المقدمــة
الحمد لله الذي خلق فأبدع وأنزل القرآن فاعجز الخلائق وبعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين .
الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً متصلاً مقروناً بالإقرار بالتقصير عن مقامات الشكر والتخلف عن أدنى مراتب الحمد الواجب والمندوب .
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبفيض ولطف منه تتوالى أجزاء هذا السفر من التفسير .
لقد أراد الله عز وجل إصلاح المسلمين للإمامة في الأرض وإلى يوم القيامة ، وهو الذي تضمنته الآية السابقة بقوله تعالى [وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا] ( )للدلالة على أن الإنقلاب إذا حدث فانه يكون على نحو القضية الفردية الذي لا يوثر سلباً على وقائع الأحداث بل يكون وبالاً على صاحبه بأن يحرم من الثواب في النشأتين والذي ذكرته آية البحث بسعة الهبات والفضل الإلهي بتكرار [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ] وإنبساطه جنة في الدنيا والآخرة .
وظاهر علماء التفسير التفصيل والفصل بين ثواب الدنيا وأن ذكره نوع تعريض وذم للمسلمين الذين أرادوا الدنيا والغنائم يوم أحد ،ولكن موضوع الآية أعم ، وهو خال من الذم والتوبيخ للمسلمين .
ويمكن تأسيس قانون وهو لو تردد الأمر في الآية القرآنية هل تتضمن الذم للمسلمين أو طائفة منهم أم أنها خالية من ذمهم .
الجواب هو الثاني ، وإذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال ، خصوصاً وأن معنى كلمة الثواب هو الجزاء ويدل نظم هذه الآية والآية السابقة أن موضوع الثواب هو الثبات على الإيمان ، وعدم الإنقلاب عن سنن الإسلام عند وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما بعدها من الأيام وإلى قيام الساعة ، وهو من أسرار نضارة القرآن ، وبقائه حياً طرياً يدعو الناس إلى الهدى في ذاته وفي تكامل أحكامه ، وصلاحه لصدور المسلمين عنه في كل زمان في أبواب العبادات والمعاملات والأحكام ، إذ تبعث آية البحث الناس عامة والمسلمين خاصة إلى اللجوء إلى الله في طلب الحاجات وسؤال الرغائب وطلب الأماني لإنحصار الثواب مطلقاً بيده تعالى ، وفي التنزيل [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً] ( ).
وهو الذي يدل عليه قوله تعالى في سورة الفاتحة [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] ( ) والذي يتلوه المسلمون كل يوم من جهات :
الأولى : تلاوة كل مسلم ومسلمة لهذه الآيات على نحو الوجوب وفرض عين .
الثانية : تكرار هذه التلاوة في كل ركعة من ركعات الصلاة اليومية الواجبة عدا صلاة النافلة والتطوع في التلاوة .
الثالثة : إنبساط تلاوة المسلمين لهاتين الآيتين على آنات الليل والنهار ، فكل فريضة من الصلاة في وقت معلوم بآية كونية لا تقبل الإختلاف والشك والإنقسام ، ولجوء المسلم إلى غيره في تعيين أوانها فحين يتجلى ضياء الفجر يحين أوان صلاة الصبح و استبانته على نحو تدريجي أول كل يوم إلحاح وجذب للمؤمنين لأدائها وإستباق الوقت وعدم تأخيرها لحين طلوع الشمس ، وهذا الإستباق من مصاديق سلامة المسلمين من الإنقلاب الذي حذرت منه الآية السابقة ، وترغيب بالثواب المتعدد والمنبسط على أيام الحياة الدنيا وعالم البرزخ ويوم القيامة الذي ذكرت آية البحث أنه بيد الله ، لتكون من مصاديق إرادته في قوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ]تعاهد ذات الصلاة لأنها خير محض ، وأدائها توفيق وهداية ورشاد .
الرابعة : تجلي معاني الدعاء والمسألة في التلاوة أثناء الصلاة طوعاً وإنطباقاً ، وهو من فيوضات القرآن [عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: “يَقُولُ اللَّهُ: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: ” الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ” ، قَالَ: مَدَحَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ” الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ” ، قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي] ( ).
الخامسة : تلاوة المسلمين لآيات القرآن على نحو جهري في ثلاث صلوات يومية هي الصبح والمغرب والعشاء ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهر في صلاة الصبح والأولى والثانية من صلاة المغرب والعشاء ، وأختلف هل قراءة الإمام جهراً في المقام واجب أم سنة والخلاف صغروي لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال [صلوا كما رأيتموني أصلي] ( ) الذي يستقرأ منه الوجوب .
وكذا بالنسبة لصلاة المنفرد ، ونسب إلى الحنابلة أن المنفرد يخير بين الجهر والإسرار .
السادسة : تلاوة المسلمين القرآن بقصد القربة إلى الله تعالى وسؤال رضاه سبحانه ، وهل تتعارض إرادة ثواب الدنيا الذي تذكره هذه الآية مع قصد القربة في الصلاة والعبادات مطلقاً الجواب لا ، لذا جاء قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) سوراً إيمانياً ينفي الرياء والنفاق ،ويمنع من إستحواذ حب الدنيا على النفس والحواس .
السابعة : تلاوة المسلمين لآيات سورة الفاتحة بقصد القرآنية وطاعة الله عز وجل والتوسل إليه ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:[ من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج غير تمام] ( ).
الثامنة : تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة وعلى نحو الوجوب العيني المنبسط عل كل مكلف منهم ذكراً أو أنثى وسيلة مباركة لحفظ وتعاهد القرآن وسلامة من التحريف والتغيير والتبديل ، وهي مناسبة لتجديد الصلة مع القرآن على نحو متعدد في اليوم بما يجعلهم في حصن من الشك والريب وقسوة القلوب .
التاسعة : التلاوة اليومية شاهد على أن كل مسلم ومسلمة يريدان ثواب الآخرة ويسعيان لإدخار الطاعات لها ، خاصة وأن واجبات الصلاة أعم من التلاوة فتشمل القيام والركوع والسجود والتسبيح والذكر المتعدد .
الحمد لله الذي أنزل القرآن في مائة وأربع عشرة سورة [وعد قوم كلمات القرآن سبعة وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعاً وثلاثين كلمة، وقيل وأربعمائة وسبعاً وثلاثين، وقيل ومائتان وسبع وسبعون، وقيل غير ذلك، وسبب الاختلاف في عد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ ورسم واعتبار، كل منها جائز، وكل من العلماء اعتبر أحد الجوائز] ( )، لتتفرع منها بحور زاخرة بالعلوم ، وكنوز ملآى بالألي والدرر ، وأنوار تضئ جنبات الصراط المستقيم وسبل الهداية وضياء متجدد بجدب القلوب والإسماع له ، ويحث العلماء على الغوص في حدائق تفسيره وتأويله ليكتشفوا والناس جميعاً أن ذخائره من اللامتناهي، وهو الذي تجلى في هذا السفر المبارك من التفسير إذ نختصر تفسير كل آية منه بجزء واحد أو أكثر مع تزاحم المعاني وسيل المفاهيم.
وجاء هذا الجزء خاصاً بتفسير قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) والتي تذكر الموت من جهات :
الأولى :صيغة العموم في نزول الموت بالناس من غير استثناء وقد تجلى هذا المعنى بذكر الآية السابقة حتمية موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد البشر ليفيد الجمع بين الآيتين أن الموت رحمة للمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله وإقتدوا به في منهاج حياته وسننه ، ليجتمعوا معه في دار الجزاء ، فمنهم الذي فاز برؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته والقتال تحت لوائه فان الله يتفضل بنيله ذات الجزاء الحسن الذي وعده الله بالقرآن وعلى لسان نبيه .
و[عن أبي موسى قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأعرابي فأكرمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تعاهدنا. فأتاه الأعرابي فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ما حاجتك؟” قال ناقة برحلها وأعنز يحتلبها أهلي .
فقال: “أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟” فقال له أصحابه: وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله؟ قال: “إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟.
فقال له علماء بني إسرائيل: نحن نحِّدثك أن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقًا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى: فأيكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل. فأرسل إليها فقال لها: دليني على قبر يوسف. فقالت: والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي.
قال لها: وما حكمك؟ قالت : حكمي أن أكون معك في الجنة. فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له: أعطها حكمها. قال: فانطلقت معهم إلى بحيرة -مستنقع ماء -فقالت لهم: أنضبوا هذا الماء. فلما أنضبوه قالت: احتفروا، فلما احتفروا استخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار] ( )،[وذكر ابن عباس أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأبا بكر هجموا على رجل من العرب وامرأة ليس لهم إلا عنز فذبحوها لهما فقال عليه السلام « إذا سمعت برجل قد ظهر بيثرب فاته فلعل الله يرزقك منه خيراً ، فلما سمع بظهور الرسول صلى الله عليه وسلم أتاه مع امرأته فقال : أتعرفني؟ قال : نعم عرفتك فقال له : احتكم ، فقال : ثمانون ضانية فأعطاه إياها وقال له : أما إن عجوز بني إسرائيل خير منك] ( ) .
وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أثناء طريق الهجرة ظهور الإسلام وبناء صرح دولة النبوة ، وهو من مصاديق ما ورد في التنزيل[إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا]( ).
وتكشف الآية عن حقيقة وهي أن الثواب الآخروي للعصمة من الإنقلاب والإرتداد ليس مانعاً للثواب في الدنيا ، ويمكن تقدير الآية : ومن يرد ثواب الدنيا وثواب الآخرة نوته منهما ، ويمكن تأسيس قانون وهو لو دار الأمر بين الفصل والتخيير وبين الجمع في مصاديق الثواب الإلهي فالجمع أظهر وأولى .
وبيان الآية للثواب العظيم من عند الله شاهد على أن ملك الدنيا والآخرة بيده سبحانه لا يشركه فيه غيره وليس من واسطة أو برزخ بين العبد وثواب الله ، قال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
ومن فضل الله عز وجل الجمع بين ثواب الدنيا والآخرة .
الحمد لله الذي جعل الحمد صراطا مستقيما ، وحرزاً من الآفات والنوائب ، وواقية في النشأتين بذاته وبما يترشح عنه من المدد وما يأتي بسببه من الفضل الإلهي ، [وعن ابن عمر قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « من قال : الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته ، والحمد لله الذي ذل كل شيء لعزته ، والحمد لله الذي خضع كل شيء لملكه ، والحمد لله الذي استسلم كل شيء لقدرته فقالها يطلب بها ما عنده كتب الله تعالى له أربعة آلاف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة] ( ).
الحمد لله الذي أفاض علينا بهذا الجزء وهو السابع عشر بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) ويقع في تفسير وتأويل آية واحدة من آل عمران وهو قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً…..] ( )،وكله تأويل واستنباط وإستقراء للمسائل من ذات الآية الكريمة بعد أن جاء الجزء السابق خاصاً بتفسير الآية [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( ) التي جاءت بالإخبار عن موت أو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكانت إكراماً وتشريفاً له من وجوه :
الأول : ورود آية من القرآن بالإخبار عن موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : دعوة المسلمين للتزود من علوم السنة النبوية القولية والفعلية قبل مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى لذا ورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن .
الثالث : وجوب إحتراز المسلمين من الإنقلاب والإرتداد عن سنن الإيمان عند وفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قال تعالى [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )وهو سبحانه الذي أنعم عليّ وجعلني أقوم بمفردي بتأليف ومراجعة وتصحيح هذا السفر باجزائه المتكثرة يؤازرني في هذه الرحلة ولدان لي في التنضيد وكل جزء منه مدرسة في العلوم قائمة بذاتها وتدعو الباحثين إلى الإقتباس منها.
قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ] ( ).
قوله تعالى[ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] الآية 145
الإعراب واللغة
وما كان: الواو حرف عطف، ما: نافية، كان: فعل ماض ناقص.
لنفس: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر كان مقدم.
أن تموت: أن: حرف مصدري ونصب، تموت: فعل مضارع منصوب، والفاعل ضمير مستتر تقديره هي.
والمصدر المؤول(أن تموت) في محل رفع اسم كان، وتقديره: ما كان موت نفس.
إلا بإذن الله: إلا: أداة حصر، بإذن: جار ومجرور، متعلق بمحذوف حال من فاعل تموت.
الله: لفظ الجلالة مضاف إليه مجرور.
كتاباً: مفعول مطلق لفعل محذوف[وقال ابن عطية : نصب على التمييز] ( )، والأول أرجح .
مؤجلاً: صفة منصوب بالفتحة على آخره.
ومن يرد: الواو: حرف عطف، من: اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، يرد: فعل مضارع مجزوم فعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر تقديره(هو).
ثواب الدنيا: ثواب مفعول به منصوب بالفتحة، وهو مضاف، الدنيا: مضاف ليه مجرور وعلامة جره الكسرة المقدرة على الألف.
نؤته منها: نؤت: فعل مضارع مجزوم جواب الشرط، وعلامة الجزم حذف حرف العلة، والفاعل ضمير مستتر يعود لله عز وجل.
من: حرف جر، الضمير(ها): ضمير في محل جر متعلق ب(نؤته) ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها تقدم إعراب مثلها أعلاه.
وسنجزي الشاكرين: السين حرف إستقبال، نجزي: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء، والفاعل ضمير مستتر يعود لله عز وجل.
الشاكرين: مفعول به منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم.
والموت أمر وجودي وإنتقال بالإنسان إلى عالم الآخرة، وإذا مات الإنسان في شبابه قيل مات عبطة واحتضر، وإذا مات عن علة شديدة قيل أراح، ( فإذا مَاتَ مِن غيرِ قَتْلِ قيلَ : مات حَتْفَ أنْفِهِ . وأوَّلُ مَن تَكلَّم بذلِكَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فإذا مَاتَ بعدَ الهَرَم قِيلَ : قَضَى نَحْبَهٌ عن أبي سعيد الضَّرِير فإذا مَاتَ نزْفاً قيلَ : صَفِرَتْ وِطَابُهُ ،عَنِ ابن الأعْرابيّ وزعم أنَّهُ يُرادُ بذلِكَ خُرُوجُ دَمِهِ مِنْ عُرُوقِهِ( ).
ومنهم من جعل الفارق بين النوم والموت رتبي، وكأنهما من سنخية واحدة، وفي التعريفات: فثبت أن النوم والموت من جنس واحد، لأن الموت هو الانقطاع الكلي، والنوم هو الانقطاع الناقص، فثبت أن القادر الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أضرب: الأول إن بلغ ضوء النفس إلى جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه، فهو اليقظة، وإن انقطع ضوؤها عن ظاهره دون باطنه، فهو النوم، أو بالكلية، فهو الموت( ).
ولكن الله عز وجل وهو القادر الحكيم جعل التباين بين الموت والنوم في الخصائص والصفات والعوارض واللوازم، وذات العالم فالنوم يبقي النفس في عالم الدنيا متصلة بالبدن وموجودة في عالم الدنيا، وهو فرع اليقظة بالذات والأثر والمعاملة، لذا ذكر القرآن قسمين وجوديين وهما الموت والحياة , قال تعالى[خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ]( )، بلحاظ أن الموت فصل للروح عن الجسد، وإنقطاع عن الدنيا وغلق لباب التوبة إلى يوم القيامة، وإنفصال تام عن أهل الدنيا وتوقف أبدي للميت عن الأعمال والأفعال، ويحتمل النوم بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول :إنه قسيم ثالث للموت والحياة .
الثاني : إنه ملحق للموت .
الثالث : الموت ملحق بالحياة .
الرابع : النوم جزء من الحياة في الآية أعلاه .
والصحيح هو الأخير ، وتدل عليه آية البحث الذي إنتقلت من الحياة إلى الموت [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
وبينما ذكرت آية السياق خصوص الموت لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان آية البحث ذكرت تعلق الموت بالنفس ليكون من معاني النفس هو الذات وشمول الجسد والروح بالموت .
وبلحاظ الآية السابقة وذكرها القتل هل يصح تقدير الآية: وما كان لنفس أن تموت أو تقتل إلا باذن الله) الجواب نعم لأن المراد من الموت في آية البحث الإطلاق في كيفية مغادرة الروح للجسد ومنها القتل، ولكن هذا لا يعني أن القاتل مجبور على فعله أو مكتوب عليه أن يقتل غيره مطلقاً أو في ذات الوقت والآجل، لذا جاء القرآن بالتحذير والإنذار من القتل والتعدي والظلم، وبيان أن القتل ظلم عظيم.
ومن الإعجاز في بيان ذم القتل وقوعه بين ولدي آدم عليه السلام ومجئ قصته في القرآن، والإحتجاج والجدال الذي سبق القتل بغير حق وأن السبب هو قبول قربان المقتول دون قربان القاتل، والله واسع كريم، فان عدم إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، فعدم قبول القربان مرة لا يعني عدم قبوله على نحو القطع لذا فتح الله عز وجل باب التوبة والإنابة، وفي التنزيل حكاية عنه[قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ]( ).
والكتاب مصدر كتب، هو الصحف المجموعة، والكتاب الأمر المفروض وفي التنزيل(كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ) ( ).
في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة ، وفيها وجوه :
الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( )وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وما إلا رسول وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله .
الثاني : وما محمد إلا رسول ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها .
الثالث: وما محمد إلا رسول ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها.
الرابع : وما محمد إلا رسول وسيجزي الله الشاكرين .
الخامس : افأئن مات محمد أو قتل كتاباً مؤجلاً .
السادس : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل .
السابع : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وما محمد إلا رسول.
الثامن : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً .
التاسع : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً .
العاشر : افائن مات محمد أو قتل وسنجزي الشاكرين .
الحادي عشر : وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله وسيجزي الله الشاكرين .
الثاني عشر :ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها وسيجزي الله الشاكرين.
الثالث عشر : كتاباً مؤجلاً وسيجزي الله الشاكرين .
الرابع عشر : ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسنجزي الشاكرين.
الخامس عشر : وسيجزي الله الشاكرين وسنجزي الشاكرين.
الثانية : بين آية البحث والآية السابقة عموم وخصوص مطلق بخصوص موضوع الموت، إذ تبدأ آية البحث بالإخبار عن موت كل إنسان وأنه لا يكون إلا بإذن الله، ومن دلالاته أن الله عز وجل يقبض النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى جواره وينقله إلى النعيم الدائم عند حلول أجله ،وفيه دعوة للمسلمين والناس للإنتفاع الأمثل من وجود النبي بين ظهرانيهم إذ ينفرد هذا الوجود بمنافع قدسية عظيمة وهي:
الأولى : توالي نزول آيات القرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعم أبى الله إلا أن يتم نزول كل آيات القرآن قبل أن يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق ما ورد عن (عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أيها الناس إنه ليس من شيء يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا قد أمرتكم به ، وإنه ليس شيء يقربكم من النار ويبعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه ، وأن الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته)( ).
الثاني : جريان الحديث القدسي على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو كلام من عند الله ولكنه لا يرقى إلى الإعجاز فيما بين الدفتين الذي لا يقبل التغيير أو التبديل بحرف واحد إذ يقوم الملك المأمور بالنزول به وهو جبرئيل بتبليغه من غير زيادة أو نقيصة أو تبديل لحرف أو كلمة، وكذا فإن النبي محمداً صلى الله عليه مأمور بتبليغه بذاته وإعجازه وهو باق إلى يوم القيامة معجزة عقلية وكنزاً للمعارف السماوية في الأرض لأن فيه أخبار أفراد الأزمنة الطولية المتعددة وأحكام الحلال والحرام وما يحتاجه الناس أمس واليوم وغداً وهو الكتاب الذي يتعبد به ويجب تعاهد ألفاظه وترتيب سوره وآياته .
أما الحديث القدسي فهو بيان سماوي لآيات القرآن ومن حكمة الله ومرآة لكلامه ، فهو قسيم للقرآن والسنة وبرزخ بينهما من جهة المرتبة ويتداخل في مواطن مع السنة النبوية ، لذا تصح رواية الحديث القدسي بالمعنى للبيان والفضل الإلهي والتخفيف عن المسلمين .
ويحتمل ترتيب الحديث القدسي وجوهاً :
الأول : الحديث القدسي وسط بين الكتاب والسنة .
الثاني : الحديث القدسي أقرب إلى القرآن منه إلى السنة.
الثالث : الحديث القدسي أقرب إلى السنة النبوية القولية منها إلى القرآن.
والمختار هو الثالث فان الحديث القدسي في بيانه للقرآن وجواز تبديل الفاظ كل منها مع عدم تغيير المعنى ، كما أن عدم علم المؤمن بحديث قدسي أو عدم جعل موضوعية له في فعل مخصوص لا يضر في عبادته وتقواه بخلاف القرآن فأن كل آية منه لها موضوعية في حياة المسلمين والناس جميعاً .
وذات القرآن يبين منزلة الحديث القدسي ومنافعه وينفرد القرآن بالوصف بالبيان المطلق بقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ) ولم يرد لفظ الحديث القدسي في القرآن نعم يتحد مع السنة النبوية في قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثالث : إبتدأت كل من الآيتين بامرين :
الأول : حرف العطف الواو .
الثاني : أداء النفي (ما) مع تعقبها بالإستثناء بالحرف (إلا) وهو أم أدوات الإستثناء مع تعلق موضوع المستثنى منه والمستثنى جميعاً بالمشيئة الإلهية فلا تنال مرتبة النبوة والرسالة إلا بمشيئة الله، وكل فرد من أفراد الوحي والتنزيل وكذا المعجزات لا تأتي إلا من عند الله ، ولا يقدر عليها غيره ، فجبرئيل مثلا لا ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بإذن الله سواء كان هذا النزول بآيات قرآنية أم بالوحي أو للنصرة والمدد أو لغيرها مع تعدد الكيفية التي يأتي بها منها :
الأولى : إستئذان جبرئيل عليه السلام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : جلوس جبرئيل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة :مجئ جبرئيل بهيئة دحية الكلبي .
الرابعة : دخول جبرئيل على هيئة أحد الناس ، وربما حصل العلم به بعد سؤاله أو عند إختفائه فجأة من بين الناس .
الرابعة : لما أخبرت آية البحث عن حتمية وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورحيله عن الدنيا لسنة الله في الخلق ، جاءت هذه الآية بالمواساة للمسلمين وبعث السكينة في نفوسهم والإخبار بأن هذه الوفاة لا تتعارض مع النبوة ومقام الرسول عند الله ، ولكنه قانون تتجلى فيه معاني العز للرسول إذ أنه يغادر الدنيا ليكون شاهداً على الناس في الآخرة وبسند [ عن محمد بن فضالة الأنصاري – وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاهم في بني ظفر ومعه ابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وناس من أصحابه ، فأمر قارئاً فقرأ ، فأتى على هذه الآية {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}( ) فبكى حتى اضطرب لحياه وجنباه ، وقال : يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أره]( ).
وفي الحديث مسائل :
الأولى : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بزيارة بعض بيوتات المدينة ومعه عدد من أصحابه .
الثانية : حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عمارة المجلس بقراءة القرآن .
الثالثة : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه بقراءة آيات من القرآن من غير تعيين للسورة أو الآيات .
الرابعة : إستجابة الصحابي لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومبادرته للقراءة .
الخامسة : بيان عناية النبي بالآية القرآنية والتدبر في معانيها وإستحضار مصداقها الخارجي .
وفي رواية عن عبد الله بن مسعود [عن عبد الله -هو ابن مسعود-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “اقرأ عليّ”. قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: “إني أشتهي أن أسمعه من غيري”. قال: فقرأت النساء، حتى إذا بلغت: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا }( ) ، قال لي: “كفّ أو أمسك”، فرأيت عيناه تذرفان] ( ).
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبكي لأهوال القيامة ، وشدة وطأة القيام بالشهادة فكيف بالمشهود عليهم لذا تفضل الله عز وجل وأخبر بأن من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرحمة والرأفة بالمسلمين خاصة والناس عامة ، [وفي المرسل عن عكرمة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ :”جَاءَ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبِّكَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ وَهَذَا مَلَكُ الْجِبَالِ قَدْ أَرْسَلَهُ إِلَيْكَ وَأَمَرَهُ أَلا يَفْعَلَ شَيْئًا إِلا بِأَمْرِكَ، فَقَالَ لَهُ مَلَكُ الْجِبَالِ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَلا أَفْعَلَ شَيْئًا إِلا بِأَمْرِكَ، إِنْ شِئْتَ دَمْدَمْتُ عَلَيْهِمُ الْجِبَالَ، وَإِنْ شِئْتَ رَمَيْتَهُمْ بِالْحَصْبَاءِ وَإِنْ شِئْتَ خَسَفْتُ بِهِمُ الأَرْضَ، قَالَ: يَا مَلَكَ الْجِبَالِ، فَإِنِّي آتِي بِهِمْ بِهِمْ، لَعَلَّهُمْ أَنْ تَخْرُجَ ذُرِّيَّةً، يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ مَلَكُ الْجِبَالِ: أَنْتَ كَمَا سَمَّاكَ رَبُّكَ ” رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
الخامسة : ذكرت الآية السابقة وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الترديد بين الموت والقتل أما آية البحث فذكرت الموت على نحو التعيين ولكنه لا يعني الحصر به دون القتل ، فاذا ورد الموت منفرداً أفاد الإطلاق بمفارقة الروح للجسد، وبين الموت والقتل عموم وخصوص مطلق فكل قتل هو موت وليس العكس مع التباين الموضوعي الجزئي بين الآيتين، إذ تذكر الآية السابقة كيفية رحيل وموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذا جاءت بصيغة الفعل المبني للمعلوم ( مات ) والمبني للمجهول ( قتل ) أما آية البحث فيتعلق موضوعها بالنفس على نحو التنكير وأن الموت يقع عليها ، وفيه دلالة بأن النفس عنوان جامع لإجتماع الروح والجسد ، وأن الموت هو مركب من أمرين :
الأول : الإنفصال بين الروح والجسد .
الثاني : عدم صدق النفس على الميت لذا يسمى جنازة وجسداً .
السادسة : ذكرت آية البحث حلول الموت كونه [كِتَابًا مُؤَجَّلاً]لبيان رحمة الله على الناس الذين هم يعمرون الحياة الدنيا، ففي كل ساعة من حياة الإنسان رحمة مستحدثة بل في كل نفس شهيق داخل وزفير خارج نعمة عظيمة ورحمة جديدة تحل بالإنسان تستلزم الشكر لله عز وجل ليكون قوله تعالى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في آنات الزمان قرباً وبعداً .
وتبين الآية أن هذا التأجيل حكم عام يتخش الناس جميعاً وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس في الحياة الدنيا .
إذ يتنعم البر والفاجر بدفع الأجل فهناك مندوحة في العمر لكل إنسان لتكون مناسبة للتوبة والإنابة وإصلاح الذات والتهيئ للموت بالتقوى والعمل الصالح وفيه حجة على الكافرين وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا] ( ) وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين بتباعد الآجال ، ودعوة لهم للسعي في مرضاة الله من غير أن تتعارض هذه الدعوة مع الإنتفاع الأمثل من وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم وتتجلى مصاديق قوله تعالى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعند وراثة سيرته وبعثته والأحوال التي صاحبت دعوته وإجهاره بها بين قوم كافرين يدرك أنه نجى من القوم الطاغين بآية من عند الله عز وجل ، وهذه النجاة المتكررة معجزة حسية وعقلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : جاءت الآية السابقة بخصوص وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحال المسلمين بعده ولزوم العصمة من الإنقلاب الظاهر والخفي وحده الأعلى من الإرتداد ، وحده الأدنى من الشك والريب والسهو عن أداء الصلاة في وقتها، وبشرت بالثواب العظيم للشاكرين ، أما آية البحث فأنها ذكرت قانوناً كلياً ، وهو أن أي إنسان لا يغادر الدنيا ولا تقبض الملائكة روحه إلا بإذن الله ، ثم إنتقلت إلى التباين والتضاد في عالم الأفعال وأن الناس فيها على قسمين بلحاظ الإختيار أما اللهث وراء الدنيا وزينتها وأما النجاة في الآخرة والسعادة الأبدية وإن أريد ثواب الدنيا في طولها، وفيه تأكيد لمضامين الآية السابقة ليفيد معنى الآية السابقة وجهين :
الأول : من يثبت على الإيمان فان الله يرزقه اللبث الدائم في الجنان .
الثاني : علة الإنقلاب عن الدين حب الدنيا ، وإرادة اللهو واللعب .
وهل يمكن تقدير الجمع بين الآيتين : ومن ينقلب على عقبيه يرد ثواب الدنيا فنؤته منها .
الجواب لا ، لأن الذي ينقلب على عقبيه يخسر الدنيا والآخرة ،لأنه خان الأمانة وغدر بالمؤمنين ونكص على عقبيه .
الثامنة : بيان خيبة وخسارة الذي ينقلب على عقبيه فليس من بعد الدنيا إلا الموت ومغادرة الدنيا ، فالذي يختار الإنقلاب عن الإسلام في الدنيا ينقلب بالموت إلى النار الحاطمة ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]( ).
الثامنة : تدل كلمة [بِإِذْنِ اللَّهِ] على فضله تعالى على الإنسان في المندوحة والسعة في عمره ورزقه وكسبه ، وتركة للذرية من بعده وكأن فيهم أمتداداً لحياته في الدنيا ، وصلة وموضوعاً لتعلقه بها والمباهج التي جعلها الله عز وجل بها ، وهل يفيد الجمع بين الآيتين دعوة المسلمين للدعاء بأمور تخص النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأمرين :
الأول : الدعاء بطول عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
الجواب نعم فباب الدعاء مفتوح للمسلمين والناس جميعاً ، إنه نعمة صاعدة وكنز بيد المسلمين ، وقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بتتابع نزول آيات القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزل قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ).
فكانت علامة على قرب أجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للمسلمين للمناجاة بالتقوى وتجديد الإيمان والإحتراز من الإنقلاب [عن ابن عمر قال : هذه السورة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوسط أيام التشريق بمنى وهو في حجة الوداع { إذا جاء نصر الله والفتح } حتى ختمها ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه الوداع] ( ).
التاسعة : تتضمن آية السياق نهي المسلمين عن الإنقلاب والإمتداد بعد رحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الدنيا .
وتضمنت آية البحث تقسيم الناس إلى قسمين :
الأول : الذين يريدون زينة الدنيا .
الثاني : الذين يريدون الثواب العظيم في الآخرة .
ويفيد الجمع بين الآيتين الإنذار من الغرور والتعلق بزينة الدنيا لأنه سبب للإنقلاب والإرتداد ، وكذا فان الإنقلاب عن حال الإيمان والرجوع إلى عادات الجاهلية سبب للإنغماس بزينة الدنيا .
العاشرة : يفيد الجمع بين أول الآيتين أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يغادر الدنيا إلا بعد إتمام رسالته ، وكمال التنزيل وصيرورة أمته في مقامات للإيمان ممتنعة عن الإنقلاب والإرتداد.
وتقدير الجمع بين الآيتين : وما كان لمحمد أن يموت إلا بأذن الله كتاباً مؤجلاً ، وفيه مسائل :
الأولى : بعث السكينة في نفوس المسلمين بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل غيلة وغدراً ، فلا يغادرونه عند المساء وهو يخشون ألا يرون الطلعة البهية عند الصباح.
الثانية : تطلع المسلمين لنزول آيات القرآن وإطمئنانهم لنزول آيات القرآن كلها على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : غلق الباب بوجه الإجتهاد في مقابل النص ، والفضح المتقدم زماناً وموضوعاً لمن يدعي النبوة بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : لم يغادر الرسل السابقون الدنيا إلا بإذن الله وهو سبحانه يعلم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يأتي من بعدهم ليتم صرح الإيمان في الأرض، وتبقى أمته [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لقد ذكر القرآن رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت بقوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا]( ).
ليقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برفع قواعد الإسلام في الأرض لتبقى شامخة عالية إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء السابقين .
الرابعة : بعث الحسرة والأسى في قلوب المنافقين لنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من القتل قبل حلول الأجل ، قال تعالى [لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ] ( ).
وتحتمل هذه الحسرة في أثرها وجوهاً:
الأول : إصرار المنافقين على الإقامة على درن النفاق وإبطان الكفر .
الثاني : إزدياد حال النفاق وعدد المنافقين .
الثالث: إصابة المنافقين بالوهن والنقص في العدد .
الرابع : توبة المنافقين لأن موضوع الآجال وتأجيلها معجزة في الإرادة التكوينية جاءت آية البحث ببيانها.
والصحيح : هو الثالث والرابع ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حدوث المحاربة الذاتية للنفاق ،إذ يعيش المنافق الصراع الذاتي بين ظاهرة وقوفه بين يدي الله في الصلاة مع جماعة المسلمين وبين باطنه ، وإستحوذ الشك والريب على نفسه ، فجأءت هذه الآيات لتزيل الغشاوة عن بصره وسمعه.
وهل يمكن تأسيس قانون وهو أن كل آية من القرآن حرب على النفاق ، الجواب نعم وهو من أسرار عدم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين لأن نزول الآيات حجة وبرهان، ومناسبة للتوبة والصلاح من وجوه :
الأول : كل آية من القرآن علم مستقل .
الثاني : مخاطبة آيات القرآن للناس جميعاً سواء في منطوقها أو مفهومها .
الثالث: الآية القرآنية موعظة وتأديب وباعث على إصلاح الذات .
الرابع : تتضمن كل آية من القرآن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بذاتها وبعثها المسلمين لمناهجه.
الخامس : من أسرار تعاقب نزول آيات القرآن أنه إزاحة للكفر والنفاق عن شغاف القلوب ومن لم يتعظ بمضامين آية قرآنية تأتيه آية أخرى في ذات الموضوع أو الحكم لتجذبه الى التدبر في معانيها ، ومفاهيم الآية السابقة التي لم يلتفت إليها ، وهو من وجوه التعضيد والمؤازرة بين آيات القرآن من جهات :
الأولى : جذب الآية التالية الناس إلى الآية السابقة ومعانيها والتذكير بها .
الثانية : تهيئة الآية الأذهان للآية اللاحقة لها ، ومنه المطلق المقيد، والمجمل والمبين ، والناسخ والمنسوخ، قال تعالى[سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى] ( ).
الثالثة : إستحداث معاني ودلالات من الجمع بين الآية السابقة والتالية في الموضوع أو الحكم وهذا التعدد من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ).
الرابعة : التدريج في الأحكام باتجاه التمام والكمال في الشريعة الإسلامية ومنه آية البحث والآية السابقة فبعد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشهادة له بالرسالة وأنه لابد وأن يغادر الحياة الدنيا بالموت أو القتل جاءت آية البحث بالعموم في تغشي الموت للناس جميعاً وبيان قانون كلي وهو أن الموت وملكه لا يزوران الإنسان إلا بأذن وأمر من الله عز وجل .
الحادية عشرة : لقد كانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيصلاً بين الإيمان والكفر ، والحق والباطل، والهدى والضلالة وشاء الله عز وجل أن تبقى نعمة نبوته إلى يوم القيامة فلا يكون موته وغيابه عن الدنيا سبباً لإنقطاع هذا الفعل .
وفي معركة بدر ورد قوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( ).
فاذا كانت واقعة ومعركة من معارك الإسلام فيصلاً وبرزخاً وضياءً يكشف التباين والتضاد بين أهل الإيمان والكفار ، فقد جاءت آية البحث بالإخبار عن التباين بين حب الدنيا والسعي للآخرة ، لبيان موضوعية إختيار الإنسان وعدم تعارضه مع المشيئة الإلهية ، فاذا لم يشأ الله عز وجل إنتفاع الإنسان من الدنيا فانه يعجز عن نيلها والإنغماس في لذاتها ولكنه الإستدراج والإمتحان الإلهي للناس ، فجاءت آية البحث لهداية المسلمين للتوفيق بهذا الإمتحان بالسلامة من إختيار الدنيا وزينتها، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية عشرة : جاء تقسيم الناس في آية البحث إلى قسمين :
الأول : الذين يلهثون وراء الدنيا .
الثاني :الذين يسعون بجد إلى الآخرة .
ويحتمل هذا التقسيم وجوهاً :
الأول : إرادة الناس أيام البعثة النبوية الشريفة .
الثاني : المقصود المسلمون إلى يوم القيامة .
الثالث : إرادة العموم الإستغراقي للناس جميعاً .
والصحيح هو الأخير ، فالآية وإن نزلت على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنها تتغشى أفراد الزمان الطولية الثلاثة وهو من الإعجاز بإخبار الآية السابقة عن توالي وتعاقب إرسال الرسل من عند الله.
وتحتمل وظيفة الرسل وجوهاً :
الأول : ترغيب الناس بالعمل للآخرة .
الثاني : جذب الناس للتنعم بزينة الدنيا ، وتحقيق الأماني ، وتقريب الرغائب .
الثالث: يجمع الأنبياء والرسل بين الدنيا والدعوة إلى النعيم الأخروي مع حث الناس على الإستزادة من الدنيا وزينتها .
والصحيح هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) إذ يتعلق موضوع البشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات باللبث الدائم في النعيم والإنذار للكافرين بالعذاب الأليم .
وهل يمكن إحتساب هذه الدعوة من الشواهد على صدق النبوة، الجواب نعم ، ولكنها ليست بديلة عن المعجزة المصاحبة لكل نبي، نعم كل معجزة تكون ذاتها بشارة وإنذاراً في آن واحد ، فهي بشارة للذين يصدقون بها بأنها أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم من المعارضة وإنذار للذين يكذبون ويستهزئون.
الثالثة عشرة : كما جاء النفي والإستثناء في كل من الآيتين، جاءت صيغة الشرط في كل منهما مع التباين الموضوعي.
إذ تضمنت آية السياق الشرط في موضوع متحد وهو الإنقلاب والإرتداد، أما آية البحث فان موضوع الشرط متعدد في طرفين متباينين، إذ ذكرت الآية الثواب والمراد العمل والغايات الذاتية منه، ليكون هذا التباين زاجراً عن الإنقلاب والإرتداد، ومانعاً من التفريط وأسباب الضلالة، لأن طلب الدنيا والإنقلاب من مصاديق الظلم، قال تعالى[إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ]( ).
الرابعة عشرة : لما ذكرت الآية السابقة الإنقلاب والإرتداد بصيغة الشرط ومفاهيم الإنذار والتحذير أخبرت آية البحث بأن الموت أمر حتم للإنسان وأنه كتاب مؤجل باذن الله، فيجب على الإنسان الإنتفاع من الحياة الدنيا بالمسارعة في الخيرات، والتنزه عن الإنقلاب.
وهل في الإيمان وعمل الصالحات سبب لتأجيل أوان الموت، وصرف البلاء الطارئ، الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الخامسة عشرة : إبتدأت آية السياق بذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالاسم الذي يفيد التعيين والإختصاص الموضوعي , والإخبار بأن إسمه في السماء هو نفسه إسمه في الأرض، وهذا الاسم باق إلى يوم القيامة.
الثانية : تأكيد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل .
الثالثة : ختم النبوات برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أبى الله عز وجل إلا أن تختتم النبوة برسالة عامة للناس جميعاً، وفيه رحمة بهم وشاهد على فضل الله عز وجل عليهم وطرد الجهالة والغفلة عنهم، وذهاب محاربة النبيين السابقين هباءً، وعدم جني الذين حرفوا الكتب السابقة إلا الخزي والإثم العظيم، إذ جاء القرآن كتاباً جامعاً للأحكام، ومن خصائصه البقاء سالماً من التحريف إلى يوم القيامة.
وقسّمت آية البحث الناس إلى قسمين بلحاظ إرادتهم وغاياتهم بخصوص حب الدنيا أو السعي للآخرة، ليكون أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القسم الثاني، وفيه الثواب العظيم، وتقدير آية البحث على قسمين:
الأول : ومن يرد ثواب الدنيا بالإنقلاب نؤته منها، ولن يضر الله شيئاً.
الثاني : ومن يرد ثواب الآخرة باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نؤته منها.
السادسة عشرة : ذكرت آية البحث الموت والقتل على نحو الترديد بينهما في كيفية مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءت آبة البحث لتخبر عن الموت وحده بقوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ]( )، وفيه شاهد بأن النسبة بين الموت والقتل هي العموم والخصوص المطلق، فكل قتل هو موت وليس العكس وإذا جاء ذكر أحدهما على نحو الإطلاق وإرادة بيان مغادرة الدنيا، فيذكر الموت، قال تعالى[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، لدلالة العام على الخاص.
السابعة عشرة : لقد تضمنت الآية السابقة الإخبار عن حتمية زيارة ملك الموت للنبي محمد وبحضرته الموت وإنتقاله إلى عالم الآخرة، وتضمنت النهي عن فتنة الإرتداد، وفي قوله تعالى[وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( )، ورد عن مجاهد قال: إرتداد المؤمن إلى الوثن أشد عليه من أن يقتل محقاً( ).
وجاءت آية البحث للمنع من هذه الفتنة، ولإصلاح المسلمين للتنزه عن الإنقلاب مطلقاً وليس الإرتداد وحده لذا كررته الآية السابقة بقوله تعالى[انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ]( )، لتأكيد قبح الإنقلاب، فيشمل الذين عاهدوا الرسول ونقضوا العهد معه، وفيه دعوة للناس لتعاهد هذه العهود والمحافظة عليها، وأمر للمسلمين بالعمل بذات العهود والعقود.
الثامنة عشرة : يحتمل المراد من النفس في قوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ]( )، وجوهاً:
الأول : إرادة موضوع وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الآية السابقة التي ذكرته وحذرت المسلمين من الإنقلاب بعده.
الثاني : المقصود الأنبياء والرسل لقوله تعالى في الآية السابقة[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( ).
الثالث : المقصود الذين يقتلون في سبيل الله من المؤمنين إذ أخبرت الآية قبل السابقة عن تمنيهم الموت بقوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ]( )، فتفضل الله عز وجل بأن ذكر في هذه الآية قانوناً كلياً وهو أن الموت والقتل لا يحصلان إلا بإذن الله ومشيئته، ولموضوع التمني في المقام وجوه محتملة:
الأول : موضوعية تمني الموت، فاذا تمناه الإنسان تعجل له الموت.
الثاني : إرادة خصوص تمني المؤمنين الموت بالإستجابة لهم، وفيه مسائل:
الأولى : إستجابة الله عز وجل لسؤال المؤمنين.
الثانية : علم الله عز وجل بالأماني، وما يخطر على القلب من الرغائب فيتفضل الله بتحقيقها للمؤمن.
الثالثة : فوز المؤمنين الذين تمنوا الموت بنيل درجة الشهادة قال تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
الرابعة : إنتقال المؤمنين الذين تمنوا الموت إلى جنات الخلد والنعيم الدائم.
الثالث : عدم الملازمة بين تمني الموت ووقوعه مطلقاً.
والصحيح هو الأخير سواء كان الذي يتمنى الموت مؤمناً أو كافراً، وتمني الموت بقصد الفوز بالنعيم، أو الإستراحة من تعب وكدر الحياة، وتبين آية البحث هذا المعنى وإرادة العموم الذي يدل عليه التنكير في قوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
ومن الإعجاز في الآية قبل السابقة أنها ذكرت تمني الموت، ولم تذكر دعاء المسلمين وسؤالهم الله عز وجل الموت والقتل في سبيله، مما يدل على تفقه المسلمين في الدين ومعرفتهم لقواعد الدعاء، وضوابط المسألة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنًا فلعله أن يزداد، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب”)( ).
لقد إتعظ المسلمون من إنقطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء يوم بدر وهو يسأل الله النصر والغلبة على الكفار، وسلامة المؤمنين، ويقول: اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)( ).
وتكرر ذات الدعاء وموضوعه في معركة أحد مع كثرة قتلى المسلمين حينئذ(انطلق النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه فقال : أنا رسول الله . ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً ، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع . فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم ، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه ، وهمهم أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد . ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم « فذلك قوله { فأثابكم غماً بغم } الغم الأوّل ما فاتهم من الغنيمة والفتح ، والغم الثاني اشراف العدوّ عليهم { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } من الغنيمة { ولا ما أصابكم } من القتل حين تذكرون فشغلهم أبو سفيان)( ).
ليكون من وجوه الجمع بين دعاء النبي صلى الله عليه وآله سلم أعلاه ومعنى تمني المؤمنين الموت مسائل:
الأولى : كتابة الأجر والثواب للمسلمين على تمنيهم الموت لإرادة قصد القربة فيه.
الثانية : بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار لأن تمني المؤمنين القتل في الميدان أمارة على تفانيهم في القتال(إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الانصار قالوا: لما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحى فقالوا احزر لنا القوم أصحاب محمد.
قال: فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر: أللقوم كمين أو مدد.
قال: فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح( ) يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ! ؟ فروا رأيكم)( ).
قال خليفة في تسمية عمال علي مكة عزل علي خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي عن مكة وولاها أبا قتادة الأنصاري ثم عزله وولى قثم بن عباس فلم يزل عليها واليا حتى قتل علي قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أن معاوية لما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري فقال تلقاني الناس كلهم غيركم يا يا معشر الأنصار فما منعكم أن تلقوني قالوا لم يكن لنا دواب قال معاوية فأين النواضح فقال أبو قتادة عقرناها في طلب أبيك يوم بدر وفي روايه حرثناهم يوم بدر( )، ثم قال أبو قتادة إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لنا سترون بعدي أثره فقال معاوية فما أمركم قال أمرنا أن نصبر حتى نلقاه قال فاصبروا حتى تلقوه( ).
وحنظلة هو أخو معاوية قتله المسلمون في معركة بدر، وأراد معاوية التعريض بالأنصار بأنهم يمتهنون الزراعة وإنشغالهم بالحرث والسقي (فاجابوه بما أسكته تعريضاً بقتل أشياخه يوم بدر ( )، وفي خبر أن سعد بن قيس أجابه: نحرناها يوم بدر يوم قتلنا حنظلة.
وقول الرصد الذي أرسلته قريش وهو عمير بن وهب:الموت الناقع أي الموت الأكيد، وكأنه السم القاتل الذي تتجرعه قريش مع الذل والهوان، أراد السخرية من كفار قريش وإستخفافهم بالأنصار والظن بافتقارهم لفنون القتال خاصة وأنهم كانوا الأكثر من بين جيش المسلمين يوم بدر الذي يتألف من المهاجرين والأنصار.
فمن بين جيش المسلمين الثلاثمائة وأربعة عشر، كان عدد الأنصار هو مائتان وواحد وثلاثون رجلاً، من الخزرج مائة وسبعون، ومن الأوس واحد وستون بينما كان جيش كفار قريش نحو ألف رجل، نعم إزداد فيما بعد عدد المهاجرين كما في بيعة الشجرة وصلح الحديبية.
إذ كان عدد المهاجرين ثمانمائة من بين ألف وأربعمائة، قال تعالى[إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ]( )، فبعد إنتصار المسلمين في بدر وسلامتهم في معركة أحد والخندق، وكان للسابقين إلى الإسلام من المهاجرين أثر مبارك في جذب قومهم إلى الإسلام وإختيارهم الهجرة والجهاد في آن واحد.
فمثلاً أحد أبو ذر الغفاري يدعو قومه حتى توافد إلى المدينة سبعون بيتا من غفار، وأسلم مع بريدة بن الحصيب الأسلمي الذي تلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه إلى المدينة سبعون من قومه.
ليكون من معاني قوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ]( )، صدق عزائم الأنصار على لقاء العدو، وإصرارهم على القتال والدفاع، وهذا التبدل في حياة الأنصار وتركهم المكاسب وأعمال الزراعة وتوجههم باخلاص إلى الجهاد من الإعجاز الغيري للقرآن، والشواهد العملية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسعة عشرة : نزلت الآية السابقة بخصوص رحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عالم الجنة والخلود وما يجب على المسلمين بعده من لزوم التقيد بأحكام الإسلام، وإبتدأت آية البحث بالإخبار عن تغشي قانون الموت للناس جميعاً، ولكنه لا يأتي لأي فرد منهم إلا باذن من عند الله، وفيه منع من القنوط واليأس عند المسلمين بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلابد أن ينهضوا بتعاهد صرح الإسلام والتقيد بالأحكام، ومنع إنقلاب طائفة من الناس أو إرتداد أخرى.
العشرون : تبين آية البحث قانوناً يتضمن تعريفاً بالدنيا وأنها دار الإختيار المقيد بصبغة الإختبار وفيه بلاغ للناس بلزوم إختيار ما فيه السلامة والنجاح في الإختبار، وحصرت آية البحث الإختيار بطريقين:
الأول : إرادة ثواب ومنافع الحياة الدنيا.
الثاني : سعي الإنسان لنيل الأجر والثواب في الآخرة.
وقيدنا الموضوع بلفظ(طريقين)لدلالة الآية على أن الدنيا مزرعة للآخرة وأنها كالبلغة للوصول إلى غايات خاصة وعامة فان قلت كيف تكون الدنيا بلغة وغاية في وقت واحد والله يقول [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا] ( ).
والجواب ظاهر في ذات الآية إذ أنها تفصل بين ذات الدنيا وثوابها مع أن الثواب من جنس الدنيا مما يدل على أنه أمر إضافي آخر، يتجلى بالزيادة والمندوحة والسعة من زينة الدنيا التي يسعى إليها ويتنعم بها، ليكون موضوعها بلحاظ الآية السابقة دعوة المسلمين لعدم الإفتتان بما عليه أهل الدنيا من التنعم بمباهجها وأنها لم تأتهم إلا من عند الله عز وجل وعلى نحو الإمتحان والإختبار ولزوم شكر الله عليها.
الحادي والعشرون : إبتدأت الآية السابقة بالإخبار عن رحيل النبي محمد صلى الله وآله وسلم عن الدنيا، وتضمن هذا الإخبار الترديد في كيفية هذا الرحيل على وجهين إما الموت أو القتل وتجلى بالحرف (أو) الذي يكون على وجوه متعددة :
الأول : (أو) حرف عطف، بتشريك اللاحق بحكم السابق لها.
الثاني : إفادة معنى الشك والترديد والتي تأتي بعد الخبر، والقرآن منزه من الشك فلابد من إصطلاح مناسب للمعنى مثل المندوحة والسعة.
الثالث : التخيير، وهي التي تأتي بعد الطلب ، أو النهي، قال تعالى[وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا]( ).
الرابع : الإبهام.
الخامس : مطلق الجمع.
السادس : التقسيم مثل الحج واجب بالذات أو واجب بالعرض أو مندوب .
السابع : التقريب ، قال تعالى [وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ] ( )لإفادة السرعة والمباغتة والحث على الإستعداد لها ، وكذا بالنسبة لآية الموت وطرو الموت في سرعة نزوله ، فصحيح أنه كتاب مؤجل إلا أنه قد يحل بغتة .
الثامن : الإباحة، والفرق بينها وبين التخيير إمكان الجمع في الإباحة بين طرفي(أو) بخلاف التخيير، ومن التخيير تزوج هنداً أو أختها، ومن الإباحة صل تماماً أو قصراً في السفر.
التاسع : بمعنى(إلى).
العاشر : بمعنى(إلا) في الإستثناء.
الحادي عشر : إرادة الشرط.
الثاني عشر : للتبعيض.
الثالث عشر : بمعنى بل للإضراب، ويدل عليه قوله تعالى[وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ]( )، وفي(أو) في الآية وجوه أخرى: التخيير، بمعنى الواو أي ويزيدون.
الرابع عشر : بمعنى : حتى.
الخامس عشر : بمعنى : إذن.
إنما أرادت الآية السابقة الإخبار عن موضوع وهو حال المسلمين بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، فسواء مات أو قتل فليس للمسلم أن ينقلب إلى عادات الجاهلية أو أن يرتد عن دينه، ولبيان قانون كلي وهو أن النبوة لاتدفع القتل، ولو قال الآية(أفائن مات انقلبتم) لقال المنافقون أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدخل الحروب وهو يعلم سلامته من القتل بينما سائر المسلمين يتعرضون للقتل.
فجاءت الآية السابقة لإسقاط ما في أيدي المنافقين وأهل الشك والريب والذين يسعون لصد المؤمنين عن القتال في سبيل الله، أما آية البحث فذكرت الموت كسور جامع لمصاديق مغادرة الإنسان الحياة الدنيا ،ويلتقي فيه الناس جميعاً وللإخبار بأن موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لن يكون أمره بيد الكفار وإن إجتهدوا في إرادة قتله واكثروا من محاولات إغتياله، ووضعوا الجعالة لمن يقتله أو يقتل أحد أهل بيته وأصحابه، فموت أي إنسان لا يكون إلا باذن الله، وفيه دعوة للناس للتسليم بأن مقاليد الأمور بيد الله، وأن إتباع الأنبياء واجب، وأن القرآن منزل من عند الله.
وقد جاءت آية أخرى في القرآن تذكر الموت وحده لشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،قال تعالى[وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، لأن الموت عنوان شامل لوجوه مفارقة الروح للجسد سواء كان قبض الروح على السرير أو بالقتل أو غيره، بدليل قوله تعالى[ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] الشامل لجميع الناس في مغادرتهم الدنيا، فحتى المقتول هو ذائق للموت طوعاً أو قهراً .
الثاني والعشرون : أختتمت آية البحث بقوله تعالى[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] ليكون من مصاديق الشكر لله عز وجل بلحاظ الآية السابقة وجوه :
الأول : الإقرار بالنبوات وبعث الرسل من عند الله.
الثاني : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله للناس جميعاً [وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي . بعثت إلى الناس كافة إلى كل أبيض وأحمر ، وأطعمت أمتي المغنم لم يطعم أمة قبل أمتي ، ونصرت بالرعب بين يدي من مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، واعطيت الشفاعة فأدخرتها لأمتي يوم القيامة] ( ) ومن مصاديق إرادة عموم الناس في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية البحث وإخبارها عن شمول الموت للناس جميعاً وأنه كتاب مؤجل وتخيير الناس بين ثواب الدنيا والآخرة .
الثالث : التسليم باختتام النبوات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه ليس من نبي بعده، وينفع هذا التسليم المسلمين ويحصنهم من إتباع الذي يدّعي النبوة أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته، ويبعث على محاربته ومنع الناس من إتباعه، وفعلاً إدعى بعضهم النبوة وصدقه رجال من قومه وحصلت حروب الردة وقتل مسيلمة الكذاب الذي إدعاها في اليمامة في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم إزداد أتباعه بعد وفاته.
الرابع : الإحتراز من الإنقلاب والإرتداد بعد مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
لتتجلى معاني قدسية في قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة الإيمانية بين المهاجرين والأنصار ،ويكون من خصائصها أمور:
الأول : التعاون في تعاهد أحكام الإسلام بعد مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : الأخلاص في سنن الإيمان.
الثالث : المناجاة بين الأخوين بمرضاة الله.
الرابع : إتصال وإستمرار هذه الأخوة الإيمانية وإن توقف عنها التوارث بين الأخوين بقوله تعالى[وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ] ( ).
وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء وجاء سلمان(يزور أبا الدرداء فرأى أم الدرداء مبتذلة فقال: ما شأنك قالت إن أخاك ليس له حاجة في شيء من الدنيا.
فلما جاء أبو الدرداء رحب به سلمان وقرب له طعاماً.. قال: سلمان أطعم قال: إني صائم قال: أقسمت عليك إلا ما طعمت إني لست بآكل حتى تطعم.
وبات سلمان عند أبي الدرداء فلما كان الليل قام أبو الدرداء فحبسه سلمان. قال: يا أبا الدرداء إن لربك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقاً وإن لجسدك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه. قال: فلما كان وجه الصبح قال: قم الآن فقاما فصليا ثم خرجا إلى الصلاة: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إليه أبو الدرداء وأخبره بما قال سلمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما قال: سلمان ( ).
إذ جعله يأكل في النهار ويترك صيام التطوع لمجئ أخيه ضيفاً عنده، ثم أمره أن يذهب للفراش وينام مع زوجه ويأخذ قسطاً من الراحة، وطلب منه القيام عند الفجر لصلاة نافلة الصبح ركعتين ثم الخروج إلى المسجد للصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاء سؤال أبي الدرداء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للإطمئنان وتأكيد فعل سلمان وتقسيم اليوم والليلة في مرضاة الله.
وسكن سلمان الكوفة، وسكن أبو الدرداء الشام، ولكن الكتب بينهما لم تنقطع، وكانت تتقوم بتعاهد سنن الإيمان،(فكتب أبو الدرداء إلى سلمان سلام عليك أما بعد فإن الله رزقني بعدك مالا وولدا ونزلت الأرض المقدسة ،قال فكتب إليه سلمان سلام عليك أما بعد فإنك كتبت إن الله رزقك مالا وولدا ونزلت الأرض المقدسة واعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد ولكن الخير أن يعظم حلمك وأن ينفعك علمك وكتبت إنك نزلت الأرض المقدسة وأن الأرض المقدسة لا تعمل لأحد اعمل كأنك ترى واعدد نفسك( ).
الثالث والعشرون : تضمنت آية البحث الترغيب بالبقاء على نهج الإيمان من وجوه:
الأول : زمن البعثة النبوية وتوالي نزول آيات القرآن.
الثاني : أيام ما بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومفارقة جسده للأمة دون سنته القولية والفعلية التي تصاحبهم إلى يوم القيامة وكأنه حاضر بينهم.
الثالث : أجيال التابعين وتابعي التابعين إلى يوم القيامة.
ويتجلى الترغيب في الآية بالإخبار عن كون الثواب في النشأتين مطلقاً بيد الله عز وجل، وأنه سبحانه هو الكريم الذي تفضل وأخبر عن منح هذا الثواب لمن يريده ويرغب فيه.
وتقدير الجمع بين هذه الآية والآية السابقة ،ومن لم ينقلب على عقبيه نؤته ثواب الدنيا وثواب الآخرة وسنجزي الشاكرين.
الرابع والعشرون : وبلحاظ المعنى الأعم للآية الذي أسسناه في الجزء السابق بشمول النهي عن الإنقلاب للذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب والكفار، فهل يشمل الطبقات التالية منهم الذين يعاهدون المسلمين أم أن القدر المتيقن هو المواثيق التي عقدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم عدم نقضها، كما في صلح الحديبية، وإلحاق نقض قريش له من مصاديق قوله تعالى[وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا] وأن معناها قانون كلي أعم من صيغة الخطاب في قوله تعالى أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )،و الخطاب فيها للمسلمين بقرينة العطف بين الآيات، ولكنه لايمنع من المعنى الأعم مع إتحاد الموضوع في تنقيح المناط.
الخامس والعشرون : أختتمت آية البحث بقوله تعالى[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] ويكون معناه بلحاظ الآية السابقة على وجوه:
الأول : المسلمون الذين يشكرون الله على نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : الذين يشهدون ويقرون بأن رسالة النبي محمد عامة للناس جميعاً وهي خير محض ،قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثالث : الذين يؤمنون بأن الله عز وجل بعث أنبياء ورسلاً كثيرين، مع التصديق بهم من جهات:
الأولى : مجئ الرسل بشرائع سماوية.
الثانية : بعثة الرسل إلى الأمم المختلفة من الناس، فلم ينحصر بعث الأنبياء والرسل بأمة مخصوصة، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثالثة : موت الأنبياء السابقين، وإنقضاء أيامهم.
الرابعة : التصديق بالكتب السماوية السابقة، وما انزل فيها.
الرابع : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل، وعن الإمام علي عليه السلام: أرسله على حين فترة من الرسل ، وطول هجعة من الامم( ).
الخامس : التسليم بنزول القرآن من عند الله، والصدور عنه في عالم الأفعال، وعدم الإعراض عنه أو الصدود عما فيه من الأوامر والنواهي عند وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من الشواهد على فوز المسلمين بمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس : الثبات في منازل الإيمان بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الإنقلاب الى الضلالة والوهم الذي كان عليه الناس قبل البعثة.
السابع : القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يتجلى بالأمر بتعاهد الفرائض والعمل بأحكام القرآن، والنهي عن الإنقلاب والإرتداد.
وهل يصح القول بأن تلاوة المسلم للآية القرآنية من الشكر لله عز وجل على نزولها.
الجواب نعم، فمن رحمة الله عز وجل تفضله باحتساب كل عبادة وطاعة من العباد شكراً له سبحانه، بالإضافة إلى كون تلاوة الآية القرآنية مصداقاً للبقاء في منازل الإيمان، وإعلاناً للتنزه عن الإنقلاب والصدود عن مناهج الرسالة وسنن النبوة، وهو من أسرار تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يغادر الدنيا ولكن آيات القرآن الذي أنزله الله عليه تبقى إماماً للناس في محاربة الإرتداد، وصرحاً سماوياً في الأرض يثبت الذين آمنوا وباباً لنيلهم الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، بلحاظ أن تلاوتها شكر لله واقرار بأنها نعمة وكنز سماوي في الأرض ينفعهم يوم الحسرة والفاقة.
السادس والعشرون : ويمكن تقسيم الناس بحسب مضامين الآية السابقة إلى :
الأول : المسلمون الذين يبقون على إيمانهم بعد رحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عالم الآخرة.
الثاني : الذين ينقلبون على أعقابهم، وهم على أقسام:
الأول : المرتدون ممن أظهر الإسلام.
الثاني : الذين يرون إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحياة الدنيا مناسبة لإظهار ضروب الكفر الذي يبطنون.
الثالث : الذين يظهرون الريب والشك والجحود.
الرابع : فريق من غير المسلمين ممن عقدوا العهود مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا ينوون نقضها عند وفاته.
الخامس : الذين يرجون حصول ثغرة أو حال ضعف وإنشغال عند المسلمين ليخرجوا شماتتهم وعداوتهم ،قال تعالى[الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ليكون من معاني الآية السابقة التحذير من مكرهم وخبثهم، وإتضاح معجزات غيبية حسية لآيات القرآن عند وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو فيض ولطف تختص به نبوته ،ومن الشواهد على تفضيله على الأنبياء السابقين ،وفيه مسائل:
الأولى : تجلي مصاديق آيات القرآن بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأنها نزلت بعد مغادرته الحياة الدنيا، إذ يرى الناس أموراً:
الأول : إنقلاب بعض الناس وإرتدادهم عن الإسلام من غير سبب ظاهر، خصوصاً بعد أن منعت الآية الناس من جعل موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبباً للإرتداد، في قوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ] ( ).
الثاني : قلة عدد الذين ينقلبون على أدبارهم من بين عموم المسلمين.
الثالث : إستعداد المسلمين لقتال المرتدين وجذبهم إلى منازل الهدى والإسلام.
الرابع : تعاهد المسلمين لأحكام الإسلام وأداؤهم الفرائض كما كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : إستحضار المسلمين لآيات القرآن التي تحذر من الإنقلاب والإرتداد.
الثالثة : مناجاة وتعاون المسلمين في التمسك بالقرآن والسنة، فمع مصيبة المسلمين بفقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانهم إنتفعوا يومئذ من قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
الرابعة :نزلت آيات القرآن بذم المنافقين وإنذارهم بالخزي في الدنيا والإقامة[فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( )، في الآخرة.
السابع والعشرون : ذكرت الآية السابقة قانوناً وهو[وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا] ومن المسلمات أن الله عز وجل لا يصل إليه أذى أو ضرر وهو القاهر لعباده والقوة له جميعاً وهو ليس بجسم أو جسماني بل واجب الوجود الذي بمشيئته كان كل شئ في وجوده وفعله، ترى ما المراد من الآية الجواب من وجوه :
الأول : إرادة التحدي والبيان.
الثاني : تذكير الناس بعظمة سلطان الله عز وجل.
الثالث : إصابة المنافقين والمرتدين بالخيبة والحسرة.
الرابع : تقدير الآية على جهات:
الأولى : فلن يضر الله شيئاً في عباده الصالحين.
الثانية : فلن يضر الله شيئاً إنما يضر نفسه وفي نعت الظالمين ورد قوله تعالى[وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( )، قال ابن عباس :يضرون( ).
الثالثة : فلن يضر الله شيئاً في وجود أجيال متعاقبة لأمة مؤمنة تتعاهد عبادة الله في الأرض.
فمن وجوه الثناء على المسلمين في آية البحث أن إحتمال الإنقلاب والإرتداد لايحصل عند وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل بالدلالة التضمنية على أمور:
الأول : سلامة المسلمين من الإرتداد في أيام حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،ولما بلغ هرقل نبأ خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته الناس للإسلام واستجابة الجماعات والقبائل له، وتناقل الركبان لآيات التنزيل أراد أن يعلم خبره فارسل إلى أمير العرب التابع له في الشام، وأمره أن يبعث برجال من العرب يسألهم عن بعثته وأخباره، وكان أبو سفيان بن حرب في الشام في تجارة، تلك النعمة على قريش بفضل جوارهم للبيت وإنتمائهم لإبراهيم الخليل وبركات التجارة في قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، ولكنهم جحدوا بها وإتخذوا المنافع والأرباح التي تدرها عليهم مادة وسلاحاً لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وهو من أسباب لحوق الضرر والخزي بهم.
وجاءوا بأبي سفيان ومعه ثلاثون نفر من العرب وأدخلوا على هرقل( فدخلوا عليه في كنيسة إيلياء التى في جوفها، فقال هرقل: أرسلت إليكم لتخبروني عن هذا الذى بمكة ما أمره ؟ قالوا: ساحر كذاب وليس بنبى.
قال: فأخبروني من أعلمكم به وأقربكم منه رحما ؟ قالوا: هذا أبو سفيان ابن عمه وقد قاتله.
فلما أخبروه ذلك أمر بهم فأفرجوا عنه، ثم أجلس أبا سفيان فاستخبره، قال: أخبرني يا أبا سفيان ؟ فقال: هو ساحر كذاب.
فقال هرقل: إنى لا أريد شتمه ولكن كيف نسبه فيكم ؟ قال: هو والله من بيت قريش.
قال: كيف عقله ورأيه ؟ قال: لم نعب له رأيا قط.
قال هرقل: هل كان حلافا كذابا مخادعا في أمره ؟ قال: لا والله ما كان كذلك.
قال: لعله يطلب ملكا أو شرفا كان لاحد من أهل بيته قبله ؟ قال أبو سفيان: لا.
ثم قال: من يتبعه منكم .
[وأخرج البزار عن دحية الكلبي لما أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام ، أن قيصر بحضرة دحية رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحامل رسالته سأل أبا سفيان من أتباعه ، قال : الشباب والسفلة ، قال قيصر هذه آية النبوة ] ( ).
هل يرجع إليكم منهم أحد ؟ قال: لا.
قال هرقل: هل يغدر إذا عاهد ؟ قال: لا إلا أن يغدر مدته هذه.
فقال هرقل: وما تخاف من مدته هذه ؟ قال: إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه وهو بالمدينة.
قال هرقل: إن كنتم أنتم بدأتم فأنتم أغدر( ).
وفي الحديث أعلاه مسائل :
الأولى : شهادة الأعداء بعصمة المؤمنين من الإرتداد مع حداثة عهدهم بالإسلام ليكون من باب الأولوية ثباتهم في منازله عند مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا، لذا جاءت الآية السابقة توطئة ومقدمة لهذا الثبات.
الثانية : في الحديث آية تتجلى ببعث الفزع والخوف في قلب هرقل من غزو بلاد المسلمين.
الثالثة : بعث اليأس في نفس هرقل وكسرى وغيرهم من سلاطين الدول والممالك آنذاك من إيجاد رجال وجيش من العرب لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والخشية من تزويدهم بالمال والسلاح والرواحل لرجحان وصولها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجيش المهاجرين والأنصار .
الرابعة : خشية هؤلاء الملوك من إرسال جيوش إلى الجزيرة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للخوف من قطع القبائل والمسلمين خاصة الطريق عليهم، لتموت جيوشهم عطشاً في الصحراء أو يدخلون الإسلام أو يقعون في الأسر، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أن أعداءه ينقلون ما يبعث الخوف والرعب في قلوب أعدائه الأكثر قوة وسلاحاً.
وعن الإمام الباقر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نُصِرْت بِالرّعْبِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، وَأُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَأُحِلّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تُحْلَلْ لِنَبِيّ كَانَ قَبْلِي ، وَأُعْطِيت الشّفَاعَةَ خَمْسٌ لَمْ يُؤْتَهُنّ نَبِيّ قَبْلِي( ).
الخامسة : من معاني الرعب الذي ينتصر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخويف الأعداء بعضهم لبعض من النبي صلى الله عله وآله وسلم وجند الإسلام.
السادسة : تغشي الرعب من قوة الإسلام جميع أعدائه.
السابعة : لم يقصد أبو سفيان تخويف هرقل منه، ولكن هرقل إستقرأ هذا المعنى من سياق كلامه.
الثامنة : من مصاديق الرعب الذي جعله الله سلاحاً ومدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، إخافة الكفار بعضهم لبعض من النبي محمد ومحاربته، إذ يبينون في مجالسهم الخاصه وعلناً،بذل المؤمنين أنفسهم في الجهاد والتضحية في سبيل الله .
ومنه الثناء على المسلمين الوارد في الآية قبل السابقة[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ]( )، إذ يقوم الكفار بالحديث عن تمني المؤمنين الشهادة ويستحضرون الآيات التي تدل على الثواب العظيم الذي أعدّه الله لمن يقتل في سبيله، وليس عند الكفار من ثواب أو أجر.
التاسعة : تجلي معنى من معاني الولاية المبغوضة في قوله تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( )، فمن ولايتهم هذه تخويف بعضهم لبعض من قوة الإسلام، والتحذير من إرادة محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت آيات عديدة بتخويف الشيطان لأوليائه ليكون منها التخويف المتبادل بين الكفار من جند الإسلام، وهو من مصاديق قوله تعالى[ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ]( ).
وقال عدد من المفسرين أن معنى الآية أعلاه هو: يخوفكم من أوليائه، ويخوفكم أولياءه من الكفار، نقل عن ابن عباس وعن مجاهد وعن عكرمة( ).
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك { يخوّف أولياءه } قال : يعظم أولياءه في أعينكم ( ).
ولكن معنى الآية مغاير تماماً إذ لا سلطان للشيطان على المؤمنين في قتالهم مع الكفار، وتدل على عصمتهم من تخويف الشيطان آيات كثيرة، منها قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( )، ولعل بعض العلماء استدل بخاتمة الآية أعلاه من سورة آل عمران[فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، إنما جاءت الآية لبيان رجحان كفة المسلمين، وإنعدام التكافؤ بينهم وبين الكفار، لأن الكفار لا ولي لهم، ويقوم الشيطان بتخويفهم منهم في فزع ورعب، بينما المسلمون وليهم الله ويجب ألا يخافوا ممن يملأ الخوف قلبه.
لذا ورد النهي للمسلمين بقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، ليكون تقدير الجمع بين الآيتين أعلاه هو : ولا تهنوا في إبتغاء الذين يخوفهم الشيطان ولا تحزنوا فالنصر لكم لأن أعداءكم خائفون.
وهذا الخوف الذي يملأ قلوب الكفار من مصاديق حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت بالرعب) وهل يصيب الشيطان الرعب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجند الإسلام أم أن القدر المتيقن هو خصوص الكفار، الجواب هو الأول.
ومن خوف الشيطان إنهزامه يوم بدر في أول القتال وحالما رأى نزول الملائكة مدداً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولما عزمت قريش على الخروج لقتاله والمؤمنين ذكرت مابينها وبين كنانة من الحرب وخشيت أن تأتي لهم كنانة من الخلف(فَتَبَدّى لَهُمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيّ ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي كِنَانَةَ ، فَقَالَ لَهُمْ لَا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ فَخَرَجُوا وَالشّيْطَانُ جَارٌ لَهُمْ لَا يُفَارِقُهُمْ فَلَمّا تَعَبّئُوا لِلْقِتَالِ وَرَأَى عَدُوّ اللّهِ جُنْدَ اللّهِ قَدْ نَزَلَتْ مِنْ السّمَاءِ فَرّ وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ فَقَالُوا : إلَى أَيْنَ يَا سُرَاقَةُ ؟ أَلَمْ تَكُنْ قُلْتَ إنّك جَارٌ لَنَا لَا تُفَارِقُنَا ؟ فَقَالَ إنّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إنّي أَخَافُ اللّهَ وَاَللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَصَدَقَ فِي قَوْلِهِ إنّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَكَذَبَ فِي قَوْلِهِ إنّي أَخَافُ اللّهَ وَقِيلَ كَانَ خَوْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَهْلَكَ مَعَهُمْ وَهَذَا أَظْهَرُ( ).
الثامن والعشرون : إبتدأت آية السياق باسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأكيد رسالته ،ودعوة المسلمين للثبات على التصديق بها في حال وجوده بين ظهرانيهم وتوالي نزول الآيات، أو بعد وفاته وإنقطاع خبر السماء، وأختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] فهل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقصود بمضامين الآية أم أن القدر المتيقن إرادة أتباعه، الجواب هو الأول إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو إمام الشاكرين، وتتقوم حياته بالشكر والثناء على الله عز وجل.
وعن أنس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه -أو قال ساقاه-فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: “أفلا أكون عبدًا شكورًا ( ).
ليكون من معاني قوله تعالى[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] دعوة المسلمين للتدبر في وجه شكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل بالقول والفعل، وإحصاؤها والتحقيق فيها، وإتخاذها منهجاً وهل هذا الشكر من مصاديق الصراط في قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، الجواب نعم فمن مصاديق الصراط بلحاظ خاتمة آية البحث أمور:
الأول : توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل.
الثاني : إتيان المسلمين الأفعال التي يتجلى فيها الشكر لله عز وجل.
الثالث : إجتناب المسلمين لأسباب القصور والتكاسل في الشكر لله عز وجل.
الرابع : رجاء المسلمين الجزاء الحسن من عند الله، وإستحضار هذا الرجاء باعث لهم لتعاهد سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإحتراز من الإنقلاب والإرتداد، وهذا الإحتراز أمر وجودي ،وإرادة القصد والعزم على الإمتناع من الشك والريب ومقدمات الباطل لذا فهو من الشكر لله عز وجل ورشحة من رشحات الشكر ومقدمة لمصاديق اخرى متجددة منه.
الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ…]( )، وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : ولقد كنتم تمنون الموت وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله.
الثاني : ولقد كنتم تمنون الموت ومن يرد الدنيا نؤته منها.
الثالث : ولقد كنتم تمنون الموت ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها.
الرابع : ولقد كنتم تمنون الموت كتاباً مؤجلاً.
الخامس : ولقد كنتم تمنون الموت وسنجزي الشاكرين.
السادس : وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله فقد رأيتموه.
السابع : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها فقد رأيتموه.
الثامن : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها فقد رأيتموه.
التاسع : وسنجزي الشاكرين فقد رأيتموه.
العاشر: وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله وأنتم تنظرون.
الحادي عشر : وما كان لنفس أن تموت الا باذن الله كتاباً مؤجلاً وأنتم تنظرون.
الثاني عشر : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منه فقد رأيتموه.
الثالث عشر : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وانتم تنظرون.
الرابع عشر : فقد رأيتم الموت وسنجزي الشاكرين.
الخامس عشر : وسنجزي الشاكرين وأنتم تنظرون.
الثانية : يتحد موضوع هذه الآية والآيتين السابقتين وهو الموت وأوانه مع التباين النسبي بخصوص عشق المؤمنين القتل في سبيل الله في آية السياق، وذكرت الآية السابقة الحتم بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحياة الدنيا ثم جاءت آية السياق ببيان القانون الذي يتغشى الناس جميعاً، وهو طرو الموت على كل واحد منهم ومغادرة الأرواح للأجساد كل إنسان في أوانه، قال تعالى[فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ).
ومن الإعجاز في نظم الآيات أنها ذكرت تعلق الثواب بالأعمال في الحياة الدنيا التي هي مزرعة للأعمال، وعلة الجزاء والثواب فالإنسان لايترك وشأنه، والموت ليس نهاية الإنسان، بل بداية لأحواله في الآخرة ،وإدراك هذه القوانين الثابتة يجعل المسلم يزهد في زينة الدنيا ولا يلهث وراء مباهجها، بل يتطلع الى الجزاء الحسن، والثواب الجميل لذا تفضل الله فاختتمت كل من آية البحث والآية السابقة بالإخبار عن الثواب العظيم الذي ينتظر الشاكرين، سواء كان الثواب القريب في الدنيا أو الأجر العظيم في الآخرة.
وهل التسليم بأن الموت حق وأنه لا يتم إلا باذن الله من الشكر له سبحانه، الجواب نعم، من جهات:
الأولى : الشهادة بأن مقاليد الأمور بيد الله.
الثانية : اللجوء الى الدعاء لسؤال بعد الأجل والراحة عند الموت وحسن العاقبة، قال تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
الثالثة : الإقرار بأن موت النبي وأوانه لن يتم إلا باذن الله عز وجل وبعد أن أدى رسالته كاملة.
الرابعة : شكر المؤمن لله عز وجل على نعمة الإيجاد والخلق وطول العمر فكل ساعة من عمر الإنسان وكل دقيقة هي من فضل الله، وهي بشهيقها وزفيرها إطالة لم تتم إلا بمشيئة الله وإذنه.
الخامسة : بيان قانون وهو أن ملك الموت لا يقبض الأرواح إلا باذن الله، وظاهر الآية أن هناك إذناً يأتي من عند الله حال الوفاة.
الثالثة : يتقوم موضوع آية السياق بأمور:
الأول : حال طائفة من الصحابة.
الثاني : تمني الموت والشهادة في سبيل الله.
الثالث : سبق التمني على حدوث الموت.
الرابع : عدم الملازمة بين تمني الموت ووقوعه.
ومن الإعجاز في آية السياق أنها جاءت بلفظ التمني لبيان قانون وهو الذي أكدته آية البحث بقوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ]( )، فلا ملازمة بين تمني الشهادة ووقوعها أو حصول الموت على الفراش أو في حادثة.
ومن إعجازها أنها وردت بلفظ الموت إنما أراد المؤمنون فوزهم بالقتل والشهادة في سبيل الله عند اللقاء مع كفار قريش في واقعة أحد، ولم يحدث هذا التمني في نفوس أصحابه إلا بعد أن بلغهم زحف قريش وغطفان ومجيء ثلاثة آلاف مقاتل للإجهاز على أهل البيت والصحابة ،ومن الصحابة من ظن أنه بين أمور:
الأول : النصر والغلبة كما حصل في واقعة بدر، إستصحاباً لفضل الله، والمدد الملكوتي منه سبحانه، وأصل الإستصحاب دليل عقلي قبل أن يكون من مباحث علم الأصول.
الثاني : الوقوع في الأسر بيد الكفار الذين يسعون لإرتدادهم، وسياتي بعد أربع آيات ما يدل بالدلالة التضمنية على عدم وقوعهم في الأسر بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
وهذه الدلالة من جهات:
الأولى : خطاب الآية أعلاه المسلمين بالشهادة لهم بالإيمان(يا أيها الذين آمنوا).
الثانية : مجيء الآية بصيغة العموم الإستغراقي مما يدل على تعاضد وتآزر المسلمين في الثبات في منازل الإيمان.
الثالثة : صيغة الخطاب في الآية التي تدل على صيغة الإختيار عند المسلمين وليس الإكراه لقوله تعالى(أن تطيعوا).
الرابعة : لغة الذم للكفار بنعتهم بالكفر والجحود بما يبعث النفرة في نفوس المؤمنين منهم، ومن مفاهيم الضلالة ، وفي الثناء على نفسه وبيان نعمته على المسلمين ، قال تعالى [وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] ( ).
الخامسة : قيدت آية البحث طرو الموت على الإنسان بأنه بأذن الله، وأراد الله عز وجل نزول آيات وسور القرآن كلها على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما يقيد حفظها إلى يوم القيامة وإستدامته من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، ليكون هذا الحفظ بلحاظ آية البحث والسياق على وجوه:
الأول : وجود أمة مؤمنة تتلقى التنزيل بالقبول والتصديق.
الثاني : حفظ المؤمنين للقرآن عن ظهر قلب وتدوينهم لآياته، وعن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صفتي أحمد المتوكل مولده بمكة ومهاجره إلى طيبة ، ليس بفظ ولا غليظ ، يجزي بالحسنة الحسنة ولا يكافىء بالسيئة ، أمته الحمادون يأتزرون على أنصافهم ، ويوضئون أطرافهم ، أناجيلهم في صدورهم، يصفون للصلاة كما يصفون للقتال ، قربانهم الذي يتقربون به إلى دمائهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار)( ).
الثالث : حفظ المؤمنين من الموت الذي يتمنون لأنهم حملة القرآن، إذ يدل الحديث أعلاه(أناجيلهم في صدورهم) على حفظ الصدور بالواسطة، لأنها الوعاء لحفظ القرآن.
ويكون من وجوه تقدير الآية أعلاه: وإنا له ولحفظته لحافظون) وفيه آية إعجازية تتجلى بترشح طول العمر على الذين يحفظون القرآن وإن تمنوا الموت ودخلوا المعارك في سبيل الله.
الرابع : من وجوه حفظ القرآن سلامته من التحريف والتبديل والتغيير، ويتفرع عنه تفقه المسلمين في الدين ومعرفتهم بمعاني المفردات ودلالة الآيات، وإستحضار أسباب النزول ونظم الآيات بما يساعد على تثبيت حروف وكلمات وآيات القرآن في صدورهم واليسر في جريان كلماته وآياته على السنتهم.
الخامس : روح التعاون والمودة والتآخي بين المسلمين، للتآزر والتعاضد في حفظ آيات القرآن بلحاظ أنها من أسمى وظائف الموحدين في التأريخ وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن تحفظ الكتاب السماوي الذي جعله الله عز وجل[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومن بيانه عدم الملازمة بين تمني المؤمنين الموت ووقوعه ،وأن الموت أمر معلق ولا يحصل إلا بإذن الله.
السادسة : تمنى المؤمنون الموت والشهادة بقصد القربة إلى الله ودفع شرور المعتدين من كفار قريش ومن والاهم وأخبرت آية البحث عن قانون كلي وهو كون الموت(كتاباً مؤجلاً) سواء تمنيتموه أو لم تتمنوه، وفيه وجوه:
الأول : هذا التمني مناسبة للأجر والثواب من غير أن يقرب أجلاً.
الثاني : بعث السكينة في نفوس المؤمنين، والآباء والأمهات فإذا أخرج الأبناء للجهاد فأنهم لا ييأسون من عودتهم سالمين، قال تعالى[لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
الثالث : تفقه المسلمين في موضوع التمني والرجاء، وأسرار الآجال وأوانها.
الرابع : البشارة بالنصر والغلبة على الكفار إذ تعني سلامة الذين تمنوا الموت من القتل مواصلتهم للقتال، وبذلهم الوسع في الدفاع عن الإسلام ليتحقق النصر وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ]( ).
السابعة : تتضمن آية السياق توثيقاً سماوياً لكيفية نفسانية ورغبة عند طائفة من الصحابة وهي تمني الموت عند لقاء الكفار وقسمت آية البحث الناس إلى قسمين بلحاظ الرغائب والغايات وصيغ السعي إليها وهما:
الأول : الذين يريدون النفع ورغد العيش في الحياة الدنيا.
الثاني : الذين يتخذون من الدنيا مزرعة ودار جزاء لجني الثمار والمغانم.
وتمني المؤمنين الموت في واقعة أحد من القسم الثاني أعلاه، وهو من أسرار ذكر موضوع هذا التمني في القرآن، وعموم لغة الخطاب في الآية ليعم الأجر والثواب جميع المؤمنين والمؤمنات يوم أحد، بالتبعية والإلحاق وعدم صدور المنع عن هذا التمني من الآباء والأمهات والأزواج مناسبة لفوزهم بالأجر بالذات ولأنه حرب على المنافقينوبعث الحسرة في قلوبهم ، وهو من مصادديق قوله تعالى [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ] ( ).
الثامنة : أخبرت آية البحث عن تفضل الله عز وجل بالجزاء في الدنيا والآخرة، وذكرت آية السياق تمني المؤمنين الموت، فهل يدل هذا التمني على أنهم لا يريدون الدنيا وثوابها، الجواب لا، فلقد كانت الحياة الدنيا زاهرة بوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مزدانة بتوالي نزول آيات القرآن، كل يوم يطل عليهم جبرئيل من أطول سفر في مسافته وأقصرها في زمانه ليبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات جديدة من القرآن ،وحالما ينكشف الوحي وترتفع شدة وطأته عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبادر إلى أمور:
الأول : تلاوة الآيات التي نزل بها جبرئيل على المسلمين.
الثاني : دعوة كتاب الوحي لتدوينها وكتابتها، ووضعها في محلها بين الايات.
الثالث : إستحضار أسباب وموضوع وشأن نزول الآيات.
الرابع : بيان وتفسير الآيات، وأحياناً يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض أصحابه بقراءة الآيات عليه، ولم يثبت حدوث هذا الأمر عند نزول تلك الآيات، وسط هذه الفيوضات الربانية التي لم ولن يشهدها جيل من الناس تمنى عدد من المؤمنين الموت والشهادة لأنهم يريدون بها وجه الله، وجذب الناس لحال الغبطة والسعادة بالتنعم وسط هذه النعم، والقرب من الوحي في تنزيله، والإتصال مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإنصات له والعمل بما جاء به، ولا يختص هذا الجذب بأهل زمان النبوة بل هو متجدد في كل زمان من جهتين:
الأولى : توارث أجيال المسلمين الإسلام بلحاظ أنه أسمى تركة وأفضل كنز، فالذي يدخل الإسلام أيام النبوة وما بعدها وإلى يوم القيامة يصبح أولاده الصغار مسلمين بالتبعية والإلحاق أباً كان أو أماً لشرف الإسلام ولا يحق لهم الخروج من الدين بل هذا الخروج سالبة بإنتفاء الموضوع، مما يرون من سلامة الإختيار والحاجة إلى الإسلام في النشأتين، وهذه الحاجة من مصاديق قوله تعالى[وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا] فالمنافع والمصالح في الدنيا والآخرة بيد الله عز وجل ولا يقدر عليها إبتداءً وإستدامة إلا هو سبحانه ولو أظهر أحدهم عند البلوغ عدم الرضا بالإسلام فليس له هذا ، إذ يتوجه له الخطاب في الآية السابقة بالنهي عن الإنقلاب والإرتداد [أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ) ويجب على الأب تمرينهم على الصلاة وتأديبهم على سنن التقوى لتكون سنخية راسخة في عمله عندما يصل سن التكليف ، وعن [وعن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ]( ) .
الثانية : جهاد المؤمنين وصبرهم يوم بدر وأحد والخندق دعوة للناس في كل زمان لدخول الإسلام، وتتعلق هذه الدعوة بذات الجهاد والإخلاص فيه وتحليهم بالصبر، وبرشحات جهادهم وكيف أنه فتح آفاقاً جديدة لهم.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج هو وأصحابه وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر مع قلة العدة والعدد للقاء نحو ألف من جيش الكفار في معركة بدر ليبلغ عدد المسلمين بعد ست سنوات وعند فتح مكة أكثر من مائة ألف من الرجال، عدا المسلمات من النساء وفق أحوال الجزيرة آنذاك.
الثامنة : أخبرت آية السياق بأن المؤمنين رأوا الموت يوم أحد، وهم يومئذ على أقسام:
القسم الأول : الذين دخلوا معركة أحد وهم يتمنون الموت والفوز بالشهادة في مواجهة كفار قريش، وهل يختص هذا التمني بطائفة من الأنصار أو المهاجرين ممن فاتهم الإشتراك بمعركة أحد، الجواب لا دليل عليه، إنما صدر التمني من بين عموم الصحابة وهو من أسرار لغة الخطاب العامة في الآية(ولقد كنتم تمنون).
بينما جاء تعيين الذين هموا بالجبن والخور والهزيمة منهم ساعة شدة القتال بقوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( ) وفي هذا التباين في وجه الخطاب والموضوع مسائل :
الأولى : يأتي الخطاب للمسلمين جميعاً بالأمر الحسن والشهادة لهم بالجهاد وسنخية التقوى .
الثانية : قطع الطريق عن المنافقين في الشماتة بالمؤمنين في ساحة المعركة فعند رجوعهم من ميدان المعركة لا يقول المنافقون أنكم جبنتم وأصابكم الفزع والخور .
الثالثة : قد تكون إصابة عموم الجيش بالخوف والجبن أثناء القتال مقدمة لإنكسارهم فجاءت الآية أعلاه بصيغة التبعيض لبيان ثبات المسلمين في القتال .
الرابعة : تمني الموت والشهادة في سبيل الله وإن كان صادراً من عدد من المسلمين في المعركة يوم أحد فانه واقيه من إنتشار ودبيب الخوف والفزع عند المقاتلين .
وهل كان تمني الشهادة والقتل في سبيل الله في قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] ( ) خاصاً بكل من :
الأول : الذين هم في سن الشباب من المؤمنين .
الثاني : المسلمون الذين فاتهم الحضور والمشاركة في معركة بدر ممن لم يظنوا وقوع المواجهة والقتال مع المشركين .
الثالث : من فاته السهم من غنائم يوم بدر .
الجواب ،لا دليل على هذا الحق لإطلاق صيغة الخطاب في الآية أعلاه ونسبة تمني الموت إلى المسلمين جميعاً ولبيان أن الآية ليست ذماً أو توبيخاً لهم .
بل هي موعظة وتوثيق وشهادة , ومن أسباب إنزجار الكفار في معركة الخندق بل قبلها وبعدها وإمتناعهم عن كثرة الغزوات والهجوم على المدينة المنورة وهو الذي يتجلى في المدة الزمنية القصيرة بين معركة بدر وأحد والتي هي أقل من سنة مع قسوة خسارة الكفار يوم بدر إذ وقعت معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة أي بعد أحد عشر شهراً من معركة بدر بينما المدة بين معركة أحد والخندق سنتان ، إذ وقعت معركة الخندق في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة (الموافق شهر أذار 726 م )على قول مشهور ويسمونها معركة الخندق أو الأحزاب ، ولا بأس بتقسيم معارك المسلمين الأولى من جهات :
الأولى : الغزوات : وهي التي خرج فيها المسلمون للجهاد والقتال ، وهي على قسمين :
الأول : التي قادها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرج فيها بنفسه .
الثاني : السرايا والجيوش في الغزوات التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أميراً عليها أحد أهل بيته أو أصحابه سواء من المهاجرين أو الأنصار .
ويمكن تقسيمها بلحاظ القيادة تقسيماً آخر .
الثانية : المعارك الدفاعية للمسلمين ، فتسمى مثلاً معركة أحد والخندق بما يدل على حال الدفاع للمسلمين ، ولو بالتقييد مثل الغزوات الدفاعية.
الثالثة : تقسيم معارك الإسلام الأولى بلحاظ ذكرها في القرآن، وهو على جهات :
الأولى : التي ذكرت مرة واحدة بالإسم، كما في معركة بدر وحنين قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الثانية : التي ذكرت أكثر من مرة في القرآن ، كما في معركة الأحزاب التي ذكرت عدة مرات منها مرتين في قوله تعالى[ يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ]( ).
الثالثة : ومن الآيات أن القرآن ذكر معارك من غير تعيين إسمها، مثل معركة أحد، وجاءت الآيات السابقة بخصوصها.
الخامس : موضوع كل من آية التمني والهم بالفشل أعلاه واقعة أحد ويحتمل وجوهاً :
الأول : الذين تمنوا الموت غير الذين همّوا بالفشل .
الثاني : الإتحاد فالذين همّوا بالفشل تمنوا الموت فيما بعد للنص الصريح في ذات الآية [وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
الثالث: همّ الذين تمنوا الموت بالفشل والجبن حينما رأوا لمعان السيوف وسقوط القتلى والجرحى وزحف فرقتين من المشركين من الخلف إثر ثغرة الرماة الذين جعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجبل وخالفوا أمره [وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا.
فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعا، فدخلوا في العسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا، وشبك بين أصابع يديه، والتبسوا.
فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع] ( ).
والصحيح هو أن الذين تمنوا الموت من عامة المسلمين المقاتلين ، ومنهم من الذين همّوا بالفشل أثناء المعركة ، وتلك معجزة في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس: بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين وزجرهم عن التعدي على المؤمنين وثغر الإسلام الوحيد المدينة المنورة ، فبعد ظهور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي نصر جيوش الإسلام ، ذهب بعض رؤساء الضلالة والغواية إلى الدول العظمى آنذاك وأمرائهم ووكلائهم القريبين حوالي الجزيرة العربية لتحريضهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان الخطر الزاحف عليهم .
فجاءت بلغة الجمع العموم في تمني المؤمنين الموت ، والتبعيض في الهّم بالفشل لبيان قوة الشكيمة والعزم عند المسلمين وزجر الكفار عن إعانة مشركي قريش ونحوهم أو مدهم بالأفراد والسلاح ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
وهل يمكن أن يكون أفراد ممن تمنوا الموت قبل اللقاء ويوم أحد من الطائفتين أعلاه وهم بنو سلمة وبنو حارثة الجواب نعم، وهو من أسرار لغة العموم في آية السياق لإفادة حقيقة وهي أن المسلمين كانوا يتناجون بينهم بالشوق للقاء الكفار، ورؤية الملائكة ينزلون مدداً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
القسم الثاني : إرادة المؤمنين الذين تمنوا لقاء العدو، فيكون معنى(ولقد كنتم تمنون الموت) هو تمني حصول المعركة مع كفار قريش بعد أن بلغ أهل المدينة زحفهم وخروجهم من مكة بثلاثة آلاف مقاتل لغزو المسلمين.
الثالث : الذين قتلوا شهداء في المعركة وعددهم سبعون وقد تقدم ذكر أسمائهم وترجمتهم ببيان تفصيلي( ).
الرابع : المؤمنون الذين عادوا إلى المدينة من معركة أحد سالمين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : الذين تخلفوا عن المعركة من المؤمنين لأسباب خاصة.
السادس : الذين ثبتوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند إشتداد المعركة وبعد مباغتة الكفار للمسلمين من الخلف بسبب ثغرة الرماة والحرب والسجال.
وآية السياق تتوجه للجميع، ثم ذكرت الآية السابقة موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن المسلمين رأوه عياناً بفقده وإنتقاله إلى الرفيق الأعلى ليكون البيان والذكر في الآيتين وقاية من الإنقلاب والإرتداد الذي تذكره الآية السابقة إذ تخبرهم الآية بأن الذي يتمنى الموت والشهادة في سبيل الله لن يرتد عن دينه أبداً، لأن هذا التمني شاهد على صدق الإيمان، والإخلاص في العقيدة، والثبات في منازل الإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى[ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وجاءت هذه الآية للترغيب باكتناز الصالحات والعمل من أجل إحراز الثواب في الآخرة، وبعث النفرة من اللهث وراء الدنيا الذي لايجلب إلا شدة الحساب والخسران يوم القيامة.
التاسعة : تبين آية السياق فضل الله عز وجل على المؤمنين بنجاتهم من الموت والقتل يوم أحد وإن دخلوا المعركة وهم يتمنونه ويشتاقون للقاء الله، فان قلت هذه النجاة سبب لحجب ثواب الشهادة عنهم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من أهل الجنة أحد يسره أن يرجع إلى الدنيا وله عشر أمثالها إلا الشهيد ، فإنه ود أنه لو رد إلى الدنيا عشر مرات فاستشهد لما يرى من فضل الشهادة ، والجواب إن الله عزو جل يكتب للمؤمن ثواب الشهادة إذا أخلص النية وعقد العزم على الجهاد وبذل النفس في سبيل الله، لتكون نجاته نافلة وفضلاً من عند الله.
وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجة والبيهقي عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن للشهيد عند الله خصالاً . يغفر له في أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى عليه حلة الإيمان ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن يوم الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه( ).
العاشرة : أختتمت آية البحث بقوله تعالى[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] ويكون بلحاظ آية البحث على أقسام:
القسم الأول : مصاديق شكر المسلمين التي تتجلى في آية السياق من جهات:
الأولى : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بأحكام الشريعة التي جاء بها، وهو من مصاديق لغة الخطاب في الآية إذ أنها معطوفة على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( )، والتي بدأت بالنهي عن أخذ المنفعة على القرض لتتوالى الآيات وتصل وبذات لغة الخطاب إلى خوض المعارك في سبيل الله، لتكون إعانة المؤمنين والناس بالمال وقضاء حوائجهم مقروناً بالتنزه عن الفائدة والنفع الذي يجره القرض مقدمة لخوض المؤمنين غمار المعارك والشوق للقاء الله عز وجل مضرجين بدمائهم.
الثانية : الإستعداد للخروج إلى ساحة المعركة عند قدوم كفار قريش وغطفان لمحاربة النبوة والتنزيل وأهل الإيمان مع كثرة جيوش الأعداء وعزمهم على الإنتقام والثأر من واقعة يوم بدر، وما لحق الكفار فيها من القتل والأسر والفرار وترشح الذل والقهر عنها، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التأريخية المتجددة أمران:
الأول : فوز الذين آمنوا برسالته واتبعوه ونصروه بالمدح والثناء السماوي الباقي إلى يوم القيامة.
الثاني : لحوق الخزي والعار للذين حاربوه بتوثيق القرآن والسنة، قال تعالى[وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
الثالثة : تمني المؤمنين الشهادة في قتال الكفار، والذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة النبوة ،ونزول آيات القرآن.
الخامسة : ثناء المسلمين على الله لتفضله بتوثيق تمنيهم الموت في القرآن، والشهادة لهم بأن هذا التمني رشحة من الإيمان الصادق.
السادسة : شكر المسلمين لله بالتخفيف عنهم بذكر تمنيهم الموت في القرآن، لما فيه من بعث للخوف والفزع في قلوب الكفار فالأمة التي تتمنى الشهادة في سبيل الله لا يستطيع الكفار قهرها، لذا قال سبحانه[فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
السابعة : شكر المسلمين لله عز وجل على إنتفاء الواسطة بين كلام الله عز وجل وبينهم في لغة الخطاب في آية البحث، فلقد عشقوا الشهادة فتفضل سبحانه وخاطبهم بالقرآن[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن] لبيان أن التمني وموضوعه قد إنقضى زمانه وبقي الآجر والثواب عليها، وهذا البقاء المتجدد من مصاديق الجزاء في قوله تعالى في خاتمة آية البحث[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ].
الثامنة : التسليم بأن الله عز وجل[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( )، لأن من مصاديق التمني ما يكون كيفية نفسانية، ورغبة ذاتية.
التاسعة : شكر الله عز وجل على النجاة من الموت الذي كان يوم أحد قريباً من المهاجرين والأنصار، ويحتمل هذا القرب في متعلقه وجوهاً:
الأول : قرب الموت والشهادة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدنو الكفار ووصول حجارتهم اليه وإنكشافه مع عدد قليل من أهل بيته وأصحابه يومئذ.
الثاني : قرب الموت من خصوص الطائفة الذين تمنوا الموت من المؤمنين.
الثالث : صيرورة الموت والقتل أو الأسر قريباً من المهاجرين والأنصار الذين إشتركوا في معركة أحد تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعددهم سبعمائة مقاتل، وقد استشهد منهم سبعون، منهم أربعة من المهاجرين وقيل خمسة والباقي من الأنصار وفي رواية أن مجموع القتلى من المسلمين هم تسعة وأربعون شهيداً.
الرابع: المسلمون الذين تخلفوا في المدينة، فلو انتصر الكفار لإقتحموا المدينة وجعلوا المسلمين بين قتيل وأسير، وحتى مع عدم إنتصارهم وإضطرارهم للإنسحاب من ميدان المعركة فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إحترز من إحتمال عزوهم المدينة وأمر الإمام علياً عليه السلام أن يقتفي أثرهم مع شدة جراحه، أما قتلى المشركين يوم أحد فهم اثنان وعشرون رجلاً، على رواية ابن إسحاق( )، وقيل أن التحقق في كتب المغازي والسير يبين أن عدد قتلاهم كان سبعة وثلاثين.
القسم الثاني : الأمة التي نالت لقب الشاكرين في آية البحث، ويحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة المسلمين الذين خاضوا معركة بدر بالسيوف والعصي ليدخلوا تأريخ الإنسانية وأمم الموحدين، ويكونوا مرآة لصدق الإيمان والفداء.
الثاني : عموم المسلمين والمسلمات بشكرهم لله عز وجل على نعمة النصر يوم بدر.
الثالث : تمني لموت والقتل في سبيل الله من الشكر لله عز وجل من جهات:
الأولى : نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : دلالة هذا التمني على ملكة الصبر عند المسلمين ، وهي سلاح لقهر الإعداء .
الثالثة : التسليم باليوم الآخر والشوق إلى لقاء الله عز وجل بدم الشهادة .
الرابعة : الأمر بالجهاد والدفاع عن النبوة والتنزيل، وليس في القرآن لفظ(دافعوا) بصيغة الأمر، كما ورد لفظ(قاتلوا) في آيات متعددة منها قوله تعالى في خطاب للمؤمنين[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )، و[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ]( )، نعم يحمل القتال على الدفاع بدليل معارك الإسلام الأولى، وموضوع النزول، وورد قوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا]( )، والدفاع والدفع هنا على وجوه:
الأول : دفع ضرر الكفار، ومنعهم من غزو المدينة والتعدي على ثغور المسلمين، وعن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعيد( ) يقول: لو بعت داري فلحقت بثغر من ثغور المسلمين، فكنت بين المسلمين وبين عدوّهم. فقلت: كيف وقد ذهب بصرك؟ قال: ألم تسمع إلى قوله الله {تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا} أسوّد مع الناس ففعل)( )، وقوله: ففعل: أي باع داره وخرج إلى الثغور.
الخامس : الدفاع عن الحرمات وأعراض وأموال المسلمين، أي أنه يفيد معنى الدفاع وصد الأعداء بالسيف.
وتقدير الآية: أو إدفعوا العدو المعتدي.
الثالث : الدفاع عن التنزيل والنبوة .
الرابع : اليقظة والحيطة والمرابطة وفضح المنافقين وكشف المكر السيىء .
القسم الثاني : الذين يتلقون الجزاء من عند الله ،وهم الشاكرون، وبين عموم الذين يتلقون الثناء والجزاء الحسن من عند الله وبينهم عموم وخصوص مطلق، فالشاكرون أخص، وقد يقال أن النسبة هي التساوي من جهات:
الأولى : الملازمة بين الإيمان والشكر لله عز وجل.
الثانية : ذات الإيمان شكر لله عز وجل.
الثالثة : كل فعل يصدر من المؤمن هو شكر لله عز وجل.
الرابعة : تقدير خاتمة آية البحث وسيجزي المؤمنين، قال تعالى[لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
والمختار إن الإيمان أعم من الشكر، ومن فضل الله عز وجل على المسلمين أن يثبتهم على الإيمان وعمل الشكر وعلى الإحسان على أداء الواجبات والتكاليف والتسبيح وعلى الشكر المترشح عن الجزاء الذي يتفضل به الله عز وجل.
ومن وجوه تعيين الشكر وأنه أخص من الإيمان ورشحة منه أمور:
الأول : إستقراء تعدد وكثرة مصاديق الجزاء من عند الله عز وجل للمؤمنين.
الثاني : إستحضار المسلمين في كل ساعة للجزاء من عند الله وكيفية إحرازه.
الثالث : إحتراز المسلم من التفريط والتقصير والإهمال ونحوه من الأسباب التي تحول دون الفوز بالجزاء العظيم من عند الله.
الرابع : إرتقاء المسلم في المعارف الإلهية بالتفقه في الدين، ومعرفة مواطن الشكر لله فيأتيها، ومواطن الصدود والقصور فيتجنبها.
وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الشكر لله عز وجل ،الجواب من وجوه:
الأول : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقدمة للشكر لله عز وجل.
الثاني : إنه دعوة للشكر لله عز وجل سواء بلحاظ المعنى الأعم للشكر بإتيان الصالحات، أو الأخص بدعوة الناس للشكر له سبحانه.
الثالث : كل أمر بالمعروف ونهي عن المنكر مقدمة للشكر لله عز وجل، على التوفيق لبلوغ هذه المرتبة التي هي وظيفة الأنبياء [عن جبير بن نفير قال : كنت في حلقة فيها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّي لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه: “يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم” ؟ فأقبلوا عليَّ بلسان واحد وقالوا: أتنتزِع بآية من القرآن لا تعرفها، ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت. ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا:”إنك غلام حدَثُ السن، وإنك نزعت بآية لا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت]( ).
الرابع : ترشح الشكر لله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتضمنت آية البحث الإخبار عن حتمية طرو الموت على الإنسان، وقيدته بكونه(كتاباً مؤجلاً) وهذه الإخبار عن تأجيل الأجل بعث للمسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورجاء الجزاء منه تعالى، ومن مصاديق الجزاء تأجيل أوان الموت، وتأجيل المؤجل عند حلوله، فلا دليل على إتحاد التأجيل أو أنه لمرة واحدة، وكثرة التأجيل في المقام من فضل الله، ومن مصاديق قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثالث : الصلة بين هذه الآية بقوله تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : وما كان لنفس أن تموت الا باذن الله وليمحص الله الذين آمنوا.
الثاني : وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله ويمحق الكافرين.
الثالث : كتاباً مؤجلاً وليمحص الله الذين آمنوا.
الرابع : كتاباً مؤجلاً ويمحق الله الكافرين.
الخامس : وليمحص الله الذين آمنوا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها.
السادس : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ويمحق الله الكافرين.
السابع : وليمحص الله الذين آمنوا ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها.
الثامن : وليمحص الله الذين آمنوا وسنجزي الشاكرين.
التاسع : وسنجزي الشاكرين ويمحق الكافرين.
الثانية : تبين آية السياق قانوناً كلياً يتغشى أيام الحياة الدنيا، وتحتمل الآية من جهة سعة أو ضيق موضوعها ومصاديقه وجوهاً:
الأول : وجود قسيم ثالث غير المؤمنين والكافرين لم يرد حكمهم في الآية كما لو كانوا برزخاً بين القسمين كالفساق والذين يتخلفون عمداً عن الشخوص للدفاع مع الحاجة إليهم عيناً .
الثاني : ذكرت الآية القسمين الأكبر والأعظم من الناس وبينها تضاد وتناقض في العمل في الدنيا، وعالم الثواب في الآخرة خاصة وأن آية البحث أختتمت بخصوص موضوع الجزاء[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ].
الثالث : إرادة إلحاق باقي الناس بالمؤمنين أو الكافرين، كل بحسب عمله وميزانه.
الرابع : إستيعاب الناس جميعاً بتقسيمهم إلى مؤمنين وكافرين.
والصحيح هو الأخير، وتلك آية بيانية في سنخية الأعمال، وحقيقة صبغة وصفات الناس، فالمنافق في حقيقته كافر لأن الجحود والعناد مستحوذان على نفسه، وإذا أطلق العنان لإرادته في القول والفعل فأنه يظهر فسقه وصدوده، قال تعالى في ذم المنافقين[وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ]( ).
الثالثة : يأتي الموت للإنسان وهو على أحد وجوه:
الأول : الذي يغادر الدنيا على الهدى والإيمان، قال تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
الثاني : الذي يصر على الكفر ولا ينفك عنه إلى أن يغادر الدنيا.
الثالث : الذي يجمع في عمله بين الصلاح والفسوق، ويسوف التوبة أو ينسخها وينقضها في كل مرة.
فتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين، وأنزل الكتب السماوية لجذب الناس لمنازل الإيمان وسبل التقوى وجاء القرآن كتاباً سماوياً حاضراً عند الناس في كل زمان ليخبرهم بكون الموت(كتاباً مؤجلاً)وأن من علل تأجيله عن الإنسان المندوحة والسعة في أيام حياته ليتوب إلى الله، ويخلص الطاعة له سبحانه.
فقوله تعالى(كتاباً مؤجلاً)بيان لفلسفة وعلة تأخير الموت عن الإنسان وأن هذا التأخير خير محض، ومناسبة لإصلاح الذات والفعل، وتنقيح الفعل وصيرورته ذكراً حسناً بين الناس والذي يتأنى إلا بالتوبة وإخلاص السريرة وهو من مصاديق الرحمة بقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، بتقريب أن من رحمة الله للمسلم فوزه بحسن السمعة بين الناس، ليكون هذا الصيت على وجوه:
الأول : أنه تركة كريمة للذرية والإبناء.
الثاني : إشاعة لأسباب الهداية والرشاد.
الثالث :مناسبة لتمحيص وتنقية المؤمنين.
الرابع: وهو في مفهومه ودلالاته ذم للكافرين وإنذار بسوء عاقبتهم، وهو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجواب لا، لموضوعية النية والقصد والفعل في الأمر والنهي، إنما هذا الصيت رشحة من العمل الصالح وثمرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل ذنب عسى الله ان يغفره الا من مات مشركا أو قتل مؤمنا متعمدا)( ).
الرابعة : لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار، وهذا الإختبار ليس مجرداً وقائماً بذاته، إنما هو مقترن بالمدد للعباد واللطف من عند الله لتقريبهم إلى منازل الطاعة وسبل الرشاد، فتكون أيام الحياة وما فيها من الإبتلاء مناسبة لتنقية الأفعال وإصلاح المنطق والكلام، وفضحاً للكفر والجحود، ومن قوانين الحياة الدنيا أن كل يوم يمر على المؤمن هو تمحيص وتنقية له، ومناسبة لفعل الصالحات وإكتناز الحسنات، وهو من أسرار قوله تعالى(كتاباً مؤجلاً) وبيان بأن هذا التأجيل رحمة بالناس في النشأتين.
الخامسة : ذكرت آية البحث قسمين من الناس بلحاظ أمهات الغايات التي يسعون إليها:
الأول : الذين يريدون زينة الدنيا والتمتع فيها ولا يعملون للآخرة مع أن الدنيا بلغة وطريق لها، لذا فمن معاني قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المستقيم]( )، أي أهدنا الحياة المستقيمة التي تتقوم بالتمحيص والتطهير والسلامة من درن الذنوب والمعاصي.
الثاني : الذين يبذلون الوسع في مرضاة الله، ويجعلون الآخرة نصب أعينهم وميزان أعمالهم وغاية أمانيهم، قال تعالى[إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا* وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( )، وكذا قسمت آية السياق الناس قسمين ولكن بلحاظ العقيدة والإيمان أو عدمه، وهما:
الأول : الذين آمنوا بالله ورسوله.
الثاني : الذين أصروا على الكفر والجحود.
ومن الإعجاز في كل من الآيتين تعقب الأثر والجزاء على هذا التقسيم، وأن الناس ليسوا سواء فيه، قال تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وأخبرت آية السياق عن تمحيص وتنقية وتطهير الذين آمنوا، وإصابة الكافرين بالوهن والضعف من عند الله عز وجل، أي لا يأتي هذا الوهن للكفار عرضاً أو نتيجة لقاعدة السبب والمسبب، والعلة والمعلول بل هو بلاء في الدنيا.
وقد تفضل الله عز وجل بإمهال الناس جميعاً في حياتهم وأيامهم ومدة أعمارهم، ومنهم الكفار لقوله تعالى(كتاباً مؤجلاً) الذي يتغشى الناس جميعاً فهذا التأجيل نعمة كالمطر الذي يصيب البر والفاجر، والرزق الذي يأتي للإنسان مطلقاً وإن كان جاحداً كافراً، ليكون حجة إضافية على الكافر، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ]( ) فإن قلت ذكرت آية السياق محق ووهن الكفار.
وهذا التأجيل سبب بتماديهم بالمعاصي والسيئات وإشاعة المنكر، والجواب من جهات:
الأولى : تتوالى البراهين والحجج، مع الإطالة في أيام العمر، ولهذه البراهين خصوصية وهي أنها تكون إضافة للبراهين السابقة في أيام العمر والوقائع التي مرت على الإنسان لزيادة الإتعاظ فإن لم يعتبر الإنسان مما سبق من المواعظ فإن الحياة الدنيا مدرسة متجددة للموعظة.
الثانية : كل ساعة من عمر الإنسان فرصة ومناسبة للتوبة، وهو من مصاديق سعة رحمة الله، وأنه سبحانه يرحم العبد بما و إجتمعت وتعاونت الخلائق كلها من أجل رحمته لما بلغت معشار رحمة الله له، فهي لا تستطيع إمهاله ودفع الأجل عنه من أجل التوبة والتنعم بالحياة، ولا ينتفع الكافر من هذه النعمة فتكون الزيادة في العمر حجة عليه وسبباً لشقائه.
الثالثة : زيادة عمر الكافر سبب في إمتلاء نفسه باليأس والقنوط، وإدراك حقيقة وهي أن الكفر مجلبة للأذى والضرر.
الرابعة : في إطالة أعمار المؤمنين قوة ومنعة لهم، وسبب للتآلف بينهم بعرى الإيمان وصلات التقوى، قال تعالى[وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( ).
الخامسة : بينت آية السياق قانون محق الله للكافرين ومنعهم من بلوغ مراتب العلو، وفيه بلحاظ آية البحث وجوه:
الأول : إطالة عمر الكافر نقمة عليه وإستدراج له إلا أن تدركه التوبة، وقد جعل الله عز وجل العقل رسولاً باطنياً عند الإنسان فجاءت آية البحث لتحث الإنسان على الإنتفاع الأمثل من أيامه في الحياة الدنيا.
الثاني : تتضمن الآية التحدي والبيان للإنسان بأن ما عنده فضل الله عز وجل، وفيه دعوة له للتوبة والنصوح وإخلاص العبادة له سبحانه، ويدل على هذه الدعوة خاتمة الآية(وسنجزي الشاكرين).
الثالث : من محق الكافرين إتيانهم الدنيا وإنبساطها لهم لتكون وبالاً، وحجة عليهم لعدم إتخاذها طريقاً ووسيلة لبلوغ درجات العز والخلود في الآخرة.
الرابع : ليس من نفع في حياة الكفار وتمتعهم بالدنيا لأنهم يعلمون أن الله لابد وأن يحشرهم إليه، وهو من أسباب الكدورة التي تصاحبهم حتى والدنيا مقبلة عليهم.
الخامس : تضمنت آية البحث البشارة للمؤمنين بإحراز الأمن والسلامة في الآخرة، وفيه تبكيت وتوبيخ للكفار، لما تبعثه من الحسرة في نفوسهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى[لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ]( )، والحسرة هي التلهف والأسى على أمر فائت أو اليأس من الفوز بالتالي في قادم الأيام للقصور بالذات أو المقدمات أو لوجود المانع.
ومن اللطف الإلهي أن المانع بالإختيار إرادة الدنيا واللهث وراء مباهجها مع تضمن آية البحث الإنذار والبشارة.
الرابع: الصلة بين قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وبين هذه الآية ، وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله هذا بيان للناس.
الثاني : كتاباً مؤجلاً هذا بيان للناس.
الثالث : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها هذا بيان للناس.
الرابع : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها هذا بيان للناس.
الخامس : وسنجزي الشاكرين هذا بيان للناس.
السادس : وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله هذا هدىً.
السابع : كتاباً مؤجلاً هذا هدىً.
الثامن : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها هذا هدىً.
التاسع : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها هذا هدىً.
العاشر : وسنجزي الشاكرين هذا هدىً.
الحادي عشر : وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله هذا موعظة للمتقين.
الثاني عشر : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها هذا موعظة للمتقين.
الثالث عشر : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها هذا موعظة للمتقين.
الرابع عشر : وسنجزي الشاكرين هذا موعظة للمتقين.
الثانية : لقد جعل الله عز وجل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ويتجلى هذا البيان من جهات:
الأولى : منطوق القرآن.
الثانية : أحكام الحلال والحرام في القرآن.
الثالثة : قصص الأمم السابقة.
الرابعة : أحوال الناس يوم القيامة.
الخامسة : خلق آدم وخلافة الإنسان في الأرض ومنزلته بين الخلائق بفضل الله.
السادسة : دلائل المطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ في القرآن.
السابعة : موضوعية أسباب النزول في آيات القرآن.
الثامنة : كنوز الصلة بين كل آيتين من القرآن والمسائل المستنبطة منها.
التاسعة : بيان معجزات الأنبياء وموضوعيتها في جذب الناس للهدى ومقامات الإيمان.
العاشرة : توثيق المعجزات الحسية والعقلية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعث المسلمين لإستقراء وإقتباس الدروس والمواعظ.
الحادية عشرة : بيان ماهية التنزيل وذخائر التأويل، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ( ).
الثانية عشرة : معاني آيات القرآن التي لا تقبل الترديد والإجمال، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق) ( ).
الثالثة عشرة : بيان القرآن لمكارم الأخلاق، ومدارس الصلاح الشخصي والعام.
الرابعة عشرة : إخراج الزكوات الواجبة والمندوبة وتوزيع الثروات والتركة بما يمنع من الخصومة والظلم بين ذوي الأرحام أو حصول بلاء وتشتت بعد نزول مصيبة الموت بالوارث والمورث، ليكون من معاني قوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً] أي أن الله عز وجل قد يؤجل قبض روح العبد إلى أفضل الأحوال للورثة من جهة تقسيم التركة وعدم وقوع الغبن والحيف فيها.
الخامسة عشرة : كما أخبرت آية البحث بأن موت أي إنسان لا يقع إلا باذن الله فان آية السياق تدعو الناس إلى العمل بالسنة النبوية باذن الله وبلحاظ أنها مرآة للوحي والإخبار الملكوتي، قال الله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
السادسة عشرة : بيان القرآن للعلوم وحث الناس لإستخراج المعادن وكنوز الأرض،ورد بيان هذه النعمة على لسان النبي يوسف وطلبه من الملك كما جاء في التنزيل[اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ]( )، وبعد الظلم الذي لحق يوسف ولبثه في السجن بضع سنوات وقعت رؤيا للملك ليتم الإفراج عنه ويفتضح أمر الذين مكروا به، فبادر يوسف بالطلب إلى الملك [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ]( )، ليكون تأسيس علوم الأرض وبيان ثرواتها بواسطة الأنبياء وأن إيذاء الحكومات وأهل الحل والعقد لهم، في دينهم لم يمنع الأنبياء من الكشف عن رحمة الله في الذخائر التي في الأرض وعالم الزراعة وإزدهار الإقتصاد وكيفية الإدخار والحاجة إلى التوفير والتدبير والنجاة من الشدة والعسر.
السابعة عشرة : إقتباس الدروس والمواعظ من القرآن بالسنة النبوية الكاشفة لآياته.
فمثلاً ورد عن ابن مسعود أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها( )، ليكون الحديث من مصاديق تفسير قوله تعالى[فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ]( ).
وهل يمكن تقدير آية السياق: هذا بيان بالسنة النبوية، الجواب لا، لدلالة الآية على البيان الذاتي وأن القرآن فيه بيان ووضوح وعلوم للناس لتأتي السنة النبوية نعمة أخرى من عند الله وبياناً إضافياً للقرآن.
الثامنة عشرة : القرآن بيان للسنة النبوية، لأنها من كل شئ بلحاظ كبرى كلية وهي أصالة الإطلاق في لفظ البيان للناس، الشامل للموجودات والجواهر والأعراض والأحكام والسنن والأمور الإعتبارية، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فيدل عليه قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
التاسعة عشرة : يتجلى في الآية إعجاز وهو تعلق موضوع البيان بالناس جميعاً، وليس من حضر لحاجات الناس من البيان والوضوح وتجلي الحقائق، خاصة بلحاظ تعاقب الأزمنة وتداخل الأمم وتقارب الحضارات في الأزمنة المتعاقبة وبركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إنتشار الإسلام وتلاوة القرآن بين الأمم، ليكون قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] نوع تحد متجدد في كل زمان مع إقتران هذا التحدي بالرحمة الإلهية بالناس بذات البيان، وبعثهم على إستقراء المسائل والصدور عن أحكامه، والرجوع إليه في عالم الأخبار.
العشرون : القرآن بيان لوجوب الإيمان، وفضل أداء الفرائض وإخلاص العبادة لله عز وجل، لذا جمعت آية السياق بين البيان والهدى والموعظة كصفات ثابتة في كل زمان للقرآن.
الحادية والعشرون : لايختص بيان القرآن بالإعلان والإخبار والكشف والتوضيح، بل هو ضياء سماوي وإمام يقود الناس في سبل الهداية والصلاح ويحول دونهم ودون أسباب الفتنة والإنقلاب والإرتداد، وعن سبرة بن الفاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الشيطان قعد لابن آدم في طرقه ، فقعد له بطريق الإِسلام فقال : تسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم ، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في طوله؟ فعصاه فهاجر ، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال : هو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ فعصاه فجاهد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فمات أو وقصته دابته فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة( ).
الثانية والعشرون : من وجوه البيان في القرآن حث الناس على الرجوع إلى السنة النبوية، ومحاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أقواله وأفعاله في باب العبادات والمعاملات ووفق الأحكام التكليفية الخمسة الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة، وورد عن سعيد بن جبير أنه قال: أول ما نزل من آل عمران[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، ثم أنزلت بقيتها يوم أحد.
الثالثة والعشرون : بيان بلاغة القرآن، وتجلي معاني متعددة للفظ المتحد، وتكرار القصة الواحدة مع التمايز الموضوعي بلحاظ ذات القصة أو نظم الآيات بحيث تكون الدروس المستنبطة منها متعددة موضوعاً وحكماً للناس جميعاً على إختلاف مشاربهم.
الثالثة : وردت آية السياق بلفظ(الناس) [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]ولو دار الأمر في معناه على وجوه :
الأول : إرادة خصوص الصحابة.
الثاني : المقصود عموم المسلمين والمسلمات.
الثالث : المراد غير المسلمين، قال تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]( ).
فتكرر لفظ الناس في الآية أعلاه وكل واحد منهما يتعلق بطائفة وفرقة من الناس غير الأخرى وعن قتادة في موضوع الآية أعلاه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابة من أصحابه بعدما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم حتى إذا كانوا بذي الحليفة، فجعل الأعراب والناس يأتون عليهم فيقولون لهم : هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس فقالوا { حسبنا الله ونعم الوكيل } فأنزل الله { الذين قال لهم الناس( )، ليكون تقدير الآية هو : الناس الذي قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم).
الرابع : شمول الناس جميعاً بآية السياق.
والصحيح هو الأخير، وهو من وجوه الإلتقاء بين آية السياق وآية البحث لأن موضوع آية البحث هو الحتم والقطع بمغادرة كل إنسان الحياة الدنيا بالموت وأن الناس على قسمين متضادين في أفعالهم ومقاصدهم والغايات التي يسعون إليها.
الرابعة والعشرون : من وجوه البيان في آية البحث إكرام الناس جميعاً بأن حياة كل واحد منهم تنقطع بالموت ومغادرة الحياة الدنيا إلى عالم الآخرة، الذي يبدأ بحياة البرزخ وهو عالم حساب بلا عمل، وجزاء على عمل في الحياة الدنيا، وليس من جزاء في الخلق أطول في زمانه وأعم في موضوعه مثل جزاء بني آدم إذ أنه يشمل الحياة الدنيا والآخرة وعلى نحو أبدي، وقالت آية السياق (هذا بيان للناس) لتتضمن آية البحث إخبار الناس جميعاً عن حالهم من جهات:
الأولى : الإخبار عن إنتهاء حياة كل إنسان ووجوده حياً في الحياة الدنيا بالموت.
الثانية : إتحاد سنخية مغادرة الناس للحياة الدنيا بالموت ومفارقة الروح للجسد، فإن قلت قد يأتي زمان على الناس يسكنون فيه بالكواكب الأخرى والجواب ذات العاقبة وكيفية الموت أو القتل تنتظر الإنسان، قال تعالى[أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ]( ).
ليكون تأويل الآية أعلاه بالمعنى الأعم في مستقبل الأيام، فكانت الإذهان عند قراءة هذه الآية تنصرف إلى تعدد المواضع والأماكن على الأرض، لتأتي العلوم الحديثة وتبين إمكان التوسعة في مصداق الآية من غير أن يكون تعارض بين منطوقها ومصاديقها المستحدثة.
وليكون من إعجازها صيغة الإطلاق وعدم تقييدها بحصر مكان حضور الموت بالأرض، فلم تقل الآية (أينما تكونوا في الأرض يدرككم الموت) فقد يدرك الإنسان الموت في البحر أو فوق الجبل أو في الجو بالطائرات في هذا الزمان، أو في الكواكب الأخرى في الأزمنة اللاحقة ليكون القرآن هو المصاحب مع الناس عند صعودهم لها، وإمامهم في العقيدة والأحكام والمعاملات في كل زمان ومكان.
الثالثة : إتصاف الحياة الدنيا بترشح الثواب فضلاً من عند الله, سواء كان مقارناً بها أو متعقبا لها.
الخامسة والعشرون : أخبرت آية السياق بأن القرآن(هدىً) هذه الكلمة التي تؤكد تغشي معاني الرحمة ودلالات الفضل الإلهي لأقطار الأرض، مما يستلزم الشكر المتصل من العباد لله عز وجل على هذه النعمة العظيمة، فكلمة من ثلاثة حروف، تخبر عن نعمة تتغشى أهل الأرض كلهم، وتندبهم جميعاً للإنتفاع الأمثل منها، وهي بلحاظ آية البحث على وجوه:
الأول : دعوة الناس للتهيئ للموت بالعمل الصالح.
الثاني : البعث على التدبر في حياة ما بعد الموت لإخبار الآية عن ثواب الآخرة الذي يدل بالدلالة الإلتزامية على وجوه العالم الآخر.
الثالث : إستحضار قانون زيارة الموت للإنسان، وكيف أن الأحقاب الماضية إنقرضت وغادرت الدنيا بالموت.
وجاءت آية البحث لبيان أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من البشارة بالثواب الدائم، وفيه دعوة للمسلمين بالدعاء لما قبل الموت وما بعده، وعن عطاء بن السئائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها فقال له بعض القوم لقد خففت أو أوجزت الصلاة فقال أما على ذلك فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام تبعه رجل من القوم هو أبي غير أنه كنى عن نفسه فسأله عن الدعاء ثم جاء فأخبر به القوم :اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي
اللهم وأسألك خشيتك يعني في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحكم في الرضى والغضب وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا يبيد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضى بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الايمان واجعلنا هداة مهتدين)( ).
الرابع : يكون تقدير الجمع بين كلمة(هدى) وآية البحث من جهات:
الأولى : آية البحث هدى ورشاد لقانون تعلق موت أي إنسان بإذن الله عز وجل، وليس من قوة تحول دون أمر الله وإذنه، مما يدعو الناس إلى الدعاء لبعد الأجل والإطالة في العمر.
الثانية : في الآية هدى إلى سبل الإنتفاع الأمثل من قوله تعالى(كتاباً مؤجلاً) وأول مصاديق الإنتفاع هو التصديق بقانون أن الموت بيد الله، وأن كل يوم يمر على الإنسان وهو في الحياة الدنيا من التأجيل الذي ذكرته آية البحث ليترشح عنه هدى إلى الإنتفاع من الكنز العظيم وهو الإخبار عن تأجيل الموت من وجوه:
الأول : الشكر لله على نعمة الحياة المتجددة بلحاظ أن كل ساعة تمر على الإنسان هي رحمة ومن ذات التأجيل.
الثاني : تهدي آية البحث إلى الإقرار بعظيم قدرة الله عز وجل وأنه يملك الحياة الدنيا ويملك الآخرة، ويهب منها ما يشاء من غير أن تنقص خزائنه.
الثالث : الهداية إلى حقيقة وهي أن العطاء من عند الله للكافر في الحياة الدنيا إستدراج وإبتلاء، والهداية لقانون إدخار الحسنات لعالم الآخرة رحمة ونعمة من عند الله.
الرابع : إهتداء الناس ببركة القرآن إلى قانون في الإرادة التكوينية وهو لو إجتمعت الخلائق كلها على منع سعي الإنسان للآخرة لما إستطاعوا.
الثالثة : بيان قانون وهو أن الحياة الدنيا دار الإمتحان والتخيير بين عشق الدنيا وحب نعيم الآخرة، وأن الأمرين بيد الله ولا يقدر عليهما متحدين ومتفرقين إلا الله عز وجل، ويدل هذا البيان على أمور:
الأول : بيان التضاد في الإرادة والقصد والسعي بين حب الدنيا والآخرة.
الثاني : الترغيب بالعمل الدائم للآخرة.
الثالث : دعوة المسلمين والناس للتفقه في الدين.
الرابع : طرد الغفلة عن الناس ومنع الإنجرار وراء الدنيا وزينتها.
الخامس : هداية الناس إلى عمل الصالحات والمسارعة في الخيرات، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ).
الرابعة : بيان الملازمة بين العمل الصالح للعبد والجزاء عليه من عند الله.
قراءة في معاني الآية السابقة
وتقدير الآية السابقة بلحاظ هذا المعنى على وجوه :
الأول : وما محمد إلا رسول أفأن مات أو قتل ولم تسألوه عما تحتاجون اليه من مسائل الدنيا والآخرة .
الثاني : أفائن مات أو قتل انقطع الوحي والتنزيل عن أهل الأرض إلى يوم القيامة .
الثالث : أفائن مات أو قتل فخذوا عنه الفرائض والواجبات العبادية، [وعنه صلى الله عليه وآله وسلم ،قال : صلوا كما رأيتموني أصلي]( )، وقال [خذوا عني مناسككم] ( ).
لتكون آية البحث من أسرار ضبط المسلمين لعباداتهم وإمتناعهم عن الفرقة والإختلاف فيها .
الرابع : أفائن مات أو قتل أطيعوا الله وأطيعوه .
الخامس : أفائن مات أو قتل فأبقوا على مقامات الإيمان وسنن الهدى .
السادس : أفائن مات أو قتل فليس من نبي بعده.
السابع : أفائن مات أو قتل فقد مات أو قتل الرسل السابقون .
الثامن : أفائن مات أو قتل فلا ترتدوا على أدباركم .
التاسع : أفائن مات أو قتل [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
العاشر : أفائن مات أو قتل فـ [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الحادي عشر : أفائن مات أو قتل فقد [ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ] ( ).
الثاني عشر : أفائن مات أو قتل فقد صرتم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالث عشر : أفائن مات أو قتل فـ[َاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
الرابع عشر : أفائن مات أو قتل فانتم ورثته في تثبيت معالم الدين ونشر مفاهيم الإيمان في الأرض .
الخامس عشر : أفائن مات أو قتل فـ [لاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( ).
السادس عشر: أفائن مات محمد أو قتل فما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله .
السابع عشر : أفائن مات محمد أو قتل فانه أراد ثواب الآخرة .
الثامن عشر : أفائن مات محمد أو قتل فاتبعوا نهجه ليحشركم الله معه في الجنة .
التاسع عشر : أفائن مات محمد أو قتل فانه إمام الشاكرين .
العشرون : أفائن مات محمد أو قتل فانه تمحيص للمؤمنين ومحق للكافرين .
الحادي والعشرون : أفائن مات محمد أو قتل فقد كفاكم الله أذى الشامتين والمستهزئين .
الثاني والعشرون : أفائن مات محمد أو قتل فانه أرسى دعائم الإسلام وقام بالتبليغ أحسن قيام ، وصارت نبوته سبباً لدفع الهلاك والأفات الأرضية والسماوية عن عموم أهل الأرض [وأخرج ابن المنذر من طريق الأوزاعي عن هارون بن رباب قال : دخلت على عبد الملك بن مروان وعنده رجل قد ثنيت له وسادة وهو متكىء عليها ، فقالوا : هذا قد لقي هاروت وماروت . فقلت : هذا . . . ! قالوا : نعم . فقلت حدثنا رحمك الله . فأنشأ يحدث فلم يتمالك من الدموع فقال : كنت غلاماً حدثاً ولم أدرك أبي ، وكانت أمي تعطيني من المال حاجتي فأنفقه وأفسده وأبذره ولا تسألني أمي عنه ، فلما طال ذلك وكبرت أحببت أن أعلم من أين لأمي هذه الأموال ، فقلت لها يوماً : من أين لك هذه الأموال؟ فقالت : يا بني كل وتنعم ولا تسأل فهو خير لك ، فألححت عليها فقالت : إن أباك كان ساحراً ، فلم أزل أسألها وألح ، فأدخلتني بيتاً فيه أموال كثيرة فقالت : يا بني هذا كله لك فكل وتنعم ولا تسأل عنه . فقلت : لا بد من أن أعلم من أين هذا .
قال : فقالت : يا بني كل وتنعم ولا تسأل فهو خير لك . قال : فألححت عليها فقالت : إن أباك كان ساحراً وجمع هذه الأموال من السحر . قال : فأكلت ما أكلت ومضى ما مضى ، ثم تفكرت قلت : يوشك أن يذهب هذا المال ويفنى ، فينبغي أن أتعلم السحر فأجمع كما جمع أبي ، فقلت لأمي : من كان خاصة أبي وصديقه من أهل الأرض؟ قالت : فلان لرجل في مكانٍ ما . فتجهزت فأتيته فسلمت عليه ، فقال : من الرجل؟ قلت : فلان ابن فلان صديقك . قال : نعم مرحباً ، ما جاء بك فقد ترك أبوك من المال ما لا يحتاج إلى أحد؟ قال : فقلت : جئت لأتعلم السحر . قال : يا بني لا تريده لا خير فيه . قلت : لا بد من أن أتعلمه . قال : فناشدني وألح علي أن لا أطلبه ولا أريده . فقلت : لا بد من أن أتعلمه .
قال : أما إذا أبيت فاذهب فإذا كان يوم كذا وكذا فوافني ههنا . قال : ففعلت فوافيته قال : فأخذ يناشدني أيضاً وينهاني ويقول : لا تريد السحر لا خير فيه . فأبيت عليه ، فلما رآني قد أبيت قال : فإني أدخلك موضعاً فإياك أن تذكر الله فيه . . . ! قال : فأدخلني في سرب تحت الأرض . قال : فجعلت أدخل ثلثمائة وكذا مرقاة ولا أنكر من ضوء النهار شيئاً ، قال : فلما بلغت أسفله إذا أنا بهاروت وماروت معلقان بالسلاسل في الهواء ، قال : فإذا أعينهما كالترسة ، ورؤوسهما ذكر شيئاً لا أحفظه ، ولهما أجنحة ، فلما نظرت إليهما قلت : لا إله إلا الله قال : فضربا بأجنحتهما ضربا شديداً وصاحا صياحاً شديداً ساعة ثم سكتا ، ثم قلت : أيضاً لا إله إلا الله ، ففعلا مثل ذلك ، ثم قلت الثالثة ففعلا مثل ذلك أيضاً ، ثم سكتا وسكت ، فنظرا إلي فقالا لي : آدمي .
. . ؟ فقلت : نعم . قال : قلت ما بالكما حين ذكرت الله فعلتما ما فعلتما . . . ! قالا : إن ذلك اسم لم نسمعه من حين خرجنا من تحت العرش .
قالا : من أمة من؟ قلت : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قالا : أو قد بعث؟ قلت : نعم . قالا : اجتمع الناس على رجل واحد أو هم مختلفون؟ قلت : قد اجتمعوا على رجل واحد . قال : فساءهما ذلك فقالا : كيف ذات بينهم؟ قلت : سِّيىء . فسرهما ذلك فقالا : هل بلغ البنيان بحيرة الطبرية؟ قلت : لا . فساءهما ذلك فسكتا .
فقلت لهما : ما بالكما حين أخبرتكما باجتماع الناس على رجل واحد ساءكما ذلك؟ فقالا : إن الساعة لم تقرب ما دام الناس على رجل واحد . قلت : فما بالكما سركما حين أخبرتكما بفساد ذات البين؟ قالا : لأنا رجونا اقتراب الساعة . قال : قلت : فما بالكما ساءكما أن البينان لم يبلغ بحيرة الطبرية؟ قالا : لأن الساعة لا تقوم أبداً حتى يبلغ البنيان بحيرة الطبرية . قال : قلت لهما : أوصياني . قالا : إن قدرت أن لا تنام فافعل فإن الأمر جد ] ( ).
الثالث والعشرون : هل يصح القول (أفائن مات أو قتل ما ننسخ من آية أو ننسخها نأت بخير منها أو مثلها ) الجواب أما الجمع بين آيات القرآن فهو حسن دائماً وله دلالات مستقرأة منه ، وأما موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليس من نبي بعده وليس من آية بين الناس تعادل نبوته وما جاء به من الآيات .
إعجاز الآية
تبين الآية تغشي رحمة الله للناس جميعاً في موضوع الموت من جهات:
الأولى : الموت عاقبة الناس جميعاً وخاتمة وجودهم في الحياة الدنيا.
الثانية : جاءت الآية بصيغة المضارع (أم تموت) لإرادة أجيال الناس المتعاقبة.
الثالثة : الموت إنتقال ورحيل من الدنيا وليس أمراً عدمياً ، بدليل قوله تعالى في ذات آية البحث [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ].
الرابعة : تعليق موت أي إنسان باذن الله، لبيان موضوعية الموت والإنتقال به من عالم إلى عالم وفيه قطع لدنيا الأعمال وختم لصحيفة الأعمال، وبداية عالم الحساب والجزاء، فمن يرد ثواب الدنيا تنقطع الدنيا ولذاتها وزينتها بالموت والوفاة، وأما من يرد ثواب الآخرة فان هذا الثواب يبدأ بالموت، ليشارك المؤمن الكافر في نعم وزينة الدنيا، وينفرد المؤمن بمصاديق الرحمة والفضل الإلهي في الآخرة.
ويبين ذكر آية البحث للموت أن عمر الدنيا قصير وثوابها مقيد بعدد أيامها ومحدود بحد مخصوص ينتهي بالموت، أما ثواب الآخرة فهو متصل ودائم وغير منقطع الوسط.
عن قتادة عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا ، قال : فيقال : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم ربنا ، هذا الموت ، فيذبح كما تذبح الشاة ، فيأمن هؤلاء ، وينقطع رجاء هؤلاء( ).
أي يأمن أهل الجنة من طرو الموت ومغادرة الجنة ونعيمها بسببه، وييأس الكفار لأنهم يتمنون الموت للنجاة من عذاب النار، فيذبح ذات الموت، إلا أن يشاء الله .
وفيه شاهد بأن الموت أمر وجودي وأنه يحضر يوم القيامة ليلقى ذات العاقبة التي كان يخرج بها الناس من الحياة الدنيا، ليكون في الموت أطراف:
الأول : ملك الموت الذي لا يحضر عند الإنسان في أجله إلا باذن الله.
الثاني : ذات الموت، وهو الحال والكيفية التي تنفصل معها الروح عن الجسد.
الثالث : الإنسان الذي ينزل الموت بساحته، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ] ( ).
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، فقالت عائشة : إنا لنكره الموت ، فقال : ليس ذاك ، ولكن المؤمن إذا حضر الموت بشر برضوان الله وكرامته ، فليس شيء أحب إليه مما أمامه ، وأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه ، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه وكره لقاء الله وكره الله لقاءه( ).
ومن مصاديق قوله تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، إخبارهم عن موضوع وحكم الموت من جهات:
الأولى : حتمية مجيء الموت لكل إنسان وفيه تأكيد لضعف الإنسان وعجزه عن الحفاظ على حياته في الساعة التي يريد الله أن يفارق بها الدنيا.
الثانية : الموت خاتمة وجود الإنسان في الحياة الدنيا، وليس من طريق آخر لمغادرته لها، فليس من دنيا ثانية يستطيع الناس أو الأنبياء أو الملوك منهم الإنتقال إليها ولو إلى حين.
الثالثة : ليس من عوض أو بدل لتأجيل الموت والله غني عن العالمين.
الرابعة : لا يستطيع الإنسان الفداء بغيره لدفع أجله، فيموت الملك وبحضرته الخادم والعبد ينظران إليها، وكذا الرعية تحاط علماً بموته ومتابعة من يخلفه وتركته، ليكون موعظة وعبرة لهم، وهو من أسرار تلقي المستضعفين والفقراء والعبيد لرسالات الأنبياء بالقبول والتصديق والمبادرة في نصرتهم.
ومن الآيات أنهم يتحملون بصبر في مسالك الإيمان شتى صنوف الأذى والتعذيب مما يدل على أنهم لم يدخلوا الإسلام لطمع وشره ورغبة بالإنتقام ونحوها.
وكما أخبرت الآية أعلاه من سورة الكهف عن إتحاد سنخية النبوة في البشارة والإنذار، فقد إتصف الأنبياء جميعاً بمجالسة الفقراء والمساكين وإكرامهم والمساواة في المعاملة بين الناس، ويكون المائز هو التقوى، قال تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
وتجلت آيات النبوة في سنة رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه(وعن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدا النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال، وصهيب، وعمار، وخباب، في أناس ضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به، فقالوا: انا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب ستأتيك فنستحي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت.
قال: نعم. قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بهذه الآية{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} إلى قوله{فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة} فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده، ثم دعا فأتيناه وهو يقول{سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة} فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله{واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه…} قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، تركناه حتى يقوم)( ).
وتلاوة أو سماع هذه الآية وسيلة سماوية لطرد الغفلة عن الإنسان مسلماً كان أو غير مسلم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فكل آية من القرآن رحمة بالمسلمين والناس جميعاً، من جهات:
الأولى : تلقي الإنسان الموعظة من الآية القرآنية.
الثانية : تزود الإنسان بالحكمة من الآية القرآنية.
الثالثة : تبعث الآية القرآنية القارئ والسامع للإنصات إلى الآيات القرآنية.
الرابعة : إنطباع الآية القرآنية في التصور الذهني للإنسان ليتدبر في مضامينها ومعانيها القدسية وهو من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الخامسة : التثبت والتأكد من صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : تعاهد آيات القرآن بعناية الناس بها كتابة وتلاوة وإنصاتاً.
السابعة : تبعث الآية القرآنية على العمل بمضامين التنزيل وسنن التكاليف.
الثامنة : إدراك الناس أن الآية القرآنية نعمة وهبة من عند الله.
التاسعة : بعث الآية القرآنية الناس للعمل للآخرة وإرادة الجزاء الحسن يوم القيامة ،ولم تعين آية البحث مدة التأجيل في إذن الله بحلول موت الإنسان لتنمية ملكة إدراك الحاجة إلى الله في النفوس، وجعل الناس يعلمون بأن كل ساعة من إستدامة حياتهم هي فضل ولطف من عند الله عليهم.
وعن الإمام علي عليه السلام قبل ساعة موته: أنا بالأمس صاحبكم. وأنا اليوم عبرة لكم. وغدا مفارقكم. غفر الله لي ولكم إن تثبت الوطأة في هذه المزلة فذاك. وإن تدحض القدم فإنما كنا في أفياء أغصان، ومهب رياح. وتحت ظل غمام اضمحل في الجو متلفقها، وعفا في الأرض مخطها. وإنما كنت جارا جاوركم بدني أياما، وستعقبون مني جثة خلاء: ساكنة بعد حراك، وصامتة بعد نطق. ليعظكم هدوي، وخفوت أطرافي، وسكون أطرافي، فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ والقول المسموع)( ).
وفيه دعوة لذكر الله ومناسبة للصلاح، وباعث على الإستغفار، وزاجر عن التمادي في المعاصي، ومانع من الظلم والجور.
ويحتمل التأجيل وجهين:
الأول : تعيين أوان الموت والمراد التأجيل بلحاظ إستدامة حياة الإنسان قبل مغادرته الدنيا.
الثاني : التأجيل من الكلي المشكك الذي قد تكون مدته طويلة وقد تكون قصيرة ولكنه ثابت ومعلوم عند الله عز وجل.
ولا تعارض بين الوجهين وهو من أسرار آية البحث وتقدم إذن الله فيها على الكتاب المؤجل، ولو إكتفت الآية بقوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ]( )، ولم تقيده بالكتاب المؤجل لقال بعضهم بخلود بعض الناس خاصة أولئك الذين يغالون في الأنبياء.
ويمكن تسمية الآية الكريمة أية [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن ونعت الكتاب بأنه مؤجل إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
تتضمن الآية الدعوة إلى الهدى والصلاح، والتوقي من السيئات والفواحش من جهات:
الأولى : التذكير بالموت وأنه خاتمة حتمية للحياة الدنيا.
الثانية : الإطلاق العمومي لوقوع الموت للناس جميعاً، فليس من إستثناء، وأن الموت لم يتراخ في إنقضاضه على الإنسان، ولكن الله عز وجل هو الذي يزجره ويدفعه عن الناس رحمة منه تعالى وهو الذي يؤكده قوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً].
الثالثة : تبعث الآية على التقوى، وتملأ النفس بالخشية من الله، وتطرد الغرور عن الجوارح والحواس، وعن أبي أيوب قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله علمني وأوجز قال : إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع ولا تكلم بكلام تعتذر منه واجمع اليأس مما في أيدي الناس( ).
الرابعة : الآية الكريمة مادة للوعظ والزجر عن الفواحش، وهي سلاح في باب الأمر بما يرضي الله، والنهي عن التعدي عن حدوده، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
لقد إتخذ المسلمون آية البحث نبراساً في سوح القتال، وشهادة سماوية للإستشهاد وبعد معركة القادسية التي وقعت في شهر شعبان من السنة الخامسة عشرة للهجرة وتوافق سنة (636) ميلادية وإنتصار المسلمين فيها، إجتمع المنهزمون ببابل فسار خلفهم المسلمون وهزموهم، (واقام سعد ببابل اياما ثم سار منها نحو المدائن فلقوا جمعا آخر من الفرس فاقتتلوا قتالا شديدا وبارزوا امير الفرس وهو شهريار فبرز اليه رجل من المسلمين يقال له نائل الاعرجي ابو نباتة من شجعان تميم فتجاولا ساعة بالرماح ثم القياها فانتصبا سيفيهما وتصاولا بهما ثم تعانقا وسقطا عن فرسيهما الى الارض فوقع شهريار على صدر أبي نباتة واخرج خنجرا ليذبحه بها فوقعت اصبعه في فم ابي نباتة، فقضمها حتى شغله عن نفسه واخذ الخنجر فذبح شهريار بها واخذ فرسه وسواريه وسبله وانكشف اصحابه فهزموا فأقسم سعد على نائل ليلبس سواري شهريار وسلاحه وليركبن فرسه اذا كان حرب فكان يفعل ذلك قالوا وكان اول من تسور بالعراق وذلك بمكان يقال له كوثى وزار المكان الذي حبس فيه الخليل وصلى عليه وعلى سائر الانبياء وقرأ وتلك الايام نداولها بين الناس( ).
ثم حدثت معركة (مدينة بهر سير( ))( )، وهي قريبة من المدائن.
وقد دعاهم سلمان الفارسي إلى الله عز وجل وخيّرهم بين أمور ثلاثة:
الأول : دخول الإسلام.
الثاني : دفع الجزية والذي يدل بالدلالة التضمنية على حماية المسلمين لهم والعناية بهم.
الثالث : الحرب والمقاتلة.
فاصروا على العناد وأبوا إلا القتال، فحاصرهم المسلمون فكانوا يخرجون فيقاتلون قتالاً شديداً ثم ينسحبون إلى دار المدينة وضرب المسلمون عليهم الحصار لمدة شهرين حتى أكلوا الكلاب والقطط فتجلى المدد الإلهي وأنطق الله عز وجل صوتاُ ملكوتياً على لسان أحد المسلمين، فكان به النصر والغلبة.
فقد أشرف رجل من أهل المدينة المحاصرة على المسلمين ونادى(يقول لكم الملك هل لكم الى المصالحة على ان لنا ما يلينا من دجلة الى جبلنا ولكم ما يليكم من دجلة الى جبلكم اما شبعتم لا اشبع الله بطونكم.
فبدر الناس رجل يقال له ابو مقرن الاسود بن قطبة فانطقه الله بكلام لم يدر ما قال لهم فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون من نهرشير الى المدائن فقال الناس لابي مقرن ما قلت لهم فقال والذي بعث محمداً بالحق ما ادري ما قلت لهم فقال الا ان على سكينة وانا ارجو ان اكون قد أنطقت بالذي هو خير وجعل الناس ينتابونه يسالونه عن ذلك وكان فيمن سأله سعد بن ابي وقاص وجاءه سعد الى منزله فقال يا ابا مقرن ما قلت فوالله انهم هراب.
فحلف له انه لا يدري ما قال فنادى سعد في الناس ونهد بهم الى البلد والمجانيق تضرب في البلد فنادى رجل من البلد بالامان فامناه فقال والله ما بالبلد احد فتسور الناس السور فما وجدنا فيها احد الا قد هربوا الى المدائن وذلك في شهر صفر من هذه السنة فسالنا ذلك الرجل واناسا من الاسارى فيها لأي شىء هربوا قالوا بعث الملك اليكم يعرض عليكم الصلح فأجابه ذلك الرجل
بانه لا يكون بينكم وبينه صلح ابدا حتى نأكل عسل افريذين بأترج كوثى فقال الملك يا ويلاه ان الملائكة لتتكلم على السنتهم ترد علينا وتجيبنا عن العرب ثم امر الناس بالرحيل من هناك الى المدائن فجازوا في السفن منها اليها وبينهما دجلة وهي قريبة منها جدا ولما دخل المسلمون نهرشير لاح لهم القصر الابيض من المدائن وهو قصر الملك الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه و سلم انه سيفتحه الله على امته وذلك قرب الصباح فكان اول من رآه من المسلمين ضرار بن الخطاب فقال الله اكبر ابيض كسرى هذا ما وعدنا الله ورسوله ونظر الناس اليه فتتابعوا التكبير الى الصبح ( ).
ولما وقف المسلمون على حافة دجلة وقف العدو في صفوف من الجانب واحجم الناس عن الخوص في دجلة، فقال رجل من المسلمين: اتخافون من هذه النطفة ثم تلا قوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً].
ثم اقحم فرسه فيها واقتحم الناس وقد افترق الستون( ) فرقتين اصحاب الخيل الذكور واصحاب الخيل الاناث فلما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا ديوانا ديوانا يقولون مجانين مجانين ثم قالوا والله ما تقاتلون انسا بل تقاتلون جنا ثم ارسلوا فرسانا منهم في الماء يلتقون اول المسلمين ليمنعوهم من الخروج من الماء فامر عاصم بن عمرو واصحابه ان يشرعو لهم الرماح ويتوخوا الاعين ففعلوا ذلك بالفرس فقلعوا عيون خيولهم فرجعوا امام المسلمين لا يملكون كف خيولهم حتى خرجوا من الماء( ).
وفي الحديث نكتة وهي إتخاذ المسلمين آية البحث سلاحاً في التوكل على الله وإقتحام الصعاب في ملاقاة العدو وتجلي الآيات بعدها بسلامة عبور المسلمين النهر وتحقيق النصر.
مفهوم الآية
إبتدأت الآية بذكر النفوس وطرو الموت عليها، بصيغة الإخبار لتكون مناسبة لتفقه المسلمين بخاتمة الحياة الدنيا وأن الناس جميعاً يلتقون بحتمية مغادرتها، فاذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يموت أو يقتل كما تدل عليه الآية السابقة فمن باب الأولوية القطعية أن غيره من الناس تكون له ذات الخاتمة، نعم يكون التفاوت والتباين في العاقبة وحياة الإنسان في الآخرة ليكون ذكر الموت ترغيباً بالعمل الصالح ودعوة للمسلمين للثبات في مقامات الإيمان والإحتراز الشخصي والعام من الإنقلاب عن مسالك الإيمان والصراط المستقيم.
لقد حذرت الآية السابقة من الإنقلاب والإرتداد لتأتي هذه الآية فتذكر بالموت ولزوم الإستعداد له ولما بعده، وقد تفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليأخذ المسلمون العدة لهذا الأجل، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
وتتضمن الآية الزجر عن سفك الدماء والقتل بغير حق، ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان[يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، أخبرهم الله عز وجل بانه أحاط بكل شئ علماً، وفيه بلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى : لا يتم الموت أو القتل وسفك الدماء إلا باذن الله عز وجل.
الثانية : تفضل الله بتشريع قانون القصاص، وفيه زجر عن القتل ظلماً وبغير حق، قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
وفي الآية دعوة للناس بتفويض الأمور في خواتيمها إلى الله عز وجل، والإجتهاد في طاعته لإحتمال قرب أوان لقائه إذ أن قوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً] أمر متزلزل يكون مدة قليلة أو طويلة.
وتؤكد الآية على أن النعم الدنيوية كلها بيد الله، وأن نيلها لا يتم بإرادة الإنسان لها أو بذله الوسع لتحصيلها.
وهل يمكن القول بأن مجئ الدنيا ونعيمها للعبد من عند الله كما في الآية لا يمنع من نيل العبد لها بسعي وجد لأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، الجواب لا، ويدل قوله تعالى[فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( )، على أن الله عز وجل هو المالك والحاكم والرحيم في الدنيا والآخرة، وهو الذي يعطي الرغائب ويحقق الأماني ويؤجل الموت باذنه سبحانه، وأن الإنقلاب عن الإيمان لا يضر إلا صاحبه.
وهل من موضوعية وصلة بين الثبات على الإيمان وعدم الإنقلاب وبين بعد الأجل أي أن الأجل معين في أوانه سواء أصلح المرء أو جحد وإرتد.
الجواب هو الأول وهو الذي تشير إليها الآية بالدلالة الإلتزامية، لتكون آية البحث واقية للمسلمين من الفرقة والإنبهات عند مفارقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدار الآخرة.
لقد كان إماماً وقائداً وحرزاً نبوياً لدفع الأخطار عن المسلمين، وحينما يغادر تبقى آية البحث بين يدي المسلمين وتملأ آذانهم وتدركها عقولهم بأن الأجل لا يكون إلا باذن الله بان الكفار لن يستطيعوا الإجهاز على المسلمين بعد غياب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أسرار الترديد في الآية السابقة بين موت أو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كيلا تستحوذ الدهشة والحيرة على المسلمين فيبث المنافقون سمومهم، ويتعدى الكفار على ثغور وحرمات الإسلام وعن زيد بن أسلم قال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف ، فقالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله؟ قال : نعم . فقال بعض الناس : لا يكون هذا أبداً ، فأنزل الله { انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ، وكذب به قومك وهو الحق } إلى قوله { وسوف تعلمون } ( ).
ومن منافع هذه الآية والآية السابقة تصدي المسلمين لمدعي النبوة واتباعهم بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقوع المعارك والقتال الشديد الذي إنتهى بانتصار الإسلام، والعصمة من الإرتداد.
وتدل خاتمة الآية[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] على تقسيم الناس إلى قسمين:
الأول : الشاكرون.
الثاني : غير الشاكرين.
وفيه إنذار للجاحدين لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعازفين عن أداء الفرائض والطاعات والذين إنقلبوا على العهود والمواثيق وحال الهدنة والمهادنة بينهم وبين المسلمين أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتبعث الآية على التدبر بالآيات والكرامات، والشواهد التي تدل على جزاء الله عز وجل للمسلمين على شكرهم له تعالى في صلاحهم.
وهل يمكن أن يكون الجزاء من جنس ذات الشكر كما لو تجلى شكر المسلمين لله بثباتهم على الإيمان فيزيدهم الله إيماناً ويجعلهم دعاة إلى عبادة الله بصبر ودراية، الجواب نعم، وفي قصة أهل الكهف، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى]( )، وعن الربيع بن أنس في الآية قال: زدناهم إخلاصاً ( ).
ولكن المعنى أعم وبين الهدى والإخلاص عموم وخصوص مطلق، والله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم والأعم، وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية وتفاصيل قصة أهل الكهف، إذ تشمل الزيادة أموراً:
الأول : ذات الهدى، وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة.
الثاني : صيرورة الهدى مقدمة لخصال إيمانية من التقوى والصبر والصدق والإخلاص، وبالإسناد عن ابن عباس قال: أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها له كسرى ، فركبها بحبل من شعر ، ثم أردفني خلفه ، ثم سار بي مليا ، ثم التفت فقال : يا غلام قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، قد مضى القلم بما هو كائن ، فلو جهد الناس أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ، ولو جهد الناس أن يضروك بما لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فاصبر ، فإن في الصبر على ما تكرهه خيرا كثيرا ، واعلم أن مع الصبر النصر ، واعلم أن مع الكرب الفرج ، واعلم أن مع العسر اليسر ( ).
الآية لطف
مع أن موضوع الآية هو أوان الموت وتأجيله بفضل من عند الله، فإنها تتضمن ذكر الدنيا من جهات:
الأولى : توجه الخطاب للمسلمين والمسلمات بلحاظ عطف الآية على الآيات السابقة.
الثانية : إرادة النفس الناطقة ذات الحياة والحركة والنماء، وتقدير الآية: وما كان لنفس نابضة بالحياة جامعة للروح والجسد.
الثالثة : مجيء موضوع الموت بصيغة المضارع والفعل الذي يقع في قادم الأيام(أن تموت) وهذا نفسه نوع تأجيل.
الرابعة : ترقب إذن الله عز وجل بحلول أجل الإنسان.
الخامسة : التصريح بتأجيل الأجل بقوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً].
السادسة : إخبار الآية عن إرادة الإنسان لثواب الدنيا وهو أمر لا يتحقق إلا في مدة أيامها من وجوه:
الأول : كون الإنسان من أهل الدنيا.
الثاني : سعي الإنسان لطلب ثواب الدنيا، إذ أن جمع المال وتحصيل الجاه، والتمتع بالنعم الدنيوية لا تكون إلا بالقصد والسعي.
الثالث : ترتب الثواب المذكور في آية البحث على عمل وسعي الإنسان في أيام الحياة الدنيا.
وتقدير الآية: ومن يرد ثواب الدنيا وهو فيها نؤته منها قبل أن يغادرها.
وتتضمن الآية الإخبار بأن تأجيل الموت عن الإنسان نعمة وفضل من عند الله على الإنسان، وهو إمتحان وإختبار، ففي كل يوم يكون الإنسان بالخيار بين إرادة ثواب الدنيا وثواب الآخرة وهو من ضروب الإبتلاء في الحياة الدنيا.
وجاءت آية البحث لنجاة الإنسان من هذا الإبتلاء إذ تبين طريق الهدى فيه وهو إختيار إرادة ثواب يوم القيامة، قال تعالى[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( )، الحياة الدائمة التي ليس فيها إنقطاع أو موت، والتي يجب أن يسعى إليها الإنسان ويدخر لها، وليس من إدخار في المقام إلا العمل الصالح، والحيوان مصدر حيي ويراد منه ذو الحياة والحياة الرغد التي لا فناء أو إنقضاء لها.
السابعة : تضمنت الآية الوعد الكريم بالفوز بثواب الآخرة لمن أراده وفيه بيان لموضوعية النية والقصد وحسن السمت في خواتيم الأعمال، فلم تقل الآية ومن سعى لثواب الآخرة نؤته منها، بل قالت (ومن يرد) لبيان أن ذات القصد والإرادة فيه ثواب عظيم لذا قيدت الآية الأجر والثواب بصيغة التبعيض بقوله تعالى[نُؤْتِهِ مِنْهَا] لوجهين:
الأول : ثواب الآخرة أعظم من أن يحيط به الناس متفرقين ومجتمعين.
الثاني : لو أخذ كل أهل الجنان نصيبهم من ثواب الآخرة لكان فيه زيادة ونافلة أكثر مما أخذ قال تعالى في وصف ثمار الجنة[لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ]( )، فما أن يقطع ساكن الجنة ثمرة من أشجارها حتى تحل محلها ثمرة أخرى، وليس من حاجز أو مانع بينه وبين ما يشتهيه من ثمارها المتدلية من أغصانها بكرة وعشياً ترغيباً له، وكي تطيب نفسه التي سخرها في الدنيا في مرضاة الله ونذرها لغيب الآخرة.
إفاضات الآية
أخبرت آية البحث عن كون الموت كتاباً مؤجلاً فأنها لتدل بالدلالة التضمنية على توالي الرزق الكريم على العبد من عند الله فهو سبحانه الذي أجّل الكتاب وهو الذي يضمن الرزق ولا يقطعه في أيام عمر الإنسان.
وهناك ملازمة بين إستكمال الرزق والبروز إلى المضجع، ولا يكتب الله موضعاً للإنسان إلا وطأه، لتبعث الآية السكينة في النفس، وتكون حرباً على أمراض القلب ونحوها، لأن المسلم يأخذ الحياة بالتسليم لمجيء الرزق بمقداره غير منقوص، وحلول الأجل في أوانه، وعند الله عز وجل فضل من جهات:
الأولى : النافلة في الرزق في ذات مدة العمر.
الثانية : زيادة عمر الإنسان، والسعة معه في الرزق.
الثالثة : إصلاح الإنسان للتوبة والإنابة ومضاعفته لفعل الصالحات، وهل قوله تعالى(كتاباً مؤجلاً) ترغيب بإطالة العمر، وحث على الدعاء لزيادة أيامه، الجواب نعم، وهو من الإعجاز في نعته بالكتاب والمؤجل، وكأن موت الإنسان لم يحدد بعد ما دام في الحياة الدنيا لبيان السعة والمندوحة في حياة الإنسان وإلا فإن الله عز وجل يعلم أجل الإنسان وأوانه وعلة تقديم أو إرجاء الأجل أو بقائه على ذات الوقت، قال تعالى[وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ]( ).
لقد إتخذ المسلمون آية البحث ضياء ينير طرق الهداية، وحرزاً من الحزن والوهن والكآبة ومن الجبن والخوف في حال الشدة والأذى.
ولما ذكرت الآية السابقة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله سلم رسول قد سبقه أنبياء بلغوا رسالاتهم ثم غادروا الدنيا بآجالهم فأنه لابد وأن يلحق بهم إلى الرفيق الأعلى وأجله (كتاباً مؤجلاً)، وتبين الآية عجز الأعوان والحصون والقلاع والأسلحة عن دفع الموت عند حلول أوانه، قال تعالى[أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ]( ).
وهل يعلم أوان أجل الإنسان غير الله من ملك مقرب أو نبي مرسل، فيه وجوه:
الأول : علم الملائكة بالأجل الأول المحدد للإنسان الذي يحتمل التأجيل على القول به.
الثاني : علم خصوص ملك الموت بالأجل.
الثالث : إختصاص علم أجل الإنسان بالله عز وجل وعدم علم الملائكة مطلقاً ملك الموت أو غيره إلا أن يشاء الله.
الرابع : علم الملائكة بأجل الإنسان الأصلي وأوان أجله المؤجل واللاحق.
الخامس : علم الملائكة بأجل الإنسان مع علمهم بأن الله[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( ).
والصحيح هو الثالث، وهو من فضل الله عز وجل على الإنسان وإكرامه في الحياة الدنيا، ومن أسرار ودلالات الخلافة في الأرض وسجوده الملائكة لآدم.
وقيل أن شاباً حسن الوجه كان يدخل على داود النبي كل يوم عند ذهابه إلى بيته، وفي ليلة عرسه وخل على داود عليه السلام كعادته، وكان ملك الموت يزور الأنبياء، وهذا الجلوس لا يتعارض مع إستمراره في قبضته وأعوانه للأرواح بإذن الله، فقال ملك الموت لداود: أتعرف هذا يا داود؟ قال: نعم إنه شاب مؤمن يحبني وما يحب أن يذهب إلى بيته حتى ينظرني ويسلم علي فقال ملك الموت لداود: لقد بقي من عمر هذا الشاب ستة أيام، فأنتم داود للنبأ، ولكن بعد سبعة أشهر إتفق أن دخل الشاب كعادته على داود وكان ملك الموت جالساً عنده فقال داود قد قلت لي بقي من عمر هذا الشاب ستة أيام.
قال ملك الموت: نعم، ولكن لما إنقضت الأيام الستة مددت يدي لأقبض روحه، قال سبحانه وتعالى يا ملك الموت خلّ عبد فلاناً فأنه خرج فوجد فقيراً مضطراً فأعطاه من زكاته ففرح بها فدعا له الفقير أن يطيل الله في عمره، وأن يجعله رفيق داود في الجنة، فرضيت عنه وأني كتبت له الأيام السنة سنتين، وزدتها عشراً، فلا تقبض روحه إلا بعد إنتهاء المدة وقد كتبته رفيق داود في الجنة).
ومن إعجاز القرآن التذكير الموت كأمر واقع وحادث وهذا التذكير سبب للتقوى والتهيء للموت وتلقيه بالصلاح، والتنزه من اللهث وراء الدنيا التي يجعلها مقبلة على المؤمنين.
وعن ابن سعيد الخدري قال: إِنِّى مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا. فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يَأْتِى الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَسَكَتَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقِيلَ لَهُ مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم وَلاَ يُكَلِّمُكَ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ. قَالَ فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ. فَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَأْتِى الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابن السَّبِيلِ أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( ).
أي جاء التشبيه والمثل في الحديث بالدواب أوان الربيع فمنها ما تلتهم مقداراً كثيراً من العشب دفعة واحدة، حرصاً على الأكل وإستطابة له فتموت من الداء والتخمة خاصة مع قلة الماء أمام الدابة، أما التي تأكل بمقدار ما يستوعب كرشها ولا تعود للأكل إلا بعد حصول الخفة والحاجة عندها فيكون الأكل خيراً لها، ولا يضرها.
ثم ورد في الحديث لزوم أخذ المال بطريق الحلال وإجتناب الحرام، وعدم التفريط فيه أو توظيفه في الباطل والمعاصي ليكون باباً للأجر والثواب وسبباً في إطالة العمر، وهو من أسرار قوله تعالى في آية البحث(كتاباً مؤجلاً)، قال تعالى[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( )، فتنفتح أبواب السماء للدعاء الذي يصدر عن فم لا يأكل إلا الحلال، وجوارح تتنزه عن المعاصي.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت آية السياق بقواعد كلية من جهات:
الأولى : لا يحضر الموت لأي إنسان إلا باذن الله، فهو سبحانه الذي خلق الإنسان وأوجده من العدم وأخرجه إلى الدنيا فلا يغادرها إلا بأمره وإذنه، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( )، فمن معاني لله الأولى أي لا يعيش في الدنيا إلا الذي يشاء الله عز وجل عيشه وحياته، ولا يغادرها إلا بمشيئته سواء مغادرة رضا أم مغادرة سخط من عند الله، وهذا الوصف لماهية المغادرة أعم من أن يكون علة تامة لها لذا تفضل الله عز وجل وقال في آية البحث (كتاباً مؤجلاً) أي لابد وأن تحصل هذه المغادرة ويكون الحساب والجزاء في الآخرة.
الثانية : الرحمة والفضل الإلهي بالمدد والإمهال، ويدل قوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً] ( )، أن الله عز وجل يعطي مندوحة وفسحة في العمل لأي إنسان في الدنيا، فحينما يحين أجله يتفضل الله عز وجل وينعم عليه بزيادة في العمر لطفاً منه سبحانه، وعلى فرض صحة هذا الإستقراء المستحدث منا بخصوص هذه الآية يتجلى فضل عظيم على الناس على نحو الإنفراد والإجتماع وهو النافلة في العمر قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( )، ليترشح عنه لزوم الشكر لله عز وجل بالتقوى والعمل الصالح، ويكون تقدير خاتمة الآية: وسنجزي الشاكرين الذي يشكرون الله عز وجل على مدة أعمارهم وعلى إطالتها بنافلة وزيادة من عند الله.
وهل يكون من شكر الله عز وجل لهم الزيادة الإضافية في أعمارهم وإصلاح الذراري، الجواب نعم، وتلك آية في خلافة الإنسان في الأرض ليكون معاني إحتجاج الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، أنهم أرادوا حصر النافلة في العمر ومعنى(كتاباً مؤجلاً) بخصوص المؤمنين والشاكرين، أما الجاحدون فقال الملائكة أن إطالة أعمارهم سبب بتماديهم في المعاصي ونشر الفساد، وقتل النفس التي حرّم الله، فجاء الرد من عند الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وفيه بلحاظ هذه الموضوع مسائل:
الأولى : النافلة في العمر باب للتوبة ومناسبة للإنابة.
الثانية : توجه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للناس جميعاً، فيكون سبباً للأجر والثواب للمؤمنين، وحجة على الفاسقين فهم خاص بجهة صدوره بالمؤمنين عام في الجهة التي يتوجه إليها، ليكون الأمر والنهي هذا كالمطر الذي يصيب البر والفاجر.
الثالثة : خروج ذرية صالحة ومؤمنين من الكفار في مدة النافلة في العمر، ليعمروا الأرض بالذكر والتسبيح، وهو من مصاديق قوله تعالى[يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ]( ).
وأخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما خلق الله آدم عليه السلام أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال : هؤلاء أهل الجنة ولا أبالي ، وقبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل رديء فقال : هؤلاء أهل النار ولا أبالي ، فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن ويخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله { تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } ( ).
الرابعة : رؤية الكفار لعلو راية الإسلام، ودخول الناس فيه، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، وفيه وجوه:
الأول : إغاظة الكفار وإقامة الحجة عليهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( ).
الثاني : دعوة الناس للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : ترغيب الناس بالإسلام، لأن دخول الأفواج فيه سبب للقوة على نحو متعدد ومتداخل من جهتين:
الأولى : كثرة أهل الإسلام، ومجيء رفد من المهاجرين.
الثانية : إصابة الكفار بالنقص في الرجال والعدة والعزيمة بسبب ترك الناس لهم ودخولهم الإسلام.
ليكون من معاني قوله تعالى[فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ]( )، صيرورة المؤمنين في مندوحة وسعة، ومع التخفيف عنهم وإندفاع الضرر من طرف الكفار، وتجلى بدخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم فتحها بعشرة آلاف مقاتل، وعدم وجود مقاومة معتد بها من الكفار.
ولما بلغ قريشاً مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إرتبك رجالات قريش وقام صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وبعصبية الجاهلية الأولى والإصرار على العناد بجمع عدم من السفهاء(نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَنَاسٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ وَهُذَيْلٍ، وَتَلَبّسُوا السّلَاحَ وَيُقْسِمُونَ بِاَللّهِ لَا يَدْخُلُهَا مُحَمّدٌ عَنْوَةً أَبَدًا. فَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الدّيلِ يُقَالُ لَهُ: حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ الدّيلِيّ، لَمّا سَمِعَ بِرَسُولِ اللّهِ جَلَسَ يُصْلِحُ سِلَاحَهُ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَنْ تُعِدّ هَذَا ؟ قَالَ: لِمُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ – فَإِنّي أَرْجُو أَنْ أَخْدُمَك مِنْهُمْ خَادِمًا فَإِنّك إلَيْهِ مُحْتَاجَةٌ. قَالَتْ: وَيْحَك، لَا تَفْعَلْ وَلَا تُقَاتِلْ مُحَمّدًا وَاَللّهِ لَيَضِلّن هَذَا عَنْك لَوْ رَأَيْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ: سَتَرَيْنَ. قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ مُعْتَجِرًا بِشُقّةِ بُرْدٍ حِبَرَةٍ)( ).
وخرج أبو قحافة وإسمه عثمان بن عامر يوم الفتح وقد ذهب بصره تقوده أصغر بناته قريبة وهي أخت أبي بكر، فصعدت به حتى أطلت من جبل أبي قبيس(يَا بُنَيّةُ مَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى رَجُلًا يَسْعَى بَيْنَ ذَلِكَ السّوَادِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا. قَالَ: ذَلِكَ الْوَازِعُ3 يَا بُنَيّةُ اُنْظُرِي مَا تَرَيْنَ قَالَتْ: تَفَرّقَ السّوَادُ. قَالَ قَدْ تَفَرّقَتْ الْجُيُوشُ! الْبَيْتَ! الْبَيْتَ! قَالَتْ: فَنَزَلْت بِهِ. قَالَ: فَجَعَلَتْ الْجَارِيَةُ تَرْعَبُ لِمَا تَرَى، فَيَقُولُ: يَا بُنَيّةُ لَا تَخَافِي فَوَاَللّهِ إنّ أَخَاك عَتِيقًا لَآثُرُ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ عِنْدَ مُحَمّدٍ. قَالَ: وَعَلَيْهَا طَوْقٌ مِنْ فِضّةٍ فَاخْتَلَسَهُ بَعْضُ مَنْ دَخَلَ.
قَالُوا: فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ: أَنْشُدُ بِاَللّهِ طَوْقَ أُخْتِي ثَلَاثَ مَرّاتٍ. ثُمّ قَالَ: يَا أُخَيّةُ احْتَسِبِي طَوْقَك، فَإِنّ الْأَمَانَةَ فِي النّاسِ قَلِيلٌ قَالُوا: ثُمّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: “كَيْفَ قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ ؟” فَقَالَ:
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إنْ لَمْ تَرَوْهَا … تُثِيرُ النّقْعَ مِنْ كَتِفَيْ كَدَاءِ)( ).
الرابع : بيان معجزة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي الناس لنبوته بوجوه:
الأول : الإنصات والقبول.
الثاني : الرضا والتصديق.
الثالث : النطق بالشهادتين والإيمان بالله ورسوله والملائكة واليوم الآخر.
الرابع : أداء الفرائض العبادية على نحو دفعي وليس تدريجياً، فيؤدي المسلم من يوم إسلامه الفرائض التي أنزلها الله من الصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس.
الخامس : تمني المؤمنين الشهادة والقتل تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي الدفاع عنه، ومنع سيوف الأعداء من الوصول إليه بآيات متعددة ومتوالية من التضحية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً خاصة في معركة أحد ليسجلوا صفحات مشرقة من جهات:
الأولى : قتال أهل البيت وبعض الصحابة دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث استشهد مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار وعود من الأنصار بين يديه يوم أحد قال ابن كثير: و قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه بين يديه ، فدفع صلى الله عليه و سلم اللواء إلى علي بن أبي طالب، و نشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صلى الله عليه و سلم ، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، و عض عليهما حتى سقطت ثنيتاه ، فكان الهتم يزينه ، و امتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من جرحه صلى الله عليه و سلم( ).
والهتم إنكسار الثنايا من أصولها، وسقوط مقدم الأسنان قال الجوهري: الهتم: كسر الثنايا كسرُ الثنايا من أصلها. يقال: ضربَهُ فهَتَمَ فاهُ، إذا ألقى مقدَّم أسنانه. ورجلٌ أهْتَمُ بيِّن الهَتَمِ. وتَهَتَّمَتْ أسنانه، أي تكسَّرت. والهُتامَةُ: ما تَهَتَّمَ من الشيء، أي تكسَّر منه)( ), وفي كسر أسنان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ آية البحث والآية السابقة مسائل:
الأولى : إنه من الدلائل على التفصيل والتقسيم في قوله تعالى[أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ]( )، إذ تعرض للقتل يوم أحد لولا فضل الله وقوله تعالى في هذه الآية(كتاباً مؤجلاً).
الثانية : فيه شاهد يومي متجدد للناس جميعاً بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاهد بنفسه ولاقى العدو بصدره ومقاديم بدنه دون أن يفر أو ينهزم.
وهل ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المعارك والغزوات التي تشارك فيها وعدم لجوئه للفراء أو تولي حتى في معركة بدر وحنين من العصمة المصاحبة للنبوة أم أنها فضل إضافي خاص بالسنة الدفاعية، الجواب إنه من مصاديق العصمة خاصة وأن ثباته جاء في أشد الأحوال خطورة على الإسلام، فتضرع ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الارض)( ).
لا يدل على الحصر بذات واقعة بدر، إذ تجدد ذات القتال يوم أحد بل كان أشد وأشق على الإسلام والمسلمين، ليتحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأذى في بدنه وأصحابه بصبر وإيمان ويكون مصداقاً ومقدمة لنزول الملائكة بقوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الثالثة : الإجماع على أن ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد سبب في رجوع الصحابة للقتال، وحمل الكفار على التقهقر والإنسحاب والعودة منكسرين إلى مكة كسروا ثنية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكسرهم الله عز وجل وإلى يوم القيامة، إذ قال تعالى بخصوص يوم أحد وبطشه بكفار قريش وغطفان[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الرابعة : في بقاء كسر الأسنان الأمامية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم درس تأديبي في باب الجهاد للمسلمين ومن يدخل الإسلام بعد معركة أحد وللأبناء.
الخامسة : إنه من مصاديق قوله تعالى(كتاباً مؤجلاً) فلم يحن موعد مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا يوم أحد، ليتوالى نزول آيات القرآن.
الثانية : دخول كبار السن ممن سقط عنهم فرض الجهاد المعركة وقتالهم ببسالة ألهمت المجاهدين، والذين تمنوا الموت والقتل يومئذ لتصبح من أسباب هزيمة المشركين يوم أحد.
وكان ثابت بن وقش واليمان والد حذيفة يوم أحد مع النساء في الآطام وهو بناء مرتفع محصن بسبب كبر سنهم وضعفهم عن القتال فتناجيا بينهما بأسمى معاني المناجاة وصيغ التقوى وقالا لم يبق من عمرنا(إلا ظمأ حمار)( )، كناية عن القلة وقرب الأجل، وضرباً المثل بالحمار لأنه شديد العطش، فجاءا من جهة المشركين أثناء المعركة فقاتلا وقتل المشركون ثابتاً، أما اليمان فقتله المسلمون خطأ، وتصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين.
الثالثة : قتال المؤمنات دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليكون هذا القتال تأسيساً لجهاد النساء مع سقوطه عنهن، ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحتج أو ينه على هذا القتال ولم يطلب من المرأة التي قاتلت دونه الكف والعودة إلى حيث النساء.
فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو الأنصارية، غلبت عليها كنيتها وهي ممن شهد بيعة العقبة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، خرجت أول النهار ومعها سقاء فيه ماء تتبع الأخبار وهل وقعت المعركة بين المسلمين والكفار أم لا، وإن وقعت فلمن الربح والجولة، خاصة وأن زوجها زيد بن عاصم وإبنيها حبيب وعبد الله في جيش المسلمين يقاتلون تحت لواء رسول الله صل الله عليه وآله وسلم.
ورأت أم عمارة الريح للمسلمين وهم يكرون على الكفار مع كثرة عددهم فأمتلأت نفسها بالغبطة والرضا، ثم ما لبثت المعركة أن تغيرت وصارت الكرة للمشركين بسبب ترك أغلب الرماة لمواضعهم من على الجبل فلم تقف أم عمارة مكتوفة اليدين، ولم تكتف بالصراخ والعويل لذريعة أن النساء ليس عليهم قتال، ولم تبادر بالفطرة إلى السؤال عن زوجها وولديها.
وعن أم سعد بنت سعد بن ربيع عن أم عمارة قالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس ومعى سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس، حتى خلصت الجراح إلي.
قالت: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت لها: من أصابك بهذا ؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا.
فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان( ).
وإبنها عبد الله الذي إشترك بمعركة أحد قتله مسيلمة الكذاب صبراً بعد ثباته في مقامات الإيمان وإنكاره لدعوته، إذ جيئ به إلى مسيلمة فقال له: أتشهد أن محمداً رسول الله قال: نعم، فقال: أتشهد أني رسول الله، فكان يقول: لا أسمع، فأخذ مسيلمة يقطعه عضواً عضواً حتى مات في يديه، فخرجت أم عمارة مع جيش المسلمين لمعركة اليمامة حيث قتل مسيلمة بفضل الله، ورجعت من المعركة (وبها اثنا عشر جرحا بين طعنة وضربة) ( ).
الرابعة : إختيار بعض الصحابة صيرورتهم مترسة( )، للنبي محمد صلى الله عليه وآله سلم في آية جهادية لم يشهد لها تأريخ النبوة مثلاً، لتكون من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فقد ذكر القرآن قتال وجهاد أصحاب الأنبياء معهم وليس دونهم، قال تعالى[كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ).
ويوم أحد(ترس أبو دجانة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره، والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرك، وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: ارم فداك أبي وأمي.
فأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان الظفري، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعينه على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أصح عينيه وأحسنهما.
وانتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى جماعة من الصحابة، قد ألقوا بأيديهم، فقال لهم: ما يجلسكم قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لهم: ما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبل الناس، ولقى سعد بن معاذ، قال: يا سعد، إني والله لأجد ريح الجنة من قبل أحد. فقاتل حتى قتل رضوان الله عليه، وجد به سبعون ضربة ( ).
وبين الثبات حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتراس دونه عموم وخصوص مطلق، لأن الثبات أعم ويشمل ما حول النبي وبين يديه وخلفه مع مزاولة القتال.
وقال الواقدي: ثبت بين يديه يومئذٍ ثلاثون رجلاً كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودع.
وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما لحمه القتال وخلص إليه، وذب عنه مصعب بن عمير وأبو دجانة حتى كثرت به الجراحة، جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: من رجلٌ يشري نفسه؟ فوثب فئة من الأنصار خمسةٌ، منهم عمارة بن زياد بن السكن، فقاتل حتى أثبت، وفاءت فئةٌ من المسلمين فقاتلوا حتى أجهضوا أعداء الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمارة بن زياد: ادن مني! إلي، إلي! حتى وسده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قدمه وبه أربعة عشر جرحاً، حتى مات.
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ يذمر الناس ويحضهم على القتال، وكان رجالٌ من المشركين قد أذلقوا المسلمين بالرمي، منهم حبان بن العرقة، وأبو أسامة الجشمي.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول لسعد بن أبي وقاص: ارم، فداك أبي وأمي! ورمي حبان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن وجاءت يومئذٍ تسقى الجرحى فعقلها وانكشف عنها، فاستغرب ( )في الضحك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهماً لا نصل له فقال: ارم! فوقع السهم في ثغرة نحر حبان فوقع مستلقياً وبدت عورته.
قال سعد: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك يومئذٍ حتى بدت نواجذه ثم قال :إستقاد لها سعد ، أجاب الله دعوتك وسدد رميتك! ورمي يومئذٍ مالك بن زهير الجشمي أخو أبي أسامة الجشمي، وكان هو وحبان بن العرقة قد أسرعا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأكثرا فيهم القتل بالنبل، يتستران بالصخر ويرميان المسلمين. فبينا هم على ذلك أبصر سعد بن أبي وقاص مالك بن زهير وراء صخرة، قد رمى وأطلع رأسه، فيرميه سعد فأصاب السهم عينه حتى خرج من قفاه، فنزا في السماء قامةً ثم رجع فسقط فقتله الله عز وجل ( ).
الخامسة : مع شدة القتال، وإنسحاب كثير من الصحابة من ساحة المعركة، فان نفراً من أهل البيت والمهاجرين والأنصار بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد على الموت والفداء دونه، ومن الآيات نجاتهم من القتل يومئذ مع أنهم وسط المعركة وهم علي عليه السلام والزبير وطلحة، ومن الأنصار خمسة هم: أبو دجانة، والحارث بن العتمة، وخباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت وسهل بن جنيف( ).
وتتصف هذه الآية بأنها تضم مجموعة من القوانين التي تخص الإنسان في دنياه وآخرته، وكل قانون حقيقة جلية وموعظة وعبرة وهي:
الأول : نزول الموت بكل إنسان، وحضوره يوماً عنده.
الثاني : لا يقع الموت إلا بأمر الله، وليس من حاجز بينه وبين الإنسان.
الثالث : لا شفاعة في صرف الموت لأنه قانون يحكم خلق الإنسان، وذكر الموت عذاب للكفار والمنافقين لأنه تذكير بالخروج من دنيا العمل والإختبار إلى عالم الحساب والجزاء.
وفي قوله تعالى بخصوص المنافقين[سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ]( )، ورد عن أبي مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعذب المنافقين يوم الجمعة بلسانه على المنبر ، وعذاب القبر)( ).
الرابع : بعث السكينة في نفوس المسلمين والناس جميعاً بأن الموت لا يحل بساحة أحدهم إلا بإذن الله، وأن ملك الموت ليس له قبض روح أحد إلا بأمر الله عز وجل.
وتدل موضوعية وقيد إذن الله في قبض روح الإنسان على حقيقة وهي أن الله لم يخلق الخلق ويتركه وشأنه أو يكون سير الحوادث فيه وفق قواعد ونظم خاصة تحكمه ، بل كل أمر في الحياة الدنيا لا يحدث إلا بإذنه سبحانه ، وهل منه مقدمات الموت أم أن القدر المتيقن ذات الموت أما المقدمات فهي حسب الحال والشأن ونوايا الإنسان وعزائم الغير نحوه ، الجواب هو الأول ويدل عليه قوله تعالى في آية البحث [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] وقال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ] ( ).
لقد قطعت آية البحث بطرو الموت على الإنسان ،ولكن هذا الموت مؤجل من جهات :
الأول :إتصال وإستمرار حياة الإنسان .
الثاني : أوان الموت .
الثالث : الإذن لملك الموت بقبض روح الإنسان .
وهل يمكن أن يكون التأجيل معلقاً على فعل أو أمر يخص الفرد أو الجماعة ، الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل كما لو دفع الله عز وجل الموت عن إنسان حتى تدركه التوبة والإنابة ولا يغادر الدنيا إلا بالهداية والصلاح ، أو لحين نشأة إبنه أو أبنائه الصغار ووراثتهم لمعالم الدين ، أو أن التأجيل يخص أميراً أو سلطاناً لدفع الظلم والفتنة التي تحدث بتعجيل أجله وهل يشمل موضوع الآية عكس الحالة أعلاه ، إي تقديم أجل السلطان وصاحب الشأن والتأثير الظالم تخفيفاً عن الناس ورفعاً للظلم والجور بلحاظ أن معنى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] هو التأجيل كل ساعة من ليل أو نهار ، وليس تأجيل أوان الموت عند حلوله ، وأن تقديم أجل الظالم وإنخرام أيامه أمر أخر له دليله .
المختار هو الأول وأن معنى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً]أعم من أن يختص بطرف واحد بل يشمل فضل الله عز وجل بتأجيل آجال الأنبياء والصالحين والذين لا يغادرون الدنيا إلا ويجعلون الإيمان تركة كريمة لذراريهم والأحياء من الناس عموماً والدعوة للصبر على الأذى بلحاظ أن موضوعية الآية قانون عام وإن كان سبب النزول ونظم الآيات أمراً خاصاً ولم تمر الأيام إلا وقد تم فتح مكة وصرف الله كيد الكفار .
ولما إشتد أذى قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موت عمه أبي طالب أصابه الهم والأسى عليهم وهم في حال الضلالة والجحود [فإذا هو بغمامة وإذا فيها جبريل، فناداه ملك الجبال فقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام، وقد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، فإن شئت أن أطبق عليهم الاخشبين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” بل أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده وحده لا يشرك به شيئا] ( ).
بدأت الآية بموضوع أوان الموت للتسالم بين الناس على حتمية زيارة الموت لكل واحد منهم زيارة تختلف عن حال الزوار والزيارات في الحياة الدنيا ، إذ يحضر ملك الموت ليأخذ معه المزور إلى غير رجعة ، يجذبه من بين أهله وأحبابه ويجعله جثة لا حراك فيها ، ويتغير إسمه وهيئته في الحال ويسمى عندهم الجنازة لا هّم لهم إلا التعجيل بدفنه وإمضاء ما كتب الله عز وجل من مغادرته إلى عالم الآخرة لا يصاحبه فيها إلا عمله ، ولكن هذا الصاحب لم يجف القلم فيه فقد يكون في زيادة ومضاعفة ويأتيه النماء من جهات :
الأولى : النماء والزيادة بخصوص العمل الصالح وقصد القربة والطاعة لله عز وجل .
الثانية : قاعدة التسبيب في الصالحات وهي مستقرأة من قوله تعالى [يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ] ( ) بأن يسن الإنسان سنة حسنة فيقتفي أثره إبنه أو غيره من الناس وتكون موضوعية في النية والعمل للإقتباس والتعليم من الذي فارق الدنيا من وجوه :
الأول : التعلم منه أيام حياته .
الثاني : التعلم منه بعد وفاته بالإطلاع على سيرته ، أو رؤية أثره ومحاكاته .
الثالث : التعليم منه بالواسطة كأن قرأ او سمع عن الميت فعل الصالحات والمواظبة عليها أو على نوع مخصوص منها .
الرابع : الصدود عن وصية الميت في فعل الخيرات ، وهو من المنافع العظيمة لتشريع الوصية في الإسلام والندب إليها ، [قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة] ( ).
الثالثة : إجتهاد المؤمن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتأسيس منهاج في عمل الصالحات ، لا يغادر معه الدنيا إلا وقد صار سنخية ثابتة عند الأبناء وأولى الألباب [عن جرير قال : خطبنا رسول الله {صلى الله عليه وأله وسلم} فحثّنا على الصدقة، فأبطأ الناس حتى رُئي في وجهه الغضب،
ثم إنّ رجلا من الأنصار قام فجاء بصرّة وأعطاها، فتتابع الناس، فأعطوا حتى رُئي في وجهه السرور، فقال رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} «من سن سنة حسنة كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ سنة سيّئة كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء] ( ).
ومع أن موضوع الآية عن الموت فانها ذكرت ثواب الدنيا ، وهو موضوع آخر بينه وبين الموت تناف ، ليكون الجمع بينهما في هذه الآية إعجازاً من وجوه :
الأول : إنه إعجاز ذاتي بجمع الآية بين المتضادين ، فمع تذكيرها بالموت وإخبارها عن حتميته جاءت بثواب الدنيا من غير أن ينغص ذكر الآية للموت إرادة التمتع بالنعم الدنيوية .
الثاني : إنه إعجاز غيري لآية البحث باصلاح المسلم لمغادرة الدنيا في طول إستزادته من حلاوة الدنيا والطيبات فيها فضلاً وجزاء عاجلاً من عند الله عز وجل .
الثالث: تعقب ذكر ثواب الآخرة لثواب الدنيا ، وهل يكون من الناسخ والمنسوخ في الوجود الذهني وعالم الفعل ، بحيث يتلو السلم قوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا] ( ) فيسيح ذهنه في ملذات الدنيا وكثرة الأموال والأولاد والجاه ،ويجتهد في الدعاء وسؤال توالي النعم عليه من عند الله ثم يأتي قوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا] ( ).
فينسخ هذا التصور ويغير صيغة الدعاء ، وينقطع المسلم إلى سؤال الآخرة ونعيمها ، الجواب لا ، فليس من نسخ في الوجود الذهني وموضوع السؤال ، إنما جاءت الآية لبيان أمور :
الأول : وجود ثواب وجزاء على الأفعال .
الثاني : الثواب عام ويشمل أيام الحياة الدنيا والآخرة .
الثالث: بيان إكرام الله عز وجل للمسلمين الذين ثبتوا في منازل الإيمان ، ولم ينقلبوا عن مقامات الهدى ومن الثواب ما يكون بسبب إقتفاء الناس لأثر المؤمنين في هذا الثبات وتعاهدهم للفرائض ،ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول :ومن يرد ثواب الدنيا على فعله الحسن .
الثاني : ومن يرد ثواب الدنيا على حسن نيته ، وإن تخلف قهراً عن أداء الفعل الحسن ، كما لو كان إشتاق لحج البيت الحرام ولكن شرط الإستطاعة غير متحقق عنده ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
الثالث: ومن يرد ثواب الآخرة من إقتفاء ومحاكاة غيره له بفعله الحسن .
ولو كان التعلم في سنته الحسنة وإتخاذها نبراساً وسبيل هداية بعد وفاته فهل يأتيه الثواب الدنيوي السابق من تعلم الآخرين اللاحق منه لأن الله عز وجل يعلم أن جماعة أو قوماً سيقتدون بعمله الصالح ويتخذونه قدوة ولو بعد حين ، الجواب نعم والله واسع كريم ، فان قلت ما بال شطر من هؤلاء الائمة في الصالحات يموتون في حال فقر وضر وأذى ، الجواب ذكرته آية البحث بأن الثواب الدنيوي يأتي لمن أراده وسعي إليه ورغب فيه لقوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا] ( ).
لقد قدمت الآية ثواب الدنيا وفق الترتيب الزماني والواقعي وأن الإنسان ينال نعم الدنيا قبل إنتقاله إلى عالم الآخرة ، ليكون هذا الترتيب تذكيراً بمعنى الموت وأنه إنفصال للروح عن الجسد ومغادرة للنعم الدنيوية وإنتقال إلى عالم الآخرة من غير برزخ بين الإثنين بلحاظ أن تسمية عالم القبر بالبرزخ إنما هي للبيان والتفصيل والإخبار عن وقوعه بين الحياة الدنيا وعالم النشر والحساب ، وإلا فانه في الحقيقة من عالم الآخرة إذ ينقطع معه التمتع بالحياة الدنيا ، ويعرض للحساب ولا ولي في القبر بأن ترد له الروح لأجل هذا الحساب ويدرك حاله الذي صار إليه وضياع نعيم الدنيا ، وحضور ثواب الآخرة الذي كان يريده وسعى إليه في الدنيا [عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- مُصَلاَّهُ فَرَأَى نَاسًا كَأَنَّهُمْ يَكْتَشِرُونَ قَالَ « أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ ذِكْرَ هَاذِمِ( ) اللَّذَّاتِ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ إِلاَّ تَكَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ.
فَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ مَرْحَبًا وَأَهْلاً أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَحَبَّ مَنْ يَمْشِى عَلَى ظَهْرِى إِلَىَّ فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَىَّ فَسَتَرَى صَنِيعِى بِكَ. قَالَ فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ أَوِ الْكَافِرُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ لاَ مَرْحَبًا وَلاَ أَهْلاً أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِى عَلَى ظَهْرِى إِلَىَّ فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَىَّ فَسَتَرَى صَنِيعِى بِكَ. قَالَ فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَلْتَقِىَ عَلَيْهِ وَتَخْتَلِفَ أَضْلاَعُهُ.
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِأَصَابِعِهِ فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِى جَوْفِ بَعْضٍ قَالَ « وَيُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ سَبْعِينَ تِنِّينًا لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ فِى الأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا فَيَنْهَشْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ حَتَّى يُفْضَى بِهِ إِلَى الْحِسَابِ . قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- « إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ] ( ).
ومن خصائص قوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا] ( )في المقام نجاة المؤمن من عذاب القبر بلحاظ أنه جزء من الآخرة وهل يستلزم النية التفصيلية بأن ينوي في عمله الصالحات إرادة السلامة من عذاب القبر وظلمته .
الجواب لا ،وهو المستقرأ من آية البحث بذكرها للآخرة على نحو الإجمال ، ليتخشى الثواب مواطن الآخرة كلها والله واسع كريم لما في هذه الإرادة من الإقرار باليوم الآخر والتسليم بأن الموت بداية لعالم جديد مؤجل إلى حين حلول الأجل ويكون موضوع الآية على وجوه :
الأول : ومن يرد ثواب اليسر في حضور ملك الموت وقبض الروح ، إذ تتباين هيئته وصورة ملك الموت عند قبض الأرواح ، فيأتي بهيئة حسنة مع رفق بالمؤمن ، بينما يأتي بصورة مفزعة ومخيفة للكافر لقبض روحه مع الشدة والقسوة .
الثاني :إرادة ثواب أول ليلة لدخول القبر والسلامة من ضغطة القبر ووحشة القبر .
الثالث :سؤال الثواب بصيرورة القبر روضة من رياض الجنة، لما حضرت كعباً الوفاة أتته أم بشر بنت البراء بن معرور قالت: يا أبا عبد الرحمن إن لقيت أبي فاقرأه مني السلام فقال: لعمر الله يا أم بشر لنحن أشغل من ذلك. فقالت أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” إن أرواح المؤمنين نسمةٌ تسرح في الجنة حيث تشاء وإن نسمة الفاجر في سجينٍ؟ قال: بلى. قالت: هو ذاك( ).
الرابع : رجاء التخفيف في الحساب يوم الحشر .
الخامس : طلب الأمن من الخوف والفزع يوم القيامة ، ويتجلى بالإستثناء الوارد في قوله تعالى [وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ] ( ).
السادس : النجاة في مواطن يوم القيامة ، والعبور على الصراط والسلامة من النار ولهيبها .
السابع : إرادة الثواب بالفوز بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : دخول الجنة والإقامة فيها ،وهو في الأصل في مصاديق ثواب الآخرة وهو المتبادر من لفظ الآية لإتصاف بالدوام ولأنه آخر أحوال المؤمن الذي يعمل الصالحات .
التاسع : قرب ثواب الدنيا من العبد ، ورغبة الإنسان في النعيم العاجل .
العاشر :إرادة تجلي إعجاز الآية بالثواب العاجل في الدنيا ليدرك المؤمنون ما ينتظرهم من النعيم الدائم في الآخرة ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( )وتحتمل المسارعة إلى المغفرة في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إنها من ثواب الدنيا .
الثاني : هذه المسارعة من جنس العمل أما الثواب فهو الأجر والثمرة التي تترتب على العمل .
الثالث: هذه المسارعة من ثواب الآخرة .
الرابع : إنها من ثواب الدنيا والآخرة ، والصحيح هو الأول والثاني وتتجلى المسارعة بالإستغفار وعمل ما يمحو الذنوب بفضل الله ومن الثواب العاجل في الدنيا الذي ذكرته آية البحث [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا] الهداية إلى سبيل المغفرة والسعي فيها وحرف الجر [على] يفيد الإستعلاء وفق الصناعة النحوية بلحاظ أنه الغالب في معانيها ودلالاتها سواء كان بالإستعلاء مجازياً أو معنوياً أو حسياً ، والأولى إيجاد معنى آخر لعلى أقرب من الإستعلاء في ذات المعنى منه أنه بلغة ومدخل ونوع طريق .
ويفيد التعدد والغيرية ، فهناك بلغة وهي المسارعة والإستغفار وهناك غاية وهي العفو والمغفرة والسكن في الجنة ومن الإعجاز في الآية أعلاه أمور :
الأول : مجئ الأمر من الله للمسلمين والمسلمات جميعاً بالبلغة وبيان الوسيلة إلى المغفرة .
الثاني : تجدد الأمر بالمسارعة إلى المغفرة من عند الله في كل مرة يتلو المسلم الآية أعلاه أو يستمع لها ، ولو سارع إلى المغفرة فهل يجب في المرة الثانية المسارعة أم تجزي المرة الواحدة الجواب هو الأول ، ففي كل مرة وفي كل ساعة يجب على المؤمن المسارعة إلى فعل الخير والصلاح وتبين الآية وصيغة الجمع فيها حاجة المسلمين والمسلمات إلى المغفرة.
وتقدير الآية بالنسبة للمسلم : وسارع إلى مغفرة ذنبك وذنوب غيرك، فان قلت كيف تكون المسارعة لمغفرة ذنوب الغير.
الجواب بالمبادرة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعوة الناس إلى الله سبحانه القريب منهم والبعيد وبالإستغفار للغير من الأحياء والأموات فيكون تقدير الآية أعلاه : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم لوالديكم بالإستغفار لهم وبالعمل الصالح الذي يترشح عنه الثواب لهم.
الثالث : تجدد الأمر والبعث إلى دخول الجنة بالسعي إليها بتعاهد الإيمان وأداء الفرائض ولزوم إتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة وعدم الإنقلاب على الأعقاب .
وتقدم الآية ثواب الآخرة على ثواب الدنيا، لوجوه:
الأول : التقدم الزماني للحياة الدنيا على الآخرة.
الثاني : الدنيا مزرعة للآخرة ووعاء للأعمال.
الثالث : ثواب الدنيا أمر حال وعاجل، وثواب الآخرة دائم ومستديم.
ولو طلب الإنسان ثواب الدنيا وأمدّ الله عز وجل في عمره بقوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً] فزهد في هذا الثواب أو إرتوى وشبع منه وطلب ثواب الآخرة فهل يصح منه بلحاظ آية البحث أم أنه استوفى نصيبه في طلب ثواب الأولى لأن الواو في[وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ] تفيد المغايرة والتعدد.
والصحيح هو الأول، إذ تدعو الآية الكريمة المسلمين والمسلمات كل يوم إلى رجاء ثواب الآخرة، والعمل الذي يجتني منه الثمار في الآخرة والذي يتجلى باللبث الدائم في النعيم.
ومع قلة كلمات آية البحث فقد تكررت فيها خمس كلمات على شعبتين:
الأولى : ومن يرد ثواب.
الثانية : نؤته منها.
وتضمنت آية البحث أموراً:
الأول : قانون لحوق الموت لعموم الناس، وعدم إستثناء أحد، وما ورد في الفلسفة من قاعدة بأن ما من عام إلا وقد خص ينخزم هنا لبيان أن أوهام البشر قاصرة عن الإحاطة بفضل الله.
الثاني : بيان حصر وفاة أي إنسان وحلول الأجل بمشيئة وإذن الله، وفيه بعث للسكينة في قلوب المؤمنين لحضور وشرطية الإذن الإلهي بأوان الأجل، من جهات:
الأولى : التأجيل والأمهال في أجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى يتم رسالته ولكن هذا لا يتعارض مع لزوم تعاهد سلامته والدفاع عنه ودفع كيد الكفار، وصرف أذى المنافقين.
الثانية : تلقي نبأ وفاة النبي عند حصولها بالسكينة والإسترجاع لأنها لم تقع إلا بإذن الله، قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
الثالثة : على فرض أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قتل في ميدان المعركة أو قتل مسموماً لقوله تعالى في الآية السابقة[أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ]( )، كما هو الحال فليس من تلاوم بين المسلمين لأن أجله لم يحن إلا باذن الله، ومن الإعجاز في وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها كالبرزخ بين الموت والقتل، إذ أنه أكل لقمة من لحم شاة مسموم، وبقي بعده سنة.
وعن أنس بن مالك قال: ان امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجئ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألها عن ذلك فقالت اردت لاقتلك قال ما كان الله ليسلطك على ذلك أو قال على قال فقالوا ألا تقتلها قال لا قال فما زلت اعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( ).
فيصدق عليه أن النبي مات موتاً، وأنه قتل في رواية أن زينب بنت الحارث زوجة سلام بن مشكم سألت: أي جزء من الشاة يحبه محمد، قالوا: الذراع، فذبحت عنزاً لها وصلتها، ووضعت عليها سماً لا يمهل آكله، فسمت الشاة واكثرت في جهة الذراعين والكتف وقدمت الذبيحة إلى النبي ومن حضر من أصحابه وفيهم بشر بن البراء وكان سيد قومه بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن أباه البراء بن معرور هو أول من بايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأنصار ليلة العقبة وكان كبيرهم وسيدهم، ولأن( النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل بني سلمة ” من سيدكم ” قالوا: الجدبن قيس على بخل فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” وأي داء أدوأ من البخل بل سيد بني سلمة الأبيض الجعد بشر بن البراء ( ).
وتناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذراع المسموم وانتهش منها وازدرد لقمته وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث[كِتَابًا مُؤَجَّلاً] وإزدرد بشر لقمته، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه، ارفعوا أيديكم فان هذا الذراع يخبرني أنه مسموم ومات بشر حينئذ، وبخصوص المرأة التي سمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقوال:
الأول : لم يعاقبها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتركها.
الثاني : ذكر أنها أسلمت وهو قول الزهري.
الثالث : قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه المرأة التي أرادت قتله وقتل عدد من أصحابه معه غدراً وغيلة ومكراً بالسم.
الرابع : قتلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصاصاً ببشر.
الخامس : سلمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل بشر الذين قتلوها.
السادس : تركها النبي أولاً ثم لما مات بشر من الأكلة قتلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والصحيح ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتلها وهو المروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري، ولم يرد خبر وتفاصيل عن قتلها.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : إكرام المسلمين والمسلمات.
الثانية : تأديب المسلمين وتنمية ملكة التقوى في نفوسهم من وجوه:
الأول : الحث على دخولهم في طاعة الله عز وجل، وطاعة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : لزوم عدم التفريط بصيغ الطاعة.
الثالث : عدم تخلف بعض المسلمين في الإمتثال للأوامر والنواهي القرآنية.
الرابع : إظهار معاني التآلف بين المسلمين، وإجتناب الأخلاق المذمومة من الغيبة والحسد ونحوها، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه) ( ).
الخامس : الإحتراز الشخصي والجمعي من القبائح والآثام.
المسألة الثالثة : من إعجاز الآية أن النهي والتحذير منها ورد بخصوص إتباع خطوات الشيطان ليكون النهي عن الفواحش والذنوب كافة كما جاءت الآية بالأمر للمسلمين بالدخول في السلم مطلقاً، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وهذا التفضيل في الآية من وجوه:
الأول : النداء التشريفي(يا أيها الذين آمنوا).
الثاني : بقاء هذا الثناء على المسلمين في أجيالهم المتعاقبة وإلى يوم القيامة، من جهات:
الأولى : الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إمام المتقين.
الثانية : الثناء على الطبقة الأولى من المسلمين.
الثالثة : الثناء على التابعين.
الرابعة : الثناء على أجيال المسلمين المتعاقبة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنتم توفون سبعون أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله) ( ).
الخامسة : إستحضار الثناء على الأجيال الأولى من المسلمين بحضرة وزمان الأجيال اللاحقة من المسلمين، وكذا العكس.
السادسة : دعوة أبناء المسلمين للشكر لآبائهم على إختيار الإيمان.
الثالث : مجيء الآية بالأمر بدخول السلم والنهي عن إتباع الشيطان.
الرابع : تقريب المسلمين للعمل بمضامين هذه الآية وصرف الموانع عنهم.
الخامس : طاعة المسلمين لله بالدخول في السلم، والنفرة من الشيطان وأفعاله.
السادس : توارث المسلمين لوجوب الدخول في السلم والإمتناع عن إتباع الشيطان.
السابع : تلقي المسلمين الأوامر والنواهي من عند الله، وعملهم بمضامينها.
الثامن : إصلاح المسلمين لمقامات الرياسة والإمامة في عمل الصالحات وبناء صرح الإيمان.
التاسع : إقامة الحجة على الكفار بوجود أمة مؤمنة بالله تعمل بطاعته وتؤمن بأنبيائه.
العاشر : بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، فتآلف المسلمين قوة لهم.
الحادي عشر : تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا، والتمييز بين الحق والباطل.
الثاني عشر : إحتراز المسلمين من فعل السيئات، وإجتناب محاكاة الفاسقين في معاصيهم.
الثالث عشر : إستحضار عداوة الشيطان لآدم وإغوائه له ولحواء بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عنها.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن قيس قال: نهى الله آدم وحوّاء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة ، فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية ، فكلم حوّاء ووسوس إلى آدم فقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين، فقطعت حوّاء الشجرة فدميت الشجرة وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدوّ مبين}، لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال : يا رب أطعمتني حواء . قال لحوّاء : لم أطعمتيه؟
قالت: أمرتني الحية. قال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس. قال: ملعون مدحور ، أما أنت ياحوّاء كما أدميت الشجرة تدمين في كل هلال ، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جراً على وجهك ، وسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر ، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ)( ).
الرابع عشر : بيان حقيقة وهي الملازمة بين الإسلام والسلم ولزوم تعاهد الأخوة الإيمانية، وبغض الحروب والمعارك إلا تلك التي تكون دفاعاً عن الثغور وتثبيتاً لصرح التوحيد في الأرض.
المسألة الرابعة : ذكرت الآية السابقة قانون موت الرسل، وأخبرت عن إنقضاء زمان الرسل السابقين عند نزول القرآن على صدر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأكدت أنه لاحق بهم أما بالموت على الفراش أو بالقتل لبيان أن حياته كلها جهاد في سبيل الله، وأنه كان القائد والإمام للجيوش الإسلامية، فلم يتخلف عن الخروج في الغزوات، وعند الخروج لم يبق في الصفوف الخلفية، بل كان في قلب الجيش ووسط المعركة حتى نادى بعض المشركين يوم أحد قائلاً: قتلت محمداً، ليقي الله عز وجل المسلمين هذه الإشاعة موضوعاً وأثراً، ويفضح زيفها والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا زال وسط الميدان، وتكون مصداقاً لقوله تعالى[أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ]( ).
ويبين قوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( )، أن النبوة والرسالة لا تكتب للإنسان الخلود في الدنيا، وأن الموت يأتي على الناس جميعاً، ومنهم الأنبياء وفيه خير مواساة للمسلمين بأن سيد البشر وخاتم الأنبياء لابد وأن يغادر الدنيا بالموت فيجب على المسلمين ألا ينقلبوا على أعقابهم في العبادات وأحكام الحلال والحرام والقضاء والعدل، والميزان والميراث وفق الكتاب.
ولقد كان المسلمون في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحرصون على تلاوة آيات القرآن، والعمل بمضامينها فهل من الإنقلاب الغفلة عنها.
الجواب نعم، وهذه الغفلة منفية عن المسلمين وإلى يوم القيامة لأمر الله بتلاوة القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني، لتكون هذه التلاوة من مصاديق إرادة المسلمين الآخرة وسعيهم لها، فالذي يقرأ آية البحث منهم لا يكون بالخيار بين ثواب الدنيا أو ثواب الآخرة إنما تدل تلاوته على نحو الوجوب التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله سلم والتسليم بالتكاليف الشرعية، وتقدير الآية: ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها والمسلمون يريدون الآخرة.
ومن أسرار هذه الإرادة بلحاظ الآية السابقة أنهم ثبتوا في منازل الإيمان ولم ينقلبوا أو يرتدوا عن الإسلام عند وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل يعلمون بأن الله عز وجل إختاره لجواره كما إختار الرسل الذين سبقوه وهو من أسرار ما ورد في الآية السابقة(قد خلت من قبله الرسل).
وجاء حديث الإسراء للإخبار بإلتقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الأنبياء وصلاته، وأخرج النسائي وابن مردويه عن طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أتيت ليلة أسرى بي بدابة فوق الحمار ودون البغل ، خطوها عند منتهى طرفها . . . كانت تسخّر للأنبياء قبلي ، فركبته معي جبريل فسرت ، فقال : انْزِلْ فَصَلِّ . ففعلت . . . فقال : أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجر إن شاء الله . ثم قال : انزل فصَلِّ . ففعلت فقال : أتدري أين صليت؟ صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى ، ثم قال : انزل فَصلِّ . فصليت فقال أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى . ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء عليهم السلام ، فقدَّمني جبريل فصليت بهم .
ثم صعد بي إلى السماء الدنيا فإذا فيها آدم فقال لي : سلم عليه فقال: مرحباً بإبني والنبي الصالح .
ثم صعد بي إلى السماء الثانية ، فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ويحيى ، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة ، فإذا فيها يوسف . ثم صعد بي إلى السماء الرابعة ، فإذا فيها هارون . ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فإذا فيها إدريس . ثم صعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها موسى ، ثم صعد بي إلى السماء السابعة فإذا فيها إبراهيم ، ثم صعد بي إلى فوق السبع سموات ، وأتيت سدرة المنتهى فغشيتني ضبابة . . . فخررت ساجداً ، فقيل لي : إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة ، فقم بها أنت وأمتك ، فمررت على إبراهيم فلم يسألني شيئاً ، ثم مررت على موسى فقال لي : كم فرض عليك وعلى أمتك؟ قلت : خمسين صلاة . قال : إنك لن تستطيع أن تقوم بها أنت ولا أمتك ، فاسأل ربك التخفيف . فرجعت فأتيت سدرة المنتهى فخررت ساجداً . . . فقلت : يا رب ، فرضت علي وعلى أمتي خمسين صلاة ، فلن أستطيع أن أقوم بها أنا ولا أمتي . . . فخفف عني عشراً . فمررت على موسى فسألني فقلت : خفف عني عشراً . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فخفف عني عشراً ثم عشراً حتى قال : هن خمس بخمسين ، فقم بها أنت وأمتك . فعلمت أنها من الله صرى( ). فمررت على موسى فقال لي : كم فرض عليك؟ فقلت : خمس صلوات، فقال : فرض على بني إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما ، فقلت: إنها من الله فلم أرجع)( ).
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجاب موسى عليه السلام: قد راجعت ربي وسألته حتى أستحيت منه فما أنا بفاعل)( ).
وليس من تعارض بين جمع الأنبياء في بيت المقدس لصلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهم ليلة الإسراء وبين رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء عند عروجه في السماء ويحتمل وجوها:
الأول : حضور أرواح الأنبياء للصلاة في بيت المقدس.
الثاني : صلى الأنبياء بأجساد مثالية تشبه أجسادهم في الحياة الدنيا، بحيث لو رآهم أهل زمانهم لعرفوهم.
الثالث : نزول الأنبياء بأجسادهم وأرواحهم إلى بيت المقدس للصلاة.
والصحيح هو الأخير، ويحمل الكلام العربي على الحقيقة إلا مع القرينة الصارفة إلى المجاز، لقد جمع الله عز وجل الأنبياء في بيت المقدس بآية ومعجزة من بديع صنع الله في مقابل إسراء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الليلة إلى بيت المقدس بقوله تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]( )، ليعود الأنبياء إلى مقاماتهم في السماء ويكونوا باستقبال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند عروجه في السماء وفيه وجوه:
الأول : تريث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه جبرئيل وميكائيل إلى أن عاد الرسل إلى منازلهم.
الثاني : عروج الرسل السابقين في طبقات السماء أسرع من عروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفارق الجسم الإنساني الدنيوي.
الثالث : صعود جبرئيل وميكائيل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برفق ولطف وتأن ليرى معالم السماء والآيات الكونية وفي صعود إبراهيم أيام حياته في السماء ورد قوله تعالى[وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الرابع : شوق الأنبياء للعودة إلى منازلهم في السماء يجعلهم يصعدون لها بسرعة، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضيف في السماء تلك الليلة.
والمختار هو الثالث والرابع فليس من تريث في المقام كما أن الجسم الإنساني ليس سبباً أو علة في قلة سرعة العروج لأنه معجزة ومن مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
وجاءت آية البحث بالموضوع الأعم للموت الشامل للناس جميعاً، وأن أي إنسان لا يموت إلا باذن الله، وأنه سبحانه هو الذي يحفظ النبي محمداً إلى أوان أجله الذي لا تحل ساعته إلا باذن الله.
لقد جاءت المعارك والحروب على أرواح عدد من المسلمين فوقعوا شهداء كما في إنتقال سبعين شهيداً إلى الرفيق الأعلى في معركة أحد، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبر عن شوقه للإلتحاق بهم.
المسألة الخامسة : بيان موضوعية الله في مقادير الأمور وأحوال الناس في الدنيا من حين خروجهم لها وتقلبهم في الليل والنهار ومغادرتهم لها وتوالي الآيات عليهم ،قال تعالى[وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
وفي الآية بيان قانون كلي، وهو أن موت كل إنسان أمر قطعي ولكنه مؤجل، قال تعالى[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، نعم قد يكون التأجيل أكثر من المألوف والمتعارف عند الناس ولكن بشرط ورود الدليل الشرعي.
أخرج بن أبي حاتم عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية . جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفاً من كل هالك ، ودركاً من كل ما فات فبالله فثقوا ، وإياه فأرجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب، فقال علي : هذا الخضر( ).
وقد ورد ذكر الخضر في القرآن من غير تصريح باسمه في قصة موسى عليه السلام، وعن ابن عباس قال: حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل ، فسئل : أي الناس أعلم؟ فقال : أنا . فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه : أن لي عبداً بمجمع البحرين وهو أعلم منك . قال موسى : يا رب ، كيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتاً تجعله في مكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثَم . فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ، ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما ، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر { فاتخذ سبيله في البحر سرباً }( ).
وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق ، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى: { لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً } قال : ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به فقال له فتاه { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً } قال : فكان للحوت سرباً ، ولموسى ولفتاه عجباً . فقال موسى { ذلك ما كنا نبغي فارتدّا على آثارهما قصصاً } .
قال سفيان : يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة ، ولا يصيب ماؤها ميتاً إلا عاش . قال : وكان الحوت قد أكل منه ، فلما قطر عليه الماء عاش . قال : فرجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى ، فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام؟ قال : أنا موسى . قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نَعَم أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً { قال إنك لن تستطيع معي صبراً }( ) يا موسى ، إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلَمُهُ أنت ، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه . فقال موسى { ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً } فقال له الخضر { فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً فانطلقا } يمشيان على ساحل البحر ، فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبا في السفينة فلم يفجأه إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلَهَا؟ . { لقد جئت شيئاً إمْرَا } فقال : { ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً } .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كانت الأولى من موسى نسياناً ، قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة ، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل ، إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر بيده فاقتلعه فقتله ، فقال له موسى : { أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً } قال : وهذه أشد من الأولى { قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض } قال : مائل ، فأخذ الخضر بيده هكذا فأقامه ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا { لو شئت لاتخذت عليه أجراً } فقال : { هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً } .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما( ).
الثالثة : دلالة صيغة التبعيض على أن العطاء للعبد من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قلة وكثرة، وقد تكون الزيادة في نعم الدنيا مقدمة لهداية الإنسان وزيادة إيمانه فيأتيه فضل الله دفعياً، وقد تكون سبباً لتمادي العبد في إرتكاب السيئات.
عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، عن ربّه عزّ وجلّ قال : «من أهان لي وليّاً، فقد بارزني بالمحاربة، وإنّي لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وإنّي لأغضب لهم كما يغضب الليث الحرد، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره إساءته، ولا بد له منه، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولسانا ويداً ومؤيداً، إن سألني أعطيته وإن دعاني استجبت له .
وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة،
ولو أعطيته إياه دخله العجب فأفسده، وإنّ من عبادي المؤمنين،
لمن لا يصلحه إلاّ السقم ولو صححته لأفسدهُ ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلاّ الصحّة، ولو أسقمته لأفسده ذلك.
وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلاّ الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلاّ الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك. إنّي أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم إنّي عليمٌ خبيرٌ( ).
الرابعة : بيان قانون وهو أن تأجيل أوان الموت لا يعني بقاء ذات الرزق المكتوب للعبد بأجله الأول وإنبساطه على أيام حياته والنافلة فيها، بل مع تأجيل حضور الموت تنفتح للعبد أبواب مستحدثة من الرزق الكريم.
ولو سأل المسلم الله عز وجل إطالة عمره فكل يلزم سؤال إقتران زيادة الرزق معه، الجواب وإن كان هذا السؤال محبوب في ذاته ،وهو من الإلحاح في الدعاء المندوب إليه.
وقد يريد الإنسان ثواب الدنيا ولكن مع إطالة عمره يلجأ إلى التوبة، ويبادر إلى الإنابة والإستغفار ويترك عرض الحياة الدنيا، ويتطلع إلى ثواب الآخرة، ليكون من منافع قوله تعالى[وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا]، الآية دعوة الناس للإنتقال من طلب الدنيا واللهث وراء زينتها إلى السعي إلى الآخرة ورجاء الإقامة الدائمة في نعيمها.
وأخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير عن رجل لم يسمه في المرسل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يسأل .
وأخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير عن رجل لم يسمه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يسأل ، وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج( ).
ولو سأل المسلم الله عز وجل تهيئ أسباب العبادة وإعانته على أداء الفرائض، وإصلاحه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهل هو من ثواب الدنيا الجواب نعم، ليكون ثواب الدنيا مدخلاً ومقدمة لثواب الآخرة، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، فطلب ثواب الدنيا في طاعة الله عز وجل من الإستقامة والهدى، وهو من الإعجاز في آية البحث ودلالاتها والإجتهاد في العبادة من فضل الله ،وكذا الجمع بينه وبين سؤال زينة الدنيا والطيبات من الرزق.
الخامسة : بعث المسلمين والناس جميعاً على جريان شكرهم لله على الألسنة لفضله ورزقه الكريم وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا البعث من وجوه:
الأول : الوعد الكريم من عند الله بالجزاء.
الثاني : تغشي الجزاء لأحوال الإنسان في الدنيا والآخرة لتكرار لفظ(نؤته منها) في الآية بما يتعلق بالنشأتين على نحو الإستقلال.
الثالث : الفورية في الجزاء وحضوره عند المسلم بحسن السمت والتضرع لقوله تعالى[وَسَنَجْزِي] فلم تقل الآية (ثم نجزي) لأن (ثم) تفيد التراخي.
الرابع : بيان قانون وهو أن طلب ثواب الدنيا لا يمنع من الجزاء من عند الله بشرط تقييده بالشكر لله عز وجل على النعم، ومنها نعمة عدم الإنقلاب عن الإسلام.
الخامس : في الآية ترغيب بالثبات على الإيمان عند مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، وحثهم على التقيد بالواجبات، والإنفاق في سبيل الله الذي هو من مصاديق الشكر لله
(وعن أبي الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يؤتى بصاحب المال الذي أطاع الله فيه وماله بين يديه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله : أمض فقد أديت حق الله فيّ . ثم يُجاء بصاحب المال الذي لم يطع الله فيه وماله بين كتفيه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله : ويلك ألا أديت حق الله فيّ، فما يزال كذلك حتى يدعو بالويل والثبور ( ).
التفسير
قوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ]
تأتي (إلا) أداة للإستثناء بأن يكون ما بعدها مستثنى مما قبلها فلا يصح التالي إلا مع وجود الأول وهو المستثنى منه، وغالباً ما يأتي الكلام قبل(إلا) تاماً ، وأركان الإستثناء الثلاثة:
الأول : المستثنى منه.
الثاني : أداة الإستثناء.
الثالث : المستثنى .
مثل: وردت البسملة في أول السور إلا التوبة .
ويكون الإستثناء على قسمين:
الأول : الإستثناء التام المتصل: أي الذي يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه، كما في قوله تعالى[قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الثاني : الإستثناء التام المنقطع: كما في قولك: صليت الصلاة اليومية إلا صلاة تحية المسجد) فصلاة تحية المسجد ليست من اليومية.
وتأتي(إلا) لإفادة الحصر والبيان التعييني، ومنه قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ] ( ) لعدم وجود مستثنى عام يتعلق به الإستثناء .
وتضمنت آية البحث الإخبار عن حلول الموت والأجل بصيغة المضارع [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] ويراد منه إستغراق أفراد الزمان الطولية الثلاث ، الماضي والحاضر والمستقبل، وصيغة المضارع لتذكير الناس مجتمعين ومتفرقين بذكر الموت وعدم غيابه عن الذاكرة بما يؤدي إلى التفريط بالواجبات ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله [أذكروا هادم اللذات]( ).
ومن لم يذكره فأن الله عز وجل يتفضل على الناس بالتذكير به ، مع التدبر في موضوعه وما بعده من العوالم .
ويدل ورود الفعل الماضي الناقص في الآية أعلاه أن أوان وأجل موت الإنسان هو في علم الله ومكتوب عنده إنما يكون وقوع الفعل وحدوث إنفصال الروح عن الجسد في أوانه اللاحق ، وهذا العلم من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )عندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض ، فمن علمه تعالى إن الإنسان ليس كالملائكة في طول العمر ، فحتى لو أفسد فيها وسفك الدماء فان مغادرته لها حتمية وليس بين عيشه في الدنيا وأفعاله فيها وبين موته إلا مدة قليلة هي مقدار العمر ، وهو المستقرأ في قوله تعالى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] ( ).
[عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاء ملك الموت إلى نوح عليه السلام فقال : يا أطول النبيين عمراً كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: كرجل دخل بيتاً له بابان فوقف وسط الباب هنيهة ثم خرج من الباب الآخر]( ).
قوله تعالى[إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ]
تبين الآية قانوناً كلياً وهو أن الموت لا يحل بساحة الإنسان ولا تقبض روحه إلا بإذن الله تعالى، وبأمره وبمشيئته، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، بلحاظ إنفراد ملك الله عز وجل للخلائق والأشياء بأمور:
الأول : إنه ملك خلق وإيجاد.
الثاني : الإبداع في ملك الله وعدم سبق مثل لملكه في القدرة والكيفية والجنس والزينة ودلائل الحكمة وشآبيب الرحمة.
وعن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال، أحداهما: أنا فطرتها. يقول: أنا ابتدأتها)( ).
الثالث : حاجة السموات والأرض وما فيها إلى إرادة ومشيئة الله في بقائها وإستدامتها وحركتها وإنتظامها وأرزاقها، لذا أخبرت آية البحث بأن الموت لا يأتي للإنسان إلا بإذن الله، أي أن أيام الإنسان في الحياة الدنيا قبل الموت هي أيضاً بإذن الله.
الرابع : عدو طرو تغيير في ملك الله عز وجل إلا بمشيئته سبحانه، وهو رحمة بالخلائق وسبيل حصر لسلامتها، قال تعالى[لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا]( )، للتزاحم والتعارض في الإرادة ولو على نحو السالبة الجزئية، ولأن غير الله من الموجودات والخلائق لا يستطيع الإرتقاء إلى منزلة الإله، فهم إذا إجتمعوا لإيجاد كتاب مثل القرآن الموجود بين ظهرانيهم لأصابهم العجز واليأس والخزي.
وتدل الآية أعلاه على أن الفساد والتصادم بين الأفلاك والكواكب لن يحدث أبداً، لذا جاء الإخبار عن طيها عند قيام الساعة الذي يدل في مفهومه على بقائها إلى يوم القيامة، قال تعالى[يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( ).
ولم يرد لفظ(السجل) في القرآن إلا في الآية أعلاه، وكذا كلمة طوى، ونطوي الآية أعلاه بثلاث كلمات في القرآن من بين أربعة في قوله تعالى[يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( ).
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : السجل ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له ، فأبصر فيها خلق آدم وما فيه من الأمور فأسّر ذلك إلى هاروت وماروت ، فلما قال تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} قال: ذلك استطالة على الملائكة)( ).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن السدي قال: السجل ملك موكل بالصحف ، فإذا مات دفع كتابه إلى السجل فطواه ورفعه إلى يوم القيامة)( ).
وعن ابن عمر قال:
الأول : السجل ملك، فإذا صعد بالإستغفار، قال: إكتبوها نوراً.
الثاني : السجل هو الصحيفة، تطوى على ما فيها من الكتابة، عن مجاهد وقتادة( ).
الثالث : السجل اسم كاتب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أخرجه أبو داود والنسائي وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس، وعنه أيضاً السجل هو الرجل، وقال ابن مردويه إنه بلغة الحبشة( ).
والصحيح هو الأول والثاني، ولا مانع من كون الثالث في طوله إلا مع القرينة، والدليل على الخلاف.
وتبين الآية الحكمة الإلهية في عمارة الإنسان الأرض ثم مغادرة الناس بالتعاقب من الحياة الدنيا بحيث لا تتعطل فيها عمارتها، ومعاملات الناس فيها، وهو من اللطف الإلهي بالناس وتيسير إقامتهم على علة خلقهم وهي عبادتهم لله عز وجل وتجلى هذا القانون بأول حالة موت في حياة الناس والذي جاء بقتل هابيل بن آدم ظلماً ومع قلة عدد سكان أهل الأرض ولم يكونوا تجاوزوا عدد أصابع اليدين فقد حصل التنافس والجور والقتل الذي أشارت إليه الملائكة بقولها[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ولكن ذكر الله عز وجل في الآرض لم ينقطع بهذا القتل، وكذا الحياة الإجتماعية والنكاح والإنجاب وهو من أسرار رد الله عز وجل على الملائكة بخصوص إحتجاجها أعلاه[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عن سفيان بن عيينة بسنده إلى ابن عباس قال: لما قتل ابن آدم أخاه قال آدم صلى الله على نبينا وعليه السلام: من الوافر
تغيرت البلاد ومن عليها … فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون … وفات بشاشة الوجه الصبيح
قتل قابيل هابيلاً أخاه … فواحزني على الوجه المليح
فأجابه إبليس لعنه الله: من الوافر
تنح عن البلاد وساكنيها … فبي في الخلد ضاق بك السيح
وكنت بها وزوجك في رخاء … وقلبك من أذى الدنيا مريح
فما انفكت مكايدتي ومكري … إلى أن فاتك الثمن الربيح
فلولا رحمة الجبار أضحى … بكفي من جنان الخلد ريح( ).
ومن أسرار قوله تعالى(باذن الله) أن الموت يجري بين الناس بنظام وإنتظام يبين قدرة الله عز وجل وحكمته في تدبير الخلق وبما يجعل الملائكة والناس منقادين طائعين لله عز وجل، وهو الحكيم الذي احسن تدبير كل بديع. فخلق الموت وجعله خاتمة للحياة وزمان التكليف، ومدة الاختبار، الى جانب ما فيه من أبواب المنفعة للناس، وتنظيم شؤون حياتهم واعانتهم على امور الدنيا والآخرة فقد روي عن هشام بن سالم عن الامام جعفر الصادق عليه السلام قال: ان قوماً اتوا نبياً لهم فقالوا: ادع لنا ربك يرفع عنا الموت فدعا لهم فرفع الله تبارك وتعالى عنهم الموت، وكثروا حتى ضاقت بهم المنازل وكثر النسل، وكان الرجل يصبح فيحتاج ان يطعم اباه وامه وجده وجد جده ويرضيهم ويتعاهدهم، فشغلوا عن طلب المعاش فاتوه فقالوا: سل ربّك ان يردّنا الى آجالنا التي كنا عليها فسأل ربه عز وجل فردّهم الى آجالهم.
أي ان الموت رحمة للناس وركن من عالم التكوين وزينة للحياة الدنيا لمن يعلم انه مرحلة انتقال الى عالم الخلود ويحرص على اقتران العمل اللازم بالعلم والادراك.
لقد جعل الله الموت واعظاً للانسان ورادعاً ومؤدباً له. يعلم انه ملاقيه فيجتنب فعل القبيح ويمتنع عن التوغل اللاشرعي في دروب الانانية والطمع والطغيان بل انه يحرص على التواضع ولايبتعد عن الزهد (لذلك روي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (لولا ثلاثة في ابن آدم ما طأطأ رأسه شيء: المرض والموت والفقر، وكلهن فيه وانه لمعهن وثّاب)( ).
ليكون إستحضار الإنسان لأجله وحتمية موته سبباً للسلامة من الزهو والغرور والطغيان، وجمع الأموال بالنهب والسرقة وضروب الباطل، ليكون إتعاظ الإنسان بخصوص موضوع الموت ورؤية الناس يموتون، وعدم فوات الملوك والسلاطين من سطوة وحضور الموت.
وهذا الحضور يختلف عن غيره من الخلائق إذ أنه لايغادر إلا وتطوى صحيفة صاحبه في الحياة الدنيا، فقد تقلع شجرة وتبقى فيها الحياة لأيام وأشهر وقد يقطع ماء النهر ويبقى الماء في وعائه الأرض يتناقص تدريجياً، أما الموت فانه يقطع صلة الإنسان بالدنيا على نحو التمام فيصبح جثة هامدة، فكيف يكون تفضيل الإنسان في هذا الباب وفق قوله تعالى[وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا]( ).
جاء الجواب في آية البحث بقوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً] فيعطى الإنسان مهلة بينه وبين الموت، وليس من مهلة في حياته أطول منها إذ أن معنى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً] على وجوه:
الأول : سلامة الجنين في بطن أمه حين الولادة بلطف من عند الله، عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق “إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك” أو قال: “يبعث إليه الملك بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد” قال: “وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها( ).
الثاني : حفظ الإنسان في فترة رضاعته وتمييزه وصباه تلك الحال التي يكون فيها عاجزاً عن الذب عن نفسه ودفع المهالك والأضرار عن حواسه وبدنه، خاصة وأنها تستمر لسنوات من عمر الإنسان، وكل يوم منها يمر عليها هو من مصاديق قوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً].
الثالث : فترة البلوغ والشباب والفتوة.
الرابع : عند الكهولة والكبر والشيخوخة.
وفي ترتيب أحوال الإنسان(مَا دَامَ فِي الرَّحِمِ فَهُوَ جَنِينٌ
فإذا وُلدَ فَهُوَ وَليدٌ
وَمَا دَامَ لَمِْ يَسْتَتِمَّ سَبْعَةَ أَيام فهو صَدِيغٌ لأنهُ لا يَشْتَدُّ صُدْغُهُ إلى تَمَام السَّبْعَةِ
ثُّمَّ مَا دَامَ يَرْضعُ فهو رَضِيعِ
ثُمّ إذا قُطِعَ عَنْهُ اللَّبَنُ فَهُوَ فَطِيم
ثُمَّ إذاَ غَلُظَ وَذَهَبَتْ عَنْهُ تَرَارَةُ الرَّضَاعِ فهُوَ جَحْوَشٌ عَنِ الأصْمَعِي
وأنْشَدَ لِلْهُذَلِيّ ( من الوافر ) :
قَتَلْنَا مَخْلَداً وابْنَيْ حرَاقٍ وآخَرَ جَحْوَشاً فَوْقَ الْفَطِيمِ
قال الأزْهَرِي : كَأَّنَهُ مأخوذ مِنَ الجَحْشِ الَّذِي هُوَ وَلَدُ الحِمَارِ
ثُمَّ هُوَ إذا دَبَ ونَمَا فَهُوَ دَارِج
فَإِذا بَلَغَ طُولُهُ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ فَهُوَ خُمَاسِي
فإذا سَقَطَتْ رَوَاضِعُهُ فَهُوَ مَثْغور عَنْ أبي زَيْدٍ
فإذا نَبَتَتْ أسْنَانُهُ بَعْدَ السُّقُوطِ فَهُوَ مُثَّغِر بالثّاءِ والتاءِ عَنْ أبي عَمْروٍ
فإذا كَادَ يُجَاوِزُ العَشْرَ السِّنِينَ أوْ جَاوَزَهَا فَهُوَ مُتْرَعْرعٌ وَنَاشِئ
فإذا كادَ يَبْلُغُ الحُلُمَ أوْ بَلَغَهُ فهو يافِع وَمُرَاهِق
فإذا احْتَلَمَ وَاجْتَمَعَتْ قُوَّتُهُ فَهُوَ حَزَوَّر وَحَزْوَرٌ . واسْمهُ في جَمِيعِ هَذِهِ الأحْوَالِ الّتي ذَكَرْنَا غُلام
فإذا اخضَرَّ شارِبُهً وَأَخَذَ عِذَارُهُ يَسِيلُ قِيلَ : بَقَلَ وَجْهُهُ
فإذا صَارَ ذَا فَتَاء فهو فَتًى وَشَارِخ
فإذا اجْتَمَعَتْ لِحْيَتُهُ وبلغ غايةَ شَبابِهِ فَهُوَ مُجْتَمِع
ثُمّ مَا دَامَ بين الثَلاَثِينَ والأَرْبَعِينَ فَهُوَ شَابّ
ثُمَّ هُوَ كهْل إلى أن يَستَوفِيَ السِّتَينَ( ).
ومن أسرار المهلة التي تعطى للإنسان أمور:
الأول : طول مدة هذه المهلة فهي ليت أياماً أو أشهراً بل سنوات.
الثاني : التوالي والتعاقب في الإرادة وآنات سني المهلة والإمهال.
الثالث : الموعظة والتذكير بالموت أيام العمر كلها.
الرابع : إقتران أيام المهلة بالتفات الإنسان لإرجاء الموت عنه، وهذا الإلتفات من رشحات ما رزق الله عز وجل من العقل والتدبر.
ومن دلالات تقدير الجمع بين هذه الآية والآية السابقة وجوه:
الأول : وما محمد إلا رسول بإذن الله لبيان قانون كلي وهو أن الأنبياء بشر إبتدء وجودهم في الأرض بإتصاف أول إنسان إلى الأرض، أنه هبط بالنبوة، ونيل مرتبة الرسالة وهو آدم عليه السلام لتكون هناك نوع ملازمة بين الوجود الإنساني في الأرض وبين النبوة وهو من أسرار قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وأخبرت الآية السابقة عن إنقطاع هذه الملازمة بموت أو قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون من أسرار الترديد في كيفية خاتمة حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا بين الموت والقتل أن المقصود هو الصبغة التي غادر بها الأنبياء الحياة الدنيا، وإختتام النبوة بجحود من الناس بالتعدي على الأنبياء.
ومن خصائص النعمة الإلهية النازلة للناس بقاؤها بين ظهرانيهم وهو من اللطف الإلهي بالخلائق.
فلما إقترنت النبوة بنزول الإنسان إلى الأرض وكان سكانها فردين ذكراً وأنثى، وهما آدم وحواء، فلماذا إنقطع بعث الأنبياء بين الناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب من وجوه:
الأول : إخبار الآية السابقة عن إنتهاء حياة الأنبياء بالموت أو القتل، وما يدل عليه هذا القتل من التعدي والظلم الفادح للنفس والغير والتنزيل ،وقد أخبر القرآن عن قتل الأنبياء على نحو الجمع والتعدد بقوله تعالى[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
وجاءت الآيات بدخول أحد الأنبياء وهو يوسف عليه السلام السجن نتيجة مكر وكيد إمرأة.
وعن السدي أن امرأة العزيز قالت : إن العبد العبراني قد فضحني في الناس ، إنه يعتذر إليهم ويخبرهم أني راودته عن نفسه)( ).
قال تعالى[ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ]( )، وفيه حجة عليهم، فمع تجلي آيات النبوة، والإعجاز في سيرته وحسن خلقه وفي عصمته من الفاحشة، وتنزهه عن الرذائل وفضح عدوه، قاموا بحبسه بدل إكرامه وإتباعه، ليلبث في السجن سبع سنوات، وليس بينه وبين الموت إلا مرتبة واحدة لولا فضل الله عز وجل في نجاته وظهور حاجة الملك والأمة لعلمه الذي كان تأويل الرؤيا مرآة له، إذ كان آل فرعون يولون عناية للرؤا والأحلام وإيهما يكون معه الإنسان أقرب إلى الموت السجن أم الحياة بحرية ، الجواب هو الثاني ، ولكن جاءت آية البحث لتمنع التباين والتضاد بين الناس لعدم إنحصار زيارة الموت بأسبابه الخاصة بل قد يأتي والإنسان في أحسن أحواله ، وقد يصرفه الله عنه وهو أشد ضروب الحاجة إليه .
وكان عند فرعون عدد من المعبرين والمنجمين ، و تفرق بعض الحضارات كالبابلية والسومرية بين أحلام عامة الناس وأحلام الملوك، لأن الأولى تتعلق بالأمور الشخصية والثانية بمصلحة الأمة وشؤون البلاد، وقد يرد مصداق له في القرآن برؤيا فرعون[إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ]( )، لتعلقه بحال خصب وتعقبه لحال جفاف وجدب تهلك معه الناس لولا بركة نبوة يوسف عليه السلام، بينما كانت رؤيا الغلامين في السجن ذات صبغة شخصية، ولا ينال أحد النبوة ولا ينزل عليه الوحي إلا بإذن الله عز وجل، وهو من أسباب لزوم التصديق بالأنبياء وإتباعهم، ودعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإهتداء للإقرار بها.
الثاني : من وجوه الجمع بين هذه الآية والآية السابقة: قد خلت من قبله الرسل بإذن الله) ويكون الإذن هنا متعدداً من جهات:
الأولى : الإذن الإلهي بنبوة كل رسول على نحو مستقل، خاصة وأنهم متعاقبون في الزمان، ومتفرقون في المكان إلا أن يشاء الله فيكون رسولان في زمان واحد، أو رسول ونبي في زمان واحد، بلحاظ أن كل رسول هو نبي وليس كل نبي هو رسول.
الثانية : الإذن من الله عز وجل بالوحي والتنزيل لكل نبي، وهذا الإذن متجدد في كل مرة ينزل بها الوحي.
الثالثة : بلوغ كل رسول مرتبة النبوة بإذن الله.
الرابعة : إنقضاء زمان الرسل السابقين ،وعدم بقاء أحدهم إلى زمن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإذن الله، خاصة ومن الأنبياء من كان معمراً، كما في نوح إذ ذكره القرآن بقوله تعالى[فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا]( )، وفي مجموع سني عمره قولان:
الأول : المدة المذكورة في الآية أعلاه هي مجموع أيام عمره الشريف، نسبه قتادة إلى القيل(إن عمره كله كان ألف سنة إلا خمسين عاما، لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة، ودعاهم ثلثمائة ولبث بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة.
وهذا قول غريب، وظاهر السياق من الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما)( ).
وقيل أن نوحاً لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً في بيت من شعر، فيقال له: يا نبي الله ابن بيتاً، فيقول: أموت اليوم أموت غداً)( ).
الثاني : المدة المذكورة في الآية أعلاه مع طولها إنما هي مدة بعثته ودعوته قومه إلى الله، وفيه وجوه:
الأول : عاش نوح ألفآ وخمسين عاماً، قاله ابن عباس بعث الله نوحاً وهو ابن أربعين سنة ، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا)( ).
الثاني : ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: عاش نوح ألفي سنة وثلاث مأة سنة، منها: ثمانمأة سنة وخمسون سنة قبل أن يبعث، وألف سنة إلا خمسين عاما وهو في قومه يدعوهم، وخمسمأة عام بعدما نزل من السفينة ونضب الماء، فمصر الامصار، وأسكن ولده البلدان، ثم أن ملك الموت جاءه وهو في الشمس فقال: السلام عليك فرد عليه نوح عليه السلام فقال: ما جاء بك يا ملك الموت ؟ فقال: جئتك لأقبض روحك، قال: دعني أدخل من الشمس إلى الظل، فقال له: نعم فتحول، ثم قال: يا ملك الموت كل ما مر بي من الدنيا مثل تحويلي من الشمس إلى الظل فامض لما أمرت به فقبض روحه)( ).
الثالث : عاش نوح ألفاً وأربعمائة ألف سنة.
الرابع : عاش نوح ألف وتسعمائة وخمسين سنة.
الخامس : مدة حياة نوح هي ألف وتسعمائة وخمسون سنة، أخرجه ابن جرير( ).
السادس : عاش نوح ألفاً وسبعمائة سنة.
ورد لفظ [بِإِذْنِ اللَّهِ ]في القرآن ثمان عشرة مرة كلها مقيدة بحرف الجر بإذن الله لبيان الربوبية المطلقة لله عز وجل في الدنيا والآخرة، وكل فرد منها موعظة في المعارف الإلهية .
لغة العطف بين هذه الآيات
بعد أن جاءت آية السياق بصيغة الخطاب وإرادة المسلمين والمسلمات بلحاظ عطفها على الآيات السابقة بالتتابع وإتصال الخطاب بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( )، جاءت آية البحث والآيات الثلاثة التي بعدها بصيغة القوانين الكلية والقواعد الثابتة من غير أن تستبين فيها لغة الخطاب، وتحتمل آية البحث في صيغتها وجوهاً:
الأول : إرادة العطف والإتصال بالآيات السابقة.
الثاني : المقصود الخطاب للمسلمين والمسلمات وفق نظم الآيات السابقة إذ لم تأت لغة خطاب أخرى أو جمل إعتراضية متعددة .
الثالث : تغشي موضوع الآية للناس جميعاً ولغة الغائب خاصة وأن موضوعها عام.
الرابع : توجه الخطاب في الآية إلى المسلمين بالأصالة والناس جميعاً بالإلحاق.
والمختار هو الأول والثاني ويكون الثالث والرابع في طولهما ،فليس من تعارض بينهما وهو من إعجاز القرآن وملائمة لغته وخطابه للناس جميعاً، فبعد مجيء خمس عشرة آية معطوفة بينها، جاءت هذه الآية والآيات الثلاثة التالية في ذات الصيغة ولغة البيان، لتبدأ الآية التي بعدهن، وتؤكد لغة الخطاب للمسلمين والمسلمات جميعاً بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، وبين العطف بين هذه الآيات الوظائف العقائدية والتأريخية الملقاة على عاتق المسلمين.
وتتضمن الإخبار عن جهاد الأنبياء السابقين وأتباعهم وأنصارهم من المؤمنين، ومن إعجاز القرآن وأسرار البلاغة فيه أن العطف بين آياته أو بين مضامين الآية الواحدة لا ينحصر بحروف العطف التي تدخل الثاني فيما دخل فيه الأول من الإعراب مثل الواو: وهي أم حروف العطف وأكثرها إستعمالاً وتجمع بين الكلام الذي يتقدمها والذي يتعقبها من جهتين:
الأولى : الإشتراك في الموضوع أو الحكم.
الثانية : التشابه في الإعراب.
ومثل: الفاء، ثم ، أو.
وقد يأتي العطف من غير إشتراك وربط بين الأول والتالي الذين يتوسطهما حرف العطف، مثل بل، إلا، [إما] والتي عدها سيبويه من حروف العطف.
علة تمني الموت
أخبرت آية السياق عن تمني المؤمنين الشهادة في سبيل الله يوم أحد وسبب هذا التمني من وجوه:
الأول : تخلف طائفة من المؤمنين عن معركة بدر وظنوا أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يكن للقتال، أو إنشغلوا بأمورهم المعاشية كالزراعة ولم تمر أيام إلا ودخل البشير إلى المدينة بإعلان النصر على كفار قريش .
قال الواقدي في حديث عن سعيد بن المسيب ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة من الأثيل، فجاءوا يوم الأحد شد الضحى، وفارق عبد الله زيداً بالعقيق، فجعل عبد الله ينادي على راحلته: يا معشر الأنصار، أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقتل المشركين وأسرهم! قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وقتل زمعة بن الأسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثيرة.
قال عاصم بن عدي: فقمت إليه فنحوته فقلت: أحقاً ما تقول، يا ابن رواحة؟ قال: إي والله، وغداً يقدم رسول الله إن شاء الله ومعه الأسرى مقرنين .ثم اتبع دور الأنصار بالعالية بنو عمرو بن عوف وخطمة ووائل، منازلهم بها فبشرهم داراً داراً، والصبيان يشتدون معه ويقولون: قتل أبو جهل الفاسق! حتى انتهوا إلى بني أمية بن زيد.
وقدم زيد بن حارثة على ناقة النبي صلى الله عليه وسلّم القصواء يبشر أهل المدينة، فلما جاء المصلي صاح على راحلته: قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وأبو البختري، وزمعة بن الأسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثيرة. فجعل الناس لا يصدقون زيد بن حارثة، ويقولون: ما جاء زيد إلا فلاًّ( )! حتى غاظ المسلمين ذلك وخافوا، وقدم زيد حين سووا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم التراب بالبقيع)( ).
ثم دخل أسرى بدر المدينة المنورة وفيهم رجالات وأشراف من قريش، وصار حضور الصحابة لمعركة بدر فخراً وعزاً وجاهاً، ونزل قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، لبيان إنبساط النصر على أهل بدر ونيل كل واحد منهم حصة من هذا النصر، فتشوق المسلمون عموماً للقتال ولقاء العدو.
الثاني : بلوغ المؤمنين من المهاجرين والأنصار مراتب التقوى، وتلقيهم بالقبول لآيات القرآن وأحاديث النبي التي تخبر عن المرتبة الرفيعة للشهداء وخلودهم في الجنات، وعن الضحاك قال: كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوماً كيوم بدر. يبلون فيه خيراً، ويرزقون فيه الشهادة، ويرزقون الجنة والحياة والرزق. فلقوا يوم أحد، فاتخذ الله منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم الله تعالى فقال {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتاً})( ).
الثالث : لغة التحدي والتصدي للتهديد والوعيد الذي كان يصدر من منتديات قريش وما تتناقله الركبان عن إستعداداتهم للقتال وغاياتهم الخبيثة منه وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون تمني المؤمنين الموت شاهداً على رغبتهم بالدفاع عنه وفدائهم له ليستمر نزول آيات القرآن ليدل هذا التمني على حقيقة وهي أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، إنما لجأ المسلمون إلى السيف والإستعداد للشهادة بسبب إصرار الكفار على العزم على قتلهم أو أسرهم.
الرابع : بذل المسلمين الوسع لدخول الناس الإسلام، وجذبهم إلى الإيمان بلحاظ أنه نعمة عظمى على أهل الأرض، من ينالها ويرتقي إلى منازل الهدى والنهج المستقيم يفوز في النشأتين، ومن يحرم نفسه منها ويصر على الإقامة في مستنقع الضلالة يخسر الدنيا والآخرة.
الخامس : لقد صار الصحابة بين أمرين إما ثبات أركان التوحيد في الأرض الذي قد يستلزم الشهادة والتضحية والفداء منهم أو طغيان الضلالة وإشاعة الكفار القتل والفساد، فأعلنوا عن تمنيهم الشهادة ليبقى الإسلام وأحكام الشريعة، وقد ثبت صدور هذا التمني من طائفة من المؤمنين وليس جميعهم، أي أرادوا أن تكون شهادتهم واقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وباقي الصحابة وطريقاً لهداية الناس إلى الإسلام، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال يوم بدر: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد] ( )، لتحقق بشارة سلامة المؤمنين من القتل من وجوه:
الأول : دلالة الحديث أعلاه ودعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الملازمة بين المؤمنين الأوائل من المهاجرين والأنصار وبين بقاء الإسلام وعبادة الله في الأرض.
الثاني : تفضل الله عز وجل بنصر المسلمين في معركة بدر وتتجلى موضوعية هذا النصر بأن معركة أحد أول معارك الإسلام وصيرورتها سبباً لدخول الناس في الإسلام، ومبادرة المؤمنين للخروج إلى سوح القتال.
الثالث : إخبار آية البحث عن أمرين متلازمين وهما:
الأول : عدم وقوع الموت للإنسان إلا بأمر ومشيئة الله.
الثاني : موت الإنسان أمر مؤجل، ويظن الناس نزول الموت بشخص نتيجة شدة المرض واليأس من معافاته، أو بروزه لفارس أشد منه بأساً، فتتجلى معاني الكتاب المؤجل في المقام بسلامة الذين تمنوا الموت من القتل مع خصوصية وهي موضوعية رحمة الله بالمؤمنين في المقام، فارجاء الأجل ودفع أوان الموت أمر بيد الله عز وجل وحده وهو الرؤوف بالمؤمنين.
ولم يكن تمني المؤمنين الموت سخطاً على المكتوب من البلاء، ولا القنوط من رحمة الله الواسع الكريم ولكنه إعلان للثبات على الإيمان وعهد على مواصلة الجهاد في سبيل الله حتى الفوز بأحدى الحسنين النصر أو الشهادة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يتمنى أحد الموت لضر نزل به) ( ).
ولم يكن المؤمنون يوم تمنوا الموت في أذى وضر بل كانوا في غبطة بحسن إختيار الإسلام فأرادوا أن تدوم هذه النعمة على عموم المسلمين وإن كان بتضحيتهم وقتلهم، ولم يرد في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما نزلت آية السياق صعد المنبر ونهى عن تمني الموت هذا قبل الخروج إلى أحد أو بعده خاصة عندما صار الإسلام قوياً لا يخشى معه هجوم الكفار على المدينة.
بحث كلامي
تتضمن الآية الإخبار عن حال الموت الذي ينزل بالناس، وورد ذكر طروه على النفس ،وتأتي النفس بعدة معاني متقاربة منها:
الأول : الذات، وإرادة معنى (أنا).
الثاني : العقل الذي يكون فيه الفصل والتمييز بين الأشياء والصحيح أن بين النفس والعقل عموماً وخصوصاً مطلقاً، فالنفس أعم.
الثالث : النفس السائلة، والدم الذي يجري في العروق.
الرابع : الإخلاط الأربعة.
الخامس : الروح، قال الخليل : النفس: الرّوح الذّي به حياة الجسد، وكلّ إنسانٍ نَفْسٌ حتّى آدم عليه السّلام، الذَّكَرُ والأنثى سواء، وكلُّ شيءٍ بعينه نَفْسٌ( ).
السادس : مجموع الجسد والروح.
السابع : سر الحياة، وموضوع الحركة بالجسد، قال تعالى[إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا]( ).
الثامن : تردد النفس والشهيق والزفير في الصدر.
التاسع : عين الإنسان، ذكراً كان أو انثى.
العاشر : جوهر في داخل الإنسان والروح، وفي معنى الحشاشة أنها بقية النفس.
الحادي عشر : النفس جوهر بخاري لطيف تنبعث بسببه الحياة والحركة والإرادة والقوة، وقيل هو الروح الحيواني.
الثاني عشر : محل تلقي التكاليف، والأوامر والنواهي، قال تعالى[وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( )، وتكون صلة الروح بالبدن إلى أقسام:
الأول : إشراقة النفس على البدن وهو حال اليقظة في الحياة.
الثاني : إنقطاع ضياء النفس عن ظاهر البدن على نحو مؤقت مع بقاء إشراقته على باطن الإنسان، وهو حال النوم.
الثالث : إنفصال النفس عن البدن، وإنقطاع ضوئها عن ظاهر وباطن البدن وهو الموت.
والثاني أعلاه في طول الأول .
ومع أن النفس الإنسانية واحدة فيمكن تقسمها إستقراء بلحاظ ماهية المقاصد والأفعال إلى أقسام:
الأول : النفس المطمئنة وهي التي إمتلأت باليقين، وتجردت عن الفزع والخوف المترتب عن فعل المعاصي وإرتكاب الآثام، وفي التنزيل [يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً]( ).
الثاني : النفس الناطقة، وهو الجوهر المجرد عن المادة والبعيدة عن الإضطراب أو تزاحم الشهوات.
الثالث : النفس اللوامة، وهي الباصرة لحقائق الأشياء التي تنفر من الكدورة وتتجنب الغفلة، وإن داهمتها الذنوب التجأت إلى اللوم الذاتي، فتفضل الله عز وجل وأنقذها بالأمر بالإستغفار ليكون راحة وغبطة للمؤمن في الدنيا والآخرة ،قال تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ).
الرابع : النفس الشهوية والأمارة باللذات الحسية، وهي منبع الرذائل، وفي التنزيل[إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي]( )، والآية أعلاه حكاية عن امرأة العزيز بعد إنكشاف مكرها بيوسف، وإفتضاح أمرها، ونجاة يوسف من السجن، وثبوت براءته من الإقتراء عليه.
ورد لفظ النفس في الآية لإرادة الإنسان جسداً وروحاً ونفساً بمغادرته الحياة ،وفيه وجوه :
الأول : إرادة ذات الإنسان عند ذكر النفس على نحو الإطلاق من غير قرينة صارفة إلى الروح أو الدم او تردد النفس ونحوه.
الثاني : دلالة ورود الموت في الآية على أن موضوع الآية جميع الإنسان.
الثالث : بيان قانون وهو أن التكاليف المتوجهة إلى الإنسان، تنقطع عنه، وكذا أعماله تتوقف عن الصعود، لتختم صحيفة الأعمال.
وهل يصح تقدير الآية: وما كان لنفس إنسان أن تموت إلا باذن الله، الجواب لا، لأن المراد من الآية موت الإنسان كله أي جسداً وروحاً، نعم قد ورد قوله تعالى[وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ]( ).
وعن هشام بن كليم قال: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أَتُبتدأ الأعمال أم قد قضي القضاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار. فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار)( ).
الرابع : أصالة التبادر التي هي من علامات الحقيقة، فحالما يتلو أو يسمع الإنسان آية البحث يتبادر إلى ذهنه أن المراد هو موت الإنسان، هذه الحال المعروفة عند الناس جميعاً ذكوراً وأناثاً، صغاراً وكباراً.
علم المناسبة
وردت مادة [مات] في القرآن بصيغ متعددة ، فمثلاً ورد لفظ [الموت] فيه خمساً وثلاثين مرة ، وورد لفظ [الموتى ] سبع عشرة مرة، ولفظ الميت إثنتي عشرة مرة ولفظ [ موتها] إحدى عشرة مرة وغيرها.
وفيه بيان موضوعية ذكر الموت في الكتاب السماوي الخالد إلى يوم القيامة ، ودعوة للمسلمين والناس للإتعاظ من الموت وجعله وذكره في الوجود الذهني وعلى الألسنة حرزاً من إتباع الشهوات ، والغفلة عن الواجبات ، ولم يأت لفظ [تموت ] في القرآن إلا مرتين، إحداهما في هذه الآية والأخرى بقوله تعالى [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ] ( )
ليفيد الجمع بين الآيتين أن الإنسان لا يعلم ساعة أو موضع موته، وعدم علمه هذا رحمة به وتخفيف عنه ودعوة له للإجتهاد في طاعة الله .
ومن خصائص الإنسان الحيطة والحذر ممن يخشى مجيئه بغتة وفجأة فيأخذ منه شيئاً عزيزاً أو يحمله أعباء ثقيلة ، وحينما يأتي الموت يأخذ كل شىء ، فيأخذ ذات الإنسان روحاً وجسداً فان قلت تبقى أمواله ومقتنياته الخاصة ، الجواب أنها تنتقل إلى الورثة ساعة مغادرته لقاعدة لزوم وجود مالك للملك.
وفي الآية إعلاه [عن أبي عزة الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى قَبْضَ رُوحٍ عَبْدٍ بَأَرْضٍ جَعَلَ إِلَيْهَا حَاجَةً فَلَمْ يَنْتهِ حَتَّى يُقَدِمَهَا ثم قرأ صلى الله عليه وآله وسلم { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } إلى قوله : { بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ }]( ).
[وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات: يَكْتب رزقه، وعمره، وعمله، وشقي أو سعيد] ( ) وفي الحديث وجوه محتملة :
الأول : تحديد عمر الإنسان وهو حمل في بطن أمه .
الثاني : هذا التعيين في الرحم إبتدائي وهو قابل للتأجيل والتراخي والمندوحة .
الثالث : ما يكتب للإنسان وهو حمل في الرحم الأجل النهائي مع تعدد التأجيل والفضل الإلهي في إطالة العمر ، لأن الله عز وجل يعلم حدوث التأجيل ومدته وأسبابه الذاتية الخاصة من وجوه :
الأول : فعل نفس الإنسان من الدعاء والصدقة وصله الرحم .
الثاني : إمهال العبد رجاء إنابته وتوبته .
الثالث : الإمهال إكراماً لآبائه وترشح فعلهم الصالحات على الذراري.
الرابع : ما يترشح من فضل الله الإبتدائي واللطف الذي لا يأتي عن سبب خاص .
النفس
ورد لفظ [النفس ] في القرآن خمساً وسبعين مرة ، منها ثلاثة فقط وردت بلفظ [لِنَفْسٍ] إحدها آية البحث ، والثانية قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
ليكون بينهما وبين آية البحث عموم وخصوص من وجه من جهة الألفاظ ،إذ يلتقيان في كل ألفاظ الآية إلا في لفظ [تَمُوتَ] في آية البحث ، ولفظ [تُؤْمِنَ] في الآية أعلاه .
وإذا كان الإيمان والموت بأذن الله تعالى ، فهل إرادة ثواب الدنيا أو ثواب الآخرة بأذن الله عز وجل ،الجواب نعم ، للخيار والإختبار والإبتلاء فيه موضوعية ، وهو الذي تدل عليه آية البحث وعلى القول بأن معنى [بِإِذْنِ اللَّهِ] في الآية أعلاه هو لطف ومعونة الله فان الهداية إلى طلب ثواب الآخرة ورجاء فضله تعالى في الدنيا والآخرة يكون بمعونة وتوفيق منه تعالى ، وإذ تتعلق آية البحث بخصوص الموت وأوانه فانهها تشمل آية موضوع الإيمان الذي ينبسط على أيام العمر كلها ، لتأتي الآية الأخرى التي ورد فيها لفظ [لِنَفْسٍ] بخصوص عالم الآخرة بقوله تعالى [يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا] ( ).
فلا سلطان لأحد يوم القيامة إلا لله ، ولا يقدر إنسان دفع الضر أو جلب المنفعة لغيره ، ويتجلى التداخل الموضوعي بين الآيات الثلاثة اعلاه بأن تدعو آية البحث إلى الإيمان وتندب الناس إلى الإسلام ، والتقيد بسنن التقوى ، وتذكر الآية أعلاه بعالم الحساب ومواطن الآخرة ، وأن الموت طريق حتمي إليها فلا ينفع الإنسان عند الموت وما بعد الموت إلا الإيمان وهو قريب منه ، ويكون حاضراً بأذن الله ، وكما تحث آية البحث على سؤال الله تأجيل الموت فأن قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذ ْنِ الله] ( )دعوة للناس لسؤال الإيمان وطلب ثواب الآخرة وإدراك موضوعيته والحاجة إليه في النشأتين إي يطلب الإنسان ثواب الآخرة ، وهو يحتاج لهذا الطلب ومنافع ورشحات ذات الثواب الآخروي في الدنيا .
دلائل الهدى في أسماء القرآن
القرآن الكتاب السماوي الخالد إلى يوم القيامة وهو البيان الجامع للعبادات والأحكام والمعاملات والسنن والطريق إلى النعيم الأخروي، وردت أسماء كثيرة له في ذات القرآن والتنزيل وهي:
الأول : القرآن، وقد ورد هذا الاسم في القرآن ثماناً وستين مرة، ولم يرد هذا اللفظ لكتاب أو شيء غير ذات القرآن، لتكون من مختصات القرآن أن اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يشاركه أحد في القرآن حتى في إسمه الثاني أحمد، وكذا اسم القرآن، وكأنه ليس من كتاب تزكي السماء قراءته إلا القرآن وفيه مسائل:
الأولى : قراءة القرآن والعمل بأحكامه مصداق لقوله تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( ).
الثانية : تضمن التسمية التشريف والتزكية بنعته بالكريم، قال تعالى[إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ]( ) لتنزيه القرآن وبيان نفاسته وفرائده وحسنه وزجر الكفار أنه شعر أو سحر، أو أساطير الأولين.
الثالثة : معرفة أهل السماء والأرض للقرآن بأسمه.
الرابعة : مصاحبة تسمية القرآن لأيام الحياة الدنيا وإلى يوم القيامة، ومع أن الاسم غير مسمى، فإن هذا الحفظ من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الخامسة : سلامة القرآن من التحريف والتبديل، فذات الآيات تقرأ بأيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وفي الأجيال المتعاقبة ما دامت السماوات والأرض، وإذ أنعم الله عز وجل بنعمة على أهل الأرض فأنه سبحانه يتفضل بإستدامتها، ويمحو الموانع التي تحول دون إنتفاع الناس منها.
ومن أعظم النعم على الناس نزول القرآن، لتكون سلامة القرآن من التحريف شاهداً على هذا القانون المبارك قانون عدم رفع النعمة من الأرض.
السادسة : من أسرار تسمية القرآن عدم طرو النسيان عليه، ولا يغفل الناس عنه قراءة وتدبراً وتفسيراً وتأويلاً، ومن الإعجاز في تشريع قراءته في الصلاة اليومية الواجبة وجوباً عينياً على كل مكلف ومكلفة، قال تعالى[سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى]( ).
وورد عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من الوحي حتى يزمل من ثقل الوحي حتى يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بأوله مخافة أن يغشى قلبه فينسى ، فقال له جبريل : لم تفعل ذلك؟ قال مخافة أن أنسى . فأنزل الله { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله } فإن النبي صلى الله عليه وسلم نسي آيات من القرآن ليس بحلال ولا حرام ، ثم قال له جبريل : إنه لم ينزل على نبي قبلك إلا نسي وإلا رفع بعضه ، وذلك أن موسى أهبط الله عليه ثلاثة عشر سفراً ، فلما ألقى الألواح انكسرت وكانت من زمرد فذهب أربعة أسفار وبقي تسعة)( ).
والحديث المستفيض الوارد بتدارس جبرئيل مع النبي آيات وسور القرآن على عدم فوات تلاوة وكتابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآية من آيات القرآن،[ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَلَى جِبْرِيلَ فَيُصْبِحُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ لَيْلَتِهِ الَّتِي يَعْرِضُ فِيهَا مَا يَعْرِضُ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ لَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَعْطَاهُ حَتَّى كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي هَلَكَ بَعْدَهُ عَرَضَ فِيهِ عَرْضَتَيْنِ ] ( ).
وعن عائشة عن فاطمة عليه السلام في حديث وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي)( ).
فتكون تلاوة وتدارس جبرئيل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآيات على وجوه:
الأول : تكرار تلاوة السور، والآيات المكية كل سنة مرة من بدايات التنزيل وإلى السنة التي إنتقل فيها إلى الرفيق الأعلى مرتين، فاذا كان قوله تعالى[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )،من أول ما انزل من القرآن وأن مدة التنزيل هي ثلاث وعشرون سنة فتكون تلاوة وتدارس جبرئيل للآية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمساً وعشرين مرة من جهات:
الأولى : نزول جبرئيل بالوحي بالآية القرآنية إبتداء، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن شداد قال: أتى جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد اقرأ . قال : وما أقرأ؟ فضمه ، ثم قال يا محمد : اقرأ؟ قال : وما أقرأ؟ قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } حتى بلغ { ما لم يعلم} فجاء إلى خديجة فقال : يا خديجة ما أراه إلا قد عرض لي . قالت : كلا والله ما كان ربك يفعل ذلك بك ، وما أتيت فاحشة قط . فأتت خديجة ورقة ، فأخبرته الخبر . قال : لئن كنت صادقة إن زوجك لنبي ، وليلقين من أمته شدة ، ولئن أدركته لأؤمنن به. قال : ثم أبطأ عليه جبريل فقالت خديجة : ما أرى ربك إلا قد قلاك . فأنزل الله { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى } ( ).
الثانية : تدارس ومعارضة جبرئيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات سورة العلق في آخر سنة التنزيل.
الثالثة : معارضة جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذات الآيات في رأس كل سنة سواء قبل الهجرة أو سنوات بعد الهجرة.
الرابعة : تلاوة جبرئيل لهذه الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسماع جبرئيل لها منه مرتين في سنة مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
الثاني : تدارس جبرئيل لكل سورة قرآنية وآية نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمجموع عدد السنين من حين نزولها إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الحادية عشرة للهجرة.
الثالث : كل آية تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلوها جبرئيل مرتين في سنة النزول، مرة عن التنزيل على نحو الإنفراد بها وبتلاوتها، وأخرى في نهاية السنة مع مجموع آيات القرآن النازلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
نعم قد لا تكون معارضة جبرئيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات رأس السنة باعادة تلاوتها بل باستماع جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو الآيات، وبيان مضامينها.
وهل قوله تعالى[سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى] ( )، خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه أمر شامل للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، الجواب هو الثاني ، وهو من وجوه تفضيل وإكرام المسلمين، ومن مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أن الله عز وجل بأمر بالشئ ويقربهم من الإمتثال له ويهيئ مقدماته، وينهاهم عن الأمر ويبين قبحه ويدفعهم عنه، ويصرف أفراده عنهم، ومن العصمة إمتناع المعصية فحتى لو نواها المؤمن فانه لايجد مصداقها.
وفي الثناء على يوسف عليه السلام وبيان فضل الله عز وجل عليه قال تعالى[كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( )، لتدل الآية أعلاه على توجه الأمر الإلهي للسوء بأن ينصرف ويبتعد عن يوسف ولا يصل إليه ومنه الفواحش ومقدماتها، حتى يبدو المؤمن معه وكأنه لم يبتل، وقد يقول بعضهم لو إبتلى المؤمن بمثل ما أبتليت به لوقع في الحرام، والحق أن الله عصمه من مقدمات الفاحشة، ولو طرأت ونزلت في ساحته فانه يعتصم منها، لذا ترى بعضهم يغري المؤمن ليشترك معه بفعل السوء، ويأخذ نصيبه منه، ولكن الله عز وجل الله عز وجل يقيه هذا المكر وضروب الإستدراج الكيدي.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تذكر يوسف كنبي من أنبياء الله بل ذكرته بلغة التبعيض بانه من عباد الله المخلصين لبيان نعمة عظمى وهي الصرف الخارق للعادة عن السوء والفعل القبيح لا يختص به الأنبياء.
مما يدل على عصمة الأنبياء من باب الأولوية القطعية من جهات:
الأولى : بين عباد الله المخلصين وبين الأنبياء عموم وخصوص مطلق، فكل نبي هو من عباد الذين أكرمهم الله وخصهم بالإنقطاع إلى عبادته والإجتهاد في طاعته.
الثانية : الأنبياء أئمة عباد الله المخلصين، وقادتهم في سبل الخير والصلاح.
الثالثة : عدم إنحصار أدلة عصمة الأنبياء بالآية أعلاه، وإجماع علماء الإسلام على عصمة الأنبياء، وفيه وجوه:
الأول : عصمة الأنبياء في التبليغ وإتمام أداء الرسالة ، [عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ، ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منا ، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه] ( ).
الثاني : سلامة وعصمة الأنبياء من الكبائر، وعليه إجماع علماء الإسلام.
الثالث : في عصمة الأنبياء من الصغائر وجوه:
الأول : الأنبياء معصومون من الصغائر مطلقاً أيضاً.
الثاني : الأنبياء معصومون من الصغائر من المنكرات.
الثالث : الأنبياء غير معصومون من الصغائر.
الرابعة : يلتقي النبي مع عموم عباد الله المخلصين بدفع السوء والفحشاء عنه ، وهو بذاته معصوم من التلبس بالسوء والفاحشة .
بحث كلامي
يتضمن الموت المفارقة والفصل من جهات:
الأولى : مفارقة الإنسان بالموت للحياة الدنيا.
الثانية : الموت فراق قهري بين الإنسان وأحبته وأرحامه.
الثالثة : مغادرة الإنسان لمقامه وجاهه وشأنه بين الناس.
الرابعة : مفارقة الإنسان لأزواجه وأمواله ومقتنياته الخاصة التي كان يشح بها عن أقرب الناس إليه، وعن كميل بن زياد قال: خرجت مع علي بن أبي طالب فلما أشرف على الجبان( ) التفت إلى المقبرة فقال : يا أهل القبور يا أهل البلى يا أهل الوحشة ما الخبر عندكم فإن الخبر عندنا قد قسمت الأموال وأيتمت الأولاد واستبدل بالأزواج فهذا الخبر عندنا فما الخبر عندكم ثم التفت إلي فقال : يا كميل لو أذن لهم في الجواب لقالوا : إن خير الزاد التقوى ثم بكى وقال لي : يا كميل القبر صندوق العمل وعند الموت يأتيك الخبر)( ).
الخامسة : إنفصال ومفارقة الروح للجسد.
السادسة : مفارقة وتعطيل الحواس دفعة واحدة وعلى نحو السالبة الكلية.
السابعة : مفارقة النعم من المأكول والملبوس.
الثامنة : مفارقة وإنقطاع الآمال والأماني. ( )
التاسعة : مفارقة اليقظة والنوم مرة واحدة، فالإنسان في الحياة الدنيا بين ضدين إما اليقظة أو النوم، فيأتي عليهما الموت.
العاشرة : مفارقة الليل والنهار ومصاحبة القمر والشمس.
الحادية عشرة : مفارقة أداء الفرائض والتكاليف التي هي زينة الحياة الدنيا وكان معنى قوله تعالى[خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ]( )، هو أدوا الصلاة جماعة فأنها أفضل زينة وقوة لكم، أو أدوها فرادى فهي أيضاً زينة وبهاء.
الثانية عشرة : مفارقة حساب الأيام والأشهر والسنين بالقطع والفراق الأبدي مع أن الإنسان قد يتمنى صحبتها، وعن ابن عباس في قوله تعالى{ يودّ أحدهم لو يعمر ألف سنة } قال: هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم زه هزار سال يعني ألف سنة)( ).
وعن السهلي السنة أطول من العام والعام يطلق على الشهور العربية بخلاف السنة)( ).
أي بينهما عموم وخصوص مطلق، فالسنة أعم وأكثر أياماً من العام، ولا دليل على هذا التفصيل، وأن كانت السنة الشمسية ثلاثمائة وستين يوماً وثلثي اليوم، والسنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وقد تأتي السنة بلفظ العام، وسميت عاماً لأن الشمس تنتقل بين جميع بروجها فتكون السنة الشمسية والحساب الميلادي زائد على السنة القمرية والحساب الهجري بأحد عشر يوماً وجزء من اليوم.
وعن الراغب أن استعمال السنة في الحول الذى فيه الشدة والجدب والعام الذى فيه الرخاء والخصب قال وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى [أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا] ( ) حيث عبر عن المستثنى بالعام وعن المستثنى منه بالسنة لان الخمسين سنة مضت قبل بعثته وقبلها لم يحصل له أذى من قومه وأما من بعثته فهي شدة عليه)( ).
وذكر أن مدة الدعوة وهي تسعمائة وخمسون سنة قضاها نوح بالشدة والأذى والتكذيب من قومه وسخريتهم به، أما الخمسون عاماً فهي المدة التي قضاها بعد الطوفان في دعة وطمأنينة بعد أن أغرق الله الكافرين، ومن وجوه الفرق بين السنة والعام أمران:
الأول : يتضمن العام شتاء وصيفاً متتاليين كما لو بدأ في أول الصيف أو أول الشتاء.
الثاني : السنة من يوم إلى مثله من السنة التالية، فإذا بدأت من نصف الشتاء إلى مثله من العام التالي فهو سنة وليس عاماً ويكون العام أخص فكل عام هو سنة وليس العكس، إذا نذر أن يتصدق يومياً لمدة عام فلا بد أن يشمل شتاءً وصيفاً متواليين، ولكن المدار على القصد والنية فإذا قصد المكلف من العام هو السنة فيجزيه من أي يوم بدأ الصدقة، من وجوه:
الأول : قاعدة نفي الحرج في الدين.
الثاني : ورود قول بإتحاد المعنى في السنة والعام.
الثالث : موضوعية النية والقصد عند النذر، وعدم تمييز الناذر بينهما يوم إنعقاده، وتكفي السنة في النذر ونحوه القمرية أو الشمسية إلا مع المتعارف وما إبتنى عليه النذر، نعم في إمهال الزوج الذي يعجز عن الإدخال لمدة عام إذ يراعى شتوة كاملة وصيفة كاملة للمندوحة والسعة والتيسير، وإذا أثبت الطب الحديث تشخيص حاله بالدقة فلا حاجة للإنتظار شتوة وصيفة.
وورد لفظ العام في قوله تعالى في قصة يوسف [ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ]( )، وعلى فرض أن العام شتوة كاملة وصيفة كاملة فأراد الله عز وجل إقتران نزول المطر مع أول الشتاء ليكون معجزة ليوسف عليه السلام في تأويل الرؤيا وتعيين أوان الفرج .
إستغفار النبي (ص)
ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله: إني لأتوب إلى الله في اليوم وأستغفره سبعين مرة ( )، وفيه مسائل :
الأولى : إرتقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سلم الكمالات الإنسانية، وتعاهده لهذه المنزلة بالإستغفار.
الثانية : بيان موضوعية الإستغفار.
الثالثة : تأكيد حاجة كل مؤمن إلى الإستغفار، ولزوم عدم نسيانه أو الغفلة عنه.
الرابعة : تنبيه المسلمين إلى عدم الركون إلى عالم الأفعال الشخصية في موازين الأعمال وعواقب الأمور.
الخامسة : في الإستغفار رجحان لكفة الصالحات، ومحو للسيئات مما علم العبد أو نساه، فانه حاضر عند الله عز وجل، قال تعالى [وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا] ( ).
السادسة : تأديب أهل البيت والصحابة على الإستغفار، وجعله وظيفة يومية للمتحد والمتعدد منهم.
السابعة : إرادة الثبات في منازل الإيمان، وفي التنزيل[رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا]( ).
الثامنة : تنمية ملكة الإستغفار عند المسلمين، وجعله تركة عقائدية لأجيالهم المتعاقبة.
التاسعة : بعث المسلمين على أداء العبادات والفرائض، ومع الإستغفار يبدأ المسلم كل يوم صفحة جديدة من الصالحات تكون ذخيرة له يوم الدين.
العاشرة : إجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار شاهد على علمه بأهوال الحساب ولزوم الإستعداد له بالتوبة التي هي لغة الرجوع، وشرعا الرجوع من الشر إلى الخير إلا أن هذا المعنى لا يمنع من إرادة مفهوم الإرتقاء في سلم الخير والصلاح من التوبة.
الحادية عشرة : تأكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصفة العبودية بأنه عبد لله عز وجل، وأن التشريف والتفضيل بالنبوة ليس برزخاً من إلتقائه مع سائر الناس بالإستغفار والإنابة [وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إتخذني الله عبداً قبل أن يتخذني نبياً] ( ).
الثانية عشرة : إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو يومي وتكراره الإستغفار سبعين مرة برزخ دون غلو المسلمين به، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بالتنزه عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة مع أنهم كانوا حديثي عهد بعبادة الأوثان.
فقد تميل نفوسهم إلى عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء بالمعجزات الباهرات، فاجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار ليكون واقية من تأليه الأشخاص أحياءً وأمواتاً.
الثالثة عشرة : حينما رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت الحرام، سألا الله التوبة والعفو [وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( )، لبيان قانون وهو الملازمة بين النبوة والإستغفار.
الرابعة عشرة : إرادة الإستغفار من التقصير بالإجتهاد بالعبادة، وبيان التخلف عن شكر النعم الإلهية العظيمة على الذات والأمة.
الخامسة عشرة : الإستغفار من ضروب العبادة، ووجوه الطاعة لله عز وجل وهو سبحانه الذي أمر بالإستغفار وندب إليه، ووعد عليه الأجر والثواب وثوابه أعم من أن ينحصر بمغفرة الذنوب.
السادسة عشرة : إرادة لزوم المسلمين والمسلمات الإستغفار والمداومة عليه، وهل يكون أداء فريضة الصلاة بمنزلة الإستغفار في الأثر والنفع الجواب نعم، وهو من سعة رحمة الله عز وجل وتعدد البدائل لنيل الثواب.
لقد أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأديب المسلمين على الإستغفار وإتخاذه منهاجاً يومياً يواظبون عليه، قال تعالى[َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )، وهل الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة الإستغفار من مصاديق قوله :خذوا عني مناسسكم( )، أم أن القدر المتيقن منه مناسك الحج، أو خصوص الفرائض بلحاظ معنى المناسك ،وهل هي أفعال الحج أو عموم العبادات.
الجواب هو الأول فيدخل الإستغفار في عمومات المناسك، لذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجتهد في الإستغفار ليكون إرثاً مباركاً للمسلمين والمسلمات، وهل من موضوعية للإستغفار في تأجيل أوان مغادرة الدنيا بقوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً] الجواب نعم، وهو من فضل الله على المسلمين بالتفقه في سبل إطالة العمر بالتوسل والتضرع إلى الله بالإستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، وهو نوع طريق للصلاح والإصلاح ليكون من الإعجاز في نعمة الإستغفار أنه على وجوه:
الأول : الإستغفار نسخ للذنوب والمعاصي.
الثاني : الإستغفار صلاح للذات.
الثالث : من سبل ومقدمات الصلاح الإستغفار.
الرابع : قيام المسلم بالإستغفار موعظة للغير، ودعوة له للإستغفار.
الخامس : الإستغفار من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو أمر بالتوبة والإنابة ونهي عن إرتكاب الفواحش والعودة إليها.
السادس : من خصائص الإستغفار أنه سبب للرزق، وعلة لجلب النفع ودفع البلاء، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرجاً ، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً ، ورَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ( ).
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام لما قال له سفيان الثوري: لا أقوم حتى تحدثني – قال جعفر: أما أني أحدثك ، وما كثرة الحديث لك بخير يا سفيان ، إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقاءها ودوامها ، فأكثر من الحمد والشكر عليها ، فإن الله تعالى قال في كتابه { لئن شكرتم لأزيدنكم } وإذا استبطأت الرزق ، فأكثر من الاستغفار ، فإن الله تعالى قال في كتابه { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً . يمددكم بأموال وبنين } يعني في الدنيا والآخرة { ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً } يا سفيان ، إذا أحزنك أمر من سلطان أو غيره ، فأكثر من لا حول ولا قوّة إلا بالله ، فإنها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنة ( ).
كيفية إستغفار النبي محمد (ص)
من الإعجاز في الشريعة الإسلامية بيان الأحكام والمناسك والسنن واليسر والسهولة في معرفتها وكيفية العمل بها والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام المعلم الأول في الإستغفار تعاهداً ،وتعليماً ،وترغيباً به وبيان الحاجة إليه في النشأتين، وهو سبيل لنيل ثواب الدنيا وثواب الآخرة اللذين ذكرتهما آية البحث، وتعدد صيغ الإستغفار وكلها ذات نفع عظيم وتجزي في المقام منها:
الأول : استغفر الله ،وهو أم صيغ الإستغفار قال تعالى[ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وقد تكون كفاية كلمة استغفر الله في المقام نتيجة الجد والإجتهاد في عبادة الله وأداء المناسك بالوقوف في عرفة والمبيت في المشعر الحرام.
الثاني : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه) وعن ابن عمر أنه سمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة .
الثالث : وعن ابن عمر إنا كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس يقول : رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة( ).
الرابع : إرادة الإستغفار في زمان مخصوص للترغيب بالإستغفار، وإدراك موضوعيته، وجعله مقدمة وطريقاً للخير والبركة، وعن الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه آله سلم : رجب شهر الاستغفار لامتي أكثروا فيه الاستغفار، فإنه غفور رحيم، وشعبان شهري استكثروا في رجب من قول أستغفر الله، واسألوا الله الاقالة والتوبة( ).
الخامس : تعدد صيغ الإستغفار التي جرت على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان السعة فيه ،وأنه خير محض .
بطلان التناسخ
التناسخ في الأرواح مصطلح لا أصل له، وهو إنتقال الروح عند الموت إلى جسد آخر فتسعد أو تشقى بحسب عملها، وإن الإنسان حينما يموت تنتقل روحه إلى مولود أو جنين في بطن امرأة حامل فإن كان محسناً في حياته إنتقلت روحه إلى جسد يسعد فيه ولا يصيبه ألم وحزن، وأما إن كان مسيئاً في حياته فإن روحه تنقل إلى جسد يلحقه معه الأذى والضرر، وهذا القول باطل وقالوا أن الجسد كالثوب الذي تستبدله الروح وقيل التناسخ من عقائد بعض الملل، وتسمى(السامسارا) وبها يفسر معرفة إنسان لآخر غريب عنه عند إلتقائهما لأول مره وهم لا يبكون على الميت لأن روحه تحل بمولد فيلزم السعادة بولادته ولا يعتنون بمغاير وزيادة قبور.
والتناسخ خلاف الكتب السماوية والأخبار النبوية، فحينما تنفصل الروح عن الجسد لا تحل بجسد آخر أبداً بل ينتظر الإنسان البعث بذات الروح والجسد حيث الحساب والجزاء، وهو الذي تدل عليه آية البحث بذكرها لوقوع الموت والسكون التام على النفس التي هي الروح والجسد مجتمعين، وأخبرت التوراة وغيرها من الكتب السماوية عن عودة الروح إلى الله مما يدل بالدلالة التضمنية على عدم وجود فكرة التناسخ أصلاً، ولم يعرف العرب هذا القول مع صلاتهم بأهل الكتاب وعبادتهم للأوثان وميلهم لحب البقاء لقرب عهدهم بالحنيفية الإبراهيمية، ولتأتي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتكون واقية للناس من القول بالتناسخ وما فيه من الضرر على الناس في العقيدة والمبدأ وعالم الأفعال ووجوب الإستعداد للآخرة الذي تدل عليه آية البحث بقوله تعالى[وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا]( )، فيكون الفعل من الإنسان بذاته وشخصه، وكذا لا يقع الثواب في الآخرة إلا عليه، قال تعالى[وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى]( ).
وليس من حصر للآيات والأحاديث التي تدل على نفي التناسخ، وعدم وجود موضوع له أيام التنزيل، إنما طرأ موضوعه على منتديات المسلمين عند الترجمة عن الأمم والملل الأخرى خاصة أيام الدولة العباسية فأفتى علماء الإسلام بكفر من قال بالتناسخ.
وتبين الآية أن كل نفس إنسانية تموت بإنقطاع الحركة وإمتناع الحياة عنها، ويبقى الجسد جثة لها إلى أن ينفخ في الصور وتبعث الأجساد من القبور فتحل ذات الأرواح بأجسادها، وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إِذَا انْتَهَى مَلَكُ الْمَوْتِ بِرُوحِ الْمُؤْمِنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ لَهُ : مَرْحَبًا بِهَذِهِ النَّفْسِ الطَّيِّبَةِ ، وَبِجَسَدٍ خَرَجَتْ مِنْهُ ، وَإِذَا قَالَ لِشَيْءٍ مَرْحَبًا، رَحَّبَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ ، وَذَهَبَ عَنْهُ الضِّيقُ ، انْطَلِقُوا بِهَذِهِ النَّفْسِ الطَّيِّبَةِ فَأَرُوهَا مَقْعَدَهَا مِنَ الْجَنَّةِ ، وَاعْرِضُوا عَلَيْهَا مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنَ الْكَرَامَةِ مِنَ الطَّعَامِ ، وَالشَّرَابِ ، وَالْخَدَمِ ، وَالأَزْوَاجِ ، ثُمَّ اهْبِطُوا بِهَا إِلَى الأَرْضِ ، فَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ أنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ , وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ , وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى.
فمن كان يريد ثواب الدنيا فإنه إنقطع بالموت لأن من خصائصها إنقطاع أيامها بلحاظ إمتناع الثواب والجزاء بإنتفاء موضوعه ووعائه الزماني، ومن أسرار خلق الإنسان التي تجلت في هذا الزمان إختصاص كل إنسان بوضوح علم بصمات الأصابع التي تختلف من شخص إلى آخر، وقيل إعتمدها الصينيون واليابانيون قبل ثلاثة آلاف سنة في العقود وختمها، وظهرت بصمات عديدة تميز بين البشر منها بصمة العرق ورائحته لذا تستخدم الكلاب المدربة الخاصة في شم المواضع للتعرف على الجاني أو غيره، وبصمة الشعر خاصة مع طول عمر الشعر، وبصمة العين التي إنتشرت بسرعة وبصمة الإذن وبصمة الصوت وتحليله، وبصمة سمات الوجه وبصمة الحامض النوويDNA لدقتها وسرعة إكتشاف هوية الشخص بها وهذا التعاقب بالدقة في أسرار خلق الإنسان ، والإنتفاع منها من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ).
ليدل على أن الله عز وجل أكرم وأعدل من أن يجعل النفس الواحدة لشخصين أو أكثر، وهو القادر على كل شيء، إلى جانب الأولوية القطعية في الخلق لموضوعية النفس في ذات خلق الإنسان، ولعل نظرية التناسخ جاءت من حب الإنسان البقاء في الحياة الدنيا، فجاءت آية البحث للترغيب بالآخرة والخلود فيها وأن الإنسان أمامه خياران إما إرادة ثواب الحياة الدنيا الذي ينتهي بالموت وبعده الحساب للنفس، أما الذي يريد الآخرة فيعيش السعادة الأبدية.
ومن إعجاز الآية في المقام أنها لم تذكر الجنة بالذات فلم تقل(ومن يرد ثواب الجنة) لتبين الآية قانوناً كلياً وهو أن الآخرة أعم، وبينها وبين الجزاء بالجنة والنار عموم ومطلق، فتبدأ الآخرة مع موت الإنسان وعالم القبر وكان ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة أو من أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)( ).
قوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً]
وهل من الكتاب المؤجل في آية البحث إماتة عزيز نبي الله مائة عام ثم بعثه كما ورد في قوله تعالى[أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ]( ).
الجواب نعم وهو آية معجزة في سنخية الموت وبيان أن العام في المقام وهو عودة الإنسان للدنيا بعد الموت يخص باستثناء ومعجزة تبين قدرة الله وسعة رحمته ،وعن الإمام علي عليه السلام قال: خرج عزير نبي الله من مدينته وهو شاب ، فمر على قرية خربة وهي خاوية على عروشها فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه ، فأول ما خلق منه عيناه ، فجعل ينظر إلى عظامه وينظم بعضها إلى بعض ، ثم كسيت لحماً ، ثم نفخ فيه الروح فقيل له : كم لبثت؟ قال : لبثت يوماً أو بعض يوم . قال : بل لبثت مائة عام ، فأتى مدينته وقد ترك جاراً له اسكافاً شاباً ، فجاء وهو شيخ كبير( ).
ويحتمل التأجيل والإرجاء في قوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً] وجوهاً:
الأول : حلول الأجل بلحاظ أيام الإنسان في الحياة الدنيا.
الثاني : تعيين أجل الإنسان وأوان موته قبل خلقه.
الثالث : إرادة حقيقة وهي إبتعاد موضوع الموت عن الإنسان في حياته اليومية ما دام في الحياة الدنيا، فلا يكون الأجل اللاحق سبباً لبعث الفزع والخوف في نفسه كل يوم وبما يقعده عن السعي في الدنيا ولوازمها.
الرابع : إرادة التأجيل في الأجل، فهناك أوان تقبض فيه روح الإنسان ولكن قد يتفضل الله عز وجل ويمحوه ويجعل له أجلاً أبعد منه.
عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله[ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ] ( ) قال : الأجل الذى غير مسمى موقوف يقدم منه ما شاء ـ ويؤخر منه ما شاء ـ واما الاجل المسمى فهو الذى ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل قال : فذلك قول الله ” اذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون( ) ، وبين الأجل المذكور في آية البحث والأجلين المذكورين في الآية أعلاه من سورة الأنعام عموم وخصوص مطلق ، لأن قوله تعالى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] أعم من الأجلين أعلاه ، وهذا التعدد من فضل الله .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية أعلاه ثلاثة أقوال
الأول : { ثم قضى أجلاً } يعني أجل الموت { وأجل مسمى عنده } أجل الساعة والوقوف عند الله .
الثاني : (قضى أجلاً) قال : أجل الدنيا . وفي لفظ : أجل موته { وأجل مسمى عنده } قال : الآخرة لا يعلمه إلا الله( ).
الثالث : (قضى أجلاً) قال :هو النوم ، يقبض الله فيه الروح ثم يرجع إلى صاحبه حين اليقظة { وأجل مسمى عنده } قال : هو أجل موت الإِنسان ( ).
وتبين آية البحث بأن أوان موت الإنسان ليس أمراً محدداً لا يقبل التغيير، بل هو بيد الله عز وجل إذا شاء أبعده وإن شاء قربه، كما لو أمهل الكافر من أجل توبته ويبعد الله الأجل للمؤمن ليتزود من الصالحات.
إذ جاء التأجيل في الآية بصيغة العموم(كِتَابًا مُؤَجَّلاً) نعم هناك تباين في المندوحة والسعة بين إمهال المؤمن وإمهال الكافر، إن كل يوم يمر على الإنسان في حياته هو من التأجيل والإمهال الوارد في قوله تعالى(كِتَابًا مُؤَجَّلاً).
إذ ذكرت الآية التأجيل على نحو الإطلاق من غير تقييده بزمان وفيه وجوه:
الأول : تجلي التقييد بلفظ الكتاب في ذات الآية، فما دام مكتوباً إذن هو أمر وجودي ومعلوم، وليس من تعارض بين كتابة الأجل وتنكير وإطلاق التأجيل في زمانه، وعدم بيان حده ورسمه، إذ أنه مكتوب عند الله عز وجل من جهات:
الأولى : حتمية الموت للإنسان.
الثانية : تعيين أجل الإنسان الأول.
الثالثة : كتابة الأوان المؤجل لقبض روح أي إنسان، إذ أن الله عز وجل يعلم مدة التأجيل وعلة طولها أو موانع زيادتها قبل أن يخلق ذات الإنسان وهو من مصاديق إحاطة الله علماً بالموجود والمعدود، قال تعالى[وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ]( ).
الثاني : تعلق التأجيل بأصل كتاب الأجل وتعيين أوانه .
الثالث: إرادة ذات الموت من مفهوم التأجيل ، ومعنى كتاباً مؤجلاً أي حدث مؤجلاً .
الرابع : إرادة الفرض والحتم وتقدير الآية (وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله فرضاً، وفي حديث أنس بن النضر قال له : كِتابُ اللّهِ القِصَاصُ] أي فَرْضُ اللّه على لِسَان نَبِيّه]( ).
ولا يختص علم الله بحمل الأنثى في أوان حملها بل إن علم الله به سابق لخلق آدم عليه السلام، وهو من أسرار قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وبيان وتفسير[وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا]( )، في يوم خلق الأرض، وفيه إكرام للإنسان، ودعوة له للإيمان بالله ورسله والإنقطاع للعبادة التي هي المصداق الأمثل لشكر العبد لله عز وجل على نعمة الخلق بآية إعجازية في نشوئه في الرحم تسعة أشهر لحين ولادته وتهيئة سُبل العناية به حتى بلوغه، وما دام في الحياة الدنيا فهو في حفظ من عند الله بمؤونة ولطف في كل ساعة وحال منها لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
وعن ابن عباس: أن أربد بن قيس وعامر بن الطفيل، قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهيا إليه وهو جالس، فجلسا بين يديه فقال عامر: ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم. قال: أتجعل لي إن أسلمت، الأمر من بعدك؟ قال: ليس لك ولا لقومك، ولكن لك أعنة الخيل. قال: فاجعل لي الوبر ولك المدر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا. فلما قفى من عنده قال لأمَلأَنَّها عليك خيلاً ورجالاً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: يمنعك الله فلما خرج أربد وعامر، قال عامر: يا أربد، إني سألهي محمداً عنك بالحديث، فاضربه ، فإن الناس إذا قتلت محمداً لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب، فسنعطيهم الدية.
فقال أربد: أفعل. فأقبلا راجعين فقال عامر: يا محمد، قم معي أكلمك. فقام معه فخليا إلى الجدار، ووقف معه عامر يكلمه وسل أربد السيف، فلما وضع يده على سيفه يبست على قائم السيف، فلا يستطيع سل سيفه. وأبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما. وقال عامر لأربد: ما لك حشمت؟ قال وضعت يدي على قائم السيف فيبست، فلما خرج عامر واربد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كانا بحرة واقم، نزلا. فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقال: اشخصا يا عدوَّي الله، لعنكما الله، ووقع بهما. فقال عامر: من هذا يا سعد؟ فقال: هذا أسيد بن حضير الكتائب.
قال: اما والله ان كان حضير صديقاً لي، حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة ، وخرج عامر حتى إذا كان بالخريب أرسل الله عليه قرحة فأدركه الموت فيها: فأنزل الله{الله يعلم ما تحمل كل أنثى….. له معقبات من بين يديه} قال: المعقبات من أمر الله، يحفظون محمداً صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر أربد وما ، فقال هو الذي يريكم البرق….. وهو شديد المحال})( ).
ولا تدل الآية على الحصر باجلين للإنسان ، فالقدر المتيقن منهما أن الموت أمر حتمي يحل بساحة الإنسان وأن كل ساعة تمر عليه في الحياة الدنيا نعمة وفضل من عند الله الذي يعلم حاله ويرى مكانه وهو الذي يمهله بالبقاء في هذه الساعة بالدنيا ويؤجل عنه فيها الموت ،فكل آن من آنات عمر الإنسان يكون فيه الموت [كِتَابًا مُؤَجَّلاً]لتكون الحياة فيها كتاباً حاضراً وأمراً نافذاً باذن الله ، فكما أن الموت كتاب مؤجل بعلم الله عز وجل فان إلتصاق الروح بالجسد في الحياة الدنيا بكتاب ومشيئة من عند الله سبحانه ، وهو من أسرار قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )بأن يعلم الله عز وجل بحال الإنسان ويتعاهده .
وتدل آية البحث على أن الخلاف في الأجل هل واحد أم هما أجلان صغروي من جهات :
الأولى :كل من القولين وصف لحال مخصوص وأن الأجل معلوم عند الله .
الثانية : تأجيل أوان الموت لطف .
الثالثة : كل ساعة تمر على الإنسان هي تأجيل لأجله ، وتأخير لأوان موته ليكون عدد الآجال من اللامتناهي بلحاظ إحتساب نفس الإنسان ، فكل شهيق وزفير جديد هو تأجيل وإرجاء للأجل ، والله عز وجل يعلم عدد نفس الإنسان وهو سبحانه [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ).
الرابعة : الأولى التدبر في أسرار تأجيل الموت .
وفي معنى الكتاب في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة المصدر والتقدير :كتب الله كتاباً ، فيكون التأجيل في مصداقه الواقعي وشروع ملك الموت بانتزاع الروح من الجسد عند حلول الأجل وإنتهاء مدة التأجيل .
الثاني : إرادة معنى الحكم من لفظ الكتاب في الآية .
الثالث : إرادة التوافق والتطابق بين إستيفاء العبد لرزقه وبين حلول أوان الأجل ، وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :
[عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « أيها الناس إنه ليس من شيء يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا قد أمرتكم به ، وإنه ليس شيء يقربكم من النار ويبعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه ، وأن الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته] ( ) ليس مجرداً بذاته بل مع الرزق الكريم ، وأسباب الإبتلاء والإختبار، واللامتناهي من مناسبات الإستغفار والتوبة وإنقطاع الروح إلى الباري عز وجل رجاء العفو والرحمة ، ومنه المزيد في التأجيل في ذات الكتاب إلى حين الأجل المحتوم ، قال تعالى [وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا] ( ).
الرابع : المراد من التأجيل مدة الحياة ، وبيان حقيقة وهي أن وجود الإنسان مدة حياته في الحياة الدنيا أمر متزلزل يملي على الإنسان تسخير أيامه لمرضاة الله فلأن كل يوم وعاء زماني يحتمل فيه حلول أجله فعليه أن يستعد لعالم الحساب والجزاء ، وفي هذا التذكير مسائل :
الأولى :تأديب وإرشاد المسلمين لجلب المصلحة ودفع المفسدة .
الثانية :بعث النفرة في نفوسهم من اللذات والشهوات المحرمة .
الثالثة :حث المسلمين للسعي لثواب الآخرة .
ومن إعجاز القرآن أنه جاء بالوصف البياني للنعيم الأخروي بما يغني المؤمن عن زينة الدنيا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
الخامس : المقصود من الكتاب هو إذن الله بموت الإنسان .
وتقدير الآية : إلا بأذن الله إذناً مؤجلاً لبيان أن ملك الموت وأعوانه لا يعلمون أوان موت أي إنسان إلا ساعة حلول الأجل والأمر بانتزاع الروح عن الجسد وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
السادس :حمل الكلام على ظاهره ، والمراد أن موت أي إنسان لا يكون إلا بكتاب مكتوب يتلقاه ملك الموت ، وفيه مسائل :
الأولى :بيان إكرام الله عز وجل للإنسان في حياته وموته .
الثانية : إنتقال الإنسان إلى عالم الآخرة أمر عظيم لا يتم إلا بكتاب مكتوب تراه الملائكة .
الثالثة : كل إنسان له كتاب خاص يتعلق بأوان موته .
الرابعة : الآية من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فالإنسان لا يغادر مقامه وشأنه في الدنيا وأيام الخلافة إلا بكتاب وهذا الكتاب موجود ومصاحب له من حين ولادته، ولكنه مؤجل لحين الإذن الإلهي بقبض روحه.
الخامسة : تأكيد فضل الله على الإنسان في كل ساعة من حياته بتأجيل أوان موته .
تقدير(كتاباً مؤجلاً)
يمكن قراءة الآية على وجوه كثيرة ومتعددة، نذكر عدداً منها على سبيل البيان وتأسيس علم لامتناه في تأويل كل شطر من الآية القرآنية وفق الكتاب والسنة :
الأول : كتاباً مؤجلاً، يعلمه الإنسان.
الثاني : كتاباً مؤجلاً رحمة بالإنسان صاحب الأجل وبالناس جميعاً، بلحاظ أن الإنسان في بعد أجله ينتفع منه غيره من الذرية والأرحام والجيران والأصحاب وغيرهم.
الثالث : كتاباً مؤجلاً مناسبة للتوبة والإنابة.
الرابع : كتاباً مؤجلاً لإتيان المؤمن الصالحات وإكتنازه الحسنات.
الخامس : كتاباً مؤجلاً للدلالة على أن الآجال أمر بيد الله عز وجل.
السادس : كتاباً مؤجلاً لبيان أن مقاليد الأمور كلها بيد الله، وليس من أحد يعتدي على مملكته وسلطانه [وعن عثمان بن عفان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله تعالى { له مقاليد السماوات والأرض } قال : « لا إله إلا الله ، والله أكبر ، سبحان الله ، والحمد لله . أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الأوّل ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ، يحيي ، ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير . يا عثمان من قالها كل يوم مائة مرة أعطي بها عشر خصال : أما أولها فيغفر له ما تقدم من ذنبه . وأما الثانية فيكتب له براءة من النار . وأما الثالثة فيوكل به ملكان يحفظانه في ليله ونهاره من الآفات والعاهات . وأما الرابعة فيعطى قنطاراً من الاجر . وأما الخامسة فيكون له أجر من أعتق مائة رقبة محررة من ولد إسماعيل . وأما السادسة فيزوّج من الحور العين . وأما السابعة فيحرس من إبليس وجنوده . وأما الثامنة فيعقد على رأسه تاج الوقار . وأما التاسعة فيكون مع إبراهيم . وأما العاشرة فيشفع في سبعين رجلاً من أهل بيته . يا عثمان إن استطعت فلا يفوتك يوماً من الدهر تفز بها من الفائزين ، وتسبق بها الأولين والآخرين] ( ).
السابع : كتاباً مؤجلاً بلطف من عند الله لأن الإنسان يحب البقاء في الدنيا.
الثامن : كتاباً مؤجلاً لتأكيد أن كل يوم يمر على الإنسان هو من فضل الله وحسن إمهاله للعباد.
التاسع : كتاباً مؤجلاً لبيان مصداق من مصاديق رحمة الله بالناس في الحياة الدنيا.
العاشر : كتاباً مؤجلاً فضل ونعمة تصيب البر والفاجر.
الحادي عشر : كتاباً مؤجلاً لينال الإنسان من ثواب الدنيا.
الثاني عشر : كتاباً مؤجلاً ليسعى الإنسان في سبل ثواب الآخرة.
الثالث عشر : كتاباً مؤجلاً لإقامة الحجة على الناس.
الرابع عشر : كتاباً مؤجلاً ليجزي الله الشاكرين.
الخامس عشر : كتاباً مؤجلاً وهو مصداق من مصاديق [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( ).
السادس عشر : كتاباً مؤجلاً ليتوجه الناس بالدعاء والمسألة إلى الله.
السابع عشر: جعل الله موت الإنسان كتاب مؤجل.
الثامن عشر : من فضا الله كون مغادرة الإنسان للدنيا كتاباً مؤجلاً.
التاسع عشر : الموت شدة ومصيبة كتاباً مؤجلاً.
العشرون : الموت كتاباً مؤجلاً يحل بالإنسان في الليل أو النهار.
الحادي والعشرون : الموت أمر حتم كتاباً مؤجلاً.
الثاني والعشرون : الإنتقال إلى عالم الحساب والعقاب بالموت كتاباً مؤجلاً.
الثالث والعشرون : كتاباً مؤجلاً فأحذروا سوء العاقبة.
الرابع والعشرون : كتاباً مؤجلاً فأسلموا بأنفسكم وأهليكم من النار، قال تعالى[قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( ).
الخامس والعشرون : الموت كتاباً مؤجلاً معلوم عند الله عز وجل.
السادس والعشرون : كتاباً مؤجلاً ليتنافس الناس في الخيرات ويتسابقوا في الصالحات.
السابع والعشرون : موت النفس الإنسانية كتاباً مؤجلاً رحمة من عند الله للناس جميعاً وإستدارجاً للكفار.
الثامن والعشرون : كتاباً مؤجلاً فلا تغرنكم الدنيا، ولا تركنوا إلى مباهجها.
التاسع والعشرون : كتاباً مؤجلاً[وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الثلاثون : كتاباً مؤجلاً فقولوا[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
الحادي والثلاثون : كتاباً مؤجلاً فـ[َاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
الثاني والثلاثون : كتاباً مؤجلاً فـ[لاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الثالث والثلاثون : كتاباً مؤجلاً[إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ]( ).
الرابع والثلاثون : كتاباً مؤجلاً يأتي معه الرزق كل يوم للعباد.
الخامس والثلاثون : كتاباً مؤجلاً فألتمسوا أسباب إطالة العمر ودفع ميتة السوء، (وعن عاصم بن ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ وَيُوَسَّعَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةُ السُّوءِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)( ).
السادس والثلاثون : كتاباً مؤجلاً[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( )، إذ تفضل الله عز وجل وجعل الموت أمراً مؤجلاً عن كل إنسان لينال نصيبه من الدنيا، ويكون حفظ الله عز وجل ورحمته للعبد بلحاظ آية البحث من جهات:
الأولى : إدامة عمر الإنسان التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
الثانية : حفظ الناس مجتمعين ومتفرقين، أي سلامتهم كأفراد، ودفع أسباب الإبادة الجماعية والهلاك العام عنهم.
الثالثة : كيفية حفظ الناس آية من عند الله وحجة على الناس، ورحمة من عنده تعالى.
الرابعة : إمهال الناس جميعاً.
الخامسة : إقتران الآيات والبراهين بحفظ الناس ،فمنها ما هو ثابت ومنها ما هو متجدد ومتوال.
السادسة : كتاباً مؤجلاً ليحفظ الله القرآن من الضياع والنسيان والتحريف وهذا الحفظ رحمة بالمسلمين خاصة والناس جميعاً.
السابعة : تأجيل الموت عن الناس من مصاديق قوله تعالى[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا]( )، ومن مصاديق[وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( )، لبيان أنه تعالى غني عن العالمين، إنما يحفظ الناس ويبعد عنهم الأجل ليجلبوا المصلحة والنفع لأنفسهم، ويدفعوا عنها الشرور والأذى في النشأتين.
السابع والثلاثون : كتاباً مؤجلاً[فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا]( )،إن في كل ساعة من أفراد الزمان كتاباً مؤجلاً للأحياء من الناس إلى أن ينفخ في الصور.
الثامن والثلاثون : كتاباً مؤجلاً فأستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم.
التاسع والثلاثون : كتاباً مؤجلاً لتوالي الآيات والحجج الباهرات على الناس جميعاً.
الأربعون : كتاباً مؤجلاً لينصر الله الإسلام ويظهره على الدين.
الحادي والأربعون : كتاباً مؤجلاً [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الثاني والأربعون : كتاباً مؤجلاً فأجتهدوا لتكونوا من الشاكرين.
الثالث والأربعون : كتاباً مؤجلاً[وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ]( ).
ويحتمل لفظ(كتاباً) في الآية وجوهاً:
الأول : إرادة ذات الموت وأنه كتاب مؤجل على الإنسان.
الثاني : المقصود أوان الموت الذي يطرأ في ساعة من ليل أو نهار.
الثالث : إذن الله عز وجل بموت الإنسان كتاباً مؤجلاً.
الرابع : الأمر الإلهي بتعيين أوان موت الإنسان.
الخامس : إرادة تحديد موضع قبض روح الإنسان وسوقه إلى مكان حتفه، قال تعالى[وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( ).
السادس : ذات التأجيل هو الكتاب، أي في الآية تقديم وتأخير، وتقديرها: المؤجل كتاب.
السابع : تكون مغادرة الإنسان الدنيا إلى عالم الآخرة كتاباً مؤجلاً.
الثامن : حضور ملك الموت عند الإنسان لقبض روحه.
والمختار هو الثالث وتكون الوجوه الأخرى أعلاه في طوله، وهو من إعجاز اللفظ القرآني وتعدد معانيه بما يبعث الناس على التدبر وإستحضار ذكر الله والعمل للآخرة والله هو الذي يعلم عدد أفواج الناس الذين ينتقلون من طلب ثواب الدنيا إلى السعي لثواب الآخرة بسبب آية البحث وإخبارها عن كون الموت كتاباً مؤجلاً من غير تعيين لمدة التأجيل قصراً أو زيادة في النافلة.
ووصفت الآية كتاب الموت بأنه مؤجل بصيغة البناء للمجهول ،وفيه وجوه:
الأول : تأجيل الموت من عند الله عز وجل ،وتقدير الآية: كتاباً أجله الله.
الثاني : إرادة الكيفية في ذات التأجيل.
الثالث : الموت كتاب مؤجل في تعيين أوانه.
الرابع : بيان قانون كلي وهو لا يقدر على تأجيل الموت إلا الله عز وجل، فجاءت صيغة البناء للمجهول لتسالم المسلمين على الإقرار بهذا القانون، وفيه ثناء عليهم.
يعرف الإستثناء بأنه إخراج الشيء عن حكم دخل فيه غيره.
وأم أدوات الإستثناء (الا) وجاءت في آية البحث للتقييد والتعليق إذ أن الموت قانون حتمي يتغشى أهل الأرض جميعاً، قال تعالى[قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ] ( )، فليس من إستثناء في المقام.
ولو رفعنا أداة النفي والإستثناء من الآية ويكون التقدير(كل نفس تموت باذن الله) لأختلف المعنى لأن إثبات شئ لشئ لايدل على نفيه عن غيره، فيكون المعنى أن النفس التي تموت لا تموت إلا باذن الله، واحتمل وجود نفوس لا تموت أو هناك سبب أخر لموت الإنسان ولبيان الربوبية المطلقة لله ونفي الشريك حتى في مسألة موت الإنسان، فجاءت آية البحث بصيغة النفي والتقييد ليتعلق الموضوع بخصوص أوان وأجل موت الإنسان.
وجاءت آيات أخرى تؤكد عموم نزول الموت بالناس كما في قوله تعالى[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، لزجر الكفار عن الشماتة بفقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلابد من مفارقة الروح للجسد، وليس من خلود لأحد في الأرض.
والباء في(باذن الله) للمصاحبة وأن طرو حال الموت على الإنسان يأتي مع إذن الله، وهذا الإذن أعم من الموافقة والرضا، فالمراد منه الأمر والإرادة والقضاء منه تعالى، وفي التنزيل [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
وفي الآية تأديب للمسلمين والمسلمات بأن أوان الآجل لا يحل بناصيتهم إلا بأمر الله عز وجل وإذنه، وفيه مواساة لهم في أنفسهم وفي ذويهم لذا جاء القرآن باللجوء إلى الإسترجاع عند المصيبة.
ووردت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبار عن قبض ملك الموت لأرواح الأنبياء وغيرهم، منها مثلاً ما ورد في حديث أنه قال: كَانَ دَاوُدُ النَّبِيُّ فِيهِ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ وَكَانَ إِذَا خَرَجَ أُغْلِقَتْ الْأَبْوَابُ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ قَالَ فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَغُلِّقَتْ الدَّارُ فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ تَطَّلِعُ إِلَى الدَّارِ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ فَقَالَتْ لِمَنْ فِي الْبَيْتِ مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ الدَّارَ وَالدَّارُ مُغْلَقَةٌ وَاللَّهِ لَتُفْتَضَحُنَّ بِدَاوُدَ فَجَاءَ دَاوُدُ فَإِذَا الرَّجُلُ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا الَّذِي لَا أَهَابُ الْمُلُوكَ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنِّي شَيْءٌ فَقَالَ دَاوُدُ أَنْتَ وَاللَّهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَمَرْحَبًا بِأَمْرِ اللَّهِ فَرَمَلَ دَاوُدُ مَكَانَهُ حَيْثُ قُبِضَتْ رُوحُهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ شَأْنِهِ وَطَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلطَّيْرِ أَظِلِّي عَلَى دَاوُدَ فَأَظَلَّتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ حَتَّى أَظْلَمَتْ عَلَيْهِمَا الْأَرْضُ فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ اقْبِضِي جَنَاحًا جَنَاحًا)( ).
ومات داود وعمره مائة سنة، وعن ابن عباس قال: مات داود عليه السلام فجأة وكان بسبت وكانت الطير تظله)( ).
وقيل أن إبراهيم وسليمان ماتا فجأة أيضاً.
ترى لماذا لم تقل الآية (إلا بأمر الله) الجواب من وجوه:
الأول : نسبة التساوي بين أمر الله وإذن الله، فاذنه تعالى مصداق لأمره سبحانه.
الثاني : بيان التعدد في مصاديق المشيئة الإلهية.
الثالث : الإخبار عن قيام ملك الموت بقبض روح الإنسان بإذن الله.
الرابع : الدلالة على أن ساعة موت الإنسان مرددة بين أكثر من أوان ووقت، فقد يدنو الموت من الإنسان ويداهم الإنسان ولا يبقى بينهما إلا نفس وشهيق فينصرف الموت ويغادره ملك لأن الإذن الإلهي لم يأت، وعدم مجيء هذا الإذن ليس عن نسيان من عند الله الذي[لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ]( )، بل هو من فضل ورحمة الله وعلمه بعاقبة الأمور، لذا قالت الآية(كتاباً مؤجلاً) ليكون الذي ينتظر الإذن الإلهي على وجوه:
الأول : ملك الموت، الذي يفعل ما يأمره الله عز وجل.
الثاني : ذات الموت بلحاظ أنه أمر وجودي مستجيب لأمر الله لا يحل بساحة الإنسان وينزل كمصيبة إلا بمشيئة الله، قال تعالى[أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ]( )، فنسبت الآية فعل الإدراك واللحاق لذات الموت.
الثالث : الكتاب هو المؤجل، وجاء قوله تعالى[حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ]( )، لبيان موضوعية ملك الموت وأعوانه الذين يقبضون الروح، وذات الموت، ولما أخبرت آيات القرآن عن رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً، جاء قوله تعالى(كتاباً مؤجلاً) نعمة ورحمة مزجاة ينال منها كل إنسان، وتبعث الأمل في النفوس، وهي دعوة للشكر لله عز وجل على هذه النعمة والمندوحة في الحياة ،وكل ساعة من الوقت المؤجل للإنسان مناسبة للتوبة والإنابة والعمل الصالح.
وهل من الكتاب المؤجل الذي ذكرته آية البحث تصفح ملك الموت للناس كل يوم ليرى من حان أجله الجواب لا ، نعم هو من التأجيل بمعناه الأعم، إذ أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام(قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من الأنصار يعوده ، فإذا ملك الموت عليه السلام عند رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن،
فقال : ابشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق ، واعلم يا محمد إني لأقبض روح ابن آدم ، فيصرخ أهله ، فأقوم في جانب من الدار فأقول : والله ما لي من ذنب وإن لي لعودة وعودة الحذر الحذر ، وما خلق الله من أهل بيت ، ولا مدر ، ولا شعر ، ولا وبر في بر ، ولا بحر ، إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم وليلة خمس مرات حتى أني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم ، والله يا محمد إني لا أقدر أقبض روح بعوضة حتى يكون الله تبارك وتعالى هو الذي يأمر بقبضه)( ).
الجواب موضوع التصفح هذا أعم فيشمل الكتاب المؤجل وعدم حلول الأجل مطلقاً، وكما تبين الآية أن الموت بإذن الله فكذا إستدامة الحياة لا تتم إلا بإذن الله، فساعات وجود أي إنسان على الأرض إنما هو رشحة من رشحات فضل الله عز وجل.
ومن أسماء الله الحسنى [الرازق ]و[الرزاق] ليكون من مصاديق آية البحث توالي الرزق الكريم من عند الله على الإنسان مادام كتابه مؤجلاً، وتتنابع النعم الإلهية عليه، والإذن للعبد بالدعاء والمسألة وسؤال الحاجات من عند الله.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما ألقي يوسف في الجب أتاه جبريل عليه السلام فقال له: يا غلام، من ألقاك في هذا الجب؟ قال:إخوتي قال: ولم؟ قال: لمودة أبي إياي حسدوني. قال: تريد الخروج من ههنا؟ قال: ذاك إلى إله يعقوب. قال: قل اللهم إني أسألك باسمك المخزون والمكنون، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والاكرام أن تغفر لي ذنبي وترحمني، وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، وأن ترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب. فقالها، فجعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً ورزقه ملك مصر من حيث لا يحتسب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألظوا بهؤلاء الكلمات، فإنهن دعاء المصطفين الأخيار)( ).
قانون النحو القرآني
الإشتقاق لغة هو إقتباس جزء من ذات الشئ.
وهو في الإصطلاح: نزع لفظٍ من آخر، بشرط مناسبتهما معنًى وتركيباً، ومغايرتهما في الصيغة( ).
وإختلفت مدرسة البصرة والكوفة بخصوص أصل الإشتياق وهل المصدر أم الفعل على قولين، وتحمس كل فريق لقوله، ولكن الخلاف بينهما صغروي.
ومال مشهور النحويين إلى قول مدرسة البصرة وقد إنبرى ابن الأنباري( ) في كتابه الإنصاف إلى الرد على أدلة الكوفيين ونعتها بالفساد مع أن أباه من علمائها وأحد أساتذته ولعله لم ينصفهم في كتابه الإنصاف، وجاء على أدلتهم بأن الفعل هو الأصل دليلاً بعد آخر.
وتبعه أبو البقاء العكبري( )، فذكر في كتابه مسائل الخلاف في النحو أدلة الفريقين وإنتصر لمذهب البصريين وأن المصدر هو الأصل ورد على أدلة مدرسة الكوفة
وقال الكوفيون: المصدر مشتق من الفعل وهو متفرع عنه نحو صام صوماً، درس درساً.
وإستدلوا بوجوه ، نذكرها مع ردنا عليها:
الأول : المصدر يصح لصحة الفعل، ويعتل لاعتلاله نحو: ضرب يضرب ضرباً فالمصدر يصح فيه، بينما تقول زار زيارة ،فالمصدر يعتل لاعتلال الفعل.
كما في قوله تعالى[هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، فهدى مصدر سماعي للفعل(هدى) معتل الآخر وأصله هديت فإعتل المصدر مثلما إعتل الفعل.
ولكن ليس كل مصدر يعتل، إنما يختص الأمر بالزيادة.
الثاني : الفعل هو الأصل والمصدر متفرع عنه لأن الفعل يعمل في المصدر فتقول: كتبت كتابة، فجاءت الكتابة رشحة من الفعل وفرعاً له، ورتبة العامل مقدمة على رتبة المعمول.
ولكن لا يدل عمل وأثر الفعل بالمصدر على نسبة الأصل والفرع بينهما، فالحروف مثلاً تعمل في الأسماء، ولم يقل النحويون أن الحروف أصل للأسماء.
الثالث : يذكر الفعل على نحو الحدث المستقل.
أما المصدر فانه توكيد للفعل، والمؤكَد بالفتح مقدم على المؤكّد بكسر الكاف.
وهل هو مثل تقديم المعطوف عليه على المعطوف، الجواب لا، وهذا الإستدلال لطيف لو تمت مقدماته.
الرابع : هناك أفعال لا مصادر لها مثل: نعم، بئس، ليس، عسى، حبذا، قال تعالى[بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ]( )، فبئس فعل جامد لإرادة الذم، والرفد مصدر في محل فاعل مرفوع.
ولو كانت الأفعال هي فرع للمصدر فأين هو الأصل، لأن القاعدة العقلية هي ترتب الفرع على الأصل.
ويمكن الرد بأن هناك مصادر لا أفعال لها، مثل ويس.
الخامس : لا يتبادر إلى الذهن معنى المصدر إلا مع وجود فعل وفاعل، ووضع الفعل مقدم على الفاعل.
السادس : سمي المصدر مصدراً لأنه صادر عن الفعل، وليس لصدور الفعل عنه، وهذا نوع مصادرة.
وإحتج البصريون بأن المصدر هو الأصل بوجوه:
الأول : دلالة المصدر على الإطلاق في زمانه، أما الفعل فهو مقيد بأوان حدوثه، والمطلق أصل للمقيد، وفي علم الأصول قاعدة هي أصالة الإطلاق.
الثاني : المصدر اسم، والاسم يقوم بذاته في دلالته وتعيين معناه، أما الفعل فانه لا يقوم بذاته، ويفتقر إلى الفاعل الذي هو الإسم، وما يستغني بذاته ولا يحتاج إلى غيره أصل لما لا يقوم بذاته.
الثالث : الفعل مركب من أمرين:
الأول : الحدث، وكيفية الوقوع.
الثاني : أوان الفعل.
أما المصدر فانه يدل على شئ واحد وهو الحدث، والواحد أصل للإثنين.
الرابع : للمصدر مثال متحد، مثل : التوضأ، الضرب، أما الفعل فأمثلته متعددة من الماضي والأمر والمضارع، فتقول صلى، صل، يصلي، فكل فعل له زمان معين.
ويمكن الرد عليه بأن المصدر قد يأتي فاعلاً أو مفعولاً به أو اسم إن أو اسم كان أو خبراً لأحدهما، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وتبيان مصدر ويعرب هنا حالاً.
الخامس : مما استدل به البصريون بان المصدر أصل الفعل، أن الفعل بهيئته مرآة للمصدر وما يدل عليه المصدر لا يفيد ما يدل على الفعل.
فاذا قلت قرأ فانه يدل على معنى القراءة وتحققها، أما إذا قلت القراءة فقد لايتبادر إلى الذهن الفعل قرأ.
السادس : لو كان المصدر مشتقاً من الفعل لدل على معنى ثالث مثل اسم الفاعل، واسم المفعول.
السابع : عدم إشتقاق المصدر من الفعل، ولو كان مشتقاً منه لجرى وفق قواعد القياس، كما تقول ضرب ضارب في إشتقاق اسم الفاعل أو ضُرب المضروب في اسم المفعول.
الثامن : إثبات الهمزة في المصدر ، كما في (إجتهد إجتهاداً) ولو كان مشتقاً من الفعل للزم حذف الهمزة، كما حذفت من اسم الفاعل واسم المفعول، فتقول(مجتهِد، ومجتهَد).
التاسع : هناك مصادر ليس لها أفعال مثل(ويح) في الدعاء لشخص تقول (ويح فلان).
العاشر : سمي المصدر مصدراً لأنه الموضع الذي يصدر عنه، فالفعل صادر عنه.
ولكن ليس المدار على الاسم في المقام بل على المسمى.
الحادي عشر : ويمكن أن نضيف له أن المصدر يأتي للمفرد والجمع، كما في قوله تعالى[حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا]( )، أي لا شأن لهم كالهلكى ويقال: رجل بور وجماعة بور.
وردت كل مدرسة على الأخرى في إحتجاجها، وهناك وجوه أخرى بيانية في المقام وهي:
الأول : كل من الفعل والمصدر أصل قائم بذاته.
الثاني : الفعل أصل قريب، والمصدر أصل بعيد، أي أن كلاً منهما أصل، ولكن هناك فرق رتبي.
الثالث : الأصل هو الجذر اللفظي الذي يشتق منه الفعل والمصدر ليكون كل منها فرعاً ولا يكون الأصل دائراً بينهما .
الرابع : بعض الكلمات والألفاظ يكون الفعل فيها هو الأصل، وبعضها يكون المصدر هو الأصل.
الخامس : تعدد جهة الإشتقاق، فيكون من الأسماء والأفعال والمصادر والحروف مع التباين في الحكم بينها.
السادس : بعض الكلم مشتق وبعضه غير مشتق، نعم أكثر الكلم مشتق.
والمختار أن الأصل هو الاسم لقوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ) فكان الاسم في الجنة وقبل أن يكون الفعل والمصدر .
وأختلف في لغة آدم، على وجوه:
الأول : لغة آدم هي العربية.
الثاني : كان آدم يتكلم السريانية وقال ابن سلام علم الله عز وجل آدم الأسماء سراً من الملائكة وانطقه بها حينئذ وسميت السريانية.
ولا دليل عليه.
الثالث : كان آدم يتكلم اللغات كلها.
الرابع : كان لسان آدم العربية ولما أكل من الشجرة أبدله الله بالجنة الأرض والعناء والحرص ،وبلسان العربية السريانية.
وقيل أول من تبدل لسانه من السريانية إلى العربية يعرب بن قحطان وهو ابن عابر بن شامخ بن قينان بن فخشذ بن شامخ بن سام بن نوح ، وقيل كان قحطان أول ملك في اليمن ولكن أهل اليمن كانوا عرباً منهم جرهم، وقبائل قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس، وفي الخبر أن هوداً وصالحاً من الأنبياء العرب.
وعن ابن عباس قال: لما هرب إبراهيم من كوثى وخرج من النار ولسانه يومئذ سرياني فلما عبر الفرات من حران غير الله لسانه فقيل عبرانى أي حيث عبر الفرات وبعث نمرود في أثره وقال لا تدعوا أحدا يتكلم بالسريانية إلا جئتموني به فلقوا ابراهيم عليه السلام فتكلم بالعبرانية فتركوه ولم يعرفوا لغته)( ).
والمختار أن العربية هي اللغة التي علم الله عز وجل بها الأسماء آدم وهي لغة أهل الجنان، والأصل أن آدم عليه السلام نزل بذات اللغة، وبها يتخاطب مع حواء وأولاده.
ولو تنزلنا وقلنا أن اللغة التي تعلمها آدم غير العربية فتبقى موضوعية الاسم في أصل الإشتقاق خاصة وأنه لا دليل ثابت على كون الأصل هو الفعل أو المصدر، وكل فرد منهما قريب من الإسم، ويكون بياناً وتعريفاً له وللكيفية التي يكون بها.
وموضوعية مفردات اللغة العربية ظاهرة في اللغات الأخرى، وكأنها أخذت منها وارتكزت عليها في أصل الإشتقاق مثل اللغة النسكريتية والفينيقية والآرامية، كما حافظت اللغة العربية على قواعدها في النطق والإعراب والصرف والمعاني، وهذا الحفظ من إعجاز القرآن الغيري.
وأخرج ابن جرير عن الإمام علي عليه السلام قال: لما قتل ابن آدم ، بكى آدم فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها … فلون الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم … وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه السلام :
أبا هابيل قد قتلا جميعاً … وصار الحي بالميت الذبيح
وجاء بشره قد كان منه … على خوف فجاء بها يصيح( ).
وقد رحب آدم والأنبياء الآخرون ليلة المعراج بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باللغة العربية.
وجعلنا الاسم هو الأصل في ذات الإشتقاق في اللفظ العربي لوجوه:
الأول : القرآن حجة عند الخلاف، وآية في الإحتجاج والبرهان.
الثاني : لزوم الصدور عن القرآن في علوم النحو وأبوابه وأمثلته.
الثالث : موضوع الإشتقاق هذا من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، وتقدير الآية في المقام على وجوه:
الأول : بيان مسألة إشتقاق الكلم.
الثاني : تجلي معاني اللغة العربية، وتعدد دلالات اللفظ فيها.
الثالث : الإعجاز في الكلمة القرآنية، وعجز العلماء عن الإجماع والإتفاق على تعيين سنخية اللفظ وإشتقاقه.
الرابع : ندب العلماء إلى إستقصاء ما إشتقاق الإلفاظ من آيات القرآن وما فيها من البيان.
الخامس : دعوة العلماء للعناية بالأهم في القرآن مثل أحكام الحلال والحرام، وسنن المعاملة والأخلاق، والأوامر والنواهي، وقصص الأنبياء، والإتعاظ منها، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( )، ومن الحسن المذكور في الآية أعلاه مصاديق الإشتقاق اللفظي وإستقراءه من الشواهد القرآنية.
الرابع : بيان موضوعية الأسماء في تأسيس اللغات والمنطق ووظائف اللسان.
الخامس : توارث الناس لغة القرآن من أيام أبينا آدم عليه السلام .
السادس : بيان موضوعية اللغة العربية في التنزيل وأسراره ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
نزول جبرئيل بإذن الله
لم يصل الرسول إلى مرتبة النبوة ثم الرسالة إلا بإذن الله، وما ينزل عليه جبرئيل إلا بإذن الله من عند الله، وتحتمل موضوعية نزوله في كل مرة وجوهاً:
الأول : الإذن الإجمالي المتحد بجميع مرات النزول.
الثاني : التفصيل الموضوعي، فإذن واحد من عند الله لجبرئيل خاص بآيات وسور القرآن.
الثالث : كل سورة من القرآن تستلزم إذناً خاصاً وإن كان النزول في كل مرة بآية أو أكثر منها.
الرابع : التعدد الموضوعي في النزول وكل نزول يستلزم الإذن من عند الله.
والصحيح هو الرابع، فلابد من إذن مستحدث لكل نزول لجبرئيل، ويكون نزوله على وجوه:
الأول : النزول بالوحي.
الثاني : النزول بالحديث القدسي.
الثالث : مجيء جبرئيل بالحرب والدفاع [عن ابن عباس، قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك. فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: { اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } قال: “هاتوا” . قالوا: أخبرنا عن علامة النبي. قال: “تنام عيناه ولا ينام قلبه”. قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف يذكر الرجل؟ قال: “يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت”، قالوا: أخبرنا ما حرّم إسرائيل على نفسه. قال: “كان يشتكي عِرْق النَّساء، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا” -قال أحمد: قال بعضهم: يعني الإبل، فحرم لحومها -قالوا: صدقت. قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال “ملك من ملائكة الله، عز وجل، موكل بالسحاب بيديه-أو في يده-مِخْراق من نار يزجر به السحاب، يسوقه حيث أمره الله عز وجل”. قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمعه؟ قال: “صوته”. قالوا: صدقت. إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا إنه ليس من نبي إلا وله مَلَك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: “جبريل عليه السلام”، قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان فأنزل الله عز وجل: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } إلي آخر الآية]( ).
الرابع : نزول جبرئيل بالقرآن.
الخامس : زيارة جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : مجيء جبرئيل للإجابة على بعض الأسئلة التي توجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الأسئلة التي يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإجابة عليها.
وعن أبي هريرة قال: كان النبي {صلى الله عليه وسلم} يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال ما الأيمان قال ( أن تؤمن بالله وملائكته وبكتابه ورسله وتؤمن بالبعث ) قال ما الإسلام ،قال أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصوم رمضان ،قال ما الإحسان ،قال أن تعبد الله كأنك تره فإن لم تكن تراه فأنه يراك ،قال متى الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ،وسأخبرك عن إشراطها إذا ولدت الأمة ربتها( ) وإذ تطاول رعاء الإبل البهم في لبنان في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم أدبر فقال ردوه فلم يروا شيئاً فقال هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم)( ).
السابع : مجيء جبرئيل بصورة أحد الصحابة وهو دِحية الكلبي، والأخبار فيه مستفيضة.
الثامن : نزول جبرئيل ليراه غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإذن الله، أخرج ابن سعد والبيهقي في المرسل عن عمار بن أبي عمار ان حمزة بن عبد المطلب قال يا رسول الله أرني جبرئيل في صورته قال انك لا تستطيع ان تراه قال بلى فأرنيه قال اقعد فقعد فنزل جبرئيل على خشبة كانت في الكعبة يلقي المشركون عليها ثيابهم إذا طافوا فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} ارفع طرفك فانظر فرفع طرفه فرأى قدميه مثل الزبرجد الأخضر فخر مغشيا عليه)( ).
التاسع : نزول جبرئيل عند الضرورة والحاجة وما يستلزم سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من المكر والقتل.
وعن جابر قال صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه الظهر بنخل فهّم به المشركون ثم قالوا دعوهم فان لهم صلاة بعد هذه أحب إليهم من أبنائهم فنزل جبرئيل على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره فصلى صلاة الخوف)( ).
العاشر : نزول جبرئيل بخصوص أهل البيت وأمهات المؤمنين ومنه حديث الكساء بخصوص قوله تعالى[إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( )، ومنه إبلاغه السلام من الله لخديجة، وعن أبي هريرة قال: أتى جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)( ).
ويحتمل الحديث أعلاه وجهين:
الأول : إنه مرسل، وأن أبا هريرة سمعه من أهل الصحابة أو أهل البيت ولم يذكر اسم الذي قاله له.
الثاني : سماع أبي هريرة الحديث من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والظاهر هو الأول، فلم يقل قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم -أتاني جبرئيل-.
الحادي عشر : نزول جبرئيل بهيئة ملكوتية عظيمة تسد ما بين الخافقين، أو فارساً في قتال المشركين وقد وضع علامة يعرف بها أو ينزل ومعه آلاف من الملائكة، وعن أنس قال: جاء جبرئيل فقال يا محمد مات معاوية بن معاوية المزني افتحب ان تصلي عليه قال نعم فضرب بجناحيه فلم يبق من شجرة ولا اكمة الا تضعضعت له ورفع له سريره حتى نظر إليه فصلى عليه وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون الف ملك قال قلت يا جبرئيل بما نال هذه المنزلة من الله قال بحبه قل هو الله أحد يقرؤها قائما وقاعدا وذاهبا وجائيا وعلى كل حال)( ).
وورد الخبر عن طريق أبي أمامة الباهلي ولكن باسم معاوية بن مقرن المزني، وليس معاوية بن معاوية.
وقال ابو عمير يوسف بن عبد الله بن عبد البر الأندلسي توفى سنة463 هجرية (أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقوية ولو أنها في الأحكام لم يكن في شيء منها حجة ،ومعاوية بن مقرن المزني وإخوته : النعمان وسويد ومعقل وسائرهم وكانوا سبعة معروفون في الصحابة مذكورون في كبارهم . وأما معاوية بن معاوية فلا أعرفه بغير ما ذكرت في هذا الباب وفضل قل هو الله أحد لا ينكر( ).
الثاني عشر : حضور جبرئيل عند النبي محمد صلي الله عليه وآله وسلم لدفع الشرور وكيد شياطين الإنس والجن عنه، وعن ابن عباس قال: كانت الشياطين يستمعون الوحي فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم منعوا فشكوا ذلك إلى ابليس فقال لقد حدث امر فرقي فوق أبي قبيس فرأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يصلي خلف المقام فقال اذهب فاكسر عنقه فجاء وجبرئيل عنده فركضه جبرئيل ركضة طرحه في كذا وكذا( ).
الثالث عشر : نزول جبرئيل لمصاحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الإسراء والمعراج إذ كان جبرئيل هو الذي يأمر خدام السموات أن يفتحوا ويخبرهم بأن معه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولكل سماء خادم.
والنسبة بين نزول جبرئيل بالوحي وبين رؤية النبي له أثناء التلاوة عموم وخصوص مطلق، فليس كل مرة ينزل بها جبرئيل يراه النبي مع أنه من خصائص الرسول أنه يسمع الملك ويراه، وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ير جبرئيل بصورته التي خلقه الله عليها إلا مرتين إحداهما في المعراج والأخرى في جياد بمكة، حيث كانت قريش تؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستهزئون به ويسعون لقتله فامده الله بجبرئيل وجنود من عنده تعالى للذب عنه ونصرته في دعوته إلى الله وهو من مصاديق قوله تعالى [َمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
بحث أخلاقي
تصاحب الإنسان في وجوده الذهني الأماني والرغائب ، ولو إستحضر ما يطرأ على ذهنه منها في سنة واحدة لإنبهر من كثرتها وذهابه بعيداً عن الواقع وعالم الإمكان مع إن الموت إذ أن تأجيله كما في آية البحث لا يعني إرتفاعه إلى حين [وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مثل ابن آدم ، وإلى جنبه تسع وتسعون منية ، إن أخطأته المنايا وقع في الهرم] ( ) .
والحديث مصداق لقوله تعالى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] وبيان لتعدد الآجال وتدافعها نحو الإنسان ، وجاء الحديث بصيغة العموم [ابن آدم ] للإخبار بأن إقتراب الموت المتكرر من الإنسان يشمل المؤمن والكافر ، نعم يندفع عن المؤمن بذكر الله والإستغفار وعمل الصالحات ليكون الهرم مدخلاً وأمارة على القرب الحتمي للموت من الإنسان اذ ترى الذي يبلغ الشيخوخة والكبر يذكر الموت ودنوه منه ، ليكون مناسبة للتوبة والتدارك والشكر لله على نعمة الإمهال وكثرة التأجيل ، وإن كانت آية البحث تذكر الناس جميعاً على إختلاف أعمارهم بالموت وإحتمال تأجيله لأي واحد منهم [وعن أبي كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه] ( ).
وليس من حصر للقصص والأخبار التي تتحدث عن صلة الناس بالموت وإستعدادهم له ، أو غفلتهم عند إنشغالهم بطول الأمل والتنعيم باللذات ، ومنها ما جرى على ألسنة الحكماء مع الملوك والسلاطين ، وإتعاظ الناس منهم ، ومن أسرار خلق الإنسان وإقامة الحجة عليه أن هذه القصص وآياتها حاضرة في تراث أهل كل ملة وأمة ، كما أن شواهدها تتكرر كل يوم في المجتمعات وقد يأتي الموت دفعة وفجأة أو تكون له مقدمات من المرض والسقم ، أو يبلغ الإنسان النهاية في السّن.
ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تذكر الموت بما يجعل التفكر فيه والتهيئ له هو همّ المسلم والموضوع الذي يستحوذ على جوارحه فيقعده عن العمل ، بل ورد ذكر الموت بما يفيد البعث على العمل وعدم اليأس من جهات :
الأولى : بيان قانون عموم الموت ، وشموله للناس جميعاً ، ليأنس الإنسان بمن حوله ، ويشاركهم السعي في المصالح والمنافع ، فليس من إنسان معصوم من الموت وإحتمال طروه في أي ساعة ، نعم يكون التباين في الحكم من جهة إتحاد أو تعدد أسباب الموت ، لكثرتها بخصوص الإنسان الهرم والمبتلى بمرض عضال لا يرجى شفاؤه إلا بفضل من عند الله.
الثانية : صحيح أن الموت قانون عام يأتي على الناس جميعاً إلا أنه خلق مأمور ، ومنقاد لأمر الله عز وجل فلا يأتي لأي إنسان إلا بأذن الله ، وهو من معاني كون الموت أمراً وجودياً وليس عدمياً ، ووردت آيات كثيرة بهذا المعنى وأكثرها بلفظ (حضر) أو جاء ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ] ( ).
الثالثة : ذكرت الآية صفة مصاحبة للوجود الإنساني ، وهي أن الموت كتاب مؤجل ، وحكم معلق ،وحال مشروط يتقوم بتحقيق شرطه ولكنه لا ينتفي بانتفاء شرطه، لأن هذا الشرط أمر حتمي فلابد أن يحل أوانه وذو المقدمة لا يتم إلا بتحصيل مقدمته ، فلا موت إلا بحلول الأجل وإستيفاء صفحات الكتاب وأيام الإنسان في الحياة الدنيا .
وفيه آية بأن التوسل من العبد لم يكن للموت أو لملك الموت بل لله عز وجل وهو من الدلائل على إدراك الإنسان لموضوعية الإذن الإلهي بمجئ الموت أو تأجيله ، ليكون هذا الإدراك باعثاً للإنسان للتحلي بالأخلاق الحميدة ونبذ الإفراط في الحرص والطمع .
الرابعة : عدم التعارض بين طلب الدنيا من الله عز وجل وبين إحتمال طرو الموت في آية ساعة ، وتقييد طلبها من الله برزخ دون الظلم والجور وجمع المال بالباطل ، وأكل السحت والحرام ،خاصة وأن هذه الآيات معطوفة على الظاهر على قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ( ).
لقد ندب القرآن المسلمين للإقتداء بالإنبياء والإقتباس من سننهم وسيرتهم المباركة وورد بخصوص دعاء زكريا في التنزيل [قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا *وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا] ( ).
وحينما سأل زكريا الله عز وجل الولد كان عمره قد تجاوز السبعين [وقال مقاتل خمس وتسعون سنة] ( ) ، ولم ينتظر زكريا الموت وينشغل بمغادرة الدنيا خاصة بعد أن يبس عظمه وظهر عليه النحول وكانت امرأته عاقراً فاراد دوام الإتصال بالدنيا بأن يهبه الله ولداً بالمعجزة ليحمل هذا الولد لواء الإسلام والدعوة إلى الله ، وفيه درس بأخلاقي للمسلمين بأن ثواب الدنيا طريق إلى ثواب الآخرة للذات والغير، وأن العمل الصالح ينتفع منه صاحبه وينتفع به غيره .
وذكر الآية للموت لم يمنع من إخبارها عن رجاء ثواب الدنيا والذي يدل بالدلالة التضمنية على الإنتفاع من تأجيل الأجل ، فما دام الإنسان في الحياة فيجب عليه الإيمان وفعل الصالحات ، وله أن يرجو الثواب على عمله في الدنيا وله أن يرجو ثواب الآخرة وكل واحد منهما بيد الله عز وجل كماً وكيفاً وقلة وكثرة وسعة وضيقاً ، ولكن الآية تحث المسلمين على طلب الآخرة فليس بعد ثواب الدنيا إلا الموت.
ومن معاني الشكر لله عز وجل على هذا التأجيل الزهد بالدنيا وزينتها ، ولزوم جعل الغاية هي ثواب الآخرة ،وهو النعيم الدائم ،وهذه الغاية من شكر الإنسان لله عز وجل على نعمة الخلق والهداية لذا أختتمت الآية بالوعد الكريم والبشارة [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ].
بحث فقهي
الوضوء مقدمة للصلاة وينقسم إلى واجب ومندوب ، والواجب ما كان للصلاة أو للطواف في حج واجب أو مندوب ، ومن الفقهاء من قيد وجوب الوضوء بالصلاة الواجبة بلحاظ وجوب المقدمة لوجوب ذيها، ولكنه واجب حتى في الصلاة المستحبة لتقومها به وشرطيته لها مقدمة وجزء متمماً .
وليس من حصر لضروب الوضوء والطهارة المستحبة منها إستدامة الطهارة، وقراءة القرآن وغيرها.
ولذكر الموت وإحتمال حضوره في أي وقت موضوعية في تعاهد الوضوء وحرص المسلم على كونه على طهارة ،وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأنس : أكثر من الطهور يزيد الله في عمرك، وإن استطعت أن تكون بالليل والنهار على طهارة فافعل، فإنك تكون إذا مت على طهارة مت شهيدا( )، وصحيح أن خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا لأنس إلا أنه موجه للمسلمين والمسلمات كافة.
وفي الحديث نكتة وهي إطالة العمر بالعبادات ومقدماتها فيبادر المسلم للوضوء عندما يحين وقت الصلاة ثم يقف بين يدي الله عز وجل للصلاة , وهو يعلم أن هذا الفعل العبادي ومقدماته تزيد في عمره وتطيل مدة تأجيل الأجل ،وكذا بالنسبة لتعاهد ذوي القربى ، [عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إن صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وإن صلة الرحم تزيد في العمر ، وتقي الفقر . وأكثروا من قول : لا حول ولا وقوة إلا بالله ، فإنها كنز من كنوز الجنة ، وإن فيها شفاء من تسعة وتسعين داء، أدناها الهم] ( ).
وتوافق أحاديث إطالة العمر مع آية البحث موضوعاً ودلالة ، وهو من رحمة الله ، وهل تتعارض مع قوله تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( )كما يتساءل بعضهم ، الجواب ليس من تعارض بينهما من جهات :
الأولى : وردت الآية أعلاه مرتين في القرآن ( )وكلاهما بصيغة الجمع بينما جاءت آية البحث بخصوص المتحد وعلى سبيل الإفراد .
الثانية : بين الموت والأجل عموم وخصوص مطلق ، فالأجل أعم في موضوعه ،وفي التنزيل [فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا] ( ).
الثالثة : جاء كل من الآيتين أعلاه بصيغة الإنذار والإخبار عن سوء عاقبة الكفار ، فقد يأتي الأجل للدولة وذهاب السلطان وفقدان كرسي الحكم ، أما آية البحث فتتعلق بموت الأفراد خاصة .
الرابعة : وعلى القول بإتحاد موضوع الآيتين، وتعلق كل منهما بالموت وأوانه فليس من تعارض بين الآيتين لإمكان الجمع بين التأجيل المتعدد وحلول الأجل المتحد.
وتقدير الجمع بينهما: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً فإذا حلّ الأجل المؤجل فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون).
وهل يدل قوله تعالى[وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( )، على توقف التأجيل وتكراره عند حد وزمان معين قبل حلول الأجل الذي تذكره الآية أعلاه الجواب لا.
الخامسة : تدل الآية أعلاه على علم الله عز وجل بأوان أجل الإنسان وساعة موته وعجز الخلائق عن دفعه عن الإنسان، فكما ورد قوله تعالى بخصوص إعجاز القرآن[قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( )، فكذا بالنسبة لموت الإنسان، فإذا إجتمعت الخلائق وأجهزة الطب الحديثة والقديمة على دفع الموت عنه عند حلل أجله الذي تذكره الآية أعلاه لا تستطيع دفعه .
وقيل تكون الزيادة في العمر بالسعة في الرزق والعافية في البدن، ويكون الموت بالفقر، وأحتج على هذا المعنى بأنه(جاء في بعض الحديث أن الله عز وجل أعلم موسى عليه السلام أنّه يميت عدوّه ثم رآه بعد يسدّ الخوص، فقال يا ربّ وعدتني أن تميته فقال قد فعلت قد أفقرته، وقالوا للمفلس ميّت الأحياء قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت … إنما الميت ميّت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيباً … كاسفا باله قليل الرجاء
وهذان البيتان لابن الرعلاء الغسّاني، فلما جاز أن يسمّي الفقر موتاً ويجعل نقصاً من الحياة جاز أن يسمّي الغنى حياة ويجعل زيادة في العمر)( ).
ولكن المراد من آية البحث هو الموت حقيقة وقبض الروح وصيرورة الإنسان جثة بلا حراك ولو دار المعنى في اللفظ القرآني بين الحقيقة والمجاز فالأصل هو الحقيقة، نعم يكون الفقر مقدمة للموت وتذكيراً به ودعوة للإنسان للتوبة والإنابة.
وعن الإمام علي عليه السلام قال : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا بالوا توضؤا أو تيمموا مخافة أن تدركهم الساعة( ).
وفيه مسائل:
الأولى : بيان مصداق جلي للإمتثال للأوامر الإلهية بأداء العبادات ومقدماتها.
الثانية : إستحضار المسلمين لأقوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذكر الموت وعدم الغفلة عنه.
الثالثة : التسليم بما ورد في آية البحث، وإدراك أن لفظ(كتاباً مؤجلاً) إخبار عن الموت في أي ساعة.
الرابعة : إستعداد الصحابة للقاء الله على طهارة بدنية وظاهرية وإرادة الطهارة الذاتية وعصمة الجوارح من الفجور.
والوضوء لغة هو النظافة والنضارة ، وأصله من الوضاءة والحسن وقد يستعمل بمعناه اللغوي وفي الإصطلاح هو طهارة بكيفية خاصة وعبادة بذاتها وفي كل جزء منها ثواب وأجر .
والوضوء اسم مصدر ، إما المصدر الحدث بالذات ومن غير حيثية معينة كنسبته إلى الفاعل فهو التوضأه والواجب من الوضوء ما كان الصلاة واجبة أو مندوبة أو لطواف لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة إلا بوضوء( ).
والوضوء مستحب نفسي بلحاظ أنه طهارة حديثة ،قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] ( )ونظافة إيمانية تدب إليها الشرع ويؤتي به رجاء الثواب الذي هو من غايات الوضوء .
ويترشح الوجوب الغيري على الوضوء بلحاظ كونه مقدمة للصلاة فلا تتم الصلاة إلا به وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجباً ، وجاءت النصوص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالترغيب بالوضوء والندب إليه وبيان الحسن الذاتي للإكثار منه .
قوله تعالى[وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا]
لم تقل الآية ومن يرد الدنيا، بل ذكرت ثواب الدنيا وهو أمر آخر مترشح عن فعل الإنسان ولكن موضوعه يتعلق بالحياة الدنيا والرغائب والتنعم فيها والنيل من نعمها ومباهجها والغبطة باقبالها والسعة في رغد العيش والسلامة من الفقر والفاقة والعلل والضعف والإستضعاف ،قال الله تعالى في الثناء على أصحاب الأنبياء السابقين الذين أخلصوا في الجهاد[فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] ( )، وثواب الدنيا في الآية أعلاه هو العز والغلبة والظهور على الكفار ليكون في الجمع بين الآيتين مسائل:
الأولى : تعدد مصاديق ثواب الدنيا، ومنها ما هو خير ويكون نوع طريق إلى الفلاح، ويشمله قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، أي الذي يؤدي إلى الإقامة في الجنان، ويكون سالماً من المهالك وواقية منها.
الثانية : من الناس من يطلب الدنيا ويتخذها غاية وهدفاً لعمله وسعيه، وإن نال منها مبتغاه فهو بفضل الله أو إستدراجاً وإمتحاناً قال تعالى[وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ]( ).
الثالثة : إنتفاء التعارض بين ثواب الدنيا وثواب الآخرة ، وأن كان موضوع آية البحث هو طلب ورجاء هذا الثواب وليس مجيئه إبتداءً ورحمة من عند الله .
ومن الإعجاز في التباين في ألفاظ القرآن في الموضوع المتحد، أن الآية أعلاه ذكرت حرص الدنيا مع الذم لمن يطلبه أما آية البحث والآية الثامنة والأربعون من سورة آل عمران أعلاه فذكرتها ثواب الدنيا.
وبين الثواب والحرث عموم وخصوص من وجه، بمعنى هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينها، فالنعم الدنيوية مادة الإلتقاء أما الحرث بلحاظ الآية، يتطلب بذاته، وأما الحرث فهو رشحة للعمل الصالح، وفضل وجزاء عاجل من عند الله، لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] وما تدل عليه السين من الإستقبال القريب.
ومن إعجاز الآية أنها لم تذكر تنعم أهل الدنيا بها، أو تمتعهم بزينتها ومباهجها، إذ ذكرت الآية إتيان الدنيا لهم، ولم تذكر الآية إنتفاعهم منها، لأن الإنتفاع أعم ويشمل جعلها مزرعة للآخرة.
وقد يؤتى الكافر الأموال والجاه ولكنه لا يتمتع بها، وقد يظن الذي يراه أنه في غاية النشوة والغبطة بالنعم الدنيوية ولكن الحقيقة هي أن نفسه تمتلأ حسرة سواء على ما فات أو بإرادته المزيد والكثرة من ذات الجنس الذي أنعم الله عز وجل به عليه وعلى غيره.
وتضمنت الآية نسبة إتيان ما عند الناس مطلقاً أهل الدنيا والمؤمنين إلى الله عز وجل، وفيه مسائل:
الأول : بيان قانون حاجة الإنسان له عز وجل وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : كل إنسان ممكن.
الصغرى : كل ممكن محتاج.
النتيجة : كل إنسان محتاج ، وهذه القاعدة مستقرأة من قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ] ( ).
وجاءت آية البحث بإرادة جنس الإنسان، فأما أن يريد الإنسان الدنيا فهي عند الله بزينتها ومباهجها، وأما يريد الآخرة فالجنة، والخلود في النعيم لا يقدر على منحه للعباد إلا الله، وكذا الوعد به فلا يستطيع أحد من الخلائق الوعد بالجنة والأمن من النار، إنما تكون الشفاعة.
يحتمل قوله تعالى[وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا] وجوهاً:
الأول : بيان موضوع ما يترتب عليه من الحكم، وهو أعم من الوقوع أو عدمه.
الثاني : وجود طائفة من بني آدم يريدون ثواب الدنيا، وقيدناه ببني آدم وليس الناس ، وبينهم وبين الناس عموم وخصوص مطلق، فالناس أعم مطلقاً وموضوعاً وحكماً لأن آدم وحواء من الناس وليس من بني آدم، ولم يطلب آدم وحواء إلا الآخرة وثوابها.
الثالث : إرادة المؤمنين ثواب الدنيا في طول ثواب الآخرة.
كما في قوله تعالى[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
الرابع : إرادة ثواب الدنيا من قبل الكفار ،ويكون المراد من الثواب هنا ليس الجزاء إنما هو النعم والنصيب والعطاء وليس المكافأة والجزاء، قال الجرجاني : الثواب ما يستحق به الرحمة والمغفرة من الله تعالى، والشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: الثواب: هو إعطاء ما يلائم الطبع( ).
الخامس : توجه الخطاب في آية البحث للصحابة والمسلمين بلحاظ إتصالها بالآية السابقة وإخبارها عن أجل إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، أي إذا أذن الله عز وجل ببلوغ أجله وإجتنبتم الإنقلاب على الأعقاب فان الذي يريد منكم الجزاء والثواب في الدنيا كالغنيمة والمال والإمارة نؤته منها، والذي يجعل سعيه للرزق الكريم في الآخرة نؤته منها[فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ).
والمختار في الآية هو الثالث والخامس ، ليكون من إعجاز القرآن الغيري توالي النعم على المسلمين، وتعاقب الفتوحات وتكسيرهم للغنائم من الذهب والفضة بالفؤوس، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أخوف ما أخاف عليكم ، ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا . قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بركات الأرض ( ).
ومنه إنتقال الصحابة للأمصار أئمة وحكاماً، وأولياء يصدر عنهم الناس ويتركون وجودهم بين ظهرانيهم وفي مدنهم وأمصارهم لأنهم آل الرسول وصحابته لوجوه ففازوا بأمور :
الأول : السبق إلى دخول الإسلام.
الثاني : حضور المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : رؤية الطلعة البهية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذا من الرجاليين من إشترط في نيل مرتبة الصحابي رؤيته وهو مسلم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.
الرابع : معاصرة نزول الوحي وحضور كيفية نزول الملك عليه بآيات القرآن.
الخامس : الجلوس تحت منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإستماع له وتلقي الأحكام منه مباشرة ومن غير واسطة وهو الذي لا ينطق عن الهوى.
السادس : ملاقاة الأذى من الكفار.
السابع : الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغزوات والدفاع عن بيضة الإسلام.
الثامن : الشهادة على أيام النبوة، ورواية الأحاديث النبوية، وذكر السنة النبوية إخباراً وبياناً وتوثيقاً وتنقيحاً مما يكون برزخاً دون الزيادة والإفتراء فيها، وتقدير آية البحث على وجوه:
الأول : ومن يرد ثواب الدنيا، ممن لم ينقلب على عقبيه نؤته منها.
الثاني : ومن يرد ثواب الآخرة ممن لم ينقلب على عقبيه نؤته منها.
الثالث : ومن يرد ثواب الدنيا وثواب الآخرة نؤته منهما.
وهل تشمل الآية الكفار الجواب لا من وجوه:
الأول : ذكرت الآية الثواب، والمراد منه الجزاء والعوض على الإيمان وعمل الصالحات.
الثاني : من وجوه الثواب إرادة قصد القربة.
الثالث : ورد قبل أربع آيات الإخبار عن تبكيت الكفار، وإلحاق الوهن والضعف بهم بقوله تعالى(ويمحق الكافرين) والثواب ضد المحق ويمتنع إجتماع الضدين في محل واحد.
الرابع : إتيان ثواب الدنيا فضل عظيم من عند الله خصّ به المؤمنين ومنهم الغنائم والمكاسب ومراتب إضافية من الرفعة والجاه بلحاظ أن ذات الإيمان والتوفيق لأداء الفرائض رفعة وجاه، وقيل يتعلق موضوع الآية بالرماة.
ومع أن متعلق إرادة الإنسان وغايته هي ثواب الدنيا ، فان الآية والعطاء جاء بصيغة التأنيث [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا] ( )أي نؤته من الدنيا وبهجتها وزينتها ، ولم تبين الآية أن موضوع الإتيان هو الثواب فلم تقل الآية : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منه ولم تقل ومن يرد ثواب الدنيا نؤته إياه ،وفيه وجوه :
الأول : الإتحاد والتساوي في المراد وموضوع السؤال ، والذي يعطيه ويتفضل به الله من الثواب .
الثاني : التساوي في الجنس والتباين في الكم فيكون الذي يعطيه الله أكبر وأعظم مما يطلب الإنسان .
الثالث : بيان حقيقة وهي أن الذي يعطيه الله في الدنيا ليس من الثواب العاجل الذي يسأله المسلم على عمله بل هو من الفضل وأسباب الرحمة في الدنيا التي تصيب أهل الدنيا .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو من إعجاز الآية القرآنية، وبيان اللطف الإلهي بالمسلمين ،والمائز بينهم وبين غيرهم أن الله عز وجل يعطي المسلمين في الدنيا من فضله عليهم وعلى الناس عامة ، ويعطيهم على نحو الخصوص من الثواب العاجل بما يسألون وما يرغبون فيه .
وكذا بالنسبة لثواب الآخرة فان متعلق إرادة المسلم هو ثواب الآخرة ولكن الله عز وجل أخبر بأنه يأتيه ذات الآخرة وليس من ثوابها مما يدل على أمور :
الأول : العطاء والنعم الإلهية في النشأتين من فضل الله .
الثاني : يسأل المسلم الثواب فيؤتيه الله عز وجل ما هو أعظم من الثواب سواء في الكم والمقدار أو الموضوع وسنخية الدوام .
الثالث : ما يأتي للمسلم في الدنيا نافلة وفضل من عند الله وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ) [عن ابن عباس رضي الله عنهما { قل بفضل الله} القرآن { وبرحمته } حين جعلهم من أهل القرآن] ( ).
علم المناسبة ثواب الدنيا
ورد لفظ [ثَوَابَ] في القرآن ثلاث عشرة مرة وردت ستة منها في سورة آل عمران وفي ثلاث آيات منها في كل آية مرتين ،وكأنه هذه السورة سورة الثواب خاصة وأنه جاء مطلقاً في الآية بارادة ثواب الدنيا وثواب الآخرة مجتمعين كما في آية البحث وجاء بعد ثلاثة آيات في الثناء على أصحاب الأنبياء بقوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] ( ).
وثواب الدنيا هنا النصر على الأعداء والفوز بالغنيمة ، وعليه قول المفسرين .
فلماذا إذن يكون معنى ثواب الدنيا خيراً وجزاءً حسناً بخصوص أصحاب الأنبياء السابقين الذين قاتلوا معهم بصدق وإخلاص وقربة إلى الله بينما يفسر [ثَوَابَ الدُّنْيَا] في آية البحث بأنه لوم وتوبيخ للمسلمين ، فان قيل المائز هو أن آية البحث ذكرت الثواب بأرادته وطلب الإنسان بقوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا]بينما جاءت الآية أعلاه بهبة ومنحة ثواب الدنيا من عند الله، فالجواب هذا المائز ليس علة تامة للتباين في التفسير ، ولو تردد الأمر في الآية هل هي مدح للمسلمين أم ذم لهم ، فالأصل الأول، لذا تخاطبهم آيات القرآن بصيغة الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
كما أن آية البحث جاءت مطلقة في موضوعها ولم تختص بالمسلمين بل هي قانون كلي شامل لكل الأزمة إبتداءً من إيام أبينا آدم عليه السلام فيكون موضوعها على وجوه :
الأول : الإتحاد مع الآية أعلاه بخصوص أصحاب الأنبياء السابقين وكيف أنهم لم يهنوا وينكسروا عند فقد نبيهم [وقال ابن إسحاق : فما وهنوا بقتل نبيهم ولا ضعفوا عن عدوهم ولا استكانوا لما أصابهم] ( ).
الثاني : شمول آية البحث للمسلمين وإلى يوم القيامة ، فاذا أنعم الله عز وجل على الناس نعمة فانه أكرم من أن يرفعها ، وقد أنعم على أصحاب الأنبياء السابقين بإتيانهم ثواب الدنيا ، كما في أصحاب موسى ونجاتهم من ظلم فرعون وقومه ، وصيرورتهم ملوكاً وأصحاب أموال وشأن فتفضل الله وأبقى هذه النعم عند أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وإجيال المسلمين والسعة والإستدامة فيه من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالث: ورد ذكر ثواب الدنيا في الآية أعلاه على نحو الإطلاق [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا]بينما جاءت آية البحث بالتقييد بصيغة التبعيض [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ].
مما يدل على أن التقييد الوارد في آية البحث شامل للثواب الذي ناله المؤمنون من الأمم السابقة لأن آية البحث وردت مطلقة في متعلقها وزمانها فيكون تقديرها كالإستصحاب القهقري في موضوعه وأثره ، وهل الصبر من ثواب الدنيا أم لا ،الجواب هو الأول لما فيه من بعث للسكينة في النفس والعز والشأن بالرضا بقضاء الله وقدره .
[ وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الحسن قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : « هل منكم من يريد أن يؤتيه الله علماً بغير تعلم وهدياً بغير هداية ، هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيراً ، ألا إنه من زهد الدنيا وقصر أمله فيها أعطاه الله علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية ، ألا إنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر ، ولا الغنى إلا بالبخل والفجور ، ولا المحبة إلا بالاستجرام في الدين واتباع الهوى ، إلا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر للفقر وهو يقدر على الغنى ، وصبر للبغضاء وهو يقدر على المحبة ، وصبر على الذل وهو يقدر على العز ، لا يريد بذلك إلا وجه الله أعطاه الله ثواب خمسين صديقاً] ( ).
وذكرت آية البحث ثواب الآخرة وبلغة التبعيض [نُؤْتِهِ مِنْهَا]فجاء البيان بعد ثلاث آيات بأنه أحسن وأعظم الثواب وهو الإقامة في الجنة والنعيم الدائم ، ليكون تقدير آية البحث : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته حسن ثوابها .
قالوا في الآية
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن إسحق { وما كان لنفس } الآية أي لمحمد صلى الله عليه وسلم أجل هو بالغه ، فإذا أذن الله في ذلك كان { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } أي من كان منكم يريد الدنيا ليست له رغبة في الآخرة نؤته ما قسم له فيها من رزق ولا حظ له في الآخرة { ومن يرد ثواب الآخرة } منكم { نؤته منها } ما وعده مع يجري عليه من رزقه في دنياه ، وذلك جزاء الشاكرين)( ).
ولا دليل على هذا المعنى من الوعيد والتوبيخ بأن(من يريد الدنيا ليست له رغبة في الآخرة) إنما الآية وردت مورد الثناء على المسلمين الذين ثبتوا في مقامات الإيمان ولم ينقلبوا على أدبارهم أو يرتدوا عند وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي وعد كريم لأجيال المسلمين من أيام التنزيل وحياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يوم القيامة .
وقال الزمخشري في قوله تعالى({وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا} تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد {نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي من ثوابها)( )، ونرد عليه من جهات:
الأولى : ليس من غنائم تذكر يوم أحد إلا أن يراد نزول الرماة الذين على الجبل للحصول على الغنائم ، ولم يحصلوا على الغنائم بينما وعدت الآية المسلمين بنيل الدنيا [نُؤْتِهِ مِنْهَا]وهي أعم من الغنائم .
الثانية : كان المسلمون مشغولين يومئذ بالذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودفع العدو عنهم وعن المدينة.
الثالثة : الأصل في مقاصد آيات القرآن المدح والثناء على المسلمين، ولا يكون خلافه إلا مع الدليل أو القرينة الجلية والواضحة، وهو أمر لم يثبت في الآية بل ذكرت أموراً:
الأول : إرادة المسلمين لغايات قريبة أو بعيدة، دنيوية أو أخروية.
الثاني : ذكر الآية للثواب والجزاء.
الثالث : تدل لغة الخطاب في الآية وإرادة المسلمين بقيد الإيمان على إنتفاء موضوع الذم.
وقال الثعلبي({وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} يعني ومن يرد بطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاءاً لعمله، ونظيرها قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ}.
وقال أهل المعاني: الآية مجملة ومعناها: نؤته من نشاء ما قدرناه له)( )، وفيه مسائل:
الأولى : لا دليل في الآية على الملازمة بين الطاعة وإرادة الدنيا.
الثانية : إرادة ثواب الدنيا في الآية أعم من أن تكون علة لطاعة الله، وغاية في العمل وأداء الفرائض.
الثالثة : ذكر قوله تعالى[مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ]( )، قياس مع الفارق في الموضوع والأثر، ونقل الماوردي قولاً وهو(من أراد ثواب الدنيا بالنهوض لها بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي عليها في الدنيا دون الآخرة)( )، ولا موضوعية لفعل الكبائر في الآية، لصيغة الخطاب الإيمانية في الآية، كما أن المراد من الثواب في الآية هو الجزاء الحسن.
وقال ابن حيان في الآية(هذا تعريض بالذين رغبوا في الغنائم يوم أحد واشتغلوا بها ، والذين ثبتوا على القتال فيه ولم يشغلهم شيء عن نصرة الدين ، وهذا الجزاء من إيتاء الله من أراد ثواب الدنيا النعم العاجلة مشروط بمشيئة الله تعالى)( ).
قوله تعالى[وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا]
ذكرت الآية نوعين لماهية غايات الإنسان وهما:
الأولى : ثواب الدنيا.
الثانية : ثواب الآخرة .
وهناك وجوه أخرى لم تذكرها الآية وهي:
الأول : الذي يريد ثواب الدنيا وثواب الآخرة مجتمعين.
الثاني : الذي لا يريد ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة.
الثالث : الذي يريد شطراً من ثواب الدنيا وشطراً من ثواب الآخرة.
أما الأول فهو أمر ممكن وهو من فضل الله عز وجل مرتفقه المسلم في أمور الدين والدنيا، وتدل عليه آية البحث لبيانها أن الثواب مطلقاً بيد الله سواء كان ثواب الدنيا أو ثواب الآخرة.
وليس من حصر أو حد لعطاء وفضل الله سبحانه، ولا تدل الآية على التعارض والتنافي بين ثواب الدنيا والآخرة، ويمكن أن يكون تقدير الآية:
ومن يرد ثواب الدنيا والآخرة نؤته منها، ليكون العموم في الثواب وتواليه وكثرته من مصاديق خاتمة الآية[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] وأما الثاني فليس له مصداق في الخارج ،وإما الثالث فيلحق بالأول خاصة وأن الإنسان يعجز عن تصورهم نعم الله عز وجل سواء التي في الدنيا او التي في الآخرة .
وأخبرت الآية عن كون الأجل(كتاباً مؤجلاً) ويحتمل وجوهاً:
الأول : هذا التأجيل من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، من جهات:
الأولى : موضوعية الإيمان والعمل الصالح في إطالة مدة التأجيل.
الثانية : أثر الصدقة والإنفاق في سبيل في زيادة مدة ومقدار التأجيل بين الناس، وعن حكيم بن حزام يحدث عن أبي ذر قال: يا رسول الله إنهم قد قالوا مثل ما قلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وعلى كل نفس في كل يوم صدقة ، ففضل بصرك للمنقوص بصره لك صدقة ، وفضل سمعك للمنقوص له سمعه صدقة ، وفضل شدة ذراعيك للضعيف لك صدقة ، وفضل شدة ساقيك للملهوف صدقة ، وإرشادك الضال لك صدقة ، وإرشادك سائلا أين فلان فأرشدته لك صدقة ، ورفعك العظام والحجر عن طريق المسلمين صدقة ، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر لك صدقة ومباضعتك أهلك لك صدقة)( ).
الثالثة : فضل الله عز وجل على الأبناء والذرية بإطالة أعمارهم وصرف الأجل القريب عنهم جزاء للآباء وعملهم الصالحات.
وتقدير خاتمة الآية: وسنجزي الشاكرين بإطالة أعمار أولادهم.
الرابعة : صيرورة الكفر والجحود سبباً لقلة أيام التأجيل.
الخامسة : موضوعية الدعاء وسؤال المؤمن إطالة عمره لقوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثاني : إرادة الكلي المتواطئ من تأجيل الموت، فيتساوى الناس البر والفاجر في مدة الزيادة والنافلة في العمر.
الثالث : عدم وجود قاعدة كلية كأصل وضابطة لتعيين مدة التأجيل في عمر الإنسان، إنما هو أمر يعود إلى المشيئة الإلهية، وهو من مصاديق قوله تعالى[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
وقد تكون إطالة العمر للكافر سبباً بتوبته وصلاح غيره إقتداء به، وقد تكون قلة مدة التأجيل للمؤمن واقية من إفتتانه ومن سوء العاقبة.
والأقوى صحة الأول بجهاته الخمسة والثالث، ليكون قوله تعالى(كتاباً مؤجلاً) من مصاديق فضل الله وإتيان النعم للناس في الدنيا والآخرة، فيتفضل الله عز وجل على أهل الدنيا بزيادة أعمارهم للتنعم فيها والنيل منها ويتفضل على الذين يريدون الآخرة ويبتغون وجه الله بجعل إطالة أعمارهم وعاءً لعمل الصالحات.
هل تدل الآية على الترديد والتقسيم، وأن الإنسان أما أن يريد ثواب الدنيا، وأما أن يريد ثواب الآخرة، على طريقة السبر والتقسيم، الجواب لا، إنما جاءت الآية لبيان فضل الله على الناس، وتقدير الآية على وجوه:
الأول : الذي يريد ثواب الدنيا.
الثاني : الذي يريد ثواب الآخرة ويسعى إليها.
الثالث : الذي يبتغي الثواب في الدنيا والآخرة.
وفي التنزيل[فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ]( )، وهو الذي تتضمنه هذه الآية من جهات:
الأولى : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فالإخبار عن إرادة ثواب الآخرة لا يعني عدم طلب ثواب الحياة الدنيا بل هو في طوله.
الثانية : جعل الموضوعية للدار الآخرة في عالم الأفعال سبب للغبطة والسعادة في الحياة الدنيا، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثالثة : يكون تقدير آية البحث بلحاظ الآية أعلاه: ومن يتق الله يؤته ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وهل يمكن أن يكون من معاني آية البحث أن معنى الآخرة فيها من جهة الثواب هو المستقبل القريب والبعيد، ويكون المراد من الآخرة في الآية على وجهين:
الأول : الأيام التالية من عمر الإنسان.
الثاني : الدار الآخرة، وعالم الحساب والجزاء .
الجواب لا دليل عليه، فالقدر المتيقن من الآخرة هو العالم الآخر إبتداء من دخول القبر والبرزخ وفيه دعوة للإنسان للسعي إلى حسن المآب والخلود في النعيم في الآخرة.
ليكون من معاني الهدى في آية البحث الفصل بين أمور:
الأول : الحياة الدنيا.
الثاني : عالم الآخرة.
الثالث : تخفيف دأب الإنسان لمباهج وزينة الحياة الدنيا.
الرابع : إجتهاد المؤمن في الإقتناء للآخرة، وتؤكد آية البحث إنعدام المانع والبرزخ بين نية المؤمن الإكتساب للآخرة، وبين الفوز بالثواب يوم القيامة، وفيه حجة وبرهان على عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، فليس لجهة أن تحول دون سعي الفرد والجماعة للبث الدائم في النعيم، وفيه تنمية لقصد القربة عند المسلم في أقواله وأفعاله.
وفي الآية تفصيل من جهات:
الأولى : الذي يريد الدنيا طريقاً ومقدمة لثواب الآخرة.
الثانية : جعل الإنسان الدنيا مقصده وغايته.
الثالثة : المقصود الكافر الذي لا يبغي من عمله إلا الجزاء وترتب الأثر في الحياة الدنيا، ولم يتأهب ويستعد للآخرة.
الرابعة : إرادة المؤمن الذي يريد من عمله الخير المكسب الدنيوي، كما في الذين أرادوا الفوز بالغنائم والنصر وحسن العيش بالإشتراك في معارك الإسلام الأولى.
أما الجهة الأولى أعلاه فهي خارجة بالتخصيص عن موضوع الآية على الظاهر، لأن الذي يجعل ثواب الدنيا طريقاً لثواب الآخرة إنما هو من الذين يريدون الآخرة ويسعون إليها.
وأما الثانية والثالثة فهما من مصاديق الآية ولغة الإنذار والتحذير فيها، وأما الرابعة فهي كالأولى خارجة عن موضوع آية البحث التي وردت بصيغة الإنذار والتحذير من حصر غايات وهمّ الإنسان بالحياة الدنيا، نعم ورد هذا المعنى وإرادة بيان فضل الله عز وجل على المؤمنين من أتباع الأنبياء وجهادهم في سبيل الله بعد آيتين بقوله تعالى[فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ]( ).
والتباين ظاهر بين الآيتين بلحاظ مسائل:
الأولى : جاءت آية البحث بالتقسيم الثنائي، فأما أن يريد الإنسان مطلقاً ثواب الدنيا، وأما أن يريد ثواب الآخرة بينما جاءت الآية أعلاه بخصوص أصحاب الأنبياء.
الثانية : تبين آية البحث أن أصحاب الدنيا إتخذوها بلغة وغاية، أما الآية أعلاه فذكرت ثواب الدنيا نافلة وفضلا من عند الله للمؤمنين على صبرهم.
الثالثة : بينت آية البحث أن فريقاً من الناس يبغون الحياة الدنيا، ويجعلونها هدفاً لهم، ومحل أمانيهم وآمالهم بينما ذكرت الآية التالية إجتهاد أصجاب الأنبياء بالجهاد ودفاعهم عن الإسلام والنبوة بالأنفس، وخوضهم المعارك والقتال بقوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ), مما يدل على أنهم لم يجعلوا الدنيا غايتهم، ولم يسعوا لزينتها وأسباب الدعة ورغد العيش فيها فتفضل الله عز وجل بصيرورتها وكأنها منقادة لهم.
الرابعة : يأتي ثواب الدنيا لأهلها إمتحاناً وإبتلاء كما في آية البحث، وجاء القرآن بعد ثلاث آيات بالإخبار عن إتيان الدنيا ثواباً وجزاءً عاجلاً وهو من مصاديق قوله تعالى[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] وهو من وجوه التعجيل بالجزاء بدلالة مجيء السين في(سنجزي).
الخامسة : ذكرت آية البحث ثواب الدنيا بخصوص طرو الموت على الإنسان مطلقاً البر والفاجر وأنه كتاب مؤجل يتقلب الإنسان قبله بين أيام الحياة الدنيا، وتداهمه ضروب الإبتلاء، أما الآية بعد التالية فوردت بخصوص المجاهدين من الأمم السالفة.
السادسة : المراد من ثواب الدنيا في آية البحث اللذات وإتباع الشهوات ومباهج الحياة الدنيا والسعي لجمع الأموال وحبس الحقوق الشرعية، أما المراد من ثواب الدنيا بعد آيتين فهو النصر والغنيمة وحسن الذكر في مرضاة الله وإجتهادهم بالدعاء للنصر والغلبة على الكفار، ومن ثواب الدنيا الذي رزقهم الله عز وجل الآيتان التاليتان وكل واحدة منهما وثيقة سماوية تبين تفانيهم في سبيل الله، وإخلاصهم في التباين في مقامات الإيمان، وسعيهم في بناء صرح الإسلام.
السابعة : مع ورود لفظ(ثواب الدنيا) أربع مرات فقط في القرآن فأن مرتين منها وردتا في هذه الآية وبعد ثلاث آيات ،بينما ورد مرتين في آية واحدة من سورة النساء.
ومن أسرار التجاور والتقارب بين آية البحث والآيات الثلاثة التالية أمور:
الأول : التباين الموضوعي في ثواب الدنيا بلحاظ القصد والنية والعزيمة.
الثاني : طرد الوهم والظن بحظر طلب ثواب الدنيا، فليس محرماً إظهار الرغبة فيه أو تحديث النفس برغد العيش أو تحصيل بعض النعم الدنيوية، قال تعالى[خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ]( ).
الثالث : ذكر المؤمنين من الأمم السابقة في الآية التالية كمثال لمجيء الموت عليهم جميعاً، وهو درس في الإتعاظ والإعتبار.
الرابع : سواء قاتل المؤمنون أو قعدوا في بيوتهم لابد أن يأتيهم الموت، كل في أجله والأوان الذي كتبه الله لمغادرته الحياة الدنيا.
بحث أصولي
الحكم التكليفي هو الخطاب المتوجه من عند الله عز وجل ورسوله للعباد فيما يتعلق بأمتثالهم بالإقتضاء أمراً أو زجراً أو التخيير، وسميت بالتكاليف للمشقة التي في طلبها فالمندوب تكليف من وجوه:
الأول : الإتفاق بأنه مندوب ومستحب شرعاً.
الثاني : النية والقصد والرغبة في تحصيله.
الثالث : قهر النفس وزجرها عن الإمتناع عنه لما فيه من السعة.
الرابع : لا يترتب المندوب والمستحب إلا بدليل صحيح، والندب لتحصيل الثواب فيه، وهو أمر شاق نعم لو إنحصر التكليف بإلزام ما فيه كلفة ومشقة فيخرج المندوب بالتخصيص لأنه ليس بواجب، لكن القدر المتيقن من التكليف هو الطلب وليس الإلزام، أي طلب العبد لما فيه كلفة كما في صلاة النافلة، أو في الصدقة المستحبة رجاء الثواب، ووقع الخلاف في المندوب هل الأمر به حقيقة أم مجاز، ولكنه خارج البحث لأن هذا التباين ذو صبغة لغوية وإذا كان المندوب طلب وفيه تكليف فإن المباح ليس فيه طلب، ولكن القدر المتيقن منه أنه تكليف فإن المباح ليس فيه طلب ولكن القدر المتيقن منه أنه تكليف فإن المباح ليس فيه طلب، ولكن القدر المتيقن منه أنه تكليف من وجوه:
الأول : التسليم بأنه مباح.
الثاني : موضوعية الشريعة في إتيان الفعل المباح أو تركه.
الثالث : إستحضار مرضاة الله في إختيار الفعل أو تركه، وصيرورته الترجيح وفق الكتاب والسنة.
الرابع : المباح مما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ اللَّهَ يحبُّ أَنْ يؤخذَ برخصهِ كما يحبُّ أَنْ يؤخذَ بعزائمِهِ( ).
وكذا في المكروه إذ قيل أنه ليس تكليفاً لعدم الإلزام في النهي عنه، لأن النهي هو قول لا تفعل مقروناً بالإستعلاء، وإرادة القطع بالمنع، ولكن المكروه تكليف بالإعتقاد والنية والإنزجار قربة إلى الله عز وجل.
وفي علم الأصول تم تقسيم الواجب تقسيمات متعددة منها، الواجب المطلق والمقيد، والتعيني والتخييري، والعيني والكفائي، والواجب المحدد الذي عين له الشارع مقداراً وحداً كمواقيت الصلوات الخمسة أو كيفية الوضوء.
وقسمنا الواجب تقسيماً جديداً وهو:
القسم الأول : الواجب بالذات كالصلاة، قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، وتتضمن الآية أعلاه جهتين:
الأولى : الواجب المطلق وهو الصلاة التي تؤدي بكل حال من الأحوال.
الثانية : الواجب المشروط، وهو الزكاة بلحاظ تحقق النصاب.
القسم الثاني : الواجب بالعرض : وهو الذي يأتي بحكم ثانوي، ويترتب بطرو أمر إضافي، أو باختيار المطلق كما في النذر، فمثلاً حج البيت الحرام واجب مرة في العمر، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
وعن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،قال يا ايها الناس ان الله كتب عليكم الحج فقام الاقرع بن حابس فقال أفي كل عام يارسول الله قال لو قلتها لوجبت ولووجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا ان تعملوا بها ،الحج مرة فمن زاد فتطوع ( ).
ولو نذر المكلف حج البيت غير حجة الإسلام لوجب بالعرض لأنه أمر إضافي، ولكن الحديث أعلاه لم يذكر حج النذر واليمين والعهد، والجواب من وجوه:
الأول : كان السؤال بخصوص بيان أصل الوجوب.
الثاني : جاء الحديث لبيان التكليف العام للمسلمين والمسلمات، أما النذر فهو أمر شخصي.
الثالث : ورود النصوص الخاصة بالنذر وإيفائه، وعن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: النَّذْرُ نَذْرَانِ فَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لِلَّهِ فَلْيَفِ بِهِ
الرابع : بدلية الكفارة عن النذر وسقوطه مع العسر والحرج.
والواجب بالعرض ينقسم إلى قسمين:
الأول : الواجب العرضي الثابت.
الثاني : الواجب العرضي المتزلزل.
وعن أنس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْنِ لَهُ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِهِ نَفْسَهُ فَلْيَرْكَبْ( ).
ليتجلى المائز بين الواجب بالذات العام والثابت بالنص، والواجب بالعرض الذي هو ذو صبغة شخصية ولا يتصف بالثبات والدوام.
القسم الثالث: الواجب البدلي أي الذي يكون له بدل في أصل التشريع , وهو على شعبتين :
الأولى : الأنتقال للبدل عن فقد الواجب الأصلي أو تعذره أو المشقة فيه ، كما في الطهارة الترابية بديلة عن الطهارة المائية ، قال تعالى [فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا] ( ).
الثانية : الإنتقال للبدل على نحو الإختيار والتخفيف والمندوحة أو تداركاً كالكفارة .
وكذا بالنسبة الحرام الذي يلزم المكلف تركه، ويعاقب على فعله، ومنه مقدمة الحرام مما لايتم الأمن من الوقوع بالحرام إلا باجتنابه والتنزه عنه فهو حرام.
ويمكن تقسيم الحرام إلى أقسام:
الأول : الحرام بالأصل والذات مما ورد فيه دليل قطعي من الكتاب والسنة، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( ).
الثاني : إلحرام بالعرض، وهو على شعبتين:
الأولى : الحرام بالعرض على نحو الدوام والثبوت مثل نشر الحرمة بالمصاهرة قال تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ……الآية]( ).
والمراد من الحرمة هنا حرمة الإستمتاع بهن، وأسباب إثارة الشهوة والإفتتان ومجموع المحرمات في الآية أعلاه ثلاث عشرة، السبعة الأولى نسب، والباقي بالسبب بالرضاعة والمصاهرة وورد فيها لفظ الأمهات ثلاث مرات، وكذا لفظ البنات، وجاءت الآية التي بعدها بالمصاهرة.
ويتفرع عن هذه الحرمة فروع عديدة منها:
الأول : الجدات لإلحاقهن بالأمهات ويأتي تحريمهن من جهات:
الأولى : الجدة أن وإن صعدت فيشملها قوله تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ].
الثانية : جدة الرجل هي جدة بنته وأمها الأعلى في قوله تعالى[وَبَنَاتُكُمْ].
الثالثة : جدة الرجل هي جدة وأم أخته في قوله تعالى[وَأَخَوَاتُكُمْ].
الرابعة : جدة الرجل هي أم عمته أو أم خالته، وقد تكون أم زوجته في ذات الوقت.
الثاني : الحفيدات فهن بنات وإن نزلت.
الثالث : بنات الابن لأنهن من بنات الإنسان.
الرابع : جدات الزوجة لقوله تعالى[وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ].
الخامس : تحريم عمات الأب وعمات الأم لقوله [وَعَمَّاتُكُمْ].
السادس : تحريم خالات الأم وخالات الأب لقوله تعالى[وَخَالاَتُكُمْ].
وتقييد الآية بالعمات والخالات يخرج بناتهن فلا تحرم بنت العمة وبنت الخالة.
السابع : أنها جدة من الرضاعة، إذ يأتي التحريم بخصوصها من جهتين:
الأولى : أنها أم الأم بالرضاعة في قوله تعالى[وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ].
الثانية : جدة الأخت بالرضاعة في قوله تعالى[وََأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ].
الثامن : بنات صاحب اللبن، وهو المستقرأ من الآية لأنه يكون أباً للمرتضعة وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النسب( ).
وتحتمل إرادة ثواب الآخرة بلحاظ الأحكام التكليفية الخمسة وجوهاً:
الأول : إرادة ثواب الآخرة من الواجب بالأصل والذات لأنه فرع الإيمان بقدرة الله على المعاد وحتمية وقوعه والوقوف بين يديه سبحانه للحساب.
الثاني : إنه من الواجب بالعرض لأنه ليس من التكاليف الفعلية والمراد من وجوب الإعتقاد في المقام هو كفاية الإيمان والتسليم باليوم الآخر.
الثالث : إرادة ثواب الآخرة أمر مستحب ومندوب، لأن الواجب هو أداء الفرائض والعبادات المنصوصة، ولم يرد وجوب إرادة ثواب الآخرة من جهة اللفظ وموضوعه، ولا من جهة الحكم ودليله.
الرابع : إرادة ثواب الآخرة أمر مباح بلحاظ الترديد الوارد في آية البحث[وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ]، وصحيح أن ثواب الآخرة نتيجة وثمرة للعبادات والمعارف بفضل من عبد الله عز وجل، ووعد منه سبحانه إلا غاية مباركة كما تدل عليه آية البحث.
لأن أداء العبادات طاعة لله عز وجل وحب له سبحانه، وجعل ثواب الآخرة غاية لا يعني صيرورة الطمع غاية العبادة ومن أجل الإقامة بالجنان إلا أنه غاية بالذات والعرض ليس من مزاحمة بينها وبين طاعة الله وحبه تعالى ولا يضر الطمع بالجنة فيها.
وجاءت آية البحث للإذن بارادة ثواب الآخرة، وعدم التحرج من إتخاذه غاية.
من مصطلحات علم الأصول قصد القربة وهو إرادة وجه الله في الفعل العبادي ، والسعي للتقرب إليه سبحانه بالإمتثال لأوامره والمبادرة في الصالحات وإجتناب ما نهى ال-له عنه ، وهو عنوان جامع لأمور :
الأول : ذكر الله عز وجل .
الثاني : إستحضار ذكر الله عند النية والعزم على الفعل الواجب والمستحب .
الثالث: موضوعية التقرب إلى الله والعزم على طاعته في فعل الخيرات .
الرابع : إجتناب النسيان والغفلة عن الواجبات العبادية ، قال تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ] ( )، ومصطلح قصد القربة قال به الأصوليون لإفادة الإخلاص في العبادة والتنزه من شوائب الشك والرياء .
ومنهم من قسم النية إلى قسمين :
الأول : نية إتيان العمل بمجيئه على دراية ويكون معها المكلف ملتفتاً إلى فعله وليس غافلاً عنه في كيفيته وأجزائه وهذه النية حاضرة بكل فعل عبادي كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]( )، فحينما يريد المسلم الصلاة يتوجه للوضوء وهو غسل بكيفية وتفصيل لا يكون إلا بقصد العبادة والدخول في الصلاة.
الثاني : نية قصد القربة وهي إرادة الإمتثال لأمر الله عز وجل وقيل هي المقصودة بالقول [نية المرء أبلغ من عمله] ولا دليل على هذا المعنى، والمختار التداخل في النية وأن قصد القربة ليس قسيماً لنية أداء الفعل العبادي بل هي جزء منه ووعاء وغاية له.
وأكثر ما يرد مبعث [قصد القربة ] في علم الأصول في فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان كان قصد القربة ظاهراً فيه فهو دائر بين الوجوب والندب ،وأن كان قصد القربة لم يظهر فيه فهو مباح وهذا التقسيم صغروي ،لأن الله عز وجل قال [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
وإجماع علماء الإسلام على إرادة قصد القربة في الواجبات العبادية وقد تقدم ذكر وجوه عديدة لمعنى قصد القربة ويأتي مزيد إن شاء الله في الأجزاء التالية.
وتحتمل بخصوص آية البحث وجوهاً :
الأول : في إرادة ثواب الدنيا قصد القربة إلى الله .
الثاني : إختصاص قصد القربة في ثواب الآخرة .
الثالث : موضوع قصد القربة أجنبي عن إرادة الثواب ،إنما هو نية في القلب مقارنة للفعل العبادي بأن يكون موجباً لمرضاة لله وموافقاً لطاعته، والعزم على جعل الفعل المأتي به مطابقاً للمأمور به ، أما الثواب فهو غاية وثمرة للفعل .
الرابع : تغشي وشمول قصد القربة لإرادة ثواب الدنيا وثواب الآخرة .
أما الأول إعلاه ، ففيه تفصيل فمن إراد الدنيا وطلبها بذاتها وزينتها فلا يدل على إرادة قصد القربة وإن لم يكن من الشرك وما ينفي الشرك هو سؤال رجاء الثواب من الله عز وجل، قال تعالى [مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا]( ).
أما بالنسبة للثاني أعلاه فهو من معاني قصد القربة لدلالة طلب ثواب الآخرة على مسائل:
الأولى : سلامة المسلم من الشرك والرياء .
الثانية : التسليم بأن الثواب في الآخرة بيد الله سبحانه، قال تعالى [الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ]( ).
الثالثة: إمتلاء النفس بالسكينة بالجزاء العظيم في الآخرة على الفعل العبادي .
الرابعة : تفقة المسلم في أمور الدين والدنيا ، وإقراره بالتباين بين عالم الدنيا و الآخرة ، وأن ثواب الآخرة بيده تعالى لقوله تعالى [نُؤْتِهِ مِنْهَا].
أما الثالث فهو غير تام لأن قصد القربة من ضروب العبادة، وأما الرابع فهو صحيح مثل الثاني.
كما ورد قوله تعالى [مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ]( ) وورد قوله تعالى [مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ] ( ).
أما آية البحث فجاءت بمعنى آخر إذ ذكرت ثواب الدنيا ليكون عنواناً جامحاً على شعبتين :
الأولى : إرادة الذين يطلبون الدنيا بذاتها في طاعاتهم وجهادهم ، وهو موافق لمضمون الآيات الثلاث أعلاه [وعن بْنِ قَتَادَةَ ، قَالَ كَانَ فِينَا رَجُلٌ أَتَى لَا يُدْرَى مِمّنْ هُوَ يُقَالُ لَهُ قُزْمَانُ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ إذَا ذُكِرَ لَهُ إنّهُ لَمِنْ أَهْلِ النّارِ ، قَالَ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا ، فَقَتَلَ وَحْدَهُ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ ذَا بَأْسٍ فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ فَاحْتُمِلَ إلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ ، قَالَ فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لَهُ وَاَللّهِ لَقَدْ أَبْلَيْتَ الْيَوْمَ يَا قُزْمَانُ ، فَأَبْشِرْ قَالَ بِمَاذَا أَبْشِرُ ؟ فَوَاَللّهِ إنْ قَاتَلْتُ إلّا عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا قَاتَلْتُ . قَالَ فَلَمّا اشْتَدّتْ عَلَيْهِ جِرَاحَتُهُ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَقَتَلَ بِهِ نَفْسَه] ( ).
الثانية : الذي يطلب الدنيا بقصد القربة من وجوه :
الأول :ثواب الدنيا نعمة من عند الله .
الثاني : الذي يطلبها جزاء عاجلاً في طول الجزاء الأخروي العظيم .
الثالث : الذي يتخذ ثواب الدنيا مقدمة لثواب الآخرة، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]إي الهداية إلى ذات الطريق في الدنيا والآخرة ، والدلالة على السبيل الذي يؤدي إلى الفوز في الآخرة بالعبور على الصراط المستقيم والنجاة من الوقوع في نار جهنم .
الرابع : طلب ثواب الدنيا شكراً لله عز وجل .
الخامس : إرادة ثواب الدنيا للفوز بمصداق عاجل لشكر وجزاء الله عز وجل للعبد في عمله الصالحات ، خاصة وأن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] ( ) .
ولم تقدر كل من الآيتين الجزاء أو تحصره بالآخرة ،وهو من أسرار إئتلاف اللفظ بين ثواب الدنيا وثواب الآخرة .
قانون التلازم بين الدنيا والجزاء
جاءت آيات متعددة من القرآن تتضمن النص الصريح بأن الدنيا دار إبتلاء وإمتحان، وفيها وتعب وعناء ،وليست دار قرار ورخاء ،قال تعالى[إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً]( ).
وجاءت آية البحث لتبين ترتب الجزاء على النية وسنخية العمل لتتجلى الحكمة في خلق الإنسان والتي جعلت الملائكة يلوذون بالإستغفار بعدما إحتجوا على خلق آدم فاستدركوا وقالوا[سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا]( ).
وأطلقت الآية أعلاه الزينة في الأرض لبيان قانون وهو أن كل ما على الأرض له منافع ولو في زمان مخصوص ووجوه من الحسن تتراءى للناس جميعاً أو شطر منهم، وكم من أمور في الأرض لايعبأ بها الإنسان ثم تستحدث فوائد وإستعمالات لها، كما جاءت آيات القرآن بتعيين بعض مصاديق هذه الزينة منها[الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( )، وقال تعالى[وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً]( )، وهل يمكن القول أن المقصود من الزينة التي في الأرض هي المقتنيات الخاصة والمصالح والمكاسب في الدنيا، الجواب لا، وبينهما عموم وخصوص مطلق، ويكون المال والبنون بلحاظ الآية أعلاه من سورة الكهف على وجوه:
الأول : المال والبنون من الزينة التي جعلها الله على الأرض.
الثاني : إنهما من مقدمات الزينة على الأرض، وسبب لضروب مستحدثة من الزينة.
الثالث : إنهما نتيجة وفرع للزينة في الأرض، فالود الذي جعله الله بين الزوجين وحب التنعم بالدنيا بواسطة المال والمكاسب سبب لبعث الشوق في النفس لإستدامة الحياة، والتزود منها، والزينة والإبتداع من أسرار الخلق، واللطف الإلهي بالإنس والجن وليتدبروا بصفات الكمال والجلال للخالق عز وجل فيزدادوا إيماناً ،وتكون هذه الزينة مناسبة لجذبهم لمنازل الهدى والإيمان فحتى السماء القريبة من الناس تجلت فيها صبغة الزينة بالأفلاك والنجوم، قال تعالى[إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ]( ).
والزينة في الأرض أعم من الأعيان الثابتة أو المتحركة، فتشمل الأعراض والأهواء، قال تعالى[زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ]( )، لبيان أن الميل النفسي والشهوة وحب المال والجاه ليست أموراً محرمة على نحو السالبة الكلية، وإلا لما زينها الله للناس، ولكن منها ما هو حلال ومحبوب، ومنها ما هو قبيح ومذموم وإن كان في ظاهره زينة.
وقد تتعلق الزينة بخصوص بيان قدرة الله وبديع صنعه وتجليات الحكمة والوحدانية في خلقه وما يكون فيه الضرر بالذات كالأفاعي والحيوانات المفترسة، أو بالعرض كالفيضانات والزلازل إنما هو من الإبتلاء والإمتحان ومواعظ الجزاء ويكون الأمر الحسن زينة بالنجاة من الشئ الضار وتهيئة أسباب النجاة والوقاية منه، فاحتراز الإنسان من الغرق والحرق والموت عطشاً من الزينة على الأرض، إذ تستلزم هذه النجاة اليومية الشكر من العباد لله عز وجل.
وكل فرد منها إمتحان للناس، وقوله تعالى[زُيِّنَ لِلنَّاسِ] تأكيد للإبتلاء في الدنيا وأن الإنسان بذاته يميل للدنيا ومباهجها ويرغب فيها فجاء الأنبياء ونزلت الكتب السماوية للفصل والتمييز بين الميل الذي هو جائز شرعاً وفيه الأجر والثواب، وبين الميل القبيح في ذاته والذي بجلب على صاحبه الشقاوة في النشأتين، فهذه الشهوات زينة بذاتها ، ويكون المدار على كيفية عمل الإنسان أزاءها وفق أحكام الشريعة فتكون له زينة في الدنيا، وذخيرة في الأرض، أو باتباع الهوى وإرادة ذات الشهوة كفاية بذاتها فتكون وبالاً عليه.
وعن معاذ بن جبل قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا معاذ إن المؤمن لدى الحق أسير إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من شهواته وأن يهلك فيما يهوى يا معاذ إن المؤمن لا تسكن روعته ولا اضطرابه حتى يخلف الجسر وراء ظهره فالقرآن دليله والخوف محجته والشوق مطيته والصلاة كهفه والصوم جنته والصدقة فكاكه والصدق أميره والحياء وزيره وربه من وراء ذلك بالمرصاد يا معاذ إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه يا معاذ إني أحب لك ما أحب لنفسي وأنهيت إليك ما أنهى إلي جبريل فلا ألفيتك تأتي يوم القيامة وأحد أسعد بما آتاه الله منك ( ).
وهل يتحد الجزاء مع العمل في ذات السنخية أم لا، الجواب فيه تفصيل من جهتين:
الأولى : الإتحاد في الماهية والجنس، فان كان العمل خيراً وصلاحاً، فيكون الثواب خيراً وفلاحاً، وإن كان العمل شراً فيكون الجزاء عقاباً، وفي ذم الذين يصرون على الكفر والطغيان، ورد في وصف شدة عذابهم يوم القيامة قوله تعالى[جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا* وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا]( ).
ولبيان أن الذي يريد الدنيا ويطغى ويتكبر فيها، يستدرجه الله بالتمتع بالدنيا، ولم تذكر آية البحث عقابه وجزاءه في الآخرة لأن المعنى ظاهر في مفهوم الآية من جهات:
الأولى : إبتداء الآية بذكر الموت، وإخبار القرآن بكونه أمراً وجودياً، وطريقاً للإنتقال إلى عالم الآخرة.
الثانية : إنحصار ثواب الدنيا بذاتها ونعيمها لقوله تعالى[وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا]( ).
الثالثة :جاءت الآية بصيغة التبعيض(منها) لبيان أن النعم الإلهية يوم القيامة من اللامتناهي .
تقدير الآية
ويكون تقدير الآية على قسمين :
الأول : موضوع الفعل الذي يريد به الآخرة إذ انه يدل بالدلالة التضمنية على الإقرار باليوم الآخر والحاجة فيه لفضل الله ، وهو لا يتعارض مع الرغبة بالطيبات في الدنيا أو يجتهد في طلب الآخرة ويجاهد في سبيل الله فيأتيه ثواب الدنيا وكأنه مقدمة وبشارة لثواب الآخرة .
وفي قوله تعالى [وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( )،ورد ان المشركين أسروا إبناً لعوف بن مالك الأشجعي [يسمّى : سالماً،
فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول اللّه إنّ العدوّ أسر ابني وشكا إليه أيضاً الفاقة،
فقال رسول اللّه {صلى الله عليه وسلم} «ما أمسى عند آل محمد إلاّ مُدْ فاتّق اللّه واصبر وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه ففعل الرجل ذلك،
فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه وكان فقيراً وقال الكلبي في رواية يوسف بن مالك : قدم ابنه ومعه خمسون بعيراً] ( ).
فحين جاء الأب ليشكو أمرين الفاقة والعوز ، وأسر إبنه وليس عنده عوض أو بدل يفكه به ، مع الجهل بمصيره وعاقبته ، واساه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبيّن له الفاقة والحاجة عند أهل البيت ودعاه للصبر على الأمرين واللجوء إلى الله عز وجل ،فامتثل لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأظهر التوكل على الله ، ولم يدخل إلى قلبه الشك بالنبوة من جهة العوز والحاجة عند أهل بيت النبوة وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاءه الفرج دفعة واحدة ، ليكون شاهداً على صدق نبوته.
وكذا في آية البحث ففي إرادة ثواب الدنيا مسائل :
الأولى : بيان وجود موضوع الثواب في الدنيا .
الثانية : تجلي الأثر والنتيجة الحاضرة للفعل العبادي وأسباب الصلاح في الدنيا .
الثالثة : بيان عدم حرمة طلب الثواب في الدنيا بما لا يتعارض مع ثواب الآخرة بل يكون مقدمة ونوع طريق له فمع السعة والغنى يدفع المؤمن الزكاة ،ويكون عنده زاد وراحلة لحج البيت الحرام لقيد الإستطاعة في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
الرابعة : تحقق الشواهد الفعلية للإعجاز الغيري للقرآن بأن يرى المؤمن ثواب الدنيا على أفعاله العبادية وعمله الصالحات وإذ قيدت الآية ثواب الدنيا في الآية بارادته وطلبه ، فهل تأتي للذي لم يطلبها ، الجواب نعم ،فاثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عما عداه ،وتقدير الآية : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته ونؤت الذي لم يردها منها .
ويكون تقدير موضوع الفعل في الآية على وجوه :
الأول : ومن يرد ثواب الآخرة بسلامته من الإرتداد عن الدنيا .
الثاني :ومن يرد ثواب الآخرة بعدم الإنقلاب عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث: ومن يرد ثواب الآخرة بتعاهده للصلاة والصوم والحج والواجبات العبادية كما كان يؤديها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : رجاء ثواب الآخرة حباً لله وللقائه , وفي التنزيل [مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ] ( ).
الخامس : ومن يرد ثواب الآخرة طمعاً ورغبة بفضل الله .
السادس : ومن يرد ثواب الآخرة الذي ذكره الله في القرآن .
السابع : ومن يرد ثواب الآخرة الذي أخبر عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نؤته منها .
الثامن : ومن يرد ثواب الآخرة جزاء على إيمانه وعمله الصالحات في الدنيا .
التاسع : ومن يرد ثواب الآخرة لبقائه على الإيمان وعدم إنقلابه بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
بحث بلاغي ثواب الآخرة
من المحسنات اللفظية في علم البديع: الإئتلاف والملائمة وحسن التنسيق بين اللفظين المتجاورين ، ومنها ملائمة اللفظ لذات المعنى الموضوع له في أصل اللغة أو الذي إنتقل له بقرينة ووجه تشابه وهو الذي يسمى المجاز ، وإذا كان المعنى رقيقاً إختير له لفظ رقيق وإذا كان جزلاً وضعت له ألفاظ جزلة ، وكذا بالنسبة لغرابة المعنى أو تصغيره أو ألفاظ الوعيد والمدح والهجاء أو الحب والبغض ويأتي اللفظ المتداول في المعنى والموضوع المتداول والمعروف عند الناس مثل [وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
ومع التباين بين الدنيا والآخرة وأن الأولى قصير أمدها سريع زوالها ، يمر عليها الجيل من الناس ويتداخل معه الجيل والطبقة التالية إلى أن ينقطع الجيل الأول ثم يأتي التالي يتداخل مع الثاني وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض، وعمارته لها بالعبادة ،إلى أن يأتي جيل تأتيه الساعة بغتة وفجاًٍة وهم في أعمالهم اليومية [وعن ابن مسعود عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : « يأتي على الناس زمان يأتي الرجل القبر فيضطجع عليه ، فيقول : يا ليتني مكان صاحبه ، ما به حب لقاء الله إلا لما يرى من شدة البلاء] ( ).
أما الدار الآخرة فهي دار الحساب والجزاء بغير عمل وهي دار الخلد ، وليس من تعاقب في حضور الناس يوم القيامة بل يبعثون من القبور مرة واحدة وهل هو من أسرار سعة وكبر مساحة الأرض بالنسبة للمدن والقرى منها ،الجواب نعم ، فالقسم المعمور من الأرض أقل نسبة واحد من عشرة آلاف من مجموع مساحة الأرض والبحار ويقدر بعضهم عمارة الإنسان لها قبل ستة ملايين سنة وأن مجموع الذين عمروها نحو أربعة بلايين مما يدل على أنه لو إجتمع الناس جميعاً مرة واحدة تكفيهم لو في وقوفهم للحساب ، الجواب ، وإن كان الأمر صحيحاً في التصور الذهني فمساحات الصحراء الشاسعة والجبال والبحار التي على مد البصر تكفي لأجيال الناس في آلاف السنين عند إجتماعهم مرة واحدة ، ولكن لا تكون هناك هذه الأرض يوم القيامة إلا أن يشاء الله ، قال تعالى [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ] ( ) .
قانون عطف الحكم العام على الخطاب الخاص( )
من بركات البيت الحرام أن مجاوريه يتقلبون بالنعم ،لتكون كل نعمة من عند الله تذكيراً لهم بوجوب عبادته، ويصبحوا أسوة للناس في الصلاح، كما نصب البيت لهم للهداية بقوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( )، وليس من حصر للبركات التي كانت تترشح على قريش منها في المقام:
الأول : الأمن والأمان داخل مكة، إذ تغزو القبائل بعضها بعضاً حول مكة، بينما يتغشى الأمن مكة، ولعله من مصاديق تسميتها (أم القرى) إذ يشعر الناس بالأمان عند دخولها بما فيهم المتحاربون بينهم، وأصحاب الثارات .
وهذا الأمان من مصاديق ما ورد في التنزيل، وعن الزهري في قوله تعالى[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا]( ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الناس لم يحرموا مكة ولكن الله حرمها فهي حرام إلى يوم القيامة ، وإن من أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم ، ورجل قتل غير قاتله( ) ، ورجل أخذ بذحول الجاهلية( ).
الثاني : مجئ رؤساء وأفراد القبائل إلى مكة في موسم الحج كل عام، وهو مناسبة لتبادل المعارف وحصول المكاسب وإنتشار الأسواق في مكة وحولها، حتى الملوك يرسلون بضائع لأسواق العرب في الموسم كما بيناه في قانون(أسواق العرب).
الثالث : قيام رجالات مكة بالسعي والشفاعة بين القبائل ،تسوية الخلافات.
الرابع : إتساع تجارة قريش كما يخلدها القرآن بقوله تعالى[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
لتبين الآية أعلاه أن قريشاً الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم ليسوا جهلة بالعقائد والرسالات إذ يختلطون في أشهر متعددة من السنة بأهل الكتاب سواء في الشام أو اليمن، ويسمعون البشارات بنبي آخر الزمان ومخرجه في الحجاز، خاصة وأن تلك البشارات إنتشرت وشاعت أكثر في أيام البعثة لحلول زمانها.
الخامس : خشية الرؤساء والزعماء من التعدي على مكة والهجوم عليها، لآيات البيت الباهرات، ولما لاقاه إبرهة وجيشه وهلاكهم في طريقهم لهدم البيت، وعندما خرج زيد بن عمروا بن فضيل وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش تنصروا إلا زيداً بقي على دين الفطرة والتوحيد على دين إبراهيم وإعتزل الأوثان وإمتنع عن شرب الخمر والميتة ونهى عن وأد البنات.
أما عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي فصارت له منزلة عند قيصر وكان ظريفاً بليغاً فأراد أن يكون حاكماً في مكة ويتملك على قريش تابعاً لقيصر، فرّغبه بحكم مكة وأن تكون جزءً من مملكته كما ملك كسرى صنعاء وذكرّه بمجئ تجار قريش وحاجتهم لبلاد الروم.
فاستهوى الأمر قيصر فكتب قيصر له كتاباً مختوماً في أسفله بالذهب،(فلما قدم عليهم قال يا قوم إن قيصر من قد علمتم أمانكم ببلاده وما تصيبون من التجارة في كنفه وقد ملكني عليكم وإنما أنا ابن عمكم وأحدكم وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والإهاب فأجمع ذلك ثم أبعث به إليه وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمتنع منكم الشام فلا تتجروا به ويقطع مرفقكم منه فلما قال لهم ذلك خافوا قيصر وأخذ بقلوبهم ما ذكر من متجرهم فأجمعوا على أن يعقدوا على رأسه التاج عشية وفارقوه على ذلك فلما طافوا عشية بعث الله عليه ابن عمه أبان معه الأسود بن المطلب بن أسد وصاح على ما كانت قريش في الطواف يال عباد الله ملك بتهامة فانحاشوا انحياش حمر الوحش ثم قالوا صدق واللات والعزى ما كان بتهامة ملك قط فانتفضت قريش عما كانت( ).
وخشيت قريش من تأليب عثمان قيصر عليهم، وهم أصحاب تجارة في الشام، فسألوا عمرو بن جفنة الغساني عامل قيصر بالشام أن يفسد على عثمان عند قيصر، فطلب من الترجمان ذلك فأخذ الترجمان، يقلب كلام عثمان عند قيصر وأخبره بأن عثمان مجنون ويشتم الملك، فأمر قيصر باخراجه، فأخذ عثمان يتحرى السبب فسمع رجلاً من حاشية الملك يتمثل ببيت شعر، فتودد إليه عثمان وقال أرى لسانك عربياً، فمن أنت فقال رجل من بني أسد وأنا أكره أن يدروا بنسبي ،قال فما دهاني عنده قال الترجمان كتب إليه عمرو بن جفنة أن يحول كلامك قال فكيف الحيلة أن تدخلني عليه مدخلا واحدا وخلاك ذم فقال أفعل فاحتال له حتى دخل عليه ودعا له قيصر الترجمان فقال له عثمان أنا أفخر الناس فأعلم ذلك الترجمان قيصر قال وأعذر الناس فأعلمه الترجمان أيضا قيصر قال وأكذب الناس فذكر ذلك الترجمان لقيصر ثم أهوى فتشبث بالترجمان .
فقال قيصر إن له لقصة فادعوا لي ترجمانا آخر فدعوه له فأفهمه قصته فعاقب قيصر الترجمان الأول وكتب لعثمان بن الحويرث إلى عمرو بن جفنة أن يحبس له من أراد حبسه من تجار قريش فقدم على ابن جفنة فوجد بالشام أبا أحيحة سعيد بن العاص وابن أخته أبا ذئب فحبسهما فمات أبو ذئب في الحبس وسم عمرو بن جفنة عثمان بن الحويرث فمات بالشام فذلك حيث يقول ورقة بن نوفل :
هل أتى ابنتي عثمان أن أباهما * حانت منيته بجنب الفرصد
ركب البريد مخاطرا عن نفسه * ميت المنية للبريد المقصد
فلأبكين عثمان حق بكائه * ولأنشدن عمرا وإن لم ينشد( ).
السادس : بعثة النبي محمد صلى الله وآله وسلم ونزول جبرئيل عليه في مكة بالوحي وفيه دلالات ومواعظ للناس منها إنذار قريش بأمور :
الأول : لزوم عدم الصدود عن نبوة محمد ودعوته إلى الله لأن هذا الصدود جحود بالنعم التي تفضل الله عز وجل بها عليهم، وسبب لزوالها، وهو من مفاهيم خاتمة آية البحث[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] الذي يدل في مفهومه بأن غير الشاكرين لا يجازيهم الله بالأحسن، لذا ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال:بالشكر تدوم النعم.
الثاني : إقامة الحجة على أهل مكة بما تلقوها من الأخبار والبشارات عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار الرهبان لهم بصفات النبي وتعيينه في إحدى رحلاتهم إلى الشام،وكان بعض الرهبان يأتون إلى مكة لتلمس أنباء ولادة نبي آخر الزمان وهم يبشرون به
وعن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى عيصا من أهل الشام، وكان متخفرا بالعاص بن وائل، وكان الله قد آتاه علما كثيرا وجعل فيه منافع كثيرة لاهل مكة من طيب ورفق وعلم.
وكان يلزم صومعة له ويدخل مكة في كل سنة فيلقى الناس ويقول: إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة يدين له العرب ويملك العجم، هذا زمانه، ومن أدركه واتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه فخالفه أخطأ حاجته، وبالله ما تركت أرض الخمر والخمير والامن ولا حللت بأرض الجوع والبؤس والخوف إلا في طلبه( ). وكان لا يولد بمكة مولد إلا يسأل عنه، فيقول ما جاء بعد. فيقال له: فصفه. فيقول لا.
ويكتم ذلك للذى قد علم أنه لاق من قومه، مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يكون إليه من الاذى يوما.
ولما كان صبيحة اليوم الذى ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيصا، فوقف في أصل صومعته ثم نادى: يا عيصاه. فناداه من هذا ؟ فقال: أنا عبد الله. فأشرف عليه فقال: كن أباه فقد ولد المولود الذى كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت الاثنين قال: فإنه قد ولد لى مع الصبح مولود.
قال فما سميته ؟ قال: محمدا قال: والله لقد كنت أشتهى أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال نعرفه بها، منها أن نجمه طلع البارحة، وأنه ولد اليوم، وأن اسمه محمد. انطلق إليه فإن الذى كنت أخبركم عنه ابنك. قال فما يدريك أنه ابني ؟ ولعله أن يولد في هذا اليوم مولود غيره ؟ قال: قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن الله ليشبه علمه على العلماء فإنه حجة.
وآية ذلك أنه الآن وجع فيشتكي أياما ثلاثة، فيظهر به الجوع ثلاثا ثم يعافى. فاحفظ لسانك، فإنه لم يحسد أحد حسده قط، ولم يبغ على أحد كما يبغى عليه، إن تعش حتى يبدو مقاله ثم يدعو لظهر لك من قومك ما لا تحتمله إلا على صبر وعلى ذل، فاحفظ لسانك ودار عنه.
قال: فما عمره ؟ قال: إن طال عمره وإن قصر لم يبلغ السبعين، يموت في وتر دونها من الستين في إحدى وستين أو ثلاث وستين في أعمار جل أمته( ).
وفي دخول المبشرين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة مسائل:
الأولى : تحصيل عموم الحجة والبرهان على الناس.
الثانية : شيوع البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورتها حديث المنتديات والمجالس.
الثالثة : دخول البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيوتات مكة، وإحاطة النساء والصبيان بها، وفيه وجوه :
الأول : إقامة الحجة على رؤساء قريش داخل بيوتهم.
الثاني : توجه الدعوة إلى الإسلام عند البعثة إلى النسوان والأولاد ذكوراً وأناثاً من أهل مكة ،وتجلت منافع هذه البشارات باسلام الأبناء والأخوات قبل الآباء والأخوان من قريش.
الثالث : إنه مقدمة لدخول الناس الإسلام، وإستجابة المستضعفين لدعوة النبوة.
الرابع : إصلاح النفوس لقبول الإسلام.
الخامس : إرادة سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من البطش والمكر والقتل.
السادس : بعث الناس للإصغاء لآيات القرآن، ومضامين رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ]( )،.
السابع : وقاية الذين يدخلون الإسلام من الإرتداد، ليكون من معاني الآية السابقة [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، أن البشارات التي سبقت بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرز وواقية سابقة زماناً للسلامة من هذا الإنقلاب، فتنزل الآية في المدينة المنورة لتحذر من الإنقلاب والإرتداد بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد جاءت البشارات قبل البعثة التي تحول دون هذا الإنقلاب.
لذا ثبت عامة المسلمين في منازل الإيمان، وسلموا من مصاديق الإنقلاب الظاهر والخفي، ولا يقدح بهذا المعنى أن البشارات كانت قبل البعثة بينما موضوع الإنقلاب كان بعدها بمدة مديدة لأن هذه البشارات على وجوه:
الأول : البشارات التي كانت قبل ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوارث كبار أتباع الرسل لأنباء نبوته، وقد بيّن القرآن زماناً لهذه البشارة يسبق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنحو ستمائة سنة، إذ أخبر الرسول عيسى بن مريم عن بعثته، وفي التنزيل حكاية عنه[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
الثاني : البشارات والعلامات الكونية التي تجلت عند ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها الرؤيا التي رآها كسرى وما فيها من دروس الإتعاظ.
وأخرج عن مخزوم بن هاني المخزومي عن ابيه وأتت له مائة وخمسون سنة قال لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربعة عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك ألف عام وغاضت بحيرة ساوة فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فتصبر عليه تشجعا فلما عيل صبره رأى أن لا يستر ذلك عن وزرائه فلبس تاجه وقعد على سريره وجمعهم إليه واخبرهم بما رأى .
فبينما هم كذلك إذ ورد عليه الكتاب بخمود النار فازداد غما إلى غمه فقال له الموبذان وأنا أصلح الله الملك رأيت في هذه الليلة إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها فقال أي شيء يكون يا موبذان قال حادث يكون من ناحية العرب.
فكتب كسرى إلى النعمان بن المنذر أما بعد فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه فوجه اليه بعبد المسيح بن عمرو ابن حسان الغساني فلما ورد عليه قال له الملك ألك علم بما أريد أن أسألك عنه.
قال ليخبرني الملك فان كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلمه فأخبره قال علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح قال فأته فاسأله فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح وقد اشفى على الضريح فسلم عليه فلما سمع سطيح سلامه رفع رأسه .
وقال عبد المسيح على جمل مشيح أقبل إلى سطيح وقد أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه فأتى عبد المسيح إلى كسرى فأخبره فقال إلى ان يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور وأمور فملك منهم عشرة في أربع سنين وملك الباقون إلى خلافة عثمان( ).
الثالث : معرفة قريش لعلوم النبوة وقصص المرسلين مناسبة لمقارنة المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزاتهم، وإدراك صدقها والإقرار بها، فان قلت حينما كانت قريش تسأل بعض أهل الكتاب عن صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانهم يخبرونهم بصفات أخرى مغايرة لها، والجواب من جهات:
الأولى : معجزات النبوة ناسخة لأسباب الشك والريب.
الثانية : توالي إعجاز تزول آيات القرآن، وكل آية معجزة قائمة بذاتها.
الثالثة : تتابع دخول الناس الإسلام.
قانون الجزاء الأحسن والأتم
في خاتمتي هذه الآية والآية السابقة مسائل يختصان بها:
الأولى : لم يرد في القرآن لفظ (وسيجزي) إلا في الآية السابقة، ولا لفظ(سنجزي) إلا في هذه الآية.
الثانية : مع إضافة حرف العطف الواو في الآيتين(وسيجزي) (وسنجزي) فهو زيادة في إنفراد الآيتين بمضمون مخصوص يدل على وجود دلالات خاصة لكل منهما.
الثالثة : مجئ الوعد الكريم بالجزاء لخصوص الشاكرين في آيتين متعاقبتين.
الرابعة : هاتان الآيتان أولى الآيات في نظم القرآن اللائي يرد فيها لفظ الشاكرين من مجموع تسع مرات في القرآن، إذ ورد اللفظ الثالث حسب ترتيب سور القرآن في المصحف في سورة الأنعام .
الخامسة : تعلق موضوع الآيتين بالزجر عن الإنقلاب والإرتداد بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومغادرته الدنيا بعد رسالته للناس جميعاً وإمامته للمسلمين في العبادات والمعاملات وسوح القتال، فليس من موضوع إلا وشخصه الكريم وسننه حاضران باشراقة مباركة فيه يجذبان الناس طوعاً وقهراً إلى التدبر والإقتداء بها والإستزادة منها ، وهو من نعمة الله عز وجل بأن جعل هذا الحضور المستغرق للوقائع والأحداث مرآة لأحكام القرآن في الحلال والحرام، ومصداقاً لقوله تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
السادسة : بيان قانون كلي وهو: لا يقدر على جزاء الشاكرين لله عز وجل والثناء عليهم وإثابتهم إلا الله عز وجل لذا أختتمت الآية بصيغة المتكلم ولغة الجمع التي تدل على إحاطة الله عز وجل بالموجودات كلها وأنه الذي يهب العطايا العظيمة التي لا تخطر على بال أحد، وعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم عليه السلام خليفة في الأرض تفضل الله عز وجل وأخبرهم بانفراده بالعلم المطلق الذي لا تدرك معشاره الخلائق إذ رد عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وتفضل بالبرهان الحاضر بأن علم آدم الأسماء كلها، فلاذوا بالتسبيح والتهليل[قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا]( )، لتتجلى مصاديق من علم الله عز وجل بلحاظ آية البحث من وجوه:
الأول : ثبات المسلمين في مقامات الإيمان مع غياب الخليفة والرسول من الدنيا.
الثاني : تلقي المسلمين الإنذار من الإنقلاب بتعاهد خصال الإيمان.
الثالث : بقاء الإنذار الوارد في آية البحث إلى يوم القيامة، وهذا البقاء بالذات والرسم الحرفي والتلاوة والتوجه موضوعاً وحكماً إلى الأجيال المتعاقبة من المسلمين.
إخبار النبي (ص) عن المغيبات
لقد تحولت الريح وسير وموضع المعارك بعد يوم الأحزاب وتجلت ببشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله يومئذ(لن تغزوكم قريش بعد عامكم ولكنكم تغزونهم)( )، وفيه إعجاز وإخبار عن الغيب، ويمكن تقسيم الإخبار عن المغيبات إلى شعبتين:
الأولى : علم الغيب في أمور الحياة الدنيا، وينقسم إلى وجوه:
الأول : علم الغيب في قصص الأمم السابقة وأخبار الصالحين للإتعاظ والتدبر وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان رجل في بني إسرائيل يقال له جريج يصلي إذ جاءته أمه فدعته فقال أجيبها أو أصلي؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعة فعرضت له امرأة وكلمته فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقيل لها ممن؟
قالت: من جريج فأتوه وكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه ،فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام ؟ قال: فلان الراعى، قالوا: أنبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا إلا من طين)( ).
الثاني : قصص الأنبياء السابقين ، وورد قوله تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( )، بخصوص قصة مريم ونبي الله يوسف عليهما السلام.
الثالث : أخبار الوقائع الطارئة والقريبة في زمانها ،أخبار الأنبياء السابقين وبيان جهادهم لتكون للسنة النبوية سبيل هداية للإقتداء بمناهج الأنبياء، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أفضل الصيام صيام داود.
وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا يكون فيها، وكانت له ركعة من الليل يبكى فيها نفسه ويبكى ببكائه كل شئ ويصرف بصوته المهموم والمحموم)( ).
قال صلى الله عليه وآله وسلم: إذا هلك كُسْرَى فلاَ كُسْرَى بَعْدَهُ وإذَا هلك قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ والَّذِي نَفْسِي بِيِدِهِ لَتُنْفِقنّ كُنُزهمَا فِي سبيل اللَّه عزَّوَجلَّ) ( ) وكان كسرى مزّق كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله بيد عبد الله بن حذافة فسأل النبي عز وجل أن يمزق ملكه.
الرابع : أنباء الحوادث من الأماكن الأخرى التي لا يصل الخبر عنها إلا بعد يوم أو أيام، فيخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن وقوع الحدث ثم ترد الأخبار بوقوعه في ذات التأريخ كموت ملك , وأخبر النبي أصحابه عن قتلى بدر ومواضعهم عشية معركة بدر.
الخامس : بيان أسرار من عالم الخلق والإيجاد، وهذا البيان من فضل الله على النبي .
السادس : وإخبار الملائكة أو إنكشاف الحجب وأسرار ليلة الإسراء، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجن من مارج من نار ، وخلق آدم كما وصف لكم( ).
الثانية : علم الغيب فيما يخص عالم الآخرة وأهوالها، وإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنه مرآة لآيات القرآن وتفسير لها وفيه وجوه:
الأول : ساعة إحتضار الميت، وحضور الملائكة عنده.
الثاني : أسرار عالم البرزخ ،وكيف أنه على أقسام.
الثالث : مواطن الحساب يوم القيامة.
الرابع : شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة، وفيها أحاديث عديدة منها ،ما ورد عن أبي هريرة قال: أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ فَأَكَلَهُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً ثُمَّ قَالَ « أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ تَدْرُونَ لِمَ ذَاكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِى وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ فَيَبْلُغُ النَّاسُ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ فَيَقُولُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَيْكُمْ بِآدَمَ. فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ آدَمُ إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِى عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُ نَفْسِى نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ.
فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ نُوحٌ إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لِى دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِى نَفْسِى نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِىُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنِّى قَدْ كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ فَذَكَرَهُنَّ أَبُو حَيَّانَ فِى الْحَدِيثِ نَفْسِى نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى. فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ عَلَى الْبَشَرِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنِّى قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا نَفْسِى نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ عِيسَى إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا نَفْسِى نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ. قَالَ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَأَنْطَلِقُ فَآتِى تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا لِرَبِّى ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَىَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِى ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى يَا رَبِّ أُمَّتِى يَا رَبِّ أُمَّتِى. فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ وَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى)( ).
الخامس : أحوال أهل الجنان والنعيم الذي هم فيه خالدون.
السادس : شقاء وشدة بؤس أهل النار.
أو كلما كان الإخبار عن أمر قريب في أوانه يكون التحدي أعظم والآية جلية، فلم يلبث المسلمون أن ساروا إلى مكة ليقم فتحها بعد ثلاث سنوات من يوم الأحزاب.
وهل يبقى تمني الموت بعد أحد أمراً مشروعاً أم أن القدر المتيقن هو بخصوص أوان نزول الآية وشدة الحرج على المسلمين يومئذ بكثرة جنود الكفار وسوء نواياهم وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم وأصحابه.
الصحيح هو الأول وهو كيفية نفسانية تقتبس حسنها من موضوعها وهو قصد القربة وفي سبيل الله ولتكون آية البحث إنذاراً للكفار وزاجراً عن التعدي على ثغور الإسلام، وعن جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة بني انمار فقال لرجل ما له ضرب الله عنقه فسمعه الرجل فقال يا رسول الله في سبيل الله فقال في سبيل الله فقتل الرجل في سبيل الله وغزوة بني أنمار هي غزوة ذات الرقاع)( ).
ووقعت معركة أنمار في السنة الرابعة للهجرة وقيل في الخامسة لأثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول بعد أن بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن قوماً من ثعلبة ومحارب جمعوا جمعاً لمحاربته والهجوم على أطراف المدينة فأستبق النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكرهم وخرج إليهم بوحي من عند الله، [جمعهم رجلٌ منهم يقال له دعثور ابن الحارث بن محارب، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسلمين، فخرج في أربعمائة رجل وخمسين، ومعهم أفراس، فأخذ على المنقى، ثم سلك مضيق الخبيت، ثم خرج إلى ذي القصة، فأصاب رجلاً منهم بذي القصة يقال له جبار من بني ثعلبة، فقالوا: أين تريد؟ قال: أريد يثرب. قالوا: وما حاجتك بيثرب؟ قال: أردت أن أرتاد لنفسي وأنظر. قالوا: هل مررت بجمع، أو بلغك خبر لقومك؟ قال: لا، إلا أنه قد بلغني أن دعثور بن الحارث في أناس من قومه عزل. فأدخلوه على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدعاه إلى الإسلام فأسلم.
وقال: يا محمد، إنهم لن يلاقوك، إن سمعوا بمسيرك هربوا في رءوس الجبال، وأنا سائرٌ معك ودالك على عورتهم. فخرج به النبي صلى الله عليه وسلّم وضمه إلى بلال، فأخذ به طريقاً أهبطه عليهم من كثيب، وهربت منه الأعراب فوق الجبال، وقبل ذلك ما قد غيبوا سرحهم في ذرى الجبال وذراريهم، فلم يلاق رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحداً، إلا أنه ينظر إليهم في رءوس الجبال.
فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ذا أمر وعسكر معسكرهم فأصابهم مطرٌ كثيرٌ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلّم لحاجته فأصابه ذلك المطر فبل ثوبه، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وادي ذي أمر بينه وبين أصحابه. ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف، وألقاها على شجرة ثم اضطجع تحتها والأعراب ينظرون إلى كل ما يفعل.
فقالت الأعراب لدعثور، وكان سيدها وأشجعها: قد أمكنك محمد، وقد انفرد من أصحابه حيث إن غوث بأصحابه لم يغث حتى تقتله. فاختار سيفاً من سيوفهم صارماً، ثم أقبل مشتملاً على السيف حتى قام على رأس النبي صلى الله عليه وسلّم بالسيف مشهوراً، فقال: يا محمد، من يمنعك مني اليوم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: الله! قال: ودفع جبريل عليه السلام في صدره.
ووقع السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقام به على رأسه فقال: من يمنعك مني اليوم؟ قال: لا أحد. قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله، لا أكثر عليك جمعاً أبداً! فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيفه، ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه فقال: أما والله لأنت خير مني. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أنا أحق بذلك منك. فأتى قومه فقالوا : أين ما كنت تقول وقد أمكنك والسيف في يدك؟
قال: والله، كان ذلك ،ولكني نظرت إلى رجل أبيض طويل، دفع في صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله لا أكثر عليه! وجعل يدعو قومه إلى الإسلام، ونزلت هذه الآية فيه: “يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قومٌ أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم”)( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتبعهم ولم يأمر أصحابه بالصعود خلفهم إلى رؤوس الجبال إنما تحقق الغرض من الكتائب وهو زجرهم وبيان منعة الإسلام مع دخول رئيسهم وشطر منهم في الإسلام، وهو من مصاديق البشارة في الحديث أعلاه.
قوله تعالى [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ]
أختتمت آية البحث بقوله تعالى[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] ويتألف من ثلاثة أطراف:
الأول : المؤمنون الذين يشكرون الله عز وجل وجاء ذكرهم بصيغة الجمع(الشاكرين) وتقدير المفرد في آية البحث(وسنجزي الشاكر) وورد ضمير المتكلم بصيغة الجمع(نا) ولم تقل الآية(وسأجزي الشاكرين) لبيان السعة والكثرة في الجزاء وشموله لأحوال الإنسان في الدنيا ومواطن الآخرة، وهل يتجلى بالجزاء له في الدنيا بعد مغادرته لها، الجواب نعم وهو من بديع صنع الله بالإنسان.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده) ( ) ليكون هذا الإتصال المبارك بالدنيا من جزاء الله عز وجل لعباده الشاكرين، ونافلة من الثواب الذي يأتيهم بعد مماتهم، بالأثر الحسن الذي يتركه العبد من قبل أن يغادر الدنيا كالعلم النافع أو الصدقة المتصلة الدائمة التي ينتفع منها الفقراء والمساكين أو التي هي سبيل نفع لعامة الناس.
وقد يأتي هذا الثواب بواسطة الولد الصالح الذي هو من كسب الإنسان في الولادة والنشأة والإصلاح وهو من مفاهيم ما ورد عن [عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ أَتَى أَعْرَابِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي قَالَ أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَمْوَالَ أَوْلَادِكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوهُ هَنِيئًا ] ( ) وورد هذا الحديث بطرق متعددة وصيغ متقاربة ، والظاهر أن اللام في [لِوَالِدِكَ] للإباحة ، وليست لأم التمليك لحكومة قاعدة السلطنة، ليكون من دلالات الحديث تأكيد المسلم لعدم إنقلابه بلحاظ تركته وإحسانه وذريته وكيفية إصلاحهم للثبات على الإيمان ليكون كالوصية المتوارثة بين المسلمين بأن يتعاهد الابن الفرائض وأحكام الحلال والحرام ولا ينقلب عن منازل الإيمان التي ودّع أبوه الدنيا ومن عرصاتها.
وروي أن عيسى عليه السلام بقبر يعذب صاحبه، ثم مر به من قابل فإذا هو ليس يعذب، فقال: يا رب مررت بهذا القبر عام أول فكان صاحبه يعذب، ثم مررت به العام فإذا هو ليس يعذب ؟ فأوحى الله عزوجل إليه: يا روح الله إنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقا وآوى يتيما فغفرت له بما عمل ابنه( ).
وعن رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم : ولد الرجل من كسبه ، من أطيب كسبه ، فكلوا من أموالهم)( ).
وقال عياض: لكن هذه الأشياء لما كان هو سببها هذه الأشياء من اكتسابه الولد وبثه العلم عند من حمله عنه أو إيداعه تأليفا بقي بعده وإيقافه هذه الصدقة بقيت له أجورها ما بقيت ووجدت)( )، وهناك تباين بين السبب والإكتساب، وقد يكون الإنسان سبباً بفعل الغير المعصية فلا تكون من كسب المسبب، وينطبق عليه قوله تعالى[وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( )، ولكن نسبة الكسب للمسلمين فضل من عند الله.
ولم يقيد الحديث الولد الصالح بإصلاح الأب له في مراتب الإيمان ليبين الحديث قانوناً كلياً وهو بإمكان الإنسان إبقاء طريق للأجر والثواب بعد مماته، فيفارق الدنيا ويستمر تالي الثواب عليه ،والأصل أن تكون صلة الإنسان بلحاظ موضوع التركة في ميدان الأعمال على وجوه:
الأول : الذي يترك عملاً صالحاً ينتفع منه أو ولداً صالحاً من بعده، فيأتيه الثواب من بعد موته من منافع هذا العمل أو من دعاء الولد له.
الثاني : الذي يترك عملاً سيئاً فيه ضرر على الناس من بعده ،فيؤثم كلما صار مادة للإضرار بالناس، وكذا إذا ترك من بعده ولداً شريراً فان الإثم يأتي على الأب أيضاً من فعل إبنه.
الثالث : الذي يموت وليس له عمل من بعده أو ولد في الدنيا، أو خلف ولداً لاينفع الناس ولا يضرهم فلا يأتيه ثواب ولا إثم من بعده.
ولكن الله عز وجل تفضل على الناس بالثواب المستحدث بخصوص الأول أعلاه، وفيه ترغيب بعمل الصالحات ليكون حديث الإستثناء من مصاديق قوله تعالى[وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً]( ).
ومن الشواهد بأن الجزاء من عند الله أعظم بكثير من ذات فعل العبد، ومنه تقدير الآية: وسنجزي الشاكرين أضعافاً مضاعفة)، ومنها الثواب المترشح عن إنتفاع الناس من فعل الإنسان في حياته.
الثاني : موضوع الشكر الذي يكون سبباً للجزاء الحسن، وبين الشكر والحمد عموم وخصوص مطلق، فالحمد ثناء باللسان على الجميل مع قصد التعظيم والإكرام ويكون الشكر باللسان والفعل ويأتي بغير اللسان في مقابل النعمة، وقيل النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، لإنفراد الحمد بأنه ثناء باللسان من غير تلقي نعمة يتقوم بها هذا الحمد وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان، خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن( ).
وفي الآية شاهد بوجود أمة في كل زمان تشكر الله عز وجل على النعم، وتكون سبباً لإستدامة فضل الله عز وجل على الناس، وهل هذا الشكر من العبادة التي هي علة الخلق في قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، الجواب نعم، فالشكر لله عز وجل إقرار بربوبيته المطلقة وأن النعم منه سبحانه، وهو الذي يثيب العباد في الدنيا والآخرة.
وعن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: استكثروا من الباقيات الصالحات « قيل : وما هن يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله ( ).
وهو من باب المثال الأقرب، والفرد الذي يقدر عليه كل مسلم غنياً أو فقيراً، كبيراً، أو صغيراً، معافى أو عليلاً، ذكراً أو أنثى، وجاء حديث الإستثناء لبيان أفراد أخرى تستلزم السعي والجد والمثابرة وعمل الإنسان لآخرته بما يتركه في الدنيا من الأفراد الثلاثة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أو كلها مجتمعة ومتفرقة ،وهو على ثلاثة أطراف :
الأول : تحمل الصدقة الجارية على بناء المسجد والوقف والقنطرة والطريق.
الثاني : المراد من العلم تأليف كتاب نافع أو ترجمة أو تحقيق أو تصنيف أو طبع نسخ القرآن وتفسيره وعلوم الفقه، والعلوم التي تدرء الفتنة وتحول دون الفرقة والخصومة بين المسلمين، وعلوم الإبدان، والصناعات الحديثة التي ينتفع منها الناس في الزراعة والنقل والمكاسب والهندسة والفلك وغيرها.
ويدل الحديث على أن الضابطة الكلية في باب العلم هو النفع الخاص أو العام وليس الموضوع أو العمل كالتأليف، ومن المواضيع ما هو خير محض كالفقه والمعارف الألهية ويكون الأثر على وجهين :
الأول : النفع.
الثاني : الأذى والضرر.
ويحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة النفع والخير المحض، وهو القدر المتيقن من الحديث.
الثاني : المدار على رجحان كفة الخير والنفع من العلم إذا كان وسيلة مشتركة بينه وبين الشر.
الثالث : موضوعية النية وقصد صاحب العلم.
الرابع : شرطية الإيمان في مجئ النفع والثواب لصاحب العلم بعد وفاته الذي هو فرع الإيمان بالله والنبوة والمعاد.
ولا تعارض بين هذه الوجوه مجتمعة ومتفرقة.
الطرف الثالث : الولد مع قيدين:
الأول : الصلاح.
الثاني : الدعاء للوالدين، بما يجعله باراً بهما.
وهل يشمل الحديث الأمهات وإنتفاعهم من الأولاد أم أنه خاص بالأب، الجواب هو الأول إنما ورد التذكير للغالب، ومن منافع الحديث أن كل طرف من أطرافه الثلاثة واقية من الإنقلاب والإرتداد في القادم من الأيام والأجيال، فيكون من خصائص المؤمن سلامته من الإرتداد وعمله لينجو غيره من الناس في الأجيال اللاحقة منه، فكلما جاءت طبقة أو جيل من المؤمنين إلى الدنيا وجدوا أمامهم المقتضي للإيمان، والموانع من الإرتداد، التي خلفها الآباء تركهّ لهم، وهذه التركة متراكمة، فكل جيل من الآباء يترك صدقات وعلوم متعددة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع (الشاكرين) ليكون الشكر على وجوه:
الأول : شكر الطائفة والأمة على النعم التي تأتيهم مجتمعين.
الثاني : شكر الطائفة والأمة على النعم التي تنزل عليهم متفرقين، ولكنهم ينتفعون منها على نحو الكلي المشكك التي هو على مراتب متفاوتة كالغنائم التي ترد المؤمنين.
الثالث : شكر الأمة على النعم التي تأتي للناس من مصاديق رحمة الله بالناس مثل نزول المطر الذي يصيب البر والفاجر.
الرابع : شكر الطائفة والأمة على النعم الفردية التي تأتي لبعضهم بلحاظ جهات:
الأولى : الثناء على الله عز وجل بتفضله بالنعم.
الثانية : إنتفاع الفرد أو الجماعة من فضل الله.
الثالثة : الشكر من العباد طريق للمزيد من الفضل الإلهي وصيرورته عاماً.
الرابعة : الشكر العام على النعمة الخاصة رجاء إستدامتها على ذات العبد، وهو من عمومات قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( )، بتقريب أن الشكر لله عز وجل من التقوى والخشية منه، وأن النعمة التي تصيب الفرد تنتفع منها الجماعة بالذات أو الأثر.
الخامس : شكر الفرد على النعمة الخاصة التي تأتيه من عند الله وتقدير الآية: وسنجزي الشاكر.
السادس : قيام المسلم بشكر الله على فضله تعالى عليه وعلى والديه وذوي الأرحام وفي التنزيل حكاية عن النبي سليمان [رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ] ( ).
فمن أسرار فوز الإنسان بمرتبة الخلافة في الأرض توالي النعم الخاصة والعامة عليه، وأن كل إنسان تأتيه نعمة خاصة من عند الله لا تكون عند غيره من جهات متعددة منها:
الأولى : ذات وماهية النعمة.
الثانية : جنس وموضوع النعمة بالولد أو المال أو الجاه.
الثالثة : كيفية مجئ النعمة على نحو دفعي أو تدريجي.
الرابعة : الكم النازل من النعمة على العبد.
الخامسة : المقدار الذي إنتفع منه العبد، فقد يكون بين الكم النازل والمقدار المكتسب التساوي، وقد يكون على نحو الموجبة الجزئية وهذه الجزئية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ومتباعدة.
السادسة : مدة بقاء النعمة عند العبد.
السابعة : أوان مجئ النعمة والفضل الإلهي للعبد.
الثامنة : حال العبد عند نزول النعمة.
التاسعة : كيفية تلقي وإكتساب العبد للنعمة.
العاشرة : هيئة الإقتضاء عند العبد لنيل النعمة بلحاظ أنها حاجة أو نافلة وفضل، أو حرز لحاجة لاحقة.
الحادية عشرة : إزاحة المانع الخاص أو العام عند العبد أو الحواجز التي تحول دون الإنتفاع الأمثل من النعمة.
الثانية عشرة : مدة إنتفاع العبد من النعمة، والصلاح الذاتي للإكتساب.
الثالثة عشرة : الأثر المترشح عن النعمة الإلهية.
الرابعة عشرة : دعاء وتضرع العبد لنزول النعمة.
الخامسة عشرة : إكثار العبد من الإستغفار بلحاظ أنه طريق لنيل للنعمة، وفي نوح وقومه ورد قوله تعالى[فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا]( ).
السادسة عشرة : شكر العبد لهدايته للشكر على الفضل الإلهي، فهذا الشكر سبب لتجدد ومضاعفة الفضل الإلهي، لذا جاءت خاتمة الآية وعداً من عند الله بانه سبحانه يجازي الشاكرين على شكرهم وحسن سمتهم.
السابعة عشرة : إمتثال العبد للأوامر الإلهية، وطاعته لله ورسوله والجزاء المذكور في آية البحث من مصاديق الرحمة الإلهية في قوله تعالى[نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ويحتمل متعلق الجزاء في الآية وجوهاً:
الأول : شكر وثناء المسلمين على الله عز وجل وبيان فضله، ومنه تلاوتهم في الصلاة[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وهو من أسرار القراءة في الصلاة اليومية وقراءة سورة الفاتحة على نحو التعيين والوجوب العيني على كل مكلف من المسلمين والمسلمات ليتفضل الله ويحتسبه لهم بلحاظ آية البحث والآية السابقة من جهات :
الأولى : التسليم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : الإيمان بنزول القرآن من عند الله.
الثالثة : تعاهد المسلمين لآيات وسورة القرآن وجهادهم في سبل حفظه ومنع طرو التحريف عليه.
الرابعة : إتخاذ الصلاة وعاء ومناسبة لشكر الله ،وهو أبهى مصاديق الشكر لأنه يصدر عنهم في حال العبادة والخضوع والخشوع.
الخامسة : أداء الصلاة شاهد يومي متجدد على السلامة من الإنقلاب والإرتداد.
الثاني : تعاهد المسلمين لنهج الأنبياء في الشكر لله عز وجل ،وورد الثناء على إبراهيم في قوله تعالى[شَاكِراً لأنْعُمِهِ] ( ) روي أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف ، فلم يجد ذات يوم ضيفاً ، فأخر غداءه ، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر ، فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أنّ بهم جذاماً؟ فقال : الآن وجبت مواكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم( ).
الثالث : شكر المسلمين لله في السراء والضراء، ويتجلى في المقام بجريان الحمد على اللسان، والإنفاق في سبيل الله رجاء رفده وفضله وتوالي نعمه.
الرابع : شكر الحواس والجوارح، فشكر الآلة الباصرة التفكر في خلق السموات والأرض والنظر في القرآن وآيات الله، كما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرسلة مكحول: خمس من العبادة، ذكر إحداهن قال : والنظر إلى الكعبة عبادة ( )، ومنها الورع والإمتناع عن النظر لما حرم الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: زنا العين النظر( ).
ويطلق الزنا على الجوارح إستعارة ولما فيه من الإثم ، وقد يكون مقدمة للزنا الذي هو في الإصطلاح إبلاج فرج في فرج محرم شرعاً محبوب طبعاً .
وجاء الجمع في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كتب على ابن آدم حَظَّهُ من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان الْمَنْطِقُ والنفس تَمَنَّى وَتَشْتَهِى وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك أو يكذبه ( ).
وهل إحتراز المسلم وشكره لله عز وجل في حواسه وجوارحه وإجتنابه للمحرمات من العصمة من الإنقلاب الجواب نعم، لأن الإسلام دين التكامل العبادي والأخلاقي والطريق الذي يقود الإنسان إلى النعيم في الجنان.
ويحتمل المراد من الشاكرين وجوهاً:
الأول : المسلمون والمسلمات أيام التنزيل من أهل البيت والصحابة بلحاظ أن تلقيهم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإيمان والتصديق شكر لله على هذه النعمة العظيمة.
الثاني : المؤمنون الذين حضروا معركة بدر.
الثالث : المسلمون والمسلمات الذين شكروا الله عز وجل على نعمة النصر في معركة بدر.
الرابع : طائفة من المسلمين تمنوا الشهادة في سبيل الله عند قدوم الكفار للقتال في معركة بدر، إذ تناقل الناس كثرة جيوش كفار قريش وغطفان وعزمهم على الثأر والإنتقام من هزيمتهم وكثرة قتلاهم يوم بدر، وإرادتهم إستئصال قواعد الإيمان التي أضاءت لأهل المشرق والمغرب من المدينة المنورة بإقامة نواة الدولة الإسلامية، ولم تكن عند المسلمين عدة وأسلحة كافية، وكان عددهم قليلاً بالقياس إلى جيش الكفار، فتلقوهم بصدورهم وأيديهم وقصد القربة إلى الله الذي تجلى بتمني القتل في سبيل الله كما في آية البحث والذي يدل بالدلالة التضمنية على العزم على بذل الوسع في القتال.
وفي قوله تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا]( ).
ورد عن ابن عباس قال: استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيراً واردة المدينة ببضاعة لهم ، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم جبال فقال : إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمداً ومن معه ، إن أنتم وجدتموه في طلبي أخبرتموه أني قد جمعت له جموعاً كثيرة ، فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعاً كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل . فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقيناً { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } فأنزل الله {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا…})( ).
الخامس : عموم أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
السادس : إرادة الشاكرين لله عز وجل من الأنبياء وأتباعهم والمسلمين منذ أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة.
والصحيح هو الأخير وتكون الوجوه الأخرى أعلاه في طوله لأصالة الإطلاق وصدق إنطباق موضوع الشكر على المؤمنين في الأزمنة السابقة واللاحقة، وتبعية الحكم للموضوع .
وإن قلت إن ورود السين في قوله تعالى(سنجزي الشاكرين) يدل على إرادة المستقبل القريب الذي ينصرف إلى الجزاء في الحياة الدنيا، الجواب الآية أعم، وتقسيم المستقبل إلى القريب والبعيد بلحاظ التباين حرف السين أعلاه(وسوف) التي تأتي للمستقبل البعيد والزمن الواسع لذا سميت حرف تسويف أي تأذير تقسم إستقرأئي .
وورد كلاهما في ذات نص قرآني، قال تعالى[كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ]( ) وقال تعالى [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ] ( )لأن الآية وردت بخصوص عالم البرزخ ويوم القيامة ، وفيه إنذار وتنبيه لتجلي البيان وتخويف وتكرار للوعيد سواء في الدنيا وعواقب الأمور الذي تدل عليه الآية أعلاه من سورة النبأ، أو في عالم الآخرة والجزاء الذي تبينه بوضوح سورة التكاثر، وعلى فرض أن السين الواردة في آية البحث تفيد المستقبل القريب وتخص المسلمين والمسلمات فكيف يكون جزاء الشاكرين من الأمم السابقة بلحاظ هذه الآية.
الجواب من وجوه:
الأول : زيادة الأجر ومضاعفة الثواب لهم وهم في عالم الآخرة، بالنماء فيما عملوه من الصالحات.
الثاني : ورود الذكر الحسن للمؤمنين من الأمم السابقة في الكتب السماوية وخاتمتها والمهيمن عليها القرآن.
الثالث : الهدى والرشاد لذرية المؤمنين من الأمم السابقة
وفيه قوله تعالى[وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا]( )، روي عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صال: إن الله ليخلف العبد الصالح من بعد موته في أهله وماله، وإن كان أهله أهل سوء، ثم قرأ هذه الآية .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الله عز وجل هو الجواد بادئ النعم، وهو الذي أعطى ومنح قبل المسألة وفيه حث للناس على التدبر بذات النعم التي تأتي من عند الله إبتداءً، ولبيان أن مفاتيح خزائن السموات والأرض بيده تعالى، وأنه يهب ويعطي للناس والخلائق ما يفوق حاجاتها وآمالها، ويأتي الشكر من العباد ليزيد الله عز وجل من فضله وإحسانه.
بحث أصولي
لقد خلق الله عز وجل آدم وأسكنه الأرض خليفة وهيئ له ولذريته أسباب الرزق الكريم, قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ]( ).
لتكون النعم الإلهية على الإنسان على وجوه:
الأول : إنها دعوة للإيمان وإتخاذ التفكر بعظمة المخلوقات وبديع الصنع إلى الإقرار بالربوبية لله عز وجل.
الثاني : هذه النعم تعضيد للأنبياء في دعوتهم إلى عبادة الله، لذا جاءت آيات القرآن تذكيراً بها كقوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
الثالث : كل نعمة حجة على الإنسان في النشأتين.
الرابع : النعم الإلهية من مصاديق رحمة الله بالخلائق، ومصداق من فضله الواسع.
الخامس : بعث الناس على شكر الله عز وجل وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب ،وقال الإشاعرة بأن وجوبه سمعي، وقال المعتزلة بان وجوبه عقلي، وهو خلاف صغروي ولا ملازمة بين تقييد صفة الوجوب وبين ترتب الفائدة للعبد الشاكر، والأصل أن وجوب الشكر لله عز وجل على وجوه:
الأول : السمع وندب القرآن له، وفي قوله تعالى[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] مسائل :
الأولى : موضوعية الشكر لله عز وجل في إستدامة النعم.
الثانية : ترشح الشكر لله عن المعرفة والتفقه في بديع الخلق والنعم الخاصة والعامة.
الثالثة : بعث الآية المسلمين للشكر لله، لمجئ الآية بصيغة الجمع والتي تدل على وجوه:
الأول : شكر الجماعة والأمة على النعم الفردية.
الثاني : شكر الفرد على النعم الخاصة به.
الثالث : شكر الفرد على النعمة العامة.
الرابع : شكر الأمة على النعم التي تتغشاها على نحو العموم الإستغراقي.
الرابعة : الوعد الكريم بالجزاء العاجل من الله عز وجل للشاكرين.
الخامسة : بعث المسلمين للدعاء وسؤال الجزاء الذي وعد الله عز وجل في هذه الآية، من وجوه:
الأول : سؤال الجزاء على نحو الأجمال من غير تعيين لأفراده.
الثاني : الرجاء وتفويض سنخية الجزاء إلى الله عز وجل وهو أعلم بمصلحة العبد، وفي التنزيل[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالث : الدعاء بذكر الحاجات وتسميتها.
الرابع : سؤال حاجات الدنيا والآخرة.
الثاني : تجلي الآيات الكونية وبديع صنع الله .
الثالث : وظائف الحواس بادراك النعم .
الرابع: إقرار العقل بحاجة الإنسان للشكر لله عز وجل ، وكان هذه الخلاف هل وجوب الشكر لله سمعي أو عقلي من الإجماع المركب الذي يثبت الوجوب ، وينفي وجود قول ثالث ، ولكن النوبة لا تصل إليه إذ جاءت آيات القرآن بوجوب الشكر لله عز وجل بصيغة الأمر ، والخبر الذي يدل عليه ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ] ( ).
الخامسة : الترغيب بالشكر في الكتاب والسنة .
السادسة : بيان الثواب العظيم للشكر والذي يجعله حاجه للفرد والجماعة وهو الذي يدل عليه آية البحث .
ومن دلالات خاتمة آية البحث بيان عظيم قدرة الله وسعة رحمته وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة ، قال سبحانه[أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، لقد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى[وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]، الذين يتعاهدون منازلهم الإيمانية ويستمرون على ذات نهج رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته ولم ولن ينقلبوا على أعقابهم .
وتضمنت خاتمة هذه الآية (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) بيان عطف العام على الخاص لإرادة جزاء الله عز وجل لكل الذين سعوا ويسعون للبث الدائم في النعيم سواء من المسلمين أو من أتباع الأنبياء السابقين صعوداً إلى أبينا آدم عليه السلام.
فجاءت خاتمة الآية السابقة بصيغة الغائب وجاءت خاتمة هذه الآية بلغة المتكلم وصيغة الجمع وفيه مسائل:
الأولى : سعة عطاء الله وعظيم جزائه.
الثانية : الإخبار عن قانون وهو أن الجزاء والثناء على الشاكرين لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
الثالثة : المنافع العظيمة للشكر، وإتصالها وتواليها وتعاقبها في الدنيا والآخرة.
الرابعة : لا يعلم الجزاء الذي يأتي من عند الله للشاكرين إلا الله عز وجل.
الخامسة : بيان مواضيع الشكر لله، ومنها الإيمان بالله ورسوله، وعدم الإنقلاب والإرتداد عن الإيمان.
علم المناسبة [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ]
ورد لفظ [َنَجْزِي] إحدى وعشرين مرة في القرآن ، ولم يرد لفظ [وَسَنَجْزِي] إل في هذه الآية ، وورد لفظ [سَنَجْزِي ] من غير أن يتقدمه حرف العطف الواو ، مرة واحدة وبصيغة الوعيد للكفار [سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ] ( )لبيان العذاب الشديد الذي ينتظر الكفار الذين يعرضون عن معجزات النبوة ، ويصرون على تكذيب الآيات .
وتبين آيات الجزاء أن الله عز وجل هو الذي يجازي المؤمنين بالثواب العظيم ، ويجازي الكفار بسوء العذاب .
ولم يرد ذكر جزاء الله للشاكرين على نحو التعيين إلا في هذه الآية والآية السابقة ، وأخرى بخصوص نجاة آل لوط من عذاب الحجارة الذي حلّ بقومهم ، بينما ورد قوله تعالى [نَجْزِي الْمُحْسِنِين] ثمان مرات في القرآن [إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ] ( )في الترغيب بالإحسان والمسارعة في الخيرات .
وبين الإحسان والشكر لله عموم وخصوص مطلق ، إذ أن الشكر لله من الإحسان للذات وهو مناسبة للفوز بالثواب العاجل والأجل ، والله عز وجل غني عن الناس وشكرهم ، ومع غناه سبحانه فانه يغدق على الناس بالخيرات لتكون كل نعمة آية تدعو الناس للشكر والثناء عليه.