المقدمــة
الحمد لله الذي خلق السماء طباقاً وجعل فيها عرشه، وإلى جهتها يتوجه العباد في دعائهم وإستغاثتهم , وتفضل وجعل في الأرض خليفته ، ومع بعد المسافة بينهما فان كلامه نازل بواسطة الملائكة على الإنبياء والرسل وليس ثمة آنات ، ودعاء أهل الأرض يصل إليه قبل أن تسمعه الخلائق .
الحمد لله الذي أنعم على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته للأجيال المتعاقبة من الناس وإلى يوم القيامة ، وتتم هذه الإستدامة والإتصال بالمعجزة العقلية الحاضرة في كل زمان ومكان , والقريبة من الناس على مختلف مداركهم , وتجلت بنعمة الله عز وجل بنزول القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
وجعل كل آية منه معجزة بالذات والأثر ، وهو من أسرار تقسيمه إلى آيات وسور.
وتتجلى في هذا السفر الخالد شذرات من هذا الإعجاز باستقلال كل آية منه في جزء قائم بذاته أو أكثر من جزء , لتأسيس علوم وقوانين لم يشهدها تأريخ العلوم , وهو من فيوضات القرآن المتجددة .
ومن ضروب نعمة الله على أجيال الناس بنزول القرآن آية البحث في هذا الجزء[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] إذ انها تدعو في منطوقها ومفهومها المسلمين للبقاء على سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيم شعائر الله ، والإقامة في منازل الإيمان وتندبهم للحيطة والحذر من طرو التغيير والتبديل في أحكام الحلال الحلال والحرام أو التفريط في أداء الفرائض العبادية ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على المسلمين وخصلة للإلتقاء في سلم المعرفة ونيل مرتبة التفضيل بين الناس بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( ).
الحمد لله الذي جعل كل آية من القرآن صراطاً مستقيماً يهدي إلى عبادته ، وإماماً يقود إلى الجنان وتفضل وحصّن آياته من التحريف والتبديل والتغيير ، وهذه الحصانة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )بتقريب إنبساط شآبيب الرحمة الإلهية بنزول القرآن على كل الأزمنة وصيرورة آياته قريبة من الناس وجذبهم إليها في مضامينها القدسية ودلالاتها وإعجازها.
الحمد الله الذي جعل القرآن برزخاً دون إختلاف وتشتت المسلمين ومنع من صيرورة أهل التوحيد طوائف ومذاهب شتى , فالقرآن هو السور الجامع لهم جميعاً في عبادتهم ومناسكهم ومناهجهم.
وتفضل الله وجعل تلاوة آيات من القرآن واجباً على كل مسلم ومسلمة ليتوارثوا تعاهده لفظاً ورسماً وتفسيراً ويتدبروا في معانيه في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان نزول آيات القرآن يترى بالتتابع وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى ، وهو من معاني آية البحث التي جاء بها هذا الجزء وهو السادس عشر بعد المائة بتفسيرها والتي قسمت أفراد الزمان إلى ثلاثة أقسام :
الأول : زمان ما قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث تعاقبت الرسالات وتعدد الأنبياء ، وقد يكون في زمان واحد نبيان كما في إبراهيم ولوط عليهما السلام , وموسى وهارون عليهما السلام .
الثاني : زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشهادة الآية بأنه رسول رب العالمين للناس، ويستقرأ هذا العموم من أصالة الإطلاق في قوله تعالى في آية البحث [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ]( )، وعدم تقييده كما أنه يبين بآيات قرآنية أخرى منها قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
الثالث : زمان ما بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، وجاءت الآية بتحذير المسلمين والمسلمات من الإنقلاب والإرتداد في معالم الدين .
لتفيد الآية بالدلالة التضمنية سلامة المسلمين من الإنقلاب والإنشقاق والإرتداد في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من البراهين على صدق نبوته وإنتفاء التعارض أو التضاد في آيات القرآن وأحكام الشريعة ، ومن خصائص القران أنه نزل نجوماً وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة وفي مكة والمدينة وأيام الحضر والسفر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع هذا فكل آية من آياته البالغة (6223) معجزة ومنار للهداية والرشاد .
ومن إعجاز آية البحث أنها لم تذكر الإرتداد ،بل ذكرت الإنقلاب على الأعقاب وفيه مسائل :
الأولى : بين الإ رتداد والإنقلاب عموم وخصوص مطلق ، فاغلب وجوه الإنقلاب أدنى مرتبة من الإرتداد ، ومع هذا حذرت الآية منه ، مما يدل على إرتقاء المسلمين في مراتب الإيمان , ولزوم تنزههم عن التقصير والتفريط والتكاسل والخمول في العبادات .
الثانية : يدل الإنذار من الأدنى وهو الإنقلاب على سلامة المسلمين من الأشد كراهة وحرمة وهو الإرتداد ولا عبرة بالقليل النادر.
الثالثة : تحذر الآية من الإنقلاب على الأعقاب بخصوص ما بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبة هذا التحذير السماوي للمسلمين إلى يوم القيامة وفيه تفضيل لهم من بين الأمم لشرف القرين والصاحب السماوي وأثره وتأثره وإمامته في التوقي من الإنقلاب والإنحراف.
ولم تكتف الآية بصيغة التحذير والإنذار من الإنقلاب إذ بينت غنى الله عن الخلائق وعظيم قدرته وسلطانه وحضور الأشياء كلها خاضعة ذليلة عنده.
وأختتمت بالوعد الكريم بالثواب العظيم من عند الله للمؤمنين الشاكرين له سبحانه نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإهتداءهم وصلاحهم بها بقوله تعالى[وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ).
ويبين نهي الآية عن الإنقلاب حقيقة قبحه وجلبه الضرر لصاحبه في النشأتين ، ويدل في مفهومه على دعوة المسلمين للصبر في العبادات وبذل الوسع في طلب مرضاة الله، وتحمل الأذى في جنبه من غير جزع أو وهن أوضعف.
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الحسن قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فقال : هل منكم من يريد أن يؤتيه الله علماً بغير تعلم وهدياً بغير هداية ، هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيراً ، ألا إنه من زهد الدنيا وقصر أمله فيها أعطاه الله علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية ، ألا إنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر ، ولا الغنى إلا بالبخل والفخر ، ولا المحبة إلا بالاستخراج في الدين واتباع الهوى ، إلا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر للفقر وهو يقدر على الغنى ، وصبر للبغضاء وهو يقدر على المحبة ، وصبر على الذل وهو يقدر على العز ، لا يريد بذلك إلا وجه الله أعطاه الله ثواب خمسين صديقاً] ( ).
ومن إعجاز الآية أنها تقيد الإنقلاب المنهي عنه بأنه على الأعقاب الذاتية ، وفيه دعوة لمعرفة أحوال الناس قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام ، وشيوع عبادة الأصنام والإقتتال بين القبائل عصبية والغزو والمباغتة لأغراض النهب والسلب ووأد البنات الذي يدل على إمتهان حقوق المرأة ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ).
لتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على ذكر قتل البنات وهن صغيرات خشية الإملاق وخوف العار بوقوع البنت سبية عند الغير ، وكان الوأد يجري بكيفيتين :
الأولى : عندما يقترب المخاض من الحامل تخرج إلى الصحراء وتحفر حفرة ، فاذا ولدت بنتاً رمت بها وأهالت عليها التراب ورجعت إلى أهلها ، أما إذا ولدت ذكراً فانها تضمه وتأتي به مبتهجة ، أي أن الأهل والقرية يعلمون ماذا ولدت قبل أن يسألوها ، فاذا جاءت تحمل المولود معها أدركوا أنها ولدت ذكراً.
الثانية : إذا ولدت للرجل بنت ألبسها جبة من صوف أو شعر لقلة العناية والإكتراث بها ، حتى إذا بلغت ست سنين أخرجها إلى الصحراء وحفر لها حفرة فالقاها فيها وأهال عليها التراب.
فجاءت الآية أعلاه بالإخبار عن سؤال ذات الموؤدة مواساة لها ، وبيان عظيم مصيبتها وإزدراء للذي وأدها والذين لم ينهوه عن هذا الفعل القبيح.
ليكون من إعجاز نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبديل أنظمة المجتمع وتنقية الأعراف بآية واحدة من القرآن إذ تجعلهم يتجنبون الوأد ويأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسؤال كيفية الإستغفار والتوبة من هذا الفعل مع إظهارهم الندم الشديد عليه .
وإذ نزّه القرآن المسلمين من العادات المذمومة فانه منع من وقوع الإنقلاب والإرتداد مطلقاً ، من غير أن يحصر النهي بمورد واحد من موارد الحياة العامة ، وأمور الدين ، ليبقى المسلمون في حيطة وحذر , وفيه أمور :
الأول : تعيين معنى الإنقلاب الذي تنهى عنه الآية بصيغة الجملة الإنشائية والإستفام الإنكاري [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ) .
وهل موضوع الوأد من هذا الإنقلاب أم أن القدر المتيقن منه هو الرجوع إلى مستنقع الكفر والجحود ، الجواب هو الأول وقوله تعالى (على أعقابكم) أي العادات المذمومة ومفاهيم الجاهلية التي كنتم تزاولونها قبل أن تشرق شمس الإسلام وتخرج الناس من ظلمات الكفر إلى بصائر الهدى والإسلام .
لقد ذكرت الآية موت ورحيل الأنبياء السابقين بصيغة الإحتجاج وتأكيد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وبيان أن أتباع الرسل بقوا على نهجهم ، وثبتوا في منازل الإيمان فرزقهم الله العز والأجر والثواب .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يكونوا على نهج واحد متصل تتشابه أيامهم بالعبادة وسنن التقوى فتكون سنخية الأجيال المتعاقبة منهم واحدة من جهة صدق الإيمان وسلامة السريرة ، والإتحاد في مرضاة الله عز وجل ، وإجتناب الفرار من الزحف بلحاظ أنه من مواضيع نزول آية البحث يوم أحد .
وكأن الآية تخاطب المسلمين بأن فريقاً منكم إنهزم من شدة وطأة القتال يوم أحد ، وثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه وأصيب بالجراحات البليغة وسال الدم من وجهه الشريف وهو راحل عنكم كما غادر الأنبياء والرسل السابقين [سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] ( ).
فيجب أن تثبتوا في مواضعكم وفي مقامات التقوى , والله عز وجل ناصركم ، وهذا النصر مستقرأ من خاتمة الآية [وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( )التي تفيد قرب الجزاء بدلالة مجي الآية بسين المستقبل القريب، وهذا الجزاء لا يتعارض مع الثواب العظيم في الآخرة كما في قوله تعالى [وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ).
وتبين إضافة الأعقاب إلى الذات في الآية وعلى نحو متكرر [انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] [وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ]، أن النكوص والتفريط بأحكام الشريعة أمر ظاهر لصاحبه، فمن فيوضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تمييز المسلم بين الحق والباطل ، بين الهدى والضلال، بحيث يعلم كل واحد منهم مصاديق الإيمان فيتعاهدها ،ويعلم أفراد الإنقلاب والرجوع إلى الوراء وما قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتنفر نفسه منها ، ويتآزر مع إخوانه المؤمنين للنجاة منها .
لقد أخبرت الآية السابقة عن تمني المؤمنين الموت والشهادة في سبيل الله، وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُوهذا التمني نوع تحد للكفار الذين زحفوا يوم أحد بثلاثة آلاف مقاتل للإجهاز على الإسلام وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين كان عددهم يومئذ أقل من ثلث جيش الكفار وليس عندهم سلاح كاف فكان سلاحهم قوة الإيمان وإظهار الثبات في منازل التقوى ، والتصديق المطلق بالثواب العظيم للذين آمنوا .
ليصبح هذا التمني عزيمة وإقبالاً توالى معه نزول ملائكة السماء بأمر من عند الله لنصرتهم وليكتب لهم الله عز وجل السلامة مع الثواب على هذا التمني.
ثم إنتقلت آية البحث إلى موضوع أعم من القضية في الواقعة أو خصوص جيل معلوم من المسلمين لتبعث المسلمين في كل زمان على التقوى والعمل بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير نكوص أو إنقلاب إلى حال الجاهلية والوثنية التي وثّقها القرآن بالبيان التفصيلي , ليكون الإنقلاب معلوماً ، ولدفع الجهالة والضرر عن المسلمين ، وبعثهم على الإحتراز من مفاهيم الفسوق والضلالة .
ومن فضل الله سبحانه أني أقوم بالتأليف والمراجعة والتصحيح بمفردي، يؤازرني ولدان لي في التنضيد، وقد نطوي الليل والنهار في السعي والمثابرة في بناء صرح علوم التفسير التي تتقوم باستخراج الدرر من كنوز القرآن غير المتناهية، ليكون كل جزء من هذا السفر شاهداً على بحور مستحدثة في علم التفسير، وإشراقة علمية تدعو العلماء لسبر أغواء الآية القرآنية , بعد أن أتعب العلماء الماضون أنفسهم بفخر في غمار هذا العلم المتجدد
لقد جاءت آية البحث بقانون كلي يؤكد أنها خطاب لأجيال المسلمين والناس جميعاً وإلى يوم القيامة بقوله تعالى [وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا] ليقطع هذا القانون الظن باختصاص مضامين الآية بموضوع وأوان النزول وهو واقعة أحد أو خصوص طبقة الصحابة ، ففي كل يوم تتوجه هذه الآية للمسلمين تأمرهم بالحيطة والحذر من الإنقلاب الذي هو أعم من الإرتداد , وتحذر الناس من البقاء على الضلالة، وتلزم الآية المسلمين في كل زمان بعدم التقصير في العبادات وتزجر عن تضييع بعض أفراد سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون عمل المسلمين دعوة للناس للإيمان ونشر مفاهيم التوحيد والجهاد بالحكمة وحسن السمت ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
حرر في السادس من كانون الثاني 2015
قوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]الآية 144.
الإعراب واللغة
وما : الواو حرف إستئناف وعطف.
ما : نافية ولها ثلاثة أسماء والمعنى واحد، وهي:
الأول : مهملة أي ليس لها أثر في تغيير حركة إعراب ما بعدها.
الثاني : ما غير عاملة بلحاظ القسيم الثاني لها، وهو(ما) العاملة التي تعمل عمل (ليس).
الثالث : ما الحجازية لأن أهل الحجاز يجعلونها مثل ليس في عملها بشرطين:
الأول : أن لا يتقدم خبرها على إسمها مثل قوله تعالى[وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ].
فالضمير (هم) خبر مقدم، و(من) حرف جر زائد، (ناصرين) مجرور لفظاً مرفوع محلاً مبتدأ مؤخر، وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم.
الثاني : عدم إنتقاض نفيها بالإستثناء، كما في قوله تعالى[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً] ( )، فالحرف (إلا) استثناء بنقض عمل (ما)، وهو ضابطة لاعراب ما بعده.
محمد : مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
إلا : أداة حصر.
رسول : خبر مرفوع بالضمة.
قد : حرف تحقيق.
خلت : فعل ماض مبني على الفتح المقدّر على الألف المحذوفة لإلتقاء الساكنين، والتاء : تاء التأنيث الساكنة.
من قبل : جار ومجرور متعلق بـ(خلت).
والهاء : ضمير مضاف إليه.
الرسل : فاعل مرفوع.
أفأن : الهمزة للإستفهام الإنكاري.
الفاء : عاطفة.
أن : حرف شرط جازم.
مات : فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو).
أو : حرف عطف .
قتل: فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم معطوف على (مات) ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره (هو).
إنقلبتم: فعل ماض مبني على السكون في محل جزم جواب الشرط، والتاء ضمير في محل فاعل.
على إعقابكم: على : حرف جر، وأعقاب : اسم مجرور متعلق بانقلبتم، والضمير(كم) ضمير مضاف إليه.
ومن ينقلب : الواو حرف عطف وإستئناف.
من : اسم شرط جازم مبني في محل رفع مبتدأ.
ينقلب : فعل مضارع مجزوم، فعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو .
على عقبيه : جار ومجرور متعلق بينقلب، وعلامة الجر الياء لأنه مثنى.
فلن يضر الله شيئاً : الفاء رابطة لجواب الشرط، لن: حرف نفي ونصب : يضر : فعل مضارع منصوب، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، واسم الجلالة مفعول به منصوب بالفتحة.
شيئاً : مفعول مطلق منصوب بالفتحة.
وسيجزي الله الشاكرين : الواو : حرف إستئناف.
السين : حرف للإستقبال القريب.
يجزي : فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء.
ولفظ الجلالة : فاعل مرفوع.
الشاكرين : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم .
ويقال: إنقلب ينقلب إنقلاباً فهو منقلب.
انقلب على عقبيه أي رجع إلى الضد لما صار إليه، ويأتي بمعنى انصرف وتحول وعاد ,أي ان هذا الإنقلاب ليس إرتداداً عن الدين ، ولا تقصيراً في أمور العقيدة والمبدأ ، إنما هو ميل إلى الدنيا وإنشغال بالكسب وحب حياة الدعة ، وترك الجهاد الذي هو سبب ما عنده من المال والجاه ، قال تعالى[فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ]( )، ويقال: إنقلب الحكم أي تغير وتبدل.
وقال الحصين بن الحُمام في الدم:
فلسنا على الأعقاب تَدْمَى كلومُنا…
ولكنْ على أقدامنا تَقْطُر الدَّما( ).
والإعقاب بكسر الألف، توالي فردين أو أكثر على موضوع أو محل متحد، كاعقاب النهار والليل.
والمعقبات: ملائكة النهار والليل يتعاقبون لحفظ الإنسان وتدوين أعماله، قال تعالى[لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ]( ).
وفي الدر المنثور ذكر السيوطي في الآية أعلاه عن ابن عباس روايات متعددة منها:
الأولى : هذه الآية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة( ).
الثانية : يعني ولي السلطان ، يكون عليه الحراس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، يقول الله « يحفظونه من أمري، فإني إذا أردت بقوم سوءاً فلا مرد له ( ).
الثالثة : الملك يتخذون الحرس يحفظونه من أمامه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله يحفظونه من القتل . ألم تسمع أن الله تعالى يقول[وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا]( )، لم يغن الحرس عنه شيئاً ( ).
الرابعة : هم الملائكة، تعقب بالليل والنهار وتكتب على بني آدم، وتحصي أعمالهم.
والمختار إرادة عموم الناس لبيان نعمة ورحمة مزجاة للناس في الدنيا بما يبعث السكينة في نفوسهم ويدعوهم للعمل والسعي في مرضاة الله، وإتخاذ الحيطة واليقظة جلباباً حياء من الملائكة الذين يكتبون الأعمال، وفيه دعوة للناس للجوء إلى التوبة والتوجه إلى الله عز وجل بالإستغفار والإنابة وفعل الصالحات.
وأخرج ابن جرير عن كنانة قال: دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أسألك عن العبد كم معه من ملك، قال : ملك على يمينك يكتب حسناتك، وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشراً، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أأكتب؟ قال : لا، لعله يستغفر الله أو يتوب فإذا قال ثلاثاً قال : نعم اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عزّ وجلّ وأقل استحياء منا يقول الله {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلاّ الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وآله، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحيّة في فيك، وملكان على عينيك هؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار؛ لأن ملائكة الليل أي ليسوا من ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكاً على كل آدمي وإبليس مع بني آدم بالنهار وولده بالليل ( ).
وأخرج أبو داود في القدر وابن أبي الدنيا وابن عساكر ، عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : لكل عبد حفظة يحفظونه ، لا يخر عليه حائط أو يتردى في بئر أو تصيبه دابة ، حتى إذا جاء القدر الذي قدّر له ، خلت عنه الحفظة فأصابه ما شاء الله أن يصيبه . وفي لفظ لأبي داود : وليس من الناس أحد إلا وقد وكل به ملك ، فلا تريده دابة ولا شيء إلا قال اتقه اتقه ، فإذا جاء القدر خلى عنه ( ).
والأعقاب : جمع عقب وهو مؤخر القدم ، يأتي اللفظ كناية عن العودة إلى الحال السابقة والرجوع إلى الوراء والإنقلاب القهقري والإدبار بعد الإقدام ، والإعراض والصدود بعد التلقي والإقبال .
بحث في الإستثناء
وردت الآية بصيغة (إلا) وهي أداة تفيد الحصر والإستثناء الذي يتقوم بأمور :
الأول : مجئ أداة إستثناء وحصر في الجملة مثل الحرف (إلا) وهو أم أدوات الإستثناء ، وقد تكون أدواته أسماء مثل غير ، سوى ، أو تكون أفعالاً وهي ، عدا ، خلا ، حاشا وقد يتقدم الفعل الحرف المصدري ما مثل ما عدا، ما خلا، وقال ابن ربيعة:
ألا كل شئ ما خلا الله باطل * وكل نعيم لا محالة زائل( ).
ولا تسبق (ما) حاشا ويعرب فعل ماض وما بعده مفعول به.
الثاني : ورود حكم للمستثنى منه.
الثالث : خروج ما بعد أداة الإستثناء من حكم ما قبلها .
ويأتي المستثنى منه في الغالب قبل أداة الإستثناء، أما المستثنى فيكون بعدها.
ويكون الإستثناء على أقسام :
الأول : الإستثناء التام المثبت لم يسبقه نفي أو نهي أو إستفهام وهو الذي تجتمع فيه أركان الإستثناء الأربعة وهي :
الأول : الحكم : وهو الفعل أو الحدث أو الصفة أو الخبر الذي ينسب للمستثنى منه كما في قوله تعالى [فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ] ( ) فالحكم هو السجود .
الثاني : المستثنى منه :وهو الاسم الذي أسند إليه الحكم وهم الملائكة في الآية أعلاه.
الثالث: وهو الاسم الذي لم يشمله الحكم ، وهو في الآية إبليس .
الرابع : أداة الإستثناء وهي في الآية أعلاه (إلا).
وحكم المستثنى في الإستثناء التام المثبت (الموجب) هو وجوب النصب , ومن أمثلته : حضر الطلاب إلا واحداً .
الثاني : الإستثناء التام المنفي ، وهو الذي تجتمع فيه أركان الإستثناء ولكنه يُسبق بنفي ويجوز إعراب المستثنى على جهتين :
الأولى : النصب على أنه مستثنى منصوب .
الثانية : إتباع المستثنى منه على أنه بدل منه .
الثالثة : الإستثناء المنفي الناقص ، ويعرب بلحاظ موقعه في الجملة وتكون (إلا) لا عمل لها .
ويمكن معرفته بقاعدة وهي :
حذف إلا وما بعدها .
فاذا كانت الكلمات الباقية جملة مفيدة فالكلام تام منفي وإذا لم تكن جملة مفيدة فالكلام ناقص منفي .
وآية البحث من الحصر،ويسمى عند البلاغيين القصر,ليس في الجملة( وما محمد..) مستثنى منه , ويمكن إستبانة إعرابه ومن غير أداة النفي والإستثناء ، فيكون (محمد رسول ) أي مبتدأ وخبر .
وفيه تأكيد لغوي لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمارة على إعجاز القرآن عند التصرف النحوي في معاني كلماته .
وأداة النفي (ليس ) على نحو الخصوص لا تحذف لموضوعيتها في الإعراب .
في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة، وهي على وجوه :
الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( )وفيها مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : ولقد كنتم تمنون الموت وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ( ).
الثاني : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل فقد رأيتموه .
الثالث : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأنتم تنظرون.
الرابع : ولقد كنتم تمنون الموت أفائن مات محمد أو قتل إنقلبتم على أعقابكم .
الخامس : أفائن مات محمد أو قتل من قبل أن تلقوا الموت إنقلبتم على أعقابكم .
السادس : أفائن مات محمد أو قتل وأنتم تنظرون أنقلبتم على أعقابكم .
السابع : ولقد كنتم تمنون الموت ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً .
الثامن : ومن ينقلب على عقبيه من قبل أن يلقى الموت فلن يضر الله شيئاً.
التاسع : فقد رأيتم الموت ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً .
العاشر : ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وأنتم تنظرون .
الحادي عشر : ولقد كنتم تمنون الموت وسيجزي الله الشاكرين .
الثاني عشر : وسيجزي الله الشاكرين من قبل أن تلقوا الله سبحانه .
الثالث عشر : وسيجزي الله الشاكرين من قبل أن تلقوا الموت.
الرابع عشر : فقد رأيتم الموت وسيجزي الله الشاكرين .
الخامس عشر : وسيجزي الله الشاكرين وأنتم تنظرون .
السادس عشر : ولقد كنتم تمنون الموت وسيجزي الله الشاكرين.
السابع عشر : فقد رأيتم الموت وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل.
الثامن عشر : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأنتم تنظرون.
التاسع عشر : فقد رأيتم الموت وأنتم تنظرون، وسيجزي الله الشاكرين.
الثانية : جاءت الآية السابقة بصيغة الخطاب الموجه إلى المسلمين والمسلمات ، وبدأت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ]وهو لا يتعارض مع إتحادها مع الآية السابقة بذات صيغة الخطاب بدليل قوله تعالى [انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]الوارد في ذات آية البحث ، لتكون صيغة الخبر فيها إعلاماً وإخباراً للمسلمين وفرعاً للغة الخطاب وإتحاده في هذه الآيات المتعاقبة لتنمية ملكة التقوى عند المسلمين وتأكيد فضله تعالى في إصلاحهم للنصر والغلبة على الكفار ولمقامات الإمامة بين الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بأن يتوالى نزول الآيات التي تجعلهم في عز ومنعة وفقاهة في الدين .
الثالثة : ذكرت كل من هذه الآية والآية السابقة موضوع الموت، وجاء في الآية السابقة بصيغة الخطاب والتمني وإحتمال حضوره بالسبب وإنخزام العمر بقتل طائفة من المؤمنين تمنوه بلقاء العدو الكافر، وورد لفظ (مات) في آية البحث لإرادة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الترديد في موضوع مغادرته الدنيا بين الموت بقبض روحه على الفراش، أو تعرضه للقتل من قبل الكفار.
الرابعة : بيان حال المسلمين أيام معركة أحد وما قبلها، إذ يتمنى المؤمنون الموت دفاعاً عن الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينما تحذر آية البحث من الإرتداد والنكوص عند رحيله من الدنيا وإنقطاع الوحي والتنزيل معه، ليفيد الجمع بين الآيتين أن المؤمنين تمنوا الموت عندما بلغهم وعيد الكفار بإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه الإمام والنبي والقائد والذي كان السبب المبارك في أمور:
الأول : إسلام المهاجرين والأنصار.
الثاني : دفاع أهل البيت والصحابة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : خروج شباب قريش بالإسلام عن هيمنة رؤساء الضلالة والكفر مثل أبي جهل وأبي سفيان قبل إسلامه وأمية بن خلف وغيرهم.
الرابع : هجرة أبناء كبراء قريش ذكوراً وأناثاً , وعبيدهم من مكة إلى المدينة مسلمين وحصول فجوة وثغرة في التركيبة الإجتماعية في مكة تنذر بتخلف قريش عن منزلتها بين القبائل، فلقد إختار أبناؤهم المساواة بينهم وبين العبيد ويكون الترجيح بالخشية من الله عز وجل وأداء الفرائض، قال تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، ليكون التنافس بينهم وبين العبيد والمستضعفين مطلقاً وبعرض واحد، وهو ما يغيظ كبراء قريش على نحو مكرر ويملأ قلوبهم حنقاً وبغضاً لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : صيرورة قوافل تجارة قريش عرضة للنهب والسلب، من الشباب المسلم الذين حملتهم قريش على الخروج من مكة وعدم دخول المدينة لموضوعية صلح الحديبية، ومن غيرهم , لتجرأ الناس على قريش وقوافلها بعد أمور:
الأول : إصرار كفار قريش على الكفر.
الثاني : محاربة قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : هزيمة كفار قريش في معركة بدر بإعجاز ظاهر.
الرابع : إنتفاء علة إكرام الناس لقريش وهيبتهم لها، وهي جوارهم للبيت، وما فيه من الدلائل على ازوم حفظهم له وتعاهدهم للحنيفية الإبراهيمية والتي تجلت بنبوة محمد.
الخامس : دخول الناس ومن قبائل شتى الإسلام لتصبح قريش عدوة لهم ولقبائلهم.
السادس : دخول بعض القبائل بحلف مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، كما في دخول خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصلح الحديبية بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكفار قريش وأهل مكة على وضع الحرب والقتال بينهم عشر سنين يأمن فيهن الناس، إذ أرادت قريش إنعاش تجارة القوافل بين اليمن وبلاد الشام والتي كانت واسطة بين البلدان المتحاربة أيام القتال بين الدولة الرومانية والفارسية وكسب قريش الأموال الطائلة من هذه التجارة إلى جانب تجارتها في مكة موسم الحج المتجددة كل عام.
وفي مدة الصلح مطلقاً وجوه :
الأول : أقصى مدة المهادنة عشر سنوات قاله الشافعي لأن الأصل هو قتال الكفار في الأزمنة المختلفة.
الثاني : لا يجوز الصلح أكثر من ثلاث سنوات وهي المدة المتحققة واقعاً من صلح الحديبية لنقض قريش له.
الثالث : لا حد للهدنة والأمر يترك للإمام وحسب الحال.
الرابع : الموادعة أعم من المهادنة.
ويمكن أن تكون الموادعة أكثر من عشر سنوات، وهو المشهور، والمختار هو الثالث والرابع، وبحسب مقتضى الأمر، والشورى وأحوال المسلمين، وشأن العدو، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( )، مع إستحضار قوله تعالى[فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
ودخلت خزاعة في عقد وعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا حلفاء بني هاشم منذ أيام عبد المطلب، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان بينها دم .
قال الواقدي: فلما كان صلح الحديبية دخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وكانت خزاعة حلفاء لعبد المطلب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً، ولقد جاءته يومئذٍ خزاعة بكتاب عبد المطلب فقرأه. قال ابن واقد: وهو ” باسمك اللهم، هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة، إذ قدم عليه سراتهم وأهل الرأي، غائبهم مقرٌّ بما قضى عليه شاهدهم. إن بيننا وبينكم عهود الله وعقوده، ما لا ينسى أبداً، ولا يأتى بلدٍّ ، اليد واحدةٌ والنصر واحدٌ، ما أشرف ثبير، وثبت حراء، وما بل بحرٌ صوفة ، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجدداً أبداً أبداً، الدهر سرمداً ( ).
ومن منافع هذا العهد تأمين خزاعة الطريق للمسلمين والمسلمات المهاجرات كما في (أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، كانت تحدث تقول: كنت أخرج إلى بادية لنا بها أهلي فأقيم فيهم الثلاث والأربع، وهي من ناحية التنعيم – أو قالت بالحصحاص – ثم أرجع إلى أهلي فلا ينكرون ذهابي، حتى أجمعت السيرن فخرجت يوماً من مكة كأني أريد البادية التي كنت فيها، فلما رجع من تبعني خرجت حتى انتهيت إلى الطريق، فإذا رجلٌ من خزاعة فقال: أين تريدين؟ فقلت: حاجتي؛ فما مسألتك ومن أنت؟ .
فقال: رجلٌ من خزاعة. فلما ذكر خزاعة اطمأننت إليه؛ لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقده، فقلت: إني امرأة من قريشٍ أريد اللحوق برسول الله، ولا علم لي بالطريق. فقال: أهل الليل والنهار ، أنا صاحبك حتى أوردك المدينة.
ثم جاءني ببعيرٍ فركبته، فكان يقود بي البعير، لا والله ما يكلمني كلمةً، حتى إذا أناخ البعير تنحى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيده في الشجرة وتنحى عني في الشجرة، حتى إذا كان الرواح جذع البعير فقربه وولى عني، فإذا ركبته أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى تنزل؛ فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله خيراً من صاحب! فكانت تقول: نعم الحي خزاعة! قالت: فدخلت على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متنقبة فما عرفتني حتى انتسبت، وكشفت النقاب فالتزمتني وقالت: هاجرت إلى الله وإلى رسوله؟ فقلت: نعم، وأنا أخاف أن يردني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين كما رد غيري من الرجال؛ أبا جندل بن سهيل، وأبا بصير، وحال الرجال يا أم سلمة ليس كحال النساء؛ والقوم مصبحي، قد طالت غيبتي عنهم اليوم ثمانية أيامٍ منذ فارقتهم، فهم يبحثون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبونني، فإن لم يجدوني رحلوا إلي فساروا ثلاثاً.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فأخبرته أم سلمة خبر أم كلثوم، فرحب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله، إني فررت بديني إليك فامنعني ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني، فلا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة وضعف النساء إلى ما تعرف؛ وقد رأيتك رددت رجلين إلى المشركين حتى امتنع أحدهما، وأنا امرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله نقض العهد في النساء. وأنزل الله فيهن ” الممتحنة ” ، وحكم في ذلك بحكمٍ رضوه كلهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد من جاء من الرجال، ولا يرد من جاءه من النساء. وقدم أخواها من الغد، الوليد وعمارة ابنا عقبة بن أبي معيط، فقالا: يا محمد، فِ لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه. فقال: قد نقض الله! فانصرفا ( ).
السابع : ظهور النقص في تجارة قريش لإنشغالهم بالمعارك والحروب ضد الإسلام، وتسخيرهم الأموال لتجهيز الجيوش في معركة بدر وأحد والخندق، وتلك آية من أسرار النبوة والإيمان، فالذي يحارب المؤمنين تستنزف أمواله وتفتر تجارته من غير أن يحقق غاياته ومصالحه، يريد النفع الخاص من هذه العداوة والحرب فلا يجني إلا الخيبة والخسران، بينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه ممن تمنى الموت والشهادة سالمين من المعارك التي خاضوها مع الكفار.
الخامسة : لقد ذكرت آية البحث مسألة إنقضاء أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا وفيه بلحاظ الآية السابقة وجوه:
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ممن تمنى الموت والشهادة عند لقاء العدو هذه الأمنية المذكورة في قوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] ( ).
الثاني : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتخصيص من مضامين الآية السابقة وما فيها من تمني المؤمنين الموت.
الثالث : إمضاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين في تمنيهم الموت عند لقاء العدو.
والصحيح هو الأول، ويكون الوجه الثالث في طوله، فليس من دليل على نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين عن هذا التمني.
السادسة : بينما يتمنى المسلمون الموت والشهادة في سبيل الله، أخبرهم الله عن حتمية مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا مما يدل على موضوعيته ولزوم الإستعداد له والتهيء لما بعده من الأيام من وجوه:
الأول : التوقي الذاتي من النكوص والتفريط في الفرائض.
الثاني : إستحضار تمني الشهادة والقتل في سبيل الله أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينفع هذا الإستحضار في الثبات في منازل الإيمان.
الثالث : تأكيد الآية السابقة على سلامة المؤمنين من الموت والقتل مع تمنيهم له، ليكون من شكرهم لله بقاؤهم في مقامات الإيمان.
الرابع : تتضمن آية البحث المواساة للمؤمنين الذين تمنوا الموت بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الآخر عرضة للقتل في أي ساعة من قبل الكفار.
الخامس : إذا كان المؤمنون يتمنون القتل في ساحة المعركة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرضة للموت من جهات:
الأولى : إرادة الكفار إغتياله في حال السلم.
الثانية : إحتمال قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ساحة المعركة لأنه وسط الميدان، ويتصف بخصوصية وهي أنه لا يفر ولا ينهزم، وقد صار الكفار إلى جانبه في معركة أحد وهم يطلبون قتله ولكن أعمى الله أبصارهم كما تقدم في الجزء السابق وحديث ابن قمئة.
الثالثة : إرادة المنافقين قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في حال العودة من السرايا وميادين القتال لأن المؤمنين في حال رجوع وفتور وغبطة بالرجوع إلى المدينة وأهليهم(وعن عروة قال: وَرَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى إذَا كَانَ بِبَعْضِ الطّرِيق مَكَرَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَتَآمَرُوا أَنْ يَطْرَحُوهُ مِنْ رَأْسِ عَقَبَةٍ فِي الطّرِيقِ .
فَلَمّا بَلَغُوا الْعَقَبَةَ أَرَادُوا أَنْ يَسْلُكُوهَا مَعَهُ فَلَمّا غَشِيَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرَ خَبَرَهُمْ فَقَالَ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَأْخُذَ بِبَطْنِ الْوَادِي فَإِنّهُ أَوْسَعُ لَكُمْ وَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَقَبَةَ وَأَخَذَ النّاسُ بِبَطْنِ الْوَادِي إلّا النّفَرَ الّذِينَ هَمّوا بِالْمَكْرِ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا سُمِعُوا بِذَلِكَ اسْتَعَدّوا وَتَلَثّمُوا وَقَدْ هَمّوا بِأَمْرٍ عَظِيمٍ
وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعَمّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَمَشَيَا مَعَهُ وَأَمَرَ عَمّارًا أَنْ يَأْخُذَ بِزِمَامِ النّاقَةِ وَأَمَرَ حُذَيْفَةَ أَنْ يَسُوقَهَا فَبَيْنَا هُمْ يَسِيرُونَ إذْ سَمِعُوا وَكْزَةَ الْقَوْمِ مِنْ وَرَائِهِمْ قَدْ غَشَوْهُ فَغَضِبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمَرَ حُذَيْفَةَ أَنْ يَرُدّهُمْ وَأَبْصَرَ حُذَيْفَةُ غَضَبَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَجَعَ وَمَعَهُ مِحْجَنٌ وَاسْتَقْبَلَ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ فَضَرَبَهَا ضَرْبًا بِالْمِحْجَنِ وَأَبْصَرَ الْقَوْمَ وَهُمْ مُتَلَثّمُونَ وَلَا يَشْعُرُ إلّا أَنّ ذَلِكَ فِعْلُ الْمُسَافِرِ فَأَرْعَبَهُمْ اللّهُ سُبْحَانَهُ حِينَ أَبْصَرُوا حُذَيْفَةَ وَظَنّوا أَنّ مَكْرَهُمْ قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَأَسْرَعُوا حَتّى خَالَطُوا النّاسَ وَأَقْبَلَ حُذَيْفَةُ حَتّى أَدْرَكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَلَمّا أَدْرَكَهُ قَالَ اضْرِبْ الرّاحِلَةَ يَا حُذَيْفَةُ وَامْشِ أَنْتَ يَا عَمّارُ فَأَسْرَعُوا حَتّى اسْتَوَوْا بِأَعْلَاهَا فَخَرَجُوا مِنْ الْعَقَبَةِ يَنْتَظِرُونَ النّاسَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِحُذَيْفَةَ هَلْ عَرَفْتَ مِنْ هَؤُلَاءِ الرّهْطِ أَوْ الرّكْبِ أَحَدًا ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ عَرَفْتُ رَاحِلَةَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَقَالَ كَانَتْ ظُلْمَةُ اللّيْلِ وَغَشِيَتْهُمْ وَهُمْ مُتَلَثّمُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا كَانَ شَأْنُ الرّكْبِ وَمَا أَرَادُوا ؟ قَالُوا : لَا وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ فَإِنّهُمْ مَكَرُوا لِيَسِيرُوا مَعِي حَتّى إذَا اطّلَعْتُ فِي الْعَقَبَةِ طَرَحُونِي مِنْهَا قَالُوا : أَوَلَا تَأْمُرُ بِهِمْ يَا رَسُولَ اللّهِ إذًا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ قَالَ أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدّثَ النّاسُ وَيَقُولُوا : إنّ مُحَمّدًا قَدْ وَضَعَ يَدَهُ فِي أَصْحَابِهِ فَسَمّاهُمْ لَهُمَا وَقَالَ اُكْتُمَاهُمْ
وَقَالَ ابن إسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ إنّ اللّهَ قَدْ أَخْبَرَنِي بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَسَأُخْبِرُك بِهِمْ إنْ شَاءَ اللّهُ غَدًا عِنْدَ وَجْهِ الصّبْحِ فَانْطَلِقْ حَتّى إذَا أَصْبَحْتُ فَاجْمَعْهُمْ فَلَمّا أَصْبَحَ قَالَ اُدْعُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي سَرْحٍ وَأَبَا خَاطِرٍ الْأَعْرَابِيّ وَعَامِرًا وَأَبَا عَامِرٍ وَالْجُلَاسَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ الصّامِتِ وَهُوَ الّذِي قَالَ لَا نَنْتَهِي حَتّى نَرْمِيَ مُحَمّدًا مِنْ الْعَقَبَةِ اللّيْلَةَ وَإِنْ كَانَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ خَيْرًا مِنّا إنّا إذًا لَغَنَمٌ وَهُوَ الرّاعِي وَلَا عَقْلَ لَنَا وَهُوَ الْعَاقِلُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ مُجَمّعَ بْنَ حَارِثَةَ وَمُلَيْحًا التّيْمِيّ وَهُوَ الّذِي سَرَقَ طِيبَ الْكَعْبَةِ وَارْتَدّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَانْطَلَقَ هَارِبًا فِي الْأَرْضِ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ حِصْنَ بْنَ نُمَيْرٍ الّذِي أَغَارَ عَلَى تَمْرِ الصّدَقَةِ فَسَرَقَهُ وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيْحَكَ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ؟ فَقَالَ حَمَلَنِي عَلَيْهِ أَنّي ظَنَنْتُ أَنّ اللّهَ لَا يُطْلِعُك عَلَيْهِ فَأَمّا إذَا أَطْلَعَك اللّهُ عَلَيْهِ وَعَلِمْته فَأَنَا أَشْهَدُ الْيَوْمَ أَنّك رَسُولُ اللّهِ وَإِنّي لَمْ أُؤْمِنْ بِك قَطّ قَبْلَ هَذِهِ السّاعَةِ فَأَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَثْرَتَهُ
وَعَفَا عَنْهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ طُعَيْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ عُيَيْنَةَ وَهُوَ
الّذِي قَالَ لِأَصْحَابِهِ اسْهَرُوا هَذِهِ اللّيْلَةَ تَسْلَمُوا الدّهْرَ كُلّهُ فَوَاَللّهِ مَا لَكَمَ أَمْرٌ دُونَ أَنْ تَقْتُلُوا هَذَا الرّجُلَ فَدَعَاهُ
فَقَالَ وَيْحَكَ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ مِنْ قَتْلِي لَوْ أَنّي قُتِلْتُ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ فَوَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَا نَزَالُ بِخَيْرِ مَا أَعْطَاك اللّهُ النّصْرَ عَلَى عَدُوّك إنّمَا نَحْنُ بِاَللّهِ وَبِك فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ اُدْعُ مُرّةَ بْنَ الرّبِيعِ وَهُوَ الّذِي قَالَ نَقْتُلُ الْوَاحِدَ الْفَرْدَ فَيَكُونُ النّاسُ عَامّةً بِقَتْلِهِ مُطْمَئِنّينَ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ وَيْحَكَ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ الّذِي قُلْت؟
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ كُنْتُ قُلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إنّك لَعَالِمٌ بِهِ وَمَا قُلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَجَمَعَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا الّذِينَ حَارَبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَوْلِهِمْ وَمَنْطِقِهِمْ وَسِرّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ وَأَطْلَعَ اللّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيّهُ عَلَى ذَلِكَ بِعِلْمِهِ وَمَاتَ الِاثْنَا عَشَرَ مُنَافِقِينَ مُحَارِبِينَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ {وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا})( ).
ونوقش هذا الخبر بوجوه بلحاظ رواية ابن إسحاق منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرّ إلى حذيفة أسماء أولئك المنافقين ولم يخبر غيره لذا كان حذيفة يسمى صاحب السر.
الرابع : إحتمال موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الفراش في أية ساعة من ليل أو نهار، وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( )، فإتحاد سنخية البشرية تتجلى بأمور:
الأول : إختتام حياة الإنسان بالموت.
الثاني : عدم معرفة الإنسان لساعة موته.
الثالث : تعدد وتباين طرق الموت، لذا جاءت آية البحث بالترديد والتعدد بين الموت أو القتل.
الرابع : كثرة الأعداء من الكفار والمنافقين والفاسقين وطالبي الثأر وفاقدي الجاه والشأن الذي يريدون عودة الحياة إلى ما كانت عليه قبل النبوة من النهب والظلم والفساد، ليكون من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، في رد الله عز وجل على الملائكة حينما أنكروا جعل خليفة في الأرض بقولهم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ]( )، وجوه:
الأول : بعث الأنبياء لمحاربة الفساد.
الثاني : نزول الكتب السماوية ومجيء الأنبياء بالبشارة والإنذار والدعوة إلى الله عز وجل.
الثالث : نقض الفساد بالصلاح.
الرابع : فتح باب التوبة، ودخول الناس في الإسلام.
الخامس : حرمة الإرتداد عن الإسلام.
السادس : نسخ الكفر بالإيمان وعجز الكفار والمنافقين عن إعادة حال الكفر.
السابع : بقاء الإسلام صرحاً عالياً إلى يوم القيامة يتجلى بشيوع التقوى في الأرض، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ سلامتهم من الإرتداد وعصمتهم من الرجوع إلى عادات الجاهلية وسنن الوثنية وأخلاق الضلالة.
الثامن : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل إلى حين إتمام نزول آيات القرآن كلها، لإنحصار تلقي التنزيل بشخصه الكريم إلى يوم القيامة.
التاسع : تثبيت معالم الدين وأحكام الشريعة بجلاء ووضوح يمنع من إختلاف المسلمين أو الخصومة فيها، وهو من مصاديق قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( )، بلحاظ أن من كمال الدين إنتفاء أسباب الخلاف والشقاق بين المسلمين.
السابعة : تتضمن آية السياق الخطاب للمسلمين بأنهم تمنوا الموت والشهادة في سبيل الله يوم أحد وأنعم الله عز وجل عليهم بالعودة سالمين من ساحة المعركة مع شدة القتال فيها، وإنهزام فريق منهم أثناء المعركة.
وهل من موضوعية لتمني الموت بعودتهم إلى ساحة المعركة، الجواب نعم إذ يتناجى المسلمون بطلب الشهادة ويتذاكرون أمانيهم في الفوز بها ورغبائهم في لقاء الله فيكون سبباً لزوال الخوف والحزن والوهن من نفوسهم، وباعثاً للإستبسال في القتال وملئ نفوس الكفار بالرعب والخوف، ليكون تمني المسلمين الموت من أسباب عودتهم للقتال في معركة أحد، وتقدير الآية السابقة: ولقد كنتم تمنون الموت فعودوا إلى ساحة المعركة.
(قال أبو الأسود الدؤلي:
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأْتِيَ مِثْلَهُ
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ)( ).
المسألة الثانية : يفيد الجمع بين الآيتين الثناء على المسلمين لأنهم تمنوا الموت تصديقاً بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد خلت الأنبياء والرسل من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس من أمة من أتباعهم وأنصارهم تمنوا الموت والشهادة مجتمعين، ليكون عشق المسلمين للشهادة في سبيل الله مادة وموضوعاً لدوام كلمة التوحيد في الأرض ، فقد كانت حرب كفار قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصداقاً لحال شطر من أهل الأرض بلحاظ أمور :
الأول : تتصف قريش بأنهم مجاوروا البيت الحرام، فهم أقرب الناس إلى مبادئ التوحيد .
الثاني : بقاء بعض سنن الحنيفية الإبراهيمية عند قريش وفي قوله تعالى[وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ]( )، ورد عن ابن عباس أنه قال: لا إله إلا الله في عقبه ، قال : عقب إبراهيم ولده ( ).
الثالث : مجئ القبائل العربية في الموسم كل عام لحج بيت الله الحرام .
الرابع : قريش هم قبيلة وعمومة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو من أسناها بيتاً .
الخامس : هيبة قريش عند القبائل العربية تجلت في سلامة تجارتها من النهب عندما تمر بأراض ومضارب هذه القبائل .
ولم تنل قريش هذه المكانة لولا فضل الله عز وجل بالبيت الحرام ورفع إبراهيم وإسماعيل قواعده ودعوتهما الناس لحجه وعمارته ليجدد عمارة آدم له.
عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « كان البيت قبل هبوط آدم ياقوتة من يواقيت الجنة ، وكان له بابان من زمرد أخضر ، باب شرقي وباب غربي ، وفيه قناديل من الجنة ، والبيت المعمور الذي في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة حذاء الكعبة الحرام ، وأن الله عز وجل لما أهبط آدم إلى موضع الكعبة وهو مثل الفلك من شدة رعدته ، وأنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه بيضاء فأخذه آدم فضمه إليه استئناساً ، ثم أخذ الله من بني آدم ميثاقهم فجعله في الحجر الأسود ، ثم أنزل على آدم العصا ، ثم قال : يا آدم تخط . فتخطى فإذا هو بأرض الهند ، فمكث هناك ما شاء الله ثم استوحش إلى البيت ، فقيل له : احجج يا آدم .
فأقبل يتخطى ، فصار كل موضع قدم قرية وما بين ذلك مفازة حتى قدم مكة ، فلقيته الملائكة فقالوا : بر حجك يا آدم( ) ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
قال : فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا : كنا نقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وكان آدم إذا طاف بالبيت قال هؤلاء الكلمات ، وكان آدم يطوف سبعة أسابيع بالنهار.
قال آدم : يا رب اجعل لهذا البيت عماراً يعمرونه من ذريتي ، فأوحى الله تعالى أني معمره نبياً من ذريتك اسمه إبراهيم ، اتخذه خليلاً أقضي على يديه عمارته ، وأنيط له سقايته ، وأريه حله وحرمه ومواقفه ، واعلمه مشاعره ومناسكه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن آدم سأل ربه فقال : يا رب أسألك من حج هذا البيت من ذريتي لا يشرك بك شيئاً أن تلحقه بي في الجنة . فقال الله تعالى : يا آدم من مات في الحرم لا يشرك بي شيئاً بعثته آمنا يوم القيامة .
وأخرج الجندي عن مجاهد . أن آدم طاف بالبيت ، فلقيته الملائكة فصافحته وسلمت عليه ، وقالت : بر حجك يا آدم ، طف بهذا البيت فإنَّا قد طفناه قبلك بألفي عام . قال لهم آدم : فما كنتم تقولون في طوافكم؟ قالوا : كنا نقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . قال آدم : وأنا أزيد فيها ولا حول ولا قوّة إلا بالله( ).
أخبرت الآية السابقة عن رؤية المسلمين الموت في ساحات الوغى وعلى نحو الخصوص يوم أحد ثم أنجاهم الله عز وجل ليفوزوا بأمور :
الأول : السلامة من القتل في ميدان المعركة، فان قلت هذا القتل انتقال إلى النعيم الدائم، والجواب هذا صحيح، ولكن العودة إلى الدنيا مناسبة لتجديد الجهاد في سبيل الله وطريق إضافي إلى النعيم.
الثاني : النجاة من الوقوع في الأسر، بيد المشركين.
الثالث : التنزه عن الهزيمة والخزي فلم يفر المسلمون من المعركة إلى بيوتهم، بل رجعوا إلى الميدان.
الرابع : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المعركة سالماً من القتل الذي كان هدف كفار قريش، ولم يهموا أو يعملوا على أسره لإدراكهم العجز عنه بدليل قوله تعالى [فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ] ( ) ويفيد الضمير [الهاء]في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : رؤية الموت على نحو المجاز , وكأنه أمر محسوس ومشاهد , وإذ ذم القرآن أقواماً من أتباع الأنبياء بقوله تعالى [قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ] ( )فان كلاً من آية البحث والسياق يتضمنهما الثناء على المسلمين إذ تخبر آية السياق عن أمور :
الأول : تمني المسلمين الموت .
الثاني : إرادة القتل في سبيل الله من معنى الموت في آية السياق .
الثالث: لقاء المسلمين الموت وإقترابهم من الشهادة ، فان قلت قد إنهزموا من معركة الموت ، وإحتمال تقدير الآية أنهم رأوا الموت ففروا منه وهم ينظرون لأنفسهم وللموت وهو يطاردهم عند الفرار ، الجواب لا دليل على هذا التقدير والمعنى ،إذ لم تحصل هزيمة المسلمين يوم أحد على نحو العموم المجموعي ولا الدائم والأمور بخواتيمها ، فكانت طائفة منهم تقاتل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين يديه ومن حوله ، كما أن أصل النظر في قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]هو رؤية الفرد والجماعة للأشياء الحسية التي تكون قدامهم، ولا ينطبق على الهزيمة من جهات :
الأولى : حاجة الإلتفات إلى مؤونة زائدة .
الثانية : لا يكون التفات الجميع مرة واحدة بينما يكون النظر من الطائفة والجيش لما هو قدامهم مرة واحدة أمراً ممكناً.
الثالثة : رؤية الموت امر مجازي وليس حقيقة حسية فلا يتعدد ويتداخل المجاز من غير قرائن لكل فرد ولتداخلها ،نعم قد تكون رؤية الموت سبباً للفزع والإنهزام ، ولكن هذه الآيات جاءت بالنهي عنه بدليل قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الثاني : رؤية المؤمنين لعدد كبير من أصحابهم يسقطون شهداء في ساحة المعركة يوم أحد ويوم بدر هو أربعة عشر شهيداً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين مع نصر عظيم للمسلمين على الكفار ، وجلب الغنائم إلى المدينة والإنشغال بمسألة فداء سبعين أسيراً من الكفار ، وأما في معركة أحد فقد كان عدد الشهداء من المسلمين سبعين شهيداً مع عدم وجود مغانم ليتجلى هول المصيبة وينكشف المسلمون لها فيحسون بحرارة الفاجعة، وأثر الموت والخسارة بفقد الأحبة خاصة وأن فيهم حمزة عم النبي وعدداً من النقباء .
الثالث : رأيتم الموت بإشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي نزلت على كل مؤمن كالصاعقة قبل أن يتبين كذبها وعدم صحتها ، خاصة وأن كل واحد منها يلوم نفسه بالتقصير أو القصور في الدفاع عنه ونجاته من القتل إلا أولئك الذين قتلوا بين يديه والذين لم يغادروا مواضعهم في الدفاع عنه، ولم توثر فيهم الإشاعة لأنهم يعلمون بحياته وكذب هذه الإشاعة، فان قلت[ورد عن ابن اسحاق قال: كان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهزيمة وقول الناس قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما حدثنى ابن شهاب الزهري كعب بن مالك أخو بنى سلمة قال عرفت عينيه تزهران تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنصت فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهضوا به ونهض نحو الشعب معه علي بن أبى طالب وأبو بكر بن أبى قحافة وعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة في رهط من المسلمين، فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشعب أدركه أبى بن خلف وهو يقول أين محمد لا نجوت إن نجوت فقال القوم يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا قال دعوه فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث ابن الصمة قال يقول بعض الناس فيما ذكر لى فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتفض بنا انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا]( ).
والجواب المراد أن كعب بن مالك أول من عرفه من بين الذين سمعوا بالإشاعة وظن صحتها وإمكان وقوعها ، وتكون الأخبار والنصوص التي تتضمن إحاطة عدد من الصحابة بالنبي ساعة المحنة وإنهزام فريق من المسلمين حاكمة في المقام .
الرابع : رأيتم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل في وسط المعركة ويدفع إنهزام أصحابه بثباته في الميدان وما فيه من الترغيب بالجهاد يومئذ وفي معارك الإسلام اللاحقة .
الخامس : رأيتم الموت صار قريباً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أخذت حجارة الكفار تصل إليه فضلاً عن سهامهم خاصة وأن حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل في ذات اليوم بقذف وحشي له بحربة.
وإذ تفضل الله عز وجل وأنجى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم أحد , فإنكم بقيتم تنظرون إليه من جهات:
الأولى : كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، وسيل الدماء من وجهه.
الثانية : تجلي أبهى معاني الصبر بثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة، وصيرورة هذا الثبات مقدمة وسبباً لرجوع أصحابه إلى مواقعهم، وإشتداد القتال من جديد بما جعل الكفار يوقفون الحرب وينسحبون إلى مكة في حنق وحسرة ،قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وهل خشي كفار قريش خروج المسلمين والمسلمات الذين في المدينة إلى ميدان المعركة خاصة بعد مجيء إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنكشاف كذبها وإنتفاء موضوعها، وتوالي الأخبار بسقوط القتلى من المؤمنين ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم :نصرت بالرعب]( ).
فإن قلت هذه الأخبار سبب لنشر الخوف والفزع في نفوس أهل المدينة، الجواب إنما تبعث على التآزر، والتعاون لصد الكفار، خاصة وأنهم لا زالوا يعيشون وقائع معركة بدر وإنكسار المشركين فيها بين قتيل وأسير ومنهزم، وهذا التآزر من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، بتقريب أن هذا النصر لا ينحصر بوقائع المعركة بل يشمل ما يترشح عنها من المنافع والثمرات إلى يوم القيامة، ومنها مبادرة المسلمين رجالاً ونساءً إلى نصرة المقاتلين في سوح المعركة، وذات الأمر سبب في خشية المشركين من إقتحام المدينة المنورة يوم الأحزاب مع أن جيشهم عشرة آلاف مقاتل، وتدل هذه الخشية على عدم وجود أثر وتأثير للمنافقين في المدينة.
الثالثة : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بملاحقة وتتبع سير جيش الكفار, والتأكد من عدم إرادتهم غزو المدينة المنورة .
وتتضمن آية السياق الثناء على المسلمين بلحاظ تلقي موضوع الموت، لأن الناس فيه على أقسام:
الأول : الذين يعرضون عن الموت وينهزمون منه ، ويتجنبون لقاء أسباب الموت وما يحتمل أن يختتم بالقتل والموت ، قال تعالى في لوم قوم والإحتجاج عليهم [قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ]( ).
الثاني : الذين يتحدون الموت، ويجازفون في إقتحام أسبابه ومقدماته.
الثالث : الذين يتمنون الموت طمعاً بالشهادة وما بعده للمؤمنين من النعيم الدائم.
الرابع : الذين يستعدون للموت بالمقدمات المناسبة من فعل الصالحات والإجتهاد في طاعة الله.
الخامس : الذين يخشون الموت، ويعزفون عن تمنيه، ويخافون ما بعده.
السادس : الذين يعشقون الموت، ويتلقونه مقبلين غير مدبرين.
وقد فاز المسلمون بالوجه الرابع عندما تماد عن الكفار في غيهم وأصروا على الحرب والعدوان، وكأن هذا التمني ضرورة، فلم يهنوا أو يخافوا فرزقهم الله في هذه الآية أموراً:
الأول : توثيق تمني المسلمين الموت.
الثاني : دلالة الآية على أن موضوع تمني المسلمين هو الشهادة والقتل في سبيل الله.
الثالث : فوز المسلمين باجتماع أمرين:
الأول : رؤية الموت.
الثاني : السلامة والنجاة من الموت،عن أبي أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صبر حتى يقتل أو يغلب لم يفتن في قبره ( ).
الرابع : التذكير بفضل الله ،وأن نجاة المسلمين من الموت بآية ومعجزة من عند الله.
ولعل آية السياق تتضمن الإخبار عن سلامة المسلمين من القتل والقتال يوم الخندق، لأنها تتحدث عن معركة أحد ووقائعها وكأنها من الزمن الماضي بلحاظ التباين بين أفراد الزمن الماضي والزمن الحاضر وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ليأتي الإنذار من الإرتداد في آية البحث بعد السلامة من الموت، كأنها تقول للمسلمين: أفان مات أو قتل بعد نجاتكم من الموت والقتل إنقلبتم على اعقابكم.
السابعة : يتعلق موضوع الآيتين بواقعة أحد، وكأن سورة آل عمران هي سورة معركة أحد أسباباً ووقائع ونتائج، لتكون موعظة للأجيال، وضياء ينير الدرب للمؤمنين والمؤمنات ،نعم المدار على عموم المعنى وليس خصوص سبب النزول.
الثامنة : ذكرت كل من الآيتين الموت، وبينهما بخصوص موضوعه عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول : لم يقع الموت في حينه للذين تمنوه من المؤمنين كما أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خرج سالماً من المعركة مع كلوم أصابته في وجهه ورأسه تحزن كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة فكأن هذه الجراحات أصابتهم.
الثاني : كانت الشهادة والموت أطلا يوم أحد على النبي محمد صلى عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الثالث : رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون الذين تمنوا الموت سقوط الشهداء من بينهم وقد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة عليهم قبل دفنهم، ليكون من مصاديق قوله تعالى (فقد رأيتموه) أي رأيتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيكم وشهادة عدد من الصحابة من بينكم.
الرابع : عدم خشية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الموت يوم أحد ويلتقي عدم الخشية هذا مع تمني الموت في المصداق الواقعي وإن تعددت النوايا والمقاصد، ولكنها تلتقي بإرادة طاعة الله والإخلاص بالفناء في سبيله، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ]( ).
وتأكيد الوعد والإخبار في الكتب السماوية الثلاثة دعوة لعدم الشك أو الريب عند سقوط القتلى من المؤمنين، فليس من ملازمة تأريخية بين الإيمان والسلامة من القتل، لذا أخبرت الملائكة عن سفك الدماء بغير حق قبل أن يهبط آدم إلى الأرض، كما ورد في مناجاتهم لله عز وجل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ليكون الدم المسفوح هو دم الأنبياء والأولياء والمتقين فرد عليهم الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، بأن الله عز وجل أخذ العهد على المؤمنين بأن يقاتلوا في سبيله، ومنهم من يقتل في المعركة ويكون جزاء الجميع الخلود في النعيم سواء تمنوا الموت أو لم يتمنوه، ولكن هذا التمني الذي تذكره آية السياق مرآة للتقوى وإستعداد للشهادة، وبلغة للإقامة في النعيم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: انْتَدَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يَخْرُجُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنِّي لَا أَجِدُ سَعَةً فَيَتْبَعُونِي وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ فَيَتَخَلَّفُونَ بَعْدِي وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنْ أَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ)( ).
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول : وقوع تمني الموت من قبل طائفة من المؤمنين، بينما أخبرت آية البحث عن إحتمال موت أو شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله.
الثاني : إن كانت طائفة من المؤمنين يتمنون الشهادة في سبيل الله فإن القتل ليس بعيداً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى[فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] إذ رأى الصحابة المجاهدون في معركة أحد جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسمعوا الصارخ ينادي قُتل محمد، ولم يقولوا قُتل النبي أو قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل ذكروه بالإسم، لأن أصل النداء صدر من معسكر المشركين، وقيل أن الشيطان هو أول من صرخ: قُتل محمد.
الثالث : موضوع آية السياق متعدد من جهات:
الأولى : إرادة الزمن الماضي بلحاظ التمني والكيفية النفسانية لطائفة من المؤمنين وعزمهم على مقاتلة الكفار.
الثانية : الأمر اللاحق بوقوع القتال ورؤية القتل وسقوط الشهداء، وهو وإن كان سابقاً في زمانه لنزول الآية إلا أنه متأخر في وقوعه عن تمني طائفة من المسلمين الموت، فقد تمنوا الموت وهم في المدينة وحال السلم ليكون عوناً لهم للخروج لسوح القتال، والمناجاة بالجهاد والتهيئ للقاء الأسنة، وطعان السيوف وإصطباغها باللون الأحمر، لذا أصابت الملائكة النفرة من القتل في الأرض، فصار تمني المؤمنين الموت من الشواهد والبيان للملائكة بأن المؤمنين أمة لا يسفكون الدماء بل يتمنون الموت وسفك دمائهم مع ثباتهم على التوحيد وإستدامة التسبيح والتهليل في الأرض، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الثالثة : وقوع القتال مع الكفار وإبتداء العدو به ليكون إثمه متعدداً من جهات:
الأولى : زحف المشركين من مكة وقطع ثلاثة آلاف مقاتل نحو خمسمائة كيلو متراً تعدياً وظلماً.
الثانية : تبييت النية بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل شطر من أصحابه وأسر الشطر الآخر، لذا فإن إشاعة قتل النبي التي إنتشرت بسرعة في ميدان المعركة لم تأت إبتداءً، فقد جعلها الكفار غاية وأمنية لهم وموضوعاً للحشد قبل أن يخرجوا من مكة.
الثالثة : جمع الكفار بين الإصرار على الكفر , وقتال خاتم النبيين وأنصاره .
التاسعة : إن كنتم تمنون الموت بعد معركة احد وبانتظار قدوم جيش المشركين فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في معرض القتل في كل يوم من أيام حياته وبينها وبين أيام نبوته عموم وخصوص مطلق ، فأيام الحياة أعم وقد جرت محاولات لإغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حين ولادته وعندما نشأ وشبّ وظهرت علامات النبوة الكونية والشخصية وإلى حين فتح مكة ولكن الله عز وجل يدفعها عنه ويخزي أصحابها ويرجع مكرهم إلى صدورهم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
ومنهم من أراد قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأى الآيات الباهرات والبرزخ يحول بينهما فتاب إلى الله وإختار الشهادة أو أخذ يحدث بما رأه ليكون موعظة وبرهاناً [ذكره ابن هشام وذكر أن فضالة بن عمير بن الملوح أراد قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضالة قال نعم فضالة يا رسول الله قال ماذا كنت تحدث به نفسك قال لا شئ كنت أذكر الله فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال استغفر الله ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه فكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلى منه]( )، وعن شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار قلت: اليوم أدرك ثأري – وكان أبوه قد قتل يوم أحد – اليوم أقتل محمد.
قال: فأدرت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاقتله فأقبل شئ حتى تغشى فؤادى فلم أطق ذاك وعلمت أنه ممنوع منى] ( ).
العاشرة : يبين الجمع بين الآيتين عدم إستثناء الأنبياء عامة والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة من الإبتلاء في الدنيا وعدم وجود مائز بينه وبين عموم الناس في مراتب الإبتلاء أي لا يكون إبتلاء الأنبياء أدنى مرتبة، فيسلمون مثلاً من الأمراض العضال أو لا يتعرضون إلى القتل، وقد جاء القرآن بانتفاء مثل هذا التباين .
قال تعالى في ذم قوم من الأمم السالفة[فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ) وفي هذه الآيات بيان للتضاد والتنافي بين تمني الموت والفرار من ساحة المعركة، وصيرورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منكشفاً مع قلة من أهل بيته وأصحابه ، وهذا الفرار على فرض وقوعه لن يضر صرح الإيمان [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
الحادية عشرة : من معاني الجمع بين الآيتين أن الفرار من الزحف وترك مواطن القتال لن ينجي من الموت والهلكة ولو عند الهزيمة والإنسحاب ، وبينما كان أبو سفيان وعمرو بن العاص أول المنهزمين من جيش المشركين يوم أحد دارت الحرب وتحولت الكرة فهّم بعض الصحابة أن يخبر عبد الله بن أبي سلول رأس النفاق أن يطلب له الأمان من أبي سفيان.
والله عز وجل هو ولي المؤمنين فثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاد المؤمنون إلى مواضعهم في المعركة وتجلت من جديد مصاديق تمنيهم الموت في المعركة فحتى على فرض إنسحابهم وفرارهم أثناء المعركة فلا تنخرم أمنية الشهادة ما داموا قد رجعوا لمواصلة القتال بلطف وتخفيف من عند الله .
ويدل تمني المؤمنين الشهادة بالدلالة التضمنية على تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسليمهم بصدق نزول آيات القرآن من عند الله، وأن الوعد بالجنة جزاء على الشهادة في سبيل الله حق ، وفي التنزيل[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
الثانية عشرة : يفيد الجمع بين الآيتين التباين بين مغادرة النبي إلى الرفيق الأعلى وبين موت بعض المؤمنين، إذ جاءت آية البحث بالتحذير والإنذار من الإرتداد بسبب موت أو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليدل بالدلالة الإلتزامية على أن سلامته من القتل يوم أحد رحمة بالمسلمين جميعاً، وكل يوم يبقى بين ظهرانيهم يعني نزول آيات جديدة وترشح لبيان من السنة النبوية.
الثالثة عشرة : بيان فضل الله عز وجل بدلالة آية السياق على حفظ المؤمنين وسلامتهم من القتل يوم بدر وأحد مع تمنيهم الموت، ودلالتها على حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته من الموت والقتل في معركة أحد وغيرها.
ترى لماذا ذكرت آية السياق خصوص تمني الموت، وذكرت آية البحث نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الموت والقتل على نحو الترديد والتعدد، فيه مسائل:
الأولى : تبين آية السياق أمنية المؤمنين بخصوص مواجهة الكفار، فلو لم يكرر الكفار هجومهم وتعديهم لما كانت هذه الأمنية لإنقطاع المسلمين للعبادة والدعوة والتفقه في الدين، وتلقي آيات القرآن بالتدبر، وإن كانت لا تتعارض معها، أما بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه حمل لواء محاربة الكفار ، وإمامة الناس في فضح مفاهيم الضلالة ،وهدم قواعد الشرك الواهية ،والتبرأ من رؤساء الجحود، ففي كل يوم كان عرضة للشهادة.
الثانية : مواساة المجاهدين الذين تسابقوا إلى ميادين القتال .
الثالثة : التباين الموضوعي بين مقدمات ذات الموت، وبين الآيتين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول : إتحاد موضوع الآيتين، وإرادة الموت وهو مغادرة الروح الجسد.
الثاني : إتحاد جهة الخطاب في الآيتين، وعطفهما مجتمعتين ومتفرقتين على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( ).
الثالث : سبب نزول الآيتين هو معركة أحد ووقائعها، والمدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول، أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول : تتعلق آية السياق بتمني المؤمنين الشهادة في سبيل الله إختياراً وتطوعاً ، أما آية البحث فان موضوع أولها يخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يلقاه من الأذى والضرر وكيد الأعداء .
الثاني : تتعلق آية السياق بحال التمني والرغبة ، أما تحقيق تلك الأمنية فهو أمر يتوقف على مشيئة الله عز وجل ، وحدوث الأسباب التي ترشحت عنها تلك الأمنية وهي تجدد القتال مع المشركين ، وحدوث معركة مثل معركة بدر أو مع عدم حدوثها.
الثالث : إذا تعارضت الأسباب مع المشيئة الإلهية فان الأثر لا يترتب إلا على المشيئة الإلهية ولا موضوعية حينئذ لقاعدة السبب والمسبب والعلة والمعلول ، وتلك آية في الإرادة التكوينية بأن القواعد والقوانين الفلسفية متخلفة عن الإحاطة بنظام الكون ، وليكون من مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )عجز الناس عن إيجاد ضوابط وقواعد تتغشى عالم الأقوال والأفعال وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن سابط « إن داعياً دعا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اللهم إني أسألك باسمك الذي لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم ، بديع السموات والأرض ، وإذا أردت أمراً فإنما تقول له كن فيكون ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لقد كدت أن تدعو باسمه العظيم]( ).
الرابعة عشرة : يفيد الجمع بين الآيتين بيان أن المسلمين يزداد إيمانهم حتى إذا زحف الكفار للتعدي على ثغر الإسلام لأن تمني المؤمنين القتل في سبيل الله شاهد على ثبات المسلمين في منازل التقوى.
وعن ابن عباس: أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله يقول {أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت)( ).
الخامسة عشرة : لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إبتلاء وإمتحان، فيأتي البلاء والإختبار للإنسان بالذات والعرض , فتسعى النفس الشهوية للإستحواذ على أفعال الجوارح على نحو السالبة الجزئية، وتهب على الإنسان رياح المال وجمعه، وكدورات أصحاب السوء فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبراهين الساطعة على وجوب عبادة الله وطاعته، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ]( ).
لتبين آية البحث تنزه المؤمنين عما يفسد الأعمال، كالمن والأذى، والرياء , لأنها تدل بالدلالة التضمنية على عدم تعلق قلوب المؤمنين بالدنيا وزخرفها مع أن إنبساطها وحضرتها لاحت للحواس وأدركتها العقول بنصرهم بمعركة بدر من وجوه :
الأول : سرعة تحقيق النصر على المشركين , إذ لم تستمر المعركة لبضع ساعات، فكانت مبارزة شخصية، ثم التحم الجيشان وتفضل الله بنزول الملائكة وسرعة النصر هذه من مصاديق قانون العطاء بالأوفى والأكمل الذي ينعم به الله عز وجل كما تجلى في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الثاني : جلب المؤمنين الغنائم والأسرى معهم.
الثالث : طلب المؤمنين العوض عن أسرى قريش.
الرابع : تحسن الحالة المعاشية للمسلمين وأهل المدينة عموماً، أي أن اليهود الساكنين في المدينة إنتفعوا من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أسواقهم مثل(سوق بني قينقاع) كما أنشئت في المدينة سوق للمسلمين.
عن الزبير بن أبي أسيد( )، عن أبيه : أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : بأبي أنت وأمي إني قد رأيت موضعا للسوق أفلا تنظر إليه ؟ قال : (بلى) فقام معه حتى جاء موضع السوق فلما رآه أعجبه وركضه برجله ثم قال: (نعم سوقكم هذا فلا ينتقض ولا يضربن عليه خراج ( ).
وفي الحديث نكتة وهي إعفاء محلات الأسواق من الضرائب للتخفيف عن أصحابها، وعن الناس، وتنشيط التجارة والبيع والشراء.
لقد تمنى المؤمنون الموت والشهادة للذب عن مقامات الإيمان التي بلغها الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنصر العظيم يوم بدر.
والقول بأن معنى الآية أعلاه من سورة محمد النهي عن قطع عمل الصالحات قبل تمامها بعيد، إلا أن آية السياق تدل على أن المؤمنين لم يبطلوا أعمالهم إذ أن تمني الموت تخل عن الدنيا مطلقاً بمباهجها وأذاها وما فيها من الفرح والحزن، والسعة والضيق، والسراء والضراء، وهذا التمني من أجل سعادة أجيال المسلمين والناس جميعاً.
وهل تشمل هذه الغاية هداية الكفار الذين حملوا المسلمين على تمني الموت درءً لضررهم وكبحاً لجماح حماقتهم، الجواب نعم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فليس من فترة مديدة بين هجوم كفار قريش على المدينة في بدر وأحد والخندق في السنة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة للهجرة النبوية وبين فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ودخول رؤساء قريش في الإسلام من غير قتال.
قال محمد بن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام على باب الكعبة فقال: ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو موضوع تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الابل، أربعون منها في بطونها أولادها.
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب” ثم تلا هذه الآية: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى”( ).
ثم قال: “يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل فيكم؟” قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم)( ).
أختتمت آية البحث بالثناء على الله والوعد الكريم بأنه سبحانه يثيب الذين يشكرونه أعظم الثواب ، ويجازيهم بالحسن والأحسن ، وتدل الآية في مفهومها على الوعيد للكافرين الجاحدين بالنعم ،ويكون حال الذين تمنوا الموت من المؤمنين على وجوه :
الأول : إنهم من الشاكرين لله عز وجل .
الثاني : تمني الموت برزخ بين الشكر والجحود .
الثالث : التفصيل ولحاظ القصد والنية ،وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما الأعمال بالنيات] ( ) فمن نوى الموت وقصد القتل شهيداً في سبيل الله تشمله خاتمة آية البحث وما تدل عليه من الأجر والثواب ، أما الذي ينوي مغادرة الدنيا والتخلص من همومها أو أنه يقاتل عصبية لبيان قوة شكيمة قومه ، أو لإظهار قوته أو طمعاً في متاع وزاد ، فيعطى على نيته .
الرابع : ليس من دليل على ترتب الثواب على تمني الموت ،خاصة وقد ورد النص بكراهة هذا التمني ، إذ ينتفع المؤمن من أيامه في الحياة الدنيا باقامة الصلاة وأداء الفرائض الأخرى والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجني الحسنات ، أما الإنتفاع الأخروي منه فلا يعلم حده ورسمه إلا الله عز وجل وهو من أسرار مجئ الثواب للمؤمن بعد وفاته [عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له] ( ).
والصحيح هو الأول لأن المقصود بتمني الموت هو طلب الشهادة عند تعدي الكافرين وإصرارهم على الهجوم على المدينة المنورة ، ليكون هذا التمني من الشكر لله على نعمة الإيمان ومواجهة الكفار بصبر .
وهل كل تمن للموت يثاب عليه المؤمن ، الجواب لا ، لذا قيدت آية السياق هذا التمني من جهات :
الأولى : ذكر التمني بصيغة الفعل الماضي [وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ]( )، وإن زمان هذا التمني قبل نشوب معركة أحد .
الثانية : لقاء الموت ومقدماته بتلاحم الصفين وإنكسار المسلمين أثناء معركة أحد لولا فضل الله بعودة الذين إنهزموا إلى الميدان .
الثالثة : من موضوع نزول الآية أن عدد من المسلمين فاتهم حضور معركة أحد فاشتاقوا للقاء العدو وتأكيد أن هذا الشوق ليس طمعاً بالغنائم بل لإحراز رضا الله ولقائه تعالى مخضبين بدم الشهادة .
قال تعالى [فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ]، وهل إستمر هذا التمني عند المؤمنين أم لا ، قد يقال يدل ظاهر الآية على إنقطاعه وإنتهاء موضوعه ، والجواب إذا تجددت أسبابه وأستحدث ذات الموضوع قد يحضر هذا التمني بقصد القربة إلى الله، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] ( )، وفيه مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وما محمد إلا رسول أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم .
الثاني : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الصابرين .
الثالث : أفئن مات محمد أو قتل محمد ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم .
الرابع : أفئن مات أو قتل ولما يعلم الصابرين .
الخامس : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً .
السادس : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً .
السابع : ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً ويعلم الصابرين.
الثامن : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وسيجزي الله الشاكرين .
التاسع : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم وسيجزي الله الشاكرين.
العاشر : وسيجزي الله الشاكرين ويعلم الصابرين .
الثانية : تتضمن آية البحث الشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة والرسالة من عند الله عز وجل ، وفيه بعث للمسلمين لطاعته والعمل بما جاء به من عند الله ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
إذ وردت الآية أعلاه بصيغة الرسالة ، وفيه غاية التشريف والإكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته ، لبيان قانون كلي أن الذي يأمر وينهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو من عند الله .
ومما أمر به الله ورسوله الجهاد في سبيل الله ، وقتال الكفار .
المسألة الثالثة :الإخبار عن بعث الرسل السابقين بقتال الكفار وجهادهم ، وهو من جهات :
الأولى : منع الكفار من الإقامة في منازل الحكم والسلطة ، وليس من حصر لصيغ هذا المنع ولكن الضابطة الكلية فيه هي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإقامة الحجة والبراهين للطاغوت وللقوم الظالمين بلزوم عبادة الله .
وقد تجلت دعوة الأنبياء الطاغوت إلى الله بنبوة موسى عليه السلام ودخوله على فرعون يدعوه إلى إتباعه والتصديق بنبوته مع حال التواضع والزهد الظاهرين عليه في وقت تدين أرض مصر والسودان لحكم فرعون المطلق .
[عن ابن عباس قال : لقد دخل موسى على فرعون وعليه زرمانقة( ) من صوف ما تجاوز مرفقه ، فاستؤذن على فرعون فقال : ادخلوه .
فدخل فقال : إن ألهي أرسلني إليك . فقال للقوم حوله : ما علمت لكم من إله غيري خذوه . قال إني قد جئتك بآية { قال فائت بها إن كنت من الصادقين ،{ قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ }( ) فصارت ثعباناً ما بين لحييه ما بين السقف إلى الأرض ، وأدخل يده في جيبه فأخرجها مثل البرق تلتمع الأبصار فخروا على وجوههم ، وأخذ موسى عصاه ثم خرج ليس أحد من الناس إلا يفر منه ، فلما أفاق وذهب عن فرعون الروع قال للملأ حوله : ماذا تأمرون؟ قالوا : أرجئه وأخاه لا تأتنا به ولا يقربنا ،{ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ }( )، وكانت السحرة يخشون من فرعون ، فلما أسرع إليهم قالوا : قد احتاج إليكم إلهكم قال : إن هذا فعل كذا وكذا . قالوا : إن هذا ساحر يسحر ، أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال : ساحر يسحر الناس ولا يسحر الساحر الساحر؟ قال : نعم وإنكم إذاً لمن المقربين] ( ).
وتجلى مصداق دعوة الرسول إلى قومه في النبوات كلها ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ] ( ).
وتبين الآية أعلاه فضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الإنبياء السابقين فهو لم يبعث إلى قومه على نحو الخصوص إنما بعثه الله عز وجل للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( )ليكون تقدير الآية أعلاه بلحاظ الموضوع : ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم وأرسلناك للناس كافة.
فتفضل الله عز وجل وجعل قصص الأنبياء في القرآن ،ليكون القرآن هو النعمة والوثيقة السماوية التي توثق قصص وسنن الأنبياء ، فلا يحتاج الناس إلى غيرها في هذا الموضوع [عن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال : كانت اليهود يحدثون أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسبحون كأنهم يعجبون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا { آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}( ).
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين توثيق وحفظ معجزاتهم وأخبار جهادهم بالقرآن إذ انه الكتاب الباقي إلى يوم القيامة مع سلامة ما بين الدفتين من النقص والزيادة والتحريف مطلقاً .
ومن ضمن هذا التوثيق جهاد الأنبياء والرسل في سبيل الله وحثهم لأتباعهم وأنصارهم على الجهاد والتحلي بالصبر في مواجهة الذين يصرون على الكفر بالله، ويمتنعون عن الإقرار بالتوحيد، وهو من مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
ومن حسنها بلحاظ ذكرها في القرآن أمور:
الأول : إن الذي يذكر هذه القصص هو الله عز وجل، ويحتمل هذا الذكر مسائل :
الأولى : ذكر قصص الأنبياء في القرآن علة تامة لفعل الأنبياء لها بلحاظ أنها خير محض.
الثانية : ذكر قصص الأنبياء في القرآن جزء علة لفعل الأنبياء لها.
الثالثة : لا ملازمة بين أصل أفعال الأنبياء السابقين وبين ذكر أفعالهم المباركة في القرآن لأنه إخبار وتوثيق لذا قال تعالى(نقص) بتتبع أخبار الأنبياء.
الرابعة : إن الله عز وجل يعلم أنه تعالى يذكر قصص الأنبياء في القرآن وتكون باقية بين الناس إلى يوم القيامة.
والمختار هو الثالثة والرابعة ، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فتفضل الله عز وجل وجعل القرآن كشفاً للوقائع والأحداث، وآية في إصلاح النفوس بالإقتداء بالأنبياء والتدبر في حياتهم وفنائهم في مرضاة الله، وجهادهم في سبيله.
وهل من صلة بين تمنى المؤمنين الموت والشهادة في الآية السابقة وبين قصص الأنبياء المذكورة في القرآن ،الجواب نعم من جهات:
الأولى : هذا التمني من مصاديق الإمتثال لقوله تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الثانية : آيات القرآن تأديب وإرشاد وهداية للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، وقصص القرآن من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ادبني ربي فاحسن تأديبي( ).
الثالثة : شوق المسلمين لبلوغ منازل الذكر الحسن بين الناس الذي فاز به الأنبياء، ليكون بين ذكر الأنبياء وبيان حال المسلمين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء التضحية والفداء في سبيل الله، ومادة الإفتراق أن الأنبياء نالوا هذه المنزلة بالوحي والهداية لهم بالذات من غير واسطة بشر، بينما نالها المسلمون بالإقتداء بالأنبياء وإتخاذهم أئمة وفق البيان القرآني الذي[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( ).
الرابعة : تبين قصص القرآن جهاد الأنبياء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنافعه العظيمة في إصلاح المجتمعات وتهذيب أفعال العباد، وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله . قال أعرابي ، يا رسول الله أنعتهم لنا . قال : هم أناس من أبناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة ، تحابوا في الله وتصافوا في الله ، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها ، يفزع الناس ولا هم يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( )، وفيه وجوه :
الأول : إقتداء المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالأنبياء السابقين في آن واحد من غير تعارض بين الأمرين لإتحاد الموضوع في تنقيح المناط، فكل أتباع رسول فازوا بتصديقهم له أما إتباع سيد المرسلين فاختص به المسلمون دون غيرهم لينفردوا بالعمل بقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثاني : تمني المسلمين الموت، وهذا التمني مركب في موضوعه وغاياته من جهات:
الأولى : إرادة الإخلاص في الجهاد في سبيل الله.
الثانية : لولا تعاقب هجوم الكفار وإصرارهم على البطش والثأر من واقعة بدر بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لما تمنت طائفة من المؤمنين القتل في سبيل الله.
الثالثة : إرادة الإقتداء بالأنبياء في جهادهم وصبرهم في سبيل الله.
الرابعة : سعي المؤمنين للفوز بمقامات الخلد في النعيم .
الثالث : إنزجار الكفار عن التعدي على المسلمين بعد تجلي صبر وجهاد المسلمين، وصيرورة تمنيهم الموت حاجزاً متجدداً يحول دون همّ الكفار بالهجوم على ثغر المسلمين، وإن هّموا بهذا الهجوم فانهم لايجدون أنصاراً وأعواناً ،أو يجدون ولكنهم قلة والمسلمون في إزدياد يومي مطرد، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، بلحاظ مسائل:
الأولى : نصر الله عز وجل للمسلمين سبب لبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثانية : نصر المسلمين في المعارك وسيلة لدخول الناس إلى الإسلام وجذبهم إلى مقامات الإيمان، وتنزه المنافقين عن أخلاق النفاق التي تتمثل باظهار الإسلام مع إضمار الكفر في النفس.
وهذا المعنى العام من الإعجاز في لفظ (يدخلون في دين الله) في الآية السابقة فلم تقل الآية(يدخلون في الإسلام).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تعلموا تفسير أبي جاد فإن فيه الأعاجيب كلها ، ويل لعالم جهل تفسيره . فقيل يا رسول الله وما تفسير أبي جاد؟
قال : الألف آلاء الله ، والباء بهجة الله وجلاله، والجيم مجد الله ، والدال دين الله. هوَّز الهاء الهاوية ويل لمن هوى فيها، والواو ويل لأهل النار ، والزاي الزاوية يعني زوايا جهنم . حطي: الحاء حط خطايا المستغفرين في ليلة القدر وما نزل به جبريل مع الملائكة إلى مطلع الفجر ، والطاء طوبى لهم وحسن مآب وهي شجرة غرسها الله بيده .
والياء يد الله فوق خلقه . كلمن : الكاف كلام الله لا تبديل لكلماته ، واللام إلمام أهل الجنة بينهم بالزيارة والتحية والسلام وتلاوم أهل النار بينهم ، والميم ملك الله الذي لا يزول ودوام الله الذي لا يفنى ، ونون [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ]( ) صعفص : الصاد صاع بصاع ، وقسط بقسط ، وقص بقص ، يعني الجزاء بالجزاء ، وكما تدين تدان ، والله لا يريد ظلماً للعباد، قرشت : يعني قرشهم فجمعهم يقضي بينهم يوم القيامة وهم لا يظلمون ( ).
الثالثة : هزيمة الكفار في معاركهم ضد الإسلام خزي لهم، ودعوة للقبائل والدول للتخلي عنهم، والإمتناع عن إعانتهم.
الرابعة : صيرورة الكفار عاجزين عن منع الناس من دخول الإسلام، إذ فقدوا السلطان والتأثير عليهم، وظهر النقص في أموالهم، وتعطلت تجاراتهم وإلا فكيف يقدر شخص واحد من اليمامة أن يفرض حصاراً على قريش وأهل مكة إلى أن إستجاروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أنهم لم يلجأوا إلى مناشئ ومصادر أخرى لجلب الحنطة والحبوب والإمتناع عن التوسل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيه من حال الخضوع والذل الظاهر لقريش، لتعذر مثل هذا اللجوء والمشقة والعسر فيهم ما يدل على إصابة تجارتهم بالنقص والخسران .
وهذا الشخص الذي فرض عليهم الحصار هو ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة، إذ خرج من أهله معتمراً فحيئ به أسيراً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فريط في سارية في المسجد وظن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيقتله، ولكنه أطلقه فخرج إلى البقيع وإغتسل وتطهر ورجع إلى المسجد ليعلن إسلامه ويبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام.
وإنتبه المسلمون إلى مسألة فحينما جاءوا له بالأكل واللبن في المساء وجدوه لا يأكل إلا قليلاً ( فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِمّ تَعْجَبُونَ ؟ أَمِنْ رَجُلٍ أَكَلَ أَوّلَ النّهَارِ . فِي مِعَى كَافِرٍ وَأَكَلَ آخِرَ النّهَارِ فِي مِعَى مُسْلِمٍ إنّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَإِنّ الْمُسْلِمَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وفي خُرُوجُهُ إلَى مَكّةَ وَقِصّتُهُ مَعَ قُرَيْشٍ قَالَ ابن هِشَامٍ : فَبَلَغَنِي أَنّهُ خَرَجَ مُعْتَمِرًا ، حَتّى إذَا كَانَ بِبَطْنِ مَكّةَ لَبّى ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ دَخَلَ مَكّةَ يُلَبّي ، فَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ ، فَقَالُوا : لَقَدْ اخْتَرْت عَلَيْنَا ، فَلَمّا قَدِمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ دَعُوهُ فَإِنّكُمْ تَحْتَاجُونَ إلَى الْيَمَامَةِ لِطَعَامِكُمْ فَحَثَوْهُ فَقَالَ الْحَنَفِيّ فِي ذَلِكَ:
وَمِنّا الّذِي لَبّى بِمَكّة مُعْلِنًا …
بِرَغْمِ أَبِي سُفْيَان فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ .
حُدّثْت أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَسْلَمَ ، لَقَدْ كَانَ وَجْهُك أَبْغَضَ الْوُجُوهِ إلَيّ وَلَقَدْ أَصْبَحَ وَهُوَ أَحَبّ الْوُجُوهِ إلَيّ . وَقَالَ فِي الدّينِ وَالْبِلَادِ مِثْلَ ذَلِكَ . ثُمّ خَرَجَ مُعْتَمِرًا ، فَلَمّا قَدِمَ مَكّةَ ، قَالُوا : أَصَبَوْت يَا ثُمَامُ ؟ فَقَالَ لَا ، وَلَكِنّي اتّبَعْت خَيْرَ الدّينِ دِينَ مُحَمّدٍ وَلَا وَاَللّهِ لَا تَصِلُ إلَيْكُمْ حَبّةٌ مِنْ الْيَمَامَةِ حَتّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . ثُمّ خَرَجَ إلَى الْيَمَامَةِ ، فَمَنَعَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا إلَى مَكّةَ شَيْئًا ، فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّك تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرّحِمِ وَإِنّك قَدْ قَطَعْت أَرْحَامَنَا ، وَقَدْ قَتَلْت الْآبَاءَ بِالسّيْفِ وَالْأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ فَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِ أَنْ يُخَلّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَمْلِ( ).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سأل الله عز وجل أن يمكنه من ثمامة فجيئ به أسيراً فعفا عنه، ذكر الواقدي أنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي في رجب سنة تسع فأسلم المنذر ورجع العلاء فمر باليمامة فقال له ثمامة بن آثال أنت رسول محمد؟ قال نعم. قال لا تصل إليه أبداً فقال له عمه عامر مالك وللرجل؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” اللهم اهد عامراً وأمكني من ثمامة ” فأسلم عامر وأسر ثمامة( ), ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتله مما يدل على أن التمكين أعم من القتل الذي لا يتم إلا بوحي في الحال وليس هو كالحكم الغيابي.
الخامسة : توالي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتناقل الناس لها، ودخولها إلى بيوت الكفار، وصيرورتها حديث المنتديات وموضوع الأشعار، وصار الناس يتلون ويرددون آيات القرآن، قال تعالى[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
ليكون من الإعجاز الغيري للقرآن ميل الناس بالفطرة له كتاباً سماوياً نازلاً من عند الله لأمور:
الأول : تلاوة الناس لآيات القرآن من جهات:
الأولى : إرادة قصد القربة إلى الله.
الثانية : قصد القرآنية.
الثالثة : الإستفهام التقريري في معاني آيات القرآن، والأسرار التي تفيد أنها نازلة من عند الله عز وجل.
الرابعة : قراءة آيات القرآن تدبراً.
الخامسة : الإمتناع القهري والإنطباقي عن إرادة الرد على القرآن، ومحاولة الجدال فيه، والبحث عن وجوه للتعارض فيه، فيكون العجز عن إيجاد تعارض فيه سبباً للإيمان به والإقرار بنزوله من عند الله.
عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش – وكان ذا سن فيهم – وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيُكَذِّب بعضكم بعضاً . فقالوا : أنت فقل ، وأتم لنا به رأياً نقول به . قال : لا ، بل أنتم قولوا لأسمع . قالوا : نقول كاهن .
قال : ما هو بكاهن . . . لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان( ) ولا بسجعهم . قالوا : فنقول مجنون . قال : ما هو بمجنون . . . لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا بحائحه ولا وسوسته . قالوا : فنقول شاعر . قال : ما هو بشاعر . . . . لقد عرفنا الشعر كله ، رَجَزه وهَزَجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر . قالوا : فنقول ساحر . قال : ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ولا بعقده . قالوا : فماذا نقول؟ .
قال : والله إن لقوله حلاوة؛ وإن عليه طلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناء ، فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر ، يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه بذلك . فأنزل الله في الوليد وذلك من قوله { ذرني ومن خلقت وحيداً . . . }( ) إلى قوله { سأصليه سقر . . . } وأنزل الله في أولئك النفر الذين كانوا معه { الذين جعلوا القرآن عضين } أي أصنافاً { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون }]( ).
الثاني : تجلي المصداق الواقعي للإخبار القرآني في علوم الغيب بما يكشف عجز المنجمين عن سبر أغوار غيب السموات والأرض .
الثالث: بيان القرآن لقصص الأنبياء بما يكشف الحق والصدق في التأريخ وأنباء الأمم .
ومن الإعجاز في قصص القرآن أن كل قصة مدرسة وموعظة وعبرة تقتبس منها الأحكام ، ولو كانت قصة أحد الأنبياء مكررة في القرآن فهل تتضمن ذات الموضوع والدلالة الجواب هذا التكرار زيادة في البيان وإقامة للبرهان ، للتباين العلمي وإمكان تعدد الإستنباط بلحاظ نظم الآية وتعدد الموضوع .
الرابع : بلاغة القرآن بصيغة الإعجاز والتحدي لفصحاء العرب التي تجذب الأسماع ، وتجعل العقول تدرك على نحو دفعي أو تدريجي لزوم التصديق بتنزيله ،ويصاحب هذا التصديق التسليم بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإستحالة التفكيك بينهما ، وقد يكون هذا التسليم طريقاً للتصديق بنزول القرآن ومقدمة وسبيلاً للعمل بمضامينه .
وهو من معاني آية البحث [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( ).
الخامس : تعاقب نزول آيات القرآن مع التباين في موضوعاتها وأحكامها ، والإقرار بتعدد مفاهيمها وخلوها من التزاحم والتعارض .
السادس : إرتقاء الناس في المعارف الإلهية عند الإستماع لآيات القرآن، ومعرفة أسباب النزول والمطلق والمقيد، والعام والخاص ،والناسخ والمنسوخ فيه .
السابع : تلقي المسلمين نزول آيات القرآن بالعمل بأحكامها وصيرورتهم أخوة وأمة واحدة بهذا النزول المبارك ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، أي أنهم صاروا أخوة بلحاظ أمور :
الأول : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقي معجزات رسالته بالقبول والتسليم .
الثاني : نزول آيات القرآن .
الثالث : عمل المسلمين أمة وأفراداً بمضامين هذه الآيات .
الرابع : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطاعتهم لله وله.
الرابع : إتحاد المسلمين في ملاقاة الأذى والضرر الذي يأتي من طرف الكفار.
الخامس : عجز الكفار عن نفي إعجاز القرآن وأسرار نزوله من عند الله.
وإذا كان ميل الناس بالفطرة لآيات القرآن من الإعجاز الغيري له ، فهل يترشح عنه إعجاز آخر الجواب نعم ،لذا أخبرت الآية السابقة عن تمني المؤمنين الشهادة في سبيل الله لترجمتهم هذا الميل إلى عالم الفعل ورؤيتهم تلقي الناس التنزيل بالتصديق، وتخلف الكفار عن الطعن بآية من آيات القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ).
وفي سبب نزول الآية اعلاه ورد عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمود بن سيحان ونعيمان بن أُصَي ومجزئ بن عمر وسلام بن مشكم فقالوا : يا محمد ، هذا الذي جئت به حق من عند الله؟ فانا لا نراه متناسقاً كما تتناسق التوراة . فقال لهم : أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله قالوا : انا نجيئك بمثل ما تأتي به . فأنزل الله { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } ( )]( ).
لقد تفضل الله عز وجل بتسمية يوم بدر ب [يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( ) فيحتمل موضوع الفرقان والتفريق بين الحق والباطل وجوهاً:
الأول :إرادة ذات معركة بدر والنصر الذي حققه المسلمون فيه .
الثاني : المقصود التفريق بين المؤمنين والكفار أيام البعثة النبوية .
وتحتمل حال المنافقين جهات :
الأولى: المنافقون جزء من الذين آمنوا بلحاظ نطقهم بالشهادتين وأدائهم للعبادات لأن النفاق إظهار للإيمان وإبطان الكفر والضلالة كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( )فيلحق المنافقون بالمؤمنين لوحدة خطاب التكليف .
الثانية :المنافقون طائفة برزخ بين المؤمنين والكفار .
الثالثة :المنافقون فرع وطائفة من الكفار لأن المدار على نية وعزم الإنسان لموضوعية النية في ماهية الأعمال .
والصحيح هي الثالثة فالنفاق فرع الكفر ، قال تعالى [جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ).
الثالث : إرادة العموم والقصد من تسمية معركة بدر تغشي المعنى لجميع أجيال المسلمين .
الرابع : إرادة تفريق بين المسلمين والكفار ، في معركة الإسلام اللاحقة .
والمختار هو الثالث لأصالة الإطلاق وعدم وجود مقيد في البين ، ليكون قوله تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ]بشارة متجددة في كل زمان على نصر المسلمين بلحاظ الملازمة بين الإيمان والنصر ، وعدم التفكيك بين الكفر والهزيمة .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )من وجوه :
الأول : إستدامة الفصل والتمييز بين الإيمان والكفر وبين مفاهيم الهدى والضلالة إلى يوم القيامة .
الثاني : تسمية يوم بدر وما فيه من إنكسار وخزي للكفار وسقوط سبعين قتيلاً وأسر سبعين من رجالاتهم رحمة بهم لكي ينزجروا عن التعدي والهجوم مرة أخرى على ثغر الإسلام الوحيد آنذاك وهو المدينة المنورة ،ولكنهم أصروا على العناد باستكبار وجحود فزحفوا بجيش عرمرم من ثلاثة آلاف مقاتل في معركة أحد.
الثالث : إمتناع الناس في كل زمان عن ظلم أهل التوحيد والإيمان فكما ينزجر الناس عن القتل لتشريع حكم القصاص في القرآن بقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( )فان تسمية معركة بدر بيوم الفرقان إنذار للناس بأن عاقبة الذين يهجمون على المؤمنين تكون الهزيمة والإنكسار .
الرابع : تثبيت الأخوة بين المؤمنين والتي تتقوم بطاعة الله، والإشتراك بأداء الفرائض والعبادات ، ليكون من الإعجاز في الفرائض أنها واجبات عينية يتوجه فيه الخطاب التكليفي إلى كل مكلف إلا أن هذا المعنى الشخصي يكون موضوعاً لمعاني جمعية أعم كالأخوة بين المسلمين والمسلمات وتآزرهم في عمل الصالحات ،ومناجاتهم في الخيرات .
ومن مصاديق المدد الإلهي للمسلمين تقريبهم وهدايتهم للإمتثال للأمر في قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ) ليكون من إعجاز القرآن المجئ بأمر والإتيان بالمدد وأسباب تهيئة مقدمات الإمتثال له .
فجاءت آية البحث بصيغة الإستفهام الإنكاري [أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )فتأتي آية السياق لتمنع المسلمين من الإرتداد على نحو الإطلاق من وجوه :
الأول : أوان نزول آية البحث وما فيها من بيان لقبح الإرتداد والإنذار منه .
الثاني : عند إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
الثالث : بعد إنقطاع الوحي والتنزيل وإلى يوم القيامة .
إذ تتضمن آية السياق البشارة بالجنة وتتصف هذه البشارة بأمور :
الأول : العموم وشمول البشارة للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
الثاني : تقييد البشارة من جهتين :
الأولى : جهاد طائفة من المسلمين في سبيل الله .
الثانية : تحلي المسلمين بالصبر في مقامات العبادة والتقوى وتحمل الأذى ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
الثالث : البشارة بالجنة دليل على تنزه المسلمين عن الإرتداد والنكوص عن سبيل الإيمان .
المسألة الرابعة : لقد بعث الله عز وجل مائة وأربعة وعشرين نبياً منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً , وجاء ذكرهم في آية البحث بلغة الإجمال .
ويفيد الجمع بينها وبين آية السياق أن الجهاد طريق سالكة سار في نهجها أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل ويدرك المؤمنون قانوناً وهو أن الأنبياء لم يفعلوا إلا ما هو خير محض لتكون آية البحث ترغيباً للمؤمنين بالجهاد وهو من مصاديق قوله تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
المسألة الخامسة : لما ذكرت آية السياق فضل الله بجعل الصبر طريقاً إلى الجنة ، ومنهجاً ينبغي للمسلمين عدم التفريط به ، بقوله تعالى [وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] أخبرت آية البحث عن إنقضاء أزمنة الأنبياء السابقين للدعوة للإقتداء بهم ،وليس من طائفة من الناس تحملت الأذى الذي تحمله الأنبياء من قومهم ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ]( ).
وقيل نزلت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد ،فقد كذّب شطر من الناس الأنبياء وأوذوا في جنب الله ، وكان قوم نوح يحذر الأب إبنه من نوح ويقول له: أي بني احذر هذا الرجل وقد أوصاني أبي بالحذر منه ، وكان نوح يضرب حتى يغشى عليه فاذا أفاق قال : اللهم أغفر لقومي فانهم لا يعلمون شيئاً .
وكذّب الناس إبراهيم عليه السلام وألقى في الحطب مقيداً وأشعلت به النار فانجاه الله ، وكذب فرعون وقومه موسى وإستهزوا به وآذوا بني إسرائيل ، وإفترى على عيسى وأمه قومه من غير أن يكل أو يمل عن الدعوة إلى الله إلى أن أمر السلطان بصلبه .
وأمرت الآية أعلاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالتحلي بالصبر وجاءت آية السياق بالوعد عليه بالثواب العظيم وقال الإمام علي عليه السلام لرجل وهو يوصيه خذ مني خمسا:لا يرجون أحدكم إلا بربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحيي أن يتعلم ما لم يعلم، ولا يستحيي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ( ).
وذكر آية البحث للأنبياء تذكير بمدرسة الصبر لأنهم الأئمة فيه، ويخفف ذكرهم عن المسلمين الأذى الذي يأتيهم بالذات والعرض .
ولا تنحصر الحاجة إلى الصبر بموضوع الأذى ،وقد تأتي سنوات وأزمان ليس فيها هجوم من الكفار وقتال معهم ،ولكن الصبر يصاحب المسلم كل يوم في أداء الفرائض وفي اليقظة والحيطة من أسباب الإفتنان والإبتلاء وهو من أسرار الإطلاق في خاتمة آية السياق [وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]بلزوم إتخاذ المسلم الصبر سلاحاً في حال الرخاء والشدة والسراء والضراء فحتى حال الثروة والغنى والجاه والسلطان يحتاج المسلم الصبر بالتقيد بالفرائض في أوقاتها وعدم الإفتتان بزينة الدنيا والميل إلى اللذات واللهو .
السادسة : إبتدأت آية السياق بالسؤال الإستنكاري [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ]ولم يأت الخطاب إلا بفضل الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : نزول القرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقيه الوحي .
الثانية : تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن حال نزولها فما أن ينفصل عنه الوحي ويغادره الملك جبرئيل حتى يتلو الآية أو الآيات التي أنزلت عليه ، ويدعو الكتّاب ليكتبوها .
الثالثة : مجئ القرآن بالنص الصريح بدخول المؤمنين الذين يعملون الصالحات دار الخلد بعد مغادرتهم الدنيا ،ومن أبهى مصاديق الصبر الثبات على الإيمان عند مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنة الخلد وفوزه بالوسيلة والمقام المحمود عند الله , فيبقى المسلمون على ذات النهج الذي يتصف بأمور :
الأول : ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنزيل من عند الله .
الثاني : إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سنته من الوحي وبالوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الثالث : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدخول الناس في الإسلام بأمر من الله عز وجل ،وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،قال تعالى [فَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا] ( ).
وحينما يدخل الإنسان الإسلام يتبدل الحكم بتغير الموضوع فيكون أخاً للمؤمنين له ما لهم وعليه ما عليهم ، فيأتيه الأمر بالجهاد والصبر الواردين في آية السياق ،ويتلقى البشارة بالجنة والوعد بالثواب العظيم ،ويشمله الخطاب في آية البحث وموضوعه الزجر عن الإرتداد مطلقاً خاصة عند مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
الرابع : إتباع المسلمين نهج وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته فمن فضل الله عز وجل عليه وأسرار تفضيله أنه لم يغادر الدنيا إلا وقد أتقن أهل بيته وأصحابه العمل بسنته العبادية ، وعلموا وعملوا بأحكام الحلال والحرام ، وامتثلوا لأوامر الله وإجتنبوا نواهيه .
ومن الإعجاز في المقام أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمر المسلمين بأوامر عبادية وعلّمهم كيف يؤدونها على الوجه الأتم ، فقد كان المسلمون يصلون معه وبامامته في الصلاة اليومية ، وقد يكون عددهم بالآلاف في الفريضة الواحدة كما في حجة الوداع ليكون كل فرض من أفراد الصلاة اليومية على وجوه :
الأول : كل فرض من الصلاة اليومية من مصاديق قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثاني : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات وسور القرآن في كل فرض ،وفيه مسائل :
الأولى : فوز الصحابة بشرف الإستماع للقرآن بتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق خطاب الجمع في تلقي التنزيل في قوله تعالى [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
الثانية : تنمية ملكة حفظ القرآن عند المسلمين .
الثالثة : تعاهد آيات القرآن وسلامته من التحريف .
الرابعة : تدبر المسلمين مجتمعين ومتفرقين بآيات القرآن ودلالاتها .
الخامسة : تأهيل المسلمين للصلاة فراداً وجماعة .
السادسة : منع الإختلاف والخصومة بين المسلمين في الصلاة ومقدماتها ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء .
ومن الغايات النبوية الحميدة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم [صلّوا كما رأيتموني أصلّي] ( ) أنه كان يقصد من هذا الحديث دفع أسباب الفرقة والخلاف في الصلاة والإجتهاد في أدائها بما يبعث على الفرقة لأن النص والسنة العملية يحولان دون الإجتهاد المغاير للنص .
السابعة : صيرورة الصحابة سفراء الصلاة في بيوتهم ،وفي الأمصار ، ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن كثيراً من أهل بيته وأصحابه خرجوا للجهاد وإنتقلوا للسكن والإقامة في الأمصار ليقتبس الناس منهم كيفية واحكام الصلاة .
الثامنة : جاءت الآية السابقة بخصوص تمني المسلمين القتل في سبيل الله ، ودفاعاً عن الإسلام بصيغة بلاغية معجزة فبعد أن ذكرت الآية تمني المسلمين الموت أخبرت عن أمور مجتمعة هي :
الأول : لقاء المسلمين الموت .
الثاني : رؤية المسلمين للموت .
الثالث : نظر المسلمين لحالهم عند رؤية الموت ومن وجوه :
الأول: صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط المعركة .
الثاني : إقتراب ودنو أسباب الموت من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ] ( ) .
الثالث : همّ طائفتين من المسلمين بالجبن والخور .
الرابع : ترك الرماة الجبل لمواضعهم إلا قلة منهم ثبتوا في مواضعهم فقتلهم المشركون ، وكل من الذين تركوا مواضعهم ، والذين ثبتوا واستشهدوا سبب لرؤية المؤمنين الموت وهم ينظرون وإن تباين الموضوع .
الخامس : سقوط القتلى من الفريقين ، وتجلي معاني الشجاعة والبسالة عند المؤمنين ليصدق تمني الموت على المجاهدين وإن لم يتمنوا واقعاً فما داموا يبارزون الكفار ويضحون بأنفسهم فانه من تمني الموت واقعاً [قال ابن هشام وحدثني غير واحد ان الزبير بن العوام قال وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السيف فمنعنيه واعطاه أبا دجانة فقلت والله لانظرن ما يصنع فاتبعته فأخذ عصابة له حمراء فعصب بها رأسه وقالت الانصار أخرج أبو دجانة عصابة الموت وهكذا كان يقول إذا عصب بها فخرج وهو يقول: انا الذى عاهدني خليلي * ونحن بالسفح لدى النخيل ان لا أقوم الدهر في الكيول * إضرب بسيف الله والرسول فجعل لا يلقى احدا الا قتله.
وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحا الا دفف عليه فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه وضربه أبو دجانة فقتله ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها.
قال ابن اسحق وقال ابو دجانة رأيت انسانا يحمش الناس حمشا شديدا فعمدت إليه فلما حملت عليه السيف ولول فاكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان اضرب به امرأة] ( ).
التاسعة : أخبرت آية البحث عن أمر حتمي الوقوع وهو رحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الدنيا وإن تباينت الكيفية ، ولا يعني هذا الأمر تعريض المسلمين أنفسهم للفناء والقتل ، بل تكون الحاجة إليهم أكبر بعد رحيله ومغادرته الدنيا وهذه الحاجة ذاتية وغيرية تتجلى بثبات المسلمين في مقامات الإيمان وعدم النكوص عنها أو الإرتداد عن الإسلام ، فلذا تفضل الله عز وجل وأنجاهم مما يتمنون يوم أحد ، ليكون كل واحد منهم ذخيرة وداعية إلى الله عز وجل وعن الأمام علي عليه السلام قال :
وتزعم أنك جرم صغير وفيك إنطوى العالم الأكبر.
ويبين الجمع بين آية البحث والآية السابقة تناقض وتضاد بين تمني المؤمنين الشهادة في سبيل الله والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم وبين الإرتداد بعد مغادرته الدنيا ، وهل يتعلق الموضوع بجيل الصحابة الذين هم سبب نزول الآية الجواب لا، إذ يستغرق الخطاب القرآني في الآيتين المسلمين إلى يوم القيامة، وهل يشمل المسلمات أم أنهم يخرجن من موضوع الآية السابقة دون الأولى.
الجواب هو الأول ، إذ تتجلى موضوعية النساء في تمني المؤمنين الشهادة بلغة التحريض وبعث الرجال على القتال دفاعاً عن الإسلام والنبوة وفي تلقيهن نبا شهادة الزوج أو الابن بالرضا والقبول ورجاء الفوز بالجنان وصيرورته شفيعاً لهن، وبعد إنتهاء معركة أحد رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة.
وورد[عن سعد بن أبي وقاص قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بامرأة من بني دينار و قد أصيب زوجها و أخوها و أبوها مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بأحد فلما نعوا لها قالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالوا : خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين قالت : أرونيه حتى أنظر إليه قال : فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل
قال ابن هشام : الجلل يكون من القليل و الكثير و هو ههنا القليل]( ) [قال ابن إسحق: ثم إنصرف رسول الله الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش كما ذكر لى، فلما لقيت الناس نعى إليها أخوها عبدالله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها خالها حمزة بن عبدالمطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن زوج المرأة منها لبمكان ! ” لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها] ( ).
العاشرة : لقد وقع سبعون من أسرى المشركين بيد المؤمنين يوم بدر ، وقد تقدم في الجزء السابق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك موضوع الفداء ومقداره وقبضه للذي إقتاد المشرك أسيراً، وفيه مدرسة أخلاقية لم تشهدها الحروب والمعارك بين أهل الأرض، لأن الثروة دعوة لأفراد الجيش بإجتناب القتل والجرح، وحث لهم على الحرص على أسر العدو سالماً وفدائه بالمال خاصة والإنشغال بالمال وإدارته والقعود بسببه عن الجهاد، وفي التنزيل[شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا]( )، وأن قريشاً أصحاب تجارة وأموال، ولا تختص ملكيتهم للأموال بالرجال فتشمل النساء وقد تجلى في تجارة خديجة وصيرورة أموالها مادة وعوناً لنشر الإسلام، [قَالَ ابن إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي نُبِيّهُ بْنُ وَهْبٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ . أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حِينَ أَقْبَلَ بِالْأُسَارَى فَرّقَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا قَالَ وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ، أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِأَبِيهِ وَأُمّهِ فِي الْأُسَارَى . قَالَ فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ مَرّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي، فَقَالَ شُدّ يَدَيْك بِهِ فَإِنّ أُمّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ لَعَلّهَا تَفْدِيهِ مِنْك ، قَالَ وَكُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ فَكَانُوا إذَا قَدّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التّمْرَ لِوَصِيّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إيّاهُمْ بِنَا ، مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ إلّا نَفَحَنِي بِهَا . قَالَ فَأَسْتَحْيِيَ فَأَرُدّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدّهَا عَلَيّ ما يَمَسّهَا .
قَالَ ابن هِشَامٍ :وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرِ بَعْدً النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ فَلَمّا قَالَ أَخُوهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ لِأَبِي الْيَسَرِ وَهُوَ الّذِي أَسَرَهُ مَا قَالَ قَالَ لَهُ أَبُو عَزِيزٍ يَا أَخِي ، هَذِهِ وَصَاتُك بِي ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ إنّهُ أَخِي دُونَك . فَسَأَلَتْ أُمّهُ عَنْ أَغْلَى مَا فُدِيَ بِهِ قُرَشِيّ، فَقِيلَ لَهَا : أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَبَعَثَتْ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَفَدَتْهُ بِهَا] ( ).
ليكون من منافع قبض الذي يقوم بأسر المشرك مال الفداء أمور:
الأول : ترغيب المؤمنين بأسر المشركين، ولا يتحقق إلا بخروج المؤمنين في سرايا الدفاع.
الثاني : إجتناب المؤمنين قتل المشركين والفتك بهم وهو من مصاديق[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وأن الإسلام لم ينتشر بالسيف، لأن ترك قتل المسلمين للأسير مناسبة لتدبره بالمعجزات النبوية.
الثالث : ورود الأموال إلى المدينة المنورة وإزدهار الحالة الإقتصادية والمعاشية للمؤمنين .
الرابع : تجلي معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي صيرورة أصحابه أثرياء بين عشية وضحاها ، لتكون هذه المعجزات الحسية عضداً وردفاً للمعجزة العقلية الكبرى وهو القرآن .
الخامس : تبصرة الأسرى بأحكام الإسلام ، ودعوتهم للتوبة والإيمان ومن الإعجاز في المقام قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
إن جعل الفداء ومقداره خاصاً بمن أسر المشرك لا يعني ترك الأسرى وشأنهم بل يتولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوتهم للإيمان وحثهم على التوبة ، والإجابة على أسئلتهم وترغيبهم بالإسلام .
فهناك تفكيك بين الفداء الذي صار ملكاً خاصاً للذي يؤسر المشرك وبين هدايته وجذبه للإصلاح لتكون فترة الأسر مدرسة لمعرفة معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام الإسلام لذا فان كثيراً من الذين أُسروا دخلوا الإسلام من جهات :
الأولى : الذي دخل الإسلام أثناء مدة الأسر .
الثانية : الذي دخل في الإسلام بعد أن دفع الفداء .
وقبل أن يغادر إلى مكة ليبين أنه لم يدخله طمعاً وخوفاً وإشفاقاً من دفع الفدية .
الثالثة : الذي ذهب إلى مكة بعد فكاكه من الأسر ليعود مسلماً.
الرابعة : إسلام الأسير ومعه الذي جاء من قومه بالفداء له.
وكل جهة من هذه الجهات شاهد على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعطى عمه العباس لفكه من الأسر مائة أوقية، ودفع العباس عن عقيل بن أبي طالب ثمانين أوقية ، ثم تمر الأيام ويسلم العباس لينال من الغنائم أضعاف هذا المبلغ، وليكون أولاده من بعده أمراء وخلفاء في العالم الإسلامي.
وقد منّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عدد من الأسرى من غير فداء مثل: المطلب بن حنطب وأبي عزة الشاعر، وصيفي بن أبي رفاعة، وقد أمر الذي ليس له فداء من الأسرى ممن يقرأ ويكتب بتعليم عشرة من صبيان الأنصار القراءة والكتابة.
وأرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلادة إبنته زينب التي بعثتها فداء لزوجها أبي العاص بن الربيع، وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد لأن هذه القلادة هدية خديجة عليها السلام لها.
(وولدت له زينب أمامة وعلياً الذي أردفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وراءه يوم الفتح)( )، وتزوج الإمام علي عليه السلام أمامة بعد وفاة فاطمة الزهراء عليها السلام، وتحكي الصلة والعلقة بين زينب وأبي العاص قصة المودة والوفاء بين الزوجين، وأن الإسلام هو الذي يعلو، والمسلمين لا يرتدون عن دينهم ولو كان الذين يودون ويحبون في الطرف الآخر ،وقال فيها وهو في تجارة بالشام:
ذَكَرَتْ زَيْنَبُ لَمَا يَمّمَتْ إضَمًا
فَقُلْت : سَقْيًا لِشَخْصِ يَسْكُنُ الْحَرَمَا
بِنْتُ الْأَمِينِ جَزَاهَا اللّهُ صَالِحَةً
وَكُلّ بَعْلٍ سَيُثْنِي بِاَلّذِي عَلِمَا)( ).
لقد هاجرت زينب بنت رسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وتركت أبا العاص على شركه، ولكنه كان مصافياً لرسول الله ولم يؤذه في نفسه أو إبنته وفي شهر جمادي الأولى سنة ست من الهجرة، خرج أبو العاص بن الربيع(بتجارة إلى الشام ومعه أموال من أموال قريش فلما انصرف قافلاً لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أميرهم زيد بن حارثة رضي الله عنه وكان أبو العاص في جماعة عير وكان زيد في نحو سبعين ومائة راكب فأخذوا ما في تلك العير من الأثقال وأسروا ناساً منهم وأفلتهم أبو العاص هرباً.
وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث زيداً في تلك السرية قاصداً للعير التي كان فيها أبو العاص فلما قدمت السرية بما أصابوا أقبل أبو العاص في الليل حتى دخل على زينب رضي الله عنها فاستجار بها فأجارته.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح وكبر وكبر الناس معه صرخت زينب رضي الله عنها أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس فقال: ” هل سمعتم ما سمعت ” . فقالوا: نعم. قال: ” أما والذي نفسي بيده ما علمت بشيء كان حتى سمعت منه ما سمعتم إنه يجير على المسلمين أدناهم ” . ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته فقال: ” أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له ” . فقالت: إنه جاء في طلب ماله. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث في تلك السرية فاجتمعوا إليه .
فقال لهم: ” إن هذا الرجل منا بحيث علمتم وقد أصبتم له مالاً وهو مما أفاء الله عز وجل عليكم وأنا أحب أن تحسنوا وتردوا إليه ماله الذي له وإن أبيتم فأنتم أحق به ” . قالوا: يا رسول الله بل نرده عليه فردوا عليه ماله ما فقد منه شيئاً فاحتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله الذي كان أبضع معه ثم قال: ” يا معشر قريش هل لأحد منكم مال لم يأخذه ” . قالوا: جزاك الله خيراً فقد وجدناك وفياً كريماً. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله والله ما منعني من الإسلام إلا تخوف أن تظنوا أني آكل أموالكم فلما أداها الله عز وجل إليكم أسلمت ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً وحسن إسلامه ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته عليه)( ).
السادس : بعث السكينة في نفوس الأتباع من الكفار عند دخولهم القتال بإختيارهم الأسر وما فيه من الأمن، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ولم يمر عام على واقعة بدر حتى أطلق جميع الأسرى وكأنه مقدمة للترغيب لأفراد جيش الكفار بالوقوع في الأسر، وهو الذي كان يخشاه رؤساؤهم يوم أحد فعجلوا بالإنسحاب، ولم يقع يومئذ منهم في الأسر إلا واحد.
قال الربيع عن الشافعي: ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحى، وقد كان في الاسارى يوم بدر، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فدية واشترط عليه الا يقاتله، فلما أسر يوم أحد قال: يا محمد امنن علي لبناتي، وأعاهد ألا أقاتلك.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين، ثم أمر به فضربت عنقه.
وذكر بعضهم أنه يومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)( ).
السابع : عدم خشية المستضعفين من الخروج مع المشركين لإمكان عزمهم على التسليم والوقوع في الأسر .
الحادية عشرة : أخبرت آية السياق عن رؤية الصحابة الموت ونجاتهم منه ،بعد تمنيهم له ، ليخرجوا من المعركة بسلامة دينهم وأبدانهم وتلك نعمة عظيمة عليهم وعلى الناس [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ).
وأخبرت آية البحث بأن المسلمين سيبتلون بوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو قتله , وعليهم البقاء على سلامة من دينهم .
وبلحاظ الجمع بين الآيتين تحتمل وجوهاً:
الأول : معركة أحد أشد على المسلمين في دينهم .
الثاني : إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى هو الأشد حرجاً على المسلمين في دينهم .
الثالث: إرادة التساوي بينهما من حيث شدة الإبتلاء .
والصحيح هو الثاني ، وهو الذي تدل عليه آية البحث .
إن المقارنة بين حال وصبر المسلمين يوم أحد وإستعدادهم للقتل في سبيل الله أصل ومقدمة لوقايتهم من الإرتداد يوم إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
ويبين الجمع بين الآيتين المنافع العظيمة لتمني المؤمنين الموت عند لقاء العدو في ثباتهم في منازل الإيمان عند الشدائد والمحن وهو من أسرار تعقب الأخبار عن تمنيهم الموت بالإخبار عن رؤيتهم له كما في الآية السابقة، ليكون من مصاديق الجمع بين الآيتين هو: ولقد كنتم تمنون الموت قبل أن تلقوه فقد رأيتم موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم تنظرون فلا تنقلبوا على أعقابكم.
الثانية عشرة : بعد ذكر الآية السابقة لتمني المؤمنين القتل والشهادة في سبيل الله إنتقلت هذه الآية إلى ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجيئه بالرسالة من عند الله ، وأخبرت بتعاقب مجيء الرسل قبل بعثته لبيان أن المسلمين يحملون أعباء حفظ الرسالات ، ووراثة الأنبياء، مما يملي عليهم تعاهد الفرائض والحفاظ على سنن الإيمان ووجوب عدم النكوص أو الإرتداد ، لتدل آية البحث بالدلالة التضمنية على إتباع المسلمين للأنبياء والرسل.
الثالث : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( ).
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وما محمد إلا رسول وليمحص الله الذين آمنوا.
الثاني : وما محمد إلا رسول الله ويمحق الله الكافرين .
الثالث: قد خلت من قبله الرسل وليمحص الله الذين آمنوا.
الرابع : قد خلت من قبله الرسل وليمحص الله الكافرين .
الخامس : أفان مات محمد أو قتل ليمحص الله الذين آمنوا .
السادس : أفان مات محمد أو قتل ويمحق الله الكافرين .
السابع : وليمحص الله الذين آمنوا ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً .
الثامن : ويمحق الله الكافرين ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً.
التاسع : وليمحص الله الذين آمنوا وسيجزي الله الشاكرين.
العاشر : وسيجزي الله الشاكرين ويمحق الكافرين .
المسألة الثانية : بينت آية السياق قانوناً وهو تمحيص وإختيار وتنقية المؤمنين، وقال الجواهري : ومَحَصْتُ الذهبَ بالنار، إذا خلَّصته ممَّا يشوبه. والتَمْحيصُ: الابْتِلاءُ والاختِبارُ] ( ).
والمختار أن المراد من التمحيص في آية البحث هو إجتماع أمور وهي :
الأول : التقريب إلى الإيمان بلطف من عند الله.
الثاني : ثبات المسلم في مقامات الإيمان .
الثالث: مجئ الخطاب التكليفي للمسلمين بأداء الفرائض العبادية .
الرابع : إعانة المسلمين والمسلمات بأداء الفرائض وتيسيرها لهم ، ودفع الموانع عنها ، منها إزاحة أسباب الفقر والعوز ، وتأتي هذه الإزاحة على نحو دفعي وتدريجي ، ومن الدفعي نصر المسلمين في معركة بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) من جهات :
الأولى : دخول الغنائم إلى المدينة من الإبل والمؤون والأسلحة التي خلفها الكفار عند هزيمتهم لإستلزام حال الفرار إلى قلة الأثقال والأحمال .
الثانية : وقوع سبعين من كبار المشركين أسرى بيد المسلمين وصيرورة البدل النقدي عنهم ملكاً للذين أسروهم، مع التفاوت في مقدار الفدية ، وقد رغب بعض الصحابة وفي ساعة المعركة بالإجهاز على المشركين بدل أسرهم .
قَالَ ابن إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ الْحَصْبَاءِ فَاسْتَقْبَلَ قُرَيْشًا بِهَا ، ثُمّ قَالَ شَاهَتْ الْوُجُوهُ ، ثُمّ نَفَحَهُمْ بِهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ شِدّوا ، فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ فَقَتَلَ اللّهُ تَعَالَى مَنْ قُتِلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ . فَلَمّا وَضَعَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ يَأْسِرُونَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي الْعَرِيشِ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَائِمٌ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ الّذِي فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مُتَوَشّحَ السّيْفِ فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَخَافُونَ عَلَيْهِ كَرّةَ الْعَدُوّ وَرَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ – فِيمَا ذُكِرَ لِي – فِي وَجْهِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْكَرَاهِيَةَ لِمَا يَصْنَعُ النّاسَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَاَللّهِ لَكَأَنّك يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ الْقَوْمَ قَالَ أَجَلْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ كَانَتْ أَوّلَ وَقْعَةٍ أَوْقَعَهَا اللّهُ بِأَهْلِ الشّرْكِ . فَكَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ بِأَهْلِ الشّرْكِ أَحَبّ إلَيّ مِنْ اسْتِبْقَاءِ الرّجَالِ] ( ).
وكذا عند مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة في أمرهم كما سيأتي بيانه في جزء لاحق إن شاء الله ولم يستعبد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرى قريش .
الثالثة: ترشح ثقة القبائل والناس في معاملاتهم التجارية بالمسلمين بعد تحقق النصر على قريش ، وتجلي مصاديق العدل والإنصاف في حكم وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : تشريع الزكاة في السنة الثانية للهجرة ونشر ثقافة إعانة الفقراء والمحتاجين من المؤمنين .
الخامسة :بشارات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفتح للمسلمين وإنتفاء الفاقة والعوز عنهم ، كما في حديث معركة الخندق وكيف أنه يبشرهم بفتح خزائن كسرى وكنوز قيصر وتلقي المؤمنين هذه البشارات بالتصديق.
السادسة : تطوع وتبرع الأنصار والميسورين من المؤمنين بالمال والأعيان رجاء الثواب [وأخرج ابن سعد عن الشعبي قال « استقرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رجل تمراً فلم يقرضه قال : لو كان هذا نبياً لم يستقرض ، فأرسل إلى أبي الدحداح فاستقرضه فقال : والله لأنت أحق بي وبمالي وولدي من نفسي ، وإنما هو مالك فخذ منه ما شئت واترك لنا ما شئت ، فلما توفي أبو الدحداح قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رب عذق مدلل لأبي الدحداح في الجنة .
وأخرج ابن اسحق وابن المنذر عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً . . . } الآية . في ثابت بن الدحداح حين تصدق بماله .
وعن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع هذه الآية قال : أنا أقرض الله ، فعمد إلى خير مال له فتصدق به] ( ).
الخامس :إمتحان المسلمين بالكفار وتعديهم وإيذائهم وبطشهم .
وصحيح أن آية السياق جاءت بلحاظ ما لاقاه المسلمون في معركة أحد من كثرة الشهداء وجرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدد من الصحابة لمقام لام التعليل في [وَلِيُمَحِّصَ] ولكن مضامين الآية أعم من موضوع التنزيل ، والمراد من إصطلاح موضوع النزول أعم من أسباب النزول .
ويدل على هذا العموم مجئ حرف العطف (الواو ) في أول الآية بقوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ].
وكأن الآية تجيب على إشكال مضمر وتساؤل إستنكاري لماذا يجعل الله جولة للكفار، ويسقط سبعون شهيداً من المسلمين وتكسر الأسنان الأمامية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجاءت آية السياق بالإجابة بأنه من تمحيص وإختبار المؤمنين ثم تأتي آية البحث لتبين لهم بأنكم أمام تمحيص آخر وهو وفاة أو إستشهاد رسول الله والذي يفيد مغادرته القطعية الدنيا سواء بالقتل العاجل أو الموت في الأجل، وفيه مسائل :
الأولى : خسارة المسلمين في معركة أحد مقدمة لرحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من الموعظة وحاجة المسلمين إلى الثبات في مقدمات الإيمان .
الثانية : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين، لذا تفضل الله عز وجل وجعل الصبر مقدمة لنزول المدد الملكوتي من السماء، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ…..]( ).
الثالثة : بيان حقيقة وهي تمحيص المؤمنين قانون كلي متجدد وفق القياس الإقتراني:
الكبرى :التلازم بين الإيمان والتمحيص.
الصغرى : المسلمون هم المؤمنون.
النتيجة : التلازم بين المسلمين والتمحيص.
الرابعة : ما لاقاه المسلمون في ساحة المعركة يوم أحد رسالة لأجيالهم للإستعداد للبلاء والتمحيص.
وهل إبتدأ التمحيص بواقعة أحد الجواب لا، فهو مصاحب لأيام البعثة النبوية والدعوة إلى الإسلام ، وقد لاقى أهل البيت والصحابة أشد صنوف الأذى في مكة قبل الهجرة.
السادس : تأديب المسلمين وإصلاحهم للمصائب، وجعلهم مستعدين للشدائد وضروب الإبتلاء التي تأتي من الكفار أو غيرهم .
السابع : تنزيه المسلمين عن جعل المنفعة وكثرة الغنائم هي الغاية من العبادة [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسلمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن ، قالوا : إن ديننا هذا صالح فتمسكوا به؛ وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط، قالوا: ما في ديننا هذا خير. فأنزل الله{ومن الناس من يعبد الله على حرف}( ).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله في الآية قال : كان أحدهم إذا قدم المدينة – وهي أرض وبيئة – فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً ، رضي به واطمأن اليه وقال : ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً؛ وإن رجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شراً . وذلك الفتنة]( ).
الثامن : كشف المنافقين ، وفضح مكرهم ، وبيان خبث سرائرهم .
المسألة الثالثة : جاءت آية السياق بصيغة الجملة الخبرية وبيان قانون كلي وهو صيرورة البلاء والمصائب التي تصيب المسلمين مناسبة لإختبارهم وإزدراء الكافرين، وفيه قطع لشماتة الكافرين والمنافقين بما يلاقيه المؤمنون من الكلوم وسقوط القتلى في ميادين المعارك.
وقد تجلت مصاديق هذا القانون ببزوغ شمس الإيمان في الجزيرة وإنحسار الكفر وسوء عاقبة الكافرين، وفيه غلق لباب الإرتداد، وإنتفاء موضوعه وتلك آية من إعجاز القرآن بأن يأتي نهي فيه ويأتي موضوع يكون عوناً للمسلمين لإجتناب ما نهى الله عز وجل عنه، سواء جاء النهي بصيغة الجملة الإنشائية أو الخبرية.
إذ تدل آية البحث في مفهومها على الزجر عن الإرتداد وتشير إلى قبحه وضرره على الذات والغير، لتأتي آية السياق بالإخبار عن تمحيص وإختبار المؤمنين وكل فرد من التكاليف العبادية هو تمحيص للمؤمنين ليكون كل فرد منها واقية من الإرتداد، وكذا فإن الزجر عن الإرتداد في هذه الآية عون ومدد في باب التمحيص والتأديب للمسلمين وفيها محو ودثر لمفاهيم الكفر وجعل الكفار بين خيارين، اما الإسلام أو الإستئصال ، اما إذا حصل إرتداد متعدد عند المسلمين ، فان الكفر يترسخ في الأرض ويجد له حملة ورواداً ، وهو من مصاديق الضرر الغيري للإرتداد.
المسألة الرابعة : يحتمل التعليل في تمحيص وإختيار المسلمين بلحاظ آية السياق وجهين:
الأول :حصر موضوع التمحيص بسقوط الشهداء والجرحى من المؤمنين في معركة أحد وغيرها .
الثاني : إرادة المعنى الأعم وتعدد أسباب ومواضيع التمحيص والإصلاح لمقامات الإمامة بين الناس .
والصحيح هو الثاني فليس من حصر لهذه الأسباب بلحاظ أن الدنيا دار إمتحان وإختبار .
وكل فرد من أفراد التمحيص من مصاديق اللطف الإلهي بالمسلمين والناس جميعاً.
فتتوالى أسباب التطهير والتنزيه للمسلمين من درن الكدورات لينتفع الناس جميعاً، وهو من وجوه قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بتقريب أن إصلاح المسلمين دعوة للناس للإنابة والهداية ومنها مضامين آية البحث التي هي بناء في صرح الإسلام في حال حرج يمرون بها وهي أيام مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الآخرة .
المسألة الخامسة : أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( )ويحتمل تمحيص المسلمين المذكور في آية السياق وجوهاً :
الأول : إختبار وإبتلاء المسلمين مناسبة لشكرهم لله عز وجل.
الثاني : إنه مقدمة لرشحات فضل الله عليهم بالشكر له سبحانه .
الثالث : تمحيص المسلمين للبلاء شكر منهم لله عز وجل فيتفضل الله سبحانه ويجازيهم بالثواب العظيم في الآخرة .
الرابع : من شكر الله عز وجل للمسلمين على إيمانهم تمحيصهم وتنقيتهم من درن الشرك والريب وذم النفاق وكشف المنافقين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، فمن معاني الرحمة الإلهية في الدنيا أنه سبحانه جعل الدنيا (دار الشكر )وليس من حد أو رسم للشكر في الدنيا وهو على أقسام:
الأول : قوس النزول بفضل الله عز وجل وشكره إبتداء ً.
الثاني : قوى الصعود ، وهو شكر الناس لله عز وجل .
الثالث : نزول الشكر من عند الله جزاء.
وهل هذه الأقسام ترتيبية ويتوقف أحدها على الآخر، الجواب لا، إنما يكون السبق والتقدم بلحاظ فضل الله وسعة رحمته.
فان قلت تدل الآية على أن إبتداء الشكر من العباد وأن شكر الله عز وجل لهم جزاء وثواب فيصح القسمان الثاني والثالث والجواب من جهات :
الأولى :إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره فاخبار الآية عن جزاء الله عز وجل للشاكرين لا يعني عدم نزول الشكر إبتداءً من عند الله .
الثاني : من أسماء الله الشاكر، وفي التنزيل [وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا]( ) فهو سبحانه الشاكر والشكور قبل أن يخلق آدم .
الثالث : يأتي الشكر من عند الله للإنسان على فعل آبائه وأجداده ، فيكون من الشكر الإبتدائي وفي قصة موسى عليه السلام والخضر ، قال تعالى [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا] ( )، وعن ابن عباس يقول : ما كان الكنز إلا علماً] ( ).
السادسة : جاءت آية السياق بشطرين، بين مصاديق موضوعيهما تباين وتضاد وهما:
الأول : تمحيص وتنقية وإصلاح المسلمين .
الثاني : محق وخسارة الكافرين .
ومن الإعجاز في الآية أنها لم تقل ( ويمحص الله المؤمنين ) بل ذكرت لفظ [الَّذِينَ آمَنُوا] لإفادة أن الله عز وجل يمحص ويطهر المسلمين والمسلمات جميعاً ويلحق بهم المنافقون والعصاة والمقصرون، وهو من فضل الله عز وجل عليهم وعلى الناس ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في فرض الصلاة فان أداءها طرد للنفاق وتنزيه من الشك والرياء لذا قال الله تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
ويحتمل النفاق بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول :النفاق من الفحشاء .
الثاني : إنه من المنكر الذي تنفر منه النفوس .
الثالث : النفاق أمر قبيح آخر غير الفحشاء والمنكر .
والصحيح إنه من المنكر لأنه فعل مذموم لما فيه من الغش والخديعة وإخفاء الكفر القبيح ذاتاً وعرضاً وأثراً ، فالصلاة تنهى عن النفاق ، وهذا النهي على وجوه :
الأول :بيان القراءة في الصلاة لقبح النفاق وفضحها للمنافقين ودعوتها للتنزه منه .
الثاني : الوقوف بين يدي الله في الصلاة مناسبة للخشوع والخضوع طوعاً وقهراً وأنطباقاً .
الثالث : أداء وكيفية الصلاة مناسبة لإقتباس الأخلاق الحميدة.
الرابع : صلاة الجماعة مناسبة للإلتقاء بين المسلمين ، وتجلي معاني الأخوة الإيمانية والتراحم بينهم.
الخامس : حرص المسلمين على تعاهد الصلوات اليومية في أوقاتها حرب على النفاق والشك والريب .
السادسة : من خصائص النفاق أنه صراع نفسي بين الإيمان الظاهري وإبطان الكفر، وتأتي الصلاة مدداً وعوناً لتغليب جانب الإيمان الظاهري ونفاذه إلى النفس وإزاحة درن النفاق عن القلب على نحو دفعي أو تدريجي.
السابع : دلالة أداء الصلاة على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : الصلاة مقدمة وطريق لإتيان الفرائض الأخرى .
المسألة السادسة : يفيد الجمع بين خاتمتي الآيتين حرمان الكفار من الجزاء الحسن الذي وعدت به آية البحث ، ليشمل ذم الكفر الوارد في قوله تعالى [وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] أموراً :
الأول : ذم الكفر بالله عز وجل.
الثاني : النهي عن الجحود بنعمة النبوة ، إذ أن قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]بيان لنعم متعددة منها :
أولاً : إستدامة الصلة بين الله عز وجل والناس بالرسالات فقد هبط آدم إلى الأرض ، بصفات هي :
الأولى : إنه خليفة الله في الأرض .
الثانية : كان آدم نبياً [عن أبي ذر قال « قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال : نعم . كان نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً ، قال له { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة] ( ).
الثالثة : تلقي آدم الوحي وأسباب الهداية من عند الله .
الرابعة : عداوة آدم لإبليس وحذره من مكائده في الأرض بعد الذي لاقاه من غفلاته في الجنة ، قال تعالى [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّ] ( ).
وقد وردت ضروب العداوة بين آدم وابليس في سورة البقرة وسورة الأعراف وسورة الإسراء وسورة طه وغيرها وكيف أن ابليس عصى أمر الله في السجود لآدم عليه السلام .
ثانياً : تجدد مصاديق خلافة الإنسان في الأرض بنزول الوحي وبيان أحكام الحلال والحرام والأوامر والنواهي من عند الله عز وجل.
ثالثاً : ترغيب الناس بالإيمان ، والصبر في طاعة الله .
رابعاً : إخبار الرسل عن أحوال عالم الآخرة ، والتضاد فيها بين النعيم والعذاب، وبما يتخلف معه التصور الذهني عن كل منهما ومن رحمة الله تجلي ووضوح خصائص أهل النعيم من جهة وهم المؤمنون الذين يعملون الصالحات وصفات أهل النار وهم الكفار والمنافقون والفاسقون، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
ومن الإعجاز في الرسالات أنها واقية من النار ، وبرزخ لنجاة شطر من الناس من العذاب يوم القيامة .
الثالث : محق الكافرين في الدنيا مقدمة لخيبتهم وحسرتهم وقيام الحجة عليهم في الآخرة .
الرابع : عجز الكافرين عن الإضرار بالمؤمنين ، وتجلي مصداق هذا العجز في معارك الإسلام الأولى مع إجتماع شرائط الرجحان والكثرة للكفار من جهة العدد والعدة وكثرة الخيل والمؤون.
وهل في قوله تعالى [وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]بشارة للمسلمين والمسلمات بأن الكفار لن يستطيعوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن ببيان الوهن والنقص عند الكفار وبما يجعلهم قاصرين عن تحقيق غاياتهم الخبيثة .
لقد ورد قوله تعالى [وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] بصيغة الإجمال ولغة المضارع للدلالة على إستمرار المحق وتجدد مصاديقه، ففي كل يوم يحل بالكفار ضرب من المحق ، وعندما يهمون بمكر وكيد يأتي المحق فيحجبه ويمنع من ترجله في المبرز الخارجي فلا يقع إلا بهيئة وكيفية ناقصة قليلة الأثر.
ويحتمل موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً:
الأول : إنه تمحيص وإختبار للمؤمنين، ومناسبة لبيان ثباتهم في مراتب الإيمان.
الثاني : كما أن حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محق للكافرين وإندثار لمفاهيم الضلالة فكذا وفاته وإنتقاله إلى جوار ربه ونيله المقام المحمود في الآخرة.
الثالث : القدر المتيقن من قوله تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا]( )، هو إرادة معركة أحد وسقوط الجرحى والشهداء من المسلمين.
والصحيح هو الأول والثاني ، وهو من مصاديق[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ أن شآبيب الرحمة التي تترشح عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس في حياته وبعد مماته، وأن المسلمين يتنزهون عن الإنقلاب والإرتداد بعد وفاته.
لقد أراد الله عز وجل من آية البحث أن تكون طاعة الله ورسوله سنخية وملكة ثابتة عند المسلمين إلى يوم القيامة.
الرابع : صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : وما محمد إلا رسول ولا تهنوا ولا تحزنوا.
الثاني : قد خلت من قبله الرسل ولا تهنوا ولا تحزنوا.
الثالث : أفائن مات أو قتل فلا تهنوا ولا تحزنوا.
الرابع : ولا تهنوا ولا تحزنوا ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً.
الخامس : ولا تهنوا ولا تحزنوا وسيجزي الله الشاكرين.
السادس : وما محمد إلا رسول وأنتم الأعلون.
السابع : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأنتم الأعلون.
الثامن : أنتم الأعلون ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً.
التاسع : أنتم الأعلون وسيجزي الله الشاكرين.
الثانية : إتحاد لغة الخطاب في آية البحث والسياق إذ تتوجه كل واحدة منهما إلى المسلمين في أجيالهم المتعاقبة وهو من مصاديق بقاء القرآن حاضراً بين الناس وفي أذهان وأفعال المسلمين إلى يوم القيامة.
وهل يكون حاضراً بذات المعنى في الوجود الذهني للكفار، يحتمل الجواب وجوهاً:
الأول : إستحضار الكفار لمضامين آيات القرآن بعرض واحد مع المسلمين.
الثاني : لا يدرك قانون تجدد معاني القرآن إلا المسلمون فلا يعلم الكفار بالعزائم والهمم الإضافية التي تترشح عن هذا القانون.
الثالث : يستحضر الكفار حياة القرآن وحضور آياته في الوقائع والأحداث , ولكن على نحو الموجبة الجزئية.
والصحيح هو الثالث بسبب الغشاوة التي تترشح عن الجحود بالتنزيل والكفر بنعمة النبوة، لتتضمن آية البحث قانوناً وهو أن المسلمين يتخذون القرآن إماماً حتى بعد إفتقار الحياة الدنيا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومغادرته إلى الرفيق الأعلى.
وهو من مصاديق[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، لإفادة المعنى الأعم للرسالة ومنه أثرها وفيوضاتها على الناس وحضور البشارة والإنذار عند الناس في منتدياتهم وبيوتهم وصيرورتها ذات موضوعية في نواياهم وعزائمهم.
الثالثة : لقد ظن المنافقون ونحوهم من الفاسقين أن موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبب لإصابة المسلمين بالضعف والجبن والإنشغال بالحزن الأليم على فقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنقطاع نزول جبرئيل إلى الأرض بالوحي والتنزيل الذي يكون ضياء سماوياً مباركاً يمتاز عن الضياء الأرضي بأن وظيفته لا تختص بإنارة طرق الهداية للمسلمين بل يأخذ بأيديهم بلطف إلى سبل النجاة والفلاح ويزيح عنهم الموانع التي تحول دون حسن العبودية لله.
لتغلق كل من آية البحث والسياق مجتمعين ومتفرقتين الباب بوجه المنافقين وأمانيهم الزائفة وكأنه من عمومات قوله تعالى [وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ]( ).
الرابعة : يتضمن قوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]بلحاظ آية البحث الشهادة والبشارة المستديمة للمسلمين بأنهم أسنى الأمم وأعلاها ، وتدل سنخية التنزيل على أن موضوع العلو هو مراتب الإيمان والتقوى والظفر بقصد القربة وطلب مرضاة الله، ولو تردد الأمر بين وجوه:
الأول : إرادة حال الحرب والقتال من موضوع العلو وسناء المرتبة في آية البحث وهو القدر المتيقن من الآية .
الثاني : المقصود علو المسلمين في حال الحرب والسلم .
الثالث : المراد المعنى الأغلب في أفراد الزمان وحياة الناس، وهو حال السلم والإقامة والعز.
والصحيح هو الثاني لوجوه :
الأول : أصالة الإطلاق وعدم وجود مقيد في البين.
الثاني : مجئ الآية بصيغة الجملة الإسمية[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]التي تفيد الثبات والإستغراقي.
الثالث : موضوع آية السياق هو النهي عن الوهن والحزن وهما كيفية نفسانية تحصل في حالات:
الأولى : سقوط القتلى والإصابة بالجراحات عند المسلمين في ميدان المعركة.
الثانية : شدة القتال، ومجئ العدو بعدد وعدة وعزم على القتال، كما في معركة بدر وأحد والخندق، ففي كل معركة منها كان عدد الكفار أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين.
الثالثة : الأسى والحزن بعد إنقضاء المعركة وعلته متعددة من وجوه:
الأول : تضييع الفرص بايقاع خسائر أكثر بالكفار.
الثاني : فوات غنائم إضافية كان الإستحواذ عليها أمراً ممكناً.
الثالث : الحزن على الشهداء الذين سقطوا في المعركة.
الرابع : الحزن على الذين يصرون على الكفر والجحود والنفاق لقبح هذا الإصرار وسوء عاقبته .
وجاءت آية البحث لتنذر من الوهن والجبن والحزن بسبب رحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الدنيا وإنعكاس هذا الحزن بالقعود عن الجهاد ، ليدل بالأولوية على النهي عن الإرتداد والنكوص والإنقلاب إلى ميادين الضلالة .
عن أبي سعيد قال : كنا جلوسا على باب رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم نتذاكر ينزع هذا بآية وينزع هذا بآية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم كأنما تفقأ في وجهه حب الرمان فقال : ( يا هؤلاء أبهذا بعثتم ؟ أم بهذا أمرتم ؟ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض] ( ).
ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإقتتال الذاتي بين المسلمين وبيان الملازمة بينه وبين الكفر بنعمة الإيمان تكرر في مواطن وصيغ عديدة منها .
الأول : عَنِ ابن عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم: لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ لاَ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجِنَايَةِ أَبِيهِ وَلاَ جِنَايَةِ أَخِيهِ]( ).
الثاني : عن ابن عمر قال: كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره وقال(ما بعث الله من نبي إلا أنذره أمته أنذره نوح والنبيون من بعده وإنه يخرج فيكم فما خفي عليكم من شأنه فليس يخف عليكم أن ربكم ليس على ما يخفى عليكم – ثلاثا – إن ربكم ليس بأعور وإنه أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت) قالوا نعم قال (اللهم اشهد – ثلاثا – ويلكم أو ويحكم انظروا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض]( ).
الثالث : عَنْ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: أَىُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ. قُلْنَا: بَلَى قَالَ: فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: أَوَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ. قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: فَأَىُّ بَلَدٍ هَذَا؟. قُلْنَا: اللَّهُ وَرُسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ :« أَلَيْسَتِ الْبَلْدَةُ؟ . قُلْنَا : بَلَى قَالَ :« فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ . قَالُوا : نَعَمْ قَالَ :« لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ أَلاَ لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ] ( ).
الرابع : وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في قوله (واما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما) فقال : اما انه ما كان ذهبا ولا فضة ، وانما كان أربع كلمات : اني انا الله لا اله الا انا من أيقن بالموت لم تضحك سنه ، ومن أقر بالحساب لم يفرح قلبه ، ومن آمن بالقدر لم يخش الا ربه] ( ).
الخامسة : تبعث آية السياق السكينة في نفوس المسلمين عند تلاوة آية البحث وعند مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقاء ربه ، بإخبارها المسلمين بأنهم الأعلون بين الأمم ليكون من مصاديقه بلحاظ آية البحث وجوه:
الأول : أنتم الأعلون لأن خاتم النبيين وسيد المرسلين هو نبيكم والرسول الذي بعثه الله لكم.
الثاني : أنتم الأعلون بتمام شريعتكم، وبيان أحكام الحلال والحرام لكم، ولان الله عز وجل خصكم بتمام الدين، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ( ).
الثالث : أنتم الأعلون بنعمة الله عليكم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهدايتكم لإتباعه.
الرابع : أنتم الأعلون لتسميتكم بالمسلمين وما فيه من الشهادة لكم بالإنقياد لأوامر الله عز وجل .
الخامس : وأنتم الأعلون لتصديقكم بجميع الرسل وهو وفق القياس الإقتراني .
الكبرى : الأمة التي تصدق بكل الأنبياء هم الأعلون .
الصغرى : المسلمون هم الذين يصدقون بكل الأنبياء .
النتيجة : المسلمون هم الأعلون .
السادس : وأنتم الأعلون لحصانتكم من الوهن والحزن اللذين يجعلان الأمة في حال من الضعف والخور .
السابع : وانتم الأعلون لفضل الله عليكم بنزول القرآن كتاباً جامعاً لأمور الدين والدنيا، وهو من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ).
الثامن : وأنتم الأعلون لتحليكم بالأخوة الإيمانية التي تتقوم بالعمل بالكتاب والسنة والمناجاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
التاسع : وأنتم الأعلون ببشارة الأنبياء السابقين بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من تقدير آية البحث : (وما محمد إلا رسول قد بشّرت به الرسل) .
العاشر : أنتم الأعلون من بين الأمم بلباس التقوى والخشية من الله وتوالي إرتقائهم في مراتب التقوى وهو من مصاديق الهدى في قوله تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الحادي عشر : وأنتم الأعلون لأنكم الأئمة للناس في الصلاح ومسالك الفلاح والنجاح.
الثاني عشر : وأنتم الأعلون لشهادة الله عز وجل لكم بأنكم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )وإستدامة مصداق هذه الشهادة إلى يوم القيامة بمعنى تكونون في كل زمان[خَيْرَ أُمَّةٍ]تدعو الناس إلى التوحيد، ونبذ الشرك وأسباب الضلالة وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما تسارعوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
فتفضل الله سبحانه وأخبرهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ليكون من علم الله عز وجل في المقام إنتشار أمة من الموحدين في ربوع الأرض تدعو إلى الله وتذكر الناس بوجوب عبادته، وتتحمل الأذى في هذه الدعوة.
الثالث عشر : انتم الأعلون بوراثتكم للأنبياء والرسل وتعاهد كنوز السماء في الأرض وهو التنزيل والوحي إذ يختص المسلمون بحفظ القرآن سالماً من التحريف والتبديل والتغيير ، وهذا الحفظ حاجة لأهل الأرض ، ومادة لصلاحهم وجلبهم لطريق الهدى والتنزه عن الإقتتال فيما بينهم ،لأن القرآن هو الكتاب الجامع للتنزيل المبين لأمور الشريعة والدين بما يطرد الغرر والجهالة .
الرابع عشر : وأنتم الأعلون عند دخولكم المعارك مع الكفار الجاحدين ليكون هذا العلو في المعركة على جهات :
الأولى : إنه مقدمة وسبب للظفر .
الثانية : إنه موضوع لترغيب المسلمين بالدفاع عن الإسلام وإجتناب الخذلان ، لذا ورد لفظ [الأَعْلَوْنَ] مرة أخرى في القرآن بقوله تعالى [وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الثالثة : عند الشروع بالقتال ، وتنزهكم عن الإبتداء برمي السهام أو الدعوة إلى المبارزة أو الهجوم العام على العدو.
وهذا التنزه من مصاديق أن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر قادة الجيوش بوعظ العدو ودعوته إلى التوحيد ، بما يدل بالدلالة التضمنية بأن المسلمين لم يطلبوا الدنيا أو الإمارة أو الحكم على الناس والأستحواذ على أموالهم وتدل الوقائع التأريخية على أن الذين دخلوا الإسلام من غير العرب صاروا سلاطين وقادة وأئمة ، لبيان قانون كلي وهو إنبساط لفظ [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]على كل المسلمين وتساويهم في مراتبه والإنتفاع والتنافس فيه ، وهو من مصاديق التمايز بين المسلمين بلحاظ التقوى ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
الرابعة : أنتم الأعلون عند نشوب المعركة وإشتداد القتال إذ يتفضل الله عز وجل بنزول الملائكة لنصرتكم وخذلان وخيبة العدو الكافر.
الخامسة : أنتم الأعلون بإمتلاء نفوس الكفار منكم بالخوف والرعب أثناء القتال وبعده ، ليكون من مصاديق نصر المسلمين سلامتهم من الخوف والجبن والضعف بفضل الله بدليل مضامين آية السياق، وإصابة الكفار بالخوف والجبن لإنعدام العصبية والموضوع الذي يستحق القتال منهم، ولأن في دعوة المسلمين لهم في بداية المعركة للإيمان وجوهاً:
الأول : إنطباع هذه الدعوة في التصور الذهني.
الثاني : إختراق الدعوة شغاف القلوب لصدقها وإقترانها بالمعجزة والبرهان وهل عدم وهن أو خوف المسلمين من البرهان والحجة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم، لذا جاءت آية البحث بدعوة المسلمين لتعاهد هذه الحجة حتى بعد رحيله عن الدنيا .
قال ابن المعتز:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد( ).
الثالث : تأسيس قانون كلي مصاحب للمسلمين في قتالهم مع الكفار وهو الإبتداء بالنصح والموعظة والدعوة إلى الهدى والإيمان.
الرابع : رجاء المسلمين لفضل الله بإجتناب القتال وسيل الدماء، وهو من الشواهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف، فمع عدم القتال تتوالي المعجزات والآيات القرآنية التي تدعو الناس إلى الإيمان.
الخامس : بيان قانون وهو تقيد المسلمين بالسنة النبوية القولية والفعلية في ميدان القتال وإن كانوا هم الأكثر والأقوى وهو المستقرأ من عمومات قوله تعالى في آية السياق(وأنتم الأعلون) الذي يتضمن البشارة، من جهات:
الأولى : رجحان كفة المسلمين في العدة والعدد في ميادين القتال.
الثانية : حال العز والأمن التي يفوز بها المسلمون في حال الحضر والسلم.
الثالثة : خشية الكفار من التعدي على المسلمين، والأمن من مباغتة جيوشهم على أبواب المدينة، وهو من عمومات قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
السادس : صيرورة ميدان المعركة مناسبة لجذب الناس لمنازل التقوى، وبعث النفرة في نفوسهم من قتال المسلمين.
السابع : إدراك الكفار للقبح الذاتي والأثر الفادح لتعديهم وظلمهم بقتالهم لأهل الإيمان وهو من مصاديق قوله تعالى في ذم الكفار [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ] ( ).
الخامس عشر : وأنتم الأعلون لإنتفاعكم من قصص الأمم السالفة وسنن الرسل والأنبياء السابقين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( )أي قد أنعم الله عز وجل عليكم بالإنتفاع من سيرة الأنبياء وما أوحاه الله عز وجل لهم وصبرهم في دعوة قومهم إلى الله ، وتلقيهم الأذى والصدود منهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
السادس عشر : وأنتم الأعلون والنبي محمد صلى الله وآله وسلم بين ظهرانيكم وحتى عندما يغادركم فانكم تبقون بذات المرتبة ، وهو من وجوه تفضيله على الأنبياء بأن أمته لا تترك مقامات الإيمان وأن مرتبة العلو بين الناس لا تهجرهم بعده فلم ينتقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عالم الآخرة إلا بعد أن أقام أمته في منازل العلو والرفعة بين الناس لذا[ ورد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله { اليوم أكملت لكم دينكم } يقول : حلالكم وحرامكم ، فلم ينزل بعد هذا حلال ولا حرام { وأتممت عليكم نعمتي } قال: منتي فلم يحج معكم مشرك { ورضيت } يقول : واخترت { لكم الإسلام ديناً } مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه الآية إحدى وثمانين يوماً ، ثم قبضه الله إليه] ( ).
السابع عشر : وأنتم الأعلون بسلامتكم من الإرتداد والإنقلاب إلى مفاهيم الجاهلية وأفعال أهل الأوثان ، ليتجلى قانون من قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) وهو سلامة الأمة الأعلون من الإرتداد إلى يوم القيامة .
الثامن عشر : عصمة المسلمين من الفرقة والإختلاف أثناء القتال ، وإن بذلو الوسع في تحصيل شرخ بينهم وفصلهم وإبعادهم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويوم أحد أرسل كفار قريش إلى الأنصار : خلو بيننا وبين ابن عمنا ، فننصرف عنكم ، فلا حاجة بنا إلى قتال( )، وفيه مقاصد لقريش خبيثة وهي أننا أبناء عمه ونقاتله ، فلماذا أنتم تنصرونه .
ولكن الأنصار ردوا عليهم بما يفيد ولاءهم وتبعيتهم وإخلاصهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأسمعوا كفار قريش ما يكرهون من غير خشية من حماسهم في القتال وسعيهم لإقتحام جيش المسلمين ، وإيذاء الأنصار خاصة ، وهذا الرد والتعدي للكفار من مصاديق قوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ].
التاسع عشر : من خصائص المسلمين وأهليتهم لنيل مرتبة(الأعلون) أنهم يتلقون النواهي من عند الله بحسن الإمتثال، وإجتناب ما نهى الله عز وجل عنه سواء جاء النهي صريحاً بأدوات النهي مثل(لا تفعلوا) أو بصيغة الجملة الخبرية أو الإستفهام الإنكاري، أو باستقراء النهي من الأمر بالفعل، سواء على القول بأن صيغة الأمر تلزم إيجاد الفعل والمنع من ضده بذات عين الأمر أو أنها لاتفيد هذا المنع، والثاني هو المختار في علم الأصول إلا مع القرينة .
وتتضمن آية البحث النهي عن الإرتداد ليأتي نعت المسلمين الخالد بأنهم (الأعلون) واقية حاضرة من هذا الإرتداد.
العشرون : وأنتم الأعلون لتلقيكم دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام بالقبول والتصديق، وصيرورتكم أسوة لأجيال المسلمين، وإستقبالكم نزول آيات القرآن بالقبول والتصديق، فمن خصائص القرآن من بين الكتب السماوية أنه لم ينزل دفعة واحدة بل نزل نجوماً، وتنزل الآية الواحدة أو آيات متعددة في يوم، وأخرى في يوم ثان، وهكذا ويتشوق المسلمون لهذا النزول، ويحرصون على إخبار بعضهم بعضاً بما أنزل من السور والآيات، ويقومون بتدارسها ويتدبرون في أسباب نزولها، ويستحضرون موضوع وشأن الآية.
وسبب النزول هو الواقعة والحدث الذي صار سبباً لنزول الآية
أما شأن النزول فهو الموضوع أو الحكم الذي تتناوله المضامين القدسية للآية، وقد يكون للآية سبب وشأن للنزول مجتمعين ، وقد لا يكون لها سبب نزول، ومن مصاديق جمعهما قوله تعالى[وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( )، فسبب النزول هو أن قيام الإمام علي والزهراء والحسن والحسين عليهم السلام وأمتهم فضة بالتصدق بطعام إفطارهم لثلاثة أيام متتالية بالتقسيم الذي تبينه الآية أعلاه والنصوص الواردة في كتب المسلمين، وأما شأن نزول الآية أعلاه فهو إصلاح المجتمعات وتهذيب الأخلاق، ونشر مفاهيم الإحسان والدعوة للإقتداء بأهل البيت.
الحادي والعشرون : تقدير الجمع بين آية البحث وآية السياق (وما محمد إلا رسول وأنتم الأعلون بالتصديق بنبوته) لأن مرتبة الأعلون معلقة على أمرين:
الأول : بعثة خاتمة النبيين، وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون معاني التلبية في الحج: لبيك اللهم بأن محمداً رسول قد خلت من قبله الرسل لبيك، لبيك موحدين مطيعين لك لا شريك لك لبيك.
الثاني والعشرون : لقد كان التصديق بنبوة محمد أمانة شرعية وأخلاقية من وجوه:
الأول : تلقي معجزات النبوة بالقبول والإيمان.
الثاني : أداء الفرائض والعبادات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : العزم على الصبر في حال السراء والضراء.
الرابع : الدفاع عن النبوة والإسلام بالنفوس والأموال، وليس من فترة تذكر بين دخول أهل البيت والصحابة الإسلام وبين تلقي الأذى والخروج إلى سوح القتال دفاعاً عن بيضة الإسلام وهو من أسرار إقتران الصبر بالأيمان.
الثالث والعشرون : من مصاديق قوله تعالى[وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] قتال المسلمين للكفار لجذبهم وغيرهم من الناس للإسلام، فإذا كان الكفار يقاتلون حمية وجهلاً وحباً للبقاء على الوثنية وعبادة الأصنام، فإن المسلمين يقاتلوهم لهدايتهم وطلب نجاتهم في النشأتين.
الرابع والعشرون : وأنتم الأعلون فأدعوا الناس للإسلام وأجعلوهم يرغبون بالإيمان وبالحكمة والبيان بأن مرتبة العلو والرفعة مقرونة به في الدنيا والآخرة، وهل هو من مصاديق الأمانة في قوله تعالى[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ]( )، الجواب لا دليل عليه، لأن القدر المتيقن من الآية حفظ المؤمن لدينه، وتعاهده للفرائض وثباته في مقامات الإيمان بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، وهذا الثبات حجة على الكفار، ودعوة متجددة لهم للإسلام، والكف عن الهجوم على ثغر الإسلام المدينة المنورة.
الخامس والعشرون : المسلمون هم الأعلون بقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو وظيفة الأنبياء أي أن المسلمين ورثوا هذا الأمر والنهي ونهضوا بأعبائه على نحو متوارث وإلى يوم القيامة لم تقعدهم عنه شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنتقاله مع الملأ الأعلى، بعد أن أقام صرح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصار جزء من حياة المسلمين اليومية مجتمعين ومتفرقين .
وعن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الإسلام عشرة أسهم ، وقد خاب من لا سهم له شهادة أن لا إله إلا الله، وهي الملة، والثانية الصلاة وهي الفطرة، والثالثة الزكاة وهي الطهور، والرابعة الصوم وهي الجنة، والخامسة الحج وهي الشريعة، والسادسة الجهاد وهي العروة، والسابعة الأمر بالمعروف وهو الوفاء، والثامنة النهي عن المنكر وهي الحجة، والتاسعة الجماعة وهي الألفة، والعاشرة الطاعة وهي العصمة)( ).
الخامس والعشرون : إن قوله تعالى(وأنتم الأعلون) دليل على أن ثواب الإيمان لا ينحصر بعالم الآخرة، فمنه ما يكون عاجلاً ومصاحباً للإيمان وطاعة الله ورسوله، وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض بأن يتنعم المؤمنون بالثواب، ويكون ترغيباً للناس بالإسلام، وهل هذا الثواب من فضل الله أم أنه جزاء عن إستحقاق ،الجواب هو الأول، ويمكن تقسيم فضل الله في المقام إلى أقسام:
الأول : الفضل الإلهي على الناس جميعاً، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ]( ).
الثاني : فضل الله عز وجل على المؤمنين خاصة جزاء وشكراً وتثبيتاً في منازل الهداية والرشاد، قال تعالى[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث : الفضل بالذات والواسطة، بأن يأتي فضل الله للمؤمنين فينتفع الناس جميعاً منه برشحات الإيمان التي لا تختص بحملته، ليكون من مصاديق مرتبة (الأعلون) تلقي المؤمنين الفضل الخاص بهم ومشاركتهم الفضل الذي يأتي للناس جميعاً، وإنتفاعهم من الفضل الذي يردهم بالأصل ويترشح على غيرهم.
السادس والعشرون : الشهادة من عند الله للمسلمين بأنهم الأعلون وعد كريم لمقامات الخلد في النعيم الأخروي بلحاظ أن هذا العلو يتقوم بالإيمان والتصديق بالأنبياء، ويدل قوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( )، على الثناء على المسلمين لأنهم تلقوا بالتصديق كلاً من:
الأول : نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول رب العالمين.
الثاني : المعجزات العقلية والحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله.
الثالث : نزول آيات القرآن وأن كل كلمة منها كلام الله ومن عهده وميثاقه.
الرابع : الإيمان بالأنبياء السابقين، وأنهم رسل الله عز وجل إلى عباده من الجن والأنس فلم ير المسلمون أحداً من الأنبياء غير رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبينه وبين عيسى عليه السلام نحو ستمائة سنة، ولكن جاءت آية البحث بالإخبار عن النبوات بقوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] فآمن المسلمون جميعاً بالأنبياء السابقين وشكروا لهم جهادهم وصبرهم في سبيل الله، وشدوا العزائم على إقتفاء أثرهم .
وقيل لعيسى عليه السلام: يا روح الله، هل بعد هذه الأُمة أُمة؟ قال : علماء حلماء حكماء، أبرار أتقياء، كأنهم من العلم أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل يدخلهم الجنة بشهادة أن لا اله إلاّ الله( ).
الخامس : تلقي إنباء آية البحث عن وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مغادراً للمسلمين ومهاجراًَ عن الدنيا بالتصديق بعد أن قامت دولة التوحيد في الأرض، نعم هذه الدولة ليس الأولى في الأرض فقد أقام عدد من الأنبياء حكم الإسلام في الأرض كما في موسى وداود وسليمان ،وينفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان حكم الإسلام الذي أقامه باق في الأرض إلى يوم القيامة وهو من معاني قوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ].
السابع والعشرون : قد تقدم أن المسلمين هم الأعلون في الدنيا والآخرة ، لأصالة الإطلاق في اللفظ القرآني إلا مع وجود قيد في البين .
ومن خصائص هذه المرتبة أنها مرأة ومقدمة لمنزلة المسلمين في الآخرة ، إذ يفوزون باللبث الدائم في النعيم [عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأُمم حتى تدخلها أُمتي] ( ).
الثامن والعشرون :تشهد تلاوة المسلمين لكل آية من القرآن بأنهم الأعلون ،وتلك آية في خلافة الإنسان في الأرض بأن تتعاهد [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )تلاوة آيات التنزيل والعمل بأحكامها وسننها .
فمن خصائص الخلافة أنها أمانة تتقوم بحفظ وتلاوة آيات التنزيل سواء بوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني الأمة أم بعد رحيله عن الدنيا فتنقطع النبوة ولكن التنزيل باق برسمه وموضوعه بما يكفي لحاجات الناس في أمور الدين والدنيا ، وهو من مصاديق قوله تعالى في وصف القرآن [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( )بلحاظ مسائل :
الأولى : كفاية البيان القرآني للناس مانع من الإختلاف والخصومة والنزاع .
الثانية : القرآن بيان في كل زمان ومكان ، وفيه ترغيب للناس بالرجوع إليه ، والصدور عنه .
الثالثة : يتضمن ذكر الآية بأن القرآن بيان للناس جميعاً الدلالة على أنهم شرع سواء في تلقي آيات القرآن والإنتفاع منها ، فالقرآن كالمطر الذي يصيب الأرض ينتفع منه البر والفاجر [قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ثلاثٌ لا يُمْنَعْنَ: الماء والكلأ والنار]( ) وورد الحديث الأشهر بتقييد الشركة بالإسلام [عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: المسلمون شركاء في ثلاث : في النار والماء والكلأ وثمنه حرام]( ).
وأنزل القرآن ليكون الناس في بيانه شرعاً سواء ، لا يحجب عنهم ، ولا يطلب منهم ثمن لمعرفة معانيه .
صلة [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]بهذه الآية
وفيها مسائل :
الأولى :إتحاد لغة الخطاب في الآيتين بتوجه كل واحدة منهما إلى المسلمين ، ذكرت خاتمة آية السياق المؤمنين باللفظ والتعيين والمراد الذين آمنوا بالله وصدّقوا برسوله وبالقرآن كتاباً سماوياً من عند الله ، وهل يكفي التصديق القلبي واللساني أم لا بد من العمل بأحكام وسنن القرآن.
الجواب هو الثاني لذا تضمنت آية البحث النهي عن الإنقلاب لأنه ضد للإيمان ولا يجتمع معه.
الثانية : بيان التباين بين الناس في موضوع التصديق بالإنبياء من وجوه:
الأول : الذين يصدّقون بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي ، وهم المسلمون بدلالة هذه الآية التي ذكرت الرسل بصيغة جمع التكسير وإرادة الإطلاق والكثرة في عددهم.
الثاني : الذين يؤمنون بعدد وشطر من الإنبياء دون غيرهم.
الثالث : الذين يقفون عند رسول مخصوص فلا يؤمنون بالذي بعده.
الرابع : الكفار الذين لا يؤمنون بالنبوات والرسالات من عند الله.
ليكون في قوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله عز وجل .
الثاني : النبي محمد خاتم النبيين ،وقد توارث الأنبياء البشارة بنبوته والدعوة إلى إتباعه ونصرته [ وأخرج الأزرقي والبيهقي في شعب الإِيمان عن وهب بن منبه « أن آدم لما أهبط إلى الأرض استوحش فيها لما رأى من سعتها ، ولم ير فيها أحداً غيره فقال : يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري؟! قال الله : إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي ، وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري فيسبح فيها خلقي ، وسأبوّئك فيها بيتاً أختاره لنفسي ، وأخصه بكرامتي ، وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي ، واسميه بيتي ، أنطقه بعظمتي ، وأحوزه بحرمتي ، واجعله أحق البيوت كلها ، وأولاها بذكري ، وأضعه في البقعة المباركة التي اخترت لنفسي ، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض ، وقبل ذلك قد كان بغيتي فهو صفوتي من البيوت ولست أسكنه.
وليس ينبغي أن أسكن البيوت ، ولا ينبغي لها أن تحملني ، اجعل ذلك البيت لك ومن بعدك حرماً وأمنا ، احرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله ، حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي ، ومن أجله فقد أباح حرمتي ، من أمن أهله استوجب بذلك أماني ، ومن أخافهم فقد أخفرني في ذمتي ، ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني ، ومن تهاون به صغر عندي ولكل ملك حيازة.
وبطن مكة حوزتي التي اخترت لنفسي دون خلقي ، فأنا الله ذو بكة ، أهلها خفرتي وجيران بيتي ، وعمارها وزوّارها وفدي وأضيافي وضماني وذمتي وجواري،
أجعله أول بيت وضع للناس ، وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض يأتونه أفواجاً شعثاً غبراً على كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، يعجون بالتكبير عجيجاً ، يرجون بالتلبية رجيجاً،
فمن اعتمره وحق الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وزوّاره ، وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته تعمره يا آدم ما كنت حياً ، ثم يعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء من ولدك ، أمة بعد أمة، وقرناً بعد قرن ، ونبياً بعد نبي،
حتى ينتهي ذلك إلى نبي من ولدك يقال له محمد وهو خاتم النبيين ، فاجعله من عماره وسكانه وحماته وولاته وحجابه وسقاته ، يكون أميني عليه ما كان حياً ، فإذا انقلب إليّ وجدني قد ادخرت له من أجره ونصيبه ما يتمكن به من القربة إلي والوسيلة عندي ، وأفضل المنازل في دار المقامة .
وأجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وسناه مكرمة لنبي من ولدك يكون قبيل هذا النبي وهو أبوه يقال له إبراهيم ، أرفع له قواعده ، وأقضي على يديه عمارته ، وأنيط له سقايته ، وأريه حله وحرمه ومواقفه ، وأعلمه مشاعره ومناسكه ، واجعله أمة واحدة قانتاً بأمري داعياً إلى سبيلي ، واجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم . أبتليه فيصبر ، وأعافيه فيشكر ، وآمره فيفعل ، وينذر لي فيفي ، ويعدني فينجز ، أستجيب دعوته في ولده وذريته من بعده ، وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وحماته وسقاته وخدمه وخزنته وحجابه ، حتى يبتدعوا ويغيروا ويبدلوا .
فإذا فعلوا ذلك فأنا أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء، وأجعل إبراهيم أما ذلك وأهل تلك الشريعة ، يأتمُّ به إمام من حضر تلك المواطن من جميع الإِنس والجن ، يطأون فيها آثاره ، ويتبعون فيها سنته، ويقتدون فيها بهديه ، فمن فعل ذلك منهم أوفى بنذره ، واستكمل نسكه ، وأصاب بغيته ، ومن لم يفعل ذلك منهم ضيع نسكه ، وأخطأ بغيته ، ولم يوف بنذره . فمن سأل عني يومئذ في تلك المواطن أين أنا؟ فأنا مع الشعث الغبر الموبقين الموفين بنذرهم ، المستكملين مناسكهم ، المتبتلين إلى ربهم الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون . وأخرجه الجندي عن عكرمة ووهب بن منبه رفعاه إلى ابن عباس بمثله سواء] ( ).
الثالث : التصديق بالإنبياء والرسل وما جاءوا به من المعجزات والبينات الباهرات التي تتحدى الناس كلاً ببرهانه الملائم لأهل زمانه والأمور التي يولونها العناية والإهتمام ومنهم من كانت معجزته متحدة ولكنها تتجلى كل يوم للناس بما لا يدخل معها الشك والريب بأنها من عند الله مثل سفينة نوح وناقة صالح ، ومنهم ما كانت معجزته متعددة مثل موسى عليه السلام، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]( )، ومعجزات نبي الله سليمان ومعجزات عيسى عليه السلام بقوله تعالى [أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ]( ).
أي مع عدم الإيمان تتلقون المعجزة بالصدود والتكذيب .
الرابع : تعاقب الرسل من عند الله عز وجل ،وهو المستقرأ من قوله تعالى في وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ].
الخامس :التسليم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يغادر الدنيا إلى عالم الآخرة .
الثالثة : لقد جاء القرآن ببعث المسلمين على طلب العفو والمغفرة من عند الله والمسارعة في فعل الخيرات ليكون مثواهم الإقامة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين في جنة الخلد ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وجاءت آية البحث بمخاطبة المسلمين بصيغة التقوى والخشية من الله عز وجل بعطف الآية على نداء التكريم [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] ( )وما فيه من التشريف المركب من الشهادة للمسلمين بصفة الإيمان ، وعن النهي عن الفعل القبيح وهو الربا مع أنه ليس في باب العقائد والأخلاق إنما في المعاملات التجارية والمكاسب التي تترشح عن العقيدة والمبدأ.
وكما جاءت هذه الآية التي تتصف بالعطف والتداخل الموضوعي بينها بحرف العطف الواو بالنهي والأمر، فإنها تضمنت الإخبار المتعدد، ومنه الإخبار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لن يبقى معكم ولابد أن يرحل إلى عالم الآخرة كما رحل الرسل من قبله.
وإذ تجلى التقصير عند شطر من أتباع الأنبياء السابقين فان آية البحث تدعو المسلمين جميعاً إلى التنزه من التقصير في موضوع والعبادة وهو علة خلق الإنس والجن وعمارة الإنسان للأرض وتسخير الموجودات له بفضل ولطف من عند الله، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) بأن تتعاهد أمة من أهل الأرض عبادة الله في الأرض وأن فارقها رسولها إلى عالم الآخرة ولا يختص هذا التعاهد والمفارقة بخصوص طبقة الصحابة وأهل البيت بل هو أمر متجدد في كل زمان ومع كل جيل لذا جاء النداء بصيغة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]( ) ليتغشى كل جيل من المسلمين وهو الذي يتجلى بتلاوة المسلمين لآية البحث في هذا الزمان وكل أفراد الزمان وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غادرهم اليوم من جهات:
الأولى : تلقي كل طبقة من المسلمين سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية بالقبول والإمتثال.
الثانية : تلاوة آية البحث وتضمنها لنبأ مغادرة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى جوار ربه.
الثالثة : دلالة آية البحث على إستيفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوظائف الرسالة.
الرابعة : بقاء آيات القرآن غضة حية طرية، ويدرك المسلمون في كل زمان معانيها ودلالاتها وكأنها أُنزلت في زمانهم وأن الله عز وجل ينذرهم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم له أجل يفارق به الدنيا كحال الأنبياء السابقين .
الخامسة : تعاهد المسلمين لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعبادته ، وحرصهم على أدائها تامة كاملة من غير نقص أو تغيير.
تضمنت آية البحث نهي المسلمين عن الإنقلاب، وهذا الإنقلاب أمر قبيح يكون كالمعول في صرح الإيمان ، فضرر الذي يرتد لا ينحصر به بالذات بل يضر الغير بخصوص العمل بأحكامه وسننه، لذا جاءت خاتمة الآية بالإخبار بقوله تعالى [وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا]( ).
فلم تقل الآية (فلن يضر إلا نفسه) كما في باب إنحصار ضلالة أهل الجحود بأنفسهم ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
وهل تدفع هذه الآية ضرر المرتد عن غيره من الناس براً أو فاجراً ،الجواب نعم لما فيها من التحذير من الإرتداد وبعث النفرة في النفوس من صاحبه .
إن قوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]حث على تعاهد الإيمان وإجتناب الإنقلاب والإنصراف عن التقيد بأحكام الشريعة التي هي من مصاديق الإيمان.
ونعت المسلمين بالمؤمنين بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : إيمان المسلمين بأن القرآن كتاب نازل من عند الله وكلامه الذي نزل به جبرئيل عليه السلام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه حق وصدق .
الثاني : التصديق بأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله ينطق بالوحي ويخبر عن الله عز وجل وفي التنزيل[قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ]( ).
الثالث : تعاقب بعث الأنبياء والرسل من عند الله على الناس ،بأن يتفضل فيوحي إلى بعضهم ليرتقوا إلى مرتبة الرسالة والوساطة بين الله عز وجل والبشر ،وفيه حرز وسلامة من تكذيب الكفار لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحجة عليهم.
الرابع : مجئ الموت على الرسل السابقين مع كثرة عددهم إبتداءً من آدم عليه السلام .
الخامس : إتحاد سنخية البشر بين الأنبياء وعموم الناس مما يترشح عنه قهراً وإنطباقاً مغادرتهم الدنيا بالموت أو القتل .
السادس : الإيمان بمجئ الموت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واقية من الغلو والإفتتان، ومن النكوص والإرتداد.
السابع : الإيمان بأن الإسلام إرتقاء وسمو ورفعة وفيه تنزه عن مفاهيم الشرك والضلالة ، وهذا الإيمان وسيلة للنجاة من الإرتداد عند فقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : الإيمان بأن الله عز وجل هو القوي الذي لا يضره فعل الخلائق وحصول إرتداد قوم ، وفي التنزيل[وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
التاسع : الإيمان بعالم الحساب والجزاء ، وأن الله عز وجل يجازي المؤمنين بالثواب بالنعيم الدائم ، لتكون آيات الجنان ووصف النعيم الأخروي برزخاً دون الإنقلاب والإرتداد [وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أَلاَ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لاَ خَطَرَ لَهَا هِىَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلأْلأُ وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِى مَقَامٍ أَبَدًا فِى حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ فِى دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ]( ).
العاشر : يؤمن المسلمون بأن الرسل السابقين قاموا بالتبليغ وإجتهدوا في البشارة والإنذار، وحاربوا الظلم وفضحوا مفاهيم الكفر، وجاءت آجالهم، فغادروا بسلام.
الحادي عشر : إيمان المسلمين واقية من الإنقلاب والتهاون في الفرائض، وبرزخ دون النفاق.
الثاني عشر : فوز المسلمين بالجزاء الكريم من عند الله عز وجل لإقامتهم في مواطن الشكر والحمد لله عز وجل، فلا غرابة أن يتلوا المسلم كل يوم عدة مرات قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وعلى نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية، وإتيان الحمد بهيئة الجماعة والتعدد والخشوع لله في صلاة الجماعة، وتكون الصلة بين خاتمتي الآيتين:
الكبرى : الشاكرون يجازيهم الله بالثواب.
الصغرى : المسلمون هم الشاكرون.
النتيجة : المسلمون يجازيهم الله بالثواب.
ومن إعجاز القرآن أن آية السياق تخاطب المسلمين بصيغة الشرط (ان كنتم مؤمنين) وتعليق أفعال مخصوصة على الإيمان كما في آية السياق إذ أنها تذكر ثلاثة نواهي خاصة بالمؤمنين هي:
الأول : النهي عن الوهن والضعف على نحو الإطلاق ومختلف الأحوال منها:
الأولى : حال الحرب وملاقاة الأعداء، خاصة وأن شأن آية السياق والبحث هو معركة أحد، ولكن موضوعها أعم وهو متجدد إلى يوم القيامة.
الثانية : التنزه عن الوهن في رصد العدو، والكشف عن نواياه ومقاصده الخبيثة لأن معرفتها سبيل للنجاة من غدره ومكره.
الثالثة : إجتناب التكاسل في أداء الوظائف العبادية، ومنها أداء الصلاة لذا ورد قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ]( ).
الرابعة : إجتناب الوهن عند إتخاذ قرار الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن والثغور، لذا قال الله تعالى[فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الخامسة : الوهن في حال السلم وعند مناجاة المؤمنين في المساجد والمنتديات وفي الحضر والسفر، وعند الجدال والإحتجاج على الناس بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباعه، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
السادسة : عدم الوهن مع المنافقين في حال حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد مغادرته الدنيا إلى جنات الخلد، فمن خصائص المنافقين إخفاء الكفر مع إظهار الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون وفاته مناسبة للكشف عن بواطنهم وخبث ما في نفوسهم ظناً منهم أن الوهن والضعف يصيب المسلمين، فجاءت آية البحث لأمور:
الأول : المنع من شماتة المنافقين عند رحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : زجر المنافقين عن إظهار الجحود والكفر الذي يخفون.
الثالث : طرد الوهن الذي عند المنافقين وتمنيهم وهن المسلمين عند غياب خاتم النبيين .
الرابع : حث المؤمنين على لزوم الوحدة والتألف بينهم عند إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وهو من الإعجاز في قانون الأخوة الإيمانية بين المهاجرين والأنصار .
الخامس : دعوة المنافقين للتوبة والإنابة لأن إسقاط ما في أيديهم بثبات المؤمنين في منازل الإيمان بعد مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة لغلبة الإيمان الظاهري على الكفر الباطني عندهم أو عند شطر منهم.
السادس : سلامة المؤمنين من ضروب الإنقلاب والإرتداد وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لازال حاضراً بينهم لوجود القرآن وسنة، ولأن الإسلام حق، والفرائض العبادية واجب من عند الله ورحمة بالناس في النشأتين.
السابعة : عدم الوهن في أداء العبادات والمناسك، والتقييد بالسنن التي جاء بها رسول الله، لأن الوهن فيها من مصاديق الإنقلاب الذي نهت عنه آية البحث، لبيان أن الوهن في باب من الواجبات قد يؤدي إلى التسامح والتهاون في التقيد بالنواهي، ليكون من خصائص آية البحث ونهيها عن الإنقلاب مطلقاً بقاء صيغة التكامل في الإسلام وعدم طرو النقص والخلل في العبادات والمناسك.
الثاني : تعقب النهي عن الحزن والكآبة للمنع من الوهن والضعف , ومن الإعجاز في الآية أن الوهن يؤدي إلى الحزن، وأسبابه، وأن الحزن يؤدي إلى الوهن وأسبابه من غير أن يلزم الدور بينهما.
الثالث : النهي عن إجتماع الوهن والحزن، وتكون الواو في(ولا تحزنوا) واو الجمع.
لذا جاءت آية البحث بالزحر عن الإنقلاب للنهي عن إجتماعهما عند وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد يؤدي هذا الإجتماع إلى إنقلاب طائفة ، أوتقصير عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد وحملهم على العودة من هذا الإنقلاب وقد تجلت منافع النهي عن الوهن والحزن بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسلامة الصحابة من الإرتداد، ومحاربتهم للذين إرتدوا، وما فيها من إنزجار للناس جميعاً عن محاكاة أهل الردة وأتباع مسيلمة الكذاب وطليحة بن خويلد وسجاح بنت المنذر التي تابت وأعلنت إسلامها وسكنت البصرة حتى ماتت.
إعجاز الآية
تتضمن آية البحث الشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمور:
الأول : إنه رسول من عند الله عز وجل.
الثاني : تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما أنزل إليه من غير تغيير ولا تبديل فالآية تتكلم عنه وكأنه غائب ، وهل هذه الصيغة مقدمة وتوطئة لرحيله وإشعاراً بقربه الجواب نعم ، وهو من إعجاز الآية وتلاوتها في كل زمان .
الثاني : إتحاد السنخية بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرسل السابقين بلحاظ الوحي والتنزيل.
ولو قالت الآية(وما محمد إلا نبي قد خلت من قبله الأنبياء) لكان صحيحاً، ولأن المقام في التشبيه بين الرسل وبما يترشح عنه المقارنة وإرادة المثلية والتفضيل والفرد الأكمل ذكرت الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسول.
وبين الرسول والنبي عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي وليس العكس، ومع أن ظاهر الآية هو التساوي بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرسل السابقين إلا أن التدبر في الآية يفيد وجود المائز والراجح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ مسائل:
الأولى : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول الحي الذي يلجأ إليه الناس، ويصدرون عنه في الأحكام الشرعية.
الثانية : حضور معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس.
الثالثة : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية ومعجزات الأنبياء السابقين حسية ،ومن خصائص الأولى أنها باقية ومتجددة ولا تختص بمكان وزمان دون غيرهما من أرض الله الواسعة وأفراد الزمان اللامتناهية.
الرابعة : بقاء معجزات الأنبياء بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي بأنباء هذه المعجزات وهو من مصاديق قوله تعالى[فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( )، وتتضمن الآية أعلاه وجوهاً:
الأول : دعوة المسلمين للإنصات إلى قصص الأنبياء التي ترد في القرآن، وفي السنة النبوية، بلحاظ أن إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أحوال الأنبياء السابقين في سنته القولية من عمومات الوحي.
الثاني : فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقصص الأنبياء بما يكون عوناً للمسلمين والمسلمات في حياتهم الإيمانية ، وتعضيداً لهم في صبرهم، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) ( )، لبيان أن السنة من الوحي.
الثالث : حث الناس على إتخاذ قصص الأنبياء عبرة وموعظة ومناسبة لإقتباس الدروس.
الرابع : موضوعية قصص الأمم السالفة في إصلاح المجتمعات.
الثانية : سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على معجزات الأنبياء لإتحاد السنخية ووجوه الشبه في سيرة الأنبياء، لذا قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( )، بلحاظ أن هدى وسنة الأنبياء نور واحد.
الثالثة : تسليم المسلمين جميعاً بمعجزات الأنبياء السابقين للملازمة بين النبوة والمعجزة.
الرابعة : توثيق المسلمين لقصص الأنبياء بتعاهدهم لتلاوة القرآن وهو من مصاديق سلامته من التحريف والتغيير والتبديل لأن قصص الأنبياء الواردة فيه معلومة عندهم بالنص والرسم.
وتتضمن الآية نعي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وفي هذا النص وجوه:
الأول : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يرد خبر وفاته في القرآن.
الثاني : بيان الموضوعية والنفع العظيم لوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين، وحياً بين الناس,
الثالث : الإخبار عن حتمية إنقطاع الوحي والتنزيل بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا.
الرابع : منع الناس من الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا حي دائم إلا الله عز وجل ، وفي التنزيل [ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( ).
الخامس : صيرورة وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موعظة للناس .
السادس : زجر المسلمين عن الإرتداد بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وهذا الزجر هو موضوع آية البحث الذي يتضمنه منطوقها .
ومن الإعجاز الغيري لآية البحث أنها باعث سماوي لعودة المسلمين إلى ميدان المعركة يوم أحد ونجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد الكفار وعزمهم على قتله بلحاظ أمور :
الأول : من غايات الكفار حين خروجهم من مكة للقتال عزمهم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : شدة أهوال القتال يوم أحد .
الثالث : إقتراب العدو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حومة ووسط القتال لموقفهم ، وصيرورته في مرمى الحجر وليس النبال والسهام وحدها ، ومن الآيات إصابته بالجراحات ، ودخوله المدينة المنورة والدماء تسيل من وجهه ، وقد سقطت أسنانه الأمامية [عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما انكشف عنه أصحابه يوم أحد ، كسرت رباعيته وجرح وجهه فقال وهو يصعد على أحد « كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله مكانه { ليس لك من الأمر شيء } الآية] ( ).
الرابع: ترك افراد وطوائف من المسلمين لمواقعهم في ميدان المعركة ، مما أطمع الكفار فيهم .
الخامس : كثرة القتلى من المسلمين خاصة بلحاظ قلة عددهم مقابل المشركين فكان عدد المسلمين يومئذ سبعمائة وقتل منهم عشرهم ، أي سقط سبعون شهيداً خصوصاً وأنهم كانوا يتصفون بالإقدام والشجاعة والمبارزة ، وقتلوا مقبلين غير مدبرين مثل حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وغيرهما( ).[وقاتل حمزة بن عبدالمطلب حتى قتل ارطاة بنشر حبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وكان احد النفر الذين يحملون اللواء ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشانى فقال له هلم يا ابن مقطعة البظور.
وكانت أمه ختانة بمكة فلما التقيا ضربه حمزة فقتله قال وحشى غلام جبير بن مطعم والله انى لانظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه فما يليق شيئا مثل الجمل الاورق إذ تقدم إليه سباع بن عبدالعزى فضربه ضربة فكانما اخطأ رأسه وهززت خربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه فاقبل نحوى فغلب فوقع فامهلته حتى إذ مات جئته فأخذت حربتى ثم تنحيت إلى العسكر ولم يكن لى بشئ حاجة غيره]( ).
الخامس : عودة المسلمين إلى القتال واقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودفع المشركين عنه ليكون في مأمن من رمي الحجارة وتطاول السيوف .
السادس : عندما رجع المسلمون إلى المعركة أخذ الكفار بالتزحزح عن وسط الميدان وإختاروا الإنسحاب منها وإذا كانت بعض طوائف المسلمين همت بالجبن والخور ولم تنسحب بدلالة قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ).
فإن الآية أعلاه تتضمن الشهادة لهم بعدم الإنهزام فان الكفار حينما رجع المسلمون إلى ميدان القتال وحمى الوطيس إنهزموا وجمعوا فلولهم ليتجلى المائز بين المؤمنين والكفار فليس من ولي لهم ، قال تعالى [وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] ( )لبيان قانون كلي في التباين بين المؤمنين والكفار في ميدان المعركة من جهات :
الأولى : تمني المؤمنين القتل وإعلانهم الشوق للقاء الله ، وإظهار الكفار حبهم للدنيا وزينتها .
الثانية : قتال الكفار على الباطل وإرادة إستدامة الفساد في الأرض وقتال المؤمنين لإعلاء كلمة التوحيد ونصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : ولاية ونصرة الله عز وجل للمؤمنين ، وإنعدام الناصر للكافرين، ومن مصاديق إنعدام الناصر للكفار نزول البلاء بهم أثناء القتال وبعده[وعن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر أن الذى رمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأحد فجرحه في وجهه قال لما رماه فأصابه خذها وأنا ابن قمئة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقماك الله عز وجل، قال ابن جابر انصرف ابن قمئة من ذلك اليوم إلى أهله فخرج إلى غنمه فوافاها على ذروة جبل فأخذ فيها يعترض عليها ويشد عليه تيسها فنطحه نطحة ارداه من شاهقة الجبل فتقطع] ( ).
الرابعة : دفاع المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبذلهم النفوس من أجل سلامته وهو الذي تجلى بأبهى وثائقه في معركة أحد( )، ولا يسعى الكافر إلا لنجاة نفسه وهو من أسباب مبادرتهم إلى الإنسحاب والهزيمة .
ومن إعجاز تسمية معركة بدر (يوم الفرقان) هو التفريق والفصل بين الكفار والنصر، فمن ساعة نشوب معركة بدر تجافي النصر عن الكفار وصارت نوع بينونة بينها، ويدل عليه الواقع وتأريخ المعارك بينهم وبين المسلمين، ليكون تسمية معركة بدر بـ(يوم الفرقان) بارة مستديمة ومتجددة إلى يوم القيامة، فان قلت إن لفظ الفرقان في الآية أعلاه مطلق ولا يدل على رجحان كفة أحد الطرفين والجواب جاءت آيات القرآن بالبيان والتفصيل قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، والتقدير : ولقد نصركم الله يوم الفرقان، وذات الفرقان ترجيح للحق ببيان حسنه وفضح للباطل ببيان قبحه.
ليستمر موضوع وأثر ومصداق وشيبة هذا النصر إلى يوم القيامة، وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، فالنصر مصاحب له ولأمته لأن الله عز وجل فرّق بينهم وبين الهزيمة، وفرق بين الكفار وبين النصر.
وعن أبي أمامة: فضلت على الأنبياء بأربع : أرسلت إلى الناس كافة، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً، فأينما رجل أدركه من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره، ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي ، وأحل لنا الغنائم ( ).
ويمكن تسمية هذه الآية آية [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ] ( )وورد اسم [مُحَمَّدٌ] في القرآن أربع مرات وكلها تخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرد لفظ [وَمَا مُحَمَّدٌ] إلا في هذه الآية وتشهد هذه الآيات الأربعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة من عند الله ، ومنها قوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] ( ) والذي يتضمن البشارة بسلامة المؤمنين من الإنقلاب أو التراخي في أحكام الشريعة.
وورد [إِلاَّ رَسُولٌ] مرتين في القرآن والثانية جاءت بخصوص عيسى عليه السلام وفي ذات موضوع آية البحث ، قال تعالى [مَا الْمَسِيحُ ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ] ( ).
مفهوم الآية
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على ذم الكفار وأنهم مقيمون في مستنقع الضلالة ، مرتدون على أعقابهم ، إذ أنها إنذار من إنقلاب المسلم من مرضاة الله إلى منازل سخطه وغضبه، وفيه شاهد على إثم الكفار من جهات :
الأولى : تلبس الكفار بالشرك، وإصرارهم على الضلالة.
الثانية :صيرورة الكفار فئة يرجع إليها المرتد .
الثالثة : محاولة الكفار والمنافقين إغراء المؤمنين بترك سنن الإيمان .
من إعجاز آية البحث أنها تدعو الناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإخبار عن موته، إذ تنفي الغلو في شخصه وتبين أنه يخبر عن نفسه بأمور ليس من عنده، وفيها نبأ موته أو قتله وهو في أعلى مراتب العز إذ يحيط به أهل بيته وأصحابه وهم يضحون بأنفسهم دونه ويتبعونه في أمور الدين بينما هو ينعى نفسه بآية من التنزيل ، ليكون هذا النعي سلامة لهم في الدنيا والآخرة، ونجاة لهم من الإنقلاب إلى أيام الوثنية.
ويبين قوله تعالى [انْقَلَبْتُمْ]التباين والتضاد بين الإيمان والكفر، بين حال الهدى والصلاح والتقوى التي ترسخت عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحال الذل والجهالة والوثنية التي كان عليها الناس قبل بعثته ، فاراد الله عز وجل تفقه المسلمين بالدين بتعاهد حال الهدى والصلاح التي هم عليها ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن فارقهم إلى الآخرة وأن الإيمان والهدى هو الأصل في حياة الناس ، وهو علة خلقهم أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي أرجعتهم إلى سبيل الهداية فليس من سبب أو علة لمغادرتهم له ، لأن النبي محمداُ صلى الله عليه وآله وسلم رسول جاء بسبل الهداية من عند الله، وحينما يغادر الرسول فان موضوع الرسالة باق على حاله، وفي التنزيل [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ]( ).
فكل إنسان تنتهي حياته بالموت، والله عز وجل دائم أزلي أبدي يتصف سبحانه بالقيمومة على الخلائق، وبيده مقاليد الأمور كلها وهو الذي يتفضل على المسلمين فيدفع عنهم الإنقلاب وأضراره ويتجلى هذا الدفع في آية البحث ، فمع أنها تتضمن النهي عن الإنقلاب فانها تخبر عن عدم وقوعه على نحو السالبة الكلية من جهات :
الأولى : ورود النهي بصيغة الإستفهام الإنكاري والتساؤل الذي يبعث على اليقظة والفطنة وإجتناب موضوع الإنكار .
الثانية : بقاء موضوع الرسالة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أيدي المسلمين ، والتي تتجلى بآيات وسور القرآن وأحكام الشريعة وسنن الفرائض .
الثالثة : من خصائص خلافة الإنسان في الأرض أن الرسول يأتي بالبلاغ ومضامين البشارة والإنذار ثم يرحل إلى مقامات الخلد ليبقى ما أرسل بين الناس فجاءت آية البحث لتحذر المسلمين من النكوص عن موضوع الرسالة .
الرابعة : ورد التحذير في الآية بصيغة الجمع في الخطاب [انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]بينما جاء الإخبار عن حصول الإنقلاب على نحو القضية الشخصية وصيغة الإستفهام [وَمَنْ يَنْقَلِبْ]وفيه بشارة ببقاء عامة المسلمين بأمن وسلامة من الإنقلاب والإرتداد وكأن الآية تنبأ عن إرتداد طائفة من المسلمين ، وتدعو المسلمين للتصدي لهذا الإرتداد وعدم التهاون معهم .
وتتكلم الآية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة وليس النبوة وحدها ، لبيان أنه مبعوث للناس جميعاً وأنه جاء بالبينات والدلالات الواضحات التي تؤكد صدق رسالته فهو لم يبعث نبياً على نهج وشريعة الرسول السابق له وهو عيسى عليه السلام.
وصحيح أن الآيات جاءت بالإخبار عن إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لملة إبراهيم وأنه على الحنيفية وسنن التوحيد إلا أن آية البحث تجعل إبراهيم من الرسل الذين خلوا، يتضمن البيان الإجمالي لقوله تعالى[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ]( ) الجواب نعم.
الآية سلاح
ذكرت الآية اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه دعوة للمسلمين لإكرامهم والعناية بموضوع الآية وما فيها من تزكية له وشهادة له بالرسالة، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو على المسلمين الآية التي تذكر إسمه من غير إضافة أو نقيصة منه، ليس له إلا التبليغ والإخبار عما ينزل من السماء ، قال تعالى[فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
وكما أخبرت آية البحث عن وجوه الإلتقاء وإتحاد السنخيىة في النبوة بأختتام حياة الأنبياء بالموت والإنتقال إلى العالم الخر، وتضمنت ذكر مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو مستقل ثم ذكرت الآية الناس برحيل الأنبياء السابقين كيلا تكون حجة للمنافقين والذين في قلوبهم مرض فكذا بالنسبة للآية أعلاه، فقد أخبرت عن حصر وظيفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ.
وجاءت آية أخرى لتخبر عن تغشي قانون التبليغ رسالات السابقين بقوله تعالى [فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( )، وفيه شاهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف نعم ليس من حصر وتقييد للتبليغ بنهج مخصوص وعدم الحصر هذا من الإعجاز في الدعوة إلى الله.
ويبعث قوله تعالى[أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ]( ) المسلمين على حراسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه والحرص على سلامته من الإغتيال والقتل، وتجلى هذا الحرص بأبهى معانيه يوم أحد إذ وقف نفر من المسلمين يذبون عنه وسقطوا شهداء بين يديه.
وإشتركت الأنصاريات في الدفاع عنه ،وعن [أم سعد بنت سعد بن الربيع قالت: دخلت على أم عمارة فقلت: يا خالة أخبريني فقالت: خرجت يعني يوم أحد ومعي سقاء وفيه ماء فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكنت أباشر القتال وأذب عنهم بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور فقلت: من أصابك بهذا؟ قالت: بن قميئة]( ).
[وعن ابن عمر قال سمعت رسول الله ص يقول ما التفت يوم أحد يمينا وشمالا إلا وأراها تقاتل دوني][عن أنس بن مالك، أن المشركين لما رهقوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سبعة من الانصار ورجل من قريش، قال: من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ؟ فجاء رجل من الانصار فقاتل حتى قتل.
فلما رهقوه أيضا قال: من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ؟ حتى قتل السبعة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنصفنا أصحابنا]( ).
لتكون هذه المرأة النواة والأسوة لقتال المؤمنات عند الضرورة والحاجة للدفاع عن النفس ،إذ سايقن مسلمات من قريش الرجال في معركة اليرموك في السنة (13 هـ -634 م ) لقلة عدد المسلمين بالقياس إلى عدوهم إذ كان المسلمون ستة وثلاثين ألفاً بعد وصول خالد بن الوليد بجنوده وأختلف في عدد أفراد الجيش الذي يقاتلهم ، وذكر ابن اسحاق أنهم مائة الف ، وقيل مائة وعشرون الفاً ، وقيل مائتين وأربعين ألفاً ومنهم من أكثر في عددهم ، قال ابن خلدون [فكانت جيوش المسلمين بالقادسية واليرموك بضعاً وثلاثين ألفاً في كل معسكر، وجموع فارس مائة وعشرين ألفاً بالقادسية، وجموع هرقل على ما قاله الواقدي أربعمائة ألف، فلم يقف للعرب أحد من الجانبين، وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم] ( ) من أجناس مختلفة ، وكان قائدهم ماهان ملك أرمينيا على رأس جيش ارمني ومعد قناطير (امير روسي ) مع جنده من الروس ، وجبلة بن الأيهم ملك الغساسنة ومعه جيش من نصارى العرب وغيرهم .
وتقيد المسلمون بقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته بعدم البدء بالقتال وتناجوا بينهم بالصبر فزحف الروم وسجلت ملاحم وتداخل جيش المسلمين لشدة وشراسة هجوم العدو، فاختلفت الميمنة بالقلب ، وإنهزم كثير من الجند ، وكانت النساء في مؤخرة الجيش يرمين من ينكسر ويرجع عليهن بالحجارة مع التوبيخ والحث على الرجوع للقتال.
وهل إنتفع المسلمون يوم اليرموك مثلاً من قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ] ( ).
الجواب نعم ، فمن إنهزم رجع للقتال ولم يدبر على وجهه فنصر الله المؤمنين ونزلت ملائكة لنصرتهم بعد ان تطايرت الأيدي كما يثار الغبار في المعركة وسقط آلاف القتلى.
عن سعد بن أبي وقاص قال رأيت يوم أحد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده يعني جبرئيل وميكائيل] ( ).
وفيه شاهد بأن الأنبياء قاتلوا يوم أحد ويتضمن أول آية البحث الإحتجاج على أهل الجحود من جهات :
الأولى : إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله عز وجل .
الثانية : بعث الرسل من عند الله قانون ثابت في الأرض أختتم ليبقى ، ويتجلى هذا البقاء بوراثة أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتنزيل والسنة حفظاً وعملاً .
الثالث : حتمية رحيل الأنبياء والرسل عن الدنيا لإتحاد سنخية البشر التي يلتقون فيها مع عموم الناس بإختتام حياتهم بالموت ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ).
لتقطع هذه الآية الطريق أمام المنافقين وأهل الشك والريب الذين قد يقولون : لو كان محمد رسولاً ما مات أو قتل .
ليكون من إعجاز آية البحث إصلاح المؤمنين للصبر والثبات في منازل الإيمان عند فقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكفايتهم شر أعداء الدين الذين ينتظرون نزول مصيبة بهم .
ومن إعجاز القرآن في المكان أن آية البحث سلاح حاضر عند المسلمين من وجوه :
الأول : قبل رحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عالم الآخرة .
الثاني : يوم وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث: بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
مع التباين في الأثر والتأثير في كل فرد من أفراد الزمان في موضوع الآية ليخرج المسلمون من هول المصيبة بسلامة في دينهم ،ووقاية من الإرتداد والنكوص ، وهذه السلامة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )بتقريب أن من مصاديق الرحمة في المقام عدم ترتب الضرر على مغادرته الدنيا سواء على المسلمين أو غيرهم ، فنزلت آية البحث للأمن من الضرر عند الأمر الحتم بوفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولتهيئته المسلمين لهذا المصاب الجلل بتعاهد أداء الفرائض والعبادات .
وتبعث الآية النفرة في النفوس من الإرتداد ، وتجعل المسلمين في أمن من النكوص والتفريط في الواجبات العبادية ، وصحيح أن موضوع الآية هو أوان غياب النبي عن الدنيا ، وإفتقادها بفقده إلى أمور :
الأول : مغادرة النبوة الأرض ،إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين .
الثاني : إنقطاع الوحي وأخبار ملكوت السماء .
الثالث: غلق باب التنزيل، فليس من آيات كلام الله تنزل إلى الأرض .
الرابع : توقف السنة النبوية القولية والفعلية .
الخامس : التحذير الوارد في آية البحث بخصوص الإنقلاب وأسبابه.
وهذا التعدد في النعم التي غادرت مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء السابقين ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
إذ يتحمل المسلمون أعباء المسؤليات العقائدية والأخلاقية في إصلاح أنفسهم للعبادة والإمامة في آن واحد ، فكما قال النبي (أتخذني الله عبداً قبل أن يتخذني نبياً).
فلذا فاز المسلمون بمرتبة العبودية لله على نحو الإنفراد والإجتماع قبل أن ينالوا مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ] لتقييدها بالتقوى والصلاح وإظهار أسمى معاني الخضوع والخشوع لله عز وجل وهل خروج المسلمين للناس بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذات المرتبة التي أظهروها من التقوى والآيات عندما كان بين ظهرانيهم الجواب نعم ، في الجملة وهو من وجوه بلوغهم مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) بلحاظ أنهم تمسكوا بالكتاب والسنة وصاروا ببركة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة للنبوة وجهاد الرسل في سبيل الله.
وتبين الآية قانوناً كلياً وهو أن الذين يرتدون عن الدين أو يتخلفون عن أداء الفرائض لا يضرون إلا أنفسهم، وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين وإخبار عن سلامة الدين بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى في ذم الكافرين[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
وجاءت الآية بصيغة التخويف والوعيد للزجر عن التهاون والتكاسل في أمور العقيدة والدين، لتأتي خاتمة الآية بالوعد الكريم على الصبر في مرضاة الله، وتعاهد أحكام الشريعة والوفاء للرسالة والتنزيل في جميع الأحوال بلحاظ أن فقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أشد المصائب على المسلمين فإذا سلموا معه من النكوص والإرتداد خفت عليهم ملاقاة المصائب الأخرى بل إن شطراً منها يمحى ويزول لأن الإرتداد والنكوص بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصيبة أخرى، ولكنها إختيارية ضارة وتراكم المصائب سبب للضعف والوهن سواء على الفرد أو الطائفة أو الأمة.
فجاءت آية البحث لطرد اليأس والقنوط من نفوس المسلمين عند فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وقد قام بالتبليغ وأدى الذي عليه ورحل إلى ربه بإتمام الرسالة ولم يغادر إلا وقد علا صرح الإيمان، وعرف المسلمون ما لهم وما عليهم، وبلغوا مرتبة الفقاهة والعلم، وصار منهم أمراء في الأمصار.
وهل الحكم بخلاف الكتاب والسنة من الإنقلاب الذي ذكرته آية البحث أم أنه أمر آخر مختلف موضوعاً وحكماً، الجواب هو الأول وهو من إعجاز آية البحث ومجيئها بمادة الإنقلاب التي تفيد العموم في النكوص والقصور والإرتداد، قال تعالى[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ]( ).
لقد كان الأمراء في الأمصار يرجعون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسائل التي تلاقيهم، وعند رحيله إلى جنان الخلد كانت ذخائر سماوية عند المسلمين تتقوم بأمرين:
الأول : آيات القرآن وما فيه من مسائل الحلال والحرام، قال تعالى في الثناء على نفسه بنزول القرآن وبيان إحاطة أحكام القرآن باللامتناهي من الوقائع والأحداث[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : السنة النبوية، وهي المصدر الثاني للتشريع، أي أنها ليست بعرض واحد مع القرآن بل تكون ثانية بالترتيب والبيان، وهي تفسير لآيات القرآن، وطريق مستقيم متفرع عن القرآن وحرز من الإنقلاب، سواء فالقول أو الفعل.
ومن مصاديق الإنقلاب في المقام تحريف آيات القرآن وتبديل معانيها بالذات وبلحاظ أن هذا التحريف من خيانة أمانة التنزيل التي قام بأعبائها المسلمون بمدد وعون من الله عز وجل.
أخرج البيهقي عن مجاهد قال لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر وقال مراده انهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به]( ).
ولكنه تقييد من غير قرينة ظاهرة ، بلحاظ مسائل :
الأولى : ورد كلام مجاهد مطلقاً ، من غير تقييد بمسألة معصية عدد من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم .
الثانية : من أهل البيت والصحابة من ثبت مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقاتل معه ودونه ، فيتحقق مصداق الصبر بهم لأن الله عز وجل يعطي بالقليل الكثير .
الثالثة : أستشهد سبعون من المسلمين ، وهو أبهى معاني الصبر والفداء .
الرابعة : لم يرد في هذه الآيات موضوع فرار المسلمين وعدم صبرهم ، بل ورد همّ طائفتين من المؤمنين فدفع الله عز وجل عنهم المصداق الفعلي لهذا الهمّ، والمدار في عالم الجزاء على الفعل وليس الهم.
الخامسة : نعتت الآيات المسلمين بالمؤمنين بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
السادسة : نفى مجاهد قتال الملائكة في كل معارك المسلمين عدا معركة بدر ، مما يدل على انه لم يجعل عدم الصبر علة لعدم قتالهم .
السابعة : إن مجاهد وعروة من التابعين .
وقال الواقدي عن شيوخه في قوله تعالى بلى ان تصبروا وتتقوا الآية قال لم يصبروا وانكشفوا فلم يمدوا أخرجه البيهقي
واخرج البيهقي عن عروة قال كان الله وعدهم على الصبر والتقوى ان يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وكان قد فعل فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة] ( ).
وكل من مجاهد وعروة( ) ليسا من الصحابة ولا خصوص الصحابة الذين حضروا وقائع معركة أحد [وأخرج الطبراني وابن مندة وابن عساكر من طريق محمود بن لبيد قال قال الحارث بن الصمة سألني النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وهو في الشعب عن عبد الرحمن بن عوف فقلت رأيته إلى جنب الجبل فقال إن الملائكة تقاتل معه قال الحارث فرجعت إلى عبد الرحمن فأجد بين يديه سبعة صرعى فقلت ظفرت يمينك أكل هؤلاء قتلت قال أما هذا وهذا فأنا قتلتهما وأما هؤلاء فقتلهم من لم أره فقلت صدق الله ورسوله] ( ).
ويدل الحديثان التاليان على حضور الملائكة في ساحة المعركة وقيامهم بأعانة المؤمنين حتى في غير أمور القتال [عن ابن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” إن صاحبكم لتغسله الملائكة ” ، يعني حنظلة، فسألوا أهله: ما شأنه؟ فسئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهائعة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لذلك غسلته الملائكة، وكفى بهذا شرفاً ومنزلةً عند الله تعالى ” .
ولما كان حنظلة يقاتل يوم أحد التقى هو وأبو سفيان بن حرب، فاستعلى عليه حنظلة وكاد يقتله، فأتاه شداد بن الأسود المعروف بابن شعوب الليثي، فأعانه على حنظلة، فخلص أبا سفيان، وقتل حنظلة، وقال أبو سفيان: الطويل:
ولو شئت نجتني كميت طمرة ولم أحمل النعماء لابن شعوب( ).
عن جابر بن عبد الله ان طلحة أصيبت انامله فقال حس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو ذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء( ).
إفاضات الآية
بدأت الآية بذكر اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خطاب للمسلمين وهم الذين إتبعوه ونصروه لتسليمهم بنبوته التي هي رحمة من عند الله وخير محض، وتملأ نفس كل واحد من المسلمين الغبطة والسعادة لفضل الله بنبوته ولنعمة التصديق بها ، قال تعالى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
ونهض أهل البيت والصحابة بمسؤوليات تأريخية إنفردوا بها من بين الأمم تتقوم بأمور :
الأول : أداء الصلوات اليومية .
الثاني : إتيان الزكاة وصيام شهر رمضان .
الثالث : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابع : تحمل أذى الكفار وأعداء الدين .
الخامس : الحيطة والإحتراز من المنافقين والسموم التي يبثونها.
السادس : أمور الحياة اليومية ومعيشة العيال .
السابع : الدفاع عن بيضة الإسلام وعن أنفسهم.
لقد كانت العصبية القبلية هي السائدة في الجزيرة وقد يخشى الإنسان على نفسه من الثأر والإنتقام بسبب قيام أحد أفراد القبيلة بقتل شخص من قبيلة أخرى فيجتنبون السفر من غير صحبة ، والسكن على إنفراد، فجاء الإسلام ليتلقى المسلمون الوعيد والتخويف والأذى من الكفار ، الذين ما لبثوا أن هجموا على المدينة في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة فكانت معركة بدر، وعادوا في شهر شوال من السنة التالية للهجوم مرة أخرى بثلاثة آلاف مقاتل وهذا العدد ثلاثة أضعاف عددهم يوم بدر ،ولم يكن عدد المسلمين المقاتلين يومئذ إلا أقل من ثلث هذا العدد ، وليس عندهم من العدة والخيل معشار ما زحف به المشركون ، فتلقاهم المسلمون بسلاح تمني الشهادة ، والكشف عن صدورهم للقتل في سبيل الله ، وهو الذي تؤكده الآية السابقة [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ]( ).
ليكون من الإعجاز في الآية أعلاه الإخبار عن سلامة المسلمين من القتل يوم أحد بتسميتها رغبتهم بالشهادة بالأمنية وهي الرغبة المرجوة ، وما تشتهيه النفس ، ويحدث به الإنسان نفسه.
ولم تقل الآية السابقة [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] مما يدل على أن تمني الموت لم يكن الغاية الأولى عند المسلمين التي هي النصر والغلبة على الكفار ولكن الموت نوع طريق وبلغة لتحقيق النصر ، فاذا توقف دحر الكفار وصدهم وصيانة ثغور المسلمين من تعديهم على الموت والشهادة في سبيل الله فان المسلمين لا يبخلون بأنفسهم.
وجاءت آية البحث لتواسيهم وتعضدهم في صبرهم وجهادهم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد يقتل في المعركة ، وأن تمنيكم الموت والشهادة يدفع عنه هذا القتل ، لينتظر أجله بمغادرة الدنيا ، وفيه بعث للمسلمين للجهاد والصبر في ميادين القتال.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : وأن الروح الأمين نفث في روعي( ) أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته] ( ).
ولأن الأنبياء يمتازون عن عموم البشر بالوحي والتنزيل ، فان الله رزقهم آيات الوحي وبينات التنزيل ، ولا تغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا حتى يستوفي رزقه من الوحي ، وفيه بشارة سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل حتى يتم نزول آيات وسور القرآن كلها .
وتقدير الآية : وما محمد إلا رسول لم يتلق كل آيات رسالته قد خلت من قبله الرسل بعد أن استوفوا ما انزل إليهم .
وأختتمت الآية بالإخبار عن عظيم الجزاء للذين يتعاهدون الإقامة في منازل الإيمان ولا ينقلبون على أدبارهم ، وهل في الآية إنذار من حصول تغيير بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخشية من تجرأ الكفار على الإسلام وإرتفاع صوت المنافقين الجواب نعم ، وهو الذي يتجلى بارتداد بعض القبائل وحصول حروب الردة التي كانت آية البحث مادة وسلاحاً للمسلمين فيها.
الآية لطف
من خصائص الآية القرآنية حضورها ساعة المحنة والضيق وعند الكرب الخاص والعام، وكل آية من القرآن من مصاديق [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ]( ) ومنه آية البحث ومن مصاديق اللطف فيها وجوه :
الأول : صيغة الخطاب وتوجهها للمسلمين على نحو التعيين بدليل صيغة الإستفهام الإنكاري والزجر [انْقَلَبْتُمْ].
الثاني : إنفراد المسلمين بالنهي عن الإنقلاب والذي يدل في مفهومه على ذم وتبكيت الذي هم في حال الكفر والجحود والصدود عن النبوة والتنزيل .
الثالث : الثناء على المسلمين لأنهم في حال ثبات على الإيمان لدلالة ورود التحذير من الإنقلاب والرجوع إلى الكفر والصدود على أن المسلمين لا زالوا على الإيمان وأنهم منزهون عن طرو الإنقلاب والكفر على حال التصور الذهني أو عالم الفعل ، وليس من حصر للشواهد التي تدل على غبطتهم وسعادتهم، والفخر بالإنتساب للإيمان والنعمة العظيمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : آية البحث من مصاديق تقريب المسلمين إلى منازل الإيمان ، وجعل نفوسهم تعشق الفرائض وصيغ التقوى، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
الخامس : بعث الشوق في نفوس المسلمين لما يأتي من التنزيل بعد هذه الآية لتضمنها معنى الإنذار بقرب رحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقتران إنقطاع التنزيل به وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد القرآن وحفظه كذخيرة من السماء ، وهو من إعجاز القرآن بان تخبر آية البحث عن موت أو شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال لتنزيه المسلمين وتعاهد التنزيل رسماً وتلاوة ونظماً وتفسيراً ، وكأن الآية تقول (افئن مات أو قتل محمد فليس من تنزيل إلى يوم القيامة ).
السادس : من اللطف الإلهي في آية البحث منع الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته ، أما في حياته فان الآية تخبر بأنه ليس معصوماً من الموت أو القتل ، بل كل فرد منهما قريب منه ، أما الموت فلأنه كسائر البشر ، قال تعالى [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ] ( )وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل إنسان يحتمل موته في أي ساعة .
الصغرى : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنسان .
النتيجة : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحتمل موته في أي ساعة .
أما قرب الشهادة والقتل في سبيل الله من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلوجوه :
الأول : في التهيء للقاء العدو المهاجم في معركة أحد ألحت طائفة من شباب الأنصار بالخروج من المدينة لمقاتلة العدو فاستجاب لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولبس درعه وخرج متهيأ للقتال فندموا.
قال ابن إسحاق : فقال رجال من المسلمين، ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا.
فقال عبدالله بن أبى: يا رسول الله لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من بنى النجار يقال له مالك ابن عمرو، فصلى عليه ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك.
فلما خرج عليهم قالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد.
فقال: ما ينبغى لنبى إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه]( )وحصلت الخسارة للمسلمين في معركة أحد ، والتي لا تعني الهزيمة أو إنتصار الكفار يومئذ ، ولتأتي معركة أحد فيختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم البقاء في المدينة وحفر الخندق فلا يعترض عليه أحد من المسلمين ، ولا يحثونه على الخروج ، وتلك آية في السنة النبوية بأن يستجيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين فيكفوا عن الإلحاح عليه في اللاحق من الوقائع والأحداث .
الثاني : يتصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقيادته لجيش المسلمين وخروجه في أول الجيش .
الثالث : عدم ظهور الخوف والفزع على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في اشد احوال القتال وقرب العدو منه ، ليكون الإمام للإمتثال لقوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الرابع : إعلان الكفار المنكر والعزم على الظلم والبطش، بأنهم يطلبون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم لا يرجعون من دون تحقيق هذه الغاية الخبيثة ، لتكون سلامته وخروجه من المعركة حياً من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( )وفيه حث للناس للإتعاظ وإدراك ضلالة المشركين.
لقد أراد الله عز وجل لدين الإسلام البقاء في الأرض إلى يوم القيامة بتمام أحكامه وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ).
ولو تردد الأمر بين إتصال ودوام كمال الدين وبين إنقطاعه فالأصل هو الأول ، وهو من فضل الله عز وجل وانه سبحانه إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم ومنه إنبساط النعمة على آنات الزمان الطولية وأفراد المكان العرضية فجاءت آيات البشارة والإنذار والوعد والوعيد ، ومنه هذه الآيات التي جاءت خطاباً للمسلمين لإصلاحهم للإمامة في أمور الدين والدنيا وإلى يوم القيامة ،ولنجاتهم من أثر مصيبة فقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي حتم واقع لا يقبل الضد.
فبينما ينشغل المسلمون بمصيبة فقده وإنتقاله إلى الرفيق الأعلى تأتي هذه الآية لتبين لهم أنه يلحق بالرسل والأنبياء السابقين في دار النعيم ، إنما عليكم أنفسكم بالإحتراز من التفريط بسنن الشريعة والتآزر والتعاون لمواجهة مفاهيم النفاق والإرتداد إلى الأعراف القبلية التي كانت سائدة قبل الإسلام والرجوع إلى الأحكام وفق العرف والأهواء ومحاولة الإجهاز على قانون مساواة الإسلام بين الناس في الحقوق والواجبات من غير مائز بالنسب أو العرق أو اللون ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( )لتبعث الآية أعلاه المسلمين على عدم الإنقلاب عن سنن التقوى ، وتدعوهم إلى جعل الملاك في المنزلة والإكرام هو تعاهد سنن الشريعة والمحافظة على ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتبشر هذه الآية النبي محمداً بأن أمته تبقى على ذات نهجه بعد وفاته ، وأنه يغادرهم بشخصه ولكن شريعة الإسلام مصاحبة لهم لن يفرطوا بها ، وهو شاهد على أنه بذل الوسع في التبليغ وأدى رسالته وتلقاها المسلمون بالقبول وحسن الإمتثال لما فيها من الأوامر والنواهي.
وعندما احتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض جاء الرد من عند الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )ليكون من علم الله عز وجل نزول آية البحث ليعتصم المسلمون من الإنقلاب عن قواعد الإيمان وأحكام الإسلام.
ويدل تحذير الآية من الإنقلاب على أن نهج المسلمين هو صراط هداية ورشاد وطريق فلاح ونجاح ، ومن الإعجاز في المقام دعاء كل مسلم ومسلمة خمس مرات في اليوم وبصيغة القرآنية وعلى نحو الوجوب العيني [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )لأن هذا الصراط ضد للإنقلاب وواقية منه ، وسبيل لإنقاذ الناس من الضلالة.
والسلامة من الإنقلاب في الدين والأخلاق علة للفوز بمحبة الله ، ومناسبة لنزول شآبيب رحمته وجلب العفو والمغفرة ونيل البركة ، قال تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ] ( ).
عن خباب بن الأرت قال « قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ فقال : إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ثم قال : والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون] ( ).
ومن تمام الأمر والفضل الإلهي على المسلمين آية البحث التي تقيهم الرجوع إلى مفاهيم الضلالة والعادات المذمومة ، وتحصنهم من إستحواذ النفس الشهوية ووسوسة الشيطان .
الصلة بين أول وآخر الآية
ذكرت آية البحث اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ] وفيه تشريف وإكرام له من بين أهل الأرض وإلى يوم القيامة بلحاظ أن القرآن هو الكتاب الباقي في الأرض مع تعاقب الأجيال , وفيه مسائل :
الأولى : الشهادة السماوية في كل زمان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة من عند الله عز وجل إلى الناس جميعاً لبيان أن بعثته مناسبة للهداية والصلاح ليفوز الذين آمنوا بالتمحيص والإختبار.
الثانية : حرمة الإساءة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته للزوم إكرام الرسول مطلقاً , والنبي رسول من عند الله لنجاة الناس في الدارين .
الثالثة : دعوة المسلمين للتصديق بالأنبياء والرسل السابقين لقوله تعالى [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( ) وهو من مصاديق إنتفاء الغلو بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون مستحدث وهو أن الغلو على وجوه منها حصر الإيمان برسالة نبي دون الأنبياء الآخرين ، فتضمنت آية البحث تأديب المسلمين على التصديق بالأنبياء والرسل السابقين على النحو العموم الإستغراقي، وفيه وجوه :
الأول : الإقرار بالملازمة بين حياة الإنسان في الأرض وببعث الأنبياء.
الثاني : من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض بعث الأنبياء والرسل من عند الله عز وجل لدعوة الناس إلى الإسلام .
الثالث : دعوة المسلمين للتفقه في قصص وحياة الأنبياء وإتحاد السنخية بينها، قال تعالى [قَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
الرابع : معرفة تأريخ النبوة ، وهل حصل إرتداد بعد موت أو قتل أي من الرسل السابقين .
ولقد إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )ولعل الملائكة نظروا إلى نسيان الأجيال المتعاقبة لأنبيائهم وما جاءوا به من أحكام الحلال والحرام ، وطرو التحريف على الكتب السماوية التي أنزلها الله عز وجل عليهم ، فجاء القرآن بإعجاز في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ليكون من علم الله عز وجل في المقام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحفظ المسلمين لميراث الأنبياء وما أنزل الله عز وجل إليهم .
ويتجلى هذا الحفظ بتعاهد المسلمين للقرآن وتوارثه أمانة من السماء ومرآة لفضل الله عز وجل بجعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )وكونه جامعاً لأحكام التنزيل .
وتقدير الآية : قد خلت من قبله الرسل الذين نؤمن بهم جميعاً .
وهل تدل تلاوة هذه الآية على تصديق المسلمين بنبوات الأنبياء السابقين الجواب ، نعم , وتلك آية من رحمة الله عز وجل في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم [عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } قال : من آمن تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب؛ من المسخ والخسف والقذف]( ).
الخامس : دعوة أهل الكتاب والملل السابقة للتنزه عن الغلو بالأنبياء وإتخاذهم معبودين من جهات :
الأولى : عصمة المسلمين من الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إخبار آية البحث بأن الرسل السابقين قد رحلوا عن الدنيا إلى حيث رحمة الله في الآخرة .
الثالثة : المسلمون أكثر من أتباع أي نبي من الأنبياء وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة.
السادس : تفقه المسلمين في علم الكلام والعقائد والتمييز بين النبي والرسل ،إذ أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فكل رسول هو نبي وليس العكس وإن لم يكن هذا الأمر قاعدة كلية في القرآن .
السابع : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته ببيان حقيقة بعثة الرسل السابقين وذكر أحوالهم لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا] ( ).
وبعد أن ذكرت الآية الرسل السابقين وأن أيامهم إنقضت، بينت الجزاء العاجل لهم في الدنيا الذي أختتمت به آية البحث[وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ومنه الإخبار عنهم في القرآن والثناء عليهم والشهادة لهم بالرسالة من عند الله، فقد غادروا الدنيا وبقي ذكرهم إلى يوم القيامة بصفة النبوة والرسالة، ثم رجعت الآية إلى حال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسن عاقبته وأنه لا يموت أو يقتل إلا بصفة الرسالة، قال تعالى[خِتَامُهُ مِسْكٌ] ( )، وتقدير الآية على وجهين :
الأول : أفئن مات محمد كما مات شطر من الرسل الذين خلوا.
الثاني : أفئن قَتل محمد كما قتل شطر من الرسل الذين خلوا.
وجاء الإستفهام الإنكاري[انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] لبعث المسلمين على تعاهد الثبات في منازل الإيمان، وعدم التفريط بالقواعد والأصول والضوابط والفرائض التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالآية لبعث الهمم ولحث المسلمين على التعاضد للإحتراز من الإنقلاب والتقصير في الواجبات.
ومن الإعجاز في آية البحث أنها حارس أمين على المسلمين ومدد لهم من الإنقلاب والإرتداد، وسلاح ينفذ إلى شغاف القلوب يحجب عنهم أوهام الضلالة بعد فقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ما فيه من الثناء عليهم في حسن سمتهم وإيمانهم في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وبلحاظ مضامين آية البحث يكون تقدير الآية أفائن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم كما إنقلب الذين من قبلكم.
ليكون هذا المعنى من الشواهد بأن الآية لم تأت لذم المسلمين إنما لتذكيرهم بأحوال وقصص الأمم الأخرى وتبين لأجيال الناس المتعاقبة مائز الحسن والتفضيل الذي يتصف به المسلمون وقد إجتازوا إختبار الإنقلاب والإرتداد بنسخ القبلة وتحويلها من بيت المقدس إلى البيت الحرام في شهر رجب بعد سبعة عشر شهراً من وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مهاجراً، قال تعالى[وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ]( )، ولم يتخلف المسلمون عن طاعة الله ورسوله في تحويل القبلة في ذات اليوم الذي نزلت فيه الآية كما بيناه في تفسير الآية أعلاه، ويشهد له الإنكار الذي جاء للمسلمين من غيرهم ونعت الذي يذمهم بالسفه وخفة العقل والإحتجاج عليه قال تعالى[سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ]( ).
وبعد الإستفهام الإنكاري لم تتضمن آية البحث ما يدل على التوبيخ بل ذكرت قاعدة كلية وبصيغة المفرد(ومن ينقلب) بعد أن كان الخطاب للمسلمين جميعاً لبيان أضرار الإنقلاب والإرتداد على صاحبه، وأنه لا يحصل على نحو متعدد وكثير، وفي هذا الإنتقال إلى صيغة المفرد بشارة للمسلمين بسلامتهم من الإنقلاب والإرتداد، وإخبار عن بقاء أمة تتعاهد أحكام شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة وأخبرت الآية عن غنى الله عز وجل عن العالمين، وأن عصمة المسلم من الإنقلاب خير محض ونفع له نفسه، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]( ).
وهل تدل الآية على إرادة أن الذي ينقلب لن يضر المؤمنين الجواب نعم، وفيه بشارة النصر على المرتدين، وغلبة المسلمين في معارك الردة، وهو الذي حصل واقعاً وبوقت قصير.
ومن الإنقلاب الذي تحذر منه الآية إنقلاب طائفة أو فرقة من أهل الكتاب أو غيرهم ضد المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا المعنى من أسرار العموم في النهي عن الإنقلاب وبيان أضراره، وفي الآية تحذير من نقض العهود والمواثيق التي تمت مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
ثم أختتمت الآية بالبشارة والترغيب والإخبار بأن البقاء في منازل الإيمان شكر من المسلمين لله عز وجل، وأنه سبحانه يجازيهم ويثيبهم عليه، وفيه ترغيب إضافي بالحفاظ على أحكام الشريعة، وأخذ الحائطة للدين، والتقيد بأحكام الحلال والحرام.
من غايات الآية
في الآية مسائل :
المسالة الأولى :إكرام الآية للمسلمين من وجوه :
الأول : لغة الخطاب وتحتمل جهة الخطاب وجوهاً :
الأول : إرادة صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أوان موضوع الآية وهو إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخلود في النعيم .
الثاني : المقصود الذين تمنوا الموت والشهادة من المسلمين يوم أحد لموضوعية نظم الآيات في بيان تفسير الآية ، وجاءت الآية السابقة بالتذكير والتوثيق لهذه الأمنية بقوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ] ( ).
الثالث : إرادة المؤمنين الذين أنجاهم الله عز وجل من الموت يوم أحد ويتجلى بقوله تعالى [فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
الرابع : إنذار المنافقين والمنافقات وتحذيرهم من الإنقلاب العلني إلى منازل الكفر والصدود .
الخامس : إرادة المسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة .
والصحيح هو الخامس لأصالة العموم من جهات :
الأولى : تعدد الإنذار في موضوعه وحكمه .
الثانية : عموم المسلمين وتغشي الإنذار لأجيال المسلمين والمسلمات .
الثالثة :إنبساط موضوع مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحياة الدنيا فتلتقي الأجيال المتعاقبة للمسلمين بإنقطاع التنزيل وإنعدام الوحي الجديد.
الثاني : إخبار المسلمين عن شمول الموت أو القتل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون أن النبوة ليست مانعاً من حلول الموت بالنبي.
وفي إحتجاج الرسل على قومهم ورد في التنزيل [قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ] ( ).
الثالث : بيان الملازمة بين البشر والموت ، وفيه دعوة للناس جميعاً للتواضع والخشوع لله عز وجل ، [وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أكثروا ذكر هادم اللذات]( ) لبيان أن إستحضار الموت مناسبة للإستعداد للآخرة .
ويحتمل ذكر الموت في الحديث وجوهاً :
الأول : إرادة موت ذات الإنسان الذي يذكر الموت ،أي أن الحديث إنحلالي وتقديره : أكثر من ذكر موتك .
الثاني : القدر المتيقن مناسبة الحديث ، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّ على قوم من الأنصار يضحكون فدعاهم إلى الإكثار من ذكر الموت .
الثالث : قصد ذكر موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومضامين آية البحث، وهل الحديث أعلاه من معاني ومصاديق تلاوة هذه الآية الجواب نعم ، ولا يخدش به وصف الموت بأنه هادم اللذات .
الرابع : المقصود ذكر موت وهلاك الأمم السابقة وإنتقال الأنبياء والرسل إلى الرفيق الأعلى ، وهو من مصاديق آية البحث وقوله تعالى [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( ).
الخامس : دعوة المسلمين لإستحضار هلاك الطواغيت والظالمين ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
ومن ظلم الطواغيت لأنفسهم أنهم يدركون أن الحكم أمانة ووديعة بأيديهم لابد من إنتقالها إلى غيرهم وهم يجهلون هذا الغير وأوان البينونة بينهم وبين الحكم وإن إحتاطوا وأعدوا العدة لطول العمر وتهيئة الخليفة من بعدهم .
فقد يأتي بعدهم للحكم عدو لهم وهذا الإدراك من أسرار قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
ومن مصاديق الإطلاق في تعليم الله عز وجل الأسماء لآدم عليه السلام بقوله [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )بأن يميز الإنسان في قرارة نفسه بين الحق والباطل ، والعدل والظلم .
كما تجدد الحجة والبينة على الإنسان سواء كان حاكماً أو غيره ، ويحضر البرهان ليجذبه إلى منازل الهدى ويزجره عن فعل السيئات ، ولكن الظالمين يصرون على الباطل والظلم والجور فلا يضرون إلا أنفسهم [عن عبد الله بن عمرو ، قال : « غار النيل على عهد فرعون فأتاه أهل مملكته ، فقالوا : أيها الملك أجر لنا النيل . قال : إني لم أرض عنكم ، ثم ذهبوا ، فأتوه ، فقالوا : أيها الملك أجر لنا النيل . قال : إني لم أرض عنكم فذهبوا ، ثم أتوه فقالوا : أيها الملك ماتت البهائم ، وهلكت الأبكار لئن لم تجر لنا النيل ، لنتخذن إلها غيرك . قال : اخرجوا إلى الصعيد ، فخرجوا فتنحى عنهم حيث لا يرونه ، ولا يسمعون كلامه ، فألصق خده بالأرض وأشار بالسبابة.
قال : اللهم إني خرجت إليك مخرج العبد الذليل إلى سيده ، وإني أعلم أنك تعلم أني أعلم أنه لا يقدر على إجرائه غيرك فأجره ، قال : فجرى النيل جريا لم يجر قبله مثله فأتاهم . فقال : إني قد أجريت لكم النيل فخروا له سجدا.
وعرض له جبريل عليه السلام ، فقال : أيها الملك أعزني على عبد لي . قال : وما قصته . قال : عبد لي ملكته على عبيدي وخولته مفاتيحي فعاداني فأحب من عاديت وعادى من أحببت . قال : بئس العبد عبدك لو كان عليه سبيل لغرقته في بحر القلزم . قال : يا أيها الملك اكتب لي كتابا.
قال : فدعا بكتاب ، ودواة فكتب ما جزاء العبد الذي خالف سيده فأحب من عادى ، وعادى من أحب إلا أن يغرق في بحر القلزم( )، قال : يا أيها الملك اختمه لي فختمه ، ثم دفعه إليه فلما كان يوم البحر أتاه جبريل بالكتاب . فقال : خذ هذا ما استفتحت به على نفسك – فربما قال : هذا ما حكمت به على نفسك] ( ).
السادس : التدبر والإتعاظ من قصص الأمم وإنقطاع اللذات بالموت .
السابع :ذكر الموت مطلوب لذاته ولما بعده من عالم الحساب والجزاء.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من معاني ودلالات الحديث النبوي الذي هو تفسير للقرآن ودعوة لتلاوته والتدبر في مضامينه القدسية ، والعمل بأحكامه وهل تلاوة هذه الآية من الإكثار من ذكر الموت الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : النص الصريح في الآية على وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الخلود في الدنيا لم يكتب لأحد من البشر .
الثانية : دلالة الآية التضمنية على وفاة الأنبياء والرسل السابقين ، وعددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي .
الثالثة : بيان قانون وهو أن النبي لا يسلم من القتل ، فقد يصل تعدي وجور الكفار إلى قتله وإغتياله وفيه مواساة للمسلمين لسقوط القتلى والشهداء منهم وسط المعركة .
الرابعة : تذكير كل مسلم ومسلمة بأجلهما وأن الموت لابد وأن يحل بساحتها من باب الأولوية القطعية ، فاذا كان الموت يدرك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان الناس جميعاً يموتون ، قال تعالى [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] ( ).
المسألة الثانية : من غايات الآية التأديب وهو على أقسام :
الأول : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإصلاح أمته لما بعد وفاته والشواهد عليه من السنة النبوية أكثر من أن تحصى ، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم : خذوا عني مناسككم] ( ) [وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اِسْتَطَعْتُمْ] ( ).
الثانية : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بنجاتهم من الموت الذي تمنوه كما تذكر الآية السابقة ، ودعوتهم لشكر الله عز وجل على هذه النجاة والذي يتجلى بتعاهد الإيمان وعدم النكوص أو الإرتداد .
الثالثة : من خصائص شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التكاليف العبادية التي تتصف بالبيان والتعيين في الكيفية وزمان الأداء والإطلاق أو التقييد ،فمن الواجب المطلق الصلاة ،ومن المقيد حج بيت الله الحرام لموضوعية شرط الزاد والراحلة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) .
الرابعة : إخبار المسلمين عن الحتم والقطع بموت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومجئ الآية بصيغة الإجمال من جهات:
الأولى : الترديد في إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم المقام المحمود بين أمرين :
الأول : الموت بحلول الأجل .
الثاني : الشهادة والقتل في سبيل الله .
الثانية : عدم تعيين أوان وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو على نحو الإجمال لأن موضوع الآية ذكر الرسل على نحو الإجمال من غير بيان أسمائهم أو عددهم أو أوان رحيلهم والترتيب فيه.
الرابعة : الإجمال في موضوع الإنقلاب المنهي عنه .
الخامسة : الثواب والجزاء من عند الله عز وجل للشاكرين، وهذا الإجمال من إعجاز القرآن ، وفيه دعوة للمسلمين لتلمس التبيان في آيات القرآن الأخرى ، وإستقراء التفصيل من السنة النبوية الشريفة، وفيه وجوه:
الأول : بعث المسلمين على الدعاء وسؤال إطالة عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم .
الثاني : تفقه المسلمين في الدين والتصديق ببعثة الأنبياء والرسل على نحو العموم المجموعي .
الثالث : تنزه المسلمين من الإنقلاب والنكوص والتقصير في الواجبات والمستحبات .
الرابع : تعاون ومناجاة المسلمين للإحتراز من السيئات والفواحش ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) لتكون الآية أعلاه واقية سماوية حاضرة بين المسلمين كل يوم إلى يوم القيامة بجذبهم إلى مسالك الطاعة وتزجرهم عن المعاصي وكأنها تخبر عن وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين بما نزل عليه من الله عز وجل والأوامر والنواهي التي جاء بها .
الخامس : بيان قبح النكوص ، والرجوع إلى عادات وسنن الجاهلية وأعراف الوثنية ، قال تعالى [وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] ( ).
الثانية عشرة : بيان قانون غنى الله عز وجل عن الخلائق وأن الذي يرتد عن أصول الدين أو فروعه لا يضر إلا نفسه ، وفيه دلالة على إقامة الحجة على العباد ، إذ جعل الله عز وجل لهم الدنيا دار إمتحان وإختبار ومن وجوه الإمتحان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته الناس لإتباعه ورحيله عن الدنيا ولزوم عدم الإرتداد من بعده ، قال تعالى [وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ]( ).
أسباب النزول
وردت أخبار ونصوص تتعلق بموضوع وشأن نزول الآية منها:
عن ابن عباس . أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة والناس يفرون ، ورجل قائم على الطريق يسألهم : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وجعل كلما مروا عليه يسألهم فيقولون : والله ما ندري ما فعل! فقال : والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنعطينهم بأيدينا أنهم لعشائرنا وإخواننا وقالوا : لو أن محمداً كان حياً لم يهزم ، ولكنه قد قتل ، فترخصوا في الفرار حينئذ فأنزل الله { وما محمد إلا رسول . . . } الآية كلها .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال : ذلك يوم أحد حين أصابهم ما أصابهم من القتل والقرح ، وتداعوا نبي الله . . . ؟ قالوا : قد قتل . وقال أناس منهم : لو كان نبياً ما قتل . وقال أناس من علية أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قاتلوا على ما قتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به ، وذكر لنا أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتخبَّط في دمه فقال : يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم . فأنزل الله { وما محمد إلا رسول الله قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } يقول : ارتددتم كفاراً بعد إيمانكم .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه .
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد : أن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول ، فأنزل الله { وما محمد إلا رسول . . . } الآية .
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : قال أهل المرض والإرتياب والنفاق حين فر الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم: قد قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول. فنزلت هذه الآية{وما محمد إلا رسول…}.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال : فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل ، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي ، فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان.
يا قوم إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلونكم . قال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، اللهم إني أعتذر إليك ممَّا يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء . فشد بسيفه فقاتل حتى قتل . فأنزل الله { وما محمد إلا رسول}.
وأخرج ابن جرير عن القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخي بني عدي بن النجار قال : انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم فقال : ما يجلسكم؟ قالوا : قتل محمد رسول الله قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله . واستقبل القوم فقاتل حتى قتل .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطية العوفي قال : لما كان يوم أحد وانهزموا قال بعض الناس : إن كان محمد قد أصيب فأعطوهم بأيديكم إنما هم إخوانكم . وقال بعضهم : إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به؟ فأنزل الله { وما محمد إلا رسول } إلى قوله { فآتاهم الله ثواب الدنيا}.
وأخرج ابن سعد في الطبقات عن محمد بن شرحبيل العبدري قال : حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد فقطعت يده اليمنى، فأخذ اللواء بيده اليسرى وهو يقول {وما محمد إلا رسول الله قد خَلَتْ من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} ثم قطعت يده اليسرى فجثا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول { وما محمد إلا رسول…}. وما نزلت هذه الآية{وما محمد إلا رسول } يومئذ حتى نزلت بعد ذلك]( ).
[ عن بن محمد بن شرحبيل العبدري عن أبيه قال حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد فلما جال المسلمون ثبت به مصعب فأقبل بن قميئة وهو فارس فضرب يده اليمنى فقطعها ومصعب يقول وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه فضرب يده اليسرى فقطعها فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه واندق الرمح ووقع مصعب وسقط اللواء وابتدره رجلان من بني عبد الدار سويبط بن سعد بن حرملة وأبو الروم بن عمير فأخذه أبو الروم بن عمير فلم يزل في يده حتى دخل به المدينة حين انصرف المسلمون قال محمد بن عمر قال إبراهيم بن محمد عن أبيه قال ما نزلت هذه الآية وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل يومئذ حتى نزلت بعد ذلك] ( ).
وظاهر الرواية أن الآية نزلت بعد معركة أحد ، وجاءت مصداقاً لقول مصعب بن عمير ، ولكن الرواية تحتاج إلى تحقيق بالسند والدلالة ، فمن الصعب أن يأتي أحد المسلمين بكلمات هذه الآية كاملة مع ما فيها من الإعجاز والدلالات وتعدد الموضوع وتضمنها للإنقلاب وثناء الله عز وجل على المسلمين بنعتهم بالشاكرين .
نعم قد يكون قد نطق ببعض الكلمات التي يتضمنها معنى الآية أو أولها[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( )، وكأن روح القدس نطق على لسانه ولبيان أن إخلاص المؤمن في جهاده يجعله قريباً من أسرار التنزيل ولكنه الإحاطة بالآيات أمر خاص منعند الله، قال تعالى[تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا]( ).
التفسير
قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ]
تحتمل لغة الخطاب في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة مخاطبة المسلمين .
الثاني : وردت الآية بصيغة الجملة الخبرية لبيان قانون كلي وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشر ولا بد أن تختتم حياته في الدنيا بالموت أو القتل ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ) ومن مصاديق وحدة السنخية بين البشر مغادرة الدنيا ومفارقة الروح الجسد .
الثالث : لغة الخطاب إلى الناس جميعاً لما في الآية من التحذير والإنذار.
الرابع : لغة الآية قانون كلي ليتعظ الناس ويقتبسوا منها المواعظ.
والصحيح هو الأول، وتكون الوجوه الأخرى أعلاه في طوله فليس من تعارض بينها، وهو من إعجاز القرآن في السعة والشمول لماهية خطاباته وما فيها من الأسرار ومعاني الرحمة والهداية، ولا تصل النوبة فيها إلى جعل الخطاب للمسلمين من باب المنطوق ولغيرهم من باب المفهوم والدلالة.
نعم تكون لغة الخطاب في الآية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة فيكون على وجوه:
الأول : حث المسلمين على الثبات في منازل الإيمان .
الثاني : إرادة الأجر والثواب للمسلمين لبقائهم في مراتب التقوى ، وعدم مغادرتهم لها قبل إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
الثالث : البشارة بالثواب العظيم للمسلمين إذا بقوا على إيمانهم وأدائهم الفرائض بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا.
الرابع : دعوة الناس إلى الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته.
الخامس : زجر الكفار عن التعدي على المسلمين وثغورهم سواء والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم أو بعد رحيله.
وفي قوله[عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا]( )، [وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ – آدم فمن سواه – إلا تحت لوائي، وأنا أوّل من تَنْشَقُّ عنه الأرض ولا فخر….
فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم عليه السلام فيقولون : أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك . فيقول: إني أذنبت ذنباً أهبطت منه إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحاً.
فيأتون نوحاً فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقول: ائتوا موسى. فيأتون موسى عليه الصلاة والسلام فيقول: إني قتلت نفساً، ولكن ائتوا عيسى. فيأتون عيسى عليه السلام فيقول : إني عُبِدْتُ من دون الله ، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها ، فيقال: من هذا؟ فأقول : محمد . فيفتحون لي ويقولون : مرحباً . فأخرّ ساجداً فيلهمني الله عز وجل من الثناء والحمد والمجد ، فيقال : ارفع رأسك . . . سل تُعْطَ ، واشفع تُشَفّعْ ، وقل يسمع لقولك . فهو المقام المحمود الذي قال الله : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً }]( ).
ويحتمل الخطاب للمسلمين في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص طائفة من المسلمين تمنوا الموت والشهادة في قتال كفار قريش وحلفائهم الذين جاءوا بجيش عظيم من مكة إلى المدينة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين[قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا]( ).
الثاني : توجه الخطاب في آية البحث إلى الصحابة من المهاجرين والأنصار.
الثالث : إرادة عموم المسلمين بأجيالهم المتعاقبة.
والصحيح هو الثالث، ويكون الوجه الأول والثاني في طوله خصوصاً وأن الآية معطوفة على الآيات السابقة والتي تبداً بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( ).
وهو من إعجاز القرآن بأن تأتي خمس عشرة آية تتصل بذات لغة الخطاب بلحاظ العطف بينها ، وهل تشمل لغة الخطاب المسلمات الجواب نعم ،من جهات:
الأولى : وحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثانية : مجئ صيغة التذكير في الآية [انْقَلَبْتُمْ][ وَمَنْ يَنْقَلِبْ] لتغليب المذكر في الخطاب وإفادة عموم المعنى.
الثالث : التذكير أخف في التلفظ من المؤنث ، والتأنيث فرع التذكير.
الرابعة : الأصل أن يغلب المذكر المؤنث عند إجتماعهما فان قلت قد ورد قوله تعالى [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( )بصيغة التأنيث ، والجواب من وجوه :
الأولى : وردت الآية بلغة قريش [وأهلُ الحجاز يقولون: هي الذَّهَبُ] ( ).
الثانية : إرادة إنفاق الأقل من الكثير المدخر ، والأقل الفضة وتقدير الآية : ولا ينفقون الفضة .
الثالثة : التذكير بأن مقدار الزكاة قليل من المال المدخر من الذهب والفضة هو ربع العشر أي 2.5% ففي كل مائتي درهم خمس دراهم ، ولو نقص النصاب شيئاً قليلاً تجب الزكاة مع شرط إستكمال الحول، ولا تختص زكاة المال بالنقدين من الذهب والفضة المسكوكين بل تشمل العملات الورقية في هذا الزمان إذا كانت بمقدار النصاب .
والمختار عدم شمول الزكاة للحلي إذا كانت تلبس للزينة وإن كانت بقيمة الإدخار عند طرو الحاجة .
وكذا التحف التي تتخذ للزينة والمناسبة للحال ولم يكن القصد منها التجارة وعروضها لتقييد الآية أعلاه بالإدخار والإكتناز .
الرابعة : تذكير الناس بالزكاة ما دام المال يبلغ النصاب ، فقد يقول بعضهم إن ما أدخره قليل بالمقارنة مع أموال فلان وفلان ، فجاءت الآية بصيغة التأنيث لبيان أن المدار على النصاب .
الخامسة : إرادة معنى الأموال من المدخرات ، فهم يكتنزون احياناً من معادن ثمينة ونحوها ، ولكنها في الحقيقة أموال تنفع الإسلام والمسلمين عند إخراجها .
السادسة : بيان الإعجاز في إحكام الزكاة ، وصيغ آيات القرآن ،إذ أن الآية ناظرة إلى العملات الورقية في هذا الزمان وعروض التجارة ولا يختص الحكم بالنقدين المسكوكين .
السابعة : قد يأتي على الناس زمان لا تكون فيه موضوعية للذهب والفضة في قيمة العملات وكان الدينار عشرة دراهم ، وأحياناً سبعة دراهم .
ثم إزدادت قيمة الذهب دون الفضة ، وقد يظهر نحاس أو معادن أخرى لها قيمة تصلح للإدخار فجاء التأنيث لإرادة الإطلاق في الإدخار وبيان أولوية الإنفاق في سبيل الله والتحذير من الإكتناز الذي يضر الإسلام ولا ينفع المسلمين في دفاعهم عن حوزة الإسلام وبلحاظ آية البحث فانها تحذر المسلمين من الفتن وغلبة حب الدنيا عند إقبالها عليهم وإتساع الفتوحات وإقتران الغنائم والإمارة على الناس معها، ولا يتعارض هذا التحذير من البشارة بالفتوحات، وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خط خطوطاً وخط خطاً منها ناحية فقال : «تدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني، وذلك الخط الأمل بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت ( ).
بحث أصولي في واو العطف
من الإعجاز في آية البحث أنها بدأت بحرف العطف وصيغة الجملة الخبرية التي إبتدأت بها الآية [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ]( ) وهي فرع لغة الخطاب في آية البحث والآية السابقة لها وتقدير الآية : (يا أيها الذين آمنوا ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) لبيان منافع حرف العطف الواو في اللغة العربية من جهات:
الأولى : إجزاء حرف العطف عن النداء لعطف آية البحث على قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( ).
الثانية : إتخاذ حرف العطف للصلة بين الآيات في موضوعها وإن تعددت في تعاقبها .
الثالث : تجلي الإختصار البلاغي بحرف العطف، وطرد الملل والسأم.
الرابعة : إرادة الحصر والتقييد بلغة الخطاب بحرف العطف .
الخامسة : البيان والوضوح بحرف العطف وإبتدأت الآيتان السابقتان والآيتان التاليتان بحرف العطف الواو الذي هو أم حروف العطف لذا أولاه النحاة والأصوليون والفقهاء عناية خاصة وإختلف النحاة في موضوعيتها بين المعطوف عليه والمعطوف على وجوه :
الأول : قال المشهور بأفادتها الترتيب وإليه ذهب الكسائي المتوفى 189 هـ ، وقطرب 206 ، والفراء ت 207 وهشام ت 209 ، وغيرهم .
الثاني : قال ابن كيسان ت 299 هي للمعية حقيقة ، وفي غيرها تكون مجازاً .
الثالث :إرادة مطلق الجمع .
وتجلى الإختلاف في الفقه كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]( )، وهل ترتيب أفعال الوضوء فريضة وهو المشهور والمختار، وقيل أنه ستة ومشهور الشافعية إرادة الترتيب من حرف العطف الواو.
وعن جابر قال : لما دنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصفا في حجته قال : إن الصفا والمروة من شعائر الله ، ابدأوا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه] ( ).
وفي الحديث قانون كلي في العبادات بجعل موضوعية للواو في الترتيب إلا أن يرد دليل على الخلاف ومنهم من يستدل على عدم إفادة الواو الترتيب لسؤال بعض الصحابة بم نبدأ ؟ وأن الواو لو كانت تفيد الترتيب لما لجأوا إلى سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم عرب فصحاء ، وأن هذا السؤال يدل على إفادتها الجمع دون الترتيب ، وهذا الإستدلال لا أصل له من جهات :
الأولى : لم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إبدأوا بالصفا بل ذكر قانوناً كلياً .
الثاني : ورد ذكر الحديث أعلاه لبيان من غير سؤال من الصحابة .
الثالثة :السؤال من أحد الصحابة مع كثرتهم في حجة الوداع على فرض وقوعه لا يدل على كونه مرآة لحال الصحابة جميعهم، وذكر أن عدد الذين حضروا حجة الوداع مائة ألف صحابي .
الرابعة : قد يأتي السؤال للتأكد، وإستماع الحكم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يقطع الخلاف.
والمختار هو عدم تقييد وظائف (الواو ) بقانون خاص من الترتيب أو عدمه فقد تأتي للترتيب أو المعية أو مطلق الجمع أو التشريك في الحكم بحسب قرائن الحال والمقال ، من غير أن تصل النوبة إلى جعل إستعمالها في الترتيب حقيقة وفي غيره مجاز كما ذهب إليه الرضي المتوفى سنة 688 هجرية.
نعم إذا دار الأمر بين الترتيب وعدمه ، فالترتيب هو الأولى ،فلو أوصى المسلم بتخصيص شطر من امواله للخيرات بأن قال أجعلوا الدار والبستان الفلاني صدقة جارية لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم [إذا مات المؤمن إنقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له] ( ).
وكان مجموع قيمتها أكثر من ثلث مجموع التركة وهو الحد المأذون به للمسلم الوصية لعودة الثلثين قهراً إلى الورثة من بعده فلا يكفي الثلث إلا لأحدهما ،فان الوصية تنفذ في الأول وهو الدار لقرينة إرادة الأولوية في الوصية ، وذهب القائل بأن الواو لا تفيد الترتيب إلى القرعة بينهما .
وجاءت الواو في آية البحث لعطف جملة على جملة لها محل من الإعراب مما يفيد التشريك بينهما في لغة الخطاب والبيان وإن تعدد الموضوع .
قانون مصيبة فقد النبي(ص)
إن موضوع وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصيبة متجددة في كل زمان.
عن عائشة قالت: ما رأيت أحد أشبه كلاما وحديثا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة وكانت إذا دخلت قام إليها فقبلها ورحب بها وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه وكانت هي إذا دخل عليها قامت إليه فقبلته وأخذت بيده فدخلت عليه في مرضه الذى توفى فيه فأسر إليها فبكت ثم أسر إليها فضحكت فقلت كنت أحسب ان لهذه المرأة فضلا على النساء فإذا هي امرأة منهن بينا هي تبكى إذا هي تضحك فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عن ذلك فقالت أسر إلى أنه ميت فبكيت ثم أسر إلى إنى أول أهله لحوقا به فضحكت)( ).
وفاطمة بنت الحسين هي زوجة الحسن بن الحسن بن علي الذي خطب إلى عمه الحسين إحدى ابنتيه، فقال له الحسين: إختر يابني أحبهما إليك فاستحى الحسن ولم يحر جواباً، فقال الحسين: إني إخترت لك ابنتي فاطمة، فهي أكثرهما شبهاً بفاطمة أمي بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان فاطمة بنت الحسين وزوجها الحسن بن الحسن يسكنان بيت فاطمة عندما أمر الوليد بن عبد الملك عامله في المدينة بتوسعة المسجد النبوي والزيادة فيه.
وروت فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين أحاديث منها قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة، وإن قدم عهدها، فيحدث لها استرجاعاً إلا أحدث الله له عند ذلك وأعطاه ثواب ما وعده عليها يوم أصيب بها( ).
وهل هذا الحديث من وجوه تفسير آية البحث الجواب نعم، فليس من مصيبة على المسلم والمسلمة من فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوقف الوحي والتنزيل إلى يوم القيامة فيصح إسترجاع المسلم عند ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومناسبة يوم الوفاة وإن تقادمت الأزمنة وتعاقبت الأجيال لأن النبي صلى الله عليه وآله سولم يقول في الحديث أعلاه(وإن قدم عهدها).
ومن المعاني القدسية في رحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وقوله تعالى[أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ] وجوه:
الأول : إنفراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين المرسلين بنعيه في الكتاب السماوي النازل عليه.
الثاني : تهيئة المسلمين للجد والإجتهاد وأخذ الحائطة للدين عند مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الإعجاز في المقام أن القرآن حذّر من المنافقين حتى ورد قسم من هذا التحذير في بدايات القرآن وإذ يخبر القرآن عن وجود المنافقين في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحريضهم على المؤمنين وبثهم لأسباب الشك والريب فان ضررهم يزداد بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من باب الأولوية القطعية فجاءت آية البحث لتحذير المسلمين منهم، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى]( ).
وجاءت آية البحث لفضح رياء المنافقين، وللحيلولة دون إظهار ما يخفون من الكفر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبقاء المؤمنين في حال يقظة وفطنة وتوثب للدفاع والإحتجاج.
الثالث : تجعل آية البحث مصيبة وفاة رسول الله حاضرة عندهم، إذ ترثيه في حياته، وتكون تلاوتها في كل زمان رثاء له وثناء عليه، ودعوة للمسلمين للإسترجاع، قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ]( )، وقد يقال إن الآية أعلاه ناظرة إلى المصيبة التي تقع في قادم الإيام، بدليل أداة الشرط (إذا) وأنها لم تقل إذ أصابتهم، ولكن آية البحث ظاهرة في صبغة الإستقبال وفيه نكتة ففي كل زمان يكون المسلمون في حال إسترجاع وذكر لله عند ذكر مصيبة فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي المصيبة النازلة على المسلمين والمسلمات جميعاً، لتكون كسور السالبة الكلية الذي يوحد المسلمين أزاء المصائب، ويدركون معها حاجتهم إلى نبذ الفرقة والخلاف.
الخامس : التدبر في وجوه الإعجاز بأوان وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدم مغادرته الدنيا إلى حين إكمال تبليغ رسالته رغم دنو الموت منه في مناسبات ووقائع عديدة، وإرادة عدد من الكفار قتله غيلة وغدراً.
ومن الآيات في المقام أمور:
الأول : إنعدام الحاجب بينه وبين الناس.
الثاني : إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة في المسجد النبوي خمس مرات في اليوم.
الثالث : دخول أي إنسان للمسجد النبوي وفي أي وقت شاء.
الرابع : عدم إختصاص أهل البيت وكبار الصحابة بالصفوف الأولى في الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأي مسلم يستطيع الصلاة بالصف الأول مع ما له من الفضل.
الخامس : إنكشاف المدينة المنورة، وعدم وجود سور لها تتم بواسطته معرفة الداخلين إليها وموضوع دخولهم والخارجين منها.
السادس : مجئ الناس دفعات وأفواجا إلى المدينة لدخول الإسلام.
السابع : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه للقتال والدفاع والغزو، وعدم إحاطته بحرس خاص، وكانت سلامته من الإغتيال والقتل من مصاديق قوله تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( )،وفي قوله تعالى[وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ]( )، الآية وردت الرخصة في المطر بوضع السلاح إذ تبتل المبطنات وتثقل , ويصدأ الحديد ولإنشغال الفريقين بالمطر والأذى المترشح عنه، وكأن نزول المطر دعوة للكفار للتدبر بآيات الله .
وقيل: نزلت الآية أعلاه في النبي صلى الله عليه وآله و سلم يوم بطن نخلة لما انهزم المشركون وغنم المسلمون وذلك أنه كان يوما مطيرا وخرج صلى الله عليه وآله وسلم لقضاء حاجته واضعا سلاحه فرآه الكفار منقطعا عن أصحابه فقصده غورث بن الحارث فانحدر عليه من الجبل بسيفه فقال : من يمنعك مني اليوم ؟ فقال : الله ثم قال : (اللهم اكفني غويرث بن الحرث بما شئت. ثم أهوى بالسيف على رسول الله ليضربه فانكبّ لوجهه من زلخة زلخها( ).
وقيل إن جبريل عليه السلام دفعه في صدره وسقط السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وآله و سلم وقال : [ من يمنعك مني يا غورث ؟ فقال : لا أحد فقال : تشهد لي بالحق وأعطيك سيفك ؟ قال : لا ولكن أشهد ألا أقاتلك بعد هذا ولا أعين عليك عدوا فدفع إليه السيف ] ( ).
قوله تعالى [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]
وذكرت الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين بصفة الرسالة لتزكيتهم وتصديق معجزاتهم والشهادة لهم بالقيام بالتبليغ .
وتدل الآية على إنحصار النبوة في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم به وحده لأن أيام الرسل غيره إنقضت وخلت ، فلذا تدفع الآية الوهم وتمنع من إدعاء النبوة والتصديق بها ، ومن الإعجاز الغيري لهذه الآية فضح مديحي النبوة في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن إستفحل أمر بعضهم برهة من الزمان.
وجاء لفظ [الرُّسُلُ]في مواضع عديدة من القرآن وفي كل مرة منها يراد الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله فليس فيها رسل لنبي أو ملك لأن القرآن كتاب الله فأراد سبحانه ألا يذكر فيه إلا رسله هو تعالى ، ولما ورد ذكر المسلمين بصيغة الثناء وتوثيق سعيهم في الدعوة إلى الله عز وجل جاء البيان بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وفيها مسائل:
الأولى : إرادة تقسيم الناس إلى أمم ، ويدل اسم التفضيل [خَيْرَ] على التباين الرتبي بين الأمم بلحاظ التقوى والصلاح .
الثانية : دعوة الناس لدخول الإسلام .
الثالثة : بيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الرسل السابقين بأن صارت أمته أفضل الأمم .
الرابعة : لم تنقطع النبوة إلا بعد أن وجدت أمة هي أفضل وأحسن الأمم ، تدعو للإيمان إلى يوم القيامة ، وكأن هناك ملازمة بين سيد الأنبياء وخير الأمم، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : أمة سيد الأنبياء خير ألأمم .
الصغرى : المسلمون أمة سيد الأنبياء .
النتيجة : المسلمون هم خير الأمم .
الخامسة : من إعجاز القرآن الغيري أن الأمة التي تتعاهده تصديقاً وتلاوة وعملاً هي خير الأمم في كل زمان .
السادسة : من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ]حفظ القرآن رسماً وترتيباً ونظماً وقراءة، والإمتثال لما فيه من الأوامر والنواهي ، وهو من مصاديق الجمع بين قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) وقوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
لقد إشرأبت أعناق الكفار والفاسقين والمنافقين إلى حصول مصيبة عند المسلمين وهي وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وظنوا تشتت المسلمين وإنقلابهم ورجوعهم إلى الكفر وعجزهم عن ملاقاة جيوش الكفار لتأتي آية البحث وتقلب حسابات الكفار في هذا الباب بأن هيأت المسلمين لهذا المصيبة بالثبات في منازل الإيمان ليصيب الكفار الإحباط والقنوط عند سماع هذه الآية ، ويدركون رجحان خيبة ظنهم ويعلموا بقانون وهو أن أشد المصائب التي يلاقيها المسلمون لا تضعف إيمانهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
فتدل سلامة المسلمين من الإرتداد عند مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا على عصمتهم من الإرتداد في أي حال من الإبتلاء والبلاء والشدة والضراء والفاقة وتعدي الأعداء وهو من إعجاز آية البحث بأن تأتي بخصوص موضوع حتمي في وقوعه، مردد في زمانه بين اليوم والغد ، تحصن المسلمين من مواضيع كثيرة من ذات السنخية ولكنها أدنى مرتبة يتعرضون لها.
لقد إبتلى الله عز وجل آدم بالأكل من الشجرة عندما أسكنه في الجنة يتنعم فيها ، وتفضل على المسلمين لينزل إلى الأرض بعد أكله منها بوسوسة إبليس ، ولم يفقد هذا النزول آدم إيمانه ودينه ، فقد كان نبياً رسولاً ممن يشمله قوله تعالى في هذه الآية [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( ).
فجاءت آية البحث لحث الناس على البقاء على الإيمان الذي نزل به آدم إلى الأرض عند مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، ويتعظوا من قتل قابيل لأخيه هابيل بالتنزه عن القتل والفساد.
وتؤكد الآية حقيقة وهي أنه ليس من نبي آخر في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأيام دعوته لأن الأنبياء السابقين قد خلوا وانقضت أيامهم، وفيه ترغيب للناس باتباعه، لتدل الآية على أمور:
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين.
الثاني : مجئ الرسل وأنبياء للناس قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : موت الأنبياء السابقين، ومنهم من مات على فراش ومنهم قتله الناس، قال تعالى في ذم قوم من الأمم السابقة[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
الرابع : ليس من نبي آخر مصاحب للنبي محمد في حياته ل1ا كان أتباع الأنبياء السابقين يتطلعون إلى بعثته ويرصدون الآيات الكونية التي تشير إلى قربها وحلول أوانها وإدراكهم أنه نبي آخر الزمان.
وعن سهل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين، قرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها( ).
قوله تعالى [أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ]
يحتمل موضوع الآية، ومتعلق الإستفهام الإنكاري فيها وجوهاً:
الأول : إرادة زمان وجود النبي بين ظهراني المسلمين، وما قبل رحيله إلى عالم الآخرة، كما لو قال بعض المنافقين أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ميت أو مقتول، واني كيف حالي في الدين الذي يموت معه الرسول، أو يأتي كافر بمغالطة بأن من كان نبياً حقاً فان الله يكرمه بالحياة الأبدية في الدنيا، كما هو حال الملائكة.
الثاني : دلالة الإخبار عن موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على انقطاع الوحي والتنزيل، فقد يخشى بعضهم البقاء في دين الإسلام من غير إتصال الوحي والتنزيل لمواجهة جيوش الكفر.
الثالث : دعوة المسلمين للصبر عند النزول المصائب.
تكرار إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في معركة بدر وحينما صار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قريباً من المدينة أرسل بشيرين .
وقال الواقدي: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرجعه من بدر العصر بالأثيل، فلما صلى ركعة تبسم، فسئل عن تبسمه فقال: أنه يرى ميكائيل وعلى جناحه النقع
فتبسم إلى وقال: إنى كنت في طلب القوم.
وأتاه جبريل حين فرغ من قتال أهل بدر على فرس أنثى معقود الناصية وقد عصم ثنييه الغبار فقال: يا محمد إن ربى بعثنى إليك وأمرني ألا أفارقك حتى ترضى، هل رضيت ؟ قال: نعم.
قال الواقدي: قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة وعبد الله ابن رواحة من الاثيل فجاءا يوم الاحد حين اشتد الضحى، وفارق عبدالله بن رواحة زيد بن حارثة من العقيق، فجعل عبدالله بن رواحة ينادى على راحلته: يا معشر الانصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسرهم، قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وقتل زمعة بن الاسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمروقال عاصم بن عدى: فقمت إليه فنحوته فقلت: أحقا يا بن رواحة ؟ فقال: إى والله، وغدا يقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأسرى مقرنين.
ثم تتبع دور الانصار بالعالية يبشرهم دارا دارا، والصبيان ينشدون معه يقولون: قتل أبو جهل الفاسق، حتى إذا انتهى إلى دار بنى أمية وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القصواء يبشر أهل المدينة، فلما جاء المصلى صاح على راحلته: قتل عتية وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وقتل أمية بن خلف وأبو جهل وأبو البختري وزمعة بن الاسود، وأسر سهيل ابن عمرو ذو الانياب، في أسرى كثير.
فجعل بعض الناس لا يصدقون زيدا ويقولون: ما جاء زيد بن حارثة إلا فلا ( ) حتى غاظ المسلمين ذلك وخافوا.
وقدم زيد حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبقيع، وقال رجل من المنافقين لأسامة: قتل صاحبكم ومن معه.
وقال آخر لأبي لبابة: قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون فيه أبدا، وقد قتل عليه أصحابه، قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدرى ماذا يقول من الرعب، وجاء فلا.
فقال أبو لبابة: يكذب الله قولك.
وقالت اليهود: ما جاء زيد إلا فلا.
قال أسامة: فجئت حتى خلوت بأبى فقلت: أحق ما تقول ؟ فقال: إى والله حق ما أقول يا بنى.
فقويت نفسي، ورجعت إلى ذلك المنافق فقلت: أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين لنقدمنك إلى رسول الله إذا قدم فليضربن عنقك.
فقال: إنما هو شئ سمعته من الناس يقولونه.
قال: فجئ بالاسرى وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان قد شهد معهم بدرا، وهم تسعة وأربعون رجلا الذين أحصوا قال الواقدي: وهم سبعون في الاصل مجتمع عليه لا شك فيه] ( ).
إما في معركة أحد فلم ينتظر المنافقون والفاسقون مجئ البشير وعودة الجيش بل أشاعوا خبر مقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يدل وصول هذا الخبر إلى المدينة وإنتشاره بسرعة في جنباتها على خبث وأثر أهل النفاق ، ويحتمل خبر قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي شاع في المدينة يوم أحد وجوهاً :
الأول : إنه إستمرار لذات الخبر في المعركة الذي بثه وأشاعه الكفار .
الثاني : إنه أمر مستقل لما رأى الناس رجوع ثلث الجيش مع رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول وسط الطريق ، ووصول أفراد من الجيش إنهزموا في معركة ظنوا أن قتل النبي أمر واقع لا محالة لعلم الناس بأنه هدف معلن لكفار قريش .
الثالث : إنه مكيدة مدبرة بين كفار قريش وبعض الفاسقين في المدينة مثل كعب بن الأشرف الذي كان يحرض قريش على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحيث تكون إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة وفي المدينة المنورة في وقت واحد لبعث الإرباك في المدينة ومنع خروج المدد من المدينة إلى حيث المسلمين ، ولإبقاء الحزن والأسى في قلوب عوائل المؤمنين .
الرابع : صدور خبر قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشيطان إبتداءً ومكراً ، فلا مانع حينئذ من سماع أهل المدينة له ، أو أنه صاح في المعركة وفي المدينة [وأخرج احمد والبيهقي عن ابن عباس قال ما نصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موطن كما نصر يوم أحد فانكروا ذلك فقال ابن عباس بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله إن الله يقول في يوم أحد [ وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ).
قال ابن عباس والحس القتل حتى إذا فشلتم الآية وإنما عنى بهذا الرماة وذلك ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقامهم في موضع ثم قال احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا فلما غنم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأباحوا عسكر المشركين اكب الرماة جميعا في العسكر ينتهبون وقد التقت صفوف أصحاب النبي {صلى الله عليه وآله وسلم} فهم هكذا وشبك اصابع يديه واتشبوا فلما اخلت الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثير وقد كان لرسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة وصاح الشيطان قتل محمد فلم يشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسل بين السعدين نعرفه بتكفيه إذا مشى ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا فرقى حولنا وهو يقول اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول مرة اخرى اللهم ليس لهم أن يعلونا ] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه لتعدد صيغ وأماكن الأشاعة وإنتشارها بسرعة بين أهل المدينة الذين تلقوها بالحزن الشديد والتضرع إلى الله بسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطل عليهم صلى الله عليه وآله وسلم بطلته البهية فكانت بلسماً لجراحاتهم ، ومواساة لهم على شدة المصائب التي أصابتهم وكأنه ذات اليوم الذي دخل المدينة مهاجراً من مكة نعم ضرب المسلمين بعضهم بعضاً بما يفيد التعدد والكثرة لم يثبت [وعن الزبير قال: اجتمعت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة يوم أحد، فلم يبق أحدٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – يعني: بالمدينة – حتى كثرت القتلى، فصرخ صارخٌ: قد قتل محمد، فبكين نسوة، فقالت امرأة: لا تعجلن بالبكاء حتى أنظر، فخرجت تمشي ليس لها همٌّ سوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسؤال عنه] ( ).
لقد وجد المنافقون في إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضالتهم وما يوافق الكدورة التي في نفوسهم ، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة سالماً ليحزنوا ،قال تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
ليكون هذا الدخول دعوة لهم للتوبة والتنزه من النفاق وحثاً لهم لإصلاح الذات والتخلص مما يضمرون من النفاق فلا تختص منافع كشف زيف إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤمنين والمؤمنات بل يشمل المنافقين والكفار لأنها رسالة لهم للتوبة والإنابة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )فيفترى بخصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيفضح الله عز وجل الإفتراء والكذب بسلامة النبي وتوالي معجزاته فتكون مناسبة للهداية والصلاح .
ومن منافع إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول : أنها مقدمة لمضامين آية البحث وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس معصوماً من القتل في المعركة ، فلا يقول المنافقون إننا وأبناءنا ندخل المعركة ونتعرض للقتل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مأمن من القتل لأنه يدفع عنه كما تعذر عليهم القول وبث الأراجيف في المدينة بخصوص خروجه للقتال ، فهو لم يبق في المدينة ويبعث الجيش للقتال بل خرج بنفسه ،ولم يفر ولم ينهزم في المعارك وهذا الثبات من الشواهد على صدق نبوته، وهو من أسرار الشهادة السماوية له بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الثاني : دعوة المسلمين إلى الصبر في المعركة ، وعدم الإنسحاب وأن قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قتل أميرهم ، وهو من معاني التحذير والإنذار في قوله تعالى [أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )،وفي سيرته الشريفة دعوة لأمراء الأجناد بالثبات في الميدان .
الثالث: الشهادة التأريخية للمسلمين بتلقيهم خبر مقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط المعركة وفي حال إنكسار فصبروا وواصلوا القتال في الحملة حتى تبين كذب هذا الخبر ، وكان عدد من الصحابة ساعة تغشي هذه الإشاعة يقاتلون بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسقط عدد منهم شهداء .
الرابع : المندوحة والسعة للمؤمنين بتجميع صفوفهم ، ولم شملهم وعودة الذين إنسحبوا من المعركة إلى الميدان .
الخامس : إصابة جيش الكفار بالفتور ، وقلة الهمّة بالقتال وإنشغلوا بالتمثيل بقتلى المسلمين ، والبحث عن قتلاهم ظناً منهم أن غايتهم تحققت بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانسحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وسط جيش المشركين إلى شعب الجبل [قال ابن إسحاق : فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشعب، أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين يا محمد أين يا محمد لانجوت إن نجوت، فقال القوم: أيعطف عليه يا رسول الله رجل منا؟ فقال: دعوه فلما دنا تناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة، يقول بعض القوم فيما ذكر لي. فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر من ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه بها طعنة تردى بها عن فرسه مراراً.
عن محمد بن اسحاق قال: حدثني صالح بن ابراهيم ين عبد الرحمن بن عوف قال: كان آبي بن خلف يلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العوز أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه فيقول: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فرجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه غير كبير فاحتقن الدم فقال: قتلني والله محمد، قالوا: ذهب والله فؤادك إن كان بك بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: بل أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لتقتلني، فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة. فقال حسان بن ثابت في قتل رسول الله أبيا وقوله له بمكة ما قال:
لقد ورث الضلالة عن أبيه … أبي حين بارزه الرسول
فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب عليه السلام عليه بالدرقة حتى ملأها ماء من المهراس. ثم جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد له ريحاً فعافه فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله] ( ).
الترديد بين موت أو قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
تضمنت آية البحث الإخبار عن وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة حرف العطف [أَوْ] الذي يفيد معان متعددة منها :
الأول : الإيهام من طرف السامع ، ويأتي بصيغة الجدال وإقامة البرهان بلغة السبر والتقسيم كما في قوله تعالى [وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى] ( ).
الثاني :التغيير ، وهو التي تقع بعد الأمر أو الطلب في حال إمتناع الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه ، قال تعالى [فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا] ( )،وقوله تعالى [فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ] ( ).
الثالث : الإباحة والتي تقع بعد طلب أوامر بين فردين يمكن الجمع بينهما ، قال تعالى [وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] ( ).
الرابع : الشك من الطرف المتكلم كما لو قلت : صليت الفريضة أو النافلة .
الخامس : الإضراب أي بمعنى بل ، وقال به الكوفيون .
السادس : يراد حرف العطف [أَوْ] بمعنى الواو ،وبه قال الأخفش والأزهري وابن مالك وعدد من الكوفيين قال بعضهم في قوله : وقالوا نأت [فاختر من الصبر والبكاء، أي أحدهما، ثم حذف مِنْ كما في (واختارَ موسى قومَهُ ] ( ).
السابع : بمعنى [ولا] وبه قال ابن مالك عند يأتي [أو] بعد نفي أو نهي .
الثامن : التقسيم والتفصيل نحو الصدقة واجبة أو مندوبة .
وجاء الحرف [أو] في آية البحث للتقسيم والتفصيل والترديد بين أمرين لبيان أن مغادرة الدنيا تكون إما بالموت من غير تسبيب من الإنسان إذ يقع الموت عليه بقيض الملك روحه ، أو بالقتل وهو نوع مفاعلة بين طرفين بأن يكون هناك قاتل وأخر مقتول ، ومادة بينهما وهي القتل ، وهو أشد وأقسى فعل وقد ورد بيان قبحه وذمه في قصة ولدي آدم وقتل قابيل لأخيه هابيل من غير علة ، وقد ذكرته الملائكة في إحتجاجها على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
لتبين الآية مسائل :
الأولى : إن الأنبياء قد يقتلون ظلماً وجوراً وهذا القتل من الفساد ومن سفك الدماء المذكورين في الآية أعلاه .
الثانية : إحتمال تعرض النبي للقتل ليس مانعاً من قيامه بالتبليغ والجهاد في سبيل الله ، قال تعالى [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] ( ).ليكون من باب الأولوية خشية الأنبياء من الله بلحاظ أنهم مرسلون من عند الله وحازوا أسمى مراتب العلم الوهبي الكسبي بفضل الله .
الثالثة : وقوع القتل لعدد من الإنبياء السابقين ، وقد ورد ذم لبعض الأمم السابقة بقوله تعالى [فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
الرابعة : تسليم المسلمين بان كيفية وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل فقد يأتيه الموت وهو جالس او على فراش المرض ، أو تداهمه الشهادة وهو في سوح المعارك أو يقتل غيلة ، ويترشح عنه أمور :
الأول : لن يغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا حتى يتم تبليغ رسالته وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) أي من معاني الرحمة الإلهية في المقام نزول آيات القرآن كلها وتمام التبليغ .
الثاني : إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحياة الدنيا إلى الجنان واللبث الدائم في النعيم أمر مؤكد، فليس لإنسان أن يبقى خالداً في الأرض ، قال تعالى [سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] ( ).
الثالث : تدل آية البحث في مفهومها على نعي نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وأن أجله ليس بعيداً ،وفيه وجوه :
الأول : وجوب التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم و أداء الفرائض العبادية على نحو الإتقان .
الثاني: تلقي التنزيل بالقبول وحفظ الآيات عن ظهر قلب أو كتابته في المصاحف أو في اللخاف( ) والعُسُب( ) والرقاع من الجلد والنسيج ، وهذه الكتابة مسائل :
الأولى : إنها نوع طريق لحفظ الآيات وضبط حروفها .
الثانية : مقدمة لكتابة القرآن في المصاحف .
الثالثة :إنها وبرزخ دون تضييع بعض آيات أو كلمات القرآن.
الرابع : ترغيب المسلمين بالخروج إلى سوح الدفاع عن الإسلام لإرادة المثلية والتشابه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إحتمال التعرض للقتل .
الخامس : أخذ المسلمين الحائطة والإحتراز والدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم وصول أيدي الكفار إليه في حال السلم والحرب والحضر والسفر .
وهناك تباين في ذات الفعل فقوله تعالى ( مات ) و ( قتل ) بصيغة الماضي وفق الصناعة النحوية ، ومعناه الصرفي المجرد إلا أنه بلحاظ سياق الآية يفيد إرادة الزمن المستقبل لأن الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو حي حاضر بين المسلمين وجاءت بصيغة الإستفهام بخصوص حال المسلمين عند وقوع مصيبة موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإعجاز في الآية أن لفظ ( مات ) فعل مبني للمعلوم بينما ( قتل) فعل مبني للمجهول .
فلم تقل الآية أفأن أُميت أو قتل ،أو مات أو أستشهد لبيان أن الموت وأن كان من عند الله فهو حق وحتم ولا دخل للإنسان فيه ،فيأتيه الموت في أجله ، قال تعالى [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( )أما بالنسبة للقتل فهو نوع إنفعال وفعل مركب فيه أطراف هي :
الأول : القاتل وهو من البشر ، سواء قصد القتل العمد وفيه القصاص أو حصل القتل خطأ وفيه الدية.
الثاني : المقتول وهو الذي يقع عليه فعل القتل .
الثالث: زهوق روح المقتول .
وفي ذكر قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعله على نحو الإحتمال مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين للحرص على سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ الحيطة من الكفار .
الثانية : عدم الطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقاء نفسه بما فيه تعريض نفسه للقتل إلا أن يشاء الله ، قال تعالى [وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] ( ).
وصحيح ان الآية أعلاه جاءت بخصوص الإنفاق وإجتناب الشح والبخل والتخلف عن إخراج الحق الشرعي إلا أن موضوعها أعم بلحاظ أنها ذكرت الإنفاق في سبيل الله لبيان أنه وسيلة لتهيئة العدة وبناء أركان الدولة وقوام إستمرارها مقدمة للنصر والغلبة.
ويؤدي البخل والشح وعدم البذل في سبيل الله وهو ، لذا ورد البيان عن أحد صحابة النبي في ساحة القتال [عن أسلم أبي عمران قال: كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد ، فخرج صف عظيم من الروم ، فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال : يا أيها الناس إنكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإِسلام وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع فيها ، فأنزل الله على نبيه يرد علينا ما قلنا { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فكانت التهلكة الإِقامة في الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو] ( ).
الثالثة : جعل المسلمين في أهبة الإستعداد لحال مغادرة الرسول إلى الرفيق الأعلى أي يوم من أيام حياته ليكون كل يوم جديد بعد نزول الآية يبقى فيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حياً وإماماً للمسلمين نعمة عظمى على أهل البيت والصحابة وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة لأن فيه أموراً :
الأول : نزول آيات من القرآن .
الثاني : فيه وحي وحديث قدسي وإخبار من السماء .
الثالث: كل يوم من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه سنة قولية وفعلية .
الرابعة : إزداد عدد الصحابة الذين يدخلون المدينة ويلتقون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : تجلي المعجزات الحسية على نحو يومي .
السادسة : تنزه عدد من المنافقين من درن النفاق والرياء .
السابعة : تنمية الأخلاق الحميدة ،وتحصين المسلمين من الأخلاق المذمومة .
الثامنة : تثبيت كيفية العبادات والفرائض بما يمنع الخلاف فيه بين المسلمين .
التاسعة : كل يوم يطل على الأرض والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حي يرزق تتجلى إشراقات وفيوضات النبوة وبركاتها على الأرض .
العاشرة : دخول فريق من الكفار في الإسلام .
الحادي عشرة :توجه المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال وإحتجاجه على الكفار .
الثاني عشر : مجي وفود من القبائل والأمصار إلى المدينة ، ونيلهم مرتبة الصحابة على القول بقومها برؤية المسلم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال أهل الكوفة بأن ( أو ) تأتي بمعنى ( بل ) الإحزاب في الآية ويكون تقديرها ( فائن مات بل قتل ) الجواب لا ، لن الآية وردت بخصوص أمر يقع في المستقبل ، بالإضافة إلى لزوم تحقق شرطين لإستعمال (أو ) بمعنى بل وهما :
الأول : وقوع (أو ) بعد نفي أو نهي .
الثاني : تكرر العامل فيها مثل : ما توضأ للظهر أو ما توضأ للعصر ..
والآيات التي ذكر بأن (أو) فيها بمعنى (بل ) محل إختلاف بين العلماء مثل [وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ]( ) [فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى]( ) [وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ]( ).
إنما جاء العطف والترديد لأن الغرض من الآية بيان وظائف المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم إجتناب الإنقلاب والتفريط بالواجبات العبادية ، وكأن الآية تقول لهم : سواء مات أو قتل التفتوا إلى أنفسكم ودينكم لا تنشغلوا بالحزن ولا يصيبكم الوهن بعد مغادرته الدنيا فقد جعلكم الله ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وهل يشمل قوله [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا] ( ) قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه خارج بالتخصيص من مضمون الآية وأنها تتعلق بالقصاص وصدور الحكم من السلطان كما ورد [عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً } قال : بينة من الله أنزلها يطلبها ولي المقتول القود أو العقل ، وذلك السلطان]( ).
الجواب هو الأول ، فان الآية أعلاه شاملة للأنبياء وليس من إنسان فاز بالولاية مثل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ] ( ).وفيه تحذير للكفار من التعدي على النبي وإرادة إغتياله .
وأختلف في وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجهين :
الأول : مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسموماً شهيداً .
الثاني : مات النبي في أجله من غير سم أو قتل.
والمختار والمشهور شهرة عظيمة هو الأول والذي قال بالثاني تسأل كيف يسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والله يقول [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ) جواب هذا القول من وجوه :
الأول : جاءت هذه الآية بالترديد بين الموت أو قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدخل السم في الثاني وهو القتل .
الثاني : مجئ الآية التالية بالإخبار بأن موت الإنسان لا يتم إلا بإذن الله ، [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً] ( )وإن تناول السم ، لذا أحتبس السم في بدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو ثلاث سنوات بينما مات الصحابي الذي أكل معه ذات الأكل في حينه .
الثالث: المقصود من الآية أعلاه عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحين إتمام الرسالة والتبليغ ، وتقديرها: والله يعصمك من الناس حتى يتم نزول آيات القرآن [عن أنس بن مالك، أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجئ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك، قالت: أردت لاقتلك.
فقال: ” ما كان الله ليسلطك علي ” أو قال: ” على ذلك “.
قالوا: ألا تقتلها ؟ قال: ” لا “.
قال أنس: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: كان جابر بن عبدالله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ( ) ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ارفعوا أيديكم “.
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها فقال لها ” أسممت هذه الشاة ؟ ” قالت اليهودية: من أخبرك ؟ قال: ” أخبرتني هذه التي في يدي ” وهي الذراع، قالت: [ نعم ].
قال: ” فما أردت بذلك ؟ ” قالت: قلت: إن كنت نبيا فلن تضرك، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك.
فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها، وتوفى بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة وهو مولى لبني بياضة من الانصار.] ( ).
الإعجاز في هجرة الحبشة
لقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه بالهجرة إلى الجنة بعد أن لاقوا الأذى الشديد من كفار قريش فخرجوا في السنة الخامسة للبعثة ، من مكة ليلاً كيلا تعلم قريش بخروجهم وكانوا بين ماش وراكب حتى وصلوا شاطئ البحر فوجدوا سفينتين فركبوا بهما [وأنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب، فاستأجروا سفينة بنصف دينار]( ).
وجاءت قريش تعدو خلفهم فوجدوهم قد غادروا وتلك معجزة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنجاة أول فريق إختار الهجرة وإلا فليس من العادة أن تكون سفن جاهزة للإبحار ، وليس شاطئ البحر قريباً من مكة كي يوقت المهاجرون خروجهم منها ليصلوا إلى البحر في ذات أوان الرحيل ويمكن تأسيس قانون وهو تجلي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل البيت والصحابة .
[وعن أم سلمة في حديث طويل أنها قالت: لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منعة من قومه وعمه لا يصل إليه شئ مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمناً على ديننا، ولم نخش منه ظلماً.
فلما رأت قريش أن قد أصبنا داراً وأمناً أجمعوا على أن يبعثوا إليه فينا ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاصي، وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلاً إلا هيأوا له هدية على ذي حده، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتم أن يردهم عليكما قبل أن يكلمهم فافعلا] ( ).
لقد أظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخشية على الصحابة ، وإختار لهم السلامة في الدين والأبدان بالرحيل إلى أرض الهجرة عند ملك عادل وهو من مصاديق قوله تعالى [بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن الإعجاز في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أصحابه إلى بلاد أهل الكتاب ، ويدين فيها الملك بدين النصارى والمهاجرون قلة وحديثوا عهد بالتفقه في الإسلام وقد لا يحيطوا بلغة الإحتجاج وجاءت مسألة إبتلائية أخرى إذ بعثت قريش رجلين منها إلى النجاشي ليقوما بالإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ويوقعا الفتنة والخصومة بين المسلمين والنصارى ، ويعيدوا المهاجرين إلى مكة بصيغة الطرد والذل ، ولكن الله عز وجل أنطق جعفر الطيار وأصحابه بما جعل الملك يتعهد بحفظهم وسلامتهم ويخبر بأنه ليس من فارق بين الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما قاله عيسى عليه السلام في الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله عز وجل .
وتظهر هذه الهجرة مسائل :
الأولى : إرادة نشر مبادئ الإسلام في الأمصار .
الثانية : إخبار الملوك والأمم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وما يدل عليه بالدلالة التضمنية على دعوتهم للتدبر في معجزاته .
الثالثة :أولوية سلامة الدين ولو بترك الأوطان والذهاب إلى المجهول والعزوف عن العز الذي يترشح عن الإقامة بين الأهل والعشيرة في البلد .
الرابعة : النجاة من كيد ومكر كفار قريش الذي يقع بوجوه منها إكراه الناس على ترك الإسلام والصدود عنه .
وتتجلى هذه النجاة بالهجرة التي جاء القرآن بالترغيب فيها بمفهوم قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا] ( ).
والآية أعلاه مدنية وحصلت الهجرة إلى الحبشة في مكة قبل نزولها مما يدل على أن السنة النبوية من رشحات القرآن وآياته وإن تأخرت ذات الآية التي تتعلق بموضوع السنة وأحوال المسلمين في تأريخ الأمم [وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وأنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب،
فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة.
وهم: عثمان بن عفان، وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الاسد، وامرأته أم سلمة بنت أبى أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة العنزي، وامرأته ليلى بنت أبى حثمة، وأبو سبرة بن أبى رهم، وحاطب بن عمرو، وسهيل بن بيضاء، وعبد الله بن مسعود] ( ).
وبعد الهجرة إلى الحبشة قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سورة النجم فسجد وسجد الناس ، وبلغ المهاجرين في الحبشة أن أهل مكة دخلوا الإسلام فجاء نفر من المهاجرين منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن مسعود ولما وصلوا أدركوا عدم صحة الخبر وأن قريشاً لا تزال مقيدة بسلاسل الكفر والضلالة ، فعادوا بإذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحبشة ومعهم أناس وكان عددهم إثنين وثمانين رجلاً ، وقيل ثلاثة وثمانين باضافة عمار بن ياسر ومعهم ثماني عشرة امرأة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص هؤلاء المهاجرين مسائل :
الأولى : مبادرتهم لدخول الإسلام تحت وطأة أذى قريش .
الثانية : إختيار الهجرة والغربة في البلاد البعيدة لسلامة الدين.
الثالثة : التعرض للمهالك في الطريق البري والبحري.
الرابعة : السلامة من الإرتداد في بلاد الغربة، وهل يشملهم منطوق آية البحث[أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، الجواب نعم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، ولزوم الثبات في منازل الإيمان.
الخامسة : بقاء المهاجرين على دين الإسلام مع أنه في سنيه الأولى، وعدم الإفتتان بدين النصارى خاصة وأنه دين الملك والدولة في الحبشة بإستثناء ابن جحش الذي تنصر بالحبشة فلم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المهاجرين الأوائل بالهجرة إلى بلاد كفر وشرك كي يبقوا على إيمانهم بل أمرهم بالذهاب إلى دولة لأهل الكتاب يتصف ملكها بالعدل خاصة وأن أخبار حصار شعب أبي طالب تبلغ الأسماع ومع هذا ثبت المؤمنون على الإسلام وإنقطعوا إلى أداء الصلاة بمصداق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ).
ولتكون عناية النجاشي بهم من مصاديق قوله تعالى[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]( )، ولم يعود مهاجروا الحبشة إلا بعد الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة وتلك معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله وآله وسلم بأن عادوا لثغر الإمامة للنبوة والتنزيل المدينة المنورة، وكانت عودتهم جماعات وأفراداً وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الباقين منهم فعاد سنة سبهع للهجرة ومعه ستة عشر رجلاً، أوان فتح خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والله ما أدرى بأيهما أنا أسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر بن أبى طالب ( ).
ليدخلوا مكة في عام الفتح وقد ساد الإسلام في الجزيرة، ولتكون هذه الهجرة من مصاديق قوله تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( )، لأنه إختبار وإمتحان للمؤمنين، وتأديب وإنذار للكافرين وبيان بأن الأرض كلها ملك لله سبحانه وهو الذي يهيئ للمؤمنين أسباب الإنتقال والعيش الكريم، وهل الهجرة تمحيص مخصوص الذين هاجروا أم هو تمحيص وإمتحان عام لكل المسلمين الجواب هو الثاني، وهو من وجوه التباين الرتبي بين الرسول والنبي، ووصف آية البحث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( )، بلحاظ أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً من الشعوب والأمم المختلفة.
قوله تعالى [وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ]
جاءت الآية بصيغة الإستفهام الإنكاري وبيان قانون كلي وهو أن الذي يرتد عن دينه والذي يقصر في واجباته العبادية لا يضر الدين والملة، ليكون من مفاهيم الآية سلامة القرآن من التحريف بتقريب ان الذي يريد تغييره وتبديل بعض كلماته لن يستطيع بلوغ غايته الخبيثة لأن من معاني آية البحث سلامة القرآن من التحريف.
وهل تختص الآية بالمسلمين فيكون تقديرها : ومن ينقلب على عقبيه منكم ) أم أن موضوعها أعم.
الجواب هو الثاني ،إذ أن الآية قانون يشمل أهل الكتاب ، والذين يصدقون ببشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم يعودون عن شهادتهم بعد ترغيبهم وإغرائهم بالمال والجاه أو إنصاتهم لأهل الريب والجحود بهذا الخصوص.
فإن قلت جاءت الآية بصيغة الخطاب ( انقلبتم ) والقدر المتيقن منه إرادة المسلمين , وهذا صحيح , الجواب من جهات :
الأولى : لا مانع من شمول الأعم بمضامين الحكم مع إتحاد الموضوع في تنقيح المناط .
الثانية : تجلي قانون كلي بقوله تعالى ( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) وهو ( عطف الحكم العام على الخطاب الخاص ) وسيأتي بيان وشرح هذا القانون في الجزء التالي.
الثالثة : من إلانقلاب الذي أضر بأصحابه نقض قريش لصلح الحديبية .
ومن إعجاز الآية أنها لم تذكر حصول الإنقلاب واقعاً بل ذكرته على نحو الإستفهام الإنكاري ولغة الزجر عن الإنقلاب والإرتداد ، وهو من رحمة الله ، وباعث للسكينة في نفوس المؤمنين وبرزخ دون مصاحبة إحتمال سقوطهم في وحل الإنقلاب وما يجره من أسباب انحراف وضروب الفسوق والمعاصي .
ومما يدل على إرادة العموم في معنى الإنقلاب في الآية قوله تعالى [وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ء] ( )، لأن نسخ إستقبال بيت المقدس وتحويل القبلة إلى البيت الحرام إمتحان وإختبار في الإنقياد إلى التنزيل والنبوة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
ويأتي هذذا الإنقلاب وما يدل عليه من الشك والريب من ضعف الإيمان، أو إستحواذ النفاق على القلب أو تحريض أهل الريب، لذا ورد في التنزيل[سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ]( ) لإفادة حقيقة وهي أن قولهم هذا ضرر على الإسلام لذا جاءت آية البحث تحذيراً من الإنقلاب ليشمل السفهاء في جدالهم.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن الزهري قال : « صرفت القبلة نحو المسجد الحرام في رجب على رأس ستة عشر شهراً من مخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقلب وجهه في السماء وهو يصلي نحو بيت المقدس، فأنزل الله حين وجهه إلى البيت الحرام {سيقول السفهاء من الناس} وما بعدها من الآيات ، فأنشأت اليهود تقول : قد اشتاق الرجل إلى بلده وبيت أبيه، وما لهم حتى تركوا قبلتهم يصلون مرة وجهاً ومرة وجهاً آخر ، وقال رجال من الصحابة : فكيف بمن مات منا وهو يصلي قبل بيت المقدس؛ وفرح المشركون وقالوا : إن محمداً قد التبس عليه أمره ، ويوشك أن يكون على دينكم ، فأنزل الله في ذلك هؤلاء الآيات .
وأخرج ابن جرير عن السدي قال : لما وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل المسجد الحرام اختلف الناس فيها فكانوا أصنافاً ، فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة زماناً ثم تركوها وتوجهوا غيرها؟ وقال المسلمون : ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس هل يقبل الله منا ومنهم أم لا؟ وقال اليهود : إن محمداً اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر ، وقال المشركون من أهل مكة : تحير على محمد دينه فتوجه بقبلته إليكم وعلم أنكم كنتم أهدى منه، ويوشك أن يدخل في دينكم ، فأنزل الله في المنافقين{سيقول السفهاء من الناس} إلى قوله {إلا على الذين هدى الله}، وأنزل في الآخرين الآيات بعدها]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية(لن يضر المؤمنين) أو (لن يضر الناس) الجواب ليس من حصر لوجوه الإنقلاب والإرتداد وآثارها لا تختص بأصحابها فقد تكون فتنة لغيرهم ، وسبباً في نشر مفاهيم الضلالة والفسوق ، وقد جاءت قصة إغواء إبليس لآدم وحواء مجتمعين وهما في الجنة موعظة وعبرة للمسلمين والناس جميعاً للزوم الإحتراز من أسباب الإنقلاب وفيها دعوة.
لهم للنفرة من أهله وإجتناب أماراته ، قال تعالى [إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ] ( ).
وكما أن الآية توبيخاً وإنذاراً للمنافقين من إظهار الكفر عند موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانها إنذار وتحذير للذين لهم عهد أو عقد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والموادعين بأن لاينقلبوا على أعقابهم بنقض العهود أو التعدي على ثغور الإسلام، أو إعانة الكفار والظالمين ضد المسلمين.
لذا فمن إعجاز الآية أن النهي عن الإنقلاب لايختص بالمسلمين ولا يعني الإرتداد على نحو الحصر، بل هو شامل للذين أذعنوا لحكم الإسلام وتآلفوا معه، ورضوا بالعهود معه، لتكون الآية رحمة للناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى عند وفاته باستدامة الأمن والموادعة بين الناس.
بحث بلاغي
من ضروب البلاغة الإيغال، وهو إختتام الكلام بقاعدة أو نكتةأو شاهد يتم المعنى بدونه، للبيان أو التأكيد.
وأستدل بآيات في هذا الباب منها قوله تعالى[وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ]( )، وقوله تعالى[إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ] زائد عن المعنى مبالغة في عدم إنتفاعهم( ).
وليس من زيادة في المعنى فقد يدرك الصم معنى الدعاء بالمعنى والإشارة ودلالة النطق والقرائن على الموضوع، ولعل فيه إشارة إلى العلم الحديث في إستماع الصم للكلام عن قرب دون التولي، وإن كان المراد من الصم في الآية المعنى المجازي والذين يصرون على الجحود.
ومن خصائص آيات القرآن أنها تختتم بقاعدة كلية، وقد يتعلق موضوع هذه القاعدة بذات الآية أو شطر منها أو يشمل آية أو أكثر مما سبقها ليكون في الإيغال والإمعان القرآني مسائل:
الأولى : توكيد مضامين الآية.
الثانية : إستقلال الإيغال بموضوع وبيان مستقل.
الثالثة : تجلي معاني مستحدثة من الجمع بين ذات الكلام الأول والقاعدة.
الرابعة : تعدد التحدي في اللفظ القرآني من وجوه :
الأول : مناسبة الإيغال للموضوع.
الثاني : إنعدام التعارض في آيات القرآن، فيتكرر ذكر ذات الموضوع أو الحكم في القرآن مع تعدد الإيغال والبرهان والتعليل.
الثالث : تأكيد عجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن.
الخامسة : بعث الشوق في نفوس المسلمين والناس جميعاً للإنصات للقرآن والتدبر في معانيه.
السادسة : إستنباط المسائل من القرآن، وإتخاذه برهاناً ودليلاً وضياء ينير دروب الهداية والرشاد.
السابعة : إستيفاء ذكر الموضوع ولوازمه وأوصافه ولحاظ قاعدة السبب والمسبب، والعلة والمعلول.
فقوله تعالى[وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا] من الإيغال ولكنه قاعدة كلية تتضمن فضل الله في تنزيه المسلمين عن الإنقلاب والإرتداد ودفعهم عن المهالك.
قوله تعالى[انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعاهد أصحابه بما يمنعهم من الإرتداد، ويفقههم في الدين ، ويحرص على أدائهم الفرائض على الوجه الأكمل وفي مواقيتها ولم يكن وحده في مقام الإصلاح هذا ، فقد كان القرآن إماماً ومدداً وعوناً في تنمية ملكة التقوى عند المسلمين سواء في بشاراته وإنذاراته أو ما فيه من الأوامر والنواهي ،والوعد والوعيد، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو لأصحابه بالأمن والسلامة من الإرتداد ، وأن يتفضل الله عز وجل عليهم بتمام الثواب على الهجرة ، وعدم إنخرامها بالإرتداد .
وعن سعد بن أبي وقاص قال : جاءني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع أصابني، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، فأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا! قلت: فالشطر؟ قال: لا! ثم قال: الثلث، والثلث كثير! إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك! فقلت: يا رسول الله، أخلف بعد أصحابي؟ فقال: إنك إن تخلف فتعمل صالحاً تزدد خيراً ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام أو يضر بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم! لكن البائس سعد بن خولة يرثي له أن مات بمكة] ( ).
وفيه بيان لفوز المسلمين بمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) من جهات:
الأولى : الأمة التي تتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين هي خير أمة.
الثانية : يغادر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأرض وتبقى أمته على سنته ومنهاجه.
الثالثة : إخبار القرآن المسلمين بوفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنتقاله إلى الرفيق الأعلى لمنع تسرب الغلو لأنفسهم كما في بعض الأمم السالفة ممن بالغوا في منزلة نبيهم وأوصلوه إلى مرتبة الإلوهية.
الرابعة : التسليم بما ورد في الآية من أمور :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله.
الثاني : مجئ رسل سابقين قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد ورد ذكر خمسة وعشرين منهم في القرآن مع أن عددهم أكثر بكثير.
والأنبياء الذين ذكروا في القرآن هم :
1- آدم . 2- إدريس . 3- نوح .
4- هود . 5- صالح. 6- إبراهيم .
7- لوط. 8- إسماعيل . 9- إسحاق .
10-يعقوب. 11- يوسف. 12- أيوب .
13- شعيب. 14- موسى. 15- هارون.
16- ذو الكفل. 17- داود . 18- سليمان.
19 – الياس. 20- اليسع. 21- يونس .
22- زكريا. 23–يحيى. 24-عيسى.
25- وخاتم النبيين وسيد المرسلين محمد عليه وعليهم السلام. وممن ذكر إسمه في القرآن عزير وهو الذي ورد بقوله تعالى [عزير ابن الله][عن علي بن أبي طالب في قوله { أو كالذي مر على قرية } قال : خرج عزير نبي الله من مدينته وهو شاب ، فمر على قرية خربة وهي خاوية على عروشها فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه ، فأول ما خلق منه عيناه ، فجعل ينظر إلى عظامه وينظم بعضها إلى بعض ، ثم كسيت لحماً ، ثم نفخ فيه الروح فقيل له : كم لبثت؟ قال : لبثت يوماً أو بعض يوم . قال : بل لبثت مائة عام ، فأتى مدينته وقد ترك جاراً له اسكافاً شاباً ، فجاء وهو شيخ كبير] ( ).
وكذا ورد عن عبد الله بن سلام [وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن ابن عباس : أن عزير بن سروخا هو الذي فيه قال الله في كتابه { أو كالذي مر على قرية } الآية .
وأخرج ابن جرير عن عكرمة وقتادة وسليمان بن بريدة والضحاك والسدي مثله .
وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر من طرق عن ابن عباس وكعب والحسن ووهب يزيد بعضهم على بعض . أن عزيراً كان عبداً صالحاً حكيماً ، خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها ، فلما انصرف انتهى إلى خربة حين قامت الظهيرة أصابه الحر ، فدخل الخربة وهو على حمار له ، فنزل عن حماره ومعه سلة فيها تين وسلة فيها عنب ، فنزل في ظل تلك الخربة .
وأخرج قصعة معه ، فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة ، ثم أخرج خبزاً يابساً معه فألقاه في تلك القصعة في العصير ليبتل ليأكله ، ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط ، فنظر سقف تلك البيوت ورأى منها ما فيها وهي قائمة على عرشها وقد باد أهلها ، ورأى عظاماً بالية فقال : { أنى يحيي هذه الله بعد موتها : } فلم يشك أن الله يحييها ولكن قالها تعجبا .
فبعث الله ملك الموت فقبض روحه ، فأماته الله مائة عام ، فلما أتت عليه مائة عام وكان فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث ، فبعث الله إلى عزير ملكاً فخلق قلبه ليعقل به ، وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى ، ثم ركب خلقه وهو ينظر ، ثم كسا عظامه اللحم والشعر والجلد ، ثم نفخ فيه الروح كل ذلك يرى ويعقل ، فاستوى جالساً فقال له الملك : كم لبثت؟ قال : لبثت يوماً وذلك أنه كان نام في صدر النهار عند الظهيرة ، وبعث في آخر النهار والشمس لم تغب . فقال : أو بعض يوم ، ولم يتم لي يوم .
وكان أبوه سروخا قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه أحد غير عزير ، فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة ، وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب ، فجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فجدد لهم التوراة ، فنزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه ، فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل ، فمن ثم قالت اليهود : عزير ابن الله للذي كان من أمر الشهابين ، وتجديده للتوراة ، وقيامه بأمر بني إسرائيل ، وكان جدد لهم التوراة بأرض السواد بدير حزقيل ، والقرية التي مات فيها يقال لها سابر أباد ، قال ابن عباس : فكان كما قال الله { و لنجعلك آية للناس } يعني لبني إسرائيل ، وذلك أنه كان يجلس مع بني بنيه وهم شيوخ وهو شاب ، لأنه كان مات وهو ابن أربعين سنة ، فبعثه الله شاباً كهيئته يوم مات] ( ).
ومنهم لقمان الحكيم [عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن” .
قال أبو القاسم الطبراني: أراد الحبش] ( ).
كما ذكرت ذو القرنين ، وذكرت مريم بنت عمران وبين لفظ [الرُّسُلِ] الوارد في آية البحث وبين الأنبياء الذين ذكرت أسمائهم في القرآن عموم وخصوص مطلق ، لأن لفظ الرسل هو الأكثر وورد عن أبي ذر أنه قال [قلت : يا رسول الله كم الأنبياء؟
قال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً قال : قلت : يا رسول الله كم المرسلون منهم؟
قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء قلت : أكان آدم نبياً؟
قال : نعم كلمه الله سبحانه وخلقه بيده،
يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب : هود وصالح وشعيب ونبيك. قلت : يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟قال : «مائة وأربع كتب،
منها على آدم عشر صحف،
وعلى شيث خمسين صحيفة،
وعلى أخنوح،
وهو إدريس ثلاثين صحيفة،
وهو أوّل من خطّ بالقلم،
وعلى إبراهيم عشر صحائف،
والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان] ( ).
وهل المراد من الرسل في آية البحث خصوص المرسلين من أصحاب الشرائع أم المعنى الأعم وإرادة كل الإنبياء، فيه وجوه :
الأول : الرسل الخمسة أولى العزم الذين تحملوا أشق أنواع الأذى ، وتحملوا بالصبر في جنب الله وذكر أنهم بعثوا للناس جميعاً وهم :
الأول : نوح عليه السلام .
الثاني : إبراهيم عليه السلام .
الثالث :موسى عليه السلام .
الرابع : عيسى عليه السلام.
الخامس :سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني :المقصود الرسل الذين بعثوا بشريعة مبتدأة وإن لم تتعارض مع ريعة الرسول السابق .
الثالث : إرادة جميع الأنبياء الذين إبتداء من آدم عليه السلام ثم إبنه شيت بن آدم إلى أن صارت فترة إنقطاع من الرسل ، ليتطلع أهل الأرض إلى بقية ختم النبيين التي تتصف بأمتناع المؤمنين بها عن الإنقلاب والإرتداد ، ومن أسباب هذا الإمتناع آية البحث التي تحذر منه وتبين قبحه الذاتي.
والمختار هو الأخير لأصالة الإطلاق وصرف اسم الرسول على النبي أيضاً بلحاظ التبليغ والمعجزة وأن الله عز وجل هو الذي أرسله وإن كانت نبوته ورسالته بالدعوة إلى رسالة الرسول السابق والبشارة بالرسول اللاحق .
وفي قصة يوسف عليه السلام وأخوته ورد عن النبي محمد صلى الله وآله وسلم أنه قال: لا تلقنوا الناس فيكذبوا، فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس، فلما لقنهم أبوهم كذبوا فقالوا أكله الذئب)( ).
وتحدثت آية البحث عن الإنقلاب إلى منازل الكفر والإرتداد عن الدين، وفيه وجوه:
الأول : التباين الموضوعي بين التلقي في قصة يوسف وبين لغة الإخبار في آية البحث.
الثاني : جاءت آية البحث بصيغة الإستفهام الإنكاري الذي يتضمن الزجر والنهي عن الإرتداد.
الثالث : تبين الآية إرتقاء المسلمين في مراتب المعرفة الإلهية، وأهليتهم لتلقي الأوامر والنواهي بأصول وفروع الدين.
الرابع : قصة يوسف وتحذير أبيهم يعقوب عليه السلام قضية عين أما تحذير المسلمين من الإرتداد فهو موضوع عام، يتآزر ويتعاضد المسلمون للتوقي من الإرتداد.
وعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)( ).
الخامس : بيان النفع العظيم من مضامين آيات القرآن فالله عز وجل يعلم بأن أثر ونتيجة التحذير والإنذار إنتفاع المسلمين منه الإنتفاع الأمثل.
السادس : من إعجاز القرآن في المقام تضمن آية البحث الذم والتبكيت والتوبيخ.
وقال الحصين بن الحمام المري( )،
فلسنا على الأعقاب تَدْمَى كلومُنا
ولكنْ على أقدامنا تَقْطُر الدَّما( ).
ليبين الشاعر شجاعتهم وأن دماء جراحاتهم تسقط أمامهم وعلى أقدامهم وليس من وراء ظهورهم أي أنهم لاينهزمون وإن أثقلتهم الجراحات والكلوم.
لقد أثبت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه الكريم يوم أحد أنه يتلقى الكلوم والجراحات بوجهه ومقادم بدنه، وكان ثباته في المعركة سبباً لعودة المسلمين إلى مواضعهم في ميدان القتال، وهذه الجراحات والثبات في المعركة من (السنة الدفاعية) وشاهد على أنها سبب لدوام صرح الإسلام.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الإنتماء للإسلام إرتقاء في المعارف وإكتساب للعلوم وسعي إلى الأمام نحو غايات حميدة لأنها ذكرت الإرتداد بصيغة الذم ووصفته بأنه إنقلاب على الأعقاب ورجوع القهقرى إلى الخلف ، مما يعني أنه إنكسار وسبب للخذلان [وقيل للمهلب بن أبي صفرة: إنك لتلقي نفسك في المهالك، قال: إني إن لم آت الموت مسترسلاً، أتاني مستعجلاً؛ إني لست أتي الموت من حبه، إنما آتيه من بغضه، وأنشد قول الحصين بن الحمام بقصيدته المشهورة من الطويل:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد …
لنفسي حياة مثل أن أتقدما]( ).
وفي الآية مسائل :
الأولى : هل تدل الآية على ظهور أمارات إمكان إنقلاب وإرتداد المسلمين بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب لا دليل عليه إنما جاءت هذه الآية وما فيها من التحدي بلحاظ الآية السابقة التي ذكرت تمني المسلمين الموت والقتل في سبيل الله، وفي مواجهة جيوش الكفار التي لا ترضى إلا بهدم صرح الإسلام الذي اراد الله عز وجل لشمسه أن تشع على عموم الأرض، فاخبر الله عز وجل بهذه الآية بعدم انحصار جهاد المسلمين بحال وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإمامته لهم في الصلاة وفي ميادين القتال ، إنما تدعو الآية المسلمين لإستحضار تمنيهم الموت عند مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا بالبقاء في منازل الإيمان وعدم هجرانها.
الثانية : تتضمن الآية البشارة للمسلمين بالتخفيف عنهم، وأن تمنيهم الموت بسبب شدة هجوم قريش في معركة أحد ومعارك الإسلام الأولى مطلقاً سوف لن يضطروا إليه بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا إلى منزل صدق عند الله عز وجل، وهو من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ) بلحاظ أن قوة الإسلام وإنتشار كلمة التوحيد وإزاحة ضرر كبار الكفار عن المدينة المنورة وتثبيت معالم الدين وأحكام الشريعة من تمام النعمة التي تذكرها الآية أعلاه .
ليكون من إعجاز القرآن مجئ الآية بلغة التحذير والتنبيه والمواساة لتتضمن الوعد الكريم وبعث السكينة في النفوس ، فليس من مصيبة على المسلمين أكبر من رحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الدنيا، ولا تختص هذه المصيبة بأهل البيت والصحابة بل هي متجددة في كل زمان .
لذا أكدت آية البحث على لزوم عصمة المسلمين في كل زمان من الإرتداد والنكوص والتخاذل.
الثالثة: بين قوله تعالى [انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ) وبين الإرتداد عن الدين عموم وخصوص مطلق ، إذ أن الإنقلاب أعم في موضوعه وحكمه ولا ينحصر بالإنتساب للإسلام والرجوع إلى الكفر والضلالة.
وبلحاظ الآية السابقة وتمني المؤمنين الشهادة يكون من الإرتداد الفرار من الزحف وهو من الكبائر[عن معاذ بن جبل قال : أوصاني رسول الله صلى الله وآله عليه وسلم بعشر كلمات. قال : لا تشرك بالله شيئاً وإن قتلت وحرقت ، ولا تعقن والديك وان أمراك أن تخرج من أهلك ومالك ، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً فإنه من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ، ولا تشربن الخمر فإنه رأس كل فاحشة ، وإياك والمعصية فإن بالمعصية جل سخط الله ، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس وان أصاب الناس موت فاثبت ، وانفق على أهلك من طولك ، ولا ترفع عنهم عصاك أدباً وأخفهم في الله] ( ).
لقد زحف كفار قريش ومن والاهم يوم أحد وهم ثلاثة آلاف رجل ومعهم العدة والسلاح والمؤون والرواحل والخيل التي تنقاد، أي لم تجهد بالركوب ، بل تكون مهيأة لدخول المعركة ومعهم النساء لبعث الهمة فيهم للقتال بضرب الدفوف خلفهم وتحريضهم وجعلهم يستحيون من الفرار ناحيتهن ، وكانت هند بنت عتبة تقول :
وَيْهَا بَنِي عَبْدِ الدّارْ … وَيْهَا حُمَاةَ الْأَدْبَارْ
ضَرْبًا بِكُلّ بَتّارْ
وَتَقُولُ
إنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ … وَنَفْرِشُ النّمَارِقْ
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ … فِرَاقَ غَيْرَ وَامِقْ] ( ).
وإحضار الكفار للنسوة معهم أمارة أنهم يظنون النصر والغلبة وعدم تعريضهن للسبي ، ولكنهن إنكشفت للمسلمين لولا نزول رماتهم من الجبل ، وكذا أخرج المسلمون معهم النساء وكانت معهن فاطمة الزهراء عليها السلام وصفية بنت عبد المطلب عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقعت في معركة أحد أمور:
الأول : إنخزال ثلث جيش المسلمين في الطريق بإغراء رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول الذي بث سمومه من جهات:
الأولى : بعث الخوف في نفوسهم من لقاء المشركين .
الثانية : بيان أن هذا الخروج أمر زائد ، ليس من حاجة أو ضرورة تدعو إليه .
الثالثة : إعلان عبد الله بن أبي سلول عدم رضاه لعدم سماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله بالبقاء في المدينة المنورة ، وقتال الكفار في أزقتها.
وقال الواقدي :زحف المشركون على تعبيةٍ حتى انتهوا إلى موضع أرض ابن عامر اليوم. فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلى أحد إلى موضع القنطرة اليوم جاء وقد حانت الصلاة، وهو يرى المشركين، أمر بلالاً فأذن وأقام وصلى بأصحابه الصبح صفوفاً، وارتحل ابن أبي من ذلك المكان في كتيبة كأنه هيق يقدمهم، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: أذكركم الله ودينكم ونبيكم، وما شرطتم له أن تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم وأولادكم ونساءكم. فقال ابن أبي: ما أرى يكون بينهم قتال، ولئن أطعتني يا أبا جابر لترجعن، فإن أهل الرأي والحجى قد رجعوا، ونحن ناصروه في مدينتنا، وقد خالفنا وأشرت عليه بالرأي، فأبى إلا طواعية الغلمان. فلما أبى علي عبد الله أن يرجع ودخلوا أزقة المدينة، قال لهم أبو جابر: أبعدكم الله، إن الله سيغني النبي والمؤمنين عن نصركم! فانصرف ابن أبي وهو يقول: أيعصيني ويطيع الولدان؟ وانصرف عبد الله بن عمرو بن حرام يعدو حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وهو يسوي الصفوف. فلما أصيب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم سر ابن أبي، وأظهر الشماتة وقال: عصاني وأطاع من لا رأي له] ( ).
الثاني : إنكسار وهزيمة جيش المشركين مع كثرته في بدايات المعركة، وصيرورة نساءهم عرضة للسبي، وهل كان الملائكة حاضرين من أول المعركة أم أنهم جاءوا فيما بعد بلحاظ أنهم مدد يأتي بعد نشوب المعركة وشدتها، الجواب هو الأول لأنه من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الثالث : ترك رماة المسلمين مواضعهم في حفظ مؤخرة المسلمين، وحصول ثغرة أدت إلى تلقي المسلمين خسارة كبيرة بالأرواح وكثرة الجراحات، وصار الكفار قريبين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنكشف لهم، وتؤكد آية البحث على سلامته يوم أحد لورود قوله تعالى[أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ] بصيغة المضارع والزمن اللاحق.
وهو من أسرار الترديد في الآية بين الموت والقتل أي قد يخرج من المعارك سالماً، وينجو من الإغتيال مع تعدده.
الرابع : همّ فريق من المسلمين بالجبن والقعود والتراجع لولا فضل الله بالتدارك وعدم صيرورة هذ الهم واقعاً في ساعة الشدة والضيق[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ).
الخامس : تمني طائفة من المسلمين القتل في ساحة معركة أحد عند ملاقاة الكفار، وتعني هذه الأمنية بذل الوسع والعزم على التضحية، وقد تجلت شواهد من هذه التضحية يوم أحد، ومنها رجوع الصحابة إلى ساحة المعركة.
وهل منها بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ساحة المعركة، الجواب لا، وإن كان عرضة للموت تلك الساعات أكثر من غيره وغيرها لأن قتله صلى الله عليه وآله وسلم هو غاية المشركين من قبل أن يخرجوا من مكة وصاحبتهم هذه الغاية الخبيثة في الطريق إلى المعركة وكانوا يتناجون بها.
السادس : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه(عن عكرمة قال: لم يمد النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ولا بملك واحد لقول الله{إن تصبروا وتتقوا}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله{إن تصبروا وتتقوا} الآية. قال: كان هذا موعداً من الله يوم أحد عرضه على نبيه صلى الله عليه وسلم، أن المؤمنين إن اتقوا وصبروا أيدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، ففر المسلمون يوم أحد وولوا مدبرين فلم يمدهم الله)( ).
ولا دليل على هذا الإستنباط، كما أنه لم يرد عن أحد من الصحابة وربما نسب هذا القول إلى المشهور، ولا أصل له، والمختار نزول الملائكة يوم أحد وتدل عليهم وجوه:
الأول : إن قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، نزل بخصوص معركة أحد.
الثاني : إن شروط الصبر والتقوى الوارد في قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، لا يعني حجب نزول الملائكة عن المسلمين لأنهم إنهزموا ولم يثبتوا في المعركة بل إنهم صبروا وخشوا الله عز وجل ويتجلى الصبر والتقوى بخروجهم للقتال مع سماعهم أن المشركين جهزوا أنفسهم للبطش والثأر والإنتقام، وتفضل الله عز وجل بتزكيتهم ساعة الخروج بقوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، من وجوه :
الأولى : توجه الخطاب الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص مقدمات القتال.
الثانية : إمضاء فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتهيئ للقتال، فلما إختلف الصحابة في الخروج للقاء قريش في معركة أحد، دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيته ثم خرج و(قد لبس لأمته، وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطها بمنطقةٍ من حمائل سيف من أدم،
كانت عند آل أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد، واعتم، وتقلد السيف. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ندموا جميعاً على ما صنعوا، وقال الذين يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما كان لنا أن نلح على رسول الله في أمرٍ يهوى خلافه. وندمهم أهل الرأي الذين كانوا يشيرون بالمقام،
فقالوا: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك. فقال: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. وكانت الأنبياء قبله إذا لبس النبي لأمته لم يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم( ).
وأستدل عليه (أَنّ الْجِهَادَ يَلْزَمُ بِالشّرُوعِ فِيهِ حَتّى إنّ مَنْ لَبِسَ لَامَتَهُ وَشَرَعَ فِي أَسْبَابِهِ وَتَأَهّبَ لِلْخُرُوجِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ الْخُرُوجِ حَتّى يُقَاتِلَ عَدُوّهُ ( ).
ولا دليل على هذا الإستدلال، من جهات:
الأولى : عدم وضع عدة القتال بعد لبسها خاص بالأنبياء، لأنه أمر لم يتم إلا بالوحي ، فصحيح أن نفراً من شباب المسلمين ألحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج للقاء العدو، ولكن لبس النبي الدرع بأمر من عند الله وعلى فرض أنه لم يلبسها في ذات اليوم فانه يلبسها في اليوم التالي لوصول كفار قريش إلى مشارف المدينة.
الثانية : من خصائص تهيئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال، وعدم نزعه الدرع وحمائل السيف بعث الهمم، ودعوة الصحابة للتوكل على الله وعقد العزائم على مواجهة الكفار.
الثالثة : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن وضع لأمة الحرب يتعلق بحكم الله بينه وبين أعدائه، ولكن قد يكون هذا الحكم بالصلح والتراضي، أو إنسحاب أحد الطرفين قال تعالى[وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
الرابعة : إقتران لبس النبي لبزة القتال وعده المؤمنين بالنصر والغلبة بقيد التحلي بالصبر.
الخامسة : إنه من مصاديق حسن التوكل على الله، قال تعالى[فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]( ).
الثالث : نعت المسلمين بالآية أعلاه بالمؤمنين،[ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ]( )، ومن خصائص الإيمان ملازمة الصبر والتقوى له ويمكن أن يكون تقدير الآية هو: وإذ غدوت من أهلك تبوئ الصابرين المتقين.
الرابع : يحتمل المراد من الصبر في قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( )، وجوهاً:
الأول : الصبر في أداء الفرائض والعبادات.
الثاني : إرادة الصبر في ميدان المعركة، وعند تشابك الأسنة.
الثالث : إرادة ضروب الصبر مطلقاً.
والقدر المتيقن من الآية هو الوجه الثاني، ويكون الوجهان الآخران في طوله من غير تعارض بينها.
ومن فضل الله عز وجل على الناس أنه يعطي على القليل والمسمى الشئ الكثير.
الرابع : لقد وعد الله عز وجل المؤمنين بالنصر والغلبة على الكفار، قال تعالى[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ]( ).
الخامس : لو تردد الأمر بخصوص الآية أعلاه هل أنزل الله عز وجل الملائكة لنصر نبيه والمؤمنين أم لا، فالأصل هو الأول.
لقد أراد الله عز وجل من نزول الملائكة لنصرة المسلمين أن يكون حجة وبرزخاً دون إرتدادهم وإنقلابهم عن الإقدام إلى سوح القتال، لذا فان هذا النزول تجدد في معركة أحد بعد الإجماع على نزولهم يوم بدر.
ولعل منشأ الخلاف في هذا النزول يوم أحد هو ما أصاب المسلمين من الخسارة والإنكسار، للتبادر الذهني بأن نزول الملائكة حائل دون هذه الخسارة، وتلك مسألة عقلية وإستنتاج لطيف، إلا أن الله عز وجل أراد للمسلمين الأجر والثواب بالإبتلاء بخسارة جولة في المعركة وان كان حضور الملائكة من أول ساعة منها.
لتكون نصرتهم بعد الهزيمة، وقدرتهم على العودة إلى ساحة المعركة آية من عند الله، مع كثرة العدو وكونه أكثر من ثلاثة أضعاف المسلمين ومجئ خيلهم من خلف المسلمين بعد إنسحاب أكثر الرماة وقتل الباقين، أي أن الكفار أحاطوا بالمسلمين ولولا نصرة الله عز وجل ونزول الملائكة وثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل الله لهمت سيوف الكفار بهم وصاروا بين قتيل وجريح وأسير ومنهزم، ولكن الله أنعم على المسلمين بالإجتماع من جديد في ساحة المعركة مع شدتها وتقدم جيش الكفار.
ليستحضر المسلمون هذه الآية عند مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا، فلا يجبنوا ولا يقعدوا عن وظائفهم العبادية والدفاع عن حوزة وثغر الإسلام.
ليكون من إعجاز القرآن أن يتوجه النهي من الله للمسلمين عن النكوص والإرتداد ويأتي النصر في معركة بدر وأحد ونزول الملائكة مدداً لهم، ليكون عوناً متقدم زماناً ينتفعون منه يوم وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يتركون مقامات الإيمان التي تتقوم بطاعة الله ورسوله، ويكون تقدير الآية على وجوه منها:
الأول :افاين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم بعد رؤية نصر الله لكم.
الثاني : افاين مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم وقد أمدكم الله بالملائكة يوم بدر وأحد والخندق.
الثالث : أفاين مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم وانتم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع : أفاين مات أو قتل إنقلبتم على أعقابكم فيشيع الفساد في الأرض، وتقوى شوكة المشركين.
الخامس : أفاين مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم وأنتم الأعلون، ومن خصائص العلو بين الأمم التنزه عن الإنقلاب والإرتداد.
السادس : أفاين مات محمد أو قتل إنقلبتم من منازل الإيمان على أعقابكم.
السابع : افاين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم وهو تمحيص لكم.
قد يتبادر إلى الذهن أن المراد من الإنقلاب في المقام هو الإرتداد والرجوع إلى الكفر والجحود ، وإلى هذا المعنى وردت أقوال:
الأول: [وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد { ومن ينقلب على عقبيه } قال : يرتد] ( ).
الثاني :[ عن الربيع في الآية قال : ذلك يوم أحد حين أصابهم ما أصابهم من القتل والقرح ، وتداعوا نبي الله…؟ قالوا: قد قتل . وقال أناس منهم : لو كان نبياً ما قتل.
وقال أناس من علية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قاتلوا على ما قتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به.
وذكر لنا أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتخبَّط في دمه فقال : يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم . فأنزل الله { وما محمد إلا رسول الله قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } يقول : ارتددتم كفاراً بعد إيمانكم]( ).
الثالث : [سبب نزولها أنه لما أشيع يوم أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل ، قال أناس : لو كان نبياً ما قتل ، وقال آخرون : نقاتل على ما قاتل عليه حتى نلحق به .
{ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } يعني رجعتم كفاراً بعد إيمانكم] ( )قاله الحسن الماوردي .
الرابع : قال الواحدي في الآية [وما محمدٌ إلاَّ رسول قد خلت من قبله الرسل } أَيْ : يموت كما ماتت الرُّسل قبله { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } ارتددتم كفَّاراً بعد إيمانكم ، وذلك لمَّا نُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحدٍ وأُشيع أنَّه قد قُتل قال ناس من أهل النِّفاق للمؤمنين : إن كان محمد قد قُتل فالحقوا بدينكم الأوَّل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً } أَيْ : فإنما يضرُّ نفسه باستحقاق العذاب] ( ).
الخامس : أفَإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلى أعْقَابِكُمْ } إنكارٌ لارتدادهم وانقلابِهم عن الدين بخُلوِّه بموتٍ أو قتلٍ بعد علمِهم بخلوِّ الرسلِ قبله وبقاءِ دينِهم متمسَّكاً به] ( ).
السادس : وفي تفسير الآية قال ابن حيان :[ وظاهر الانقلاب على العقبين هو الارتداد . وقيل : هو بالفرار لا الارتداد . وقد جاء هذا اللفظ في الارتداد والكفر في قوله : { لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه }]( ).
السابع: [قوله تعالى: { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } رجعتم إلى دينكم الأول] ( ).
الثامن : [{ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } يعني أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل وترجعون إلى دينكم الأول يقال لكل من رجع إلى ما كان عليه رجع وراءه ونكص على عقبيه] ( ).
ومعنى الإنقلاب في الآية عام ، وبينه وبين الإرتداد عموم وخصوص مطلق وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المراد من الإنقلاب هو نقص الإيمان [وأخرج ابن المنذر عن الزهري قال : « لما نزلت هذه الآية { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم}( ) قالوا : يا رسول الله قد علمنا أن الإيمان يزداد فهل ينقص؟ قال : إي والذي بعثني بالحق إنه لينقص قالوا : يا رسول الله فهل لذلك دلالة في كتاب الله؟
قال : نعم . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } فالإنقلاب نقصان لا كفر]( ).
وفي هذا الحديث حجة في بيان السعة وتعدد المراتب في الإنقلاب بلحاظ الكم دون الكيف ،فالنقصان لا يعني الإرتداد والتبدل النوعي في العقيدة.
وهذا الحديث من تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن، ويتضمن الثناء على المسلمين طرد اليأس والقنوط عن نفوسهم بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء اليأس الذي قد يدب في أيام حياته بالخشية مما بعد وفاته وشهادته، أو اليأس الذي يتعقب هذه الشهادة وهو الأكبر والأطول في زمانه.
فجاءت آية البحث لقطعه ومنعه إلى يوم القيامة وللزجر عن سببه ليكون سالباً بإنتفاء الموضوع وقد إتخذ أهل البيت والصحابة هذه الآية دليلاً في مواطن عديدة.
ومن مصاديق الإنقلاب في الآية وجوه:
الأول :إجتناب الفتور والوهن عن الجهاد والقتال في سبيل الله ،لأن هذا الوهن تغير وتبدل في حياة المسلمين قد يؤدي إلى إغراء الكفار [عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: “إِنَّ عَلِيّاً كَانَ يَقُولُ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ: ” أَفَإيِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ” وَاللَّهِ لا نَنْقَلِبُ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ، وَاللَّهِ لَئِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أُقَاتِلَنَّ عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ حَتَّى أَمُوتَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَخُوهُ وَابن عَمِّهِ وَوَلِيُّهُ، فَمَنْ أَحَقُّ بِهِ مِنِّي] ( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو قال : ألا أخبركم بالمرتد على عقبيه ، الذي يأخذ العطاء ويغزو في سبيل الله ، ثم يدع ذلك ويأخذ الأرض بالجزية والرزق. فذلك الذي يرتد على عقبيه] ( ).
الثاني : الحيطة والحذر من الإصابة بالوهن والضعف وما يترتب عليه من الكسل والتكاسل والقعود ولإعراض عن دعوة الدفاع وعن الجهاد من باب الأولوية القطعية ، فعندما نزل [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] ( )هبّ المسلمون للقتال تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد رحيله يبقى ذات التنزيل واللواء فجاءت الآية آية البحث لتكون تأكيداً لمضامين الآية أعلاه من جهتين :
الأولى : تنزه المسلمين عن الوهن والحزن أيام حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إجتناب المسلمين الوهن والضعف والحزن بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا ، فلا يقولون لا قدرة لنا على مواجهة الكفار والأولى مهادنتهم ، بينما وردت الآيات والسنة بالتخفيف عن المؤمنين وعدم تكليفهم أكثر من قدرتهم، وفي التنزيل[رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ] ( ).
الثالث : إرادة الفرار من الزحف من الإنقلاب على الإعقاب في ساعة الشدة وقسوة اللقاء ، وهذا الفرار بذاته إنقلاب ونكوص ويؤدي إلى تعدد ضروب الإنقلاب والرجوع ، قال تعالى[قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ]( ) أي أن الفرار لن يطيل عمراً ، وإن صار سبباً بأطالة العمر وتباعد الأجل كما في قوله تعالى [أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ] ( ).
ويفوز المسلمون بذات التباعد والنجاة من القتل عند الثبات في المعركة وعدم الفرار فيدركون ذات العمر ، ولكن بالثبات يكون العز والأجر ، وبالفرار يكون الذل والإثم في حياتهم العبادية وفي آخرتهم إذ يترتب الثواب على الصبر والدفاع .
الرابع : تتضمن الآية تحذير المسلمين من التقصير والقصور في أداء الصلاة اليومية من جهات :
الأولى : التحذير من الفتور والوهن في أداء صلاة الجماعة وهذا التحذير على أقسام:
الأول : لزوم عدم تخلف الإمام عن أداء الصلاة وتوليتها من هو أدنى منه ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ]( ) أنه كان الإمام في الصلوات اليومية الخمسة وهذه الإمامة من معجزاته الحسية والمعاني القدسية في لزوم تعاهد الصلاة بالذات والجماعة، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الثاني : عدم تخلف المسلمين عن صلاة الجماعة.
الثالث : لزوم مناجاة المسلمين لعدم الميل إلى أدائها في بيوتهم ومحلات العمل فرادا ومن غير علة.
الثالث : تعاهد صلاة الجمعة ، وعدم التفريط بها لورود القرآن بالتأكيد عليها بالاسم والسنة النبوية الفعلية والقولية ، وما لها من الخصائص والمنافع العامة والخاصة.
وأخرج البزار عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقدم دحية بن خليفة يبيع سلعة له ، فما بقي في المسجد أحد إلا نفر ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قائم ، فأنزل الله { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } الآية .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً } قال : قدم دحية الكلبي بتجارة ، فخرجوا ينظرون إلا سبعة نفر ( ).
الثالثة : لزوم توارث أداء الصلاة وكيفيتها وإتقانها تركة من الأباء إلى الأبناء ومن كل جيل وطبقة إلى الأخرى ، فهي الفرد الجامع للأخوة الإسلامية ، فلقد آخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار ، لتأتي الصلاة فتبين أن أخوة المسلمين أيضاً طويلة بين أجيالهم .
الرابعة : لزوم التفقه في مقدمات الصلاة إذ أن قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] ( ) دعوة للمسلمين لإتقان الوضوء وترتيبه والإنتقال إلى الطهارة البدلية الترابية وتلاوة السور والآيات على الوجه الصحيح .
الرابع : الوهن والضعف في المناجاة بأداء الصلاة والأمر بها ، للزوم النهي عن التكاسل فيها ، قال تعالى [وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى] ( ).
الخامس : من وجوه الإنقلاب التي تنهى عنها آية البحث القصور في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لما يؤدي إليه هذا القصور من أسباب وقوع المفسدة والحرمان من المصلحة في النشأتين .
ووردت الآية بصيغة الماضي [انقَلَبْتُمْ]وتفيد معنى المستقبل بلحاظ لغة الإستفهام الإنكاري التي جاءت بها ، ترى لماذا لم تأت الآية بصيغة المضارع تنقلبون ، الجواب إرادة الإنذار والتحذير من هذا الإنقلاب وأنه لو تم وحصل تصبح العودة إلى مقامات الإيمان أمراً صعباً.
إذ يظهر صوت النفاق ، ويطمع الكفار في إشاعة مفاهيم الجحود والوثنية من جديد ، وتخبر آية البحث بالدلالة التضمنية عن كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين لبيان أن الإنقلاب والإرتداد هلكة للأجيال إذ تتقوم الحياة الدنيا بالعبادة ووجوب طاعة الناس لله عز وجل، والإقامة على ذكره والذي يتجلى بالسنن والأحكام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون التحذير من الإنقلاب والإرتداد دعوة لتعاهد الإمتثال لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ولم تكتف الآية بذكر الإنقلاب ، فلم تقل : (إنقلبتم ومن ينقلب على عقبيه)بل قيدت الإنقلاب المذموم والمنهي عنه بقيد على أعقابهم ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة بيان حقيقة وهي أن الإنقلاب من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
الثاني : بيان الضرر الفادح بالعودة إلى الوراء والرجوع إلى مستنقع الكفر .
الثالث : إرادة التأكيد كما تقول سمعت باذني ، مع أنه لو قلت: سمعت، لكان كافياً .
الرابع : تجلي البرزخ بين الإيمان والكفر , وفيه مسائل :
الأولى : التذكير بنعمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : تجلي معاني الإيمان بأحكام الإسلام .
الثالثة : إلتماس شآبيب الرحمة ، ورجاء اللطف الإلهي بصدق الإيمان وحسن الإمتثال في الأحكام الشرعية ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الرابعة : تأكيد الزجر عن الإنقلاب والإرتداد .
الخامس : بيان قبح الإرتداد ، والتحذير منه .
السادس : دعوة المسلمين للمناجاة بالتوقي من الإنقلاب والإرتداد والرجوع عن سنن الإيمان من وجوه:
الأول : إتخاذ آية البحث إماماً للإحتراز من الإرتداد.
الثاني : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برحيله عن أمته والشهادة له ببذله الوسع في تبليغ أحكام الرسالة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ).
الثالث : بيان مصداق لنزول القرآن من عند الله لما فيه من الإخبار عن موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومغادرته الدنيا .
الرابع : إستعداد المسلمين لأيام ما بعد مغادرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
الخامس : تذكير أهل الكتاب برحيل الأنبياء السابقين وخلوا أيام التنزيل من الأنبياء إلا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته.
السادس : منع الغلو بالأنبياء والزجر عن تأليههم وعبادتهم.
[وفي المرسل عَنْ عَطَاء قَالَ ” بَيْنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّم التَّشَهُّدإِذْ قَالَ رَجُل : وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوله وَعَبْده ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : لَقَدْ كُنْت عَبْدًا قَبْل أَنْ أَكُون رَسُولًا . قُلْ : عَبْده وَرَسُوله ” وَرِجَاله ثِقَات إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَل]( ).
السابع :منع المسلمين من الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الآيات في نبوته صلى الله عليه وآله وسلم سلامة المسلمين من الغلو بمراتبه المتباينة إذ كان يؤكد على عبوديته لله عز وجل ، ويظهر أبهى معاني الخضوع والخشوع له سبحانه.
وعن الأمام علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا ترفعوني فوق حقي فإن الله تبارك وتعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا ” قال الله تبارك وتعالى: ” ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون] ( ).
الثامن: إتصال مضامين هذه الآية بالآيات السابقة للغة العطف بينها إذ تتضمن مخاطبة المسلمين والمسلمات جميعاً [انقَلَبْتُمْ] وهي مع معطوفة على قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ( ).
وهل أكل الربا من الإنقلاب الذي تذكره هذه الآية ، الجواب نعم ، وكذا ثأر الجاهلية والوأد وترك حسن العشرة [عن عمرو بن الأحوص « أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا إن لكم على نسائكن حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً . فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن] ( ).
التاسع : دعوة المسلمين والناس جميعاً للإنقطاع إلى الله عز وجل بالسؤال والحاجة والرجاء والدعوة فلا ملازمة بين النبي وبين الحياة في الدنيا ، ليكون من باب الأولوية مغادرة الملوك والسلاطين ومن يرجو العبد نواله وإحسانه والله عز وجل هو الملك الحي الذي لا يموت ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ] ( ).
العاشر : تذكير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه راحل عن الدنيا وأن الموت فيصل حتمي بينه وبين أمته ، ويجب أن يهيئ أمته لهذا الرحيل بما يجعلهم مقيمين في منازل الإيمان ، وتقدير الآية بلغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : وما أنت إلا رسول قد خلت من قبلك الرسل افانت مت أو قتلت إنقلبت أمتك على أعقابهم ) .
لذا تتجلى في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية والتقريرية والتدوينية والدفاعية أبهى آيات الجهاد.
وأخرج الطبراني عن الحرث بن وهب( )، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن تزال أمتي على الإِسلام ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم مضاهاة اليهود ، وما لم يؤخروا الفجر مضاهاة النصارى( ).
وفي الحديث تأكيد لسلامة المسلمين من الإنقلاب والإرتداد ومنع من الشقاق ورمي بعضهم بعضهم بالخروج عن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتقوم هذا المنع بتعاهدهم مجتمعين ومتفرقين أموراً:
الأول : الآيات التي تبين أوان صلاة الصبح، ومن الإعجاز أنها ترد باسم صلاة الصبح وصلاة الفجر ليكون هذا التعدد شاهداً على تعيين أوان الصلاة وأنه خصوص طلوع الفجر، قال تعالى[وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( )، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ( ).
الثاني : النصوص الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المحافظة على وقت أداء الصلاة الفجر والمغرب.
الثالث : أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلوات اليومية في أوقاتها ليكون بياناً عملياً وامتثالاً لقوله تعالى[حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى]( ).
وحال الإستثناء في تأخير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة المغرب في مزدلفة مع جمعها بصلاة العشاء، وتقديم صلاة الفجر قليلاً .
وعن عبد الله قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لوقتها ، إلا صلاتين : رأيته صلى المغرب والعشاء جميعا بالمزدلفة ، وصلى صلاة الفجر قبل وقتها بغلس( )، والغلس آخر الليل عند تداخل ضوء الصباح معه.
الرابع : إجماع علماء الإسلام على تعيين أوقات صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحسب العلامات الكونية.
وفي حديث المعراج عن مالك بن صعصعة: لما جاء بهن أي الصلوات الخمس إلى قومه خلا عنهم حتى إذا زالت الشمس عن بطن السماء نودي فيهم الصلوة جامعة قال ففزع القوم لذلك فاجتمعوا فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات لا يقرأ فيهن علانية يقتدي الناس بنبي الله صلى الله عليه وسلم ويقتدي النبي صلى الله عليه وسلم بجبريل عليه السلام.
حتى إذا تصوبت الشمس عن بطن السماء وهي بيضاء نقية نودي فيهم بالصلوة جامعة ففزع القوم لذلك فاجتمعوا فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات لا يقرأ فيها علانية يقتدى الناس بنبي الله صلى الله عليه وسلم ويقتدي نبي الله صلى الله عليه وسلم بجبريل عليه السلام.
حتى إذا غربت الشمس نودي فيهم بالصلوة جامعة فاجتمعوا فصلى بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ركعات يقرأ في الاوليين ولا يقرأ في الواحدة يعني علانية يقتدي الناس بنبي الله صلى الله عليه وسلم ويقتدي نبي الله صلى الله عليه وسلم بجبريل عليه السلام.
حتى إذا غاب الشفق نودي فيهم بالصلوة جامعة فاجتمعوا فصلى بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات يقرأ في الركعتين علانية ولا يقرأ في الثنتين يقتدى الناس بنبي الله صلى الله عليه وسلم ويقتدي نبى الله صلى الله عليه وسلم بجبريل عليه السلام قال فبات القوم وهم لا يدرون ايزادون على ذلك ام لا حتى إذا طلع الفجر نودي فيهم الصلوة جامعة فاجتمعوا فصلى بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ركعتين يطيل فيهما القراءة يقتدي الناس بنبي الله صلى الله عليه وسلم ويقتدي نبي الله صلى الله عليه وسلم بجبريل عليه السلام ففي هذا الحديث وما روي في معناه دليل على ان ذلك كان بمكة بعد المعراج وان الصلوات الخمس فرض حينئذ باعدادهن( ).
لقد أراد الله عز وجل للصلاة والضبط في أوقاتها سلامة المسلمين من الإختلاف والإقتتال فيما بينهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
قوله تعالى [وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]
تبين الآية أن الدنيا دار إختبار ومزرعة للجزاء والثواب، وأن الله عز وجل بيده كل شئ وهو القادر على الثواب كيف يشاء وحيث يشاء وليس من مانع يحول دون نزول شآبيب رحمته.
وجاءت الآية بصيغة الجمع [الشَّاكِرِينَ]وهو أمر إنحلالي من جهات:
الأولى : الثواب للمسلمين كأمة متحدة تعمل الصالحات .
الثانية : الآية إنحلالية، وتتضمن الثواب على نحو القضية الشخصية كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالثة :تأكيد موضوع آية البحث من الثبات على الإيمان، والتحلي بالإخلاص في طاعة الله، والتوقي من الإنقلاب الظاهر والخفي.
الرابع : إنتفاع الجماعة والطائفة من عمل الفرد الواحد الصالحات ، ومبادرته في الخيرات .
الخامس : الثواب الذي يلحق الميت بفعل المؤمن الحي كما في الإستغفار للغير ، وأداء الحج عن الميت ، [عن علي عليه السلام ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أردف الفضل بن عباس ثم اتى الجمرة فرماها فاستقبلته جارية شابة من خثعم فقالت يا رسول الله ان أبى شيخ كبير قد أفند وقد أدركته فريضة الله في الحج فيجزى ان احج عنه فقال حجى عن ابيك ، ولوى عنق الفضل فقال له العباس يا رسول الله لويت عنق ابن عمك قال رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما] ( ).
وقد أفردنا في كتابنا الموسوم مناسك الحج باباً لحج النيابة وأحكامه ( ).
السادس : الذين يجتهدون في منع الآخرين من الإنقلاب والإرتداد وهل تلاوة المسلمين لآية البحث من الشكر لله الذي يجازي عليه الجواب نعم، وكذا تلاوة آيات القرآن الأخرى ، وفيه آية في إكرام المسلمين، ولطف الله عز وجل في جذبهم إلى منازل الشكر له سبحانه ، وفي إجزائهم على هذا الشكر .
وتحتمل تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة وجوهاً :
الأول : الفوز بذات المرتبة من الشكر للتلاوة خارج الصلاة .
الثاني : مجئ فضل وثواب إضافي بالتلاوة في الصلاة .
الثالث: الجزاء على تلاوة المسلم في الصلاة أمر آخر غير الجزاء على التلاوة في غيرها.
والصحيح هو الثاني من جهات :
الأولى : إقتران التلاوة في الصلاة بالوجوب العيني .
الثانية : حال الخشوع والخضوع وصبغة العبادة والتقوى .
الثالثة : مجئ الثواب للمسلمين بصلاة الفرد منهم كما في بلوغ الثواب للوالدين بتلاوة الابن في الصلاة .
الرابعة : أداء المسلمين الصلاة جماعة وهي علة لمضاعفة الأجر والثواب ، [عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : تفضل صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده خمس وعشرين صلاة] ( ).
وينبسط هذا الفضل الإلهي ومضاعفة الأجر والثواب على أجزاء وأركان الصلاة ومن أظهرها تلاوة القرآن وصيرورتها سبباً لسلامته من التحريف والتغيير والتبديل ، ليكون شكر المسلمين في المقام من جهات :
الأولى :منع الإنقلاب والشك والريب في آيات القرآن .
الثانية : تعاهد آيات وسور القرآن رسماً وترتيباً وحفظاً وتلاوة .
الثالثة : تعظيم شعائر الله بالذكر والتقوى والخشية منه سبحانه ، قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
يتجلى وجوب توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل بلحاظ آية البحث من وجوه :
الأول : نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إختتام النبوات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : تثبيت حقيقة الرسالات السابقة بواسطة القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : وجود أمة تتوارث وإلى يوم القيامة التصديق بالرسالات السماوية ، قال تعالى [وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ] ( ).
وقد ورد لفظ [النَّبِيِّينَ] [ الانبياء] [ الرُّسُلُ] [ الْمُرْسَلِينَ] في القرآن من غير جمع بينها في موضع واحد ، مع إتحاد الموضوع في تنقيح المناط بخصوص وظيفة الأنبياء في البشارة والإنذار والدعوة إلى عيادة الله ونبذ الشرك ، ليأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذات الدعوة مع إضافة وهي النهي عن الإنقلاب والإرتداد ، فليس من رسول بعده يدعو إلى شريعة مبتدأة , لتتضمن آية البحث حقيقة وهي الإلتقاء والتشابه في ضروب العبادة بين المؤمنين أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين وتابعي التابعين وإلى يوم القيامة.
وفي كل يوم تطل عليهم آية البحث بالنهي عن الإنقلاب والتبديل في سنن الشريعة .
ويحتمل الجزاء من عند الله في أدائه وجوهاً :
الأول : إرادة الجزاء في الحياة الدنيا بلحاظ مجئ المسلمين [وَسَيَجْزِي]للمستقبل القريب .
الثاني : الدنيا دار عمل والآخرة هي دار الثواب، قال تعالى [وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى]( ).
الثالث : إرادة المعنى الأعم وشمول الجزاء في آية البحث للدنيا والآخرة .
والصحيح هو الأخير ، وهو ظاهر الآية الكريمة التي جاء موضوعها بالزجر عن الإنقلاب والإرتداد، فمع كل إنزجار وإجتناب لضروب الإنقلاب والرجوع إلى العادات الجاهلية يأتي الثواب والأجر .
ولم تقل الآية وسيجزي الله المؤمنين أو الذين ثبتوا على الهدى بل تطلق موضوع الجزاء بالشكر لله عز وجل وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وسيجزي الله الشاكرين الذين تلقوا الدعوة إلى الإسلام بالقبول والرضا والنطق بالشهادتين .
الثاني : وسيجزي الله الشاكرين الذين يسلمون بأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم راحل عن الدنيا إلى عالم الجزاء والنعيم في جنان الخلد.
الثالث: وسيجزي الله الذين يقرون بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إمام الناس في الشكر لله .
عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخوف زماناً ، فلما نزلت { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } اجتهد ، فقيل له : تجهد نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر . قال : أفلا أكون عبداً شكوراً]( ).
الثالث : سيجزي الله الشاكرين الذين يأمرون بالثبات في مقامات الإيمان وينهون عن الإنقلاب بألسنتهم وأيديهم ، لذا تصدى أهل البيت والصحابة للذين إرتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانت حروب الردة التي أخزت مسيلمة الكذاب وأتباعه وأتباعهم ليعود الناس إلى الإسلام وغلقت وإلى الأبد دعوى النبوة الزائفة لذا الأولى أن تسمى حروب الإنابة والعودة ومنع الإنقلاب إذ تاب أغلب أقطاب هذه الدعوات مثل طليحة بن خويلد الأسدي الذي كان مع المشركين في معركة الخندق ثم أسلم سنة تسع للهجرة ثم إدعى النبوة في بني أسد في أرض نجد بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهزم هو وأصحابه على أيدي المؤمنين في معركة اليمامة .
الرابع : وسيجزي الله الشاكرين الذين لا ينقلبون على أعقابهم .
الخامس : وسيجزي الله الشاكرين الذين يشكرون الله عز وجل على السلامة والوقاية من الإنقلاب ومفاهيم الإرتداد .
السادس : الثناء من عند الله والوعد الكريم للذين جاهدوا في سبيل الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
علم المناسبة
ورد لفظ [الشَّاكِرِينَ] تسع مرات في القرآن ، ولم يرد ( بلفظ الرفع ( الشاكرون ) وفيه نكتة وهي أن ذات لفظ الشاكرين يدل على الفعل وقيام المسلمين بالشكر لله عز وجل فيتداخل معه الجزاء ، ويصاحبه من حين صدور الشكر من العباد ، وتدل عليه خاتمة آية البحث ومجئ حرف السين في قوله تعالى [وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ليكون هذا الجزاء من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
وآية البحث هي أول آية في نظم القرآن يرد فيها لفظ [الشَّاكِرِينَ] وكأن سورة الفاتحة والبقرة لبيان الأحكام وأداء التكاليف وجاءت سورة آل عمران جامعة بين التكاليف والجزاء والشكر لله على هذه التكاليف ، ولم يرد لفظ [وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] إلا في آية البحث ، وورد في الآية التالية بقوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] ( ).
فيه شاهد على أن الجزاء من عند الله للشاكرين أعم من أن يختص بعالم الآخرة مما يدل على موضوعية الشكر في حياة المسلمين العبادية واليومية مطلقاً.
وهل قول المسلم في صلاته [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) بقصد القرآنية والجزئية من الصلاة من الشكر لله الذي يجازي عليه في هذه الآية أم أنها خاصة بالوقاية من الإرتداد والجهاد لمنعه الجواب هو الأول وهو من لطف الله عز وجل بالمسلمين وتقريبهم للفوز بالجزاء العظيم على الشكر , وسيأتي مزيد كلام في الجزء التالي , في سياق الآيات وعلم المناسبة .
بحث كلامي
من أسماء عز وجل [الْغَنِيُّ] وهي المنزه عن الحاجة وكل الخلائق والموجودات محتاجة لفضله ورحمته.
ويحتاج العبد لله عز وجل ، وحاجته بالذات والعرض وصيرورته موجوداً أو في بقائه أو موته ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
وهل موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنتقال من الوجود إلى العدم الجواب لا ،إنما هو إنتقال من الدنيا إلى العالم الآخر ومن موطن الإمتحان والإختبار إلى دار الجزاء والثواب ، لذا فمن دلالات آية البحث أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حينما يغادركم فانه سابق لكم من وجوه :
الأول : يشهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بالإيمان والصبر والخروج للقاء كفار قريش ، قال تعالى [وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] ( )وبلحاظ المعنى أعلاه ترى لماذا لم تقل الآية : ويكون شهيداً لكم ) وأن شهادة النبي تكون لنفع ومصلحة المسلمين على نحو بين وجلي ، الجواب من جهات :
الأولى : إرادة نظم الآية أعلاه وموضوع الشهادة فيها لقوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] ( ).
الثانية : إتحاد موضوع الشهادة وهو إيمان المسلمين لذا أخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي العالية عن أبي كعب في الآية قال { لتكونوا شهداء على الناس } يوم القيامة ، كانوا شهداء على نوح ، وعلى قوم هود ، وعلى قوم صالح ، وعلى قوم شعيب ، وعندهم أن رسلهم بلغتهم وأنهم كذبوا رسلهم . قال أبو العالية : وهي في قراءة أبي { لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة } .
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله { ويكون الرسول عليكم شهيداً } قال : يشهد أنهم قد آمنوا بالحق إذ جاءهم وقبلوه وصدقوا به] ( ).
الثالثة : إبتداء الآية أعلاه بالثناء على المسلمين بأن جعلهم الأمة العدل .
الرابعة : تضمن الآية الشهادة للمسلمين على الناس، وفيه تزكية لهم ، وإخبار عن صلاحهم وعدالتهم .
الخامسة : من أظهر معاني حرف الجر [على] الإستعلاء ليكون من دلالات قوله تعالى [وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا]( ) الرفعة والمنزلة السامية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآخرة .
الثاني : دعاء وتضرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في عالم الآخر لأمته رجالاً ونساءاً مجتمعين ومتفرقين للعصمة من الإنقلاب على اعقابهم .
الثالث : إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين حياً وميتاً.
الرابع : إجتهاد المسلمين في الصالحات للإرتقاء إلى منزلة النبي محمد صلى الله وآله وسلم في الآخرة والتفيئ في ظلال أشجار الجنة دائمة الثمر.
قانون مواساة أجيال المسلمين
آية البحث مواساة متقدمة زماناً للمسلمين ورثاء سماوي اللنبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن بموته ينقطع الوحي والتنزيل ، فلا يرد بعده رثاء من السماء ، فاراد الله عز وجل أن يتفضل ويعزي المسلمين بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادة له بالرسالة العامة للناس , وتحتمل الجهة التي يتوجه لها هذا الرثاء والمؤاساة وجوهاً:
الأول : أهل بيت النبوة ، فهم أصحاب المصيبة، عن أنس قال لما تغشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكرب كان رأسه في حجر فاطمة فقالت فاطمة واكرباه لكربك اليوم يا أبتاه فرفع رأسه صلى الله عليه وآله وسلم وقال لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة فلما توفي قالت فاطمة وا أبتاه أجاب ربا دعاه وا أبتاه من ربه ما أدناه وا أبتاه إلى جنة الفردوس مأواه وا أبتاه إلى جبريل أنعاه قال أنس فلما دفناه مررت بمنزل فاطمة فقالت يا أنس أطابت أنفسكم ان تحثوا على رسول الله التراب] ( ).
الثاني : إرادة جميع الصحابة , وفيه برزخ دون شماتة المنافقين .
الثالث : مواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والثناء عليه .
الرابع : المراد مواساة أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الإعجاز في الآية الكريمة ، وهو مما إختص به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته من بين الناس ، ليكون من وجوه تقدير آية [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ):كنتم خير أمة أخرجت للناس تتلقون المواساة بفقد نبيكم قبل وفاته وبعدها وإلى يوم القيامة .
ليس من جيل من المسلمين إلا وتواسيه هذه الآية بالمصيبة الكبرى بفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترثي له منفرداً ومتحداً مع غيره غياب طلعته البهية عن الأرض ، ولكنها تتضمن أيضاً بيان فضل الله بنبوته بأن بقت آيات القرآن بين ظهراني الناس تحكي معجزة نزوله وتعاهده رسماً وتلاوة وحفظ المسلمين له بسيوفهم ودمائهم وتمنياتهم بلحاظ تقدير الآية السابقة : ولقد كنتم تمنون الموت لحفظ القرآن من قبل ان تلقوه).
إذ أراد كفار قريش ومن والاهم طمس معالم التنزيل بسيوفهم ودمائهم ، فليس من كتاب سماوي صار الناس بسببه فريقين يتقاتلون لسنوات عديدة إلا القرآن ليكون من إعجازه الغيري حفظه وسلامته من التحريف والتبديل والتغيير حتى مع إستعمال اعداء الدين السلاح وبما يفوق سلاح ومدد المسلمين باضعاف مضاعفة.
ليكون من معاني آية البحث أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغادر الدنيا إلا وقد ثبتت آيات القرآن في الصدور ، والمصاحف وصار لها جيش من المؤمنين يذبون عنها في ذات الوقت الذي يعملون بأحكامها ، وكذا فان آيات القرآن مدد للمسلمين في ثباتهم في منازل الإيمان ، وهو من خصائص ومصاديق [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) بتقريب أن جند الله عز وجل يعضد بعضهم بعضاً في الموضوع والحكم، وفي أفراد الزمان الطولية والمكان العرضية.
فكل فرد من هؤلاء الجنود يكون جندياً بالأصل ومدداً لنفسه ولغيره ، فتحصل الكثرة واللامتناهي في عدد الجنود وهو من الشواهد بأن جبرئيل لم ينزل بآيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل نزل مدداً للنبي وللصحابة وللمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .ومواسياً لهم لإنقطاع الوحي برحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عالم الآخرة ، فان قلت قد استوفى التنزيل آياته ، ولم تبق آية او كلمة من القرآن إلا وقد نزلت من عند الله .
والجواب هذا صحيح ،إلا أنه لا يتعارض مع الحزن والمواساة بفقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنقطاع سنته وحضوره بين الناس يزين الأرض بفيوضات النبوة ومعالم الرسالة .
ومن معاني المواساة في آية البحث إخبارها برحيل الأنبياء والرسل السابقين وأن سنة الله عز وجل في خلافة الإنسان في الأرض هي بعث الأنبياء مبشرين ومنذرين للناس ثم يغادرون إلى جوار الله عز وجل ، فقد هبط آدم عليه السلام وحواء من الجنة إلى الأرض بزلة الأكل من الشجرة بتحريض وغواية من إبليس بعد الإنذار والتحذير من عند الله لهما من مكر وعداوة إبليس ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( )ليعود الأنبياء والصالحون إلى الجنة جزاء وثواباً من عند الله عز وجل وتكون إقامتهم فيها دائمة وليس فيها وسوسة من إبليس الذي يكون مقامه حينئذ النار .
وإذ بينت الآية السابقة فضل الله عز وجل على المسلمين بنجاتهم من الموت الذي كانوا يتمنون ، وليس من أمة يكون عدم تحقيق أمنيتها نجاة وأمنا ورحمة من عند الله إلا المسلمين لأن أمنيتهم كانت في الله ودفاعاً عن نبيه وعن الإسلام ، ثم تعقبها هذه الآية بالمواسا بفقد النبي الذي تمنوا شهادتهم من أجل بقائه حياً يتوالى عليه نزول القرآن.
ليفيد الجمع بين الآيتين وإختتام الآية السابقة برؤية المسلمين للموت وهم أحياء ينظرون وعداً من عند الله بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يغادر الدنيا إلا وأصحابه يحيطون به وشمس الإسلام أنارت ربوع الأرض .
وجاءت خاتمة هذه الآية لتذكير المسلمين بلزوم البقاء على ذات الحالة من الإيمان التي هم عليها عند موت أو شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووراثتها للأبناء وأجيال المسلمين اللاحقة .
وهل في آية البحث مناسبة لمؤاساة المسلمين بعضهم لبعض بفقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم ، وهذه المواساة مدرسة للصلاح والإصلاح لأنها دعوة لإتباع سنته ، وتعاهد العبادات التي جاء بها ، فلا تعني المواساة في المقام تقديم العزاء بدل العزم على محاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الفرائض والواجبات والتنزه عن المحرمات التي جاء النهي عنها في الكتاب والسنة .
وهو من الدلالات التي تتضمنها آية البحث وإخبارها المسلمين برحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليبقى حياً بين ظهرانيهم بالتنزيل والسنة .
وبين الصحابة وعامة أجيال المسلمين في موضوع هذه المؤاساة عموم وخصوص مطلق إذ تلقى الصحابة نبأ وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله في القرآن في حياته وتحقق مصداق هذا النعي واقعاً وهم أحياء فخرج من بينهم إلى جنان الخلد .
أما التابعون وباقي أجيال المسلمين فانهم تلقوا هذه الآية وقد غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا ولكنهم يعيشون أحوالهم وتفاصيلها وكأنه غادر اليوم من بينهم وتلك آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
أسرار نصب الأصنام في البيت الحرام
أدخلت قريش الأوثان إلى البيت الحرام طمعاً بزخرف الدنيا وللأمن من طرف وإغارة القبائل العربية ، فقد كانت لقريش تجارة بينه وبين الشام من جهة وبين اليمن من جهة أخرى وهو مصداق قوله تعالى [إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )إذ تقام أكبر أسواق العرب في موسم الحج وفي مكة حواليها وعلى نحو متتابع لتبلغ ذروتها في أيام شهر ذي الحجة مع الإنتفاع من موضوعية الأشهر الحرم ووضع العرب للسلاح أيام الحج ( ).
فصارت قريش أكثر العرب مالاً وثروة ، وذهب عنهم الجوع والخوف ، قال تعالى [الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( )ولكنهم لم يشكروا الله عز وجل على هذه النعمة بعبادة الله ، فاتجهوا إلى الإنغماس في التجارة والقيام بعقد الأحلاف والعقود التي تأمن لهم طرق التجارة وإن كان على حساب الدين والأخلاق .
وعندما نشبت الحروب بين الدولة الرومانية البيزنطية والدولة الفارسية تعطلت طرق التجارة المعتادة ، وإحتاج الإتصال بين الشرق والغرب طرقاً جديدة فظهرت الحاجة إلى قطع الصحراء العربية لنقل البضائع القادمة من الهند والصين من موانئ اليمن إلى بلاد الشام لتصل إلى أقطار أوربا وبالعكس ، ويخشى غير العرب وإن كانت جيوشاً مسلحة قطع مئات الأميال وسط الصحراء كرهاً وقلة الحياة والزاد فيها ، ولمهاجمة القبائل العربية لهم في كل ليلة وإمكان تجميد هذه القبائل خلافاتها وتسويتها ودفع دية المقتول من الطرف الآخر للتآزر والتعاون ضد المعتدي الغريب وإغتنام ما عنده من العروض والأموال والرواحل والأسلحة الشخصية ، فلا يقدر على القيام بأعباء هذه المسؤولية العالمية إلا قريش من جهات :
الأولى: المنزلة العظيمة لقريش عند القبائل العربية لأنهم مجاوروا البيت الحرام وذرية إبراهيم الخليل عليه السلام .
الثانية: حاجة القبائل للسلم والمودة مع رجالات قريش لأنها تحج كل عام إلى البيت الحرام ، وتجتمع في الموسم .
الثالثة : خدمة قريش لوفد الحاج وقيامهم بإطعام وسقاية الحاج ، وكانت مكة وما حواليها تشكو قلة الماء ونقص الأمطار فتعاهدت قريش بئر زمزم ، وكانوا يضعون الزبيب المنبوذ في الماء لتطييبه عند تقديمه لوفد الحاج من القبائل ، لذا قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم [عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ اُسْتُكِفّ لَهُ النّاسُ فِي الْمَسْجِدِ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدّعَى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سَدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ] ( ).
الرابعة : هيبة القبائل لقريش بعد هلاك جيش إبرهة عند زحفه لهدم البيت وإذلال قريش وهو من إعجاز في مجئ سورة قريش بعد سورة الفيل وجواز قراءتهما معاً في الصلاة فيكون من معاني [فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ] ( ) [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ] ( )أن هلاك أصحاب الفيل مقدمة لإستحواذ قريش على التجارة وزيادة أموالهم .
الخامسة : إمتلاك قريش لقوافل من الأبل تستطيع حمل البضائع الكثيرة وقطع المسافات البعيدة .
السادسة : صلة قريش مع التجار في الشام واليمن ، وسبق التعامل معهم وكسبهم لثقة التجار في البيع بالسلف والآجل وباحضار البضاعة المطلوبة والمرغوب فيها.
لقد قامت قريش بتأمين إستمرار التجارة العالمية عبر طرق آمنة ، وبعيدة عن مواضع النزاع والمواجهة بين الروم والفرس ، فتنقل قريش بضاعة الروم وأوربا لإيصالها إلى الهند والصين وبلاد فارس ، وبالعكس لذا فان قوله تعالى [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، شاهد على تعدد وتتابع هذه الرحلات.
ويدل هذا التتابع وإنبساط هذه الرحلات على فصول السنة إذ يدخل فصل الخريف والربيع بأيام الشتاء والصيف لأن الآية ذكرت الأظهر والأغلب من أيام السنة وبيان الفرد الأولى لأن خروج القوافل في شدة البرد والقيظ يدل بالأولوية القطعية على خروجها والمناخ معتدل والهواء نسيم وهذا المعنى لا يتعارض مع القول بأن قريشاً تسافر في الصيف للشام لأنها بلاد باردة وطلباً للماء والظل ، ويرحلون في الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حامية .
ومن أجل أن تستميل قريش القبائل وتتجنب تعديها على القوافل جعلت لها أوثاناً خاصة في الحرم وكأنها رهينة ووديعة لتلك القبائل عند قريش لتقوم بتأمين طريق تجارة قريش ، وسنوا للناس خلع ثيابهم التي جاءوا بها في الطواف والخروج من خلف البيوت ، فلما بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوحيد وجاء بالحرب على الأوثان ومنها تلك الرهينة التي جعلتها قريش في البيت للقبائل لقاء حفظ طرق تجارتها ، وجاء بالمساواة بين الناس وأعلن نفر من شباب قريش إسلامهم وإتباعهم له ورضاهم بمساواتهم بالعبيد في صفوف الصلاة وفي الحقوق والواجبات رأت فيه قريش الخطر الأعظم الذي يهدد طرق تجارتها ومكانتها بين القبائل ، ويقوض ما لها من شأن ومقام بين الدول العظمى ، وهو من أسرار تكرار هجومها على المدينة وتحشيد القبائل والأحابيش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين
قانون أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لقد كتبت مجلدات في أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعددها ، ومنهم من قال أنها تسعة وتسعون( ) اسماً، وقائل أنها مائتا اسم أو اوصلها بعضهم إلى ثلاثمائة اسم ، وعن ابن عباس : أن لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم مائة وثمانين إسماً( ).
ولكن أكثر هذه الأسماء صفات ، ونعتها بالأسماء مجاز ولا يمنع من التبرك بها وذكر الثابت منها بالكتاب او السنة ، وفيها مسائل :
الأولى : دلالة هذه الأسماء على إكرام الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : كثرة هذه الأسماء شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين .
الرابعة : لكل صفة خصوصية في سنخية النبوة وصبغة الرسالة.
الخامس : تنمية حب النبي محمد صلى الله عليه وآله في نفوس المسلمين ودعوتهم لإستقراء المسائل من هذه الأسماء .
ومن هذه الأسماء الماحي ،الحاشر.
خاتم النبيين ،سيد المرسلين ،الشفيع ،
الصراط المستقيم ،طه ، يس، أبو القاسم ،المختار ،عبد الله.
المزمل ،المدثر ، الأمين .
الصادق ،سيد ولد آدم.
عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أَبيه قال، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِن لي أَسماء: أَنا محمد وأَحمد والعاقب ” فقال الزهري: ليس بعده أَحد- والماحي الذي محا الله به الكفر.
عن أَبي موسى قال: سمّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أَسماءً فمنها ما حفظنا، قال: أَنا محمد وأَحمدُ، والحاشِر والمُتّقي، ونبي الرحمة، والتوبة ونبي المَلْحَمَةِ.
وعن أَبي موسى أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمي لنا نفسه أَسماء قال: أَنا محمد وأَحمد المقفي والحاشر، ونبيّ الرحمة ونبيّ الملحمة.
حدثنا محمد بن سابق قال، حدثنا مالك بن مِغْوَل قال، سمعت أَبا حصين يذكر، عن مجاهد قال، قال: يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أَنا محمد وأَحمد ونبي التوبة، أَنا رسول الرحمة، أَنا رسول المَلْحَمَةِ، أَنا المقفى والحاشر، بُعِثْتُ بالجِهَادِ ولم أُبْعَثُ بالزّراعِ] ( ) رؤوف رحيم.
ويقولون الرؤوف الرحيم بالتعريف بالألف واللام ، ولكن يمكن التباين بينه وبين أسماء الله الحسنى ، قال تعالى وفي وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والثناء عليه [بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
بينما أثنى الله عز وجل على نفسه بقوله تعالى [حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( )، بصيغة الإطلاق وتغشي رأفة الله للناس جميعاً منها قوله تعالى [وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] ( )[إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
وتحتمل آية البحث بلحاظ الآيات الثلاثة أعلاه وجوهاً :
الأول : آية البحث من رأفة الله بالناس .
الثاني : آية البحث من رأفة الله بالمسلمين والمسلمات .
الثالث : إرادة رأفة الله لخصوص المؤمنين .
الرابع : الآية من رأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤمنين .
الخامس : إنحصار موضوع الرأفة الإلهية في الآية بأهل معركة أحد من الصحابة .
السادس : مجئ آية البحث بالتحذير والتنبيه والزجر عن الهزيمة والإنقلاب في المعركة فهي ليست من الرأفة إنما من الإنذار.
والصحيح هو الوجوه الثلاثة الأولى ، نعم يمكن أن يقال أن الرأفة الإلهية في الآية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً وأن الرأفة بالمؤمنين في الآية بالأصالة وبالذات ، أما الرأفة بغيرهم فهي بالواسطة والدعوة للإتعاظ من المسلمين وإتباع نهجهم والإقتداء بهم.
وورد اسم محمد في القرآن أربع مرات ، كلها لذات شخص خاتم النبيين لم يشاركه فيه أحد فمع إخبار آية البحث عن سبق زمان الرسل على زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجئ السنة النبوية بأنهم مائة وأربعة وعشرون نبيا إلا أنه لم يرو بأن اسم أحدهم هو محمد .
وتلك آية أخرى في أكرامه خاصة وأن هذا الاسم يدل على الشكر والثناء لله عز وجل وأن من أبهى وأظهر خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الحمد لله والشكر له سبحانه، وفيه دعوة للمسلمين من جهات :
الأولى : محاكاة المسلمين لنهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحمد لله عز وجل والإقتداء به ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الثانية : زجر المسلمين عن الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو نبي شاكر لله عز وجل ، محتاج إلى رحمته ورأفته .
الثالثة : تأكيد إتصاف المسلمين بحسن العبودية لله وإقامتهم على الحمد له عز وجل.
الرابعة : بيان حقيقة وهي أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حامد لله إسماً ومسمى.
وهل يختص حمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل بحمده وثنائه على الله أم يشمل حمد أمته لله ، الجواب هو الثاني ليكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الأمة الحامدة لله عز وجل.
الخامسة :يكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إمام الحامدين في الآخرة وبيده لواء الحمد وسيلة وضياء لدخول الجنة وهو حامل لواء الحمد يوم القيامة.
وورد اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن على لسان عيسى عليه السلام ابن مريم [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( )ليكون إسمان صريحان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن كما ورد هذه التثنية في إسماء عدد من الأنبياء منهم يعقوب إذ ورد باسم إسرائيل ، قال تعالى [ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ] ( ).وورد بخصوص عيسى وباسم المسيح , ولم يقل أكثر المحققين أن المسيح صفة لعيسى مع أنها صفة ظاهرة ولكنها ترد في باب الأسماء للفصل والتمييز ، عن سعيد قال: إنما سمي المسيح لأنه مسح بالبركة ( ).
وهذه الآية أول آية في نظم القرآن يرد فيها اسم (محمد) من بين الآيات الأربعة التي ذكر إسمه الشريف وفيها قطع وإثبات لنبوته بصيغة نفي النفي مع زيادة وهي جعل هذا الإثبات مقدمة لبيان أمور :
الأول :إتحاد سنخية الرسالات ، وأن مرتبة الرسالة تشريف عظيم خص الله عز وجل به ثلاثمائة وثلاثة عشر من بين الناس من ذرية آدم وإلى يوم القيامة وليس من حصر بهذا العدد إلا للرسل ومنهم خمسة أولو العزم .
الثاني : تأكيد بعثة الأنبياء قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقي فريق من الناس لمعجزاتهم بالتصديق ، وفريق بالتكذيب والإيذاء ويدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أوذي نبي مثل ما أوذيت قط ] ( ) بالدلالة التضمنية على ملاقاة الأنبياء السابقين للأذى من قومهم ، وصبرهم في الدعوة إلى الله .
الثالث : بيان قانون وهو أن النبي محمداً هو رسول من عند الله حياً وميتاً بوجوب تلقي ماجاء به بالقبول والتصديق.
عن أنس بن مالك قال لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شئ وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الايدى حتى أنكرنا قلوبنا] ( ).
قانون حرب القرآن على الغلو
الغلو لغة هو مجاوزة الحد ، والإرتفاع في الشئ ، ومنه إشتق الغلاء في الأسعار ، لأنه إرتفاع عن حدود الثمن المناسبة ويرد الغلو على لسان الشعراء في المدح أو الذم ويقع أكثره في المدح ، لذا قال تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
للتحذير من المبالغة والإطراء الزائد من قبل الشعراء بما يبعث على الزهو والغرور الذي يخرج بالإنسان عن الحد ومن إعجاز القرآن النهي الصريح عن الفعل القبيح بالذات أو العرض ، قال تعالى [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ] ( ).
وورد هذا النهي مرتين في القرآن( ) مع إتحاد جهة الخطاب إذ يتوجه منها إلى أهل الكتاب وفيه مسائل :
الأولى : بيان الآيتين لموضوع الغلو والجهة التي قد تتصف بالغلو .
الثانية : دعوة المسلمين للتفقه في الدين ، والإحتجاج بما يدفع الغلو عن الناس .
الثالثة : بيان قانون كلي وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء لتنزيه أهل الملل من الغلو ومجاوزة الحد في الدين ، وهو من مصاديق رسالته للناس جميعاً وإتصاف هذه الرسالة بأنها رحمة وخير محض ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( )، فمن أسرار ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فضح الغلو وإستئصاله من الأرض .
الرابعة : بيان قبح الغلو والمبالغة في الدين ومنها الوقوف على نبي أو رسول من الرسل وعدم التصديق بمن بعده .
الخامسة : تحذير الناس من الغلو بالأنبياء وإتخاذهم آلهة وتتضمن آية البحث المنع من الغلو ومجاوزة الحد بالرسل السابقين مثل موسى وعيسى عليهما السلام بالإخبار عن إنقضاء أيامهم وبدء إشراقات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن .
ومن إعجاز آية البحث أنها ذكرت الرسل بأنهم خلوا أي إنقضت أيام دعوتهم الناس للإيمان ليدخل فيهم عيسى عليه السلام لانه لم يمت ولم يقتل ولكن الله عز وجل رفعه إلى السماء ، قال تعالى [وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ] ( ).
وهل تتضمن آية البحث المنع من الغلو الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : تأكيد قانون وهو أن الأنبياء رسل وليس للرسول إلا التبليغ ونقل المأمور به وهو أدنى مرتبة من المرسل.
الثانية : تسليم الرسل بأنهم بشر لابد وأن تختتم حياتهم بالموت والإنتقال إلى عالم الآخرة ليكونوا موعظة وعبرة للناس في حياتهم وبعد مماتهم .
الثالثة : زجر المسلمين عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعلهم يتلقون خبر إحتمال موته بالقبول .
الرابعة : تعلق قلوب الناس بالله عز وجل الذي أرسل الرسل لهم لجذبهم إلى مقامات العبادة والتقوى .
م/إفتتاح موسوعة الأرقام القياسية في القرآن والسنة
الحمد لله الذي جعل القرآن الكتاب الباقي إلى يوم القيامة، والمعجزة العقلية المتجددة والتي حفظت معجزات الأنبياء الحسية مثل سفينة نوح وناقة صالح وعصا موسى، وإحياء عيسى للأبرء والأكمه والأبرص من غير تحريف أو زيادة أو نقصان، فالمعجزة الحسية تختص بزمان ومكان حدوثها , ولكن القرآن ذكر هذه المعجزات لتبقى خالدة مع القرآن، يتلوها المسلمون في صلاتهم اليومية ومثلاً ورد ذكر نبي الله (صالح) تسع مرات في القرآن منها قوله تعالى[وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ]( ).
ومن إعجاز القرآن أنه كلما شاعت بين الناس ظاهرة فانك تجد مصداقاً في القرآن يفوقها كماً وكيفاً ويزيد عليها في البهاء والنضارة وإذ إنتشرت بين الناس هذه السنوات موسوعة الأرقام القياسية، فإن المسائل في القرآن تتغشى التأريخ كله وتتجلى من وجوه:
الأول : النص الجلي في الآية القرآنية مثل قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فلا ترقى إلى منزلة المسلمين أمة أو أهل ملة من الأولين والآخرين، ومصاديقها في تفسيرنا أكثر من أن تحصى.
الثاني : ما يترشح عن الجمع بين آيتين من القرآن كما في قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ) وقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( ).
الثالث : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن، وما فيه من الأرقام القياسية على مرّ التأريخ.
الرابع : السنة النبوية بأقسامها القولية والفعلية والتقريرية، والأقسام الأخرى التي أسسناها في هذا السِفر المبارك وهي:
الأولى : السنة التدوينية، وما كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للملوك يدعوهم للإسلام، ولأمراء السرايا والجيوش الإسلامية، ولنصارى نجران الذين إحتفظوا بكتابه لقرون وللأفراد وفي الأحكام.
الثانية : السنة النبوية الدفاعية التي تخص المغازي والمعارك التي خاضها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأوامره إلى قواد السرايا، وفي حال الدفاع.
الثالثة : السنة العبادية الخاصة بأحكام العبادات.
وسيأتي مزيد بيان في جزء لاحق خاص بالموضوع إن شاء الله.
ومن الأرقام القياسية في الكتاب إرادة الإطلاق والتقييد، كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً]( ) ثم تأتي الآيات التالية بالوصف المتعدد الذي يجعل المراد بقرة مخصوصة على نحو التعيين إضطر بنو إسرائيل لشرائها بثمن بقي ويبقى على مدى هذه الأحقاب والأزمان أغلى ثمن لبقرة في التأريخ.
وفي ثمن البقرة التي أمر الله عز وجل بني إسرائيل بذبحها وإلحاحهم وكثرة رجوعهم وسؤالهم المتكرر لموسى عليه السلام، [وقال السدي: وكان رجل في بني إسرائيل، من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مرّ به معه لؤلؤ يبيعه، وكان أبوه نائمًا تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفًا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفًا. فقال الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفًا، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفًا، وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف.
فلما أكثر عليه قال: والله لا أشتريه منك بشيء أبدًا، وأبى أن يوقظ أباه.
فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة، فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبى.
فأعطوه ثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبى، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى عليه السلام، فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدناها عند هذا فأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمنًا فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم، فأعطوه وزنها ذهبًا، فأبى، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهبًا، فباعهم إياها وأخذ ثمنها، فذبحوها. قال: اضربوه ببعضها، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقْتُلُهُ، فآخذُ مالَه، وأنكح ابنتَه. فأخذوا الغلام فقتلوه] ( ).
ووردت نصوص أخرى أوثق سنداً وجهة صدور ولكنها تبين ذات النسبة القياسية التي لم تخطر على بال بشر بخصوص قيمة دابة منها أنهم إشتروها بما يعادل وزنها ذهباً .
وعن ابن عباس قال :وكان في بني إسرائيل غلام شاب يبيع في حانوت له ، وكان له أب شيخ كبير ، فأقبل رجل من بلد آخر يطلب سلعة له عنده فأعطاه بها ثمناً ، فانطلق معه ليفتح حانوته فيعطيه الذي طلب والمفتاح مع أبيه ، فإذا أبوه نائم في ظل الحانوت فقال : أيقظه . قال ابنه : إنه نائم وأنا أكره أن أروّعه من نومته . فانصرفا فأعطاه ضعف ما أعطاه على أن يوقظه فأبى ، فذهب طالب السلعة.
فاستيقظ الشيخ فقال له إبنه : يا أبت والله لقد جاء ههنا رجل يطلب سلعة كذا ، فأعطى بها من الثمن كذا وكذا ، فكرهت أن أروعك من نومك فلامه الشيخ ، فعوّضه الله من بره بوالده أن نتجت من بقر تلك البقرة التي يطلبها بنو إسرائيل.
فأتوه فقالوا له : بعناها
فقال: لا. قالوا : إذن نأخذ منك . فأتوا موسى فقال : اذهبوا فارضوه من سلعته. قالوا: حكمك؟ قال : حكمي أن تضعوا البقرة في كفة الميزان وتضعوا ذهباً صامتاً في الكفة الأخرى ، فإذا مال الذهب أخذته ففعلوا ، وأقبلوا بالبقرة حتى انتهوا بها إلى قبر الشيخ ، واجتمع أهل المدينتين فذبحوها، فضرب ببضعة من لحمها القبر .
فقام الشيخ ينفض رأسه يقول : قتلني ابن أخي طال عليه عمري وأراد أخذ مالي ومات]( ).
وعن الإمام الرضا عليه السلام أنهم إشتروها من ذات الفتى البار بأبيه بملء مسك ذهباً]، أي ملء جلد الثور ذهباً وهو أكثر من وزن البقرة من جهتين :
الأولى : زيادة وزن الذهب على وزن أحشاء وشحم ولحم البقرة .
الثانية : جلد الثور وعاء أكبر حجماً من البقرة التي وصفت في القرآن بأنها [صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا]( ).
ومن المطلق والمقيد في القرآن قوله تعالى بخصوص كفارة اليمين [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] وهو نكرة في مقام الإثبات وتقدير الآية ( فعليه عتق مملوك ) ليصبح حراً .
وجاء تقدير هذا الإطلاق بقوله تعالى [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] ( )لإرادة صفة الإيمان والهداية بالنسبة للصبر خاصة وأن الرق أمر عرضي يأتي بسبب محاربة الإسلام والمسلمين، فيحكم عليه بالرق لإجتناب ضرره وكف أذاه عن الإسلام ، أما وقد أصبح مؤمناً يحضر مع المسلمين صلاة الجماعة ويؤدي الفرائض فيستحب عتقه بدليل أنه يترتب على نقض اليمين المنعقدة كما لو أقسم بالله ألا يفعل أمراً كالسفرالمباح ثم سافر بما يخالف اليمين .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية أن الله عز وجل خيّر المسلم بين إطعام عشرة مساكين وعتق رقبة ، مع أن عتق الرقبة قد تصل قيمته إلى ما يعادل إطعام أكثر من ألف مسكين ، خاصة وأن إطعام المسكين الواحد يكون بمقدار مدّ أي ربع صاع أو مدّين أي نصف صاع والصاع ثلاثة كيلوات تقريباً والمختار أن المطلق والمقيد في القرآن غالباً ما يكون على نحو الموجبة الجزئية .
فيمكن حمل الإطلاق في قوله تعالى [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ]على جواز عتق العبد غير المؤمن مثل :
الأول : العبد الذي يظهر الإسلام ولما يدخل الإيمان في قلبه .
الثاني : العبد الذي يؤدي الفرائض مع الرياء ورجاء العتق والتزلف إلى سيده أو رجاء التخفيف عنه في الأعمال .
الثالث : العبد الذي تبدو عنده أمارات النفاق .
الرابع : العبد الكتابي .
الخامس : العبد ذو الرحم الذي يمت إلى المعتق بصلة قربى .
السادس : قلة المبلغ والمال الذي بيد المعتق بحيث أنه لا يستطيع عتق عبد مؤمن مع وجود الراجح في عتق الكتابي .
السابع : رجاء إسلام العبد المعُتق ، ودخوله الإسلام عند نيله الحرية والعتق .
الثامن: عدم وجود رقبة وعبد مؤمن في البلدة أو القرية .
التاسع : إظهار عبد غير مسلم التفاني في خدمة الإسلام وإعانة المسلمين حتى في ميادين القتال.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
والمختار أنه ليس من قانون ثابت يتغشى صيغة الإطلاق في القرآن بتحديدها بالمقيد الوارد فيه مع بيان مسألة وهي تبيان الدليل بأن موضوع أو حكم هذه الآية هو قيد لتلك الأخرى فقد يكون بين قوله تعالى [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] وبين [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] نسبة العموم والخصوص من وجه ، نعم في كل الأحوال يترجح عتق الرقبة المؤمنة .
وإذ يفرد الناس في هذا الزمان مؤسسات خاصة للأرقام القياسية كما في موسوعة غينيس التي نشأت فكرتها سنة 1951 وصدور أول كتاب منها سنة 1955، وأغلب ما فيها أمور تتعلق بأكبر وأصغر وأدق وأسرع وأثقل وأغنى وأطول وأقصر وأجزاؤها أكثر الكتب بيعاً فان القرآن الذي نزل قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة يتضمن هذا الباب الذي يوليه أهل هذا الزمان عناية ليكون من إعجاز القرآن أن كل ظاهرة يلتفت لها شطر من الناس هي موجودة بمصداقها في القرآن مع مائز كبير ، وهو أن الأرقام القياسية التي تذكرها تلك المؤسسات في مسائل حياتية وبسيطة وهي خاصة في زمانها ومتغيرة ومتبدلة في أفرادها ، وبين الفينة والأخرى ينتزع شخص أو واقعة ذات الرقم القياسي نعم أنها تحكي بديع صنع الله وعظيم قدرته ، أما تلك الحالات النادرة التي يذكرها القرآن فهي باقية هامة شامخة ، وصرحاً يتحدى الأرقام ، ويكون مادة للإحتجاج كما في إحتجاج إبراهيم عليه السلام على نمرود ، قال تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ] ( ).
أن الموت أو القتل مغادرة أبدية عن الدنيا، ولكنه لا يعني الإنقطاع التام بين الإنسان والدنيا، إذ تفضل الله عز وجل وجعل الذرية والأبناء نوع صلة باقية بين الإنسان والدنيا، فيعلم والناس جميعاً أنه لم يغادرها على نحو السالبة الكلية لذا فان الثواب يأتيه بعمل أولاده الصالحات، ولأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد ولد آدم فقد رزقه الله عز وجل دوام الصلة بالدنيا بآيات من فضل الله تتجلى بأمور مباركة ومتجددة منها:
الأول : نزول القرآن.
الثاني : تلاوة المسلمين للقرآن وجوباً وندباً.
الثالث : أداء المسلمين الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني على كل مكلف ومكلفة.
الرابع : تعاهد المسلمين والمسلمات لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحرص على العمل بها والتقيد بمضامينها.
الخامس : ذرية وقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومودة المسلمين لهم، قال تعالى[ُقلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]( ).
وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إني أوشك أن أدعا فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا بم تخلفوني فيهما ( ).
المشروع المقترح
لذا من الأولى إنشاء موقع خاص بإسم: الأرقام القياسية في الكتاب والسنة , لجذب الناس إلى إعجاز القرآن، وإرتقائهم في عالم الفكر والتصور الذهني وهو من بركات ورشحات آيات القرآن وإستظهار الكنوز والدرر من علوم القرآن ، وقد يقال بتسميته(موسوعة القرآن والسنة للأرقام القياسية) محاكاة باسم شائع في هذا الزمان , والجواب قوانين القرآن باقية إلى يوم القيامة، والأرقام القياسية ذخيرة من ذخائره غير المتناهية.
وللمؤمنين رصد وإستنباط الأرقام القياسية بخصوص القرآن والسنة , وسأبين والحمدلله على نحو متعاقب شذرات ولآلئ من الأرقام القياسية في القرآن والسنة التي تتصف بالثبات وعجز الخلائق عن بلوغ مرتبتها، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
ويشمل موضوع الأرقام القياسية في الكتاب والسنة أموراً :
الأول : لغة الأرقام وتكرارها كما في الرقم سبعة، والرقم تسعة عشر, ودلالات الجمع بين الأرقام في سور وآيات وكلمات القرآن .
الثاني : أسرار الحروف المقطعة.
الثالث : الوقائع والحوادث.
الرابع : شدة البطش والعذاب الإلهي بالقوم الكافرين كما في نسخ قوم قردة وخنازير، وقد يأتي العلم ليؤكد إمكان هذه المعجزة بالعلم والتحصيل بتحويل الإنسان إلى هيئة أخرى, ونسأل الله كفاية وسلامة الناس جميعاً من مثل هذا العلم الضار
الذي لا يحتمل حدوثه إلا مع إحداث الناس لوجوه من المعاصي والذنوب، وفي قوم لوط وقوله تعالى[إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ]( ).
وورد عن ابن عباس أنه قال:لما سمعت الفسقة باضياف لوط جاءت إلى باب لوط ، فاغلق لوط عليهم الباب دونهم ثم اطلع عليهم فقال: هؤلاء بناتي . فعرض عليهم بناته بالنكاح والتزويج ولم يعرضها عليهم للفاحشة، وكانوا كفاراً وبناته مسلمات ، فلما رأى البلاء وخاف الفضيحة عرض عليهم التزويج، وكان اسم ابنتيه إحداهما رغوثا والأخرى رميثا، ويقال : ديونا إلى قوله {أليس منكم رجل رشيد}أي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلما لم يتناهوا ولم يردهم قوله ولم يقبلوا شيئاً مما عرض عليهم من أمر بناته .
قال{لو أن لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد } يعني عشيرة أو شيعة تنصرني لحلت بينكم وبين هذا ، فكسروا الباب ودخلوا عليه، وتحوّل جبريل في صورته التي يكون فيها في السماء، ثم قال : يا لوط لا تخف نحن الملائكة لن يصلوا إليك، وأمرنا بعذابهم فلم يكن للوط عليه السلام عشيرة، فوالذي لا إله إلا غيره ما بعث الله نبياً بعد لوط إلا في ثروة من قومه)( ).
الخامس : البشارات القرآنية التي وردت بالإقامة في النعيم الدائم.
السادس : بيان وصف الجنان بما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
السابع : أهوال القبر وعالم البرزخ، قال تعالى بخصوص آل فرعون[النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا]( ).
الثامن : شدة عذاب الكفار في نار جهنم، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة رجلٌ توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منها دماغه ( ).
التاسع : بيان القرآن بأن أكثر وأعظم فداء لاينجي الكفار من النار قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )
العاشر : لغة الإستغراق والشمول في خطابات القرآن (ياايها الناس) (يا أهل الكتاب).
الحادي عشر : سلامة القرآن من التحريف والتغيير والتبديل.
الثاني عشر : كثرة كتب التفسير.
الثالث عشر : بيان السنة النبوية للقرآن.
الرابع عشر : من الأرقام القياسية في تفسيري هذا وبلوغه مائة واثني عشر جزءّ ولا زلت في بدايات القرآن والحمد لله، وكله مسائل علمية مستنبطة من ذات الآيات , إلى جانب مشروع ملايين الأجزاء الذين صدرت منه خمسة( )، أجزاء لتكون قاعدة وأصلاً ومنهاجاً وما يترشح عنها.
الخامس عشر : الأرقام القياسية في السنة النبوية وكتب الحديث والمغازي.
السادس عشر : نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في المعارك بمعجزة جلية مع قلة عددهم ومؤنهم وخلاف الحسابات العسكرية.
ويصدر جزء من هذا السِفر المبارك بقانون الأرقام القياسية في الكتاب والسنة وذكر أفراد ومصاديق منها إن شاء الله .
أدعو القائمين على المواقع الإسلامية والعلمية والإجتماعية للعناية لفتح موقع (الأرقام القياسية في الكتاب والسنة).
وهو من فضل الله وخير محض وعلم مستحدث يخترق عالم الأنترنت بما فيه النفع العام[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
ذو الخلصة
مما يروى أن الشاعر إمرء القيس صاحب المعلقة
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل.
طلب ثأر أبيه(حجر بن حارث الكندي ) والذي كان طرده صغيراً لتشبيبه بالشعر فقال: ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، اليوم خمر وغداً أمر فصارت مثلاً على الشروع بالجد بعد اللهو والكسل، وأقسم ألا يأكل لحماً ولا يدهن بدهن ولا يصيب امرأة ولا يغسل رأسه من جنابة حتى يدرك ثأره من قاتل أبيه، وأخذ يسأل بعض القبائل لنصرته وإعتذر أكثرهم وقاتل بعضهم ثم كفوا عن مواصلة القتال، إلى أن مدّه أحد ملوك حمير بخمسمائة ولحقه رجال وشذاذ وإتفق في طريقه أن وقف عند الصنم(ذو الخلصة) فأستقسم عنده وكانت قداحه ثلاثة:
الأول : الآمر.
الثاني : الناهي.
الثالث : المتربص.
فضرب بينها فخرج له الناهي ثم أعاد فخرج الناهي، وكذا في الثالثة، فجمعها وكسرهاورماها بوجه الصنم مستخفاً ومستهجناً ، وقال مصصت بظفر أمك لو ابوك قتل ما عقتني ثم خرج فظفر بقاتلي أبيه .
فكانت العرب تعلم أن هذه الأصنام لا نفع لها ولا صلة بالوقائع والأحداث وليست مما تستقرأ به علوم الغيب .
قانون فيوضات النبوة
تدعو آية البحث المسلمين والناس للتدبر في وجوه الإلتقاء بين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرسل السابقين، وهل منها إرتداد شطر من الأتباع والأنصار الجواب لا، إذ تؤكد آية البحث والمصاديق الواقعية لمضامينها على سلامة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من إنقلاب الأتباع والأنصار عن مقامات الهداية والإيمان , وهو من وجوه تفضيله , والدلائل المتجددة على قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تقسيم المؤمنين بها إلى قسمين:
الأول : المهاجرون.
الثاني : الأنصار، قال تعالى[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ]( ).
وترشح هذا التقسيم عن الواقع لبيان جهاد المسلمين الأوائل وأنهم على مشارب شتى، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وأما بالنسبة للتصديق بالأنبياء السابقين فالمسلمون بعرض ورتبة واحدة ليس من فرق بين مهاجر وأنصاري، وقد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بينهم، وتقدم قانون المؤاخاة.
ليكون من وجوه هذه الأخوة الإيمانية والتأريخية التعاون بين المهاجرين والأنصار للعصمة من الإرتداد.
وتقدير الآية: قد آخى بينكم النبي محمد أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم.
وذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسمه الصريح في الآية لمنع الجهالة وطرد الغفلة عن المسلمين والناس جميعاً، ولتكون هذه الآية دعوة للناس لدخول الإسلام بالدلالة على أمور:
الأول : تعيين شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : الإرشاد إلى سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية والتدوينية والدفاعية.
الثالث : الترغيب بالإنصات إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوته لآيات القرآن.
الرابع : تذكير أهل الكتاب وغيرهم بالبشارات التي جاءت بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لسان الأنبياء والرسل السابقين، وورد على لسان عيسى عليه السلام في التنزيل[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
الخامس : تعيين اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الرسالات والمقارنة بينهم.
السادس : بيان الصلة والتداخل بين النبوات، فكما أن القرآن يذكر الأنبياء السابقين فان الكتب السابقة جاءت بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع : تحبيب اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النفوس بوروده في القرآن بينما ذكر الرسل في الآية هذه مجتمعين وبصفة الرسالة، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين بأن يذكر باسمه متقدماً على الرسل، وذكرهم على نحو الإجمال أو ذكر بعضهم، وفيه نكتة وهي ندب للمسلمين والناس للرجوع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : تعيين اسم رسول من بين الرسل في التنزيل دعوة لإتباعه.
الصغرى : تعيين اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الرسل.
النتيجة : تعيين اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التنزيل دعوة لإتباعه.
وصحيح أن آية البحث تتحدث عن إستشهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنها نزلت في أيام حياته ، وهو إمام المسلمين في الحرب والسلم، وفي الصلاة والأحكام وهو الحاكم الفيصل في القضاء بينما أخبرت الآية عن إنقضاء أيام الرسل السابقين، فليس على سطح الأرض نبي آخر، فلا يقول أحد أو جماعة أن عند الروم أو بلاد فارس نبياً نرجع إليه أو نسأله عن نبوة محمد، أو يطلب بعضهم الإمهال في دخوله الإسلام حتى يأتيه خبر من الأنبياء الآخرين.
وتحرم الآية إدعاء النبوة، وتبعث الناس إلى تكذيب أي مدع لها غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلك معجزة له صلى الله عليه وآله وسلم بأن حصل إمتناع عند الناس من قبول دعوة النبوة من بعده .
و صار الناس يتفقهون في الدين، وأخذوا يطلبون المعجزة لمن يدعيها، فان قلت قد ظهر مدعون للنبوة مثل مسيلمة الكذاب وهو أظهرهم وأكثرهم أذى للمسلمين ومواجهة بالقتال إلى أن قتل , ومنهم الأسود العنسي في اليمن قتله المسلمون، ومنهم طليحة بن خويلد وهرب إلى الشام ثم أسلم وقتل بنهاوند، وسنخصص لهم بحثاً مستقلاً إن شاء الله .
ولا ينحصر إدعاء النبوة بأيام البعثة النبوية المباركة بل يتجدد في آخر الزمان[كما ورد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ دَجَّالِينَ كَذَّابِينَ كُلُّهُمْ يَقُولُ أَنَا نَبِيٌّ أَنَا نَبِيٌّ] ( ).
ليكون إعجاز آية البحث أمراً متجدداً في كل زمان إذ تبعث المسلمين على الحيطة والحذر، وتدعوا حكامهم وعلمائهم إلى فضح وإبطال مثل هذه الدعوة، وهو مناسبة لبيان البرهان لقوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ) بلحاظ الملازمة بين النبوة والمعجزة ، فليس من نبي إلا وجاء بمعجزة مبهرة خاصة به تتصف بالتحدي وتمتنع بذاتها عن المعارضة بالمثل ثم جاءت آية البحث مدداً للمسلمين والناس بالمبادرة إلى تكذيب مدع النبوة وفضحه وخزيه إذ أنها تجمع بين أمور:
الأول : ليس من رسول أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاء على فترة من الرسل، فبينه وبين نبي الله عيسى نحو ستمائة عام.
الثاني : إختص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإنفراده بالنبوة والرسالة في زمانه، فقد يكون نبيان في زمان واحد كما في موسى وهارون عليهما السلام، وإبراهيم ولوط عليهما السلام، قال تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا]( ).
ومن اللطف الإلهي بتقريب الناس إلى التصديق بنبوة محمد البشارات التي سبقتها وهي أعم من أن تنحصر بالتنزيل إذ توارث المؤمنون وأتباع الأنبياء السابقين هذه البشارات وأخذوا يترقبون علامات ومقدمات البعثة ويهيؤون الأذهان لقبولها وتلقيها بالرضا والتصديق[قال ابن إسحاق بإسناده عن خليفة بن عبدة قال: سألت محمد بن عدي بن ربيعة بن سواءة بن جشم بن سعد: كيف سماك أبوك في الجاهلية محمدا؟ قال: أما إني قد سألت أبي عما سألتني عنه، فقال: خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا أحدثهم وسفيان بن مجاشع بن دارم، ويزيد بن عمرو بن ربيعة، وأسامة بن مالك بن خندف، نريد ابن جفنة الغساني( ) بالشام ، فلما وردنا الشام نزلنا على غدير عليه شجرات وقربه قائم لديراني. فقلنا: لو اغتسلنا من هذا الماء وادهنا، ولبسنا ثيابنا، ثم أتينا صاحبنا؟ فأشرف علينا الديراني فقال: إن هذه للغة قوم ما هي بلغة أهل هذا البلد، فقلنا: نعم، نحن قوم من مضر. فقال: من أي المضائر؟ فقلنا: من خندف. فقال: أما إنه سوف يبعث منكم وشيكا نبي فتسارعوا إليه، وخذوا بحظكم منه ترشدوا؛ فإنه خاتم النبيين. فقلنا: ما اسمه ؟ قال: محمد. فلما انصرفنا من عند ابن جفنة وصرنا إلى أهلنا ولد لكل واحد منا غلام فسماه محمدا] ( ).
وهل هذه التسمية للأبناء من مقدمات إدعاء النبوة، الجواب لا، إنما هو تصديق بالبشارة ورجاء الفوز بها، وأبى الله عز وجل إلا أن تكون خاصة بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي لا تصلح إلا له، فالاسم غير المسمى وإن كان دليلاً عليه، ولكنها تدل على تلقي الناس البشارات بخاتم النبيين بأمور:
الأول : التصديق بالبشارات.
الثاني : الترقب للبعثة النبوية.
الثالث : الشوق لرؤية المعجزات الحسية فقد جاء الأنبياء السابقين بالمعجزات الحسية كناقة صالح، وعصا موسى، وفي عيسى عليه السلام ورد في التنزيل[وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
الرابع : العزم وإرادة التصديق بالنبي عند بعثته.
الخامس : الرضا والغبطة بكون نبي آخر الزمان من خاصة العرب، وكل يرجوه في بيته وأسرته.
وقيده الديراني بأنه من خندف، وقبائل خندف هي:
الأولى : قريش وهم ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
الثانية : بنو أسد بن خزيمة بن مدركة بن اليأس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
الثالثة : بنو هذيل بن مدركة بن اليأس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان( ).
السادس : إقتران البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم إتباعه ونصرته وفيها الرشاد والفلاح.
السابع : تعيين اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنع الجهالة والغرر ولبيان أن بعثته حق وأن تسميته عن الله عز وجل[قال العلاء قال قيس بن عاصم للنبي صلى الله عليه وآله و سلم: تدري من أول من علم بك من العرب قبل أن تبعث؟ قال: (لا) قال بنو تميم و قص عليه هذه القصة]( ).
الثامن : صيرورة اسم محمد محبباً عند الناس قبل البعثة ليكون من المقدمات للإصغاء لما يأتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله، وعدم النفرة منه.
التاسع : تأكيد حقيقة وهي أن البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تأت عن المنجمين والسحرة، بل وردت عن العلماء من أتباع الأنبياء السابقين وفيه حجة على الناس وحث لهم لتصديقه.
ومن معاني إتحاد سنخية النبوة مجيء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه خاتم النبيين وفيه مسائل:
الأولى : إنه عون له وللمؤمنين للحصانة والعصمة من الميل إلى مدعي النبوة كذباً في أيامه.
الثانية : ذات البشارة زاجر للناس عن مثل هذه الدعوة.
الثالثة : بعث الناس لتلقي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق.
الرابعة : إقتران البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفضيله بالإخبار بكونه خاتم النبيين ،وهو من معاني تفسير آية البحث وقوله تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( ) وفيه شاهد بأن مصاديق وتفسير آيات القرآن سابق لأوان نزولها.
وفي قصة النبي موسى عليه السلام مع الخضر ورد عن الإمام الرضا عليه السلام قال: كان في الكنز الذى قال الله[وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا]( ) لوح من ذهب فيه بسم الله الرحمن الرحيم محمد رسول الله، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن ايقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يركن اليها، وينبغى لمن غفل عن الله ان لا يتهم الله في قضائه ولا يستبطئه في رزقه)( ).
فمن خصائص هذا الكنز أنه يتضمن الإفتتاح بالبسملة والإخبار بأنها نهج الأنبياء والصالحين، والبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوارث الأجيال لأنباء رسالته، والتطلع بشغف إلى أيام نبوته وما فيها من المعجزات الباهرات والدلائل البينات.
وتفيد الصلة بين البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته العقلية والحسية وجوهاً:
الأول : البشارة تعضيد وعون للمعجزة.
الثاني : المعجزة تصديق للبشارة، وشاهد على أنها حق.
الثالث : التآزر والتعاضد بين البشارة والمعجزة.
الرابع : البشارة مقدمة للمعجزة وإخبار عن وقوعها عند البعثة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه من غير أن يلزم الدور بينها، فمن خصائص النبوة بشارة النبي السابق بالنبي اللاحق، وأن الأخير يشهد على صدق الأول , لينفرد المسلمون بالتصديق بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي.