معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 119

المقدمــة
الحمد لله فاطر السموات والأرض، بارئ النسمات، مسبغ اللامتناهي من النعم على الفرد والجماعة ليترشح كل منها على الذات والغير.
الحمد لله سعة السموات والأرض وعدد الرمل والحصى الحمد لله الذي جعل الخلائق كلها تحمده وتشكره طوعاً وقهراً قال تعالى في الثناء على نفسه[وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ] ( ).
الحمد لله عدد ما لا يحصيه إلا هو سبحانه من خلقه كالملائكة والنجوم، والنعم التي تفضل بها على الناس.
الحمد لله الذي جعل القرآن الإمام في الدنيا والآخرة والدستور الحاضر في العبادات والمعاملات، والذي يحتاج إليه الناس في أمور الدين والدنيا، وبه الغنى والعز والأمن، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الحمد لله الذي ليس من إله غيره، وإنقادت له الخلائق كلها، يدخل الليل في النهار ويدخل النهار في الليل في آية كونية تتجدد كل يوم تدعو الناس إلى عبادته وشكره والتدبر في بديع صنعه، ويمكن تقسيم الآيات الكونية تقسيماً إستقرائياً :
الأولى : الآيات الكونية كل دقيقة .
الثانية : الآيات الكونية النهارية كالشمس , وفي إبراهيم ورد قوله تعالى [فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] ( ).
الثالثة : الآيات الكونية الليلية , وهي على أقسام :
الأول : الآيات والبراهين المتجددة كل ليلة كالنجوم .
الثاني : الآيات المتغيرة كالقمر الذي يبدأ هلالاً كالخيط ثم يأخذ بالإتساع حتى يصبح بدراً بتقدير وحكمة من عند الله ، قال تعالى [وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ] ( ).
الثالث : الآية المستديمة كظلمة الليل ، والسكون فيه .
الرابعة : الآيات الشهرية كاطلالة الهلال للحساب والتذكير بالآجال والديون والزراعات .
الخامسة : الآيات المناخية .
السادسة : الآيات الفصلية كالشتاء والصيف والحر والبرد وتقلبات الطقس وحال الرياح .
السابعة : الآيات السنوية التي تحل كل سنة .
الثامنة : الآيات الطارئة وهي على أقسام :
الأول : كسوف الشمس .
الثاني : خسوف القمر .
الثالث : الزلزلة ونحوها .
التاسعة : الآية العظمى في خلق الإنسان وحياته وأفعاله وما ينتظره من الثواب والعقاب .
العاشرة : معجزات الأنبياء الحسية والعقلية ، وقد إختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالثانية .
الحادية عشرة : آيات التنزيل ومن بديع صنع الله عز وجل أنه سمى أجزاء القرآن المستقلة كل واحد منها آية والجامع بينها السورة ، وتجتمع السور في المصحف الذي بين الدفتين ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ) وتترشح عن كل آيات بالمنطوق والمفهوم والمعنى والدلالة وعلى نحو متجدد إلى يوم القيامة ، ومنها آية البحث وحكايتها لدعاء الربيين ليكون منهاجاً للمسلمين .
ومن أسرار هذه الآيات أن كل آية فيها توليدية تترشح عنها البراهين الباهرات ، فلا غرابة أن يأتي هذا السفر [ معالم الإيمان في تفسير القرآن ] آية من عند الله عز وجل لم يشهد لها التأريخ نظيراً والحمد لله .
الثانية عشرة : الآيات الكونية في خلق السماوات والأرض.
الثالثة عشرة : آيات الأرزاق والآجال .
الحمد لله الذي جعل رحمته ملازمة لخلق السموات والأرض لتتغشى الخلائق ويستديم وجودها بمشيئة الله، وعن سلمان المحمدي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة ، منها رحمة يتراحم بها الخلق وتسع وتسعون ليوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة ( ).
ومن رحمته تعالى بالعالمين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أضاء بها جنبات الصراط، وأنقذ بها الناس من مسالك الضلالة، وأنزل عليه القرآن كتاباً ،جامعاً قال تعالى[مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ]( ).
وجاء هذا الجزء وهو التاسع عشر بعد المائة من (معالم الإيمان تفسير في تفسير القرآن) في تفسير قوله تعالى[وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا…]( )، الآية التي تبين منهاج أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم، وتفضل الله عز وجل بتسميتهم بنعت لم يرد في القرآن إلا في الآية السابقة( ) وهو(الربيون).
وهل تتغشى الرحمة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) أفراد الزمان قبل بعثته، أم أن القدر المتيقن منها زمان البعثة النبوية الشريفة وما بعدها، الجواب هو الأول لوجوه :
الأول : أصالة الإطلاق.
الثاني : لو دار الأمر بين العموم والخصوص في رحمة الله فالأصل هو الأول، وهو من فضل الله.
الثالث : ورود الآيات بالإطلاق الزماني والموضوعي للفظ العالمين، قال تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الرابع : تجلي معاني رحمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأجيال والأمم السالفة بالآية القرآنية التي إختص بها هذا الجزء إذ تبين إنقطاع الربيين إلى الإستغفار والدعاء، ومنه سؤال بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي التطلع إلى أيامه أمور :
الأول : فيه سكينة وأمن وهو علة للصبر.
الثاني :نماء ملكة الرجاء عند المؤمنين .
الثالث : هذه البشارة تركة كريمة منافعها أعم من أن تنحصر بالذراري فتشمل أجيال الناس.
الرابع: تكون هذه البشارة سبباً للصلاح والتقوى.
الخامس : إنه مناسبة للدعاء ومنه مضامين آية البحث التي تؤكد إنقطاع الربيين للمسألة وإعلان الحاجة لله في أمور الدين والدنيا.
السادس : تفقه المؤمنين من الأجيال المتعاقبة بالدين ومعرفة وحدة سنخية النبوة .
السابع : زيادة ومضاعفة أعداد المؤمنين في كل جيل وعند بعثة كل نبي بسبب البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الذخائر والأسرار الكامنة في تعاهد الأنبياء لها لتكون من مصاديق قوله تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] ( ).
ليكون من مصاديق وأفراد الرسالات البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخاتمة للنبوات وشريعته الباقية إلى يوم القيامة ومن إنذارات الرسل التخويف من الجحود بنبوته أو محاربته ، لذا لحق الخزي كفار قريش الذين حاربوه وإلى يوم القيامة ، وحتى الذين أسلموا يوم الفتح سماهم (الطلقاء ) [قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَعّى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ أَلَا وَقَتِيلَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسّوْطِ وَالْعَصَا ، فَفِيهِ الدّيَةُ مُغَلّظَةً مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا .
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ( ).
ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابن أَخٍ كَرِيمٍ قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ] ( ) وبخصوص يوم حنين وفرار أغلب المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بداية المعركة قال ابن عطية: ويقال إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين( )، ونسبة الخبر إلى القيل تضعيف له .
وهل تجليات منافع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأجيال السابقة لبعثته من الإستصحاب القهقري الذي لم يقل به أحد من الأصوليين، الجواب لا، إنما هو أمر مختلف بلحاظ أن ذات البشارة بنبوته نفع وبركة وتفيض منها البراهين الساطعة على لزوم عبادة الله عز وجل.
ولابد من تخصيص علم جديد لموضوعه في باب النبوة، وهو فضل الله في جعل البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصاحبة لأهل الإيمان من أيام أبينا آدم، فقد تكون هناك فترة بين الأنبياء، ويعملون بمنهاج وشريعة الرسول السابق ولكن هذه البشارة مصاحبة لهم .
ليكون تقوم حياة الناس بالقادم من الأيام وما فيه من الفضل الإلهي على الناس بالوحي والتنزيل ونسخ الشرائع بعضها بعضاً، ولكن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تقبل النسخ إذ تتوارثها الأجيال بالتصديق والتسليم، وكل نبي بعث إلى أمته يبين أنها حق ويوصي بها لتتضمن كل آية قرآنية بذاتها وباتحادها مع آية أو آيات أخرى سراً وذخيرة من ذخائر هذه البشارة.
قال تعالى[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ]( ).
ومن مصاديق ميثاق النبوة أن الأنبياء يصدق بعضهم بعضاَ ويبشر السابق باللاحق، وتبين آية البحث النفع العظيم الذي نالته الأجيال السابقة من المؤمنين بنزول القرآن، وشهادته على أفراد الزمان الطولية من حين خلق آدم وهبوطه الأرض، ليكون من أسرار قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) تجلى معانيه ودلالاته في القرآن .
وكل آية من القرآن تأخذ الناس إلى أعماق وقصص الزمن الماضي، وهي ضياء يقودهم ببهجة في رحاب المستقبل وحديقة ناضرة في يومها وساعة تلاوته.
وصحيح أن الآية التي يتضمن تفسيرها وتأويلها هذا الجزء تتعلق بأصحاب الأنبياء السابقين الذين قاتلوا معهم فانها تكشف عن ذخيرة أعدّها الله للمسلمين وهي أن الربيين كانوا يكثرون من الدعاء والمسألة من الله عز وجل من غير ملل أو كلل، وفيه دليل على إيمانهم بأن مقاليد الأمور بيد الله، وأنه سبحانه يحب أن يسئل، ولا يرد من يسأله، وفيه تنمية لملكة الدعاء من جهات:
الأولى : إنقطاع المسلمين للدعاء.
الثانية : إكثار المسلمين من المسألة والدعاء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سأل أحدكم فليكثر فانه يسأل ربه( ).
الثالثة : إتحاد المسألة بقول (ربنا) ليكون الدعاء مدرسة الإيمان ومصداق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، فالدعاء بقول (ربنا) برزخ دون الفرقة والتشتت.
الرابعة : الدعاء تركة كريمة خلفها الربيون للمسلمين. ومضامين آية البحث كلها دعاء وسؤال وتضرع إلى الله، وهو لا يمنع من إقتباس المواعظ منه بلحاظ أمور :
الأول : نظم الآية.
الثاني : التقديم والتأخير في الآية.
الثالث : تعدد وجوه الدعاء، وبيان المسائل الإبتلائية.
الرابع : حصر السؤال من عند الله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، بتقريب أن من مصاديق عز المؤمن أنه لا يسأل في حاجته إلا الله عز وجل.
ومن الدلائل الكلامية في آية البحث أن الربيين ومع صحبتهم للأنبياء وإقرارهم بصدق نبوتهم فانهم لم يتوجهوا إليهم بالمسألة والحاجة بل سألوا الله عز وجل في أمور دينهم ودنياهم وهو من مصاديق تسميتهم (الربيين) ونسبتهم إلى الله عز وجل مع بيان فضل الأنبياء في هدايتهم إلى طرق العبودية المحضة، وإصلاحهم لسؤال الله وحده، ووقايتهم من الغلو بالأنبياء ومعجزاتهم .
وعن قتادة قال: متكلمان تكلما يوم القيامة . نبي الله عيسى ، وإبليس عدو الله ، فأما إبليس فيقول { إن الله وعدكم وعد الحق } إلى قوله { إلا أن دعوتكم فاستجبتم }( ) لي وصدق عدو الله يومئذ ، وكان في الدنيا كاذبا .
وأما عيسى فما قص الله عليكم في قوله { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي }( ) إلى آخر الآية : { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وكان صادقاً في الحياة الدنيا وبعد الموت( ).
وتبين الآية المباركة التي هي موضوع هذا الجزء إتصاف الربيين بعدم الخوف والخشية إلا من عند الله، فمع حرب الكفار عليهم فانهم منقطعون إلى الدعاء , وفيه زاجر للكفار عن إيذائهم والتعدي عليهم ليكون من خصائص الحياة الدنيا مجئ الإنذارات للناس من وجوه :
الأول : نزول الكتب السماوية من عند الله.
الثاني : قيام الأنبياء بالبشارة والإنذار.
الثالث : الآيات الكونية الثابتة والطارئة.
الرابع : عمل وقول المؤمنين، والربيون من أئمتهم وقادتهم في فعل الخيرات، كما تجلى في آية البحث الي تضمنت إنذار الكفار من جهات:
الأولى : حصر كلام الربيين بالدعاء، الذي يدل على تحليهم بالإيمان وحسن التوكل على الله.
الثانية : إجتهاد الربيين بالإستغفار، ورجاء العفو، ومن مصاديقه الجهاد ودفع الكفار عن النبي والثغر.
الثالثة : رجاء الربيين تثبيت أقدامهم في ملاقاة الأعداء.
وليس من حصر لأسباب وكيفية المدد الإلهي بتثبيت الأقدام، ويأتي في تفسير[وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا].
وفيه إنذار للكفار وبعث لليأس في نفوسهم بأن الربيين لا يفرون من الزحف ولا يولون الأدبار، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( )، ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إستعاذ بالله عز وجل من الفرار من الزحف والقتل حال الفرار .
وورد عن ابن مسعود قال : من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ثلاثاً غفرت ذنوبه وإن كان فر من الزحف( ).
الرابعة : إعلان الربيين اتخاذ تثبيت الأقدام مقدمة للنصر وأنهم لا يرضون إلا بالنصر على الكافرين الذي يدل بالدلالة التضمنية على إزاحة مفاهيم الضلالة عن الناس، وتنقيح المجتمعات من الجحود وسنن الكفر.
ومن الإعجاز في آية البحث أن المسلم يدرك عند تلاوتها وحدة الموضوع في تنقيح المناط، فاذا كانت مضامين آية البحث دعاء وتضرعاً من أصحاب الأنبياء السابقين الذين قاتلوا معهم، فان أجيال المسلمين المتعاقبة تدعو بذات الدعاء، وكان موضوع الدعاء في الآية خاص بهم ولأجلهم، لينتفع المسلمون الإنتفاع الأمثل من سنن الأمم الماضية، وهو من مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ).
فمن حسن قصص القرآن أن المسلمين يتعظون منها، ويتلونها لإرادة الغير والذات في المعنى , وتقدير الآية أنها خطاب للمسلمين: قولوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا.
وقدمت الآية الإستغفار وأختتمت بسؤال النصر على الكافرين، وهو من عطف الخاص على العام، وذي المقدمة على المقدمة، لأن الإستغفار طريق النصر والغلبة على الأعداء.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة ( ).
وتحتمل تلاوة المسلم لقوله تعالى[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] وجوهاً :
الأول : إرادة المسلم مغفرة ذنوبه إذ لا تعارض بين قصد القرآنية، والنهل للذات من فيوضات الآية الكريمة.
الثاني : تدل صيغة الجمع في الآية على السؤال للنفس والوالدين والمؤمنين.
الثالث : القدر المتيقن من الآية هو الشهادة للربيين بالإستغفار.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو من الإعجاز في لغة القرآن ودلالات آياته، وهو من وجوه تفسير[الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، بأنه القرآن.
وتبين آية البحث تعاون وتكافل أصحاب الأنبياء في الدعوة إلى الله والإخلاص في طاعته والذي يدل بالدلالة التضمنية على تمسكهم بسنن التقوى، وفيه دعوة للمسلمين للتآخي في طاعة الله , وليكون من وجوه قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ) على سبيل المثال : واعتصموا بحبل الله جميعاً كما إعتصم الربيون جميعاً.
ليكون من معاني ومصاديق آية البحث حث المسلمين على الوحدة في مواجهة الكفار ,والتعاون في أداء الفرائض والطاعات، وهو المستقرأ من إختصاص الآية بالدعاء، وبث الربيين مجتمعين ومتفرقين الحاجة إلى الله عز وجل .
وقد تكون صلات الود والأخوة والتشابه في لباس التقوى بين الربيين والمسلمين من المعنى الأعم لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
ليحمل المسلمون لواء الربيين في كل جيل وإلى يوم القيامة بالتقوى وأداء الفرائض والدعاء , الذي وردت آية البحث بالمثال الأمثل منه .
ومن فضل الله أني أقوم بكتابة ومراجعة وتصحيح أجزاء هذا التفسير التي تترى نجوماً زاهرة وحدائق ناضرة ، وكذا كتبي الفقهية والأصولية بمفردي وأطبعها على نفقتي الخاصة إلى جانب القيام بالتدريس في الفقه والأصول والتفسير مع الإفتاء الخطي والشفوي وعبر الهاتف [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
حرر في 25/3/2015
النجف الأشرف

قوله تعالى[وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]الآية 147.

الإعراب واللغة
وما كان قولهم : الواو حرف عطف .
ما : أداة نفي تدخل على الفعل الماضي والمضارع.
كان : فعل ماض ناقص .
قول : خبر كان مقدم منصوب بالفتحة ، والضمير [هم ] مضاف إليه وقيل (قول ) اسم كان ، والمصدر المؤول ( أن قالوا) في محل نصب خبرها ونسبت هذه القراءة (إلى حماد بن سلحة عن ابن كثير وأبي بكر عن عاصم ) ( ).
والمدار على المرسوم في المصاحف وهو الأولى وأدعي إجماع قراء الأمصار عليه.
إلا أن قالوا : إلا : أداة حصر .
أن : حرف جر.
قالوا : فعل ماض مبني على الضم .
الواو : فاعل والمصدر المؤول (أن قالوا)في محل رفع اسم كان مؤخر .
ربنا إغفر لنا ذنوبنا : ربّ : منادى منصوب ، الضمير (نا ) مضاف إليه ، إغفر : فعل دعاء وسؤال .
والفاعل ضمير مستتر تقديره انت ، يعود لله عز وجل وتقدير الآية إغفر لنا اللهم ذنوبنا.
وإسرافنا في أمرنا : الواو حرف عطف .
إسرافنا : إسراف : مفعول به منصوب ، وهو مضاف ومعطوف على (ذنوب ) والضمير (نا) في إسرافنا مضاف إليه .
في أمرنا : جار ومجرور والضمير (نا) مضاف إليه.
وثبت أقدامنا : الواو حرف عطف ، ثبت : فعل دعاء وسوال والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت يعود لله عز وجل.
أقدامنا : مفعول به منصوب بالفتحة ، وهو مضاف والضمير (نا ) مضاف إليه .
وأنصرنا على القوم الكافرين : الواو حرف عطف .
أنصرنا فعل دعاء وسؤال ، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت يعود لله عز وجل .
والضمير (نا) في محل مفعول به .
على القوم : جار ومجرور .
الكافرين : صفة للقوم مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم .
والإسراف : الإفراط في الشئ ، وتجاوز الحد في طلب الدنيا.

سياق الآيات
الصلة بين هذه الآية والآيات السابقة المجاورة، وفيها وجوه :
الأول : الصلة بين هذه الآية والآية السابقة [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا…..]( ) وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه وكل وجه منها يستلزم شرحاً وبياناً بخصوص هذه الآيات والآيات السابقة الأخرى :
الأول : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا إغفر لنا ذنوبنا .
الثاني : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا .
الثالث : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير قالوا ربنا ثبت أقدامنا.
الرابع : وما ضعفوا وما إستكانوا ربنا وانصرنا على القوم الكافرين.
الخامس :ربيون كثير ما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا إغفر لنا ذنوبنا .
السادس : ربيون كثير قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا .
السابع : ربيون كثير قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا .
الثامن : ربيون كثير قالوا ربنا ثبت أقدامنا .
التاسع : ربيون كثير قالوا ربنا أنصرنا على القوم الكافرين .
العاشر : ربيون كثير ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا إغفر لنا ذنوبنا .
الحادي عشر :ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله قالوا ربنا ثبت اقدامنا .
الثاني عشر : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا أنصرنا على القوم الكافرين .
الثالث عشر : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا إغفر لنا ذنوبنا والله يحب الصابرين.
الرابع عشر : قالوا ربنا إغفر لنا إسرافنا في أمرنا والله يحب الصابرين.
الخامس عشر : قالوا ربنا ثبت أقدامنا والله يحب الصابرين .
السادس عشر : قالوا ربنا أنصرنا على القوم الكافرين والله يحب الصابرين .
السابع عشر : وما كان قولهم إلا أن قالوا والله يحب الصابرين .
الثانية : إبتدأت الآية السابقة بذكر حال أصحاب الأنبياء الذين شاركوا معهم في قتال الكفار والجاحدين والدفاع عن النبوة والتنزيل ، وبينت جملة من خصالهم الحميدة.
وجاءت هذه الآية ببيان خصال وصفات أخرى لهم وفيه غاية الإكرام بأن تأتي آيات متعاقبة في الثناء عليهم لبيان موضوعية الجهاد في الإسلام والتركة العقائدية المباركة التي إدخرها المجاهدون من أصحاب الأنبياء في إصلاح النفوس والمجتمعات والدعوة إلى الله .
ومن إعجاز سياق الآيات في القرآن مجئ الآية السابقة بخصوص أفعال أصحاب الأنبياء ، أما هذه الآية فجاءت بخصوص أقوالهم .
المسألة الثالثة : تضمنت آية السياق الإخبار عن طائفة من أصحاب الأنبياء الذين هم على أقسام :
الأول : الصحابة الذين لم يقاتلوا مع الأنبياء .
الثاني : صحابة الأنبياء الذين لم يقاتلوا ولم يأمروا أصحابهم بالقتال ، كما في نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وعيسى عليهم السلام وغيرهم .
الثالث : من الأنبياء من قاتلوا في سبيل الله ، وصحابتهم على أقسام:
الأول : طائفة قاتلت مع الأنبياء وفي نصرتهم .
الثاني : طائفة لم تقاتل تقصيراً .
الثالث : طائفة قعدوا لعذر وبسبب ضرر , وتضمنت آية السياق الثناء من جهات :
الأولى :الثناء على الأنبياء , من وجوه :
الأول : الشهادة لهم من عند الله بالنبوة .
الثاني : المدح والثناء على الأنبياء الذين قاتلوا في سبيل الله وبيان فضل الله عليهم بالوحي والتنزيل ، أي أن قتالهم كان بأمر من الله ، وهو من مصاديق تسمية أصحابهم بالربيين لأنهم قاتلوا بالوحي والتنزيل وإن كان بالواسطة أي بواسطة تبليغ النبي لهم ، وهو غاية التقوى بأن تضحي الجماعة والطائفة بالأنفس والأموال وتصدق بالغيب الذي يخبر عنه النبي إذ تكون المعجزة مصاحبة له ومصدقة لدعواه النبوة وإرادة القتال .
وتكون الآيات الكونية مدداً وشاهداً ، وعقل الإنسان ناصراً ودليلاً ذاتياً ، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( )، وقيل : من تفكر أبصر.
الثالث : صيرورة أصحاب الأنبياء بمرتبة الربيين بتقريب أن نيلهم مرتبة الربيين ثناء على الأنبياء أيضاً لمقام الإمامة وتبليغ الرسالة في إصلاح النفوس، وتهذيب الأفعال.
الرابع : إنتفاع الأنبياء جميعاً والمؤمنين من السنة القتالية للأنبياء الذين قاتلوا في سبيل الله لأنه نوع طريق لتثبيت معالم الإيمان عند الأجيال المتعاقبة وهو من أسرار إتحاد سنخية النبوة، فتترشح بركات نبوة السابق على أيام ودعوة اللاحق، وتتغشى منافع البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيام النبوات السابقة ومضامين العمل بأحكامها.
الجهة الثانية : مدح أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم ، وفيه حث للمسلمين للمسارعة في أبواب الجهاد وعدم القعود , ويكون هذا المدح من جهات :
الأولى : المسارعة إلى التصديق بالأنبياء ورسالاتهم.
الثانية : عدم الإصغاء إلى الكفار وأهل الشك والريب الذين يصدون الناس عن الإيمان بالأنبياء كما تجلى في سعي قريش لمنع الناس من إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانوا يؤذون ويعذبون الذين يؤمنون بنبوته من مستضعفي مكة.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة هذا التعذيب طريقاً للنصر، وسبباً للهجرة، ومقدمة للفتح، إذ طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عدد من أصحابه الهجرة إلى الحبشة، ثم هاجر وأهل بيته وعامة أصحابه إلى المدينة، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: اللهم حبب إلينا المدينة، كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة ( ).
وحينما يأتي موسم الحج يجتهد كفار قريش في تحذير القبائل وأهل الموسم من دعوته إلى الله.
قال ابن إسحاق: وَحَدّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ سَمِعْت رَبِيعَةَ بْنَ عَبّادٍ يُحَدّثُهُ أَبِي ، قَالَ إنّي لَغُلَامٌ شَابّ مَعَ أَبِي بِمِنًى ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَقِفُ عَلَى مَنَازِلِ الْقَبَائِلِ مِنْ الْعَرَبِ.
فَيَقُولُ يَا بَنِي فُلَانٍ إنّي رَسُولُ اللّهِ إلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَنْدَادِ وَأَنْ تُؤْمِنُوا بِي ، وَتُصَدّقُوا بِي ، وَتَمْنَعُونِي ، حَتّى أُبَيّنَ عَنْ اللّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ.
قَالَ وَخَلْفَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ وَضِيءٌ لَهُ غَدِيرَتَانِ عَلَيْهِ حُلّةٌ عَدَنِيّةٌ . فَإِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا دَعَا إلَيْهِ قَالَ ذَلِكَ الرّجُلُ يَا بَنِي فُلَانٍ إنّ هَذَا إنّمَا يَدْعُوكُمْ أَنْ تَسْلُخُوا اللّاتَ وَالْعُزّى مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَحَلْفَاءَكُمْ مِنْ الْجِنّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْشٍ إلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالضّلَالَةِ فَلَا تُطِيعُوهُ وَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ.
قَالَ فَقُلْت لِأَبِي : يَا أَبَتِ مَنْ هَذَا الّذِي يَتْبَعُهُ وَيَرُدّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ ؟ قَالَ هَذَا عَمّهُ عَبْدُ الْعُزّى بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، أَبُو لَهَب( ).
الثالثة : الجمع بين أمور:
أولاً : الإيمان.
ثانياً : مرتبة الربيين.
وبينها وبين الإيمان عموم وخصوص مطلق ،فدرجة الإيمان أعم وهي سابقة لمرتبة الربيين.
ثالثاً : الإستجابة لأمر النبي بقتال الكفار، والدفاع عن الإسلام والنبوة بالسيف وبذل الأموال، وهجر العيال.
الرابعة : خوض المعارك والقتال إلى جانب النبي، بلحاظ أن الإستجابة لأمر الجهاد أعم من وقوع القتال، لتأكد الآية أن الربيين خاضوا القتال الفعلي إلى جانب النبي.
وهل قاتلوا بعد النبي أم قعدوا وتركوا مشقة وأضرار القتال، الجواب تدل الآية على الأول، بقوله تعالى[فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )، إذ إستمروا بمحاربة الكفر وإرادة إجتثاثه من الأرض من بعد فقد النبي ولأصالة الإطلاق والإستصحاب.
وهل موت نبي زمان الربيين من مصاديق ما أصابهم، أم أن التقييد بأنه في سبيل الله على إرادة الجراحات والكلوم وسقوط القتلى.
الجواب هو الأول ، لأن موت النبي مصيبة على المؤمنين، لأنهم يفقدون الوحي معه الذي لا ينزل إلا على الأنبياء، قال تعالى[أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا]( )، ويكون تقدير الآية : فما وهنوا في قتالهم مع النبي، وما وهنوا بعد موت النبي.
الخامسة : إنقطاع الربيين إلى الدعاء، وحسن التوكل على الله،، قال تعالى[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
الجهة الثالثة : الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهات :
الأولى :الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن من مواضيع قتال الأنبياء والربيين هو البشارة برسالته وتهيئة أذهان الناس لتلقي معجزاته بالقبول.
الثانية : من وجوه مدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية السياق حفظ وتوثيق جهاد الربيين في القرآن وتلاوة أجيال المسلمين لها إلى يوم القيامة.
الثالثة :الإخبار بأن السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليست أمراً جديداً في تأريخ النبوة ، بل هو منهاج شطر من الأنبياء دافعوا عن أركان الإيمان بأنفسهم وأصحابهم ، قال تعالى [قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ] ( )لبيان أن أفعال وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذاتها قد فعلها الأنبياء السابقون ، ومنها القتال في سبيل الله ،إذ أن أشد الأمور على الناس إخراجهم إلى القتال وهو من أسباب وجود المنافقين فجاءت آيات القرآن لمنع إزدياد عددهم ، ولدعوتهم للتوبة والإنابة .
ويمكن تأسيس قانون وهو : كل آية قرآنية نعمة من وجوه :
الأول : إنها حرب على النفاق والأخلاق المذمومة بالتباين والتضاد بين إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.
الثاني :تأكيد لزوم التطابق بين إعلان الإيمان وإنقياد النفس والجوانح له طوعاً وقهراً.
الثالث: كل آية قرآنية سبب لإنحسار الرياء، وضعف النفاق وخفوت أصوات المنافقين .
الرابع : الآية القرآنية برزخ دون صيرورة المنافقين طائفة متحدة تعمل على نحو متحد ،إذ تزجر تلاوة المسلمين للآية القرآنية المنافقين، وتدعوهم إلى الإنابة وإصلاح السريرة، وعن عبد الله بن عدي الأنصاري : ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس بين ظهراني الناس جاء رجل يستاذنه ان يساره فاذن له فساره في قتل رجل من المنافقين يستأذنه فيه فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه فقال اليس يشهد ان لا اله الا الله قال بلى ولا شهادة له قال اليس يشهد ان محمدا رسول الله قال بلى ولا شهادة له قال اليس يصلي قال بلى ولا صلاة له .
قال : أولئك الذين نهيت عن قتلهم( ).
الخامس : إنذار المنافقين ومنعهم من التمادي في الغي والتواطئ مع الكفار في التحريض على القتال، وصد الناس عن الإيمان.
السادس : تحذير المنافقين من التعاون مع أهل الشك والريب في الجدال والخصومة .
السابع :التخويف والوعيد للمنافقين بشدة العذاب في الآخرة ، قال تعالى [بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] ( ).
الثامن : دعوة المنافقين للتوبة والإنابة من جهتين:
الأولى : كل آية تهذيب لنفوس الناس .
الثانية : ذم النفاق وبيان قبحه الذاتي .
وهذه الدعوة من أسرار تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني لما فيها وفي سماع الآيات من الحث على صدق الإيمان والزجر عن الأخلاق المذمومة .
لذا وردت آية السياق في الثناء على الذين أخلصوا إيمانهم وجاهدوا مع الأنبياء ليدل في مفهومه على الزجر عن النفاق وأسباب الضلالة .
التاسع :قد يتبادر إلى الذهن أن النفاق في بدايات الإسلام أمر خاص بالرجال ، وعلى فرض وجود نساء منافقات ، فان ذكر المنافقين يشملهن لورود التذكير للفرد الغالب ،ولكن القرآن ذكر المنافقين على نحو التعيين خمس مرات لتحذير المسلمين والمسلمات منهن ، ولتنزيه البيوت والمنتديات الأسرية من درن النفاق وإظهار الكفر الخفي في المجالس الخاصة للمنافقين ، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ] ( ).
الثالثة :الثناء على أهل البيت وصحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإتباعهم ذات نهج أصحاب الأنبياء السابقين ونيلهم ذات مرتبتهم , وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين قاتلوا مع الأنبياء ربيون .
الصغرى: أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته قاتلوا معه.
النتيجة : أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ربيون .
الرابعة : حفظ أجيال المسلمين لجهاد أصحاب الأنبياء بتعاهد آيات القرآن ، وتلاوتها والإنصات لها، والتدبر في مضامينها القدسية ، وهل من معاني قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( )تلاوة المسلمين لها إلى يوم القيامة وتلقيهم لها بالقبول والتصديق ، أم أن القدر المتيقن هو التنزيل بدليل باء السببية في قوله تعالى [بِمَا أَوْحَيْنَا]الجواب هو الثاني ، نعم قراءة المسلمين لها بقصد القرآنية حسن أضافي ، وفضل من عند الله على المسلمين والأجيال السابقة من المؤمنين ومنهم الربيون .
الخامسة : إتحاد موضوع آية البحث والسياق ، وبدأت آية السياق بالتعريف بموضوع الآية ، وإرادة خصوص أصحاب الأنبياء السابقين الذين قاتلوا معهم، ليكون على وجوه :
الأول: كثرة عدد الأنبياء ، وتعاقب أيامهم .
الثاني : قيام شطر من الأنبياء بقتال الكفار ، فالأصل تلقي الناس النبوة بالقبول والتصديق، وكل نبي يأتي معه بالمعجزة الملائمة لأهل زمانه والأمور التي يولونها العناية ، فجاء موسى عليه السلام مثلاً بمعجزة تقهر السحرة وتبطل ما كانوا يعملون ، قال تعالى في خطاب إلى موسى [وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى] ( )إذ ألقى موسى عليه السلام عصاه وهو خائف من السحرة ويخشى ألا يقهرهم فاذا العصا تتحول إلى حية وتأتي على حبالهم فتأكلها ، ليكون من منافع المعجزة التي تصاحب النبوة دعوة الناس للتصديق بالنبي وعدم اللجوء إلى القتال .
الثالث: ترشح القتال عن النبوة والدعوة إلى الله إذ أن حال الأنبياء على جهات :
الأولى : يبعث النبي إلى مجتمع وأهل بلدة أو قرية يعبدون الله عز وجل ويعملون بسنة الرسول السابق ، فيقوم النبي بإتمام تبليغ الرسالة وتثبيت سنن الشريعة كما في عدد من أنبياء بني إسرائيل .
الثانية : يبعث النبي إلى قوم خليط من أهل الإيمان والكفار ليجعل النبي كفة الإيمان هي الراجحة وتمنع رسالته الناس من المهالك والهوي في مستنقع الضلالة ، قال تعالى [وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ).
الثالثة : بعثة النبي لقوم كفار جاحدين ، فيؤمن به أرباب العقول والمستضعفون ليلاقوا أمة ودولة ذات نظام وسلاح قائمة على الكفر تأبى التسليم للنبوة والتنزيل .
الرابعة : بعثة النبي إلى قوم كفار ولكنهم يبادرون إلى الإيمان والتصديق بالرسالة وتلقي المعجزة بالقبول وأوامر النبي العبادية بالإمتثال .
الخامسة : دخول الملك وحاشيته الإسلام ، وتصديقهم برسالة نبي زمانهم فلا يحصل قتال إلا أن يتوجهوا بالدعوة لأمم أخرى ، ولو آمن فرعون برسالة موسى عليه السلام لما هلك غرقاً هو وقومه ، وتزوج العبيد نساءهم .
المسألة الرابعة : من إعجاز القرآن نظم وتعاقب آية السياق والبحث إذ تضمنت آية السياق ذكر العمل الجهادي لأصحاب الأنبياء وجاءت آية البحث بذكر دعائهم وإنقطاعهم إلى الذكر ، وكأنهم أنجزوا التكليف بالجهاد وإستقرت لهم الأمور .
ولما ذكرت آية السياق سلامة الربيين من الوهن والضعف في القتال والإستكانة والذل أمام العدو ، أخبرت آية البحث عن مصاديق هذه الخصال بانشغال الربيين بالإستغفار والدعاء وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين إنقطعوا إلى الدعاء لم يهنوا في سبيل الله .
الصغرى : الربيون إنقطعوا إلى الدعاء
النتيجة : الربيون لم يهنوا في سبيل الله .
وإذا إستجاب الله للربيين بالنصر على القوم الكافرين ، فهل يكون بعده قتال ، الجواب إن النصر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، وإرادة النصر الدائم بإقامة شعائر الله في الأرض وسلامة النفوس من درن الشرك والضلالة لتكون [كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا] ( ).
المسألة الخامسة: وصفت آية السياق أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم في سبيل الله بوصف كريم وهو [الربيون] وفيه فضل من الله عز وجل عليهم وعلى المسلمين لأن الله عز وجل إذا أنعم بنعمة فأنه أكرم من أن يرفعها، وذات نعت الربيين نعمة عظيمة نالها فريق من أصحاب الأنبياء لتبقى في الأرض يتوارثها وإستحقاقها المؤمنون من أصحاب وأنصار وأتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
بلحاظ أن المسلمين أمة يتوارثون الخصال الحسنة للمؤمنين في عهد الأنبياء السابقين ، فاذا إختص أصحابهم بصفة [ الربيين ] فان هذه الصفة عند أجيال المسلمين يتداولونها وإلى يوم القيامة جيلاً بعد جيل ويتلون هذه الآيات التي تبين خصال المجاهدين من أصحاب الأنبياء السابقين .
وتحتمل وراثة المسلمين من الربيين وجوهاً :
الأول : القتال مع النبي ، وهو الذي تجلى بأبهى حلة في معارك بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين وغيرها .
وعن الزهري أن أول آية نزلت في القتال هي [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا] ( ) نزلت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة لوجوه :
الأول : إصرار كفار قريش على إدراك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والإجهاز عليهم .
الثاني : الحنق والغيظ الذي أصاب كفار قريش بخروج أبنائهم مهاجرين إلى المدينة في سبيل الله ، وعزمهم على إرجاعهم فكان قتال المسلمين من مصاديق قوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( ).
وكان قتال الصحابة وأهل البيت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أقسام :
الأول : القتال مع النبي في غزواته وحال الدفاع [عن قتادة، أن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ثلاث وأربعون.
أربع وعشرون بعثا، وتسع عشرة غزوة، خرج في ثمان منها بنفسه: بدر، وأحد، والاحزاب، والمريسيع، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف].
وقال موسى بن عقبة، عن الزهري: هذه مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها: يوم بدر في رمضان سنة ثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق، وهو يوم الاحزاب وبنى قريظة، في شوال من سنة أربع، ثم قاتل بنى المصطلق وبنى لحيان في شعبان سنة خمس، ثم قاتل يوم خيبر سنة ست، ثم قاتل يوم الفتح في رمضان سنة ثمان، ثم قاتل يوم حنين وحاصر أهل الطائف في شوال سنة ثمان، ثم حج أبو بكر سنة تسع، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر، وغزا ثنتى عشرة غزوة ولم يكن فيها قتال، وكانت أول غزاة غزاها الابواء] ( ).
وعن جابر بن عبد الله قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وعشرين غزوة .
الثاني : السرايا والبعوث التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي دون الحروب وهي نيف وسبعون على قول .
وأختلف في أول سرية بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أقوال :
الأول : أول الرايات التي عقدت لحمزة بن عبد المطلب على سبعة أشهر من الهجرة وعدد السرية ثلاثون من المهاجرين لإعتراض عير وتجارة لقريش فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل ، ولما التقوا حجز بينهم فلم يكن قتال .
الثاني : أول سرية قائدها عبد الله بن جحش الأسدي لما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بدر الأولى التي ليس فيها قتال [فأقام بها بقية جمادى الأخرى، ورجب، وشعبان.
وبعث في رجب المذكور عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي، ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وهم:
أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة.
وعكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي.
وعتبة بن غزوان بن جابر المازني.
وسعد بن أبي وقاص.
وعامر بن ربيعة العنزي.
وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة ابن مالك ن زيد مناة بن تميم.
وخالد بن البكير، أخو بني سعد ن ليث.
وسهيل بن بيضاء الفهري.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً لعبد الله بن جحش، وهو أمير القوم، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، ولا يكره أحداً من أصحابه. ففعل ذلك عبد الله بن جحش، فلما فتح الكتاب وجد فيه: ” إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً أو عيراً لقريش، وتعلم لنا من أخبارهم ” . فلما قرأ عبد الله بن جحش الكتاب قال: سمعاً وطاعة. ثم أخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكرههم، وأما هو فناهض، ومن أحب الشاهدة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع.
فمضوا كلهم معه، فسلك الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: بحران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، ونفذ عبد الله في سائرهم حتى ينزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة، فيها عمرو بن الحضرمي، واسم الحضرمي: عبد الله، وعثمان ابن عد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد المخزوميان، والحكم ابن كيسان موى بني المغيرة.
فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم.
ثم اتفقوا على ملاقاتهم، فرمى عبد الله ن واقد التميمي عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله، ثم قدموا العير والأسيرين، قد أخرجوا الخمس من ذلك فعزلوه، فذكر أنها أول غنيمة خمست. فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلوا في الشهر الحرام، فسقط ف أيدي القوم، فأنزل الله تعالى{يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير}( )، إلى قوله: {حتى يؤدوكم عن دينكم إن استطاعوا}، فقبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخمس، وقسم الغنيمة، وقبل الفداء في الأسيرين؛ ورجع سعد وعتبة سالمين إلى المدينة.
وهذه أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول أسيرين أسرا من المشركين، وأول قتيل قتل منهم.
وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد يوم بئر معونة.
وأما عثمان بن عبد الله فمات بمكة كافراً] ( ).
الثالث : عبيدة بن الحارث بن المطلب ، هو أول من عقد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راية وهو الذي ذكره ابن إسحاق وكانت سريته إلى بطن رابع في شوال ستين من المهاجرين ولقوا أبي سفيان في مائتين وحصل بينهم رمي ولم تحدث مسايفة ، وتبين رجالات قريش مع العير وقوافل التجارة أموراً :
الأولى : كبر القافلة وكثرة البضائع فيها ، فحينما يكون مائتا رجل مع كل قافلة على تعاقب الأيام في [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]يدل على أن التجارة لا تختص بمكة وأهل الموسم ، إنما تكون تجارة بين أهل المشرق والمغرب عبر الصحراء بعد تعطل التجارات بواسطة طريق العراق – الشام خاصة وأن وقت الحروب يحصل نهب وسلب ، ويضعف النظام العام .
الثاني : كثرة الرجال من قريش وأتباعهم العاملين في التجارة ونقل البضائع وقيادة العير مما يدل على أن مصداق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) أمر عظيم وطوائف وحشود كثيرة من الناس ، وهو مصدر رزق كريم لأهل مكة ومن مصاديقه ما ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( ).
لقد سأل إبراهيم الله الرزق الكريم للمؤمنين على نحو الحصر والتعيين ، وهو من أسرار الإمامة والنبوة ، ومصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن فضل الله عز وجل يشمل البر والفاجر فجاءت الآية أعلاه لإرادة العموم ببركة البيت وجواره ، وهذا الرزق حجة على الكافرين ومقدمة لهزيمتهم في معارك الإسلام الأولى وحرمانهم من التجارة العظمى بين الشرق والغرب .
وأخرج ابن أبي حاتم والأزرقي عن الزهري قال : إن الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه السلام .
وأخرج الأزرقي عن سعيد بن المسيب بن يسار قال : سمعت بعض ولد نافع بن جبير بن مطعم وغيره؛ يذكرون أنهم سمعوا : أنه لما دعا إبراهيم بمكة أن يرزق أهله من الثمرات نقل الله أرض الطائف من الشام فوضعها هنالك رزقاً للحرم] ( ).
وقد أنعم الله عز وجل في هذا الزمان على أهل الحرم بالذهب الأسود وأنهار النفط ومشتقاته من كنوز الأرض في آية للعالمين ودعوة للإيمان .
المسألة السادسة : ذكرت آية السياق قانوناً كلياً وهو أن قتال أصحاب الأنبياء خالص لوجه الله عز وجل ليس فيه رياء ولا نية قصد دنيوي لقيد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] واخبرت آية البحث عن إنحصار قولهم بالدعاء والإستغفار ، قال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ] ( )، وفيه شاهد على أمور :
الأول : من خصائص الربيين الإجتهاد بالدعاء والمسألة .
الثاني : الدعاء ظهير للقتال ومتتم له .
الثالث : تدل آية البحث على عصمة أصحاب الأنبياء من الملل والضجر والسأم بسبب القتال ضد أهل الشرك والضلالة .
الرابع : عزم الربيين على مواصلة الجهاد والقتال حتى يتحقق النصر على الكفار ، ترى لماذا سأل الربيون النصر والظفر ولم يسألوا الشهادة ،الجواب من جهات :
الأولى : إدراك الربيين بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله .
الثانية : يشترك الربيون في القتال وهو طريق الشهادة والإصابة بالجراحات .
الثالثة : النصر على الكفار سبيل لوراثة الإيمان للأجيال اللاحقة فلو إستشهد جميع صحابة النبي لتعرض الإيمان إلى التزلزل [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ] ( ).
الرابعة : النصر على الكافرين مقدمة لبيان أحكام الشريعة وعمل الناس بمضامينها ، وهو مناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأحكام والمعاملات والعقود .
الخامسة : لقد تفضل الله عز وجل وأمر الدعاء وندب إلى سؤاله والتضرع إليه ، وضمن الإجابة ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )فاختار الربيون الدعاء بالظفر وشيوع الأمن المقترن بالإيمان ، وصلاح النفوس .
السادسة :إنتصار الربيين في المعارك وخارجها على الكفار مناسبة لإستدامة البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقدمة لبعثته وخروجه على أمة مؤمنة وفيه تخفيف عن الأنبياء المتعاقبين ، فكل طبقة من الربيين تهيئ للنبي اللاحق بالجهاد والصبر والدعاء .
السابعة : يدل سؤال الربيين النصر على القوم الكافرين على إرادة إجتثاث الكفر ، وإعانة الناس لدخول الإسلام والنفرة من مفاهيم الشرك والضلالة.
الثامنة : تبين آية البحث أن الربيين يتخذون من الدنيا وعاء ووسيلة للإجتهاد بالإستغفار والدعاء، وعن عائشة قالت : قالت قام بلال إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال ماتت فلانة واستراحت فغضب النبي صلى الله عليه و سلم وقال إنما استراح من غفر له( ).
ترى لماذا لم يسأل الربيون التوبة والإنابة للكفار وإكتفوا بسؤال النصر عليهم ، الجواب يتضمن هذا السؤال بالدلالة التضمنية إرادة توبة الكفار لأن النصر على وجوه منها :
الأول :النصر والغلبة في ميدان القتال ، كما إنتصر المسلمون في معركة بدر وأحد.
الثاني : قعود الكفار عن القتال ، وطلبهم الصلح ، ورضاهم بشروط المؤمنين .
الثالث : النصر بدخول الناس الإسلام ، ومنهم أقطاب الكفر، ومتى ما أسلم الفرد والجماعة تصدق عليهم صفة الإيمان ليكون من معاني آية البحث وأنصرنا على القوم الكافرين بدخولهم الإسلام .
كما تجلى في فتح مكة فبعد أن كان رؤساء قريش أشد الناس عداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ويسعون في تجهيز الجيوش الكبيرة لقتاله وإرادة الإجهاز على الإسلام ، دخلوا في دين الله يوم فتح مكة طائعين وصاغرين [عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ . وَغَيْرِهِ قَالَ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَخَا رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ أَرْضَعَتْهُ حَلِيمَةُ أَيّامًا ، وَكَانَ يَأْلَفُ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَانَ لَهُ تِرْبًا ، فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَاهُ عَدَاوَةً لَمْ يُعَادِ أَحَدٌ قَطّ ، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ الشّعْبَ ، وَهَجَا رَسُولَ اللّهِ وَهَجَا أَصْحَابَهُ وَهَجَا حَسّانَ فَقَالَ:
أَلَا مُبَلّغٌ حَسّانَ عَنّي رِسَالَةً
فَخِلْتُك مِنْ شَرّ الرّجَالِ الصّعَالِكِ
أَبُوك أَبُو سُوءٍ وَخَالُك مِثْلُهُ
فَلَسْت بِخَيْرٍ مِنْ أَبِيك وَخَالِك
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ لِحَسّانَ : اُهْجُهُ قَالَ لَا أَفْعَلُ حَتّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَسَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَيْفَ آذَنُ لَك فِي ابن عَمّي أَخِي أَبِي، قَالَ أَسُلّك مِنْهُ كَمَا تُسَلّ الشّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينِ.
فَقَالَ حَسّانُ شِعْرًا ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُذَاكِرَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ بَعْضَ ذَلِكَ فَذَاكَرَهُ قَالَ فَمَكَثَ أَبُو سُفْيَانَ عِشْرِينَ سَنَةً عَدُوّا لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهْجُو الْمُسْلِمِينَ وَيَهْجُونَهُ وَلَا يَتَخَلّفُ عَنْ مَوْضِعٍ تَسِيرُ فِيهِ قُرَيْشٌ لِقِتَالِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ إنّ اللّهَ أَلْقَى فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامَ . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْت : مَنْ أَصْحَبُ وَمَعَ مَنْ أَكُونُ ؟ قَدْ ضَرَبَ الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ فَجِئْت زَوْجَتِي وَوَلَدِي ، فَقُلْت : تَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ فَقَدْ أَظَلّ قُدُومُ مُحَمّدٍ عَلَيْكُمْ . قَالُوا : قَدْ آنَ لَك تُبْصِرَ أَنّ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ قَدْ تَبِعَتْ مُحَمّدًا وَأَنْتَ مُوضِعٌ فِي عَدَاوَتِهِ وَكُنْت أَوْلَى النّاسِ بِنَصْرِهِ فَقُلْت لِغُلَامِي مَذْكُورٍ عَجّلْ بِأَبْعِرَةٍ وَفَرَسٍ .
قَالَ ثُمّ سِرْنَا حَتّى نَزَلْنَا الأَبْوَاءَ( )، وَقَدْ نَزَلَتْ مُقَدّمَتُهُ الْأَبْوَاءَ ، فَتَنَكّرْت وَخِفْت أَنْ أُقْتَلَ وَكَانَ قَدْ هَدَرَ دَمِي ; فَخَرَجْت ، وَأَجِدُ ابْنِي جَعْفَرًا عَلَى قَدَمِي نَحْوًا مِنْ مِيلٍ فِي الْغَدَاةِ الّتِي صَبّحَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْأَبْوَاءَ ، فَأَقْبَلَ النّاسُ رَسَلًا رَسَلًا ، فَتَنَحّيْت فَرَقًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَمّا طَلَعَ مَرْكَبُهُ تَصَدّيْت لَهُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَلَمّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنّي أَعْرَضَ عَنّي بِوَجْهِهِ إلَى النّاحِيَةِ الْأُخْرَى ، فَتَحَوّلْت إلَى نَاحِيَةِ وَجْهِهِ الْأُخْرَى ، وَأَعْرَضَ عَنّي مِرَارًا ، فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ وَقُلْت : أَنَا مَقْتُولٌ قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إلَيْهِ . وَأَتَذَكّرُ بِرّهُ وَرَحْمَتَهُ وَقَرَابَتِي فَيُمْسِكُ ذَلِكَ مِنّي ، وَقَدْ كُنْت لَا أَشُكّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ سَيَفْرَحُونَ بِإِسْلَامِي فَرَحًا شَدِيدًا ; لِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ إعْرَاضَ رَسُولِ اللّهِ عَنّي أَعْرَضُوا عَنّي جَمِيعًا ، فَلَقِيَنِي ابن أَبِي قُحَافَةَ مُعْرِضًا ، وَنَظَرْت إلَى عُمَرَ وَيُغْرِي بِي رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَلَزّ بِي رَجُلٌ يَقُولُ يَا عَدُوّ اللّهِ أَنْتَ الّذِي كُنْت تُؤْذِي رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُؤْذِي أَصْحَابَهُ قَدْ بَلَغْت مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فِي عَدَاوَتِهِ فَرَدَدْت بَعْضَ الرّدّ عَنْ نَفْسِي ، فَاسْتَطَالَ عَلِيّ ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ حَتّى جَعَلَنِي فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ مِنْ النّاسِ يُسَرّونَ بِمَا يَفْعَلُ بِي .
قَالَ فَدَخَلْت عَلَى عَمّي الْعَبّاسِ فَقُلْت : يَا عَبّاسُ ، قَدْ كُنْت أَرْجُو أَنْ سَيَفْرَحُ رَسُولُ اللّهِ بِإِسْلَامِي لِقَرَابَتِي وَشَرَفِي ، وَقَدْ كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ رَأَيْت ، فَكَلّمَهُ لِيَرْضَى عَنّي قَالَ لَا وَاَللّهِ لَا أُكَلّمُهُ كَلِمَةً فِيك أَبَدًا بَعْدَ الّذِي رَأَيْت مِنْهُ إلّا أَنْ أَرَى وَجْهًا ، إنّي أُجِلّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهَابُهُ . فَقُلْت : يَا عَمّي إلَى مَنْ تَكِلُنِي، قَالَ هُوَ ذَاكَ.
قَالَ فَلَقِيت عَلِيّا رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ فَكَلّمْته فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ فَرَجَعْت إلَى الْعَبّاسِ فَقُلْت : يَا عَمّ فَكُفّ عَنّي الرّجُلَ الّذِي يَشْتُمُنِي . قَالَ صِفْهُ لِي . فَقُلْت : هُوَ رَجُلٌ آدَمُ شَدِيدُ الْأُدْمَةِ قَصِيرٌ دَحْدَاحٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ شَجّةٌ . قَالَ ذَاكَ نُعْمَانُ بْنُ الْحَارِثِ النّجّارِيّ . فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَقَالَ يَا نُعْمَانُ ، إنّ أَبَا سُفْيَانَ ابن عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابن أَخِي ، وَإِنْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاخِطًا فَسَيَرْضَى ، فَكُفّ عَنْهُ فَبَعْدَ لَأْيٍ مَا كَفّ . وَقَالَ لَا أَعْرِضُ عَنْهُ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَخَرَجْت فَجَلَسْت عَلَى بَابِ مَنْزِلِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى خَرَجَ إلَى الْجُحْفَةِ ، وَهُوَ لَا يُكَلّمُنِي وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَجَعَلْت لَا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إلّا أَنَا عَلَى بَابِهِ وَمَعِي ابْنِي جَعْفَرٌ قَائِمٌ فَلَا يَرَانِي إلّا أَعْرَضَ عَنّي ، فَخَرَجْت عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حَتّى شَهِدْت مَعَهُ فَتْحَ مَكّةَ وَأَنَا عَلَى حِيلَةٍ تُلَازِمُهُ حَتّى هَبَطَ مِنْ أَذَاخِرَ حَتّى نَزَلَ الْأَبْطَحَ ، فَدَنَوْت مِنْ بَابِ قُبّتِهِ فَنَظَرَ إلَيّ نَظَرًا هُوَ أَلْيَنُ مِنْ ذَلِكَ النّظَرِ الْأَوّلِ قَدْ رَجَوْت أَنْ يَتَبَسّمَ وَدَخَلَ عَلَيْهِ نِسَاءُ بَنِي الْمُطّلِبِ وَدَخَلَتْ مَعَهُنّ زَوْجَتِي فَرَقّقَتْهُ عَلَيّ . وَخَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ وَأَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ لَا أُفَارِقُهُ عَلَى حَالٍ حَتّى خَرَجَ إلَى هَوَازِنَ ، فَخَرَجْت مَعَهُ وَقَدْ جَمَعَتْ الْعَرَبُ جَمْعًا لَمْ يُجْمَعْ مِثْلُهُ قَطّ ، وَخَرَجُوا بِالنّسَاءِ وَالذّرّيّةِ وَالْمَاشِيَةِ فَلَمّا لَقِيتهمْ قُلْت : الْيَوْمَ يُرَى أَثَرِي إنْ شَاءَ اللّهُ وَلَمّا لَقِيتهمْ حَمَلُوا الْحَمَلَةَ الّتِي ذَكَرَ اللّهُ ثُمّ وَلّيْتُمْ مُدْبِرِينَ .
وَثَبَتَ رَسُولُ اللّهِ عَلَى بَغْلَتِهِ الشّهْبَاءِ وَجَرّدَ سَيْفَهُ فَأَقْتَحِمُ عَنْ فَرَسِي وَبِيَدِي السّيْفُ صَلْتًا ، قَدْ كُسِرَتْ جَفْنُهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَنّي أُرِيدُ الْمَوْتَ دُونَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيّ، فَأَخَذَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بِلِجَامِ الْبَغْلَةِ فَأَخَذْت بِالْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَالَ مَنْ هَذَا ؟ فَذَهَبْت أَكْشِفُ الْمِغْفَرَ فَقَالَ الْعَبّاسُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَخُوك وَابن عَمّك أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ فَارْضَ عَنْهُ أَيْ رَسُولَ اللّهِ قَالَ قَدْ فَعَلْت ، فَغَفَرَ اللّهُ كُلّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا فَأُقَبّلُ رِجْلَهُ فِي الرّكَابِ ثُمّ الْتَفَتَ إلَيّ فَقَالَ أَخِي لَعَمْرِي.
ثُمّ أَمَرَ الْعَبّاسَ فَقَالَ نَادِ يَا أَصْحَابَ الْبَقَرَةِ يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ يَا لَلْأَنْصَارِ، يَالَلْخَزْرَجِ فَأَجَابُوا : لَبّيْكَ دَاعِيَ اللّهِ وَكَرّوا كَرّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ قَدْ حَطّمُوا الْجُفُونَ وَشَرَعُوا الرّمَاحَ وَخَفَضُوا عَوَالِيَ الْأَسِنّةِ وَأَرْقَلُوا إرْقَالَ الْفُحُولِ فَرَأَيْتنِي وَإِنّي لَأَخَافُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُرُوعَ رِمَاحِهِمْ حَتّى أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَدّمْ فَضَارِبْ الْقَوْمَ فَحَمَلْت حَمَلَةً أَزَلْتهمْ عَنْ مَوْضِعِهِمْ وَتَبِعَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدُمًا فِي نُحُورِ الْقَوْمِ مَا نَالُوا مَا تَقَدّمَ فَمَا قَامَتْ لَهُمْ قَائِمَةٌ حَتّى طَرَدْتهمْ قَدْرَ فَرْسَخٍ وَتَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ.
وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الطّلَبِ فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى وَجْهٍ وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي وَجْهٍ وَبَعَثَ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ إلَى عَسْكَرٍ بَأَوْطَاسٍ فَقُتِلَ وَقَتَلَ أَبُو مُوسَى قَاتِلَهُ] ( ).
المسألة السابعة : ورد في الآية السابقة لفظ [ الربيون] وأنهم قاتلوا مع الأنبياء وذكرتهم هذه الآية بصيغة الضمير [هُمْ] في [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ]لبيان إتحاد موضوع الآيتين ، وتعلقه بسيرة وسنة أصحاب الأنبياء الذين عشقوا الشهادة فاندفعوا في سوح المعارك [فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ] ( )لبقاء كلمة التوحيد وإزاحة مفاهيم الشرك والضلالة من الأرض.
وتبين الآية أنهم لم يكثروا من سؤال نبيهم ومن طلب الدنيا بل كانوا منقطعين إلى الذكر والتسبيح والإستغفار ليكون الجمع بين الآيتين شاهداً على التكامل القصصي في القرآن ، وهذا التكامل من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ).
وفيه وجوه :
الأول : إعانة المسلمين في تهذيب نفوسهم والسلامة من درن الكدورات .
الثاني : بعث المسلمين على الإعراض عن زينة الدنيا ، بلحاظ أن هذا الإعراض أمر وجودي يستلزم قهر النفس الشهوية والغضبية .
الثالث : بيان أحوال الأمم السابقة على نحو التفصيل بما يمنع من الوهم والخصومة .
الرابع : ذكرت آية البحث والتي قبلها والتي بعدها خصال الربيين ، وفيه مصداق لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )من وجوه :
الأول : وجود أمة مؤمنة في كل زمان .
الثاني : تحلي أمة من المؤمنين بخصال الإيمان والتقوى .
الثالث : بيان معنى العبادة التي يريدها الله من الناس .
الرابع : حفظ الله عز وجل للمؤمنين ، ودفع الشرور عنهم ، فلقد أحرز المؤمنون النصر والثبات في منازل الإيمان وإذا قيل ماذا نال الكفار من محاربتهم الأنبياء والربيين من أصحابهم يتجلى الجواب بالواقع العملي وتأريخ الأمم بأنهم لم يحصدوا إلا الخيبة والخسران ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
وبين المكذبين والذين قاتلوا الأنبياء وأهل الإيمان عموم وخصوص مطلق فالمكذبون بالنبوة على أقسام :
الأول : الذين يكتفون بالإعراض عن دعوة الأنبياء وعدم التصديق بمعجزاتهم .
الثاني : الذين يصدون عن النبوة ويحرضون الناس على الإمتناع عن الإقرار بالمعجزات وإتباع الأنبياء ومنه الأب الذي يمنع إبنه .
الثالث : الذين يحاربون الأنبياء بالقول الغليظ ، والكلام القبيح ونحوه كما في أبي لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إيذائه، حتى نزل فيه قرآن [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ] ( ) لبيان الإعجاز القرآني بأن أبا لهب يموت كافراً ،ولن تدركه التوبة والإنابة ، وفي قوم نوح لما طال عمره فيهم يدعوهم إلى الله قال ابن عباس[وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه ويقول : احذر هذا فإنه كذاب ، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية ، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك] ( ).
الرابع: الذين يحاربون الأنبياء بالسيف، وهؤلاء أيضاً على مراتب، ولكن يصدق عليهم العنوان العام بمحاربة الأنبياء وأهل الإيمان ، وجاء القرآن بذمهم والوعيد بعذابهم يوم القيامة ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ).
المسألة الثامنة : بين آية البحث والآية السابقة من جهة الموضوع عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : إتحاد موضوع الآيتين إذ يتعلق بأصحاب الأنبياء السابقين .
الثاني : بيان الأذى الذي لاقاه أصحاب الأنبياء .
الثالث : ذكر الخصال الحميدة لأهل الإيمان .
الرابع: ذكرت كل آية من الآيتين أربع صفات حسنة.
وأما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : ذكر أصحاب الأنبياء بالوصف الكريم في الآية السابقة [الربيون] أما هذه الآية فذكرتهم بضمير الغائب والمتكلم اللذين يدلان عليهم ،وفيه شاهد على إتصال موضوع الآيتين .
الثاني : ذكرت الآية السابقة الأفعال الحميدة لأصحاب الأنبياء ، وذكرت هذه الآية دعاءهم وأقوالهم .
الثالث :أختتمت آية السياق بقانون من الإرادة التكوينية [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]أما آية البحث فأختتمت بدعاء الربيين بسؤال الخاتمة الكريمة لقتالهم بالنصر على الكفار .
المسألة التاسعة : ذكرت آية السياق خصالاً كريمة لأصحاب الأنبياء قد تقدم تفسيرها في الجزء السابق وهي :
الأولى : نيل مرتبة الربيين التي تدل على الإخلاص في طاعة الله والتسليم بالمعاد .
الثانية : عدم إنفراد الكفار بالأنبياء في مواطن القتال ، فمن مصاديق قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( )، خروج أمة من الربيين تقاتل معهم .
الثالثة : لو تردد الأمر بين قتال أصحاب الأنبياء ببأس شديد أم بتراخ وفتور ، فان الآية السابقة تؤكد الأول، قال تعالى[مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]( ).
الرابعة : الإخبار عن إصابة المؤمنين بالضرر والخسارة في القتال مع الكفار لدلالة قوله تعالى [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]لبيان تعاهدهم للجمع بين مرتبة الربيين والقتال حتى مع الإصابة بالضرر ومع فقد نبي الزمان ومغادرته إلى الرفيق الأعلى، وفيه وجوه:
الأول : مواساة المسلمين.
الثاني : حث المسلمين لهم على مواصلة قتال الكفار حتى مع سبق وتقدم الشهداء ووقوع الجراحات في المؤمنين.
الثالث : عدم الوهن في المقام ضرورة إيمانية وإنسانية ، لأن الضعف والتخاذل والقعود أسباب للقهر والخور والجبن ومناسبة لإستفحال الكفر وشيوع مفاهيمه ، وإفتتان الناس بالطاغوت .
الخامسة : التحلي بالثبات والعزيمة في ملاقاة الأذى وتحمل الضرر وفيه بعث لليأس والقنوط في نفوس الكفار ، ودعوة لهم لدخول الإسلام ، لأن الثبات من مصاديق مرتبة الربيين والشواهد الحسية على صدق النبوة وسلطانها على القلوب والجوارح وتجليها في العزائم والإرادة .
السادسة : عصمة أصحاب الأنبياء من المناجاة بالقعود والندب إلى الإستكانة والذل في مواجهة الكفار .
السابعة : الثناء على أصحاب الأنبياء لإتصافهم بالصبر وإختتام الآية السابقة عن حب الله عز وجل لهم ولكل الذين يصبرون في مسالك الهداية والإيمان ، ويتلقون الأذى الصادر من الكفار بقصد القربة إلى الله .
وإذ أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] إبتدأت هذه الآية ببيان قولهم وشهادتهم على أنفسهم ودعوة الملائكة ليشهدوا لهم بالإنقطاع إلى الله بالذكر والدعاء لتكون آية البحث دعوة للمسلمين ليشهدوا لهم بهذه الخصال الحميدة ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ).
قال ابن الأنباري سمي الشهيد شهيداَ لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة، وقيل سموا شهداء لأنهم ممن يستشهدون يوم القيامة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأمم الخالية.
المسألة العاشرة : إبتدأت آية البحث بالحصر في القول والإخبار بأنه دعاء وخير محض ، وإبتدأت آية السياق بصيغة التشبيه بحرف الكاف ، فتلحق مضامين هذه الآية بذات التشبيه الوارد في الآية إذ أن التشبيه متصل في الآيتين وفيه بيان لموضوع هذه الآية والآية التالية التي تتضمن الإخبار عن الثواب العظيم لأصحاب الأنبياء الذين شاركوهم الدفاع عن الإسلام بتلقي السهام والرماح بصدورهم ، ودفع شرر الأعداء الظالمين بسيوفهم.
ومن الإعجاز في الآية التالية أنها لم تأت بصيغة البشارة والوعد ، بل بلغة تحقق الجزاء الكريم فلم تقل الآية (فسيأتيهم الله ثواب الدنيا ) بل قالت [فَآتَاهُمْ اللَّهُ …] لبيان أن من خصائص الربيين تعجيل الثواب لهم من عند الله , وفيه مسائل :
الأولى : ترغيب المسلمين بالجهاد , قال تعالى[وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِي]( ).
الثانية : الإهتداء إلى سنن الدعاء والمسألة من الله عز وجل.
الثالثة : تأكيد قانون الثواب الدنيوي.
ولما إنقطع المسلمون إلى الذكر وتلاوة القرآن في الصلاة ، وقراءة كل واحد منهم ذكراً أو أنثى عدة مرات في اليوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] تفضل الله سبحانه وهداهم في هذه الآيات إلى صراط وسنة الأنبياء السابقين وأصحابهم المكرمين ليكون فيه خزي لقريش ودعوة لهم للكف عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
المسألة الحادية عشرة : تبين آية السياق إشتراك أصحاب الأنبياء بالقتال بعرض سواء ، ولو دار الأمر بين التفاني أو الفتور فيه ، فالجواب هو الأول ، فمن إعجاز آية السياق أنها تؤكد إصابة أصحاب الأنبياء بالضرر الفادح وتنفي عنهم ثلاث خصال مذمومة وهي :
الأول : الوهن والخور .
الثاني : الضعف والتشتت والفرقة بلحاظ أن الخلاف سبب للضعف لذا قال الله تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] ( ).
الثالث : الإستكانة وإظهار الإنكسار عند وقوع مصيبة القتل وفقد الأحبة وعند الإصابة بالجراحات والخسارة في الأموال.
وقد إنتفع المسلمون من آية البحث في معركة أحد فمع أنها جاءت بخصوص أصحاب الأنبياء المجاهدين في سبيل الله فإنها دعوة للمسلمين للثبات في المعركة ، وعدم الإنهزام أو الذل أمام كفار قريش ، لذا لما همّت طائفتان من المسلمين بالخور والفتور عن القتال تداركوا أمرهم ورجعوا إلى مواصلة القتال ، ليكون موضوع الهّم كالخاطرة الطارئة على القلب ، قال تعالى في الثناء على نفسه [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
ليكون من إعجاز آية السياق الثناء على أصحاب الأنبياء السابقين من وجهين :
الأول : صفات الإيجاب وهي على جهات :
الأولى : صحبة الأنبياء .
الثانية : القتال مع الأنبياء لمحاربة رؤساء الضلالة، قال تعالى[وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ]( ).
الثالثة : تقييد القتال بقصد القربة وإرادة مرضاة الله بدليل أن إصابتهم في سبيل الله لقوله تعالى [لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ].
الرابعة : نيل مرتبة الربيين ، وما تدل عليه من التحلي بالورع والتقوى ، وإظهار أسمى معاني الإخلاص في العبادة .
الخامسة : نعت أصحاب الأنبياء بأنهم كثير ، وهو من فضل الله في بيان معجزات الأنبياء وجهادهم في الدعوة إلى الإيمان .
الثاني : صفات الأمن من المفاهيم والخصال المذمومة من جهات :
الأولى : السلامة والتوقي من الوهن .
الثانية : عدم الجزع والفزع عند الإصابة بالجراحات .
الثالثة : التسليم بأن الذي يقتل منهم في سبيل الله يكتب الله له الخلود في النعيم.
الرابعة : الإحتراز من الضعف ، والبخل والشح في طاعة الله، فمن مستلزمات القتال تهيئة السلاح والمؤون والخروج إلى ميدان القتال ، وترك التجارات والمكاسب وفراق الأهل والأحبة لأيام وأشهر وسنوات .
الخامسة : الثبات في مقامات العز والمنعة وعدم الخضوع أو الذل للكفار.
السادسة : التحلي بالأخلاق الحميدة في الحرب، وإجتناب الظلم والتعدي، وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس قال: كنا إذا استنفرنا نزلنا بظهر المدينة حتى يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول انطلقوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون أعداء الله ، لا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا طفلاً صغيراً ، ولا امرأة ، ولا تغلوا( ).
المسألة الثانية عشرة : من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )الثناء على أصحاب الأنبياء وقد تقدم في الجزء السابق ذكر وجوه من هذا الثناء ، وبلحاظ سياق الآيات فان ورود هذه الآيات المتعاقبة بمدحهم وبيان خصالهم الحميدة ثناء إضافي لهم ، إذ جاءت ثلاث آيات متعاقبات بذكرهم وبيان فضل الله عز وجل عليهم في الدنيا والآخرة ، وفيه شاهد على نزول القرآن من عند الله فلا يعلم إستحقاق أصحاب الأنبياء بإجتماع ثلاث آيات متتاليات بالثناء عليهم ومضامين هذه الآيات إلا الله عز وجل .
ويفيد الجمع بين أول الآيتين أن أصحاب الأنبياء يقاتلون وهم منقطعون إلى ذكر الله لم ينشغلوا بالغنائم والأطماع ، ولم يلتفتوا إلى بهجة الدنيا ، كانت ألسنتهم رطبة بذكر الله، وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب الكفار، قال تعالى[فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ]( ) .
المسألة الثالثة عشرة : لما وصفت آية السياق أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم بأنهم (ربيون) وأن من صفاتهم نصرة نبي الزمان بالسيف والسلاح ،وعدم تركه وحيداً في ملاقاة الكفار والقوم الظالمين .
جاءت آية البحث ببيان خصال الربانيين اللسانية ليكون من صفاتهم الحسنة الدعاء والتوجه إلى الله عز وجل بالمسألة والحاجة ، ترى ما هي حاجات الربيين ، تجيب آية البحث على هذا السؤال إنه الدعاء بالنصر والغلبة على الكفار.
وتقدير الآية أنهم يقاتلون مع النبي ويكون قولهم أثناء القتال على وجوه :
الأول : ربنا إغفر لنا ذنوبنا .
الثاني : ربنا إغفر لنا إسرافنا في أمرنا .
الثالث: ربنا ثبت أقدامنا .
الرابع : ربنا إنصرنا على القوم الكافرين .
ويحتمل قول الربيين [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] ( ) من جهة الموضوع والزمان وجوهاً :
الأول : يأتي الربيون بهذا القول في حال القتال والحرب .
الثاني : يتوجه الربيون بالدعاء والمسألة إلى الله عز وجل في حال السلم وعند إنتهاء القتال .
الثالث : أصالة الإطلاق ، وأن الربيين منقطعون إلى الدعاء على كل حال.
الرابع : إرادة مسمى الدعاء والمسألة ، وأنهم كانوا يتوجهون بالدعاء في أحيان متفرقة وأحوال متباينة فتفضل الله عز وجل بجعله صفة دائمة لهم .
والصحيح هو الثالث فاراد الله عز وجل بيان فضلهم بين الأمم ودعوة المسلمين لبلوغ مرتبتهم والإرتقاء عليهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ويحتمل دعاء وسؤال الربيين لله عز وجل [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] من جهة مصدره وجوهاً:
الأول : تلقي هذا الدعاء من عند الله عز وجل بالقذف في قلوبهم ليكون من خصائص الربيين هداية الله لهم للدعاء والمسألة بالإلقاء في روعهم، قال تعالى[وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثاني : الأدعية التي تذكرها آية البحث تلقتها كل طبقة من الربيين من نبي زمانهم.
الثالث : هذه الأدعية من تعليم وإرشاد الأنبياء المتعاقبين، إذ يوصون أصحابهم بسؤال الله عز وجل بها.
الرابع : إنها أدعية الأنبياء السابقين أخذها الربيون منهم، وقاموا بحفظها والتوسل بها إلى الله، وهو من الشواهد على بلوغهم مرتبة الربيين.
الخامس : هذه الأدعية من إختراع وتأليف الربيين أنفسهم.
السادس : وجود هذه الأدعية في الكتب السماوية السابقة، لذا جاءت في آية البحث لأن القرآن الجامع لمضامين الكتب السماوية السابقة، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( ).
السابع : العنوان الجامع فقد وردت في الآية أربعة ضروب من الدعاء والمسألة.
فمنها ما تلقوها عن الأنبياء السابقين ومنها ما ورد في الكتب السماوية ، ومنها بالوحي للأنبياء وتبليغه للربيين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من فضل الله عز وجل على المؤمنين وبيان السعة والمندوحة في الدعاء ، ولكنه أخذ صبغة القرآنية وصار ميراثاً لأجيال المؤمنين .
المسألة الرابعة عشرة : إبتدأت آية البحث بحرف العطف (الواو) لإفادة إتصال موضوعها بالآية السابقة ، ولا ينحصر الإتصال بحرف العطف بل ذات موضوع الآية وهو [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ]يتضمن معاني عطف القول على الفعل لإبتدائه بـ (مَا)النافية.
ومن دلالات هذا العطف أمور :
الأول : حمل الربيين السلاح في سبيل الله والدعاء .
الثاني : إستحضار الربيين ساعة القتال لعالم الحساب والجزاء وحاجة كل إنسان إلى العفو والمغفرة.
الثالث : بيان موضوعية الدعاء لصدوره من ربيين كثير في آن واحد، وعن ابن عباس في أصحاب موسى عليه السلام الذين إختارهم من قومه، قال: كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً فاختار سبعين رجلاً فبرز بهم ، فكان ليدعو ربكم فيما دعوا الله أن قالوا : اللهمَّ اعطنا ما لم تعطه أحداً بعدنا ، فكره الله ذلك من دعائهم ، فأخذتهم الرجفة قال موسى { لو شئت أهلكتهم من قبل، إن هي إلا فتنتك } يقول : إن هو إلا عذابك تصيب به من تشاء وتصرفه عمن تشاء( ) .
الرابع : الدعاء وسيلة لتعاهد الأخلاق الحميدة حتى في القتال ، لتكون دعوة للناس لدخول الإسلام ، فلا غرابة ان تجد طائفة من الكفار تدخل الإسلام أثناء المعركة وتحدث خصومة وإنشقاقاً داخل معسكر الكفار لملائمة الدعوة إلى الإيمان للفطرة الإنسانية وهو من مصاديق إكرام الله لآدم والنفخ فيه من روحه كما في قوله تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ).
وقيل العاقل من ترك الدنيا قبل أن تتركه , لقد رزق الله الإنسان العقل ليدرك أن الدنيا مزرعة للآخرة ، ويلزم جعلها حديقة ناضرة يشع منها أريج التقوى وسنن الصلاح.
وقد سخرها الربيون في مرضاة الله فاقبلت عليهم ثواباً وأجراً ، فقد يأتي المال والجاه للإنسان فيكون موضوعاً للإبتلاء والإمتحان، وأما إذا جاء ثواباً من عند الله فيكون رحمة وسبيل هداية وصلاح ،وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما إحتجوا على جعل الإنسان خليفة في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) بأنه سبحانه رزق المؤمنين النعم والإمارة والجاه فيسخرونها لمرضاة الله ، وتكون واقية من الفساد وسفك الدماء ، وهو من الغايات الحميدة لقتال الأنبياء والربيين معهم ، وإنقطاعهم إلى الدعاء والمسألة .
وهل هذا القتال والدعاء من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) الجواب نعم من وجوه :
الأول : التصديق بنبي الزمان عبادة لله عز وجل .
الثاني : الخروج للقتال مع النبي ونصرته طاعة لله عز وجل.
الثالث : إرادة قصد القربة في القتال وجعله خالصاً لوجه الله في ذاته وموضوعه وغاياته .
الرابع : القتال في سبيل الله عبادة قائمة بذاتها ، لذا وردت بصيغة الأمر والتقييد بصيغة الشرط وعند إبتداء الكفار القتال كما في قوله تعالى [فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ).
الخامس : الدنيا متاع زائل ، والعبادة فيها سبيل للإقامة بدار القرار التي لا مغادرة لها، ولا سفر إلى غيرها.
السادس : الدعاء عبادة محضة، ومن الإعجاز في ذكر الآية السابقة لصحبة الربيين للأنبياء تأكيد قانون وهو أن الأنبياء هم الأئمة بالدعاء لتترى عليهم آيات الإستجابة، فتكون ترغيباً لأصحابهم بالثبات في منازل الإيمان، وحجة على الناس، وعن سلمان الفارسي قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة كره ذلك جداً ، وقال : اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض ، ولا تسألوا المائدة من السماء فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم ، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية ، فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها ، فأبوا إلا أن يأتيهم بها ، فلذلك { قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } .
فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف ، ولبس الشعر الأسود ، وجبة من شعر ، وعباءة من شعر ، ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه ، فصلى ما شاء الله ، فلما قضى صلاته قام قائماً مستقبل القبلة ، وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب ، وحاذى الأصابع بالأصابع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره ، وغض بصره ، وطأطأ رأسه خشوعاً ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه ز
فلما رأى ذلك دعا الله فقال { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا } تكون عظة منك لنا { وآية منك } أي علامة منك تكون بيننا وبينك ، وارزقنا عليها طعاماً نأكله { وأنت خير الرازقين } فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة فوقها وغمامة تحتها ، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم ، وعيسى يبكي خوفاً للشروط التي اتخذ الله فيها عليهم ، إنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين ، وهو يدعو الله في مكانه ويقول : إلهي اجعلها رحمة ، إلهي لا تجعلها عذاباً ، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني ، إلهي اجعلنا لك شاكرين ، إلهي أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضباً ورجزاً ، إلهي اجعلها سلامة وعافية ولا تجعلها فتنة ومثلة ، فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسى ، والحواريون وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط ، وخر عيسى والحواريون لله سجداً شكراً له بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا ، وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة .
وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمراً عجباً أورثهم كمداً وغماً ، ثم انصرفوا بغيظ شديد ، وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة ، فإذا عليه منديل مغطى قال عيسى : من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى نراها ، ونحمد ربنا ، ونذكر باسمه ، ونأكل من رزقه الذي رزقنا ، فقال الحواريون : يا روح الله وكلمته ، أنت أولانا بذلك وأحقنا بالكشف عنها .
فقام عيسى : فاستأنف وضوءاً جديداً ، ثم دخل مصلاه فصلى بذلك ركعات ، ثم بكى طويلاً ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها ، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً ، ثم انصرف وجلس إلى السفرة ، وتناول المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين ، وكشف عن السفرة ، وإذا هو عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير ، وليس في جوفها سوك ، يسيل منها السمن سيلاً ، قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث ، وعند رأسها خل ، وعند ذنبها ملح ، وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الآخر تمرات ، وعلى الآخر خمس رمانات ، فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى : يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب هذه الآية فقال شمعون : لا وإله إسرائيل ما أردت بها سوءاً يا ابن الصديقة . فقال عيسى : ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا ، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة ، فقال له كن فكان أسرع من طرفة عين ، فكلوا مما سألتم بسم الله ، واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم ، فإنه بديع قادر شاكر .
فقال يا روح الله وكلمته إنا نحب أن ترينا آية في هذه الآية . فقال عيسى : سبحان الله . . ! أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى! ثم أقبل عيسى على السمكة فقال : يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت ، فأحياها الله بقدرته فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد ، تدور عيناها لها بصيص ، وعادت عليها بواسيرها ، ففزع القوم منها وانحاسوا ، فلما رأى عيسى ذلك منهم قال : ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت ، فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول .
فقالوا لعيسى : كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد . فقال : معاذ الله من ذلك ، يبدأ بالأكل كل من طلبها . فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم منها خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها ، فلما رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزمنى وقال : كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم ، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم ، يكون مهناها لكم وعقوبتها على غيركم ، وافتتحوا أكلكم بسم الله واختتموه بحمد الله ففعلوا ، فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة ، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ .
ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئة إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء ، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها ، وبريء كل زمن منهم أكل منها ، فلم يزالوا أغنياء صحاحاً حتى خرجوا من الدنيا ، وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سألت منها أشفارهم ، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات . قال : فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم بعضاً ، الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضاً ، فلما رأى عيسى ذلك جعلها نوباً بينهم ، فكانت تنزل يوماً ولا تنزل يوماً ، فلبثوا في ذلك أربعين يوماً تنزل عليهم غباً عند ارتفاع الضحى ، فلا تزال موضوعة يؤكل منها ، حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم بإذن الله إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم .
فأوحى الله إلى عيسى أن اجعل رزقي في المائدة لليتامى والفقراء والزمنى دون الأغنياء من الناس ، فلما فعل الله ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك ، حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس ، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر ، وأدرك الشيطان منهم حاجته ، وقذف وساوسه في قلوب المرتابين ، حتى قالوا لعيسى : أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء حق فإنه ارتاب بها بشر منا كثير .
قال عيسى : كذبتم وإله المسيح ، طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم ، فلما أن فعل وأنزلها الله عليكم رحمة ورزقاً وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها ، فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله ، وأوحى الله إلى عيسى إني آخذ المكذبين بشرطي ، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ، فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة من نسائهم آمنين ، فلما كان من آخر الليل مسخهم الله خنازير ، وأصبحوا يتتبعون الأقذار في الكناسات ( ).
السابع : من مصاديق العبادة بلحاظ سياق الآيات الجمع بين القتال في سبيل الله وإقترانه بالدعاء ، ليكون من خصائص تسمية [الربيين] وفي تفضل الله عز وجل بنسبتهم إليه سبحانه أمور:
الأول : إتيان الربيين ضروب العبادة المتعددة والمتباينة .
الثاني : إنتفاء الكسل والوهن عند الربيين في أمور دينهم .
الثالث : ليس من فترة عند الربيين عن الجهاد والقتال وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]فيكون أوان المصيبة ووقوع الخسارة والجراحات مناسبة للإجهاز على العدو مما يجعله يصاب بالذعر وكأن مدداً إضافياً من الناس يأتي للمسلمين وجيشهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ْ كم مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
الرابع : الصبر في طاعة الله عز وجل وإظهار الصبر في أشق الأحوال وأشدها على الفرد والجماعة وهو ميدان القتال وعند لمعان السيوف.
ومن خصائص الربيين أنهم يأبون مغادرة منازل القرب من الله في الدنيا ، والقتال لا يستوعب حياتهم ولا يحصل في الغالب إلا عندما يعتدي الكفار كما في قوله تعالى [فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ).
فلذا بينت آية البحث إنشغالهم بذكر الله والتضرع وإظهار المسكنة والذل لله عز وجل وكأنهم يعيشون تحت ظل العرش وهم في الدنيا ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل قرّب الله عز وجل بلطفه أصحاب الأنبياء إلى منزلة الربيين.
الثانية : هل لتسمية الله عز وجل وجل لهم [ الربيين ] موضوعية في جذبهم إلى سبل الهدى والرشاد .
والجواب نعم ، أما الأولى فان الله عز وجل هو الذي أعان المؤمنين إلى الهداية والتصديق بالأنبياء ، ومن اللطف تعدد معجزات كل نبي وصيرورتها حجة دامغة، وبرهاناً عقلياً أو حسياً أو هما معاً ودعوة لهداية الناس إلى الإيمان.
وأما الثانية فتلك آية في إعانة الناس إلى مسالك الصلاح ، فقد تفضل الله وسمى أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم [ الربيون] لتكون هذه التسمية أمارة ونوراً يعرفهم بها الملائكة في الدنيا والآخرة ويغبطهم أهل المحشر عليها يوم القيامة ، وتصبح هذه التسمية أجراً وجزاء وباباً للرزق الكريم والفضل العظيم .
ومن اللطف الإلهي بالربيين آية البحث والآية السابقة من جهات :
الأولى : التوثيق السماوي لفعل وقول أصحاب الأنبياء .
الثاني : تقسيم أصحاب الأنبياء إلى أقسام :
الأول : الذين صدقوا بالأنبياء وقعدوا ولم يقاتلوا معهم .
الثاني : الذين صدقوا برسالة الأنبياء ولم يقاتلوا لأن نبي زمانهم لم يقاتل ولم يأمرهم بالقتال .
الثالث : الذين آمنوا بنبي زمانهم وإختاروا أداء الفرائض والعبادات وتوجهوا إلى الدعاء لصرف شرور الأعداء .
الرابع : المؤمنون بالنبوة من أصحاب الأعذار عن القتال ، قال تعالى [لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ] ( ).
الخامس : الذين جمعوا بين صحبة الأنبياء والقتال معهم والإنقطاع إلى الدعاء في حال الحرب والسلم .
وإختص الذين ذكروا بالوجه الخامس أعلاه بلفظ الربيين [وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى]( ).
ليكون هذا الاسم إشراقة إيمانية تطل على أهل الأرض من ثنايا القرآن ، وأعماق تأريخ الإنسانية تحبب لهم الإيمان، وتبعث على المقارنة الحسنة بينهم وبين المسلمين ، إذ يتساءل الرجل والمرأة من الناس جميعاً : ترى هل نال المسلمون مرتبة [الربيين] فيه وجوه محتملة :
الأول : نال المسلمون مرتبة الربيين بتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهادهم في سبيل الله .
الثاني : ما ناله المسلمون أعلى من مرتبة الربيين .
الثالث : لقد أنعم الله على المسلمين بمرتبة الربيين وزيادة من ذات الموضوع .
الرابع : هذه المرتبة خاصة بطائفة من الناس ذكرت آية البحث والآية السابقة صفاتهم.
والصحيح هو الوجوه الثلاثة الأولى ، ولا يتعارض معها الوجه الرابع , فمن إعجاز الآيتين ذكر صفات الربيين ليرتقي إليها المسلمون وهناك آيات كثيرة تبين خصالاً إنفرد بها المسلمون في مقامات التقوى والتوكل على الله وإستدامة محاربة الكفر ومفاهيم الضلالة ، لذا ورد قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ليكون لفظ [خَيْرَ] في الآية إنحلالياً ينطبق على عالم الأفعال والمواضيع والسنن .
المسألة الخامسة عشرة : من آيات الربوبية المطلقة لله عز وجل بديع خلق الإنسان ، قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ) ومن صنع الله في المقام أن الإنسان يستطيع الجمع بين القول والفعل ، وإن كان وعاء القول هو الفم وأله البيان فيه هي اللسان والنطق بالألفاظ التي تفيد معاني مخصوصة يفهمها المخاطب ، فان عالم الفعل متعدد في آلته وموضوعه ، لكثرة الجوارح والحواس التي تكون وظيفتها العمل.
ويتجلى الجمع بين القول والفعل بحال القتال بالسيف والركوب أو المشي والحركة داخل المعسكر وأخذ الحائطة في المعركة بالحاسة الباصرة أو السامعة.
وإجتمعت هذه المعاني في قوله تعالى [قاتل معه ] في الآية السابقة وإن قيل القتال من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وقد يكون قتال شطر من أصحاب الأنبياء على نحو المسمى وصرف الطبيعة , والجواب إن الآية السابقة تنفي هذا المعنى لأنها تصفهم بأنهم [ ربيون] وتعني نسبتهم إلى الرب تعالى طاعتهم التامة لأوامره وإنقيادهم لأحكام الشريعة التي يأتي بها النبي , قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] ( ).
والآية أعلاه وإن جاءت خطاباً للمسلمين والمسلمات إلا أنها تدل بالدلالة التضمنية على وجوب إتصاف المؤمنين في كل زمان بطاعة الله والرسول ، مما يدل على أن قتال الربيين كان بأمر الله ورسوله ، وهل دعاؤهم المذكور في آية البحث بأمر الله ورسوله الجواب نعم ، فمن خصائص النبوة تعليم المؤمنين الدعاء من جهات :
الأولى : كيفية الدعاء .
الثانية : سلامة الدعاء من الرياء .
الثالثة : صدق النية في السؤال وطلب الحاجة من عند الله والتنزه عن الشك والريب .
لذا أنعم الله عز وجل على المسلمين بتلاوتهم كل يوم عدة مرات وعلى نحو الوجوب العيني [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( )وفيه تنمية لملكة التوكل على الله عند المسلمين ، والفزع إليه بالمسائل وحاجات الدنيا والآخرة .
الرابعة : إتخاذ الدعاء وسيلة للنصر والغلبة على الكفار ومن خصائص هذه الوسيلة أنها مصاحبة لهم في كل الأحوال .
الخامسة : قصد الثواب ونيل الأجر بالدعاء الذي يأتي طاعة لله ورسوله فهو عبادة من وجوه :
الأول : إنه سؤال وتضرع ورجاء ودعاء .
الثاني : في الدعاء والتوجه إلى الله بالمسألة إقرار بأن مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه .
الثالث : مبادرة المسلمين إلى الدعاء من مصاديق طاعة الله في قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
إذ وردت الآية أعلاه بصيغة الأمر ذي صبغة العموم والإطلاق الذي يحمل على الوجوب إلا مع القرينة الصارفة إلى الندب ، وهي مفقودة في المقام ، ليكون معنى قوله تعالى [ادْعُونِي] أي يجب أن تسألوني.
ويصح دعاء المسلمين بتلاوة آيات القرآن التي تتضمن الدعاء والمسألة وإن جاءت التلاوة بارادة صفة القرآنية ، وإن لم يقصد المسلم الدعاء بهذه التلاوة فهل يحتسبها الله عز وجل له دعاء ومسألة أم لا بد من هذا القصد والنية لترتب الأعمال على المقاصد ، [ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما الأعمال بالنيات ] ( ).
الجواب هو الأول ويصدق على تلاوة الآية أنها دعاء مع أدنى تلبس بقصد المسألة والدعاء ، ومضامين الآية أعلاه كلها دعاء ومسألة ، أما آية البحث فانها جاءت بصيغة الجملة الخبرية ، فهل تحتسب دعاء للمسلمين ، الجواب نعم ومضامينها ذاتها دعاء ومسألة .
ومن الإعجاز في آية البحث في المقام أمور :
الأول : كل مضامين الآية دعاء ومسألة .
الثاني : بيان الآية لقانون وهو مصاحبة الدعاء للإيمان ، فكما لازمت النبوة الأرض فان الدعاء لم يفارق أهل الإيمان ، وقد تنقطع النبوة أحياناً وتكون فترة تمر على الناس ليس فيها نبي ، كما في الفترة بين عيسى عليه السلام وبين خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الدعاء الصاعد من الناس مستمر فيها ، لم ينقطع أبداً ، وهو من أسرار إستدامة البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء الدعاء الذي يسأل به المؤمنون من الأمم السابقة الله عز وجل التعجيل ببعثته وإدراك زمانه ونيل الفلاح في نصرته.
ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )في المقام مسائل:
الأولى : مواظبة المسلمين وإلى يوم القيامة على الدعاء الذي لهج به الربيون في أيام حياتهم .
الثانية : إذا كان الربيون المقاتلون جاءوا بالأدعية الواردة في آية البحث فان المسلمين والمسلمات جميعاً يؤتون بهذه الأدعية كل يوم بتلاوتها .
الثالثة : إتصاف أدعية المسلمين بصيغة القرآنية ليكون ثوابهم متعدداً .
الثالث : تعدد وجوه الدعاء في آية البحث، وفيه دعوة للمسلمين للإجتهاد بالدعاء والتضرع إلى الله ، وكأن نصف النصر بالدعاء والإستغفار .
الرابع : إبتداء دعاء الربيين بسؤال المغفرة لإدراك الحاجة إليها في الدنيا والآخرة ، ولأن الخلو من أوزار الذنوب كشف للحقائق ، وإزاحة لحمل ثقيل على الظهر والأكتاف.
وهل يمنع هذا الحمل على فرض وجوده المسلم من القتال، الجواب لا ، إنما العزم على القتال سبب لأزاحته ، وطريق للتخلف من الذنوب ، ولكن الدعاء يأتي متمماً وتسليماً من وجوه :
الأول : الإقرار بالربوبية والملكية المطلقة لله عز وجل , قال تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وأن هذه الملكية تتضمن التدبير والفيوضات المتجددة، والإنسان واحد من موجودات هذا الكون، ولكن الله عز وجل تفضل وجعله خليفة في الأرض، وعندما إحتج الملائكة على نيله مرتبة الخلافة أخبرهم الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليكون من علمه تعالى لجوء المؤمنين في كل زمان له سبحانه بالدعاء والمسألة.
الثاني : لزوم إقتران الدعاء بالقتال في سبيل الله، وأن السيف وحده لا يكفي في تحقيق الغايات الحميدة للربيين.
الثالث : لا يكتفي الربيون بدفع ضرر الكفار، بل يجتهدون في تحصين أنفسهم من مفاهيم الشرك، ويسعون في جعل نفوس الناس تنفر من مستنقع الجحود وفعل المعاصي، لذا فان الدعاء سور الموجبة الكلية لإصلاح النفوس وجذب الناس للتوبة والإنابة.
الرابع : تسليم الربيين بأن الدعاء مفتاح لجلب المصالح والمنافع وسبيل لدفع المفاسد والأضرار، لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يتعلموا من الربيين مسائل في باب الدعاء منها:
الأولى : اللجوء إلى الدعاء في أشق الأحوال، كما إقتبسوا من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا الأمر إذ إنقطع إلى الدعاء في معركة بدر.
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود قال: ما سمعت مناشدا ينشد حقا له أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر وجعل يقول اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم ان تهلك هذه العصابة لا تعبد ثم التفت كأن شق وجهه القمر فقال كأنما أنظر إلى مصارع القوم عشية( ).
ومع عظيم منزلة الربيين فقد تجلت الكمالات الإنسانية والإنقطاع التام إلى الله عز وجل في أشد ساعات المحن بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر لبيان أن دعاءه أفضل الدعاء وأكمل الدعاء وأنفع الدعاء.
ثم جاء قوله: كانما انظر إلى مصارع القوم عشية ) لتأكيد أمور:
الأول : الإخبار عن فضل الله بسرعة الإستجابة لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : بعث السكينة في نفوس المسلمين.
الثالث : بيان مصداق ومعجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في النصر على الكفار.
الرابع : هذا الحديث من وجوه تفسير السنة النبوية لتسمية الله عز وجل يوم بدر ( يوم الفرقان) ( )، بأن صار هذا اليوم فيصلاً من وجهين :
الأول: بين حال الضعف والفقر التي كان عليها المسلمون وبين تحقق نصرهم وغلبتهم يوم بدر وما ترشح عنها من العز الذاتي والعام بين القبائل والأمم .
الثاني : بين المنعة والصيت والهيبة لقريش قبل المعركة وبين الخزي والخيبة والذل الذي لحقهم يوم بدر [وقال الواقدي : قالوا : ومشى نساء قريش إلى هند بنت عتبة فقلن: ألا تبكين على أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك؟ فقالت: حلقي، أنا أبكيهم فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بنا، ونساء بني الخزرج! لا والله، حتى أثأر محمداً وأصحابه، والدهن على حرامٌ إن دخل رأسي حتى نغزو محمداً. والله، لو أعلم أن الحزن يذهب من قلبي بكيت، ولكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة. فمكثت على حالها لا تقرب الدهن، وما قربت فراش أبي سفيان من يوم حلفت حتى كانت واقعة أحد.
وبلغ نوفل بن معاوية الديلي، وهو في أهله، وقد كان شهد معهم بدراً، أن قريشاً بكت على قتلاها، فقدم فقال: يا معشر قريش، لقد خفت أحلامكم، وسفه رأيكم، وأطعتم نساءكم، ومثل قتلاكم يبكي عليهم؟ هم أجل من البكاء، مع أن ذلك يذهب غيظكم عن عداوة محمد وأصحابه، فلا ينبغي أن يذهب الغيظ عنكم إلا أن تدركوا ثأركم من عدوكم. فسمع أبو سفيان بن حرب كلامه فقال: يا أبا معاوية، غلبت والله! ما ناحت امرأة من بني عبد شمس على قتيلٍ لها إلى اليوم، ولا بكاهن شاعرٌ إلا نهيته، حتى ندرك ثأرنا من محمد وأصحابه، وإني لأنا الموتور الثائر، قتل ابني حنظلة وسادة أهل هذا الوادي، أصبح هذا الوادي مقشعراً لفقدهم] ( ).
لتكون أسباب بكاء قريش أعم من إستحضار ذكرى قتلاهم ومنها فقدهم لمقامات الشأن بين القبائل وما يترشح عنه من كسر حال إجتناب القبائل لقوافل تجارتهم بين مكة والشام ، وبين مكة واليمن ذهاباً وإياباً وهو من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )فلقد أراد الله منهم شكره تعالى على هذه النعمة العظمى وحاجة بلاد الروم وفارس إلى قريش في نقل البضائع بين الشرق والغرب لتعطل الطريق بينهم عبر الشام والعراق بسبب الحروب والمعارك بين الروم والفرس وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( ).
إذ تدل الآية أعلاه على إشتعال الحروب وتواصل المعارك والكر والفر بين الطرفين أيام البعثة النبوية فعطلت الطرق المباشرة للتجارة بينهم فصاروا محتاجين للنقل عبر الصحراء وهو أمر لا يقدر عليه إلا العرب ولا يتولاه إلى رجالات قريش لشأنهم عند القبائل العربية ، لأنهم سدنة البيت ولمجي القبائل في الموسم من كل عام لحج البيت ، وهذه الحرب المستعرة أيام البعثة النبوية من الإعجاز في مقدمات بعثة ونصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باشغال الدول العظمى عن نبوته وتجهيز الجيوش ضده ، صحيح أنهم كانوا يجتنبون الغزو في الصحراء العربية لقلة الزاد في الطريق والخشية من إغارة العرب عليهم في كل ليلة ولكن لابد وأن عدداً من كفار قريش ونظرائهم حاولوا الإستجارة بهرقل أو كسرى فابتلاهم الله عز وجل بالإنشغال بأنفسهم إلى أن علا صرح الإسلام وثبتت مبادؤه وأحكامه في الأرض ، وتسابقت القبائل والجماعات في دخوله .
ومن ضروب الحكمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كتب إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام بعد أن تم صلح الحديبية وتوقف القتال مع قريش ليكون المسلمون مستعدين لإحتمال مجئ جيش من قبل والي كسرى في اليمن ، وكيلا تتجرأ قريش في قتالهم وتمتنع عن الصلح.
ذكر الواقدي من حديث الشفاء بنت عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث عبد الله بن حذافة السهمى منصرفه من الحديبية إلى كسرى وبعث معه كتابا مختوما فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أدعوك بداعية الله فانى أنا رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فان أبيت فعليك إثم المجوس.
قال عبد الله بن حذافة فانتهيت به إلى بابه فطلبت الاذن عليه حتى وصلت إليه فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرئ عليه فأخذه ومزقه فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال مزق ملكه] ( )، وفي رواية (اللهم مزق ملكه( ).
فعدا أقرب الناس إلى كسرى إبنه الكبير (شيرويه) فقتله، ولم يلبث الابن طويلاً حتى قُتل، ثم قتل قاتله.
قال ابن هشام : فبلغني عن الزهري أنه قال : فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ بَاذَانَ بَعَثَ بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْفُرْسِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ . فَقَالَتْ الرّسُلُ مِنْ الْفُرْسِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى مَنْ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ أَنْتُمْ مِنّا وَإِلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْت] ( ).
السادسة عشرة : ذكرت آية السياق أن الربيين لم يهنوا لما أصابهم من الخسارة والضرر ، لأن هذه الأصابة في سبيل الله فهل قولهم ( ربنا أغفر لنا ذنوبنا ) هو في سبيل الله أيضاً أم أن القدر المتيقن منه الدعاء للنفس بالمغفرة .
الجواب ليس من تعارض بين الوجهين ، فان سؤال المغفرة حاجة للذات وهو وسيلة للإصلاح الذاتي والعام لأن المؤمن مرآة لسنخية الهدى والتقوى ، ولأن المغفرة سبب لجلب النصر ودفع الضرر .
ولما أختتمت آية السياق بأن الله عز وجل يحب الصابرين .
جاءت هذه الآية بشواهد بالصبر من وجوه :
الأول : إشتراك الربيين بسؤال المغفرة من عند الله .
الثاني : الإنشغال بالدعاء والتضرع من مصاديق الصبر في مرضاة الله ، وهو إنقطاع عن الدنيا وإجتناب للإنشغال باللهو .
الثالث : سؤال المغفرة من الذنوب مقدمة لإجتناب إرتكاب المعاصي والذنوب .
الرابع : إقرار الربيين بالإسراف والإفراط والتقصير في عمل الصالحات من سنن الصبر والعزم عليها .
الخامس : لقد سأل الربيون الله عز وجل تثبيت أقدامهم في مقامات الإيمان، ويستلزم هذا السؤال وموضوعه الصبر .
السادس : أختتمت آية البحث بدعاء الربيين بالنصر على القوم الكافرين , ويأتي هذا النصر بالصبر في القتال ، وفي التنزيل [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ] ( ).
المسألة السابعة عشرة : ذكرت آية السياق النعت التشريفي لأصحاب الأنبياء وهو [الربيون ] وخصالهم الحميدة التي هي فخر في الدنيا والآخرة ومانع من الشك والجدل بخصوص إستحقاقهم هذا النعت الكريم .
ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( )تفضل الله عز وجل برد هذه الإحتجاج بالبينة والبرهان المتجددة مصاديقه في كل زمان بقوله تعالى [قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فتفضل سبحانه ومنع الإحتجاج بخصوص آيات القرآن ومضامينها القدسية ، فلا أحد من الناس يحتج لماذا سمي أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم [الربيين] إذ تتضمن ذات الآية التي فيها هذه التسمية والتشريف علة نيلهم لها ، منها صفات تقدمت على ذات الاسم في الآية وهي :
الأولى : الإيمان ببعثة نبي الزمان ، والمعجزة التي خصه الله بها، وتلقي البشارات والإنذارات التي جاء بمضامينها بالتصديق والقبول.
الثانية : صحبة الأنبياء ، وتلك نعمة عظمى على الربيين .
الثالثة : صحبة الأنبياء في حال السلم والحرب ، لدلالة القتال مع النبي بالدلالة التضمنية على صحبته في الحضر وحال السلم .
الرابعة : ترشح المنافع الخاصة والعامة من صحبة الربيين للأنبياء والإقتباس من سننهم والتسليم بالمعجزات الحسية التي تجري على أيديهم لشهود الصحابة لها ، وهو من أسباب خروجهم للقتال مع الأنبياء بصفة التقوى واليقين.
وفي الثناء على الأنبياء قال تعالى[إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( ).
الخامسة : الخروج مع الأنبياء للقتال والدفاع عن التنزيل والنبوة .
وأخبرت آية البحث عن إجتهاد الربيين بالدعاء ولجوئهم للإستغفار ، ويحتمل بلحاظ ما تقدم من ذكر صفات الربيين وجوهاً :
الأول : إجتهاد الربيين بالإستغفار قبل أن ينالوا هذه المرتبة السامية.
الثاني : دعاء أصحاب الأنبياء بالثبات في القتال قبل وقوعه من شرائط بلوغ مرتبة الربيين .
الثالث : مصاحبة الإستغفار والدعاء لنيل مرتبة الربيين .
الرابع : مجئ إستغفار ودعاء أصحاب الأنبياء الوارد في آية البحث بعد نيلهم مرتبة الربيين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الجمع بين آيتي البحث والسياق.
وهل توقف نيل مرتبة الربيين الواردة في الآية السابقة على مضامين آية البحث ، المختار هو الإيجاب ، لأن القول الذي تذكره آية البحث جاء قبل وأثناء القتال ويدل إحرازهم مرتبة الربيين على إستدامة هذا القول .
المسألة الثامنة عشرة : وصفت الآية السابقة الربيين بصفتين :
الأولى : الربيون مقاتلون .
الثانية : قتال الربيين مع نبي زمانهم، وفيه مسألتان :
الأولى : من الذين قاتلهم الربيون ، الجواب فيه وجوه :
الأول : قتال المشركين بالله ولله، لذا ورد في آية البحث [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( ).
الثاني : قتال الكافرين بالنبوة .
الثالث : قتال الفاسقين الذين لا يريدون حكم الله في الأرض.
الرابع : قتال الذين يريدون قتل نبي الزمان .
الخامس : قتال الذين يؤذون المؤمنين ويصدونهم عن الإيمان ويمنعونهم عن أداء الفرائض العبادية .
وتتجلى منزلة الربيين من المشقة والعسر في القتال ومن إصرار الكفار على القتال وقعود طائفة من المؤمنين عن الدفاع ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً]( ).
لتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على أن قتال الربيين شاهد على خشيتهم من الله وعدم خوفهم أو خشيتهم من الكفار ، ولا يتعارض هذا المعنى مع القول بأن الآية [نزلت في ناس من الصحابة استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة في قتال المشركين فلم يأذن لهم ، فلما كُتِبَ عليهم القتال وهم بالمدينة قال فريق منهم ما ذكره الله عنهم ، وهذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي]( ).
وإن كان القول وصيغة اللوم في الآية بعيداً .
السادس : قتال الذين يهجمون على النبي والمؤمنين في ديارهم.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلقيه وأهل بيته وأصحابه شتى صنوف الأذى التي لاقاها الأنبياء السابقين ، وخروجه واصحابه للقتال كما ذكرت آية البحث لذا ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال [ما أوذي نبي مثل ما أوذيت] ( ).
لتكون آيات القرآن التي توثق هذا الأذى وأخبار السنة النبوية الخاصة بها والمترشحة عنها شاهداً على جهاد الأنبياء في سبيل الله ، وبلوغ أصحابهم الذين ذبوا عن التنزيل والمعجزة بالسيف مرتبة الربيين .
الثانية : ذكرت آية البحث قتال الربيين مع الأنبياء ليكون موضوع القتال على وجوه :
الأول : جذب الناس للتصديق بالنبوة .
الثاني : طرد مفاهيم الكفر والضلالة .
الثالث : منع الكفار من الإستحواذ على المجتمعات أو صد الناس عن الإيمان .
الرابع : إرادة التخلية بين الأنبياء وبين الناس .
الخامس : القتال رجاء العفو والمغفرة من عند الله لأن الإخلاص في طاعته سبحانه باب لمحو الذنوب ، وتقدير آية البحث ( قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا بقتالنا مع النبي القوم الكافرين) فان قلت تدرك هذه التوبة من غير قتال , والجواب نعم هذا صحيح ، ولكن الكفار هم الذين أصروا على التحدي وأبوا إلا أن يكون السيف هو الفيصل .
السادس : ثبات المسلمين في منازل الإيمان لذا ورد في آية البحث [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا]بلحاظ الإعانة على إنتهاج السبل التي تثبت الأقدام في مقامات التقوى والصلاح ، ليكون تقدير الجمع بين الآيتين ( ربنا ثبت أقدامنا بقتال الكفار ).
المسألة التاسعة عشرة :من معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة عدم إظهار الربيين الشكوى والضجر والملل من قتال الكفار ، ومحاربة الشرك وفيه تأديب للمسلمين ، ودعوة للصبر وتحمل الأذى في مرضاة الله عز وجل .
ولما أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] بينت آية البحث معنى الصبر بأن يتقوم بذكر الله والدعاء وتعيين مضامين الدعاء، وكل فرد منها عون ومدد للنصر في القتال .
ومن الإعجاز في آية البحث والسياق أنهما جمعتا خصال الربيين بالعمل والقول ، وقدمت آية السياق العمل لأن حياة المؤمنين تتقوم به ، وهو وعاء للإستمرار بأداء الفرائض والتوجه إلى الله بالدعاء ، وكذا فان هذا الأداء والدعاء مقدمة ومناسبة للنصر على القوم الكافرين .
لقد إبتدأت آية السياق بالقتال وقيدته بأمور:
الأول : إنه قتال مع الأنبياء، وأن الربيين يقاتلون بأمر من الله وفي سبيله سبحانه، وهو الذي يدل عليه الحرف (مع) في قوله تعالى[قَاتَلَ مَعَهُ] بلحاظ أن قتال الأنبياء بأمر من عند الله، ليكون النصر محرزاً لقوله تعالى، وعن مكحول قال: لما كرَّ علي وحمزة على شيبة بن ربيعة ، غضب المشركون وقالوا : اثنان بواحد؟! فاشتغل القتال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اللهم إنك أمرتني بالقتال ووعدتني النصر ولا خلف لوعدك ، وأخذ قبضة من حصى فرمى بها في وجوههم فانهزموا بإذن الله تعالى ، فذلك قوله { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ( ).
الثاني : يقاتل أصحاب النبي معه بصفة [ الربيين ] مما يدل على عدم إيذائهم للنساء والصبيان وكبار السن وعدم إضرارهم بالمزروعات والأملاك العامة والخاصة.
وفي خروج المسلمين إلى معركة مؤتة أوصاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم [قال: أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً. أو قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً .
وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث؛ فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم واكفف عنهم؛ ادعهم إلى الدخول في الإسلام، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين؛ وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله، ولا يكون لهم في الفيء ولا في القسمة شيءٌ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين؛ فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم؛ وإن أنت حاصرت أهل حصنٍ أو مدينةٍ فأرادوك أن تستنزلهم على حكم الله فلا تستنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا. وإن حاصرت أهل حصنٍ أو مدينةٍ فأرادوك على أن تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة رسوله، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أبيك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذمتكم وذمم آبائكم خيرٌ لكم من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله] ( ).
الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ…]( ) .
وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله .
الثاني : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا .
الثالث : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا .
الرابع : قالوا ربنا ثبت أقدامنا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها.
الخامس : قالوا ربنا ثبت أقدامنا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها .
السادس : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها وأنصرنا على القوم الكافرين .
السابع : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا .
الثامن : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها قالوا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا .
التاسع : ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها قالوا ربنا ثبت أقدامنا .
العاشر : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ربنا انصرنا على القوم الكافرين.
الحادي عشر : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وسيجزي الله الشاكرين .
الثاني عشر : قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا وسيجزي الله الشاكرين .
الثالث عشر : قالوا ربنا ثبت أقدامنا وسيجزي الله الشاكرين.
الرابع عشر : قالوا ربنا انصرنا على القوم الكافرين وسيجزي الله الشاكرين.
الخامس عشر : قالوا ربنا وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله.
السادس عشر : قالوا ربنا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها .
السابع عشر : قالوا ربنا ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها .
الثامن عشر : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
التاسع عشر : ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
العشرون : وسنجزي الشاكرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا إغفر لنا ذنوبنا .
وهل يصح أن يكون تقدير الجمع بين الآيتين : ربنا اغفر لنا ذنوبنا [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] الجواب لا ، لورود السؤال في الآية على نحو الإطلاق، ويفيد رجاء الفورية في محو الذنوب والسيئات وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
ومن خصائص التعجيل بالمغفرة إقبال المسلم على العمل بصفحة بيضاء وسكينة تملأ النفس.
عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : « يا رسول الله ، أخبرني عن العبد ، كم معه من ملك؟ فقال : ملك عن يمينك على حسناتك ، وهو أمين على الذي على الشمال ، إذا عملت حسنة كتبت عشراً ، فإذا عملت سيئة ، قال الذي على الشمال للذي على اليمين : اكتب؟ قال : لا ، لعله يستغفر الله ويتوب ، فإذا قال ثلاثاً قال : نعم اكتبه ، أراحنا الله منه فبئس القرين ، ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منه؟! يقول الله { وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد }( ) وملكان من بين يديك ومن خلفك ، يقول الله { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك ، وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك ، وملكان على يمينك ، فهؤلاء عشرة أملاك على كل بني آدم ، ينزل ملائكة الليل على ملائكة النهار ، لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار ، فهؤلاء عشرون ملكاً على كل آدمي ، وإبليس بالنهار وولده بالليل] ( ).
المسألة الثانية : من إعجاز آية السياق أنها بينت قوانين من الإرادة التكوينية من وجوه :
الأول : لابد من إختتام حياة كل إنسان بالموت ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ).
الثاني : الموت أمر وجودي يتضمن الإنتقال من عالم إلى آخر بدليل التفصيل في الآية، وقوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا]( ).
الثالث : تعلق الموت بالنفس وذات الإنسان، ومجموع الروح والبدن ، وفيه موعظة للعناية بلفظ النفس الذي ورد في القرآن مائة وأربعين مرة .
الرابع : لا يغادر أي إنسان الدنيا إلا بإذن الله عز وجل وهذا الإذن من مصاديق الملكية المطلقة لله عز وجل بقوله تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( ).
وتفصيله على شعب :
الأولى : لا يولد الإنسان إلا بإذن الله .
الثانية : إستدامة حياة الإنسان مدة عمره في الدنيا بإذن الله .
الثالثة : لا يزور ملك الموت، وذات الموت أي إنسان إلا بإذن الله .
الرابعة :إختصاص السفر إلى الآخرة بانعدام المدة والفترة بين الدنيا والآخرة فحالما يغادر الإنسان الدنيا يدخل عالم الآخرة ، خلافاً للسفر في الدنيا بين مدينتين مثلاً إذ تكون بينهما مسافة لابد من قطعها كمقدمة عقلية للوصول إلى الغاية في السفر ،أما في الآخرة فليس من مقدمة أو بلغة بل يفاجئ الإنسان بالعالم الآخر دفعة واحدة وإن كان أول عالم البرزخ .
الخامس : ورد في آية السياق لفظ [كِتَابًا مُؤَجَّلاً]وأيهما أكثر عدداً الكتاب المؤجل أم عدد الناس من آدم وإلى يوم القيامة ، الجواب هو الأول , بلحاظ مسائل :
الأولى : كل إنسان لا يكون موته إلا بكتاب مؤجل .
الثانية : إذن الله عز وجل في قبض روح الإنسان كتاب مؤجل.
الثالثة : ذات الحياة الدنيا كتاب مؤجل .
الرابعة : نزول البلاء بالإنسان كتاب مؤجل ، وكثير من هذا الباب ما يمحوه الله عز وجل رأفة بالإنسان .
الخامسة : كتاب الإثم على العبد المذنب كتاب مؤجل رجاء أن يتوب أو يستغفر الله.
ويحتمل لفظ (كتاباً مؤجلاً ) وجوهاً :
الأول : التأجيل في ذات كتابة الكتاب .
الثاني : كتاب الإنسان غير مؤجل قبل أن يخلق ، ولكن ذات الموت هو المؤجل .
الثالث : كتاب عمر الإنسان وأوان أجله ، ولكن إذن الله بقبض روحه كتاب مؤجل .
والصحيح هو الثاني والثالث ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( )وفيه ترغيب للمؤمنين بالعمل بمضامين آية البحث باللجوء إلى الإستغفار وسؤال العفو ومحو الخطايا مع الإجتهاد بسؤال الثبات في مواطن القتال ، وتعاهد منازل التقوى .
السادس : من القوانين الواردة في آية السياق وجود ثواب من عند الله خاص بالحياة الدنيا .
السابع : إخبار الآية عن مجئ الثواب والجزاء في الحياة الدنيا لمن يسأله، ويريده من المؤمنين كمن قاتل لغايات دنيوية تكون ضميمة لقصد في سبيله وليس غايات مستقلة ينحصر بها قصد القتال .
وفي مفهوم آية السياق مسألتان :
الأولى : هل يعطي الله ثواب الدنيا لمن لم يسأله.
الثانية : الذي لا يريد ثواب الدنيا ويزهد فيها ، هل يأتيه هذا الثواب .
الجواب نعم لأن إثبات مجئ هذا الثواب لمن يريده لا يدل على حجبه لم يسأله ومن يزهد فيه , وهو من مصاديق قوله تعالى [مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
الثامن : قانون تفضل الله بالرزق الكريم وثواب الآخرة للذي يريده من المؤمنين لبيان أن الآخرة دار الثواب، وجاءت الآية بصيغة التبعيض [نؤته منها] لبيان أن ثواب الآخرة فيه فضل وهو أكبر وأعظم مما يريده الناس ، فلو كان الناس كلهم بأجيالهم المتعاقبة مؤمنين ويريدون ثواب الآخرة بما يطرأ على تصورهم الذهني ، فيبقى في ثواب ونعم الآخرة فضل وزيادة فكيف وأن الناس على قسمين :
الأول : المؤمنون الذين يريدون ثواب الآخرة .
الثاني : الكفار الذين يحجب الله عز وجل عنهم ثواب الآخرة ، ويتعلق موضوع آية البحث بشطر من القسم الأول وهم الربيون ودعائهم وتوسلهم رجاء الفوز بالعفو والمغفرة .
التاسع : قانون جزاء الله عز وجل للشاكرين ، ويكون الوعاء الزماني للشكر هو الحياة الدنيا لأنه نوع عمل، أما أوان الجزاء فهو مطلق يشمل الحياة الدنيا والآخرة.
وتقدير خاتمة آية السياق على وجهين :
الأول : وسنجزي الشاكرين في الدنيا .
الثاني : وسنجزي الشاكرين في الآخرة .
وتحتمل مضامين آية البحث وجوهاً :
الأول : دعاء الربيين المذكور في آية البحث من شكرهم لله عز وجل .
الثاني : إنه ليس من الشكر لله ، إنما هو سؤال وتوسل .
الثالث : التفصيل , فشطر من مضامين هذه الآية من الشكر لله عز وجل , وشطر ليس من موضوع الشكر.
والصحيح هو الأول ، وهو من أسرار فوزهم بمرتبة الربيين لبيان نكتة وهي إتصاف الربيين بعدم الغفلة عن الشكر لله عز وجل ، ويتجلى الشكر في آية البحث من وجوه :
الأول : قول الربيين (ربنا )إذ أنه تسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وفيه مسائل :
الأولى : شكر الله عز وجل على الهداية إلى هذا التسليم والإقرار [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
الثانية : الشكر لله عز وجل بحصر الربوبية للخلائق كلها بيده سبحانه وهو من مصاديق جعل الإنسان خليفة في الأرض ، فمع إنقطاع الملائكة لطاعة الله والفناء في حبه والتصاغر في حضرة عرشه إحتجوا بالقول [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ] ( )، فاقام عليهم بسلطان الربوبية المطلقة الحجة على أهلية الإنسان لهذه المنزلة الرفيعة التي خصه بها من بين الخلائق بقوله [قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وكان من علمه تعالى وجود أمة من الناس في كل زمان تسمى [الربيين] تتصف بطاعة الله والتنزه عن معصيته وتلجأ إلى الإستغفار وسؤال النصر من عند الله .
وإذ ذكرت الآية السابقة [ الربيين ] بلحاظ أنهم أصحاب للأنبياء قاتلوا معهم الكفار والمشركين فهل تنال طائفة من المسلمين هذه المرتبة أم أن القدر المتيقن هو ما ورد في آية البحث.
الجواب هو الأول ، وتقدير أول الآية السابقة على وجوه :
الأول : محمد نبي قاتل معه ربيون كثير .
الثاني : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ، ومن الأنبياء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تعارض بين إتخاذ رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مشبهاً به ومشبهاً .
الثالث : وكأين من نبي مثل النبي محمد قاتل معه ربيون كثير .
ليفيد التشبيه في الآية [كأين ] معنى الإبتداء بالثناء على النبي محمد والمهاجرين والأنصار قبل أصحاب الأنبياء ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ] ( ).
الثالثة : من وجوه الشكر في قول الربيين [ربنا ] الثناء على الله سبحانه لأنه جعل حاجاتهم للدنيا والآخرة بيده سبحانه وحده ، فكل فرد من أسئلتهم الواردة في آية البحث لا يقدر عليه إلا الله سبحانه عز وجل.
الرابعة : تأكيد فضل الله عز وجل بهداية الربيين والناس جميعاً إلى الدعاء وعدم غلق بابه على أحد من البشر ، وهو من أسرار نفخ الله عز وجل من روحه في آدم .
وفي حديث خلق آدم ورد عن ابن عباس أنه قال: كان إبليس من حَيّ من أحياء الملائكة يقال لهم: الجِنّ، خلقوا من نار السموم، من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازنا من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي، قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، [وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت قال: وخلق الإنسان من طين] .
فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة -وهم هذا الحي الذي يقال لهم: الجنّ -فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتَرّ في نفسه، فقال: قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد. قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، فقال الله تعالى للملائكة الذين معه: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } فقالت الملائكة مجيبين له: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك؟ فقال: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب -واللازب: اللزج الصلب من حمإ مسنون منتن، وإنما كان حَمَأ مسنونا بعد التراب. فخلق منه آدم بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى.
فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله، فيصلصل، أي فيصوت. قال: فهو قول الله تعالى: { مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } يقول: كالشيء المنفرج الذي ليس بمُصْمَت.
قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره، ويخرج من فيه. ثم يقول: لست شيئا -للصلصلة-ولشيء ما خلقت، ولئن سُلِّطْتُ عليك لأهلكنك، ولئن سُلِّطْتُ علي لأعْصيَنَّك.
قال: فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحمًا ودمًا، فلما انتهت النفخة إلى سُرَّته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تعالى: { وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا } قال: ضجر لا صبر له على سراء ولا ضراء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال: “الحمد لله رب العالمين” بإلهام الله. فقال [الله] له: “يرحمك الله يا آدم “. قال ثم قال [الله] تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات: اسجدوا لآدم. فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر، لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار.
فقال: لا أسجد له، وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا، خلقتني من نار وخلقته من طين. يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، أي: آيسه من الخير كله، وجعله شيطانا رجيما عُقُوبة لمعصيته، ثم عَلَّم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني: الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ } يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة.
قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيره، الذي ليس لهم به علم قالوا: سبحانك، تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، وتبنا إليك { لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا } تبريا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علمت آدم، فقال: { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } يقول: أخبرهم بأسمائهم { فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ } [يقول: أخبرهم] { بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ } أيها الملائكة خاصة { إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } ولا يعلم غيري { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } يقول: ما تظهرون { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار( ).
ومن دلالات خلافة الإنسان في الأرض الروح , فنفخ الروح عنوان إنعدام الحاجب والبرزخية بين الله عز وجل والإنسان ، لذا قال سبحانه [وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] ( ) لبيان موضوعية هذا النفخ وتعلق قلب الإنسان بحضرة القدس .
الخامسة : إنقطاع الربيين إلى الله عز وجل في قولهم وكلامهم وكأنهم لا ينطقون إلا بالدعاء والمسألة لقوله تعالى [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا]( ).
السادسة : شكر الربيين الله عز وجل على جعل النصر بيده وعلى تفضله سبحانه بهدايتهم إلى الدعاء لطلب النصر والظفر .
السابعة : شكر الربيين لله عز وجل لأمور :
الأول : النجاة من الكفر والضلالة .
الثاني : صحبة الأنبياء ورؤية الآيات الحسية .
الثالث : الهداية إلى قتال الكفار ومحاربة الشرك ومفاهيم الضلالة .
الرابع : حمل السيف لدعوة الناس للإيمان .
الخامس : الإستجابة لأمر الله عز وجل والنبي بالقتال .
السادس : الذب عن نبي الزمان والدفاع عنه ليدل بالدلالة التضمنية على أن الربيين يدافعون عن الأنبياء الآخرين باليد واللسان .
وهل تعاهد البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الدفاع أم أن القدر المتيقن منه هو الصبر على الأذى والتصدي لأهل الجدال والخصومة .
الجواب هو الأول لأن توارث البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دفاع عنه وعن الإسلام وعن مقامات الربيين أنفسهم .
ومن أسرار خلافة الإنسان في الأرض تقومها بهذا البشارة منذ هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض لتكون بلغة وغاية في حياة الربيين في الأجيال المتعاقبة وأمانة يتوارثونها.
ومن الإعجاز في المقام أمور :
الأول : مصاحبة النبوة لأجيال الناس ، ففي كل زمان يبعث الله نبياً ومعه معجزة تدعو إليه وتدفع عنه .
الثاني : مجئ البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة الوحي للأنبياء .
الثالث : التسالم بين أتباع الأنبياء بأنهم ينقلون هذه البشارة عن الأنبياء السابقين لتكون لها موضوعية في أقوالهم وأفعالهم .
الرابع : في البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحقق النصر والغلبة على الكافرين إذ تجلى مصداق خاتمة آية البحث [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( )بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معارك الإسلام الأولى والتوفيق لفتح مكة في العشرين من شهر رمضان من العام الثامن للهجرة النبوية الشريفة الموافق للعاشر من شهر يناير سنة 630 ميلادية .
ليكون من معاني خاتمة آية البحث وجوه :
الأول : وانصرنا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على القوم الكافرين.
الثاني : وأنصرنا على القوم الكافرين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : وأنصر النبي محمداً والمسلمين على القوم الكافرين [عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن .
وأخرج أحمد وابن سعد والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة قال : قلت « يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال : دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام] ( ) وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دعوة إبراهيم ما ورد في التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
ويحتمل ذكر دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا آمنة أم النبي وجهين :
الأول : إرادة المثال بصيغة الإيجاز .
الثاني : إفادة الحصر والتعيين ، فليس من دعوة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا دعوة إبراهيم عليه السلام وليس من بشارة إلا بشارة عيسى عليه السلام.
والصحيح هو الأول والمراد المعنى أعم ودعاء الأنبياء والصالحين لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبشارتهم بنبوته ، كما أن الرؤى التي رآها الصالحون ببعثته كثيرة ومتعددة وكلما قرب زمان البعثة إزدادت هذه الرؤى كماً ووضوحاً ومنها ما رآها السلاطين والملوك لتكون إنذاراً لهم ، ومناسبة للتوبة والإنابة [قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكُ الْيَمَنِ بَيْنَ أَضْعَافِ مُلُوكِ التّبَابِعَةِ فَرَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ وَفَظِعَ بِهَا فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا ، وَلَا سَاحِرًا ، وَلَا عَائِفًا وَلَا مُنَجّمًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إلّا جَمَعَهُ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ إنّي قَدْ رَأَيْت رُؤْيَا هَالَتْنِي ، وَفَظِعْتُ بِهَا ، فَأَخْبِرُونِي بِهَا وَبِتَأْوِيلِهَا ، قَالُوا لَهُ اُقْصُصْهَا عَلَيْنَا نُخْبِرْك بِتَأْوِيلِهَا.
قَالَ إنّي إنْ أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لَمْ أَطْمَئِنّ إلَى خَبَرِكُمْ عَنْ تَأْوِيلِهَا ، فَإِنّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إلّا مَنْ عَرَفَهَا قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهَا( ). فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إلَى سَطِيحٍ وَشِقّ فَإِنّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُمَا ، فَهُمَا يُخْبِرَانِهِ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ.
قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَبَعَثَ إلَيْهِمَا ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ سَطِيحٌ قَبْلَ شِقّ فَقَالَ لَهُ إنّي رَأَيْت رُؤْيَا هَالَتْنِي وَفَظِعْتُ بِهَا ، فَأَخْبِرْنِي بِهَا ، فَإِنّك إنْ أَصَبْتَهَا أَصَبْتَ تَأْوِيلَهَا.
قَالَ أَفْعَلُ رَأَيْت حُمَمَهُ خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمه ، فَوَقَعَتْ بِأَرْضِ تَهَمه ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ جُمْجُمَهُ.
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا أَخْطَأْتَ مِنْهَا شَيْئًا يَا سَطِيحٌ فَمَا عِنْدَك فِي تَأْوِيلِهَا ؟ فَقَالَ أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرّتَيْنِ مِنْ حَنَشٍ لَتَهْبِطَن أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ فَلَتَمْلِكَن مَا بَيْن أَبْيَنَ إلَى جُرَش.
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ وَأَبِيك يَا سَطِيحُ إنّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ فَمَتَى ، هُوَ كَائِنٌ ؟ أَفِي زَمَانِي هَذَا ، أَمْ بَعْدَهُ ؟ قَالَ لَا ، بَلْ بَعْدَهُ بِحِينِ أَكْثَرَ مِنْ سِتّينَ أَوْ سَبْعِينَ يَمْضِينَ مِنْ السّنِينَ قَالَ أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِمْ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ لَا ، بَلْ يَنْقَطِعُ لِبِضْعِ وَسَبْعِينَ مِنْ السّنِينَ ثُمّ يُقْتَلُونَ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا هَارِبِينَ.
قَالَ وَمَنْ يَلِي مِنْ ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ ؟ قَالَ يَلِيهِ إرَمُ ( بْنُ) ذِي يَزَنَ ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنَ ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ.
قَالَ أَفَيَدُوم ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ لَا ، بَلْ يَنْقَطِعُ قَالَ وَمَنْ يَقْطَعُهُ.
قَالَ نَبِيّ زَكِيّ ، يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيّ قَالَ وَمِمّنْ هَذَا النّبِيّ ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ ؟ قَالَ وَهَلْ لِلدّهْرِ مِنْ آخِرٍ.
قَالَ نَعَمْ يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوّلُونَ وَالْآخِرُونَ يَسْعَدُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ.
قَالَ أَحَقّ مَا تُخْبِرُنِي ؟ قَالَ نَعَمْ وَالشّفَقُ وَالْغَسَقُ وَالْفَلَقُ إذَا اتّسَقَ إنّ مَا أَنْبَأْتُك بِهِ لَحَقّ.
فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ مَا قَالَا . فَجَهّزَ بَنِيهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ إلَى الْعِرَاقِ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَكَتَبَ لَهُمْ إلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ سَابُورُ بْنُ خُرّزاذ ، فَأَسْكَنَهُمْ الْحِيرَةَ] ( ).
المسألة الثالثة : من إعجاز نظم الآيات تقدم آية السياق على آية البحث ، لبيان أن الربيين والمسلمين يدركون جميعاً ان الدنيا زائلة ، وأن مفارقة الإنسان لها أمر حتمي مع تقييد هذه المفارقة بأذن الله عز وجل، وهل الإذن الإلهي هذا قريب من الإنسان بذات المسافة والبعد الذي يكون بينه وبين الموت للملازمة بين الموت والإذن الإلهي به .
الجواب إن الإذن الإلهي أقرب إلى الإنسان لأنه كالعلة والسبب لذات الموت ، ولعمومات قوله تعالى [وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] ( ).
ومن منافع تقديم الإخبار عن حتمية طرو الموت على كل إنسان بخصوص مواضيع آية البحث أمور :
الأول : تسليم المؤمنين بأن أوان موت أي واحد منهم أو من غيرهم إنما هو بأمر الله عز وجل .
الثاني : إدراك الربيين بأن الدعاء يصرف البلاء ويبعد الأجل ويمحو البلاء ، فبادروا إلى سؤال العفو والمغفرة من عند الله عز وجل .
الثالث : إرادة الربيين مغادرتهم الدنيا بصفحة بيضاء والفوز بالسلامة من الحساب الإبتدائي في القبر أو العقاب في الآخرة ، وهل يحق للمؤمن أن يستحي من ملك الموت أن يزوره لقبض روحه والذنوب عالقة به ، الجواب نعم ، وهو من رشحات معاني الربيين .
الرابع : بعث السكينة في نفوس الربيين , وعدم الفزع من الموت عند إستحضار ذكره أو حضوره ، مع التباين بينهما من جهة العدد والموضوع ، إذ يتعدد طرو ذكر الموت على ذهن الإنسان وعلى سمعه ويرى شواهده أيام حياته ، أما حضوره فلا يكون إلا مرة واحدة ليكون الأول المتعدد مقدمة للثاني المتحد لهوله، ودعوة للتهيئ له بالإيمان والعمل الصالح والإستغفار ، وقد جمع الربيون هذه الخصال .
وندب الله عز وجل الناس إلى المبادرة إلى التوبة وذم الذين يسوفون فيها ، قال تعالى [وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا]( ) [وأخرج البيهقي في الشعب عن رجل من الصحابة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من إنسان يتوب إلى الله عز وجل قبل أن تغرغر نفسه في شدقه إلا قبل الله توبته] ( ).
ويفيد الجمع بين آية البحث والسياق أن الربيين إتخذوا من سؤال المغفرة جلباباً لهم في الحياة الدنيا من غير ملازمة بينه وبين إستحضار الموت والإستعداد له.
فمن خصائص الربيين ، وشرائط إستحقاق هذه المرتبة التي يتجلى شرفها وسموها بنسبتها إلى الرب في اللفظ والمعنى والإنقطاع إلى الإستغفار وتذوق حلاوته على اللسان , ومن إكرام الله للربيين أنه لا يأتي الإذن الإلهي بقبض روح أحدهم حتى يستغفر الله.
ويقول (رب إغفر لي ذنوبي وإسرافي في أمري )وهو من وجوه الرحمة بهم وفوزهم بالثواب الوارد في الآية التالية [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] ( )بتقريب أن من أفراد ومصاديق ثواب الدنيا عدم مجئ الإذن الإلهي بموت الربي منهم إلا بعد إستغفاره وتوبته.
المسألة الرابعة :يفيد الجمع بين الآيتين أن قوله تعالى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] بخصوص الموت رحمة بالربيين والمؤمنين جميعاً لأن أيام الحياة الدنيا وعاء للإستغفار.
وهل هذه الرحمة مختصة بالربيين أو المسلمين أم أنها عامة تتغشى الناس جميعاً.
الجواب هو الأخير ، ففي كل يوم من التأجيل تتجدد فرصة التوبة والإنابة ، ففاز الربيون بها ليكونوا أسوة لباقي الناس في سبيل التوبة والصلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )بلحاظ أن التوبة من أسمى معاني الهداية وتتجلى الإستقامة فيها بأنها طريق لفعل الصالحات وعمل الخيرات.
وإذا كان قوله تعالى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] مناسبة وسبباً للمندوحة والسعة في بعد الأجل وأوان الموت ، فهل التوبة والإنابة سبب للتأجيل الإضافي لذات الكتاب المؤجل , الجواب نعم ، وليس من دور في المقام , إذ ينخرم في أبواب الفضل الإلهي ، ومن معاني ورشحات قوله تعالى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] بخصوص آية البحث وجوه :
الأول : إستدامة إنقطاع الربيين إلى الله عز وجل في أيام حياتهم .
الثاني : عمارة الأرض بذكر الله ليكون قوله تعالى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الثالث : تعليم الناس الإستغفار وبيان حاجتهم لهم ، فاذا كان الربيون الذين قاتلوا مع الأنبياء لم يصبهم الوهن والضعف في جهادهم في سبيل الله وإعتصموا بالإيمان وحسن التوكل على الله للسلامة من الذل والخضوع للكفار كما تجلت هذه المعاني بالآية السابقة بقوله تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ.
فمن باب الأولوية القطعية أن باقي الناس أشد حاجة للإستغفار وأقصر في مدة تأجيل الكتاب .
الرابع : بيان إستعداد الربيين والمؤمنين للموت والكتاب المؤجل فمتى ما حان أوانه وإنقطع التأجيل فيه تراهم مقبلين على عالم الآخرة وليس من أوزار على ظهورهم.
وفي الخبر الإسرائيلي: إن عالماً كان يضلّ الناس بالبدع ثم أدركته توبة فرجع إلى اللّه تعالى وعمل في الإصلاح دهراً فأوحى اللّه تعالى إلى نبيهم: قل له إن ذنبك لو كان فيما بيني وبينك لغفرته لك بالغاً ما بلغ ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار( ).
ولا دليل على هذا المعنى في آيات القرآن والسنة النبوية إذ يأتي الإستغفار على الذنوب كلها من غير تفصيل بين الخاص وذي الأثر العام ، وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن مصاديق قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الخامس :يسأل الربيون والمؤمنون جميعاً الله لإطالة أعمارهم للثبات في منازل التقوى ، والمرابطة في مواجهة الأعداء وإختيار إختتام أيام العمر بإحدى الحسنيين أما النصر أو الشهادة.
ومن الآيات في المقام أن شهادة الفرد من المؤمنين طريق لتحقيق النصر ، أما النصر فهو واقية لهم ولذراريهم ، لذا بعد أن وقع سبعون من أهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه شهداء وقتلى يوم أحد هابت قريش أمرهم وترددت في إقتحام الخندق الذي حفره الصحابة حول المدينة المنورة في السنة الخامسة للهجرة في معركة الأحزاب.
وقال تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) وبعدها بثلاث سنوات وقعت معجزة حسية أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي فتح مكة وسلامة المسلمين بعدها من القتل الذريع ، لإنتفاء موضوع هجوم قريش على ثغر المسلمين المدينة المنورة ، ولدخولهم الإسلام .
المسألة الخامسة :من الإعجاز في آية السياق ان التأجيل خاص بالموت وأوانه وأنه شامل للناس جميعاً إذ ينتفع البر والفاجر من هذا التأجيل.
وتبين الآية أن الأمر بتأجيل الموت خاص بالله وحده بدليل الإذن الإلهي في قوله تعالى [بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً] فذات الإذن يكون مؤجلاً مما يدل على أن ملك الموت لا يطلع على هذا التأجيل ومدته وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض ، وإكرام الله عز وجل له من حين خلقه وتعليمه الأسماء وسجود الملائكة له ، قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا] ( ).
وفي هذا التأجيل حجة على الناس بلزوم شكر الله عز وجل بالتوبة والإنابة في مدة التأجيل وإن كانت تستغرق أيام العمر كلها وعن إنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دَخَلَ نَخْلًا لِبَنِي النَّجَّارِ فَسَمِعَ صَوْتًا فَفَزِعَ فَقَالَ مَنْ أَصْحَابُ هَذِهِ الْقُبُورِ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ نَاسٌ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ .
قَالُوا وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَسَأَلَهُ مَا كُنْتَ تَعْبُدُ فَإِنْ اللَّهُ هَدَاهُ قَالَ كُنْتُ أَعْبُدُ اللَّهَ قَالَ فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ قَالَ .
فَيَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ قَالَ فَمَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا قَالَ فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى بَيْتٍ كَانَ لَهُ فِي النَّارِ فَيُقَالُ هَذَا بَيْتُكَ كَانَ فِي النَّارِ وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَكَ وَرَحِمَكَ فَأَبْدَلَكَ بِهِ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ دَعُونِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُبَشِّرَ أَهْلِي فَيُقَالُ لَهُ اسْكُنْ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَقُولُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيَضْرِبُهُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ الْخَلْقُ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ( ) .
المسألة السادسة : تضمنت آية السياق وعداً من عند الله خاصاً بالحياة الدنيا وهو إستجابة الله عز وجل لمن يريد ثواب الدنيا ، وصيرورة الإستجابة في ذات موضوع إرادة الإنسان لتكون الإستجابة من جهة الكم والكيف على وجوه :
الأول : يؤتي الله عز وجل الذي يسأل ثواب الدنيا بقدر سؤاله وفي ذات الموضوع الذي أراد .
الثاني : يعطي الله عز وجل العبد من الدنيا ما فيه صلاحه وفعله الخيرات .
الثالث : ينعم الله عز وجل على العبد من ثواب الدنيا ما يصلح حاله ويقيه فعل السيئات .
والصحيح هو الثالث ، ويكون الوجهان الأول والثاني في طوله ، ليكون تقدير قوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا] بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : ومن يرد ثواب الدنيا للإستغفار والمسألة [نُؤْتِهِ مِنْهَا].
وهل تأجيل أوان الموت من هذا الثواب , الجواب نعم ، فهو من أظهر مصاديق الدنيا ، لذا يكون جعل الإستغفار علة وغاية لسؤال ثواب الدنيا وطول العمر وواقية من فعل السيئات ونوع إلحاح بالدعاء وتقريباً للإستجابة .
قال تعالى[وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى]( )، أي تصبحون برغد وعيش وأمن وبحبوحة من الرزق الكريم، والآية أعلاه هي الثالثة من سورة هود، ويحتمل الخطاب فيها وجوها:
الأول : إرادة قوم هود بلحاظ اسم السورة.
الثاني : المقصود المسلمون، لورود الخطاب مطلقاً.
الثالث : إرادة الناس جميعاً، المسلمين وغيرهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، إذ يدل نظم الآيات على إرادة قوم هود بدليل ما بعدها كما في قوله تعالى[أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ]( )، وهو من إعجاز القرآن بالدمج بين المعنى العام والخاص لعموم النفع والنهل من فيوضات الآية القرآنية، ولبيان قانون وهو أن الإستغفار حاجة لكل إنسان , المؤمن وغيره، وهو الذي تدل عليه آية البحث، فمع قتال الربيين في سبيل الله فانهم يجتهدون في الإستغفار، وتبين الآية التالية أن فيه خير الدنيا والآخرة.
الثاني : ومن يرد ثواب الدنيا لإصلاح نفسه وتدارك فعله ، وإستقبال أيامه بالصلاح [نُؤْتِهِ مِنْهَا] إذ سأل الربيون الله عز وجل ان يغفر لهم إسرافهم في أمرهم ، وتفريطهم بأيام الحياة الدنيا ، وليس من دليل على وجود تفريط عندهم ، ولكنه التوسل والتضرع وإظهار المسكنة والخضوع لله رجاء فضله وثوابه بطول العمر في الصالحات .
الثالث : ومن يرد ثواب الدنيا للثبات في مقامات الإيمان ، وعدم الزيغ عن سنن التقوى نؤته من الدنيا ، لبيان أنها ملك طلق لله عز وجل لا يشاركه فيها أحد، وهو يهب منها للعباد ما يشاء وفي التنزيل [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
الرابع : ومن يرد ثواب الدنيا لقتال الكفار [نُؤْتِهِ مِنْهَا].
لأن الربيين سألوا الله عز وجل النصر على الكافرين ، وهذا النصر قد يأتي دفعياً أو على نحو تدريجي ، وفيه ترغيب بالجمع بين الجهاد والرغبة فيه وتهيئة أسبابه ومقدماته .
الخامس : ومن يرد ثواب الدنيا حباً لله وطمعاً بما عنده [نُؤْتِهِ مِنْهَا] إذ تدل إرادة الثواب سواء كان ثواب الدنيا أو ثواب الآخرة على تسليم العبد بأن مفاتيح خزائن الدنيا والآخرة بيده تعالى وأنه سبحانه يهب الكثير بالقليل , وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
السادس : ومن يرد ثواب الدنيا لجعله بلغة للآخرة [نُؤْتِهِ مِنْهَا] وهو من الإعجاز في ذكر آية السياق لثواب الدنيا والآخرة مجتمعين ومتفرقين ، لتكون الدنيا وعاء للعمل للناس جميعاً ، ويفوز المؤمن بخصوصية وهي رجاء التوفيق والهداية من عند الله لفعل لصالحات.
ويمكن تسمية الدنيا (دار الإختبار ) .
وتبين هذه الآيات أن الدنيا (دار الثواب ) وبين الإختبار والثواب عموم وخصوص مطلق ، إذ يتغشى الإختبار الناس جميعاً في الحياة الدنيا بينما يختص الثواب بالمؤمنين الذين يسألونه من عند الله ، نعم قد تتشابه مصاديق الإختبار والثواب ، ومصاديق الإبتلاء والجزاء ولكن الأثر المترتب عليها متباين ، إذ أن الذي يأتي ثواباً يكون كالمدد للمؤمن في إكتنازه للصالحات وفي السلامة في موضوع الإختبار والإبتلاء في الدنيا ، قال تعالى [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
السابع : ومن يرد ثواب الدنيا لزيادة الإيمان والهدى [نُؤْتِهِ مِنْهَا]للتسليم من جهات :
الأولى : وجود ثواب خاص في الدنيا .
الثانية : لا يقدر على ثواب الدنيا إلا الله عز وجل .
الثالثة : ثواب الدنيا رحمة مستحدثة، وفضل من عند الله وسياحة في عالم الملكوت ، فحينما يفوز المسلم بثواب الدنيا يزداد إيماناً وتصديقاً ويحسن توكله على الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] ( ).
الثامن : ومن يرد ثواب الدنيا للبشارة بنبوة محمد [نُؤْتِهِ مِنْهَا]، ليكون هذا الثواب وسيلة لجذب الناس للإيمان .
التاسع : ومن يرد ثواب الدنيا مقدمة لثواب الآخرة [نُؤْتِهِ مِنْهَا].
ومن هذا الثواب إطالة العمر وتأجيل ساعة قبض الروح ، وذات الكتاب المؤجل ، ليكون من وجوه الإختبار والإمتحان في الدنيا هو هل يسأل العبد ثواب الدنيا وثواب الآخرة أم أصر على الجحود وإرتكز على جهده ولهثه وراء الدنيا .
العاشر : ومن يرد ثواب الدنيا لبعث السكينة في نفسه وإجتهاده بالشكر لله [نُؤْتِهِ مِنْهَا].
وفي التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] ( )ليكون من ثواب الدنيا في المقام أمور:
الأول : الهداية إلى سؤال الله بالأمر الخارق للعادة .
الثاني : بيان فضل الله .
الثالث : رؤية إبراهيم لكيفية إحياء الموتى .
الرابع : إستجابة الله عز وجل لإبراهيم .
الخامس : كلام الله عز وجل مع إبراهيم [قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ].
السادس : بيان إبراهيم لحجته وتفضل الله بقبولها، وجعل موضوعية لطمأنينة نفس إبراهيم .
السابع : إتخاذ ثواب الدنيا والإستجابة في مثال إحياء الموتى باعثاً على حسن التوكل وسبباً للجهاد في سبيل الله.
عن ابن عباس قال : إن إبراهيم مرّ برجل ميت زعموا أنه حبشي على ساحل البحر ، فرأى دواب البحر تخرج فتأكل منه ، وسباع الأرض تأتيه فتأكل منه ، والطير تقع عليه فتأكل منه .
فقال إبراهيم عند ذلك : رب هذه دواب البحر تأكل من هذا ، وسباع الأرض والطير ، ثم تميت هذه فتبلى ، ثم تحييها فأرني كيف تحيي الموتى؟ .
قال : أولم تؤمن يا إبراهيم أني أحيي الموتى؟ قال : بلى يا رب ولكن ليطمئن قلبي . يقول : لأرى من آياتك وأعلم أنك قد أجبتني .
فقال الله : خذ أربعة من الطير فصنع ما صنع ، والطير الذي أخذه : وز ورال ، وديك ، وطاوس، وأخذ نصفين مختلفين ثم أتى أربعة أجبل ، فجعل على كل جبل نصفين مختلفين ، وهو قوله { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً }( ) ثم تنحى ورؤوسهما تحت قدميه ، فدعا باسم الله الأعظم ، فرجع كل نصف إلى نصفه وكل ريش إلى طائره ، ثم أقبلت تطير بغير رؤوس إلى قدمه تريد رؤوسها بأعناقها ، فرفع قدمه فوضع كل طائر منها عنقه في رأسه فعادت كما كانت { واعلم أن الله عزيز } يقول : مقتدر على ما يشاء { حكيم } يقول : محكم لما أراد . الرال فرخ النعام( ).
وورد قريب منه عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: وأن الطيور كانت الديك والحمامة والطاوس والغراب، وكانت الجبال التي جعل عليها أعضاء الطيور المقطعة عشرة.
المسألة السابعة : تضمنت آية السياق إشراقة شمس التقوى على القلوب المنكسرة بالعطاء والهبات من عند الله بأنه سبحانه يرّغب الناس بثواب الآخرة مع حاجتهم إلى كل فرد منه ، وجاء هذا الترغيب بالقرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخصوص آية البحث ليكون موضوعاً للترغيب بالإسلام، قال تعالى[وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي]( ).
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : ومن يرد ثواب الآخرة لغرض الصلاح في الدنيا [نُؤْتِهِ مِنْهَا].
فمن بديع خلق الإنسان وأهليته للخلافة في الأرض أنه يسأل الله ثواب الآخرة وهو في الدنيا لم يغادرها بعد ليتخذ من إستجابة الله عز وجل لسؤاله هذا رشاداً وخلاصاً في الدنيا يكون مقدمة وطريقاً للفوز بنعيم الآخرة .
الثاني : ومن يرد ثواب الآخرة للنجاة من العذاب الأليم يوم القيامة [نُؤْتِهِ مِنْهَا].
وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يأتي الله بالمؤمن يوم القيامة فيقربه منه حتى يجعله في حجابه من جميع الخلق ، فيقول له : اقرأه . فيعرفه ذنباً ذنباً فيقول : أتعرف أتعرف؟ فيقول : نعم ، نعم . فيلتفت العبد يمنة ويسرة فيقول له الرب : لا بأس عليك يا عبدي أنت كنت في ستري من جميع خلقي وليس بيني وبينك اليوم من يطلع على ذنوبك ، اذهب فقد غفرتها لك بحرف واحد من جميع ما أتيتني به . فيقول : يا رب ما هو؟ قال : كنت لا ترجو العفو من أحد غيري فهانت علي ذنوبك ، وأما الكافر فيقرأ ذنوبه على رؤوس الأشهاد { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ( ).
الثالث : ومن يرد ثواب الآخرة جزاءً من عند الله [نُؤْتِهِ مِنْهَا] أي من الآخرة ونعيمها وصرف أهوال الآخرة ، وهل يمكن القول : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها في الدنيا ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : وردت الآية بصيغة العموم في الإتيان من غير تقييده بعالم مخصوص .
الثانية : إرادة الإطلاق في المواضيع التي يؤتي الله عز وجل منها العبد الذي يريد ثواب الآخرة .
الثالثة : من فضل الله عز وجل أن تكون منافع ورشحات ثواب الآخرة في الدنيا خاصة وأن سؤال العبد له جاء في الدنيا .
الرابعة : من مصاديق ثواب الآخرة في الدنيا إصلاح المسلم للعمل للآخرة والفوز بالكثير من ثوابها والإجتهاد بالإستغفار والدعاء ، فقد جاءت آية السياق بالتبعيض [نُؤْتِهِ مِنْهَا]وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فيسأل المسلم الله عز وجل لزيادة ذات الثواب .
الخامسة :ومن يرد ثواب الآخرة فضلاً من عند الله [نُؤْتِهِ مِنْهَا]، قال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
وتقدير الآية اعلاه بلحاظ آية السياق من جهات :
الأولى : تقييد موت الإنسان بانه باذن الله , وهناك ملازمة بين إذن الله وفضله سبحانه مما يدل على أن أوان موت الإنسان هو أحسن حال له فالنبي بلغ رسالته، وأصلح أمة من بعده لتعاهد الأحكام التي جاء بها والتصديق بمعجزته، والمؤمن إكتنز من الحسنات، والكافر يعجل به لمنع تماديه بالآثام والفواحش.
الثانية : جعل الموت [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] وشمول كل إنسان بهذا التأجيل من فضل الله عز وجل على الفرد والجماعة ، فينعم الله على إنسان ما بطول العمر ودفع الأجل ،قال تعالى فيكون مناسبة متجددة كل يوم لأداء الفرائض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وزيادة النسل وكثرة الإنجاب ومعه يتوالى الرزق.
الثالثة : تلمس آيات مصاديق الفضل الإلهي بثواب الدنيا الذي وعد الله عز وجل به في آية السياق وصيرورته أمنا من الفاقة والظلم .
المسألة الثامنة : أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] وفيه بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : نيل الربيين من أصحاب الأنبياء درجة الشاكرين , وفي قوله تعالى[اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ]( )، روى أن عيسى عليه السلام :لما دعا بما دعا وأُجيب بما أجيب ، إذا بسفْرةٍ حمراءَ نزلت بين غمامتين ، غمامةٌ من فوقها وغمامةٌ من تحتها ، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم .
فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام , وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمةً للعالمين ، ولا تجعلها مُثْلةً وعقوبة ، ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ، ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خيرِ الرازقين ، فإذا سَمَكةٌ مشوية بلا فلوس ولا شَوْك تسيل دسَماً ، وعند رأسها مِلْحٌ وعند ذنبها خَلٌّ ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكُرَّاثَ ، وإذا خمسةُ أرغفةٍ على واحد منها زيتونٌ ، وعلى الثاني عَسَلٌ ، وعلى الثالث سَمْنٌ ، وعلى الرابع جُبْنٌ ، وعلى الخامس قدَيدٌ ، فقال شمعونُ رأسُ الحواريين : يا روحَ الله أمن طعام الدنيا أو من طعام الآخرة؟ قال : ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بالقُدرة العالية ، كلوا ما سألتم واشكروا يُمدِدْكم الله ويزِدْكم من فضله ، فقالوا : يا روحَ الله لو أَرَيتَنا من هذه الآية آيةً أخرى؟ فقال : يا سمكةُ احْيَيْ بإذنِ الله ، فاضطربت ، ثم قال لها : عُودي كما كنت ، فعادَتْ مشويةً ثم طارت المائدة( ).
الثانية :من الخصال الحميدة التي نال بها [الربيون ] هذه المرتبة تصديقهم بنبي زمانهم ، وتلقي الأحكام الشرعية بالقبول والإمتثال ، وهو من المصاديق العملية لشكرهم لله عز وجل على نعمة النبوة .
الثالثة : يتضمن سؤال الربيين العفو والمغفرة الشكر لله عز وجل على أمور :
الأول : إدراك العبد بأن الذنب معصية يجب الإستغفار منها .
الثاني : تفضل الله عز وجل باطالة عمر العبد إلى حين يسأله معه العفو والمغفرة عن ذنوبه أزاء نفسه وظلمه لغيره، وعن أبي ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عزوجل انه قال انى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا .
يا عبادي انكم الذين تخطؤن بالليل والنهار وانا الذى اغفر الذنوب ولا ابالى فاستغفروني اغفر لكم ، يا عبادي كلكم جائع الامن اطعمت فاستطعموني اطعمكم ، يا عبادي كلكم عار الا من كسوته فاستكسوني اكسكم ; يا عبادي لو ان اولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على اتقى قلب رجل منكم لم يزد ذلك في ملكى شيئا .
يا عبادي لو ان أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على افجر قلب رجل منكم لم ينقص ذلك من ملكى شيئا ; يا عبادى لو ان اولكم وآخركم وانسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني ثم اعطيت كل انسان منهم ما سأل لم ينقص ذلك من ملكى شيئا الا كما ينقص البحر يغمس فيه المخيط غمسة واحدة يا عبادي انما هي اعمالكم احفظها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه( ).
الثالث : فضل الله عز وجل في الإستجابة للدعاء ومحو الذنوب ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى] ( ).
الرابع : تأتي الهداية إلى الإستغفار وسؤال العفو والمغفرة بفضل من عند الله سواء بالذات أو بالواسطة ، وليس من حصر لوسائط هذه الهداية، وكل آية من القرآن واسطة متعددة للهداية ، وكذا السنة النبوية ، وقد تكون الواسطة من البشر، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة :جاءت آية البحث بالسؤال والدعاء من قبل الربيين ويبين قوله تعالى [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ]عاقبة ونتيجة هذا الدعاء ، وهو الإستجابة من عند الله عز وجل لهم والعفو عن خطاياهم والتجاوز عن سيئاتهم لأنهم من الشاكرين ومن الجزاء العاجل لهم الإستجابة لسؤالهم.
الخامسة : يفتح قوله تعالى[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ]الباب للمؤمنين في كل زمان للدعاء والعمل في مرضاة الله لما فيها من الوعد الكريم بالجزاء.
وهل يختص الجزاء بالإستجابة للدعاء الجواب لا ، إذ يتضمن الوعد الكريم بالفضل من عند الله ومنه البعث على المسألة والترغيب بالدعاء من مقامات الإيمان .
ويكون من مصاديق آية البحث وجوه :
الأول : إغفر لنا ذنوبنا الآن .
الثاني : إغفر لنا ذنوبنا يوم القيامة .
الثالث : إغفر لنا ذنوبنا التي قد نفعلها في المستقبل، وتلك آية من فضل الله بأن يفوز الربيون بمرتبة سؤال العفو عن الذنب السابق واللاحق .
المسألة التاسعة : بيان قانون في حياة الربيين ، وهو الملازمة بين العمل والقول مع إتحاد سنخية الخير، ويتجلى العمل بوجوه :
الأول : الإيمان بالنبوة .
الثاني : القتال مع نبي الزمان في سوح المعارك ، ترى ما هي غايات القتال , فيه مسائل:
الأولى : الدفاع عن النبي والذب عنه ، وتعاهد سلامته .
الثانية : الدفاع عن الأهل والعرض والمال ،لأن الكفار لا يطلبون إلا الظلم والبطش، قال تعالى[وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تقل والظالمون هم الكافرون، فبينهما عموم وخصوص مطلق فكل كافر هو ظالم وليس العكس وجاء دعاء الربيين في آية البحث لأمور:
الأول : إعلان العبودية التامة لله عز وجل.
الثاني : التسليم بأن الإستجابة لسؤال العفو لايقدر عليها إلا الله عز وجل.
الثالث : تنزه الربيين عن الغرور والكبر، فمع جهادهم في سبيل الله فانهم يتوسلون لمغفرة ذنوبهم.
الرابع : بيان قانون وهو سلامة الربيين من الغلو بالأنبياء، فهم مع صحبتهم للأنبياء ، لايسألون المغفرة إلا من عند الله , وتقدم قبل آيات قوله تعالى[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ]( ).
الثالثة : علم الناس بالمعجزة التي جاء بها النبي والتدبر في معانيها ودلالاتها.
الرابعة : دعوة الناس للإيمان .
الخامسة : البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتهيئة الأذهان لتلقيها بالتصديق .
السادسة : منع الكفر من الإستحواذ على النفوس .
السابعة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
ومن إعجاز الآية السابقة أن المعية مع النبي في القتال بقوله تعالى [يقاتلون معه] تزكية للربيين وإختبار يدل على سلامة نهجهم وعلى عدم تعديهم في القتال .
الثالث : العزيمة والصبر في تحقيق الغايات الحميدة وفي نشر سنن الإيمان وملاقاة الكفار .
وهل من موضوعية لوجود النبي بين ظهراني الربيين لبلوغهم مرتبة (عدم الوهن ) الجواب نعم ، وهو من بركات النبوة وإمامة الأنبياء وإتصافهم بكونهم [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
الرابع : العصمة من الإستكانة والذل أزاء العدو ، وهل يختص قوله تعالى [فَمَا اسْتَكَانُوا] بحال الحرب والقتال، الجواب لا ، لذا جاءت آية البحث بانحصار قولهم بالدعاء واللجوء إلى الله عز وجل مطلقاً أي في حال السراء والضراء .
الخامس : تحلي الربيين بخصلة الصبر والتحمل وتلقي الأذى في جنب الله بالرضا والسعي ولنشر وإقامة الشعائر ، وتنزيه الأرض من الرذائل، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
ومن الإعجاز أن خاتمة الآية السابقة جاءت بصيغة الإطلاق من جهات :
الأولى : حب الله عز وجل للصابرين من غير تقييد لخصائص الكم والكيف لهذا الحب لأن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم والأحسن .
الثانية : العموم في الصابرين الذين يحبهم الله عز وجل دون حصر بالربيين بل يشمل غيرهم من وجوه :
الأول : أصحاب الأنبياء مطلقاً الذين قاتلوا والذين لم يقاتلوا، والضابطة الكلية في الصبر هي التصديق بالنبي وتحمل الأذى والضرر بسبب هذا التصديق والإيمان.
المسألة العاشرة : تضمنت آية السياق الإخبار عن فضل الله باتيان رغائب الذين يدعونه بخصوص الدنيا والآخرة بقوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا] .
وتحتمل مضامين آية البحث وجوهاً :
الأول : إستغفار الربيين وسؤالهم ثواب الدنيا .
الثاني : تعلق دعاء وسؤال الربيين بثواب الآخرة .
الثالث : وردت مضامين آية البحث بخصوص العمل والسعي في الحياة الدنيا .
الرابع : الثواب أمر آخر يترشح عن السعي في الدنيا .
الخامس : إرادة التفصيل فمن قول الربيين في آية البحث ما يتعلق بثواب الحياة الدنيا ومنه ما يتعلق بثواب الآخرة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث وهو من شذرات الإعجاز في الآية فلا يموت أي من أصحاب الأنبياء إلا وقد جاهد بالسيف في سبيل الله وأخلص في عبادته وتضرع إلى الله رجاء العفو والمغفرة والرحمة
وهو من أسرار قوله تعالى بخصوص الموت [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] ( )، وفيه برهان بأن هذا التأجيل رحمة من عند الله على الربيين والناس جميعاً لإفادة الجمع بين آية البحث وآية السياق حث الناس على الإستغفار وسؤال النصر على الكفار وليس كل الأزمنة فيها قتال بين المؤمنين والكفار .
فهل يكون قوله تعالى [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] سالبة بانتفاء الموضوع أحياناً ، وتختص الآية بالإستغفار وسؤال العفو عن الذنوب والإسراف كما في عتق الرقبة في قوله تعالى في كفارة اليمين [إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] ( )فان العبيد والأماء غير موجودين في هذا الزمان فيسقط هذا الفرد من أصناف الكفارة لتعذره ،الجواب إنه قياس مع الفارق من جهات :
الأولى : وردت آية البحث بخصوص الربيين وهي تحكي جهادهم في سبيل الله .
لذا ذكرت أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا , ولم تذكر الذين لم يقاتلوا منهم .
الثانية : النصر على الكفار أعم من أن يختص بساحات الوغى ، فأداء الفرائض والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصر عليهم ودعوة للناس للإسلام .
الثالثة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، والتباين فيها بين الإيمان والكفر مستمر ، لذا يسأل المؤمنون النصر على الكفار في حال الحرب والقتال وفي مقدماته ، ليكون الدعاء سلاحاً وحرزاً إذا وقع القتال معهم، وهل الدعاء الوارد في آية البحث من مصاديق قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، الجواب نعم، فالدعاء من القوة الذاتية وأسباب المنعة ورجاء لنزول المدد من عند الله.
المسألة الحادية عشرة : إبتدأت كل من آية البحث والسياق بصيغة الحصر ، يقصر فيها الموصوف على الصفة ، ليفيد الجمع بينهما الدعوة لجعل الدنيا نفعاً محضاً من وجوه :
الأول : صيرورة الدنيا دار الدعوة للتوحيد .
الثاني : الحياة الدنيا وعاء ومناسبة للإجتهاد بالبر والتقوى وعمل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الثالث : دفع كيد الظالمين وشرور الكافرين .
الرابع : الدنيا دار الإقتداء بالربيين ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن .
فحصرت آية السياق أوان موت الإنسان باذن الله عز وجل ، وحصرت آية البحث قول الربيين بالدعاء والإستغفار والتوسل للثبات في منازل الإيمان ليفيد الجمع بينهما أموراً :
الأول : حسن عاقبة الربيين وأنهم غادروا الدنيا والله عز وجل راض عنهم .
الثاني : البشارة للمسلمين بأن الله عز وجل يمهلهم حتى يصلحوا حالهم، ويكتنزوا من الصالحات.
الثالث : دعوة الناس للتوبة والإنابة، والإقتداء بالربيين، وهو من إعجاز القرآن بأن تكون قصصه أمثالاً ومواعظ يقتبس منها المسلمون والناس العبر وضروب الحكمة.
الرابع : بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار وجعلهم في حال يأس من إحتمال إنقلاب طائفة من المسلمين، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
الثالث :صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ…]( )، وفيها مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وما محمد إلا رسول قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
الثاني : قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وما محمد إلا رسول.
الثالث : وما محمد إلا رسول ربنا اغفر لنا اسرافنا في أمرنا.
الرابع : وما محمد إلا رسول ربنا ثبت أقدامنا.
الخامس : وما محمد إلا رسول ربنا انصرنا على القوم الكافرين.
السادس : أفاين مات محمد أو قتل ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
السابع : افائن مات محمد أو قتل ربنا ثبت أقدامنا.
الثامن : أفائن مات محمد أو قتل ربنا انصرنا على القوم الكافرين.
التاسع : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً.
العاشر : ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً.
الحادي عشر : ربنا ثبت أقدامنا ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً.
الثاني عشر : ربنا انصرنا على القوم الكافرين ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً.
الثالث عشر : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وسيجزي الله الشاكرين .
الرابع عشر : قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا وسيجزي الله الشاكرين.
الخامس عشر : قالوا ربنا ثبت أقدامنا وسيجزي الله الشاكرين.
السادس عشر : قالوا ربنا انصرنا على القوم الكافرين وسيجزي الله الشاكرين.
السابع عشر : قد خلت من قبله الرسل [قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] وهل يصح تقدير الآية : قد خلت من قبله رسل وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا الجواب قول الرسل أعم في الدعوة إلى الله، لأن الرسل يتخذون اللسان والكلام للبشارة والإنذار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسنن الإمامة .
الثامن عشر : قد خلت من قبله الرسل قالوا ربنا ثبت أقدامنا.
التاسع عشر : قد خلت من قبله الرسل قالوا ربنا انصرنا على القوم الكافرين.
المسألة الثانية : إبتدأت كل من آيتي البحث والسياق بصيغة القصر وفيه تأكيد إضافي لمعاني القطع في مضامين آيات القرآن، وبينهما عموم وخصوص من وجه ، إذ يتعلق موضوع القطع في آية السياق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينما يتعلق في آية البحث بخصوص أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم.
وإخبار آية السياق عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شهادة سماوية على صدق الإخبار المتعدد الوارد في آية البحث، لذا تفضل الله وجعل الإخبار عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متقدماً في نظم الآيات على هذا الإخبار، مع أن ترتيبه الزماني بخلافه ليكون من معاني قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( )، أن هذه القصص من أفراد وخصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : إخبار الذين قاتلوا مع الأنبياء ونيلهم مرتبة الربيين من علوم الغيب التي لا يعلمها إلا الله، ترى هل كان الربيون يعلمون بنيلهم هذه المرتبة ، وهل كانوا يُسمون بهذه التسمية، مع كل نبي من الأنبياء السابقين .
الجواب لا دليل عليه، ولكن القرآن جاء [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، والجمع بين الاسم والمسمى وأخبر عن منازل الناس يوم القيامة، ليعرفهم المسلمون باسمائهم وأفعالهم , قال تعالى[يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ]( ).
وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ليس من عبد يقول لا إله إلا الله مرة إلا بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر( ).
ومن خصائص صيغة القصر في الآيتين بيان إتحاد سنخية النبوة، وصفات الصحابة، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : المؤمنون الذين قاتلوا مع الأنبياء السابقين ربيون.
الصغرى : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قاتل معه مؤمنون.
النتيجة : المؤمنون الذين قاتلوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربيون.
الثانية : صيرورة قصص الأنبياء موعظة للمسلمين ، وإتخاذ المسلمين لسنة الأنبياء السابقين دليلاً ومنهاجاً ، وإجتنابهم لقبيح فعل الكفار .
الثالثة : تضمن قصص القرآن الترغيب بالصالحات والزجر عن فعل السيئات ، مع بيان مصاديق كل منهما بما لا يمنع من اللبس أو الترديد فحينما ذكرت الآية السابقة الربيين فإنها جاءت بشطر من صفاتهم ثم تعقبتها آية البحث ببيان صفات كريمة أخرى لهم .
الرابعة : جاءت الآية التالية [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] ( ) من أحسن القصص في القرآن لبيان إجتماع الثواب العاجل والآجل لأصحاب الأنبياء .
الخامسة : تبين قصص القرآن موضوعية الدعاء ، وجاءت آية البحث بخصوص سنة أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم فبعد أن جاءت تسميتهم بالآية السابقة [ الربيون ] تضمنت آية البحث ذكر أدعيتهم، وفيه ترغيب للمسلمين بالدعاء وتحذير من تركه أو الغفلة عنه في حال الشدة والرخاء.
وقد جاءت الآيات السابقة بالثناء على المتقين الذين أعدّ لهم الله الجنة الواسعة ، وذكرت شطراً من خصالهم بقوله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ،وبينت آية البحث والآية السابقة الصفات الحميدة للربيين وصبرهم في ميادين القتال وإنقطاعهم إلى الدعاء مما يدل على فوزهم بالمقام الكريم في النعيم الأخروي.
والجامع المشترك بين آية البحث والآية أعلاه هو الإستغفار والبشارة بالثواب العظيم عليه ليكون إستحقاقهم دخول الجنة بلحاظ جهادهم وصبرهم ، وأيضاً دعائهم وإستغفارهم .
المسألة الثالثة : تضمنت آية السياق تحذير المسلمين والمسلمات من الإنقلاب والإرتداد على الأعقاب بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، لتتغشى مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )المسلمين في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد مماته ، ويكون النهي عن الإرتداد مناسبة لنيل المسلمين مرتبة [ الربيين ] في الأجيال المتعاقبة بعد بعثته لبيان قانون كلي وهو وجود الربيين في الأزمنة السابقة واللاحقة.
فكما كان ربيون كثير مع كل نبي من الأنبياء الذين قاتلوا في سبيل الله ففي كل زمان هناك أمة مسلمة نالت مرتبة الربيين بالسلامة من الإرتداد عن الدين والعقيدة والإنقلاب عن أحكام الشريعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لذا يكون من معاني الجمع بين آية البحث والسياق الثناء على المسلمين ، وإذا أنعم الله عز وجل بنعمة على أهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها , وقد تفضل ورزق أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم درجة الرفعة وعلو المقام.
وأخرج[عن أنس قال : غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه ، لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع ، فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه.
فقال : يا أبا عمرو إلى أين؟ قال : واهاً لريح الجنة أجدها دون أحد ، فقاتل حتى قتل ، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورمية بسهم.
ونزلت هذه الآية { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بأن يرث المسلمون منزلة أصحاب الأنبياء ويتفضل الله عز وجل عليهم بنافلة من الخصال الحميدة ويمدهم في أداء الفرائض وييسر لهم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويهديهم إلى سنن الدعاء ويصرف عنهم السيئات والفواحش .
المسألة الرابعة : أخبرت آية السياق عن حقيقة بقوله تعالى [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( )فمن اللطف الإلهي بأجيال الناس أن الأنبياء يتعاقبون في الأرض ، ومنهم رسل أصحاب شرائع .
ويصح تقدير الآية على وجوه منها :
الأول : قد خلت من قبله رسل تبشر برسالته .
الثاني : قد خلت من قبله رسل قاتلوا في سبيل الله .
الثالث : قد خلت من قبله رسل قاتل معهم ربيون كثير .
الرابع : قد خلت من قبله رسل بذات نهج الجهاد في سبيل الله.
الخامس : قد خلت من قبله رسل ماتوا أو قتلوا.
السادس : قد خلت من قبله رسل ماتوا أو قتلوا فما انقلب أصحابهم على أعقابهم .
وكأن آية السياق مقدمة لمضامين آية البحث ، وبين الرسل الذين خلوا من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين الأنبياء الذين قاتل معهم الربيون عموم وخصوص مطلق ، فالرسل هم الأعم بلحاظ أن لفظ الرسل قد يأتي في القرآن عاماً وشاملاً للأنبياء وبلحاظ الرسالة والتبليغ من عند الله ، وهو من أسرار الجمع والترديد في قوله تعالى بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ]( )، أن الرسل قتل بعضهم ومات بعضهم الآخر فورد تشبيه فيما يخص خاتمة حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقدمت آية السياق أعلاه الموت على القتل ، وفيه مسائل :
الأولى : الأصل هو الموت ، ويأتي القتل بالعرض .
الثانية : يكون الإنسان معرضاً لطرو الموت في أي ساعة من عمره ، أما القتل فيكون في ساحة المعركة أو غيلة ، وهناك حالة وكيفية يطمئن منها الإنسان من القتل ، أما الموت فليس من برزخ يحول دون زيارة ملك الموت ، قال تعالى [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ] ( ) .
[وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن مجاهد قال : كان قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم امرأة ، وكان لها أجير فولدت المرأة فقالت لأجيرها : انطلق فاقتبس لي ناراً.
فانطلق الأجير فإذا هو برجلين قائمين على الباب! فقال أحدهما لصاحبه : وما ولدت؟ فقال : ولدت جارية . فقال أحدهما لصاحبه : لا تموت هذه الجارية حتى تزني بمائة ويتزوّجها الأجير ، ويكون موتها بعنكبوت . فقال الأجير : أما والله لأكذبن حديثهما ، فرمى بما في يده وأخذ السكين فشحذها وقال : ألا تراني أتزوجها بعدما تزني بمائة ، ففرى كبدها ورمى بالسكين وظن أنه قد قتلها ، فصاحت الصبية ، فقامت أمها فرأت بطنها قد شق فخاطته وداوته حتى برئت .
وركب الأجير رأسه فلبث ما شاء الله أن يلبث ، وأصاب الأجير مالاً ، فأراد أن يطلع أرضه فينظر من مات منهم ومن بقي ، فأقبل حتى نزل على عجوز، وقال للعجوز : أبغي لي أحسن امرأة في البلد أصيب منها وأعطيها ، فانطلقت العجوز إلى تلك المرأة ، وهي أحسن جارية في البلد ، فدعتها إلى الرجل وقالت : تصيبين منه معروفاً؟ فأبت عليها وقالت : إنه قد كان ذاك مني فيما مضى ، فأما اليوم فقد بدا لي أن لا أفعل.
فرجعت إلى الرجل فأخبرته فقال : فاخطبيها لي . فخطبها وتزوّجها فأعجب بها . فلما أنس إليها حدثها حديثه فقالت : والله لئن كنت صادقاً لقد حدثتني أمي حديثك ، وإني لتلك الجارية.
قال : أنتِ، قالت : أنا . . .
قال : والله لئن كنتِ أنتِ إن بكِ لعلامة لا تخفى . فكشف بطنها ، فإذا هو بأثر السكين فقال : صدقني والله الرجلان ، والله لقد زنيت بمائة ، وإني أنا الأجير ، وقد تزوّجتك ولتكونن الثالثة، وليكونن موتك بعنكبوت.
فقالت : والله لقد كان ذاك مني ، ولكن لا أدري مائة أو أقل أو أكثر . فقال : والله ما نقص واحداً ولا زاد واحداً ، ثم انطلق إلى ناحية القرية ، فبنى فيه مخافة العنكبوت ، فلبث ما شاء الله أن يلبث ، حتى إذا جاء الأجل ، ذهب ينظر فإذا هو بعنكبوت في سقف البيت وهي إلى جانبه فقال : والله إني لأرى العنكبوت في سقف البيت فقالت : هذه التي تزعمون أنها تقتلني ، والله لأقتلنها قبل أن تقتلني . فقام الرجل فزاولها وألقاها فقالت : والله لا يقتلها أحد غيري ، فوضعت أصبعها عليها فشدختها ، فطار السم حتى وقع بين الظفر واللحم ، فاسودت رجلها فماتت ، وأنزل الله على نبيه حين بعث { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة( ).
ولكن جعل هذه الواقعة على فرض صحتها سبباً لنزول الآية أعلاه أمر بعيد من وجوه :
الأول : دلالة نظم الآيات على إرادة حال القتال ، لقوله تعالى في الآية السابقة لها [فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً] ( ).
الثاني : مجئ الآية بلغة الخطاب للمسلمين ، وإرادة أجيالهم المتعاقبة .
الثالث : وردت الآية بصيغة الفعل المضارع، وعلى نحو متعدد [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمْ الْمَوْتُ].
الثالثة : قد يمحو الله القتل وإن أصبح قريباً من الإنسان ، قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
الرابعة : بيان لطف وعناية الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحصانته من القتل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
قال الواقدي: كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة: ما أحد يغتال محمدا فإنه يمشى في الاسواق فندرك ثأرنا ؟ فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله وقال له: إن أنت وفيتنى خرجت إليه حتى أغتاله، فإنى هاد بالطريق خريت( )، معي خنجر مثل خافية النسر.
قال: أنت صاحبنا.
وأعطاه بعيرا ونفقة وقال: اطو أمرك فإنى لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد.
قال: قال الأعرابي: لا يعلمه أحد.
فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا وصبح ظهر الحى يوم سادسة، ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المصلى فقال له قائل: قد توجه إلى بنى عبد الاشهل.
فخرج الاعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بنى عبد الاشهل فعقل راحلته ثم أقبل يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده.
فلما دخل ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه: إن هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده.
فوقف وقال: أيكم ابن عبدالمطلب ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا ابن عبدالمطلب.
فذهب ينحنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يساره فجبذه أسيد بن حضير وقال: تنح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجذب بداخل إزاره، فإذا الخنجر، فقال: يا رسول الله هذا غادر.
فأسقط في يد الأعرابي وقال: دمى دمى يا محمد.
وأخده أسيد بن حضير يلببه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اصدقني ما أنت وما أقدمك، فإن صدقتني نفعك الصدق، وإن كذبتني فقد اطلعت على ما هممت به.
قال الأعرابي : فأنا آمن ؟ قال: وأنت آمن.
فأخبره بخبر أبى سفيان وما جعل له.
فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير، ثم دعا به
من الغد فقال: قد أمنتك فاذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك ؟ قال: وما هو ؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفرق من الرجال، فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت ثم اطلعت على ما هممت به، فما سبقت به الركبان ولم يطلع عليه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبى سفيان حزب الشيطان.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم.
وأقام أياما ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر( ).
المسألة الخامسة : تبين آية البحث حقيقة وهي أن الربيين تعاهدوا سنن الإيمان بعد موت أو قتل نبي زمانهم ، فواظبوا على الإستغفار وإتخذوه مواساة بفقد النبي ، ولجأوا إلى الدعاء وتطلعوا بثبات إلى النصر على الكافرين الذي يدل بالدلالة التضمنية على عزمهم على مواصلة الجهاد والقتال حتى بعد فقد النبي ،لوجود المقتضي وفقد المانع .
فعلة القتال ليس وجود النبي بين ظهرانيهم وحده بل سطوة وتعدي الكفار ، ولزوم إزاحة سلطان مفاهيم الضلالة عن الأرض ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )حينما سألوه بصيغة الإستفهام الإنكاري عن جعل خليفة في الأرض وهو يزاول الفساد ، وبعض ذريته يقتل النفس المحترمة بغير حق ، فمن علم الله عز وجل صيرورة أصحاب للأنبياء يقاتلون معهم ويتخذون من مضامين دعائهم الوارد في آية البحث واقية من الملل والكلل وحرزاً من الفتور والوهن.
وتبين آية البحث صفحة مشرقة من إخلاص الربيين باجتهادهم بالدعاء المقرون بالثبات في منازل الهدى والإيمان والعزم على مواصلة الجهاد وقتال الكافرين، ليدل بالدلالة التضمنية على قبح الإنقلاب على الأعقاب .
وهل يدل على سلامة المسلمين من هذا الإنقلاب الجواب نعم ،للأولوية القطعية ، فلما ذكرت آية البحث عصمة أصحاب الأنبياء السابقين من الإنقلاب أخبر القرآن عن صيرورة المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
المسألة السادسة : يفيد الجمع بين آية البحث والسياق قانوناً وهو أن الدعاء واقية من الإنقلاب والإرتداد عن الإسلام، وعن مناهج الجهاد ، لذا تفضل الله عز وجل وندب المسلمين إلى الدعاء ورغّبهم فيه ووعدهم عليه بقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
لتكون مضامين آية البحث واقية من الإنقلاب من جهات:
الأولى : تلقي المؤمنين الآيات التي تنزل على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والإمتثال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ] وفيه وجوه :
الأول : وما محمد إلا رسول معه ربيون كثير .
الثاني : وما محمد إلا رسول قال ربنا اغفر لنا ذنوبنا فسأل الله عز وجل مغفرة ذنوب الأمة .
الثالث : وما محمد إلا رسول قال ربنا ثبت أقدامنا .
الرابع : وما محمد إلا رسول قال انصرنا على القوم الكافرين.
الثانية : جمع المؤمنين بين القتال في سبيل الله والإستغفار والدعاء .
الثالثة : لقد ثبت بالوجدان والوقائع التأريخية سلامة المؤمنين من الإنقلاب والإرتداد، ولا عبرة بالقليل من الذين إرتدوا فخرج المؤمنون لقتالهم ، أي أنهم لم يكتفوا بالإحتراز من الإنقلاب بل خرجوا لقتال المرتدين ومدعي النبوة كذباً وزوراً ، مع إستدامة قتالهم للكافرين ، وهو من مصاديق الخطاب الإلهي للمسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وهل يشمل الدعاء [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] المرتدين أم أنهم صنف آخر كما أن المنافقين صنف من الناس يخفي الكفر ويظهر الإيمان .
الجواب هو الأول ، فالمرتدون من الكافرين ، ليكون جهاد المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعدداً ، ويشمل أموراً :
الأول : محاربة النفس الشهوية وطرد الشك والوهم ، وهو من أسرار نزول آية السياق وقوله تعالى [أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ] لإرادة تهيئة أذهان المسلمين لأوان مغادرته الحياة الدنيا ووجوب البقاء في مقامات الإيمان.
ومن أسرار آية البحث تلاوة المسلمين لقوله تعالى [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا] وتقديره بلحاظ آية السياق على وجوه:
الأول : وثبت أقدامنا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال .
الثاني : وثبت أقدامنا في منازل التقوى .
الثالث : وثبت أقدامنا بالعصمة من أراجيف المنافقين، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
وفي الآية أعلاه تخفيف عن المؤمنين لما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوهن وضعف المنافقين وقلة تأثيرهم وضررهم .
الرابع : وثبت اقدامنا للسلامة من الإنقلاب على الأعقاب .
الخامس : وثبت أقدامنا في محاربة المرتدين والمارقين .
السادس : وثبت أقدامنا ليكون هذا الثبات من مصاديق الشكر لك سبحانك فنفوز بالجزاء الوارد في خاتمة آية السياق [وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ].
السابع : وثبت أقدامنا في التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
المسألة السابعة : من الإعجاز في الجمع بين آيتي البحث والسياق أن كلاً منهما ذكرت الأقدام مع التباين في الموضوع ، فورد ذكر الأعقاب في آية السياق في باب الإنذار من الإرتداد والإنقلاب للنهي عن الشك أو نفاذ الريب إلى النفوس ،لأن الرجوع على الأعقاب أمارة ومرآة لضعف الإيمان.
وذكرت آية البحث تثبيت الأقدام بلغة الدعاء والسؤال، لبيان قانون وهو أن تعاهد الإيمان لا يكون إلا بفضل ومدد من عند الله عز وجل ، وهو من أسرار توجه الدعاء بلفظ [ربنا ] لإفادة التسليم بالروبية المطلقة لله عز وجل وان مقاليد الأمور بيده سبحانه .
وفي التنزيل[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ]( ).
المسألة الثامنة : من معاني الجمع بين آية البحث والسياق أن الله عز وجل يحب أن يسئل في الأمور الخاصة والعامة والحاضر والمستقبل .
وهل يحب الله أن يسئل بخصوص الماضي الجواب نعم ، ومنه غفران الذنوب والتأسي بالمؤمنين من الأمم السابقة والذين تحكي وتوثق آية البحث والآية السابقة واللاحقة لها جهادهم وصبرهم وصيغ دعائهم , قال تعالى[وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وإذا كانت مضامين آية البحث كلها دعاء ومسألة ، فما هي وجوه الدعاء في آية السياق الجواب من وجوه :
الأول : التسليم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله وأنه جاء بالدعاء وحث على سؤال الله وطلب الحاجات منه تعالى.
وتقدير الآية :ربنا وما محمد إلا رسول) ، فالربيون توجهوا إلى الله بالدعاء أما المسلمون فان نبيهم إمام أهل الأرض بالدعاء والحاجة إلى الله , وفي الثناء على إبراهيم عليه السلام قال تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ] ( )، وعن جعفر الصادق أواه أي دعّاء( ).
وهذه النعمة على إبراهيم صارت عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : تلاوة المسلمين لآية السياق دعاء إلى الله تعالى بسؤال الشهادة منه تعالى ومن رسوله على إسلامهم وحسن سمتهم وتلقيهم نبوته ومعجزاته بالتصديق ، قال تعالى [وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( )وقال سبحانه [وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا]( ).
الثالث : يتلو المسلمون قوله تعالى [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( )لتدل هذه التلاوة على تصديق المسلمين بالأنبياء السابقين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي وهو من الشواهد على مشاطرتهم لأصحاب الأنبياء السابقين لمرتبة (الربيين).
الرابع : بعد أن نزلت آية السياق لقوله تعالى بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ] توجه المسلمون بالدعاء من جهتين :
الأولى : سؤال طول عمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو من مصاديق قوله تعالى في الآية قبل السابقة [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] ( ).
الثانية : الدعاء لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والغدر والغيلة [عن عروة بن الزبير قال: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة همّ جماعة من المنافقين بالفتك به وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي وصعد هو العقبة، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه، عمار آخذ بزمام الناقة وحذيفة يسوقها.
فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم.
فغضب رسول الله وأبصر حذيفة غضبه فرجع إليهم ومعه محجن( )، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد أظهر على ما أضمروه من الامر العظيم، فأسرعوا حتى خالطوا الناس.
وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة ووقفوا ينتظرون الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: ” هل عرفت هؤلاء القوم ، قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم.
ثم قال: علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب ، قالا: لا.
فأخبرهما بما كانوا تمالاوا عليه وسماهم لهما واستكتمهما ذلك.
فقالا: يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم ، فقال: أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.
وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده] ( ).
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً بسلامة ونجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من محاولات القتل المتكررة ليتم الله عز وجل نوره بنزول آيات القرآن كلها , وتبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالته.
الخامس : دعاء المسلمين للنجاة من الإنقلاب والإرتداد ، وقد تقدم في الجزء الخامس عشر بعد المائة من هذا التفسير أن بين الإرتداد والإنقلاب عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فالإنقلاب أعم فلا ينحصر موضوع الآية بالإرتداد .
السادس : الدعاء للسلامة من شر الذي ينقلب على عقبيه بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا تنحصر وظيفة المسلمين في المقام بالدعاء بل لابد من التصدي لزجر ونهي الذي يفرط في عباداته ، ويعمل على الإنقلاب والإرتداد ، لذا جاءت آية البحث والآية السابقة ببعث المؤمنين على الجهاد الذاتي لتعاهد بقاء المسلمين على منهاج وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وذكرت آية السياق قوله تعالى [وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا]لكن هل يضر المؤمنين الجواب لا ، وهو الذي تؤكده آية البحث إذ تحث المسلمين على الإقتداء بالمؤمنين من الأمم السابقة في لجوئهم إلى الإستغفار مع العزم على الثبات في درجات اليقين وعدم الإصغاء لأهل الشك والريب , وهذا الثبات وسيلة لرجوع الذين إنقلبوا وتوبتهم وصلاحهم .
السابع : أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ].
وفيه مناسبة للدعاء من جهات :
الأولى : دعاء المسلمين لجعلهم من الشاكرين، فصحيح أن موضوع آية السياق هو حال المسلمين بعد نقل الله عز وجل النبي محمداً إلى جواره حين أتم تبليغ الرسالة الخاتمة ولكنها أختتمت بقانون كلي من جهتين :
الأولى : مصداق شمول الشاكرين لأجيال الناس من أيام أبينا آدم وإلى النفخ في الصور.
الثانية : إنبساط الجزاء المذكور في آية السياق من وجوه :
الأول : مصاحبة الجزاء للشكر فحالما يشكر العبد الله عز وجل يأتيه الجزاء .
الثاني : إتحاد كلمة أو موضوع الشكر مخصوصة مع تعدد موضوع الجزاء ، فيشكر المسلم الله عز وجل على نعمه فيتوالى عليه الجزاء وهل يكون منه اللطف الإلهي بالإيمان على تجديد الشكر على ذات النعمة أو غيرها .
الجواب نعم ، وتلك آية في خلافة الإنسان في الأرض بأن يجازي الله عز وجل الإنسان على شكره بجعله يكثر من الشكر لتترى عليه النعم والفضل من عند الله .
الثالث : مجئ الجزاء لذات العبد الشاكر ولبنيه وأحفاده من بعده ، وفي قوله تعالى [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا]( )، وعن القرطبي : واسمهما أصرم وصريم) ويدل لفظ [يتيمين] على صغرهما وأن سن كل واحد منهما دون سن البلوغ لقول النبي : لا يتم بعد بلوغ( ).
والمراد من اليتيم الصغير الذي مات عنه أبوه , لأن اليتيم في الناس من طرف الأب، وعن الأمام جعفر الصادق عليه السلام يقول : ان الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده ، ويحفظه في دويرته ودويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله ثم ذكر الغلامين فقال : ( وكان أبوهما صالحا ) ألم تر ان الله شكر صلاح أبويهما لهما] ( ) .
كان ابوهما الصالح جدهما السابع وكان إسمه [ كاشح ، وكان من الأتقياء. ذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاح ، وكان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة آباء( ).
المسألة التاسعة : يفيد الجمع بين الآيتين أن الربيين يدخلون الجنة لجمعهم بين الجهاد والصبر اللذين ذكرتهما آية السياق ليكون هذا المعنى تفسيراً لثواب الآخرة الذي يتفضل به الله عز وجل على الربيين بقوله تعالى[فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ]( ) .
وقد ذكرتُ المعنى المستحدث الذي أذهب اليه في تفسير آية السياق وأنها بشارة للمسلمين جميعاً بأنهم يدخلون الجنة بجهاد فريق منهم لأن الخطاب ورد فيها بصيغة العموم الإستغراقي الشامل للمسلمين والمسلمات، وتقديره : أم حسبتم أيها المسلمون والمسلمات، أن تدخلوا الجنة فان قلت إذا كان المجاهدون يدخلون الجنة بعملهم وصبرهم، فبماذا يدخل عموم المسلمين الجنة، الجواب من وجوه :
الأول : الإقرار بالعبودية لله عز وجل، وعن أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل: أعلم أنه من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة( ).
وعن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : ذكروا عنده من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة ، فقال الضحاك : هذا قبل أن تحد الحدود وتنزل الفرائض( ).
ولا دليل على هذا التقييد والتشديد من الضحاك ، ولو كان لبان، ولصدر قول من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبين هذا التقييد ويخصص عموم الحديث، إنما هو من فضل الله، نعم أداء الفرائض من رشحات الإقرار بالتوحيد، لأنه من عمل القلب والجوارح فكذا جاءت البشارة بالجنة للذين يجمعون بين الإيمان وعمل الصالحات قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ]( ).
نعم لا تعني شهادة التوحيد أنه لايضر مع الإيمان ذنب، أما الشطر الآخر وهو لا تنفع مع الكفر طاعة فهو صحيح.
المسألة العاشرة : ذكرت آية السياق الجهاد في خطاب للمسلمين، ولم تذكر آيات الربيين الثلاثة موضوع الجهاد، بل ذكرت القتال بقوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ) .
وبين الجهاد والقتال عموم وخصوص مطلق فالجهاد أعم، والقتال أشد مصاديقه، وتبين هذه الآيات أن حياة الربيين كلها جهاد في سبيل الله.
وتتصف حياة الربيين بأنها جهاد محض، وسعي دؤوب في سبيل الله، ومحاربة للنفس الشهوية، فهم لم يلتفتوا إلى الدنيا وزينتها، بل توجهوا رياض الجنة من وجوه :
الأول : الجهاد والقتال .
الثاني : الصبر في طاعة الله .
الثالث : الدعاء والتضرع والمسألة .
الرابع : إتخاذ الدنيا بلغة إلى النعيم المقيم في الآخرة.
المسألة الحادية عشرة : تضمنت آية السياق الثناء على الصابرين من المسلمين بقوله تعالى[وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ].
ويتجلى في آية البحث أن هذا الثناء لايختص بالمسلمين بل يشمل المؤمنين في الأجيال المتعاقبة منذ أول هبوط آدم إلى الأرض، لذا من إعجاز ظاهر آية السياق مجيؤها بصيغة العموم[وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] بدليل إختتام الآية السابقة (آية الربيين) بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] لبيان إصطباغ أعمال الربيين بالصبر وحبس النفس على الأذى في جنب الله.
ووردت آية البحث بالدعاء والمسألة , وتحتمل الصلة بين الدعاء والصبر وجوهاً:
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق فالدعاء من مصاديق وأفراد الصبر.
الثاني : الصبر هو الدعاء والنسبة بينهما التساوي.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الصبر والدعاء.
الرابع : نسبة التباين بين الصبر والدعاء، وليس من صلة وملازمة بينهما.
والصحيح هو الأول، فالدعاء صبر في مرضاة الله، وهو من مصاديق الصبر في الحياة الدنيا، لتجتمع خصال الصبر عند الربيين في العمل والقول، وقدمت هذه الآيات العمل والقتال لوجوه:
الأول : الأصل في الصبر والجهاد العمل والبذل في النفس والمال.
الثاني : بيان عز المؤمنين في الدفاع بالسيف وخوض القتال.
الثالث : الإخبار عن قبح فعل الكافرين، وعدم إنزجارهم إلا بالسيف.
الرابع : تأكيد حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بالقتال، بل إن الأنبياء السابقين قاتلوا في سبيل الله، وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ]( ).
الرابع : صلة هذه الآية بقوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]وفيه مسائل:
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم وقالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا .
الثاني : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا .
الثالث :ربنا اغفر لنا ذنوبنا ويعلم الصابرين .
الرابع : ربنا إغفر لنا إسرافنا في أمرنا ويعلم الصابرين .
الخامس : ربنا ثبت أقدامنا ويعلم الصابرين .
السادس : ربنا انصرنا على القوم الكافرين ويعلم الصابرين .
المسألة الثانية : جاءت آية السياق بصيغة الإستفهام الباعث على العمل والترغيب بالجهاد والصبر ، وهذا الإستفهام مدرسة في علم الإجتماع وإيقاظ الهمم ، وإيجاد وتوجيه عالم الفعل .
ويبتنى هذا البحث على أصل يتقوم به وجود الإنسان وهو إحاطة الله علماً بكل شيء ، إذ أنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان وسواه ورزقه ولا تمر لحظة على أي إنسان إلا وهي من رحمة الله به ، وبعلم منه سبحانه ، وهو من مصاديق قوله تعالى قبل آيتين [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً] ( )إذ ينبسط هذا التأجيل على أعداد غير متناهية من الشهيق والزفير للإنسان فكل نفس يصعد عند الإنسان فيه مسائل:
الأولى : هو بعلم الله.
الثانية : هو من الكتاب المؤجل لما فيه من إستدامة الحياة.
الثالثة : إنه نعمة قائمة بذاتها، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
الرابعة : لما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بأن الإنسان[يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، أقام الله عز وجل الحجة عليهم بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله عز وجل أن قبض روح الإنسان بيد الله ليكون الشهيق والزفير أقل مراتب وأفراد قوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً] هو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً ، وكل ممكن محتاج ، وحاجة الخلائق ملازمة ومصاحبة لها ، ومنها الإنسان في تنفسه وغذائه فجاءت كل من آية السياق والبحث لدوام النعم على المؤمنين بالجهاد والصبر .
ذكرت آية السياق [الجنة ] وهي دار الخلود في النعيم في الآخرة ، وبينت أن الجهاد والصبر طريق اللبث فيها، (عن بشير ابن الخصاصية السدوسي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبايعه ، فاشترط علي : تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وتصلي الخمس ، وتصوم رمضان ، وتؤدي الزكاة ، وتحج البيت ، وتجاهد في سبيل الله . فقلت : يا رسول الله ، أما اثنتان فلا أطيقهما : فوالله ما لي إلا عشر ذود( ) ، رسل أهلي وحمولتهم ، وأما الجهاد ، فيزعمون أنه من ولى باء بغضب من الله ، فأخاف إذا حضر قتال جشعت نفسي ، وكرهت الموت . فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، ثم حركها ، ثم قال : لا صدقة ولا جهاد ، فبم تدخل الجنة ؟ فبايعته عليهن كلهن] ( ).
وهذا الحديث بيان لآية السياق بلحاظ أن أداء كل فريضة من الفرائض العبادية هي صبر في ذاته وموضوعه ويتضمن حقيقة وهي أن بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغة لدخول الجنة بشرط العمل بمضامين وقواعد البيعة , ومنها الجهاد في سبيل الله لملاقاة كفار قريش الذين كانوا يزحفون على المدينة المنورة لمحو دولة الإسلام في بداية نشوئها , ليرتقي المسلم إلى منزلة الربيين.
وجاءت آية البحث للسعي لدخول الجنة بالإسغفار والدعاء ، وفيه تخفيف عن المسلمين ، ودعوة سماوية لإلتماس بلغة ذاتية إلى الجنة من غير مفاعلة وإقتتال [عن شداد بن أوس ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : سيد الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، وأبوء بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي ، فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، فإن من قالها بعد ما يمسي ، فمات من ليلته دخل الجنة ، وإن قالها بعدما يصبح من نومه دخل الجنة( ).
ومن معاني آية البحث أنها من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، بلحاظ أن مضامينها وما تبعث من الفعل حسنة بالذات والأثر ، وهي طريق إلى دخول الجنة من وجوه :
الأول : الإستغفار عنوان التوبة وسبيل الفوز بالعفو من عند الله ، والأمن من عذاب القبر ، وإزاحة للأوزار عن كاهل الإنسان يوم القيامة .
الثاني : جاء سؤال الإستغفار في آية البحث متعدداً في طلب العفو عن الذنوب , وعن الإسراف والتفريط في العبادات ، وعدم الإنتفاع الأمثل من الدنيا كمزرعة للآخرة .
وفي الآية شاهد بأن التقصير مصاحب للإنسان في مناسكه وهي مناسبة للتقرب إلى الله عز وجل بالإستغفار وما يدل عليه بالدلالة التضمنية من الإقرار بالتقصير .
الثالث : اللجوء إلى الله عز وجل وسؤال ثبات الأقدام في مواطن الضراء وحين البأس والشدة وعند السعة والرخاء ، فالغنى نعمة عظيمة وجاء الدعاء في آية البحث كيلا يكون برزخاً دون أداء الفرائض وبذل الوسع في سبيل الله.
وفي قوله تعالى بخصوص التوبة [وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا] ( )، أخرج ابن مردويه عن الحسن البصري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبوك تخلف كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع.
قال : أما أحدهم فكان له حائط حين زها قد فشت فيه الحمرة والصفرة فقال : غزوت وغزوت وغزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو أقمت العام في هذا الحائط فأصبت منه فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دخل حائطه فقال : ما خلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وما استبق المؤمنون في الجهاد في سبيل الله إلا ضن بك أيها الحائط ، اللهمَّ إني أشهدك أني تصدقت به في سبيلك.
وأما الآخر فكان قد تفرق عنه من أهله ناس واجتمعوا له فقال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغزوت ، فلو أني أقمت العام في أهلي . فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قال : ما خلفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما استبق إليه المجاهدون في سبيل الله إلا ضن بكم أيها الأهل ، اللهم إن لك عليَّ أن لا أرجع إلى أهلي ومالي حتى أعلم ما تقضي فيَّ.
وأما الآخر فقال : اللهم إن لك عليَّ أن ألحق بالقوم حتى أدركهم أو أنقطع . فجعل يتتبع الدقع والحزونة حتى لحق بالقوم ، فأنزل الله { لقد تاب الله على النبي } إلى قوله { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت}.
قال الحسن : يا سبحان الله! والله ما أكلوا مالاً حراماً ، ولا أصابوا دماً حراماً ، ولا أفسدوا في الأرض ، غير أنهم أبطأوا عن شيء من الخير الجهاد في سبيل الله ، وقد – والله – جاهدوا وجاهدوا وجاهدوا ، فبلغ منهم ما سمعتم فهكذا يبلغ الذنب من المؤمن( ).
الرابع : إتخاذ الدعاء سبيلاً للنصر على الكفار ، ولا يعني هذا أنه بديل عن الجهاد والدفاع بدليل ذات آية البحث [وانصرنا] لترشح النصر عن القتال والمسايفة بين المؤمنين والكفار ، ليكون ذات القتال وتحقيق المؤمنين النصر فيه طريقاً لدخول الجنة ، وهل يعني سؤال النصر في القتال رجاء السلامة من القتل والشهادة ، الجواب نعم ، لأصالة الإطلاق وإرادة تحقيق النصر بأحسن حال والله واسع كريم .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالنصر يوم بدر بآية إعجازية تقتبس منها المواعظ والعبر ، فمع أن جيش المسلمين نحو ثلث جيش الكفار ، والنسبة في السلاح والمؤون أقل من الثلث ، ولكن المسلمين قتلوا سبعين وأسروا سبعين من الكفار ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم منقطعاً إلى الدعاء ليلة المعركة ليكون فعله مرآة لعمل الأنبياء السابقين فتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين يقتبسون الدعاء ويدركون موضوعيته من وجوه :
الأول : دعاء الأنبياء لأنفسهم عند ملاقاة الأعداء .
الثاني : دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال السلم والحرب وفي واقعة أحد [عن السدي قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه فقال : أنا رسول الله . ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً ، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع . فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم ، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه ، وهمهم أبو سفيان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد . ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم « فذلك قوله[فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ]( )، الغم الأوّل ما فاتهم من الغنيمة والفتح ، والغم الثاني إشراف العدوّ عليهم { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } من الغنيمة { ولا ما أصابكم } من القتل حين تذكرون فشغلهم أبو سفيان( ).
الثالث : دعاء الربيين الذي ذكرته هذه الآية.
المسألة الرابعة : لقد ذكرنا في تفسير آية السياق بما يفيد علماً جديداً إذ جاء الخطاب فيها للمسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ] ويؤكده أن آية السياق معطوفة على قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ( )بينما ورد تعليق وإشتراط دخولهم الجنة بأمرين غير إرتباطيين هما :
الأول : وجود طائفة من المسلمين تجاهد في سبيل الله .
الثاني : وجود طائفة صابرة في مرضاة الله ، وهو من عطف العام على الخاص ، لأن بين الصبر والجهاد عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فالجهاد من ضروب الصبر ولكنه أشدها وهو باب لصيرورة المسلمين صابرين في أداء الفرائض والعبادات، وفي التخفيف عنهم بانكشاف العدو وصرف أذاه.
ولا تختص هذه النسبة بينهما بالذات بل تشمل أفراد الزمان الطولية فيحتاج المسلمون مجتمعين ومتفرقين الصبر كل يوم ولا يحتاجون الجهاد على نحو مستديم .ويحتمل الدعاء الوارد في آية البحث وجوهاً :
الأول : أنه من الصبر والمسألة .
الثاني : التفصيل شطر منه من الصبر وشطر ليس منه .
الثالث : التباين بين الدعاء والصبر .
والصحيح هو الأول فالأدعية الواردة في آية البحث صبر وطريق إلى الصبر ورشحة من رشحات الصبر.
الخامس : ّصلة هذه الآية بقوله تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : إن يمسسكم قرح قولوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا .
الثاني : إن يمسسكم قرح قولوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا .
الثالث : إن يمسسكم قرح قولوا ربنا ثبت أقدامنا .
الرابع : إن يمسسكم قرح قولوا ربنا انصرنا على القوم الكافرين .
الخامس : إن يمسس الربيين قرح قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا .
السادس : إن يمسس الربيين قرح قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا .
السابع : إن يمسس الربيين قرح قالوا ربنا ثبت أقدامنا .
الثامن : إن يمسس الربيين قرح قالوا ربنا أنصرنا على القوم الكافرين .
التاسع : قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا فقد مس القوم الكافرين قرح .
العاشر : قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا فقد مس القوم الكافرين قرح .
الحادي عشر : قالوا ربنا ثبت أقدامنا فقد مس القوم الكافرين قرح.
الثاني عشر : قالوا ربنا أنصرنا على القوم الكافرين فقد مسهم قرح.
الثالث عشر : وتلك الأيام نداولها بين الناس قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
الرابع عشر : وتلك الأيام نداولها بين الناس قالوا ربنا إغفر لنا إسرافنا في أمرنا .
الخامس عشر : وتلك الأيام نداولها بين الناس قالوا ربنا ثبت أقدامنا .
السادس عشر : وتلك الأيام نداولها بين الناس قالوا ربنا انصرنا على القوم الكافرين .
السابع عشر : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا إغفر لنا ذنوبنا وليعلم الله الذين آمنوا .
الثامن عشر : قالوا ربنا إغفر لنا إسرافنا في أمرنا وليعلم الله الذين آمنوا .
التاسع عشر : قالوا ربنا ثبت أقدامنا وليعلم الله الذين آمنوا .
العشرون : قالوا ربنا انصرنا على القوم الكافرين وليعلم الله الذين آمنوا .
الحادي والعشرون : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ويتخذ منكم شهداء .
الثاني والعشرون : قالوا ربنا إغفر لنا إسرافنا في أمرنا ويتخذ منكم شهداء .
الثالث والعشرون : قالوا ربنا ثبت أقدامنا ويتخذ منكم شهداء .
الرابع والعشرون : قالوا ربنا أنصرنا على القوم الكافرين ويتخذ منكم شهداء .
الخامس والعشرون : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا أغفر لنا ذنوبنا والله لا يحب الظالمين .
السادس والعشرون : قالوا ربنا إغفر لنا إسرافنا في أمرنا والله لا يحب الظالمين .
السابع والعشرون : قالوا ربنا ثبت أقدامنا والله لا يحب الظالمين .
الثامن والعشرون : قالوا ربنا انصرنا على القوم الكافرين والله لا يحب الظالمين .
المسألة الثانية :جاءت آية السياق بصيغة الجملة الإنشائية ولغة الخطاب للمسلمين ، أما آية البحث فوردت بصيغة الجملة الخبرية ويتعلق موضوعها بالربيين من أصحاب الأنبياء السابقين ليبين القرآن قانوناً من وجوه :
الأول : التشابه بين المؤمنين من الأجيال المتعاقبة .
الثاني : قيام أهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بذات العمل الجهادي الذي قام به الربيون.
الثالث : يستلزم بناء صرح الإيمان الصبر والجهاد ،وتحمل الأذى من الكفار، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الإيمان نصفان، فنصف في الصبر ونصف في الشكر( ).
الرابع : بيان ما لاقاه الأنبياء من قومهم لجذبهم إلى منازل الهدى .
وتشهد آية البحث للربيين بأنهم لم ينتقموا من الكفار، ولم يبطشوا بهم بل تحملوا الأذى وإنشغلوا بالدعاء والإستغفار والتسبيح ليكونوا أسوة وأئمة في ميادين الإستغفار ، ودعاة للناس بأن ينتهجوا سنة الإستغفار من باب الأولوية القطعية ، وتجلى عدم الإنتقام من الكفار بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أذى المنافقين ، وعدم قتل أو معاقبة أي منهم مع أن بعض الصحابة كان يشير عليه بهذا القتل في بعض الحالات.
الثاني : دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقومه بالهداية ودخول الإسلام [عن عبيد بن عمير قال : إن كان نوح ليضربه قومه حتى يغمى عليه ، ثم يفيق فيقول : اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وقال شقيق : قال عبد الله : لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم « وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يحكي نبياً من الأنبياء وهو يقول : اللهمَّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون( ).
الثالث: إكتفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء على الذين يصرون على الإضرار بالمؤمنين ، ومحاربة الإسلام ، ودعا على قريش بعد أن أصرت على الكفر وابطأت عن دخول الإسلام ( وعن مسروق،
قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً،
وهو مضطجع بيننا،
فأتاه رجل،
فقال : يا أبا عبد الرّحمن،
إنّ قاصاً عند أبواب كنده،
يقص ويقول في قوله تعالى : {يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} إنّه دّخان يأتي يوم القيامة،
فيأخذ بأنفاس الكفّار والمنافقين وأسماعهم وأبصارهم،
ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام،
فقام عبد الله وجلس،
وهو غضبان،
فقال : يا أيّها الناس اتقوا الله،
مَن عَلِمَ شيئاً فليقل ما يعلم،
ومن لا يعلم،
فليقل الله أعلم،
فأن الله تعالى،
قال لنبيه {صلى الله عليه وسلم} {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وسأحدثكم عن ذلك : أنّ قريشاً لما أبطأت عن الإسلام،
واستعصت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دعا عليهم،
فقال : اللَّهم سبع سنين كسني يوسف. فأصابهم من الجهد والجوع ما أكلوا الجيف والعظام والميتة والجلود،
وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلاّ الدخان من ظلمة أبصارهم من شدة الجوع،
فأتاه أبو سفيان بن حرب،
فقال : يامحمد إنّك حيث تأمر بالطاعة وصلة الرحم،
وإنّ قومك قد هلكوا فادع الله لهم فإنّهم لك مطيعون.
فقال الله تعالى : فقالوا :
{رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ} فدعا فكشف عنهم( ).
الرابع : مجئ آية البحث ببيان سلاح الربيين وهو الدعاء وسؤال مغفرة الذنوب من غير تفريط بوجوب النصر على الكافرين .
الخامس : تنمية ملكة الدعاء عند المسلمين ، وإقترانه بوجوب أداء الفرائض والعبادات .
المسألة الثالثة : تبين آية السياق حقيقة تأريخية في باب جهاد المسلمين وهي إصابتهم بالقروح والجراحات نتيجة خوضهم معركة بدر وأحد في الدفاع عن الإسلام ، فهل أصابت الجراحات الربيين ، الجواب نعم ، لوجوه :
الأول : وحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثاني : الأصل في المعارك ترشح الإصابات على الطرفين ،قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ] ( ).
الثالث : بينت الآية السابقة الربيين وثباتهم مع أصحابهم في سبيل الله مع ما أصابهم من الجراحات والكلوم .
ليفيد الجمع بين آية البحث والسياق دعوة المسلمين إلى أمور :
الأول : تحلي المسلمين بالصبر في مواطن القتال ، لذا أختتمت الآية السابقة [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ].
الثاني : حث المسلمين على عدم الوهن أو الضعف في ميدان المعركة وخارجها .
الثالث : إستدامة المرابطة في الثغور خاصة وأن الكفار يباغتون المسلمين .
الرابع : تدل آية السياق على التشابه في تلقي الإصابات بين الربيين والكفار في ميدان المعركة , فكل منهما أصابتهم الجراحات مع المائز الذي يتصف به الربيون من جهات:
الأولى : مرتبة الربيين مدد وعون للمجاهدين في ميدان المعركة ، فصحيح أن الاسم غير المسمى ولكن للاسم موضوعية في الفصل والتمييز بين الطرفين ، فمن رشحات لفظ الربيين حسن توكلهم على الله.
الثانية : إخبار آية البحث عن دعاء الربيين لتثبيت أقدامهم في القتال.
الثالثة : حضور المعجزة مع الربيين في قتالهم، وهو من معاني قوله تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ).
الرابعة : تجلي الغايات الحميدة في قتال الربيين، سواء الدنيوية أو الأخروية.
الخامس : الرضا بأمر الله في الإصابة بالكلوم .
السادس : من أسباب عدم وهن المؤمنين في القتال علمهم بأن الذي يقتل منهم يكون شهيداً ويدخل الجنة بغير حساب ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
المسألة الرابعة : بعد أن قاتل الربيون مع الأنبياء توجهوا إلى الإستغفار والدعاء، فهل يدل هذا الترتيب بين القتال والدعاء أنهم لجؤوا إلى الدعاء بعد أن مستهم القروح والكلوم وفقد رجال ذهبوا شهداء، قال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ]( )، الجواب إن إستغفار ودعاء الربيين ملازم لهم سواء في سوح المعارك أو في حال السلم، وتدل الآية أعلاه على شدة ما لاقاه الأنبياء وأصحابهم وتوجههم إلى الله عز وجل بالدعاء ورجاء النصر مع البشارة من عند الله بالنصر القريب .
ويحتمل أثر إصابة الربيين بالجراح على دعائهم وجوهاً :
الأول : جعلت هذه الإصابة الربيين يجتهدون بالدعاء .
الثاني : ليس من أثر لمس الجراحات والكلوم على الربيين في دعائهم كماً وكيفاً .
الثالث : أدت هذه الجراحات إلى النقص في دعاء الربيين للإنشغال بمداواتها والإحساس بالألم المترشح عنها ، ولنزول المصيبة بفقد الشهداء .
الرابع : ولوج الربيين أبواباً للدعاء والمسألة.
والصحيح هو الأول والرابع وهو الذي تدل عليه آية البحث بقصر قولهم على الدعاء في حال الحرب والسلم ، ولأن المصيبة بغياب الشهداء في ميدان المعركة والإصابة بالجراحات مناسبة للإسترجاع والذكر ، قال تعالى [ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
المسألة الخامسة : لقد ذكرت الآية السابقة قتال الربيين في سبيل الله والذي يدل بالدلالة التضمنية على أن الكفار يقاتلون أيضاً ويتحملون الأذى مع التباين في الغاية والقصد والعاقبة ، إذ تبين آية البحث والآية التالية الثواب العظيم الذي ينتظر الربيين بينما أخبر القرآن عن سوء عاقبة الكافرين ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ) والنسبة بين المكذبين والذين يقاتلون المؤمنين هي العموم والخصوص المطلق فكل من يقاتل المؤمنين مكذب وليس العكس .
لقد ترشح عن إصابة المؤمنين بالجراحات الذكر الكريم بالكتاب السماوي الباقي إلى يوم القيامة ، بينما ورد ذكر ذم الكفار في ذات الذكر.
وتقدير آية السياق : إن يمسسكم قرح ففيه الأجر والثواب فقد مس القوم قرح مثله فيه إثم وسوء وعاقبة لهم.
المسألة السادسة : من قوانين الإرادة التكوينية قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ).
ومن الإعجاز في تصريف الأيام أنه جاء بصيغة العموم [النَّاسِ] ، وفيه مسائل :
الأولى : تسخير وطواعية الأيام للناس .
الثانية : عدم حجب نعمة إقبال الأيام عن أي فرد من الناس .
الثالثة : تداول الأيام بين الناس من أسرار قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
الرابعة : دعوة المسلمين للإجتهاد بالدعاء لتكون دولة الأيام لهم ، وهو الذي جاءت به آية البحث إذ إلتفت الربيون إلى سلاح الدعاء لجذب الأيام والشأن والجاه والسلامة من الآفات معها ، ومن إعجاز الآية أن أولها وأوسطها وآخرها دعاء.
الخامسة :أخذ المؤمنين الحيطة والحذر ، فأن الأيام والدولة غير محجوبة عن الكفار لمجئ تداول الأيام بلغة العموم (نداولها بين الناس) ، وقد تكون لهم جولة في القتال ولكن النصر حليف المؤمنين .
السادسة : تقدير آية السياق بلحاظ آية البحث : وتلك الأيام نداولها بين الناس فنجعلها للذين يستغفرون الله من ذنوبهم وإسرافهم في أمرهم والذين يسألون الله ثبات أقدامهم والنصر على القوم الكافرين .
لقد ذكرت الآية مداولة الأيام على نحو الإطلاق من غير تعيين بمدة مخصوصة لجهة معلومة ، ولكنها بينت أسباب وكيفية تلك المداولة بإنها بإرادة الله عز وجل ليتجلي الإيمان الصادق وإتخاذ شهداء من المسلمين على الناس .
وهل يشهد المسلمون في حال إنحياز الدولة لهم فحسب، أم في كل الأحوال ،الجواب هو الثاني ، فحتى لو كانوا في حال إستضعاف فأنهم شهداء على الظالمين كما أن حال الإستضعاف هذه لا تدوم لأنهم لا يقيمون على الضيم .
وقد بينت الآية السابقة خصائص المؤمنين [وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا]ليكون حال الثبات والصبر مقدمة لنزول النصر من عند الله وطرد الذل والإستضعاف ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
المسألة السابعة : يفيد الجمع بين الآيتين أن المؤمنين ينتفعون من الأيام وتداولها في كل حال ، بخلاف الكفار الذين خسروا الآخرة بسوء إختيارهم الجحود ، ويخسرون الدنيا عندما تعرض عنهم الأيام والذي تؤكده آية السياق فأنها تفيد أن حرمان الكفار من الدنيا أمر حتمي إذا لم يكن اليوم فهو في الغد ، أما المؤمنون فإنهم يربحون الآخرة في كل الأحوال .
وجاءت مواظبتهم على الإستغفار للإنتفاع الأمثل من الدنيا وصيرورتها روضة بهية بالتقوى ، وطريقاً للإقامة في ربوع الجنة ،وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )وإفادته المعنى الدنيوي للصراط والمعنى الأخروي له مع الملازمة بين الإستقامة وحسن السمت في الدنيا والعبور بأمن وسلام على الصراط في الآخرة .
[عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما على كتفي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة وعلى الابواب سور وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو من فوقه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فالابواب التي على كتفي الصراط حدود الله لا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف ستر الله والذي يدعو من فوقه واعظ الله عز وجل قوله تعالى (للذين أحسنوا الحسنى)( ).
المسألة الثامنة : على القول بأن الربيين دائبون على الإستغفار والدعاء في حال السراء والضراء فهل يشملهم قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )أم أن موضوع الإستغفار أجنبي عن المقام لأنه ليس نوع مفاعلة بين طرفين أو أطراف من الناس.
الجواب هو الأول ، ولكن الدولة مستمرة للربيين بأن الأيام معهم دائماً في موضوع الإستغفار وهو من عمومات قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) .
وهل من أثر للإستغفار في جلب الأيام والدولة للمؤمنين الجواب نعم ، وهو من أسرار آية البحث ، فأنهم بادروا إلى الإستغفار رجاء الفضل والرفد منه تعالى ، فلذا جاءت الآية التالية ببشارتهم بثواب الدنيا والآخرة ، فمن ثواب الدنيا العز والرفعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
المسألة التاسعة : من أعجاز آية السياق أن تداول الأيام لم يخرج عن الناس وسلطانهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
وتقدير الآية أعلاه : وتلك الأيام نداولها في الأرض بين الناس وللناس ، فلم يجعل الله عز وجل شطراً من الأيام للجن وسلطانهم أو لعموم الحيوانات المفترسة ، والآية تدل على فضل الله في تهيئة مقدمات زيادة النسل والتكاثر بين الناس ولزوم شكر الله تعالى على نعمة تداول الأيام بينهم، وقد جاء الذم للكفار [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ]( ).
وهل تدل آية السياق على أن كثرة النسل وعمارة الأرض أنفع للناس في تعظيم شعائر الله ، وإقامة الدين الحنيف بدليل أن إبني آدم قتل أحدهما الآخر مع أن أخبار الملائكة والجنة والإقامة فيها تصلهم بواسطة أبيهم وأمهم حواء من غير واسطة وليس في الأرض مزاحم ومنافس لهم .
الجواب لا دليل عليه ، نعم كثرة نسل المؤمنين وتعاقب ذراريهم من معاني ورشحات هذه الآية الكريمة ليكون المسلمون هم ورثة الأرض من أجل إقامة حكم الله.
أخرج ابن جرير عن ابن مسعود عن ناس من الصحابة . أنه كان لا يولد لآدم مولود ألا ولد معه جارية ، فكان يزوّج غلام هذا البطن لجارية البطن الآخر ، ويزوّج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر ، حتى ولد له ابنان يقال لهما قابيل وهابيل.
وكان قابيل صاحب زرع ، وكان هابيل صاحب ضرع ، وكان قابيل أكبرهما وكانت له أخت أحسن من أخت هابيل ، وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه.
وقال : هي اختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوّج بها . فأمره أبوه أن يتزوّجها هابيل فأبى( ).
وإنهما قَرَّبَا قرباناً إلى الله أيهما أحق بالجارية ، وكان آدم قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها.
فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة فأبت ، وقال للأرض فأبت ، وقال للجبال فأبت ، فقال لقابيل فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك .
فلما انطلق آدم قربا قرباناً ، وكان قابيل يفخر عليه فقال : أنا أحق بها منك ، هي أختي وأنا أكبر منك وأنا وصي والدي ، فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة ، وقرب قابيل حزمة سنبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها فأكلها ، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي . فقال هابيل { إنما يتقبل الله من المتقين ، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } يقول : إثم قتلي إلى إثمك الذي في عنقك] ( ).
المسألة العاشرة : من معاني قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] إرادة قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل حال ، ففي حال إقامة دولة الحق يكون هذا الأمر والنهي سبباً لإستدامة أيامها لذا فمن إعجاز الآية ورودها بالإطلاق والتنكير فليس من مدة مخصوصة لكل أمة ودولة ، لذا جاءت الآية بصيغة العموم في لفظ الناس الشامل لأبناء الطبقة والجيل الواحد والذين هم من أجيال متعاقبة ، قال تعالى [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
ليكون من خصائص الربيين أنهم جند الله في إتمام نوره وظهور دولة الحق والعدل ومحو أيام الظالمين .
المسألة الحادية عشرة : تضمنت آية السياق قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] ويحتمل تعلق لام التعليل في الآية أعلاه وجهين :
الأول : خصوص آية البحث وتداول الأيام بين الناس .
الثاني : إرادة المعنى الأعم بخصوص هذه الآية والآيتين السابقتين، ويكون المعنى على جهات :
الأولى : هذا بيان للناس وليعلم الله الذين آمنوا، أي بلحاظ الجمع مع الآية قبل السابقة [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى]( ).
الثاني : هذا هدى وليعلم الله الذين آمنوا.
الثالث : هذا موعظة للمتقين وليعلم الله الذين آمنوا .
الرابع : ولا تهنوا وليعلم الله الذين آمنوا .
الخامس : ولا تحزنوا وليعلم الله الذين آمنوا .
السادس : وليعلم الله الذين آمنوا وأنتم الأعلون .
السابع : وليعلم الله الذين آمنوا إن كنتم مؤمنين .
الثامن : إن يمسسكم قرح ليعلم الله الذين آمنوا .
التاسع : فقد مس القوم قرح ليعلم الله الذين آمنوا .
وجاءت آية البحث ليعلم الله الذين آمنوا) وفيه وجوه :
الأول :ليعلم الله الذين آمنوا ممن نال مرتبة الربيين .
الثاني : ليعلم الله الذين آمنوا الذين خرجوا مع النبي للقتال .
الثالث : ليعلم الله الذين آمنوا فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، قال تعالى [ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ] ( ).
الرابع : ليعلم الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومنها ضروب الدعاء الواردة في آية البحث [عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الإِسلام ثمانية أسهم : الإِسلام سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والصوم سهم ، وحج البيت سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، والجهاد في سبيل الله سهم ، وقد خاب من لا سهم له]( ).
الخامس : ليعلم الله الذين آمنوا وما ضعفوا وما استكانوا .
السادس : ليعلم الله الذين آمنوا والله يحب الصابرين، بلحاظ أن الإيمان صبر في مرضاة الله وصبر على الأذى من الكفار .
السابع : ليعلم الله الذين آمنوا وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا إغفر لنا ذنوبنا.
الثامن : ليعلم الله الذين آمنوا وقالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا .
التاسع : ليعلم الله الذين آمنوا وقالوا ربنا ثبت أقدامنا .
العاشر : ليعلم الله الذين آمنوا وقالوا أنصرنا على القوم الكافرين .
المسألة الثانية عشرة : يفيد الجمع بين الآيتين حقيقة وهي تفقه المسلمين بأمور الدين وأحوال الأمم ومعرفتهم بقصص الماضين وجهاد أصحاب الأنبياء ، فقد تفضل الله عز وجل وبين في هذه الآية خصلة حميدة يتصف بها الربيون وهي إنقطاعهم للدعاء ولتكون هناك ملازمة بين الإيمان والفقاهة وهو من بركات آيات القرآن .
وكل آية منها مرقاة في سلم العلوم , ومنها آية البحث التي تبين في غاياتها الحميدة أن المسلمين لا يقفون عند العلم بأحوال الأمم السابقة التي تذكرها آيات القرآن بل يعملون بالحسن منها وفق الشريعة ، ويتجنبون السيء والقبيح منها ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) .
المسألة الثالثة عشرة : يصدق تقدير آية السياق وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الربيين.
وبين الذين آمنوا الذين ذكرتهم آية السياق وبين الربيين الذين ذكرتهم الآية السابقة نسبة العموم والخصوص المطلق، فكل فرد من الربيين هو من الذين آمنوا وليس العكس ، لذا جاء تداول الإيام بالمعنى الأعم وعدم جعله بخصوص زمان الأنبياء وصحبة الربيين لهم .
المسألة الرابعة عشرة : تضمنت آية السياق قوله تعالى [وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ] ويكون تقدير الآية بالجمع مع الآية السابقة وهذه الآية اللتين وردتا ببيان خصال الربيين وجوهاً :
الأول : ويتخذ منكم شهداء للربيين الذين قاتلوا مع الأنبياء ضد الكفار .
الثاني :ويتخذ منكم شهداء للذين ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله .
الثالث : ويتخذ منكم شهداء للربيين الذين ما ضعفوا وما إستكانوا.
الرابع : ويتخذ منكم شهداء للصابرين الذين يحبهم الله .
الخامس : ويتخذ منكم شهداء للذين ما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا .
السادس : ويتخذ منكم شهداء للذين قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا
السابع : ويتخذ منكم شهداء للربيين الذين قالوا ربنا ثبت أقدامنا.
وهل يصح القول : ويتخذ منكم شهداء للذين قالوا ربنا ثبت أقدامنا، الجواب نعم بلحاظ أن الذين آمنوا أعم، وكذا شهادة المسلمين.
وعن حبان بن أبي جبلة يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل ، فيقول له ربه : ما فعلت في عهدي هل بلغت عهدي؟ فيقول : نعم ، رب قد بلغته جبريل.
فيدعى جبريل فيقال : هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول : نعم . فيخلى عن إسرافيل ، ويقول لجبريل : هل بلغت عهدي؟ فيقول : نعم ، قد بلغت الرسل.
فتدعى الرسل فيقال لهم : هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون : نعم . فيخلى جبريل ، ثم يقال للرسل : هل بلغتم عهدي؟ فيقولون : نعم ، بلغناه الأمم . فتدعى الأمم فيقال لهم : هل بلغتكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذب ومنهم المصدق.
فتقول الرسل : إن لنا عليهم شهداء . فيقول : من؟ فيقولون : أمة محمد . فتدعى أمة محمد فيقال لهم : أتشهدون أن الرسل قد بلغت الأمم؟ فيقولون : نعم . فتقول الأمم : يا ربنا كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟ فيقول الله : كيف تشهدون عليهم ولم تدركوهم؟ فيقولون : يا ربنا أرسلت إلينا رسولاً ، وأنزلت علينا كتاباً ، وقصصت علينا فيه أن قد بلغوا ، فنشهد بما عهدت إلينا . فيقول الرب : صدقوا ، فذلك قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } والوسط العدل { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً }( ).
الثامن : ويتخذ منكم شهداء للذين قالوا ربنا انصرنا على القوم الكافرين.
المسألة الخامسة عشرة : من خصائص القرآن أمور:
الأول : قانون التفسير الذاتي لآيات القرآن، فمع أن الآية القرآنية تتضمن تفسيرها ومعناها تأتي آية أخرى لبيان جانب آخر من مضامينها ودلالاتها القدسية، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ). بلحاظ إتصاف بيان القرآن بخصائص إعجازية منها التعدد في ضروبه، والبرهان القاطع والوضوح الجلي في دلالاته بما يمنع من الشك والريب وأسباب الخلاف.
الثاني : مجئ آية بموضوع أو حكم ثم تأتي آية أخرى لبيان المصداق والشاهد لكل منهما.
الثالث : التداخل البياني في آيات القرآن، فتكون آيتان من القرآن كل واحدة منهما بياناً للأخرى، وتلك آية إعجازية تثبت سلامة القرآن من التحريف، وعدم وصول يد التغيير والتبديل إليه، فكل كلمة منه فريدة تتخلف أي كلمة عن تحقيق معانيها بالذات وبلحاظ نظم الآية وسياق الآيات.
وأخبرت آية السياق عن إتخاذ الله عز وجل شهداء من المسلمين وقيل أنها خاصة بالشهداء الذين قتلوا في ساحة المعركة، والآية أعم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة { وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء } قال : يكرم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوهم ، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الضحى قال : نزلت { ويتخذ منكم شهداء } فقتل منهم يومئذ سبعون ، منهم أربعة من المهاجرين : منهم حمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمير أخو بني عبد الدار ، والشماس بن عثمان المخزومي ، وعبد الله بن جحش الأسدي ، وسائرهم من الأنصار( ).
ولا دليل على الملازمة بين الآية وقتل عدد من المؤمنين يوم أحد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لَمَّا أَبْطَأَ عَلَى النِّسَاءِ الْخَبَرُ خَرَجْنَ يَسْتَخْبِرْنَ، فَإِذَا رَجُلانِ مَقْتُولانِ عَلَى دَابَّةٍ، أَوْ عَلَى بَعِيرٍ، فَقَالَتِ امرأة مِنَ الأَنْصَارِ: مَنْ هَذَانِ ؟ قَالُوا: فُلانٌ وَفُلانٌ أَخُوهَا وَزَوْجُهَا، أَوْ زَوْجُهَا وَابْنُهَا. فَقَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالُوا: حَيٌّ. قَالَتْ: فَلا أُبَالِي، يَتَّخِذُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الشُّهَدَاءَ. وَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى مَا قَالَتْ[وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ]( ).
والآية أعم من سبب النزول هذا كما أنه لم يرد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن أهل البيت والصحابة، إنما ورد عن عكرمة وهو من التابعين، ولم يرفعه إلى ابن عباس.
والمختار أن المراد من الشهداء في الآية أعم من الذين قتلوا في ساحة المعركة فتشمل الآية الأحياء من المؤمنين، وإن أدركهم القتل فيما بعد، والفارق أنهم شهداء وهم أحياء، ويقصفون بذات المنزلة حتى بعد مماتهم، وفي آية السياق إضمار، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ويتخذ منكم شهداء على أنفسكم.
الثاني : ويتخذ منكم شهداء على الكافرين الذين يحاربونكم.
الثالث : ويتخذ منكم شهداء على الظالمين.
الرابع : ويتخذ منكم شهداء على الناس.
الخامس : ورد لفظ الشهداء في غير موضوع القتل والشهادة، وبخصوص غير المسلمين، كما في قوله تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ]( )، ليكون من مصاديق آية السياق، ويتخذ منكم شهداء على التنزيل، ويخبرون الناس بان القرآن حق وأنه نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو سالم من التحريف وليس له معارض.
السادس : ويتخذ منكم شهداء لله في العمل والدعوة إلى الحق وطلب مرضاة الله، قال تعالى[كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ]( )، وجعل بعضهم الواو في(ولو) للإستئناف ولا مانع من جمعها للعطف والإستئناف إذ أن التقسيم للعطف والإستئناف إستقرائي قد يتخلف عن معاني اللفظ القرآني.
السابع : ويتخذ منكم شهداء للربيين، وقد تقدم في الجزء السابق توثيق رؤيا رأيتها الشهر الماضي أثناء كتابته مضمونها أن المسلمين يسألون الله عز وجل الجمع بينهم وبين الربيين، فيستجيب لهم الله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ]( )، ليجري حوار بينهم ( ).
وهل يكون موضوع الشهادة المذكورة في آية السياق من هذا الحوار الجواب نعم، وتلك آية في التداخل والإتصال بين الدنيا والآخرة، وموضوعية القرآن كسبيل لهذا الإتصال، وهو من معاني قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، بلحاظ أن القرآن وما يترشح عن تلاوته والعمل بمضامينه من مصاديق الصراط، وعن الإمام علي عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « ستكون فتن قلت : وما المخرج منها؟ قال : كتاب الله . فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل وليس بالهزل ، وهو حبل الله المتين ، وهو ذكره الحكيم ، وهو الصراط المستقيم( ).
الثامن : ويتخذ منكم شهداء على الكفار الذين حاربوهم والذين أمدوهم بالمال والسلاح وآزروهم، وهذه الشهادة من الجزاء الأخروي للمسلمين على صبرهم، وبيان أن الصبر وتحمل الأذى في مرضاة الله لم يذهب سدىً، وأنه ليس أمراً عدمياً، بل هو أمر وجودي يكون له مبرز خارجي بالشهادة بلحاظ أن الصبر يتعقب إدراك الأذى والمكر والكيد الذي يصدر من الكفار، وهو سلاح لملاقاتهم يتضمن معنى التحدي والثبات لذا ورد في آية البحث الدعاء[وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا].
التاسع : قوله تعالى[وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ]( )، رحمة بالمسلمين وشهادة لهم بالورع والعدالة لأنها شرط في الشهادة، ودليل على عصمتهم من الغفلة لتقوم الشهادة بالفطنة والإلتفات للأمور، لذا اثنى الله عز وجل على المسلمين وقال[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
العاشر : ويتخذ منكم شهداء مع الملائكة على الناس إلى جانب شهادة جوارحهم وحواسهم وأركانهم عليهم.
عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نضحك فقال : هل تدرون لم أضحك ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : يقول : بلا قال : فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا و بالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطق فتنطق بأعماله قال : ثم يخلى بينه و بين الكلام قال : فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل( ).
ومن الإعجاز في آية السياق ذكر شهادة المسلمين على نحو الإطلاق من غير تقييد لتتضمن وجوهاً:
الأول : الشهادة على طوائف من الكفار.
الثاني : الشهادة أمم من المؤمنين أي لمصلحتهم، وما فيه جلب النفع لهم، وهو من المعنى الأعم لقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، بلحاظ أن هذه الأخوة تجمع أجيال المؤمنين المتعاقبة.
الثالث : شهادة وتزكية المسلمين بعضهم لبعض، وهو من النعم العظيمة على المسلمين، وآية في تفضيلهم على أهل الملل الأخرى، إذ يحتاجهم الناس في الشهادة وهم لا يحتاجون إلا الأنبياء.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بأمثلة وقصص القرآن، وهو من مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( )، لتكون هذه القصص على جهات:
الأولى : تنمية لملكة الشهادة عند المسلمين.
الثانية : إنها مقدمة للعدالة.
الثالثة : هي وسيلة لبلوغ مرتبة قول الحق ولو على الذات.
الرابعة : هذه القصص تأديب للمسلمين وموضوع لإرتقائهم في سلم المعارف الإلهية، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي ( )، وتكون شهادة المسلمين بخصوص الربيين على وجوه:
الأول : صحبة الربيين للأنبياء، كل طائفة من الربيين نالت شرف صحبة نبي زمانها.
الثاني : كثرة عدد الربيين في كل طبقة وجيل منهم، ويمكن إستنباط قاعدة وفق القياس الإقتراني، وهي:
الكبرى : الذين يقاتلون مع نبي زمانهم ربيون.
الصغرى : المؤمنون قاتلوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
النتيجة : المؤمنون ربيون.
الثالث : شهادة المسلمين بفوز أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم بمرتبة الربيين.
الرابع : الشهادة بورود اسم الربيين في القرآن مرة واحدة في الآية السابقة بقوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( )، ومن إكرام الله لهم أن آية البحث والآية التالية جاءتا بالثناء عليهم، وليشهد المسلمون من جهات:
الأولى : شهادة المسلمين بثناء الله على الربيين.
الثانية : شهادة المسلمين بتلاوتهم للآية السابقة، وذكرها للربيين.
الثالثة : شهادة المسلمين لأنفسهم بالإقتداء بالربيين.
الخامس : تلاوة المسلمين لآية البحث شهادة يومية للربيين تسمعها الملائكة.
السادس : يشهد المسلمون للربيين بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا في جهادهم في سبيل الله، أيام وجود النبي بين ظهرانيهم وبعد مفارقته الحياة الدنيا.
السابع : تخبر الآية السابقة بأن الربيين لم يستكينوا ولم يركنوا أو يخضعوا للكفار الذين ذمهم الله عز وجل بقوله[وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ]( )، بينما أظهر الربيون الإستكانة والتضرع والإبتهال بالدعاء لله عز وجل وهو الذي تدل عليه آية البحث.
الثامن : إستحضار المسلمين لصبر الربيين عند جهادهم لكفار قريش، مع فارق بأن الأذى جاء للمسلمين من المنافقين وغيرهم إلى جانب الكفار.
التاسع : يشهد المسلمون بانحصار قول الربيين بالإستغفار.
العاشر: شهادة المسلمين للربيين بالدعاء والإستجارة بالله من إسرافهم في أمرهم دعوة للمسلمين من جهات:
الأولى : تنزه المسلمين عن الإسراف.
الثانية : دعاء المسلمين باجتناب الإسراف.
الثالثة : رجاء المسلمين العفو عنهم لما فاتهم من مواطن الثواب.
الحادي عشر : شهادة المسلمين للربيين بأنهم سألوا الله ثبات أقدامهم والذي يدل بالدلالة التضمنية على شوقهم للقتال في سبيل الله، وعدم دبيب الملل والخوف من اللقاء إلى نفوسهم.
الثاني عشر : شهادة المسلمين للربيين بأنهم يواظبون على القتال حتى يتم لهم النصر، وأن إصابتهم بالجراحات والكلوم وفقد الشهداء لم يمنعهم من العزم على تحقيق النصر لإختتام آية البحث بالدعاء[وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ].
الثالث عشر : شهادة المسلمين للربيين بأنهم محتاجون إلى رحمة الله، وأن النصر على الكفار يأتي ببذل الوسع والتضحية والتفاني في القتال وبفضل الله , قال تعالى[إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
وتحتمل شهادة المسلمين للربيين من جهة أوانها وزمانها وجوهاً:
الأول : الشهادة للربيين في الحياة الدنيا، وهو من اللامتناهي لأن كل تلاوة للمسلم لآية البحث أو الآية السابقة أو التالية شهادة وإقرار وثناء على الربيين.
الثاني : شهادة المسلمين للربيين في مواطن المحشر والحساب.
الثالث : شهادة المسلمين للربيين في الجنة.
الرابع : يشهد المسلمون للربيين بحسن السمت والجهاد في سبيل الله والصبر.
السادسة عشرة : يفيد الجمع بين آية البحث والسياق علو مرتبة المسلمين بين الأمم، فهم الشهود لغيرهم من مؤمني الأمم السابقة بما فيهم أصحاب الأنبياء، وهو من مصاديق بشارة الأنبياء والصالحين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتطلعهم وأهل السماء إلى بعثته الشريفة.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل عن الإسراء قال: فاحتملني جبرئيل حتّى وضعني على جناحه ثمّ ارتفع بي إلى سماء الدنيا من ذلك المعراج، فقرع الباب فقيل : مَن؟ قال : أنا جبرئيل. قال : ومن معك؟ قال : محمّد. قال : أوَقد بعث محمّد؟ قال : نعم. قال : مرحباً به حيّاهُ الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ففتح الباب ودخلنا( ).
وفيه أيضاً (قال صلى الله عليه وسلم «ثمّ صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قالوا : من هذا؟
قال : جبرئيل،
قالوا : ومن معك؟
قال : محمّد. قالوا : وقد أُرسل محمّد؟
قال : نعم. قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء،
فدخلنا فإذا برجل من حاله (كذا) فقلت : من هذا يا جبرئيل؟
قال : «هذا إدريس رفعه الله مكاناً علياً وهو مسند ظهره إلى دواوين الخلائق التي فيها أمورهم.
قال : ثمّ صعد بي إلى السماء الخامسة فإستفتح قالوا : من هذا؟
قال : جبرئيل. قالوا : من معك؟
قال : محمّد قالوا : وقد أُرسل محمّد؟
قال : نعم. قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء.
قال : ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس وحوله قوم يقصٌّ عليهم فقلت : ياجبرئيل من هذا؟
ومن هؤلاء الذين حوله؟
قال : هذا هارون (المحبب) وهؤلاء الذين حوله بنو إسرائيل.
قال : ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة فإستفتح فقالوا : من هذا؟
قال : جبرئيل. قالوا : ومن معك؟
قال : محمّد؟
قالوا : وقد أُرسل محمّد؟
قال : نعم قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس فجاوزناه فبكى الرجل فقلت : يا جبرئيل من هذا؟
قال : هذا موسى. قلت : فماله يبكي؟
قال : يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عزّ وجلّ، وهذا رجل من بني آدم وقد خلفني في دنياه وأنا في آخرتي فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع كل نبي أمته( ).
ومن الأنبياء من تكذبه أمته في حياته وعند دعوته إلى الله، ثم يوم القيامة يدّعون عدم بلوغهم الدعوة، ويجحدون جهاده وصبره في جذبهم إلى الإسلام، فيشهد المسلمون له بقيامه بالتبليغ وأدائه الرسالة، ويشهدون على تكذيب أمته له وكذب دعواهم، وهل الذي يتجلى في الآية السابقة وهذه الآية إذ تخبران عن قتال الربيين في سبيل الله، والذي يدل بالدلالة التضمنية على علم المسلمين وهم في الدنيا بحال الأنبياء وأنصارهم وقتالهم للكفار، وذات القتال حجة عليهم، وقد أسسنا علماً خاصاً إسمه (السنة الدفاعية) وتتقوم بأمور :
الأول : آيات القرآن الخاصة بالقتال ووجوبه في حال الدفاع ووجود المقتضي وفقد المانع.
الثاني : سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال .
الثالث : أولوية السلم والصلح والمهادنة، قال تعالى[وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، وذكر أن الآية منسوخة بآية السيف من سورة التوبة[فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ]( ).
والمختار عدم ثبوت هذا النسخ خاصة وأن الآية أعلاه تتعلق بخصوص المشركين في فترة معلومة.
وهل منه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ).
الجواب بينهما عموم وخصوص مطلق , فالسلم في الآية أعلاه أعم موضوعاً وزماناً ومكاناً، ولا يختص بالسلم مع الغير، فيشمل التآزر والإتحاد بين المسلمين وإظهار معاني الأخوة والتعاضد والمناجاة بالخير والصلاح بينهم، وفيما يخص الربيين في موضوع الجنوح للسلم وجوه:
الأول : إتحاد الحكم بين الأنبياء، فذات الأمر النازل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالميل إلى السلم إذا إختاره العدو نازل إلى الأنبياء.
الثاني : التباين في حال الكفار، إذ يصر الكفار في أيام الربيين على القتال.
الثالث : ليس من تعارض بين الدفاع وسؤال النصر على الكفار وبين القبول بالسلم والميل إليه.
والصحيح هو الأول والثالث ، وفيه رجاء للثواب وتعدد أسبابه من جهات:
الأولى : الدعاء وسؤال الله النصر على المشركين، والذي يدل بالدلالة التضمنية على العزم على الدفاع والخروج لميادين القتال.
الثانية : سلامة الربيين من الإختلاف في موضوع لزوم الدفاع في حال وجود نبي الزمان بين ظهرانيهم وعند مغادرته إلى الرفيق الأعلى.
الثالثة : ترشح الثواب على إرهاب الكفار، وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم وهم يرمون ، فقال : رميا بني إسمعيل لقد كان أبوكم رامياً( ).
السابعة عشرة : تدعو الآيتان الناس إلى الإيمان والهداية بلغة جامعة بين الترغيب والترهيب، فيتضمن قوله تعالى[وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ]( )، أموراً :
الأول : إخبار الفرد بان المسلمين أمة يشهدون له بالفلاح وتكون عاقبته الجنة ، أو يشهدون عليه بالفسوق والجحود ويكون مأواه النار , بلحاظ سنخية العمل .
الثاني : عدالة المسلمين التي يدل عليها إختيارهم للشهادة من عند الله عز وجل.
الثالث : إصلاح الله للمسلمين لينالوا مرتبة الشهادة في سبيل الله سبحانه .
الرابع : لزوم إدراك الناس موضوعية الشهادة يوم القيامة، وليس من حصر لأفراد الشهود بعد شهادة الله عز وجل، قال تعالى[وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( )، ومن الشهود:
الأول : شهادة الملائكة، قال تعالى[وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ]( ).
الثاني : شهادة المسلمين على الإنسان في أفعاله.
الثالث : شهادة جوارح وأركان ذات الإنسان عليه من العينين واليدين والقدمين والأذنين وسائر الجلد ،كل جارحة تشهد بما عملته، وهل تشهد كل جارحة على الأخرى فتشهد الأذن على العين أنها نظرت إلى محرم، وتشهد العين على القدم أنها مشت إلى الفاحشة، وتشهد القدم على اليد بتناول الربا , الجواب لا دليل على إطلاقه .
نعم قد ورد قوله تعالى [وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
و[وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا]( ).
الرابع : شهادة كل يوم جديد يطل على الإنسان بما يفعله في ذات اليوم , وعن الإمام علي عليه السلام : ما من يوم يمر على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فقل في خيرا واعمل في خيرا، أشهد لك به يوم القيامة فانك لن تراني بعده أبدا( )،.
الخامس : شهادة الأرض على الإنسان بما كان يفعله فوقها، ولا تكف عن الرصد والشهادة حتى يدخل في جوفها جثة هامدة، وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل ما عمل على ظهرها ، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } حتى بلغ { يومئذ تحدث أخبارها } قال : أتدرون ما أخبارها جاءني جبريل قال : خبرها إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عمل على ظهرها( ).
وتشمل شهادة الأرض إخبار المواضع والبقاع منها على الإنسان , وعن جابر بن عبد الله قال : أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حول المسجد خالية فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتانا في دارنا فقال يا بني سلمة بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد فقالوا يا رسول الله بعد علينا المسجد والبقاع حوله خالية فقال يا بني سلمة دياركم دياركم تكتب آثاركم قال فما وددنا أنا بحضرة المسجد , لما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال( ).
الثامنة عشرة : من خصائص الربيين تلقي البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق، وتعاهدها لتكون تركة كريمة من بعدهم.
ومن منافع هذا التصديق والتعاهد أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشهدون للربيين بالتقوى والإخلاص في طاعة الله، وينفرد المسلمون بهذه الشهادة من وجوه:
الأول : تلاوة كل مسلم لآية البحث شهادة للربيين.
الثاني : نيل المسلم الثواب بتلاوة هذه الآية والعلم بحال الربيين، ويزداد الثواب عند الجهر بتلاوة هذه الآية.
الثالث : مضاعفة حسنات الربيين عند تلاوة المسلم لآية البحث بفضل من عند الله، لصيرورتهم أسوة حسنة للمؤمنين.
الرابع : شهادة المسلمين للربيين أعم من أن تختص في باب الحكم والجزاء ، ففي كل يوم يشهد المسلمون للربيين بأمور:
الأول : صحبة الأنبياء.
الثاني : الجهاد في سبيل الله.
الثالث : تعاهد سنن الإيمان في الأرض.
الرابع : الإجتهاد في الدعاء.
الخامس : الجمع بين الإستغفار والعمل الصالح.
السادس : إتصاف الربيين بثبات الإقدام في منازل التقوى وميادين القتال.
لقد تعاهد الأنبياء وأصحابهم البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتعاهد أهل الأرض ذكرهم ويشهد لهم القرآن والمسلمون كل يوم بالتقوى وصدق العقيدة والتفاني في مرضاة الله عز وجل.
لقد حفظ الله عز وجل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن سنن المرسلين، وجهاد الأنبياء، وهو من أسرار الجزاء العاجل في الدنيا لأهل الإيمان، فقد مضى زمان الربيين ، بانقضاء أيام الأنبياء السابقين، وكان بين عيسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فترة من الرسل وهي على أقوال:
الأول : خمسمائة عام , وهو المروي عن الإمام الباقر عليه السلام.
الثاني : خمسمائة وسبعون سنة، عن قتادة( ).
الثالث : وقال قتادة: ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة.
الرابع : خمسمائة وأربعون سنة، عن معمر.
الخامس : أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة، عن الضحاك.
التاسعة عشرة : أختتمت آية السياق بقوله تعالى[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، وقد إتعظ الربيون من هذا القانون، وحرصوا على الحصانة من الظلم والتعدي على الآخرين لينجوا من البغض الإلهي الملازم للظالم في الدنيا والآخرة لتكون تسمية الربيين أمراً وجودياً شاهداً على الإستعانة، وقصد الفوز بحب الله.
ويتجلى تنزه الربيين من الظلم بلحاظ آية البحث بأمور:
الأول : دلالة إنقطاع الربيين إلى الدعاء على إجتنابهم القول بالباطل، والتعدي باللسان والجارحة، قال تعالى[فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ]( ).
الثاني : صحبة الأنبياء، وإتباعهم في نهجهم بدليل قوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ]( )، فيدل القتال مع الأنبياء على إتباع الأنبياء في الصالحات وفي التوقي من الظلم.
الثالث : يتقوم عمل وجهاد الربيين بغايات حميدة منها تنزيه الأرض من الظلم والجور.
إعجاز الآية
يتجلى إعجاز آية البحث من وجوه :
الأول : سياق الآيات ومجيؤها بذات موضوع الآية السابقة وهو حال الربيين وجهادهم في سبيل الله .
الثاني : بيان الخصال التي إقتبسها أصحاب الأنبياء بالولوج إلى باب الدعاء وإدراك أنه سلاح الأنبياء .
الثالث : إختصاص آية البحث بالسؤال والدعاء والتضرع من الربيين إلى الله عز وجل ، وفيه دعوة للمسلمين للتدبر بموضوعية الدعاء في بناء صرح الإيمان ودفع أذى الكفار .
وإذ ينحصر قول الربيين بسؤال العفو والمغفرة ورجاء النصر على الكفار ، فهل هم أسمى وأعلى مرتبة من المسلمين لأن المسلمين يتكلمون في أمور الدنيا والمعاشات إلى جانب دعائهم وسؤالهم الله عز وجل ، الجواب لا ، فالقدر المتيقن من الآية بيان فضل الربيين بانقطاعهم إلى الله عز وجل بالمسألة وإظهار المسكنة والبشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد فاز المسلمون بنعمة التصديق بنبوته وإتباعه ونصرته ، قال تعالى [ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ] ( ).
الرابع : نعمة تلاوة آية البحث وما فيها من الدعاء والمسألة .
الخامس : توجه المسلمين بذات دعاء الربيين وبقصد القرآنية .
السادس : توجه الربيين بجمعهم وكثرتهم بذات الأدعية التي في آية البحث مرات متعددة ، ويتلو المسلمون مضامين هذه الآية كل يوم وإلى يوم القيامة ، وهو من أسرار وجوب قراءة القرآن في الصلاة وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة .
السابع : إتخاذ المسلمين هذه الآية سلاحاً في ملاقاة الكفار .
إن كل آية من القرآن مدرسة لتأديب المسلمين في أمور الدين والدنيا ، فجاءت آية البحث لإصلاح المنطق وتهذيب النفوس ، وجعل اللسان رطباً بذكر الله ، مع حسن التوكل عليه سبحانه ، لدلالة قوله تعالى [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( )بأن الربيين لم يكتفوا بالدعاء والمسألة وحده بل هم مواظبون على الجهاد والقتال مع نبي زمانهم , وتدل عليه وجوه :
الأول : مجئ آية البحث بصيغة العطف بالحرف الواو في أول الآية [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ] ( ).
الثاني : عودة الضمير (هم ) [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ] إلى الربيين في الآية السابقة [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ]وهل يمكن أن يعود إلى الأنبياء , الجواب لا ، وهو من إعجاز البيان القرآني بمنع اللبس والترديد في ألفاظه وهو غير الإجمال الذي يتضمن معاني ودلالات متعددة .
لقد ورد ذكر الأنبياء بصيغة المفرد وجاء موضوع الصحبة على نحو الإتحاد ، فكل نبي معه ربيون كثير ، لبيان أن عدد المؤمنين كثير مع كل نبي ، وما رزق الله الأنبياء السابقين تفضل به على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع زيادة فضل الله أن جاءت البشارة بالكثرة والزيادة في الأصحاب بقوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ] ( ) .
فيدل قوله تعالى [فَسَبِّحْ] على أن دخول أفواج الناس ووفود القبائل في الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وآله طواعية من غير إكراه لنسبة الدخول لهم ودلالته على الإختيار .
الثالث : بيان الآية السابقة سلامة الربيين من الوهن والضعف .
الرابع : تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : وما كان قولهم قبل القتال إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا .
الثاني : وما كان قولهم عند بدأ القتال إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
الثالث : وما كان قولهم عند إشتداد القتال إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
الرابع : وما كان قولهم عند إنتهاء القتال إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
الخامس : وما كان قولهم حال المرابطة إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
السادس : وما كان قولهم عند أهليهم وفي حال السلم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
بلحاظ كبرى كلية وهي أصالة الإطلاق في آية البحث فلو دار الأمر بين تقييد لجوئهم إلى الإستغفار بحال مخصوص أم مطلقاً فالصحيح هو الثاني، وفيه ثناء إضافي متجدد على الربيين.
ومن إعجاز الآية أمور :
الأول : إختصاص الآية بالقول واللسان إذ تتضمن قولاً للربيين .
الثاني : إتحاد سنخية القول مع تعدد موضوعاته ، ولم تأت الآية بصيغة الدعاء فلم تقل : وما كان دعاءهم بل جاءت الآية بلفظ القول لبيان أن هذا الدعاء هو قولهم مع الله ومع أنفسهم ومع غيرهم من الناس ، أن حياة الربيين كانت جهاداً متصلاً وإنقطاعاً إلى الله ، وأنه ليس من صلح أو مهادنة مع الكفار ، لذا أختتمت الآية بسؤال النصر عليهم .
الثالث : بيان موضوعية الدعاء في حياة المؤمنين من الأمم السابقة .
الرابع : مضامين الدعاء في آية البحث نوع عهد مع الله وتعاهد لأمانة الخلافة وعبادة الله في الأرض ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ] ( ).
ويمكن تسمية هذه الآية الكريمة آية [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ]ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية مع ورود لفظ [قَوْلَهُمْ] في القرآن إثنتي عشرة مرة .
وفيه آية إعجازية فقد إختصت الآية السابقة بكلمات متعددة ومنها لفظ [الربيون ] ودلالته على المنزلة والشأن الرفيع لأصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معه وجاهدوا الكفار بالسيف ليبين الأنبياء معجزاتهم للناس ويصبح الكفار عاجزين عن الفصل بينهم وبين الناس ومتخلفين عن إثارة الشك والريب ، وإيجاد غشاوة على أبصار الناس بالمغالطات التي يأتون بها ، إذ أن سيوف الربيين عون للمعجزة كما أن المعجزة مدد وعون لسيوفهم .
وجاءت آية البحث لتوثيق إختصاصهم بالإنفراد بالدعاء والمسألة وإقتران هذا الدعاء بصفاء السريرة وصدق الإيمان.
الآية سلاح
كل آية قرآنية سلاح متعدد في موضوعه، وجهته وأثره وعظيم نفعه، وهي وقاية وعلاج في آن واحد في ذات الموضوع الواحد والمواضيع المتعددة، فتكون الآية القرآنية وقاية للنفوس من أدران النفاق والشك والريب وعلاجاً من هذه الأدران من غير تعارض بينها.
وكل آية قرآنية سلاح للمسلمين، وينتفع الناس جميعاً من رشحاتها، وإذ يتلو المسلمون في كل يوم عدة مرات على نحو الوجوب[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، فقد أنعم الله عز وجل عليهم بآيات القرآن لتكون سبيلاً للهداية وموضوعاً وبياناً لذات الصراط المستقيم ليهتدي إليه المسلمون مجتمعين ومتفرقين، لتكون آية البحث على وجوه:
الأول : آية البحث سبيل إلى الصراط.
الثاني : نهج الربيين صراط مستقيم.
الثالث : كل فرد من مضامين آية البحث صراط مستقيم وهي عون وعز وفخر من وجوه:
الوجه الأول : آية البحث سلاح للمسلمين والمسلمات من جهات:
الأولى : إحاطة المسلمين والمسلمات بسنن الأمم السابقة.
الثانية : العلم بأن الإيمان والتقوى سنة متوارثة عند الأجيال.
الثالثة : إدراك فضل الله بأن الإيمان الذي هبط به آدم إلى الأرض ولم يغادرها في حقبة من الزمان، قال تعالى[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
الرابعة : إقتباس المسلمين من الربيين مصاديق الدعاء.
الخامسة : إحتراس المسلمين بآية البحث ومضامين دعاء الربيين.
السادسة : بعث الفزع في قلوب الكافرين من وجوه:
الأول : إقتداء المسلمين بالربيين من أصحاب الأنبياء.
الثاني : إعلان الحرب على الكفر والضلالة بالقرآن وصيغة الدعاء فيه.
الثالث : تختتم آية البحث السؤال بالنصر على الكافرين والذي يدل بالدلالة التضمنية على حدوث القتال مع الكفار على نحو الموجبة الجزئية.
الوجه الثاني : آية البحث سلاح وشهادة للأنبياء من جهات:
الأولى : الإخبار السماوي بأن الأنبياء قاتلوا في سبيل الله، وأنهم تقدموا أصحابهم في ميادين القتال.
الثانية : قيام الأنبياء بالتبليغ وأداء كل واحد منهم رسالته على نحو التمام، وفي رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ]( ).
وهل تختص الآية أعلاه بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه خاتم النبيين وشريعته الباقية إلى يوم القيامة الجواب لا.
الثالثة : آية البحث شهادة متجددة في كل يوم على بذل الأنبياء الوسع في تبليغ الرسالة، وقيامهم بالقتال في سبيل الله.
الرابعة : إقتداء المسلمين بالأنبياء في سيرتهم الحسنة، قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الخامسة : جاءت آية البحث ثناءً على أصحاب الأنبياء وهو أيضاً ثناء ومدح لذات الأنبياء، لأنهم رسل الله الذين جذبوهم إلى منازل الإيمان.
من إعجاز القرآن أن كل آية فيه حرز وسلاح للمسلمين مجتمعين ومتفرقين ، وتتصف آية البحث بأمور :
الأول : تبين الآية حال أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم .
الثاني : تسالم المؤمنين في الأجيال المتعاقبة على الحاجة إلى الدعاء في حال السلم والحرب .
الثالث : الإنتفاع الأمثل من الدعاء في موضوع السؤال وغيره فقد يسأل المسلم مسألة فيعطيه الله غيرها بما فيه نفعه وصلاحه ، ليكون تقدير موضوع الإستجابة في قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) من جهات :
الأولى : الإستجابة في ذات موضوع الدعاء والحاجة .
الثانية : الإستجابة في غير موضوع السؤال والطلب .
الثالثة : تفضل الله عز وجل بالزيادة والتعدد , والتوالي في الإستجابة .
الرابعة : الإستجابة في مقدمات ذات الأمر الذي جاء السؤال به .
ويمكن تسمية هذه الآية والآية السابقة والتالية آيات (مدرسة الربيين) إذ تتضمن بيان نهج أصحاب الأنبياء الذين فازوا بمرتبة عظيمة بين أهل الأرض بالتقوى .
فقد إنقطع زمان الأنبياء السابقين ،وعند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن لم يكن هناك نبي منهم ، ليحمل المسلمون مواريث الأنبياء وأصحابهم في الجهاد والصبر وتعاهد العبادات والسنن الإيمانية .
وتبين مضامين الآية أن الربيين مع ركوبهم جادة الجهاد وحملهم السيوف دفاعاً عن الأنبياء والتنزيل إتخذوا سلاحاً آخر وهو الدعاء ، وهو أقوى وأشد من السيف إذ يكون أثر السيف بذات الواقعة وما يترتب عليها ، أما الدعاء فهو فعل وقول في حال الحرب والسلم لذا فمن خصائص الربيين أنهم التفتوا للسلاح الأمضى الذي تتعدد مصاديقه لتتغشى أمور الدين والدنيا وهو الدعاء ، وقد بدأ الربيون دعاءهم بالإستغفار وسؤال العفو من عند الله ، لتكون المغفرة نوع طريق وبلغة لتثبيت الأقدام ،وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ربنا إغفر لنا ذنوبنا كي تغفر لنا أسرافنا على أنفسنا .
الثاني : ربنا اغفر لنا ذنوبنا كي تثبت أقدامنا .
الثالث : ربنا اغفر لنا كي تنصرنا على القوم الكافرين .
الرابع : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا كي تثبت أقدامنا.
أي يكون كل فرد من أفراد الدعاء مقدمة للآخرة ويجتمع أكثر من فردين ليكون مقدمة للثالث .
الخامس : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا كي تنصرنا على القوم الكافرين .
وهل يصح تقدير التداخل بين أجزاء الآية بتقدير : ربنا أنصرنا على القوم الكافرين كي تغفر لنا ذنوبنا ، الجواب نعم ، لأن النصر رحمة خاصة وعامة ولأنه باب للعفو والمغفرة مناسبة للأجر والثواب الذي يأتي على الذنوب ، قال تعالى [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] ( ).
الوجه الثالث : الآية فخر للربيين وأصحاب الأنبياء مطلقاً من جهات:
الأولى : بيان الأذى الذي لاقاه الربيون.
الثانية : ليس من أذى أشد من القتال، وقد زاوله الربيون ولم يتخلوا عن الأنبياء وصحبتهم في مرضاة الله، إذ يدل قوله تعالى[وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا…] على غبطتهم بتصديق الأنبياء، ووجوب القتال معهم ودفاعاً عنهم.
الثالثة : توثق الآية بين أجيال المسلمين والناس جميعاً صدق إيمان الربيين، وورد في التنزيل حكاية عن إبراهيم[وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ]( )، وآية البحث ثناء ولسان صدق للأنبياء والربيين.

مفهوم الآية
لا تنحصر الخصومة والحرب مع الكفار بالسلاح والسيف في سوح المعارك بل تشمل الجدال والإحتجاج وإقامة المسلمين البرهان على صدق النبوة والأمر الخارق للمعجزة ، ورد أباطيل الكفار وفضح مغالطاتهم ، ويتجلى في القرآن علم خاص في ضروب حرب التشويه والقذف والذم التي يعتمدها الكفار أزاء الأنبياء وأصحابهم ، قال تعالى [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ] ( ) مما يدل على أن الربيين صدّقوا بأنبياء زمانهم مع سعي الكفار في الإفتراء عليهم وتكذيبهم ، وهو من مصاديق إستحقاقهم صفة الربيين .
وجاء التشبيه في الآية أعلاه [كَذَلِكَ] لبيان وجوه الشبه بين الذي يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى والتكذيب وبين الذي لاقاه الأنبياء السابقون ، وهو مثل التشبيه الوارد في الآية السابقة [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ] ( ) بلحاظ ظهور معاني الموضوع المشبه به للناس وإمكان القياس والتدبر وإستحضار قصص الأولين بصيغة التشبيه بما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كفار قريش .
وبالإسناد [عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسمًا تصدر الناس عنه. فقالوا: كاهن. قالوا: ليس بكاهن. قالوا: مجنون قالوا: ليس بمجنون. قالوا: ساحر. قالوا: ليس بساحر. فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها. فأتاه جبريل، عليه السلام، فقال: ” يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ” ” يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ “]( ).
وتبين آية البحث في مفهومها تنزه الربيين عن الخوض في الباطل ، وعن اللهو واللعب أو الإنقطاع إلى الدنيا في ملذاتها ورغائبها التي تستهوي القلوب بل لهجت ألسنتهم بالدعاء والذكر ، قال لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل … وكل نعيم لا محالة زائل( )
والباطل ما كان ضد الحق ، وتستعمله العرب للمعنى الأعم , فكل ما يقبل الزوال والإضمحلال فهو باطل ، ليخرج العمل الصالح بالتخصيص .
لقد كان الكفار يحتجون على الأنبياء وعلى أصحابهم فهل كان الربيون يردون عليهم ويبطلون مغالطتهم ويفضحون وهن قولهم ويكشفون خطأ مدركهم ،الجواب نعم ،وهو داخل في قوله تعالى [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] ( )سواء بذكر الفرد الأهم من ذات سنخية قول الربيين أو بلحاظ التصدي لإفتراء الكفار وصيرورة هذا التصدي والتحدي مناسبة لغفران الذنوب ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا]( ).
ويحتمل ذات الربيين بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : الربيون من آيات الله .
الثاني : القدر المتيقن من آيات الله في الآية أعلاه هو الآيات الكونية وأسرار الخلق والأنبياء ومعجزات النبوة .
الثالث : تلقي الربيين جدال الكفار لهم عن النبوة بالتصديق بالمعجزة ، والمختار هو الأول ويدخل الثالث في طوله , لأن الربيين من آيات الله التي تذكرها الآية أعلاه لأن تصديق الأمة بالنبي آية من عند الله ، لتبين الآية في مفهومها أن الكفار إتخذوا الربيين هزواً وسخرية فكان ردهم اللجوء إلى الإستغفار والدعاء وسؤال النصر على الكافرين وإبطال سحرهم وفضح كذبهم ، فلم يرد الربيون بذات الإستهزاء والسخرية بل فزعوا إلى الله عز وجل مستغفرين لأنفسهم ليكون هذا الإستغفار شكراً لله تعالى على نعمة الهداية والسلامة من أباطيل الكفار قولاً وفعلاً وأثراً ، ويكون مقدمة للنصر والغلبة عليهم .
فان قلت لماذا لم يكتف الربيون بدعائهم بالإستغفار والغلبة على الكفار في الجدال , ويكون معنى [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]أي بالحجة عليهم وإقامة الدليل والبرهان دون الحرب والقتال ، الجواب من وجوه :
الأول : إنصراف معنى النصر إذا ورد بصيغة الإطلاق إلى ميادين القتال .
الثاني : بيان الآية السابقة لموضوع النصر بقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ليكون من معاني آية البحث وما كان قولهم عند القتال [إِلاَّ أَنْ قَالُوا].
الثالث : تقدير الجمع بين هذه الآية والآية السابقة : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا أنصرنا على القوم الكافرين .
الرابع : يدخل في مصاديق هذا النصر إبطال مغالطة الكفار ، وبيان قبح تكذيبهم بالآيات وإنذارهم بسوء العاقبة الذي ينتظرهم ، ومن مفاهيم الآية وجوه :
الأول : الزجر عن قول الباطل ولهو الحديث .
الثاني : دعوة الناس للإيمان والذكر .
الثالث : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين إذ جعل لهم تلاوة القرآن والتسبيح منهاجاً يومياً على نحو الوجوب العيني ، فيتلو المسلمون آيات القرآن في الصلاة اليومية ، وكل آية واقية من اللهو وزخرف القول [عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } قال : باطل الحديث . وهو الغناء ونحوه { وليضل عن سبيل الله } قال : قراءة القرآن ، وذكر الله . نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية .
وأخرج جويبر عن ابن عباس في قوله { ومن الناس من يشتري لهو الحديث }( ) قال : أنزلت في النضر بن الحارث . اشترى قينة فكان لا يسمع بأحد يريد الإِسلام إلا انطلق به إلى قينته ، فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ، هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام ، وأن تقاتل بين يديه ، فنزلت] ( ) وفيه دلالة على تبيت قريش النية بقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

إفاضات الآية
تبين الآية حاجة الناس إلى قول الحق وإرادة صدق الحديث الذي يتجلى بالإيمان والتسليم لله عز وجل بالربوبية المطلقة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] ( ).
وهل الربيون الذين تذكر خصالهم هذه الآية من الصادقين , الجواب نعم ، لبيان إتحاد سنخية الإيمان وإقتداء الصالحين بعضهم ببعض ، ومجئ القرآن لتعاهد قول الحق الذي يتجلى بالإنقطاع إلى الإستغفار والذكر ، وهو برهان صدق العبودية لله غز وجل.
وسأل الربيون الله عز وجل مغفرة إسرافهم ، والإسراف هو مجاوزة الحد ولم يقصدوا الإسراف في المباحات والذي ذهب بعضهم إلى حرمته، ولم تثبت هذه الحرمة لقوله تعالى [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ] ( )إنما قيدت الآية موضوع الإسراف الذي يستغفر منه الربيون بالقول [وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا].
فيأتي هذا الإستغفار على كل سوء فعلوه ، أو تقصير في أمور الدين والدنيا ، أو فعل محرم ، أو إنفاق في غير محله أو بخل وشح أو هلاك للمال ، أو تضييع للوقت في غير مرضاة الله ، وحتى في حال عدم وجود مثل هذه الأفعال المذمومة فأن المؤمنين يشعرون بالتقصير في العبادات وأفراد وطاعة الله فيلجأون إلى الإستغفار لتدارك ما يعلمون وما لا يعلمون من ضروب القصور إذ أن الله سبحانه [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ).
لقد أراد الربيون في هذا الدعاء الإحتراز من الإسراف مطلقاً ، وهو دعوة للمسلمين للإقتداء بهم والتنزه من الرياء والكبر ونحوه من الأخلاق المذمومة ، بل إن تلاوة الآية بذاتها تأديب وإصلاح للمسلمين وإن لم يستحضر المسلمون حال الربيين وأن الآية تحكي قولهم وسننهم .
وتضمنت آية البحث سؤال تثبيت الأقدام لإرادة السلامة من الفرار يوم الزحف والتي تدل بالدلالة التضمنية على الإستعداد لهذا اليوم والتهيؤ للقاء الكفار والإجهاز عليهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ] ( )وكأن مسح أو غسل المسلم لرجليه في الوضوء مقدمة للصلاة اليومية الواجبة مظهر لثبات الأقدام في ملاقاة الكفار فحتى لو لم يكن قتال معهم في فترات من الزمن فان المسلم يرزق ثواب ثبات الأقدام بالوضوء اليومي للصلاة ، وفيه آية في إرادة نيل المسلم الثواب.
الآية لطف
تتضمن آية البحث الإخبار عن قول الربيين في أمور الدين والدنيا وتوثق حسن سمتهم وصلاحهم وعزمهم الثبات في منازل الهدى ، وهو الأمر الذي يجب أن يكون عليه المسلمون .
لقد غادر الربيون الدنيا بالجهاد بالسيف المقرون بالإقامة على الإستغفار والقول الصالح ، قال تعالى [وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ] ( )ومن أصدق معانيه الإستغفار ، ومن خصال الربيين في المقام أمور :
الأول : إنحصار قولهم وكلامهم بالإستغفار وكأنهم في شغل عما سواه من أمور الدنيا وحاجاتها .
الثاني : إنقطاع الرغائب عند الربيين إلا مرضاة الله وهو شاهد على حبهم له سبحانه والسياحة في عالم الملكوت .
لقد سأل الربيون الله عز وجل الثبات والعزم في مواطن القتال والصبر في إتيان العبادات ، وإستقبال إشراقة كل صباح بالعفو والمغفرة عما فات من الذنوب وأسباب التقصير ، وفيه شاهد على صدق عبوديتهم لله عز وجل .
[عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم :
ثلاث مهلكات ! شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه] ( ). وآية البحث لطف من وجوه :
الأول : الآية لطف بأصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم في سبيل الله ، إذ تبين صبرهم وإخلاصهم الإنقياد إلى الله عز وجل ، وتسليمهم بأن مقاليد الأشياء كلها بيده سبحانه ، قال تعالى [وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] ( ) فسألوا الله مغفرة إسرافهم في أمرهم الذي هو في علم الله عز وجل .
الثاني : لقد أراد الله عز وجل للربيين الثواب المتجدد بتلاوة المسلمين في كل زمان ومكان لآية البحث والتي تتضمن الثناء عليهم .
الثالث : إرادة اللطف بالمسلمين وهو الأصل في المقام ، وتلك آية في إعجاز القرآن ، فصحيح أن الآية جاءت في مدح الربيين وبيان صلاحهم والشهادة لهم بالصبر في القول والفعل ، وفي حال السلم والحرب ، إلا أنها تشهد للمسلمين أيضاً بالصبر والتقوى بأدائهم الفرائض وإقامتهم على فعل الصالحات ، ولجوئهم إلى الإستغفار .
وهل يختص هذا اللطف بصحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته أم أنه عام ، الجواب هو الثاني إذ يشمل المسلمين والمسلمات جميعاً ، ويتعلق موضوع الآية بالإستغفار وسؤال الثبات في عمل الصالحات ،وفي مواجهة أوهام الضلالة وشكوك أهل الريب ، ومكر المنافقين .
وتتضمن الآية تنمية ملكة الصبر عند المسلمين لتكون حرزاً يوم القيامة ، فمن تثبت قدماه في الدنيا في مسالك الطاعات ينجو من مزلتها في الآخرة .
وفي التنزيل [وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ] ( ) لتأتي آية البحث ذكرى وموعظة ، وبياناً بأن الإيمان قديم في الأرض وليس له من حد في الفعل والقول ، أما فعل المؤمنين من الأمم السابقة فتبينه الآية السابقة بأبهى حلة بالتفاني في مرضاة الله والمبادرة لملاقاة الكفار وقتالهم ، ويدل قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ]على إفادة شدة القتال مع الكفار لوقوعه بين ضدين لا برزخ أو وسط بينهما ، فليس من صلح ومهادنة بين الإيمان والكفر لذا ورد قوله [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
يتجلى العطف على الآية السابقة بلحاظ أمور :
الأول : الإبتداء بحرف العطف [الواو ] .
الثاني : مجئ الضمير [هم] في قولهم والذي يدل على عائديته إلى كلام سابق ، وتجد ذات الضمير في ثنايا الآية السابقة ، والتي يكون الفاعل فيها هو [ الربيون ] .
الثالث : إلحاق القول الوارد في آية البحث بالفعل والجهاد الذي تضمنته الآية السابقة .
الرابع : إتحاد سنخية الجهاد والصبر وطاعة الله في هذه الآية والآية السابقة ، وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء الصبر في جنب الله وتعاهد طاعته والتقيد بسنن التقوى ، ومادة الإفتراق أن موضوع الآية السابقة هو جهاد الربيين في سوح القتال .
بينما تبين آية البحث قولهم وجهادهم النفس الشهوية والغضبية بالإقامة على الدعاء .
لقد تضمنت الآية القصر والحصر في عالم اللسان وكأن الربيين من الملائكة وحملة العرش الذين لا شغل لهم إلا التسبيح والتهليل والذكر ، وهو من فضل الله ، ومن أسرار مضاعفة العمل الصالح للمؤمن وجعل القليل الذي يؤتيه يتغشى ساعات ليله ونهاره فاذا إستغفر الله مائة مرة كتبه الله له أضعافاً مضاعفة بما يعادل في وقته وزمانه ساعات النهار والليل , وهومن مصاديق قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ) .
وصحيح أن الآية أعلاه جاءت بخصوص الإنفاق في سبيل الله إلا أن الثواب فيها أعم في موضوعه فيشمل العمل الصالح والقول الطيب والذكر والإستغفار لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
ويتحدث الربيون في أمور الدنيا مع ذويهم وأهليهم ، ويتعاملون في البيع والشراء والمكاسب ، ويمتهنون الزراعة والتجارة ويعقدون صيغ القبول والإيجاب وقد يتعاملون بالمعاطاة ،ولكن آية البحث لم تذكرها ، وكأنها تنفي موضوعها .
وهو من كرم ولطف الله وإنعامه على المؤمنين ، لتكون الآية وثيقة سماوية خالدة تبشر المؤمنين بصحائف من نور تصبغ أعمالهم في الدنيا بالضياء الذاتي فيأتي المسلم يوم القيامة وكأنه لم يكن يتكلم في الدنيا إلا بتلاوة القرآن والتسبيح وإقامة الصلاة والإستغفار فيكون من مضاعفة الأجر والثواب للمسلمين هو إنبساط عمل الصالحات والإجتهاد في العبادات على أوقات إضافية من عمر الإنسان فاذا كانت صلاة الظهر تستغرق من الوقت خمس دقائق.
ويتفضل الله عز وجل بمضاعفتها في الأجر سبعمائة مرة بلحاظ الآية أعلاه من سورة البقرة فيكون( 5×700 =3500 )مجموع دقائق وقت الصلاة اليومية وثوابها ليكون وقتها بلحاظ مضاعفة الأجر والثواب أكثر من ساعات اليوم والليلة فكيف والمسلم يصلي خمس صلوات في اليوم ، فلذا ينال المسلمون يوم القيامة ما نال الربيون في قوله تعالى [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا] ( )وهذه المنزلة لا ينالها المسلمون إلا بفضل ورحمة من عند الله ، كما أن الربيين لم يفوزوا بها ويذكرها القرآن لهم إلا بفضل الله وهدايته لهم للإجتهاد في الإستغفار ليكون رديفاً للجهاد في سوح المعارك .
لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]ليكون من معاني الإشتراك المعنوي بين الربيين والمسلمين الأجر وإكتناز الصالحات والفوز بالمراتب العالية إسما ومسمى أما المسمى فجلي وواضح وأما الاسم فهل يصح تسمية المسلمين ممن جاهد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[الربيين] الجواب نعم .
لقد إبتدأ قول الربيين بنداء الدعاء [ ربنا ] وهو من أمهات أسماء الله ، وفيه دلالة على الإقرار لله عز وجل بالقدرة المطلقة ولم يسألوا المال والجاه بل سألوا غفران الذنوب ، ولم يكتفوا بسؤال المغفرة بل أقروا بالمعصية وإرتكاب الذنوب .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على إرادة الذنوب في الزمن الماضي والتقدم على أوان الإستغفار ، وفيه أمارة على إفتتاح أعمالهم بعد الإستغفار بالتقوى والإحتراز من العودة إلى الذنوب وقد وعد الله عز وجل العفو لمن يستغفره .
[عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « من أُلْهِمَ خمسة لم يحرم خمسة ، من ألهم الدعاء لم يحرم الاجابة؛ لأن الله يقول { ادعوني استجب لكم }( ) ومن ألهم التوبة لم يحرم القبول؛ لأن الله يقول { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده }( ) ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة؛ لأن الله تعالى يقول { لئن شكرتم لأزيدنكم }( ) ومن ألهم الاستغفار لم يحرم المغفرة؛ لأن الله تعالى يقول { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً }( ) ومن ألهم النفقة لم يحرم الخلف؛ لأن الله تعالى يقول { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه }( )]( ).
ثم سأل الربيون الله عز وجل العفو والمغفرة عن إسرافهم وتجاوزهم الحد في أمورهم الخاصة والعامة وغلبة النفس الشهوية والغضبية أحياناً وحب الدنيا وإستلاء الرغائب والأماني على القلب ساعة من نهار ، قال تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي]( ).
ترى لماذا قدمت الآية الإستغفار ، الجواب إنه مفتاح قبول وجوه الدعاء الأخرى الواردة في الآية ولئن يدعو العبد من مقامات الخلو والتنزه عن الآثام وأوزارها أفضل وأسمى من أن يدعو وهي عالقة بصفحته ويئن من ثقلها على كتفيه ، ومع هذا فهي ليست برزخاً ومانعاً من الدعاء وسؤال العفو والمغفرة ، ليكون من خصائص الربيين إختيار أفضل السبل للدعاء بتقديم الإستغفار .
وبعد سؤال الإستغفار ومحو الذنوب والتجاوز عن الإسراف سأل الربيون الله عز وجل تثبيت أقدامهم ،وفيه شاهد على حاجة المسلم لرحمة الله في ميادين القتال والتوفيق لأداء العبادات وفعل الصالحات .
وأختتمت الآية بسؤال النصر وتقييده بأنه على الكافرين ، لمنع التأويل بإرادة النصر على النفس الأمارة بالسوء ونحوه ، ويتضمن الدعاء سؤال رمي الكافرين بالوهن والضعف ،وجعلهم عاجزين عن ملاقاة المؤمنين في سوح المعارك ، ومدّ المؤمنين بالقوة والعزيمة ومواصلة الجهاد فمع أن الآية السابقة بينت أن الربيين لم يهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا فإنهم أرادوا بهذا الدعاء أموراً :
الأول : سؤال إستدامة حال عدم الضعف والوهن .
الثاني : زيادة قوة ومنعة المؤمنين .
الثالث : رمي الكفار بالضعف والفرقة والتشتت .
الرابع : هداية الناس إلى منازل الإيمان .
وتكررت مادة [قال ] في الآية وجاء بصيغة الاسم والإضافة [قولهم ] وبصيغة الفعل الماضي ولغة الجمع [قالوا ] لبيان إنحصار موضوع القول بخصوص الربيين ، ثم جاء نظم الآية كله من مصاديق قول الربيين , وليس فيه إلا الخير المحض للفرد والجماعة منهم ، وللذات والغير ليكون إرثاً عقائدياً للمسلمين ، وأختتمت الآية ببيان قانون كلي وهو إحراز المسلمين لسلاح عظيم وهو الدعاء وعجز الكافرين عن إمتلاك جزء منه , قال تعالى في ذمهم وبعث اليأس في نفوسهم [وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
ومنذن أن هبط آدم وحواء إلى الأرض بعد الخطيئة بالأكل من الشجرة صار الإستغفار حاجة له ولذريته ، ولباس زينة يتباهى به المؤمنون وفيه خير الدنيا والآخرة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
ومن إعجاز الآية أنها بدأت بسؤال الإستغفار للوقاية من وسوسة الشيطان وإزاحة تبعات إغوائه وإجتناب خطواته ، ثم أختتمت الآية بالنصر على الكافرين على نحو الحصر والتعيين ، وفيه دعوة للمسلمين لنبذ الفرقة وحرمة الإقتتال بينهم لأنهم جميعاً يدعون الله للغلبة على عدو مشترك وهم الكفار .
من غايات الآية
لقد جاءت هذه الآية لأمور حميدة تضيء طريق الهدى للمسلمين من وجوه :
الأول : البيان والتفصيل في حياة الأمم السابقة وتوارث نهج الإيمان.
الثاني : تأكيد رحمة الله عز وجل بتعاقب الأنبياء.
الثالث : الإخبار عن نزول الأنبياء إلى سوح القتال ومعهم أصحابهم، وإن إختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدفاع بالسيف لم يكن أمراً مستحدثاً في تأريخ النبوة، وبخصوص معركة أحد قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، لبيان نهج الأنبياء السابقين وأصحابهم في القتال.
الرابع : بيان معنى الصبر في حياة المؤمنين، فهم يقاتلون الكفار في سوح الوغى، ويلهجون بالدعاء وسؤال المغفرة، لبيان قانون وهو إستكانتهم وخضوعهم لله عز وجل، وإدراكهم بأن القتال في سبيل الله لا يعني غفران الذنوب وجلب التوبة والمغفرة من عند الله، بل لابد من الإستغفار وهو من مصاديق الصبر وما ورد في خاتمة الآية السابقة[وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
الخامس : بيان قانون تحقيق النصر على الكفار بالسيف والدعاء، واليد واللسان، فتعمل اليد في سبيل الله، ويواظب اللسان على الإستغفار والدعاء، ويحتمل مجئ النصر وجوهاً:
الأول : تحقيق الغلبة على الكفار بالسيف وقوة السلاح.
الثاني : يتنجز النصر بالدعاء والتضرع إلى الله، وهو من مصاديق قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثالث : لا يتحقق النصر إلا بالجمع بين السيف والصبر والدعاء، فيخرج المؤمنون للقتال وهم يسألون الله عز وجل النصر وهزيمة الكفار.
وتبين هذه الآية والآية السابقة الوجه الثالث أعلاه، وهو من أسرار إختصاص أصحاب الأنبياء السابقين الذين قاتل معهم (الربيون) وفيه بيان لنيل المسلمين ذات الصفة .
وهل لهذه التسمية موضوعية في إزاحة مفاهيم الشرك والضلالة من النفوس ، الجواب نعم، وتلك آية من إعجاز القرآن وموضوعية الأسماء فيه، فتفضل الله تعالى وسمّى أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم وأخلصوا في الدعاء والمسألة إسماً يفيد مدحهم والثناء عليهم، والدعوة للتأسي بهم .
ويدل بالدلالة التضمنية على حاجة الأرض إلى أمة مؤمنة تقاتل في سبيل الله وتجتهد في الإستغفار وسؤال النصر على الكافرين ، إلا أنه لا برهان على إستدامة وتجدد هذه الحاجة في كل زمان، لذا تفضل الله عز وجل وجعل هذه الآية سلاحاً وحرزاً وسبباً للصلاح ودفع الفجور وأسباب الضلالة.
السادس : بيان خصال المؤمنين، وتقّوم القتال في سبيل الله بالدعاء والإستغفار ورجاء النصر بتوثيق ووعد من الله.
السابع : تقديم الإستغفار على سؤال النصر على الكافرين ليكون مقدمة لقبول الدعاء والفوز بالإستجابة.
الثامن : هداية المسلمين لمنهاج المؤمنين في الأمم السابقة، بما يجذب لهم السعادة في النشأتين، إذ تبين الآية التالية فضل الله عز وجل باتيان الربيين خير الدنيا والآخرة.
التاسع : تنمية ملكة الدعاء عند المسلمين، وحثهم على الصدور عنه في حال الشدة والخوف الحرز الحصين .
[عَن أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَافَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ مِنْ قَوْمٍ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ] ( ).
ويفيد الجمع بين الدعاء أعلاه وأدعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأخرى عند لقاء العدو أموراً:
الأول : لجوء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدعاء عند المقدمة وذيها، أي عند مقدمة لقاء العدو وحينما يقع هذا اللقاء ويتجلى إنقطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء في معركة بدر وهي أول معارك الإسلام وكان النصر حاجة للمسلمين وأحكام الشريعة ، [عن ابن عباس قال : إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عليها نزلوا على الماء يوم بدر فغلبوا المؤمنين عليه ، فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين ومحدثين؟ فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن فقال لهم : أتزعمون أن فيكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنكم أولياء الله وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون مجنبين ومحدثين؟ حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ,
فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المؤمنون ، وملأوا الأسقية ، وسقوا الركاب ، واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت أقدامهم ، وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة .
فبعث الله المطر عليها فلبدها حتى اشتدت وثبت عليها الأقدام ، ونفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجميع المسلمين , وهم يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، منهم سبعون ومائتان من الأنصار وسائرهم من المهاجرين ، وسيد المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة لكبر سنه .
فقال عتبة : يا معشر قريش إني لكم ناصح وعليكم مشفق لا أدخر النصيحة لكم بعد اليوم ، وقد بلغتم الذي تريدون وقد نجا أبو سفيان فارجعوا وأنتم سالمون ، فإن يكن محمد صادقاً فأنتم أسعد الناس بصدقه ، وإن يك كاذباً فأنتم أحق من حقن دمه .
فالتفت إليه أبو جهل فشتمه وفج وجهه وقال له : قد امتلأت أحشاؤك رعباً . فقال له عتبة : سيعلم اليوم من الجبان المفسد لقومه .
فنزل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، حتى إذا كانوا أقرب أسنة المسلمين قالوا : ابعثوا إلينا عدتنا منكم نقاتلهم . فقام غلمة من بني الخزرج فاجلسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال : يا بني هاشم أتبعثون إلى أخويكم – والنبي منكم – غلمة بني الخزرج؟ فقام حمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبيدة بن الحارث ، فمشوا إليهم في الحديد فقال عتبة : تكلموا نعرفكم ، فإن تكونوا أكفاءنا نقاتلكم . فقال حمزة رضي الله عنه : أنا أسد الله وأسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فقال له عتبة : كفء كريم . فوثب إليه شيبة فاختلفا ضربتين فضربه حمزة فقتله ، ثم قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الوليد بن عتبة فاختلفا ضربتين فضربه علي رضي الله عنه فقتله ، ثم قام عبيدة فخرج إليه عتبة فاختلفا ضربتين فجرح كل واحد منهما صاحبه ، وكر حمزة على عتبة فقتله .
فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال اللهم ربنا أَنْزَلْتَ عليَّ الكتاب وأمرتني بالقتال ووعدتني النصر ولا تخلف الميعاد « فأتاه جبريل عليه السلام ، فأنزل عليه { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين }( ) .
فأوحى الله إلى الملائكة { إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } فقتل أبو جهل في تسعة وستين رجلاً ، وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبراً ، فوفى ذلك سبعين وأسر سبعون] ( ).
وقد أفرد بعض العلماء باباً خاصاً بالدعاء عند هذا لقاء العدو.
الثاني : جعل ذات الدعاء مقدمة للقاء، من جهات:
الثالث : الدعاء واقية لدفع لقاء الكفار.
الرابع : الدعاء إحتراز من شر العدو.
الخامس : في الدعاء طرد للغفلة عن اللقاء، فلا يأتي العدو بغتة لأن المسلمين في حال يقظة وحذر.
السادس : تقديم الدعاء قبل اللقاء سبب لجلب النصر، ووسيلة لتلقي المدد والعون من عند الله عز وجل .
السابع : المواظبة على الدعاء قبل اللقاء ينفي الذهول عن الدعاء عند المؤمنين ساعة اللقاء ، والتضرع إلى الله بالنصر والغلبة، وهو الذي يدل عليه الإطلاق الزماني لقول الربيين الذي ذكرته آية البحث، ليكون من غايات الآية حث المسلمين على الدعاء واللجوء إليه عند الشدة والعسر والضراء مطلقاً ، قال تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) ,
ومن معاني آية البحث وقصر قول الربيين على الدعاء سلامتهم من الإعتداء على الغير ، وظلم الآخرين وهو ثناء إضافي على الربيين مستقرء من مضامين الآية الكريمة . قال الطبري في الآية : وإنما هذا تأنيب من الله عز وجل عبادَه الذين فرُّوا عن العدو يوم أحد وتركوا قتالهم، وتأديبٌ لهم. يقول: الله عز وجل: هلا فعلتم إذ قيل لكم:”قُتل نبيكم” – كما فعل هؤلاء الرِّبِّيون، الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء إذ قتلت أنبياؤهم. فصبرتم لعدوكم صبرَهم، ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم، فتحاولوا الارتداد على أعقابكم، كما لم يضعف هؤلاء الرِّبِّيون ولم يستكينوا لعدوهم، وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا، فينصركم الله عليهم كما نصروا، فإن الله يحب من صَبر لأمره وعلى جهاد عدوه، فيعطيه النصر والظفر على عدوه( ).
ونشكل عليه بأنه لا دلالة في الآية على إرادة تأنيب المسلمين الذين فروا يوم أحد، ولو دار الأمر في اللفظ القرآني بين إرادة توبيخ المسلمين والتعريض بهم وبين عدمه ،فالمختار هو الثاني، لقد نزل القرآن رحمة بالمسلمين وهداية لهم، وتضمنت الآيات الثناء عليهم كما في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وقد يقال يمكن تأويل الآية أعلاه بتعلق لفظ(خير) والتفضيل بالعنوان الجامع بلحاظ أفراد القول والفعل للأمة، فيكون المسلمون أفضل من طوائف مؤمني الأمم الأخرى في موضوع وفعل، ويكون هؤلاء أفضل في موضوع آخر، ولكن رجحان كفة الميزان بالجامع من الأفعال والأقوال لصالح المسلمين .
ولا دليل على هذا التفضيل والدقة العقلية في المقام إنما تكون الأحكام وفق المعنى الجلي والمبين، لذا فان الآية أعلاه نعتت المسلمين بأنهم (خير أمة) ( ) لتكون واقية لهم من التأويل بأرادة توبيخهم وذمهم في ذكر قصة وإشراقة من عبادة ونسك الأمم السابقة.
التفسير
قوله تعالى [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا]
لما إجتهد الربيون في نصرة الأنبياء وبذلوا أنفسهم في سبيل الله وإعتصموا من الوهن والذل تفضل الله وهداهم [ إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ] ( )فكان كلامهم في طلب الدنيا والآخرة وفيه كشف لمعاني من قصد القربة , وكأن الآية تقول : إن غاية الربيين من قتالهم مع الأنبياء أمور :
الأول : رجاء العفوة ومغفرة الذنوب ، وهل تدل الآية على إحاطة الذنوب بالربيين وما من أحد منهم إلا وعنده ذنوب كثيرة , الجواب لا ، إنما يسأل الربيون والمتقون الله عز وجل المغفرة مطلقاً عن الذنوب رجاء العفو وإن لم تتعلق في ذمتهم الذنوب والمعاصي وهو تأديب للمسلمين وحرز لهم من المعاصي فليس من غرض دنيوي عند الربيين ولا رغبة في مكاسب شخصية أو رجاء ثروة أو مال ، إنما كان القتال في سبيل الله طريق الفلاح في النشأتين.
وتبين الآية أن من خصائص (الربيين) علو الرتبة في المعرفة الإلهية وأنهم لم يكتفوا بالقتال تحت لواء النبي بل صدقوا الله والنبوة في كلامهم وقولهم ودعائهم وإقتبسوا من أدعية الأنبياء، إذ وردت أدعية الأنبياء في القرآن بلفظ(ربنا) وورد حكاية في التنزيل عن موسى عليه السلام في دعائه على فرعون وملئه [رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ] ( ).
إن قتال الربيين مع النبي دعوة عملية باليد للناس للتصديق بالنبوة، وجاءت آية البحث دعوة لهم باللسان ولكنها دعوة ذاتية إذ أنها مرآة لحسن سمت الربيين بما يجعل الناس يتدبرون في ذات النبوة ومعجزة نبي الزمان، أي يظهر الربيون التقوى ويتعاهدون الفرائض، ويتقربون إلى الله بالإستغفار مع الثبات في مقامات الإيمان، فيدرك الناس صدق النبوة أي أن مضامين آية البحث دعوة للناس لإتباع الأنبياء والتصديق بالتنزيل ودخول الإسلام.
وهل قول الربيين[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] الآية جهاد في سبيل الله أم أن القدر المتيقن من الجهاد بالنسبة للرجال هو القتال والمسايفة، الجواب هو الأول، ليجمع الربيون بين أمور :
الأول : الجهاد بالسيف .
الثاني : الجهاد بالنفس وفنائها في مرضاة الله.
الثالث : الجهاد بين الناس بجعل ألسنتهم دائبة في الإستغفار وأسباب بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الرابع : الجهاد لدفع الظلم والضرر ، قال تعالى [وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ]( ).
إذ أن قوله تعالى[وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] نوع تحد للكفار وإنذار لهم، وإخبار عن إستعداد المؤمنين للذب عن النبي وعن ديانة التوحيد.
وتتضمن الآية في منطوقها الشهادة للربيين بالإخلاص في العبادة والصدق في الدعاء، وهو من فيوضات النبوة، ومنافع حضور النبي والوحي السماوي بين الناس.
قانون إفتتاح الدعاء بـ[رَبَّنَا]
من أمهات أسماء الله الحسنى [الرب] وورد في أكثر من تسعمائة موضع في القرآن ،فهو سبحانه خالق كل شيء، ومربي كل شئ ليس من بقاء لأي شيء إلا بربوبية الله وتصرفه وملكيته وكل شئ في قبضته ومستجيب له ، قال تعالى [وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ]( )، ومنهم من قسم العبودية إلى قسمين :
الأول : عبودية عامة ، وهي عبودية أهل السماء والأرض كلهم لله برهم وفاجرهم ، فهي عبودية ملك وإنقياد وأستدل بآيات منها قوله تعالى [إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا] ( )فيدخل فيه المؤمن والكافر، وقوله تعالى [وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ]( )وأن الله عز وجل سماهم عباده مع ضلالهم .
الثاني : عبودية الطاعة والإمتثال للأوامر والنواهي وأستدل بآيات عديدة منها قوله تعالى [فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ]( )و[لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ]( ).
ولكن العبودية لله من الكلي المتواطئ بالنسبة للخلائق جميعها ، فهي منقادة إلى الله عز وجل لا يخرج أحدها عن ربوبيته المطلقة ، والآية أعلاه قيدت العباد بأنهم بوصف كريم.
ولا تصح العبادة إلا لله سبحانه إنما يصدر القصور من شطر من الناس فجاءت آيات القسم الأول أعلاه بخصوص الحشر ، وتجلي معاني عبودية الخلائق المطلقة لله عز وجل ، وجاءت آيات القسم الثاني أعلاه لبيان تفاني شطر من العباد في تقوى الله .
وتوجه الأنبياء بالدعاء باسم [ربنا] لإفادته معنى الملك والخلق والتدبير ، فهو تسليم بتفرد الله عز وجل بالإحياء والرزق والإماتة .
ومن إعجاز القرآن أن الربيين إتبعوا الأنبياء في كيفية الدعاء والتوسل والتضرع ، كما إتبعوهم في قتال الكفار بهّمة وعزم ، لبيان قانون في الأرض وهو أن الأنبياء يغادرون الدنيا ويبقى المؤمنون على نهجهم في العبادة والعمل الصالح والدعاء ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
ويحتمل قول الربيين [ربنا] وجوهاً :
الأول : إجتماع الربيين في الدعاء ، فكلما يهبون مجتمعين إلى ساحة القتال ، فانهم يفزعون إلى السؤال والدعاء إلى الله عز وجل مجتمعين.
الثاني : كل جمع وعدد منهم يقولون ربنا إعفر لنا ذنوبنا ، إذ تبين الآية إستحباب الإشتراك في الدعاء.
الثالث : لما نعتت الآية السابقة الربيين بالكثرة بقوله تعالى [رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]جاء الدعاء بصيغة الجمع .
الرابع : إرادة وراثة الربيين الدعاء بصيغة الجمع من الأنبياء، وفي إجابة وإحتجاج موسى عليه السلام على فرعون ورد في التنزيل [قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى* قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى]( ).
الخامس : المقصود دعاء المفرد بصيغة الجمع من جهات :
الأولى : يدعو الربي لنفسه وأصحابه وأهله .
الثانية : إعلان الربي بأن الله عز وجل رب الخلائق كلها ، وهو مقدمة كريمة لبيان المسألة والحاجة .
الثالثة : المؤمن بمفرده كالأمة والجماعة في الدعاء ، قال تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا]( ) [وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ما من عبد يشهد له أمة إلا قبل الله شهادتهم . والأمة ، الرجل فما فوقه إن الله يقول : { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين }]( ).
السادس : الآية وثيقة سماوية تبين إنقطاع الربيين للدعاء والمسألة وموضوعها لا يختص بفرد متحد من الربيين أو من الدعاء ، إذ تتضمن الإخبار عن التعدد والكثرة في دعاء الربيين .
لقد فاز المسلمون بنعمة الدعاء والتقرب إلى الله بالمعنى الأعم بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )وتفضل سبحانه وأوجب على كل مسلم ومسلمة تلاوة هذه الآية مرات عديدة في كل يوم لتكون مقدمة للدعاء وهي بذاتها دعاء وشكر لله عز وجل على الدعاء ، ومن معانيها وفق آية البحث وجوه :
الأول : شكر المسلمين لله عز وجل على التوفيق للدعاء لمغفرة الذنوب .
الثاني : الجامع المشترك بين المسلمين والربيين بالإستغفار والثناء على الله عز وجل .
الثالث : تفضل الله عز وجل بإخبار المسلمين عن حال الربيين وجهادهم في سبيل الله وتأكيد الإستغفار وكأنه بعرض واحد مع الدعاء من حيث الأثر والتأثير .
الرابع : تأديب المسلمين بالحث على الإستغفار وبيان موضوعيته في سنن الإيمان .
الخامس :تنمية ملكة حب الإستغفار واللجوء إليه، وتذوق حلاوته ، وكأن الإستجابة فيه حاضرة ، قال تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي] ( ) .
إن إفتتاح الدعاء بـ [ربنا] لا يعني الحصر به لتعدد وكثرة أسماء الله الحسنى ولكنه عنوان وشاهد على صدق العبودية وتسليم بقدرة الله المطلقة , وهذا التسليم مقدمة للإستجابة.
بحث بلاغي
من مفردات علم البلاغة إصطلاحان :
الأول : المشترك اللفظي وهو اللفظ الواحد الذي يدل على معنيين أو أكثر على نحو السواء وأمثلته كثيرة مثل (الحوب ) الذي يدل على معاني كثيرة وإن إتفقت في النطق والكتابة الإثم الحاجة ، المسكنة ، الحزن ، الأخت ، البنت.
ومنها (العين) التي تطلق على الآلة الباصرة ، وعين العدو وهو جاسوسهم، وعين القوم وهو رئيسهم، والبئر، وذات الشئ وأفضل الأفراد من ذات الجنس ، وتطلق على النقدين من الذهب والفضة.
ومنها لفظ الخال [وفي كتاب مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي: الخَال له معان؛ فيطلق على أخي الأم، والمكان الخالي، والعَصْر الماضي، والدابة، والخيلاء، والشَّامَة في الوجه، والمَنخُوب الضعيف، وضَرْب من بُرُود اليمن، والسِّحاب، والمُخَالاة، والجبَل الأسْود، وثوب يُسْتَر به الميت، والرجل الحسن القيام على ماله، والبَعِير الضَّخْم، والظنَّ والتَّوَهُّم، والرّجل المتكبّر، والرجل الجواد، والأكمة الصَّغِيرة، والرَّجل المنفرد والمُبَرِّئ والذي يَجزُّ الخَلَى( ).
وفي المشترك اللفظي وجوداً وعدماً أقوال :
الأول : إنكار المشترك اللفظي مع إيجاد تأويل للتشابه اللفظي للمعاني المتعددة أنه حقيقة في معنى، ومجاز في معنى آخر، وبه قال ابن دُرستويه ، والعلة عدم التغاير اللغوي في أصل الوضع .
الثاني : وقوع المشترك اللفظي ، وتعدد الشواهد عليه، وهو المشهور والمختار .
الثالث : وجوب وقوع المشترك اللفظي لتناهي الألفاظ ، وعدم تناهي المعاني .
والخلاف صغروي ،إذ يقع في الاسم دون المسمى وبالرجوع إلى أصل الوضع وإتحاد المعنى أو تعدده منه .
أما في الإستعمال فالتشابه والإشتراك أمر جلي.
الإصطلاح الثاني : المشترك المعنوي وهو اللفظ الموضوع أزاء مفهوم كلي ينطبق على مصاديق متعددة في الإستعمال ، الجامع بينها إتحاد الجنس مثل لفظ إنسان فإنه يقع على زيد وحسن وعمرو وعبد الله وغيرهم ، ولفظ شجر ،وقلم وكتاب ونحوه ، فان اللفظ وضع لمعنى مخصوص.
ومن الفروق بين المشترك اللفظي والمعنوي أمور :
الأول : أفراد المشترك اللفظي معدودة بما فيها المصاديق التي إنتقل لها اللفظ أو أستعمل فيها مجازاً .
الثاني : تطبيق المشترك المعنوي على مصاديقه لا يستلزم البيان الإضافي ، أما إرادة مصاديق جديدة ومجازية لإستعمال المشترك اللفظي فيحتاج إلى مؤونة ووقت ،لأن اللفظ لم يوضع لها بالأصل .
الثالث : لا يقبل المشترك اللفظي القسمة ، فلا تقول أن الخال ينقسم إلى أخي الأم والسحاب والعصر الماضي وغيرها بينما يقبل المشترك المعنوي القسمة على بعض معانيه بلحاظ القرينة أو المرجح وفي بعضها تكون أصالة الظاهر ،وعند التدبر في سياقه أو بلحاظ المفهوم .
ومن إعجاز اللفظ القرآني إمكان إرادة المتعدد من المعاني سواء بخصوص المشترك اللفظي أو المعنوي وعند تعدد القرائن والسياق والتأمل في الصيغة أو عند التجرد من القرائن وهو من أسرار إحاطة كلمات القرآن المتناهية بالواقع والأحداث غير المتناهية كما في لفظ الصلاة في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
ويحتمل لفظ [الربيون] الوارد في الآية السابقة [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]وجوهاً :
الأول : إنه من المشترك اللفظي .
الثاني : إنه من المشترك المعنوي .
الثاني : اسم وضع وأستعمل بمعنى مخصوص وهم أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم وتوجهوا إلى الله بافراد الدعاء التي تتضمنها آية البحث والمختار هو الثاني ، من وجوه :
الأول : تعدد مصاديق هذا النعت التشريفي .
الثاني : مجئ اللفظ في الآية السابقة بصيغة التنكير [ ربيون ] فيمكن أن يكون تقدير هذا اللفظ على وجوه :
الأول : وكأين من نبي آمن به ربيون كثير .
الثاني : وكأين من نبي جاهد وصبر معه ربيون كثير .
الثالث : وكأين من نبي إتبعه ربيون كثير .
الرابع : لغة التشبيه في الآية وإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن الآيات السابقة جاءت بخصوص نبوته والإخبار عن موته أو قتله صلى الله عليه وآله وسلم , فيكون تقدير أول الآية السابقة : وكالنبي محمد أنبياء قاتل مع كل واحد منهم ربيون كثير فيترشح عن مفهوم الآية التأكيد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم ، لذا جاء قبل آيات قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
لتبين الآية حقيقة وهي أن أصل لفظ الربيين الوارد في الآية هو خصوص أهل بيت وأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الآية ذكرت غيرها من باب التشبيه بلحاظ المشبه به وهم صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أظهر وأبين فلذا جاء المثل بالدلالة عليهم بحرف العطف الواو ، وأداة التشبيه الكاف في [كأين ].
قانون فيض الدعاء
في الآية موعظة من جهات :
الأولى : عدم حصر تداول الأيام بالمؤمنين والصالحين .
الثانية : الناس شرع سواء في إقبال الأيام عليهم , ومن اللطف الإلهي بالآية أنها لم تذكر إدبار الأيام وما يصاحبه من الأذى , وللدلالة على حقيقة وهي قد تصرف الأيام إلى قوم من غير إنصرافها عن غيرهم , قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
الثالثة : دعوة المسلمين لعدم الإفتتان بما في أيدي الكافرين من متاع الدنيا فانه من عند الله وفيه إستدراج لهم .
الرابعة : وجوب صبر المؤمنين عند إدبار الأيام عنهم وإقبالها على الكافرين .
الخامسة : اللجوء إلى الدعاء وسؤال الله عز وجل تسخير الأيام لأهل الإيمان وإعراضها عن الكفار .
السادسة : لزوم تعاهد المسلمين لمعاني الوحدة والإتحاد فيما بينهم ، وهو الذي تجلى بآية البحث من جهات :
الأولى : توجه الربيين بالدعاء وإنقطاعهم إليه بلحاظ حصر قولهم به.
الثانية : مجئ الدعاء بصيغة الجمع [ربنا] .
الثالثة : إرادة النفع العام من الدعاء ، ولو دعا أحد الربيين بذات الدعاء وسؤال المغفرة للجميع فهل تختص به المغفرة أم تكون عامة ، الجواب هو الثاني ، وهو من فضل الله على الناس والمندوحة في باب الدعاء من وجوه :
الأول : دعاء العبد لنفسه .
الثاني : دعاء المنفرد للجماعة .
الثالث : دعاء الجماعة للمفرد .
الرابع : دعاء العبد لأخيه المؤمن [وعن ام الدرداء قالت حدثني سيدي انه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول من دعا لاخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل] ( ).
الخامس : دعاء الجماعة للجماعة .
السادس : دعاء الجماعة والطائفة للأمة .
السابع : دعاء الحاضر للغائب .
الثامن : دعاء الغائب للحاضر .
التاسع : دعاء الموجود للمعدوم والذرية التي تأتي .
العاشر :دعاء الابن للآباء .
الحادي عشر : دعاء الحي للأموات.
الثاني عشر : دعاء النبي أمر ذو خصوصية ، وآية في العالمين من حيث الموضوع والحكم والإستجابة [عن عبد الرحمن بن علقمة الثقفي ، عن عبد الرحمن بن أبي عقيل قال : انطلقنا وفدا فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنخنا بالباب وما في الناس أبغض إلينا من رجل نلج عليه ، فما خرجنا وفي الناس أحب إلينا من رجل دخلنا عليه فقال قائل منا : يا رسول الله ألا سألت ربك ملكا كملك سليمان عليه السلام ؟ فضحك ثم قال : فلعل لصاحبكم عند الله عز وجل أفضل من ملك سليمان عليه السلام ، « إن الله عز وجل لم يبعث نبيا إلا أعطاه دعوة فمنهم من اتخذها دنيا فأعطيها . ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه فأهلكوا بها ، وإن الله عز وجل أعطاني دعوة فخبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة] ( ).
ومن الإعجاز في آية البحث أن الربيين لم يسألوا الله الدنيا وزينتها ، ولم يسألوا الجاه والمال والسلطان مع تعدد أفراد المسألة في آية البحث ، نعم كل سؤال من الأسئلة في آية البحث من سبل جلب الدنيا وجعل الأيام مسخرة بفضل الله للمؤمنين من جهات :
الأولى : إبتدأت الآية بسؤال الربيين مغفرة ذنوبهم ، وهو من أبهى طرق نيل الرزق وإقبال الأيام ، قال تعالى [وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ] ( ).
الثانية : سؤال العفو عن الإسراف والتفريط لإستقبال الأيام بالتدبير والحكمة وتسخير المال والجاه في مرضاة الله ، وعدم تضييع الفرص .
الثالثة: ثبات الأقدام في المعركة عز وهيبة ووسيلة لدحر العدو ومنع إستئثاره بالأيام وإستحواذه على السلطان والحكم ، وهل يتضمن سؤال ثبات الإيمان رجاء تهيئة مقدمات هذا الثبات ، الجواب نعم لأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأكمل ، ووجوب الشئ يستلزم وجوب مقدمته وأسبابه ، فجاء السؤال لجعلها سهلة قريبة المنال .
ويفيد الدعاء الإطلاق في تثبيت الأقدام وإن لم تتهيأ مقدماته لأن الله لا تستعصي عليه مسألة وليكون تحقق الإستجابة بفضل الله والمعجزة ، وقد نصر الله عز وجل المسلمين في معاركهم الأولى مع أن عددهم وعدتهم أقل من ثلث عدد وعدة المشركين .
الرابع : كما يحتاج ثبات الأقدام إلى مقدمات ليشملها الدعاء فانه بالذات مقدمة لأمور :
الأول : بعث الوهن في نفوس الكفار .
الثاني : إصابة جيش الكفار بالضعف .
الثالث : إلقاء أسباب الفرقة والخلاف بين الكفار .
الرابع :دعوة جيش الكفار لدخول الإسلام .
الخامس : حث المستضعفين على عدم الركون للكفار والإنقياد لأغراضهم الخبيثة ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
قوله تعالى [قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]
تقدير الآية على وجوه :
الأول : قالوا ربنا إغفر لنا ذنوبنا مجتمعين .
الثاني : قالوا ربنا إغفر لكل واحد منا ذنوبه )وهذا المعنى إنحلالي فقد يذكرون كل واحد منهم بالاسم وعلى نحو التعيين .
الثالث : قالوا ربنا إغفر للذين سبقونا من الربيين ذنوبهم ،وفي التنزيل [ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ] ( ).
الرابع : قالوا ربنا إغفر لأمة محمد ذنوبهم بلحاظ أن الربيين يحملون أمانة البشارة بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم ليكون وراثة أمته الإستغفار من معاني وأسرار توارث الأنبياء وأممهم البشارة برسالته .
الخامس : كل واحد من الربيين يقول : رب إغفر لي ذنوبي .
ولو دار الأمر بين الإتحاد في سؤال الربيين الله سبحانه مغفرة ذنوبهم، وبين التعدد فيه ، فالصحيح هو الثاني من جهات:
الأولى : إخبار آية البحث عن إنحصار قول الربيين بالإستغفار لقوله تعالى[وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا].
الثانية : نيل مرتبة الربيين ودلالتها على التقوى، التي تتقوم بالإستغفار.
الثالثة : مجئ الآية بصيغة الجمع [قَالُوا] ويفيد وجوهاً:
الأول : إرادة إجماع الربيين على لزوم الإستغفار.
الثاني : إتيان الربيين بالإستغفار مجتمعين.
الثالث : التفكيك ، وأن المقصود قيام كل فرد من الربيين بالإستغفار.
وتقدير الآية للمنفرد : وما كان قوله إلا أن قال ربي إغفر ذنوبي) بلحاظ تقدير لغة المفرد في الآية السابقة أيضاً.
لقد إبتدأت الآية قبل السابقة بصيغة القصر والتعيين في قانون من الإرادة التكوينية بقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً] ( )وفيه مسائل :
الأولى : الموت أمر حتم وقطع يصيب كل إنسان .
الثانية : لا يأتي على الإنسان إلا بأذن الله .
الثالثة : الموت حق وتأجيله فضل من عند الله عز وجل .
الرابعة : إنبساط التأجيل على كل آن من آنات عمر الإنسان (عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو رأيتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره ، وما من أهل بيت إلا وملك الموت يتعاهدهم في كل يوم مرة ، فمن وجده قد انقضى أجله قبض روحه ، فإذا بكى أهله وجزعوا قال : لم تبكون ولم تجزعون ؟ فوالله ما نقصت لكم عمرا ولا حبست لكم رزقا ، ومالي من ذنب ، ولي إليكم عودة ثم عودة] ( ).
الخامسة : من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض أن الله عز وجل هو الذي خلقه وأهبطه إليها وأسكنه فيها ، وفي التنزيل [قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ]( ).
والله سبحانه هو الذي يقبض روح الإنسان وإن كان بواسطة ملك الموت ، قال تعالى [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا] ( ).
ليكون هذا القصر فضلاً من عند الله ، ودعوة للمسلم للمعاملة مع الناس بلحاظ أنهم أحياء بإذن الله ، وفيه حث على حسن المعاملة والصبر على الأذى ، وإجتناب التعدي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( )بتقريب أن المسلم متى ما أدرك أن كل إنسان موجود إنما هو بإذن الله وبرحمته فانه يعامله بالحكمة والصبر ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
السادسة : موت الإنسان كتاب مؤجل ، وحبل ممدود ، وأجل متجدد ،وأمر مدفوع غير مصروف ، ليدل قوله تعالى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] بالدلالة التضمنية على لابدية الموت ولزوم التقوى ما دامت الحياة .
وفي الآية إضمار ، وتقدير الآية : كتاباً مؤجلاً بأذن الله أي يتكرر الإذن الإلهي , ويكون تقدير الآية : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً بإذن الله .
ليكون من معاني تكرار الإذن الإلهي رحمة الله عز وجل بالعبد , والدفع المتعدد للموت عنه لتكون الدنيا وعاء للتوبة والإنابة وعمل الصالحات وإبتدأت آية البحث بذات صيغة القصر [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا] .
وتلك آية في الثناء على الربيين ولبيان أن الجهاد في سبيل الله يتقوم بالإستغفار ، وحتى الذي يطلب الشهادة فانه يحتاج الإستغفار وهل فيه دفع للأجل ويكون تقدير الآية أعلاه : كتاباً مؤجلاً للذين يقولون ربنا اغفر لنا ذنوبنا .
الجواب نعم ، وهو من إعجاز نظم الآيات وتداخل مضامينها بما يفيد النفع العام للمؤمنين في الدنيا والآخرة ، كما يفيد الجمع بين الآيتين ولغة القصر فيهما التباين بين المؤمنين وغيرهم فلا يأتي الموت للمؤمن إلا وقد أكثر من الإستغفار بلحاظ كونه [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] والمؤمن في كل تأجيل هو على حال الإستغفار وسؤال العفو من عند الله عز وجل .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة)( )، وهل يجب على المسلم والمسلمة الإستغفار مائة مرة كل يوم أو أكثر منها من باب الأولوية القطعية ، بلحاظ قاعدة وهي إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعصوم من الذنوب والمعاصي يتوب كل يوم مائة مرة ، فيجب على غيره من المسلمين الإستغفار أكثر رجاء محو الذنوب والخطايا ، الجواب لا دليل عليه والقدر المتيقن من الحديث هو الأمر بالتوبة والإستغفار من غير تقييد بعدد المرات في اليوم أو الأسبوع ونحوه ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم [تُوبُوا إِلَى اللَّهِ]( )، وفيه تخفيف عن المسلمين ، وتكون تلاوة آية البحث إستغفاراً صادراً منهم بفضل من الله , وإن كان بقصد القرآنية والإخبار عن الأمم السالفة، وهو من فيوضات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، نعم تحث آية البحث المسلمين والمسلمات على الإقتداء بالربيين وتدلهم على صراط للفلاح والظفر مستقيم وهو الإستغفار، وعن الإمام علي عليه السلام قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال : ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ، فقالوا ، يا رسول الله أفلا نتكل؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له( ).
لتكون تلاوة آية البحث من هذا العمل، وتذكيراً للمسلمين بوجوب الإستغفار، وإستحضاره في حال السراء والسلم، وحال الشدة والضراء، ومن أسرار الإستغفار أن فيه جلاء للهم، وذهاباً للحزن وصرفاً للبلاء، وأخبرت آيات القرآن بأنه باب كريم للرزق.
بحث بلاغي
من البديع حسن النسق وهو الإتيان بجمل متتالية بعضها معطوف على بعض تتصف بالتلاحم تلاحماً سليماً ذا بهجة, ويصح إستقلال كل واحدة بنفسها باللفظ والمعنى ، ومن أمثلته قوله تعالى [أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ] ( ).
ومن معاني (حسن النسق ) مطابقة معنى اللفظ للواقع وحال المتلقي ، وحضور الأمر في التصور الذهني ، ومنه آية البحث إذ إبتدأت بقصر كلام الربيين على فرد مخصوص من الكلام ليحصل الإنتباه من قبل التالي للآية والسامع لها لموضوع هذا الكلام فابتدأ كلامهم بالنداء (ربنا) وهو من الكلي الطبيعي الذي يشترك فيه الناس جميعاً تسليماً بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
وقد يتبادر إلى الذهن تعلق أول دعاء وسؤال الربيين بحال القتال والحرب ولكنهم قدموا الإستغفار ، وتضرعوا إلى الله رجاء العفة والمغفرة منه تعالى لبيان قانون وهو حاجة المجاهدين في سوح المعارك إلى الإستغفار من جهات :
الأولى : الإستغفار سبيل لإصلاح النفوس .
الثانية : إعلان الربيين العزم على لقاء الحتوف ورجاء الإقبال على الآخرة بذنب مغفور .
الثالثة : تنمية ملكة التقوى عند الربيين ، لذا جاء الدعاء بصيغة الجمع .
الرابعة : حرص الربيين على بقاء الإستغفار تركة كريمة لأبنائهم من بعدهم ، وهو من أسرار توارث الإيمان .
قانون الإستغفار قول كريم
من نعم الله عز وجل على الإنسان نعمة اللسان والبيان ولغة التفاهم بين الناس قال تعالى [خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ] ( )وجعل الله سبحانه اللسان حجة على الملائكة في جعل آدم خليفة في الأرض بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ] ( ) لبيان قانون من وجوه :
الأول : وظيفة اللسان هي الذكر والنفع للذات والغير .
الثاني : صيرورة اللسان مادة للإحتجاج والبرهان .
الثالث : إتخاذ اللسان شاهداً على الحفظ وفيه تنمية للذاكرة ، فنطق آدم بالأسماء وسيلة لحفظها .
الرابع : اللسان صلة بين الإنسان والملائكة ، وهو أحد الوسائط لكتابة الحسنات أو السيئات .
الخامس : اللسان حجة للإنسان وحجة عليه ، ولكن بدايات اللسان رحمة لذات الإنسان وذريته , وكما تفضل الله بتعليم الإنسان الأسماء فأنه علمه الإستغفار بالتنزيل وعلى لسان الأنبياء ، وجاء القرآن بسنن الإستغفار وبما يفيد تهذيب اللسان وإصلاح السيرة والسلوك بلحاظ أن الإستغفار مرآة لما في خلد الإنسان ولا يقدر عليه إلا المؤمن الذي يقر ويعترف بالعالم الآخر وأن الله عز وجل يوقف الناس بين يديه للحساب.
السادس : اللسان واسطة وسبيل إلى النعيم الأخروي أو العذاب [وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا لَهُ دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِى جَهَنَّمَ] ( ).
وتكشف آية البحث عن حقيقة وهي أن في الإستغفار سلامة ووقاية في عالم القول ، لذا ورد قوله تعالى [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا].
وهل تدل آية البحث على أن الربيين لا يتلون التنزيل وأن صلاتهم الإستغفار وحده ، الجواب لا ، إنما جاء ذكر الإستغفار كفرد جلي وظاهر على اللسان ، ولبيان موضوعيته ، ولبيان أمور :
الأول : الإستغفار من مصادق الشكر لله عز وجل .
الثاني : الإستغفار ذكر لله عز وجل .
الثالث : بيان فضل الله على أصحاب الأنبياء بأن تكون أقوالهم في أمور الدنيا وحاجاتها بمنزلة الإستغفار لأنها خير محض .
الرابع : الإستغفار شاهد على نقاوة القلب وسلامته وخلوه من حب الدنيا وأفراد اللهو [عن شداد بن أوس رضي الله عنه وكان بدريا ، قال : بينما هم في سفر إذ نزل القوم يتصبحون ، فقال شداد : أدنوا هذه السفرة نعبث ، ثم قال : أستغفر الله ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أزمها ، وأخطمها قبل كلمتي هذه ليس كذلك .
قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : يا شداد ، إذا رأيت الناس يكنزون الذهب والفضة ، فاكنز هؤلاء الكلمات : اللهم إني أسألك التثبيت في الأمور ، وعزيمة الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وحسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، ولسانا صادقا ، وخلقا مستقيما ، وأستغفرك لما تعلم ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب] ( ).
الخامس : الإستغفار إستجارة بالمحبوب رجاء عفوه .
السادس : الإنقطاع إلى الإستغفار والذكر أمن من اللغو والجدال وأسباب الخصومة والخلاف .
السابع : الإستغفار باعث على اليقظة وأخذ الحائطة من العدو ومانع من الغفلة عن مباغتته .
الثامن : الإستغفار حرز من مهادنة الكافرين أو الركون إليهم ، فلما نفت الآية السابقة الإستكانة عن الربيين بقوله تعالى [وَمَا اسْتَكَانُوا]جاءت هذه الآية ببيان كيفية عدم الإستكانة بالإحتراز بالإستغفار ، ومن اللطف الإلهي بالإنسان أن كلمات معدودات ينطق بها الإنسان تأتي على الذنوب العظام والخطايا الجسام .
فيأتي قول [َاسْتَغْفِرْ اللَّهَ] على الذنوب فيمحوها محواً ولا يترك لها رسماً بفضل من عند الله ، وأدرك الربيون هذه النعمة ولم يفرطوا بها مع إنشغالهم بقتال الكافرين ، ليكون الإستغفار في المقام على وجوه :
الأول : في الإستغفار تخفيف عن المؤمنين في القتال كماً وكيفاً .
الثاني : كما يأتي الإستغفار على الذنوب بفضل الله فانه يمحو المعارك أو شطراً منها ، وتجلى في معركة الخندق إذ زحف الكفار بعشرة آلاف مقاتل على المدينة المنورة ليرجعوا من غير قتال بعد حصارها لأكثر من عشرين ليلة ، ولا يعلم ما صرف الله من مكر قريش وإرادتهم الهجوم على المدينة والغيلة والغدر ومحاولات الإغتيال إلا هو سبحانه، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
[وورد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « من قال : أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ، وأتوب إليه ثلاثا ، غفرت له ذنوبه ، وإن كان فارا من الزحف]( ).
ليبين قوله تعالى [قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا] إرادة تدارك التقصير في قتال الكفار والمشركين ، وإن كانت هذه الآيات تنفي عن الربيين الفرار من الزحف فقد كانوا يزحفون وهم يستغفرون .
وفي الآية ندب للمسلمين إلى الدعاء والإستغفار عند القتال ،ليكون من معاني ومنافع الإستغفار مسائل :
الأولى : الإستغفار مقدمة للنصر بفضل الله ، لأن المؤمنين يلاقون العدو بطهارة وسلامة من درن الذنوب .
الثانية : الإستغفار عنوان وحدة المؤمنين وملاك الوحدة هو التوحيد والإقرار بالعبودية لله عز وجل .
الثالثة : يذّكر الإستغفار بعالم الآخرة ويقطع الأماني في الدنيا،[في حديث أنس بن مالك الطويل: إذا أذنب العبد ذنباً كتب عليه، فقال الأعرابي: فإن تاب؟ محي من صحيفته، قال: فإن عاد؟ قال رسول صلى الله عليه وسلم يكتب عليه، قال الأعرابي: فإن تاب؟ قال محي من صحيفته .
قال : إلى متى يارسول اللّه؟ قال: إلى أن يستغفر: ويتوب إلى اللّه تعالى، وأن اللّه لا يملّ من المغفرة حتى يملّ العبد من الاستغفار، فإذا هم العبد بحسنة كتبها صاحب اليمين حسنة قبل أن يعملها فإذا عملها كتبها عشر حسنات ثم ضاعفها اللّه عزّ وجلّ إلى سبعمائة ضعف، وإذا همّ بخطيئة لم تكتب عليه فإن عملها كتبت خطيئة واحدة وراءها حسن عفواللّه تعالى: وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه إني لا أصوم إلا الشهر لا أزيد عليه ولا أصلي إلا الخمس لا أزيد عليهنّ وليس للّّه تبارك وتعالى في مالي صدقة ولاحجّ ولا أتطوع أين أنا إذا مت ؟ .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: في الجنة، قال: يا رسول اللّه معك فتبسم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقال نعم معي إن حفظت قلبك من اثنين الغل والحسد ولسانك من اثنين: الغيبة والكذب، وعينك من اثنين: النظر إلى ما حرم اللّه تعالى وإن تزدري بهما مسلماً دخلت معي الجنة على راحتي هاتين] ( ).
ومن أسرار التوكل على الله أنه يبعث الفزع في قلوب الكفار ويجعلهم يدركون المعجزات الخفية للنبوة التي تتجلى عند الشدائد ، وقد تقدم ذكر قانون السنة الدفاعية( ).
فحال القتال والدفاع مظهر للمعجزات النبوية وأسرار مرتبة الربيين لذا لم يرد هذا الاسم إلا بخصوص أصحاب الأنبياء ، ومقترناً بحال القتال مع النبي دفاعاً عن الإسلام وعن التنزيل وعنه وعن شرف نيل رتبة الربيين , ليكون دفاع الربيين عن أنفسهم وتقواهم من الإعجاز في إستحقاقهم هذه المرتبة .
وتبين آية البحث أن إستغفار النبي لأصحابه ومن أجلهم لابد أن يصاحبه إستغفارهم لأنفسهم .
قانون الصلاة حرز من الإنقلاب
تعاهد الفرائض والعبادات بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون تقدير قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [صلوا كما رأيتموني أصلي] ( )بلحاظ المقام على جهات :
الأولى : تقيدوا بأوقات الصلاة كما تروني أحرص عليها.
الثانية : تعاهدوا صلاة الجماعة ففيها أمن من الفرقة والشقاق .
الثالثة : تفقهوا في أحكام الصلاة وأركانها وواجباتها غير الركنية ومستحباتها .
الرابعة : الإكثار من صلاة النافلة فأنها خير محض .
الخامسة : تنمية ملكة حب الصلاة في النفوس [عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : إِنَّمَا حُبِّبَ إِلَي مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِىَ فِى الصَّلاَةِ] ( ).
السادسة : وجوب تلاوة القرآن في الصلاة لأن فيها حفظاً لآياته ، وسلامة لكلماته من التحريف والتغيير والنقص أو الزيادة .
السابعة : جعل الصلاة وأداءها هو التركة الكريمة للأبناء لذا ورد [عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :مروا الصبيان بالصلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها في عشر سنين ، وفرقوا بينهم في المضاجع] ( ) وفي حديث أنس بن مالك واضربوهم عليها لثلاث عشرة ( ) أي عند بلوغهم تمام الثالثة عشرة هلالية وهي أقل بأربعة أشهر من الميلادية بلحاظ أن الفرق بينهما كل سنة أحد عشر يوماً .وجاء الحديث أعلاه بصيغة العموم [مروا الصبيان] [ مروهم ] أي من غير تقييد بالأبناء والأحفاد ، بل هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العام في مصاديقه .
والظاهر أن الحديث مطلق لا يقيد بالتقية , بأن يكف الله عز وجل الظالمين وأذاهم عن موضوع توارث المؤمنين الصلاة .
[عن لقمان الحكيم قال : ضرب الوالد لولده كالماء للزرع] ( ).

لو إمتنع الابن في أوربا عن الصلاة
إذا كان المسلم مواطناً في بلاد الغرب والقوانين تحرم ضرب الأبناء مطلقاً وإن كان بسبب الصلاة والعزم على أدائها فهل يصح للأب ضربهم , الجواب لا ،لوجوه :
الأول : قاعدة نفي الحرج في الدين ، وإجتناب التشديد على النفس .
الثاني : قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، ولزوم عدم التعرض للأذى .
الثالث : الإبتعاد عن سبب النفرة في المجتمع .
الرابع : القدر المتيقن من الحديث النبوي حال الإمكان من الضرب وتقدير الحديث : وأضربوهم عليها مع الإمكان وعدم الحرج أو الضرر وصيرورته آخر العلاج .
نعم يجب بذل الوسع بصيغ الترغيب والندب إلى الصلاة وبيان منافعها في النشأتين ، والأضرار المترتبة على تركها .
الخامس : بيان أن أداء الصلاة حاجة لذات المكلف والمكلفة ، وهو جهاد وقهر للنفس الشهوية وباب لنزول شآبيب الرحمة والمغفرة ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ) .
ترى كيف يكون الضرب على الصلاة ، الجواب إنه ضرب خفيف وصرف الطبيعة ولو بالمسواك وخال من الغضب والإنفعال والتكرار في فرض واحد وبما لا يترك خدشاً أو إحمراراً في الجلد أو أثراً بالنفس , لأن الغرض منه التنبيه على موضوعية أداء الصلاة في حياة الفرد والأمة .
السادس : موضوعية صيغ الترغيب ،وبيان منافع الصلاة .
السابع : حرص الوالدين على أداء الصلاة أمام الابن وبحضوره مع أولوية أداء الفرائض في أوقاتها ، فلو تعارض الأمر بين الأداء في أول الوقت وبين الأداء بحضور اللابن والبنت يقدم الأول .
الثامن : التجمل للصلاة والحرص على أداء الصلاة والحرص على أداء الصلاة جماعة في المسجد , قال تعالى [خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] ( ).
قوله تعالى[وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا]
بعد سؤال الربيين الله عز وجل العفو والمغفرة عن ذنوبهم سألوا العفو عن تفريطهم وتجاوزهم الحد في أمورهم، وفيه أقوال:
الأول : ما ورد عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله[وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا] قال:خطايانا( ).
الثاني : عن مجاهد : خطايانا وظلمنا أنفسنا.
الثالث : عن الضحاك بن مزاحم: الخطايا الكبائر( ).
ويحتمل العطف في (وإسرافنا) وجوهاً :
الأول : إرادة عطف الخاص على العام، وأن الإسراف هنا جزء من الذنوب، لتكون النسبة بين الذنوب وهذا الإسراف هي العموم والخصوص المطلق.
الثاني : إفادة التساوي في الموضوع، ولكن العطف للتباين في الجنس.
الثالث : إفادة التأكيد على خصوص الإسراف والتفريط وتلك الذنوب التي يتمادى بها الإنسان.
الرابع : المراد من الإسراف في الأمر ترك مقدمات التوبة، والإنابة لبرهة من الزمن، وعدم المبادرة إليها.
الخامس : الإستغفار من فعل السيئات يدل في مفهومه على الإستقامة وإستقبال الأيام بالصلاح .
بعد سؤال الربيين الله عز وجل العفو والتجاوز عن ذنوبهم وخطاياهم سألوا الله عز وجل العفو عن الإسراف في الأمور ، وقد يكون الذنب إيقاعاً من طرف ، كما في الظلم ووقوعه على المظلوم أو أكل مال الربا أو السرقة وقد يكون نوع مفاعلة بين طرفين أو أكثر ، كما في الزنا وهو إيلاج فرج في فرج محرم شرعاً محبوب طبعاً .
أما الإسراف في الأمور فهو عام ويشمل التقصير الذاتي في الواجبات والمستحبات وعدم المبادرة إلى الصالحات ، وفي الآية نكتة وهي أن الربيين لم يكتفوا بالقتال مع الأنبياء بل شعروا بأنهم لم يدركوا الشهادة والقتل في سبيل الله فسألوا العفو عن إسرافهم في أمرهم ، لذا جاء لفظ [أمرنا ] بصيغة المفرد وإن كان المراد منه الجنس والعموم ولكنه لا يمنع من إرادة المعنى المتحد.
وتضمنت الآيات السابقة الثناء على المسلمين بقوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ]( ) لبيان أن المسلمين عشقوا الشهادة في سبيله وإشتاقوا إلى لقاء الله بالخروج لمواجه الكفار في معركة أحد ، والكفار في أشد قوتهم ، وفي حال إستعداد وتهيؤ للقتال بالسلاح والمؤون وإرادة الثأر .
وذهب أكثر المفسرين إلى أن الآية أعلاه توبيخ للمسلمين لأنهم إنهزموا في معركة أحد وتركوا النبي مع قلة من أهل بيته وأصحابه وسط المعركة .
والمختار أن معنى الآية مغاير إلى ما ذهبوا إليه وهي ثناء على المسلمين خاصة وأنها تخبر عن حال المسلمين قبل الخروج إلى المعركة ، وثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثلة من أهل بيته وأصحابه هو من عند الله وبفضله ثبات لهم جميعاً في معركة أحد ، لذا لم يوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اللوم إلى الذين فروا أثناء المعركة خاصة وأن أغلبهم رجع إلى الميدان حتى لجأ كفار قريش وغطفان إلى الإنسحاب .
نعم لم يكن هذا الإنسحاب مثل فرارهم يوم بدر ووقوع القتل الذريع والأسر فيهم إلا أنه هزيمة أيضاً وإعلان عملي عن العجز عن إرادة الثأر لما خسروه في معركة بدر .
وقد أكد القرآن هزيمة الكفار هذه بقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ويبقى سؤال الربيين بالعفو والمغفرة [وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا] شاهداً على حسن سمتهم وشدة إيمانهم وتحليهم بالأخلاق الحميدة ، وتقيدهم بآداب التقوى فمع جهادهم وفنائهم في طاعة الله والرسول فأنهم يتضرعون إلى الله لمغفرة ذنوبهم ، وفيه موعظة ودرس للمسلمين للجوء إلى الإستغفار وإجتناب الإسراف في الأمر ، وحث لهم على الإنتفاع من ساعات الزمان وتسخيرها في مرضاة الله عز وجل .
لقد فاز الربيون بحب الله لهم لقوله تعالى في خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] فأرادوا ألا يفرطوا بنعمة الحب العظيمة هذه بالإسراف وتعلقه بصحيفة أعمالهم لأن الله عز وجل [لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] ( )وفيه شاهد على عدم إجتماع الضدين ، وأن حب الله للربيين جلي وظاهر وأنهم تنزهوا عن المانع منه ، أو أسباب حجبه عنهم .
لقد غادر الربيون الدنيا والله عز وجل يحبهم وهو راض عنهم وهو من رحمة الله بالناس جميعاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن القرآن توثيق سماوي لهذه النعمة وتجلى في ماهية دعاء الربيين أنهم لم يدعوا على الناس الذين ظلموهم بل دعوا لأنفسهم بالمغفرة والثبات ليكونوا أسوة للناس في مناهج الصلاح ، عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وروى أنه لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه وقالوا لو دعوت عليهم فقال انى لم أبعث لعانا ولكني بعثت داعيا ورحمة اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون( ).
ومن الإعجاز في المقام أن دعاء الربيين لأنفسهم بالعفو والمغفرة سبيل هداية الناس .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس عفوا لا ينتقم لنفسه.
ولما تصدى له غورث بن الحارث ليقتله والسيف بيده وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من يمنعك منى قال له ” الله ” فسقط السيف من يده فقال له عليه السلام وقد أخذ السيف ” من يمنعك مني ” فقال كن خير آخذ.
فتركه وعفا عنه فجاء إلى قومه فقال جئتكم من عند خير الناس] ( ).
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على استقبال الربيين للقادم من الأيام بالحرص على عمل الصالحات والمرابطة في الثغور حتى بعد موت نبي زمانهم ، إذ أنهم لم يهادنوا الكفار ولم يضعفوا أو يتفرقوا لذا فان من الغايات الحميدة لدعائهم الوارد في هذه الآية الوقاية من الإنقلاب والإرتداد بعد فقد نبي زمانهم وإنتقاله إلى الرفيق الأعلى ، لتكون تلاوة المسلمين لآية البحث واقية من الإنقلاب والإرتداد والظاهر والخفي .
لقد إستحضر الربيون وقوفهم بين يدي الله [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ] فارادوا العفو والمغفرة وعدم الإفتضاح أمام الملائكة وأهل المحشر وسعوا بالجمع بين القتال في سبيل الله وسؤال العفو والمغفرة عن الذنوب والإسراف في أمورهم ليكونوا من الذين قال الله فيهم [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع في الإسراف ، وصيغة المفرد في [امرنا ] فلم تتحد اللغة فيهما ، ولم تقل الآية (إسرافنا في أمورنا ) بينما ورد ذكر الذنوب بصيغة الجمع [اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] وفيه مسائل :
الأولى : بيان إتحاد أمور المؤمنين وكأنها أمر واحد .
الثانية : إرادة موضوع مخصوص ويدل عليه إتحاد اللفظ ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : حال الربيين في القتال .
الثاني : الإستغفار من عدم التفاني وإختيار الشهادة .
الثالث : بيان المائز الرتبي بين المسلمين وبين الربيين إذ تمنى المسلمون الشهادة بقوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ] ( ).
الرابع : بيان صفة خضوع وخشوع الربيين لله عز وجل فليس من إسراف عندهم , وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية إلا أنهم في مقام المسكنة والإقرار بالقصور والتقصير عند الدعاء فهو سبحانه يعلم بخلجات النفوس والخواطر التي تطرأ على البال ، وإحتمال الهّم بالجبن والخور .
الثالثة : دعاء المؤمنين للمنفرد منهم في إسرافه .
الرابعة : بيان تفقه الربيين بأن أي إسراف من أحدهم فيه إضرار بهم ، فسألوا الله عز وجل العفو عن أي إسراف صدر من أحدهم .
تتصف مضامين آية البحث أنها خاصة بالدعاء والمسألة ويتعلق موضوعها بأفراد الزمان الثلاثة من وجوه :
الأول : إرادة الزمن الماضي في الإستغفار لمحو الذنوب والتجاوز عن السيئات ، ومن الربيين التوابون الذين دخلوا ببعثة نبي زمانهم الإسلام وحاربوا الكفار .
ومن نعم الله عز وجل على المسلمين [ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الاسلام يجبّ ما قبله] ( ) وهذا الجب والمحو لا يمنع من الإستغفار والإقامة عليه .
الثاني : إرادة زمان الدعاء وتضرع الربيين بسؤال ثبات الأقدام في القتال .
الثالث : المقصود الزمن المستقبل بسؤال النصر على الكفار .
ولا يعني هذا التقسيم أن موضوعات الدعاء أفراد غير إرتباطية بل هي متداخلة يؤثر بعضها بعض ، وهو من فضل الله عز وجل على المؤمنين فيأتي دعاؤهم بخصوص الزمن الماضي لجلب المصالح في الحاضر والمستقبل ، ويأتي الدعاء لخصوص المستقبل على الزمن الماضي فيزيد في حسناتهم ويمحو سيئاتهم ، ولا يختص النفع بصاحب الدعاء بل يشمل غيره من المؤمنين وينال منها الآباء أسباب المغفرة ، والأبناء مقدمات الهداية والرشاد.
وهل تنتفع طبقات الربيين بعضها من دعاء بعض بمعنى أن دعاء وفعل الربيين مع النبي السابق ينتفع منه الربيون مع النبي اللاحق وبالعكس ، الجواب نعم ، ويشمل هذا النفع المسلمين وهم الأكثر نفعاً لأنهم فازوا بآية البحث وما فيها من الدرر العقائدية .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على سلامة الربيين من الذنوب والمعاصي والإسراف، لأنها تقصر كلامهم على صيغ التقوى والصلاح لقوله تعالى[وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا…] وفيه آية من إكرام الله عز وجل للربيين بالإخبار في ذات الآية التي يتضرعون فيها إلى الله بسلامتهم من الذنوب والمعاصي.

علم المناسبة
السرف هو تجاوز الحد والمقدار سواء كان تبذيراً في المال، فيقال أسرف الرجل في ماله إسرافاً إذا تعجل في إنفاقه وصرفه في غير محله، وجاء النهي عن إسراف ولي المقتول في القتل، وتجاوز حد القصاص قال تعالى[وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ]( ).
ووردت مادة (سرف) في القرآن ثلاثاً وعشرين مرة، ولم يرد لفظ(اسرافنا) فيه إلا في هذه الآية ولعل فيه دلالة على أن إسراف الربيين أمر آخر قد لا يتعدى السؤال والتضرع من المقام العبودية الخالصة لله عز وجل، لذا فهم خارجون بالتخصص من مصاديق الذم والإنذار في قوله تعالى[وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]( ).
وذكرت الآية الإسراف الذي يتجنبه ويتنزه عنه الربيون مقيداً بمسألتين:
الأولى : أنه خاص بالأمر بقولهم (أمرنا).
الثانية : لغة التبعيض (من أمرنا) لبيان شكرهم لله على جهادهم في سبيل الله، وسلامتهم من الوهن والضعف عند ملاقاة الكفار.
لذا جاءت الآية أعلاه بصيغة المضارع ووجوب إستقبال الأيام بالتدبير ومعاني الحكمة، وإستغفار الربيين من الإسراف شاهد على تنزههم.
وجاء تذكير الآية بلزوم الإستغفار من الإسراف، لحث المسلمين والناس جميعاً على التوبة والإنابة، قال تعالى[قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( ).
وتبين آية البحث النفع العظيم لصحبة النبي وإقتباس الخلق الكريم والرشاد منه، فمع تحلي الربيين بسنن التقوى، فانهم يفرون إلى الله للأمن من الأسراف والتفريط والإهمال والغفلة والميل إلى الدعة.
بحث أصولي
من مباحث علم الأصول، والأدلة التي إعتمدها شطر من المسلمين القياس، وهو لغة مصدر قاس أي قدّر، يقال قست القماش بالذراع أي قدرته به، وقست الأرض بالأمتار، ويأتي بمعنى التسوية يقال قاس الثوب بالثوب، وشح فلان لا يقاس بكرم فلان.
ويتعدى القياس بالباء، وهو في الشرع يتعدى بـ(على) فيقال : قاس على.
وأما تعريف القياس بالإصطلاح فهو حمل فرع على أصل لإلتقائها في العلة التي هي أصل الحكم، وحمل حكم معلوم على معلوم آخر للمساواة بينهما في علة الحكم عند المثبت أي العالم الذي يقوم بالقياس .
وقيل أن القياس هو المصدر الرابع للتشريع المتفق عليها، بعد القرآن والسنة النبوية الشريفة والإجماع، وأنه من ضروريات التشريع.
ولا دليل على هذا الترتيب والإتفاق، والأصل هو الكتاب ثم السنة ثم الإجماع، وقد تفضل الله عز وجل وجعل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ومما أستدل به على القياس قوله تعالى[فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ]( )، وأن المراد التدبر في حال الأمم السابقة، وأن الإعتبار هو القياس، أي أن الآية خطاب للمسلمين بأن يقيسوا أنفسهم بالأمم السابقة، ولا دليل على هذا المعنى، وإن كانت آية البحث منه , ولكن الآية أعلاه أعم في موضوعها، ولا يستدل على قانون كلي في الأدلة الشرعية على آية ذات منطوق أعم في موضوعه ودلالته، وخطاب موجه للمسلمين كلهم بلحاظ حياة الأمم السابقة .
وأستدل بحديث معاذ حينما بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن عن أبي عون الثقفي قال: سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو ، يُحَدِّثُ ، عَنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ قَالَ : وَقَالَ مَرَّةً عَنْ مُعَاذٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ ، قَالَ لَهُ : كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ ، قَالَ : أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ ، قَالَ : أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ ، قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلا آلُو ، قَالَ : فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ صَدْرِي ، قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم( )، وفيه مسائل:
الأولى : الحديث ضعيف سنداً , فهو مرسل وسنده غير متصل [قال ابن الجوزي : هذا حديث لا يصح وان كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه ولعمري ان كان معناه صحيحا انما ثبوته لا يعرف لأن الحارث بن عمرو مجهول واصحاب معاذ من اهل حمص لا يعرفون وما هذا طريقه فلا وجه لثبوته] ( ).
[قَالَ ابن طَاهِر : فقد صَحَّ عِنْدِي فَسَاد حَدِيث معَاذ الْمَذْكُور لما أوضحته من وَهن إِسْنَاده ، وَبِمَا أتبعته من الْأَحَادِيث الْمُتَّصِلَة المخرجة فِي الصَّحِيح وَوَجَب ترك الِاحْتِجَاج بِهِ . هَذَا ملخص كَلَامه فِي التَّأْلِيف الْمَذْكُور . الحَدِيث الَّذِي أوردهُ من طَرِيق ابن مَاجَه عجبت مِنْهُ سُكُوته عَلَى إِسْنَاده وَفِيه مُحَمَّد ابن (سعيد) المصلوب وَهُوَ كَذَّاب وَضاع كَمَا أسلفته فِي كتاب الْجِنَايَات . وَقَالَ أَبُو عمر وَعُثْمَان بن الإِمَام أبي عَلّي حسن بن عَلّي بن دحْيَة «إرشاد البائنية وَالرَّدّ عَلَى المعتدي مِمَّا وهم فِيهِ الْفَقِيه أَبُو بكر ابن الْعَرَبِيّ : هَذَا الحَدِيث لَا أصل لَهُ ، وَرِجَاله مَجْهُولُونَ ، وَلَا يَصح عِنْد أحد من الْأَئِمَّة النقاد ، وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور عِنْد ضعفاء أهل الْفِقْه لَا أصل لَهُ ، يُوجب إطراحه] ( ).
الثانية : ورد الحديث قبل نزول تمام القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحضور سنته الشريفة عند الصحابة والولاة والعلماء بعد مغادرته إلى الرفيق الأعلى، فما يجوز لمعاذ عند الضرورة والبعد في اليمن لا يصح لغيره بعد البيان وتجلي الأحكام ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الثالثة : ورود حديث معارض لهذا الحديث وهو أقرب سنداً، عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثنا معاذ بن جبل قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن قال: لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، وأن أشكل بك أمر، فقف حتى تبينه، أو تكتب إلي فيه) ،أخرجه ابن ماجه( ).
وأنكر الذي يقف عند ظاهر النصوص القياس، ولكن ذات النصوص تتضمن المندوحة والتوسعة، وقال الزركشي أول من أنكر القياس النظّام وتابعه قوم من المعتزلة، وداود من أهل السنة.
والنسبة بين الإجتهاد والقياس هي العموم والخصوص المطلق، فالأول هو بذل الوسع لإستنباط الحكم الشرعي من النص والدليل التفصيلي، أما القياس فيتقوم بأمور:
الأول : معرفة حكم الأصل الذي يصبح مشبهاً به.
الثاني : معرفة الفرع الذي يكون مشبهاً.
الثالث : الجامع المشترك بين الأول والثاني أعلاه، وقيل الإجتهاد مقدمة من مقدمات القياس، ولا يخلو من مصادرة، وقد لا يحتاج الإجتهاد إلى القياس , لذا ذكر في أركان القياس أنها أربعة:
الأول : الأصل الذي يقال عليه، وهو المحل المشبه به، بلحاظ أن المشبه به يكون أوضح وأبين من المشبه، لذا يسمى الأصل.
الثاني : الفرع المقيس، وهو الذي يراد الحكم له أو عليه، بوجوه الشبه بينه وبين الأصل الذي يتضح حكمه.
الثالث : حكم الأصل المقيس عليه من كتاب أو سنة أو إجماع.
الرابع : الصلة، وهو الوصف المشترك والجامع بين الأصل والفرع.
ومنه قياس النبيذ على الخمر للجامع بينهما وهو الإسكار، وقد لا تصل النوبة إلى القياس في المقام لأن ما كان كثيره مسكراً فقليله حرام.
ومنه قياس التعدي على الوالدين بالضرب على التأفيف بقوله تعالى[فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ]( )، وهذا من المسلمات ولا يبنى عليه حكم عام بصحة القياس، لأنه من باب الأولوية القطعية شرعاً وعقلاً.
ومنه قياس وجوب الزكاة في مال الصبي على القول به قياساً على وجوب الزكاة في مال البالغ لجامع بينهما وهو : قضاء حاجة الفقير، فمن لم يكن بالغاً لا يجب عليه التكليف كالصلاة والصيام, ولكن علة وجوب الزكاة أعم وتتعلق بذات المكلف والذي تعلق بماله النصاب .
والنسبة بين الرأي والقياس هي العموم والخصوص المطلق، فالرأي أعم، وقد يكون صحيحاً وقد يكون فاسداً، وأختلف في حصول القياس على وجوه:
الأول : دلالة السمع وأختلف فيها على جهتين:
الأول : هي دلالة قطعية.
الثاني : دلالة السمع على القياس ظنية.
الثاني : حجة العقل.
الثالث : العنوان الجامع للأول والثاني أعلاه، كما أختلف في التعبد بالقياس على وجهين:
الأول : جواز التعبد بالقياس عقلاً.
الثاني : لا يجوز التعبد بالقياس عقلاً.
والقياس على قسمين :
الأول : القياس منصوص العلة وهو الذي تكون علته ثابتة بالنص، كما في تحريم الخمر، ولكن هذا القسم ليس من القياس، لأنه حكم قائم بذاته.
الثاني : القياس مستنبط العلة، الذي يحصل عليه الفقيه ببذل الوسع وملاحظة الأدلة، ومنه تنقيح المناط وما يكون ظنياً.
والخلاف صغروي في القياس فمع وجود النص لاتصل النوبة إلى القياس .
وهل يمكن قياس المسلمين بحال الربيين، الجواب لا موضوعية للقياس في المقام، لأنه ليس من الأحكام، كما أن أدلة التشابه بين المسلمين والربيين جلية، والرجوع لآيات القرآن الأخرى بكفي لإستنباط الحكم، قال تعالى في خطابه للمسلمين[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
بحث منطقي
المنطق هو علم التفكير السليم الذي يعصم الذهن من الخطأ في التفكير ويشمل صيغ الإستدلال والإستقراء والإستنتاج ، وقال الغزالي أنه [معيار العلوم ] لبيانه للصواب وفصله عن الخطأ ولا دليل على هذا الإطلاق .
ومن خصائص المنطق التناسق في الأفكار وربط المواضيع السابق باللاحق وإجتناب الخيال والعبث , والمنطق أمر عقلي محض يدل على فضل الله عز وجل في بديع خلق الإنسان وتفضله بتميزه بالعقل عن الموجودات الأرضية الأخرى ومن المنطق الخيار الآخر وإجتناب الضرر والخسارة ، قال تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ).
ويتقوم علم المنطق بالرياضيات وفيه تنمية لملكة التفكر , والقرآن مدرسة المنطق وأصله ، لذا وردت الآيات القرآنية بالحث على التفكر والتدبر ، قال تعالى [فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( ).
ويحتمل موضوع الربيين الوارد في هذه الآية والآية السابقة وجوهاً :
الأول : إنه مقدمة من قصص القرآن .
الثاني : إنه ليس قصة من قصص القرآن ، والقدر المتيقن من القصص فيه ، قصة نبي الله يوسف والأنبياء الآخرين ، وقصة هلاك فرعون وقارون والذين كذبوا بآيات الله مع البيان والشواهد لهذه القصص كما في قوله تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
الثالث : إنه قصص متعددة من قصص القرآن المتكثرة .
والصحيح هو الثالث من جهات :
الأولى : تعدد طبقات الربيين لتعدد الأنبياء الذين قاتلوا معهم بدليل قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ).
الثانية : كثرة الربيين مع كل نبي قاتل الكفار .
الثالثة : كل فرد من الربيين تقف خلفه قصة بالغة وسبيل للهداية .
الرابعة : كل معركة خاضها الربيون هي قصة كاملة وموعظة وعبرة .
الخامسة :قصص الربيين أعم من أن تختص بحال الحرب والقتال ، فتشمل الدعاء والنسك .
ومن خصائص المنطق القرآني أنه يرجح المناهج ذات السنخية الواحدة ، ويجعل المقدمات تتداخل مع ذيها بما يؤدي إلى الصلاح والفوز بالنعيم ، فلم ينقطع خبر الربيين في هذه الآيات حتى ذكرت الآية التالية الثواب العظيم الذي فازوا به مع زيادة في عفتهم بالإحسان بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
لقد أغوى إبليس آدم وحواء وهما في بحبوحة الجنة وأنزلهما بالأكل من الشجرة ، فجاء الهبوط إلى الأرض بذاته موعظة ودعوة للإنسان لعلم المنطق والإهتداء إلى القول والفعل السليم الذي يؤدي إلى النتائج الحميدة التي تتقوم بمثل ما فاز به الربيون من ثواب الدنيا والآخرة كما في الآية التالية .
وتفضل الله عز وجل وجعل واقية لفعل الإنسان ، وهذه الواقية متعددة من جهتين :
الأول : النبوة .
الثانية : التنزيل لبيان قانون وهو أن المنطق إسماً ومسمى متخلف عن نعمة الله عز وجل على الإنسان في باب الفكر والإستنباط ومرآته من القول والفعل .
وجاءت حادثة قتل قابيل لأخيه هابيل خلاف المنطق والشرع وذكرها القرآن موعظة ودعوة للمسلمين للصدود عن القرآن وآياته ، وكل آية منه درس مستقل في علم المنطق ، قال تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا] ( )لبيان أن الوحي أسمى مرتبة من المنطق ، وأن علوم وفروع المنطق يجب أن تستقرأ من الوحي وتكون مرآة له .
وإذا كان علم المنطق آلة قانونية تعصم الذهن من الخطأ ، فأن الوحي آلة سماوية تعصم الفكر واللسان والجوارح من الخطأ وتكون نبراساً وضياءً ينير دروب الهدى للناس جميعاً , وأصلاً وملاكاً لعلم المنطق فلا أصل للقول بأن أرسطو ونحوه أول من تكلم بعلم المنطق .
لذا إقتبس الربيون شمائل النبوة وخصائص التقوى فأحبوا الله عز وجل وتفانوا في طاعته وسارعوا في الخيرات [عن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال : بلغنا أن رجلاًً جاء إلى عيسى فقال : يا معلم الخير كيف أكون تقياً لله كما ينبغي له؟ قال : بيسير من الأمر . تحب الله بقلبك كله ، وتعمل بكدحك وقوتك ما استطعت ، وترحم ابن جنسك كما ترحم نفسك . قال : من ابن جنسي يا معلم الخير؟ قال : ولد آدم كلهم ، وما لا تحب أن يؤتى إليك فلا تأته إلى أحد فأنت تقي لله حقاً] ( ).
وقد فتح الله عز وجل للناس باب الإستغفار لتدارك الخطأ فحتى لو خالف الإنسان قواعد المنطق والإستدلال السليم فأن الله عز وجل ينعم عليه بالتدارك بالإستغفار والتوبة .
وقد فاز الربيون بخصوصية وهي أنهم يتخذون من الإستغفار جلباباً وصاحباً في حال عمل الصالحات أو الجهاد أو الزلل السابق .
ومن فيوضات النبوة الشفاعة ليكون من مصاديق علم المنطق القرآني التدارك وإصلاح الخطأ وإقالة العثرة، وسد الخلة، والنجاة من العقاب يوم القيامة .
وعن جابر بن عبد الله قال: كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم خادم تخدمهم يقال لها برة فلقيها رجل فقال لها يا برة غطي شعيفاتك فإن محمدا لن يغني عنك من الله شيئا فأخبرت النبي صلى الله عليه و سلم .
فخرج يجر رداءه محمرة وجنتاه وكنا معشر الانصار نعرف غضبه بجر ردائه وحمرة وجنتيه فأخذنا السلاح ثم اتيناه فقلنا يا رسول الله مرنا بما شئت فوالذي بعثك بالحق لو أمرتنا بأمهاتنا وآبائنا وأولادنا لأمضينا قولك فيهم .
فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه وقال من أنا فقلنا انت رسول الله قال نعم ولكن من أنا فقلنا انت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف قال انا سيد ولد ادم ولا فخر واول من تنشق عنه الأرض ولا فخر واول من ينفض التراب عن رأسه ولا فخر وأول داخل الجنة ولا فخر .
ما بال اقوام يزعمون ان رحمي لا تنفع ليس كما زعموا اني لأشفع وأشفع حتى ان من اشفع له ليشفع فيشفع حتى ان ابليس ليتطاول في الشفاعة ( ).
قوله تعالى [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا]
يحتمل دعاء الربيين في زمانه وجوهاً :
الأول : الدعاء في حال وجود نبي الزمان بين ظهرانيهم وسؤالهم تثبيت الأقدام حوله وبين يديه فقد أرادوا أن لا يمسه سوء من الكفار الذين يسعون إلى قتله أو أسره بلحاظ أنه الإمام والقائد والذي بعث ليهدم صرح الكفر والضلالة .
الثاني : دعاء الربيين في حال خروجهم للقتال والغزو بأمر من النبي وإن لم يكن معهم في ساحة المعركة ، لأن ثبات الأقدام طاعة لله والنبي ،ومانع من زحف الكفار على ثغور المسلمين وطلب شخص النبي .
الثالث : سؤال الربيين ثبات الأقدام عند لقاء العدو بعد مغادرة نبي زمانهم إلى الرفيق الأعلى .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ومخاطبة المسلمين قبل ثلاث آيات بالنهي عن الإنقلاب عند إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى [أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )لا يعني الحصر والتقييد بخصوص حال الربيين بعد موت أو قتل نبي زمانهم لأصالة الإطلاق ، ولأن الآية السابقة ذكرت قتالهم مع النبي فيصح أصل الإستصحاب في المقام بوجود النبي .
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]( ) لبيان تفقه الربيين في الدين وعلمهم بأمور :
الأول : تعلق الذنوب بفعل وقول الإنسان .
الثاني : صحيح أن النبي مبعوث من عند الله إلا أنه لا يستطيع غفران الذنوب ، بل هو يسأل الله عز وجل العفو والمغفرة ليكون من معاني الآية اشتراك النبي مع الربيين في الإستغفار كما شاركوا معه في القتال ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وما كان قولهم هم والنبي الذي قاتلوا معه إلا أن قالوا [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا].
الثاني : قالوا والنبي معهم ربنا إغفر لنا ذنوبنا .
الثالث : قالوا مع النبي ربنا إغفر لنا ذنوبنا .
الرابع : قالوا بعد موت النبي ربنا أغفر لنا ذنوبنا .
الأمر الثالث : إدراك الربيين أن الذنوب لا يغفرها إلا الله عز وجل .
الرابع : فضل الله في العفو والمغفرة لمن سألهما من العباد [عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إن الله يقول : يا عبدي ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك ، ويا عبدي لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ما لم تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة] ( ).
ترى لماذا جاء الدعاء بثبات الأقدام ،الجواب لإرادة مواصلة القتال والإستبسال فيه وعدم الإنهزام ،ولبيان حقيقة من جهات :
الأولى : قوة قلوب الربيين في حال القتال الذي تتزلزل فيه القلوب .
الثانية : صدق إيمان الربيين وإخلاصهم في طاعة الله .
الثالثة : عزم الربيين على القتال ، وإرادة تحقيق النصر .
ومن أسرار اللفظ القرآني إرادة المعنى الذي وضع له اللفظ أصلاً والمعنى الذي أستعمل فيه لاحقاً لوجه شبه مع المعنى الحقيقي ، لذا قسم الكلام إلى قسمين :
الأول : الحقيقة .
الثاني : المجاز .
وقد أضفنا قسيماً ثالثاً وهو المعنى الجامع للحقيقة والمجاز ، كما يتجلى في آية البحث فالمراد من تثبيت الأقدام الحقيقة والإستعارة والمجاز فيكون معناه على وجوه :
الأول : إرادة تثبيت الأقدام حقيقة في مواطن القتال وعدم الإنهزام أمام الأعداء ، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] ( ).
الثاني : المقصود المواظبة على طاعة الله والعمل بالسنن التي جاء بها الأنبياء .
الثالث : لما جاءت الآية السابقة بنعت أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم بـ [ الربيين ] تضمنت هذه الآية دعاءهم للفوز بخصلة كريمة أخرى وهي ثبات الأقدام لتكون الآية وفق القياس الإقتراني:
الكبرى :الربيون تثبت أقدامهم في القتال.
الصغرى : المسلمون تثبت أقدامهم في القتال.
النتيجة :المسلمون ربيون .
الرابع : رجاء الربيين السلامة في الدين وعدم الإفتتان بالدنيا وزينتها .
الخامس : سؤال الإحتراز من الإرتداد في حياة نبي الزمان وبعد مماته .
السادس : سؤال السلامة من الوهن والضعف والإنكسار والجبن والهزيمة بعد فقد نبي الزمان ، ففي الآية إضمار والتقدير : وثبت أقدامنا بعد فقد نبينا .
السابع : ثبات الأقدام كناية عن القوة والمنعة والسلامة من القتل والأسر .
الثامن : الإتيان بالجزء وإرادة الكل ، فكما في قوله تعالى [وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] ( ) فذكرت الرقبة لإفادة عتق العبد وصيرورته حراً لموضوعيتها في حياة الإنسان وللتذكير بآية في العتق وعناية المسلمين بالعبد ، بأن يسلم من القتل وهو عبد إلى أن يعتق ويصبح حراً ، وكذا في ثبات الأقدام ، لأن الفرار يكون بها .
لقد تضمنت الآية قانوناً في فنون القتال ،ودرساً عسكرياً وهو ضرورة ثبات الأقدام في القتال والعمل على إجتناب الفرار وحتى الإنسحاب إلا لضرورة أو حرج أو خدعة , وقال تعالى[وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ]( ).
والثبات في مواضع القتال وإن كان مقدمة للنصر والغلبة ولكنه مطلوب بذاته وهو أمر ممدوح ،وفيه مسائل :
الأولى : إلتحاق المتخلف عن القتال إلى صفوف المقاتلين عند ثباتهم في مواضع القتال .
الثانية : بعث السكينة والأمن في نفوس المسلمين وعوائلهم .
الثالثة : إرادة طول مدة القتال والحرب ، فثبات الإقدام في إبتداء المعركة ووسطها وآخرها .
الرابع : جعل الكفار في حال يأس وقنوط من إحتمال هزيمة المسلمين .
الخامس : ترغيب الناس بالإسلام لأن ثبات الأقدام في المعركة شاهد على قوتهم ومنعتهم .
السادس : دعوة الكفار للإسلام ،لأن طول اللقاء يعني إطلاع الطرف الآخر على عبادات المسلمين وإنقطاعهم إلى الله وإنشغالهم بالذكر والتسبيح.
وتبين الآية أن الربيين يريدون السلامة من القتل والأسر ، لأن ثبات الأقدام شاهد على الإختيار ومواصلة الجهاد وهذه السلامة مناسبة لمضاعفة الحسنات وتحقيق النصر على الكفار .
ومن إعجاز الآية الكريمة أن الدعاء فيها وسيلة للتقرب إلى الله وإظهار محبته في النفوس ، والسعي لطلب مرضاته فيسأل الربيون الله عز وجل ثبات الأقدام لمحاربة أعداء الدين ، ولعدم الإنهزام أمام الجاحدين بالربوبية والنبوة ليكون من معاني [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا]إرادة بقاء ملة التوحيد في الأرض وعدم تقهقرها أمام مفاهيم الكفر والضلالة .
وما دام الكفار هم أعداء الله فان الربيين إستنصروا الله عليهم لإرادة استئصالهم من الأرض وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
فمن مصاديق ملك الله تعالى المطلق نصرته للمؤمنين والمنع من هزيمتهم ومعتقدات التوحيد أمام مفاهيم الضلالة والجحود.
ومن صفات الربيين أنهم تلقوا البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق والقبول والحرص على التوصية بها وجعلها تركة كريمة لمن بعدهم من أجيال المؤمنين وغيرهم فجاء الدعاء [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا] أي لنتعاهد البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحافظ عليها ولا نغادر الدنيا إلا وهي حاضرة في أذهان الجيل اللاحق من المؤمنين .
وتقدير الآية : وثبت أقدامنا كي نبشر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن خصال الربيين أنهم يتركون أثراً كريماً للمسلمين وهو إرشادهم إلى الدعاء بثبات الأقدام عند ملاقاة الأعداء وكأنهم يقولون تفضل علينا بمقدمات[وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ].
من الإعجاز في نظم الآية الترتيب البليغ إذ إبتدأت بما يفيد أن موضوعها هو القول واللسان وإرادة الحصر الموضوعي فيه والقصر الذي تجلى بقوله تعالى [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا] ( ) لتبعث الآية الشوق في نفس القارئ والسامع لمعرفة ماهية قول الربيين ، وما يريدون به ، ومع إستعداد التلقي للتأدب والتعلم منهم لورود الآية السابقة بتزكية عملهم والثناء عليه .
وتقديم العمل الحسن على القول الحسن في خصال الربيين من بديع القرآن ، وبيان أن المدار في الصبر والجهاد على العمل من وجوه :
الأول : الدفاع واجب لحفظ الملة والدين والنفوس والأعراض والأموال .
الثاني : لا يدفع كيد وتعدي الكفار إلا السيف والعمل .
الثالث : جاءت الفرائض والعبادات بصيغة العمل المالي والبدني مثل الصلاة والصيام والحج والإنفاق في سبيل الله .
الرابع : القول الإيماني ملحق بالعمل وهو مدد ومرآة له .
الخامس : جاءت الآيات بالحث على العمل ، قال تعالى [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
لقد أدرك الربيون أن مواضع القتال مزال للأقدام ، وقد يتناجى المقاتلون بالتقدم أو يحصل العكس فيتناجون بالهزيمة والإنسحاب فجاء دعاء الربيين لتنجز الثبات والنصر والسلامة من الإثم والمعصية ،قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
ومن خصائص الحصر في الآية الإخبار بأن الربيين لم يكونوا دعاة صامتين ولم ينحصر جهادهم بالقتال ، إذ جمعوا بين القتال في سبيل الله وأحسن القول وهو الدعاء الذي هو عبادة بذاته فتلهج ألسنتهم بالدعاء قبل القتال وأثناءه وبعده ، وفي حال السلم والرخاء ، ليكون توطئة للنصر والغلبة وواقية من دبيب الملل واليأس إلى النفوس .
وإذا كان الذين يقاتلون في سبيل الله وتحت لواء النبي يسألون غفران الذنوب فمن باب الأولوية أن يسأله غيرهم من المؤمنين وفي أي حال من أحوالهم لبيان حقيقة وهي أن الآية دعوة للمسلمين والمسلمات جميعاً لعدم الغفلة عن سؤال العفو والمغفرة فالحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإفتتان فيأتي سؤال الإستغفار لأمور :
الأول : التنزه من درن الآثام .
الثاني : ملاقاة الأعداء بصحيفة أعمال بيضاء .
الثالث : جني الحسنات بذات الإستغفار فهو صدقة على الذات وعناية بالنفس .
ويستثمر الربيون جهادهم ودفاعهم وقتالهم الكفار ليكون وسيلة ومناسبة لسؤال العفو والمغفرة ، وهو من أسرار تقديم القتال في الآية السابقة وكأنهم يقولون : اللهم إنا قاتلنا مع نبيك في سبيلك فاغفر لنا .
وقيدت الآية السابقة قتال الربيين مع نبي زمانهم، وفيه مسائل:
الأولى : سلامة الربيين من الإقتتال بينهم.
الثانية : إرادة حقيقة وهي أن قتال الربيين طاعة لله والنبي.
الثالثة : إذا لم يقاتل النبي فان الربيين لا يقاتلون.
فان قلت إن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فقد يكون الربيون يقاتلون بمفردهم ومن دون أمر من نبي زمانهم، والجواب هو النفي من وجوه:
الأول : تجلي معاني الإمتثال لأمر القتال بقرينة المعية مع النبي.
الثاني : الثناء من عند الله على الربيين وإضافتهم إلى إسمه تعالى(الرب) لبيان أنهم لايعملون إلا بأمر من عند الله بواسطة النبي.
الثالث : بيان الآية السابقة بأن ما أصاب الربيين من الجراحات والضرر إنما هو في سبيل الله , أي عن إيمان وطاعة لله عز وجل.
ولو دعا العدو إلى السلم فهل يقبل به الربيون الجواب فيه تفصيل على وجهين :
الوجه الأول : إذا كان بأيام النبي فالأمر إليه لموضوعية الوحي في المقام والذي لا يقبل الترديد أو السهو أو الخطأ [وأخرج البزار عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « أي الخلق أعجب إيماناً؟ قالوا الملائكة . . قال : الملائكة . . . كيف لا يؤمنون؟ قالوا : النبيون . . . قال : النبيون يوحى إليهم فكيف لا يؤمنون؟ ولكن أعجب الناس إيماناً ، قوم يجيئون من بعدكم ، فيجدون كتاباً من الوحي ، فيؤمنون به ويتبعونه . فهؤلاء أعجب الناس إيماناً] ( ).
وفي حديث ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا إليه) وفي حديث ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه( ).
وفي حديث عن ابن عباس يرفعه: ان الله تجاوز لي عن أمتى الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه( ).
وهل يدل حديث الرفع أعلاه وتقييد الخطأ ونحوه بالأمة على نحو الخصوص على عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الخطأ والنسيان والإكراه بالوحي والتنزيل فلم يقل : وضع عنا ، ولا وضع عن المؤمنين ، بل ورد الحديث بلفظ [أمتي ] ليخرج النبي صلى الله عليه وآله بالتخصيص الجواب نعم، لذا لم يقع خطأ في التبليغ ولم ينس النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية واحدة أو كلمة نزل بها جبرئيل، ولم يكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فعل أو ترك.
الوجه الثاني : طلب الكفار الصلح بعد مغادرة النبي إلى الرفيق الأعلى، فيستجيب لهم الربيون مع سلامة دينهم، وعدم التفريط بحقهم، ولزوم تعاهد شعائر الله بالتعظيم وحسن الإمتثال، ولا يتعارض الرضا بالصلح أو طلبه مع الدعاء[وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ويفيد الجمع بينهما تحقيق النصر على الكفار بالصلح ونحوه، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وعن موسى بن عقبة ولما رجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صلح الحديبية ،فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا بفتح لقد صدونا عن البيت وصد هدينا ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين كانا خرجا إليه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قول أولئك ، فقال بئس الكلام بل هو أعظم الفتح قد رضى المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم ( ).
وليس في الحديث ذم أو تعريض إنما هو تذكير بفضل الله، وموسى هذا رأى في صغره بعض الصحابة مثل جابر بن عبد الله الأنصاري، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، ولكنه لم يأخذ عنهم، إنما أخذ عن جمع من التابعين وهو من صغار التابعين، وقد ذّكر أنه طلب العلم وهو كهل (وعن مالك بن أنس قال جاء صالح بن كيسان وموسى بن عقبة إلى ابن شهاب يطلبان العلم فقال لهما ابن شهاب جلستما حتى إذا صرتما كالشنان لا تمسكان الماء جئتما تطلبان العلم ( ).
وجاءت آية البحث للمعنى الأعم , والوجهان أعلاه من حال القتال مع النبي والقتال بعد مغادرته الحياة الدنيا، وهو من أسرار النبوة والإعجاز فيها، بأن معالم الإيمان تبقى في الأرض حتى بعد موت أو قتل الأنبياء لوجود أمة عظيمة من الربيين يعملون بالمنهاج الذي جاءوا به من عند الله.
ومن اللطف الإلهي في المقام إتحاد أحكام النبوة في العبادات وعمل الصالحات والبشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب السيئات.
بحث بلاغي
يكون العطف على وجوه :
الأول : عطف الفعل على الفعل بإتحادهما في الزمن والضمير كما في قوله تعالى [وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ] ( ).
الثاني : عطف الاسم على الاسم .
الثالث : عطف الجملة على الجملة ، وهو على قسمين :
الأول : عطف الجملة الفعلية على جملة فعلية مثلها كل واحدة منهما تتكون من فعل وفاعل ، فاذا قلت : صلى وصام زيد لا يسمى عطف جملة فعلية على أخرى ، لأن الفعل عطف على الفعل مباشرة .
الثاني: عطف جملة إسمية على جملة إسمية مثلها .
أما عطف الجملة الإسمية على الفعلية , وبالعكس ففيه ثلاثة أقوال :
الأول : الجواز مطلقاً ومنه قوله تعالى [أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ] ( ) [أَصَابَهُ الْكِبَرُ] جملة فعلية فعلها ماض و[وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ] جملة إسمية وتقول : صلى زيد وعمراً أفطرته .
الثاني : المنع مطلقاً .
الثالث : لا يجوز العطف بين الجملة الفعلية والإسمية بالواو .
ويقسم العطف تقسيماً إستقرائيا آخر منه :
الأول : عطف البيان ، وهو جامع للنعت والتأكيد وهو الذي لا يتوسط حرف عطف بين المتعاطفين وكأنه من البدل .
الثاني : عطف نسق ، وهو العطف بحرف عطف بين متغايرين [العطف: إما ذو بيان، أو نسق والغرض الآن بيان ما سبق فذو البيان: تابع، شبه الصفه، حقيقة القصد به منكشفه] ( ).
الثاني : عطف أحد المترادفين على الآخر ، ومنه ما ورد في آية البحث [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا] ( ) وقد لا يكون عنوان (عطف أحد المترادفين ) سوراً جامعاً للمعنون .
الثالث : عطف الخاص على العام ، وليس فيه تغاير بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولكن لإرادة التأكيد على الخاص وبيان شأنه وماله من خصوصية أو منع التفريط به .
الرابع : عطف العام على الخاص : لإرادة العناية بالخاص ثم تأكيد العام .
وغيرها من ضروب العطف .
وقد أسسنا قسيماً آخر للعطف هو عطف ذي المقدمة على المقدمة منه ما ورد في آية البحث [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] فثبات الأقدام مقدمة للنصر والغلبة على الكفار .
ولا ينحصر موضوع ثبات الأقدام على كونه مقدمة للنصر والغلبة على الكفار بل هو مطلوب بذاته من جهات :
الأولى : ثبات الأقدام عز للمؤمنين .
الثانية : إرادة المرابطة في الثغور ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) فذكرت الآية أعلاه المرابطة على نحو التعيين وهي مطلوبة بالذات .
الثالثة : من معاني ثبات الإيمان تعاهد سنن التقوى .
الرابعة : لما جاء قبل ثلاث آيات تحذير المسلمين من الإنقلاب والإرتداد عند رحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملأ الأعلى وردت هذه الآية ببيان إحتراز الربيين من الإنقلاب والإرتداد عند فقد نبي زمانهم .
ويفيد الجمع بين الآيتين بهذا الخصوص بيان عن فضل المسلمين على الربيين إذ سأل الربيون ثبات الأقدام بينما حذر الله عز وجل المسلمين من خلافه ، لتكون تلاوتهم لآية البحث سؤالاً لعدم الإنقلاب .
قوله تعالى [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]
هناك مسألتان :
الأولى : هل تتضمن هذه الآيات الوعد للربيين بالنصر .
الثاني : هل تشمل البشارة بالنصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
أما الأولى فأن الآية التالية تؤكد هذا الوعد لقوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا].
أما الثانية فنعم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، ولتحقق المصداق العملي بالنصر العظيم والفتح المبين ، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
ولم ينحصر توجه الربيين إلى الدعاء بما بعد القتال مع الأنبياء بل كان الدعاء سلاحاً ماضياً مصاحباً لهم في ميدان المعركة .
[عن الأسود بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة وأعدوا للبلاء الدعاء] ( )وعن أبي داود في المرسل واستعينوا على حمل البلاء بالدعاء والتضرع .
وليس من بلاء أشد من هجوم الكافرين ، وسعيهم للإجهاز على الإسلام ، لذا يجتهد المسلمون بالدعاء ومنه تلاوة هذه الآية التي وأن كانت بصيغة الإخبار عن حال الربيين إلا أنها تبين أموراً :
الأول : الدعاء جامع مشترك بين المؤمنين في كل زمان .
الثاني :تأكيد قانون عدم الإستغناء بالسيف عن الدعاء في ملاقاة الكفار ، خاصة وأن الخلاف والتضاد معهم لا ينحصر بميادين القتال .
الثالث : تلقي المسلمين دروس الدعاء من الأمم السالفة .
الرابع : دعوة المسلمين للتدبر في أثر دعاء الربيين من جهات :
الأولى :نفع وأثر دعاء الربيين لأنفسهم ، وفيه وجوه :
أولاً : سلامة الربيين من الوهن والضعف .
ثانياً : إستدامة قتال الربيين .
ثالثاً : رؤية الربيين لمنافع الدعاء الحسية والعقلية .
رابعاً : مجئ الآية التالية ببيان الثواب العظيم الذي أحرزه الربيون بجهادهم وقتالهم في سبيل الله , ودعائهم وتضرعهم لله ، وتقدير الآية التالية على وجوه :
الأول : فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة لقتالهم مع الأنبياء .
الثاني : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
الثالث : وما ضعفوا في الجهاد فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
الرابع : وما استكانوا وما ضعفوا للكفار فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
الخامس : والله يحب الصابرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .بلحاظ أن الثواب يأتي من جهتين :
الأولى : صبر الربيين في مرضاة الله .
الثانية : حب الله عز وجل للربيين ، هذا الحب الذي يترشح عنه الثواب العظيم في النشأتين [عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاثة يحبهم الله ، رجل أتى قوما ، فسألهم بالله ، ولم يسألهم بقرابة بينهم ، وبينه ، فتخلف رجل بأعقابهم ، فأعطاه سرا لا يعلم بعطيته ، إلا الله والذي أعطاه .
وقوم ساروا ليلهم ، حتى إذا كان النوم أحب إليهم نزلوا ، فوضعوا رءوسهم ، فقام يتملقني ، ويتلو آياتي .
ورجل كان في سرية ، فلقوا العدو ، فهزموا ، وأقبل بصدره ، حتى يقتل ، أو يفتح لهم] ( ).
السادس : قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
السابع : قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
الثامن : قالوا ربنا ثبت أقدامنا فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
التاسع : قالوا ربنا أنصرنا على القوم الكافرين فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، وسيأتي مزيد بيان في تفسير الآية التالية ( ).
خامساً : التطلع لقبول الدعاء الخاص والعام في أمور الدين والدنيا وللذات والغير بلحاظ أن مواطن القتال مناسبة للإستجابة [وعن سهل بن سعد قال :أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ :« ثِنْتَانِ لاَ تُرَدَّانِ – أَوْ قَلَّمَا تُرَدَّانِ – الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ ، وَعِنْدَ الْبَأْسِ حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُ بَعْضًا] ( ).
والمراد من النداء هو الأذان والنداء بالصلاة .
سادساً : الدعاء وسيلة مباركة لإتحاد وتآلف المؤمنين والتنزه عن الكدورة ، وهو سبب لإزاحة الغل عن القلوب وبرزخ دون الفرقة والخلاف ، إذ يشعر الإنسان بالدعاء بحاجته وضعفه ، وأنه ينتفع من دعاء أخيه له علانية وفي ظاهر الغيب .
الثانية : نفع دعاء الربيين لذراريهم وفيه وجوه :
الأول : صيرورة الدعاء ميراث الربيين لأبنائهم ، فهم لم يجمعوا الأموال ، ولم يغنموا الغنائم ، ولم يتفرغوا للمكاسب والتجارات إذ تدل هذه الآية والآية السابقة على تسخيرهم لساعات يومهم في الجهاد والدعاء لقوله تعالى [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا] فلا تجد الربيين مجتمعين في الأسواق أو منشغلين بالمضاربة والسفر للتجارة ، وقد يقال لعل من الأزمنة ما ليس فيه تجارة ومكاسب .
والجواب أن الآية تبين وجود مؤمنين وكفار وأن التضاد بينهم وصل إلى حد السيف مما يدل على أن الكفار يدافعون عن عروش وصروح تجارية وشأن وجاه , وقد تكون وراء إغوائهم وغيهم .
ويحتمل الدعاء في آية البحث وجوهاً :
الأول : إرادة كل فرد ومسألة في الآية على نحو مستقل فمرة يقول الربيون : ربنا إغفر لنا ذنوبنا ، وأخرى يقولون : ربنا غغفر لنا إسرافنا في أمرنا ، وهكذا .
الثاني : المقصود في الآية الجمع بين أفراد الدعاء وإفادة واو العطف ، فيدعو الربيون بمضامين آية البحث جملة واحدة .
الثالث : التفصيل فتارة يدعو الربيون بأحد مضامين آية البحث ، وأخرى بالجمع بين مضامين الآية .
الرابع : إختيار الربيين الدعاء بلحاظ مناسبة الموضوع والحكم ، فعند السلم وطلب الرزق يسألون الله العفو والمغفرة ، وعند مقدمات القتال يسألون الله ثبات الأقدام .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة ، ليكون من مصاديق تفضيل المسلمين جمع هذه المصاديق والأفراد بآية واحدة هي آية البحث ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد أختتمت آية البحث بالدعاء بالنصر على القوم الكافرين وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على التآزر بين الربيين وعدم وقوع الخلاف والإقتتال بينهم ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )وتجلى هذا المعنى بقانون المؤاخاة بين الصحابة لتكون مناسبة للدعاء ومقدمة للدفاع [عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً] ( ) .
ويدل اسم الربيين وإضافته للرب تعالى بانهم على يقين بأن النصر من عند الله وأنه سبحانه [الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( )الذي ينصر أولياءه ويجعل الإسلام الديانة الباقية في الأرض بحكمته وسلطانه ، وهو الذي ينصر أولياءه وأحباءه الصابرين على أعدائه الجاحدين .
ترى لماذا سأل الربيون الله سبحانه النصر على الكافرين , الجواب من وجوه :
الأول : إرادة إجتناب الكفر في الأرض لأنه خلاف علة خلق الإنسان.
الثاني : الكفر قبيح ذاتاً وعرضاً وكله أذى وضرر.
الثالث : إرادة وقاية الناس من سلطان الكفر والكافرين , ومن معاني [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )محاربة الكافرين طاعة لله عز وجل في ملكه .
الرابع : إرادة نصرة الله لأوليائه المؤمنين ، وفي التنزيل [وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] ( ).
الخامس : إصرار الكافرين على الهجوم والقتال ، ليكون في الآية إضمار وتقديره : وأنصرنا في دفاعنا على القوم الكافرين .
لقد أراد الربيون طرد الجزع والملل والضجر من نفوسهم فطريق الإيمان طويل ومليء بالأذى ويستلزم الصبر والتحمل وشهدت لهم آية البحث بالسلامة من الخور والجبن .
ولو بدت للمسلم الذي يسكن بلاد الغرب ونحوها أمارات وقرائن باعراض أبنائه ذكوراً واناثاً أو مجتمعين عن الصلاة والصيام والمناسك فهل يجب أو يستحب له ترك هذا الوطن والعودة إلى القرية والمدينة التي يستطيع فيها حملهم على أداء الصلاة الجواب لا ، فقد تدركهم التوبة والإنابة وعليه الدعاء لهدايتهم ، والسعي لجذبهم إلى منازل الإيمان وتلاوة القرآن والتحلي بالصبر ، لذا تضمنت آية البحث الدعاء [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا] فمع تعاهد المؤمنين للصلاة والصلاح والبقاء في منازل التقوى يلحق بهم القالي ( ) وهل يصدق على تارك الصلاة في هذه الحالة أنه مرتد الجواب لا، وأن كانت الصلاة عمود الدين لأن هذا الترك ليس جحوداً بها بعد التسليم بالإنتماء للإسلام .
ومن أسرار مجئ آية السياق بصيغة الجمع ثم الإفراد بخصوص الإنقلاب [أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ]بشارة أن الإنقلاب لا يكون عاماً ولا تنقلب طائفة من المسلمين إنما يكون الإنقلاب [ والقلب : تحويل الشئ عن وجهه ] ( ).
والإنقلاب الإنصراف عن الوجه والغاية التي يريد [والعَقْب مؤخر القدم أنثى والجمع أَعْقاب وأَعْقُبٌ] ( ).

قراءة في [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ]
وقد وثق القرآن التضاد والتناقض بين الإيمان والكفر بخصوص قتال كفار قريش بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل من قريش عبادته مع الإستمرار على التجارة أمرَ سبحانه بالقليل من الذكر والعبادة بعد أن أعطى ويعطي الكثير ، وأمرهم بالتصديق برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه حق من عنده تعالى ولكنهم أصروا على الكفر فحرموا أنفسهم من نعمة التجارة بين الشرق والغرب التي إختصوا بها ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
ومنذ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الآن ليس في العالم من دولة أو قبيلة تتولى وحدها التجارة بين الشرق والغرب كما كانت قريش تنقل بضاعة بلاد فارس والهند والصين من اليمن إلى الشام وبضاعة الروم إلى الشرق فلا ترجع العير من الشام إلا محملة بالبضائع ، لأن الصراع بين الدولة الرومانية والفارسية أعاق الطريق السالكة عبر العراق وسوريا .
وهل كانت قريش تعلم أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تقضي على تجارتها لأن رسالته تبعث الأمن في ربوع العراق وسوريا ، وتكون التجارة مباحة وميسرة فلذا حاربوه ، الجواب نعم ، وتلك مسألة مستحدثة في التأريخ لابد من دراستها طرداً وعكساً .
[واخرج البيهقي وأبو نعيم عن البراء بن عازب قال عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول فشكونا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فلما رآها أخذ المعول وقال بسم الله وضرب ضربة فكسر ثلثها فقال الله اكبر اعطيت مفاتيح الشام والله إني لأنظر إلى قصورها الحمر .
ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر فقال الله أكبر اعطيت مفاتيح فارس والله اني لأبصر قصر المداين الابيض .
ثم ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر ابواب صنعاء من مكاني الساعة] ( ).
ليكون تقدير قوله تعالى [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]على وجوه :
الأول : فليعبدوا الله الذي هو رب هذا البيت .
الثاني : فليعبدوا رب هذا البيت لأن عبادته واجبة وهي علة الخلق .
الثالث : فليعبدوا رب هذا البيت كما كان آباؤهم يعبدونه .
الرابع : فليعبدوا رب هذا البيت الذي جعله [أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ] ( ) .
الخامس : فليعبدوا رب هذا البيت الذي تعبده وتسبحه الخلائق كلها.
السادس : فليعبدوا رب هذا البيت [الذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ].
السابع : فليعبدوا رب هذا البيت الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ).
الثامن : فليعبدوا رب هذا البيت الذي بعث نبياً منهم ، وتجري الآيات على يديه بين ظهرانيهم وبمرأى ومسمع منهم ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً] ( ).
التاسع : فليعبدوا رب هذا البيت ليدخلوا الإسلام .
العاشر : فليعبدوا رب هذا البيت ويكفوا عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الحادي عشر : فليعبدوا رب هذا البيت بأن يكونوا من أصحاب وأنصار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني عشر : فليعبدوا رب هذا البيت وهو يزاولون التجارة .
الثالث عشر : فليعبدوا رب هذا البيت لأنهم سدنة بيته الحرام .
الرابع عشر : فليعبدوا رب هذا البيت لتتبعهم القبائل بالإيمان .
الخامس عشر : فليعبدوا رب هذا البيت كما عبده الربيون .
السادس عشر : فليعبدوا رب هذا البيت لتدوم عليهم النعم .
السابع عشر : فليعبدوا رب هذا البيت ويتوبوا إلى الله من الكفر وعبادة الأصنام .
الثامن عشر : فليعبدوا رب هذا البيت شكراً له سبحانه، قال تعالى [وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ] ( ).
جهاد النساء
تتضمن الآية محل البحث شمول النساء المؤمنات في حب الله للصابرين لأن صبرهن متعدد من وجوه :
أولاً : إختيار النساء الإيمان .
ثانياً : صبر المؤمنة عند تلقي المصيبة باستشهاد الأب أو الابن أو الزوج ، وقد تكون المصيبة مركبة ومتعددة بفقد أكثر من واحد من بيتها وأهلها [قَالَ ابن إسْحَاقَ : ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ ، فَلَقِيَتْهُ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ ، كَمَا ذُكِرَ لِي ، فَلَمّا لَقِيَتْ النّاسَ نُعِيَ إلَيْهَا أَخُوهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ ، فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ ثُمّ نُعِيَ لَهَا خَالُهَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ ثُمّ نُعِيَ لَهَا زَوْجُهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، فَصَاحَتْ وَوَلْوَلَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانِ لِمَا رَأَى مِنْ تَثَبّتِهَا عِنْدَ أَخِيهَا وَخَالِهَا ، وَصِيَاحِهَا عَلَى زَوْجِهَا] ( ).
ثالثاً : صبر المسلمة في إختيارها الجهاد بنفسها عند الضرورة ، وإنطباق أمره قهراً ، وصيرورة دفاع المرأة كالواجب العيني كما في نسيبة أم عمار الأنصارية التي دافعت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد (عن أُم عطية قالت: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَخْلُفُهُمْ فِى رِحَالِهِمْ وَأَصْنَعُ لَهُمُ الطَّعَامَ وَأُدَاوِى الْجَرْحَى وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى( ).
وفيه دلالة على جواز معالجة المرأة للأجنبي عنها في حال شبه الضرورة أي لا تصل النوبة في المقام إلى الضرورة وجواز اللمس مع الحاجه إليه لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرجهن معه للعلاج ، ولم يخرج رجالاً من ذوي الأعذار للقيام بمداواة الجرحى بالإضافة إلى قيام النساء بحث المقاتلين وتشجيعهم والدعوة للدفاع عنهن .
عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابن عَفْرَاءَ قَالَتْ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسْقِي الْقَوْمَ وَنَخْدُمُهُمْ وَنَرُدُّ الْجَرْحَى وَالْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ( )، مع أن الأصل هو عدم وجوب الجهاد والقتال على المرأة (وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل على النساء من جهاد؟ قال : عليهن جهاد لا قتال فيه . الحج والعمرة] ( )بلحاظ وجوب الحج على المكلفين رجالاً ونساءً .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية ورود متعلق وجوب الحج بصيغة العموم [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )ليشمل لفظ الناس كلاً من :
الأول : الرجال ممن بلغ سن التكليف لإشتراط الحج بسن البلوغ والعقل.
الثاني : النساء البالغات الرشيدات لذا فلو منع الزوج زوجته من الحج من غير سبب عقلائي وجيه وهي مستطيعة يجب عليها أداء حجة الإسلام دون الحج المندوب والواجب بالعرض كالنذر ،إذ لا بد فيه من إذن الزوج وإذا لم يأذن الزوج في حج الزوجة حجة الإسلام يسقط حقه ، وقيل هو مثل الصيام إذ يجب عليها صيام شهر رمضان وأن لم يرض الزوج ، ولكن بينهما عموم وخصوص من وجه .
فمادة الإلتقاء هي الفريضة والواجب في كل من الحج والصيام ، ومادة الإفتراق من جهات :
الأولى : وجوب الصيام مقيد بالسلامة من المرض والسفر ،قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
الثانية : وجوب الحج مقيد بالإستطاعة من الزاد والراحلة .
الثالثة : صيام المرأة في خدرها، أما الحج فعليها قطع المسافة والصحبة, وأداء المناسك في المواطن المباركة .
عن أنس رضي الله تعالى عنه أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرا فقال لها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما هذا الخنجر قالت اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه فجعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يضحك .
قالت يا رسول الله اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك فقال يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن] ( ).
وفي الحديث مسائل :
الأولى : تجلي صبر النساء بأبهى حلة بالتهيئ لخوض غمار الحرب وقتل الكفار.
الثانية : عدم إنكار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفعل أم سليم في مقدمات القتال فهي لم تقتل الكفار ولكنها مستعدة للنوازل ،وهو من الدروس والمواعظ التي إقتبسها المسلمون والمسلمات من واقعة أحد .
الثالثة : بينت أم سليم أن الخنجر للدفاع عند الضرورة وأنه خاص بالكافر إذا دنا منها في المعركة .
الرابعة : معنى قول أم سليم [اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك]أي أقتل غيرنا من الطلقاء الذين اسلموا يوم فتح مكة وإنهزموا عنك أي صاروا سبباً للهزيمة والإنكسار أول معركة حنين فأجابها بأن الله عز وجل كفى المسلمين شر تلك الجولة الأولى من القتال وعادوا إلى مواقعهم في القتال فلا حاجة للإنتقام من الطلقاء ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقتل من نطق بالشهادتين وإن كان منافقاً يخفي الكفر في السلم والحرب .
الخامسة : إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة بكفاية الله ، وتذكير المسلمين بفضل الله تعالى بالنصر ودفع الهزيمة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
ومن وجوه الكفاية في المقام أن الكفار لم يبادروا بعد هذه الواقعة بالهجوم على المسلمين وثغورهم ، وهو من معاني الحسن والفضل الإلهي في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم [إن الله قد كفى وأحسن] ( ) أي أنه تعالى مع كفاية المسلمين ودفع الشر عنهم ، أحسن إليهم بأن جعلهم أعزة لا تضطر المسلمة للدفاع عن النبي وعن نفسها .
السادسة : بيان رحمة الله بالمؤمنين بالأمن من تشابك الأسنة وتداخل الجيوش في القتال ، قال تعالى في الثناء على نفسه [وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا] ( ).
[عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنما تكون الصنيعة إلى ذي دين أو حسب ، وجهاد الضعفاء الحج ، وجهاد المرأة حسن التبعل لزوجها ، والتودد نصف الدين ، وما عال امرؤ اقتصد ، واستنزلوا الرزق بالصدقة ، وأبى الله أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين من حيث يحتسبون] ( ).
وهل الواو في [والتودد نصف الدين] في الحديث أعلاه عاطفة أم استئنافية الجواب هو الثاني ، لإرادة صيغة التودد وحسن المعاملة من المسلم والمسلمة مطلقاً مع الآخرين .
إن حسن تبعل المرأة مقدمة لتوجه الزوج إلى سوح القتال لأن من مصاديق حسن التبعل حفظ الرجل في بيته وعرضه وماله وأولاده ، وقد يقال أن من حسن التبعل الزينة ولبس الحلي والتعطر في البيت للزوج وإظهار حسن الخلق والتأني بالزوج ، وهي أمور قد تصدّ المؤمن عن القتال وتجعله يرغب بحياة الدعة مع العيال .
والجواب إن الجهاد حكم مستقل للدفاع عن الدين والنفوس والعيال ، فحال الزينة والبهجة هذه تستديم بالخروج إلى ميادين القتال لدفع الأعداء وقد خرج المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال مع أن أزواجهم وهن يعملن بأحكام حسن التبعل ، ويدل قوله تعالى بخصوص معركة أحد [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
كما في الثلاثة من الصحابة الذين تخلفوا عن الخروج في معركة تبوك وأخرج عن الحسن قال : [عن الحسن عليه السلام قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك تخلف كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، قال : أما أحدهم فكان له حائط حين زها قد فشت فيه الحمرة والصفرة فقال : غزوت وغزوت وغزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو أقمت العام في هذا الحائط فأصبت منهفلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دخل حائطه فقال : ما خلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وما استبق المؤمنون في الجهاد في سبيل الله إلا ضن بك أيها الحائط ، اللهمَّ إني أشهدك أني تصدقت به في سبيلك . وأما الآخر فكان قد تفرق عنه من أهله ناس واجتمعوا له فقال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت ، فلو أني أقمت العام في أهلي . فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال : ما خلفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما استبق إليه المجاهدون في سبيل الله إلا ضن بكم أيها الأهل ، اللهم إن لك عليَّ أن لا أرجع إلى أهلي ومالي حتى أعلم ما تقضي فيَّ . وأما الآخر فقال : اللهم إن لك عليَّ أن ألحق بالقوم حتى أدركهم أو أنقطع . فجعل يتتبع الدقع والحزونة حتى لحق بالقوم ، فأنزل الله { لقد تاب الله على النبي } إلى قوله { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت }]( ).
لقد فزع أهل البيت والصحابة إلى النفير والدفاع ولم تمنعهم نساؤهم من الخروج للقتال ، وظاهر الآية أنهم كانوا في المسجد وبانتظار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلبس لأمة القتال فلما خرج من البيت أخذ يأمرهم بخصوص القتال والتهيئ له .
وليس من تعارض أو تزاحم في الأحكام التكليفية لذا جاءت الآية ببعث الشوق في النفوس للدفاع والذب عن الإسلام وبيان فوز الشهداء بالحور العين في الجنة ، قال تعالى في صفتهن [وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ).
قانون ثبات الأقدام
لقد سأل الربيون ثبات الأقدام للسلامة والأمن من الفرار عند اللقاء ، وهذا الثبات للسلامة من وجوه :
الأول : هذا الثبات حسن ذاتاً لما فيه من معاني التوكل على الله .
الثاني : يبعث هذا الثبات الفزع والخوف في قلوب الكافرين .
الثالث : قد يؤدي هذا الثبات إلى عدم وقوع الحرب والقتال ، فمتى ما رأى الكفار المؤمنين في حال ثبات في ميدان الحرب فانهم يلجأون إلى الهرب أو طلب الصلح لذا ورد قوله تعالى [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) بلحاظ أن هذا الثبات من مراتب العلو في القتال وفي الشأن والعز [قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ أَلَا نَبْنِي لَك عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ نُعِدّ عِنْدَك رَكَائِبَك ، ثُمّ نَلْقَى عَدُوّنَا ، فَإِنْ أَعَزّنَا اللّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوّنَا ، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى ، جَلَسَتْ عَلَى رَكَائِبِك ، فَلَحِقَتْ بِمَنْ وَرَاءَنَا ، فَقَدْ تَخَلّفَ عَنْك أَقْوَامٌ يَا نَبِيّ اللّهِ مَا نَحْنُ بِأَشَدّ لَك حُبّا مِنْهُمْ وَلَوْ ظَنّوا أَنّك تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلّفُوا عَنْك ، يَمْنَعُك اللّهُ بِهِمْ يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَك : فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا ، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ . ثُمّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَرِيشٌ فَكَانَ فِيهِا إرتحَالُ قُرَيْشٍ
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَدْ ارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ فَأَقْبَلَتْ فَلَمّا رَآهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تُصَوّبُ مِنْ الْعَقَنْقَلِ ، – وَهُوَ الْكَثِيبُ الّذِي جَاءُوا مِنْهُ إلَى الْوَادِي – قَالَ اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك ، اللّهُمّ فَنَصْرُك الّذِي وَعَدْتنِي ، اللّهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ .
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ( وَقَدْ ) رَأَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ عَلَى جَمْلٍ لَهُ أَحْمَرَ – إنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ إنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا . كَانَ خُفَافُ بْنُ أَيْمَاءَ بْنِ رَحْضَةَ الْغِفَارِيّ ، أَوْ أَبُوهُ أَيْمَاءُ بْنُ رَحْضَةَ الْغِفَارِيّ ، بَعَثَ إلَى قُرَيْشٍ ، حِينَ مَرّوا بِهِ ابْنًا لَهُ بِجَزَائِرِهِ أَهْدَاهَا لَهُمْ وَقَالَ إنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ نَمُدّكُمْ بِسِلَاحِ وَرِجَالٍ فَعَلْنَا .
قَالَ فَأَرْسَلُوا إلَيْهِ مَعَ ابْنِهِ أَنْ وَصَلَتْك رَحِمٌ قَدْ قَضَيْت الّذِي عَلَيْك ، فَلَعَمْرِي لَئِنْ كُنّا إنّمَا نُقَاتِلْ النّاسَ فَمَا بِنَا مِنْ ضَعْفٍ عَنْهُمْ وَلَئِنْ كُنّا إنّمَا نُقَاتِلُ اللّهَ كَمَا يَزْعُمُ مُحَمّدٌ فَمَا لِأَحَدِ بِاَللّهِ مِنْ طَاقَةٍ .
فَلَمّا نَزَلَ النّاسُ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتّى وَرَدُوا حَوْضَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ” دَعُوهُمْ ” .
فَمَا شَرِبَ مِنْهُ رَجُلٌ يَوْمَئِذٍ إلّا قُتِلَ إلّا مَا كَانَ مِنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، فَإِنّهُ لَمْ يَقْتُلْ ثُمّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ . فَكَانَ إذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ قَالَ لَا وَاَلّذِي نَجّانِي مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ .
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، قَالُوا : لَمّا اطْمَأَنّ الْقَوْمُ بَعَثُوا عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ فَقَالُوا : احْزُرْ لَنَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ قَالَ فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِمْ فَقَالَ ثَلَاثُ مِائَةِ رَجُلٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ وَلَكِنْ أَمْهِلُونِي حَتّى أَنْظُرَ أَلِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ ؟ قَالَ فَضَرَبَ فِي الْوَادِي حَتّى أُبْعِدَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا ، فَرَجَعَ إلَيْهِمْ فَقَالَ مَا وَجَدْت شَيْئًا ، وَلَكِنّي قَدْ رَأَيْت ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، الْبَلَايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا ، نَوَاضِحُ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النّاقِعَ قَوْمٌ لَيْسَ مَعَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إلّا سُيُوفُهُمْ وَاَللّهِ مَا أَرَى أَنْ يَقْتُلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتّى يَقْتُلَ رَجُلًا مِنْكُمْ فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فَرَوْا رَأْيَكُمْ . فَلَمّا سَمِعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ذَلِكَ مَشَى فِي النّاسِ فَأَتَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، فَقَالَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ إنّك كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا ، وَالْمُطَاعُ فِيهَا ، هَلْ لَك إلَى أَنْ لَا تَزَالَ تَذْكُرُ فِيهَا بِخَيْرِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ ؟ قَالَ وَمَا ذَاكَ يَا حَكِيمُ ؟ قَالَ تَرْجِعُ بِالنّاسِ وَتَحْمِلُ أَمْرَ حَلِيفِك عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيّ ، قَالَ قَدْ فَعَلْت ، أَنْتَ عَلَيّ بِذَلِكَ إنّمَا هُوَ حَلِيفِي ، فَعَلَيّ عَقْلُهُ وَمَا أُصِيبَ مِنْ مَالِهِ فَأْتِ ابن الْحَنْظَلِيّةِ .
نَسَبُ الْحَنْظَلِيّةِ
قَالَ ابن هِشَامٍ : وَالْحَنْظَلِيّةُ أُمّ أَبِي جَهْلٍ هِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ مُخَرّبَةَ أَحَدِ بَنِي نَهْشِلْ بْنِ دَارِمَ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ – فَإِنّي لَا أَخْشَى أَنْ يَشْجُرَ أَمْرَ النّاسِ غَيْرُهُ يَعْنِي أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ . ثُمّ قَامَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ خَطِيبًا ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّكُمْ وَاَللّهِ مَا تَصْنَعُونَ بِأَنْ تَلْقَوْا مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ شَيْئًا ، وَاَللّهِ لَئِنْ أَصَبْتُمُوهُ لَا يَزَالُ الرّجُلُ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَجُلٍ يَكْرَهُ النّظَرَ إلَيْهِ قَتَلَ ابن عَمّهِ أَوْ ابن خَالِهِ أَوْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ فَارْجِعُوا وَخَلّوا بَيْنَ مُحَمّدٍ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ ، فَإِنْ أَصَابُوا فَذَاكَ الّذِي أَرَدْتُمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَلْفَاكُمْ وَلَمْ تَعَرّضُوا مِنْهُ مَا تُرِيدُونَ .
قَالَ حَكِيمٌ فَانْطَلَقْت حَتّى جِئْت أَبَا جَهْلٍ وَجَدْته قَدْ نَثَلَ دُرْعًا لَهُ مِنْ جِرَابِهَا ، فَهُوَ يَهْنِئُهَا قَالَ ابن هِشَامٍ : يُهَيّئُهَا – فَقُلْت لَهُ يَا أَبَا الْحَكَمِ إنّ عُتْبَةَ أَرْسَلَنِي إلَيْك بِكَذَا وَكَذَا ، لِلّذِي قَالَ فَقَالَ انْتَفَخَ وَاَللّهِ سَحْرُهُ حِينَ رَأَى مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ كَلّا وَاَللّهِ لَا نَرْجِعُ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمّدٍ وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ وَلَكِنّهُ قَدْ رَأَى أَنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكْلَةُ جَزُورٍ وَفِيهِمْ ابْنُهُ فَقَدْ تَخَوّفَكُمْ عَلَيْهِ .
ثُمّ بَعَثَ إلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيّ ، فَقَالَ هَذَا حَلِيفُك يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنّاسِ وَقَدْ رَأَيْت ثَأْرَك بِعَيْنِك ، فَقُمْ فَأَنْشِدْ خُفْرَتَكَ وَمَقْتَلَ أَخِيك . فَقَامَ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ فَاكْتَشَفَ ثُمّ صَرَخَ وَا عَمْرَاهُ وَا عَمْرَاهُ . فَحَمِيَتْ الْحَرْبُ وَحَقِبَ النّاسُ وَاسْتَوْسَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشّرّ وَأُفْسِدَ عَلَى النّاسِ الرّأْيُ الّذِي دَعَاهُمْ إلَيْهِ عُتْبَةُ . فَلَمّا بَلَغَ عُتْبَةُ قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ ” انْتَفَخَ وَاَللّهِ سَحْرُهُ ” ، قَالَ سَيَعْلَمُ مُصَفّرُ اسْتِهِ مَنْ انْتَقَخَ سَحْرُهُ أَنَا أَمْ هُوَ] ( ).
وهل يختص ثبات الأقدام بميدان المعركة أم يشمل مقدماتها وتعبئة الجند والسير نحوها ، الجواب هو الثاني , ومنه إستشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه عند الخروج إلى معركة بدر وإجابتهم بالإستعداد للقاء القوم والجهاد في سبيل الله تعالى .
[عن ابن شهاب قال « قاتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر في رمضان سنة اثنتين ، ثم قاتل يوم أحد في شوّال سنة ثلاث ، ثم قاتل يوم الخندق وهو يوم الأحزاب وبني قريظة في شوّال سنة أربع ] ( ).
ومنه ثبات المؤمنين حول وخلف الخندق في معركة الأحزاب وعدم المغادرة إلا لضرورة أو حاجة وهو الذي تجلى بانسحاب الكفار خائبين بعد الحصار .
الرابع : هذا الثبات مقدمة للنصر والغلبة على الكفار وسبب لهزيمتهم في القتال ، لأنه يرجح كفة المؤمنين فيكون على أحد أمرين :
الأول : الزحف والتقدم في ساحة المعركة .
الثاني : الثبات في ملاقاة العدو .
أما الكفار فيحتمل حالهم وجهاً ثالثاً وهو الفرار من الزحف ، وإذا اراد الكفار الثبات في الميدان يحصل تعارض بين الطرفين فتترجح كفة المؤمنين لأنهم سألوا الله عز وجل الثبات ، وهو سبحانه [يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ] ( )وقال تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ]( ).
الخامس : ترتب الأجر والثواب على الثبات في الميدان لأن المؤمن يقصد القربة وإرادة مرضاة الله عز وجل .
وقد ورد لفظ [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا] مرتين في القرآن ،إذ جاء بخصوص أصحاب طالوت بقوله تعالى [وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( ) .
لبيان أن أصحاب طالوت من الربيين وأن القرآن فيه مجمل ومفصل وفيه قوانين خاصة مصداقاً لهذا القانون ، فآية البحث قانون خاص في خصال الربيين أما الآية أعلاه فهي مصداق ومثال لحال المؤمنين المجاهدين من أصحاب الأنبياء .
[وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال : كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة ، وكان ملك العمالقة جالوت ، وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ، وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبياً يقاتلون معه ، وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى ، فأخذوها فحبسوها في بيت ،رهبة أن تلد جارية فتبدله بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها ، فجعلت تدعو الله أن يرزقها غلاماً ، فولدت غلاماً فسمته شمعون .
فكبر الغلام فاسلمته أمه يتعلم التوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم وتبناه ، فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبياً أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ ، وكان لا يأتمن عليه أحداً غيره ، فدعاه بلحن الشيخ يا شماؤل ، فقام الغلام فزعاً إلى الشيخ فقال : يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا ، فيفزع الغلام ، فقال : يا بني ارجع فنم . فرجع فنام ، ثم دعاه الثانية فأتاه الغلام أيضاً فقال : دعوتني؟ فقال : ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني .
فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك ، فإن الله قد بعثك فيهم نبياً ، فلما أتاهم كذبوه ، وقالوا : استعجلت بالنبوة ولم يأن لك ، وقالوا : إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آية نبوتك . فقال لهم شمعون : عسى أن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا { قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله . . . }( ) الآية . فدعا الله فأتي بعصا تكون على مقدار طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكاً . فقال : إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا . فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا مثلها .
وكان طالوت رجلاً سقاء يسقي على حمار له ، فضلّ حماره ، فانطلق يطلبه في الطريق ، فلما رأوه دعوه فقاسوه بها فكان مثلها . فقال لهم نبيهم { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } قال القوم : ما كنت قط أكذب منك الساعة ، ونحن من سبط المملكة وليس هو من سبط المملكة ، ولم يؤت سعة من المال فنتبعه لذلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم } قالوا : فإن كنت صادقاً فأتنا بآية ان هذا ملك . قال { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت . . . } ( ). فأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت ، فآمنوا بنبوة شمعون وسلموا بملك طالوت] ( ).
وتبين الآية الملازمة بين مرتبة الربيين وثبات الأقدام ، فان قلت وردت الآية بصيغة الدعاء [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا] ولم ترد بصيغة الشكر والبيان [وَثَبِّتّ أَقْدَامَنَا] بصيغة الماضي التي تدل على الحدوث , والجواب من جهات :
الأولى : تبين آية البحث عزم الربيين على الثبات في الميدان .
الثانية : تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على حب الربيين للقاء القوم الكافرين ، والعزم على عدم الفرار من المعركة .
الثالثة : تؤكد الآية السابقة خصالاً حميدة للربيين لها موضوعية في الثبات في الميدان منها سلامتهم من الوهن والضعف ، وعدم ذلهم وخضوعهم للعدو الكافر .
الرابعة : إرادة كبرى كلية وهي أن الله عز وجل أمر بالدعاء ووعد عليه الإستجابة ، ومن خصائص قانون [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا] الإخبار عن ثبات أهل البيت وأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مواطن القتال وعدم إنهزامهم أمام الأعداء .
لقد كانت المواجهة مع كفار قريش في كل مرة غير متكافئة ، ويتبين الفارق بين الفريقين على نحو جلي في عدد الجنود والأسلحة والمؤون ويزيد الكفار في كل فرد منها بنحو ثلاثة أضعاف حال المسلمين وما عندهم ، إلا الإيمان والإرادة والنصرة من عند الله فهي حاضرة عند المسلمين معدومة عند الكافرين .
والمدار في النصرة والغلبة عليها ، فجاء دعاء المؤمنين [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا] للإنتفاع الأفضل من فضل الله ، والإستعانة به تعالى وهل يدخل تثبيت الأقدام بالمدد الإلهي , أم أنه أجنبي عنه بلحاظ أن المدد أمر محسوس ، الجواب هو الأول وتلك آية في تحقيق النصر للمؤمنين وأن المدد من عند الله عز وجل يشمل مقدمات القتال ،ويكون مصاحباً له ، وقد يكون سبباً لعدم وقوعه أصلاً كما في معركة الخندق ، قال تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) .
ليكون من مصاديق الكفاية في المقام ثبات المؤمنين في ميادين القتال واستعدادهم للقاء كفار قريش وغطفان وإن إستمر الحصار أكثر من عشرين ليلة .

بحث بلاغي
من مفردات علم من البديع (القصر ) وهو لغة الحصر والحبس كما في قوله تعالى [حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ] ( )أما في الإصطلاح فهو حصر وتخصيص شيء لشيء كما في قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ]( ).
فاسم النبي في الآية مقصور ، والرسالة مقصور عليه .
وفيه تأكيد لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه ليس شاعراً أو كاهناً , وللقصر طرق كثيرة منها :
الأول : القصر بالإستثناء والنفي ، كما في الآية أعلاه ،وما ورد قبل آيتين [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) ومن إعجاز القرآن أن من مجموع هذه الآية والآيات الثلاث السابقة وردت ثلاث آيات منها بالقصر بالنفي والإستثناء ويأتي المقصور عليه بعد أداة الإستثناء فليس من قول للربيين إلا بذكر الله والدعاء .
ترى لماذا لم تأت الآية السابقة بصيغة القصر وتقول مثلاً ( وكأين من نبي لم يقاتل معه إلا ربيون ) الجواب من إعجاز القرآن أن الآية السابقة جاءت بالمعنى الأعم للذين قاتلوا مع النبي وأنهم على مراتب متفاوتة في الإيمان وذكرت الآية خصوص [الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى] ( ).
الثاني : القصر بتقديم ما حقه التأخير ،قال تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ) والمقصور عليه هو المقدم [إِيَّاكَ]ونضيف لهذا العلم البلاغي مسألة وهي أن النسبة بين المقصور عليه والمقصور هي العموم والخصوص المطلق ، فلا يختص موضوع المقصور عليه بذات المقصور ، فنقول : اللهم إياك نحب ،إياك ندعو ،إياك نرجو ،إياك نتقرب ،إياك نستغفر ،إياك نعفو ،عن الآخرين .
الثالث : القصر بـ(إنما) قال تعالى [إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ] ( )والمقصور هو الدنيا ، والمقصور عليه هو اللعب واللهو ، إذ يؤخر المقصور عليه مع[إِنَّمَا] وجوباً .
الرابع : القصر بحروف العطف مثل (بل ) (لكن) (لا) كما في قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ] ( ) وتقول : الربيون مجاهدون لا قاعدون والمقصور عليه هو المعطوف عليه ، ويشترط في كل من (بل) و(لكن) سبقها بنفي أو نهي ، وأن يكون المعطوف بهما مفرداً وأن لا تقترن (لكن ) بالواو .
والقصر من ضروب الإيجاز ، ومن منافعه تحديد المعنى ، لذا يكون أحياناً تعريفاً ودليلاً .
والقصر على قسمين :
الأول : القصر الحقيقي ، وهو الذي يختص المقصور عليه بالحقيقة والواقع ، كما تقول : لا إله إلا الله ، وليس المراد من الحقيقة هنا الإصطلاح الأصولي وهو المعنى الذي وضع له اللفظ في مقابل المجاز الذي أستعمل فيه ذات اللفظ لوجود قرينة حالية أو مقالية .
وعلامات الحقيقة هي :
الأول : التبادر أي تبادر المعنى الموضوع له اللفظ إلى الذهن حال سماع اللفظ .
الثاني : الإطراد : أي إستعمال اللفظ لذات المعنى في كل الأحوال .
الثالث : عدم صحة السلب عنه .
إنما المراد من الحقيقة في إصطلاح البلاغة هو الواقع والفرد الموجود في الخارج .
الثاني : القصر الإضافي ، وهو إختصاص المقصور بالمقصور عليه بالقياس إلى شئ آخر معين وليس حقيقة ، كما في قوله تعالى [لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ] ( )فليس نفي الحرج في كل شئ إنما في الأكل وإرادة سقوط فرض الجهاد عن ذوي العاهات [عن مجاهد قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج والمريض إلى بيت أبيه ، أو بيت أخيه ، أو بيت أخته ، أو بيت عمه ، أو بيت عمته ، أو بيت خاله ، أو بيت خالته ، فكان الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم ، فنزلت هذه الآية رخصة لهم]( ).
وينقسم القصر الإضافي إلى ثلاث أقسام وهي :
الأول : قصر الأفراد ، لنفي الشركة والمتعدد
الثاني : قصر القلب ، لدفع وهم ، ومنع السامع من الظن بخلاف الواقع فنقول : ليس الحج إلا للبيت الحرام .
الثالث : قصر التعيين ، لمنع التردد والشك عند السامع ، كما في قوله تعالى [مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) فقد يظن بعضهم أن الجدال في الدين أمر مباح ولا يختص بطائفة أو فرقة ، فجاءت الآية أعلاه لذم الذين يجادلون في الحق وتعيين صنفهم بأنهم الذين كفروا بالله وبالنبوة.
وجاء قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ] ( ) من باب قصر الموصوف على الصفة لبيان إنحصار عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة والتبليغ ، وفيه دعوة للناس للتصديق بنبوته وتلقي ما يقول بالقبول ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وكذا بالنسبة لآية البحث فان الموصوف فيها مقصور على الصفة والموصوف هو[ قولهم ] والصفة متعددة من الإستغفار والإنابة وسؤال ثبات الأقدام والنصر على الكافرين ، وفيه توثيق وشهادة سماوية على قول وفعل الربيين ، وهو ثناء عليهم وبشارة إقامتهم الدائمة في النعيم .
كتيبة بني المصطلق
وهم بطن من خزاعة الأزدية اليمانية وكانوا يمالئون قريش مع أذى من قبيلة خزاعة توالي النبي محمداً وهي ناصحة له .
والمصطلق لغة من صلق وهو الصياح وحدة الصوت ، نسبة إلى جدهم جذيمة الذي (سمي المصطلق لحسُن صوته، كأنَّه مفتعِل من الصَّلْق. والصَّلْق: شدّة الصَّوت وحِدّته، من قوله عزّ وجل: ” صَلَقُوكم بألسنة حِداد ” . ويقال: صَلَقَ بنو فلانٍ بني فلان، إذا أَوْقَعوا بهم فقتلُهم قتلاً ذرياً. قال الشاعر.
فصلَقْنا في مُرادٍ صَلقةً … وصُدَاءٍ ألحَقتُهم بالثَّلَلْ( ).
وتسكن قبيلة خزاعة بين مكة والمدينة في قديد التي تبعد عن مكة (120) كم وعن المدينة نحو (300)كم وتسكن عسفان التي تبعد ثمانين كيلوا متراً عن مكة ، مع تنقلهم في تلك البقاع طلباً للماء والعشب ، وقد تلتقي أكثر من قبيلة في موضع واحد والجامع المشترك هو الماء .
وكان بنو المصطلق يتوسطون مساكن خزاعة بين مكة والمدينة وعندهم الصنم [مناة ] الذي يحج إليه بعض العرب ، ويمتازون بكثرة أموالهم .
وبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن بني المصطلق يعدون العدة لغزو المدينة برئاسة الحارث بن أبي ضرار وحالفه بعض العرب ، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأستباقهم وغزوهم ، بل أرسل لهم بريدة بن الحصيب الأسلمي ليعلم خبرهم عن قرب ، ولم يسر لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما وصله خبر جمعهم الجموع ، وهو الذي يأتيه الوحي ، ولا يلزم إنتظار وصول الخبر ، ولكن إكراماً منه لخزاعة وإقامة للحجة وإسقاطاً للعذر.
لقد شارك بنو المصطلق في معركة أحد إلى جانب كفار قريش وكانوا مع الأحابيش وخشوا إنتقام المسلمين منهم بالإضافة إلى ما يجمعهم من المصالح مع قريش وحاجتهم لبقاء طريق تجارة قريش إلى الشام مفتوحاً وكانوا يشرفون عليه .
ولقي بريدة الأسلمي رئيسهم الحارث بن أبي ضرار وكلمه ورآهم يعدون العدة للغزو ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوهم بسبعمائة مقاتل ، ومعهم ثلاثون فرساً ،عشرة مع المهاجرين وعشرون مع الأنصار وكان معه عدد من المنافقين.
وكان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليلتين مضيتا من شعبان وأختلف في سنة هذا الخروج على أقوال :
الأول : السنة الرابعة للهجرة .
الثاني : السنة الخامسة للهجرة .
الثالث : السنة السادسة للهجرة ، عن محمد بن إسحاق واليعقوبي ( ت 292هـ) والطبري (ت 310 هـ )وابن الأثير (ت 630 هـ ) وغيرهم .
والمختار هو الثاني ، وهو المروي عن الزهري ( ت 124 هـ )والواقدي وابن سعد والبيهقي والطبرسي وغيرهم .
ولما بلغ بني المصطلق نبأ توجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم خافوا وفزعوا مع كثرتهم وتفرق من كان حولهم من العرب ، وهو من مصاديق ما ورد [عن جابر بن عبد الله قال :قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نُصِرْت بِالرّعْبِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، وَأُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَأُحِلّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تُحْلَلْ لِنَبِيّ كَانَ قَبْلِي ، وَأُعْطِيت الشّفَاعَةَ خَمْسٌ لَمْ يُؤْتَهُنّ نَبِيّ قَبْلِي] ( ).
فوصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ماء لهم يسمى المريسيع فضرب قبته للأمن من العطش ، والتشديد على العدو وكانت معه عائشة وأم سلمة مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد يأخذ أكثر من واحدة من أمهات المؤمنين معه في الغزو ، وهو شاهد على ثقته بالمدد والنصر من عند الله واستعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة زيد بن حارثة ، وقيل أبا ذر الغفاري على رواية ابن هشام( ).
وفي كيفية وقوع المعركة وتفاصيل الأحداث فيها وجهان :
الأول : عندما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ماء المريسيع عبأ أصحابه ، ثم أمر بالمناداة في الناس : قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم .
وتلك آية في الحكمة والدعوة إلى الله ، ولم يشترط عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشهادة له بالرسالة بل إكتفى بالتوحيد ، فأبى القوم ورمى أحدهم سهماً على المسلمين فتراموا ساعة بالنبل ثم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحملوا حملة رجل واحد ، فقتل من المشركين عشرة وأسر الباقون ، وقتل من المسلمين رجل واحد .
الثاني : إغارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بني المصطلق على حين غرة ،وأنعامهم تسقى على الماء لإقامة الحجة عليهم بالإستعداد والتحريض على الهجوم على المدينة وأن الغرض إجتناب أذاهم ودعوتهم إلى الإسلام فلم يحدث قتال بين الطرفين [عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال قال فكتب إلى إنما كان ذلك في أول الاسلام قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم وأصاب يومئذ قال يحيى أحسبه قال جورية أو البتة ابنة الحارث.
وحدثني هذا الحديث عبدالله بن عمر وكان في ذلك الجيش.
وقد أشار ابن سعد إلى هذه الرواية وقال الأول أثبت قال وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى فكتفوا واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب وأمر بالغنائم فجمعت واستعمل عليها شقر ان مولاه وجمع الذرية ناحية واستعمل على قسم الخمس وسهمان المسلمين محمية بن جزء الزبيدى، وكانت الإبل ألفي بعير والشاء خمسة آلاف شاء وكان السبى مائتي بيت وقال غاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدينة ثمانيا وعشرين ليلة وقدم المدينة لهلال رمضان.
قال ابن اسحق: وقد أصيب رجل من المسلمين من بني كلب بن عوف ابن عامر بن ليث بن بكر يقال له هشام بن صبابة أصابه رجل من الانصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ فبينما الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بنى غفار يقال له جهجاه ابن مسعود يقود فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنى حليف بنى عوف ابن الخزرج على الماء فاقتتلا .
فصرخ الجهنى يا معشر الانصار وصرخ الجهجاه يا معشر المهاجرين فغضب عبدالله بن أبى بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد ابن أرقم غلام حدث فقال أقد فعلوها أقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الاول ” سمن كلبك يأكلك ” .
أما والله [لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل] ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتوهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال مرّ به عباد بن بشر فليقتله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يا عمر إذا تحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه قال لا ولكن أذن بالرحيل وفى ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس وقد مشى عبدالله بن أبى بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمعه منه فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به وكان في قومه شريفا عظيما فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الانصار من أصحابه يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل حدبا على ابن أبى ودفعا عنه فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن الحضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه وقال: يا نبى الله والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ما بلغك ما قال
صاحبكم ؟ قال أي صاحب يا رسول الله ؟ قال عبدالله بن أبي] ( ).
في الهجرة إلى الحبشة
لقد آذى الملأ من قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه أشد الأذى حتى أمر عدداً من أهل بيته وأصحابه بالهجرة إلى الحبشة مع بعد المسافة وخطورة الطريق ومشقة الإقامة هناك .
فلما إشتد أذى قريش قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه [لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا] ( ).
ليتضمن هذا الحديث مسائل :
الأولى : بيان صفة ملك الحبشة بما يبعث السكينة في نفوس الصحابة ، ولو ظهر خلاف هذا الأمر لحدث لهم ما لا يعلمه إلا الله وقد ورد الخبر أثناء الإحتجاج عندما أرسلت قريش وفداً إلى النجاشي أن المسلمين متمسكون بعرى الإيمان .
الثانية : تخيير النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بلفظ [لو] ولم يصدر كلامه بلغة الأمر بالهجرة إلى الحبشة لعلمه بأن الله عز وجل يجعل لهم سبيل نجاة في أي حال مع التباين في الكم والأثر ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
الثالثة : إتخاذ الهجرة وسيلة لسلامة الدين ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
الرابعة : الوعد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بمجئ الفرج وتقييده بأنه من عند الله سبحانه بقوله [حتى يجعل الله لكم فرجا ] وفيه وجوه :
الأول : بيان موضوع الإقامة في أرض الحبشة وأنها لسلامة الدين والنفوس ولا عبرة بتنصر ابن جحش في الحبشة .
الثاني : حث المهاجرين على الدعاء وسؤال تقريب الفرج ،ومنه الدعاء الوارد في آية البحث [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] وفيه مسائل :
الأولى : إنه قطع للكفار .
الثانية : فيه عز للمؤمنين .
الثالثة : النصر سبب لعودة المهاجرين إلى ديارهم بتعاهد الفرائض والعبادات .
الثالث : بيان وجه من علم الغيب بأن إقامة المهاجرين في الحبشة لن تدوم .
الرابع : إرادة الأجر والثواب للمهاجرين إلى الحبشة في هجرتهم وتحملهم الأذى وصبرهم وفراقهم للأهل والأحبة .
الخامس : تهيئ باقي الأهل والصحابة للهجرة إلى المدينة المنورة وهي أقرب كثيراً كما أن المسلمين ينزلون فيها على أخوة لهم وأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , لتكون هجرة السابقين إلى الحبشة مقدمة للهجرة إلى المدينة.
السادس :التعريف بقريش وفضحها عند القبائل بظلمها وشدة أذاها لأبنائها الذين قالوا [رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] ( ).
السابع : بيان سبب وموضوع الهجرة وهو النجاة من الظلم ،والحفاظ على الدين والبقاء على الإسلام لقوله صلى الله عليه وآله وسلم [فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد] ( ).
الثامن : الهجرة إلى الحبشة مناسبة لمعرفة ملكها وأهلها ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتتبع أخباره والتدبر في المعجزات التي جاء بها .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه أن الملك إستقبل المسلمين وإستمع لإحتجاجهم من غير قصد منهم ، بل لإصرار قريش على الإضرار بهم ، فكانت هذا النوايا رحمة بالمسلمين .
التاسع : كانت أرض الهجرة وعاء لأداء المسلمين عباداتهم بأمن وطمأنينة [وَكَانَ مِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي الْحَبَشَةِ ، أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ، حِين أَمِنُوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَحَمِدُوا جِوَارَ النّجَاشِيّ ، وَعَبَدُوا اللّهَ لَا يَخَافُونَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا ، وَقَدْ أَحْسَنَ النّجَاشِيّ جِوَارَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِهِ قَالَ :
يَا رَاكِبًا بَلّغَنْ عَنّى مُغَلْغِلَةً … مَنْ كَانَ يَرْجُو بَلَاغَ اللّهِ وَالدّينِ
كُلّ امْرِئِ مِنْ عِبَادِ اللّهِ مُضْطَهَد … بِبَطْنِ مَكّةَ مَقْهُورٍ وَمَفْتُونِ
أَنّا وَجَدْنَا بِلَادَ اللّهِ وَاسِعَةً .. تُنْجِي مِنْ الذّلّ وَالْمَخْزَاةِ وَالْهُونِ
فَلَا تُقِيمُوا عَلَى ذُلّ الْحَيَاةِ وَخِزْ يٍ فِي الْمَمَاتِ وَعَيْبٍ غَيْرِ مَأْمُونِ
إنّا تَبِعْنَا رَسُولَ اللّهِ وَاطّرَحُوا … قَوْلَ النّبِيّ وَعَالُوا فِي الْمَوَازِينِ
فَاجْعَلْ عَذَابَكَ بِالْقَوْمِ الّذِينَ بَغَوْا .. وَعَائِذًا بِك أَنْ يَعْلُوَا فَيُطْغُونِي
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا ، يَذْكُرُ نَفْيَ قُرَيْشٍ إيّاهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ وَيُعَاتِبُ بَعْضَ قَوْمِهِ فِي ذَلِكَ
أَبَتْ كَبِدِي ، لَا أَكْذِبَنْك ، قِتَالَهُمْ … عَلَيّ وَتَأْبَاهُ عَلَيّ أَنَامِلِي
وَكَيْفَ قِتَالِي مَعْشَرًا أَدّبُوكُمْ .. عَلَى الْحَقّ أَنْ لَا تَأْشِبُوهُ بِبَاطِلِ
نَفَتْهُمْ عِبَادُ الْجِنّ مِنْ حُرّ أَرْضِهِمْ .فَأَضْحَوْا عَلَى أَمْرٍ شَدِيدِ الْبَلَابِلِ
فَإِنْ تَكُ كَانَتْ فِي عَدِيّ أَمَانَةٌ .. عَدِيّ بْنِ سَعْدٍ عَنْ تُقًى أَوْ تَوَاصُلِ
فَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنّ ذَلِكَ فِيكُمْ … بِحَمْدِ الّذِي لَا يُطّبَى بِالْجَعَائِلِ
وَبُدّلْت شِبْلًا شِبْلَ كُلّ خَبِيثَةٍ … بِذِي فَجْرٍ مَأْوَى الضّعَافِ الْأَرَامِلِ
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا :
وَتِلْكَ قُرَيْشٌ تَجْحَدُ اللّهَ حَقّهُ … كَمَا جَحَدَتْ عَادٌ وَمَدْيَنُ وَالْحِجْرُ
فَإِنْ أَنَا لَمْ أُبْرِقْ فَلَا يَسَعَنّنِي … مِنْ الْأَرْضِ بَرّ ذُو فَضَاءٍ وَلَا بَحْرُ
بِأَرْضٍ بِهَا عَبَدَ الْإِلَهَ مُحَمّدٌ … أُبَيّنُ مَا فِي النّفْسِ إذْ بُلِغَ النّقْرُ( ).
العاشر : الإخبار عن عجز قريش عن إرجاع المسلمين مكرهين أو بتحريض ملك الحبشة عليهم .
فحينما رأت قريش أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقاموا على دينهم في الحبشة وأن الهجرة مستمرة إليها ووصول جعفر بن ابي طالب إلى الحبشة أميراً عليهم أو أنه يدير أمورهم خاصة وأن قريشاً كانت تهاب مقام أبي طالب فلا تؤذيه قرروا إرسال شخصين جلدين منهم لحمل النجاشي على إعادتهم إلى سلطان قريش بالمكر والدهاء فارسلوا عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص ، وحملوهما هدايا نفيسة إلى النجاشي والى البطارقة وأركان الحكم لتكون مقدمة لطيفة للوصول إليهم وبعث الخوف في نفوسهم من الإسلام والبعثة النبوية ومن ذات أشخاص المهاجرين وتأليبهم وجعلهم يشيرون على النجاشي بتسليمهم إلى قريش وأوصوهما بأن يدفعا هدايا البطارقة لهم قبل أن يدخلا على النجاشي .
وأرسل أبو طالب أبياتاً من الشعر إلى النجاشي يحثه على حسن جوار المهاجرين والذب عنهم مما يدل على إدراك الخطر الذي يهددهم من وفد قريش [قال ابو طالب :
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ فِي النّأْيِ جَعْفَرٌ … وَعَمْرٌو وَأَعْدَاءُ الْعَدُوّ الْأَقَارِبُ ( ).
لقد كان النجاشي من ذراري الربيين الذين سألوا الله النصر على القوم الكافرين فأبى تسليم المسلمين ، [وعن أم سلمة وكانت مهاجرة في الحبشة : فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إلّا دَفَعَا إلَيْهِ هَدِيّتَهُ قَبْل أَنْ يُكَلّمَا النّجَاشِيّ ، وَقَالَا لِكُلّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ إنّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنّا غِلْمَانٌ دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ وَجَاءُوا بِدِينِ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ وَقَدْ بَعَثَنَا إلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ لِيَرُدّهُمْ إلَيْهِمْ فَإِذَا كَلّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلّمَهُمْ إلَيْنَا وَلَا يُكَلّمَهُمْ فَإِنّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا ، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُمَا : نَعَمْ . ثُمّ إنّهُمَا قَدّمَا هَدَايَاهُمَا إلَى النّجَاشِيّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا .
ثُمّ كَلّمَاهُ فَقَالَا لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِك مِنّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِك ، وَجَاءُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْت ، وَقَدْ بَعَثَنَا إلَيْك فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدّهُمْ إلَيْهِمْ فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا ، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ .
قَالَتْ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى عَبْدِ اللّهِ بْن أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ النّجَاشِيّ .
قَالَتْ فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ صَدَقَا أَيّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا ، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا فَلْيَرُدّاهُمْ إلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ .
قَالَتْ فَغَضِبَ النّجَاشِيّ ، ثُمّ قَالَ لَاهَا اللّهِ إذَنْ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْهِمَا ، وَلَا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي ، وَنَزَلُوا بِلَادِي ، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ عَمّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتهمْ إلَيْهِمَا ، وَرَدَدْتُهُمْ إلَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا ، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي] ( ).
ليكون من بركات آية البحث على المسلمين النجاة من الكفار بدعاء الربيين وبقاء طائفة من ذراريهم تحكم بالعدل وتدعو إلى الصلاح وتتوارث البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل سلامة المهاجرين في الحبشة والمهاجرين في المدينة المنورة من مصاديق [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]أم أن القدر المتيقن من الآية هو النصر في سوح المعارك ، الجواب هو الأول إذ يشمل النصر وجوهاً :
الأول : إرادة السلامة من أذى الكفار مع البقاء على الإسلام فهو نصر عظيم في الدين والأبدان .
الثاني : الإعلان العالمي لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة .
الثالث : بعث اليأس في نفوس قريش من الإحاطة بالمسلمين ، ومنعهم من أداء الفرائض .
الرابع : مقدمات النصر على الكفار .
وهي في المقام من جهات :
الأولى : تعاهد الصحابة لسنن التقوى .
الثانية : توالي وتعاقب معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : دخول الناس في الإسلام وإزدياد عدد المسلمين .
الرابعة : إصابة الكفار بالإرباك والفزع وأسباب الفرقة والتشتت بينهم ، لأن معجزات النبوة سواء الحسية أو العقلية تخاطب العقول وتدعو الناس إلى الإيمان وتبعث على الكف عن إيذاء المؤمنين .
ويحتمل قوله تعالى [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] وجوهاً :
الأول : إنه معجزة حسية ، لتعلقه بالنصر في الميدان ورؤية الناس لغلبة المسلمين .
الثاني : نصر المسلمين على الكفار في معارك الإسلام الأولى معجزة عقلية ويدل عليه نزول الملائكة مدداً وتجلي أثر ونفع هذا النزول بالتغيير نحو الأحسن الحاصل بعد هذا النصر .
الثالث : إرادة الجامع من المعجزة الحسية والعقلية في إنتصار المسلمين في معارك الإسلام الأولى ، ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل كان لعدم رجوع المهاجرين إلى الحبشة مع وفد قريش من أثر في الإحداث ، الجواب نعم ، إنه من مقدمات النصر على الكفار وهو ضرب من ضروب هذا النصر ، وفيه حجة على كفار قريش بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذات شأن عام ودعوة للناس لدخول الإسلام ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
بحث أخلاقي
لقد تفضل الله عز وجل وجعل الصلاة واجباً متكرراً كل يوم على كل مسلم ومسلمة وهي آية في الذكر والتلاوة والطهارة والخشوع والإنقطاع لله عز وجل والرضا بقضائه ، ويجب في الصلاة قراءة سورة الفاتحة ، وكل آية من آياتها مصداق آية البحث وجهاد الربيين ، كما في قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ) ودلالته على حصر العبادة والإستعانة والطاعة والزلفى بالله عز وجل وقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
وبين الصراط المستقيم وسنة الربيين في الآية وآية البحث عموم وخصوص مطلق لبيان تفقه المسلمين في الدين ، وفضل الله عز وجل عليهم [وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقول الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبادي نصفين؛ فإذا قال العبد : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله : مجّدني عبدي،
وإذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله : حمدني عبدي،
وإذا قال : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال : أثنى عليّ عبدي،
وإذا قال : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله : فوّض إليّ أمره عبدي،
وإذا قال : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله : هذا بيني وبين عبدي،
وإذا قال : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال الله : هذا لعبدي،
ولعبدي ما سأل] ( ).
لقد جعل الله عز وجل آية البحث سبيلاً للتوبة والإنابة ومدرسة في الأخلاق الحميدة إذ تبدأ بالإخبار عن سبق فريق من المؤمنين في كل زمان ليس لهم من كلام إلا الإستغفار والدعاء وقد ذم الله عز وجل المنافقين بقوله تعالى [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ]( ).
وتبين آية البحث أن الربيين إذا خلا بعضهم إلى بعض إشتركوا في الدعاء وصدر عنهم الإستغفار مجتمعين ليكون كل واحد منهم شاهداً لإخوانه بالإنقطاع إلى الله مع العزم على الثبات في مواطن القتال .
ومن الإعجاز في الآية بيان عدم التنافي بين الإستغفار والإستعداد للقتال المقرون بسؤال النصر والغلبة من عند الله .
وهل يأتي الإستغفار بالنصر ، الجواب تدل الآية على لزوم إقتران الإستغفار بالمرابطة والثبات في ميادين القتال وعدم الوهن أو الضعف في ملاقاة العدو ، وفي هذا الثبات الأجر والثواب وهو مناسبة لقبول الدعاء .
[وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لَا يَتَّبِعْنِي رَجُلٌ قَدْ مَلَكَ بُضْعَ امرأة وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمْ يَبْنِ وَلَا أَحَدٌ قَدْ بَنَى بُنْيَانًا وَلَمَّا يَرْفَعْ سُقُفَهَا وَلَا أَحَدٌ قَدْ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَوْلَادَهَا فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ أَنْتِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا فَأَقْبَلَتْ النَّارُ لِتَأْكُلَهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَ فَقَالَ فِيكُمْ غُلُولٌ فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَبَايَعُوهُ فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ فَبَايَعَتْهُ قَبِيلَتُهُ قَالَ فَلَصِقَ بِيَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ أَنْتُمْ غَلَلْتُمْ فَأَخْرَجُوا لَهُ مِثْلَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ فَوَضَعُوهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ بِالصَّعِيدِ فَأَقْبَلَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا] ( )
وفي الحديث بيان لحال الربيين في الجهاد وإخلاص العبادة والتفاني في مرضاة الله والإنقطاع عن الدنيا ، وفيه ثناء على المسلمين وبيان رحمة الله عز وجل بهم في حلية الغنائم لهم
لقد تكرر الضمير المتصل لجماعة المتكلمين(نا) سبع مرات في الآية ، وجاء بصيغة المفعول به والمضاف إليه.
وقد يأتي هذا الضمير فاعلاً كما في قوله تعالى[قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا]( )، والسر في عدم مجيئه فاعلاً في الآية للدلالة على خشوع وفناء الربيين في مرضاة الله، وإنقيادهم لأوامره، وسلامتهم من إستحواذ النفس الشهوية أو الغضبية.
وإبتدأت الضمائر في الآية بالضمير المتصل(هم) وبواو الجماعة وكلاهما يعودان للربيين أنفسهم ويتضمنان معنى الثناء عليهم، والإخبار عن حسن خلقهم، والترغيب بالخلق الكريم، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn