بهذه الآية وفيها مسائل :
الأولى :تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : ولقد كنتم تمنون الموت هذا بيان للناس .
الثاني : هذا بيان للناس قبل أن تلقوا الموت .
الثالث : هذا بيان للناس وانتم تنظرون .
الرابع :ولقد كنتم تمنون الموت هذا هدىً .
الخامس : ولقد كنتم تمنون الموت هذا موعظة للمتقين .
السادس : فقد رأيتموه وأنتم تنظرون هذا هدىً .
السابع : فقد رأيتموه وأنتم تنظرون هذا موعظة للمتقين .
الثانية : لقد جاء القرآن بقصص الأنبياء ،وجعلها موعظة وسبباً للهداية وإقتباس الدروس منها ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) .
وفي الآية نكتة وهي أن أولي الألباب والعقول والتدبر هم المؤمنون إذ أنهم يتخذون من قصص الأنبياء نوراً يضئ لهم دروب الصلاح والتقوى ، ويحرصون على وراثتهم في العلم والعمل وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين.
الثالثة : لقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة، في موضع وبلدة تفصلها مع الأنصار والدول الكبرى في العالم صحراء وبيداء شاسعة وكان كسرى وقيصر وأمراء سراياهم يتجنبون التوغل في تلك الصحراء خشية مكر ودهاء العرب ومباغتتهم الجيوش ويحسن العرب الكر والفر، مع بعد السفر ونقص المؤونة والزاد في طول الطريق، وقلة النفع من الاستيلاء على بلاد العرب وصعوبة إستدامة البقاء فيها لإغارة القبائل العربية على جيوش الدول وإتجاه القبائل العربية للصلح بينها ونبذ الفرقة لمواجهة الذي يستحوذ على أرضهم وقراهم .
فكانت أسباب عزوف الملوك عن الجزيرة مناسبة لإنتشار معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس، ولكن حزب الشيطان موجود في ذات البقعة المباركة التي جعلها الله عز وجل أمناً للناس كما في دعاء إبراهيم علية السلام [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا]( )، فأشاع الكفار فيه الفساد، وجعلوه محلاً لجمع الجيوش ضد النبوة والتنزيل ثم الهجوم بهم صوب المدينة المنورة ، ولم يتعظوا من واقعة الفيل والبطش الإلهي بابرهة حين أراد هدم البيت، والنبي والبيت صنوان ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ]( ).
الرابعة : من البيان للناس أن المسلمين الأوائل قاتلوا في سبيل الله بإندفاع وتفان، وأن الكفار هم الذين حملوهم على هذا القتال، إذ هجموا عليهم من مكة المكرمة بجيوش عظيمة.
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً هارباً بنبوته ورسالته وأصحابه من مكة في الليل البهيم في ليلة أراد الكفار فيها الفتك به وحبسه أو نفيه أو قتله وهو نائم في فراشه بمكيدة وهي إشتراك القبائل كلها في قتله كيلا تثأر قبيلته والمؤمنون من قبيلة مخصوصة، وقامت قريش بالخروج خلفه وتتبع أثره لقتله في الطريق، قال تعالى[إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ]( ).
وتتبع الكفار الأثر وسير الأقدام فأطلوا على الغار ووقفوا عنده، ولكن الله عز وجل حجب عنهم رؤيته بالمعجزة.
وأخرج ابن سعد وابن مردويه عن ابن مصعب قال: أدركت أنس بن مالك، وزيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة، فسمعتهم يتحدثون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت في وجه النبي فسترته.
وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته ، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار ، وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل بعصيهم وأسيافهم وهراويهم ، حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدر أربعين ذراعاً فنزل بعضهم فنظر في الغار ، فرجع إلى أصحابه فقالوا : ما لك لم تنظر في الغار؟! فقال : رأيت حمامتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد.
فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قال ، فعرف أن الله درأ عنه بهما أي عنه وعن صاحبه.
فسمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهن وفرض جزاءهن وانحدرن في الحرم ، فأخرج ذلك الزوج كل شيء في الحرم)( ).
فجاءت آية البحث لتحكي حاجة المسلمين للدفاع عن أنفسهم ،وعن النبي والتنزيل ،لأن الكفار لا يرضون إلا بقهر الإسلام وإيقاف الدعوة إلى الله، فصار حمل المسلمين السلام والدفاع ضرورة لهم وللأجيال اللاحقة من الناس جميعاً إذ أبقوا باب الدخول في الإسلام مفتوحاً إلى يوم القيامة ومقترناً بالبينة والبيان الذي تذكره آية السياق إذ أدرك المسلمون تقوم الدفاع بالشوق لملاقاة الكافرين في سوح القتال، وتوطين النفوس على أشق العواقب وخواتيم القتال وهو الموت الذي هو بداية رحلة السعادة للمؤمنين.
وعن أبي موسى قال: الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله تعالى)( ).
الخامسة : تبين آية البحث أن طائفة من المسلمين إستقرت نفوسهم على طلب الشهادة بإدراك العقول، وتلقاه عموم المسلمين بالرضا والقبول، إذ يدل ظاهر آية البحث على عدم إحتجاج المسلمين على هذا الطلب، و لم ترد الآية بصيغة الذم إنما وردت بالتذكير وفي ساعة المحنة واللقاء بهذا الشوق ليكون مدداً لهم في القتال، وعوناً في مواجهة الكفار، وهل يكون حينئذ طريقاً للشهادة، الجواب لا، بل إنه واقية من القتل والقتال أصلاً، وتلك آية ومعجزة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : ذكرت آية السياق أن القرآن (هدى) بقوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى]، ومع أن هذه الكلمة تتكون من ثلاثة حروف فقط فأنها علم مستقل قائم بذاته بلحاظ أن كل آية من آيات القرآن معجزة وفيه بلحاظ آية البحث وجوه:
الأول : صيغة الخطاب في الآية وإختصاص المسلمين بها موعظة للناس.
الثاني : من مصاديق الهدى تذكير المؤمنين بنواياهم وعزائمهم في الجهاد.
الثالث : إخبار أجيال المسلمين عن مناجاة المؤمنين بالشهادة في سبيل الله وصيرورتها بلغة وغاية.
الرابع : هداية أجيال المسلمين إلى الدفاع عن الإسلام في وجه كفار الذين يصرون على التعدي ويقيمون على الكفر .
الخامس : دعوة المسلمين للتقيد بسنن التقوى والتحلي بالصبر عند ملاقاة الأعداء، لذا رغّب الله عز وجل في الآية السابقة بالجهاد والصبر، قال سبحانه[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( ).
السادس : إرشاد المسلمين، والإخبار عن درس في حياة الصحابة وهو ملاقاتهم الموت وجهاً لوجه من غير برزخ أو مانع بينهم وبينه مع سلامتهم من الفزع والجزع.
الشعبة الثانية : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية، وفيها وجوه منها :
الأول ( ): صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً….]( )، وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : ولقد كنتم تمنون الموت وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله.
الثاني : ولقد كنتم تمنون الموت كتاباً مؤجلاً.
الثالث : ولقد كنتم تمنون الموت ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها.
الرابع : ولقد كنتم تمنون الموت ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها.
الخامس : ولقد كنتم تمنون الموت وسنجزي الشاكرين.
السادس : فقد رأيتموه كتاباً مؤجلاً.
السابع : فقد رأيتموه ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها.
الثامن : فقد رأيتموه ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها.
التاسع : فقد رأيتموه وسنجزي الشاكرين.
العاشر : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله وأنتم تنظرون.
الحادي عشر : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها وأنتم تنظرون.
الثاني عشر : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وأنتم تنظرون.
الثالث عشر : وسنجزي الشاكرين وأنتم تنظرون.
الثانية : ينفي الجمع بين الآيتين الملازمة بين تمني الموت وحلول الأجل، وفيه بشارة للمسلمين جميعاً ومنهم الذين تمنوا الموت وآباؤهم وأمهاتهم وأزواجهم فلا يعني خروجهم لمعركة أحد وتفانيهم في القتال سقوطهم مضرجين بدمائهم بل يخرجون مع السكينة والأمن والرضا، وهو الذي تدل عليه آية البحث من وجوه :
الأول : مجئ الآية بصيغة الفعل الماضي وتقدير الآية : ولقد كنتم تمنون الموت ولم يأذن الله بموتكم ،وفيه بيان لرحمة الله عز وجل بالمؤمنين ، فلا يؤاخذهم على هذا التمني ولا يجعله حجة عليهم فيقرب أجلهم ولا يلتفت ملك الموت لهذا التمني خاصة وأن الأمر يتعلق بالقتال مع الكفار وأن المصداق الواقعي لتمني المؤمنين يتحقق بهجوم الكفار وإيغالهم بسفك الدماء فجاءت آية السياق لبعث السكينة في قلوب المسلمين والمسلمات بأن الله عز وجل يجعل برزخاً بين الكفار والنصر .
الثاني : موضوعية غلبة ونصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر في سير معارك الإسلام اللاحقة لها بأن يخرج المؤمنون إلى القتال والسكينة تتغشاهم وعوائلهم والمتخلفين عن القتال من ذوي الأعذار وغيرهم ، وتقدير آية [بِبَدْرٍ]بلحاظ هذا المعنى على جهات :
الأولى : ولقد نصركم الله ببدر فاستقبلوا المعارك القادمة بعز وطمأنينة، والتوقي من الوهن والحزن وهو من مصاديق قوله تعالى في خاتمة الآية أعلاه[لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ].
الثانية : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فلا ذلة بعد الآن.
الثالثة : ولقد نصركم الله ببدر فتمنيتم الموت.
الرابعة : ولقد نصركم الله ببدر وسينصركم في المعارك التالية عن [أبى طلحة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى وتبعه أصحابه
وقالوا ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته.
حتى قام على شفة الركى، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، يسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ! “.
فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها ؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذى نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ] ( ).
الخامسة :ولقد نصركم الله ببدر فلا تهنوا بالفشل في المعارك اللاحقة.
الثالث : يدل قوله تعالى [فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] على ملاقاة العدو في ميادين المعارك وحصول القتل وقربه من المؤمنين وعدم فزعهم أو خوفهم منه ، ولكن آية السياق حرز وأمن .
الرابع : شمول المقام لعمومات قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين ، ولقد كنتم تمنون الموت كتاباً مؤجلاً وفيه وجوه :
الأول : بيان قانون وهو ليس كل من تمنى الموت يأتيه الأجل ، ويحل بساحته الموت .
الثاني : لقد تمنى المسلمون الشهادة ،ولم يقع لهم ،ليفوزوا بالأجر والثواب على حسن النية وإخلاص العزيمة .
الثالث : فضل الله عز وجل في دفع الموضوع الذي يشمت به العدو ، فصحيح أن قتل المؤمن طريق لإقامته في النعيم بدليل قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) إلا أن الكفار ينظرون إلى كثرة قتلى المؤمنين بأنه نوع إنتصار لهم وتحقيق الثأر لقتلاهم في معركة بدر فاراد الله عز وجل إتصال خزيهم وعدم إنقطاعه .
وقد لحقت الكفار الخيبة وأصابتهم الحسرة عندما رجعوا من معركة أحد وقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المعركة ورجع أغلب أصحابه معه ، كما أن الكفار عجزوا عن دخول المدينة.
أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] ويكون شكر المؤمنين بلحاظ آية البحث من وجوه :
الأول : علة تمني الموت الدفاع عن بيضة الإسلام .
الثاني : تمني الشهادة تسليم بوقوع القتال مع المشركين وتلقيه بالتحدي والصبر .
إذ تشهد آية البحث بأن المسلمين خاضوا المعارك وقابلوا الموت وكان قاب قوسين أو أدنى منهم أي من جهه القرب ودنو الموت ، وذكر ان معنى قوله تعالى [فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ] ( )أصله قابي قوس فقلب لإرادة المسافة القصيرة بين مقبض القوس وطرفه ، وقيل المراد قدر طول قوسين.
ومن الأحاديث النبوية التي ترّغب بالجهاد والشهادة في سبيل الله قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم [لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قدّه خير من الدنيا وما فيها] ( ).
الثالث : تقرير المهاجرين والأنصار لتمني طائفة من المسلمين الشهادة والقتل في سبيل الله وعدم نهيهم أو إظهار الكراهة لهذا التمني .
الرابع : صيرورة هذا التمني مناسبة لحث باقي المسلمين على الخروج إلى ميادين القتال، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
ويحتمل الجزاء من عند الله بلحاظ أفراد الزمان الطولية والعوالم الثلاثة المتباينة الدنيا ، البرزخ ، الآخرة، وجوهاً :
الأول : إرادة الجزاء على تمني الشهادة في الحياة الدنيا .
الثاني : جزاء الله للمؤمنين الذين تمنوا الموت في سبيل الله في عالم البرزخ .
الثالث : القدر المتيقن من الجزاء هو عالم الآخرة لأنها دار حساب بلا عمل .
الرابع: لا ملازمة بين تمني الموت وبين الجزاء وشكر الله عز وجل للمؤمنين لأن خاتمة آية السياق جاءت بقيد وهو نعت الذين يتلقون الشكر من عند الله بصفة الشاكرين.
وباستثناء الوجه الرابع فان الوجوه الثلاثة الأولى من معاني ومفاهيم الجمع بين آية البحث والسياق ، وأن شكر الله عز وجل للذين أظهروا الإخلاص في الإيمان وشرطوا على أنفسهم بذل النفوس للتضحية والفداء من مصاديق خاتمة آية السياق.
ومن الإعجاز في قوله تعالى[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ]( )، أن الجزاء أعم في موضوعه وحكمه فلم يقل الله عز وجل وسنشكر الشاكرين)، ترى ما هو الجزاء في الدنيا بلحاظ آية البحث، الجواب من وجوه :
الأول : ذكر الرغبة بالشهادة في القرآن ، وبيان أنها بصيغة الإيمان ، لعطف هذه الآيات على قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ( ).
وتقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا لقد كنتم تمنون الموت .
الثاني: تفضل الله عز وجل بالعناية بالمؤمنين وذكرهم وآمانيهم بصيغة الثناء في القرآن ، بينما ذكرت بعض أماني أهل الملل السابقة بالتبكيت .
وإذا إنتفع قوم من تضحية المؤمنين الأوائل وتمنيهم الشهادة فهل يأتي الثواب لأصحاب هذه الأمنية التي وثقها القرآن بالتكريم ،الجواب نعم ، لأن هذه الأمنية رشحة من وجوه :
الأول : مجي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبينات والهدى ، وإنجذاب أولي الألباب لمعجزاته لما فيها من الدلالة والبرهان على صدقه ولزوم إتباعه .
الثاني : نزول القرآن باللبث الدائم في النعيم لمن يقاتل في سبيل الله سواء نال الشهادة أو فاز بالنصر والغلبة ، قال تعالى [وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] ( )فيترشح الثناء على المسلمين في أمنيتهم بانها في طول وضمن عزمهم على القتال ، وتهيئهم له ، وتلقيهم الأوامر بالنفير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخروجهم معه وبين يديه يردون بدمائهم كيد الكفار ، ويبنون بسيوفهم سوراً عالياً من سرايا العقيدة الدفاعية عن دولة الإسلام تتجدد آثاره في كل زمان.
فلم يتمن المسلمون الموت وهم قعود في بيوتهم ، ولم يتمنوه لأمور دنيوية ، بل كان هذا التمني جزءً من حبهم لله ونصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ إنحصرت هذه النصرة بالقتال فرغبوا في الشهادة ولقاء الله مظلومين فأنعم الله عز وجل ونجّاهم من الموت والقتل ، وأراهم سقوط عرش الظالمين وزوال معالم الشرك .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فشد لهم إبليس أقدامها بالرصاص ، فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخرّ لوجهه فيقول : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } حتى مر عليها كلها] ( ).
الثالث: ضرورة الدفاع عن الإسلام ، والحفاظ على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي التنزيل ، وقد دفع هجوم الكفار المتكرر على المدينة المنورة المهاجرين والأنصار إلى اللجوء إلى الدفاع وإدراك إنحصار الأمن والنجاة لهم وللناس بخوض غمار الوغى فبادروا إلى لبس الأكفان على نحو واقعي ونفسي بأن إختاروا تمني الموت ، فصاروا يسيرون بين الناس وهم في عداد الشهداء ليكون بقاؤهم أحياء رحمة وسبباً لنزول البركة وهو من مصاديق قوله تعالى[ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
إعجاز الآية
لقد نزل القرآن لإكرام المسلمين والثناء عليهم، وهدايتهم إلى سبل الصلاح، والطريق الذي يؤدي إلى النعيم الدائم كما في الآية السابقة لآية البحث التي أخبرت عن دخولهم الجنة بتحقق شرطين على نحو الموجبة الجزئية وقيام طائفة من الأمة بهما وهما:
الأول :الجهاد في سبيل الله .
الثاني :الصبر وتحمل الأذى والعناء طاعة لله سبحانه، والمراد من الموجبة الجزئية أعلاه لحاظ أداء شطر من عموم المسلمين وليس ذات الجهاد أو الصبر، إذ يكفي قيام طائفة منهم بالجهاد على الوجه الأتم وأنه واجب كفائي .
لذا يمكن إضافة مسألة لعلم الأصول وهي أن الواجب الكفائي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً فقد يدنو من الواجب العيني ولكنه لا يرقى إلى مراتبه.
وتبين الآية مراحل متعددة بموضوع متحد لاقاها المسلمون ،وهي:
الأولى : تحلي المسلمين بعدم الوهن أو الضعف.
الثانية : دخول المسلمين سوح القتال ورؤيتهم الموت.
الثالثة : سقوط القتلى والشهداء من المسلمين.
الرابعة : إصابة المسلمين بالإنكسار يوم أحد.
الخامسة : تدارك المسلمين ورجوعهم إلى ميدان المعركة لأمور من فضل الله وهي:
الأول : نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الثاني : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه في المعركة.
الثالث : إنكشاف كذب إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة، وفيه درس للمسلمين بعدم الإصغاء للإشاعات التي تضر بهم وتضعف من همتهم في القتال.
الرابع : همّ فريق من المسلمين بالإنسحاب لقوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ).
الخامس : المناجاة بين المؤمنين للعودة إلى مواضعهم في المعركة، والدفاع عن الإسلام والنبوة، وهو من الإعجاز في قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، بلحاظ تحقق تبوأ المؤمنين لمواضعهم في المعركة في أولها وآخرها، والأمور بخواتيمها، وفيه نكتة وهي أن الأمر إذا وضعه وأسسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو باق على حاله ويمتلك صفة التجدد وتعاقب الحدوث، فقد حدثت أمور للمسلمين خلاف الثبات في المواضع وهي:
الأول : ترك الرماة على الجبل لموضعهم مع توصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم تركه بكل الأحوال، ومع الضرر الفادح الذي لحق جيش المسلمين بهذا الترك الذي كانت الغاية منه الحصول على سهم في الغنيمة، فانهم لم يغادروا ميدان المعركة، بل إشتركوا في القتال ووقف زحف كفار قريش، وإجبارهم على التقهقر والرجوع، وهو من مصاديق آية البحث برؤية الموت.
الثاني : لقد عسكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عدوة الوادي وفي الجبل ، وجعل ظهره وعسكره إلى جبل احد للأمن من جهة الخلف بعد أن جعل الرماة على الجبل [وقال: لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال] ( ).
وهل تقيد المسلمون بهذا الأمر، الجواب نعم ، وهو آية في الإنضباط العام ومصداق على التسليم بأن أمر النبي بالقتال أو عدمه إنما هو وحي من السماء ، وقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً فمهما بلغ من الذكاء والفن والخدعة في القتال فانه لا يصل إلى مراتب الحيطة التامة والتأكد من إحراز النصر ، وقد يباغته العدو من حيث لا يحتسب ، ولكن الوحي والإخبار السماوي سبب للنصر والظفر الحتمي ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وبلحاظ آية البحث فان تقيد المسلمين بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم البدء بالقتال دليل على تقديم طاعتهم لله ورسوله على تمنيهم الموت وحبهم للقاء الكفار والبطش بهم .
ولم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (لا تقاتلوا حتى آمركم بالقتال ) بل جاء قوله صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الإفراد لتنحل بعدد أفراد جيش الإسلام من المهاجرين والأنصار ، ومن خصائص هذه الصيغة النهي من جهات :
الأولى : عدم المبادرة في الرمي بالنبل .
الثانية : المنع من المبارزة الشخصية سواء بالإختيار والتحدي أو الإستجابة لطلب العدو .
الثالثة : زجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين عن الإبتداء بسل السيوف والمسايفة.
الرابعة : الحيلولة دون زحف الجيش والتقاء الفريقين دفعة واحدة .
ونهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن البدء بالقتال مصداق لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وشاهد على صدق نبوته وإمكان دخول الناس الإسلام من غير قتال، وأن الإسلام لم ينتشر بالسيف.
لتتجلى معجزات نبوته ظاهرة وباطنة، ويكون إبتداء الكفار بالقتال حجة إضافية عليهم، فهم يزحفون على الرواحل ومشياً على الأقدام مئات الأميال لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
ولا ينحصر نهي النبي في القتال بخصوص بدايته، فقد يقع النهي أثناء القتال على نحو مخصوص، وعن يحيى بن كثير قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقاتلوا ناحية من خيبر ، فانصرف الرجال عنهم وبقي رجل ، فقاتلهم ، فرموه ، فقتلوه ، فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبعدَ ما نهينا عن القتال؟ فقالوا : نعم . فتركه ولم يصل عليه ( ).
الخامس : خسارة كفار قريش لمعركة أحد وفق الحسابات العسكرية وعدم تحقق الغايات التي جاءوا من إجلها لقوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
السادس : إنسحاب جيش المشركين مع كثرته من ميدان المعركة بمرأى من المسلمين ليبدل الله عز وجل رؤية المسلمين للموت وما فيه من أسباب الفزع، بقوله تعالى[فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( )، برؤية الكفار وهم يعجلون بالإنسحاب.
وأراد أبو سفيان أن يغطي على هزيمة الكفار فنادى : اعل هبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قولوا: الله أعلى وأجل.
فقالوا: الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، يوم لنا ويوم علينا، ويوم نُساء ويوم نُسر، حنظلة بحنظلة، وفلان بفلان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون.
قال أبو سفيان: قد كانت في القوم مثلة وإن كانت لعن غير ملامنا، ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءنى ولا سرنى.
قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أأكلَت شيئا ؟ قالوا: لا.
قال: ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار.
قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمزة فصلى عليه وجئ برجل من الانصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه، فرفع الانصاري وترك حمزة.
وجئ بآخر فوضعه إلى جنب حمزة فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة.
حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة( ).
السابع : أراد أبو سفيان بقوله حنظلة بحنظلة قضية شخصية ، فقد قُتل ابنه حنظلة يوم بدر كافراً، أما حنظلة الذي قتل يوم أحد فهو غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر الراهب.
ويدل كلام أبي سفيان بالدلالة التضمنية على عدم تحقيق الكفار نصراً في معركة أحد ،لأن الثأر لم يتحقق إلا بالقضية الشخصية ، ولم ينهزم جيش المسلمين ، ولم تبطل همتهم وقد أظهروا الشوق إلى لقاء الله بإتخاذ الشهادة سلماً.
وكان حنظلة غسيل الملائكة قد خرج للجهاد حالما سمع النداء صباح يوم أحد ليلة عرسه وهو جنب فحملت إمرأته من ليلتها( ) ووالد العروس هو رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول ، وفيه بلحاظ هدى العروسين بيان بأن جيل الأبناء إختاروا الإيمان والفداء في سبيل الله ،وفيه إنقطاع للكفر والنفاق .
ومن البيان والحجة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن حنظلة الشهيد هذا والده أبو عامر الراهب.
وكان أبو عامر قد خرج إلى مكة جفاء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرج معه خمسون غلاماً مع الأوس، وقيل: خمسة عشر)( )، وكان يساعد قريش في تأهبها لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ويعدهم بأنه لو لقى قومه من الأوس لم يختلف عليه منهم رجلان، فكان أول من لقى جيش المسلمين ومعه الأحابيش وعبدان مكة.
وجاء مع كفار قريش محارباً، ونادى وسط المعركة: يا معشر الأوس أنا أبو عامر ، وظن أنهم سينحازون إليه ويتركون نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فردوا عليه فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق ) ، إذ سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفاسق بدل الراهب لبيان سوء فعله وذمه لمحاربته الإسلام لتنفر منه النفوس ، ومنع الإفتتان به.
فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدى شر ! ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم أرضخهم بالحجارة)( )، واضطر أبو عامر إلى إعتزال القتال ، وغادر إلى هرقل حيث مات عنده.
الثامن : حينما قال أبو سفيان حنظلة بحنظلة ، رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن قتلانا في الجنة أي أنهم أحياء عند الله يرزقون بخلاف بؤس وشقاوة قتلى الكفار، وقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مسمع من الجيشين: وقتلاكم في النار يعذبون( )،وفيها شاهد على التباين بين الطرفين ، وإيذاء لأبي سفيان بابنه حنظلة ، وأنه لا يستطيع أن ينجيه من العذاب الأليم لأنه حارب الله ورسوله .
وفي هذا الجدال والإحتجاج بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأبي سفيان عند نهاية معركة أحد مسائل :
الأولى : بيان السكينة التي يتصف بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الرد على أبي سفيان الذي أعدّ الكلام وتهيئ له ، أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان يسمع ويرد بالحجة والبرهان ، وهو شاهد على موضوعية الوحي في كلامه، لبيان قانون كلي وهو أن البليغ وسيد القوم مهما يعد من الكلام فان الوحي يأتي إبتداءً لينسخه ويبين تخلفه عن الوحي وكلام النبي موضوعاً وحكماً وحجة وبلاغة.
الثانية : تباهي أبي سفيان بالأوثان في ساحة المعركة خزي للكفار ، ودليل تأريخي دائم على أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وحاجة للناس .
الثالثة : رد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سفيان : الله مولانا ولا مولى لكم] مناسبة لزيادة إيمان المسلمين وتثبيت قلوب المجاهدين في ساحة المعركة ، واليقين بأنهم على حق.
الرابعة : لا أصل لقول أبي سفيان (يوم بيوم بدر) إذ أن المسلمين إنتصروا في معركة بدر إنتصاراً ساحقاً بفضل الله ، وإنتصروا أيضاً يوم أحد مع الخسائر في الأرواح، أما الكفار فانهم خسروا كل المعارك ، لقد إعترف أبو سفيان والمشركون بأن المسلمين أمة أفرادها قادرون على الجهاد ويتحلون بالصبر ، ويدفعون العدو عن حوزتهم .
الخامسة : كان هذا الجدال والإحتجاج مناسبة ليدرك جنود وأعوان كفار قريش أنهم على ضلالة بالإنقياد للظالمين ، وفيه دعوة لهم للإسلام ، فلقد كان نداء أبي سفيان خزي للكافرين وفضح لظلمهم وإصرارهم على التعدي.
السادسة : مع إصابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجراحات بليغة وكسر الرباعية من أسنانه وسيلان الدم من وجهه الشريف فانه أجاب على مغالطة أبي سفيان بالحجة والبرهان.
ومن الإعجاز في مادة(تمنى) في الآية وصيغة الفعل الماضي فيها(ولقد كنتم تمنون) أن المسلمين ليسوا ممن يسمون في هذا الزمان إنتحاريين وما فيه من الإضرار بالأبرياء والذين لم يحاربوا الإسلام ويغزوا أرضه لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه إنما تمنوا الموت دفاعاً عن الإسلام، وتقدير الآية: ولقد تمنون الموت إن هجمت جيوش الكفر عليكم بغية قتلكم ومحو معالم التوحيد، قال تعالى[ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ]( ).
إن القدر المتيقن من تمني الموت هو الرغبة بالشهادة في صد الكفار كما حصل يوم أحد إذ كان هذا التمني ذا نفع عظيم مع قلة عدد جيش الإسلام فهو بنسبة الربع من جيش الكفار ليكون هذا التمني تداركاً ذاتياً من إنخزال رأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول بثلاثمائة من جيش المسلمين وسط الطريق إلى أحد، فسمع حاجة المسلمين للرجال والسلاح إنسحب هؤلاء الثلاثمائة من أخوانهم بأسلحتهم ووراحلهم، وليس من دليل أو قرينة على أنهم أعادوا أسلحتهم للمؤمنين.
وخرج رسول الله صلى الله عليه آله وسلم إلى أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتح إن يصبروا. فرجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فأعيوه وقالوا له: ما نعلم قتالاً، ولئن أطعتنا لترجعن معنا)( ).
فقد كانوا يحرضون المؤمنين على الرجوع معهم، فكيف يعطونهم أسلحتهم ومن خصائص المنافقين المكر وإرادة الشماتة بالمؤمنين.
وهل لقبح أخلاق المنافقين وإعتزالهم القتال وإمتناعهم عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبثهم الأراجيف في المدينة من موضوعية وأثر في تمني طائفة من المؤمنين الموت عند لقاء العدو الجواب نعم لما فيه من الثبات على الإيمان والتحدي .
ويمكن تسمية هذه الآية الكريمة آية (وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن) ولم يرد لفظ(تمنون) في القرآن إلا في هذه الآية.
وهل يمكن تسمية الآية (تمنون الموت) بلحاظ ما فيها من بيان لموضوع التمني الجواب لا، لأنه يدل على إستمرار تمني المسلمين الموت مع الإطلاق من غير تقييده بالسبب والعلة الطارئة، وهو خلاف المضمون القدسي للآية لأنها ذكرت هذا التمني بصيغة تفيد الإنقضاء وفناء الموضوع بفضل ولطف من عند الله عز وجل ومن القواعد الأصولية: إذا تغير الموضوع تبدل الحكم.
تأسيس قانون الآية ثناء
ويمكن تأسيس باب في التفسير إسمه ( الآية ثناء ].
و تجلي الثناء في منطوق الآية كما في آية البحث [وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] وتقدير الآية : ولقد كنتم أيها المؤمنون تمنون الموت بلقاء الكفار والشهادة في سبيل الله .
إحتج الله عز وجل في القرآن على فريق من أهل الكتاب بقوله تعالى [قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ] ( ) مع مائز وهو أن الآية أعلاه تريد منهم تمني الموت مجرداً بذاته ليكون طريقاً لدخول الجنة والتعجيل به ، أما آية البحث فقد تضمنت الثناء على المسلمين من وجوه:
الأول : تمني المسلمين الموت .
الثاني :إرادة الشهادة والقتل في سبيل الله بسيوف الكفار .
الثالث : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم بأن الشهادة طريق الخلود في النعيم
الرابع : إفادة آية البحث البشارة للمسلمين بالثواب العظيم وهل ، و تفيد الآية أموراً :
الأول : مناجاة المسلمين لخوض غمار الحرب مع المشركين وأهل الباطل .
الثاني : تمني المسلمين الشهادة في ميدان المعركة .
الثالث : حدوث القتال الفعلي بين المسلمين والكفار ، كما في معركة أحد التي هي موضوع هذه الآية .
الرابع : نجاة المسلمين من القتل بلحاظ مخاطبتهم بالآية وتذكيرهم بامتلاء نفوسهم بالشوق إلى الجنة.
الخامس : فوز المسلمين الأحياء بثواب الشهادة وإن لم يقتلوا في المعركة ، وعن أبي الدرداء ، (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجمع الله في جوف رجل غباراً في سبيل الله ودخان جهنم ، ومن اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله سائر جسده على النار ، ومن صام يوماً في سبيل الله ختم له بخاتم الشهداء ، تأتي يوم القيامة لونها مثل لون الزعفران ، وريحها مثل المسك ، يعرفه بها الأولون والآخرون يقولون : فلان عليه طابع الشهداء . ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ( ).
وقد يقال ليس في تمني المسلمين الموت ثناء عليهم للنهي عن هذا التمني الوارد في حديث أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي( ).
الجواب ليس من تعارض بين ثناء الآية على المسلمين في تمنيهم الموت وبين النهي الوارد في الحديث أعلاه من جهات من وجوه:
الأول : تضمن الحديث اعلاه تقييد تمني الموت أنه بسبب ضر نزل بالمسلم .
الثاني : إرادة آية البحث من تمني الموت هو القتل في سبيل الله .
الثالث : يبين الحديث الشريف أعلاه أن الموت غاية في هذا التمني ، بينما يكون في الشهادة بلغة وطريقاً للخلود في النعيم .
الرابع : تدل خاتمة الحديث أعلاه على أنه في طول الآية القرآنية، وبيان لها لإتخاذ الدعاء جلباباً في تفويض المسلم أمره إلى الله عز وجل باطالة العمر أو الموت وما فيه من النفع .
الخامس : ذكرت الآية موضوع التمني والمقصود السبب والغاية الحميدة منه.
يمكن تأسيس قانون تضمن كل آية ثناء على المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وهذا الثناء على وجوه :
الأول : منطوق الآية .
الثاني : الدلالة التضمنية للآية وإشارتها لصفة حسن عند المسلمين ، كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
وعن الأمام محمد الباقر عليه السلام قال : أن أصحاب محمد قالوا : نخاف علينا النفاق، قال: فقال: ولم تخافون ذلك ؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأننا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الاولاد ورأينا العيال والاهل يكاد أن نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك، حتى كأنا لم نكن على شئ، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا ؟
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه واله: كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، والله لو تدوموا على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقا حتى يذنبوا ثم يستغفروا الله فيغفر لهم، إن المؤمن مفتن تواب، أما سمعت قول الله عز وجل: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ” وقال: استغفروا ربكم ثم توبوا إليه( ).
الرابع : بيان حال حسن سمت المسلمين، لإفادة الثناء عليهم، قال تعالى [وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع :الجمع بين كل آيتين أو أكثر من آيات القرآن ليكون هذا الثناء من اللامتناهي .
الخامس : بعث المسلمين على فعل مخصوص.
السادس : كل أمر ونهي في القرآن سلاح بيد المسلمين وشعلة ضياء يقودهم في الصراط المستقيم في الدنيا، ويكون حاضراً عند العبور على صراط الآخرة.
السابع : الآيات التي تذم الكفار والمنافقين عون ومدد للمسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعوة الناس للهداية والإيمان[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الثامن : بيان أهوال الآخرة، والتضاد والتنافي بين ثواب الذين آمنوا وعذاب الذين كفروا.
الآية سلاح
لقد تضمنت الآية الإخبار عن تمني المسلمين الموت ونيل الشهادة رزقاً كريماً في الدفاع عن الإسلام ومحاربة الكفار.
وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب الكفار، وكأن هذا الإخبار إنذار للكفار من الموت على الضلالة، إذ لا يستطيعون هزيمة المؤمنين الذين يقاتلون وهم لا يخشون خسارة شئ بل يحسبون تقديم النفوس هو المنية والبلغة التي توصلهم إلى المطلوب وهو دخول الجنة.
وإنذار الكفار في هذه الآية من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وفيه مسائل :
الأولى : دعوة الكفار للتوبة والإنابة.
الثانية : تحذير الكفار من الموت على الكفر، وما فيه من سوء العاقبة، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
الثالثة : تحدي الكفار وأنهم لايستطيعون قهر المؤمنين حتى مع الإستعداد الكافي لقوم إشتروا الموت في الدفاع، وفيه إخبار لأجيال المسلمين والناس جميعاً، فلا يأتي أحد يوماً ويقول أن مشركي قريش وحلفاءهم حضروا المعركة من غير إستعداد أو أنهم لم يبذلوا الوسع في القتال، أو أنهم لم يكونوا من أهل القتال والمسايفة بل إنهم إختاروا المواجهة وأظهروا الشجاعة وبذلوا أقصى الجهد، ولكن المؤمنين تمنوا الموت في سبيل الله، ونزل الملائكة لنصرتهم، كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، يحكي عن الله تعالى : « من تقرب مني شبرا ، تقربت منه ذراعا « يريد به : من تقرب مني شبرا بالطاعة ووسائل الخير ، تقربت منه ذراعا بالرأفة والرحمة] ( ).
ومن وجوه التحدي وإزدراء الكفار إخبار القرآن عن حال تمني المسلمين الموت في لقائهم.
لقد تضمنت آية البحث مسألة عقائدية بأن المسلمين رأوا الموت فواجهوا الكفار في سوح المعارك، ليكون هذا التمني مادة للثبات، ومقدمة للمناجاة بينهم في الإنقضاض على العدو الذي أصر على التعدي المقرون بالضلالة والإصرار والجحود ، وليكون من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )إختيار الشهادة والرغبة الصادقة فيها لتصبح زاجراً للكفار عن التعدي لتنعم أجيال المسلمين بسلاح تمني طائفة من الصحابة الموت عند شدة الحرج وملاقاه العدو الكافر .
الآية لطف
تبين الآية حقيقة وهي قوة شكيمة المسلمين وثبات عزائمهم وأن نفوسهم ليست ضعيفة، وليس من وعيد أشد على الفرد والجماعة من إطلالة عدو غاشم عليهم، وصيرورته في أطراف المدينة جاء للبطش بهم.
ولا دليل على تضمن الآية ذماَ للمسلمين سواء على نحو العموم الإستغراقي أو بخصوص الذين تمنوا الموت قبل معركة أحد ثم رأوا الموت في المعركة.
إنما الآية لطف خاص وعام، أما الخاص فالآية توثق بسالة المؤمنين وصدق إيمانهم باعلان التضحية بالنفس مع أن المعركة السابقة وهي معركة بدر كانت نصراً ساحقاً للمسلمين، وهزيمة منكرة للكفار .
ولم تكن هذه النتيجة هي العلة التامة لشوق المؤمنين للشهادة والقتل في سبيل الله، فالذي يقطع ويتأكد من النصر لا يتمنى الشهادة، إنما يتمنى لقاء العدو والهجوم عليه ، مما يدل على أن الكفار لم يتعظوا ولم تنكسر شوكتهم بعد معركة بدر وأن الأخبار تأتي من مكة بتحشيدهم الجيوش، ومنعهم البكاء على قتلاهم لما فيه من الإنشغال والكدورة والكآبة، لقد أعطوا الأولوية لمصالحهم التجارية وشأنهم بين القبائل .
فاراد المؤمنون بالشوق إلى الشهادة تجديد البكاء وسماع النائحة في دور الكافرين وإبطال سحرهم وتأديب أعوانهم.
وهل فيه دعوة للإسلام، الجواب نعم، فمع بدايات إنبساط الدنيا للمؤمنين ودخول الخيل والإبل والأموال إلى المدينة غنائم وفداء من قريش عقب واقعة بدر فانهم تمنوا الموت والشهادة ،وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق رسالته بانجذاب النفوس لها، ورؤية المؤمنين لنعيم الجنان بعين البصيرة.
إفاضات الآية
من معاني آية البحث بلحاظ خاتمة الآية السابقة [وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( )، جعل صبر المسلمين طريقاً لدخولهم الجنة.
وتحتمل الصلة بين الصبر وتمني الموت الذي افتتحت به هذه الآية وجوهاً:
الأول : نسبة التساوي وأن تمني القتل في سبيل الله هو الصبر المقصود في خاتمة الآية السابقة، وأن الله عز وجل أراد العلم بتمني المسلمين الموت كما أراد بيان علمه بصبرهم أي تجلي مصاديق هذا الصبر بالمبرز الخارجي.
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الثالث : نسبة العموم المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى : الصبر فرع تمني الموت، فمع هذا التمني يستطيع المسلم تحمل الأذى في جنب الله.
الثانية : يتفرع تمني الموت عن الصبر والتلبس به.
الرابع : نسبة التضاد وأن تمني الموت مخالف للصبر لأنه رجاء لزهوق الروح وعدم مواجهة الوقائع والأحداث.
والصحيح هو الشعبة الثانية من الوجه الثالث أعلاه من وجوه:
الأول : لم تختص الآية السابقة بذكر الصبر وحده وصيرورته سبيلاً لدخول الجنة.
الثاني : المراد من تمني الموت في الآية طلب الشهادة والقتال في سبيل الله وإن تسبب بالقتل والشهادة، وهو أسمى معاني الصبر.
الثالث : يتحلى المسلمون بالصبر بأدائهم العبادات والفرائض، ولم يصدر هذا التمني إلا عن مقامات الإيمان.
ومن إفاضات آية البحث أنها تنفي نية الطمع وطلب الغنيمة في قتال المسلمين ، وتؤكد بأن غايتهم من القتال هو الدفاع عن كلمة التوحيد وحب لقاء الله عز وجل وقد صدّقوا رسوله وجاهدوا في سبيله ، فمن سعى للغنيمة والسباء لا يتمنى الموت للتباين بين التمتع بالغنائم وبين مغادرة الدنيا .
لتبين الآية قانوناً وهو أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أخرجت حب الدنيا وعلائقها من نفوس المسلمين ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ :رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ] ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالإخبار عن أمر وكيفية تملأ نفوس المؤمنين من الصحابة وأهل البيت وهي شوقهم للقاء العدو، وحصلت هذه الحال بعد معركة بدر وتحقيق المسلمين النصر الحاسم على الكفار فيها بفضل الله ودخول عشرات الأسرى من رؤساء الشرك إلى المدينة من غير تكبيل لأيديهم بالقيود أو سوقهم مجتمعين بالسلاسل ، بل تركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الصحابة، ومنهم من أدخلهم إلى بيته .
وهو أمر لم يحدث في تأريخ الحروب بأن ترك الأسرى في المدينة يختلطون مع أهلها وقيام القائد بإدخالهم إلى بيته وفي أول ساعات الأسر فربما طالت أيديهم بعض الأسلحة أو الآلات الحادة في البيت وثأروا لقتلاهم وإختاروا الخروج من الدنيا بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مما يدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتوالي المعجزات التي تبهر الأسرى وتجعلهم يدركون خطأهم بمحاربة الإسلام.
لذا دخل أكثرهم الإسلام طوعاً ، وهو السبب الأظهر والأهم في إنقطاع الرق في الإسلام بأن يأسر المسلمون الذي يحاربهم فيستعبدونه في العمل والسلطنة مع الرأفة والإحسان فيرى معالم صدق النبوة وحسن سمت المسلمين ، وسلامة إختيار الإيمان فيعلن إسلامه ليتطلع إلى العتق والحرية.
وجاء القرآن والسنة بالترغيب بالعتق ، وقد جعل الله عز وجل عتق الرقبة المؤمنة مقابل إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم بالتخيير بينها في كفارة نقض اليمين ولا يدخل فيه اليمين الكذب وشهادة الزور ، لذا سمي هذا اليمين بالغموس أي تغمس صاحبها في النار ، قال تعالى [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] ( ).
وقد جاءت السنة النبوية بنصوص وأخبار كثيرة تبعث على العتق وتحببه إلى النفوس وتجعل الناس يثنون على الذي يعتق العبد المتحد أو العبيد المتعددين ، وأخرج عن عليّ عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أعتق نسمة مسلمة أو مؤمنة وقى الله بكل عضو منها عضواً منه من النار] ( ).
إن دخول سبعين أسيراً من الكفار إلى المدينة في يوم واحد هو يوم بدر من أسباب تسميته [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] وكان لأكثر هؤلاء الكفار جاه بين القبائل ، وشهرتهم وشأنهم وصل إلى المدينة قبل أن يدخلوها أسرى ليكون أسرهم معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتحتمل هذه المعجزة بلحاظ الزمان والمكان وجوهاً :
الأول : تجلي معاني المعجزة عند المجاهدين يوم بدر ، ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين هذه المعجزة بلحاظ شدة شوكة العدو ، فلما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة بدر [ولقيه الناس يهنئونه بالروحاء بفتح الله، فلقيه وجوه الخزرج، فقال سلمة بن سلامة بن وقش: ما الذي تهنئوننا به؟ فو الله ما قتلنا إلا عجائز صلعاً( ). فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وقال: يا ابن أخي، أولئك الملأ، لو رأيتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرته، وبئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم! فقال سلمة: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، إنك يا رسول الله لم تزل عني معرضاً منذ كنا بالروحاء في بدأتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: أما ما قلت للأعرابي وقعت على ناقتك فهي حبلى منك، ففحشت وقلت ما لا علم لك به! وأما ما قلت في القوم، فإنك عمدت إلى نعمةٍ من نعم الله تزهدها. فاعتذر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم معذرته، فكان من علية أصحابه] ( ).
الثاني : حال العز والرفعة التي ملأت نفوس المسلمين وأهليهم عامة في المدينة ، ومبادرة القاعدين والذين لم يخرجوا للقتال إلى الإعتذار وإظهار الندم على عدم المشاركة في القتال ، وعلى الحرمان من الغنائم ، ومن الآيات في معركة بدر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك للذين أسروا المشركين أخذ البدل والعوض ولكنه أكد على عدم التفريط أو التخفيف عنهم ،ليكون ندم الذين لم يخرجوا للقتال متجدداً.
فلم ينحصر الأمر بتوزيع الغنائم الذي إنقضى في ساعة واحدة ، إذ قسّم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النفل على أهل بدر بالتساوي في الطريق وقبل الدخول إلى المدينة ،فدخلوها كل بسهمه وحصته ، ثم توافد الرجال والوسطاء من قريش إلى المدينة وهو يحملون الأموال بدلاً وعوضاً لفك الأسرى ممن أسرهم .
وكانت المدينة المنورة تعيش ضائقة مالية إذ أنها إمتلأت بالمهاجرين مع قلة فرص العمل ، فجاءت الغنائم لتبعث الأمل بحياة كريمة وتنشط السوق والتجارة والعقود والبيع والشراء فيها ،وهذا من أسباب رغبة المؤمنين بلقاء العدو ، وقوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] ( ).
الثالث : التفات يهود المدينة إلى حقيقة وهي صيرورة الإسلام دولة ذات جيش يرد كيد الأعداء وينتصر عليهم وإن كانوا أضعافه في العدد والقوة ، خاصة وأن اليهود كانوا على صلات تجارية وشخصية مع الأنصار إلى جانب الولاء ، كما كان رؤساؤهم على صلة مع كبار كفار قريش ،وفيه مسائل :
الأولى : بعث الهيبة في نفوس اليهود من المسلمين وتفانيهم في الذب عن الإسلام والدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن .
الثانية : إدراك اليهود لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : دعوة أهل الكتاب لإجتناب إعانة المشركين في محاربة الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ذهب أبو عامر الراهب والذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفاسق إلى هرقل بعد فتح مكة ، وليس من دليل على أنه أعانه بجيش أو مال [فمات كافرا عند هرقل وكان معه هناك كنانة بن عبد ياليل وعلقمة بن علاثة فاختصما في ميراثه إلى هرقل فدفعه إلى كنانة بن عبد ياليل وقال لعلقمة هما من أهل المدر وأنت من أهل الوبر.
وكانت وفاة أبي عامر الراهب عند هرقل في سنة تسع وقيل في سنة عشرة من الهجرة] ( ).
الرابعة : حث أهل الكتاب على التدبر في وجوه الإلتقاء بين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين .
الخامسة : زجر الكفار عن التعدي على الإسلام لرؤية أهل الكتاب يجتنبون التعدي على المسلمين، خاصة وأن قريشاً كانوا يلجأون إلى اليهود والنصارى بسؤالهم عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم أتباع أنبياء.
السادسة : دعوة الناس جميعاً للتدبر في آيات الإحتجاج الواردة في القرآن التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،قال تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ]( ).
وقيل بدلالة أهل الآية أعلاه على أن [الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجادلهم بالسيف حتى يؤمنوا ، أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون].
ويرد هذا القول من وجوه :
الأول : الظلم المذكور في الآية أعلاه أعم في موضوعه فيشمل جهات:
الأولى : الظلم للنفس ،قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الثانية : تحريف الكتاب.
الثالثة : الإعراض عن آيات النبوة .
الثاني : التباين بين الجدال وإشهار السيف ،وإن كان إستعمال لفظ الجدال هنا إستعارة في المقام عن القتال .
الثالث : لا دليل على إنحصار المواجهة بالسيف والقتال مع الذين ظلموا من أهل الكتاب .
الرابع : بين الذين ظلموا من أهل الكتاب والذين يحاربون الإسلام منهم عموم وخصوص مطلق ، فالظلم أعم وقد يكون حصر تفسير الظلم بالذين يحاربون الإسلام نوع تفريط .
الخامس : تقييد وإستثناء الذين ظلموا من خصوص الجدال بالأحسن ، وهناك سعة ومندوحة بين الجدال بالحسن وبين المجادلة بالسيف ،منها :
الأول : الإعراض عن الذين ظلموا ، قال تعالى [وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا] ( ).
الثاني : جدال الذين ظلموا بالحسن وترك الأحسن الذي هو اسم تفضيل .
الثالث : الجدال مع الغلظة والشدة .
الرابع : ترغيب الذين ظلموا من أهل الكتاب بالإسلام.
الخامس : إتخاذ العفو والإحسان مع أهل الكتاب بلغة ودعوة للإسلام، قال تعالى [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ]( ).
السادس : وردت آية الجدال هذه خطاباً للمسلمين [وَلاَ تُجَادِلُوا] ووردت آية بصيغة الإفراد وإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) , والحاق المسلمين به، لإرادة التعدد المترشح عن التباين والإختلاف في الموضوع .
السادس : لا تنفي الآية جدال الذين ظلموا من أهل الكتاب إذ وردت الآية بصيغة نفي النفي الذي يفيد الإثبات .
فيجوز جدال الذين ظلموا بالأحسن أيضاً ، ولكن الآية وردت لإستثناء الذين ظلموا من تغشي صيغة الأحسن في جدال الذين ظلموا بمعنى أن جدال أهل الكتاب يكون على قسمين :
الأول : إرادة الكلي المتواطئ في جدال الأحسن لأهل الكتاب الذين لم يظلموا أنفسهم وغيرهم .
الثاني : إرادة الكلي المشكك في جدال الذين ظلموا من أهل الكتاب، فمرة يجادلهم المسلمون بالأحسن وتارة مع الشدة ، ومرة لا يتم جدالهم بل يعرض عنهم مع التحلي بمنهج الحق الذي عليه المسلمون.
السابع : ظاهر نظم الآيات لا يدل على السيف والقتال، فبعد الإستثناء ورد الأمر الإلهي باعلان الإيمان بالتنزيل مطلقاً [إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
الثامن : من مصاديق الظلم في المقام المغالطة وإتخاذ العناد رداً على الجدال بالأحسن فيتم جداله بالأحسن ، ثم يعرض عنه ويترك أو يغلظ عليه ونحوه .
وتبين الآية قانوناً وهو أن للمسلمين أمنية عامة يشتركون فيها وتتغشاهم جميعاً مما يدل على أنها صبغة عقائدية بلحاظ صيغة الخطاب في الآية وأنهم لا يتمنونها إلا لأنهم مسلمون .
وقبل الإسلام لم يكونوا يتمنون الموت وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ التبدل النوعي في حياة الناس وتقسيمهم إلى مؤمن وكافر.
وهل يتمنى الكفار الموت الجواب لا ،فهم يحبون الدنيا وزخرفها ، ولم يأت الإسلام ببغض الدنيا والدعوة إلى مغادرتها بالموت أو القتل فإخبار آية البحث عن تمني المؤمنين الموت لا يدل على أنه حكم ثابت في الشريعة الإسلامية بدليل خاتمة الآية التي تقول [فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] لتكون مراتبه على وجوه :
الأول :تمني الموت في حال السلم والحضر .
الثاني : تمني الشهادة عند ورود الأنباء عن تهيئ الكفار للهجوم على المدينة.
الثالث : مناجاة المؤمنين بالشهادة عند زحف الكفار للقتال.
الرابع : ملاقاة العدو في سوح المعارك.
وهل بقي ذات التمني أم غادر المسلمين بلحاظ أن معاني الموت وشدته غير تصوره ، لأن عالم التصور غير مواجهة الأمر الواقعي.
الجواب هو الأول من جهات:
الأولى : فرار فلول المشركين يوم بدر مع كثرتهم وتهيئهم للمعركة بدليل قدومهم من مكة إلى المدينة للحرب والقتال وعدم إنصاتهم في ساحة المعركة لصوت الموادعة وإجتناب القتال ، إذ كان عتبة بن ربيعة يطوف بينهم يدعوهم إلى السلم ولكنه سرعان ما برز إلى القتال هو وابنه الوليد بن عتبة ، وأخوه شيبة بن ربيعة ، فبرز لهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث .
وورد عن أبي ذر أنه نزل فيهم قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ] ( )، [وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : لما التقوا يوم بدر قال لهم عتبة بن ربيعة : لا تقتلوا هذا الرجل أي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه إن يكن صادقاً فأنتم أسعد الناس بصدقه ، وإن يكن كاذباً فأنتم أحق من حقن دمه . فقال أبو جهل بن هشام : لقد امتلأت رعباً.
فقال عتبة : ستعلم أينا الجبان المفسد لقومه . قال : فبرز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة ، فنادوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا : ابعث إلينا أكفاءنا نقاتلهم . فوثب غلمة من الأنصار من بني الخزرج ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجلسوا …قوموا يا بني هاشم . فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث فبرزوا لهم ، فقال عتبة : تكلموا نعرفكم أن تكونوا أكفاءنا قاتلناكم . قال حمزة : أنا حمزة بن عبد المطلب… أنا أسد الله وأسد رسوله . فقال عتبة : كفء كريم! فقال علي: أنا علي بن أبي طالب…
فقال : كفء كريم! فقال عبيدة . أنا عبيدة بن الحارث… فقال عتبة: كفء كريم! فأخذ حمزة شيبة بن ربيعة ، وأخذ علي بن أبي طالب عتبة بن ربيعة ، وأخذ عبيدة الوليد . فأما حمزة ، فأجاز على شيبة ، وأما علي فاختلفا ضربتين ، فأقام فأجاز على عتبة ، وأما عبيدة فأصيبت رجله . قال : فرجع هؤلاء وقتل هؤلاء ، فنادى أبو جهل وأصحابه : لنا العزى ولا عزى لكم ، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار . فأنزل الله { هذان خصمان اختصموا في ربهم…}] ( ).
الثانية : إستصحاب المسلمين لهزيمة الكفار في بدر للمعارك اللاحقة لوجود المقتضي وفقد المانع .
الثالثة : قرب زمان معركة بدر فلم تمر عليها ثلاثة عشر شهراً حتى كانت معركة أحد .
الرابعة : إستحضار المسلمين لحال الأسرى ودخولهم المدينة ومجئ رجالات قريش بالعوض والبدل والرغبة بتجديد هذه الحال .
الخامسة : لم يشارك عدد من شباب المسلمين في معركة بدر، وأدركوا فوات هذه النعمة والثواب فتمنوا قدوم المشركين للقتال ، ويكون تمني الموت من وجوه :
الأول : تمني الموت في حال السلم والدعة وعدم وجود سبب ظاهر لإنخرام العمر إلا أن يشاء الله .
الثاني : تمني الموت عند الضائقة والحرج وشدة الضرر والفضيحة المخزية ونحوها .
الثالث : تمني المريض الموت عند شدة الألم وتفاقم المرض سواء مع إدراك أنه لا سبيل للشفاء أو عدمه .
الرابع : تمني الموت إيثاراً وتضحية وفداء .
الخامس : تمني الموت لضيق الصدر وبغض الدنيا .
السادس : تمني الموت شوقاً للقاء الله عز وجل بعمل الصالحات .
السابع : تمني الشهادة في سبيل الله .
والصحيح هو الأخير لوجوه :
الأول : إنه شاهد الإيمان والتصديق بالعالم الآخر، قال تعالى[آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]( ).
الثاني : بذل النفس لإقامة حكم الله في الأرض .
الثالث : مجئ آيات القرآن بالثناء على الذين يجاهدون في سبيل الله وإن أدى هذا الجهاد إلى قتل الكفار لهم.
وأخرج ابن سعد عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت « أن أسعد بن زرارة أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة فقال : يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمداً؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإِنس كافة . فقالوا : نحن حرب لمن حارب وسلم لمن سالم . فقال أسعد بن زرارة : يا رسول الله اشترط عليَّ ، فقال : تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقيموا الصلاة ، وتؤتوا الزكاة ، والسمع والطاعة ، ولا تنازعوا الأمر أهله ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم . قالوا : نعم . قال قائل الأنصار : نعم هذا لك يا رسول الله فما لنا؟ قال : الجنة والنصر] ( ).
لتكون آية البحث فخراً للصحابة وشاهداً على صدق إيمانهم ، وأن الأنصار لم ينكصوا بل تقيدوا ببيعة العقبة وشرائطها وزادوا عليها من طرف ما يتحملونه فتسابقوا إلى الموت وأظهروا حب الشهادة ، فمع أنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الذب عنه في يثرب المدينة فقد خرجوا إلى بدر، وعندما طلب ثلاثة من كبار مشركي قريش المبارزة بادر ثلاثة من شباب الأنصار بالخروج إليهم لولا طلب المشركين أكفاء من المهاجرين .
ومع قلة كلمات آية البحث فقد ورد فيها واو الجماعة أربع مرات وضمير جمع المذكر (الميم ) مرتين ، فلم تأتي كلمة مستقلة لا تتضمن صيغة الخطاب للمسلمين إلا كلمة [الْمَوْتَ] لبيان حقيقة وهي أن المسلمين كانوا في معركة أحد وجهاً لوجه مع الموت ولكن الله حافظهم وناصرهم. ولم تقل الآية (تمنون موتكم) بل ورد لفظ(الموت) مجرداً لأنه يغزو كل نفس، ويدخل كل بيت من غير إستئذان ولا يقرع الباب، بل يدخل فجأة، ويدخل الزوار وذوو القربى وأهل الخصومة والحاجة إلى الدار ثم يغادرون بذاتهم، أما الموت فانه لا يغادر إلا ومعه عزيز لا يرجع أبدا إلى الدار شاءوا أم أبوا، وتمنى المسلمون الموت في سوح المعارك وليس في البيت وبين الأهل والأحبة، وهو جهد إضافي مترشح عن صدق الإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( )والتي تؤكد ولاية وحفظ ونصر الله للمسلمين جميعاً وفيها شاهد بأن المسلمين لم يخسروا معركة أحد وكونهم لم ينهزموا أمر أكيد ولا عبرة بالجولة والصولة ضمن المعركة إذ أنها كر وفر .
وليس من موضوعية لإظهار أبي سفيان سروره يوم أحد بقوله [يوم بيوم بدر، يوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسر، حنظلة بحنظلة، وفلان بفلان] ( )فليس من سرور للمشركين يوم أحد بل كان حزناً إضافياً لهم وشاهداً على عجزهم عن دحر جيش المسلمين وهو من منافع تمني المسلمين الموت للقاء المشركين .
فقول أبي سفيان رئيس جيش المشركين يوم أحد ( ويوم نسر ) وإرادة تحصيل سرورهم يوم أحد كذب وإفتراء من المشركين فقد كان يوم أحد يوم حزن شديد على مشركي قريش والجيش الذي قدم من مكة لذا فانهم أظهروا التلاوم فيما بينهم والندامة على خيبتهم ورجوعهم من غير أن يأسروا عدداً من الصحابة أو أن يدخلوا المدينة، ومن مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) أمور وشواهد :
الأول : كلام أبي سفيان أعلاه وفي حال إنسحاب على عجالة وكأنه إنهزام .
الثاني :ظهور حال التلاوم بين الكفار عند الإنسحاب لعدم تحقيق الغابة التي جاءوا من أجلها.
الثالث : خشية جيش الكفار من لحوق المسلمين بهم.
الرابع : إبطال مغالطة أبي سفيان وتفنيد قوله : [حنظلة بحنظلة، وفلان بفلان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون] ( ).
وفيه زيادة لحزن المشركين بأنهم خسروا الأموال وجهزوا الجيوش وأعدوا الأسلحة كي يقتل عدد منهم ويساقون إلى النار .
ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه وجوهاً:
الأول : وقوع القتلى من الفريقين ولا يصح الإستشهاد على النصر بالقتل من الطرف الآخر ، لأن كل طرف خسر عدداً من رجاله قتلى .
الثاني : المدار على عاقبة القتلى ، وفيه تذكير من النبي للمشركين بالآخرة وأنها دار حساب وجزاء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : بعث الندم في نفوس جيوش المشركين على مجيئهم لمحاربة النبوة والتنزيل ، فليس كل الآلاف الثلاثة الذين جاء بهم رؤوس الشرك من قريش أشداء على الإسلام ، ومصرين على الكفر .
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينقل هؤلاء الدعوة الإسلامية إلى أهليهم وتذكيرهم بالآخرة ، لذا فبعد كلام النبي هذا وإخباره عن حال الغبطة والسعادة التي عليها الصحابة الذين قتلوا في سبيل الله خاف أبو سفيان من إنقلاب جيش المشركين عليه ، فغيّر الحديث وإنتقل إلى مسالة المثلة بحمزة وغيره من المؤمنين خشية أن يوثر إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أفراد جيش المشركين من وجوه :
الأول : تأكيد عدم هزيمة المسلمين .
الثاني : دلالة موضوع الإحتجاج على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجاته في المعركة .
الثالث : عودة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإحاطتهم له وإستعدادهم للقتال والدفاع، وكل من عودتهم وإجتماعهم حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق آية البحث وتمني الصحابة الموت دفاعاً عن الإسلام.
لقد كان إحتجاج النبي تحدياً مستحدثاً لكفار قريش، وشهادة نبوبة بأن الخزي يلحقهم في الدنيا والآخرة، فيدرك الكافر أن النار عاقبة من قتل منهم في المعركة ،فذات العاقبة تنتظر الذين يبقون أحياءً منهم إذ أن الموت مدركهم على نحو القطع والحتم، ليكون من معاني[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، أن حالهم ودخولهم النار في الآخرة ماثلة في التصور الذهني أثناء رجوعهم في الطريق إلى مكة قبل الإختلاط بالناس والإنشغال بالمعاملات وهموم الحياة اليومية ،لتنقسم مصاديق قوله تعالى أعلاه بلحاظ الحال إلى وجوه:
الأول : خيبة الكفار عند إتخاذ قرار الإنقلاب والرجوع إلى مكة.
الثاني : من الخيبة الذل الذي لحق الكفار أمام النساء اللائي جاءوا بهن لشد العزائم.
الثالث : حال الطروقة والذهول التي صاحبت الكفار عند الرجوع.
الرابع : سقوط عدد من الكفار قتل يوم أحد.
الخامس : معرفة القبائل بحقيقة وهي سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد، بلحاظ أن هذه السلامة معجزة حسية، ودعوة للناس للإسلام.
السادس : تبكيث الكفار عند عودتهم إلى مكة من غير نصر يذكر.
الرابع : من دلالات الوحي في كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه نقل موضوع الإحتجاج إلى الآخرة وعالم الجزاء في رده على أبي سفيان .
ومن أسرار نفخ الروح من عند الله في آدم بقوله تعالى [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] ( ) أن الإنسان ينصت لأخبار عالم الآخرة ويتدبر فيها ، ولا عبر بالقليل النادر ، فتدل الآية أعلاه على نعم متعددة منها :
الأولى : النفخ في آدم من روح الله .
الثانية : عدم الواسطة بين خلق آدم وبين فضل الله عز وجل ، فلم يوكل الله سبحانه خلقه إلى الملائكة أو إلى المشيئة والكاف والنون من أمره بل تفضل ونفخ فيه من روحه ،وقد ينفرد الإنسان بنعمة النفخ هذه، وهو من مصاديق ومقدمات خلافته في الأرض .
الثالثة : حضور وشهادة الملائكة لخلق آدم وما فيه من إكرام الله له ، ليكون هذا الحضور مقدمة للإقرار بخلافته في الأرض ، وإستجابتهم للسجود له طاعة لله عز وجل.
الرابعة : أمر الله عز وجل للملائكة بالسجود لآدم قبل أن ينفخ فيه من روحه .
الخامسة : إقامة الحجة على إبليس عند إمتناعه عن السجود لآدم، وإدراك الملائكة لمعصية إبليس وإستحقاقه اللعن والطرد من رحمة الله [عن ابن زيد يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال « إن الله لما أراد أن يخلق آدم بعث ملكاً والأرض يومئذ وافرة فقال : اقبض لي منها قبضة آتني بها أخلق منها خلقاً قالت : فإني أعوذ بأسماء الله إن تقبض اليوم مني قبضة يخلق خلقاً يكون لجهنم منه نصيب ، فعرج الملك ولم يقبض منها شيئاً فقال له : مالك . . . ؟ قال : عاذت باسمائك أن أقبض منها خلقاً يكون لجهنم منه نصيب فلم أجد عليها مجازاً ، فبعث ملكاً آخر، فلما أتاها قالت له مثل ما قالت للأوّل ، ثم بعث الثالث فقالت له مثل ما قالت لهما، فعرج ولم يقبض منها شيئاً ، فقال له الرب تعالى مثل ما قال للذين قبله.
ثم دعا إبليس واسمه يومئذ في الملائكة حباب فقال له : اذهب فاقبض لي من الأرض قبضة ، فذهب حتى أتاها ، فقالت له مثل ما قالت للذين من قبله من الملائكة ، فقبض منها قبضة ، ولم يسمع لحرجها، فلما أتاها قال الله تعالى : ما أعاذت بأسمائي منك؟ قال : بلى . قال : فما كان من أسمائي ما يعيذها منك؟ قال : بلى . ولكن أمرتني فأطعتك فقال الله : لأخلقن منها خلقاً يسوء وجهك ، فألقى الله تلك القبضة في نهر من أنهار الجنة حتى صارت طيناً ، فكان أول طين ، ثم تركها حتى صارت حمأ مسنوناً منتن الريح ، ثم خلق منها آدم ، ثم تركه في الجنة أربعين سنة حتى صار صلصالاً كالفخار . يبس حتى كان كالفخار . ثم نفخ فيه الروح بعد ذلك ، وأوحى الله الى ملائكته : إذا نفخت فيه من الروح فقعوا له ساجدين،
وكان آدم مستلقياً في الجنة فجلس حين وجد مس الروح فعطس فقال الله له : أحمد ربك فقال : يرحمك ربك . فمن هنالك يقال : سبقت رحمته غضبه . وسجدت الملائكة إلا هو قام فقال { ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } ( )فاخبر الله أنه لا يستطيع أن يعلن على الله ما له يكيد على صاحبه فقال { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين] ( ).
ان قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أما قتلانا فاحياء يرزقون ) بعث للسكينة في قلوب الذين تمنوا الموت من المؤمنين بان هذا التمني لم يكن لغواً أو تفريطاً بل هو من الإيمان بحسن جزاء الذي يقتل في سبيل الله .
لقد رثى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهداء أحد وجميع شهداء الإسلام وإلى يوم القيامة بقوله أعلاه وليس من رثاء مثله لأنه يتضمن الثناء والوعد الكريم بلحاظ أنه شعبة من الوحي .
وتكرر لفظ قد مرتين في الآية مع قلة كلماتها، لدفع وهم، ولبيان أن كلاً من تمني الموت ورؤيته قد حدثا في الواقع، وفيه منع للتباين في التأويل والظن بأن هذا الموت الذي تمناه المؤمنون لم يحن أوانه بعد المسلمين بعض الخوف والفزع.
لتكون آية البحث من مصاديق الإطلاق الزماني في نعمة الله عز وجل على المسلمين في قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وتقدير الآية على وجوه:
الأول : لقد تمنيتم الموت فقد رأيتم الموت أي بعد هذا التمني للموت وقربه منكم فقد رأيتم ذات الموت وأنجاكم الله منه.
الثاني : فقد رأيتم الموت وأنتم أحياء فاشكروا الله.
الثالث : فقد رأيتم الموت قريباً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنكم فصرفه الله عز وجل.
ومن إعجاز الآية أنها إبتدأت بتمني المسلمين للموت وأختتمت بحال النظر والحسن والتبصر والأمن من المكر والكيد.
أسباب النزول
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الربيع وقتادة قالا : أن أناساً من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل ، فكانوا يتمنون أن يروا قتالاً فيقاتلوا، فسيق إليهم القتال حتى إذا كان بناحية المدينة يوم أحد؛ فأنزل الله {ولقد كنتم تمنون الموت…}.
وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : بلغني أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : لئن لقينا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لنفعلن ولنفعلن … فابتلوا بذلك، فلا والله ما كلهم صدق الله . فأنزل الله { ولقد كنتم تمنون الموت…}] ( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : التوثيق السماوي لحال المسلمين في بدايات الإسلام، وما تحملوه من أذى المشركين الذين لم يرضوا إلا باستئصالهم وتشريدهم وتفريق جمعهم المبارك ليكون من أسرار مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار إتحادهم وتآزرهم في صد هجوم الكفار الذين ينوون تشتيت جمعهم.
الثانية : لقد زحف الكفار بجيش عرمرم في معركة أحد يتألف من ثلاثة أضعاف جيشهم في معركة بدر والذي كان نحو ألف مقاتل للثأر لقتلاهم السبعين في معركة بدر، ليواجههم المسلمون بما هو أعظم وأشد من مسألة الثأر في بعث روح الحماسة في النفوس للقتال، وهو تمني الشهادة، والذي يتألف من أمور:
الأول : الرغبة النفسية في المطلوب.
الثاني : شدة وصعوبة المطلوب، فلم يتمن المسلمون مباهج الدنيا، ولا الإمارة والجاه والسلطنة، بل تمنوا أقسى شئ على الإنسان ،وهو الموت.
الثالث : من إعجاز الآية ذكر الموت دون الشهادة وما فيها من العذوبة وأسرار الإنجذاب القلبي والبدني إليها رضا المسلمين بمغادرة الدنيا وترك نضارتها وبهاءها وأسباب الأنس والإطمئنان إليها.
الرابع : لقد أدرك المسلمون أن لا شئ يصد هجوم الكفار وحبهم الإنتقام والبطش إلا بذل النفوس في سبيل الله، فزهدوا في الدنيا وأعلنوا بيع أنفسهم في طاعة الله، قال تعالى[َمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]( ).
الخامس : الخروج إلى ميادين المعارك لدلالة اللازم على الملزوم فما يتمناه المسلمون لا يحصل إلا في ميدان المعركة وسل السيوف.
وبين الموت والشهادة عموم وخصوص مطلق إذ أن الشهادة قسم من أقسام الموت وليس قسيماً له، ومن وجوه ذكر المعنى الأعم عدم خشية المؤمنين من لمعان البارقة قال كعب بن مالك في قصيدة:
الناس ألبٌ علينا فيك ليس لنا
إلا السّيوف وأطراف القنا وزر( ).
والخطاب في القصيدة مودة وتعضيد موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قالها حسان عندما أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين ولم يعط منها الأنصار.
وبخصوص مقدمات معركة بدر عن اسحق بن يسار وغيره من اهل العلم عن اشياخ من الانصار قال لما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحى فقالوا احزر لنا اصحاب محمد فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون ولكن امهلوني حتى انظر أللقوم كمين أو مدد قال فضرب في بطن الوادي حتى ابعد فلم ير شيئا فرجع إليهم
فقال ما رأيت شيئا ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ الا سيوفهم والله ما أرى ان يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم فإذا اصابوا منكم عدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم] ( ) لبيان أن العزم على التضحية والفداء ظاهر عند الأنصار يوم بدر وكناهم بنواضح يثرب أي الذين تظنون أنهم يعملون بالزراعة وسقي الخضروات ونحوها حضروا وهم يحملون لكم الموت .
والنواضح جمع ناضح وهو البعير الذي يُسقى عليه ،وعندما تخلف الأنصار عن قريش في موضع إستقبال معاوية بن سفيان عندما جاء إلى المدينة عاتبهم فشكوا الأثّرة وأن غيرهم إستحوذ على الجاه والمال والحكم [فقال معاوية : فأين أنتم عن النواضح أي تعريضاً بهم وتذكيراً بمهنة الزراعة فقال له قيس بن سعد: تركناها لقومك عامَ قتلنا حَنْظَلَةَ. فقال معاوية: واحدةٌ بواحدة والبادىء أظلم] ( )وقتل حنظلة بن أبي سفيان يوم بدر مشركاً وعًد من مشاهير قتلى المشركين في المعركة .
وحينما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وبعد بعثته ارسل حنظلة إلى أبيه أبي سفيان يخبره بإعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوته [بالإسنادعن ابن عباس قال : قال العباس : خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب ـ منهم أبو سفيان بن حرب فقدمت اليمن فكنت أصنع يوما طعاما و أنصرف بأبي سفيان و بالنفر و يصنع أبو سفيان يوما و يفعل مثل ذلك فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه : هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي و ترسل إلي غذاءك ؟ فقلت : نعم
فانصرفت أنا و النفر إلى بيته و أرسلت إلى الغذاء فلما تغدي القوم قاموا و احتبني فقال : هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله ؟ فقلت : أي بني أخي ؟ فقال أبو سفيان : إياي تكتم ؟ ! و أي بني أخيك ينبغي أن يقول هذا إلا رجل واحد ! قلت و أيهم على ذلك ؟ قال : هو محمد بن عبد الله فقلت : قد فعل ؟ قال : بلى قد فعل
و أخرج كتابا باسمه من ابنه حنظلة بن أبي سفيان فيه : أخبرك أن محمدا قام بالأبطح فقال : [ أنا رسول أدعوكم إلى الله عز و جل ] فقال العباس : قلت أجده يا أبا حنظلة صادقا
فقال : مهلا يا أبا الفضل فو الله ما أحب أن يقول مثل هذا إني لا أخشى أن يكون على ضير من هذا الحديث يا بني عبد المطلب إنه و الله ما برحت قريش تزعم أن لكم هنة هنة كل واحدة منهما غاية ! لنشدتك يا أبا الفضل هل سمعت ذلك ؟ قلت : نعم قد سمعت قال فهذه و الله شؤمتكم قلت : فلعلها يمنتنا
قال : فما كان بعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد الله بن حذافة بالخبر و هو مؤمن ففشا ذلك في مجالس اليمن] ( ).
الثالثة : بعث المسلمين على التفقه في المعارف الإلهية، وإستقراء المسائل والمنافع من إستعدادهم للتضحية والفداء في سبيل الله، وهذه المنافع على قسمين:
الأول : المنافع الدنيوية.
الثاني : المنافع الأخروية.
وتكون المنافع الدنيوية على وجوه:
الأول : ما يكسبه المؤمن من تمنيه الشهادة.
الثاني : إنتفاع الطائفة التي تتمنى الموت في سبيل الله.
الثالث : ما يترشح من النفع العظيم على المسلمين بتمني فريق منهم الشهادة.
الرابع : إصابة الكفار بالخوف والفزع، وبعثهم على الرجوع عن التعدي والهجوم على المسلمين.
الخامس : زجر الناس عن إتباع رؤساء الضلالة بخصوص الهجوم على المسلمين ومطلقاً، إذ أن تمني المسلمين الشهادة رسالة للناس بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنطباع المعجزات في أذهان المسلمين وتجليها في قولهم وعملهم.
السادس : دعوة رؤساء القبائل والدول إلى عدم مؤازرة الكفار، وإعارتهم السلاح وإقراضهم المال، وهو من معاني الإتعاظ وتذكير قريش بنعمة التجارة مع اليمن والشام بقوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، أي هناك ملازمة بين إستدامة تجارتهم وتصديقهم بنبوة محمد الذي يدل عليه قوله تعالى[فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] إذ تنحصر عبادتهم باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتيان الفرائض العبادية التي جاء بها.
وهل المراد من قوله تعالى[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] المعنى المتحد أو المتعدد أي رحلة واحدة في الشتاء إلى اليمن ومثلها في الصيف إلى الشام أم أنها رحلات وقوافل متعددة سواء في الشتاء أو الصيف.
الجواب هو الثاني، لأصالة الأعم في نعمة الله، وخروج تجار قريش على قوافل وجماعات متعددة، ومن مصاديق هذا التعدد قوله تعالى[وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا]( ).
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ويقوم قائماً ، وإن دحية الكلبي كان رجلاً تاجراً ، وكان قبل أن يسلم : قدم بتجارته إلى المدينة خرج الناس ينظرون إلى ما جاء به ويشترون منه ، فقدم ذات يوم ووافق الجمعة ، والناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وهو قائم يخطب ، فاستقبل أهل دحية العير حين دخل المدينة بالطبل واللهو، فذلك اللهو الذي ذكر الله ، فسمع الناس في المسجد أن دحية قد نزل بتجارة عند أحجار الزيت ، وهو مكان في سوق المدينة ، وسمعوا أصواتاً ، فخرج عامة الناس إلى دحية ينظرون إلى تجارته وإلى اللهو، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً ليس معه كبير عدة أحد، فبلغني والله أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات ، وبلغنا أن العدة التي بقيت في المسجد مع النبي صلى الله عليه وسلم عدة قليلة،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : لولا هؤلاء ، يعني الذين بقوا في المسجد؛ عند النبي صلى الله عليه وسلم : لقصدت إليهم الحجارة من السماء ( ).
الرابعة : دعوة أجيال المسلمين للشكر لله عز وجل من وجوه:
الأول : تضحية المسلمين الأوائل دفاعاً عن الإسلام والذي يدل بالدلالة التضمنية على شدة الهجوم عليهم وضراوة القتال مع الكفار.
الثاني : المندوحة والسعة التي عليها أجيال المسلمين اللاحقة في أداء الفرائض والعبادات، ومنها أداء فريضة الحج، بينما أصر الكفار على رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في صلح الحديبية في سنة ست للهجرة، ثم أذنوا له في العام التالي وفي شهر ذي القعدة بالعمرة وهي التي تسمى عمرة القضاء وقال ابن أسحاق: وخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم( المسلمون ممن كان صد معه في عمرته تلك وهي سنة سبع، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه وتحدثت قريش بينها أن محمدا في عسرة وجهد وشدة.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم، عن عبدالله بن عباس قال: صفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال: ” رحم الله امرءا أراهم اليوم من نفسه قوة، ثم استلم الركن، ثم خرج يهرول ويهرول أصحابه معه، حتى إذا واراه البيت منهم واستلم الركن اليماني مشى حتى يستلم الركن الاسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها.
فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها فمضت السنة بها( ).
الثالث : رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الذين تمنوا الموت سالمين من معركة أحد، ومع مصيبة المسلمين والمسلمات بفقد سبعين شهيداً فقد تلقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشكر لله عز وجل على نجاته من القوم الظالمين.
ليكون من خصائص خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، شكر اللاحق منهم على ما ناله السابق من فضل الله، وفيه نكتة وهي جني كل جيل من المسلمين ثمار هذا الفضل ونعمة تمني المسلمين الأوائل الموت ونجاتهم منه بفضل الله.
فليس كل من تمنى الموت يلاقيه في الحال، وقد يكون هذا التمني سبباً لطول العمر بلطف من عند الله عندما يكون بقصد القربة إلى الله والفناء في طاعته ويزيد الله من فضله، فقد أنعم الله عز وجل على المؤمنين بالسلامة من القتل وخروجهم من معركة أحد سالمين بدليل خاتمة آية البحث[فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ].
لتمر الأيام فيصبحون أمراء وقادة وزعماء في الأمصار، ومن لم يغادر المدينة قائداً وأميراً إلى غيرها، غادرها ليقيم في الكوفة والشام والبصرة وبلاد الري أي طهران واليمن وغيرها محاطاً بالإكرام من أهل المصر، مع الإنصات لما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من غايات آية البحث تذكير المؤمنين وهم في مقامات الرياسة والحكم بحال تمنيهم الموت عند زحف الكفار لقتالهم ويصير هذا التذكير مناسبة لتعاهد الزهد والتقوى، وعدم الإنقياد للذات الدنيا التي تتزاحم وتتدافع عند إقبال الجاه والمنصب والشأن.
فجاءت آية البحث واقية منها لأجيال المسلمين المتعاقبة، وهو من أسرار صيغة الخطاب الشاملة لجميع المسلمين إذ أنها تخاطب كل جيل من المسلمين ،لقد كنتم تمنون الموت، مع أن حال التمني خاص بطائفة من المؤمنين أيام التنزيل.
التفسير
قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ]
بينما يتمنى الناس المال والجاه ومباهج الدنيا ، وحياة الدعة والغبطة والراحة فان المسلمين يتمنون أموراً:
الأول : محاربة الكفر والضلالة .
الثاني : الخروج إلى ميادين القتال .
الثالث : الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام بالنفس والمال .
الرابع : خوض معارك الدفاع ضد الكفار .
الخامس : إتصال نزول آيات القرآن ،فقد أدركوا أن كل آية معجزة قائمة بذاتها وحاجة لهم وللناس جميعاً، فاعلنوا بذل النفوس لدفع الكفار عن منع نزولها.
فحينما زحف المشركون في بدر وأحد خرج المسلمون للقائهم مع قلة العدد والظهر ، ففي معركة بدر جاء المشركون ومعهم مائتا فرس يقودونها( ) بينما كان مع المسلمين فرسان فقط ليكون شاهداً على صدق تحقق النصر بفضل من عند الله ، ولا يستطيع أحد من الناس ينكر نسبة النصر له سبحانه [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ).
ومن إعجاز الآية أنها تبين قانوناً في نهج المسلمين وعدم جنوحهم إلى السيف والقتال مع ملائمته للحال فحينما إنهزم كفار قريش يوم بدر لم يلاحقهم المسلمون في البيداء ويقضوا عليهم ويقطعوا دابر الشرك والتعدي ، بل تركوهم ينهزمون وهذا الترك أمر وجودي تم بتوجيه من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو أراد أن يلحقوا بهم لأمرهم .
وكان مع المسلمين سبعون بعيراً ،يتبادلون الركوب عليها ، [قال ابن إسحاق: وكان معهم سبعون بعيرا يعتقبونها، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي ومرثد بن أبى مرثد يعتقبون بعيرا، وكان حمزة وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة [ موليا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتقبون بعيرا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، عن حماد بن سلمة، حدثنا عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبدالله بن مسعود، قال كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلي زميلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فكانت عقبة( ) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: نحن نمشي عنك.
فقال: ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الاجر منكما( ).
لقد كانت مناسبة للكفار للتوبة والإنابة ، ولكنهم عادوا زبر الحديد في معركة أحد ، ولو قتلوا وأسروا يوم بدر لما عادوا يوم أحد بثلاثة أضعاف جيشهم يوم بدر ، ولكن الله عز وجل يعلم أنه ناصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأنه ينزل الملائكة لإصابة الكفار بالفزع والخيبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) فينزل جنود السماء لنصرة الخليفة في الأرض.
ولم يرد أنهم إنسحبوا إنسحاباً منظماً بل إنهزموا فارين بدليل وقوع سبعين أسيراً منهم ومقتل سبعين أي فقد المشركين سدسهم بنحو ساعة من النهار من يوم الفرقان ، ولتتجلى معاني الرحمة العامة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورأفته بقريش خاصة فتركهم ينهزمون لتوثق الأجيال واقعة تدل على صدق نبوته من جهات :
الأولى : عدم إبتداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال .
الثانية : تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بأن لا يبدأوا القتال.
الثالثة : الأمر النبوي للمسلمين بأن لا يقاتلوا إلا أن يأذن لهم ،وفيه آية ، فقد يباغت العدو ميمنة أو ميسرة المسلمين ، ويبطأ عليه الإذن ، أو يأتي بعد فوات الأوان ووقوع الخسائر ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن لا يفعل المسلمون شيئاً إلا بالوحي الذي يأتيه ، وتلك نعمة لم تنلها أمة وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ولعل هناك قانوناً سماوياً وهو أن الملائكة لا تتنزل للنصرة إلا لمن تقيد بأوامر النبي التي يتلقاها منه شخصياً أو تلك التي تبقى في أمته فيعمل بها من غير تحريف أو تبديل مع التسليم بأن القتال عن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنتفاع أمثل من الوحي في ساعة الشدة وساحة الحرب.
فقد تفضل الله عز وجل بنزول الملائكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن فهم لا يتركونه في ميادين القتال ، فان قلت كان جبرئيل وحده هو الذي ينزل بالقرآن على النبي وليس جمع وعدد من الملائكة والجواب إن جبرئيل عنده القدرة على هلاك جيش المشركين حيث يأذن الله عز وجل بقتلهم أو شد وثاقهم وجعل المسلمين يسوقونهم أسرى .
ولكن الله جعل الدنيا دار إمتحان وإختبار وكما أنزل الله القرآن نجوماً وعلى نحو متتابع فانه تفضل وجعل نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متتابعاً وعلى مدى سنوات متوالية، وفيه مسائل :
الأولى : إقتباس المواعظ والعبر من تأريخ النبوة .
الثانية : بيان مراتب تبليغ الرسالة .
الثالثة : التجلي العملي لصيغ البشارة للمسلمين والإنذار للكافرين .
وجاء الإخبار عن تمني الموت بصيغ وهي:
الأول :العطف على الآية السابقة التي أختتمت بقوله تعالى [وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ].
الثاني : صيغة التأكيد التي تدل عليها اللام في [وَلَقَدْ].
الثالث : لغة التخفيف الذي يدل عليه الحرف [قَدْ] .
الرابع : إرادة الزمن الماضي لقوله تعالى [كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن] .
الخامس : صيغة الجمع في الخطاب [َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ].
وهل بقيت هذه الكيفية النفسانية بتمني الموت عند المسلمين عند لقاء العدو يوم أحد، فيه وجوه :
الأول : غياب هذه الكيفية عن المسلمين .
الثاني : إرادة السالبة الجزئية بترك فريق من المسلمين تمني الموت عندما لاقوا العدو .
كما في قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( )، والطائفتان هما بنو سلمة بن الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، ولم يكن هذا الهّم بالفشل عن جبن وإنكسار أو شك في الدين ، إنما كان رأفة بالمسلمين بسبب قلتهم في مقابل كثرة الكفار ومجيئهم للثأر والإنتقام ، من جهات :
الأولى : جاءت الآية بصيغة الخطاب العام المستغرق لكل المسلمين [وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] بينما أخبرت الآية أعلاه عن حصول الهم بالفشل عند فريق من المسلمين .
الثانية : لم يتحقق الفشل بالإنكسار ، عند الطائفتين من المسلمين ، نعم كان إنهزام شطر من المسلمين على نحو القضية الشخصية وإن كان متعدداً وليس بالقليل ، وسرعان ما عاد أغلبهم إلى ميدان المعركة خاصة عندما علموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي، وفي موضعه في ميدان المعركة يدفع الكفار ، وإلا فان الطائفتين كانتا الجناحين .
الثالثة : مجئ الآية أعلاه بالإخبار عن ولاية الله للطائفتين بقوله تعالى [وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا].
وفيه مسائل :
الأولى : الأولى عدم بروز الهم بالفشل إلى الواقع والمصداق الظاهر على الإعضاء والأركان .
الثانية : من مصاديق ولاية الله أن المشركين لم يروا أثراً لهذا الهم فقد يترتب على رؤيته بسالة الكفار وزيادة حماستهم في القتال .
الثالثة : لا يدل الهّم بالفشل على الضعف والوهن لوجوه :
الأول : ولاية الله للمؤمنين واقية من الوهن والضعف( ) .
الثاني : إنقطاع الذل والضعف عن المسلمين منذ يوم بدر، ويدل على هذا الإنقطاع قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثالث : من مصاديق تسمية يوم بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] أنه فرق بين أمور :
الأول : حال الضعف والقوة للمسلمين .
الثاني : حال التكبر والتجبر للكفار وصيرورتهم في حال بكاء على قتلاهم.
الثالث : بيان التضاد بين المسلمين بولاية الله لهم ، وبين الكفار ، قال تعالى [وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] ( ).
الرابع : إختتام الآية بالإخبار عن توكل عموم المؤمنين على الله عز وجل لقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( )فيدخل في صفة الإيمان الطائفتان من بني حارثة وبني سلمة ، [عن زيد بن ثابت . « أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى أحد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم فرقتين . فرقة تقول نقتلهم ، وفرقة تقول . لا . فأنزل الله { فما لكم في المنافقين فئتين . . . } الآية كلها . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنها طيبة ، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة] ( ).
الخامسة : من ولاية الله عز وجل للمؤمنين صرف الوهن والجبن ودفع نية الإنسحاب من المعركة عنهم ، ومنها تثبيتهم في مقامات الدفاع .
السادسة : لقد كان إنسحاب نحو ثلث جيش المسلمين في الطريق إلى أحد بسبب تحريض رؤوس النفاق سبباً لتثبيط العزائم ، وبعث الوهن في النفوس والرغبة في محاكاتهم بالرجوع فكانت آية البحث ومضامينها مانعاً من محاكاتهم، وزاجراً عن التخاذل والوهن لقوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] فان المؤمنين كانوا يشتاقون لمواجهة العدو بالسلاح الذي هو طريق ومقدمة للقاء الله عز وجل بدم الشهادة ، ليكون هذا اللقاء بياناً في الآخرة للملائكة حين إحتجوا على جعل الإنسان خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
إذ ترى الملائكة المؤمنين يبعثون من قبورهم بدمائهم وهو من الإعجاز في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم [زملوهم بثيابهم ودمائهم فانهم يبعثون يوم القيامة واوداجهم تشخب دماً] .
ومن كانت هذه حالته وفي سبيل الله فهل توقفه الملائكة للحساب الجواب لا .
لتكون آية البحث بشارة للمسلمين لأمر غيبي لم يكونوا يعلمون به، وهو على وجوه :
الأول : قيام رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول بحث الجيش على الإنسحاب وهو من أمراء الأنصار وكانوا يتهيئون لتنصيبه ملكاً عليهم لولا مجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى المدينة ، وصحيح أنه إنسحب مع ابن أبي سلول ثلاثمائة من جيش المسلمين إلا أن دعوته كانت أعم وأكثر من هؤلاء .
فيبدو أن المنافقين تآمروا مع الكفار عن سابق ترتيب ومخابرة أو بواعز الحسد وصبغة الكفر، فاراد رأس النفاق إنسحاب الخزرج والأنصار كلهم من المعركة، ولكنهم قابلوا دعوته بالإنكار، وإستهجنوا إستجابة الثلاثمائة له، وهذا الإستهجان من صيغ الإحتراز وملكة الثبات المترشحة عن تمني الموت، ويكون تقدير الآية على وجوه:
الأول : لقد كنتم تمنون الموت فقد رأيتم أنسحاب فريق منكم وأنتم تنظرون عدم ترتب الضرر على إنسحابهم.
الثاني : لقد كنتم تمنون الموت فقد رأيتم رأس النفاق يحرض على العودة إلى البيوت.
الثالث : ولقد كنتم تمنون الموت فاخلصتم في الدفاع.
الثاني : تعرض بعضهم بجيش المسلمين في خروجه للمعركة بصيغة التعدي على النبي كما في المنافق مربع بن قيظي [قال ابن اسحاق: ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى سلك في حرة بنى حارثة، فذب( ) فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف( ) فاستله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصاحب السيف: شم سيفك.
أي أغمده، فإنى أرى السيوف ستسل اليوم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاصحابه: من رجل يخرج بنا على القوم من كثب – أي من قريب – من طريق لا يمر بنا عليهم ؟ فقال أبو خيثمة أخو بنى حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله.
فنفذ به في حرة بنى حارثة وبين أموالهم، حتى سلك به في مال لمربع ابن قيظى، وكان رجلا منافقا ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله ومن معه من المسلمين قام يحثى في وجوههم التراب ويقول: إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل في حائطي.
قال ابن إسحاق: وقد ذكر لى أنه أخذ حفنة من التراب في يده ثم قال: والله لو أعلم أنى لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك.
فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقتلوه، فهذا الاعمى أعمى القلب أعمى البصر.
وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بنى عبد الاشهل قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضربه بالقوس في رأسه فشجه] ( ).
الثالث : ترك الرماة لمواضعهم والذين كانوا على الجبل كالساقة الذين يحفظون جيش المسلمين من ظهورهم .
الرابع : مباغتة المشركين للمسلمين من خلفهم بعد أن الحقوا الهزيمة بالمشركين مع كثرة عددهم وأسلحتهم ورواحلهم.
وتحتمل لغة الخطاب في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة جميع الصحابة لأصالة العموم وخصوص الواقعة وسبب النزول .
الثاني : المقصود جميع المسلمين إلى يوم القيامة .
الثالث : المقصود خصوص الذين ألحوا على النبي بالخروج لقتال الكفار يوم أحد .
الرابع : المراد المسلمون الذين فاتهم حضور معركة بدر ، فظاهر الخطاب هو عموم المسلمين والمراد منه خصوص الذين تمنوا لقاء المشركين وإن كان يؤدي إلى القتل في سبيل الله .
والصحيح هو الرابع وتدخل في طوله الوجوه الأخرى ليكون من منافع صيغة العموم في الخطاب وجوه :
الأول : حث المسلمين على إظهار النصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إعانة وتعضيد المسلمين للذين يتمنون الموت منهم .
الثالث : بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين بظاهر الخطاب بأن جميع المسلمين يتمنون الموت .
الرابع : التوثيق التأريخي لحال المسلمين في حب ملاقاة المنايا لتثبيت كلمة التوحيد في الأرض والدفاع عن النبوة والتنزيل ، لقد تفضل الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن كتاباً جامعاً للأحكام الشرعية ، وفيه برهان وغنى لهم وهو البلغة إلى الجنة.
ومن الآيات أن نزوله مفرق، وشطر منه بلحاظ سؤال الناس والوقائع والأحداث ، قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ] ( )إذ نزل القرآن في مدة ثلاث وعشرين سنة نجوماً، وقال الحسن [ذكر لنا أنه كان بين أوله وآخره ثماني عشرة سنة، أنزل عليه بمكة ثماني سنين قبل أن يهاجر، وبالمدينة عشر سنين]( ).
فاراد الله سبحانه للمسلمين الإتعاظ والإعتبار من آياته والحوادث التي صاحبت النبوة الشريفة وتضحية المسلمين الأوائل من أجل توالي التنزيل .
الخامس : الإخبار السماوي عن عجز المنافقين وحسرة الفاسقين عند رؤية إخلاص المؤمنين في الدفاع عن النبوة والتنزيل والذي يدل عليه تمني فريق منهم الشهادة بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجاته من القتل الذي سعى إليه المشركون ولحوق الذل والهوان بهم في آية لزجر الكفار عن التعدي على حدود الله.
ويحتمل تمني الموت وجوهاً :
الأول : تمني الموت مع الطمع بالدنيا وزينتها .
الثاني : تمني الموت لفوات مصلحة ونفع يرتجى .
الثالث : حدوث مصيبة ونزول بلاء ومجيء مفسدة يتمنى معها الإنسان الموت .
الرابع : تمني الموت في سبيل الله .
أما الأول أعلاه فيتعذر مصداقه الواقعي للتضاد بين تمني الموت وحب الدنيا ولقاعدة عدم إجتماع الضدين.
أما الثاني، فليس من فوات لمصلحة على المسلمين فهم شاكرون لله عز وجل على نعمة الإيمان وتجلي المعجزات بمصاحبة الخيرات للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما الثالث فقد جاء تمني المسلمين الموت بعد واقعة بدر حيث النصر الجلي للمسلمين.
وتمني المسلمين الموت من الوجه الرابع أعلاه [وعن الإمام علي عليه السلام قال: والله ما أبالي أقع على الموت أو يقع الموت عليّ] وإبتداء من معركة بدر وهي أول معارك الإسلام كان الإمام علي عليه السلام يدخل المعركة ويشارك بالقتال والمبارزة مشاركة مودع للدنيا وكأنه يريد ألا يرجع إليها، وكأنه يتمنى الموت بالفعل وليس بحدود الكيفية النفسانية، ليكون مرآة لآية البحث، وأسوة حسنة للصحابة في الجهاد والفتوحات.
لقد جعل الله عز وجل الموت أمراً وجودياً وأخبر سبحانه بأن الموت مخلوق وليس أمراً عدمياً ، قال سبحانه [خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] ( ).
وجعلت الآية أعلاه الموت بعرض واحد مع الحياة وقدمه في الآية عليها، لبيان نكتة وهي إتصاف ما بعد الموت وجوه:
الأول : تبدأ الحياة الحقيقية ما بعد الموت .
الثاني : حياة الآخرة مؤبدة ودائمية لذا أشارت إليها الآية ،قال سبحانه[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( ).
الثالث : جاءت الآية أعلاه تتمة لوصف بذم الدنيا، ويحذر منها بقوله تعالى [وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ]ومن الإعجاز في الآية أنها لم تنعت الدنيا بأنها [دَّار] كما وصفت الآخرة ، وورد لفظ [دَّارَ] في القرآن ستاً وعشرين مرة ، كلها بخصوص عالم الآخرة ، لدعوة المسلمين لإتخاذ الدنيا ذريعة ومزرعة للآخرة .
وقد جاءت كلمة دار بالإضافة ست مرات وتتصف بأمور :
الأول : صيغة الإنذار والوعيد .
الثاني : إرادة الذين كذبوا بالأنبياء وأصروا على الإقامة على المعاصي ، كما في قوم صالح وتكذيبهم لنبوته ونحرهم الناقة مع تجلي الإعجاز في خلقها وحليبها ، قال تعالى [فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ] ( ) والرجفة الزلزلة الشديدة فكانوا صرعى لا حراك بهم.
الثالث : بيان نزول البلاء بالكافرين الظالمين على نحو الخصوص فلا يمس الذين يسكنون قرب أخرى مجاورة أو بعيدة عنهم .
الرابع : إنذار الناس من مجاورة القوم الظالمين ، وهل مثل هذه المجاورة من الركون لهم ومصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( )الجواب لا ، فقد تكون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو لطلب الرزق والمعاش ، ولكن البلاء قد يعم .
ووردت الآية بلفظ الموت وأنه غاية، وهو زهوق الروح ومغادرتها الجسد ، وفي معناه في الآية وجوه:
الأول :إرادة تحقق الموت ولو على الفراش طمعاً من المؤمنين بدخول الجنة بعد مجئ النصوص المتعددة بالحاق المؤمن الذي يموت على فراشه بالشهيد ، [منها ما ورد عن أبي مالك الأشعري « سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من نصل في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد ، أو رفصه فرسه أو بعيره ، أو لدغته هامة ، أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد ، وإن له الجنة]( ) [وعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: “مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصدْقٍ ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإنْ مَاتَ على فِرَاشِهِ”.
وعن أنَسٍ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : ” مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقاً ، أُعْطِيِهَا ، وَلَوْ لَمْ تُصْبْهُ] ( ).
الثاني :المقصود التنزه عن حب الدنيا ، وإحتقار مباهجها والتخلص منها باللجوء إلى لقاء الله عز وجل.
الثالث : تمني المؤمنين الموت مع تفويض كيفيته إلى الله عز وجل .
وقد يكون من عمومات قوله تعالى[وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( )، عدم علم الإنسان بكيفية موته، حتى وإن علم مقدماته كالذي يصاب بمرض عضال لا شفاء منه وفق قاعدة السبب والمسبب، فانه قد يموت بأمر آخر غير ذات المرض ، الذي قد يمهله ولكنه يسافر في البلدان لتلقي العلاج ورجاء الشفاء فتكون منيته بهذا السفر .
الرابع : إرادة الشهادة والقتل في سبيل الله من الموت الذي يتمناه المؤمنون .
الخامس : المقصود إنتظار حلول الأجل من غير سعي إليه أو رغبة في تقديم أوانه، ولكن الآية تفيد تسليم المسلمين بأن الموت حق وأن الجنة حق والنارحق، وأنهم يتمنون حلول الأمر الحتمي بالموت للفوز بالجنة بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ).
السادس : لما أدرك المسلمون أن أوان موت الإنسان معلوم عند الله وأنه سبحانه بيده تعيين أوان الآجال تثبيتاً وتقديماً وتأخيراً ،قال تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( ) سألوه قرب الإنتقال إلى عالم الخلود حيث الغبطة والسعادة للمؤمنين، والنجاة من الفقر والفاقة، والأمن من المشركين وتعديهم.
وهل يخرج أوان الموت من عمومات الآية أعلاه بلحاظ قوله تعالى[وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( )، الجواب لا، لذا وردت الآية بصيغة الجمع وإرادة الأمة ليكون المعنى أعم من الموت فيشمل الدول وإتحاد أو تفرق الجماعات وشملها .
السابع: إرادة قتال الكفار، بذكر الأثر بحده الأعلى وإرادة الموضوع، والصحيح هو الرابع والسابع أعلاه وجاءت الآية بلفظ العام وهو الموت وإرادة الخاص وهو الشهادة ويدل عليه ذات آية البحث من وجوه:
الأول : صيغة الجمع في كل من:
الأول : لقاء المؤمنين الموت .
الثاني : رؤية المؤمنين الموت مجتمعين بينما الأصل في الموت أنه يأتي للإنسان على نحو فردي وخاص، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ ]( ).
الثالث : نظر ورؤية المؤمنين الموت وهم أحياء.
الرابع : بيان أسباب النزول لموضوع الآية وأن جماعة من المسلمين ممن فاتهم حضور معركة بدر تلهفوا للقاء العدو، وهذه اللهفة من جهات:
الأولى : عند خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة بدر وبقاء هؤلاء المؤمنين في المدينة ، فكان تمنيهم حضور القتال قبل أن تأتي بشارات معركة بدر.
الثانية : تمني الشهادة عند مجئ البشير بأخبار النصر في معركة بدر، وفي بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام في موضع المعركة ولم تصل أخبارها إلى المدينة إلى أن وصل البشيران اللذان بعثهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه، وفيه نكتة وهي ان المسلمين كانوا منقطعين عن أهليهم وليس من مكان يلوذون أو يلجأون إليه، ولا يدخرون مؤونة كافية فأخلصوا العزائم في القتال، وتفضل الله عز وجل وأنزل عليهم السكينة وجاءتهم الملائكة مدداً وعوناً، قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
وهل سبق وصول أخبار نشوب المعركة إلى المدينة المنورة قبل أخبار النصر ، الجواب لا ، لعدم التفكيك بينهما إذ أن المعركة إنتهت بيوم واحد وأقام النبي ثلاثة أيام ببدر ولكن بعد المسافة بين المدينة ومعركة بدر والتي تبلغ نحو مائة وستين كيلو متراً حال دون الأخبار ويبدو أن عدد المسافرين بين مكة والمدينة آنذاك قليل، فوقعت معركة بدر يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة ، ورحل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها ليلة الإثنين العشرين منه( ).
وحين وصل النبي منطقة الأثيل( ) بعث البشيرين .
لذا وصف الله عز وجل معركة بدر باليوم وأنه يوم التفريق بين الحق والباطل ،قال تعالى[يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
ومن الفرقان في المقام التفريق في أحوال أهل المدينة العقائدية والمعاشية بين ما قبل معركة بدر وما بعدها، ومنه التغيير في باب العقائد.
وكان في وصول البشيرين خزي للمنافقين، وفضح لأهل الشك والريب.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه تسمية يوم معركة بدر بيوم الفرقان حال اللقاء والمواجهة وقبل تحقق النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وفيه نكتة بلحاظ آية البحث وهي كفاية الوقوف بالصف وملاقاة العدو وعدم الفرار بتحقيق مصداق تمني الموت ،لذا قالت آية البحث[فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ) أي رأيتموه لما إلتقى الجمعان .
الثالثة : تمني لقاء العدو والشهادة في سبيل الله عند عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة بدر بالظفر والغلبة على الكفار إذ خرج عدد من المؤمنين ممن تخلف عن الخروج ليعتذر له ، وهو يقبل أعذارهم ، وكأنه يقول لهم سيعاود المشركون الكرة وستبلون بلاء حسناً في القتال .
لقد جاء القرآن بمدرسة الدعاء ليكون هبة الله عز وجل المصاحبة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تشهد بصدق نبوته على نحو متجدد توالي المصاديق وبراهين الإستجابة والنفع العظيم منه ، قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
ترى لماذا تمنى المؤمنون الموت ولم يتوجهوا إلى الدعاء لهزيمة الكفار وكفايتهم مؤونة القتال والقتل، أما الشهادة فيرزقونها بالدعاء أيضاً وملازمة سنن التقوى، والجواب من وجوه:
الأول : إتخذ المسلمون الدعاء صراطاً مستقيماً لجلب النصر والفوز في النشأتين ، وواظبوا على الصلاة وأدائها بشوق وإنتظام وتعاهد لأوقاتها وحرص على الجزء الواجب والمندوب فيه.
الثاني : من أسماء الصلاة الدعاء وهي بذاتها دعاء، وفي سورة الفاتحة ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(قسمت الحمد بيني وبين عبدي: فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: (بسم الله الرحمن الرحيم) قال الله عز وجل: بدأ عبدي باسمي حق علي أن اتمم له أموره، وأبارك له في أحواله. فإذا قال: (الحمد لله رب العالمين)
قال الله عز وجل: حمد لي عبدي، وعلم أن النعم التي له من عندي، والبلايا التي اندفعت عنه بتطولي، اشهدكم أني اضعف له نعم الدنيا إلى نعيم الاخرة، وأدفع عنه بلايا الآخرة، كما دفعت عنه بلايا
الدنيا، فإذا قال: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قال الله عز وجل: شهد لي بأني الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفرن من رحمتي حظه، ولأجزلن من عطائي نصيبه.
فإذا قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)( ) قال الله عز وجل: اشهدكم كما اعترف بأني أنا المالك ليوم الدين، لأسهلن يوم الحساب حسابه، ولأتقبلن حسناته، ولا تجاوزن عن سيئاته. فإذا قال العبد: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)( ) قال الله عز وجل: صدق عبدي إياي يعبد، لاثيبنه عن عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)( ) قال الله عز وجل بي استعان وإلى التجاء، اشهدكم
لاعيننه على أمره ولاغيثنه في شدايده، ولاخذن بيده يوم القيامة عند نوائبه. وإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) إلى آخرها، قال الله عز وجل: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، قد استجبت لعبدي، وأعطيته ما أمل، وآمنته مما منه وجل)( ).
الثالث : من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كما كان إمام أهل الإيمان في ميدان المعركة فإنه الإمام في الدعاء وسؤال النصر والظفر وكان إنقطاعه للدعاء ليلة معركة بدر موعظة لأجيال المسلمين، ومدرسة لإستنباط المسائل وإقتباس وجوه من المعرفة الإلهية.
لقد إفتتن المشركون حينما رأوا قلة عدد المسلمين وإنقطاعهم عن المدينة المنورة ومن تخلف فيها من المسلمين، فأصر بعض كبرائهم على القتال مثل أبي جهل الذي كان يوبخ من يرى أولوية إجتناب القتال مثل عتبة بن ربيعة.
لقد إستخفوا بالمسلمين وقالوا[غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، وفي الآية أعلاه بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : قد يظن المنافقون أن تمني طائفة من المؤمنين الشهادة من الغرور في الدين والمبالغة فيه ،وقذف أنفسهم في المهالك ،وما لا طاقة لهم به فقال الله تعالى [إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ] ( ).
الثاني : تمني المؤمنين الموت من حسن التوكل على الله.
ومن إعجاز الآية أعلاه إحتجاج الله عز وجل على المنافقين والمرجفين في ذات الآية التي تذكر إستهزائهم بالمؤمنين بالرد عليهم بأن الله كاف للمؤمنين لتوكلهم على الله.
وهل التوكل على الله قسيم للإيمان أم أنه قسم منه، الجواب هو الثاني، وهو من فضل الله والتخفيف في التكاليف ،ورضاه سبحانه بالقليل من العباد.
الثالث : في الآية توبيخ للكفار على إفترائهم ورميهم المتقين بالغرور.
الرابع : بيان إمتلاء قلوب الكفار بالغيظ لصدق إيمان المسلمين، وإجتهادهم في تقوى الله، قال تعالى في ذم وفضح الكفار[وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية (وقد تتمنون الموت) أو (ولقد تمنون الموت)، والجواب من وجوه :
الأول: إرادة تخصيص موضوع الآية بالزمان الماضي.
الثاني : الدلالة على تغير أحوال المسلمين وزوال علة التمني.
الثالث : تعاقب نصر المسلمين في المعارك.
الرابع : ترشح تمني المسلمين القتال عن إصرار الكفار على الهجوم على المدينة لتكون آية البحث إخباراً متقدماً زماناً ينبأ بتخلف الكفار عن مواصلة الهجوم على المسلمين ، وقد توالت الأخبار بعد معركة بدر بأن كفار قريش يعدون العدُة ويجهزون الجيوش للهجوم على المدينة المنورة والثأر لقتلاهم ببدر، وتدل إرادة الثأر على قصدهم قتل المسلمين والفتك بهم، وإشاعة الخراب وأسر الصحابة خصوصاً المهاجرين لأمور:
الأول : مواساة الذين أسروا من المشركين يوم بدر وعددهم سبعون.
الثاني : إرادة العنوان الإعتباري ومحو ما لحق قريش من الذل والهوان يوم بدر.
الثالث : الإنتقام من المهاجرين الذين لم يكتفوا بترك مكة والهجرة إلى المدينة، بل خرجوا لقتال قريش، خاصة وأن أغلب المهاجرين في سن الشباب، وبعضهم بقي أبوه أو أسرته في مكة.
الرابع : الحيلولة دون دخول الناس الإسلام، فإذا سمعت القبائل بأن المهاجرين والأنصار صاروا بين قتيل وأسير وشريد فأنهم يمتنعون ويمنعون أبناءهم عن الهجرة إلى المدينة، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، بأن قريشاً ومن والاها من الكفار لا يستطيعون صد الناس عن دخولهم الإسلام جماعات وأفواجاً.
الخامس : محاولة إعادة هيبة قريش، وشأن رجالاتها بين الناس.
السادس : الملازمة بين الإنتقام والشرك، فليس من واعز عقلي وشرعي يزجر الكافرين عن معاودة الهجوم.
السابع : جهالة الكفار بالمعجزات وما يترشح من الكرامة على الذين نصروا وتابعوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان كفار قريش يوم بدر على أقسام :
الأول : الذين سقطوا قتلى في المعركة وعددهم سبعون قتيلاً.
الثاني : وقوع الأسرى من الكفار بأيدي المسلمين.
الثالث : بقية جيش المشركين الذين لجؤوا إلى الفرار وإختاروا الهزيمة.
ومن رشحات تمني طائفة من المؤمنين الشهادة دعوتهم للخروج لقتال العدو في معركة أحد، فبعد أن رأى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا وأوّلها بوقوع القتال وقتل عدد من أصحابه توجه للمشاورة في الخروج إلى العدو أو البقاء في المدينة.
قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدْعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا ، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرّ مَقَامٍ وَإِنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا وَكَانَ رَأْيُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ ابن سَلُولَ مَعَ رَأْيِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَرَى رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ وَأَلّا يَخْرُجَ إلَيْهِمْ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَكْرَهُ الْخُرُوجَ فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِمّنْ أَكْرَمَ اللّهُ بِالشّهَادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَغَيْرِهِ مِمّنْ كَانَ فَاتَهُ بَدْرٌ يَا رَسُولَ اللّهِ اُخْرُجْ بِنَا إلَى أَعْدَائِنَا، لَا يَرَوْنَ أَنّا جَبُنّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا . فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابن سَلُولَ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ لَا تَخْرُجْ إلَيْهِمْ فو الله ما خرجنا إلى عدو قَطّ إلّا أَصَابَ مِنّا، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إلّا أَصَبْنَا مِنْهُ فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرّ مَحْبِسٍ وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمْ الرّجَالُ فِي وَجْهِهِمْ وَرَمَاهُمْ النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ كَمَا جَاءُوا.
فَلَمْ يَزَلْ النّاسُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الّذِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حُبّ لِقَاءِ الْقَوْمِ حَتّى دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَيْتَهُ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ حِينَ فَرَغَ مِنْ الصّلَاةِ.
وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَال لَهُ مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو ، أَحَدُ بَنِي النّجّارِ ، فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ثُمّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ نَدِمَ النّاسُ وَقَالُوا : اسْتَكْرَهْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ذَلِكَ.
فَلَمّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ اسْتَكْرَهْنَاك وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَنَا ، فَإِنْ شِئْت فَاقْعُدْ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ إذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتّى يُقَاتِلَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ ابن هِشَامٍ: وَاسْتِعْمَلُ ابن أُمّ مَكْتُومٍ عَلَى الصّلَاةِ بِالنّاسِ]( ) وفي الحديث مسائل:
الأولى : حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصلاة على المؤمن الميت مع الإنشغال بملاقاة العدو، ولم يوكل أو يختار أحداً من أهل بيته أو الصحابة للصلاة عليه.
الثانية : إستماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمتحمسين للقتال الذين تمنوا الموت كما تبين آية البحث ، ليتحقق مصداق خاتمتها [فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ].
الثالثة : عدم رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد لبس لأمته وهي الدرع المحكمة ، وإخباره عن سنة من سنن الأنبياء، ليدل بالدلالة التضمنية بأنه لم يلبس الدرع عن أمره بل لبسه بالوحي، وفيه زجر للمنافقين من الرجوع والإرتداد في الطريق إلى المعركة، ودعوة للمسلمين جميعاً إلى عدم الإنصات لقول رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول : (قَالَ :أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي) ( ).
وتلك آية في السنة النبوية وأثرها في تماسك المسلمين لتكون موضوعيتها في صرف الجبن والوهن عن المسلمين كما في قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( )وجوه :
الأول : من ولاية الله للمؤمنين لبس النبي لأمة الحرب وإخباره بأن من سنن الأنبياء عدم خلعها إلا بالخروج لقتال الكفار سواء وقع القتال فعلاً أو حصل الصلح أو لم يقع قتال، وفيه مسائل:
الأولى : تعيين حال من أحوال التهيئ للمعركة لا يمكن معه الترديد والتخبير، فاذا لبس النبي الدرع وحمل سيفه ،فلابد للمؤمنين من الخروج للجهاد.
الثانية : منع الإختلاف والخصومة بين المؤمنين، في الخروج أو عدمه.
الثالثة : زجر المنافقين عن الإرجاف وإثارة أسباب الفتنة بين المؤمنين وجعلهم ينقسمون إلى فريق مؤيد للخروج وفريق يمتنع عنه، قال تعالى[يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ]( ).
الثاني : تسليم المسلمين بأن لبس النبي لأمة القتال وتهيأه للخروج للقاء العدو تم يأمر من عند الله، وفيه منع للخلاف والخصومة.
الثالث : من ولاية الله عز وجل للمؤمنين لبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمة الحرب بالوحي وإخبار الملائكة.
الرابع : الملائكة الذين ينزلون بالإذن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بلبس بزة القتال هم الذين ينزلون لنصرته والمؤمنين، ليكون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ماينبغي لنبي إذ لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل) وعداً كريماً بالنصر والظفر.
الخامس : يبين الحديث شجاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم خشيته من جحافل وجيوش قريش.
السادس : تذكير المسلمين بأن قتالهم يتصف بأمور :
الأول : القتال مع شخص النبي وبأمره ونصرة له ودفاعاً عنه وهو جزء علة لتمني المسلمين الشهادة وسبب من أسباب المدد الملكوتي وموضوع لنزول الملائكة لنصرتهم، وكأن المؤمنين يعلمون أن الله عز وجل يحفظهم وينصرهم فتمنوا الموت للفوز بأجره وثوابه وتوثيقه كصفحة جهادية في الكتاب الباقي إلى يوم القيامة، وفي التنزيل[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( )، ليكون الحفظ بلحاظ آية البحث على وجوه:
الأول : حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شخصه الكريم، فان قلت قد أصاب الكفار وجهه الشريف بالحجر وسال الدم منه ولم ينقطع إلى بعد إنقضاء المعركة، عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَسْأَلُ عَمّا دُووِيَ بِهِ جُرْحُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ ” جُرِحَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِمَتْ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ تَغْسِلُ الدّمَ وَكَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنّ فَلَمّا رَأَتْ فَاطِمَةُ الدّمَ لَا يَزِيدُ إلّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا حَتّى إذَا صَارَتْ رَمَادًا أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدّمُ ” بِرَمَادِ الْحَصِيرِ الْمَعْمُولِ مِنْ الْبَرْدِيّ وَلَهُ فِعْلٌ قَوِيّ فِي حَبْسِ الدّمِ لِأَنّ فِيهِ تَجْفِيفًا قَوِيّا وَقِلّةَ لَذْعٍ فَإِنّ الْأَدْوِيَةَ الْقَوِيّةَ التّجْفِيفِ إذَا كَانَ فِيهَا لَذْعٌ أَنْفِ الرّاعِفِ قُطِعَ رُعَافُهُ ( ).
الثاني : حفظ المؤمنين الذين تمنوا الموت.
الثالث : تعاهد آيات القرآن، وإبطال سحر قريش وكيد المنافقين.
الرابع : حفظ ثغر الإسلام، ووجود عاصمة للمسلمين.
الخامس : حفظ مرتبة النصر للمسلمين، بلحاظ كبرى كلية في قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، بانبساط هذا النصر على معارك الإسلام اللاحقة بعد بدر، ويمكن إستقراء هذا القانون بدراسة وقائع معركة بدر وأحد والخندق وحنين وخصائص كل معركة والمسائل التي تؤكد نصر المؤمنين.
ليكون قوله تعالى أعلاه وعداً متجدداً بالنصر من معركة بدر وإلى يوم القيامة ،وهو من الإعجاز في تسمية معركة بدر (يوم الفرقان) بلحاظ أن النصر الذي جاء للمسلمين من عند الله باق ويتكرر ويتوالى إلى يوم القيامة وهو من الفوارق بينه وبين أي نصر آخر في التأريخ.
الثاني : مزاولة القتال بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : دخول المعركة بإمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : تبوء المسلمين لمواضعهم في ميدان المعركة بتوجيه وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : الدفاع عن النبي ومنع المشركين من الوصول إليه .
السادس : لقد إنشغل الكفار بعد معركة بدر بالبكاء على القتلى والأسى على ما لحق جيشهم من الإنكسار والهزيمة وأخذوا بعد معركة أحد بالتلاوم بينهم ، وما يدل عليه من الإقرار بعدم إحراز النصر والغايات الخبيثة التي جاءوا من أجلها فكانوا يقولون في طريق عودتهم من أحد:
[لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم! فهم مجمعون على الرجوع، ويقول قائلهم فيما بينهم: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، قبل أن يكون لهم وفرٌ والمتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل ] ( ).
الرابعة : يدل إستعمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابن أم مكتوم على الصلاة بالناس في المدينة على وجوه :
الأول : دعوة المعافي والسالم من العاهات للخروج للقتال وعدم القعود بلحاظ أن ابن أم مكتوم أعمى وهذه الدعوة من مصاديق قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
الثاني : تعيين موضوع النيابة وهو خصوص الصلاة وفي ميدان القتال صلاة وجهاد ، وفي المدينة صلاة وحدها .
الثالث : بيان المصداق العملي لتمني المؤمنين القتل في سبيل الله بمبادرتهم إلى الخروج للقتال ولم يبق إلا المعذور ،قال تعالى [لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ] ( ).
إنما جاءت صيغة الفعل الماضي في تمني الموت والشهادة للتذكير والإعتبار ، وهو مناسبة للتوجه بالشكر إلى الله عز وجل على أمور :
الأول :السلامة من القتل .
الثاني : تحقيق النصر والغلبة على الكفار، وهو علة وغاية في تمني المؤمنين الموت، ليكون من أعجاز القرآن إجتماع العلة والمعلول في ذات الموضوع سواء بلحاظ التباين الجهتي أو التساوي في ذات الجهات فالنصر على الكفار علة تمني المؤمنين الشهادة وهو معلول وغاية لهذا التمني.
الثالث : عودة المؤمنين من ساحة المعركة لإداء الصلاة والصيام .
الرابع : فوز المؤمنين بالأجر والثواب لأن تمني الموت مرآة لصدق إيمانهم .
الخامس : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل لإنتفاء مدة تمني الموت، وخروجهم سالمين من معركة أحد والخندق وغيرها.
السادس : حث المسلمين على التفقه في الدين، والعناية بآيات القرآن رسماً وحفظاً وتدبراً وتفسيراً وعملاً ، لذا قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر عدد من أسرى قريش ممن يعجز عن الفدية بتعليم صبيان أهل المدينة القراءة والكتابة ليتعلموا نسخ القرآن في المصاحف ، وكتابة السنة النبوية ، وليقترح باباً للأسرى للفكاك من الأسر وهو يعلم أنهم يرجعون إلى قريش وقد يخرجونهم مرة أخرى لقتاله والمؤمنين ، ولكنه كان رحيماً بالناس [وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: من لا يَرحم لا يُرحم]( ) حينما رآه الأقرع بن حابس يقبل الحسين عليه السلام، وقال حابس : إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم .
لقد أصبح المسلمون في حال من القوة والمنعة فجاءت آية البحث توثيقاً لتعدي الكفار وهجومهم المتكرر على المدينة ، ولبيان حقيقة وهي أن المسلمين تلقوا وعيد الكفار بالتحدي والعزم على الصبر فنزلت رحمة الله عز وجل برؤيتهم سالمين وهم ينظرون هزيمة وسحق الكفار .
وبخصوص سن وأعمار الطائفة الذين تمنوا الموت والشهادة من المسلمين وجوهاً:
الأول : هذا التمني خاص بسن الشباب لإتصافهم بالحماس والجرأة والإقدام.
الثاني : خصوص الذين دخلوا الإسلام حديثاً سواء من الأنصار أو المهاجرين، ومن أبناء القبائل الذين دخلوا الإسلام وأقاموا في المدينة.
أخرج ابن أبي حاتم عن بكر بن سواده قال : حمل رجل من العدوّ على المسلمين فقتل رجلاً ، ثم حمل فقتل آخر ، ثم حمل فقتل آخر ، ثم قال : أينفعني الإِسلام بعد هذا؟ قالوا : ما ندري ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : نعم . فضرب فرسه فدخل فيهم ، ثم حمل على أصحابه فقتل رجلاً ، ثم آخر ، ثم قتل . قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيه [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ]( ).
وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي « أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسكت حتى جاء رجل فأسلم ، فلم يلبث إلا قليلاً حتى قاتل فاستشهد ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا منهم من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)( ).
الثالث : إرادة جميع المؤمنين شوقاً إلى الجنة، ولأن الكفار جعلوهم بين أمرين:
الأول : السلة أي إستلال السيوف والقتال.
الثاني : الأسر والذل والإجهاز على الإسلام، عقيدة وتنزيلاً وفرائض، أيقن المسلمون بأنها حق وواجب، وبلغوا مرتبة إرتقاء في المعارف الإلهية بأن صاروا يميزون بين ما هو الواجب العيني المطلق كالصلاة، والواجب العيني المقيد كالحج لشرط الإستطاعة فيه، والمندوب كصلاة النافلة، وتفقهوا في الدين وأدركوا حرمة الخمر والزنا والربا، فاجتنبوها، لتنمو عندهم ملكة التقوى ويظهروا الثبات على الإيمان بمواجهة الكفار ولو ببذل النفوس.
الرابع : الطائفة التي تمنت الموت والشهادة من المسلمين هم المهاجرون على نحو التعيين لأن كفار قريش جاءوا لقتلهم أو أخذهم أسرى مقيدين، فاستحضر المهاجرون تعذيب قريش لهم قبل الهجرة ومحاولة إكراههم على ترك الإسلام بالإضافة إلى الأذى المتصل الذي يلاقيه الذين لازالوا في مكة الذين يشق أو يتعذر عليهم إتخاذ الهجرة طريقاً.
الخامس : إنتماء الذين تمنوا الموت إلى قبيلة وطائفة واحدة أو أكثر من المسلمين كما لو تناجوا بينهم على تمني الشهادة، كما ذكر القرآن خصوص طائفتين من المؤمنين في قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( )، وهم بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار.
السادس : تعدد إنتساب الذين تمنوا الموت من جهة الإنتماء القبلي، ومن المهاجرين والأنصار، وتباين أعمارهم.
والمختار هو الأخير وهو من أسرار الخطاب الإستغراقي العام للمسلمين في الآية الكريمة، فالذين تمنوا الشهادة طريقاً لدرء أسباب القهر والظلم عن المؤمنين في أجيالهم المتعاقبة، من عموم طوائف وقبائل المسلمين.
ويمكن إستقراء هذا المعنى من مفهوم الآية أعلاه إذ إنها قيدت إنتساب الذي همّوا بالفشل بينما لم تقيد آية البحث إنتساب وصفات الذين تمنوا الشهادة طواعية ،وهل يمكن أن يقال أن إبراهيم وإسماعيل رفعا قواعد البيت ليحج له الناس بقوله تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ]( ).
وأن الذين تمنوا الموت رفعوا قواعد الإسلام بصبرهم وجلدهم وتمنيهم الشهادة، الجواب لا موضوع لهذه المقارنة خصوصاً مع موضوعية النبوة في المقام ولزوم تنزيه مقامات الأنبياء باجتناب المقارنة معهم وإن ضحى المسلمون بأنفسهم، وقد جاهد إبراهيم عليه السلام بنفسه وأسرته، وجمع له الحطب لحرقه في النار لمواجهته طاغوت زمانه وليس مع إبراهيم إلا كلمة التوحيد والبرهان الحسي النافذ كالسهم إلى القلوب كما ورد إحتجاجه في التنزيل[َإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ]( )، ليجمع في هذا البرهان إبطال تجبر وربوبية نمروذ، والمنع من عبادة الأفلاك والأوثان من باب الأولوية القطعية لأن الشمس مقدمة عليها في قوة ضيائها وملئها الآفاق باشعاعها، فلا يستطيع أحد وإلى يوم القيامة أن يحول دون الملازمة بين طلوع الشمس وضياء النهار.
نعم إن تمني المؤمنين الشهادة من الدلائل على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين بأن تتصدى أمته ببذل النفوس لمقارعة الكافرين، وإزاحة الضلالة من الأرض.
وتبين الآية صفحة من علوم الغيب من جهات:
الأولى : علم الله عز وجل بما كان يتمناه المسلمون وسبر أغوار نفوسهم، والتمني طلب الشئ المحبوب، ورجاء بلوغ غاية تميل إليها النفس وهو على أقسام:
الأول : ما كان قريباً، وتحصيل ما هو حاصل إلا أن الإنسان يريد تحققه.
الثاني : التمني هو طلب المستحيل.
الثالث : إرادة أمر ممكن.
الرابع : من مصاديق ومعاني التمني تعلقه بالشرائط وتحققها أو صعوبته أو بعد نيله.
الثانية : حصر وتقييد أمنية المسلمين بالزمن الماضي، ترى ما هي الكيفية التي صار عليها المسلمون بعده، فيه وجوه:
الوجه الأول : بقاء ذات الأمنية، لأن إثبات شيء لشيء لايدل على نفيه عن غيره، فإخبار الآية بأن المسلمين كانوا يتمنون الموت والشهادة لا يعني إنقطاع هذه الأمنية، وهل يعمل أصل الإستصحاب في المقام لأن تمنيهم الموت أمر متيقن حصوله في الزمن الماضي وشككنا هل هو باق أم زال وإنمحى فنستصحب حال التمني، لأن اليقين لا يقطع ويترك بسبب الشك، الجواب إن هذا الأصل لايعمل في المقام لأمور:
الأول : القدر المتيقن من التمني التي تدل عليه آية البحث هو الزمن الماضي.
الثاني : أخبرت الآية عن رؤية ما كان يتمناه المسلمون، مما يدل على تحقق الأمنية.
الثالث : يتعلق سبب نزول الآية بمعركة أحد.
الوجه الثاني : مغادرة هذه الأمنية على نحو السالبة الجزئية، وبقاؤها عند شطر من الطائفة التي تمنت هذه الأمنية لأنها رشحة من رشحات الإيمان ومرتبة التقوى التي بلغها المسلمون.
الثالث : إزدياد عدد الذين تمنوا الشهادة من المسلمين بأن يتمناها عدد آخر من المؤمنين خاصة بعد أن نزلت آية البحث وما تدل عليه بالدلالة التضمنية على توثيق هذه الأمنية الكريمة.
الرابع : إنقطاع ونهاية أمنية الشهادة عند المسلمين لأنها بعد معركة أحد صارت سالبة بانتفاء الموضوع.
الخامس : تمني المسلمين الشهادة مشروع جاهز باجتماع شرائطه وأسبابه، والصحيح هو الخامس ولا تتعارض معه الوجوه الثلاثة:
الأولى : فمتى ما أظهر الكفار النية والقصد على التعدي على ثغر الإسلام والزحف للبطش بالمؤمنين فان طائفة منهم تتناجى بالشهادة والقتلى في سبيل الله.
ومن إعجاز الآية أنها ذكرت تمني الموت، وهو أمر حتم لابد أن يحضر عند كل إنسان، ومن بديع صنع الله في خلق الإنسان أمور:
الأول : لم يجعل الله حداً ثابتاً وعمراً مقدراً لجميع الناس بعرض واحد، فقد يغزو الموت الإنسان في شبابه وقد يتركه إلى الهرم ولكن الإنسان يعلم أن الموت لم ينساه أو يتجاوزه إلى غيره.
الثاني : تعلق أوان الموت باستيفاء الرزق والكسب.
وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تستبطئوا الرزق ؛ فإنه لا تموت نفس حتى تبلغ آخر رزقها ، فأجملوا في الطلب الحلال ، وإياكم والحرام( ).
الثالث : جهل وعدم علم الإنسان بأوان ومكان موته ومغادرته الدنيا ومع أن أوان الموت هو الأهم فقد ذكر القرآن المكان بقوله تعالى[وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( )، للتسالم بين الناس بأن أوان الموت أمر لا يعلمه إلا الله، ولا موضوعية في المقام لتعيين أوان الموت في الأيام أو الساعات الأخيرة للمريض لأنه لا يتحقق على نحو الدقة العقلية.
ومن أسرار هذه الأمور مجتمعة ومتفرقة بعث الإنسان على الإجتهاد في طاعة الله، والتحلي بلباس التقوى، والسعي في سبل الصلاح، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، حينما سألوا عن نيل الإنسان مرتبة الخلافة في الأرض مع أنه يفسد فيها ويسفك الدماء ومنها أيضاً مسائل:
الأولى : مغادرة الإنسان للأرض أمر حتم، فبينما يكون على سطحها يأتي يوم يكون جثة هامدة في باطنها.
الثانية : وقوف الإنسان بين يدي الله للحساب يوم القيامة.
الثالثة : جهل الإنسان بأوان مغادرته أرض الخلافة زاجر له عن الفساد وسفك الدماء.
الرابعة : مجئ الأنبياء ونزول الكتب السماوية التي تزجر عن الفساد وسفك الدماء.
وجاءت آية البحث لتخبر عن قانون وهو جهاد المؤمنين لتنزيه الأرض من الفساد حتى وإن قدموا أنفسهم قرابين في ملاقاة الكفار المفسدين، وفيها ثناء على المسلمين لأنهم يبذلون الوسع ويضحون بأنفسهم من أجل جعل كلمة الله هي العليا، ولم يتمن الموت عن علم إلا من أدرك أن ما بعده خير مما قبله.
وجاءت هذه الآية لتؤكد هذا العلم وأن تمني المسلمين الموت مرآة لتفقههم في الدين ومعرفتهم بعالم الجزاء، وما فيه من الثواب للمحسنين والعقاب لأهل المعاصي والفجور.
لقد أراد الله عز وجل توثيق صدق إيمان المسلمين وتفانيهم في مرضاته من وجوه:
الأول : علم المسلمين برجوعهم إلى الله عز وجل.
الثاني : تمني الموت حال عامة عند المسلمين، فلم يكن الذين يتمنون الموت وبذلهم دماءهم في سبيل الله، حال نادرة عند المسلمين أوانه ينحصر بقلة من الصحابة، فبينما جاءت الآية السابقة بالتبعيض في الجهاد بقوله تعالى[وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ]( )، وكفاية طائفة من المسلمين، لإرادة لغة التبعيض تؤكد أن المجاهدين هم الشطر الأقل من عموم المسلمين والمسلمات وهو من معاني الواجب الكفائي، فان آية البحث جاءت بصيغة العموم في الخطاب والوصف، من باب ذكر الكل وإرادة الجزء.
الثالث : إرتقاء المسلمين من بين أهل الملل بأن يروا الموت وهم في الحياة الدنيا بقوله تعالى[فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ] فمن خصائص الموت أنه زائر لا يغادر إلا بالمزور معه، خلافاً للنواميس بين الناس في باب الزيارة والضيافة فيصف الموت بأمور:
الأول : عدم معرفة الوقت الذي يأتي فيه، فكل أيام العمر دعاء لزيارته.
الثاني : لا يحتاج ملك الموت إلى إستئذان من أهل الدار.
الثالث : يزور الموت المعافي والسقيم، والكبير والصغير، والغني والفقير، والرجل والمرأة.
الرابع : حينما يحضر الموت لا يخرج إلا بصاحبه، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
وتحتمل موضوعية تمني الصحابة الموت وجوهاً:
الأول : الإنتفاع من هذا التمني قبل نشوب المعركة بالمناجاة بين المؤمنين بالصبر والجهاد.
وقيل الفرق بين التمني والرجاء أن التمني يصاحبه الكسل، وأن الرجاء تعلق القلب بأمر حسن ومحبوب يأمل وقوعه في المستقبل، وهو يبعث على العمل والأمل.
وعلى هذا المعنى ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذه الآية عتاب للمؤمنين الذين إنهزموا في معركة أحد خاصة عندما سمعوا باشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس. أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يقولون : ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد . أو ليت لنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ، ونبلى فيه خيراً ، ونلتمس الشهادة والجنة والحياة والرزق. فأشهدهم الله أحداً، فلم يلبثوا إلا من شاء منهم، فقال الله[وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ]( ).
والمختار أن الآية ثناء على المؤمنين، لقد أقترن خروج المسلمين إلى معركة أحد بالثناء عليهم من عند الله بقوله تعالى[تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ) وهذا الثناء من جهات:
الأولى : تبكير المسلمين بالحضور في المسجد النبوي وحواليه للخروج إلى القتال بعد صلاة الصبح [قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بورك لأمتي في بكورها]( ).
الثانية : شهادة الله عز وجل للمسلمين بالندب إلى القتال مع شدة بأس وكثرة جيش الكفار.
ومن الإعجاز في آية البحث أنه مع إرادة الكفار الثأر مما لحقهم يوم بدر وتحشيدهم الجيوش فان المسلمين تمنوا الموت والشهادة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ليكون من معاني تسمية معركة بدر(يوم الفرقان) عجز الكفار عن الثأر ورد هزيمتهم يومئذ بنصر في المعركة، ليكون من الإعجاز في هذه التسمية أمور:
الأول : التمييز بين المؤمنين والكفار، بنصر المؤمنين، وهزيمة الكفار.
الثاني : إستدامة المائز والفرق بين المؤمنين والكفار.
الثالث : عجز الكفار عن تحويل هزيمتهم إلى نصر، وإن تهيؤا وإستعدوا بالأسباب والمقدمات.
الثالثة : بعث السكينة في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن أهل بيته وأصحابه يقاتلون الكفار ولن يخذلوه في هذا اليوم العصيب.
فاذا خرج الأنصار يوم بدر للقتال بنافلة عن عهدهم للنبي في بيعة العقبة فانه لا يعني إستمرار هذه النافلة، ورضاهم بتكرار الخروج للقتال في كل مرة ، ومن طبيعة الإنسان أن يمل مع التكرار أو تنفر عزائمه خاصة إذا تعلق الأمر بالقتال ، فعندما قدم جيش الكفار في معركة بدر [قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أشيروا علي ، فقال المقداد بن عمرو عديد بني زهرة( ): إنا لا نقول لك كما قال أصحاب موسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي ، فلما رأى سعد بن معاذ كثرة استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه فيشيرون فيرجع إلى المشورة ظن سعد أنه يستنطق الأنصار شفقا ألا يستحوذوا معه – أو قال : ألا يستجلبوا معه – على ما يريد من أمره ، فقال سعد بن معاذ : لعلك يا رسول الله تخشى أن لا تكون الأنصار يريدون مواساتك ، ولا يرونها حقا عليهم ، إلا بأن يروا عدوا في بيوتهم وأولادهم ونسائهم . وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم يا رسول الله ، فأظعن حيث شئت ، وصل حبل من شئت ، واقطع حبل من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، وأعطنا ما شئت ، وما أخذته منا أحب إلينا مما تركت علينا ، وما ائتمرت من أمر فأمرنا لأمرك فيه تبع ، فوالله لو سرت حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن لسرنا معك . فلما قال ذلك سعد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سيروا على اسم الله عز وجل ، فإني قد أريت مصارع القوم « فعمد لبدر] ( ) فيكون على هذا المبنى تقدير لفظ [الْمُؤْمِنِينَ] في آية [وَإِذْ غَدَوْتَ] ( ) على وجوه :
الأول : وإذ غدوت من أهلك تبوء للمؤمنين بالله ورسوله .
الثاني : تبوء للمؤمنين بأن نصرك حق وصدق .
الثالث : تبوء للمؤمنين الصابرين .
الرابع : تبوء للمؤمنين الذين يتمنون الشهادة لقوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ]( ).
الخامس : تبوء للمؤمنين الذين لا يولون عند الزحف ، فان قلت قد فروا في معركة أحد والجواب لم يصدق عليهم الفرار لرجوعهم إلى القتال، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتنهم، قال تعالى [وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ]( ).
السادس : تقييد المسلمين بأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة، فقد يطبع الجنود قائدهم، ويتسابقون بتنفيذ أوامر القيادة، ويبالغون بإظهار الإنضباط والطاعة للقادة في حال السلم وعند التمرين ولكنهم في ساحة المعركة يظهرون عدم الإكتراث بالقادة ويتلقون الأوامر بحسب النفع الخاص أو لا أقل دفع الضرر المحتمل ويتذرعون بأن القائد لا يعيش المحنة وقساوة ما يلاقون في مقابلة العدو وإلتحام الصفين، ولكن المسلمين أظهروا الطاعة والإنقياد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين حدد لهم مواضعهم من القتال.
وتقدير الآية: وإذ غدوت من أهلك تبوئ للمؤمنين مقاعد للقتال فتبؤوها بمثل ما أمرتهم).
ويدل على هذا المعنى تسميتهم بالمؤمنين وإنفصال المنافقين ومن إستمع إلى تحريضهم على الرجوع وسط الطريق إلى معركة أحد، بعد أن قال عبد الله بن أبي سلول(مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَا هُنَا أَيّهَا النّاسُ)( ).
فرجع بثلث الجيش وهم نحو ثلاثمائة وأكثرهم من قومه من الأوس ليكون من منافع تمني المؤمنين الموت والشهادة إعراضهم عن كلام رأس النفاق أعلاه، وعدم إنصاتهم له، لذا رجع لهم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو والد جابر بن عبد الله وأخذ يحذرهم من الرجوع، وينهاهم عن القعود عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخذلان أصحابهم من الأنصار الذين خرجوا للقتال ولكنهم إعتذروا بالقول: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال فلما إستعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغنى الله عنكم نبيه)( ).
وهل في الذين إنسحبوا مع عبد الله بن أبي وسط الطريق من تخاطبهم هذه الآية بأنهم تمنوا الموت والشهادة، الجواب لا ،من جهات:
الأولى : الثناء على الذين حضروا معركة أحد بوصفهم بالآية أعلاه بالمؤمنين.
الثانية : تمني الشهادة واقية من النفاق والإنصات لرأس المنافقين.
الثالثة : تمني القتل في سبيل الله حرز وبرزخ دون الإنسحاب في الطريق إلى المعركة، خاصة وأنه بين هذا التمني وموضوع الملاقاة نوع تطابق فذات العدو الذي خبروه يوم بدر عاد ورجع مهاجماً يوم أحد.
الرابعة : إخبار آية البحث عن ملاقاة الذين تمنوا الموت له، ولا تتم هذه الملاقاة إلا في ساحة المعركة.
الخامسة : إخبار الآية عن تحقق المؤمنين من وقوع الموت، ونزوله بهم، وإنعدام أسباب دوام الحياة إلا بفضل من الله عز وجل والذين إنسحبوا في الطريق إلى المعركة لم يروا لمعان السيوف وجولة الفرسان.
ويمكن إستقراء مدلولات هذا التمني في الآيات المجاورة فمثلاً تبعث الآية السابقة على أمرين :
الأول : الجهاد والتضحية في سبيل الله .
الثاني : الصبر في مرضاة الله .
ويتجلى في تمني الشهادة والفداء الأمران مجتمعين ومتفرقين من وجوه:
الأول : تهيء المسلمين للخروج إلى معركة أحد بعد مجئ الأخبار بزحف كفار قريش بجيش عرمرم ويدل عليه ثناء الله على الذين خرجوا.
ولكن تمني المؤمنين الشهادة أمر محمود، ترى لماذا لم تقل الآية ولقد كنتم ترجون الموت.
الجواب يدل ظاهر الآية على أن التمني أدنى مرتبة من الرجاء، فالمسلمون يرجون النصر والأمن من القتل، في ذات الوقت، وإذا دار الأمر بين النصر والشهادة، وبين السكوت عن الكفار يعيثون في الأرض فساداً، فان الآية تدل على إختيار المؤمنين الشهادة، ويظهر أن المنافقين والفاسقين كانوا يخوفون المؤمنين من قريش وبطشها بعد معركة بدر، ويشيعون بأنها ستأتي لتنتقم لقتلاها وما لحقها من الخزي يوم بدر، وأنها تجمع القبائل وتحشد الأحابيش وتهيئ الأسلحة والرواحل للهجوم الكاسح على المدينة، لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ) .
فيكون تمني المسلمين الموت والشهادة من زيادة الإيمان بلحاظ أن هذا التمني تسليم بوجوب التوحيد، وعن ابن عباس قال: استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيراً واردة المدينة ببضاعة لهم ، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبال فقال : إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمداً ومن معه ، إن أنتم وجدتموه في طلبي أخبرتموه أني قد جمعت له جموعاً كثيرة ، فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعاً كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل . فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقيناً {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}( ) فأنزل الله[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا]( ).
ولا يتعارض هذا المعنى مع القول بأن الآية عتاب للمؤمنين، نعم لا يرقى العتاب إلى مرتبة اللوم والمؤاخذة بل هو تذكير وتأديب وهو من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أدبني ربي فأحسن تأديبي( ).
وهو من معاني الثناء على المسلمين وأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بلحاظ إقتباس خصال التقوى من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإتخاذ التوكل على الله منهجاً ونبراساً ،لقد تفضل الله عز وجل وذكر تمني المسلمين الأوائل الشهادة لتكون وثيقة جهادية تضئ دروب التقوى لأجيال المسلمين المتعاقبة.
ولما أخبرت الآية السابقة بتقييد دخول المسلمين الجنة[وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( )، تعقبتها هذه الآية بالإخبار بأن الثواب لا يترتب على الأماني وحدها وإن تعلقت بأفضل وجوه القربة إلى الله وهو الصبر وتحمل الأذى الشهادة والقتل في سبيله تعالى.
ويحتمل المراد من تمني الموت أموراً:
الأول : إرادة حلول الأجل والوفاة على فراش الموت، بلحاظ أن الإيمان بالله ورسوله صراط مستقيم للإقامة في النعيم الدائم.
الثاني : المقصود حصول الموت بأي كيفية وتفويض الأمر إلى الله عز وجل فبعد أن ذكر القرآن جنات الخلد وما فيها من النعيم المقيم ووردت خصائصه في السنة النبوية إشتاق لها المؤمنون.
الثالث : المقصود نشوب الحرب مع الكفار والمعاندين الذين إعتدوا يوم بدر ليكون تقدير الآية: ولقد كنتم تمنون الحرب والقتال (فقد رأيتموه).
الرابع : رجاء المؤمنين الفوز بالشهادة في سبيل الله.
الخامس : تمني المسلمين حدوث مناسبة للدفاع عن الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى وإن كان فيه القتل.
وباستثناء الوجه الأول والثاني فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة، إذ يدل قوله تعالى[مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ] بصيغة الجمع على أن المراد ليس القضايا الشخصية وموت المسلمين متفرقين، بل حدوث حال الحرب والقتال التي يكون فيها القتل والشهداء متعددين.
وهل تشمل صيغة خطاب الآية الإستغراقية لعموم المسلمين النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيه وجوه محتملة:
الأول : الأصل هو شمول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب العام في آيات القرآن إلا أن يدل دليل على الخلاف كما في خروجه من لفظ الخطاب في الآية التالية[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
الثاني : المقصود في الآية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويشمل الخطاب المسلمين بالتبعية والإلحاق.
الثالث : إرادة المسلمين وخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتخصص.
الرابع : المقصود في الخطاب طائفة من المسلمين، فلا يشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أغلب المسلمين وهم على وجوه:
الأول : الذين خرجوا إلى معركة بدر، ونالوا شرف القتال في أول معركة للإسلام وتلقوا نصرهم والبشارة به من عند الله عز وجل.
الثاني : المؤمنون الذين أكرمهم الله بحضور معركة أحد تحت ألوية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فاتهم حضور معركة بدر.
الثالث : المؤمنون الذين فازوا بخوض غمار القتال في معركة بدر وأحد.
الرابع : الذين تخلفوا عن الإشتراك في المعركتين وبقوا في المدينة أو كانوا خارجها.
وتبين أسباب النزول أن الآية تتعلق بالوجه الثاني أعلاه، وهذا صحيح إلا أنه لا يمنع من المعنى الأعم.
لقد حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مقتل زيد بن حارثة وجعفر الطيار، وعدد من الصحابة في معركة مؤتة حزناً شديداً، وكان يستحضر ذكرهم ويترحم عليهم، إلى أن أمر بإعادة الكرة للإنذار والإخبار بعد القعود عن الغزو لإنتزاع الحق والثأر للمؤمنين الذين قتلوا ظلماً، ومنهم رسول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بلاد الروم يدعوهم إلى الإسلام وهو الحارس بن عمير الأزدي قتله أمير بصري شرحبيل بن عمرو الغساني سأله أين تريد ؟ قال : الشام قال : فلعلك من رسل محمد ، قال : نعم ،فأمر به فأوثق رباطاً ثم قدمه فضرب عنقه (فلما كان يوم الاثنين لأربع ليالي بقين من صفر سنة إحدى عشرة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وأمرهم بالإنكماش في غزوهم. فتفرق المسلمون من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم مجدون في الجهاد، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغد، يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر، دعا أسامة بن زيد فقال: ” يا أسامة، سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك على هذا الجيش، فأغر صباحاً على أهل أبنى وحرق عليهم، وأسرع السير تسبق الأخبار، فإن أظفرك الله فأقلل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء، وقدم العيون أمامك والطلائع. فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، بدى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصدع وحم. فلما أصبح يوم الخميس لليلة بقيت من صفر عقد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده لواء، ثم قال: يا أسامة، اغز بسم الله في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله؛ اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا تمنوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم، ولكن قولوا: اللهم، اكفناهم، واكفف بأسهم عنا! فإن لقوكم قد أجلبوا وصيحوا، فعليكم بالسكينة والصمت، ولا تنازعوا ولا تفشلوا فتذهب ريحكم. وقولوا: اللهم، نحن عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تغلبهم أنت! واعلموا أن الجنة تحت البارقة)( ).
وتتجلى في الحديث قيود متعددة للقتال وللأعم منه بما يتضمن المنهاج التام للجيش في مسيره، وتقييد ذات القائد في عمله والمنع من دعوته من قبل الجنود وأفراد الجيش بما يفيد الإفراط أو التفريط، فأوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسامة وجيشه بأن لا يتمنوا لقاء العدو، وكأنهم خرجوا لبعث الفزع والرعب في نفوس الكافرين.
وهل الخروج من أجل بعث الخوف في قلوب الكفار من مصاديق قوله تعالى[جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( )، الجواب نعم، فهو جهاد وصبر ومن مصاديق كلاً من الجهاد والصبر المذكورين في الآية السابقة[وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( )، وهل هو من رؤية الحدث في قوله تعالى(فقد رأيتموه) الجواب لا دليل عليه لأن القدر المتيقن من رؤية الموت إلتمام الصفين وسل السيوف وسيلان الدماء وسقوط القتلى والجرحى.
لقد إجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء ليلة معركة بدر ويومها، ليكون من مصاديق قوله تعالى[يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( )، تثبيت موضوعية الدعاء في سوح القتال، وتأسيس لمدرسة القتال في أشد الأحوال وأشق الأمور وضروب الإبتلاء، لتأتي وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للجيش في آخر أيامه بحثهم على الدعاء بإجتناب لقاء العدو بكفاية الله، وتفضله بصرف الكفار عن المؤمنين.
ولم يرد مثل هذا الدعاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر، مما يدل على أنه لم يقترب أجله إلا وقد تبين رسوخ دين الإسلام، وإنتشاره من غير حاجة إلى القتال والحرب مع الروم أو غيرهم، من غير أن يترك ذكر قانون إتخاذ السيف وسيلة لدخول الجنة، وفيه حث للمؤمنين للتحلي بالصبر مع الإستعداد للجهاد والقتال عند الإضطرار والحاجة ومداهمة العدو وإصراره على القتال، قال تعالى[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم] ( ).
ومن مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] أن طائفة من المسلمين أشاروا بالخروج لقتال العدو في أحد عندما إقتربت الجيوش وصارت على مشارف المدينة، وهذه الطائفة لا تنحصر بالذين غابوا عن معركة بدر بل تشمل جماعة من الفرسان الذين قاتلوا يوم بدر ومنهم حمزة عم النبي، وعن أنس مرفوعاً قال: رأيت فيما يرى النائم كأنى مردف كبشا، وكأن ضبة سيفي انكسرت، فأولت أنى أقتل كبش القوم، وأولت كسر ضبة سيفي قتل رجل من عترتي، فقتل حمزة، وقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلحة، وكان صاحب اللواء( ).
وقتل حامل لواء المشركين من المواساة للمؤمنين، والشواهد على عودة كفار قريش خاسرين، ولهذا اللواء قصة من الخزي لهم، وأصحاب اللواء من بني عبد الدار وهم أنفسهم كانوا يحملونه يوم بدر، فلاذوا بالفرار فخاطبهم بصيغة الإنكار أبو سفيان يوم أحد يحرضهم على الثبات والقتال على الباطل: يا بنى عبد الدار قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه. فهموا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا ! ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع. وذلك الذى أراد أبو سفيان( ).
وكان حمل لواء المشركين يومئذ وهو علم الجيش على مراتب:
الأولى : حمله طلحة بن أبي طلحة فقتله الإمام علي عليه السلام ومن الدلائل على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف أن طلحة هذا هو الذي سأل المبارزة فبرز له الإمام علي عليه السلام فقتله( )، وهو كبش الكتيبة الذي ورد ذكره في رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : حمل اللواء أخوه عثمان بن أبي طلحة فقتله حمزة بن عبد المطلب.
الثالثة : حمل اللواء أخوهما أبو سعيد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم فسقط قتيلاً.
الرابعة : تناوب في حمل اللواء أربعة من أولاد طلحة بن أبي طلحة فقتلوا جميعاً، واحداً بعد الآخر.
الخامسة : بعد قتل بني عبد الدار ، رفع راية المشركين عبد لهم يسمى صوأب ، وكان حبشياً ضخم الجثة ، وخرجاً مغضباً وأقسم أن يقتل النبي محمداً فقتله الإمام علي عليه السلام .
وعندما رأى المشركون الملازمة بين القتل وحمل اللواء تجافوا عن حمله ولم يقتربوا منه، ولاذوا بالفرار لولا نزول رماة المسلمين من الجبل ومجئ المشركين لهم من الخلف.
السادسة : جاءت إحدى نساء المشركين فحملت اللواء فاجتمعوا حوله، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة بقتل هذه المرأة أو التعرض لها، وجاءت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان متنقبة يوم الفتح وبايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يسألها عن أمرها بقتل عمه حمزة وكانت وصوياتها بجد عن أنوف المسلمين وآذانهم ويبقرن بطونهم، ولاكت هند كبد حمزة، بينما سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحشياً عن كيفية قتله حمزة.
قال ابن أسحاق: وقتل مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ مِنْ أَصْحَابِ اللّوَاءِ : طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَاسم أَبِي طَلْحَةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، قَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ . قَالَ ابن هِشَامٍ : وَيُقَالُ قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ .
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَمُسَافِعُ بْنُ طَلْحَةَ ، وَالْجُلّاسُ بْنُ طَلْحَةَ ، قَتَلَهُمَا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ ، وَكِلَابُ بْنُ طَلْحَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ طَلْحَةَ قَتَلَهُمَا قُزْمَانُ ، حَلِيفٌ لِبَنِي ظَفَرٍ . قَالَ ابن هِشَامٍ : وَيُقَالُ قَتَلَ كِلَابًا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَأَرْطَاةُ بْنُ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَبُو يَزِيدَ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ ، وَصُؤَابٌ غُلَامٌ لَهُ حَبَشِيّ ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ . قَالَ ابن هِشَامٍ : وَيُقَالُ قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَيُقَالُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، وَيُقَالُ أَبُو دُجَانَةَ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَالْقَاسِطُ بْنُ شُرَيْحِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ قَتَلَهُ قُزْمَانُ . أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا ، مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ . قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ . رَجُلٌ . مِنْ بَنِي زُهْرَةِ وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ : أَبُو الْحَكَمِ بْنِ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ ، حَلِيفٌ لَهُمْ قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَسُبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى وَاسم عَبْد الْعُزّى : عَمْرُو بْنُ نَضْلَةَ بْنُ غُبْشَانَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مَلَكَانِ بْنِ أَفْصَى – حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ خُزَاعَةَ ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . رَجُلَانِ( ).
وهل تدخل الإصابة بالجراحات في عمومات قوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] الجواب نعم ولكن لا على نحو الموضوع والغاية المستقلة بذاتها لنص الآية على الموت والقتل في سبيل الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وقد أشرف على القتلى أنا شهيد على هؤلاء وما من جريح يجرح في الله الا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه اللون لون الدم والريح ريح مسك ( ).
لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبخس الجرحى حقهم في الذكر وتأكيد الثواب العظيم الذي ينتظرهم وفيه جمع بين المواساة والبشارة والحث على المواظبة على الجهاد.
قوله تعالى [مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ]
في الآية إعجاز متعدد ، فبعد إخبار الآية الكريمة عن حال وكيفية نفسانية شائعة عند المسلمين وهي تمني الموت وحب الشهادة في سبيل الله، تجلى في الآية الفصل الزماني بين هذا التمني وبين ملاقاة المصداق العملي لموضوعه وهو الموت.
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول : لبيان شدة وطأة ما تمناه المسلمون.
الثاني : إخبار المسلمين بأن الذي تمنوه أمراً شاقاً وعسيراً، وهو مناف لمعاني التمني الذي يتضمن رجاء نوال الأحسن، وتقريب البعيد، وإزاحة الموانع التي تحول دون بلوغ الغايات الممكنة والتي ليس لها وجود إلا في التصور الذهني.
الثالث : الملازمة بين دخول المعركة ووقوع الموت.
الرابع : التذكير بفضل الله عز وجل بالنجاة من الموت وملاقاته وحلوله بساحة المسلمين، خلافاً من الموت لنواميس الحياة الدنيا، فمن خصائص الموت قهره للإنسان، وعجز الناس عن دفعه وإن إجتمعوا وإجتهدوا وبذلوا الأموال، وقد ورد لفظ(حضر) خمس مرات في القرآن، منها أربعة بخصوص طرو الموت وأوان الأجل، قال تعالى[شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ]( ).
وحتى القسيم الخامس لمادة(حضر) من رشحات حضور الموت لتعلقه بقسمة التركة، والإحسان فيها، قال تعالى[وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ]( ).
وكانت وصية الصحابة يوم أحد الذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عن حوزة الإسلام، وقيل أن قوله تعالى(من قبل أن تلقوه) تعريض بالمسلمين بأنهم تمنوا أمراً ولم يدركوا شدته، ولا أصل لهذا المعنى والتأويل، إذ أن الآية ثناء على المسلمين وتوثيق لحسن أمانيهم، وأنها كانت في الله ولله، وعشقاً للقائه بصحيفة الجهاد في سبيله، وشهادة الملائكة والخلائق بقتالهم المعتدين الكفار.
الخامس : دلالة الآية على ملاقاة المسلمين للموت سواء تمنوه أو لم يتمنوه لإختيار الكفار الهجوم عليهم، ومحاولة إستئصالهم ليكون هذا التمني مناسبة لثوابهم، وإصلاح نفوسهم للقاء العدو، وهناك تباين رتبي في الكم بين تمني الموت ولقائه، إذ كان تمني الموت فردياً وشخصياً، أما لقاء المسلمين الموت فقد كان عاماً، ليعم الثواب، ويكون صبرهم حجة في تنمية ملكة الإيمان، وتجلي الفيوضات بسلامتهم من الإجتثاث والأسر عند العدو الكافر، قال تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، فمن مكر الله نصر الإنسان وجذب الكفار لمنازل الهداية والإيمان كما في الذين قاتلوا المسلمين يوم أحد إذ دخلوا الإسلام يوم فتح مكة.
علم المناسبة
ورد لفظ [كُنتُمْ] في القرآن مائتي مرة إلا واحدة وأكثرها تذكير وإنذار ولوم للكفار وأهل الملل السابقة، قال تعالى في خطاب للكافرين وتذكيرهم بعالم الآخرة [كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ] ( )ومنها ما جاء ثناء للمسلمين كما في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) [وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ) [وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
ورد لفظ [كُنتُمْ] في خاتمة الآية في أغلب هذه الآيات، وقليل منها جاء في أول الآية منه قوله تعالى [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ]( )ومنها آية البحث .
ولم يرد لفظ [وَلَقَدْ كُنْتُمْ] في القرآن إلا مرتين، فقد جاءت الآية الأخرى في تبكيت إبراهيم لقومه لعبادتهم الأوثان، وفي التنزيل حكاية عنه [لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ) فلما إعتذر الكفار بأنهم يحاكون آباءهم في عبادة الأوثان ، وكأنه من بر الوالدين الإقتداء بهم في باب العبادة فنسخ إبراهيم عليه السلام كلامهم وأشرك آباءهم في الذم وسوء الفعل.
لبيان لزوم عدم التقيد فيما هو محرم ومنهي عنه، وبهذا يعرض إبراهيم عليه السلام نفسه للعقاب الشديد لأنه لم يحصر جهاده بفضح الأصنام وكسرها بل ذكر ضلالة آبائهم، وهو دأب الأنبياء في إقامة الحجة وحث الناس على التفقه في أصول الدين ، فلا غرابة أن ينتقم الكفار من إبراهيم ويختاروا إحراقه بالنارعن السدي قال { قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم}( ) قال : فحبسوه في بيت ، وجمعوا له حطباً حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول : لئن عافاني الله لأجمعن حطباً لإِبراهيم ، فلما جمعوا له ، وأكثروا من الحطب حتى إن كانت الطير لتمر بها ، فتحترق من شدة وهجها ، فعمدوا إليه فرفعوه على رأس البنيان ، فرفع إبراهيم عليه السلام رأسه إلى السماء فقالت السماء ، والأرض ، والجبال ، والملائكة ، إبراهيم يحرق فيك فقال : أنا أعلم به ، وإن دعاكم فاغيثوه ، وقال إبراهيم عليه السلام حين رفع رأسه إلى السماء : اللهم أنت الواحد في السماء ، وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض ولد يعبدك غيري ، حسبي الله ونعم الوكيل فناداها {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم}( ) ( ).
وإختتمت آية البحث من بين آيات القرآن بإضافة واو العطف في قوله [وَلَقَدْ كُنْتُمْ] وفيه نكتة وهي إتصال موضوع آية البحث بالآيات السابقة التي تبعث المسلمين على بذل الوسع في سبيل الله إذ يتغشى موضوع خاتمة آية السابقة[وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( ) سواء الذين جاهدوا وتحلوا برداء الصبر قبل نزول الآية الكريمة أو في زمان نزول الآية أو ما بعده من أفراد الزمان الطولية.
وليكون من معاني العطف في الآية الإشارة إلى الآية السابقة ،وتكون الصلة بين الآيتين على وجوه:
الأول : تمني المؤمنين القتل في سبيل الله من الجهاد بالنفس وبذلها حباً وطاعة لله عز وجل .
الثاني : تمني المؤمنين الشهادة مصداقاً للصبر الذي أراد الله عز وجل أن يتحلى به المسلمون ليكون بلغتهم إلى الجنة.
الثالث : تمني طائفة من المسلمين القتل في سبيل الله فيكتب الله أجره للمسلمين جميعاً بفضل منه تعالى وبلحاظ الآية السابقة التي تخاطبهم على نحو العموم المجموعي والإستغراقي وتبشرهم بأن جهاد وصبر طائفة منهم طريق إلى دخولهم جميعاً الجنة لقوله تعالى [الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ]أو لا أقل ازالة المانع من دخول الأفراد منهم الجنة.
ويكون جهاد طائفة منهم وصبر أخرى سبباً لقبول شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ، وهو من مصاديق رضا الله تعالى على المسلمين بقوله تعالى [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى] ( )،[وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] ( ).
وأهل الكبائر ليسوا من المجاهدين والصابرين على الظاهر ، ولو على نحو السالبة الجزئية ، فتأتي شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للغة التبعيض في الآية السابقة بخصوص الجهاد والصبر ، لذا جاء الخطاب فيها وفي هذه الآية عاماً للمسلمين والمسلمات مع أن النسبة بين موضوع الآيتين هي العموم والخصوص المطلق ، إذ تذكر الآية السابقة الجهاد بينما ذكرت آية البحث تمني الموت وتحصيل أسبابه وتجليه بالمبرز الواقعي.
قانون الترادف في نزول ملائكة النصرة
لقد نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم بدر وأحد والخندق وحنين ، وبخصوص معركة بدر قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ ]( ).
ويحتمل لفظ[مُرْدِفِينَ] وجوهاً:
الأول : تتابع الملائكة في نزولهم، فيأتي بعضهم أثر بعض، ويحتمل هذا التتابع أموراً:
الأول : من نواميس الملائكة أن ينزلوا متتابعين .
الثاني : نزول الملائكة مستعدين للقتال، فتقاسموا الأوقات والأفعال، مما إقتضى نزولهم متتابعين ، ترى لماذا التتابع والتوالي في نزول الملائكة، فيه وجوه:
الوجه الأول : دفع القتل عن المؤمنين الذين تمنوا الموت في الميدان، وهذا الدفع من جهات:
الأولى : الحيلولة دون وصول سهام الكفار إلى المسلمين، فتتساقط عن اليمين واليسار وهو من عمومات قوله تعالى[قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
الثانية : بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين، لذا قيل بأن الملائكة لم يقاتلوا يوم بدر وأحد.
الثالثة : إصابة سهام وسيوف المسلمين كبد العدو وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
الرابعة : خذلان الكفار، وإصابتهم بالدهشة، وصيرورة بأسهم بينهم.
الخامسة : هلاك وقتل طائفة من الكفار، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ]( ).
الثاني : بيان قانون وهو أن المسافة بين السماء والأرض أقرب وأقصر من المسافة بين الصفين، فحالما زحف الكفار للقتال نزل الملائكة لنصرة المؤمنين ولفصل ومنع الكفار من الفتك والقتل وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، ومن أسرار أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ولأمراء السرايا بعدم البدء بالقتال.
الأمر الثالث : تعضيد المؤمنين ومنعهم من الفشل والجبن والخور.
الرابع : تعجيل نصر المسلمين والتخفيف عنهم في مدة القتال وشدته.
الثالث : الملازمة بين دعاء النبي والمؤمنين وتوالي نزول الملائكة، فكلما إجتهدوا بالدعاء إزداد عدد الملائكة ومضاعفته , وينخرم هذا الوجه بإخبار الآية عن تعيين عدد الملائكة الذين نزلوا.
الرابع : بعث السكينة في نفوس المؤمنين , والفزع والخوف في قلوب الكفار , وزجر المنافقين ومنعهم من إظهار مفاهيم النفاق في عالم الأفعال , قال تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ]( ).
الخامس : تتابع الملائكة في النزول مانع لمردة الشياطين من النفاذ بينهم.
السادس : تتابع الملائكة في نزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
السابع : دلالة الآية على سرعة إستجابة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الثامن : ينزل الملائكة بكيفيات متعددة منها ردف وتبع بعضهم لبعض كما في الآية أعلاه، ومنها قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، أي عليهم علامات يعرفون بها.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله{مسوّمين} قال: معلمين، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائمَ سوداً، ويوم أحد عمائمَ حمراً)( ).
الوجه الثاني : إرادة تعضيد ورفد الملائكة للمؤمنين ، وتقدير الآية : أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين لكم ، وصيرورة الملائكة خلف المؤمنين ردفاً لهم.
الثالث : على القراءة بالفتح [مردَفين]اسم مفعول أي أن الملائكة هم مقدمة الجيش
الرابع : يتتابع الملائكة في نزولهم بسبب تقاسم الأعمال من جهات:
الأولى : يخوف الملائكة الكفار ، ويبعثون في قلوبهم الرعب.
الثانية : يشترك عدد من الملائكة بالقتال .
الثالثة : يكون شطر من الملائكة ساقة للجيش أي في مؤخره حفظاً له وفي معركة الخندق [قال ابن سعد: وأقام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد في مائتي فارس ساقة لعسكر المشركين وردءا لهم مخافة الطلب وانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من ذي القعدة] ( ).
الخامس : نزول الملائكة لخصوص الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحضور وإتصال الوحي في ساعة الشدة، ووقائع الميدان التي تستلزم قراراً سريعاً يتصف بالحزم والحكمة.
السادس : تأكيد حقيقة وهي عدم مغادرة شطر من الملائكة أثناء المعركة.
السابع : الإخبار عن إجتماع الألف ملك في ساحة المعركة، وهو من أسباب النصر الإلهي للمسلمين.
وهل يشمله قوله تعالى في آية السياق [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] أم أن القدر المتيقن من الآية فعل المؤمنين.
الجواب هو الأول، إذ ورد النهي في الآية شاملاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وفيه حجة وتزكية لأمره في الإقدام في المعارك، ومنه خروجه إلى تبوك مع بعد السفر ، وقوة شوكة الروم وكثرة مؤنهم وبأس فرسانهم، فلقد وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللبنة والقاعدة للزحف نحو بلاد الشام ودخولها في الإسلام .
الثامن : تتابع الملائكة شاهد إمتلاء السماء بهم لنصرة المؤمنين ولمنع مجئ مدد للكفار .
التاسع : التباين في موضع وسكن الملائكة في السماء الذين نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، فمنهم من نزل من السماء الدنيا ، ومنهم من نزل من السماء الثانية والثالثة إلى السابعة ليكونوا شهوداً ينقلون لأهل السموات أحداث واقعة بدر التي صارت فرقاناً بين الحق والباطل ، وفيصلاً بين الإيمان والكفر.
العاشر : من معاني وعلة ترادف الملائكة التباين بينهم في سرعة الحركة والإنتقال، فلا يصلون بوقت واحد ولكنهم يصلون جميعاً لقوله[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
الحادي عشر: كل قبيل من الملائكة ينزل بآية واحدة.
وهل يحتمل وصول شطر من هؤلاء الملائكة وعددهم ألف بعد إنتهاء المعركة بلحاظ التتابع في النزول الجواب لا، لأن الآية بينت موضوع نزولهم وصفتهم وهي أنهم مدد.
وهل تشمل حالة الترادف نزول الملائكة في معركة أحد والخندق وخيبر، قال تعالى في خصوص معركة أحد[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
والجواب نعم لتقييد إطلاق التنزيل في كيفيته, ولبيان كثرة وتعدد وجوه المدد السماوي.
بحث بلاغي
بين التمني والرجاء عموم وخصوص مطلق ،فكل رجاء هو تمنّ وليس العكس ، إذ يقع التمني على الممكن والممتنع وعلى ما يجوز وما لا يجوز ، وعلى ما إنقضى زمان موضوعه وفات التدارك فيه ، كما ورد في التنزيل حكاية عن مريم [قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا]( ) ولم تعلم أن الأرض أشرقت بولادة نبي، وأن الله عز وجل يتفضل ويخلد ذكر مريم بالثناء بين الناس إلى يوم القيامة بورود إسمها في القرآن بصيغ التطهير والتزكية ،فليس كل تمنّ هو رجاء جامع لشرائط إمكان الوقوع.
وفي باب النحو فرق البصريون بين الترجي والتمني في الجواب، فالترجي لا جواب له ، فيكون النصب بتقدير [أن] بعد الفاء ، وقال الكوفيون بالنصب في جواب الترجي كما في قوله تعالى[فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى]( ) وتقدير الآية : إني لو بلغت الأسباب إطلعت.
والكلمة التي تفيد التمني هي(ليت) وقد يأتي التمني بالإستفهام مثل [فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا]( ) أو يكون بالحرف (لو) وهو حرف إمتناع لإمتناع ولم تأت الآية بحرف التمني (ليت )فلم تقل الآية (كنتم تقولون يا ليتنا نموت).
بل وردت بذكر التمني صراحة ،وعلى نحو البيان الخالي من اللبس والترديد ، فلا يرجع المسلم في تفسير الآية إلى علماء البلاغة والتفصيل بين التمني والرجاء ، بل ذكرت الآية التمني صراحة وحصراً للحجة وإقامة البرهان على قبح إصرار الكفار على الزحف والقتال ،ولتكون هذه الآية رسالة وعيد لهم، ومن مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وجاءت آية البحث لتكون من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ) فمع عزم المؤمنين على القتال حتى يتحقق النصر زجر للكفار، وتحذير للمنافقين ومنع للناس من إتباع رؤساء الضلالة في تحشيدهم ضد النبوة والتنزيل ،فمن يسمع بأن المؤمنين يتمنون القتال، طاعة لله وتصديقاً بنبيه عند هجوم كفار قريش فأنهم يتجنبون نصرة الكافرين فمن خصائص لغة الخطاب في الآية وعطفها على[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في الآية الثلاثين بعد المائة من هذه السورة تزكية وإمضاء لأمنية المؤمنين ، وتقدير الآية (يا أيها الذين آمنوا لقد كنتم تمنون الموت ) ليتعقب هذه الأمنية جزاؤها العاجل في ذات الآية بسلامة المؤمنين من القتل.
علم المناسبة(تمنون)
لم يرد لفظ(تمنون) في القرآن إلا في هذه الآية، ولم يرد فيه بالأصل من غير حذف (تتمنون) كما أنه لم يرد بصيغة المفرد إلا بصيغة الشرط وبخصوص الأنبياء، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ]( ).
وروي عن ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي: لمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تولّي قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عمّا جاءهم به من الله سبحانه تمنّى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله، فأحبّ يومئذ ألاّ يأتيه من الله تعالى شيء فينفروا عنه، وتمنى ذلك فأنزل الله سبحانه سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فقرأها رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} حتى بلغ {أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الاخرى} ألقى الشيطان على لسانه لمّا كان يحدث به نفسه ويتمناه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى.
فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، ومضى رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} في قراءته فقرأ السورة كلّها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلاّ سجد إلاّ الوليد بن المغيرة وأبو أُحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنّهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود، وتفرّقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا : قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده.
فإذا جعل لها محمد نصيباً فنحن معه، فلمّا أمسى رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} أتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال : يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم يقل لك، فحزن رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} عند ذلك حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً كبيراً فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} بلغهم سجود قريش، وقيل : قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا : هم أحبُّ إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان، فلمّا نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله، فغيّر ذلك وجاء بغيره، وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله (عليه السلام) قد وقعا في فم كلّ مشرك فازدادوا شرّاً إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم)( ).
والحديث ضعيف سنداً ودلالة وهناك تباين بين الأمنية التي قد ينفذ إليها الوسواس والشيطان وبين الإلقاء في التلاوة ونص القرآن الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن ثبت أن هناك سهواً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التلاوة وأن جبرئيل صحح هذا السهو وموضوعه فلا ضير في الأمر، فسواء تلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآية حسب التنزيل أو صحح له جبرئيل فهما من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) ولكن هذا السهو لم يثبت .
والآية ظاهرة بأن الشيطان ألقى بذات الأمنية ونسبتها إلى شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يصل إلقاء الشيطان إلى التنزيل وكلماته وحروفه وبين تنزيل الآيات وأمنية النبي تباين ،قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ]( )، فالأمنية غير الوحي وقد يقترب الشيطان من النبي كبشر وإنسان ولكنه لا يستطيع أن يصل إليه لعصمته من وسوسة الشيطان وأفراد السوء والمنكر، وهذه العصمة والحفظ غير عصمة الأنبياء التي قال بها مشهور علماء المسلمين وهو المختار: إنما ينالها الأنبياء ومن هو أقل درجة منهم، كما في قوله تعالى[كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
وقد جاء معنى ما يلقيه الشيطان في الأمنية على لسان ابن عباس نفسه قال: لما نفى الله تعالى المشركين عن المسجد الحرام ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين فقال : من أين تأكلون وقد نفى المشركون وانقطعت عنكم العير؟ قال الله تعالى { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } فأمرهم بقتال أهل الكفر وأغناهم من فضله( ).
إنما يكون الإلقاء على نحو الوسوسة وفي قوله تعالى[إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ]( )، قال ابن عباس: إن أمنيته أن يسلم قومه( )، وسلامة قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم قريش من العذاب بهدايتهم إلى الإسلام لا صلة لها بنص آيات التنزيل ورسم حروفها ونطق كلماتها.
ولا تصل النوبة إلى الإحتجاج بتساقط الروايات الواردة عن ابن عباس بسبب التعارض بينها، لأن منطوق الآية الكريمة يفيد التباين بين التنزيل والأمنية، فامنية النبي كيفية نفسانية، اما التنزيل فهو وحي وكلام الله ويدل إلقاء الشيطان في ذات أمنية النبي بالدلالة الإلتزامية على عجز الشيطان عن الإلقاء في ذات الوحي والتنزيل.
لقد وردت آية البحث في أمنية المؤمنين وهي إختيار القتل في سبيل الله ودفاعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يصح أن تكون أمنية النبي ذاتها من إلقاء الشيطان، والأصل أن تكون أمنيته أعظم وأفضل وأبهى من أمنية أمته ليكون معنى[أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ]( )، على وجوه:
الأول : إرادة الشيطان نسيان النبي لأمنيته.
الثاني :يتمنى الشيطان عدم تحقيق مصداق أمنية النبي.
الثالث : التخلية بين النبي والملائكة الحفظة له وللتنزيل ،قال تعالى[إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا]( )، قال ابن عباس: هي معقبات من الملائكة يحفظونه من الشيطان حتى يبين الذي أرسل إليهم به ( ).
وقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ]( )، على شمول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذات الإبتلاء، على نحو القطع واليقين، وإن كان ظاهراً لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، فقد يكون من مصاديق تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين سلامته وأمنيته من إلقاء الشيطان من فيها على فرض وجود الأمنية عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان كلامه وحي وأخلاقه القرآن، وتبين آية البحث سلامة أمنية المؤمنين من إلقاء ووسوسة الشيطان .
وعن علي بن مهدي الطبري يقول: ليس هذا التمنّي من القرآن والوحي في شيء وإنّما هو أنّ النبي {صلى الله عليه وآله وسلم} كان إذا صفرت يده من المال ورأى ما بأصحابه من سوء الحال تمنّى الدنيا بقلبه وسوسة من الشيطان)( ).
والتمني: رجاء تحقق شيء أو بلوغ غاية سواء كان سهلاً أو صعباً أو ممتنعاً وتبين الآية أعلاه أن وسوسة الشيطان لا تتعدى حدود الأماني والتمنيات من غير أن تستقر هذه الوسوسة لأن الله عز وجل يعصم الأنبياء عنها، ولا تصل إلى الإخطار في القلب والذهن.
وجاء ذكر التمني بصيغة النفي منه قوله تعالى[وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ]( )، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا تمنى أحدكم فلينظر ما تمنى فأنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته).
وعن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو ولا نقاتل فنستشهد، وإنما لنا نصف الميراث . فأنزل الله {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} وأنزل فيها{إن المسلمين والمسلمات})( ).
فجاء الحديث بالنهي عن هذا التمني لنفي الكراهة عن تمني المؤمنين من الرجال الشهادة، وفيه نوع مواساة لهن ومدد في الصبر عند مصيبة سقوط الشهداء.
ليدل هذا الحديث بلحاظ آية البحث على أن تمني المؤمنين للشهادة بعلم ورضا ضمني من الأمهات والزوجات ،وهو من مصاديق عموم الجزاء والنعيم الأخروي على فعل الطائفة كما ورد في الآية السابقة[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في الآية أعلاه قال: لا يتمنّى الرجل امرأة الرجل ولا ابنته، ولكن يتمنّى مثلها)( ).
لذا فإن آية البحث تتضمن الثناء على المؤمنين بتوثيق أمنيتهم وإنهم إجتمعوا على أمنية أخروية تدل على تجافيهم عن الدنيا ليس رغبة عنها ولكن حباً لله وشوقاً إلى اللبث الدائم في النعيم، وفيه إعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه وفي بضع سنين صارت أمة تعشق الشهادة ولا تخاف من لقاء جيوش الكفار وإن كانت أضعاف عددهم وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد كان كفار قريش يتباهون بكثرة عددهم وأسلحتهم، ولما نظر لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وهم بالكتائب قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتني، اللهم أحنهم الغداة)( ).
وبينما أخبرت آية البحث عن تمني المؤمنين الموت، فإن تمنيه ورد في القرآن بصيغة الأمر وعلى نحو التحدي لبعض بني إسرائيل بخصوص حب الإنتقال إلى العالم الآخر[قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ]( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين مسائل:
الأولى : إن المؤمنين صادقون في تمنيهم الموت وقد أثبتت الأيام إخلاصهم في ميادين القتال ليأتيهم الثواب مضاعفاً بالتمني ذي صبغة الإيمان وترجمته في عالم الفعل.
الثانية : لحاظ كبرى كلية وهي بلحاظ أن تمني الشهادة توطين للنفس لإقتحام الصعاب وعدم الذهول عند مباغتة الكفار لثغور المسلمين.
الثالثة : بيان قانون في إعجاز القرآن، وهو بقاء التحدي الوارد فيه إلى يوم القيامة، كما في قوله تعالى[فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ]( )، وبقاء هذا التحدي من وجوه:
الأول : سلامة القرآن من التحريف، ودوام الإحتجاج بآياته.
الثاني : بيان علة تمني الموت وهو رجاء الفوز بالنعيم الأخروي.
الثالث : تخلف الناس عن تمني الموت وإن كانوا يدّعون أو يظنون أن مسكنهم الدائم في الجنان.
الرابع : تعدد مصاديق دوام وتجدد هذا التحدي منها:
الأول : تمني المسلمين للموت.
الثاني : إرادة المسلمين تمني الشهادة والقتل في سبيل الله ،وأيهما أشد على الإنسان الموت على الفراش أم القتل بالسيف الجواب هو الثاني، لبيان المائز بين المسلمين وغيرهم من المليين والموحدين من الملل السابقة بأن يتمنى المسلمون أشد أنواع القتل إذا إنحصر الدفاع عن الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم به وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : تأكيد الآية أعلاه على النفي المؤبد لتمني أهل الملل الأخرى للموت لقوله تعالى[وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا]( ).
الرابع : قد يقول بعضهم صحيح أننا لا نتمنى الموت ولكن ليس من أمة تتمناه وأن هذا التمني أمر ممتنع لشدته على الإنسان والجواب جاء القرآن بالتوثيق السماوي لتمني المسلمين الثبات في لقاء العدو الذي يصر على الهجوم عليهم وإرادة قتلهم وإستئصال حوزة الإسلام، ليكون هذا التمني مقدمة للنصر على الظالمين.
ومن سنخية الإنسان أنه يسعى لما يتمناه إذا كان ممكناً، ويتدبر فيه إذا كانت فيه مشقة، ويفتر ميله نحوه مع تقادم الأيام إذا كان سراباً، أما أمنية المسلمين التي تذكرها آية البحث فهي شمعة مضيئة تبعث على العز والطمأنينة وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
كما أنه لم يرد لفظ[َتَمَنَّوْن]في القرآن إلا في آية البحث فأنها إختصت بلفظ[تَلْقَوْهُ] مع تعدد وكثرة مادة[لْقَى] في القرآن ، إذ وردت مائة واربعاً واربعين مرة فيه، وجاء كثير منها بخصوص لقاء الله وبلغة الترهيب والترغيب والسور الجامع لهما هو التذكير بأمر حتم، وكل من التذكير والحتم من رحمة الله.
وإذ يجتمع المتناقضان في الموضوع، فيبعث البر والفاجر والمؤمن والكافر ويقفان بين يدي الله يوم القيامة، يكون المؤمن في أمن وسرور ويكون الكافر والفاسق والمنافق في خزي وخوف شديد .
كما وردت الآيات بخصوص لقاء العدو ، مع إعانة المسلمين بهدايتهم لسبل الصلاح التي تنجيهم يوم القيامة ،ومنها آية البحث التي تخبر عن جهادهم في سبيل الله وتفانيهم في مرضاته ،وتأتي الوقائع لتبين سقوط الشهداء منهم.
وخاطبت الآيات الإنسان مطلقاً بالقطع بملاقاته الله عز وجل بعمله ويحتمل تمني المؤمنين الموت بلحاظ المقام وجوهاً:
الأول : تمني الموت ليس من العمل بلحاظ أنه لا يتعدى الرغبة النفسية والكيفية الذاتية التي لا تترجل بمبرز خارجي.
الثاني : تمني الموت من العمل لأنه أمر وجودي، وقد جعل الله الموت ذاته أمراً وجودياً بقوله تعالى[خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ]( )، وهناك ملازمة بين الأمر المخلوق والحياة وإن كانت من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً منه حياة الإنسان ونفخ الروح فيه، ومنه حياة الحيوان مطلقاً ومنه حياة الجسم النامي كالنبات والشجر.
الثالث : يجري تمني الموت على اللسان فهو من القول، والقول في مقام الحساب والجزاء من العمل.
الصحيح هو الثاني، ويكون الثالث في طوله، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ]( ) والكدح بذل الوسع والجهد لبلوغ الغاية.
وتبين الآية أعلاه أن من خصائص الإنسان الهّمة والسعي والجهد في أمور الحياة إلى أن يقف بين يدي الله عز وجل للحساب لتؤكد آية البحث أن طائفة من المسلمين تسعى للقاء الله عز وجل بأعلان حبهم للشهادة وإجتماعهم على التعجيل بلقاء الله من حيث يرضى، فكان الجزاء العاجل أن أراهم الله عز وجل ذات الموت والقتل الذي تمنوه من غير أن يغزوهم الموت ويدخل عليهم من غير إستئذان، إذ ليس دون الموت حاجب أو برزخ فخرجوا من المعركة سالمين وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
بحث أخلاقي
لقد وردت الأخبار بكراهية التمني، وفرق العلماء بينه وبين الرجاء وقالوا بأن الأول مذموم والتالي محمود، ولكن آية البحث تقيد هذا المعنى لتخرج بالتخصص إذ تثني على المؤمنين، من جهات:
الجهة الأولى : تمني الموت لأن القدر المتيقن من التمني المذموم هو طول الأمل، وإستحضار اللذات في التصور الذهني فيشغل الإنسان عن وظائفه العبادية التي هي العلة الغائية من خلقه، وفيها أعظم المنى، وأبهى مصاديق التمني لأن ثوابها هو النعيم الدائم.
ومما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً الإخبار البياني عن أهوال الآخرة وسبيل النجاة منها، فأراد الذين تمنوا الموت من المؤمنين أن يكونوا من أهل قوله تعالى[لاَ يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ]( ).
الجهة الثانية : لم يتمن المؤمنون الموت إلا بسبب إصرار الكفار على الهجوم على المدينة وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتلهم أو أسرهم، لأنهم أدركوا الملازمة بين أمور:
الأول : الحياة الكريمة والإسلام.
الثاني : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي نزول القرآن.
الثالث : الشهادة واللبث الدائم في النعيم.
الرابع : الإيمان والصبر، ويحتمل تمني الموت في آية البحث مسائل:
الأولى : تمني الموت الإيمان بالله والتصديق برسوله.
الثانية : إنه من الصبر وحبس النفس على الأذى.
الثالثة : تمني المسلمين الموت ليس من الإيمان ولا من الصبر.
الرابعة : التمني الذي تذكره آية البحث من الإيمان والصبر مجتمعين ومتفرقين.
والصحيح هو الرابعة، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين ببلوغهم مرتبة التقوى والتضحية بالنفس فداء للإسلام.
الخامس : الملازمة بين الإستعداد للتضحية بالنفس وبين النصر المبين بفضل الله على الجيوش التي جاء بها كفار قريش.
السادس : الملازمة بين تمني المؤمنين الموت وبعث الخوف والفزع في قلوب الكفار.
السابع : الملازمة بين تمني المؤمنين الموت وبين خروجهم للقتال في معركة أحد.
الجهة الثالثة : حسن تمني المسلمين موضوعاً وزماناً فالتمني المبغوض ما يكون في الحرام أو في مقدماته أو أنه نتيجة متعقبة له وهو ضد ومناقض لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال: إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ) ( ) بلحاظ أن تمني الحرام أمر وجودي وليس عدمياً، وهو فعل مبغوض بذاته وأثره، لذا تفضل الله عز وجل وندب المسلمين والمسلمات إلى ذكر الله قال سبحانه[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
لقد جاء تمني طائفة من المسلمين الموت في أشد الأحوال وحال الضراء والعدو الكافر يقف على أبوب المدينة لا يريد إلا القتال والحرب.
الجهة الرابعة : تمني المسلمين الموت عنوان وإعلان لدخول المعركة وخوض غمار القتال من غير تردد فذا التمني مصداق لقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
ليتجلى بتمني الموت خلق كريم ينفرد به المسلمون من بين الأمم بالعزم على التضحية وبذل النفوس قربة إلى الله فآية البحث وثيقة سماوية تؤكد قانوناً وهو أن المسلمين تمنوا القتل في سبيل الله حباً له سبحانه، ودفاعاً عن رسوله ولتصير موضوعية لهذا التمني في بقاء كلمة التوحيد في الأرض وإلى يوم القيامة، وهو من أسرار ومعاني ودلالات ذكر هذا التمني في القرآن.
الجهة الخامسة : يؤت تمني المؤمنين الشهادة والقتل في سبيل الله بذل الوسع والتفاني في ساحة المعركة، بخلاف التمني المذموم الذي يورث الكسل والخمول، ومن الإعجاز الغيري للقرآن أن كل آية منه حرب على النفاق ويمكن تقسيم الإعجاز الغيري للقرآن إلى أقسام:
الأول : الأثر العملي لذات الآية القرآنية في النفوس والوقائع والأحداث.
الثاني : أثر الآية القرآنية بالواسطة وأن يكون على نحو الطريقية.
الثالث : المعنى الأعم الجامع للتأثير بذات الآية والموضوعية الواسطة مجتمعين ومتفرقين، ومنه آية البحث في حربها على النفاق وهي من مصاديق جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للمنافقين بقوله تعالى[جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( )، وتمني المسلمين الموت وأعلانهم الرغبة بالشهادة، وإفراد القرآن آية خاصة لهذا التمني ونجاة المؤمنين بفضل الله تترتب عليه أمور:
الأول : وهن وضعف المنافقين.
الثاني : توبة فريق من المنافقين لرؤيتهم أخوانهم يتمنون القتل في سبيل الله، ويطعمون في الثواب العظيم.
الثالث : زجر المنافقين عن إعانة جيوش الكفار، ومدهم بأحوال المسلمين وأخبار المدينة وبما يفيد إغراءهم بالمؤمنين.
الرابع : كشف المنافقين وفضح كذبهم، وعن شداد بن أوس إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الكيس( ) من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر من إتبع نفسه هواها وتمنى على الله)( ).
والتمني الذي ذكرته آية البحث من مصاديق العمل لما بعد الموت، وتنزه عن إتباع الهوى والكسل والخمول، إنه ثورة في النفوس وتغيير نوعي في حياة الناس، وشاهد على حال الصلاح التي تغت المجتمعات ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتجدد صدى تمني المؤمنين الشهادة في كل زمان ومكان وهومن الإعجاز الغيري للقرآن.
بحث كلامي
المتبادر من التمني هو الحالة الشخصية وعالم التصور الذهني للإنسان لذا عرّف بأنه[حديث النفس بما يكون وبما لا يكون]( )، وهناك فرق بين التمني والوهم ، فصحيح أن التمني لا يرقى إلى الرجاء إنما هو لا يتدنى إلى حال الوهم والخيال ، بل يبنى التمني على تقدير ، ليترشح عنه حب تحصيل الشئ المتمنى ويأتي لفظ أمنية لما هو بعيد المنال ودون تحقيقه خرط القتال فيقال : هذه أمنية.
وقد يطلق التمني على الجعل وقول ما لا أصل له [وقال رجل لابن دأب، وهو يحدّث: هذا شيء رويته أو شيء تمنيته] ( )أي إفتعلته عن رغبة فيه .
ويتقوم التمني بالرغبة بالشئ وحب الإستحواذ عليه ويكون على تقدير تام أو غير تام، [وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا تمنى أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه عز و جل]( )، وفي الحديث نكتة وهي تداخل التمني مع الرجاء وان النسبة بينهما قد تصل إلى التساوي إذا كان التمني من فضل الله.
فمن الفروق بين التمني والترجي إنعدام أو تعذر أسباب وشرائط التمني بخلاف الترجي ، ولكن تلك الأسباب تصبح حاضرة بفضل الله عز وجل لأنه [عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) وهو سبحانه الذي قال [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) وليس من حصر لضروب الدعاء وموضوعاته، ويحتمل تمني المؤمنين الموت وجوهاً:
الأول :التمني في الآية مساو للرجاء لأن الموت أمر حتم .
الثاني : إنه أمر لم تجتمع شرائطه فلا يكون موت الإنسان إلا عند حلول أجله بعلم الله فتمني الموت لا يقرب حضوره ، وتمني دفعه لا يصرفه أو يرجؤه عن أوانه، قال تعالى[قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]( ).
الثالث : التمني في الآية مما لا يجوز.
والمختار أن التمني في الآية من الأول أعلاه ويكون الثاني في طوله من غير تعارض بينهما وإجتماعهما في موضوع الآية من اللطف الإلهي بالمسلمين ومصاديق ولايته وحفظه لهم.
وينفرد الإنسان من دون الخلائق بالتمني وليس من حصر لموضوعها وأوان التمني ، فهو شامل للعوالم المختلفة عالم الدنيا وعالم البرزخ والآخرة ، فقد يتمنى الإنسان أن يكون قبره روضة من رياض الجنة وأن يعبر الصراط يوم القيامة كالبرق الخاطف، وأن يسكن القصور العالية، وهل ينفع هذا التمني صاحبه.
الجواب نعم ، وهو من مصاديق صبغة التقدير في التمني بأن يكون نوع وسيلة للسعي نحو المطلوب وصيرورته رجاء بعد أن كان تمنياً ، فليس من تباين موضوعي بين التمني والرجاء وقد يكونا مما إذا إجتمعا إفترقا، وإذا إفترقا إجتمعا ، وتدل عليه آية البحث بان المؤمنين رجوا وتمنوا ما فيه أذى حاضر عليهم لأمور :
الأول :دفع الكفار وصد هجومهم على المصر الوحيد للإسلام.
الثاني : بيان حقيقة وهي أن أماني المسلمين مجتمعين في طاعة الله، وأنهم يرجون بتلك الأماني رضاه ولقاءه.
الثالث : بيان التحول النوعي في المفاهيم والقيم والأعراف عند الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان الناس يحرصون على الحياة ويحبون الدنيا ويميلون إلى جمع المال بالحلال وغيره كالنهب والغزو والفتك.
فجاء الإسلام لمنع الناس من الأخلاق المذمومة والكسب المحرم ، ولجعل أعناق المؤمنين تشرأب لساحات الوغى لدفع التهديد والشر القادم من الكفار، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ تعدد موضوعات التمني والمكاسب الأخلاقية للناس باطلالة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : فضل الله عز وجل على المؤمنين بتوثيق أمانيهم بما فيه التهذيب وإصلاح المجتمعات وتنزيهها من الفساد وسفك الدماء لأن إعلان التضحية من أجل إقامة شعائر الله حرب على الضلالة والفسوق ، وإن لم يتحقق المصداق الواقعي لهذه التضحية .
الخامس : ترتب الثواب العظيم على أماني المسلمين لأنها في الله ولله وبتوفيق وهداية منه سبحانه .
قانون تقدير الآية
وتقدير الآية على وجوه:
الأول : ولقد كنتم تمنون الموت فنفعكم هذا التمني يوم اللقاء.
الثاني : ولقد كنتم تمنون الموت فكان أمناً من أثر الإشاعة بقتل النبي.
الثالث : ولقد كنتم تمنون الموت فلن يضركم هجوم الكفار عليكم من الخلف.
الرابع : ولقد كنتم تمنون الموت فلم تنسحبوا مع المنافقين الذين رجعوا في الطريق إلى أحد.
الخامس : ولقد كنتم تمنون الموت بعد النصر في معركة أحد.
السادس : ولقد كنتم تمنون الموت بعد عدم حضوركم معركة بدر.
السابع : ولقد كنتم تمنون الموت طلباً للشهادة.
الثامن : ولقد كنتم تمنون الموت مع شدته، ومفارقة الدنيا.
التاسع : ولقد كنتم تمنون الموت دفاعاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام.
العاشر : ولقد كنتم تمنون الموت حباً للشهادة في سبيل الله.
الحادي عشر : ولقد كنتم تمنون الموت بخلاف عدوكم الذين يتمنون زينة الدنيا.
الثاني عشر : ولقد كنتم تمنون الموت مع أن الكفار يريدون البطش بكم.
الثالث عشر : ولقد كنتم تمنون الموت لتبلغوا مرتبة الإيمان.
الرابع عشر : ولقد كنتم تمنون الموت فقد رأيتموه فلم تجزعوا منه، ولم يثنكم عن القتال في معركة أحد وما بعدها.
الخامس عشر : ولقد كنتم تمنون الموت فلم ترضوا بالتحصن بالمدينة.
السادس عشر : ولقد كنتم تمنون الموت فلم تثبط عزائمكم[وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
السابع عشر : ولقد كنتم تمنون الموت مع الإلحاح على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج إلى المشركين.
الثامن عشر : ولقد كنتم تمنون الموت والشهادة المقترنة بالنصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام.
التاسع عشر : ولقد كنتم تمنون الموت لسلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
العشرون : ولقد كنتم تمنون الموت بيوم لقاء مع الكفار كيوم بدر، أي أن المسلمين يعلمون أنه مع النصر والغلبة للإسلام تحصل شهادة وقتل لبعض المؤمنين.
الحادي والعشرون : ولقد كنتم تمنون الموت وتقولون لنفعلن ولنفعلن.
الثاني والعشرون : ولقد كنتم تمنون الموت فإنهزم فريق منهم يوم أحد لولا رحمة الله.
الثالث والعشرون : ولقد كنتم تمنون الموت فتثابون عليه.
الرابع والعشرون : ولقد كنتم تمنون الموت فأثبتوا مع النبي عند اللقاء.
الخامس والعشرون : ولقد كنتم تمنون الموت في سبيل الله، وهذا التقييد لتأكيد الأجر والثواب على الكيفية النفسانية التي تكون في مرضاة الله.
السادس والعشرون : ولقد كنتم تمنون الموت بعد رؤية معجزات النبوة تترى.
السابع والعشرون : ولقد كنتم تمنون الموت فرابطوا واصبروا.
الثامن والعشرون : ولقد كنتم تمنون الموت وأنتم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
التاسع والعشرون : ولقد كنتم تمنون الموت وأنتم تعلمون فضيلة القتل في سبيل الله.
الثلاثون : ولقد كنتم تمنون الموت فأنجاكم الله فأجتهدوا في العبادة.
الحادي والثلاثون : ولقد كنتم تمنون الموت فقاتلوا في سبيل الله ولا تنهزموا.
الثاني والثلاثون : ولقد كنتم تمنون الموت ،ولا ملازمة بين التمني ووقوع الأمنية إلا أن يشاء الله.
الثالث والثلاثون : ولقد كنتم تمنون لقاء العدو فتفوزون بالأجر والثواب.
الرابع والثلاثون : ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه وقد لقيتموه.
الخامس والثلاثون : ولقد كنتم تمنون الموت بعد بيان النبي لثواب شهداء بدر.
السادس والثلاثون : ولقد كنتم تمنون الموت بالإلحاح للخروج إلى أحد.
السابع والثلاثون : ولقد كنتم تمنون الموت وأبديتم الشجاعة.
الثامن والثلاثون : ولقد كنتم تمنون الموت مع شدته.
التاسع والثلاثون : ولقد كنتم تمنون مناجزة الكفار.
الأربعون : ولقد كنتم تمنون إشتباك الرماح وأزيز الأسنة وتلقي الضرر باسالة الدماء.
الحادي والأربعون : ولقد كنتم تمنون الموت فعلم الله عز وجل ما في قلوبكم وجعلكم ترون الموت والقتال، ولكم أن تختاروا الموت والقتل في سبيل الله فيكون ثوابكم الجنة[وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )، ولكم أن تختاروا العافية والسلامة وطول العمر، لذا أختتمت الآية بقوله تعالى(وأنتم تنظرون) أي إلى القتال وسقوط القتلى من الفريقين ،وسيأتي مزيد بيان في تفسير هذا الشطر من الآية .
الثاني والأربعون : ولقد كنتم تمنون الموت بعد أن بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً إلى الناس جميعاً و[رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث والأربعون : ولقد كنتم تمنون الموت من مقامات الهدى والإيمان فاذا احل بناحيتكم فلا تغادروا الدنيا إلا بصفة الإيمان والتقوى ، قال تعالى [فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
الرابع والأربعون : أيها المؤمنون قد كتب الله عز وجل لكم الحسنات بتمني طائفة منكم الموت في قتال الكفار والمرابطة في مرضاة الله وهو من مصاديق المعنى المستحدث الذي تذهب إليه في قوله تعالى[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( )، بلحاظ تمني طائفة من المسلمين الشهادة فيدخل المسلمون جميعاً الجنة ببركة جهاد طائفة منهم( ).
الخامس والأربعون : كنتم تمنون الموت وهو رسالة تبعثونها إلى كفار قريش ومن والاهم .
الخامس والأربعون : لقد كنتم تمنون الموت شوقاً وثناء على إخوانكم الذين قتلوا في معركة بدر.
و الشهادة للذين قتلوا من المسلمين يوم بدر بأنهم على الحق والهدى ، وهو من مصاديق قوله تعالى قبل آيتين[وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ] ( ) وتلك آية في سعة علوم القرآن فيتخذ الله عز وجل الأحياء شهداء على الأموات ومنهم الذين قتلوا في سبيل الله.
وقد دأب المفسرون على أن المراد من لفظ الشهداء في الآية أعلاه هم الذين قتلوا في سبيل الله وجاء هذا المعنى منا بأن المؤمنين الأحياء يشهدون للشهداء.
وهل تنفع الشهادة الشهداء أم لا، الجواب نعم ، وهو من رشحات وعمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )بأن ينفع الحي منهم من غادر إلى دار الخلود وينتفع منه ، وليس من حصر لمصاديق نفع كل طرف من الآخر، وفيه دلالة على الصلة بين الدنيا والآخرة.
وأستشهد يوم بدر أربعة عشر من المسلمين ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار [واستشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه من قريش ثم من بني المطلب بن عبد مناف: عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، قطع رجله عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فمات بالصفراء.
ومن بني زهرة بن كلاب: عمير بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وذو الشمالين عبد عمرو بن نضله حليف لهم، من بني غبشان.
ومن بني عدي بن كعب: عاقل بن البكير حليف لهم، من بني سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ومهجع مولى عمر بن الخطاب.
ومن بني الحارث بن فهر: صفوان بن بيضاء.
ومن الأنصار، ثم من بني عمرو بن عوف: سعد بن خيثمة ومبشرين بن عبد المنذر بن زبير.
ومن بني الحارث بن الخزرج: يزيد بن الحارث، وهو الذي يقال له فسحم.
ومن بني سلمة، ثم من بني حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة: عمير بن الحمام.
ومن بني حبيب أو خبيب بن عبد حارثة بن مالك: رافع بن المعلى.
ومن بني النجار، ثم من بني عدي بن النجار: حارثة بن سراقة بن الحارث.
ومن بني غنم بن مالك بن النجار: عوف ومعوذ ابنا الحارث بن سواد، وهما ابنا عفراء، ثمانية نفر] ( ).
السادس والأربعون : ولقد كنتم تمنون الموت بعد أن نزل القرآن بحسن مقام الذين استشهدوا في سبيل الله ، وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الثواب العظيم الذي فاز به شهداء أحد من المسلمين، ومن هذا الإخبار ما سبق القتال يوم بدر ومنه ما صاحبه ومنه ما تأخر عنه، فعندما زحف المشركون بما يدل على إرادتهم القتال وإصرارهم عليه، [قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: “قوموا إلى جنة عرضها السموات والارض”.
قال عمير بن الحمام الانصاري: يا رسول الله جنة عرضها السموات والارض؟!قال: نعم، قال: بخ بخ؟ فقال رسول الله: ” ما يحملك على قول بخ بخ ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
قال: فإنك من أهلها.
قال: فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة ! قال: فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله] ( ).
السابع والأربعون: ولقد كنتم تمنون الموت بعد أن نزل الملائكة لنصرة الإسلام يوم بدر ، ورؤية بعض المسلمين للملائكة بهيئة البشر ، [ابن عباس قال بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في اثر رجل من المشركين امامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول اقدم حيزوم فنظر إلى المشرك امامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد خطم انفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك اجمع فجاء الانصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين الحديث] ( ).
وإفتخر المسلمون بالفيض بنزول الملائكة ، ونظموه شعراً وقال جماعة[أن أفخر بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت:
وببئر بدر إذ يكف مطيهم جبريل تحت لوائنا ومحمد]( ).
ورأى الملائكة من كان مراقباً للقتال غير منحاز لأحد الفريقين كما ورد [عن ابن عباس، عن رجل من بنى غفار، قال: حضرت أنا وابن عم لى بدرا ونحن على شركنا.
وإنا لفي جبل ننتظر الوقعة على من تكون الدائرة ، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا منها حمحمة الخيل، وسمعنا قائلا يقول: أقدم حيزوم: فأما صاحبي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا لكدت أن أهلك ثم انتعشت بعد ذلك] ( ).
الثامن والأربعون : لقد كنتم تمنون الموت بعد أن بلغكم بأن أبا سفيان اقسم ألا يضع ماء على رأسه من جنابه حتى يغزو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل تمني المؤمنين الشهادة من سفك الدماء المذموم الذي إتخذته الملائكة مادة وسبباً للإحتجاج على جعل الإنسان خليفة في الأرض، الجواب لا، لأن المذموم هو فعل الكفار، فاصرارهم على الجحود من الفساد، وهجومهم وتعديهم على المسلمين من مصاديق القتل بغير الحق الوارد في قوله تعالى[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ليكون تمني المسلمين الموت من مصاديق إحتجاج الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، بلحاظ أنه إستئصال للكفر والجحود من الأرض، فما أن مرت بضع سنوات على معركة بدر وأحد حتى تم فتح مكة ليكون من منافعه بلحاظ الآية أعلاه وما فيها من الإحتجاج القدسي الكريم وجوه:
الأول : كانت مكة المحل المبارك لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبداية نزول آيات القرآن.
الثاني : إيذاء كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، ومن الآيات في نبوته وعمومها وتلقي الرجال والنساء لها ، بالقبول وتحملهم الأذى أن أول شهيد في الإسلام امرأة وهي سمية أم عمار بن ياسر.
وعن عبد الله بن مسعود قال: إن أبا جهل طعن بحربة في فخذ سمية أم عمار حتى بلغت فرجها فماتت، فقال عمار: يا رسول الله بلغ منا أو بلغ منها العذاب كل مبلغ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صبراً أبا اليقظان ،اللهم لا تعذب أحداً من آل ياسر بالنار( ).
الثالث : من علم الله عز وجل إزاحة الأصنام عن البيت الحرام ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعودة البيت المعلم الأصلي للعبادة في الأرض توجه ملايين ومليارات الناس كل يوم له في الصلاة قبلة مقدسة، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
ليكون من معاني الأول في الآية أعلاه وجوه:
الأول : إرادة بيت ليس مثله سابقاً أو مقارناً له، والإبتداء في عدد وهيئة البيوت في الأرض، فليس من بيت للعبادة أو السكن والإقامة قبل البيت الحرام.
الثاني : سبق وجود البيت على بيت سكن لآدم وحواء من مصاديق خلق الناس للعبادة، وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوحى الله إلى آدم حج هذا البيت قبل أن يحدث بك حدث . قال : وما يحدث علي يا رب؟ قال : ما لا تدري وهو الموت .
قال : وما الموت؟
قال : سوف تذوق .
قال : ومن أستخلف في أهلي؟
قال : أعرض ذلك على السموات والأرض والجبال ، فعرض على السموات فأبت ، وعرض على الأرض فأبت ، وعرض على الجبال فأبت ، وقبله ابنه قاتل أخيه .
فخرج آدم من أرض الهند حاجاً ، فما نزل منزلاً أكل فيه وشرب إلا صار عمراناً بعده ، وقرى حتى قدم مكة فاستقبلته الملائكة بالبطحاء ، فقالوا : السلام عليك يا آدم ، برّ حجك . أما إنا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبيت يومئذ ياقوتة حمراء جوفاء لها بابان ، من يطوف يرى من جوف البيت ، ومن في جوف البيت يرى من يطوف « فقضى آدم نسكه .
فأوحى الله إليه : يا آدم قضيت نسكك؟ قال : نعم ، يا رب قال : فسل حاجتك تعط . قال : حاجتي أن تغفر لي ذنبي وذنب ولدي . قال : أما ذنبك يا آدم فقد غفرناه حين وقعت بذنبك ، وأما ذنب ولدك فمن عرفني وآمن بي وصدق رسلي وكتابي غفرنا له ذنبه)( ).
الثالث : بيان أن التوحيد والإخلاص في عبادة الله سابق لمفاهيم الشرك والضلالة وأن الأصنام أمر طارئ لا أصل له.
الرابع : البيت الحرام أول وأكثر بيت في الأرض يحجه الناس على مختلف أمصارهم وجنسياتهم، وهو أول بيت يتخذه الناس قبلة إذ يستقبله المسلمون ومن جميع أقطار الأرض خمس مرات في اليوم، إلى جانب إستقباله في الذباحة ونحوها.
قانون خسارة الكفار يوم أحد
ورد الخطاب في الآية بصيغة العموم الإستغراقي، ومن خصائص آية البحث دعوة المسلمين للبدء بحال وكيفية جديدة من التوكل على الله، والإنتفاع الأمثل من النصر في معركة بدر والسلامة في معركة أحد إلى جانب شيوع معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس، ومن هذه المعجزات الملازمة بين أمور:
الأول : سرعة إنتشار أنباء نبوته بين الناس.
الثاني : عدم إنحصار المحل الذي بلغته دعوته مكة المكرمة والقبائل المحيطة بها والمدينة المنورة بل شمل اليمن وبلاد الشام.
الثالث : إقتران أخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات التي جاء بها، ولأن معجزته عقلية وهي آيات القرآن فقد كانت تنتشر بين الناس بسهولة ويسر.
الرابع : الملازمة بين البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحقق المصداق الواقعي لها.
(عن ابن عباس قال: بعثت قريش النظر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط ، وغيرهما إلى يهود يثرب وقالوا لهم : سلوهم عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقدموا المدينة فقالوا : أتيناكم لأمر حدث فينا ، منا غلام يتيم يقول قولاً عظيماً، يزعم أنه رسول الرحمن قالوا : صفوا لنا نعته. فوصفوا لهم قالوا: فمن تبعه منكم؟ قالوا: سفلتنا . فضحك حبر منهم فقال: هذا النبي الذي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة)( ).
الخامس : الملازمة بين سرعة إنتشار معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين التدبر فيها والتسليم بأنها أمور خارقة لقدرات البشر، وتتعداهم في المنتديات والتأريخ، فقد يكون هناك أفراد وقصائد شعرية وسجع تميل لها النفوس ويدرك الناس جودتها، وحسنها، ولكن حينما نزل القرآن أقر الناس بالفارق الموضوعي بين آياته وبين هذه الأشعار.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة)( )، لبيان آية في صدق نبوته وهي أنه لم ينف الحسن الذاتي في النظم ودلالاته وأثر إيقاعه في تقريب المعنى إلى الأذهان.
السادس : الملازمة بين إنتشار وبلوغ أخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس وإيمان شطر منهم، سواء كان المحل الذي تصله واسعاً كالمدينة أو ضيقاً كالأسرة والبيت من البيوت، وهل من دلالة وأثر للملازمة بين هذه الأمور في واقعة بدر وأحد، فيه وجوه:
الأول : شيوع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسرعة ومصاحبة أخبار معجزاته لهذا الشيوع ،وتلقي الناس بلهفة وقبول ورضا أثر وموضوعية في وقائع معركة بدر وأحد ونصر المسلمين فيهما، لأنها موافقة للفطرة وإدراك العقل، وهو من معاني تسمية معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعقلية في مقابل المعجزة الحسية، كناقة نبي الله صالح، وعصا نبي الله موسى بن عمران ،قال تعالى[وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ]( ).
الثاني : ليس من أثر وموضوعية لأفراد الملازمة أعلاه في معركة بدر وأحد، لأن الذي ينطق يومئذ هو السيف والخيل والسهم والنبل والفروسية.
الثالث : إرادة الموجبة الجزئية، وتأثير شطر من وجوه هذه الملازمة.
الرابع : ترشح ضروب أخرى من الملازمة النافعة عن سرعة إنتشار نبوة محمد وإنتشار أنباء معجزاته العقلية والحسية، فلما قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( )فان الله تفضل ببلوغ دعوة وأخبار ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أقطار الأرض .
والصحيح هو الأول والرابع، وتجلت هذه الحقيقة يوم بدر وأحد والخندق على نحو تدريجي، فكما نزلت آيات القرآن نجوماً ومتعاقبة في أيام وأشهر وسني البعثة النبوية ففي كل نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور:
الأول :أنه معجزة جديدة تصاحب أخبار نبوته.
الثاني :يساهم كل نصر للمؤمنين في زجر الكفار عن تجهيز الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالث: يبعث كل نصر للمؤمنين الفزع في قلوب الكفار في المعركة في حال نشوبها.
الرابع : هذا النصر سبب في تمني المؤمنين الشهادة في سبيل الله.
الخامس : إقتران هذا التمني بالثبات في ساحة المعركة.
السادس: بذل المؤمنين الوسع لتحقيق النصر والغلبة وتعاهد سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل للملازمة بينهما إذ لم ولن ينزل الوحي والقرآن على غيره أو من بعده.
وتجلت منافع هذه الملازمات يوم بدر بأمور:
الأول : فضل الله في نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : نصر المسلمين.
الثالث : سرعة النصر وفرار الكفار من ساحة المعركة.
الرابع : إنكسار هيبة الكفار وإلى يوم القيامة، وهذا الإطلاق الزماني من مصاديق تسمية يوم بدر بأنه (يوم الفرقان) لأصالة الإطلاق، وسعة فضل الله، فلو تردد الأمر بين هل يوم بدر فرقان بين الحق والباطل لخصوص ذات المعركة أم أنه أعم الجواب هو الثاني وهو من وجوه بقاء هذه التسمية غضة طرية.
وهل لتسمية يوم بدر(يوم الفرقان) من موضوعية وأثر في معركة أحد، الجواب فيه وجوه:
الأول : نعم لهذه التسمية موضوعية في معركة أحد.
الثاني : ليس من أثر مترتب على تسمية يوم بدر بيوم الفرقان في معركة أحد، وربما نزلت الآية بعد واقعة أحد.
الثالث : وجود أثر لتسمية (يوم الفرقان) على معركة أحد، ولكن بالواسطة كما لو كان أثره في تمني طائفة من المسلمين الشهادة في سبيل الله، لصيرورة النصر يوم بدر شاهداً على صدق المقام الكريم للمؤمنين في جنان الخلد، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : كل وعد من الله وصدق مثل نصر المؤمنين يوم بدر.
الصغرى : الشهداء أحياء عند ربهم وعد من الله.
النتيجة : الشهداء أحياء عند ربهم وعد من الله حق وصدق لذا إختارت طائفة من المؤمنين القتل في سبيل الله بلحاظ أنه علة لإستدامة الحياة مع التباين في السنخية بين الحياة في الدنيا وما فيها من ضروب الإفتتان والإبتلاء، بينما تكون الآخرة وعاء النعيم والبحبوحة والسعادة.
والصحيح هو الأول أعلاه ويكون الثالث في طوله لتكون هذه التسمية من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )وتقدير الآية : (ولقد نصركم الله يوم الفرقان وأنتم أذلة ) فكان هذا الفرقان فارقاً وما نزل بين ذل المؤمنين وصيرورته أعزة أقوياء ، وبين قوة وبطش الكفار وصيرورتهم بعد معركة بدر أذلة وضعفاء وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )وأن هذه الآية المداولة والتصريف لصالح المؤمنين ورجحان كفة الهدى وأهل الصلاح
من الأمور التأريخية القطعية معركة أحد التي وقعت في النصف من شهر شوال في السنة الثالثة من الهجرة النبوية الشريفة، ويصادف في سنة 621 ميلادية.
ومن الإعجاز أنها سميت باسم الجبل الذي وقعت على سفحه وهو جبل أحد ليبقى بذات الإسلام ويكون موقع المعركة معلوماً للأجيال، وبعد مرور خمس سنين على معركة أحد وعندما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة تبوك وأشرف على المدينة قال: هذه طابة وهذا أحد، وهو جبل يحبنا ونحبه) ( ).
وفي بيان حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لجبل أحد وحبه لهم دلالات وهي إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كون الجبل يحب ويبغض، وأنه يحب المسلمين، ويدل الحديث بالدلالة التضمنية على أن الجبل يبغض الكفار الذين وقفوا عليه ليحاربوا الإسلام والنبوة والمؤمنين.
ومن كان كافراً في معركة أحد ثم أسلم يحتمل وجوهاً:
الأول : إستصحاب بغض جبل أحد للذي قاتل المسلمين ،وإن صار مسلماً.
الثاني : البرزخ بين الحب والبغض، فعندما يصبح الكافر الذي شهر سلاحه على جبل أحد حباً للات والعزى لا يحبه جبل أحد، لأنه شاهد على كفره وجحوده، وعدم الحب في المقام أمر وجودي وليس عدمياً، وعلى فرض وقوعه فأنه لا يتعارض مع حب بقع أخرى له بعد توبته، كما في المسجد الذي يصلي فيه.
الثالث : تبدل الحكم مع تغير الموضوع وإن الجبل يصبح يحب التائب لأنه صار مؤمناً.
والصحيح هو الثالث، لتبدل الحكم بتغير الموضوع،[عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إن المقة من الله ، والصيت من السماء ، فإذا أحب الله عبداً قال لجبريل : إني أحب فلاناً ، فينادي جبريل : إن ربكم يحب فلاناً فأحبوه ، فتنزل له المحبة في الأرض ، وإذا أبغض عبداً قال لجبريل : إني أبغض فلاناً ، فأبغضه ، فينادي جبريل : إن ربكم يبغض فلاناً فابغضوه ، فيجري له البغض في الأرض] ( ) ولعمومات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جبل أحد وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه)، فلفظ(يحبنا) إنحلالي ينبسط على عدد المسلمين وهو آية في نسخ التوبة للبغض وصيرورته حباً وليس وسطاً بينهما.
ويحتمل أوان حب جبل أحد للمسلمين من جهة إبتدائه وجوهاً:
الأول : حب جبل أحد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين منذ أن خلق الله عز وجل، قال تعالى[خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّام]( )، فأقترن بخلق الأرض حبها وبغضها للناس بلحاظ الإيمان والكفر. الثاني : أحب جبل أحد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من يوم خلق الله عز وجل آدم وبعث فيه الروح، فعندما إحتجت الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، رد الله عز وجل بالحجة والبرهان القاطع[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ). ليكون من علم الله عز وجل في المقام حب جبل أحد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لأن دماءهم تسيل عليه وهم يدافعون عن كلمة التوحيد ويبنون صرح الإيمان، وكأن جبل أحد يشهد بأن الله عز وجل جعل في الأرض من يصلح فيها ويسفك دمه في سبيل الله، ولا يعني هذا التعارض مع إحتجاج الملائكة لأنهم نظروا بالمعنى الأعم وجبل أحد موضع خاص، بالإضافة إلى إتحاد المعنى بلحاظ المذهب المستحدث الذي نختاره في المقام وهو أن الملائكة أرادوا أن يكون كل أهل الأرض مؤمنين لا يتنازعون ولا يختلفون، إنما ينقطعون إلى العبادة والدعاء مثل الملائكة وهو من رأفة الملائكة بالناس، وحبهم لهم بأن لا تسيل دماؤهم مطلقاً على جيل أحد. فلو تلقت قريش رسالة ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق لما وقعت معركة أحد، وما كان هذا الجبل يبغض فريقاً من الناس الذين أصروا على الكفر وواجهوا الرسالة السماوية بالسيوف وزحف مئات الأميال لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إن إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه والمسلمين يحبون جبل أحد شاهد على أن معركة أحد فخر للمسلمين من وجوه: الأول : أهلية المسلمين لمواجهة كفار قريش. الثاني : عدم ظهور الملل والضجر عند المسلمين من تجدد القتال بعد مرور نحو سنة على معركة بدر. الثالث : تحلي عوائل المؤمنين والأنصار منهم خاصة بالصبر مع تعضيد المؤمنين في قتالهم الكفار، فما أن حلّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة حتى جاء المهاجرون وملأوا الطرقات، وأقام جماعة فقراء منهم في باب المسجد وهم أهل الصفة، ثم جاءت معركة بدر في السنة الثانية من الهجرة ثم معركة أحد في السنة الثالثة. ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن النساء لم يكتفين بالصبر بل خرجن وقمن بالدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ساحة المعركة وفيه تبكيت لكفار قريش الذين يقاتلون الحق والتنزيل. الرابع : لقد جاءت الآيات السابقة بحث المسلمين على الدفاع، وإجتناب الوهن ،ومنها على نحو الإيجاز مسائل : المسألة الأولى : تقدم قبل خمس آيات[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وفيها وجوه: الأول : معركة أحد بيان للناس ،من جهات: الأولى : دلالة المعركة على تعدي الكفار، وزحفهم للقتال ظلماً. الثانية : وجوب الصبر في جنب الله. الثالثة : تحمل المسلمين الأذى لأنهم صدّقوا بالنبوة والتنزيل. الرابعة : تنزه المسلمين عن الهزيمة مع شدة القتال وسقوط سبعين شهيداً منهم، إذ يدل قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( )، في مفهومه على ثبات عموم المؤمنين في ساحة المعركة بما فيهم الذين همّوا بالجبن لدلالة هذا الهم على عدم تحقق مصداقه الواقعي، وجاء قوله تعالى[وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] لتأكيد عدم حصول الهزيمة والإنسحاب عند المسلمين ولبيان فضل الله في ثباتهم، وأن هجوم كفار قريش كان قاسياً وكراً وفراً وإندفاعهم شديد مع كثرتهم وكثرة عدتهم لولا ولاية الله عز وجل للمؤمنين، بعصمتهم من الإنسحاب والهزيمة. وهذه الولاية فيصل أدرك معها الكفار قانون سلامة المؤمنين من الخسارة، ليكون قوله تعالى[يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، عاماً ومستغرقاً لكل معارك الإسلام فكل معركة خاضها المسلمون مع الكفار هي فرقان بين الحق والباطل ليشمل لفظ الفرقان القرآن والتنزيل مطلقاً وسنة الأنبياء . وعن ابن عباس قال: الفرقان جماع اسم التوراة والإِنجيل والزبور والفرقان( ). وجاء قوله تعالى بتسمية معركة بدر (يوم الفرقان) لبيان المعنى الأعم والتوسعة في الدلالة، فيصدق على معركة أحد أنه يوم الفرقان خاصة وأن القرآن نزل يومئذ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كان وعائز زمانياً لإلتقاء الجيشين ، فان قلت القدر المتيقن من قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] إرادة القرآن وتنزيل آياته والجواب هذا صحيح وقد نزل القرآن بوقائع معركة أحد ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فيها بالملائكة كما في قوله تعالى[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ). الثاني : معركة أحد هدى للناس، لما فيها من المعجزات الحسية والعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،ومن الإعجاز الحسي فيها سلامته من الموت مع أن قتله كان هو الغاية من هجوم ثلاثة آلاف رجل من الكفار وأتباعهم من مكة إلى المدينة، وقد إستدرجهم الله فصاروا على بعد بضعة أمتار منه بحيث رموه بالحجارة وشجوا رأسه وشفته ،ولم يترك موضعه في المعركة. الثالث : من المعجزات العقلية نزول الملائكة لنصرته والمؤمنين كما في الآية أعلاه، والهدى في معركة أحد بلحاظ قانون خسارة الكفار يوم أحد) على وجوه: الأول : هداية الناس لمعرفة الخزي الذي لحق أرباب الكفر من قريش وغيرهم بالهزيمة أو لا أقل عدم تحقيقهم النصر والغلبة. الثاني : معركة أحد ونتائجها دعوة للناس للهدى ودخول الإسلام لثبوت عجز الكفار عن هزيمة المسلمين يوم أحد، وكان المنافقون (يقولون لإخوانهم: ما محمّد وأصحابه إلاّ أكلة رأس ولو كانوا لحماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنّه هالك)( ). وحينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو قريشاً للإيمان يعتذرون بأنهم أكله رأس العرب، وأن لا طاقة لهم بالعرب لو آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتركوا الشرك وعبادة الأوثان، وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة قالت قريش ذاتها بجمع القبائل العربية للزحف والقتال ومحاربة الإسلام مما يدل على بطلان إعتذارهم وأن الحق والصدق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما رغبهم بالإسلام وحكوا عنه (عن محمد بن كعب القرظى، قال: لما اجتمعوا له، وفيهم أبو جهل قال وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الاردن، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: “نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم” وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات: “يسوالقرآن الحكيم).
إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم ” إلى قوله: “وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون” ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا)( ).
ومن الآيات أن الله عز وجل جعل البيت الحرام أمناً وعزاً لقريش، ليكون مقدمة وباعثاً لهم للإيمان قال تعالى[أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا]( ).
الثالث : معركة أحد مناسبة لإغراء الناس بقريش، وتحريضهم عليهم وعلى تجارتهم لأن الناس كانوا يكرمونهم لجوارهم البيت الحرام وسدانتهم لهم، فأخلوا بهذا الجوار بمحاربتهم الداعية إلى الله وكتابه وبيته وهزيمتهم أمام ثلة من المؤمنين، بلحاظ أن هذه الهزيمة شاهد على مخالفة قريش لما يجب عليهم من الإيمان.
فإن قلت لا ملازمة بين الهزيمة وخطأ وضلالة المنهج.
والجواب هذا صحيح ولكن واقعة أحد تختلف من جهات:
الأولى : التباين الكبير بين جيش الكفار والمسلمين كثرة وقلة في العدد والعدة والتأهيل والخبرة في القتال، فلقد آمن المستضعفون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله سلم وكانت قلتهم وقلة أسلحتهم ورواحلهم موضوعاً آخر للإستضعاف.
الثانية : مجئ الكفار للثأر والإنتقام .
الثالثة : تحديد الكفار لغاياتهم الخبيثة في المعركة قبل وقوعها بنحو سنة ، وإرادتهم إستئصال الإسلام وإنقلاب الناس عنه .
الرابعة : تجلي أسرار النبوة في معركة أحد، وتوالي المعجزات بمرأى ومسمع من المؤمنين وغيرهم، ومنها قوله تعالى في آية البحث[فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( )، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المسلمين رأوا الموت بصيرورته ،قريباً منهم ،وإنكشافهم للعدو الذي يكثرهم أضعافاً في العدد والعدة وعلت البارقة الهامات , فتفضل الله عز وجل على المسلمين من جهات:
الأولى : دفع الموت والقتل الجمعي , وما يسمى بالإبادة عن المسلمين يوم أحد بعد شموا رائحته بين سنابك الخيل ورأوا لون الدم بسقوط القتلى والجرحى من الفريقين.
الثانية : صد الكفار وشرهم عن المؤمنين.
الثالثة : لحوق الذل بالكفار لإنتهاء المعركة دون تحقيق مآربهم الخبيثة منها.
الرابعة : إختيار الكفار إنتهاء القتال، لتكون حجة عليهم في إبتدائها وإستدامتها ونهايتها، فهم الذين بدأوا القتال ظلماً وعتواً، وحتى لو كان المسلمون هم الذين بدأوا القتال ساعة المعركة فإن الحجة في الإبتداء وصدق موضوعه يقعان على الكفار لأنهم هم الذين زحفوا من مكة وقطعوا نحو خمسمائة كيلوا متراً للهجوم على المسلمين وإرادة طمس معالم التوحيد[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
الخامسة : ليس من خطر وحذر لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على كفار قريش يكون سبباً وذريعة لهجومهم على المدينة المنورة، فعندما رجعوا بخيبة أدرك الناس ضلالتهم.
الرابع : خسارة الكفار يوم أحد هدىً للناس من جهات:
الأولى : فيها زيادة لإيمان المسلمين، وهداية لهم لتعاهد الفرائض العبادية وإدراك أنها طريق لجلب المدد والنصر من عند الله، قال تعالى[اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ]( ).
الثانية : هزيمة الكفار يوم أحد، وعجزهم عن دخول المدينة دعوة للمنافقين للتوبة والتنزه من النفاق وإستبطان الكفر وحث لهم للإمتناع عن إظهار الضلالة على فلتات اللسان.
الثالثة : من مصاديق عموم الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن هزيمة الكفار يوم أحد رحمة بهم، لما فيه من الدروس والمواعظ فإن قلت لا دليل على إنكسار الكفار بعد معركة أحد لمجيئهم في معركة الأحزاب بعشرة آلاف رجل والجواب إن نتيجة هذه المعركة من مصاديق قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، فكانت خيبة الكفار حاضرة عندما حاصروا المدينة لأكثر من عشرين ليلة وإضطرارهم للرجوع دون قتال ومطاردة الفرسان.
الرابعة : من لم يكن متيقناً من مصداق قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، في معركة أحد، أو كانت غشاوة على قلبه لإصراره على الكفر فإن الكفار إنقلبوا من معركة الخندق بخيبة جلية، وخسران مبين، وإذ سقط سبعون شهيداً في معركة أحد منهم حمزة بن عبد المطلب أسد الله رسوله والذي تعرفه قريش وبيوتات مكة بأنه عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعرفه بالشجاعة والفروسية، فإن معركة الخندق ومع كثرة جيوش الكفار لم يسقط فيها عدد يذكر من الشهداء.
لقد تمنى المسلمون الموت في معركة أحد ليكون هذا التمني زاجراً للكفار يوم الخندق عن دخول المدينة لإدراكهم بالأولوية القطعية بأن المسلمين الذين تمنوا القتال في جبل أحد خارج المدينة في السنة الثالثة من الهجرة سيبذلون الوسع في القتال ويضحون بأنفسهم عند إستباحة الكفار المدينة مع إزدياد إيمان المسلمين ما بين معركة أحد والخندق من جهات:
الأولى : توالي نزول آيات القرآن، ومنها ما يتعلق في سبب نزوله بمعركة أحد ونتائجها وما ترشح عنها من الدلالات والآثار والعواقب.
الثانية : عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من معركة أحد بمعجزة ،بعد جهاده وصبره في المعركة وعند الخروج للمعركة وحينما طلبوا منه العودة ورضاهم بالبقاء في المدينة لقتال الكفار(قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه يوم أحد حين قدم أبو سفيان والمشركون: إنا في جنة حصينة يعني بذلك المدينة فدعوا القوم يدخلوا علينا نقاتلهم فقال له أناس من الأنصار : إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة، وقد كنا نمنع من الغزو في الجاهلية فبالإسلام أحق أن يمتنع، فأبرز بنا إليها فانطلق فلبس لأمته فتلاوم القوم: عرض نبي الله صلى الله عليه وسلم بأمر وعرضتم، اذهب يا حمزة فقل له امرنا لأمرك. فأتى حمزة فقال له. فقال: إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز، وإنه ستكون فيكم مصيبة. قالوا: يا نبي الله خاصة أو عامة؟ قال: سترونها)( ).
فكذا تدل معركة أحد على قانون وهو ما كان لنبي أن ينهزم في المعركة، مما يدل على أن الله عز وجل هو الذي يحفظه وينصره، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( )،
الثامنة : تمني طائفة من المسلمين القتل في معركة أحد وعودتهم سالمين ظافرين يحيطون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكون مواساة عوائل وذوي الأنصار الذين استشهدوا يوم أحد من وجوه :
الأول : نزول القرآن بالبشارة باقامة الشهداء عند الله أحياء، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ لِلشّهِيدِ عِنْدَ اللّهِ خِصَالًا أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مِنْ أَوّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ وَيُرَى مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنّةِ وَيُحَلّى حِلْيَةَ الْإِيمَانِ وَيُزَوّجَ مِنْ الْحُورِ الْعَيْنِ وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنَ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا . وَيُزَوّجَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْ الْحُورِ الْعَيْنِ وَيُشَفّعَ فِي سَبْعِينَ إنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ. وَقَال لِجَابِرٍ : أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللّهُ لَأَبِيَكَ ؟ ” قَالَ بَلَى قَالَ مَا كَلّمَ اللّهُ أَحَدًا إلّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَكَلّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا فَقَالَ يَا عَبْدِي تَمَنّ عَلَيّ أُعْطِك قَالَ يَا رَبّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً قَالَ إنّهُ سَبَقَ مِنّي ( أَنّهُمْ إلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ)
قَالَ يَا رَبّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ { وَلَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ } ( ).
الثاني : نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الموت في معركة أحد، وعودته إلى المدينة يحيط به المهاجرون والأنصار ليتلقاه الرجال والنساء والصبيان بالغبطة وإعلان الشكر لله عز وجل على سلامته خاصة وأن إشاعة قتله صلى الله عليه وآله وسلم وصلت إلى المدينة، وسارع المنافقون والفاسقون في نشرها وترويجها.
الثالث : عودة الذين تمنوا الموت من المهاجرين والأنصار أو أكثرهم سالمين من المعركة وتعقب هذه العودة لتمنيهم الموت من مصاديق قوله تعالى في ذم كفار قريش[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )
الرابع : دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة عائداً من معركة أحد والدماء تغطي وجهه الشريف، وتنطبع على ثيابه، وقد سقطت ثناياه وأسنانه الأمامية، ليجتمع المتناقضان في حال المسلمين والمسلمات بالحزن على فقد الشهداء وما أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والغبطة بنجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين تمنوا القتل من الموت بعدما صار قريباً منهم بحيث أدركوه بحواسهم.
ومن الإعجاز في آية البحث أنها ذكرت رؤية الموت بقوله تعالى(فقد رأيتموه) لبيان موضوعية حاسة البصر وأثرها على المدارك العقلية والتدبر من بين الحواس الأخرى كالسمع والشم واللمس، فلم تقل الآية(فقد سمعتموه) ومع قولنا بأن حاسر البصر أولى وأهم من السمع ولكن هذه الآية وذكر الرؤية فيها لا يدل على أولوية البصر لأن الموضوع في الآية يتقوم بالرؤيا البصرية لأن الموت المقصود في الآية تتحقق رؤيته من وجوه:
الأول : تقابل الصفين.
الثاني : الرمي بالحجارة والسهام بين الفريقين.
الثالث : المبارزة بين الفرسان.
الرابع : لمعان السيوف وإلتحام المقاتلين وتداخل الصفوف.
الخامس : سقوط الشهداء من المؤمنين.
السادس : إنسحاب الرماة من الجبل، وقتل الباقين منهم، فكان عددهم خمسين إنسحبوا جميعاً إلا ثمانية بقوا مع أميرهم عبد الله بن جبير فأستشهدوا وهم يذبون ويبذلون أنفسهم لدفع المشركين من مباغتة جيش المسلمين من الخلف.
السابع : الجراحات والكلوم التي أصابت المؤمنين يوم أحد، وهل تدخل جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مصاديق رؤية المؤمنين الموت الجواب نعم، لذا وردت الآية التالية بهذا الخصوص قال تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
لقد تقدم في الجزء الذي جاء خاصاً بتفسير آية[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، أن كل آية من القرآن هي بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، ومنه آية البحث وما فيها من الإخبار عن تمني المؤمنين القتال والقتل يوم أحد، وآية البحث(موعظة للمتقين) من وجوه:
الأول : لقد جاء الإسلام بالصبر وحبس النفس عن المحرمات وزجرها عن إتباع الشهوات، والصبر في طاعة الله وفعل الصالحات، وإمتحن الله عز وجل الصحابة بالصبر في ميادين القتال من جهات:
الأولى : تولي مسؤولية الذب والدفاع عن شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو باب إنفردوا به من بين أجيال المسلمين من التابعين وتابعي التابعين بل وحتى من بعض الصحابة الذين لم يحضروا المعارك مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهل هذه المسؤولية وحفظ سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] ( ) الجواب نعم .
الثانية : قلة عدد المسلمين عند التقاء الصفين ففي كل معركة من معارك المسلمين يكون المسلمون ثلث الذين يقابلونهم من الكفار.
الثالثة : إصابة المسلمين بمصيبة وسط الطريق إلى أحد، بأن إنخزل ثلث الجيش ورجعوا إلى المدينة بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول.
والضرر النفسي الفردي والجمعي من هذا الإنسحاب خاصة بلحاظ أمور:
الأول : علم المسلمين بكثرة جيش الكفار.
الثاني : إصرار كفار قريش على البطش والإنتقام.
الثالث : الوفرة والكثرة في عدة وسلاح وخيل ورواحل المشركين.
الرابع : وجود المنافقين واليهود في المدينة، وما في عودة ثلث الجيش من أسباب الشماتة، والظن بغلبة جيش المشركين، وهو من مقدمات سرعة إنتشار إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة يوم معركة أحد.
الخامس : إدراك المسلمين لشدة أثر رؤساء النفاق في أوساط المسلمين، وقد يستغرب بعضهم مجيء آيات متعددة تذم المنافقين في أول القرآن منها[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( )، وما بعدها إلى الآية العشرين من ذات السورة يرى نفاذ كيدهم ومكرهم وشدة حذرهم على الإسلام والمسلمين يقر بأن هذا النظم في آيات القرآن من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن، وكأن بناء صرح الإسلام يبدأ بالتنزه من النفاق وفضح المنافقين، ويمكن إنطباق مصداق مضامين كل آية من الآيات المذكورة أعلاه على إنخزال ثلث جيش المسلمين بأثر وسحر النفاق.
السادس : الحزن والخوف الذي قد يتسرب إلى قلوب عوائل المؤمنين في المدينة حينما يرون عودة ثلث الجيش ليزداد رجحان كفة العدو في العدة والعدد، لذا تفضل الله عز وجل فورد قبل خمس آيات[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، وإرادة المعنى الأعم من الآية وشمول النساء المؤمنات وعوائل المؤمنين بالنهي المتعدد الوارد فيها، وتقدير الآية: ولا تهنّ ولا تحزنّ، لإنخزال المنافقين وإشاعات الكفار.
وفيه دلالة على عدم إختصاص المدد الإلهي للمسلمين يوم أحد، بالمؤمنين في سوح المعارك ونزول الملائكة لنصرتهم، بل يشمل عوائلهم بنزول الآيات التي تشد عضدهم وتدعوهم إلى الصبر وحسن التوكل على الله وتبشرهم بالنصر لقوله تعالى في الآية أعلاه[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] كما أن نزول الملائكة ينفع ذات العوائل وأسر المؤمنين لما يبعثه من السكينة في النفوس، وليلاقي المنافقون عند نكوحهم الإنكار والتوبيخ والذم من أهل المدينة بما يؤدي إلى زرع الندم والحسرة في نفوسهم، ويدعوهم إلى التوبة والإنابة والتنزه عن النفاق.
الرابعة : همّ طائفتين منهم بالجبن والخور، وتسرب الضعف إلى نفوسهم لو لا ولاية الله وفضله عليهم بالسكينة والثبات في المعركة.
الخامسة : ترك الرماة الذين كانوا يحمون ظهور المؤمنين لمواقعهم في الجبل ومجيء جيش المشركين من خلفهم.
السادسة : سقوط لواء المشركين وهزيمتهم وإنكسارهم، ثم تجمعهم وعودتهم للقتال والهجوم.
السابعة : صيرورة تمني الموت الذي تذكره آية البحث موضوعاً وحافزاً للنفس على الصبر والثبات في ميادين القتال بلحاظ أنه ليس من ضرر يلحق المقاتل أكثر من الموت والقتل ويطلبه المؤمن لأنه الطريق المستقيم للخلود في النعيم.
الثاني : عودة المؤمنين سالمين من المعركة مع تمنيهم الموت موعظة ودعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل لتجلي مصاديق قانون نصر المؤمنين وسلامتهم في المعركة وإن تمنوا الموت ومالت نفوسهم لمغادرة الدنيا وترجيحها على إستحواذ الكفار على السلطان في الأرض.
الثالث : تأكيد قوانين الموت وأوانه بلحاظ آية البحث من جهات:
الأولى : ليس من تلازم بين تمني الموت وحضوره فلا يعني تمني الإنسان الموت نزوله به، وإن كان في حال النزع أو في سوح القتال.
الثانية : نصر الله عز وجل للمؤمنين وإن تمنوا الموت.
الثالثة : نزول ملائكة النصر والقتال مدداً للمؤمنين في معارك الإسلام الأولى أسرع من نزول ملك الموت.
الرابعة : لاينزل ملك الموت إلا باذن من الله عز وجل، فتفضل سبحانه وحجب نزوله على المؤمنين الذين تمنوا الموت، ليرجعوا بعمر جديد ونافلة من عند الله.
قانون منافع نزول الملائكة
تتعدد مصاديق الأثر العملي والنفع العظيم لنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بقوله تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( )، من جهات:
الأولى : بعث الفزع في قلوب الكفار، وزجرهم عن العودة للهجوم، وهو من أسرار إمتناعهم عن إقتحام المدينة المنورة في معركة الأحزاب مع أن عددهم كان عشرة آلاف مقاتل إلى جانب وجود المنافقين في المدينة.
الثانية : شيوع خبر نزول الملائكة في معركة بدر وأحد بين القبائل والناس جميعاً، وفيه وجوه:
الأول : دعوة الناس لدخول الإسلام.
الثاني : منع القبائل من نصرة كفار قريش وعقد الأحلاف معها.
الثالث : نزول الملائكة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقدمة لتناقل الناس لمعجزاته، وتلاوتهم لآيات القرآن والتدبر في معانيها ودلالاتها، وقال الواقدي باسناده: عن أبي رهم الغفاري، عن ابن عمٍّ له، قال: بينما أنا وابن عمٍّ لي على ماء بدر، فلما رأينا قلة من مع محمد وكثرة قريش، قلنا: إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد وأصحابه، فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحاب محمد، ونحن نقول: هولاء ربع قريش! فبينما نحن نمشي في الميسرة، إذ جاءت سحابةٌ فغشيتنا، فرفعنا أبصارنا إليها فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا رجلاً يقول لفرسه: أقدم حيزوم! وسمعناهم يقولون: رويداً، تتام أخراكم! فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم جاءت أخرى مثل تلك، وكانت مع النبي صلى الله عليه وسلّم، فنظرنا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه فإذا هم الضعف على قريش، فمات ابن عمي، وأما أنا فتماسكت وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلّم. وأسلم وحسن إسلامه( ).
الرابع : البشارة بالأمن للمؤمنين الذين أخبرت آية البحث عن تمنيهم الموت بالسلامة والنداة، ليكون من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين تمني أصحابه الموت في سبيل الله ونزول الملائكة لنصرته ودفع الموت.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يأمر بالقتال ويلزم أصحابه بأن لايبدأوا القتال، بل يعظ الطرف الآخر وينذرهم ويدعوهم إلى كلمة التوحيد بصيغة البيان والوضوح وعدم اللبس وبالإعلان التأريخي الذي كان يدعو به القبائل إلى الإسلام في موسم الحج، قال الواقدي عن قتادة وجماعة قالوا: أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِمَكّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ مِنْ أَوّلِ نُبُوّتِهِ مُسْتَخْفِيًا ثُمّ أَعْلَنَ فِي الرّابِعَةِ فَدَعَا النّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ عَشْرَ سِنِينَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلّ عَامٍ يَتّبِعُ الْحَاجّ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِي الْمَوَاسم بِعُكَاظٍ وَمَجَنّةَ وَذِي الْمَجَاز ِ يَدْعُوهُمْ إلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ حَتّى يُبَلّغْ رِسَالَاتِ رَبّهِ وَلَهُمْ الْجَنّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُجِيبُهُ حَتّى إنّهُ لَيَسْأَلُ عَنْ الْقَبَائِلِ وَمَنَازِلِهَا قَبِيلَةً قَبِيلَةً وَيَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا : لَا إلَهَ إلَا اللّهُ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَتَذِلّ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ فَإِذَا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنّةِ وَأَبُو لَهَب ٍ وَرَاءَهُ يَقُولُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنّهُ صَابِئٌ كَذّابٌ فَيَرُدّونَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَقْبَحَ الرّدّ وَيُؤْذُونَهُ وَيَقُولُونَ أُسْرَتُك وَعَشِيرَتُكَ أَعْلَمُ بِكَ حَيْثُ لَمْ يَتّبِعُوك وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَيَقُولُ اللّهُمّ لَوْ شِئْتَ لَمْ يَكُونُوا هَكَذَا قَالَ وَكَانَ مِمّنْ يُسَمّى لَنَا مِنْ الْقَبَائِلِ الّذِينَ أَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَدَعَاهُمْ وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَة وَمُحَارِبُ بْنُ حصفة وَفَزَارَةُ وَغَسّانُ وَمُرّةُ وَحَنِيفَةُ وَسُلَيْمٌ وَعَبْسُ وَبَنُو النّضْر ِ وَبَنُو الْبَكّاءِ وَكِنْدَةُ وَكَلْبٌ وَالْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ وَعُذْرَةُ وَالْحَضَارِمَةُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ( ).
ليكون من مصاديق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخطابها للناس بالبينة والبرهان، الإنتقال ببضع سنوات من الإعراض عن نبوته والسكوت عمن يؤذيه إلى تمني الموت في سبيل الله وإعلان كلمة التوحيد.
الثالثة : بعث السكينة في نفوس عوائل وأسر المؤمنين بالأمن والسلامة.
الرابعة : ندب المؤمنين للخروج للقتال، فما دام الملائكة مدداً للمسلمين فانهم جميعاً يرعبون بالخروج والجهاد وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ أمور:
الأمر الأول : حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المؤمنين في القتال، وهو نعمة من جهات:
الأولى : قتال المسلمين بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: تعيين مواضع المؤمنين بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
ويحتمل قوله تعالى أعلاه وجوهاً:
الأول : إرادة الوصف الإجمالي لمواقع وهم في المدينة قبل توجههم إلى جبل أحد لإجتمال ملاقاة العدو في أي موضع خارجها، وهو من إعجاز الآية وقوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ].
الثاني : القدر المتيقن تعيين مواضع المؤمنين في أول المعركة.
الثالث : المراد بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمواضع المؤمنين القتالية عند الوصول إلى ساحة المعركة وقبل التقاء الصفين عند جبل أحد.
الرابع : المقصود تحديد مواضع الأفراد في القتال.
الخامس : إرادة تعيين أماكن الطوائف والقبائل وكلاً من المهاجرين والأنصار.
السادس : إختيار الأمراء والجنود وحاملي الألوية والرايات.
السابع : تعيين موضع الرماة وإبلاغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بعدم مغادرتهم لمواضعهم.
الثامن : توجيه الصحابة أثناء المعركة إلى مواضعهم.
التاسع : إرشاد المهاجرين والأنصار إلى كيفية الرمي وحثهم عليه، وعن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبى وقاص يقول: نثل( )، لى رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال: ارم فداك أبى وأمى( ).
العاشر : ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه وسط المعركة، ودعوته للصحابه لعودتهم إليها.
الحادي عشر : شمول الآية لتوجيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنات عند تطوعهن للقتال .
الثالثة :قتال المسلمين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين يديه.
الرابعة : تلقي المسلمين التنزيل بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثناء القتال.
الخامسة : دفاع المسلمين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل معارك المسلمين التي كان حاضراً فيها أو التي لم يحضرها، خاصة معركة أحد والتي تختص بمجئ جيوش المشركين من مكة المكرمة إلى المدينة بقصد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا حثت الآية التالية المسلمين على أخذ الحائطة والحذر في الدين، والدفاع عن النبي بقوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
الأمر الثاني : نزول الملائكة للقتال معجزة عقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق العزة والمنعة وذل الكفار، بقوله تعالى[وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا]( )، فيكون ترغيباَ بالخروج من جهات:
الأولى : هذا النزول مدد لآيات القرآن التي تحث المسلمين على القتال، وتلك معجزة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن ذات الآيات القرآنية معجزة ولها مدد وتأييد وتوثيق من السماء يتجلى في ميدان المعركة ليكون رداً على الذين يقولون أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان نبياً فانه ينتصر في المعركة، ومع عدم ثبوت هذا القانون إلا أن معارك الإسلام الأولى تدل عليه وكذا في قصص الأنبياء، ويحتمل موضوع وأثر ونفع نصرة الملائكة لآيات القرآن بنزولها في القتال وجوهاً:
الأول : إنحصار نفع تعضيد نزول الملائكة لآيات القرآن بخصوص ميدان المعارك في بدر وأحد والخندق وحنين.
الثاني : شمول نفع نزول الملائكة للمسلمين أيام النبوة بلحاظ كبرى كلية وهي الملازمة بين وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين وبين نزول الملائكة للقتال.
الثالث : شمول مقدمات المعركة والإستعداد والتهيئ لها، والذي إختص المسلمون في بابه بتمني الموت عند لقاء العدو ولتصديقهم بنزول آيات القرآن وإتخاذ نزول الملائكة للقتال مدداً لهذه الآيات القرآنية.
الرابع : تجدد التفع من نزول الملائكة للقتال في معارك الإسلام الأولى، كلها تجدد القتال بين المسلمين والكفار، وإن لم يكن فيه نزول للملائكة.
الخامس : أصالة الإطلاق بانتفاع المسلمين من نزول الملائكة في المعارك الأولى للإسلام بالتسليم بنزول آيات القرآن.
والصحيح هو الخامس بلحاظ ترشح مسائل نزول الملائكة لنصرة المؤمنين في القتال، منها:
الأولى : بعث المسلمين على تعاهد آيات القرآن.
الثانية : عناية المسلمين، بالآيات التي تذكر نزول الملائكة للقتال، وبالإمكان إفراد دراسات ومجلدات خاصة بها وبتفسيرها والشواهد عليها.
الثالثة : إدراك المسلمين لحتمية نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن بنزول الملائكة.
الرابعة : بعث الأمل والرجاء في نفوس المسلمين، وحضور موضوع نزول الملائكة عند تلاوة آيات القرآن، وعند الشدائد والمحسن، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ]( ).
الخامسة : شوق المسلمين لتلاوة آيات القرآن بفخر.
رشحات قانون [وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]
من خصائص الآية القرآنية أنها بيان لمضامينها القدسية وللآيات القرآنية الأخرى بما يمنع من التأويل المخالف للمقاصد السامية في القرآن، وهو من الإعجاز الذاتي للقرآن بأن يكون بذاته واقية وحفظاً لما فيه من الأحكام والسنن، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
أي أن حفظ الله عز وجل للقرآن لا يختص بالحروف والرسم والكلمات بل يشمل التفسير والتأويل والسلامة من إتخاذ التفسير والتأويل وسيلة لتحريف المعاني والغايات ، وأنت ترى الخلاف بين فرق المسلمين على مسائل معدودة ضمن آيات القرآن لم يتعدوها إلى غيرها منذ أكثر من ألف سنة ، كما أنهم مجمعون على أمور:
الأول : هذا الخلاف بينهم صغروي.
الثاني : لم يكن هذا الخلاف الفقهي أو الكلامي موجوداً أيام النبوة والتنزيل.
الثالث : لم يعرف الصحابة خلافاً في التفسير بما يعني التحزب والطوائف والمذاهب.
الرابع : إنحصار الخلاف بفئة وطائفة من المسلمين.
ومن إعجاز القرآن إمتناع هذه المسائل الخلافية عن المندوحة والسعة في الخلاف ، وكل فريق يستطيع أن يستدل على قوله بآية من القرآن ، وإمكان الفريق الآخر تفنيد قوله من ذات الآية القرآنية ، وكأنها تدعوهم إلى نبذ الفرقة والخلاف ، وترك الكلام في القرآن بما يؤدي إلى التحزب والتخندق والطائفية.
ومن أسرار فرض قراءة القرآن في الصلاة أمور:
الأول : إنجذاب المسلمين إلى الوحدة في علوم القرآن.
الثاني : الإتحاد في تلاوة آياته وهو من رشحات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي( ).
الثالث : إدراك قبح الإختلاف بينهم وإنعدام الأصل والموضوع له في ذات آيات القرآن.
وبالقراءة اليومية تتعاهد آيات القرآن ضبط المسلمين في وحدتهم ، وتجافيهم عن الفرقة والخلاف ، وكأنها تخبر أهل الخلاف عن أمور :
الأول :إنعدام الأصل للخلاف في تأويل الآيات .
الثاني : أغلب المسلمين ليسوا أطرافاً في ذات الخلاف فلو أخذنا كل خلاف على نحو مستقل لتبين أنه بين طائفتين من المسلمين ، وهل ينطبق على الموضوع ولاية الله عز وجل في قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( )، فيه وجوه :
الأول : إختصاص الآية أعلاه بساحات القتال والخلاف بين بعض طوائف المسلمين على تأويل الآية القرآنية في علم الكلام .
الثاني : موضوع الآية أعلاه هو خصوص الأنصار [وذكر عروة بن موسى بن عقبة أن بنى سلمة وبنى حارثة لما رجع عبد الله بن أبى وأصحابه همتا أن تفشلا، فثبتهما الله تعالى، ولهذا قال: ” إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون “.
قال جابر بن عبد الله: ما أحب أنها لم تنزل والله يقول: ” والله وليهما] ( ).
الثالث : من وجوه ولاية الله في واقعة أحد حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المعركة وأمره ونهيه لأصحابه بالوحي .
الرابع : ولاية الله عز وجل للمؤمنين بنزول الملائكة لنصرتهم ، والحيلولة بين الكفار والظفر .
الخامس : في الآية أعلاه بيان لموضوع الولاية وهو الهم والفشل والجبن والوهن.
السادس : إرادة المعنى الأعم وأن الله عز وجل ولي المؤمنين.
والصحيح هو السادس، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا] ( )فجاء موضوع الآية أعلاه لأمور :
الأول : بيان ماهية الولاية.
الثاني : حضور الولاية في أشق الأحوال ،قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثالث : صيرورة الولاية سبباً في المؤمنين من الإنسحاب من المعركة.
وعلى فرض أنهم إنسحبوا فهل يكون نعتهم أو حكمهم كالمنافقين الثلاثمائة الذين إنخرموا وسط الطريق.
الجواب لا، للتباين الموضوعي، ولأن الله عز وجل نعتهم بالمؤمنين في ذات الآية[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ ( )]( ).
ومن أسرار لغة التبعيض في الآية أعلاه أن ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعامة المقاتلين من المؤمنين في ساحة المعركة عون للطائفتين ومانع من الفشل والجبن، بمعنى أنه من ولاية الله عز وجل للطائفتين ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وباقي المؤمنين من المهاجرين والأنصار في ميدان المعركة فتحاكيهم الطائفتان ويصبرون في اللقاء لتكون ولاية الله عز وجل من جهات :
الأولى :أسباب المدد واللطف الإلهي الذي يأتي للطائفتين مجتمعتين .
الثانية : العون والرشد والهدى من الله لكل طائفة على نحو مستقل بلحاظ الحال والسنخية والخصوص .
الثالثة : المدد الذي يترشح من التنزيل، وهو على أقسام :
الأول : نزول آيات القرآن التي تبعث الطائفتين على ترك الفشل والهمّ بالجبن والخور .
الثاني : نزول القرآن للمؤمنين جميعاً بالحث على الجهاد والصبر في ميادين القتال ، فتكون منافع الآية توليدية فتتغشى المؤمنين جميعاً ومنهم الطائفة التي تهّم وتفكر بالفشل والإنسحاب .
الثالث : إستحضار المؤمنين لآيات القرآن وتلاوتهم لها، وهو من عمومات قوله تعالى [وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) الجواب نعم، بأن يحفظ القرآن بصبر المؤمنين في ميادين القتال وصد كفار قريش الذين أرادوا الإجهاز على النبوة والتنزيل ، ومنع توالي نزول آيات القرآن والعمل بمضامينها .
الرابع : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن وإنقطاعه إلى الدعاء وبشارته بالجنة للمقاتلين والشهداء ، ولم يتمن المؤمنون الموت كما في آية البحث لولا بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمنزلة الرفيعة التي ينالها الشهداء في الآخرة ، والنعيم المقيم الذي يفوز به من إختار القتل في سبيل الله .
الرابعة : فضل الله عز وجل على كل فرد من الطائفتين بامتلاء نفوسهم بالسكينة في ميدان المعركة، وعدم تخاذله.
الخامسة : عمومات قاعدة الصدفة بأن يصرف الله عز وجل المؤمنين عن الهمّ بالفشل والجبن، وهو من أجل مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]، وإن كان أصل قاعدة الصرفة هو خصوص إعجاز القرآن بأن الله عز وجلا يصرف الناس عن معارضته.
السادسة : المدد الذي يتفضل به الله عز وجل على المؤمنين الصابرين في ميدان القتال، فيرى الذين في الميسرة الميمنة في ثبات فيوطنون أنفسهم على الصبر والقتال، وكذا العكس ترى الميمنة الميسرة تقاتل وتذب فتبقى في مواضعها، وفوق هذا فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في القلب ووسط المعركة يتلقى الحجارة ويقترب منه العدو فلم تبق مقدمة، وكذا في معركة حنين إذ إنكشفت المقدمة ومن يليها من كتائب المسلمين الأولى، فكان ثباته من ولاية الله عز وجل للمؤمنين وسبباً لنصرهم ودحر الكفار.
وهل بقي تمني المسلمين الموت في القتال إلى معركة حنين أم أنه إنقطع بمعركة أحد بدليل صيغة الماضي في لغة الخطاب، الجواب إن صيغة الماضي في الآية لا تمنع من إنبساطها على الحاضر والمستقبل لحال المؤمنين، وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فتمني طائفة من المؤمنين الشهادة سنخية متجددة تحذر الكفار من التعدي على ثغور الإسلام ، لذا تخاذلوا وأحجموا عن دخول المدينة يوم الأحزاب مع أنهم عشرة آلاف مقاتل.
ومع أن لفظ الأحزاب يعني التعدد ويفيد المناجاة بينهم للقتال والتباهي والتفاخر بالإستبسال ، ولكن ولاية الله للمؤمنين وتمنيهم الموت بعث الرعب والفزع في قلوب الكفار ومنعهم من إقتحام الخندق خاصة أن من إقتحمه لقى القتل كما في عمر بن ود العامري فارس قريش الذي قتله الإمام علي عليه السلام ، ليكون درساً للكفار من باب الأولوية القطعية فإذا كان فارسهم هذا يقتل في المبارزة فمن باب الأولوية أن من يقتحم بفرسه الخندق يلقى ذات النتيجة، وهو من معاني ومصاديق قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
قوله تعالى [فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ]
لقد كان تمني الموت خاصاً بالمؤمنين ولكن موضوع رؤيته يحتمل وجوهاً:
الأول : إنه خاص بالمؤمنين أيضاَ لخصوص الموضوع.
الثاني : رؤية الموت شاملة لأهل معركة أحد، وبينها وبين تمني الموت بلحاظ الأفراد عموم وخصوص مطلق، لقد تمنى الموت طائفة من المؤمنين أما الذين رأوه فهم جميع الذي حضروا معركة أحد من المهاجرين والأنصار.
الثالث : الذين رأوا الموت جميع الصحابة سواء من خرج منهم إلى معركة بدر أو الذي تخلف في المدينة، ويدخل فيهم الثلاثمائة الذين رجعوا وسط الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول.
الرابع : رؤية الفريقين للموت وهو يتجافى عن الذين تمنوه، وينزجر فلا يصل إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين باعوا أنفسهم حباً لله ودفاعاً عن رسوله الكريم، قال تعالى[وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
الخامس : إرادة المسلمين والناس جميعاً على مر العصور وتعدد الأحقاب وتوالي الأجيال.
والصحيح هو الأخير، فيتدبر فيه المسلمون ويقتبسون منه المواعظ، ويكون إنذاراً ودرساً لعموم الناس ولا يمنع من إرادة العموم في موضوع رؤية نجاة المؤمنين من المعركة من الموت يوم أحد إنقضاء أوانه بلحاظ طي يوم المعركة زماناً وتعاقب السنين، ليكون من إعجاز القرآن تعدد مصاديق اللفظ الواحد، وصيرورة معناه ومصداقه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
وهو من أسرار مجئ الآية بالإخبار عن تمني المسلمين الموت في الزمن الماضي (ولقد كنتم تمنون) بأن إنقضى زمان تمني الموت ولكن موضوعه من جهة التدبر فيه متجدد إلى يوم القيامة.
ويحتمل الضمير [الهاء] في تلقوه وجوهاً:
الأول : إرادة الموت بلحاظ دلالة الضمير على الاسم السابق له وتقدير الآية : ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوا الموت .
الثاني : المقصود هو القتل في سبيل الله، وجاء الخطاب في الآية بصيغة العموم وشمول المسلمين جميعاً به مع أن المراد طائفة منهم فاتهم الإشتراك بمعركة بدر فخرج المسلمون إلى معركة أحد متلهفين بشوق للقاء جيش الكفار، على كثرته وجعجعة سلاحه.
الثالث : المراد جيش الكفار وأنهم جاءوا من مكة إلى المدينة للحرب على الإسلام ومقاتلة المؤمنين.
الرابع : إرادة التقاء الصفين ويكون ذكر الموت من باب الإتيان بالشئ وإرادة أسبابه.
الخامس : المقصود لمعان السيوف التي هي آلة القتل والفتك .
السادس : إرادة سقوط القتلى والشهداء من المسلمين بلحاظ أن الآية خطاب للأحياء منهم ، ليكون المسلمون في ساحة المعركة على أقسام :
الأول : الذين تمنوا الموت وخرجوا من المعركة سالمين .
الثاني : الذين تمنوا الموت وأستشهدوا في المعركة .
الثالث : فريق من المسلمين لم يتمنوا الموت وقد دخلوا المعركة وهم يرجون العودة إلى أهليهم فانعم الله عليهم بالخروج من معركة أحد بالسلامة والنجاة من القوم الكافرين.
الرابع : جماعة من المسلمين لم يتمنوا الموت، فخاضوا غمار القتال يوم أحد، فكتب الله عز وجل لهم الشهادة، وتتضمن آية البحث الثناء على جميع المؤمنين الذين شاركوا في المعركة من جهات:
الأولى : إخبار الآية عن تمني المسلمين الموت والشهادة ، وعدم تعيين الطائفة والأفراد الذين تمنوا الموت.
الثانية : إذا كان أفراد من المسلمين قد تمنوا الموت فإن المؤمنين الذين حضروا معركة أحد لاقوا الموت والقتال، وكان كل واحد منهم عرضة للقتل، والموت بالسيوف أو بالرمح أو بسهم غارب أو بحجر كما أرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برميه بالحجر على وجهه وكسر البيضة التي تقي رأسه، لينالوا جميعاً الشهادة الحتمية أي أجر الشهادة وإن غادروا ساحة المعركة بأمن وسلام .
وتتضمن الآية صيغة الإستفهام بلغة التقرير والجملة الخبرية وهو من إعجاز القرآن وتعدد المقاصد السامية من اللفظ القرآني وتقديرها من وجوه منها :
الأول :ولقد كنتم تمنون الموت فهل لا زلتم على ذات الأمنية .
الثاني : ولقد كنتم تمنون الموت فاسألوا الله السلامة.
الثالث : ولقد كنتم تمنون الموت فهل تعلمون ما أعد الله للشهداء من الثواب العظيم.
الرابع : ولقد كنتم تمنون الموت فلا يعلم عدد الذين يشفع لهم الشهيد إلا الله.
الخامس : ولقد كنتم تمنون الموت فهل ينزجر الكفار.
السادس : ولقد كنتم تمنون الموت فهل تعلمون فضل الله عليكم بالنجاة ودفع الموت عنكم.
السابع : ولقد كنتم تمنون الموت فهل أعددتم له العدة والمقدمات، جواب نعم، من جهات:
الأولى : يدل خطاب الآية على الثناء على المسلمين، وأن الآية تخاطبهم بصبغة الإيمان.
الثانية : موضوع تمني الموت هو الشهادة في سبيل الله، وفيه إكرام للمؤمنين.
الثالثة : ذات تمني الموت والشهادة والإستعداد لها.
الرابعة : ما بعد الشهادة لايستلزم الإستعداد لأنه نعيم محض.
وآية البحث توثيق لحال المسلمين ما بعد معركة بدر وقبل وأثناء معركة أحد، فقد كانوا متلهفين للقاء العدو، وهل هذا التلهف والشوق أمر إبتدائي أم أثر ورد فعل لتهديد ووعيد المشركين.
الجواب هو الثاني، وهو شاهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف بل بثبات المسلمين في مسالك الهدى، وصبرهم في ملاقاة الحتوف في سبيل الله عز وجل، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
إن ملكة حب الشهادة عند المسلمين زاجر للكفار عن الإستمرار بالتعدي، فمع إعلان المسلمين الإستعداد للتضحية والفداء في سبيل الله فقد جاءت جيوش المشركين من مكة لإستئصال نواة الإيمان، وقطع شريان الحياة عن الناس في مشارق الأرض ومغاربها بلحاظ تقوم الحياة بعبادة الناس لله عز وجل، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وتتجلى مصاديق العبادة باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأداء الفرائض والعبادات.
وهل منها تمني طائفة من المسلمين الموت، الجواب إنها من رشحات الإخلاص في العبادة والتفاني في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام.
وفي معنى (رأيتموه) وجوه:
الأول : فقد رأيتم الموت عياناً بسقوط عدد من الشهداء حواليكم.
الثاني : فقد رأيتم أسباب الموت.
الثالث : فقد رأيتم القتال الذي كنتم تتمنوه لدحر الكفار، فعليكم الآن بقهرهم وهزيمتهم، من غير خوف من القتل في سبيل الله.
الرابع : فقد رأيتم الموت بأن صار قريباً منكم، فكل من يدخل المعركة ويزاول القتال والمبارزة يكون الموت قريباً منه، فقد يبرز للعدو، أو يطلبه العدو، أو يحصل إشتباك جامع تلتقي فيه الأسنة، أو يأتيه سهم غارب لا يعرف من رماه أو أن الذي رماه لا يقصد به شخصاً معيناً.
الخامس : فقد رأيتموه وهو مناسبة للأجر والثواب.
السادس : فقد رأيتموه فادفعوه عن رسول الله.
السابع : فقد رأيتموه في معركة أحد، إذ كان التمني بعد معركة بدر حيث غاب عنها عدد من المسلمين.
الثامن : فقد رأيتموه في معركة أحد وهو يختلف عن معركة بدر، وهذا الإختلاف من وجوه منها قلة قتلى المسلمين يوم بدر مع أن المشركين هم الذين بدأوا القتال من جهات:
الأولى : الزحف من مكة للقتال والتعدي.
الثانية : إعراض رؤساء المشركين عن دعوة درء الفتنة وإجتناب القتال، وإصرارهم على القتال.
الثالثة : عدم إصغاء كفار قريش للموعظة والإنذار من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الرابعة : قيام المشركين برمي جيش المسلمين بالسهام، وسقوط قتيلين:
الأول : مهجع مولى عمر بن الخطاب جاءه سهم فقتله، فكان أول قتيل من المسلمين بل من مجموع القتلى يوم بدر.
الثاني : حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار، كان يشرب الماء من الحوض فجاءه سهم فاصاب نحره فمات.
ومن حديث أمه الربيع بنت النضر الأنصارية (أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له: يا رسول الله أخبرني عن حارثة فإن كان من أهل الجنة صبرت وإن كان غير ذلك فسترى ما أصنع. فقال: يا أم حارثة إنها جنان كثيرة وإن حارثة منها في الفردوس الأعلى( ).
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتحريض أصحابه وحثهم على الدفاع عن الملة والدين وعن أنفسهم(وقال :والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر الا ادخله الله الجنة فقال عمير بن الحمام اخو بنى سلمة وفى يده تمرات يأكلهن بخ بخ أفما بينى وبين ان ادخل الجنة الا ان يقتلنى هؤلاء قال ثم قذف التمرات من يده واخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل، وقال ابن عقبة اول قتيل من المسلمين يومئذ عمير بن الحمام)( ).
التاسع : فقد رأيتموه بجهاد أصحابكم وهم يسعون إلى الموت أي فإذا كنتم تمنيتم الموت فإن الشهداء سعوا إليه وإختاروه طريقاً وبلغة وغاية.
العاشر : فقد رأيتم القتال الشديد يوم أحد فلا تفروا منه فإنه يكون عليكم برداً وسلاماً، لأن المؤمنين إذا قاتلوا جميعاً يهون عليهم اللقاء ويندحر العدو الظالم، أما إذا بقي شطر منهم في حال ومرتبة تمني الموت فإن العدو يطمع فيهم.
ومن الإعجاز في الآية أنها ذكرت موضوع الرؤية البصرية بصيغتين:
الأولى : رأيتموه.
الثانية : تنظرون.
وفيه إعجاز قرآني أي أنكم تمنيتم الموت، فتفضل الله عز وجل بكفاية رؤيتكم له وخروجكم سالمين من المعركة مع تدبركم فيه ونظركم إلى القتلى والشهداء الجرحى في ميدان المعركة فلو قالت الآية (فقد رأيتموه) لأحتمل أنهم في الأثر وقد يكون بعد رؤية الموت حضوره عند الإنسان وحصول القتلى.
فجاءت خاتمة الآية (وأنتم تنظرون) بالإخبار عن الأمن في المعركة والسلامة من القتل، ولم تتم هذه السلامة إلا بفضل الله عز وجل.
قانون بيان الجمع وجمع البيان
لما أخبر الله عز وجل عن صفة القرآن بأنه[بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ) فان كل آية منه تحتمل وجوهاً :
الأول : كل آية من القرآن شطر من البيان بلحاظ أنها جزء من القرآن فتحتاج ضمها إلى آيات القرآن الأخرى لتحصيل البيان .
الثاني : كل جمع بين آيتين بيان للناس .
الثالث : لا تفيد الآية القرآنية الواحدة البيان إلا بجمعها مع آيات أخرى في ذات الموضوع أو الحكم .
الرابع : كل آية من القرآن بيان للناس .
الخامس : كل آية من القرآن بيان للمسلمين أو لهم ولطائفة وفريق من الناس .
والصحيح هو الرابع وبيان القرآن للناس بلحاظ أمور:
الأول : القرآن بيان للناس مجتمعين بصفة إتحاد سنخية البشر.
الثاني : القرآن بيان للناس بلحاظ إنتمائهم العقائدي، فهو بيان لكل من:
الأول : المسلمون.
الثاني : أهل الكتاب.
الثالث : الكفار.
الثالث : في القرآن بيان للناس السيد والعبد، والغني والفقير، والرجل والمرأة.
وهو من إعجاز القرآن وبحور اللامتناهي من الخزائن والكنوز العلمية فيه ، خاصة وأنه لا يتعارض مع ترشح البيان عن الجمع من جهات :
الأولى : الجمع بين كل آيتين من القرآن.
الثانية : الجمع بين كل ثلاث آيات من القرآن.
الثالثة : الجمع بين كل أربع آيات من القرآن.
الرابعة : الجمع بين كل خمس آيات من القرآن.
وفي ثناء الله عز وجل على نفسه قال سبحانه[مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا]( ).
وتفضل الله عز وجل وجعل القرآن مرآة للعلوم التي وهبها للخليفة في الأرض تقتبس منها الأحسن والأتم ومنها البيان المترشح عن الجمع بين آيات القرآن .
الخامسة : الجمع بين كل ست آيات ، بمعنى أن كل آية تكون جزء من ست آيات بلحاظ علم التفسير فمثلاً قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) يجمع مع آيات سورة الفاتحة الأخرى ليستقرأ منها المسائل والعلوم.
ثم يجمع مع خمس آيات من سورة الفاتحة والآية الأولى من سورة البقرة لإستقراء المسائل منها مجتمعة.
ثم يجمع مع أربع آيات من سورة الفاتحة وآيتين من سورة البقرة وهكذا لتستخرج درر من البيان تنفع أجيال الناس المتعاقبة ، وهل الجمع بين الآيات لإستنباط الأحكام من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] ( ) الجواب نعم .
ومن هذا الجمع المتعدد جمع آيات البحث مع آيات القرآن بأن تجمع مع آية من القرآن ومع آيتين، وثلاثة، وهكذا لبيان الدروس والمنافع المترشحة عن تمني المؤمنين الشهادة بعد معركة بدر ووقوع معركة أحد لتتجلى مصاديق هذه الأمنية .
قانون إنتشار الإسلام بالحجة والبرهان
ومن الدلائل على أن الإسلام إنتشر بالحجة والبرهان بيان هذه الآية لتمني المؤمنين الموت من جهات :
الأولى :لم يتمن المؤمنون قتل الغير وإستباحة المدن ، بل أرادوا الدفاع عن أنفسهم .
الثانية : لم يأت تمني الموت إلا بعد ان هجم المشركون في معركة بدر ، وجاءت الأخبار بعدها إلى المدينة بأن المشركين يعدون العدة، ويجمعون الرجال والسلاح للهجوم من جديد لغايات خبيثة منها :
الأول : الثأر لقتلاهم في معركة بدر .
الثاني : إختيار كفار قريش الإنتقام لما لحقهم من الهزيمة يوم بدر .
الثالث: إرادة قريش محو الذل بعد إنكسارهم يوم بدر وما أصابهم من الخزي بين القبائل .
الرابع : إدراك قريش ومن ورائهم من الكفار والمنافقين تعاظم شأن الإسلام ، وأن مصالحهم وأهواءهم تلزم الإجهاز عليه ويدل هذا التعاظم على إنتشار الإسلام بالبرهان والموعظة الحسنة وليس بالسيف.
ويهجم الكفار على المسلمين ويسعون لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما تدل عليه الآية التالية [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
وتترشح الرغبة بالشهادة من إصرار الكفار على التعدي والهجوم على المدينة البلدة الوحيدة التي تضم النبوة والإيمان ، ومع هذا فان السيف لم يستطع صدّ الناس عن دخول الإسلام.
فتدل الوقائع على ثبات الإسلام مع إرادة الكفار منع إختياره بالسيف فكيف يقولون إنتشر الإسلام بالسيف ولم يكن عند المسلمين في معارك الإسلام الأولى عدد كاف من السيوف والرماح والخيل والإبل في مقابل كثرتها عند الغزاة الكفار ، وكان معهم يوم بدر فرسان [قال ابن هشام وحدثني بعض أهل العلم أنه كان مع المسلمين يوم بدر من الخيل فرس( )، وكان مع المشركين مائة فرس.
الخامس : تدارك قريش للمحافظة على مقاماتها الرياسية بين القبائل وشأنها بين الأمم إذ كانت لها هيبة خاصة ، ولإستكبار أرباب الكفار من قريش لم يعلموا أن هذه الهيبة من رشحات جوار البيت الحرام ومن المعنى الأعم لقوله تعالى[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ]( ).
السادس : إستصحاب كفار قريش لحال الحنق والسخط بسبب دخول الإسلام إلى بيوتهم ، وتجاهر الأبناء والعبيد بالإيمان وتلاوة آيات القرآن.
فمثلاً كان علي بن أمية بن خلف قد أسلم وهو في مكة ولكنه خرج مع أبيه إلى معركة بدر، وقتل معه في معسكر الشرك قتله عمار بن ياسر ورأت أخته أم صفوان بنت أمية بعد إسلامها الحباب بن المنذر بمكة، فقيل لها(هذا الذي قطع رجل علي بن أمية يوم بدر. قالت: دعونا من ذكر من قتل على الشرك! قد أهان الله عليًّا بضربة الحباب بن المنذر، وأكرم الله الحباب بضربه عليًّا، قد كان على الإسلام حين خرج من ها هنا، فقتل على غير ذلك)( ).
السابع : تحريض المنافقين والفاسقين لقريش لأخذ الثأر ووعدها بنصرها وجعل الناس يتركون إتباع نهج النبوة منهم كعب بن الأشرف الذي لم يصدق بالهزيمة القاسية التي نزلت بكفار قريش ،[قَالَ ابن إسْحَاقَ وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ : أَنّهُ لَمّا أُصِيبَ أَصْحَابُ بَدْرٍ ، وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إلَى أَهْلِ السّافِلَةِ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ بَشِيرِينَ بَعَثَهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ عَلَيْهِ وَقَتْلُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُغِيثِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ الظّفَرِيّ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، وَصَالِحُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ كُلّ قَدْ حَدّثَنِي بَعْضَ حَدِيثِهِ قَالُوا : قَالَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَكَانَ رَجُلًا طَيّءٍ ، ثُمّ أَحَدَ بَنِي نَبْهَانَ ، وَكَانَتْ أُمّهُ مِنْ بَنِي النّضِيرِ ، حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ : أَحَقّ هَذَا ؟ أَتَرَوْنَ مُحَمّدًا قَتَلَ هَؤُلَاءِ الّذِينَ يُسَمّي هَذَانِ الرّجُلَانِ يَعْنِي زَيْدًا وَعَبْد اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَهَؤُلَاءِ أَشْرَافُ الْعَرَبِ وَمُلُوكُ النّاسِ وَاَللّهِ لَئِنْ كَانَ مُحَمّدٌ أَصَابَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا .
شِعْرُهُ فِي التّحْرِيضِ عَلَى الرّسُولِ فَلَمّا تَيَقّنَ عَدُوّ اللّهِ الْخَبَرَ ، خَرَجَ حَتّى قَدِمَ مَكّةَ ، فَنَزَلَ عَلَى عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ بْنِ ضُبَيْرَةَ السّهْمِيّ وَعِنْدَهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَأَنْزَلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ وَجَعَلَ يُحَرّضُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَيُنْشِدُ الْأَشْعَارَ وَيَبْكِي أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ ، الّذِينَ أُصِيبُوا بِبَدْرِ فَقَالَ
طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِك أَهْلِهِ … وَلِمِثْلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلّ وَتَدْمَعُ
قُتِلَتْ سَرَاةُ النّاسِ حَوْلَ حِيَاضِهِمْ … لَا تَبْعُدُوا إنّ الْمُلُوكَ تُصَرّعُ
كَمْ قَدْ أُصِيبَ بِهِ مِنْ أَبْيَضَ مَاجِدٍ … ذِي بَهْجَةٍ يَأْوِي إلَيْهِ الضّيّعُ
طَلْقُ الْيَدَيْنِ إذَا الْكَوَاكِبُ أَخْلَفَتْ … حَمّالُ أَثْقَالٍ يَسُودُ وَيُرْبَعُ
وَيَقُولُ أَقْوَامٌ أُسَرّ بِسَخَطِهِمْ … إنّ ابن الْأَشْرَفِ ظَلّ كَعْبًا يَجْزَعُ
صَدَقُوا فَلَيْتَ الْأَرْضُ سَاعَةَ قُتّلُوا … ظَلّتْ تَسَوّخُ بِأَهْلِهَا وَتُصَدّعُ
صَارَ الّذِي أَثَرَ الْحَدِيثَ بِطَعْنِهِ … أَوْ عَاشَ أَعْمَى مُرْعَشًا لَا يَسْمَعُ
نُبّئْت أَنّ بَنِي الْمُغِيرَةِ كُلّهُمْ … خَشَعُوا الْقَتْلَ أَبِي الْحَكِيمِ وَجُدّعُوا
وَابْنَا رَبِيعَةَ عِنْدَهُ وَمُنَبّهٌ … مَا نَالَ مِثْلَ الْمُهْلِكِينَ وَتُبّعُ
نُبّئْت أَنّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامِهِمْ … فِي النّاسِ يَبْنِي الصّالِحَاتِ وَيُجْمَعُ
لِيَزُورَ يَثْرِبَ بِالْجُمُوعِ وَإِنّمَا … يَحْمَى عَلَى الْحَسَبِ الْكَرِيمِ الْأَرْوَعُ]( ).
الثالثة : إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض لسفكه الدماء ، فجاء تمني المؤمنين الشهادة لتسليمهم بعزم قريش على الإجهاز عليهم وأن الكفار لا يرضون إلا بقتلهم ، فطاب لنفوسهم القتل في سبيل الله ، ومن الإعجاز أن هذا التمني واقية من سفك الدماء ، من وجوه :
الأول : سلامة المؤمنين الذين تمنوا الموت من القتل بدليل ذات آية البحث التي تخبر عن بقائهم أحياء بدليل رؤيتهم الموت وهم ينظرون .
الثاني : نجاة شطر من الكفار من القتل من جهات :
الأولى : توبة فريق من الكفار .
الثانية : هزيمة الكفار سواء يوم بدر أو يوم أحد الذي ورد فيه قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، ومن خصائص الخيبة ترشح القعود عنها ، وعدم معاودة القتال بعده.
فان قلت جاء بعدها الكفار بعشرة آلاف مقاتل في معركة الأحزاب، والجواب لم تقع حرب في هذه المعركة ، وكانت حصاراً دام أكثر من عشرين يوماً ثم رجعوا بإنكسار وفيه إعجاز وهو عدم إختصاص الآية أعلاه بإنقلاب الكفار خائبين بواقعة أحد بل يشمل المعارك التالية كالخندق، ويشمل معركة بدر السابقة لنزول الآية اعلاه وإن كان الأصوليون لا يقولون بالإستصحاب القهقري بأن يكون الشئ متيقناً منه في الحال مع الشك به في الزمن السابق.
وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : فانقلبوا خائبين في معركة بدر .
الثاني : فينقلبوا خائبين في معركة احد .
الثالث: فسينقلبوا خائبين في معركة الخندق .
الرابع : فسوف ينقلبوا خائبين في المعارك اللاحقة .
وكل واحدة من معارك الإسلام هذه ورجوع الكفار خائبين حرز من سفك الدماء الذي إحتج به الملائكة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ] ( ) في رد الله عز وجل عليهم .
الثالثة : إصابة الكفار باليأس من تحقيق الغلبة في سوح المعارك ، وآية البحث من أسباب إمتلاء نفوس الكفار باليأس والقنوط ، ومن الإعجاز في المقام أن تمني المؤمنين القتل ، وبيان الله عز وجل له في آية البحث من أهم اسباب إصابة الكفار باليأس والقنوط.
وهل تجعل آية البحث المؤمنين يتمنون القتل في سبيل الله أم ان بيان المفسرين بأن الآية عتاب لهم سبب في إمتناعهم عن تمني الشهادة ، الجواب هو الأول ، فهذه الآية تبعث طائفة من المؤمنين على تمني الموت إن داهمهم جبار غاشم وفيه إعجاز وهو أن التفسير المتباين لا يقف برزخاً دون تلقي المؤمنين الآية من غير واسطة علم التفسير ، ومن الأصوليين من ذهب إلى التساقط في الخبرين المتعارضين ، والمختار أنه لا تصل النوبة إلى التساقط ، وتبين ذات الآية القرآنية معاني مضامينها القدسية وأن لم يكن على نحو التفصيل وهو من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ).
إن قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )، بيان لإنكسار الكفار ببطش الله عز وجل بهم ونزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وكبت وحنق الكفار وعجزهم عن مواجهة المسلمين مع قلة عددهم ونقص أسلحتهم ومؤنهم فيكون تدارك هذه القلة والنقص بتمني الموت وإقتحام صفوف العدو من غير تفريط أو تهور بل عن شجاعة وإيمان وإرادة قصد القربة.
قانون الحاجة إلى جمع القرآن
المختار أن في كل آية قرآنية حكماً يتجلي في منطوقها أو يقتبس ويستقرأ من مفهومها ليكون النفع من القرآن حاضراً في الوجود الذهني وفي المجتمعات وعند الحكام ، وجاءت آية البحث لتبين للناس حكماً متعدداً من جهاد المسلمين الأوائل الذين فازوا بصحبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،ونعمة حضور تنزيل آيات القرآن إذ تلقى التابعون والأجيال من بعدهم القرآن كاملاً ومحصوراً بين دفتين ، أما الذين تخاطبهم آية البحث فانهم تلقوا القرآن على نحو التدريج والتوالي مع تعاقب الأيام والليالي لذا كان بعض الصحابة يسأل الآخر عما نزل من القرآن في اليوم الذي لم يكن حضر فيه عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وتفضل الله عز وجل وجعل آيات وسور القرآن قريبة من كل إنسان، والمصحف موجوداً في كل بيت من بيوت المسلمين يدعوهم إلى تلاوته ، ويذكرهم بأحكامه وسننه وهو باب للرزق الكريم وفيه البركة والفضل ومقدمات صرف البلاء وهو من منافع وثمرات جمع القرآن الذي كان حاجة للمسلمين والناس جميعاً .
ويحتمل النفع في جمع آيات القرآن في المصحف سعة وضيقاً وجوهاً :
الأول : إرادة النفع العام للمسلمين والمسلمات، وحضوره عندهم في السراء والضراء .
الثاني : النفع لخصوص الصحابة والتابعين ،وما بعدهم من الطبقات والأجيال يأخذون منهم .
الثالث : إنتفاع الناس جميعاً من جمع القرآن في المصحف .
والصحيح هو الثالث من جهات :
الأولى : عمل المسلمين بأحكام القرآن رحمة بالناس جميعاً .
الثانية : في جمع القرآن عصمة من الفرقة والخلاف بين المسلمين .
الثالثة : جمع القرآن في المصحف دعوة للناس للتدبر في مضامينه القدسية وسبل للهداية ، قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] ( ).
الرابعة :في جمع القرآن زجر لأهل الشك والريب .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان ممكناً محتاجاً بلحاظ أن الحاجة ملازمة لعالم الإمكان وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل ممكن محتاج .
الصغرى : الإنسان كائن ممكن .
النتيجة : الإنسان محتاج .
ولو إجتمع الناس وتآزروا فيما بينهم بقضاء حوائجهم، فهل يستطيعون سد حاجاتهم أو حاجات بعضهم ولو واحد منهم ، الجواب لا ، وتلك آية في خلق الإنسان، وتخلفهم هذا مثل عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن ،قال تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ).
الخامسة : منع طرو التحريف على كلمات وآيات القرآن .
ومن الآيات أن القرآن جمع في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم تكرر جمعه في أيام الخلفاء وعلى نحو متعدد لإدراك موضوعية هذا الجمع وعظيم نفعه.
(عن أنس بن مالك ان حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان في ولايته وكان يغزو مع اهل العراق قبل ارمينية واذربيجان في غزوهم ذلك الفرج من اهل الشام واهل العراق فتنازعوا في القرآن حتى سمع حذيفة رضى الله عنه من اختلافهم فيه ما ادعوه فركب حذيفة حتى قدم على عثمان رضى الله عنه فقال يا امير المؤمنين ادرك هذه الامة قبل ان يختلفوا في القرآن اختلاف اليهود النصارى في الكتب ففزع لذلك عثمان رضى الله عنه فارسل إلى حفصة بنت عمر ان ارسلي الينا بالصحف التى جمع فيها القرآن فارسلت بها إليه حفصة فامر عثمان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص و عبد الله بن الزبير و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ان ينسخوها في المصاحف)( ).
وهو من الشواهد على سلامته من التحريف ، وقد إختار كثير من المسلمين حفظ القرآن على صدورهم ، وكان كل واحد منهم مرآة للمصحف في صدره وقوله وفعله تأسياً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [وعن عائشة قالت : كان خلقه القرآن : يرضى لرضاه ويسخط لسخطه] ( )، ليكون كل واحد من المسلمين من جنود الرحمن وداعية للتنزيل وآية في العالمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فإن قلت وردت في بعض كتب فرق المسلمين أخبار عن وجود نقص في القرآن وسقوط آيات عديدة منه، وربما ذكرت سورة لم تكن في القرآن المتوارث عند المسلمين إلى يومنا هذا وحتى يوم القيامة (وفي مصحف ابن عباس قراءة أبيّ وأبي موسى: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك.
وفي مصحف حجر: اللهم إنا نستعينك، وفي مصحف ابن عباس قراءة أبيّ وأبي موسى: اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد( )، نخشى عذابك ونرجو رحمتك، إن عذابك بالكفار ملحق)( ).
وليس من ملازمة بين وجود أخبار ضعيفة في سندها أو دلالتها أو هما معاً بخصوص النقص في القرآن عند طائفة من المسلمين وبين قولهم بسلامته من التحريف، فلا موضوعية لكل الأخبار بعد حرص أجيال المسلمين على حفظ وتوارث آيات وسور القرآن من جهات:
الأولى : رسم القرآن وكتابة حروفه وكلماته، وظهرت قواعد في كتابة ورسم حروف اللغة العربية ولكنها لم تصل إلى حدود رسم القرآن من وجوه:
الأول : بقاء حروف القرآن على رسمها توقيفية.
الثاني : إنه صورة مشرقة ومرآة لتعاهد المسلمين للقرآن.
الثالث : عدم وصول يد التحريف إليه من باب الأولوية من وجهين:
الأول : عدم تغيير رسم الحرف القرآني وفق الضوابط النحوية المستحدثة مع عدم تبديله يغير المعنى شاهد على سلامة رسمه من التحريف والتبديل الذي يفيد تغيير المعنى.
الثاني : سلامة الحرف القرآني في رسمه شاهد على حفظ الكلمة القرآنية برسمها ومعناها موضوعاً وحكماً.
الثانية : بذل كل طائفة من المسلمين الوسع في حفظ القرآن وكلماته، ومن مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( ) إجتهاد علماء المسلمين في أمور:
الأول : حفظ كلمات وآيات القرآن.
الثاني : ضبط آيات القرآن وفواصلها.
الثالث : تلاوة آيات القرآن في الصلاة وحلقات الدرس وغيرها.
الرابع : تفسير آيات القرآن، وبيان مفردات وأسرار كلماته.
الخامس : جعل آيات القرآن ميراث العالم لأهله وطلبته.
السادس : تأكيد سلامة القرآن من التحريف والتبديل.
ومن إعجاز القرآن الغيري في المقام أمور:
الأول : ليس من طائفة أو فرقة من فرق المسلمين تقول بتحريف القرآن وحصول النقص في كلماته وآياته وسوره، ولا عبرة بأقوال أفراد يستدلون بنصوص ضعيفة من جهات :
الأولى : لا ملازمة بين قول فرد من طائفة وبين قول الطائفة والفرقة، فلا يصح نسبة القول الشخصي إليها وإن كان القائل من علمائها.
الثانية : ضعف الحديث سنداً عند ذات الطائفة والطعن ببعض رجاله حجة في عدم نسبة القول لها .
الثالثة : مسألة سلامة القرآن من التحريف أمر عام يخص جميع المسلمين في أجيالهم المتعاقبة فلا يصح أخذ قول العلماء بلحاظ أنهم علماء طائفة وفرقة بل لا بد من موضوعية نسبة العالم إلى الإسلام ويقال إنه من علماء المسلمين ومن يخالف عموم العلماء بهذه المسألة العامة لا يعتد بقوله ويكون من القليل النادر الذي لا حجة بقوله .
الثاني : إجماع المسلمين على عدم الزيادة في القرآن، فكل ما بين الدفتين هو قرآن، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالث : دلالة علم التفسير على صدق نزول كلمات وسور القرآن.
الرابع : إنتفاء التعارض بين كلمات وآيات القرآن.
الخامس : علم سياق الآيات ودلالته على التطابق والتداخل بين آيات القرآن.
السادس : البلاغة التي ينفرد بها القرآن إلى يوم القيامة.
فان قلت ذكرت آية البحث تمني المؤمنين الموت ، وهل يضر هذا التمني بجمع القرآن وإنتفاع الناس منه ، الجواب لا، لوجوه:
الأول : حدوث هذا التمني عند طائفة من المؤمنين ممن فاته الإشتراك في معركة بدر .
الثاني : ليس من ملازمة بين تمني الموت ووقوعه ، فقد يتمنى الإنسان الموت بسبب مرض عضال ألم به ، ولكنه يتعافى منه ويموت قريبه الذي كان في عافية ومقبلاً على الدنيا ، وفي زينتها ومباهجها أمانيه .
الثالث : سلامة المؤمنين من الموت الحال حتى مع تمنيهم له ، فان قلت الموت الذي يتمنون لإعلاء كلمة التوحيد في الأرض ، والجواب هذا صحيح ، ولكن المؤمن يطلبون ليس أمراً قبيحاً ، فهم يسعون إلى رفع لواء الإسلام ويبذلون مهجهم لتثبيت دعائمه، فإن المؤمن يرزق مرتبة الشهادة في سبيل الله بطاعته لله ورسوله وأدائه الفرائض وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أسرار عموم الخطاب في هذه الآية
ومن معاني ودلالات عموم الخطاب في الآية أمور:
الأول :توجه الخطاب لكل المسلمين بيان أن تمني الشهادة والقتل في سبيل الله من خصائص المسلمين ، وهو ثمرة من ثمرات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهل يتضمن تمني الموت إرادة التعدي الجواب لا ، فقد أكدت الآية قبل السابقة بأن [َاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ) .
الثاني : تنمية ملكة حب الشهادة في نفوس المسلمين .
الثالث : سلامة نفوس المسلمين من الخوف والخشية من الكفار المعتدين .
الرابع : نشر العدل وأسباب الأمن في الأرض ،فاذا علم المفسدون إستعداد المسلمين للجهاد بالنفوس، والصبر في المرابطة إختاروا الإنقباض عن التعدي والظلم ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فالنسبة بين تمني القتل ووقوعه هي العموم والخصوص المطلق فقد يقع القتل على الذي لا يتمناه والذي يهرب مع الذل والهوان للغرور والعتو الذي يتغشى الكفار الظالمين .
الخامس : ورود الخطاب في الآية للمسلمين جميعاً بأنهم قد تمنوا الموت إخبار عن الأجر والثواب الذي يأتي للمسلمين بسبب تمني طائفة منهم القتل في سبيل الله.
السادس : بيان قانون دائم وهو الأمة التي تتمنى الموت والشهادة في سبيل الله لا تقهرها الأمم الأخرى، وهو من الشواهد على أمور:
الأول : تأكيد ماهية خلافة الإنسان في الأرض وأنها تتقوم بالتقوى والصبر في ميادين القتال.
الثاني : من خصائص المؤمنين حب الشهادة عندما يأتي العدو الكافر غازياً إذ وردت الآية بلحاظ تكرار قدوم كفار قريش للقتال وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الفعل الماضي ( ولقد كنتم) بلحاظ أنه عند زوال سبب هذا التمني ينقطع ذات التمني، ويتوجه المسلمون إلى التفقه في الدين وعمارة الأرض.
ويمتاز المسلمون من بين الناس بأن عمارتهم للأرض من جهات:
الأولى : إقامة الفرائض العبادية، وسنن التقوى ونشر مفاهيم الصلاح.
الثانية : عمارة الأرض باحيائها بالزراعة والعمران والمكاسب والرزق الحلال.
الثالثة : تتقوم حياة المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل فرد من الأمر والنهي بذرة صالحة تنبت في النفوس فتورق شجرة مثمرة تكون مقدمة للتفيئ بسدرة المنتهى يوم القيامة، قال تعالى[مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
الثالث : إثبات قانون وراثة المؤمنين للأرض، وإزاحة الباطل وتنحية المشركين عن مقامات الرياسة والتأثير والأثر، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الرابع : صيغة الإطلاق والإتصال في علة خلق الناس وهي العبادة فلا يستطيع الكفار منع المؤمنين من عبادة الله ودعوتهم للهدى والإيمان قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ويؤثم الكفار بسبب تمني المسلمين الموت من جهات:
الأولى : حمل المسلمين على تمني الموت لإرادة الكفار قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقضاء على نواة الإسلام.
الثانية : لقد علم رؤساء الشرك أن ضياء الإيمان لابد وأن يشع في أرجاء الأرض وأنه يأتي على ما لهم من الجاه والشأن بالباطل والمال السحت بالربا ونحوه، ويمنع من الفسوق والفجور ويكونون معه خاضعين لأحكام الشريعة بالتساوي والعرض مع الناس جميعاً.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلاَّ بالتقوى)( ).
وعن أنس بن مالك قال صلى الله عليه وآله وسلم: الناس كأسنان المشط( ).
لقد أدرك الناس التغيير للأحسن الحاصل في المجتمعات والنفوس بتوالي نزول آيات القرآن، وعموم موضوعاتها.
الثالثة : لم يتمن المسلمون القتل إلا دفاعاً عن الإسلام، فقد تمنوه بما هم مؤمنون يلاقون الأذى والتخويف من المشركين.
الرابعة : حصل تمني الموت عند المؤمنين بين معركة بدر وأحد، وكل واحدة منهما وقعت بسبب زحف المشركين بجيوشهم وأسلحتهم وخيلهم لقتال المسلمين، فكان تمني الموت إعلاناً لتحدي الكفار، وهذا التحدي متعدد من وجوه:
الأول : مبارزة الكفار في سوح القتال، ومواجهة الحتوف خاصة مع كثرة عدد وعدة الكفار.
الثاني : التحدي بتمني الموت لهدم صرح الكفر والضلالة وهدم الأصنام، قال تعالى[قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ]( ).
الثالث : دك هيبة الكفار بين الناس، وإزاحة سلطانهم عن النفوس، لينعدم البرزخ بين الناس وبين التنزيل والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيتمنى المسلم الموت من أجل إنقاذ غيره من سطوة أرباب الضلالة وإستحواذ النفس الشهوية على أمانيه.
الرابع : توطين النفس على الصبر لأن السعي للموت من أشد ضروب الصبر، وليس فيه لذة ولا تميل اليه النفس إلا أن يكون في مرضاة الله وعن حاجة وضرورة في جنب الله، ليتفضل الله فيصرفه ويحقق للمسلمين ما يصبون إليه من معالم الإيمان.
الخامس : ثبات المؤمنين في منازل الإيمان وعدم الإرتداد عن الإسلام، ولا يختص هذا الثبات بالذين تمنوا الموت بل يشمل غيرهم لما فيه من شد العزائم وشحذ الهمم، ليكون تمني الموت نوع مواجهة وملاقاة لوعيد الكفار إذ تتواتر الأنباء إلى المدينة بأن الكفار يعدون العدة للهجوم على المدينة فيعود الركبان بالأخبار عن تمني المسلمين الموت في سبيل الله.
وهل كان الكفار يتمنون الموت أيضاً عند هجومهم على المدينة الجواب لا، للتباين الموضوعي والحكمي.
وتجلى في معركة الخندق إذ زحف عشرة آلاف مقاتل من المشركين وحاصروا المدينة، ورابط المؤمنون داخل الخندق يحرسون المدينة، ويمنعون المشركين من الجور والتعدي، فكانت ثمرة صبر المؤمنين على وجوه:
الأول : منع إستباحة المدينة.
الثاني : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل.
الثالث : نجاة المهاجرين والأنصار من القتل أو أسر شطر آخر.
الرابع : خزي المنافقين، وعدم شماتتهم.
الخامس : الأمن والسكينة لأهل المدينة.
السادس : تهيئ وتوثب عوائل المسلمين للدفاع في الأزقة , ومن على سطوح البيوت وبين النخيل، وأهل المدينة أدرى بطرقها ومداخلها.
السابع : التأكيد العملي لقانون عدم الملازمة بين تمني الموت ووقوع القتال والحرب.
وهل لتمني المؤمنين الموت في المعركة موضوعية في نزول الملائكة لنصرتهم الجواب لا دليل عليه، فإن قلت هذا التمني من مصاديق التقوى في قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
الجواب عطفت الآية التقوى والخشية من الله على الصبر مما يدل على إرادة الفعل والعمل الذي يتصف بصبغة التقوى بينما التمني رغبة وحال نفسانية وتحد للكفار لمعاودتهم الهجوم على المدينة المنورة.
ولو لم يأت الكفار ويخوضوا معركة بدر ضد الإسلام، ثم جاءت الأخبار بعد أقل من سنة من المعركة بأنهم زاحفون في معركة أحد فهل يتمنى المسلمون الموت الأقوى لا، خاصة وأن الكفار أرادوا الثأر والإنتقام في أحد من قتلاهم في معركة بدر، وتجلى بوجوه:
الأول : منع رؤوس الشرك في مكة البكاء والنياحة على قتلاهم في بدر كيلا يضعف هذا البكاء همتهم وعزائمهم للقتال.
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ قَالَ نَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهُمْ ، ثُمّ قَالُوا : لَا تَفْعَلُوا فَيَبْلُغَ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِكُمْ وَلَا تَبْعَثُوا فِي أَسْرَاكُمْ حَتّى تَسْتَأْنُوا بِهِمْ لَا يَأْرَبُ عَلَيْكُمْ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الْفِدَاءِ قَالَ وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ قَدْ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ زَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَعُقَيْلُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالْحَارِثُ بْنُ زَمَعَةَ وَكَانَ يُحِبّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى بَنِيهِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ سَمِعَ نَائِحَةً مِنْ اللّيْلِ فَقَالَ لِغُلَامِ لَهُ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ اُنْظُرْ هَلْ أُحِلّ النّحْبُ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا ؟ لَعَلّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حَكِيمَةَ يَعْنِي زَمَعَةَ فَإِنّ جَوْفِي قَدْ احْتَرَقَ قَالَ فَلَمّا رَجَعَ إلَيْهِ الْغُلَامُ قَالَ إنّمَا هِيَ امرأة تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلّتْهُ . قَالَ فَذَاكَ حِينَ يَقُولُ الْأَسْوَدُ
أَتَبْكِي أَنْ يَضِلّ لَهَا بَعِيرٌ … وَيَمْنَعَهَا مِنْ النّوْمِ السّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ … عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتْ الْجُدُودُ
عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ … وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْوَلِيدِ
وَبَكّي إنْ بَكَيْت عَلَى عُقَيْلٍ … وَبَكّي حَارِثًا أَسَدَ الْأُسُودِ
وَبَكّيهِمْ وَلَا تَسِمِي جَمِيعًا … وَمَا لِأَبِي حَكِيمَةَ مِنْ نَدِيدِ
أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمْ رِجَالٌ … وَلَوْلَا يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَسُودُوا)( ).
قانون لزوم الموت
لم تقل الآية ولقد كنتم تمنون الشهادة أو (كنتم تمنون القتل ) أو (ولقد كنتم تمنون القتل في سبيل الله) بل جاءت بصيغة الموت، وفيه مسائل:
الأولى : إرادة صيغة الإطلاق ، ومفارقة الدنيا ، ومغادرة الروح الجسد طاعة لله عز وجل.
الثانية : بيان قانون وهو أن الموت حق، وهو خاتمة حياة الإنسان في الدنيا ، قال تعالى [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ] ( ).
الثالثة : غبطة وسعادة المسلم برجوعه إلى الله عز وجل ببلوغه مرتبة الإيمان وإحرازه سبيل النجاة .
الرابعة : بين الموت والشهادة في سبيل الله عموم وخصوص مطلق ، فكل شهادة وقتل في سبيل الله هو موت وليس العكس .
الخامسة : بيان المائز بين المسلمين بتمنيهم الموت وبين كفار قريش الذين قطعوا مئات الأميال ليحاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين حباً للدنيا ، قال تعالى في ذم المنافقين[قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]( ).
السادسة : بيان مواظبة المسلمين على ذكر الموت في حال الرخاء والسعة وأيام السلم ، ومن مصاديق آية البحث أنها تذّكر المسلمين في أجيالهم المتعاقبة بالموت، وتجعلهم يذكرونه بتلاوتها وإستحضار مضامينها القدسية، [قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : أكثروا ذكر هادم اللذات قالوا و ما هادم اللذات قال الموت] ( ).
وبين تمني الموت وذكره عموم وخصوص مطلق، فكل تمن للموت هو ذكر له، وليس العكس، لتكون ذات النسبة بين المؤمنين الذين تمنوا الموت وبين عموم المسلمين والمسلمات الذين لا يتمنون الموت، ولكنهم يذكرونه، وفي هذا الذكر بلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى : إنتفاء الكراهة أو الحرمة عن تذكر الموت.
الثانية : التسليم بالعالم الآخر والحياة بعد الموت.
الثالثة : الإستعداد للحساب بالعمل الصالح.
الرابعة : عدم الجزع من لقاء العدو لأن أقصى أثر له هو الموت.
الخامسة : تفقه المسلم بحقيقة الموت وأنه أمر حتم، ليكون إختيار الشهادة والقتل في سبيل الله أمناً وسلامة في الآخرة.
السادسة : ذكر المسلم للموت سبب لتعاهده الفرائض والعبادات.
السابعة : في تمني المسلمين القتل مناسبة للخسارة، فاذا كان كل مسلم يتمنى القتل، فقد لا يرزقون النصر إنما يكون موت وشهادة عدد من المسلمين طريقاً لنصر الإسلام والمسلمين فيسقط عدد من الشهداء مضرجين بدمائهم ليبقى صرح الإيمان، وتدخل جماعات وطوائف من الناس في الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ] ( )، أي يدخلون بقتل عدد من المسلمين حيث يتحقق النصر والغلبة على الكفار والمشركين .
الثامنة : تمني المسلمين الموت دليل على سلامتهم من الغفلة وأنهم مستعدون للأجل المحتوم إذا جاءهم بطاعة الله ورسوله .
التاسعة : يبعث تمني المسلمين الموت الفزع في نفوس المشركين ويحبط كيدهم ، لدلالته على قصور الأمل عند المسلمين ، وعدم طمعهم في مباهج الدنيا .
[عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تحدثوا عن بني إسرائيل ، فإنه كانت فيهم الأعاجيب، ثم أنشأ يحدث قال : خرجت طائفة منهم فأتوا مقبرة من مقابرهم، فقالوا: لو صلينا ركعتين فدعونا الله عز وجل يخرج لنا بعض الأموات يخبرنا عن الموت قال: ففعلوا فبينا هم كذلك إذ طلع رجل رأسه من قبر بين عينيه أثر السجود، فقال: يا هؤلاء ما أردتم إلي فوالله لقد مت منذ مائة سنة فما سكنت عني حرارة الموت حتى كان الآن فادعوا الله أن يعيدني كما كنت)( ).
عن الحسن قال: لمّا احتضر عمرو بن العاص نظر إلى صناديق، فقال: من يأخذها بما فيها؟ ياليته كان بعراً؛ ثم أمر الحرس فأحاطوا بقصره، فقال بنوه: ما هذا؟ فقال: ما ترون هذا يغني عنّي شيئاً.
عن عوانة بن الحكم، قال: كان عمرو بن العاص يقول: عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه!؛ فلما نزل به قال له ابنه عبد الله بن عمرو: يا أبت، إنك كنت تقول: عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فصف لنا الموت وعقلك معك. فقال: يا بنيّ، الموت أجل من أن يوصف، ولكنّي سأصف لك منه شيئاً؛ أجدني كأن على عنقي جبال رضوى، وأجدني كأن في جوفي شوك السّلاّء، وأجدني كأن نفسي يخرج من ثقب إبرة)( ).
العاشرة : بيان حقيقة وهي أن المسلمين يعملون للآخرة ، ويرجون ما بعد الموت من الثواب بالفعل الحسن والعمل الصالح فيما قبل الموت.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله]( ).
قانون دفع الإشاعة
إنتشرت الإشاعة يوم أحد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قُتل في المعركة ولم يكن الأمر يختص به كقائد بل كان المسلمون ينظرون إلى تقوم أمور الشريعة وأحكام الدين بشخصه الكريم لمقام النبوة، وتوالي نزول الوحي عليه، ويحتمل محل وموضوع هذه الإشاعة وجوهاً:
الأول : إنحصار الإشاعة بصفوف المسلمين.
الثاني : الإشاعة خاصة بجيش المشركين خاصة وأنها صدرت عنهم عن سوء قصد.
الثالث : شيوع دعوة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة وعند الفريقين وبلوغها المدينة.
الرابع : إنتشار الإشاعة على نحو السالبة الجزئية عند الفريقين.
والصحيح هو الثالث بإستثناء قلة من المؤمنين الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذبون عنه ويقاتلون دونه، لتتضمن آية البحث حث المؤمنين على القتال وسط هذه الإشاعات التي لا أصل لها، لأنهم عشقوا الجهاد عن إيمان وتفقه وتدبر في ماهية الحياة الدنيا.
فإن أنس بن النضر الأنصاري قال حين سمع إشاعة وخبر مقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: فَمَاذَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ ؟ ( قُومُوا ) فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ثُمّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ وَبَهْ سُمّيَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حُمَيْد الطّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ لَقَدْ وَجَدْنَا بِأَنَسِ بْنِ النّضْرِ يَوْمئِذٍ سَبْعِينَ ضَرْبَةً فَمَا عَرَفَهُ إلّا أُخْتُهُ عَرَفَتْهُ بِبَنَاتِهِ)( ).
لبيان قانون وهو أن آية البحث حرز وواقية، حرز من الإشاعة الضارة والسموم، وواقية من النفاق وأسباب الشك والريب.
ترى من الذي أشاع مقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما هو وسببها، فيه وجوه :
الأول : صياح الشيطان: قتل محمد [عن المسور بن مخرمة قال : قلت لعبد الرحمن بن عوف يا خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد؟ قال : اقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا {وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال}( ) إلى قوله {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} قال : هم الذين طلبوا الأمان من المشركين إلى قوله { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه } قال : هو تمني المؤمنين لقاء العدو إلى{أَفَإنْ مات أو قتل انقلبتم} قال : هو صياح الشيطان يوم أحد]( ).
الثاني : وورد الخبر بتنكير القائل وعدم تعيينه، كما في قول ابن عطية، وصرخ صارخ( ).
الثالث : أخرج ابن جرير عن كليب قال : خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها فلما انتهى إلى قوله{إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } قال : لما كان يوم أحد هزمنا ، ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى ، والناس يقولون : قتل محمد فقلت : لا أجد أحداً يقول قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل . فنزلت { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان . . . } الآية . كلها ] ( ).
والظاهر أن هذا اليهودي سمعهى من الناس لأنها صدرت من ساحة المعركة .
الرابع : سبب الإشاعة شدة القتال يوم أحد وإنهزام كثير من المسلمين، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة والناس يفرون ، ورجل قائم على الطريق يسألهم : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وجعل كلما مروا عليه يسألهم فيقولون : والله ما ندري ما فعل! فقال : والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنعطينهم بأيدينا أنهم لعشائرنا وإخواننا وقالوا : لو أن محمداً كان حياً لم يهزم ، ولكنه قد قتل، فترخصوا في الفرار حينئذ فأنزل الله {وما محمد إلا رسول…} الآية كلها.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال : ذلك يوم أحد حين أصابهم ما أصابهم من القتل والقرح ، وتداعوا نبي الله…؟ قالوا : قد قتل . وقال أناس منهم : لو كان نبياً ما قتل . وقال أناس من علية أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قاتلوا على ما قتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به ، وذكر لنا أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتخبَّط في دمه فقال : يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم]( ).
الخامس : عندما قتل ابن قميئة مصعب بن عمير حامل راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نادى قتلت محمداً، توهماً منه، أو أنه تعمد الكذب وهو الأظهر لرجحان أنه مكيدة وفجور ، ونشرت قريش الخبر وصاحوا وسط المعركة قتل محمد ، وكان ابن قميئة هذا هو الذي رمى النبي بالحجارة فادمى وجنتيه [قال أبو سفيان بن حرب: يا معشر قريش، أيكم قتل محمداً؟ قال ابن قميئة: أنا قتلته. قال: نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها. وجعل أبو سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعركة هل يرى محمداً بين القتلى، فمر بخارجة بن زيد بن أبي زهير، فقال: يا أبا سفيان، هل تدري من هذا القتيل؟ قال: لا. قال: هذا خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي، هذا سيد بني الحارث بن الخزرج. ومر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى جنبه فقال: هذا ابن قوقل، هذا الشريف في بيت الشرف. قال: ثم مر بذكوان ابن عبد قيس، فقال: هذا من ساداتهم. ومر بابنه حنظلة فقال: من هذا يا ابن عامر؟ قال: هذا أعز من ها هنا علي، هذا حنظلة بن أبي عامر.
قال أبو سفيان: ما نرى مصرع محمد، ولو كان قتله لرأيناه، كذب ابن قميئة! ولقي خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندكم قتل محمد؟ قال خالد: رأيته أقبل في نفرٍ من أصحابه مصعدين في الجبل. قال أبو سفيان: هذا حقٌّ! كذب ابن قميئة، زعم أنه قتله]( ).
وإشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليست بالجديدة فقد قالها بعض المنافقين بعد إنقضاء معركة بدر أيضاً مع إنتصار المسلمين فيها نصراً مبيناً ،فقد أشاع المنافقون وغيرهم خبر مقتله ، وحين أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة لبشارة أهل المدينة بالنصر [وقال رجل من المنافقين لاسامة: قتل صاحبكم ومن معه.
وقال آخر لابي لبابة: قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون فيه أبدا، وقد قتل عليه أصحابه، قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدرى ماذا يقول من الرعب، وجاء فلاً، أي هارباً.
فقال أبو لبابة: يكذب الله قولك.
وقالت اليهود: ما جاء زيد إلا فلاً.
قال أسامة: فجئت حتى خلوت بأبى فقلت: أحق ما تقول ؟ فقال: إى والله حق ما أقول يا بنى.
فقويت نفسي، ورجعت إلى ذلك المنافق فقلت: أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين لنقدمنك إلى رسول الله إذا قدم فليضربن عنقك.
فقال: إنما هو شئ سمعته من الناس يقولونه]( )، وما هي إلا ساعة حتى دخل عشرات الأسرى المدينة ، ومن الآيات أن عدداً منهم يعرفه أهل المدينة لأنهم من كبار رجالات قريش وأرباب التجارة مع أهل يثرب وغيرهم ، كما يلتقي بهم وفد الحاج .
ومن الآيات أن الأسرى غير معزولين عن الناس والنظارة، وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الأسرى مولاه شقران، ورؤية الأسرى شاهد على النصر والغلبة ، ويترجح معه سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل إلا أنه لا يفيد القطع به وجرح وجوه المسلمين في المدينة إلى الرمضاء لإستقباله وتهنئته بالنصر والغلبة.
وعمت الفرحة والسرور أرجاء المدينة وأخذ المسلمون والمسلمات يشكرون الله على هذه النعمة وتجلى القطع بكذب الإشاعة وبسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم باطلالة طلعته البهية مع صحابته بعد أن قدًم أهل بيته لأول مبارزة في الإسلام مع الكفار لبيان أنه على الحق ، وأن أهل بيته لا يطلبون الدنيا .
ولقد إنتشرت إشاعة قتل النبي يوم أحد بسرعة وعند الصفين، وبلغت إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيوت المدينة وكثرت الصوارخ خاصة مع مجئ بعض الصحابة منهزمين ، وقيل عدد الذين دخلوها منهزمين ثلاثة ولابد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع بهذه المقالة لأنه وسط ميدان المعركة خاصة وأن مصعب بن عمير قتل مبارزة قريباً من النبي وهو يذب عنه ، فسمع ابن قميئة يصيح قتلت محمداً ، فتلقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمور من الثوابت في السنة الدفاعية وهي:
الأول :الثبات وسط الميدان.
الثاني : مواصلة القتال والدفاع.
الثالث : التريث بتكذيب الإشاعة، وهذا الثبات والتريث من مصاديق الوحي.
الرابع : تهدئة الصحابة الذين علموا أنه حي ويقاتل .
الخامس : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان.
السادس : ندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للصبر والقتال.
لقد قام عبد الله بن قمئة الحارثي برمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحجر، وكسر الرباعية من أسنانه، وشجه في وجهه، وكسر البيضة التي هي واقية على رأسه، وبذل مصعب بن عمير الوسع في الدفاع عنه وهو حامل اللواء فقتله ابن قمئة وظن أنه قتل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أو شبه له أو تعمد الكذب كما تقدم ليكون باباً للبلاء والإمتحان وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث[فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
ورجع ابن قمئة إلى معسكر الكفار وهو يقول: قتلت محمداً وصرح صارخ: ألا إن محمداً قد مات، وسرعان ما إنتشرت الأشاعة، وإنكفأ الناس، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم ويحثهم على الصبر والجهاد ويقول: إليّ عباد الله، وأصيبت عين قتادة بن النعمان يوم أحد(فسالت حدقته على وجهه فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إن عندي امرأة أحبها وإن هي رأت عيني خشيت أن تقذرني فردها رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فاستوت وكانت أقوى عينيه وأصحهما ( ).
وتبين هذه الإشاعة الضرر الفادح الذي تسببه الإشاعة المغرضة ومطلقاً مما يأتي بالضرر الفادح فلما حمت الحرب وإشتد القتال قتل أصحاب لواء المشركين فإنهزم الكفار منكشفين (وقال ابن إسحق وحدثني بعض أهل العلم ان اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به وكان آخر من أخذ اللواء منهم صواب فقاتل به حتى قطعت يداه ثم برك عليه فأخذه بصدره وعنقه حتى قتل عليه)( ).
وعن عبد الله بن الزبير أنه قال: والله لقد رأيتنى انظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير إذ مالت الرماة إلى العسكر حتى كشفنا القوم عنه وخلوا ظهورنا للخيل فأتينا من خلفنا وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل فانكفأنا وانكفأ القوم علينا بعد ان أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه احد من القوم)( ).
وأخرج ابن سعد من طريق الواقدي عن شيوخه قالوا لما انهزم المشركون انطلق الرماة ينتهبون فكر عليهم المشركون فقتلوهم وانتقضت صفوف المسلمين واستدارت رحاهم وحالت الريح فصارت دبورا وكانت قبل ذلك صبا ونادى إبليس أن محمدا قتل واختلط المسلمون فصاروا يقتتلون على غير شعار ويضرب بعضهم بعضا ما يشعرون به من العجلة والدهش وقتل مصعب بن عمير فأخذ اللواء ملك في صورة مصعب وحضرت الملائكة يومئذ ولم تقاتل)( ).
ولا دليل على أن المسلمين أخذ بعضهم يقتل بعضاً من العجلة والإرباك، نعم حصلت بعض الحالات الفردية وليس بسبب الدهشة والعجلة إنما لتماسك المسلمين وتراص صفوفهم في القتال، كما في حسيل بن جابر وهو أبو حذيفة بن اليمان قتله المسلمون خطأ إذ كان هو وثابت بن وقش مع النساء لكبرهما وضعفهما فتناجيا بينهما وقالا لم يبق من عمرنا شيء وكأنهما أنكرا على أنفسهما الإقامة مع النساء ساعة إحتدام المعركة، فنزلا لحضور المعركة.
قال البخاري: فجاء طريقهما ناحية المشركين، فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فقتله المسلمون خطأ، وتصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين، ولم يعاتب أحدا منهم، لظهور العذر في ذلك)( ).
وكان حذيفة قد بصر بأبيه وهو قادم، والمسلمون يهمون بقتله فقال: أي عباد الله أبي أبي.
قال ابن سعد(وأما حسيل بن جابر فالتقت عليه سيوف المسلمين وهم لا يعرفونه، حين اختلطوا وحذيفة يقول: أبي! أبي! حتى قتل فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، ما صنعتم! فزادته عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خيراً، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بديته أن تخرج. ويقال إن الذي أصابه عتبة بن مسعود، فتصدق حذيفة بن اليمان بدمه على المسلمين)( ).
وعن الواقدي: يقول رافع بن خديج: فكنا أتينا من قبل أنفسنا ومعصية نبينا، واختلط المسلمون، وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضاً، ما يشعرون به من العجلة والدهش، ولقد جرح يومئذٍ أسيد بن حضير جرحين، ضربه أحدهما أبو بردة وما يدري، يقول: خذها وأنا الغلام الأنصاري! قال:
وكر أبو زعنة في حومة القتال فضرب أبا بردة ضربتين ما يشعر إنه ليقول: خذها وأنا أبو زعنة! حتى عرفه بعد. فكان إذا لقيه قال: انظر إلى ما صنعت بي. فيقول له أبو زعنة: أنت ضربت أسيد بن حضير ولا تشعر، ولكن هذا الجرح في سبيل الله. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال صلى الله عليه وآله وسلّم: هو في سبيل الله، يا أبا بردة، لك أجره حتى كأنه ضربك أحدٌ من المشركين، ومن قتل فهو شهيدٌ)( ).
وظاهر الكلام إختصاص قول رافع بن خديج فكنا أتينا من قبل أنفسنا ومعصية نبينا) أما باقي الكلام أعلاه فهو للواقدي بأن ذكر وقائع حدثت يوم أحد ولكنه أولها بأنها من إرتباك ودهشة المسلمين وهو شبهة بدوية تزول بأدنى تحقيق، فلم تكن هذه الضربات الثلاثة التي حدثت سهوا عن تراجع وإرتباك بل بسبب إختلاط الفريقين وما يسمى في هذا الزمان بالإشتباك بالسلاح الأبيض وكانوا يلبسون البيضة والمغفر وبعض المقاتلين لا يبدو منه إلا عيناه، ولم يكن آنذاك تمايز باللباس العسكري نعم كان بعض الفرسان يضع علامة كالريشة الطويلة على رأسه وحينما أخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما حصل من تلقي بعض المؤمنين ضربة من أصحابه لم يوجه اللوم للضارب أو يذكر السبب والخطأ الذي حدث من المسلمين بل أثنى على المضروب منطوقاً، وعلى الضارب مفهوماً.
ومن عادة القادة أن يضعوا اللوم على جنودهم عند الهزيمة ويحّمل الملوك والرؤساء القواد الميدانيين مسؤوليتها ويقومون بتنحيتهم من مناصبهم وقد يلاقون أشد ضروب العقوبة ولا يؤذن لهم بالبيان والدفاع مع أن هؤلاء الملوك والرؤساء في مأمن من ضراوة القتال، وأهوال ساحة المعركة.
أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان هو الإمام والقائد، وتلقى بشخصه أشد الضرر من تقصير الرماة ومخالفتهم لأوامره إلا أنه لم يرتق المنبر ويقوم بتوبيخهم وتحميلهم مسؤولية الإنكسار يوم أحد.
إن الله عز وجل لا يخزي الذين تمنوا الموت ورجوا الشهادة في سبيله، فلا يجعل تحقيق تمنيهم الموت بقتل بعضهم بعضاً سهواً وخطأ، وكانت أيام بناء صرح الإسلام، وبركات النبوة جلية بحضوره صلى الله عليه وآله وسلم ساحة القتال.
فمن إعجاز قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يهيئ الجيش للخروج للمعركة ويرجع إلى أهله، بل جمعت الآية بين مغادرته المسجد النبوي وبيوت أزواجه وكونه في ميدان القتال يضع أصحابه في مواقعهم القتالية من غير فترة أو برزخ بين الأمرين.
ليكون من منافع معركة احد والدروس المستقرأة منها بخصوص الإشاعة أمور :
الأول : أخذ الحائطة من الإشاعة المغرضة .
الثاني : معرفة أقسام وضروب الإشاعة منها :
الأول :إشاعة العدو .
الثاني : الإشاعة التي تتضمن الإفتراء .
الثالث: الإشاعة التي يراد منها بث الفرقة بين المؤمنين .
الرابع : الإشاعة لمحاولة تقوية معنويات الكفار .
وهل يجوز للمسلمين الإشاعة ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق الخدعة في الحرب ، ولكن ليس الإشاعة بما هو محرم .
الثالث: معرفة الأضرار الفادحة التي تسببها الإشاعة الضارة .
الرابع : فضح المنافقين ومنعهم من بث الإشاعات ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن الله عز وجل يحذر المسلمين من المنافقين والذين يبثون الإشاعات في المدينة المنورة ، كما يتفضل الله وينذر المنافقين والمرجفين بأنه سبحانه يحرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم ثم يبين سبحانه شطراً من الجزاء العاجل الذي يلقونه وأثره عليهم ، ويكون منه إخراجهم من المدينة وعدم بقائهم فيها، وفي الآية مسائل :
الأولى : ما ينزله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأفراد والجماعات إنما هو بوحي من عند الله .
الثانية : تبديل اسم يثرب إلى المدينة أمر من عند الله عز وجل ، ومن إعجاز القرآن أنه ذكرها باسم يثرب كما في قوله تعالى [يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا] ( )وورد باسم المدينة، وكأنه من الناسخ والمنسوخ، والمندوحة في الأسماء والتوثيق القرآني لها ، خاصة وأن اسم يثرب ورد على لسان المنافقين بينما اسم المدينة من عند الله لبيان فضل الله على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في الأسماء وإصلاحها للتأريخ والأجيال، ووفد الحاج والزوار .
وقيل أول من سكنها يثرب بن قاينة أحد العمالقة، ولما نزلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماها طيبة وطابة كراهة معنى التثريب وهو من الثرب أي الفساد.
عن أبي حميد( ) ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة تبوك ، فأتينا وادي القرى ، على حديقة لامرأة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اخرصوها ، فخرصناها ، وخرصها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرة أوسق ، وقال للمرأة : أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله عز وجل ، فانطلقنا حتى قدمنا تبوك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ستهب عليكم الليلة ريح شديدة ، فلا يقم فيها أحد منكم ، فمن كان له بعير فليشد عقاله ، فهبت ريح شديدة ، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ ، وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب ، وأهدى له بغلة بيضاء ، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأهدى له بردا ، ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرأة عن حديقتها : كم بلغ ثمرها؟، فقالت : بلغ عشرة أوسق .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني مسرع ، فمن شاء منكم فليسرع ومن شاء فليمكث ، فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة ، فقال : هذه طابة ، وهذا أحد ، وهو جبل يحبنا ونحبه] ( ) وفي خاتمة الحديث مسائل:
الأولى : الدلالة على أن المسلمين لم ينهزموا في معركة أحد.
الثانية : كانت أرض أحد وذات الجبل عوناً للمسلمين.
الثالثة : تأكيد تبديل اسم يثرب وجعله المدينة، وكأن ليس من مدينة إلا هي إكراماً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يكون ذكر إسمه مع اسم الله وإعلان التوحيد في الأذان في أرجاء الأرض إشارة وتذكيراً بمدينته.
الرابعة : بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المدينة هي طابة ذكر اسم أحد وأخبر عن أمور:
الأول : حب جبل أحد المسلمين.
الثاني : حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجبل أحد.
الثالث : حب المسلمين لجبل أحد.
وهذا الإخبار عن التعدد والتبادل في الحب مع الموضع الجهاد، وقد ورد ذكر موضع جبلين بصيغة التشريف بقوله تعالى[ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( ).
ومنهم من يستدل على جواز التيمم بالأرض السبخة، ويرد على الذي يقول بعدم جواز التيمم بها بأن أرض المدينة سبخة وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طيبة ، وهو إستدال لطيف ولا تصل النوبة إليه لصدق اسم الأرض على السبخة وأصالة الإطلاق في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا]( ) الذي يبين معنى قوله تعالى الصعيد وإرادة معنى الطاهر منه ، وتضمنت آية التيمم ذاتها نفي الحرج عن المسلمين في باب الطهارة والمقدمات الشرعية بقوله تعالى[فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ]( ).
الثالثة : عدم ترتب الأثر والضرر الفادح على ما يبثه المنافقون من الإشاعات .
الرابعة : علم الله عز وجل بإشاعات الكفار والذين في قلوبهم مرض ومنه علمه تعالى باشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع أنها بدأت في ميدان المعركة يوم أحد فان المنافقين والمرجفين في المدينة تلقوها بالحسد والقيام بنشرها وترويجها ، فلذا كانت الآية أعلاه [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ] ( )للدلالة على تعدد وكثرة تعديهم بنشر الإشاعات الباطلة التي يهدفون من ورائها إلى محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام .
وتبين الآية أعلاه أن المسلمين يختصون بأمور :
الأول : إنذار الإعداء من الإشاعات المغرضة.
الثاني : نزول العقاب بأرباب الإشاعة التي يراد منها الإضرار بالإسلام والمسلمين.
الثالث : من ضروب عقاب المنافقين على الإشاعة طردهم من البلد ونفيهم منه، ويحتمل النفي هنا جهات:
الأولى : أنه نوع وعيد ولا يصل إلى المصداق الفعلي، وفيه دلالة على رجحان التوبة من النفاق، وإجتناب الضرر الأكثر من المنافقين بتوليهم.
الثانية : إختصاص الوعيد بأيام النبوة.
الثالثة : إرادة أوقات الحرب والقتال، والمعارك التي يخوضها المسلمون ضد الكفار.
الرابعة : إرادة الإطلاق الزماني والمكاني.
والصحيح هو الجهة الأخيرة لعدم وجود مقيد في البين فان قلت إنه موجود بصيغة الخطاب الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى[لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ]( )، والجواب يشمل الخطاب المسلمين بالتبعية والإلحاق.
قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]
وتقدير(وأنتم تنظرون) على وجوه:
الأول : وأنتم تنظرون إلى الموت كيف يأتي بالقتل والسيف، وهو غير هيئة وكيفية الموت الذي يأتي على الفراش.
يتخذ الإنسان الألفاظ والحروف الهجائية وسيلة للتخاطب وبيان المراد والمقصود بما يفهمه السامع سواء كان أدنى أو مساو أو أعلى من الإنسان الآخر مصدر الخطاب، وقد يتخذ الإشارة والإيحاء والرمز للتعبير وبيان المراد.
قال الشاعر: وكل لبيب بالإشارة يفهم.
وهل لغة الإشارة من مصاديق قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، أم لا، الجواب هو الثاني، للملازمة بين الكلام والنطق بالأسماء، ومن معاني (وأنتم تنظرون)الإشارة بالعين والبيان بالنظر، ويكون تقدير الآية على وجوه:
الأول : وأنتم تنظرون إشتباك الأسنة.
الثاني : وأنتم تنظرون قرب الموت الذي تتمنون منكم.
الثالث : وأنتم تنظرون إصرار المشركين على القتال.
الرابع : وأنتم تنظرون عدوكم وقد صار وجهاً لوجه معكم.
الخامس : وأنتم تنظرون زحف وتلاحم الصفين.
السادس : وأنتم تنظرون هزيمة المشركين في بدايات معركة أحد.
السابع : وأنتم تنظرون إنكشاف النسوة اللائي جاء بهن المشركون للتحريف والضرب بالدفوف خلف الرجال ويأتين بالزجر والشعر حتى إشتد القتال.
الثامن : وأنتم تنظرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان يتلقى ومن حوله من أهل بيته والصحابة سهام وحجارة المشركين.
التاسع : وأنتم تنظرون ألوية المهاجرين والأنصار ترفرف خفاقة في ميدان المعركة .
العاشر : وأنتم تنظرون لتمنيهم الموت وقد إجتمعت شرائطه.
الحادي عشر : وأنتم تنظرون نزول الملائكة مدداً لنصرتكم، وفيه كفاية وغنى عن تمني الموت وتحققه، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ]( ).
الثاني عشر : وأنتم تنظرون رحمة الله بكم وسلامتكم من القتل .
الثالث عشر : وأنتم تنظرون حماس وإندفاع بعض فرسان المشركين مع أنهم على الباطل ، والنار مثوى لهم .
الرابع عشر : وأنتم تنظرون مقامات طاعة الله وإحاطة جيوش المشركين بكم.
الخامس عشر : وأنتم تنظرون دولتكم على المشركين في بداية المعركة ثم دولة الكفار عليكم ثم عودتكم للقتال ، وفي كل هذا الحالات كان الموت قريباً منكم ، ولم يكن بعضكم في مأمن منه لولا فضل الله .
السادس عشر : وأنتم تنظرون التباين بين تمني الموت والسعي لجمع الغنائم مع إتصال المعركة وإستمرار القتال .
السابع عشر : وأنتم تنظرون إلى مصارع المشركين قتلى يوم بدر ويوم أحد .
الثامن عشر : فقد رأيتم الموت وأنتم تنظرون ضعف عزائم وتراجع وإنهزام فريق منكم لأن الموت في هذا الحال يكون أقرب للمؤمنين سواء الذين بقوا في الميدان أو فروا من حدة القتال وأنتم تنظرون رحمة الله بسلامتكم ونجاتكم .
أي أن قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] يتكرر في موضوع واحد ويكون مرة علة وأخرى معلولاً وتارة سبباً وأخرى مسبباً .
التاسع عشر : فقد رأيتم الموت حلّ بساحتكم وأنتم تنظرون له ، خلافاً للناس إذ يأتيهم الموت فيطبق على حواسهم وهم يغادرون الدنيا ، أما أنتم فقد كتب لكم الله عز وجل الموت وحقق أمنيتكم بدنو الموت منكم ومشارفته لكم فانجاكم الله ، فقد يأتي الموت في المعركة دفعة كما بالقتل بالسيف أو تدريجياً بالإصابة بالجراحات البليغة لتنقطع الحواس بمغادرة الروح الجسد.
أما آية البحث فقد ذكرت معجزة في معركة أحد ، وهي رؤية المسلمين للموت يأتيهم ويصيبهم وهم ينظرون له ، ليصبحوا بعد معركة أحد شهداء يمشون على الأرض ،ويتكلمون مع الناس وهم من أهل الآخرة فيكون وجودهم بين ظهراني الناس بركة ونعمة عامة ، ليكون معنى[ فقد رأيتموه] أي رأيتم الموت من وجوه :
الأول : يحل الموت بالمشركين بسقوطهم قتلى .
الثاني : نزول الموت بالشهداء من المؤمنين .
الثالث : حلول الموت بكم ببلوغكم مرتبة الشهداء وتحقق أمانيكم بالموت في سبيل الله .
وهل يمكن القول بأن الوجهين الأولين من رؤية العين لتحقق الموت واقعاً ومغادرة قتلى المشركين والشهداء الحياة الدنيا , وأن الوجه الثالث فهو من رؤية القلب .
الجواب لا، لأصالة ظواهر الألفاظ، إنما أراد الله عز وجل بيان فضله على المؤمنين ، وجزاءهم بالحسن في العاجل فبعد أن تمنوا الموت والقتل في سبيل الله رزقهم الله النظر لموتهم في المعركة وتحقيق أمنيتهم بالاسم دون المسمى مع ترتب الثواب على الاسم فضلاً منه سبحانه.
ليصبح أهل أحد جميعاً شهداء عند الله وفي القرآن وعند الناس سواء من قتل منهم في ساحة المعركة أو من رجع سالماً لأنه رأى الموت ينزل به عياناً وهو نوع شكر من عند الله لهم ، ولا يختص بالطائفة التي تمنت الموت ، بل جاء عاماً لكل الذين حضروا أحداً لأنهم لم يمنعوا هذه الأمنية ولم يستخفوا بأصحابها، أو يزجروهم عنها، وهذا المعنى من التفسير أمر مستحدث ومباين لما يذهب إليه علماء التفسير بأن الآية عتاب ولوم للمؤمنين يوم أحد.
وكما كانت معركة بدر[يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( ) فان معركة أحد هي (يوم الشهادة) بأن رزق الله عز وجل الذين شاركوا في القتال مرتبة الشهادة وإن بقوا أحياء.
[عن أَبي قلابة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إِذا جاء من سفر فبدا له أُحُد قال: هذا جبل يحبنا ونحبه. ثم قال: آيبون تائبون، ساجدون لربنا حامدون] ( ) [أَنس بن مالك رضي الله عنه: أَن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: “أُحُدٌ على باب من أَبواب الجنّة. فإذا مَرَرْتُمْ به فكلوا من شجره، ولو من عضاهه( )] ( ).
ولا يمنع هذا المعنى من إرادة عتاب الرماة على ترك مواقعهم وإنسحاب وهزيمة أكثر المؤمنين قبل رجوعهم إلى المعركة فليس من تعارض وتضاد بين العتاب والثواب، ولا تصل النوبة إلى إجتماع الأضداد في اللفظ القرآني.
العشرون : وأنتم تنظرون إنتفاعكم من الرجوع من المعركة سالمين بأدائكم الفرائض وقيامكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإزدياد حسناتكم ، ونماء الأجر والثواب عليها .
الحادي والعشرون : وأنتم تنظرون حضوركم معارك وكتائب الإسلام اللاحقة ، وفيه إنذار للكفار والظالمين بأن الذين يلاقيهم الشهداء في القتال لا يصيبون إلا الخيبة والخسارة.
الثاني والعشرون : وأنتم تنظرون جهادكم وصدق تمنيكم الموت نفرة من الكفر، وبغضاً لرؤساء الضلالة الذين يسوقون الناس إلى القتال والظلم في صدّهم عن الإسلام ومحاربتهم له.
الثالث والعشرون : وأنتم تنظرون فوزكم بشرط دخول الجنة الذي تذكره الآية السابقة(ويعلم الصابرين) ليكون تمني المؤمنين الشهادة عوناً لهم لبلوغ مرتبة دخول الجنة.
الرابع والعشرون : وأنتم تنظرون ويتخذ منكم شهداء) بلحاظ أن الذين حضروا واقعة أحد شهداء من جهات:
الأولى : الذين تمنوا الموت شهداء على الذين قتلوا في سبيل الله وأنهم لم يموتوا وتندثر أخبارهم ويذهب صيتهم بل إن ذكرهم والثناء عليهم متجدد، ليكون ذكر المؤمنين للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله وثناؤهم عليهم من مصاديق الحياة في قوله تعالى[أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( )، فما داموا أحياء عند الله فأنهم أحياء عند الناس حاضرون في الوجود الذهني يجري ذكرهم بين الناس بالمدح والإطراء والفخر، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الأحياء عند الله أحياء عند الناس.
الصغرى : الشهداء أحياء عند الله.
النتيجة : الشهداء أحياء عند الناس.
وهل ينحصر موضوع حياة الشهداء عند الناس بالذكر أم يقيد بأنه ذكر حسن، الجواب هو الثاني، ويدل عليه تمني الموت الوارد في آية البحث، وتقدير الآية على وجوه:
الأول : ولقد كنتم تمنون الموت لتلحقوا بالشهداء.
الثاني : ولقد كنتم تمنون الموت وقد لقاه الشهداء منكم فاصبحوا أحياءً عند ربهم يرزقون.
الثالث : ولقد كنتم تمنون الموت تزكية للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله.
الرابع : ولقد كنتم تمنون الموت شوقاً لمنزلة الحياة عند الله التي فاز بها الشهداء.
وتقدير الجمع بين الآيتين: ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتم الشهداء وأنتم تنظرون ليكون من الإعجاز في خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أن الأحياء منهم يشهدون للأموات ويشهد الأموات للأحياء فقوله تعالى[وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ] عام ويشمل نيل الذين قتلوا في سبيل الله الشهادة على الناس( ).
الثانية : يشهد المسلمون لأنفسهم من وجوه:
الأول : صدق الإيمان وأنهم من أهل الآية[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، فلم يتمن المؤمن الموت إلا بقصد القربة إلى الله عز وجل.
وبين الموت والشهادة عموم وخصوص مطلق، فكل شهادة هي موت، وليس العكس، وذكرت الآية المعنى الأعم.
الثاني : يشهد المؤمنون لأنفسهم بأنهم يتمنون الموت دفاعاً عن الإسلام والتنزيل والنبوة.
الثالث : يشهد المسلمون لأنفسهم بأنهم مؤمنون بالله ورسوله.
الرابع : يشهد المسلمون بأن تمنيهم الموت طاعة لله لا يتعارض مع أدائهم العبادات والفرائض.
الخامس : يشهد المؤمنون لأنفسهم بأنهم رأوا الموت وهم ينظرون في واقعة بدر وأحد والخندق.
السادس : يتفضل الله عز وجل ويكرم المؤمنين ليشهدوا لأنفسهم بأنهم لاقوا الكفار بالسيف ودافعوا عن الإسلام والنبوة.
السابع : يشهد المسلمون لأنفسهم بأنهم من الشهداء.
الثالثة : سقوط سبعين من المؤمنين شهداء وقتلى في المعركة.
الرابعة : الذين حضروا معركة أحد من الصحابة يشهدون على الكفار جحودهم وظلمهم وإصرارهم على القتال والتعدي.
الخامسة : يشهد المسلمون نزول الملائكة لنصرتهم.
وتبين الآية ملحمة وتلخص قصة طويلة من جهاد المسلمين فمع قلة كلمات الآية فأنها تبدأ بتوثيق وحكاية تمني المؤمنين الموت والقتل من مقامات الإيمان والهدى لتختتم برؤية المؤمنين والنصر والظفر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولجند الإسلام وتحقق فتح مكة وينظر المؤمنون خزي الكفار وإنحدار مفاهيم الجحود إلى يوم القيامة.
قانون المدد الدائم المتصل
سياق الآيات علم جديد بذاته وبيانه التفصيلي الذي يتجلى في هذا السفر الخالد وتترشح عنه علوم باهرة ومسائل ناضرة تتصف بالطراوة والحلاوة، وفيه ذخائر لإقتباس الدروس والمواعظ.
ومن خصائص الجمع بين كل آيتين من القرآن أنه مدد للمسلمين، وليس من حصر لمصاديق هذا المدد موضوعاً وحكماً، ومنها:
الأول : المدد في بيان العبادات وأحكامها وسننها ، ويتجلى هذا المدد من جهات :
الأولى : صيغة الأمر الذي يستقرأ منه الوجوب كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
الثانية : الوجوب العيني للعبادات ، وإنحلال خطابها بعدد المسلمين والمسلمات .
الثالثة : العبادات مدد لتثبيت الإيمان في قلوب المسلمين .
الرابعة : أداء العبادات حرز من الشرك، وواقية من النفاق .
الخامسة : في تلقي الأمر بالعبادات والإمتثال فيها توثيق لعرى الأخوة بين المسلمين .
السادسة : لما قال الله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) جاء أداء العبادات للإمتثال للأمر الإلهي في الآية أعلاه بأداء العبادات وإنتزاع كل مسلم وقت مخصوص لأداء العبادات ليلتقي فيه مع كل المسلمين ، فان قلت الحج عبادة يؤديها المستطيع من المسلمين وليس كل المسلمين يملك الزاد والأصالة والقدرة على الحج والجواب من وجوه :
الأول : توجه الخطاب التكليفي بحج البيت الحرام إلى كل المسلمين والمسلمات مع تعليق الأداء والوجوب بالإستطاعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الثاني : إنقطاع المسلمين والمسلمات في مشارق ومغارب الأرض إلى البيت الحرام موسم الحج وانشغالهم بالإستعداد له للذات والغير ، فتولي الأسرة عناية خاصة عندما يتهيئ أحد أفرادها للذهاب للحج .
لتكون أيام الحج مناسبة للمدد للمسلمين في سبل التقوى والصلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى في آيات الحج [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ] ( ).
الثالث : تأديب القرآن للمسلمين بالمندوحة والتوسعة في أيام الحج وشمولها للأشهر شوال وذي العقدة وذي الحجة بقوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ).
لتدخل مقدمات الحج العقلية والمالية في تنزيه ملكة التقوى عند المسلمين ، وكان البيت الحرام حاضراً مع المسلمين في أمصارهم باتخاذه قبلة في الصلاة اليومية، وتعشق نفوسهم مناسك الحج .
الرابع : الحج مناسبة وسبب لسعة الرزق، والغنى، وعن الأمام الصادق عليه السلام: الحج ينفي الفقر)( ).
الخامس : المبادرة إلى تهنئة الحجاج والدعاء لهم بقبول الحج وأداء المناسك.
قال ابن الزبير لابن جعفر أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أنا وأنت وابن عباس ؟ قال نعم فحملنا وتركك] ( ).
السادس : تنزه المسلمين عن المال الحرام والإنفاق منه، فمن وظائف الحاج الحرص على أن يؤدي الحج من مال حلال ليس بسحت.
الثاني : إرادة الإطلاق والتقييد، كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً]( )، ثم تأتي الآيات التالية بالوصف المتعدد الذي يجعل المراد بقرة مخصوصة على نحو التعيين إضطر بنو إسرائيل لشرائها بثمن بقي على مدى هذه الأحقاب والأزمان أغلى ثمن لبقرة في التأريخ، وإذ يفرد الناس في هذا الزمان مؤسسات خاصة للأرقام القياسية التي نشأت فكرتها سنة 1951 وصدور أول كتاب منها سنة 1955 م وأغلب ما فيها أمور تتعلق بأكبر وأصغر وأدق وأسرع وأثقل وأغنى وأطول وأقصر ونحوها , وأجزاؤها اكثر الكتب بيعاً , فان القرآن الذي نزل قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة يتضمن بإعجاز خارق هذا الباب الذي يوليه أهل هذا الزمان عناية .
ليكون من إعجاز القرآن أن كل ظاهرة يلتفت لها شطر من الناس هي موجودة بمصداقها في القرآن مع مائز كبير، وهو أن الأرقام القياسية التي تذكرها تلك المؤسسات في مسائل حياتية وبسيطة وهي خاصة في زمانها ومتغيرة ومتبدلة في أفرادها، وبين الفينة والأخرى ينتزع شخص أو واقعة ذات الرقم القياسي وأحياناً بجهد وثمن أكبر وأغلى منها، نعم أنها تحكي بديع صنع الله وعظيم قدرته، أما تلك الحالات النادرة التي يذكرها القرآن فهي باقية هامة شامخة، وصرحاً يتحدى الأرقام، ويكون مادة للبرهان كما في إحتجاج إبراهيم عليه السلام على نمرود، وفي التنزيل[فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ]( ).
وفي ثمن البقرة التي أمر الله عز وجل بني إسرائيل بذبحها وإلحاحهم وكثرة رجوعهم وسؤالهم المتكرر لموسى عليه السلام ،[وقال السدي :وكان رجل في بني إسرائيل، من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مرّ به معه لؤلؤ يبيعه، وكان أبوه نائمًا تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفًا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفًا. فقال الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفًا، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفًا، وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف.
فلما أكثر عليه قال: والله لا أشتريه منك بشيء أبدًا، وأبى أن يوقظ أباه.
فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة، فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبى، فأعطوه ثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبى، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى عليه السلام، فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدناها عند هذا فأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمنًا.
فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم.
فأعطوه وزنها ذهبًا، فأبى، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهبًا، فباعهم إياها وأخذ ثمنها، فذبحوها. قال: اضربوه ببعضها، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقْتُلُهُ، فأخذُ مالَه، وأنكح ابنتَه. فأخذوا الغلام فقتلوه( ).
ووردت نصوص أخرى أوثق سنداً وجهه صدور، ولكنها تبين ذات النسبة القياسية التي لم تخطر على بال بشر بخصوص قيمة دابة منها أنهم إشتروها بما يعادل وزنها ذهباً .
[وعن ابن عباس قال :وكان في بني إسرائيل غلام شاب يبيع في حانوت له ، وكان له أب شيخ كبير ، فأقبل رجل من بلد آخر يطلب سلعة له عنده فأعطاه بها ثمناً ، فانطلق معه ليفتح حانوته فيعطيه الذي طلب والمفتاح مع أبيه ، فإذا أبوه نائم في ظل الحانوت فقال : أيقظه . قال ابنه : إنه نائم وأنا أكره أن أروّعه من نومته . فانصرفا فأعطاه ضعف ما أعطاه على أن يوقظه فأبى ، فذهب طالب السلعة .
فاستيقظ الشيخ فقال له ابنه : يا أبت والله لقد جاء ههنا رجل يطلب سلعة كذا ، فأعطى بها من الثمن كذا وكذا ، فكرهت أن أروعك من نومك فلامه الشيخ ، فعوّضه الله من بره بوالده أن نتجت من بقر تلك البقرة التي يطلبها بنو إسرائيل .
فأتوه فقالوا له : بعناها .
فقال : لا . قالوا : إذن نأخذ منك . فأتوا موسى فقال : اذهبوا فارضوه من سلعته .
قالوا : حكمك؟ قال : حكمي أن تضعوا البقرة في كفة الميزان وتضعوا ذهباً صامتاً في الكفة الأخرى ، فإذا مال الذهب أخذته ففعلوا ، وأقبلوا بالبقرة حتى انتهوا بها إلى قبر الشيخ ، واجتمع أهل المدينتين فذبحوها ، فضرب ببضعة من لحمها القبر ، فقام الشيخ ينفض رأسه يقول: قتلني ابن أخي طال عليه عمري وأراد أخذ مالي ومات] ( ).
وعن الإمام الرضا عليه السلام أنهم إشتروها من ذات الفتى البار بأبيه بملء مسك ذهباً]، أي ملء جلد الثور ذهباً وهو أكثر من وزن البقرة من جهتين :
الأولى : زيادة وزن الذهب على وزن أحشاء وشحم ولحم البقرة .
الثانية : جلد الثور وعاء أكبر حجماً من البقرة التي وصفت في القرآن بأنها [صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا] ( ).
ومن المطلق والمقيد في القرآن قوله تعالى بخصوص كفارة اليمين [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] ( )، وهو نكرة في مقام الإثبات وتقدير الآية ( فعليه عتق مملوك ) كفارة عن نقض اليمين.
وجاء تقييد هذا الإطلاق بقوله تعالى[فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ]( ) لإرادة صفة الإيمان والهداية بالنسبة للعبد خاصة وأن الرق أمر عرضي يأتي بسبب محاربة الإسلام والمسلمين ، فيحكم عليه بالرق لإجتناب ضرره وكف أذاه عن الإسلام ، أما وقد أصبح مؤمناً يحضر مع المسلمين صلاة الجماعة ويؤدي الفرائض فيستحب عتقه بدليل أنه يترتب على نقض اليمين المنعقدة كما لو أقسم المكلف بالله ألا يفعل أمراً كالسفر المباح ثم سافر بما يخالف اليمين .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية أن الله عز وجل خيّر المسلم بين إطعام عشرة مساكين وعتق رقبة ، مع أن عتق الرقبة قد تصل قيمته إلى ما يعادل إطعام آلاف المساكين ، خاصة وأن إطعام المسكين الواحد يكون بمقدار مدّ أي ربع صاع أو مدّين أي نصف صاع، والصاع ثلاث كيلوات تقريباً، والمختار أن المطلق والمقيد في القرآن غالباً ما يكون على نحو الموجبة الجزئية.
فيمكن حمل الإطلاق في قوله تعالى[فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا]( ) على جواز عتق العبد غير المؤمن مثل:
الأول : العبد الذي يظهر الإسلام ولمّا يدخل الإيمان في قلبه.
الثاني : العبد الذي يؤدي الفرائض مع الرياء، والشوق للعتق والتزلف إلى سيده، أو رجاء التخفيف عنه في الأعمال.
الثالث : العبد الذي تبدو عنده أمارات النفاق رجاء إيمانه وصلاحه.
الرابع : العبد الكتابي.
الخامس : العبد ذو الرحم الذي يمت إلى المعتق بصلة قربى.
السادس : قلة المبلغ والمال الذي بيد المعتق -بالكسر- بحيث أنه لا يستطيع عتق عبد مؤمن مع وجود الراجح في عتق الكتابي.
السابع : رجاء إسلام العبد المعُتق، ودخوله الإسلام عند نيله الحرية والعتق.
الثامن: عدم وجود رقبة وعبد مؤمن في البلدة أو القرية .
التاسع : إظهار عبد غير مسلم التفاني في خدمة الإسلام وإعانة المسلمين حتى في ميادين القتال .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
والمختار أنه ليس من قانون ثابت يتغشى صيغة الإطلاق في القرآن بتحديدها دوماً بالمقيد الوارد في آية وموضوع آخر، مع بيان مسألة وهي عدم الدليل بأن موضوع أو حكم هذه الآية هو قيد لتلك التي تتضمن الأمر بالعتق مطلقاً, فقد يكون بين قوله تعالى [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] وبين [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] هو نسبة العموم والخصوص من وجه ، نعم في كل الأحوال يترجح عتق الرقبة المؤمنة .