المقدمة
الحمد لله الذي خلق الخلائق كلها ومن غير حاجة أو إفتقار إليها , وتفضل وخصّ الإنسان بأن نفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض تتعاقب أجيال الناس في الشأن والعمل والإختيار والملك مدة الحياة الدنيا ، لا يأتيهم جنس آخر من غيرهم ينافسهم أو يبسط سلطانه عليهم [لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ] ( ).
الحمد لله الذي لم يترك الناس وشأنهم بل بعث الأنبياء والمرسلين من ذات سنخية البشر فبشروا وأنذروا ونصحوا وسنوا السنن ،وأنزل الكتب السماوية وفيها الأوامر والنواهي ، وأحكام الحلال والحرام لجذب الناس رجالاً ونساءً إلى منازل الإيمان فكانت الدنيا ساحة للوغى وموضعاً للكر والفر بين المؤمنين والكفار ، فلم يجعل أحدهما الأخر يركن إلى الدعة مع المائز بأن المؤمنين لهم الثواب ، وعلى الكفار الإثم ، وهو الذي تضمنته الآية التي جاء هذا الجزء بتفسيرها ، فمع قلة كلماتها يتكرر لفظ الثواب فيها مرتين مع بيان أنه لا يقدر عليه إلا الله ليكون هذا الحصر نعمة أخرى يلزم التوجه بالشكر والحمد لله عليها .
الحمد لله الذي إختتم الرسالات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسك الختام وتمام النعمة وجعل أمته قائمة بالأمر بالمعروف ناهية عن المنكر لتكون حافظة لمواثيق الأنبياء وهو من المصاديق غير المتناهية لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
فليس من حد أو منتهى لموضوعات الآية أعلاه ببركة القرآن وعلومه ومواعظه وقصصه والفرد الجامع لها ومنها الآية القرآنية التي جاء هذا الجزء وهو العشرون بعد المائة في تفسيرها وتأويلها وهي [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ) .
والتي تجمع بين قصة الربيين وما فيها من العلوم والأسرار الملكوتية والمواعظ القدسية فمضمونها إدخار كريم غير متناه من عمل وجهاد الأنبياء وأصحابهم وهي كنز وذخيرة للأجيال ، من وجوه :
الأول : ينهل المسلمون من هذه الآية سنن التقوى ودروس الصبر في طاعة الله .
الثاني : سلامة خزائن هذه الآية من النقصان مع أن المسلمين يغترفون منها كل ساعة وكل يوم وفي جميع أنحاء الأرض تلاوة وتدبراً وأسوة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] ( )وليكون من معاني سلامة آيات القرآن من النفاد في المقام وجوهاً:
أولاً : سلامة الآية القرآنية من التحريف والتغيير .
ثانياً : عصمة القرآن على النسخ والتبديل .
ثالثاً : إنتفاء الملل والضجر من نفوس المسلمين عند الأخذ من القرآن .
رابعاً : حاجة المسلمين والناس لعلوم القرآن ، ومنها المسائل المنبثقة من آية البحث .
خامساً :إمتلاء نفوس المؤمنين شوقاً لتلاوة القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
الثالث : مجئء سنة وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه مرآة لآيات الربيين الثلاثة ، وهي آية البحث والآيتان السابقتان اللاتي جئن متعاقبات لبيان صفحات مشرقة من جهاد طبقات وأجيال من أصحاب الأنبياء تربط لغة التشبيه بينها وبين سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاده وأصحابه ، لتعلق كاف التشبيه في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ( ) بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من وجوه إكرامه تجلي وظهور سنته للناس جميعاً في كل زمان بلحاظ كبرى كلية وهي أن المشبه به أظهر وأبين من المشبه ، فمع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم النبيين إلا أن النبوات وسنن الأولين تعرف بسنته ومنهاجه في سبل الحق والهدى .
الرابع : إضافة أجيال المسلمين لخزائن آية البحث شواهد من حسن السمت والإخلاص في العبادة ، وبذل الوسع في إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحفظ مواريث الأنبياء .
الخامس : شهادة المسلمين للربيين بالجهاد في سبيل الله وفوزهم بالثواب العظيم ، ومن الإعجاز في هذه الآيات أنها مع قلة كلماتها تتضمن تعريف الربيين بما يمنع من الخلاف والإفراط أو التفريط في خصالهم وصفاتهم هي :
الأولى : الإيمان بالله والنبوة والتنزيل ، لبيان ضرورته وملازمة الثناء والثواب له ، قال تعالى [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
الثانية : صحبة الأنبياء السابقين .
الثالثة : القتال مع الأنبياء .
الرابعة : إصابة الربيين بالجراحات والكلوم والخسارة في الأموال وتعطيل الزراعات والتجارات بسبب المرابطة والقتال في سبيل الله .
الخامسة : سلامة الربيين من الوهن والضعف مع الضرر الذي لحقهم في الجهاد في سبيل الله لبيان أن عدم الوهن هذا مقدمة لنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر واحد والخندق لتراكم الوهن والضعف عند الكافرين لقانون في الإرادة التكوينية وهو أن إختصاص عدم الوهن مدة القتال وما بعده بالمؤمنين الذين أخلصوا في طاعة الله ، لذا شهدت معركة أحد سلامة المسلمين من الوهن والضعف بفضل ولاية الله لهم ،قال تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ) .
السادسة : تحلي الربيين بالصبر في حال السلم والحرب والرخاء والشدة ، وفيه دعوة للمسلمين لتنمية ملكة الصبر ، وصيرورتها صاحباً كريماً لهم يأبى مغادرتهم .
السابعة : إنقطاع الربيين إلى الإستغفار والمسألة وطلب الحاجات من عند الله ولا تستولي مزاولة القتال ومقدماته على أيام الإنسان كلها وإن كان محارباً غازياً .
فلابد من أيام للسلم ليرفع الربيون سلاح الدعاء في حال الحرب والصلح , والهدنة والسلم ، وهو أمضى من السيف ، إذ تبين الآية السابقة إفتقار الإنسان للدعاء وعدم إمكان إستغنائه عنه في الليل والنهار , فمع أن حياة موضوع وسنن الربيين وردت في هذه الآيات الثلاثة ، فقد أختتمت الآية السابقة بدعاء الربيين لبيان موضوعية الدعاء في حياة المسلمين ولزوم الإنتفاع الأمثل منه , وتؤكد آية البحث أن فيه خير الدنيا والآخرة لذا إبتدأت بحرف العطف والإستئناف والتعقيب والسببية (الفاء ) بقوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ] .
ومن خصائص القرآن أن كل شطر آية منه معجزة مستقلة تدل على صدق نزوله من عند الله ، وتدعو الناس إلى الإسلام بلحاظ مضامينها القدسية والعلوم التي تترشح عنها ، والمسائل المقتبسة منها ، وإنارتها لطريق المسلمين في أمور الدين والدنيا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )، الذي تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين يقرأونه عدة مرات على نحو الإنفراد والجماعة كل يوم على نحو الوجوب العيني على كل فرد منهم ذكراً أو أنثى ، ليكون كل عمل صالح للربيين توثقه هذه الآيات الثلاث منار هدى وسبيل رشاد للمسلمين .
وتتضمن آية البحث معجزات عديدة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تجمع خير الدنيا والآخرة ، واعظم مصاديق الخير ما كان ثواباً من عند الله لأنه خير محض وخال من العناء والأذى ، ليكون من مصاديق ثواب الربيين الذي تذكره آية البحث [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] وجوه :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الأمر الذي كان قتال الربيين مقدمة وتوطئة لها ، وهل كانت لهذه البعثة المباركة موضوعية في قتالهم وقصدهم ونيتهم , الجواب نعم ، فكل نبي جاء بالبشارة بنبوته لبيان أن صرح هذه النبوة الخاتمة تم بناء مقدماته بالقتال والدم وكذا أوان البعثة وما بعدها .
الثاني : تعاهد المسلمين لسنن الربيين في الدفاع عن النبي وحفظ التنزيل وأداء الفرائض والعبادات .
الثالث : تلاوة المسلمين لآية البحث وما فيها من الثناء على الربيين .
الرابع : دعاء المسلمين ليرزقهم الله ذات النعم التي رزقها الربيين وزيادة من فضله ، وفي التنزيل [لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
الخامس : تدبر المسلمين وأجيال الناس بسنة وجهاد الربيين وعلة ومصاديق نسبتهم في التسمية إلى الله عز وجل .
ومن خصائص الربيين والمؤمنين جميعاً أن ثواب الدنيا يتجلى بالسعي للفوز بالثواب العظيم في الآخرة ، فلم تنته آيات الربيين الثلاثة إلا وبينت هذا القانون لدفع وهم ، ومنع لبس ، فلا يظن أحد أن ثواب الربيين معلق ، بل جاءت الآية بذكره بصيغة الماضي لبيان نفاذ المشيئة الإلهية في ثوابهم وأن الملائكة تعلم بهذا الثواب أمس واليوم وغداً بفضل من الله , وهو من المصاديق المتجددة كل آن لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، أي أن الحجج الإلهية بخلافة آدم في الأرض تتجلى أفراد كثيرة منها كل ساعة.
ومنها أداء المسلمين للفرائض وعمارتهم الأرض بطاعة الله ، وتلاوتهم لآية البحث وما تتضمنه هذه التلاوة من معاني الإيمان وأن الثواب كله بيد الله وأنه سبحانه يهب ويرزق منه الصالحين بغير حساب .
وبلحاظ آية الإحتجاج أعلاه يكون من مصاديق آية [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ] ( )، وجوه :
الأول : كنتم خير أمة أخرجت للناس تبينون للملائكة كل يوم مصاديق الحكمة الإلهية في خلافة الإنسان في الأرض .
الثاني : كنتم خير أمة لأن كل عمل صالح منكم من مصاديق علم الله الذي إحتج به على الملائكة يوم خلق آدم.
الثالث :كنتم خير أمة أخرجت للناس ليشكر الملائكة الله عز وجل على نعمة خلافة الإنسان في الأرض .
لقد إحتج الله عز وجل على الملائكة بعلمه سبحانه بأسرار الخلافة وفيه دعوة للمسلمين خاصة والناس جميعاً للتقوى والصلاح ليفوزوا بالثواب العظيم في الدنيا والآخرة
وهذا العلم وأفراد الثواب من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )عندما سألوا الله عز وجل عن جعل آدم خليفة في الأرض مع أن بعض ذريته [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
فاراد الله عز وجل أن يعلم الملائكة بأن الناس وهم في الدنيا قد ضمنوا الخلود في النعيم في الآخرة , وهو من مصاديق فلسفة الهبوط ، فهبط آدم وحواء إلى الأرض ليعودوا والصالحون من ذريتهما إلى الجنة من غير وسوسة من إبليس أو إخراج منها ، ليس لأن هذه العودة بجهودهم وسعيهم وإستحقاق منهم بل لفضل الله عز وجل في إكرام الخليفة في الأرض وإلا فان جهاد الربيين وغيرهم لا يعادل معشار ثواب الدنيا الذي تذكره آية البحث .
وهذا الثواب مع عظمته وسعته وعجز الخلائق عن إتيانه كالقطرة في البحر بالنسبة لثواب الآخرة وكثرة النعم فيها ودوامها ، ليكون من أسرار هذه الآية الجمع بينهما ، وهذا الجمع من فضل وكرم الله عز وجل , ومن الشواهد بأنه سبحانه [يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
لترغيب المسلمين خاصة والناس عامة بالإيمان وإتخاذ الدنيا بلغة لثواب الآخرة وصيرورتها بالذات داراً للثواب ليكون هبوط آدم وحواء مناسبة للثواب المتصل الذي ينال بالجهد اليسير الذي يتجلى بأداء الفرائض وإجتناب المعاصي .
وأختتمت آية البحث بقانون من الإرادة التكوينية وهو [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، وفيه دعوة للتدبر في مضامين الإحسان في آية البحث من جهات :
الأولى : إحسان الربيين .
الثانية : إحسان المسلمين .
الثالثة : إحسان الربيين والمسلمين مجتمعين لأنفسهم وللناس وسيأتي مزيد بيان في التفسير .
وصحيح أن الإحسان نوع مفاعلة ، ويتألف من أركان ثلاثة :
الأول : المحسن .
الثاني : موضوع وجنس الإحسان .
الثالث: المحسن إليه .
إلا أن معنى الإحسان في الآية الكريمة أعم ،فيشمل الإحسان للذات وحفظ النفس من البلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فقد يأتي الإحسان بفعل عبادي محض واجباً أو مندوباً [عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن صليت الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين ، وإن صليتها أربعاً كنت من المحسنين ، وإن صليتها ستاً كتبت من القانتين ، وإن صليتها ثمانياً كتبت من الفائزين ، وإن صليتها عشراً لم يكتب لك ذلك اليوم ذنب ، وإن صليتها إثنتي عشرة بنى الله لك بيتاً في الجنة]( ).
ومن الإحسان الهداية وإحراز ملكة التقوى والورع عن المحارم لبيان فوز الربيين بالخصال الحميدة ببركة صحبة الأنبياء وقتالهم معهم ، ليكون موضوع هذه الصحبة حاضراً عند المسلمين ينتفعون منه جيلاً بعد جيل ويجتهدون فيه ، ويرتقون في مسالكه وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد على الأنبياء السابقين لأن الله عز وجل حفظ سننهم في القرآن ليتخذها المسلمون سنة ومنهاجاً يومياً فان قلت علمنا أنه منهاج فكيف يكون يومياً وليس من حرب وقتال مستمر بين المسلمين والمشركين ،والجواب من وجوه :
الأول : تلاوة المسلمين لآيات الربيين هذه في الصلاة اليومية ، وهو من أسرار القراءة في الصلاة من جهات :
الأولى : تعاهد المسلمين لتلاوة القرآن .
الثانية : حفظ آيات القرآن رسماً وكتابة ونطقاً وحفظاً وعملاً .
الثالثة : المنع من طرو التحريف أو التغيير على حروف وكلمات القرآن ، وهو لا يتعارض مع قوله تعالى [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( )، لأن المسلمين جنود الله في حفظ القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) .
ليكون سعيهم في تلاوة القرآن وحفظه من أسباب نيلهم ذات الثواب الذي فاز به الربيون أي أن الربيين أحرزوه بالقتال مع الأنبياء والصبر على الضرر وإنقطاع كلامهم ومناجاتهم إلا في الذكر والدعاء والإستغفار ،ويناله المسلمون بذات الخصال وبغيرها من أسباب التخفيف عنهم ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها تلاوة القرآن في الصلاة وخارجها لما في هذه التلاوة من تعاهد لسنن الربيين .
وتلك آية في تفضيل المسلمين ، ودعوة لهم للإجتهاد في العبادات فانها طريق الفوز بالثواب الدنيوي والأخروي .
ومن خصائص آية البحث أنها تتضمن إكرام المسلمين لأصحاب الأنبياء وليس من أمة أكرمتهم وحفظت ذكر مناقبهم مثلما حفظته وتعاهدته أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن فضل الله أني أقوم بمفردي بتأليف ومراجعة وتصحيح أجزاء هذا السفر المبارك الذي لم يشهد له التأريخ نظيراً ونقوم بطبعه بمشقة زائدة وأجهزة طباعة بالية , تذكرنا بقول للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في بعض خطبه : والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها.
ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها ؟ فقلت : اعزب عني , فعند الصباح يحمد القوم السرى )( )، فان المسافر الذي قضى آخر الليل يسير ويطوي المسافات يحمد الله عز وجل عند الصباح لأنه لم يبق نائماً الليل وكذا الذي يجتهد في العبادات ويجعل الدنيا مزرعة للآخرة .
وقد أنعم الله عز وجل علينا بنعم ظاهرة وباطنة لتصدر هذه الأجزاء المتتالية بمنهجية وكيف وكم وفرائد لم يعهدها تأريخ الإسلام قربة إلى الله عز وجل ورجاء بلوغ معشار مرتبة الربيين التي جعلها الله عز وجل في آية البحث نبراساً ومرآة ومثالاً وأسوة ومصداقاً غضاً طرياً لذخائر القرآن الكريم في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
16 / 4 / 2015
قوله تعالى[فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]الآية 148.
الإعراب واللغة ( )
فأتاهم الله ثواب الدنيا : الفاء للإستئناف والعطف ( ).
أتى :فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف .
هم : ضمير متصل مفعول به .
اسم الجلالة : فاعل مرفوع .
ثواب : مفعول به منصوب بالفتحة .
الدنيا : مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة المقدرة على الألف .
وحسن ثواب : الواو حرف عطف .
حسن : معطوف على ثواب منصوب مثله .
ثواب مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة .
الآخرة : مضاف إليه مجرور بالكسرة .
والله يحب المحسنين :
الواو : للإستئناف .
اسم الجلالة : مبتدأ مرفوع .
يحب : فعل مضارع مرفوع والفاعل ضمير تقديره هو يعود لله عز وجل .
المحسنين : مفعول به منصوب وعلامة نصبة الياء لأنه جمع مذكر سالم .
والجملة الفعلية [يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] في محل رفع خبر اسم الجلالة .
والثواب صيغة فعال للمبالغة، وهو الجزاء سواء في الخير أو الشر، وورد إستعماله في الخير أكثر حتى صار كالحقيقة إذ يتبادر إلى الذهن عند سماعه ويقابله العقاب.
وقد ورد لفظ (الثواب) في القرآن ثلاث عشرة مرة، وكلها في مقام الجزاء الحسن وعلى الصالحات منها خمس مرات في سورة آل عمران وحدها، وجاء في آية البحث مرتين , وكذا قبل ثلاث آيات وبذات التفصيل بقوله تعالى[وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا]( ).
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة على وجوه :
الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] ( )وفيه مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا إغفر لنا ذنوبنا فآتاهم الله ثواب الدنيا .
الثاني : قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا فآتاهم الله حسن ثواب الآخرة.
الثالث : قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا والله يحب المحسنين .
الرابع : قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا فآتاهم الله ثواب الدنيا .
الخامس : قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا فآتاهم الله حسن ثواب الآخرة .
السادس : قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا والله يحب المحسنين .
السابع : قالوا ربنا ثبت أقدامنا فآتاهم الله ثواب الدنيا .
الثامن : قالوا ربنا ثبت أقدامنا فآتاهم الله حسن ثواب الآخرة .
التاسع : قالوا ربنا ثبت أقدامنا والله يحب المحسنين .
العاشر : قالوا ربنا انصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا .
الحادي عشر : قالوا ربنا انصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الآخرة .
الثاني عشر : قالوا ربنا انصرنا على القوم الكافرين والله يحب المحسنين.
المسألة الثانية : إبتدأت آية البحث بفاء السببية التي تفيد تعلق الموضوع التالي على السابق ، وأن مضامين آية البحث متداخلة مع مضامين الآية السابقة .
ترى لماذا صارتا آيتين بدل أن يكونا آية واحدة بلحاظ إتحاد الموضوع ، الجواب من وجوه :
الأول : التباين بين الآيتين في الموضوع ، فتتعلق آية السياق بسؤال ودعاء الربيين ، أما آية البحث فتتضمن الجزاء من عند الله .
الثاني : بيان عظمة وقدسية موضوع كل من الآيتين .
الثالث : إكرام الله عز وجل للربيين في دعائهم والإخبار عن علو مرتبتهم وحسن منزلتهم بين الأمم .
الرابع : إنه من أسرار وغايات تقسيم سور القرآن إلى آيات وفيه مسائل :
الأولى : تأديب المسلمين ، وهو من عمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [أدبني ربي فأحسن تأديبي] ( ).
الثانية : تفقه المسلمين في الدين .
الثالثة : تيسير تلاوة المسلمين للقرآن .
الرابعة : تدبر المسلمين في مضامين ومعاني الآية القرآنية وعن التابعي [ أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ، قال : فتعلمنا العلم والعمل( ).
وأخرج عبد بن حميد عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أوّل ما يرفع من الأرض العلم فقالوا : يا رسول الله يرفع القرآن ؟ قال : لا ، ولكن يموت من يعلمه , أو قال : من يعلم تأويله . ويبقى قوم يتأولونه على أهوائهم .
وأخرج ابن جرير والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : كنا إذا تعلمنا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي نزلت بعدها حتى نعلم ما فيه . قيل لشريك : من العمل؟ قال : نعم( ).
ويبين الحديث أعلاه وجوهاً :
أولاً : الملازمة بين نزول الآية والعلم بها ، وتقدم في حديث أبي عبد الرحمن السلمي إقتران العمل بالعلم .
ثانياً : يكون تعلم آيات القرآن والتدبر في دلالاتها وفق ترتيب نزولها ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان الضبط والدقة في تعلم الصحابة وأهل البيت علوم القرآن .
الثانية : هذا التعليم برزخ دون نسيان آيات القرآن .
الثالثة : فيه دليل على سلامة آيات القرآن من التحريف والتبديل والنقص , والذين تلاقفوا الآيات من التابعين أكثر بكثير من الصحابة الذين تلقوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة ، والمختار أن القرآن كان مكتوباً أيام النبوة والتنزيل على الرقاع( ) والعسب ( )واللخاف( ) والأقتاب( ) .
(عن زيد بن ثابت قال : كنا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع)( ).
ثالثاً : تيسير الحفظ لعموم الصحابة وأهل البيت بأن تكون كل عشر آيات معاً .
رابعاً : تعلم الآيات وموضوعها وتأويلها عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم يقل عبد الله بن مسعود (كنا إذا سمعنا) بل قال [كنا إذا تعلمنا ].
خامساً : يدل الحديث على التدارس بين الصحابة في علوم الآيات القرآنية كل آية على نحو مستقل وصلتها بالآية الأخرى .
سادساً : معرفة وتوثيق أسباب نزول الآيات ، وصيرورتها مادة وعوناً في تفسيرها .
سابعاً : التفقه في علوم القرآن والتدبر في نظم النزول .
الرابعة : إعانة المسلمين على حفظ آيات القرآن .
الخامسة : تعليم المسلمين كيفية الدعاء .
الخامس : نزول القرآن آيات نجوماً بحسب الوقائع والأحداث ومناسبة الحال وحيث يشاء الله ، وكانت الآية تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول ضعوها بعد الآية الفلانية أو بين هذه الآية والآية التي تليها .
السادس : بيان فضل الله عز وجل على الربيين .
السابع : التباين بصيغة العطف ، إذ ورد في آية السياق بحرف الواو الذي قد يفيد الجمع في المسألة والدعاء بينما جاء العطف في آية البحث بصيغة (الفاء ) التي تفيد الترتيب وتنفي الجمع .
ويتجلى هذا النفي بالتباين الموضوعي بينهما فالدعاء قوس الصعود ليكون النزول فيضاً ونعمة ليس لها حد أو رسم ، وسيأتي في التفسير أن الفاء في [فَآتَاهُمْ اللَّهُ] أعم من معنى السببية حسب الصناعة النحوية .
المسألة الثالثة : تبين آية السياق إنقطاع الربيين للدعاء وإنشغالهم بالمسألة والحاجة إلى الله عز وجل فجاء قول الربيين إستغفاراً ودعاء وكأنهم ملائكة يمشون على الأرض ويحق للمسلمين أن يفتخروا باسلافهم من الربيين ويتخذوهم أسوة وكما تقدم في بداية هذا الجزء أن الصحابة كانوا يتعلمون كل عشر آيات ويعملون بها قبل أن ينتقلوا إلى غيرها ، فكذا في المقام فإن المسلمين يتعلمون من الربيين آداب الإستغفار والدعاء .
[عن أنس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله إني أذنبت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أذنبت فاستغفر ربك قال : فإني استغفر ثم أعود فأذنب فقال : إذا أذنبت فاستغفر ربك ، ثم عاد فقال في الرابعة : استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور] ( ).
وتمنع آية السياق الناس من لوم المؤمنين الذين يلهجون بذكر الله في السر والعلانية وعند الإنفراد وبين الناس .
وجاءت آية البحث لتؤكد صواب الإقامة على الذكر والدعاء لما تبينه من الثواب العظيم للربيين على أمور بلحاظ آية السياق :
الأول : إلحاح وإكثار الربيين من الإستغفار عن ذنب وبدون ذنب [عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال إبليس يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ما كانت أرواحهم في أجسادهم , فقال الله : وعزتي ، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني] ( ).
الثاني : عصمة الربيين من الغيبة والنميمة ونحوها من الأخلاق المذمومة لأنها سالبة بإنتفاء الموضوع لإنحصار قول الربيين بالإستغفار والدعاء .
الثالث : ترك الربيين ميراثاً كريماً للمؤمنين وهو لزوم إجتناب الإسراف ، وإن حدث هذا الإسراف فلابد من اللجوء إلى الإستغفار وسؤال العفو عنه ، نعم سؤال العفو هنا لا يختص بحدوث الإسراف واقعاً بل يستحب مطلقاً وهو من خصال المتقين .
الرابع: تهيئ وإستعداد الربيين للقاء الكفار في ميادين القتال في الأحوال المتباينة منها :
أولاً : حال قيام الكفار بالغزو والهجوم على المؤمنين ، كما في زحف قريش وعلى نحو متتابع على المدينة المنورة في كل من الأولى في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، فكانت واقعة بدر .
وفي قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ) أن المسلمين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة للتصدي لقافلة محملة بالبضائع جاء بها أبو سفيان من الشام ، ولكن قريشاً خرجوا من مكة للقتال .
فأراد المسلمون العير وما فيها من المغنم الذي هو عرضة للإنفاق , ولكن الله عز وجل أراد لهم القتال لأن فيه النصر والأمن من الذل والهوان إلى يوم القيامة [عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بالمدينة: إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يُغْنمناهَا؟ ” فقلنا: نعم، فخرج وخرجنا، فلما سِرْنا يوما أو يومين .
قال لنا: ” ما ترون في قتال القوم؛ فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟ ” فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير .
ثم قال: ” ما ترون في قتال القوم؟ ” فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو: إذًا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ( )قال: فتمنينا -معشر الأنصار-أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم .
قال: فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } وذكر تمام الحديث( ).
الثانية : في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة إذ جاءت قريش بثلاثة أضعاف عدد الجيش الذي جاءوا به في معركة بدر للتدارك والثأر والإنتقام من المسلمين ومحاولة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسر المهاجرين وقهر الأنصار ، فاستعد المؤمنون لهم ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) وفيه درس تأريخي يبين أن الأنبياء السابقين وأصحابهم من الربيين كانوا يجتهدون في الإستعداد للقاء العدو بالدعاء والعمل .
الثالثة : زحف كفار قريش وحلفائهم في السنة الخامسة للهجرة في واقعة الأحزاب بعد أن إجتهدوا في الإستعداد لها وإشراف كبار ورؤساء المشركين بأنفسهم على التحضيرات للغزو للقتال [وخرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم من الظهر ألف بعيرٍ وخمسمائة بعير. وأقبلت سليم فلاقوهم بمر الظهران، وبنو سليم يومئذٍ سبعمائة؛ يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية، وهو أبو أبي الأعور الذي كان مع معاوية بن أبي سفيان بصفين.
وخرجت قريش يقودها أبو سفيان بن حرب، وخرجت بنو أسد وقائدها طلحة بن خويلد الأسدي، وخرجت بنو فزارة وأوعبت ، وهم ألفٌ يقودهم عيينة بن حصن، وخرجت أشجع وقائدها مسعود بن رخيلة وهم أربعمائة – لم توعب أشجع. وخرج الحارث بن عوف يقود قومه بني مرة وهم أربعمائة.
لما أجمعت غطفان السير أبي الحارث بن عوف المسير وقال لقومه: تفرقوا في بلادكم ولا تسيروا إلى محمد، فإني أرى أن محمداً أمر ظاهر، لو ناوأه من بين المشرق والمغرب لكانت له العاقبة. فتفرقوا في بلادهم ولم يحضر واحدٌ منهم؛ وهكذا روى الزهري وروت بنو مرة. حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة قالا: شهدت بنو مرة الخندق وهم أربعمائة وقائدهم الحارث بن عوف المري، وهجاه حسان وأنشد شعراً، وذكروا مجاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ.
فكان هذا أثبت عندنا أنه شهد الخندق في قومه، ولكنه كان أمثل تقيةً من عيينة.
قالوا: وكان القوم جميعاً الذين وافوا الخندق من قريش، وسليم، وغطفان، وأسد، عشرة آلاف؛ فهي عساكر ثلاثة، وعناج الأمر إلى أبي سفيان. فأقبلوا فنزلت قريش برومة وادي العقيق في أحابيشها ومن ضوى إليها من العرب، وأقبلت غطفان في قادتها حتى نزلوا بالزغابة إلى جانب أحد. وجعلت قريشٌ تسرح ركابها في وادي العقيق في عضاهه، وليس هناك شيءٌ للخيل غلا ما حملوه معهم من علف – وكان علفهم الذرة – وسرحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها في عضاه الجرف. وقدموا في زمان ليس في العرض زرع، فقد حصد الناس قبل ذلك بشهر، فأدخلوا حصادهم وأتبانهم.
وكانت غطفان ترسل خيلها في أثر الحصاد – وكانت خيل غطفان ثلاثمائة – بالعرض فيمسك ذلك من خيلهم ، وكادت إبلهم تهلك من الهزال. وكانت المدينة ليالي قدموا جديبة.
فلما فصلت قريشٌ من مكة إلى المدينة خرج ركبٌ من خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بفصول قريش، فساروا من مكة إلى المدينة أربعاً، فذلك حين ندب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم في أمرهم بالجد والجهاد، ووعدهم النصر إن هم صبروا واتقوا، وأمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله. وشاورهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان رسول الله يكثر مشاورتهم في الحرب.
فقال: أنبرز لهم من المدينة، أم نكون فيها ونخندقها علينا، أم نكون قريباً ونجعل ظهورنا إلى هذا الجبل؟ فاختلفوا، فقالت طائفة: نكون مما يلي بعاث إلى ثنية الوداع إلى الجرف. فقال قائل: ندع المدينة خلوفاً! فقال سلمان: يا رسول الله، إنا إذ كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل خندقنا علينا؛ فهل لك يا رسول الله أن نخندق؟ فأعجب رأي سلمان المسلمين، وذكروا حين دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد أن يقيموا ولا يخرجوا، فكره المسلمون الخروج وأحبوا الثبات في المدينة.
فحدثني أبو بكر بن أبي سبرة قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن جهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرساً له ومعه نفرٌ من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعاً ينزله، فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سلعاً خلف ظهره، ويخندق من المذاذ إلى ذباب إلى راتج . فعمل يومئذٍ في الخندق، وندب الناس، فخبرهم بدنو عدوهم، وعسكرهم إلى سفح سلع، وجعل المسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدوم العدو عليهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل معهم في الخندق لينشط المسلمين؛ وعملوا، واستعاروا من بني قريظة آلةً كثيرةً من مساحي، وكرازين ومكاتل، يحفرون به الخندق – وهم يومئذٍ سلمٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يكرهون قدوم قريش. ووكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل جانبٍ من الخندق قوماً يحفرونه، فكان المهاجرون يحفرون من جانب راتج إلى ذباب، وكانت الأنصار تحفر من ذباب إلى جبل بني عبيد، وكان سائر المدينة مشبكاً بالبنيان] ( ).
المسألة الرابعة : بيان قانون كلي وهو لما حصر الربيون كلامهم وقولهم بالدعاء والمسألة جاءتهم النعم من عند الله دفعة واحدة ، وتلك آية في بديع خلق الإنسان وهو من أسرار وذخائر قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )فليس من حصر للنعم الإلهية على الخليفة وذريته .
وعندما إحتج الملائكة على هذه الخلافة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( )رد الله عز وجل عليهم بالحجة والبرهان ذي صبغة العفو والرحمة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ليكون من علمه تعالى في المقام أن آدم وحواء وذريتهما من المؤمنين يقيمون في الجنة والنعيم الدائم ثواباً من عند الله .
قال تعالى في الثناء عليهم وبيان فضله سبحانه [جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ] ( )ويكون حال الربيين بلحاظ الآية أعلاه على وجوه :
الأول : لبث الربيين الدائم في الجنان .
الثاني : دوام صحبة الربيين للنبيين في النعيم وهذه الصحبة من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ]وعن [زر بن حبيش قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «إنّ الله أوحى إليّ يا أخ المرسلين يا أخا المنذرين إنذر قومك ألاّ يدخلوا بيتاً من بيوتي إلاّ بقلوب سليمة وألسن صادقة وأيد نقيّة وفروج طاهرة ولا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة فإنّي ألعنه ما دام قائماً بين يديّ يصلّي حتّى يردّ تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الّذي يسمع به وأكون بصره الّذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيّين والصدّيقين و الشّهداء والصالحين]( ).
الثالث : بيان عظيم الثواب على الصبر وأداء الفرائض .
ويتجلى صبر الربيين بأبهى حلة وأشد مصاديقه بقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]أما إقامتهم الصلاة فتتجلى بالآية السابقة وإنقطاعهم للإستغفار والدعاء ومن معاني الصلاة الدعاء .
الرابع : شفاعة الربيين وكفاية مرتبة الصلاح لذوي وأزواج الربيين لإحراز دخول الجنة.
وهل من ثواب الدنيا مواظبة الربيين على الإستغفار والأدعية الواردة في الآية السابقة ، الجواب نعم ، لتكون مضامين الآية السابقة من ثواب الدنيا على قتال الربيين في سبيل الله ، فكانت الدنيا حديقة ناضرة تنعم بها الربيون بالسياحة في عالم الدعاء .
المسألة الخامسة : يفيد الجمع بين الآيتين أن الدنيا مزرعة للآخرة ، وأنها وعاء زماني ومكاني يجب على الإنسان بذل الوسع في إعماره بالبر والعمل الصالح ، فتفضل الله عز وجل على المسلمين بذكر الخصال الحميدة للربيين من جهات :
الأولى : صيرورة الربيين أسوة حسنة للمسلمين بسنن التقوى ، وجاء القرآن والسنة النبوية بالتخفيف عن المسلمين في الواجبات والفصل بين الفريضة والنافلة , وعدم مزاحمة أو معارضة النوافل لحاجات الإنسان وعياله .
وأخرج ابن سعد عن أبي بردة قال : دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فرأينها سيئة الهيئة ، فقلن لها : ما لك؟ فقالت : ما لنا منه شيء ، أما ليله فقائم ، وأما نهاره فصائم ، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكرن ذلك له ، فلقيه فقال يا عثمان بن مظعون ، أما لك فيَّ أسوة؟ قال : وما ذاك؟ قال : تصوم النهار وتقوم الليل .
قال : إني لأفعل . قال : لا تفعل ، إن لعينك عليك حقاً ، وإن لجسدك عليك حقاً ، وإن لأهلك عليك حقاً ، فصل ونم ، وصم وأفطر ، قال : فاتتهن بعد ذلك عطرة كأنها عروس ، فقلن لها : مه؟ قالت : أصابنا ما أصاب الناس] ( ) .
ولعل قولها (أصابنا ما أصاب الناس) تذكير لنساء النبي بنعمة الله عليهن بالإقتران به صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم التعطر والتزين له من باب الأولوية القطعية .
الثانية : بيان فضل المسلمين في ميادين الجهاد في سبيل الله .
الثالثة : حمل الكفار على المقارنة ووجوه الإلتقاء بين المسلمين والربيين بلحاظ أن آية السياق والبحث تخبران عن حال الربيين وسيرة وفعل المسلمين ظاهرتان للعيان وتدركان بالحواس ، وفيه وجوه :
الأول : إنذار الكفار من قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن الإعجاز في القرآن أن الإنذار فيه جاء خاصاً وعاماً وذكر قرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين }( ) جعل يدعوهم قبائل قبائل .
وأخرج سعيد بن منصور والبخاري وابن مردويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس , قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } ورهطك منهم المخلصين خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى صعد على الصفا فنادى يا صباحاه . . فقالوا من هذا الذي يهتف؟ قالوا : محمد .
فاجتمعوا إليه ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ قالوا : نعم . ما جربنا عليك إلا صدقاً قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد « فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا! فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب }]( ).
الثاني : زجر عموم الناس عن إعانة ومحاكاة الكفار في قتالهم للمسلمين ، وهذا زاجر من رحمة الله عز وجل بالناس بنزول القرآن , قال تعالى بخصوص تلاوم أهل النار [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ] ( ).
الثالث : بعث النفرة في نفوس الناس من الكفر ومفاهيم الشرك ، وهل يشمل بعث النفرة هذا أقطاب الكفر ورؤساء الضلالة أم أنهم يخرجون بالتخصيص ليكون خاصاً بالمستضعفين وعموم الناس ، الجواب هو الأول وتبين الوقائع في بدايات الإسلام آيات من دخول رؤساء من المشركين في الإسلام , ومحاكاة غيرهم لهم , وفيه حجة على من تخلف منهم عن الإيمان .
الرابع : ترغيب الناس بالإسلام ، قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
الخامس : بيان معجزة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن أصحابه وأنصاره وأتباعه وأمته في أعلى مراتب التقوى ، وأنهم ينالون درجة الربيين التي جاهد أصحاب الأنبياء السابقين وبذلوا أنفسهم للفوز بها بين العالمين .
ومن الأنبياء من إستضعفه قومه كما في شعيب ، قال تعالى [قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ]( ).وفي الضعف الذي نعتوا فيه شعيباً مع أنه كان خطيب الأنبياء وجوه :
الأول : قلة عدد الربيين الذين معه بالنسبة لكثرة الكفار .
الثاني : كان شعيب ضريراً ، وقيل كان ضعيف البصر( ).
الثالث : أن شعيباً شخص واحد , ولم يلتفتوا إلى من معه ومن يخفي إيمانه من الربيين لحين الملاقاة بالأسنة.
الرابع : ضعيفاً أي ذليلاً ( )،لأن عشيرتك ليسوا على دينك ، فانت ذليل ضعيف .
عن شداد بن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :بكى شعيب عليه السلام من حب الله حتى عمي ، فرد الله عليه بصره وأوحى الله إليه : يا شعيب ما هذا البكاء أشوقاً إلى الجنة أم خوفاً من النار؟ فقال : لا ، ولكن اعتقدت حبك بقلبي ، فإذا نظرت إليك فما أبالي ما الذي تصنع بي ، فأوحى الله إليه : يا شعيب إن يكن ذلك حقاً فهنيأً لك لقائي يا شعيب ، لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي] ( ) .
وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب عليه السلام . أنه خطب فتلا هذه الآية في شعيب { وإنا لنراك فينا ضعيفاً } قال : كان مكفوفاً ، فنسبوه إلى الضعف { ولولا رهطك لرجمناك }( ) قال الإمام علي : فو الله الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم ، ما هابوا إلا العشيرة] ( ).
وتبين هذه الآية أعلاه أن قتال الأنبياء وتعضيدهم بأمة من الربيين حاجة وسبب لصلاح الناس وإصلاح النفوس وحرب على الفساد الذي حذر منه الملائكة في قوله [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
وفيه زجر للمنافقين والمنافقات ومنعهم من حث المؤمنين على القعود من الجهاد في سبيل الله [عن ابن شهاب وغيره قال « خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أحد في ألف رجل من أصحابه ، حتى إذا كانوا بالشرط بين أحد والمدينة انخذل عنهم عبد الله بن أُبَيَّ بثلث الناس ، وقال : أطاعهم وعصاني والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا ، فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق وأهل الريب .
واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضرهم عدوهم . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكن لا نرى أن يكون قتال] ( ) .
ليكون من إعجاز القرآن مجئ آية في قصص الأمم السابقة فتكون على وجوه :
الأول : إنها سبب لزيادة إيمان المسلمين .
الثاني : فيها فضح للمنافقين .
الثالث : ذم الكافرين وبيان أن عاقبتهم هي الخسران [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا]( ) .
السادس : بعث الخوف والفزع في قلوب الكافرين من دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في مواطن القتال ومقدماته , ومن مصاديق الإعجاز في المقام مسائل :
الأولى : عدم إختصاص دعاء المسلمين بحال الحرب والقتال .
الثانية : إتصال دعاء المسلمين في حال السراء والضراء والنصر والغلبة وعند الشدة والمحنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ).
ونزلت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد التي جرت في شوال من السنة الثالثة للهجرة وصادف شهر آذار 625 م , والطائفتان من الأنصار هم بنو سلمة وبنو حارثة.
وعن جابر بن عبد الله قال : وما نحب أن لو لم نكن هممنا لقول الله عز وجل [وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ).
ومن ولاية الله عز وجل للأنصار والمؤمنين جميعاً أمور :
الأول : سماع الله دعائهم .
الثاني : محو ذنوبهم والتجاوز عن خطاياهم .
الثالث : نزول آية البحث بالترغيب بالثواب الدنيوي والأخروي الذي لا يملكه إلا الله عز وجل ، قال تعالى [فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الثالثة : إشتراك المسلمين والمسلمات في الدعاء لنصر المؤمنين على الكفار والمشركين ، فقد ينشغل المجاهدون بالإعداد للمعركة وخوض غمار الحرب ، وتدخل قلوبهم الرهبة ، ولكن عموم المسلمين رجالاً ونساءً ، صغاراً وكباراً يدعون لهم ويسألون الله عز وجل النصر والظفر على الكفار .
الرابعة : تلاوة المسلمين لآية السياق وخاتمتها التي تتضمن الدعاء بالنصر ، ومن إعجاز القرآن مجئ هذا الدعاء بصيغة المضارع ليتلوه المسلمون فيحسبه الله دعاء لهم ضد عدوهم من الكافرين ،وهل يحسب دعاء لمن يأتي بعدهم ولذراريهم من المؤمنين , الجواب نعم ، وتلك آية بأن يسبق المؤمنين الدعاء لهم بالنصر والغلبة قبل أن يولدوا وهو من مصاديق دعاء الربيين ورشحاته على أجيال المسلمين .
المسألة السادسة : تضمنت آية السياق أربعة وجوه من دعاء الربيين وهي :
الأول : سؤال الربيين الله عز وجل مغفرة ذنوبهم ، وفيه بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : إرادة نفع الربيين العام من مغفرة الذنوب والذي ينبسط على حالهم في الدنيا والآخرة ، وتقدير آية البحث : ربنا اغفر لنا ذنوبنا , وآتنا بالمغفرة حسن ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
الثانية : غفران الذنوب باب لتوالي النعم على المؤمنين مجتمعين ومتفرقين .
الثالثة : من معاني سؤال مغفرة الذنوب إزاحة الموانع التي قد تحجب نزول فضل الله عز وجل ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الرابعة : سؤال الربيين الله عز وجل مغفرة ذنوبهم شاهد على حبهم له سبحانه وإجتهادهم في طلب رضاه .
الثاني : سؤال الربيين غفران إسرافهم في أمرهم ،وفيه بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : إقرار الربيين بأن الله عز وجل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ) فلجأوا إليه سبحانه وسألوه تعالى محو القصور والتقصير في أمور الدين والدنيا ، وينسى العبد الذنب والمعصية والتفريط وهي حاضرة عند الله على وجوه :
الأولى : لا ينسى الله عز وجل أي قول أو فعل للعبد .
الثاني : يعلم الله بأي فعل للعبد قبل وأثناء وبعد وقوعه .
الثالث : حضور أعمال العباد عند الله عز وجل , وإذا تفضل بغفران ذنوب المؤمنين فأنها لا تغادر علمه سبحانه ليكون معنى قوله [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) أن محو الذنوب هو رفع العقاب وعدم ترتب الأثر بسببها ،لذا جاء قوله تعالى [ويثبت ] مطلقاً ليشمل ذات موضوع المحو ، ولكن على نحو جهتي بما لا يضر بالعبد المغفور له .
[وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من أذنب ذنبًا في الدنيا، فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه”]( ).
الثالث : سؤال الربيين الله عز وجل ثبات أقدامهم ، وفيه مسائل :
الأولى : من مصاديق ثواب الدنيا الذي تذكره آية البحث ثبات الأقدام عند مواجهة الكفار .
الثانية : ثبات الأقدام من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً , فجاءت البشارة من عند الله بثواب الدنيا ليكون ثبات الأقدام على وجوه :
الأول : الثبات وقوة الشكيمة في تهيئة مقدمات القتال .
الثاني : الثبات عند تهديد ووعيد الكفار ، وما يبثونه من أخبار عن كثرتهم وعدم قلتهم .
الثالث : الثبات في ملاقاة الكافرين ، وعدم الفرار من الزحف وفي قوله تعالى [وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ] ( ).
قيل أن هذا الوعيد خاص بمعركة بدر لأنها الفرقان والفيصل بين الإيمان والكفر ،ولكن الآية أعم وإن كان الفرار من الكبائر ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر [اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض] ( ).
ونزلت الرخصة والتخفيف يوم أحد بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا]( ).
الرابع : سؤال ثبات الأقدام في فعل الصالحات والدوام على أداء الفرائض ، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [صلوا كما رأيتموني أصلي] ( )، ليكون من مصاديق التشبيه في الحديث أوقات الصلاة اليومية وعدد ركعات كل من صلاة الصبح وهي ركعتان وصلاة الظهر وهي أربع ركعات ،وصلاة العصر وهي أربع ركعات ،وصلاة المغرب وهي ثلاث ركعات ،وصلاة العشاء وهي أربع ركعات .
الخامس : سؤال الربيين الله عز وجل نصرهم على القوم الكافرين، وفيه مسائل :
الأولى : الدعاء وسيلة مباركة وسلاح للنصر والغلبة في ميادين القتال.
الثانية : تفضل الله بتسمية أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم بالربيين، وإضافتهم إلى ربوبيته المطلقة في الحياة الدنيا , وفي التنزيل الباقي إلى يوم القيامة وهو القرآن شاهد على بلوغهم مراتب سامية من التدبير والتفكير وحسن السمت، ومنه أنهم جمعوا بين الفعل والدعاء، كما تبين الآيتان السابقتان، إذ تخبران عن قتالهم وجهادهم ومرابطتهم في ميادين الوغى حتى نالوا مرتبة الصبر لقوله تعالى في ختام الآية قبل السابقة[وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( )، إذ سألوا الله النصر من منازل التقوى , ومنها منع إستحواذ الكفار في أمور الحل والعقد، وجعلهم عاجزين عن صد الناس عن الإيمان بالنبوة خاصة وأن كل نبي جاء معه بالمعجزة والبرهان الذي يدل على صدق نبوته.
ومن مصاديق وأسباب بلوغ أصحاب الأنبياء مرتبة الربيين قولهم[وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( )، وفيه وجوه:
الأول : لم يطلب الربيون النصر من ملك أو سلطان أو أمة من الناس.
الثاني : أدرك الربيون الحاجة إلى النصر وعدم كف أذى الكفار بالهدنة والصلح .
الثالث : لم يتكل الربيون على أنفسهم وقوة شكيمتهم، وإستعدادهم للتضحية والفداء بل أظهروا التوكل على الله بالقول والفعل ، فقد يقول قائل إن أسباب النصر مجتمعة عند الربيين من جهات:
الأولى : وجود نبي الزمان بين ظهراني الربيين وهو إمامهم في القتال.
الثانية : كثرة عدد الربيين الذين يقاتلون مع النبي .
الثالثة : مصاحبة المعجزة لهم في قتالهم من وجوه :
الأول : المعجزة بالذات للربيين في حال السلم والحرب.
الثاني : موضوعية حضور النبي القتال لأنه مدد ذاتي ، وأثر المعجزة في ميادين القتال وقد نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بآية من عند الله.
وفي قوله تعالى[أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ…]( )، أخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس قال: : ذكر لنا – والله أعلم – أن موسى لما حضرته الوفاة استخلف فتاه يوشع بن نون على بني إسرائيل ، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى .
ثم أن يوشع بن نون توفي واستخلف فيهم آخر ، فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى ، ثم استخلف آخر فسار فيهم بسيرة صاحبيه .
ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا ، ثم استخلف آخر فأنكروا عامة أمره ، ثم استخلف آخر فأنكروا أمره كله ، ثم أن بني إسرائيل أتوا نبياً من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم ، فقالوا له : سل ربك أن يكتب علينا القتال . فقال لهم ذلك النبي : { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا . . . } الآية . فبعث الله طالوت ملكاً ، وكان في بني إسرائيل سبطان سبط نبوّة وسبط مملكة ، ولم يكن طالوت من سبط النبوّة ولا من سبط المملكة ، فلما بعث لهم ملكاً أنكروا ذلك وقالوا : { أنى يكون له الملك علينا }( ) فقال : { إن الله اصطفاه عليكم } ( ).
الثالث : من أسرار المعجزة بعث الفزع والرعب في قلوب الكفار، وهي سبب من أسباب هزيمتهم ، وهل بشارة الأنبياء وعموم الربيين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مقدمات هزيمة الكفار , الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بتقريب أن البشارة بنبوته أيام الربيين رحمة بهم , وفيها مسائل :
الأولى : تعضيد نبوة الأنبياء السابقين سواء أيام زمانهم أو فيما بعدها .
الثانية : إنها مدد وعون للربيين في قتالهم .
الثالثة : إنها سبيل لهداية الناس ، والعلم ببقاء النبوة بين ظهرانيهم وتلقي أبنائهم لمعجزاتها .
الرابعة : بعث اليأس في قلوب الكفار ، فان لم ينهزموا اليوم فان غداً لناظره لقريب ، وفي التنزيل [إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ]( ).
الرابع : من ثواب الدنيا الذي تفضل الله عز وجل به على الربيين أمور:
الأول : الدعاء بثبات الإقدام.
الثاني : الدعاء بالنصر على القوم الكافرين، وهذا الدعاء غير ذات النصر وهو مقدمة ومصاحب له.
الثالث : تحقق النصر على الكافرين، وهذا النصر من ثواب الله في الدنيا بأن رأوا إستجابة الله لهم بتحقق النصر والغلبة على الكفار.
الرابع : شكر الربيين لله عز وجل على نعمة ثبات الأقدام والنصر على القوم الكافرين، وهذا الشكر من ثواب الدنيا ، قال تعالى[وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ]( ).
وموضوع الآية أعلاه نعمة الله عز وجل على النبي سليمان لبيان حسن تلقيه للنعم ، وإدراك لزوم تعاهدها بالشكر وأنه خير محض ونفع في النشأتين.
لتكون الآية شاهداً على تأديب الأنبياء لأصحابهم من الربيين وغيرهم بلحاظ أن صفة الربيين خاصة بالذين قاتلوا معهم إلا أن يشاء الله وتكون هذه الصفة عامة لأصحاب الأنبياء، وعن ابن عباس قال: إن سليمان أوتي ملكا، وكان لا يعلم أن أحدا أوتي ملكا غيره; فلما فقد الهدهد سأله: من أين جئت؟ ووعده وعيدا شديدا بالقتل والعذاب، قال:(وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) ( )قال له سليمان: ما هذا النبأ؟ قال الهدهد:( إنى وجدت امرأة ) بسبأ(تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) ( ).
فلما أخبر الهدهد سليمان أنه وجد سلطانا، أنكر أن يكون لأحد في الأرض سلطان غيره، فقال لمن عنده من الجنّ والإنس:( يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ].
قال سليمان: أريد أعجل من ذلك(قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) وهو رجل من الإنس عنده علم من الكتاب فيه اسم الله الأكبر، الذي إذا دعي به أجاب:(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) ( ).
فدعا بالاسم وهو عنده قائم، فاحتمل العرش احتمالا حتى وُضع بين يدي سليمان، والله صنع ذلك; فلما أتى سليمان بالعرش وهم مشركون، يسجدون للشمس والقمر، أخبره الهدهد بذلك، فكتب معه كتاباً ثم بعثه إليهم، حتى إذا جاء الهدهد الملكة ألقى إليها الكتاب(قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ )… إلى(وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ( ) .
فقالت لقومها ما قالت(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) قال: وبعثت إليه بوصائف ووصفاء، وألبستهم لباسا واحدا، حتى لا يعرف ذكر من أنثى، فقالت: إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى، ثم رد الهدية، فإنه نبي، وينبغي لنا أن نترك ملكنا ونتبع دينه ونلحق به، فردّ سليمان الهدية وزيل بينهم، فقال: هؤلاء غلمان وهؤلاء جوار ،وقال[ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ]… إلى آخر الآية( ).
ومن الإعجاز في(قانون الشكر) أنه سبيل لدوام النعم وزيادتها كماً وكيفاً، وهو أعم من الجريان على اللسان، فيكون بالعمل الصالح وأداء الفرائض، وكل فعل وقول للربيين مما ذكرته الآيتان السابقتان هو من مصاديق شكرهم لله عز وجل، وتفضل سبحانه وشكرهم على حسن فعلهم وتفانيهم في طاعته فجاءت آية البحث لبيان عظيم الجزاء الذي فازوا به.
المسألة السابعة : تحتمل النسبة بين زمان تحقق النصر على الكافرين ومجئ الثواب من عند الله وجوهاً:
الأول : الإتحاد الزماني، ففي ذات الوقت الذي يكون فيه النصر يأتي الثواب الدنيوي من غير تخلف لأحدهما عن الآخر.
الثاني : نسبة التساوي الموضوعي بأن النصر على الكافرين هو ذاته الثواب الدنيوي.
الثالث : نسبة العموم والخصوص , وهي على شعب.
الأولى : تحقق النصر التام ومجئ شطر من الثواب بلحاظ أن النصر أمر دفعي والثواب تدريجي.
الثانية : نصر جزئي على الكفار أما الثواب الدنيوي فيأتي عاماً لعمومات قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الثالثة : تحقق النصر التام على الكفار، ويأتي الثواب عاماً في ميدان القتال وخارجه.
الرابع : عدم الملازمة بين النصر في ميادين القتال ومجئ الثواب.
الخامس : التفصيل وتعدد صيغ الفضل الإلهي، فمرة يجتمع النصر والثواب وأخرى يتأخر أحدهما عن الآخر.
والصحيح هو الشعبة الثالثة من الوجه الثالث وما هو أعم منها إذ يتقدم الثواب على النصر ويصاحبه ويتأخر عليه، لذا إبتدأت آية البحث بحرف الفاء وما تدل عليه من عدم وجود فترة بين دعاء الربيين وبين مجئ الثواب، فقد يتأخر زمان وأوان المعركة وقد لا تحسم بيوم ويومين، أو أن حرب الأنبياء السابقين مع الكفار تستمر لسنوات، وقد يتولاها الذي يكون خليفة للنبي من بعده، كما تقدم في حديث يوشع بن نون الذي ورد قبل صفحتين، وكما في قتال المسلمين للمشركين، وظهور الإرتداد المحدود من بعده.
ومن الثواب الدنيوي للربيين تلاوة المسلمين لآية البحث، وكل تلاوة للمسلم أو المسلمة لهذه الآية أو الآيتين السابقتين هو من هذا الثواب ،ويكون تقدير الآية على وجوه:
الأول : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا فآتاهم الله ثواب الدنيا على الإستغفار بالرفعة والعز بين الناس، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني : قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا فاستجاب لهم الله عز وجل، وهداهم إلى سبل الرشاد ووقاهم التفريط والإفراط، وقد أثنى الله عز وجل على المسلمين , وقال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا]( )، لإعانتهم في الإحتراز من الإسراف والتقصير.
الثالث : قالوا ربنا انصرنا على القوم الكافرين فنصرهم الله والحق الخزي بالكافرين.
الرابع : توجه الربيون إلى الله بالدعاء والمسكنة ذاته ثواب ونعمة، ليكون الثواب أمراً توليدياً ونفعاً متجدداً ليس له حد أو رسم .
المسألة الثامنة : يتجلى التباين بين آية البحث والسياق في عدد وموضوع الضمائر، إذ ورد الضمير المتصل للمتعدد من المتكلمين(نا) سبع مرات في آية السياق إلى جانب الضمير المتصل (هم) وواو الجماعة، مع قلة كلمات الآية، وكل ضمير يتضمن أسراراً ملكوتية تدل على حسن سمت الربيين وتدعو المسلمين لمحاكاتهم وإنتهاج سبيل الإخلاص في طاعة الله.
ولما تفضل الله عز وجل بنزول قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وتفضل وجعل تلاوته واجباً عينياً عدة مرات في الصلاة اليومية الراتبة.
وتفضل الله وبين في آية السياق مصاديق من الصراط المستقيم تتجلى بالإقامة على الدعاء في أمور الدين والدنيا، وإستحضار عالم الآخرة في الدعاء.
ومن الإعجاز في أدعية آية السياق اللجوء والفزع إلى الله عز وجل من جهتين:
الأولى : الإستجارة بالله من ذات النفس، قال تعالى[إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، فجاء جهاد ودعاء الربيين للفوز بانقياد النفس لمرضاة الله، وسلامتها من غلبة الشهوات وجلب المنافع الدنيوية بالباطل.
الثانية : اللجوء إلى الله من كيد الكفار وتعديهم وبطشهم إذ تبين الآية أن الربيين في حال قتال مع الكفار , ويحتمل هذا القتال وجوهاً:
الأول : صدور التعدي من القوم الكافرين.
الثاني : ليس من تعدي في هذا القتال إنما هو أمر عرضي أو أن كل طرف يدافع عن نفسه.
الثالث : حدوث التعدي من الربيين.
الرابع : الإشتراك في التعدي، وكل فريق من الطرفين تعدى على الآخر.
والصحيح هو الأول ، وتدل تسمية ( الربيين) على التنزه عن التعدي والظلم، ويكون ظلم الكافرين من وجوه :
الأول : الظلم للنفس والذات، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الثاني : ظلم الكافر المنفرد لجماعة الكفار بصيرورته مثالاً في التلبس بالباطل.
الثالث : ظلم جماعة الكافرين للمنفرد منهم لإغوائهم له.
الرابع : الكفر قبيح في ذاته وأثره، وينعكس هذا القبح على صاحبه والقائل به.
الخامس : ظلم الكافرين للناس لإشاعتهم الرذيلة، ومفاهيم الضلالة.
السادس : ظلم الكافرين لذراريهم وأبنائهم لأنهم يتركون مفاهيم السوء والضلالة إرثاً لهم.
وفي إحتجاج إبراهيم عليه السلام على قومه ورد قوله تعالى[إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ]( ).
وعن عبد الله بن مسعود قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه فقالوا : يا إبراهيم ، ألا تخرج معنا؟ قال : إني سقيم ، وقد كان بالأمس قال : { تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين }( )فسمعه ناس منهم ، فلما خرجوا انطلق إلى أهله فأخذ طعاماً ثم انطلق إلى آلهتهم فقرّبه إليهم فقال : ألا تأكلون؟ فكسرها إلا كبيرهم ، ثم ربط في يده الذي كسر به آلهتهم ، فلما رجع القوم من عيدهم دخلوا فإذا هم بآلهتهم قد كسرت ، وإذا كبيرهم في يده الذي كسر به الأصنام ، قالوا : من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال الذين سمعوا إبراهيم قال : { تالله لأكيدن أصنامكم } سمعنا فتى يذكرهم . فجادلهم عند ذاك إبراهيم ( ).
المسألة التاسعة : في قوله تعالى [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] ( ) تقدير بلحاظ الموضوع والغاية من وجوه :
الأول : وما كان قولهم إلا أن قالوا رنا اغفر لنا ذنوبنا لعلم الربيين بأمور :
أولاً : حاجة العبد لغفران ذنوبه .
ثانياً : إحتراز العبد من ولوج عالم الآخرة باوزار المعاصي وما إقترفه من السيئات .
ثالثاً : تبين الآية فضل الله على الناس بالإجمال في الإستغفار من غير تعيين للذنوب والخطايا ومع هذا يأتي هذا الإجمال عليها على نحو دفعي سواء إستحضرها العبد عند الإستغفار أو لا ، إلتفت إلى أنها ذنب أو ظنه فعلاً مباحاً ،
وعن عبد الله بن عمر (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)( ).
رابعاً : صدور الإستغفار من عموم الربيين مجتمعين شاهد على إنتفاء الكسل والغفلة عنهم .
[وعن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : اللهم أني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر] ( ).
خامساً : هل في الإستغفار من الذنوب رجاء التوفيق لأداء الفرائض ، منها الصلاة والزكاة التي هي طهارة من دنس المعاصي ، الجواب نعم ، إذ يتضمن دعاء الربيين التوفيق إلى الإتيان بالواجبات وإجتناب السيئات ، وهذا التوفيق لائق بحالهم وسمو مرتبة إيمانهم .
سادساً : هل يشمل سؤال الربيين الإستغفار صغائر وكبائر الذنوب ،أم أنه خاص بالكبائر لقوله تعالى [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ] ( ).
وصحيح أن الإستغفار المنقطع أعلاه خاص بالذين أحسنوا إلا أن إستغفار الربيين عام وشامل للصغائر والذنب الخفي فمن مصاديق تسميتهم بالربيين أنهم يدعون الله عز وجل بكل شئ يحتاجون إليه ويظهرون خشيتهم من الحساب ويلجأون إلى الإستغفار للنجاة من أثر الذنوب دقيقها وكبيرها .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه] ( ) .
وفي الحديث دعوة للتدارك والإمتناع عن التلبس بالجناية والبرزخية بين الهم بالمعصية وبين فعلها .
ويكون تقدير الإضمار في قوله تعالى [قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] على وجوه منها :
الأول : قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا فانت الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ، أي أن الإستغفار مقرون بتمجيد الله والثناء عليه مع أن الثناء على الله في هذا الشطر من الآية يأتي من وجوه :
أولاً : حصر قول الربيين بالإستغفار والدعاء .
ثانياً : قول الربيين [ربنا] مما يدل على تسليمهم بالربوبية لله سبحانه وتنزههم من الشرك الظاهر والخفي.
ثالثاً : الإستغفار طريق لتزكية النفس وتنقية السلوك من الخصال والعادات المذمومة , ويدل على هذه التنقية في آية البحث حصر قول الربيين بالإستغفار والدعاء تلك الآية التي تتفرع عنها مواعظ وعبر كثيرة وفي ميادين مختلفة .
الثاني : قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا فضلاً وشكراً على قتالنا في سبيلك مع النبيين وأنت القائل [وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا] ( ) فالله سبحانه هو الذي هدى الربيين للإيمان وأصلحهم للقتال في سبيله وجذبهم إلى منازل الإستغفار ليشكرهم على حسن صنيعهم وهو من مصاديق تسميته سبحانه [ المنان ] .
الثالث : قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا , فلا يقدر على غفرانها إلا أنت ومن مصاديق تسمية أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم بالربيين أنهم توجهوا في حاجاتهم كلها إلى الله عز وجل ، لبيان قانون وهو أن أصحاب الأنبياء لم يغالوا بهم إنما جاء الغلو بعد إنتقالهم إلى الرفيق الأعلى وتناقل الناس لأخبار معجزاتهم ، وفي التنزيل حكاية عن عيسى [مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ]( ).
لتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على الثناء على أجيال المسلمين وإلى يوم القيامة لتنزههم عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا التنزه بذاته حرب على عبادة غير الله ، وفيه دعوة للناس للإقتداء بالربيين في الإستغفار وسؤال الله عز وجل العفو ، ليكون من مصاديق قوله تعالى في خطاب للمسلمين والمسلمات [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ] ( ). إن منهاجهم طريق موصل بين الربيين والناس ، ويأخذ بأيدي الناس إلى سبل الرشاد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
بلحاظ الهداية في الآية أعلاه لا تختص بذات المسلمين بل تتضمن صيرورة المسلمين أئمة للهدى ، وقادة في سبل المعرفة والحكمة .
الرابع : قالوا ربنا اغفرنا لنا ذنوبنا وأرزقنا من حيث لا نحتسب, لقد أدرك الربيون أن الإستغفار طريق مبارك لطلب الرزق الكريم فأكثروا منه رجاء السعة والفرج [عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب] ( ).
الخامس: قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا صغيرها وكبيرها إنك أنت الغفور الرحيم ، لتتفضل علينا بثواب الدنيا والآخرة وإن الذنوب والمعاصي برزخ دون نزول البركة والفضل من عند الله ، فطمع الربيون بفضل الله وأرادوا إزاحة الحواجز التي تحول دونه ، وبذلوا الوسع لنيل محبة الله عز وجل بالإحسان إلى أنفسهم فاستغفروا لذنوبهم , لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ].
وتقدير قوله تعالى [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا]في غاياته على وجوه :
الأول : وثبت أقدامنا في ميادين القتال دفاعاً عن التوحيد وتعظيماً لشعائر الله وحفاظاً على التنزيل ، ويدل إخبار الآية السابقة عن قتال النبي وأصحابه بأن الكفار يسعون للإجهاز عليهم ، ومنعهم من أداء الفرائض والدعوة إلى الله ، فات قلت هناك فارق بين أداء الفرائض والدعوة ، فقد يغض الكفار الطرف عن قيام المؤمنين بالصلاة والصوم والزكاة ، ولكن إحتجاجهم يتعلق بالدعوة إلى تصديق النبي لما فيها من هدم لصروح من الجاه والشأن والسلطان بنيت على توارث الكفر والضلالة .
وتدل مضامين السنة النبوية الشريفة وما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من الأذى من رؤساء قريش على حرب الكفار على ذات الفرائض وسعيهم لمنع إقامتها .
(عن ابن عباس في قوله تعالى [سندع الزبانية] ( )قال : قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلى لاطمأن على عنقه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو فعل لاخذته الملائكة عيانا.
وعن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال ألم انهك عن هذا ألم انهك عن هذا فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فزبره , فقال أبو جهل إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني , فانزل الله تعالى (فليدع ناديه)] ( ).
الثاني : وثبت أقدامنا بالرزق الكريم وكثرة المؤون علينا وعلى عوائلنا ، قال تعالى [وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ] ( )إن الرزق الكريم واقية من وسوسة النفس والخشية من الفقر والفاقة وخذلان المنافقين .
وصحيح أن الآية أعلاه نزلت بخصوص واقعة بدر لأن المطر حبس المشركين ومنعهم من الوصول إلى الماء فسبق إليه المسلمون ، ولكن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول ، وهل يلحق بنزول الماء من السماء إخراج الأرض لكنوزها كثروة النفط لتكون عوناً للمسلمين على أمور الدين والدنيا , أم أن القدر المتيقن خصوص المطر والرزق الكريم من السماء , وكون المدار على عموم اللفظ لا يعني الإعراض التام عن أسباب النزول في باب التأويل .
الجواب هو الثاني ، ومسألة بحور النفط والغاز تستنبط من دليل آخر في القرآن، نعم سأل الربيون الله عز وجل النعم الظاهرة والباطنة التي تكون عوناً لهم في المرابطة وملاقاة الأعداء ولم يكن آنذاك مسألة استخراج هذه الكنوز من الأرض .
الثالث : وثبت أقدامنا بنزول الملائكة مدداً لنا ، ولم يثبت نزول الملائكة لنصرة الربيين إلا أنه لا يمنع من تضمن دعاء الربيين سؤال نزولهم ورجاء تعضيدهم ليكون دعاؤهم مقدمة لنزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكأن الربيين سألوا الله نزول الملائكة لنصرته والمؤمنين , وقالوا : اللهم إن لم ينزلوا لنصرتنا فاجعلهم ينزلون لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من مصاديق قوله تعالى [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بلحاظ سؤال المؤمنين من الأمم السابقة لهم النصر والمدد بالملائكة .
وليس في هذا المائز ضرر او غبن للربيين لأنهم سألوا الله ثبات الأقدام ، وهو سبحانه يرزقهم الكيفية التي يصبرون معها في ميادين القتال ، ويسلمون من الفرار والهزيمة ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الرابع : وثبت أقدامنا لتكون أسوة للمسلمين أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ) ليكون من حسن قصص القرآن إقتباس المسلمين المواعظ منها وصيرورة جهاد الربيين أسوة للمسلمين .
ولم يلاق المؤمنون في الأزمنة المتعاقبة ما لاقاه المسلمون من أذى وهجوم الكفار عليهم ، الذين كانوا في كل معركة نحو ثلاثة أضعاف المسلمين أو اكثر ، لتكون آية السياق حرزاً لهم وتثبيتاً للإيمان في نفوسهم وأملاً بالنصر من عند الله عز وجل .
الخامس : وثبت أقدامنا ليتوارث أبناؤنا الإيمان , فمن خصائص المؤمنين أثناء قتالهم مع الكفار الحرص على بقاء الإيمان في الأرض وسيادة أحكامه بين الناس .
وصحيح أن قتال الربيين نوع دفاع عن أنفسهم إلا أنه يتضمن إزاحة مفاهيم الكفر والضلالة من الأرض ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة التباين بين الإيمان والكفر من جهات :
الأولى : دعاء الربيين والمؤمنين مطلقاً بتثبيت الأقدام والغلبة على الكفار .
الثانية : إستكبار الكفار عن الدعاء ، وإن دعوا فان دعاءهم مردود غير مقبول , وفي يوم بدر عن ابن عباس [فلما اصطف الناس قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره.
ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: ” يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الارض أبدا “.
فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب.
فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين.
وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه، وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة أما زعمت أنك لنا جار ؟ قال: إنى أرى ما لا ترون، إني أخاف الله والله شديد العقاب.
وذلك حين رأى الملائكة] ( ).
الثالثة : إنتفاع المؤمنين من دعائهم ، وبقاء منافعه ينهل منه ومنها أبناؤهم والتابعون من بعدهم ، وجاء القرآن وثيقة سماوية لهذه الأدعية وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
وإذا كان دعاء الربيين سبباً للحوق الأذى بالكفار الذي يقاتلونهم ، فهل يلحق الأذى بدعائهم الأجيال اللاحقة من الكفار أم أن القدر المتيقن منه خصوص زمانهم , الجواب هو الأول والمراد من دعائهم في أفراده السنخية .
والماهية وكل نصر للربيين هو نصر للمؤمنين من الأولين والآخرين لذا تفضل الله عز وجل وذكر دعاء الربيين في آية السياق .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( ) وجوه :
الأول :ربنا انصرنا على القوم الكافرين الذين أصروا على الجحود والإستكبار وأبوا إلا محاربة الأنبياء وإنكار المعجزات .
الثاني : ربنا انصرنا على القوم الكافرين من أجل إقامة حكم الله في الأرض وإصلاح النفوس .
الثالث : ربنا انصرنا على القوم الكافرين فان النصر بيدك تهبه لمن تشاء , وإجعل الكرة لنا على الكفار الذين أقاموا على الضلالة والشرك .
الرابع : ربنا أنصرنا على القوم الكافرين بوعدك الكريم فقد آمنا بك وصدقنا بأنبيائك وحملنا أمانة البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] ( ).
الخامس : ربنا وأنصرنا على القوم الكافرين وأجعل نصرنا ودعاءنا إرثاً كريماً للمسلمين .
ولما برز طالوت وجنوده من المؤمنين من بني إسرائيل إلى جالوت وجيشه من الكفار الذين كانوا أكثر عدداً وعدة أظهر المؤمنون حسن التوكل على الله كما في قوله تعالى [وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ) [وعن وهب بن منبه قال: لما خرج أو قال: لما برز طالوت لجالوت، قال جالوت: أبرزوا إلي من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم! فأتي بداود إلى طالوت، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته، وأن يحكمه في ماله. فألبسه طالوت سلاحا، فكره داود أن يقاتله بسلاح، وقال: إن لم ينصرني الله عليه، لم يغن السلاح! فخرج إليه بالمقلاع، وبمخلاة فيها أحجار، ثم برز له. قال له جالوت: أنت تقاتلني! ! قال داود:
نعم! قال: ويلك! ما خرجت إلا كما يخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة! لأبددن لحمك، ولأطعمنّه اليوم الطير والسباع! فقال له داود: بل أنت عدو الله شر من الكلب! فأخذ داود حجرا ورماه بالمقلاع، فأصابت بين عينيه حتى نفذ في دماغه، فصرع جالوت وانهزم من معه، واحتز داود رأسه.
فلما رجعوا إلى طالوت، ادّعى الناس قتل جالوت، فمنهم من يأتي بالسيف، وبالشيء من سلاحه أو جسده، وخبأ داود رأسه. فقال طالوت: من جاء برأسه فهو الذي قتله! فجاء به داود، ثم قال لطالوت: أعطني ما وعدتني! فندم طالوت على ما كان شرط له، وقال: إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق وأنت رجل جريء شجاع، فاحتمل صداقها ثلثمئة غلفة من أعدائنا. وكان يرجو بذلك أن يقتل داود. فغزا داود وأسر منهم ثلثمئة وقطع غلفهم، وجاء بها. فلم يجد طالوت بدا من أن يزوجه، ثم أدركته الندامة. فأراد قتل داود حتى هرب منه إلى الجبل، فنهض إليه طالوت فحاصره.
فلما كان ذات ليلة سلط النوم على طالوت وحرسه، فهبط إليهم داود فأخذ إبريق طالوت الذي كان يشرب منه ويتوضأ، وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه، ثم رجع داود إلى مكانه فناداه : أن [ قد نمت ونام] حرسك، فإني لو شئت أقتلك البارحة فعلت، فإنه هذا إبريقك، وشيء من شعر لحيتك وهدب ثيابك! وبعث [ به] إليه، فعلم طالوت أنه لو شاء قتله، فعطفه ذلك عليه فأمنه، وعاهده بالله لا يرى منه بأسا.
ثم انصرف. ثم كان في آخر أمر طالوت أنه كان يدس لقتله. وكان طالوت لا يقاتل عدوا إلا هزم، حتى مات , قال بكار: وسئل وهب وأنا أسمع: أنبيا كان طالوت يوحى إليه؟ فقال: لم يأته وحي، ولكن كان معه نبي يقال له أشمويل يوحى إليه، وهو الذي ملك طالوت]( ).
تقدير خاتمة آية السياق
تقدير خاتمة آية السياق على وجوه :
الأول : ربنا وأنصرنا على القوم الكافرين بمدد وفضل من عندك.
الثاني : ربنا وأنصرنا على القوم الكافرين بوعدك للمؤمنين ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ) .
الثالث : ربنا وأنصرنا على القوم الكافرين لمنع الفساد في الأرض وقتل النفس بغير حق .
الرابع : ربنا وانصرنا على القوم الكافرين الذين جحدوا بالربوبية وحاربوا الأنبياء بغير حق.
الخامس : ربنا وانصرنا على القوم الكافرين ثواباً من عندك على صبرنا في طاعتك.
السادس : ربنا وانصرنا على القوم الكافرين مع تفضلك بمغفرة ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا.
السابع : ربنا وانصرنا على القوم الكافرين مع تفضلك بتثبيت أقدامنا.
الثامن : ربنا وانصرنا على القوم الكافرين ليكون هذا النصر من حبك للمحسنين.
التاسع : ربنا وأنصرنا على القوم الكافرين ليقيم الناس الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا شهر رمضان ويحجوا البيت الحرام، لذا وردت موضوعية بناء البيت لعامة الناس وليس للمسلمين وحدهم بقوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
العاشر : ربنا وانصرنا على القوم الكافرين الذين هم أعداء لك وللمؤمنين.
الحادي عشر : ربنا وانصرنا على القوم الكافرين الذين نهيتنا عن إتخاذهم أولياء، وفي التنزيل[لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني عشر : ربنا وانصرنا على القوم الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب .
ومن الإعجاز أن سورة البقرة أطول سورة في القرآن .
فان آخر آية منها وهي السادسة والثمانون بعد المائتين أختتمت بقوله تعالى[فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( )، وورد عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة[فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( )، قال: آمين( ) ( ).
وأختتمت الآية السابقة بذات الموضوع ولكن بالعطف بالواو [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( )لبيان إرادة المعنى الأعم من النصر ، وأنه يختص بالتعقيب والفورية في النصر ، إنما سألوا إستمرار وتوالي الإنتصارات على الكافرين ومنها نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيام بعثته على القوم الكافرين .
وبين الفاء في آخر سورة البقرة [فانصرنا ] وبين [الواو ] في الآية السابقة عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : كل فرد منهما حرف عطف .
الثاني : كل واحد منهما ورد بصيغة الدعاء .
الثالث : إتحاد الموضوع وهو رجاء النصر على القوم الكافرين .
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : ورد الدعاء في سورة البقرة على لسان المسلمين ، أما الآية السابقة فجاءت حكاية عن الربيين من أصحاب الأنبياء السابقين ، وفيه شاهد على إتحاد سنخية الإيمان وأسباب الهداية من عند الله عز وجل.
الثاني : مجئ سورة البقرة بسؤال الفعل والترك بلطف من عند الله [لاَ تُؤَاخِذْنَا][ وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا][ وَلاَ تُحَمِّلْنَا] ( ) أما الآية السابقة فهي دعاء للفعل بتثبيت الأقدام والنصر .
الثالث : إرادة الربيين النصر على الكافرين من جهات :
الأولى : النصر وهزيمة الكفار في أيامهم .
الثانية : النصر بسلامة الأنبياء وقيامهم بالتبليغ .
الثالثة : نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على كفار قريش .
الثالث عشر : ربنا انصرنا على القوم الكافرين ليكون هذا النصر من مصاديق قولك سبحانك[وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
الرابع عشر : ربنا انصرنا على القوم الكافرين الذين إجتهد الأنبياء بالدعاء عليهم عليهم ،وفي التنزيل حكاية عن نوح [رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا]( )، أي واحداً، وجاء دعاء نوح هذا بعد أن أوحى الله إليه بأن من بقى من كفار قومه لن يؤمنوا.
وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة قال: لم يتحسر أحد من الخلائق كحسرة آدم ونوح ، فأما حسرة آدم فحين أخرج من الجنة ، وأما حسرة نوح فحين دعا على قومه فلم يبق شيء إلا غرق إلا ما كان معه في السفينة ، فلما رأى الله حزنه أوحى إليه يا نوح لا تتحسر فإن دعوتك وافقت قدري( ).
الخامس عشر : وانصرنا على القوم الكافرين الذين يصرون على قتالنا ومحاربة النبوة، قال سبحانه[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]( ).
السادس عشر : ربنا انصرنا على القوم الكافرين كما نصرت وأظهرت الأنبياء عليهم.
وعن كعب قال: كان إسماعيل نبي الله الذي سماه صادق الوعد ، وكان رجلاً فيه حدة مجاهداً أعداء الله ، ويعطيه الله النصر عليهم ، والظفر ، وكان شديد الحرب على الكفار ، لا يخاف في الله لومة لائم ، صغير الرأس ، غليظ العنق ، طويل اليدين والرجلين ، يضرب بيديه ركبتيه وهو قائم ، صغير العينين ، طويل الأنف ، عريض الكتف ، طويل الأصابع ، بارز الخلق ، قوي شديد عنيف على الكفار ، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ، وكانت زكاته القربات إلى الله من أموالهم ، وكان لا يعد أحداً شيئاً إلا أنجزه ، فسماه الله { صادق الوعد } ( ).
السابع عشر : ربنا انصرنا على القوم الكافرين في ذات الوقت الذي ننقطع فيه إلى عبادتك وأداء الفرائض، لذا شرعت صلاة الخوف في الإسلام للوقاية من العدو ومباغتته لهم وهم بين يدي الله عز وجل ركعاً وسجداً، وعند شدة القتال والضرر يكفي الإيماء للركوع والسجود عن ركوب أو قيام أو جلوس بحسب الحال .
وقد شرعت صلاة الخوف في معركة الخندق وقيل في كتيبة ذات الرقاع بأن صلى النبي أربع ركعات وجعل المسلمين طائفتين كل طائفة تصلي معه ركعتين، وتكون الأخرى مواجهة للعدو.
وفيه دعوة للكفار والناس جميعاً لدخول الإسلام، لأن المسلمين لا يتركون الصلاة بأشق الأحوال , ولا مانع من التعدد في أوان تشريع صلاة الخوف.
وعن البيهقي باسناده عن جابر قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال: من يمنعك منى ؟ قال: الله.
فسقط السيف من يده. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف وقال: من يمنعك منى ؟ فقال: كن خير آخذ.
قال: تشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال: لا، ولكن أعاهدك على ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك.
فخلى سبيله، فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس( ).
قال محمد بن إسحاق: حدثنى عمي صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة ذات الرقاع من نخل فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا، أتى زوجها وكان غائبا، فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهى حتى يهريق في أصحاب محمد دما.
فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا ؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الانصار، فقالا: نحن يا رسول الله، قال: فكونا بفم الشعب من الوادي.
وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر، فلما خرجا إلى فم الشعب قال الانصاري للمهاجري: أي الليل تحب أن أكفيكه أوله أم آخره ؟ قال: بل اكفني أوله.
فاضطجع المهاجري فنام وقام الانصاري يصلي.
قال: وأتى الرجل فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرمى بسهم فوضعه فيه، فانتزعه ووضعه وثبت قائما.
قال: ثم رمى بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه فوضعه وثبت قائما.
قال: ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه فقال: اجلس فقد أثبت.
قال: فوثب الرجل فلما رآهما عرف أنه قد نذرا به، فهرب.
قال: ولما رأى المهاجري ما بالانصاري من الدماء قال: سبحان الله أفلا أهببتنى أول ما رماك ؟ ! قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع على الرمى ركعت فأذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها( ).
الثامن عشر : ربنا انت الذي أمرتنا بالدعاء ووعدت عليه الإجابة فانصرنا على القوم الكافرين.
التاسع عشر : ربنا لقد نصرنا أنبياءك وقاتلنا معهم فانصرنا على القوم الكافرين.
العشرون : ربنا أنت الذي لك ملك السموات والأرض وبيدك مقاليد الأمور فانصرنا على القوم الكافرين.
الحادي والعشرون : ربنا انصرنا على القوم الكافرين الذين جاءتهم آياتك فكذبوا بها واستكبروا .
الصلة بين خاتمتي الآيتين: وفيه مسائل:
الأولى : جاءت خاتمة آية السياق بصيغة المتكلم،(وانصرنا) وتتعلق بخصوص القتال وملاقاة الكفار ودحرهم في حال السلم والحرب.
وهل يشمل النصر في الآية الغلبة في الإحتجاج الجواب نعم، لأصالة الإطلاق، وإرادة عز الربيين، في كل الأحوال، ولأن إقامة الحجة على الكفار مقدمة للنصر عليهم في ميدان القتال، وإنذار الناس من إتباعهم ونصرتهم.
وعن ابن عباس قال: آية في كتاب الله لا يسألني الناس عنها ولا أدري أعرفوها فلا يسألوني عنها أم جهلوها فلا يسألوني عنها ؟ قيل : وما هي ؟ قال : آية لما نزلت إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون شق ذلك على أهل مكة وقالوا : شتم محمد آلهتنا فقام ابن الزبعرى فقال : ما شأنكم ؟ قالوا : شتم محمد آلهتنا قال : وما قال ؟ قالوا : قال : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون قال : ادعوه لي ، فدعي محمد صلى الله عليه وسلم .
فقال ابن الزبعرى : يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله ؟ قال : بل لكل من عبد من دون الله عز وجل ، قال : فقال : خصمناه ورب هذه البنية ، يا محمد ألست تزعم أن عيسى عبد صالح وعزيرا عبد صالح ، والملائكة عباد صالحون ، قال : بلى ، قال : فهذه النصارى يعبدون عيسى وهذه اليهود تعبد عزيرا وهذه بنو مليح تعبد الملائكة ، قال : فضج أهل مكة فنزلت : (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) ( ) عيسى وعزير والملائكة أولئك عنها مبعدون , قال : ونزلت : ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ( ).
الثانية : من الإعجاز في خاتمة آية السياق أنها قيدت النصر بأنه يأتي للنبي وأصحابه كأمة متحدة يكون الجامع هو النبوة والوحي وتعظيم شعائر الله، فلم يسأل الربيون النصر لهم كأشخاص أو طائفة أو أبناء جنس وقومية مخصوصة، كما أنهم قيدوا الطرف الأخر الذي سأل النصر عليه بأمور:
الأول : إنهم قوم، وهم الجماعة والطائفة من الناس يجمعهم جامع يقومون له، لتكون من ذات التسمية ذماً لهم، وتقبيحاً لفعلهم إذ أن الجامع هو الكفر والضلالة.
وفي الآية شاهد بأن الربيين لم يدع بعضهم على البعض، ولم تتمنى طائفة منهم أن تنتصر على أخرى، إنما عدوهم المشترك هم الكفار الذين أصروا على الجحود والعناد.
الثاني : إتصاف الكفار بالجحود والإقامة على الكفر .
الثالث :إصرار الكافرين على قتال النبي وأصحابه مع أنهم رحمة وسبيل نجاة لهم.
الثالثة : في الجمع بين خاتمتي الآيتين تأديب للمسلمين بالإقتداء بالربيين وعدم دعاء بعضهم على بعض، وقد أثنى الله عز وجل على المسلمين فسماهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ليكون تآلفهم وحصر دعائهم على غيرهم وإرادة خصوص الكفار الذين يقاتلون من باب الأولوية القطعية، وقد حبب الله عز وجل للمسلمين الدعاء وجعل لهم مواطن لرجحان الإستجابة كالحرم وأوقات مباركة للدعاء منها يوم الجمعة .
عن أنس بن مالك قال : عرضت الجمعة على رسول الله صلى الله عليه و سلم جاء جبريل في كفه كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء .
فقال ما هذه يا جبريل قال هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدا ولقومك من بعدك ولكم فيها خير تكون أنت الأول ويكون اليهود والنصارى من بعدك وفيها ساعة لا يدعو أحد ربه بخير هو له قسم إلا أعطاه أو يتعوذ من شر إلا دفع عنه ما هو أعظم منه ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد.
وذلك أن ربك اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة نزل من عليين فجلس على كرسيه ،وحف الكرسي بمنابر من ذهب مكللة بالجواهر .
وجاء الصديقون والشهداء فجلسوا عليها ،وجاء أهل الغرف من غرفهم حتى يجلسوا على الكثيب وهو كثيب أبيض من مسك أذفر ثم يتجلى لهم فيقول انا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي وهذا محل كرامتي فسلوني فيسألونه الرضا فيقول رضاي أحلكم داري وأنالكم كرامتي فسلوني فيسألونه الرضا الرضا فيشهد عليهم على الرضا ثم يفتح لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر إلى مقدار منصرفهم من الجمعة وهي زبرجدة خضراء أو ياقوتة حمراء مطردة فيها أنهارها متدلية فيها ثمارها فيها أزواجها وخدمها فليس هم في الجنة بأشوق منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا نظرا إلى ربهم عز و جل وكرامته ولذلك دعي يوم المزيد( ).
الرابعة : لقد تكرر ضمير المتكلم(نا) في آية السياق سبع مرات مع قلة كلمات الآية لبيان إتحاد الغاية الحميدة التي يسعى ويجاهد من أجلها الربيون وأنهم كانوا أمة واحدة في الخير والصلاح، ومن ضروب التأديب في دعاء الربيين وإتحادهم فيه أن الله عز وجل يحب سماع المسلمين متحدين في المسألة والدعاء ذي صبغة الإيمان لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين] وسيأتي في التفسير أن كل فرد من مضامين آية السياق والآية التي قبلها من الإحسان الذي يتعلق به موضوع هذه الآية .
الخامسة : يحتمل دعاء الربيين النصر على الكافرين بلحاظ خاتمة آية البحث وجوهاً:
الأول : إنه من الإحسان للذات، فالربيون محسنون لأنفسهم في دعائهم وسؤالهم النصر على الكافرين لما فيه من أمور وغايات حميدة منها:
الأولى : الأمن والسلامة من بطش وكيد الكافرين.
الثانية : إقامة شعائر الله، وأداء الفرائض من غير خوف أو فزع من الكافرين وظلمهم.
الثالثة : عمارة أسواق المسلمين، وعنايتهم بالزراعات والمكاسب لعدم إضطرارهم لتكرار الخروج إلى ميادين القتال.
الرابعة : دعوة الناس للإسلام من غير صدّ ومنع من رؤساء الكفر والضلالة .
وعن عبيد بن رفاعة الزرقي عن أبيه قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : استووا حتى أثني على ربي قال : فصاروا خلفه صفوفا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم لك الحمد كله لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولا هادي لما أضللت ولا مضل لمن هديت ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت .
اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك اللهم إني أسألك النعمي المقيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف اللهم عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت منا .
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق( ).
الخامسة : نشر وإفشاء أنباء بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس .
السادسة : إعانة ذات الكافرين على دخول الإسلام لأن هزيمتهم مناسبة لتقريرهم وإعترافهم بوجوب الإيمان وضروب الإضرار التي يجلبها الكفر على أهله .
السابعة : إلحاق الخزي بالكفار .
الثامنة : النصر على الكفار في الدنيا مقدمة لعذابهم في الآخرة [عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ يَا رَبِّ قَالَ فَيُقَالُ لَقَدْ سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ] ( ).
التاسعة : وفي دعاء الربيين الذي توثقه آية السياق ثناء على الربيين ودلالة على صدق إيمانهم وحسن ظنهم بالله ورجائهم الأمن والسلامة من كيد العدو بالدعاء (عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما ينجيكم من عدوكم ويدر لكم أرزاقكم ؟ تدعون الله في ليلكم ونهاركم ، فإن الدعاء سلاح المؤمن)( ).
العاشرة : تدل آية السياق على تيقن الربيون من الإستجابة من جهات :
الأولى : حصر قول الربيين بالإستغفار والدعاء .
الثانية : إشتراك الربيين بالدعاء وصيغه وكأن فيه دلالة على أن مضامين الدعاء الواردة في آية السياق من الوحي وتلقين نبي الزمان للربيين ، لتكون هذه الأدعية كنزاً عند المسلمين وإلى يوم القيامة .
الثالثة : تعدد صيغ ومواضيع دعاء الربيين ، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) إذ تبين الآية أعلاه كيفية أو زمان أو حال مخصوص للدعاء.
الرابعة : تقديم الربيين الإستغفار على الدعاء والمسألة رجاء قبول الدعاء .
الخامسة : إنقطاع الربيين إلى الدعاء والذي يدل على الحاحهم وعدم الإستعجال فيه ، (عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل)( ).
الحادي عشرة : تأمين الربيين بعضهم على دعاء بعضهم الآخر.
الثاني : بدعاء الربيين النصر على الكافرين إحسان للناس من حولهم من جهات :
الأولى : بيان الإعجاز بتحقق النصر على الكافرين .
الثانية : إنقاذ الناس من براثن الكفر ومستنقع الضلالة .
الثالثة : إصابة الكافرين بالضعف والوهن والعجز عن إفتتان الناس بهم.
الرابعة : جذب الناس لرياض الدعاء ، وتنمية ملكة السعي لقضاء الحاجات بالدعاء .
الخامسة : تأديب الناس باظهار الربيين الخشوع والخضوع لله عز وجل في الدعاء والمسألة .
السادسة : بيان المدد والقوة الإضافية للمؤمنين باللجوء إلى الدعاء وإفتقار الكفار لمثل هذا السلاح المبارك .
السابعة : دعوة الناس للتطلع إلى فيوضات الدعاء وتجليات منافعه بتحقق النصر والغلبة على الكفار وفي قصة أهل الكهف قال مجاهد [ كان أصحاب الكهف أبناء عظماء أهل مدينتهم وأهل شرفهم ، خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد ، فقال رجل منهم – هو أشبههم – : إني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده . قالوا : ما تجد؟ قال : أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض . فقاموا جميعاً فقالوا : { ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططاً }( ) وكان مع ذلك من حديثهم وأمرهم ما قد ذكر الله في القرآن .
فأجمعوا أن يدخلوا الكهف وعلى مدينتهم إذ ذاك جبار يقال له ( دقيوس ) فلبثوا في الكهف ما شاء الله رقوداً ، ثم بعثهم الله فبعثوا أحدهم ليبتاع لهم طعاماً .
فلما خرج إذا هم بحظيرة على باب الكهف ، فقال : ما كانت هذه ههنا عشية أمس . فسمع كلاما من كلام المسلمين بذكر الله – وكان الناس قد أسلموا بعدهم وملك عليهم رجل صالح – فظن أنه أخطأ الطريق ، فجعل ينظر إلى مدينته التي خرج منها وإلى مدينتين وجاهها ، أسماؤهن : اقسوس وايديوس وشاموس . فيقول : ما أخطأت الطريق – هذه اقسوس وايديوس وشاموس.
فعمد إلى مدينته التي خرج منها ، ثم عمد حتى جاء السوق فوضع ورقة( ) في يد رجل ، فنظر فإذا ورق ليست بورق الناس ، فانطلق به إلى الملك وهو خائف فسأله .
وقال : لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيوس ، فإني قد كنت أدعو الله أن يرينيهم وأن يعلمني مكانهم . ودعا مشيخة أهل القرية – وكان رجل منهم قد كان عنده أسماؤهم وأنسابهم – فسألهم فأخبروه ، فسأل الفتى فقال : صدق .
وانطلق الملك وأهل المدينة معه لأن يدلهم على أصحابه ، حتى إذا دنوا من الكهف سمع الفتية حسّ الناس فقالوا : أتيتم . . . ظهر على صاحبكم ، فاعتنق بعضهم بعضاً وجعل يوصي بعضهم بعضاً بدينهم ، فلما دنا الفتى منهم أرسلوه ، فلما قدم إلى أصحابه ماتوا عند ذلك ميتة الحق . فلما نظر إليهم الملك شق عليه أن لم يقدر عليهم أحياء ، وقال : لا أدفنهم إذاً ، فائتوني بصندوق من ذهب . فأتاه آت منهم في المنام فقال : أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب ، فلا تفعل ودعنا في كهفنا ، فمن التراب خلقنا وإليه نعود . فتركهم في كهفهم وبنى على كهفهم مسجداً) ( ).
الثالث : في دعاء الربيين النصر إحسان إلى ذويهم وعوائلهم من جهات :
الأولى : حث الأهل على الدعاء وسؤال النصر على الكافرين .
الثانية : إعانة الأهل والعوائل للربيين في دعائهم .
الثالثة : تأمين العيال على دعاء الربيين ، وإذا كان ثبات الأقدام والقتال في المعركة والمرابطة أمور خاصة بالربيين الذكور ، فان باب الدعاء في ذات الموضوعات يشمل عيالهم وأسرهم وذراريهم ، ويحتمل دعاء العيال في المقام وجوهاً :
الأول : إتحاد صيغة الإستغفار في الآية بين الربيين وعوائلهم إذ تقول العوائل ذات الدعاء : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا .
الثاني : الدعاء للربيين وسؤال المغفرة لهم ، لأنها طريق إلى النصر ، وواقية من الهزيمة .
الثالث : سؤال العوائل جميع مضامين آية السياق فيقولون بصيغة المتكلم [ْثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]بلحاظ أن صبر ومدافعة الربيين للعدو في مواطن القتال هو نصر للأمة وحفظ للأهل والعرض والمال .
الرابع : قول العيال وثبت أقدام الربيين وأنصرهم على القوم الكافرين بصيغة الغائب .
الخامس : إعانة الربيين على الدعاء والإنقطاع إليه .
السادس : تذكير الربيين بلزوم الدعاء ، وهذا التذكير لا يتعارض مع إقتباس العوائل من الربيين الحاجة إلى الدعاء وكيفيته والإلحاح به .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية السياق والمندوحة في الدعاء ، وعمومات قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )أي سواء كان الدعاء للنفس أو الغير وبالذات أو بالواسطة ، بلحاظ أن الدعاء للربيين فيه نفع لهم ولعوائلهم وأبنائهم .
الرابع : دعاء الربيين الوارد في آية السياق إحسان للكافرين أنفسهم ، وتلك آية في مصاديق الرحمة في بعثة الأنبياء ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( )ويتضمن دعاء الربيين في المقام أموراً :
الأول : دعاء الربيين الوارد في آية السياق إنذار للكافرين من جهات :
الأولى : بيان قوة عزيمة الربيين وإصرارهم على الثبات في منازل القتال .
الثانية : سعي الربيين للنصر على القوم الكافرين .
الثالثة : يكشف دعاء الربيين عن حقيقة وهي أن موت أو قتل نبي زمانهم لا يثنيهم عن القتال والمرابطة وهو من مصاديق ما تقدم قبل أربع آيات [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
ويمكن إستنتاج قاعدة بسلامة المسلمين من الإنقلاب والإرتداد وفق القياس الإقتراني وهي :
الكبرى : الربيون لم ينقلبوا أو يرتدوا بعد فقد أنبيائهم .
الصغرى : المؤمنون ربيون .
النتيجة : المؤمنون لن ينقلبوا أو يرتدوا بعد فقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : دعاء الربيين شاهد على إستعدادهم لمواصلة القتال وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب الكافرين .
الثاني : دلالة سؤال الربيين النصر على الكافرين على تفقه الربيين في المعارف الإلهية ، وأن النصر يأتي من عند الله عز وجل ببيان التضاد بين الإيمان والكفر ، وأن لا سبيل للتنزه من الكفر إلا بالنصر على الكافرين .
فان قلت قد يدخل الكفار في الإسلام وتصلح أمورهم ، والجواب إنه من مصاديق النصر الذي سأله الربيون من عند الله ، وقد تحقق مصداقه في معارك الإسلام الأولى وفي صلح الحديبية وفي فتح مكة الذي كان نصراً على الكافرين ، وكان سبباً بدخول قريش الإسلام .
عن مجمع ابن جارية الأنصاري قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إلى كراع الغميم إذا الناس يوجفون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته على كراع الغميم فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً }( ) .
فقال رجل : يا رسول الله : أو فتح هو؟ قال : والذي نفس محمد بيده إنه لفتح , فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية عشر سهماً ، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس ، فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهماً]( ).
الثالث : من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض دعاء الربيين بالنصر على الكافرين وتفضل الله عز وجل وجعل دعاءهم آية في القرآن ليتلوها المسلمون والمسلمات كل يوم على نحو الوجوب في الصلاة , والندب في خارجها , لتكون سؤالاً مستحدثاً وإلحاحاً في الدعاء ، وينال المسلمون والمسلمات مرتبة المحسنين الذين ذكرتهم خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( )من وجوه :
الأول : ذكر المسلمين للربيين وخصالهم الحميدة بالإستغفار والدعاء .
الثاني : إقتداء المسلمين بالربيين .
الثالث : ثناء المسلمين على الربيين بدعائهم بالنصر على الكافرين .
الرابع : شهادة المسلمين على الكفار بمحاربتهم للأنبياء وأصحابهم ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ) (عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أنا وأمَّتي يوم القيامة على كَوْم مُشرفين على الخلائق. ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منَّا. وما من نبي كَذَّبه قومه إلا ونحن نشهدُ أنه قد بلغ رسالةَ ربه، عز وجل] ( ) .
الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( )، وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فآتاهم الله ثواب الدنيا .
الثاني : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فآتاهم الله حسن ثواب الآخرة .
الثالث : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير والله يحب المحسنين.
الرابع : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله فآتاهم الله ثواب الدنيا .
الخامس : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله فآتاهم الله حسن ثواب الآخرة .
السادس : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله والله يحب المحسنين .
السابع : وما ضعفوا فآتاهم الله ثواب الدنيا .
الثامن : وما ضعفوا فآتاهم الله حسن ثواب الآخرة .
التاسع : وما ضعفوا والله يحب المحسنين .
العاشر : وما استكانوا فآتاهم الله ثواب الدنيا .
الحادي عشر : وما أستكانوا فآتاهم الله حسن ثواب الآخرة .
الثاني عشر : وما استكانوا والله يحب المحسنين .
الثالث عشر : والله يحب الصابرين فأتاهم الله ثواب الدنيا .
الرابع عشر : والله يحب الصابرين فآتاهم الله حسن ثواب الآخرة .
الخامس عشر : والله يحب الصابرين والله يحب المحسنين .
المسألة الثانية : إبتدأت آية البحث بكلمة [فآتاهم ] التي تتكون من ثلاثة أفراد وفق الصناعة النحوية وهي :
الأول : الفاء التي تربط السبب بالمسبب .
الثاني : الفعل الذي يدل على وقوع الفعل في الزمن الماضي .
الثالث : الضمير الذي على يدل على المفعول به .
ومثل هذه الكلمة يكون المفعول به ضميراً ، وهو هنا الضمير [هم] ولابد أنه يعود لاسم جماعة تقدم عليه ، وهو في المقام [ربيون] الوارد في آية السياق بقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]وتلك آية في إكرام الربيين بأن تأتي آيات متعددة ومتوالية تتضمن أموراً :
الأول : بيان الخصال الحميدة للربيين .
الثاني : الثناء على الربيين بالدليل والبرهان ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( )، بلحاظ أن هذا الثناء في القرآن من النعمة الإلهية والمن الجميل على الربيين .
الثالث : تعريف الربيين في الإصطلاح العقائدي والكلامي ، وهم أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم في سبيل الله ولم يضعفوا أو يذلوا لغير الله، والصابرون الذين إنقطعوا للإستغفار والدعاء من منازل العز الإيماني لإختتام دعائهم بسؤال النصر [عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ].
الرابع : بيان مضامين دعاء الربيين لتأديب المسلمين وهدايتهم إلى كيفية الدعاء .
ومن خصائص مجئ الضمير [هم] في [فآتاهم ] مسائل :
الأولى : بيان أن مضامين آية البحث تختص بالربيين ، وهذا لا يعني القصر في الموضوع والحكم ، إذ تنزل الآية في موضوع وسبب ولكن مضامينها أعم في دلالتها ، وهي غضة طرية في أحكامها إلى يوم القيامة .
المسألة الثالثة : لما ذكرت آية السياق [ الربيين ] وصفات الحسن والبهاء التي يمتازون بها بين الناس بالإيمان ونصرة نبي زمانهم جاءت هذه الآية لبيان الثواب العظيم الذي رزقهم الله عز وجل ، وفيه نكتة وهي أن الثواب لا ينحصر بعالم الآخرة بل يشمل أيامهم في الحياة الدنيا , وفيه مسائل :
الأولى : تزكية عمل الربيين .
الثانية : استحقاق أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم لنيل المراتب العالية .
الثالثة : بيان الإطلاق في قوله تعالى [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وأنه ملك تدبير وتصرف يتنعم فيه المؤمنون بالفضل الإلهي .
الرابعة : ترغيب المسلمين بثواب الدنيا بالدعاء والصلاح ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] ( ) [وأخرج أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال : وجدت في كتاب من كتب الله المنزلة أن الله عز وجل يقول : إني مع عبدي المؤمن حين يطيعني أعطيه قبل أن يسألني ، واستجيب له قبل أن يدعوني ، وما ترددت في شيء ترددي عن قبض عبدي المؤمن إنه يكره ذلك ويسوءه وأنا أكره أن أسوءه ، وليس له منه بد ، وما عندي خير له ، إن عبدي إذا أطاعني واتبع أمري فلو أجلبت عليه السموات السبع ومن فيهن والأرضون السبع بمن فيهن جعلت له من بين ذلك المخرج ، وإنه إذا عصاني ولم يتبع أمري قطعت يديه من أسباب السماء وخسفت به الأرض من تحت قدميه ، وتركته في الأهواء لا ينتصر من شيء ، إن سلطان الأرض موضوع خامد عندي كما يضع أحدكم سلاحه عنه ، لا يقطع سيف إلا بيد ، ولا يضرب سوط إلا بيد ، لا يصل من ذلك إلى شيء إلا بإذني] ( ) .
الخامسة : مع كثرة عدد الربيين مع كل نبي في زمانه فان الله عز وجل يتفضل عليهم جميعاً بالثواب ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل الثواب من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة أم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، فيحتمل الثواب أموراً :
الأول : التساوي بين الربيين في الثواب .
الثاني : يكون مقدار الثواب على قدر الفعل العبادي وسنن الصلاح .
الثالث : ثواب الربيين بحسب الحاجة وموضوع السؤال.
الثانية : يحتمل إختصاص الثواب الدنيوي للربيين وجوهاً :
الأول : يأتي الثواب للربيين في أيام حياة نبي زمانهم.
الثاني : ينال الربيون الثواب ساعة قتالهم الكفار وعند الدعاء والعبادة .
الثالث : إرادة الإطلاق في ثواب الربيين في أيام حياتهم الدنيا ،فان قلت إن قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) يفيد الفورية والجواب هذا صحيح , ولكن موضوع الأمر أعم فقد ينبسط على آنات الزمان كلها أو خصوص أيام الربيين أو أوان الأمر ، وتدل آية البحث على إرادة المعنى الأول وهو من مصاديق [إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ). فيأتي الثواب للربيين على وجوه:
الأول : الثواب الخاص بكل فرد منهم ، قال تعالى [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا]( ).
الثاني : الثواب الذي يتغشى ذوي قربى كل واحد منهم .
الثالث: الثواب الذي يفوز به الربيون أصحاب كل نبي على نحو التعيين .
الرابع : الثواب العظيم الذي يكون سور الموجبة الكلية لطبقات الربيين المتعاقبة وإن تعدد الأنبياء الذين قاتلوا معه .
أما بالنسبة للمسألة الأولى فالثواب أعم وأعظم من الوجوه أعلاه ، فمن فضل الله عز وجل على العباد أنه يعطي الكثير بالقليل ، والأمور الثلاثة أعلاه من مصاديق آية البحث وما فيها من الثناء الجميل على الله عز وجل لحسن جزائه وعظيم ثوابه للربيين
وأما المسألة الثانية أعلاه، فالصحيح هو الوجه الثالث ويكون الوجهان الأولان في طوله لبيان فضل الله وسعة رحمته .
المسألة الرابعة : إبتدأت آية السياق بصيغة التشبيه التشريفي [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ] لتكون هذه الصيغة دعوة للمسلمين للتفقه في الدين ومعرفة أحوال الأمم وفضل الله عز وجل في النبوة والوحي وأن عمل الأنبياء لا يختص بالتبليغ والدعوة اللسانية إلى الله عز وجل بل يشمل الجهاد وخوض المعارك .
نعم تتضمن الآية الإخبار عن قتال شطر من الأنبياء وليس جميعهم بدليل التبعيض في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ] وقد تقدم في الجزء الثامن عشر بعد المائة أن المراد من المشبه به في آية السياق هو بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأن كثيراً من الأنبياء كانوا يقاتلون كما يقاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القوم الكافرين ومعهم أصحاب مخلصون في طاعتهم لله والنبي .
والأصل في التشبيه أن يكون المشبه به هو الأظهر والأبين في طرفي أو ركني التشبيه للدلالة على أن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتالية هي الأظهر وإلى يوم القيامة من وجوه :
الأول : سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأظهر في آيات القرآن ، وما تتضمنه من توجه الأمر الإلهي له بالقتال قال تعالى [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وبيان سنته في ساحات الوغى بالذات وبالأمر إلى أمراء السرايا والكتائب ليكون تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صيغ التشبيه في الآية من وجوه :
الأول : لقد قاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قاتل الكفار وحارب المنافقين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ), وكذا الأنبياء السابقون فقد قاتلوا الكفار .
الثاني : تأكيد قانون وهو أن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكافرين أمر جلي وظاهر للناس وإلى يوم القيامة .
الثالث : دعوة الناس لإستقراء المواعظ والعبر من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتالية ، قال تعالى [فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ] ( ).
الرابع : بيان الثواب العظيم الذي ينتظر أمة محمد في صبرهم وجهادهم وفي المرسل (عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ، ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منا ، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه)( ).
الخامس : تزكية فعل وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية لأنها من إتحاد سنخية النبوة .
السادس : ثناء الأجيال المتعاقبة على الأنبياء السابقين ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتوثيق السماوي في القرآن لحياة الربيين إذ تبين آية السياق والبحث مسائل :
الأولى : بعثة أنبياء كثيرين قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : قتال الأنبياء في سبيل الله .
الثالثة : وجود أمة مخلصة تقاتل مع كل نبي ، وفي قوله تعالى بخصوص نبي الله موسى وقومه [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ] ( ) ورد (عن ابن عباس قال : هي مدينة الجبارين ، لما نزل بها موسى وقومه بعث منهم اثني عشر رجلاً ، وهم النقباء الذين ذكرهم الله تعالى ليأتوهم بخبرهم ، فساروا فلقيهم رجل من الجبارين فجعلهم في كساءته ، فحملهم حتى أتى بهم المدينة ونادى في قومه : فاجتمعوا إليه فقالوا : من أنتم؟ .
قالوا : نحن قوم موسى بعثنا لنأتيه بخبركم ، فأعطوهم حبة من عنب تكفي الرجل ، وقالوا لهم : اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم : أقدروا قدر فاكهتهم ، فلما أتوهم قالوا : يا موسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون }( ) { فقال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما } وكانا من أهل المدينة أسلما واتبعا موسى ، فقالا لموسى { ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون}( ).
الرابعة : إتصاف أصحاب كل نبي بالكثرة وهذه الكثرة مركبة ومتعددة بلحاظ كبرى كلية وهي أن أصحاب الأنبياء أعم من الذين يقاتلون معهم ، فيشمل :
الأول : ذوو الأعذار كالمريض والأعمى والأعرج (عن قتادة { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء }( ) قال : ظنوا بنبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أنهم لن يرجعوا من وجههم ذلك ، وأنهم سيهلكون ، فذلك الذي خلفهم عن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم كاذبون بما يقولون { سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها } قال : هم الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زمن الحديبية كذلكم قال الله من قبل قال : إنما جعلت الغنيمة لأجل الجهاد إنما كانت غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد } ( ) .
قال : فدعوا يوم حنين إلى هوازن وثقيف فمنهم من أحسن الإِجابة ، ورغب في الجهاد ، ثم عذر الله أهل العذر من الناس ، فقال : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج)( ).
الثاني : الذين يتخلفون عن القتال قصوراً وتقصيراً ولا تشملهم مضامين آية السياق والفعل للملازمة بين الجهاد وثوابه ولخروجهم من معنى وصفة الربيين بالتخصص .
الثالث : النساء إذ وضع عنهن القتال ويكون جهاد النساء بحسن التبعل .
الرابع : أصحاب الأنبياء من الذين بعدت الشقة عليهم .
الخامس : الذين يخفون إيمانهم بالنبوة خشية الظالمين ، وجاءت آية البحث لخصوص ثواب الربيين الذين قاتلوا مع الأنبياء من غير أن تنفي ثواب غيرهم ، لأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن سواه خاصة وأن الله عز وجل واسع الفضل ، عظيم الإحسان ، يثني على نفسه بهذه الآيات بأن يهب الثواب العظيم الدائم على الفعل القليل في ذاته ومدته ومكانه .
المسألة الخامسة : يدل قتال الأنبياء وأصحابهم الكثيرين للقوم الكافرين على حقيقة من جهات :
الأولى : كثرة عدد الكافرين .
الثانية : بذل الكافرين الوسع عناداً وجهلاً في الحرب على الإسلام والنبوة .
الثالثة : صدق النبوة ومعجزاتها بدليل كثرة الذين آمنوا بالنبي وقاتلوا معه وبذلوا مهجهم في الحرب على الكفر والضلالة .
الرابعة : ذات الإيمان والتصديق بالنبوة جهاد ضد الكفر مع كونه جهاداً مع النفس الشهوية ومع العادة والموروث من العادات السيئة ، كما تجلى في ذم الكفار حينما جادل إبراهيم عليه السلام أباه وقومه وإحتج على عبادتهم الأوثان [قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ] ( ).
لينقطع هذا التوارث ببعثة النبي إبراهيم والربيين الذين معه فيخرج جيل جديد من الأبناء يتصفون بالإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا]بذرية صالحة يتجدد معها الثواب لهم (وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب، أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك( ).
المسألة السادسة : أخبرت آية السياق عن إيمان الربيين بالله والأنبياء والذي يترشح عنه العمل بما جاء به الأنبياء من الأوامر وإجتناب ما نهوا عنه من أسباب الضلالة والجحود، ويحتمل قتال الربيين بقوله تعالى[قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( )، وجوهاً :
الأول : قتال الربيين من طاعتهم لله عز وجل.
الثاني : قتال الربيين طاعة لنبي زمانهم ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
الثالث : كان قتال أصحاب الأنبياء ضرورة دفاعية عن الأنبياء وعن أنفسهم، فقد جعلهم الكفار بين أمرين: أما السلة وإما القتل والأسر، أي إما سل السيوف والقتال أو الإجهاز عليهم من قبل الكفار.
الرابع : قاتل أصحاب الأنبياء في الغزو والفتح وجلب الناس للإيمان.
الخامس : التفصيل، فمرة يقاتل الربيون دفاعاً وأخرى في الهجوم وطلب القوم الكافرين، وحملهم على دخول الإسلام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها في مرضاة الله، فلذا أخبرت آية البحث عن تفضل الله باتيان الربيين الثواب العاجل في الدنيا لبيان قانون كلي من رحمة الله بأهل الأرض، وهو أن الذي يقاتل في سبيل الله يكون الثواب قريباً منه، وحاضراً عنده ليكون سلاحاً إضافياً في قتال الكفار في تيسير أمور حياته وكسبه فلا يكون في ضائقة وضراء .
وإذا قيل بأن الجيوش تزحف على بطونها أي أنها تحتاج الزاد والغذاء في قتالها فان الله عز وجل جعل المؤمنين في أمن في هذا الباب فضمن لهم ولعوائلهم حسن المعاش والعاقبة الكريمة وتجلت أبهى الشواهد في بدايات الإسلام، إذ قاتل المسلمون مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في حال فقر وعوز فلم تمر الأيام والشهور حتى صارت المدينة المنورة مركزاً تجارياً، وأقبلت الغنائم وشاع الرخاء بين الناس، وجاءت التجارات إليها من الشام وأقبل الناس على الشراء، ويدل عليه قوله تعالى[وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا]( ) .
وعن ابن مالك قال: قدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه، قال: فنزلت( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)( ).
المسألة السابعة : تبين الفاء في [فَآتَاهُمْ اللَّهُ] قانوناً وهو أن الثواب متعقب للإيمان والجهاد والبذل في سبيل الله، فلم تبدأ الآية بحرف العطف (الواو) الذي يفيد الجمع، بل إبتدأت بالفاء لترتيب المسُبب على السبب، والمعلول على العلة ،فلما أظهر الربيون العزم على مواصلة القتال تحت لواء الأنبياء بعصمة من الكلل والملل، وسلامة من الوهن والضعف مع الأضرار التي داهمتهم لقوله تعالى[فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )، جاء الثواب العظيم من الله عز وجل ليكون على وجوه:
الأول : إنه عرض وبدل كريم عن الخسارة التي لحقت الربيين.
الثاني : هذا الثواب مواساة من عند الله للمؤمنين وعوائلهم.
الثالث : إنه سبيل لزيادة إيمان الربيين، قال تعالى[وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى]( ).
الرابع : تفضل الله برجحان كفة الربيين بالثواب العاجل الذي يأتيهم، وهل يختص هذا الثواب بهم أم يشمل التابعين الجواب هو الثاني.
فمن خصائص الثواب الإلهي أنه لا يغادر الأرض وتبقى منافعه توليدية، ومنه آية البحث وقوله تعالى[فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] فمن مصاديق ومعاني آية البحث أنها من الثواب الدنيوي للربيين، ليكون من اللامتناهي في مدته ونفعه وعدد الذين يتلونه من المسلمين والمسلمات.
المسألة الثامنة : أخبرت آية السياق عن حقيقة وهي أن الربيين لم يضعفوا في القتال، ولم يذلوا أو يخضعوا للقوم الكافرين، ترى ما هي منافع عدم الضعف هذا ،فيه وجوه:
الأول : بيان المصداق العملي لعز المؤمنين.
ولقد ورد قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، مطلقاً من غير تقييد بحال المسلمين، مع أن سبب نزول الآية خاص، عن عكرمة أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول كان يقال له حباب، فسماه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم عبد الله، فقال: يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله، فذرني حتى أقتله ، فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم: “لا تَقْتُلْ أبَاكَ عَبْدَ اللهِ”، ثم جاء أيضًا فقال: يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله، فذرني حتى أقتله .
فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم: لا تَقْتُلْ أباك”.
فقال: يا رسول الله فتوضأ حتى أسقيه من وضوئك لعلّ قلبه أن يلين، فتوضأ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم فأعطاه، فذهب به إلى أبيه فسقاه، ثم قال له: هل تدري ما سقيتك؟ فقال له والده نعم، سقيتني بول أمك، فقال له ابنه: لا والله، ولكن سقيتك وضوء رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم؛ قال عكرمة: وكان عبد الله بن أُبيّ عظيم الشأن فيهم. وفيهم أنزلت هذه الآية في المنافقين:( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ) ( ) وهو الذي قال:( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) .
قال : فلما بلغوا المدينة، مدينة الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم ومن معه، أخذ ابنه السيف ، ثم قال لوالده: أنت تزعم “لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلّ”، فوالله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم. ( )
فان قيل يستقرأ التعيين بخصوص المؤمنين من المسلمين من أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ ذكر لفظ (الرسول) ونظم الآية، الجواب من وجوه :
الأول : أصل العزة لله عز وجل وحده، قال سبحانه[فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا]( )، لتأتي العزة للرسول والمؤمنين إشتقاقاً من عزة الله.
الثاني : دلالة كل من آية البحث والسياق على أن العزة للربيين بفضل الله من جهات:
الأولى : إيمان الربيين بالله عز لهم.
الثانية : قتال الربيين مع النبي.
الثالثة : تعيين غاية القتال، وأنه في سبيل الله، وأخرج عبد الله بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، كل درجتين بينهما كما بين السماء والأرض( ).
الرابعة : سلامة الربيين من الوهن والخور والجبن.
الخامسة : عصمة الربيين من الضعف والإستكانة والذل في ساحات القتال وخارجها.
السادسة : نيل الربيين مرتبة الصبر ،وحبس النفس في مرضاة الله، [وقال الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد: أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب؟.
قال: فيقوم عُنُق من الناس، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون: وقبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: الصابرون، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا عن معصية الله، حتى توفانا الله. قالوا: أنتم كما قلتم، ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين] ( ).
السابعة : إخبار آية السياق عن حب الله للصابرين ومن مصاديق الحب في المقام نزول رشحات العز والرفعة على الربيين .
الثامنة : ثبات الربيين في مقامات الإيمان وهذا الثبات من معاني ورشحات نسبتهم بالاسم إلى الله عز وجل وربوبيته المطلقة .
التاسعة : كثرة عدد الربيين مع كل نبي فلم تقل آية السياق : وكأين من أنبياء قاتل معهم ربيون كثير ) وهذه الدقة اللفظية من إعجاز القرآن من وجوه :
الأول : تأكيد عز المؤمنين .
الثاني : منع الترديد ونفي الإجمال .
الثالث : الدلالة على تجلي معجزة كل نبي للناس .
الرابع : فضل الله على كل نبي بكثرة أصحابه الذين يقاتلون معه .
وتدل آية السياق بالدلالة الإلتزامية على وجود أصحاب للأنبياء لم يقاتلوا معهم لعذر ونحوه وذكرهم القرآن بإصطلاح (القاعدين ) والذي ورد ست مرات في القرآن .
(عن زيد بن ثابت قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وآله وسلم فغشيته السكينة ، فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم سري عنه : فقال : اكتب . فكتبت في كتف { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله }( ) إلى آخر الآية .
فقال ابن أم مكتوم – وكان رجلاً أعمى – لما سمع فضل المجاهدين : يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، فوجدت ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى ، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اقرأ يا زيد .
فقرأت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اكتب { غير أولي الضرر)( ).
وتتضمن الآية أعلاه الثناء على المجاهدين ، وكذا القاعدين من جهات :
الأولى : تقييد صفة القاعدين بأنهم من المؤمنين ، مما يدل على ترشح معاني العز والرفعة عليهم .
الثانية : قبول الله عز وجل لعذر ذوي الأعذار ،وصيرورة ابن أم مكتوم مثالاً وهو أعمى .
الثالثة : دلالة الآية أعلاه على معنى وهو أن ذوي الأعذار من المؤمنين يلحقون بالمجاهدين في المرتبة والثواب ، أما القاعدون من المؤمنين من غير عذر فهم متخلفون رتبة وشأناً عن المجاهدين في سبيل الله وعن ذوي الأعذار .
فيخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للغزو والدفاع ويبعث السرايا ، ليبقى القاعدون في المدينة ومع هذا فهم على مراتب فذوو الأعذار لا يستحيون من هذا البقاء والتخلف مع النساء والصبيان ، فلذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل ابن أم مكتوم على المدينة عند مغادرته لها .
وأما الذين ليس لهم عذر في القعود والتخلف فيكونون محل ذم من عموم المسلمين إلى جانب حرمانهم من الأجر والثواب لتكون الآية أعلاه حرباً على النفاق وفضحاً للمنافقين ، قال تعالى [وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ] ( ).
الخامس : إرادة التحدي بأن من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه سيكون له أصحاب كثيرون يقاتلون معه ، وقد كان كفار قريش وغيرهم من أهل الشك والريب يتربصون بالنبي ويحاولون أن يجدوا تعارضاً أو تزاحماً بين آيات القرآن .
عن ابن إسحاق ، قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث ، وكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ) . . . إلى قوله( وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ).
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عبد الله بن الزّبَعْرى بن قيس بن عديّ السهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزّبَعْرى : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم.
فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمدا: أكلّ من عبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عُزَيرا ، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم ، فعجب الوليد بن المغيرة ومن كان في المجلس من قول عبد الله بن الزّبَعْرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول ابن الزّبَعْرى.
فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نعم كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبد ، إنما يعبدون الشياطين ومن أمرهم بعبادته.
فأنزل الله عليه( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) . . . . إلى( خالِدُونَ ) ” أي عيسى ابن مريم ، وعُزير ، ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذي مضوا على طاعة الله ، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله ، فأنزل الله فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) . . . إلى قوله( نَجْزِي الظَّالِمِينَ )]( ).
لذا قد يقول بعضهم كان مع كل نبي من الأنبياء السابقين أصحاب كثيرون يقاتلون معه ، فهل عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثلهم ، فتفضل الله عز وجل وجعل أصحاب النبي أكثر من أصحاب الأنبياء وأتباعه وأفراد أمته أكثر من أتباع أي نبي بالإضافة إلى معجزات إضافية في المقام وهي :
الأولى : الإزدياد المتتالي في عدد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الناس في الإسلام خصوصاً بعد صلح الحديبية (عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة في قول جابر بن عبد الله ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف)( ).
الثانية : إستعداد أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشهادة الذي يدل بالدلالة التضمنية على مبادرتهم للخروج إلى ساحات القتال في سبيل الله , ويدل عليه ما تقدم قبل بضع آيات [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ]( ).
ان كثرة الداخلين في الإسلام بعد صلح الحديبية آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأنه خرج بأصحابه معتمراً من غير أن يحملوا أسلحة تذكر , وذكر أن صلح الحديبية هو المراد من الفتح في قوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا] ( ) وقرب الفتح في صلح الحديبية من جهات :
الأولى : القرب الزماني إذ أنه سبق فتح مكة بسنتين وكان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة .
الثانية : القرب المكاني فتقع الحديبية موضع الصلح بين مكة والمدينة ، وتبعد عن مكة المكرمة خمسة وعشرين كيلو متراً .
الثالثة : إرادة معنى اليسر والسهولة من القرب في تحقق الفتح والنصر .
الرابع : إقامة الحجة على الناس وتجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يكون فتحاً، ودخول الإيمان لشغاف القلوب (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان ضمادا قدم مكة وكان من ازد شنؤة وكان يرقى من هذه الريح فسمع سفهاء من اهل مكة يقولون ان محمدا مجنون.
فقال لو اني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي قال فلقيه فقال يا محمد اني ارقى من هذه الريح وان الله يشفي على يدي من يشاء فهل لك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله اما بعد.
فقال اعد كلماتك هؤلاء فاعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات.
فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس البحر فقال هات يدك ابايعك على الاسلام.
فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قومك فقال وعلى قومي قال فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فمروا بقومه فقال صاحب السرية للجيش هل اصبتم من هؤلاء شيئا فقال رجل من القوم اصبت منهم مطهرة فقال ردوها فإن هؤلاء قوم ضماد( ) .
أي أن بعث السرية وقع بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، بينما حديث ضماد في مكة قبل الهجرة.
وقد ورد قوله تعالى [فَتْحًا قَرِيبًا] مرتين في القرآن ، والثانية في [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا] ( ) وفي معناه وجوه :
الأول : إرادة فتح خيبر .
الثاني : ذات صلح الحديبية .
الثالث : فتح مكة .
الرابع : المعنى المتعدد أو الجامع للوجوه أعلاه .
المسألة التاسعة : ذكرت آية السياق أن مع كل نبي من الأنبياء السابقين قاتل [ ربيون كثير ] وإذا كان عدد الأنبياء هو مائة وأربعة وعشرون ألف نبي فان كثرة الربيين من اللامتناهي ، نعم ليس كل الأنبياء قاتلوا الكفار ومنهم من يبعث لأسرته وقريته ، وعن أَبِى سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم: يَجِىءُ النَّبِىُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَيَجِىءُ النَّبِىُّ وَمَعَهُ الرَّجُلاَنِ وَيَجِىءُ النَّبِىُّ وَمَعَهُ الثَّلاَثَةُ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلُّ فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ فَيَقُولُ نَعَمْ.
فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ هَلَ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ لاَ. فَيُقَالُ مَنْ شَهِدَ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَتُدْعَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ فَيُقَالُ هَلْ بَلَّغَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ وَمَا عِلْمُكُمْ بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا بِذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا فَصَدَّقْنَاهُ.
قَالَ فَذَلِكُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] ( ).
وذكرت آية السياق تفضل الله عز وجل بالثواب في الدنيا والآخرة على الربيين ، من وجوه :
الأول : فوز كل فرد من الربيين بالثواب الخاص .
الثاني : مجئ الثواب لأصحاب كل نبي من الربيين مجتمعين بلحاظ التباين الزماني ومناسبة الحال فيكون الثواب الدنيوي بلحاظ النفع الأعم بسنن الهداية ، ومنهم من يأتيه الثواب بكثرة النسل ، ومنهم بكثرة المال والتجارات أو الزراعات ، ومنهم من يجمع الله عز وجل له هذه النعم.
الثالث : إرادة معنى زيادة الإيمان والتقوى من الثواب الدنيوي.
الرابع : يكون الثواب الدنيوي توليدياً .
الخامس : من الثواب ما كان عاماً لجميع الربيين من أصحاب الأنبياء على مر التأريخ ، ومنه آية البحث التي تبين ثواب الربيين ، وهذا البيان ذاته ثواب من عند الله .
المسألة العاشرة :تكرر اسم الجلالة مرتين في كل من آية السياق والبحث ، وبصيغة المبتدأ والفاعل والمضاف إليه لبيان تعدد رحمة الله عز وجل بالربيين في الدنيا والآخرة .
وبدأت هذه المرات الأربعة لاسم الجلالة بصيغة المضاف إليه [لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) لبيان قانون كلي وهو أن الربيين إختاروا الجهاد والتفاني في مرضاة الله فجاءهم الفضل منه سبحانه، ومنه تعدد اسم الجلالة في الآيتين من جهات :
الأولى : بيان تفقه الربيين في الدين وأنهم يقاتلون طاعة لله عز وجل ، لذا لم تكن فاصلة وآيات متعددة بين جهادهم وبين الثواب الذي تفضل الله عز وجل به عليهم ، إذ جاءت آية البحث بالإخبار عن فوزهم بخير الدنيا والآخرة ، وسلامتهم من الفزع يوم القيامة لقوله تعالى [وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار( ).
الثانية : تدل آية السياق بالدلالة التضمنية على تصديق الربيين ببعثة نبي زمانهم ، وأنه رسول من عند الله من باب الأولوية القطعية ، لأن قتالهم معه كنبي شاهد على تسليمهم بوجوب السعي لتحقيق الغايات الحميدة التي بعثه الله عز وجل من أجلها ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وجوه :
الأول : تعاقب بعثة الأنبياء .
الثاني : دعوة كل نبي الناس للإيمان وبذل الوسع في جذبهم لطاعة الله .
الثالث :قيام شطر من الأنبياء بالقتال في سبيل الله وهو دليل على تصديقهم بالوحي وأن المعجزات التي جرت على أيديهم من عند الله عز وجل .
الرابع : تعدد الأمصار والبلدان والقرى والأمم التي يبعث فيها الأنبياء، وهو من سعة فضل الله على الناس وأسباب جذبهم للإيمان، فتجد في كل بلد أخبار معجزات مخصوصة ليكون من مواضيع إختلاط الناس وأسفارهم نقل وتبادل أخبار معجزات الأنبياء والبشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه نكتة وهي أن كل اهل بلد أو ملة أو قوم ينقلون أخبار معجزات أحد الأنبياء ولكن أهل هذه البلدان والملل يجتمعون ويشتركون في نقل البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها من سور الموجبة الكلية الذي جاء به الأنبياء السابقون وقاتل دونه الربيون، فلما بعث وجاءه الوحي في مكة إنتشرت أنباء نبوته بسرعة بين الناس، ووجدت آذاناً صاغية تعضدها أخبار بني إسرائيل والرهبان وآيات القرآن .
(وعن أبي موسى قال:خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحولوا رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت قال : وهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال : هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، هذا يبعثه الله رحمة العالمين ، فقال له أشياخ من قريش : وما علمك بذلك ؟ قال : إنكم حين شرفتم من العقبة لم يبق شجر ، ولا حجر ، إلا خر ساجدا ولا تسجد إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة ، أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ثم رجع فصنع لهم طعاما ثم أتاهم وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رعية الإبل قال : أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله قال : انظروا إليه غمامة تظله ، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة فلما جلس مال فيء الشجرة عليه قال : انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه ، فبينما هو قائم عليه وهو يناشدهم أن لا تذهبوا به إلى الروم فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه ، فالتفت فإذا هو بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم .
فقال : ما جاء بكم ؟ قالوا : جئنا فإن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس وإنا بعثنا إلى طريقه هذا ، فقال لهم الراهب : هل خلفتم خلفكم أحدا هو خير منكم ؟ قالوا : لا ، قالوا : إنما أخبرنا خبره فبعثنا إلى طريقك هذا ، قال : أفرأيتم أمرا أراده الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ قالوا : لا ، قال : فبايعوه فبايعوه وأقاموا معه قال : فأتاهم الراهب فقال : أنشدكم الله أيكم وليه ؟ قال أبو طالب : فلم يزل يناشده حتى رده وبعث معه أبو بكر بلالا , وزوده الراهب من الكعك والزيت( ).
الخامس : يحتمل قتال الربيين مع الأنبياء في غايته وجوهاً :
أولاً :حمل الناس على عبادة الله والتصديق بالأنبياء قهراً .
ثانياً : إرادة إظهار نبي الزمان معجزته .
ثالثاً : الجهاد لمنع البرزخ والحاجز بين الناس واهل زمانه ، إذ يسعى الكفار لصد الناس عنه.
وقد بذل كفار قريش جهوداً حثيثة متصلة لمنع الناس من الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [عن أبي الزناد ، عن ربيعة بن عباد ، رجل من بني الديل كان جاهليا فأسلم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذي المجاز وهو يمشي بين ظهراني الناس يقول :
يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وإذا وراءه رجل أحول ذو غديرتين يقول : إنه صابئ كاذب.
قال : فسألت عن ذلك الرجل الذي وراءه فقيل لي : هذا أبو لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ربيعة بن عباد : أنا يومئذ أزفر القربة لأهلي، وعن الأشعث بن سليم ، عن رجل من كنانة قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وهو يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب فإذا هو أبو جهل ، وإذا هو يقول : يا أيها الناس ، لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى( ).
ويدل قيام أبي لهب مرة وأبي جهل أخرى في إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجري خلفه لصد الناس عن نبوته على مسائل :
الأولى : إنتفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته من الأشهر الحرم حيث يكف العرب أيديهم ويمتنعون عن القتل والثأر ونحوه.
وذو المجاز موضع سوق على بعد فرسخ من عرفة أي خمسة كيلو متراً تقريباً، وثلاثة أميال بلحاظ أن الميل 1,6 كيلو متراً , ويقام هذا السوق في الجاهلية لمدة ثمانية أيام من هلال ذي الحجة وحتى يوم التروية، وبعد أكبر أسواق العرب وهو سوق عكاظ الذي هو قريب منه .
(وكانت قريش تنزلها وهوازن وغطفان وخزاعة والأحابيش وهم الحارث بن عبد مناة وعضل والمصطلق وطوائف من أفناء العرب ينزلونها في النصف من ذي القعدة فلا يبرحون حتى يروا هلال ذي الحجّة.
فإذا رأوه انقشعت ولم يكن فيها عشور ولا خفارة، وكانت فيها أشياء ليست في أسواق العرب كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيد والحلة الحسنة والمركوب الفارِه فيقف بها وينادي عليه ليأخذه أعز العرب، يراد بذلك معرفة الشّريف والسّيد فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته، وكان بيعهم بها السرار، فإذا وجب البيع وعند التاجر ألف رجل ممن يريد الشراء ولا يريده فله الشركة في الربح( ).
ومن خصائص سوق المجاز الذي يأتي فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس يدعوهم إلى عبادة الله أمور:
الأول : قرب أيام هذا السوق من موسم الحج، إذ يختتم يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة ليقف الناس في اليوم التاسع منه على جبل عرفة.
الثاني : قدوم رؤساء العرب وحجاج البيت الحرام إلى سوق ذي المجاز.
الثالث : كان الأشراف يقنعون وجوههم في سوق عكاظ خشية أن يعرفهم الناس فيأسرونهم بعد الأشهر الحرم طلباً بجناية أو دم من أحد أفراد قبيلتهم، لأن أسر الشريف نوع تحد وحث على القبول بالشروط، أو أنه يؤسر لأجل طلب الفدية والعوض الكثير عنه لأن قومه لايتركونه أسيراً لشرفه ومكانته عندهم.
وأول من كشف القناع عن وجهه طريف العنبري، لما رأى بعضهم يطيلون النظر إليه ويتفرسون في هيئته ولا يستطيعون إزاحة القناع لمعرفة ملامح وجهه وقال:
أوكلّما وردت عكاظ قبيلةٌ … بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم
لا تنكروني إنّني أنا ذاكم … شاكي السلاح وفي الحوادث معلم
حولي فوارس من أسيد جمّةٌ … ومن الهجيم وحول بيتي خصّم
تحتي الأغرّ وفوق جلدي نثرةٌ … زغفٌ تردّ السيف وهو مثلّم( ).
الرابع : مجئ الناس والقبائل إلى ذي سوق المجاز مقدمة لحضور موسم الحج وكانت هذه الدعوة مقدمة لبيعة العقبة الأولى والثانية .
الثانية : ظهور وشيوع أخبار بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس وتناقلهم لمعجزاته حتى صار حضورهم بينهم في سوق المجاز آية ترجع الوفود إلى أهليهم بالحديث عنها بصيغة التصديق .
الثالثة : إدراك أقطاب الكفر من قريش عجز أتباعهم وعبيدهم وعامة المشركين عن القيام بمنع الناس من الإستماع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعظيم حجته وسطوع برهان نبوته وشرف نسبه بين بني هاشم والعرب جميعاً .
الرابعة : تسالم الناس على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من ذرية إبراهيم الخليل الذي دعا الناس لحج البيت الحرام ، قال تعالى في خطاب لإبراهيم [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) ليكون هذا الأذان والنداء مقدمة لإنصات الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتلك معجزة في تأريخ النبوة فلن ينحصر سعي الأنبياء للتوطئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة بها ، بل يشمل تهيئة مقدمات وأسباب تلقي الناس أحكام شريعته بالقبول ، وكأن من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( )قيام إبراهيم وإسماعيل وضع القواعد لإجتماع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موسم الحج ، فان قلت يبدأ تأريخ البشارة ببعثته إلى أيام آدم عليه السلام والجواب من جهتين :
الأولى : ذكرنا المسألة أعلاه من باب التشبيه بلفظ [كأن] الوارد أعلاه .
الثانية : إن آدم عليه السلام وحواء هما أول من حج البيت الحرام من البشر وأقاما فيه ، وكان نوع خيمة فأذن الله لجبرائيل ببنائه [عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال :إن آدم عليه السلام بقي على الصفا أربعين صباحا ” ساجدا ” يبكي على الجنة وعلى خروجه من جوار الله عز وجل، فنزل عليه جبرئيل عليه السلام فقال: يا آدم مالك تبكي ؟
قال: يا جبرئيل مالي لا أبكي وقد أخرجني الله من جواره وأهبطني إلى الدنيا، قال: يا آدم تب إليه، قال: وكيف أتوب ؟ فأنزل الله عليه قبة من نور في موضع البيت فسطع نورها في جبال مكة فهو الحرم، فأمر الله جبرئيل أن يضع عليه الأعلام، قال: قم يا آدم فخرج به يوم التروية، وأمره أن يغتسل ويحرم .
واخرج من الجنة أول يوم من ذي القعدة، فلما كان يوم الثامن من ذي الحجة اخرجه جبرئيل عليه السلام إلى منى فبات بها، فلما أصبح أخرجه إلى عرفات وقد كان علمه حين أخرجه من مكة الإحرام وأمره بالتلبية، فلما زالت الشمس يوم العرفة قطع التلبية وأمره أن يغتسل، فلما صلى العصر
وقفه بعرفات وعلمه الكلمات التي تلقى بها ربه وهو ” سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا ” وظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا ” وظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا ” وظلمت نفسي
واعترفت بذنبي فاغفر لي إنك أنت التواب الرحيم ” فبقي إلى أن غابت الشمس رافعا ” يديه إلى السماء يتضرع ويبكي إلى الله، فلما غابت الشمس رده إلى المشعر فبات بها، فلما أصبح قام على المشعر الحرام فدعا الله تعالى بكلمات وتاب عليه .
ثم أفضى إلى منى، وأمره جبرئيل عليه السلام أن يحلق الشعر الذي عليه فحلقه ثم رده إلى مكة فأتى به عند الجمرة الاولى فعرض إبليس له عندها فقال: يا آدم أين تريد ؟ فأمره جبرئيل أن يرميه بسبع حصيات وأن يكبر مع كل حصاة تكبيرة ففعل، ثم ذهب فعرض له إبليس عند الجمرة الثانية فأمره أن يرميه بسبع حصيات فرمى وكبر مع كل حصاة تكبيرة، ثم مضى به فعرض له إبليس عند الجمرة الثالثة وأمره أن يرميه بسبع حصيات فرمى وكبر مع كل حصاة تكبيرة فذهب إبليس .
وقال له جبرئيل عليه السلام: إنك لن تراه بعد هذا أبدا “، فانطلق به إلى البيت الحرام وأمره أن يطوف به سبع مرات ففعل، فقال له: إن الله قد قبل توبتك وحلت لك زوجتك، فقال: فلما قضى آدم حجه لقيته الملائكة بالأبطح فقالوا: يا آدم بر حجك أما إنا قد حججنا قبلك هذا البيت بألفي عام] ( ).
رابعاً: السعة والمندوحة في عبادة الربيين لربهم من غير أذى وضرر من الكفار ، وهو من مصاديق إضافة ونسبة أصحاب الأنبياء إلى الله عز وجل , ونعتهم في آية السياق أنهم (ربيون) .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق إيمان وسنخية الربيين لذا تفضل الله عز وجل وأخبر بآية البحث ببيان الثواب العظيم الذي يتغشاهم في الدنيا وعالم البرزخ وما ينتظرهم في مواطن يوم القيامة من أسباب الغبطة والسعادة، (وعن ابن عمر مرفوعاً : ان لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منه ، فجثا أعرابي على ركبيته فقال : يا رسول الله صفهم لنا جلّهم لنا .
قال : قوم من إفناء الناس من نزاع القبائل تصادقوا في الله وتحابوا في الله ، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم ، يخاف الناس ولا يخافون ، هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون( ).
ولولا آية السياق لم يجرأ أحد على تسمية طائفة من الناس بهذه النسبة والإضافة إذ أن إسمهم يبدأ بذكر ذات الحرفين اللذين يتألف منهما اسم (الرب) .
ويكون تقدير آية السياق على وجوه :
الوجه الأول : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ليعبدوا الله حق عبادته ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
لقد كانت حضرة النبوة مدرسة العبادة المتكاملة وفيها يعرف الناس سنن العبادة، ويدركون وجوبها ولزوم الدوام عليها، وهو من مصاديق قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( )، في خطاب من عند الله للمسلمين ليرتقوا به إلى منزلة الربيين، ويحتمل قتال الربيين في غايته العبادية وجوهاً:
الأول : إرادة عبادة نبي الزمان لله عز وجل، وتحمله أشد الأذى في الدعوة إلى الإيمان.
الثاني : يجاهد الربيون كي يعبدوا الله بصدق وإخلاص، ويؤدوا الفرائض من غير نقصان، وهل صلاة القصر في السفر وصلاة الخوف من النقصان بلحاظ أنها ركعتان بدل الرباعية الجواب لا، إنما هي تمام بفضل من عند الله عز وجل.
وعن يعلي بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب قلت [فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر : عجبت مما عجبت منه! فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته( ).
الثالث : لقد قاتل الربيون مع الأنبياء كي يصلي ويصوم المسلمون ويتعاهدوا حج بيت الله الحرام الذي جعله الله واجباً على الناس، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الرابع : جاهد الربيون ليزداد عددهم، وتدخل طائفة من الناس الإسلام ويقاتلوا تحت لواء نبي الزمان، لذا فمن إعجاز آية السياق والبحث في المقام مسائل:
الأولى : ذكر الربيين من غير ألف ولام التعريف، وإن كان ذات اللفظ يدل على أنه معرف بالقرائن كما تقدم.
الثانية : كثرة الربيين مع كل نبي، وهذه الكثرة لم تأت على نحو دفعي بل كانت تدريجية، وتجلى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتزايدهم مع شدة البلاء عليهم في بدايات الإسلام سواء في مكة أو المدينة.
وعن السدي في قوله تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء” إلى قوله:” تجزون عذاب الهون” ( ).
قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أسلم، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان إذا أملى عليه :”سميعًا عليمًا، كتب هو :”عليمًا حكيمًا”، وإذا قال :”عليمًا حكيمًا” كتب :”سميعًا عليمًا( )، فشكّ وكفر.
وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله ! قال محمد :”سميعًا عليمًا” فقلت أنا:”عليمًا حكيمًا” ! فلحق بالمشركين، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار. فأخذوهم فعُذِّبوا حتى كفروا.
وجُدِعت أذن عمار يومئذ. فانطلق عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما لقي، والذي أعطاهم من الكفر، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاه، فأنزل الله في شأن ابن أبي سرح وعمار وأصحابه {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}( ).
ولم تمر الأيام والأشهر حتى أقبل الناس على دخول الإسلام على نحو الجماعات والقبائل مقترناً بالنصر والفتح , قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( )، ويحتمل عدد وكثرة الربيين بلحاظ مضامين الآية أعلاه وجوهاً:
الأول : عدد الربيين مع كل نبي مساو للأفواج التي دخلت في الإسلام.
الثاني : ذكر القرآن دخول الأفواج من الناس فيه بعد تحقق النصر والفتح ليدل بالدلالة التضمنية على أن دخولهم قبلها كان على نحو الأفراد والجماعات القليلة، فالمراد من عدد الربيين ما كان قبل تحقق النصر للأنبياء الذين قاتل معهم الربيون، ولم يحقق كل الأنبياء النصر والغلبة والفتح التام ، لتكون الآية أعلاه شاهداً على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وإخلاصهم في الجهاد في سبيل الله، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
الثالث : عدد الربيين مع كل نبي أقل من عدد أهل بيت وأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : التفصيل فمن الأنبياء ما كان عدد الذين قاتلوا معه أكثر من الذين قاتلوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،ومنهم من كان عددهم أقل.
والصحيح هو الثالث وأن عدد الذين قاتلوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من عدد أي صحابة قاتلوا مع نبي من الأنبياء السابقين .
فان قلت كان عدد أصحاب موسى الذين خرجوا معه من مصر أكثر كثيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن ابن عباس قال: أوحى الله إلى موسى : أن اسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون . فأسرى موسى ببني إسرائيل ليلاً ، فاتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الاناث ، وكان موسى في ستمائة ألف ، فلما عاينهم فرعون قال { إن هؤلاء لشرذمة قليلون ، وإنهم لنا لغائظون ، وإنا لجميع حاذرون } ( ) .
فاسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر فالتفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون فقالوا : يا موسى { أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا} هذا البحر أمامنا ، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه قال : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون }( ) .
فأوحى الله إلى موسى : أن اضرب بعصاك البحر ، وأوحى إلى البحر : أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك . فثاب البحر له أفكل يعني رعدة لا يدري من أي جوانبه يضرب .
فقال يوشع لموسى : بماذا أمرت؟ قال : أمرت أن أضرب البحر . قال : فاضربه : فضرب موسى البحر بعصاه فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريق كل طريق كالطود العظيم ، فكان لكل سبط فيهم طريق يأخذون فيه ، فلما أخذوا في الطريق .
قال بعضهم لبعض : ما لنا لا نرى أصحابنا؟ فقالوا لموسى : إن أصحابنا لا نراهم؟ قال : سيروا فانهم على طريق مثل طريقكم قالوا : لن نؤمن حتى نراهم قال موسى : اللهم أعني على أخلاقكم السيئة . فأوحى الله إليه : أن قل بعصاك هكذا وأومأ بيده يديرها على البحر . قال موسى بعصاه على الحيطان هكذا فصار فيها كوات ينظر بعضهم إلى بعض ، فساروا حتى خرجوا من البحر .
فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر هو وأصحابه ، وكان فرعون على فرس أدهم حصان ، فلما هجم على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر ، فتمثل له جبريل على فرس أنثى ، فلما رآها الحصان اقتحم خلفها ، وقيل لموسى { اترك البحر رهوا} قال : طرقاً على حاله .
ودخل فرعون وقومه في البحر ، فلما دخل آخر قوم فرعون وجاز آخر قوم موسى أطبق البحر على فرعون وقومه فأغرقوا ( ).
والجواب إن أصحاب موسى عليه السلام لم يقاتلوا فكانوا مستضعفين ثم خرجوا هاربين وأراد فرعون لطغيانه وغروره إرجاعهم لإستدامة تسخيره وأسرهم لخدمته وقومه في الزراعات والمهن، فانتقم الله عز وجل منه وأهلكه .
ولو آمن فرعون بموسى ونبوته لبقي في عرشه وسلطانه، ولو كف وإمتنع عن اللحاق ببني إسرائيل لأمن وسلم إلى حين وكانت له مندوحة في الحياة الدنيا والحكم ، بدليل فرعون يوسف عليه السلام وهو سابق في زمانه لفرعون موسى إذ أخذ بتأويل يوسف عليه السلام لرؤياه، وطلبَ يوسف منه الوزارة كما في قوله تعالى[اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ]( )، الذي يدل على البشارة بخروج النفط والمعادن من أرض مصر، لتكون ثروة غير ناضبة للمسلمين فانقذ الله عز وجل به العباد من الجفاف والقحط.
ومن الآيات أن القرآن لم يسم فرعون يوسف إلا بلفظ الملك، بقوله تعالى[وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي…]( )، وفيه مقدمة وإشارة بأنه سيأخذ بتأويل يوسف عليه السلام ويقربه إليه.
الوجه الثاني : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير تعاهداً لمرتبة الربيين التي هي كرامة خصهم الله عز وجل بها من بين أهل الأرض ، وتلك آية من عند الله بأن يهب المؤمنين نعمة ومرتبة فيقومون بالحفاظ عليها بالدم والمال ، فلو لم يقاتل الربيون مع الأنبياء , هل نزل القرآن بنعتهم هذا النعت التشريفي [ الربيون] الجواب لا ، لترشح هذا النعت عن خصال مجتمعة وهي :
الأول : الإيمان بالله وإنقطاعهم إلى القتال في سبيله وتحمل الضرر بصبر ورضا وسعي لبناء دولة النبوة والهدى وبعث الله إلياس نبيا إلى قومه [وإنما دانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام يبعثون إليهم تجديد ما نسوا من التوراة] ( ).
الثاني : التصديق بنبي الزمان وكل نبي من الأنبياء السابقين جاء بالبشارة والإنذار والأمر والنهي والحث على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : دعوة الناس للإيمان والتصديق بالنبوة .
الرابع : قتال الكافرين والجاحدين .
الخامس : تقيد الربيين بأحكام الفرائض ، وهو الذي تدل عليه خاتمة آية السياق [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ].
السادس : إخلاص الربيين في القتال وتفانيهم في مرضاة الله كما تدل عليه مضامين آية السياق .
الوجه الثالث : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير في سبيل الله توطئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزجراً لقريش عن محاربته وقتاله .
ومن خصال الكفار عدم الإتعاظ من الوقائع والآيات ، فكل من آية السياق والبحث رحمة بالمسلمين والناس جميعاً ومنها دعوتهم للتدبر في أحوال الأمم السالفة وكيف أن المؤمنين يقاتلون في سبيل الله من غير كلل أو ملل ، وهو الذي تجلى في قتال أهل البيت والصحابة حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحت لوائه وخروجهم للغزو بأمره ، وحضرت فاطمة عليه السلام وبعض المؤمنات واقعة احد (عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ الْمَاءَ وَبِمَا دُووِيَ كَانَتْ فَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَغْسِلُهُ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ الْمَاءَ بِالْمِجَنّ فَلَمّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدّمَ إلّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا فَأَلْصَقَتْهَا فَاسْتَمْسَكَ الدّمُ) ( ).
الوجه الرابع : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير لإستدامة خلافة الإنسان في الأرض، وإزاحة أسباب الفساد عنها.
وهل تبين آية البحث حقيقة وهي أن الأنبياء لا يستطيعون بمفردهم بناء صرح الإسلام ولابد من صحابة يقاتلون معهم. الجواب إن الله قادر على كل شيء , وهو سبحانه أراد بالنبوة الثواب الأعم , قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
ومن الوحي الأمر للمؤمنين بالدفاع عن النبوة والإسلام، ولو شاء الله لانتصر الأنبياء على الكفر ومفاهيمه بمفردهم ولكن الله تفضل على الناس بوجود أمة تقاتل مع كل نبي لتنال الثواب العظيم في الدنيا والآخرة، وهو من مصاديق الإحتجاج الذي تفضل الله عز وجل به رداً على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، بتقوم الخلافة في الأرض بالنبوة والتنزيل وتوارث أمم من الربيين القتال في سبيل الله، مما يدل على أن الفساد أمر متزلزل في الأرض، تنفر منه النفوس، ويملأ نفوس أربابه الفزع والخوف من العذاب الأخروي، بينما يتلقى المؤمنون البشارة بالأجر والثواب سواء إشتركوا في القتال أو لا.
لقد أراد الله عز وجل لأيام الدنيا أن تكون دار إمتحان وإبتلاء وأحاط الإيمان بالرياحين والبشارات ، وجعل المؤمن يشعر وكأنه في روضة ناضرة حين يؤدي الفرائض والعبادات ويدافع عن الإسلام، وبعد الإنقضاء من هذا الأداء وضروب الجهاد إذ يصاحبه طيلة أيام عمره الفخر بالتوفيق إليها، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، بتقريب أن العز يترشح عن الإيمان والأفعال العبادية عند إتيانها وبعد الإنتهاء من أدائها.
ومن مصاديقه في المقام أمور :
الأول : آية السياق لما فيها من الشهادة السماوية لأصحاب الأنبياء الذين عضّدوا النبوة بسيوفهم ودمائهم .
الثاني : الآية السابقة ونزولها من السماء لبيان إجتهاد الربيين بالدعاء والإستغفار والثبات في مواطن القتال .
الثالث : آية البحث للإخبار عن تلقي الربيين النفع العام في الحياة الدنيا والبشارة بما أعدّ الله لهم من الثواب العظيم.
لقد خاطب القرآن المسلمين والمسلمات بقوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، لتخبر هذه الآيات عن أمور:
الأمر الأول : مسارعة الربيين إلى المغفرة من وجوه:
الأول : الإيمان بالله عز وجل وسط مجتمعات وأنظمة تظهر الكفر الصريح وعبادة الأوثان .
الثاني : تصديق الربيين بنبي زمانهم.
الثالث : الصبر في مرضاة الله.
الرابع : تحمل الجراحات والكلوم في سبيل الله.
الخامس : إنحصار كلام الربيين بالإستغفار والدعاء.
السادس : إستدامة جهاد الربيين، وقتالهم للكفار، وسؤالهم النصر من الله عز وجل، وفي هذه السؤال مسائل:
الأولى : بيان الربيين لحاجتهم لرحمة الله وهو من مصاديق نسبتهم إلى اسم الرب مع الوعد من عند الله باستجابة دعائهم وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين ينسبهم الله لنفسه يستجيب لهم .
الصغرى : الربانيون نسبهم الله إلى نفسه .
النتيجة :الربانيون يستجيب الله لهم .
الثانية : إقرار الربيين بالعجز عن بلوغ الغايات الحميدة إلا بفضل الله عز وجل.
الثالثة : سلامة الربيين من الغرور والإستكبار.
الرابعة : تعاهد الربيين لمقامات الصبر قربة إلى الله عز وجل، وهو من أسباب العفو والمغفرة.
وعن (أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال : تنصب الموازين فيؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين وكذلك الصلاة والحج ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر بغير حساب قال الله تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }( ) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل).
وعن الحسين بن علي عليهما السلام قال : سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يقول : أد الفرائض تكن من أعبد الناس وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم يوان يصب عليهم الأجر صبا ] ثم تلا النبي صلى الله عليه وآله و سلم : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)( ).
الأمر الثاني : بذل الربيين الوسع في السعي إلى النعيم الدائم ، إذ يدل القتال مع الأنبياء بالدلالة التضمنية على الإقرار باليوم الآخر وعالم الثواب وأن الله عز وجل يرزق المؤمنين اللبث في النعيم الدائم تلك البشارة التي صاحبت الأنبياء ونزلت مع آدم وحواء قبل وبعد هبوطهما إلى الأرض ، قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وجاءت الآية أعلاه بسور الموجبة الكلية للمخاطَبين من جهات :
الأولى : صيغة الجمع التي تدل عليها واو الجماعة في [اهْبِطُوا].
الثانية : خروج آدم وحواء وإبليس من الجنة لقوله تعالى [اهْبِطُوا مِنْهَا] .
الثالثة : ضمير الجمع في [يَأْتِيَنَّكُمْ] وجاء حرف الميم للدلالة على جمع الذكور العقلاء وألحقت حواء بهم .
وقد يأتي حرف الميم بدلاً عن لام التعريف في لغة طي , وعن (النَّمِرَ بنَ تَوْلَب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ليس من امْبِرِّ امْصِيامُ في امْسَفَرِ] يريد ليس من البر الصيام في السفر فإِنه أَبدل لام المعرفة ميماً ، وهو شاذ لا يسوغ حكاه عنه ابن جني قال ويقال إِن النمر بن تولب لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث)( )، وقيل هي لغة اليمن [وأنشد أبو عبيد القاسم بن سلام :
ذَاكَ خَليلي وذُو يُعاتِبُني … يَرمِي ورائي بِامْسَهِم وامْسلَمةْ
أراد والسلِمة، وهي من لغات حمير.
وقال أبو بكر بن الأنباري: سُميت بغداد مدينة السلام لقربها من دجلة، وكانت دجلة تسمى نهر السلام ] ( ) ولو دار الأمر في حصر موضوع هذه اللغة بين التقييد بقبيلة مخصوصة وبين نسبتها إلى أهل وقبائل اليمن , فالتقييد هو الأصح .
الرابعة : لفظ [جَمِيعًا] يحيط ويشمل الذين هبطوا ، وهل يشمل خطاب الجمع في الآية إبليس أم أن القدر المتيقن منه هو آدم وحواء بلحاظ أن الإثنين أقل الجمع .
الصحيح هو الأول ، وهو من الإعجاز في الآية الكريمة أعلاه لبيان أن الدنيا دار إمتحان وإختبار ولإقامة الحجة على الشيطان وجنوده الذين يتبعون خطواته .
لقد شمل الأمر الإلهي بالهبوط إبليس ، أما مجئ الهدى فأنه معلق .
على مشيئة الله لبيان فوز الإنسان به وهو من أسرار خلافته في الأرض ولم يكن إبليس بعيداً عن هذا الهدى إذ يرى المعجزات تترى على أيدي الأنبياء ، مع وجود أمة من الربيين في كل زمان يقهرون النفس الشهوية والغضبية ، ويتلقون الهدى بالقبول والإستجابة الحسنة ، ويظهرون أعلى مراتب الإيمان.
ومن إعجازها أيضاً التفصيل ولغة الشرط في مجئ الهدى [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى] ( )، ببعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية ليكون الربيون من مصاديق الآية الكريمة بوجود أمة في كل زمان تشهد بمجئ الهدى من عند الله وتكون شهادتها بالتصديق بالنبوة والقتال مع الأنبياء لتثبيت صرح الهدى في الأرض وهي أعظم شهادة في التأريخ لأنها مكتوبة بدم الشهادة والجراحات وبالصبر في سبيل الله والإنقطاع إلى الإستغفار والذكر .
وقد إجتهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون في القتال يوم أحد ليكونوا شهداء على الناس في النشأتين .
وعن الواقدي في مغازيه (ورمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يومئذٍ عن قوسه حتى صارت شظايا، فأخذها قتادة بن النعمان وكانت عنده. وأصيبت يومئذٍ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته. قال قتادة بن النعمان.
فجئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقلت: أي رسول الله، إن تحتي امرأة شابة جميلة أحبها وتحبني وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني. فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فردها فأبصرت وعادت كما كانت، فلم تضرب عليه ساعةً من ليلٍ ولا نهار، وكان يقول بعد أن أسن: هي والله أقوى عيني! وكانت أحسنهما] ( ) .
وفيه شاهد على تفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة الحسية كما رزقه المعجزة العقلية وهو القرآن ، ومن الآيات أن هذه المعجزة الحسية ظلت جلية للناس يبصرها الناس ما دام قتادة حياً وذكر ان عينه هذه (كانت لا تعتل وتعتل التي لم ترد ]( ) وتوفي قتادة سنة ثلاث وعشرين للهجرة .
وباشر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القتال، فرمى بالنبل حتى فنيت نبله وتكسرت سية قوسه، وقبل ذلك انقطع وتره، وبقيت في يده قطعةٌ تكون شبراً في سية القوس، وأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له.
فقال: يا رسول الله، لا يبلغ الوتر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: مده، يبلغ!
قال عكاشة: فو الذي بعثه بالحق، لمددته حتى بلغ وطويت منه ليتين أو ثلاثة على سية القوس.
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوسه، فما زال يرمي القوم، وأبو طلحة أمامهم يستره مترساً عنه، حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت، فأخذها قتادة بن النعمان. وكان أبو طلحة يوم أحد قد نثر كنانته بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وكان رامياً وكان صيتاً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: صوت أبي طلحة في الجيش خيرٌ من أربعين رجلاً. وكان في كنانته خمسون سهماً، فنثرها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
ثم جعل يصيح: يا رسول الله، نفسي دون نفسك! فلم يزل يرمي بها سهماً سهماً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يطلع رأسه خلف أبي طلحة بين رأسه ومنكبه ينظر إلى مواقع النبل حتى فنيت نبله، وهو يقول: نحرى دون نحرك، جعلني الله فداك! فإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ليأخذ العود من الأرض فيقول: إرم يا أبا طلحة! فيرمي بها سهماً جيداً.
ورُمي يومئذٍ أبو رهم الغفاري بسهمٍ فوقع في نحره، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فبصق عليه فبرأ، وكان أبو رهم يسمى المنحور ، وهذه معجزه حسية أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ابو رهم الغفاري هو كلثوم بن الحصين بن خلف بن عبيد إشتهر بكنيته ، أسلم في المدينة المنورة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها ، ولم يشهد بدراً وشهد معركة أحد ليكون من الذين قال الله تعالى فيهم [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ] ( )وكان ممن بايع تحت الشجرة ويدل على منزلته وشأنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند خروجه من المدينة إستخلفه ولمرتين أحدهما عام الفتح عند خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة والطائف.
قال محمد بن عمر (وبينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يسير من الطائف الى الجعرانة وأبو رهم الغفاري الى جنب رسول الله صلى الله عليه و سلم على ناقة له وفي رجليه نعلان له غليظتان إذ زحمت ناقته ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أبو رهم فوقع حرف نعلي على ساقه فأوجعه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أوجعتني أخر نعلك وقرع رجلي بالسوط قال فأخذني ما تقدم من أمري وما تأخر وخشيت أن ينزل في قرآن لعظيم ما صنعت فلما أصبحنا بالجعرانة خرجت أرعى الظهر وما يومي فرقا أن يأتي للنبي عليه السلام رسول يطلبني فلما روحت الركاب سألت فقالوا طلبك النبي صلى الله عليه و سلم فقلت إحداهن والله فجئته وأنا أترقب فقال إنك أوجعتني برجلك فقرعتك بالسوط وأوجعتك فخذ هذه الغنم عوضا من ضربتي قال أبو رهم فرضاه عني كان أحب إلي من الدنيا وما فيها قال وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رهم حين أراد الخروج الى تبوك الى قومه يستفزهم الى عدوهم وأمره أن يطلبهم ببلادهم فأتاهم الى مجالهم فشهد تبوك جماعة كثيرة ولم يزل أبو رهم مع النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة يغزو معه إذا غزا وكان له منزل ببني غفار وكان أكثر ذلك ينزل الصفراء وغيقة وما والاها وهى أرض كنانة] ( ).
ويوم أحد انقطع سيف عبد الله بن جحش فاعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرجوناً فعاد في يده سيفاً فقاتل به وبقي هذا السيف يسمى العرجون ، حتى إشتراه بًغا التركي وهو من أمراء المعتصم في بغداد بمائتي دينار ذهباً وكان بغا قد عمر نيفاً وتسعين سنة ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرؤيا ولعله أيضاً لحمل السيف العرجون .
قال المسعودي: وفي سنة ثمان وأربعين ومائتين كانت وفاة بُغَا الكبير التركي. وقد نَيَّفَ على التسعين سنة، وقد كان باشَرَ من الحروب ما لم يباشره أحد، فما أصابته جراحة قط، وتقلّد ابنُه موسى بن بُغَا ما كان يتقلّده، وضم إليه أصحابه، وجعلت له قيادته، وكان بُغَا دَيِّناً من بين الأتراك، وكان من غلمان المعتصم، يشهد الحروب العظام، ويباشرها بنفسه، فيخرج منها سالماً، ويقول: الأجل جوشن .
ولم يكن يلبس على بدنه شيئاً من الحديد، فعذل في ذلك، فقال: رأيت في نومي النبيَّ صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من أصحابه فقال لي: يا بُغَا، أحسنت إلى رجل من أمتي فدعا لك بدعوات استجيبت له فيك، قال: فقلت: يا رسول اللّه ومَنْ ذلك الرجل؟ قال: الذي خَفَصته من السباع .
فقلت: يا رسول اللّه، سَلْ ربك أن يطيل عمري، فرفع يديه نحو السماء وقال: اللّهم أطِلْ عمره، وأتم أجله، فقلت: يا رسول اللّه، خمس وتسعون سنة .
فقال رجل كان بين يديه: ويُوَقّى من الآفات، فقلت للرجل: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فاستيقظت من نومي، وأنا أقول: علي بن أبي طالب.
قصة له مع طالبي
وكان بُغَا كثير التعطف والبر للطالبيين، فقيل له: من كان ذلك. الرجل الذي خلصته من السباع. قال: كان أتى المعتصم برجل قد رمي ببدعة، فجرت بينهم في الليل مخاطبة في خلوة، فقال لي المعتصم: خذه فألقه إلى السباع، فأتيت بالرجل إلى السباع لألقيه إليها وأنا مُغْتَاظ عليه، فسمعته يقول: اللهم إنك تعلم ما تكلمت إلا فيك، ولم أرد بذلك غيرك، وتقرباً إليك بطاعتك، وإقامة الحق على من خالفك، أفتسلمني؟ قال: فارتعدْتُ وداخلتني له رِقًة، وملئ قلبي له رعباً، فجذبته عن طرف بركة السباع، وقد كدت أن أَزُجَّ به فيها، وأتيت به حجرتي فأخفيته فيها، وأتيت المعتصم فقال: هيه، قلت: ألقيته، قال: فما سمعته يقول؟ .
قلت: أنا عجمي وهو يتكلم بكلام عربي ما أدري ما يقول، وقد كان الرجل أغْلَظَ، فلما كان في السحر قلت للرجل: قد فتحت الأبواب وأنا مخرجك مع رجال الحرس، وقد آثرتك على نفسي، ووَقَيْتكَ بروحي، فاجْهَدْ ألاَّ تظهر في أيام المعتصم، قال: نعم، فما خبرك.
قال: هجم رجل من عماله في بلدنا على ارتكاب المكاره والفُجُور وإماتة الحق ونَصْر الباطل، فسَرَى ذلك إلى فساد الشريعة، وهَدْم التوحيد، فلم أجد عليه ناصراً، فوثبت عليه في ليلة فقتلته؟ لأن جرمه كان يستحق به في الشريعة. أن يفعل به ذلك)( ).
وكان أربعةٌ من قريش قد تعاهدوا وتعاقدوا في معركة أحد على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وعرفهم المشركون بذلك عبد الله بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وابن قميئة، وأبي بن خلف. ورمى عتبة يومئذٍ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأربعة أحجارٍ وكسر رباعيته أشظى باطنها، اليمنى السفلى وشج في وجنتيه حتى غاب حلق المغفر في وجنته وأصيبت ركبتاه فجحشتا. وكانت حفرٌ حفرها أبو عامر الفاسق كالخنادق للمسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واقفاً على بعضها ولا يشعر به. والثبت عندنا أن الذي رمى وجنتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن قميئة، والذي رمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص. وأقبل ابن قميئة وهو يقول : دلوني على محمد، فو الذي يحلف به، لئن رأيته لأقتلنه! فعلاه بالسيف .
ورماه عتبة بن أبي وقاص مع تجليل السيف، وكان عليه صلى الله عليه وسلّم درعان، فوقع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في الحفرة التي أمامه فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف ابن قميئة شيئاً إلا وهن الضربة بثقل السيف، فقد وقع لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وانتهض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وطلحة يحمله من ورائه، وعلي آخذٌ بيديه حتى استوى قائماً] ( ).
الأمر الثالث : مسارعة الربيين إلى ثواب الدنيا الذي ليس له حد أو رسم وهو مرآة لثواب الآخرة ، ومن فضل الله عز وجل على الناس أن كل فرد من ثواب الدنيا على وجوه :
أولاً : إنه مقدمة للثواب الأخروي .
ثانياً : إنه نوع هداية لسبيل من الصلاح .
ثالثاً : إنه طريق لأفراد أخرى من الثواب الدنيوي .
رابعاً : هو عون ومدد للإقامة في منازل الصلاح ، وتعاهد مراتب الإيمان ، ومنها درجة الربيين .
ومن وجوه إستحقاق أصحاب الأنبياء الذين شاطروهم القتال في سبيل الله الجمع بين المسارعة إلى المغفرة والتسابق إلى الجنة لذا فمن إعجاز آية [وَسَارِعُوا]أنها لم تحصر إعداد الجنة بخصوص المسلمين أو الربيين بل ورد موضوعها ملازماً لصبغة التقوى بقوله تعالى [أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
وبين المتقين والربيين عموم وخصوص مطلق ، فالربيون من المتقين الذين يخشون الله بالغيب ، وكذا ذات النسبة بين المتقين والمسلمين ، فان قلت إذن كيف يكون المراد من الكتاب في قوله [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ) أنه القرآن وأن الخطاب خاص بالمسلمين مع أن معنى المتقين في آية [وَسَارِعُوا] أعم والقطع بأن الربيين من المتقين الذين صدّقوا بالأنبياء وقد تقدم( ) أن الكتاب يرد بمعنى اللوح المحفوظ وعنواناً جامعاً للكتب السماوية لبيان الصلة الواقعية والتداخل بين الملل السماوية هذا التداخل الذي لا يتعارض مع النسخ بين الشرائع .
وقد كانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارة بها سبيل هدى للمتقين والربيين من الأمم السالفة .
الأمر الرابع : مسارعة الربيين إلى الجنة بالإيمان وعمل الصالحات والجهاد في سبيل الله ، وتظهر آيات الربيين أنهم حرصوا على السير في كل طريق يؤدي إلى الجنة وفي آن واحد من غير تعارض بينها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، بلحاظ أن هذا الطريق اسم جنس تفضل الله عز وجل وجعله متعدداً بامكان المؤمن أن يسير في عدة طرق منه في وقت واحد لتؤدي جميعاً إلى ما بينته آية البحث من الثواب الدنيوي والعاجل وحسن ثواب الآخرة .
الوجه الخامس : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير لإستدامة وتوارث عبادة الله في الأرض ليكون هذا القتال بتوفيق وهداية من عنده تعالى وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )من جهات :
الأولى : عبادة الجن والإنس لله على كل حال .
الثانية : عدم إنقطاع عبادة الله في زمان من الأزمنة المتعاقبة .
الثالثة : إجتهاد الربيين في جعل الدنيا [دار العبادة ].
الرابعة : إقتران عبادة المؤمنين لله عز وجل مع القتال في سبيله ، ويكون هذا القتال على وجوه :
الأول : إنه مقدمة لعبادة الله .
الثاني : في هذا القتال إزاحة للموانع التي تحول دون عبادة المؤمنين لله عز وجل .
الثالث : هذا القتال بذاته عبادة لله ، وهو من أشق ضروب العبادة ما دام الكفار الجاحدين بالربوبية لله عز وجل ، وقد تفضل الله وخفف عن المؤمنين كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] ( ) وغيرهما من الآيات والأحاديث النبوية.
الخامسة : قتال الربيين دفاع وهو ضرورة وحاجة إذ يتعذر دفع الكفار إلا بالدفاع بدليل قوله تعالى في الآية السابقة [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا]( ) ويدل ثبات الأقدام في أحد معانيه على المرابطة والدفاع وعدم الفرار أو الإنهزام أمام الكفار .
ويفيد الجمع بين ثبات الأقدام والنصر على الكفار الصبر عند لمعان السيوف ورحيل بعض الربيين شهداء في سبيل الله .
الوجه السادس : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير لغايات حميدة منها:
الأولى : بيان سنن التقوى والصلاح .
الثانية : دعوة الناس لنبذ الكفر والضلالة .
الثالثة : جعل البشارات والانذارات التي جاء بها الأنبياء حاضرة في الوجود الذهني للناس ، جلية مصاديقها في المنتديات والأسواق .
وكان رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحث الغزاة على التقوى والإبتداء بالوعظ والإنذار وإجتناب إيذاء الشيخ والمرأة والصبي أو الإضرار بالمزروعات والممتلكات .
وعن بريدة (قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا .
ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسم اللَّهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَ لاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ – أَوْ خِلاَلٍ – فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِى يَجْرِى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِى الْغَنِيمَةِ وَالْفَىْءِ شَىْءٌ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ.
وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ)( ).
وتبين آية السياق أن الربيين أحرزوا مراتب التقوى ولم يكتفوا بالفوز بها ، بل أحبوا للناس ذات المرتبة وهو من مصاديق إختصاصهم بمرتبة الربيين ،ويحتمل المصداق لموضوع حبهم هذا وجوهاً :
الأول : إرادة أهل دويرة الربيين وذوي القربى .
الثاني : حرص الربيين على وراثة التقوى ومرتبة الربيين لأبنائهم .
الثالث : تهيئة المقدمات للنبي الذي يأتي بعد زمانهم فيخرج على أمة من الربيين تكون ظهيراً وعضداً له .
الرابع : إرادة أهل زمان الربيين مطلقاً ، من بلغته دعوة النبي والذين يجتهد الربيون بإيصال الدعوة لهم مقرونة بأخبار معجزات النبوة وبيان الآيات الكونية التي تجذب الناس لمنازل الإيمان ، قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
الخامس : حب الربيين للمسلمين الذين يؤمنون ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينصرونه ويقاتلون تحت لوائه كما حصل في معارك الإسلام الأولى .
وهل من موضوعية لجهاد ودعاء وحب الربيين للمسلمين في نصرهم وإزاحة الذلة والمسكنة عنهم يوم بدر كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) الجواب نعم وهو من مصاديق قوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] بتقريب أن من ثواب الربيين إستجابة دعائهم بخصوص المسلمين .
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : قال موسى : رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة ، الآخرون في الخلق والسابقون في دخول الجنة فاجعلهم أمتي : قال : تلك أمة أحمد .
قال : رب أني أجد في الألواح أمة [خير أمة أخرجت للناس] ( ) يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله فاجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد .
قال : رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ويقاتلون فضول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور والكذاب فاجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد .
قال : رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في قلوبهم يقرأونها قال قتادة : وكان من قبلكم إنما يقرأون كتابهم نظراً ، فإذا رفعوها لم يحفظوا منها شيئاً ولم يعوه ، وإن الله اعطاكم ايتها الأمة من الحفظ شيئاً لم يعطه أحداً من الأمم قبلكم ، فالله خصكم بها وكرامة أكرمكم بها .
قال : فاجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ، وإستحقاق نسبة الربيين إلى الله عز وجل لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ].
بلحاظ أن تسخير النفس وبذل الوسع لجذب الناس لمنازل الإيمان من الإحسان للذات والغير ومن الآيات في المقام أن ملاك هذا الإحسان والثواب باق ومتجدد في كل زمان بتلاوة هذه الآيات والعمل بمضامينها مع إنقضاء أيام الربيين بحلول آجالهم .
الوجه السابع : وكأين من نبي قاتل معه ربيون ليستديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأرض ، مع وجود النبي أو عند الفترة بين الأنبياء أو في بلدان ومواضع لم تصلها دعوة نبي الزمان ، ليكون عمل الربيين متمماً لرسالة الأنبياء لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو مع الفترة في النبوة ولكن الأرض لم تخل من الربيين الذين هم مرآة لنهج الأنبياء بدليل أنهم قاتلوا معهم وتحت لوائهم [عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا اسْتُوْدِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ] ( ).
لتدل آية السياق والبحث على قتالهم بعد فقد أو قتل نبي زمانهم خاصة بلحاظ ما تقدم من قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )لبيان أن الربيين لم ينقلبوا على أعقابهم بل تعاهدوا سنن الجهاد في سبيل الله .
المسألة الحادية عشرة : ليس من فترة بين العمل العبادي للربيين وبين الثواب من عند الله عز وجل لمقام الفاء في أول الآية [فَآتَاهُمْ] وتقدير الآية على وجوه :
الوجه الأول : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فآتاهم الله ثواب الدنيا ، فحالما شرع الربيون بالقتال مع النبي جاءهم الثواب ، وهل مجيؤه تدريجياً أو دفعياً ، الجواب لا تعارض بين الأمرين ،فيأتي الثواب على وجوه :
الأول: الثواب الدفعي .
الثاني : الثواب التدريجي .
الثالث : الثواب الدفعي التدريجي .
والله أعلم بالمصلحة والنفع الحسن .
الوجه الثاني : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله فآتاهم الله ثواب الدنيا ، وهل عدم الوهن أمر وجودي أم عدمي ،الجواب هو الأول وإن كان على نحو الصبر والتحمل لموضوعية الإرادة في المقام ، قال تعالى في الثناء على أهل بيت النبوة بصبرهم ووفائهم بالنذر مع اطعامهم غذائهم للمسكين واليتيم والأسير لتجتمع هذه المصاديق والخصال الحسنة بالصبر في قوله تعالى [وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا] ( ).
الوجه الثالث : وما ضعفوا فآتاهم الله ثواب الدنيا ….].
وهذا الثواب من وجوه :
الأول : دلالة عدم الضعف على بذل الوسع في سبيل الله .
الثاني : تبين الآية أن حال الربيين على الضد من الضعف والوهن أي أنهم كانوا على درجة من القوة والمنعة .
الثالث : عدم الضعف مقدمة ووعاء لبناء دولة الإسلام وحمل الناس على الصلاح .
الرابع : لو دار الأمر في عدم الضعف بين الإطلاق في الأحوال المتعددة وأوان الحرب والسلم وبين الحصر في ميادين القتال ، فالصحيح هو الأول ،ليكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : فما ضعفوا في مراتب الإيمان .
ثانياً : فما ضعفوا في القتال في سبيل الله ( ).
ثالثاً :فما ضعفوا في دعوة الناس للحق .
رابعاً : لقد إشتد أذى الكفار للربيين فما ضعفوا وما إستكانوا .
خامساً : جاء كل نبي بالأوامر والنواهي للربيين فما وهنوا في الإمتثال .
سادساً : لقد طال أمد قتال الربيين ،مع العدو فما ضعفوا في طلبه ،وحال الحرب والقتال من الكلي المشكك في شدته وضعفه وطول مدته أو قصرها وسعة موضعه أو ضيقها ، وكثرة العدة والعدد أو قلتهما ،وكسب أو خسارة معركة ومسك أو فقدان أرض ، والتساوي أو التباين بين الطرفين في خصائص الترجيح وتوالي أو إنحسار الجراحات والكلوم ،كما في قوله تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ] ( ).
سابعاً : لو دار عدم ضعف الربيين بين أمرين :
الأول : عدم ضعف الربيين من الحقيقة .
الثاني : إنه من المجاز والمنقطع فالصحيح هو الأول من وجوه :
الأول : أصالة الحقيقة ، قال تعالى [أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ]( ).
الثاني : من علامات الحقيقة الإطراد وهو إستدامة ذات الصفة والحال حتى في اشد الأحوال ، لذا فان قوله تعالى [وَمَا ضَعُفُوا]مطلق .
الثالث : أصالة الإطلاق وعدم تقييد عدم الضعف في الآية الكريمة .
وجاءت آية السياق بالإطلاق وفيه مسائل :
الأولى : إنه من إعجاز القرآن في إحاطته بالأحوال المختلفة للناس مطلقاً وللمؤمنين على نحو الخصوص .
الثانية : بيان أهلية أصحاب الأنبياء لنيل مرتبة التشريف والإكرام وتخصيص هذه الآيات الثلاثة لهم مع اسم ينفردون به وهو [الربيون ] .
الثالثة : بيان فضل الله على الأنبياء بتعضيدهم بمؤمنين بلغوا مراتب اليقين ، نعم لمعجزة النبي موضوعية في تحصيلهم هذه المراتب من غير أن يلزم الدور بينهما .
ثامناً: لقد دعا كل نبي من الأنبياء الذين قاتلوا الكفار أصحابه إلى الجهاد وندبهم للخروج إلى ساحات الوغى فما ضعفوا في الإستجابة للدعوة وفي الخروج ، وتلقوا الأذى وحر السيف بصبر ، [وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال « لكل شيء حقيقة ، وما بلغ عبد حقيقة الإِيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه] ( ).
تاسعاً : الحرب أولها نجوى يحث الناس بعضهم بعضاً على ملاقاة العدو ، مع الزهد بقدراته الذاتية والنظر للعدو بعين القلة والنقص وأوسطها شكوى لوقوع القتل وكثرة الجراحات وإستنزاف الأموال وقله الريع .
وآخرها بلوى بتراكم الخسائر وإتصال النفير وحال الخوف وفقدان السكينة وتعطيل التجارات والمكاسب .
ولكن الربيين لم يضعفوا أمام هذه المشاق بل لجأوا إلى الإستغفار والدعاء وسألوا الله المدد للإستمرار بالجهاد وثبات الإقدام ، قال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ] ( ).
عاشراً : وما ضعف الربيون عن التوكل على الله في أمور دينهم ودنياهم فمن خصائص منزلة الربيين إدراك حقيقة وهي أن التوكل على الله واقية من الضعف والوهن والخور ، والتوكل لغة هو ترك الأمر وإنجاز الفعل إلى الغير .أما في الإصطلاح فهو اللجوء إلى الله والثقة بما عنده سبحانه لجلب المصالح ودفع المضار, وقال الجرجاني :التوكل هو الثقة بما عند الله، واليأس عما في أيدي الناس] ( ) أما الشطر الأول فصحيح ، وأما الثاني أي قوله اليأس عما في أيدي الناس ، ففيه مسائل :
الأولى : موضوع التوكل أعم وهو نية وعزم وسعي .
الثاني : الملازمة بين الإيمان والتوكل على الله ، وصيرورة التوكل من رشحات الإيمان ، قال تعالى [وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
الثالثة : لا تعارض بين التوكل على الله وعدم اليأس مما في أيدي الناس بلحاظ الإطلاق في قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) وقد جعل الله عز وجل الناس بالناس , وهو من سنن الإختبار وأسباب الجزاء في الدنيا ، ومنه آية البحث لإقتباس المسلمين الخصال الحميدة من الربيين، ودعوة الناس للصدور عن القرآن وسنته وأحكامه .
الحادي عشر : فما ضعفوا عن زجر النفس الشهوية والغضبية ليصدق عليهم أنهم من المستثنى في قوله تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] ( ).
الثاني عشر : ذكرت آية السياق أن الربيين قاتلوا مع الأنبياء فما ضعفوا بسبب هذا القتال عن الفرائض والطاعات ،وفيه درس للمسلمين وبيان للزوم عدم التفريط بالفرائض أو التقصير فيها في حال القتال , وهذا المعنى من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم [أدبني ربي فأحسن تأديبي] ( )، لأنه تأديب لعموم المسلمين وإشارة إلى أن استجابة الدعاء وتحقق الظفر بأداء الفرائض وتعاهد السنن .
الثالث عشر : وما ضعفوا عن الدعوة إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارة بقرب زمانه لبيان أنهم يقاتلون لتهيئة مقدمات نصره وإعانته ، ليكون من الإعجاز في تعاقب النبوة أن كل طبقة من الربيين تهيئ للنبي اللاحق ولنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع عشر : فما ضعفوا في طلب مرضاة الله والسعي إلى الآخرة فتفضل الله وآتاهم ثواب الدنيا والآخرة ، قال تعالى [من كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] ( ) .
إن نفي الضعف والجبن والخور عن الربيين مرتبة عظيمة وباب للفخر في الدنيا والآخرة وشاهد على إستحقاقهم الإنفراد بصفة إكرام خصهم الله عز وجل بها في القرآن الكتاب الباقي إلى يوم القيامة من غير تحريف أو زيادة أو نقصان .
ومن إعجاز القرآن أنه لم يكتف ببيان خصال الربيين بل جاءت آية البحث متعقبة لهذه الخصال التي وردت في الآيتين السابقتين لتخبر عن الجزاء الجميل الذي أنعم الله عز وجل به على الربيين مما يفوق التصور الذهني في باب العمل والجزاء ، قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
ويصح تقدير الآية على وجوه :
الأول : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ليؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة من غير أن تصل النوبة إلى عبادة الله طمعاً إنما هو السعي للفوز بما وعد الله عز وجل المجاهدين والصابرين وأهل التقوى والصلاح .
فمن الإعجاز في الوعد الإلهي أنه لم يأت لطائفة أو أشخاص أو أهل ملة مخصوصة بل جاء بلحاظ الصفات والسنة والخصال الإيمانية الحميدة ، (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من اتبع كتاب الله ، هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة وذلك أن الله يقول : { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) ( ).
ليكون هذا الوعد متجدداً ونعمة باقية في الأرض كما في آية البحث إذ أخبرت عن الربيين وأنهم كثير ،وذكرت آية السياق والآية السابقة خصالهم لأمور :
الأول : الحجة والبرهان .
الثاني : ترغيب الناس عامة والمسلمين خاصة بذات النهج والفوز بمصاديق الوعد الإلهي .
الثالث : دعوة الناس لإتباع نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو سيد المرسلين .
الرابع : ترغيب الناس بالثواب الدنيوي .
الخامس : بيان إمكان سعي الإنسان للفوز بمصاديق الوعد الإلهي , قال تعالى [لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ] ( ).
الثاني : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ليؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، لتكون اللام في [ليؤتيهم] لام التعليل ، لإرادتهم الفوز بالفضل الإلهي ، وهل لهذه الإرادة من موضوعية في ذات عدم الوهن مع تلقي الضرر أم أنه يلزم الدور بحيث يتوقف عدم الوهن على هذه الإرادة ، وهي تتوقف عليه ، الجواب هو الأول ،فليس من دور في المقام لأن أسباب ومراتب عدم الوهن متعددة وتأتي الرغبة والسعي للفوز بالفضل العظيم الذي ذكرته آية البحث مدداً من عند الله يبعث على الصبر والعزم مجتمعين فلذا أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ].
لقد جاء الأنبياء بالوعد الكريم بالأجر والثواب في الدنيا والآخرة ، فليس من مانع يحول دون إتخاذ المؤمنين له غاية وعوناً ، وهو من أسباب البصيرة والتفقه في الدين ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] ( أي زادهم بالوعد الكريم والبشارة وبيان الأنبياء للثواب العظيم الذي يصاحب الإيمان في الدنيا وما ينتظر أهله في الآخرة .
وعن البيهقي بسنده عن أنس بخصوص واقعة خيبر [أن رجلا من الاعراب جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فآمن به واتبعه فقال: أهاجر معك.
فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت كتيبة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا ؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى هاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم، فأموت فأدخل الجنة.
فقال : ” إن تصدق الله يصدقك “.
ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هو هو ؟ قالوا: نعم.
قال: ” صدق الله فصدقه “.
وكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قدمه فصلى عليه وكان مما ظهر من صلاته: ” اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك قتل شهيدا وأنا عليه شهيد] ( ).
وسنة النبي الدفاعية مرآة لسنن الأنبياء ، فكلما كان يبشر أصحابه بالثواب العظيم والإقامة في الجنة الواسعة فان الأنبياء السابقين كانوا يبشرون الربيين بالجنة [عن عكرمة قال: لما نزلت: ” سيهزم الجمع ويولون الدبر “( ) قال عمر: أي جمع يهزم وأى جمع يغلب ؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يثب في الدرع وهو يقول: ” سيهزم الجمع ويولون الدبر.
بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ” فعرفت تأويلها يومئذ.
وروى البخاري من طريق ابن جريج، عن يوسف بن ماهان، سمع عائشة تقول: نزل على محمد بمكة – وإنى لجارية ألعب – ” بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر “.
وقد إجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء في يوم بدر حتى خفق خفقة وهو في العريش ليرى جبرئيل آخذاً بعنان فرسه يقوده قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم وقال: ” والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة “]( ).
وهل قتال المسلمين يومئذ من الإحسان الذي يكون سبباً للفوز بحب الله كما ورد في خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] الجواب نعم ففيه إحسان من وجوه :
الأول : الإحسان للذات بصدق الإيمان والتضحية والفداء في سبيل الله .
الثاني : الإحسان للمؤمنين بالذب عنهم ومؤازرتهم في القتال .
الثالث : الإحسان بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : الإحسان إلى الكفار أنفسهم بزجرهم عن التعدي والظلم .
الخامس : الإحسان إلى الناس لبيان وجوب الإيمان وقبح الكفر ، ومن خصائص هذا البيان أنه بالدم وبذل المهج لإمامة الناس إلى الجنة بالإيمان وعمل الصالحات (عن قتادة بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام فخطب الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه فذكر الجهاد فلم يدع شيئا أفضل منه إلا الفرائض ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، أرأيت من قتل في سبيل الله تعالى فذاك يكفر عنه خطاياه ؟ قال : نعم . إذا قتل في سبيل الله تعالى مقبلا غير مدبر . ثم سكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى خيل إلينا أنه قد أنزل عليه ثم قال : أين السائل آنفا ؟ فقال : أنا ذا فقال : كيف قلت ؟ فقلت : أرأيت من قتل في سبيل الله تعالى فهل ذلك يكفر عنه خطاياه ؟ فقال : نعم . إذا قتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا الدين ؛ فإنه مأخوذ به كما زعم جبريل عليه السلام)( ).
السادس : الإحسان إلى التابعين وتابعي التابعي وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة للأسوة الحسنة ، والتخفيف بالمساهمة في هدم صرح الكفر بالقول والعمل .
الثالث : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ليؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، لقد علم الربيون أموراً :
أولاً : إن قتالهم مع الأنبياء فيه عز لهم ،وهو مناسبة لنزول المدد من عند الله عز وجل لأنبيائه وأصحابهم الذين يجاهدون في سبيل الله ، لذا ورد الخطاب بنصرة الملائكة للمؤمنين بقوله تعالى [ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
ثانياً : قتال الربيين في سبيل الله ،وفيه دلالة على عدم تضييع ما يبذلونه من الجهد والعتاد وما يتحملونه من الأذى والضرر ، فمن إعجاز آية السياق تأكيدها بأن إصابة الربيين بالضرر في سبيل الله وطلب رضاه ، مما يدل على أن الأنبياء يبدأون بتعليم أصحابهم أحكام الشريعة ويحثونهم على التفقه في الدين .
ثالثاً : علم الربيون أن القتال مع نبي زمانهم ضرورة وأمر حال بسبب التناقض القائم بين دعوة النبي إلى الله وإقامة الكفار على الشرك وإصرارهم على محاربة النبي والذين آمنوا معه ، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد الهجرة إلى المدينة [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ) .
وبلحاظ آية البحث يكون من مصاديق الخير في الآية أعلاه وجوه:
أولاً : مجئ الثواب الدنيوي العاجل للربيين من عند الله , وهو من مصاديق التخفيف عنهم في القتال كماً وكيفاً وزماناً وأثراً كما في قوله تعالى يوم بدر [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
ثانياً : فوز الربيين بالثواب الأخروي ،وهل يأتي الثواب على خصال الربيين مجتمعة أم يأتي عليها متفرقة ، الجواب كلاهما صحيح, لإرادة الكثرة والزيادة في النعيم .
ثالثاً : نعت الربيين بصفة المحسنين ،وفيه إمضاء لجهاد الربيين وثناء عليهم لصبرهم .
الرابع : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله رجاء حسن ثواب الآخرة .
ومن خصائص الحياة الدنيا مصاحبة الإبتلاء والإمتحان للإنسان فيها منذ هبوط آدم الأرض إذ هبطت معه زوجه وهبط معهما إبليس للفتنة والإفتتان والسعي الخبيث لجعل فريق من الناس يتلبسون بالمعصية كما تلبس بها هو حينما أبى وإستكبر عن السجود لآدم مع أن هذا السجود بأمر من عند الله .
وتفضل الله عز وجل وجعل الآخرة عالم الجزاء على ما يفعله الناس في دنياهم , وفيه زاجر عن محاكاة وطاعة إبليس , قال تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين] ( ).
وتفضل الله عز وجل وجعل آية البحث عالماً زاهراً من الجزاء وحديقة ناضرة تجعل ثواب الإيمان وإخلاص العبادة حاضرين في الوجود الذهني عند القارئ والسامع والمتدبر لمعانيها .
وتقدير ( فما وهنوا ) في الآية على وجوه :
الأول : فما وهنوا للتباين والتضاد بين الإيمان والوهن ،وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) بلحاظ تفضل الله عز وجل على المؤمنين بالسلامة من الوهن ، ويأتي هذا الفضل من جهات :
الأولى : إزاحة أسباب الوهن عن المؤمنين بلطف من الله .
الثانية : تبليغ وجهاد كل نبي لسلامة أصحابه من الوهن ،وبيان منافع المنعة والصبر في سبيل الله وقبح الوهن والأضرار المترشحة عنه.
الثالثة : مناجاة الربيين فيما بينهم بالعزيمة والثبات والإقدام .
الرابعة : إدراك الربيين بأضرار الوهن عليهم في دينهم وأبدانهم وأموالهم .
الثاني : علم الربيين بأن الذي يصيبهم في علم الله وبأذن منه سبحانه ، قال تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه نزلت خطاباً للمسلمين بخصوص معركة أحد بعد أن كان النصر حليفهم في بدايات المعركة ، ولكن مغادرة أغلب الرماة لمواضعهم خلافاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء فيها على أي حال من الأحوال صارت سبباً لإجهاز الكفار على المسلمين من خلفهم ووقوع سبعين من أهل البيت والصحابة شهداء لبيان أن الأنبياء والربيين ينتصرون مرة ويدُال عليهم أخرى ، ولكن العاقبة لهم ، قال تعالى [ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ] ( )وكان يوم أحد ملاكاً للفصل والتمييز بين المجاهد والقاعد ، والمؤمن والمنافق ، إذ إنخزل رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول بثلاثمائة من أفراد جيش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسط الطريق إلى أحد .
الثالث : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله لعلمهم بأن فيه الثواب العظيم فهو أذى ومشقة مقصورة على أوان مخصوص من أيام الحياة الدنيا ليعقبه الخلود في النعيم .
وجاءت آية البحث بشارة عظمى بأن ثواب الربيين على ما أصابهم في سبيل الله لا يختص بعالم الآخرة بل يشمل الحياة الدنيا .
الرابع : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله فاتعظوا أيها المسلمون وأحرصوا على تعاهد المنعة والثبات في مواجهة الكفار سواء في الإحتجاج أو الوعيد أو القتال ليكون من تفضيل المسلمين على الأمم السابقة إجتماع أمور متعددة في موضوع متحد .
وفي نهي المسلمين عن الوهن مسائل :
الأولى : الإتعاظ من الأمم السابقة .
الثانية : الإخبار عن عصمة الربيين من الوهن مع ما لحقهم من الخسارة في سبيل الله .
الثالثة : مجئ الآيات بنهي المسلمين عن الوهن ، كما في قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الرابعة : إخبار آية البحث عن ثواب عظيم للمؤمنين في الدنيا والآخرة إذا حصنوا أنفسهم من الوهن .
الخامسة : تفقه المسلمين وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية ، وصيرورة هذا الإرتقاء وسيلة ومناسبة للمناجاة بينهم لعدم الوهن في سبيل الله .
الرابع : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله لأنهم يجاهدون لبناء صرح إيماني يكون حصناً وتوطئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي تتم برسالته الأحكام وتبقى شريعته في الأرض إلى يوم القيامة من غير نسخ لها .
الخامس : الوهن على وجهين :
الأول : وهن وضعف في الخلق بضم الخاء .
الثاني : الوهن في الخلق بالفتح ، وفي دعاء زكريا المستجاب [قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا] ( ) أراد ضعف البدن مع تأكيد بقائه على عزمه وصبره وجهاده في تبليغ أحكام النبوة والدعوة إلى الله ، ويحتمل عدم وهن الربيين وجوهاً :
أولاً : عدم الوهن بخصوص الخلق والعزائم .
ثانياً : عدم بلوغ الربيين مرحلة الشيخوخة والضعف البدني بلحاظ أن المعارك مع الكفار لم تستمر طويلاً أو أن المراد في الآية غير أولى الضرر وأصحاب الأعذار .
ثالثاً : الضرر الجامع للأمرين أعلاه .
رابعاً : عدم ضعف ووهن عزائم الربيين حتى في حال وهن العظم ودبيب الضعف إلى البدن وبلوغ سن الشيخوخة .
والصحيح هو الأخير لوجوه :
الأول : أصالة الإطلاق في الآية , وإرادة عدم وهن الربيين في كل الأحوال .
الثاني : دلالة مضامين آية البحث بمجئ الثواب لهم على حسن سمتهم وثباتهم .
الثالث : إستعانة الربيين بالله للسلامة من صيرورة وهن الكبر سبباً لدبيب الضعف والملل إلى النفوس والعزائم ، وتتجلى هذه الإستعانة بما ورد في الآية السابقة [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( ).
فيحتاج كل من ثبات الأقدام والنصر على الكافرين السلامة من الوهن ،وتقدير الآية على وجهين :
أولاً : وثبت أقدامنا بعدم الوهن والضعف عند إجتياح الشيخوخة والإصابات والجراحات .
ثانياً : وأنصرنا على القوم الكافرين مع كبر أسناننا ووقوع القتلى من أصحابنا الربيين وكثرة الجراحات والكلوم عندنا .
ثالثاً :إخبار آية البحث عن مجئ الثواب العظيم للربيين في الدنيا، والله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم ، منه سلامة الربيين من الوهن حتى مع الكبر وكثرة الجراحات .
وهناك شواهد أن المسلمين كانوا يظهرون بمظهر الشباب والأقوياء حتى في حال السلم والحرب منها :
الأولى : الرمل والهرولة في عمرة الحديبية (عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل مرّ الظهران من عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قريشا تقول: ما يتباعثون من العجف( ).
فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا ( )، فأكلنا من لحومه وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جمامة ، فقال: لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم ” فجمعوا له وبسطوا الانطاع فأكلوا حتى تركوا، وحشا كل واحد منهم في جرابه.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحجر، فاضطبع بردائه ثم قال: لا يرى القوم فيكم غميزة ” فاستلم الركن ثم رمل( ) حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الاسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي أما إنهم لينفرون نفر الظباء ! ففعل ذلك ثلاثة أطواف فكانت سنة.
قال أبو الطفيل: وأخبرني ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع.
وعن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة ؟ فقال: صدقوا وكذبوا .
قلت: ما صدقوا وما كذبوا ؟ قال: صدقوا، رمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذبوا ليس بسنة، إن قريشا زمن الحديبية قالت: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف( ).
فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون من قبل قعيقعان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاصحابه: ” ارملوا بالبيت ثلاثا ” قال: وليس بسنة)( ).
الثانية : دلالة قتال الشيوخ وكبيري السن من المسلمين في معارك الإسلام الأولى على سلامتهم من الوهن ، وفيه موعظة وعبرة وسبب لبعث الفزع في نفوس الكفار ، (عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ، قَالَ لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى أُحُدٍ ، رَفَعَ حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ وَهُوَ الْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ ، وَثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فِي الْآطَامِ مَعَ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ .
فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ مَا أَبَا لَك ، مَا تَنْتَظِرُ ؟ فَوَاَللّهِ لَا بَقِيَ لِوَاحِدِ مِنّا مِنْ عُمْرِهِ إلّا ظِمْءُ حِمَارٍ إنّمَا نَحْنُ هَامَةُ الْيَوْمِ أَوْ غَد ، أَفَلَا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا ، ثُمّ نَلْحَقُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَعَلّ اللّهَ يَرْزُقُنَا شَهَادَةً مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟
فَأَخَذَا أَسْيَافَهُمَا ثُمّ خَرَجَا ، حَتّى دَخَلَا فِي النّاسِ وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِمَا ، فَأَمّا ثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَمّا حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَبِي ؛
فَقَالُوا : وَاَللّهِ إنْ عَرَفْنَاهُ وَصَدَقُوا قَالَ حُذَيْفَةُ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَدِيَهُ فَتَصَدّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَزَادَهُ ذَلِكَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا)( ).
الثالثة : إختيار المسلمين الخضاب ليظهروا شباباً وأقوياء في عيون العدو ، كما أن ذات الخضاب أمن من الوهن لذات الذي يخضب وغيره ، والخضاب الذي ورد النهي عنه هو خضاب التدليس كخضاب المرأة الكبيرة للغش وإغراء الخطيب ،أما مع العلم بأنها مخضبة لشعرها أو الخاطب خاضب لشعره فلا كراهة في المقام [وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إختضبوا بالحناء فانه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم ] ( ).
وقد خضبت قريش وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدماء فلم يهن هو وأهل بيته وأصحابه عن القتال [قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ فَأَصَابَ فِيهِمْ الْعَدُوّ ، وَكَانَ يَوْمَ بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ أَكْرَمَ اللّهُ فِيهِ مَنْ أَكْرَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالشّهَادَةِ حَتّى خَلَصَ الْعَدُوّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَدُثّ بِالْحِجَارَةِ حَتّى وَقَعَ لِشِقّهِ فَأُصِيبَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجّ فِي وَجْهِهِ وَكُلِمَتْ شَفَتُهُ وَكَانَ الّذِي أَصَابَهُ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حُمَيْدٌ الطّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَشُجّ فِي وَجْهِهِ فَجَعَلَ الدّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ وَجَعَلَ يَمْسَحُ الدّمَ وَهُوَ يَقُولُ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَبُوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى رَبّهِمْ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ)( ).
الرابعة : إباحة لبس المسلمين الحرير في ساحة الوغى وميادين القتال وفيه مسائل :
الأولى : ظهور معالم الغنى والسعة والعز على المسلمين .
الثانية : دعوة العدو الكافر والناس جميعاً لدخول الإسلام ، وترغيبهم بسنن الإيمان .
الثالثة : دفع وهم ، فلا يظن الناس أن المسلمين في حال فقر وعوز .
الرابعة : بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار بأن حال الغنى عند المسلمين أمارة على كثرة مؤونهم وأسلحتهم ورجحان مجئ المدد لهم .
الخامسة : قوة الشكيمة عند المسلمين ، وبعث الحماس في نفوسهم ، وهذا اللبس والخضاب ونحوهما وسيلة للمناجاة بينهم لبذل الوسع في القتال وعدم الفرار .
الخامس : تقدير الآية : فما وهنوا لما اصابهم في سبيل الله لإقامتهم على الذكر والإسترجاع وعلمهم بأن الشهداء منهم [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( )وفلسفة الشهادة حاضرة مع كل نبي سواء الذين قاتلهم الكفار أو الذين إكتفوا بالدعوة إلى الله باللسان والكلم والموعظة .
فقد أراد الله عز وجل للمؤمنين توارث قانون الشهادة والتفاخر باصحابهم من الشهداء وإن لم يكونوا من أهل زمانهم أو كانوا من أتباع نبي سابق لزمانهم (عن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يأتيهم فيها رزقهم بكرة وعشيا)( ).
وهل يدل جهاد الربيين وإنقطاعهم إلى الإستغفار والدعاء أنهم كانوا فقراء ليس عندهم مكاسب للرزق , الجواب لا ،من جهات :
الأولى : دلالة هذه الآيات على غنى الربيين عما في أيدي الناس.
الثانية : إتصاف الربيين بعدم الوهن أو الضعف أو الإستكانة .
الثالثة : إخبار آية البحث بأن الله عز وجل تفضل على الربيين بثواب الدنيا ،ومنه السعة في الرزق والسلامة من الفقر والعوز .
السادس : فما ضعفوا في عبادتهم المفروضة عليهم كالصلاة والصيام ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه أن الربيين فرض عليهم الصيام وإستجابوا لأمر الله بالصيام لأن تسميتهم بالربيين شاهد على أنهم من المتقين والذين يخشون الله بالغيب ، ويكون تقديرها بلحاظ آية السياق [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] مع إستحضار قاعدة وهي بين المتقين والربيين عموم وخصوص مطلق ، فالمتقون أعم وأكثر وإذ انقضى زمان الربيين من الأمم الأخرى فان المتقين من المسلمين موجودون في كل زمان وإلى يوم القيامة .
السابع : فما ضعفوا في مراتب الإيمان وما طرأ الشك إلى نفوسهم )، فلم يقل الربيون إذا كان الذي نقاتل معه نبياً فلماذا لا ينزل الله عز وجل ملائكة لنصرته بل إجتهدوا في القتال والدفاع عن النبي والإسلام ، لذا نسبهم الله في تسميتهم إلى نفسه ليباهي بهم الملائكة ويذكرهم باحتجاجه عليهم عندما خلق آدم وجعله [خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ] ( )إذ قال الله سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الثامن : وما ضعفوا في الدعاء إلى الله عز وجل باللسان والحكمة ، فليس القتال هو السبب الوحيد في جذب الناس إلى الإسلام ، بل هو آخر الوسائل ونهاية الأسباب ، ولا يرجع إليه الأنبياء إلا في حال الدفاع ، وإنحصار كفاية شرور الكفار به ، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( )لذا قيل بلزوم إسناد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً لمن جمع بين الفقاهة والحكمة. ولكن ليس من حصر لمواضيع ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو جهة صدوره أو تلقيه ، فقد يحصل داخل البيت وفي السوق والمسجد وبأمور العبادات أو المعاملات أو الأحكام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( )، أي أن المسلمين والمسلمات جميعاً أهل للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهل يصح تقدير الآية أعلاه : أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعدم الضعف أو الإستكانة للعدو ).
الجواب نعم ، فلا يسقط القتال الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة ، وكذا العكس لذا فمن إعجاز آية السياق مجئ قوله تعالى [وَمَا ضَعُفُوا] مطلقاً من غير تقييد بحال القتال وإن كان هو المستقرأ من نظم الآية ، ويمكن تأسيس قانون وهو أن معنى اللفظ القرآني أعم من المستقرأ من نظمها لذا هناك موضوعية لكل من :
اولاً : أسباب النزول .
ثانياً :قانون التفسير الذاتي للقرآن وتفسير القرآن بالقرآن ، وهو من مصاديق [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) بلحاظ أن ذات القرآن شيء فلا بد أن القرآن يبين ذاته .
ثالثاً : السنة النبوية بخصوص ذات الآية القرآنية سواء السنة القولية أو الفعلية أو الدفاعية أو السنة التفسيرية .
ويحتمل دعاء الربيين وإستغفارهم كما في الآية السابقة [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]وجوهاً :
أولاً : إنه من الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة .
ثانياً : إنه من الدعوة إلى الله بالحكمة بلحاظ أن الموعظة نوع مفاعلة بين طرفين تتقوم بأطراف :
الأول : الواعظ .
الثاني : موضوع الموعظة .
الثالث : الموعوظ ومتلقي الموعظة ، وهل إستجابته لها طرف في ذات الموعظة أو أنها تسقط مع العلم بعدمها , الجواب لا هذا ولا ذاك , وهو المستقرأ من إطلاق الآية أعلاه من سورة النحل .
ثالثا: دعاء وإستغفار الربيين أمر خاص بهم وهو قوس الصعود وملاك السؤال بينهم وبين الله عز وجل .
ولا تعارض بين هذه الوجوه لما فيها من الدروس للناس وجذبهم لمنازل الهدى والرشاد .
التاسع : وما ضعفوا في إيمانهم ومراتب اليقين التي بلغوها )ولم يدخل الشك إلى نفوسهم ، إذ أن القتال أمر شديد على النفوس وكلما طالت مدته دبّ الضجر إلى النفوس وإشتاقت إلى حال الدعة والأمن وسئمت من لبس لأمة القتال.
ولكن البقاء في ذات درجات الإيمان والتقوى واقية من هذا الضجر ، ومائز ينفرد به المؤمنون ويكون سبباً للنصر والغلبة على العدو لأنه راجح في مقدمات القتال وساعة وقوعه ، كما أنه واقية من الإنكسار عند مباغتة العدو.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول القرآن نجوماً وتدريجياً بحسب مناسبة الحال والمشيئة الإلهية لتكون كل مرة تنزل فيها آية قرآنية على وجوه :
أولاً : تجديد إيمان المسلمين .
ثانياً: الأمن من الإرتداد وطرو الشك ، لذا ورد قبل أربع آيات قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
ليكون من معاني الآية : أفائن مات أو قتل وإنقطع نزول القرآن إنقلبتم على أعقابكم )، بلحاظ أن هذا النزول واقية من الإنقلاب وسلاح لتعاهد منازل الإيمان .
ثالثاً : إنه تجدد عملي لمعجزة وكيفية نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وكانت بعض الوفود من القبائل التي تأتي إلى المدينة المنورة تترقب نزول الوحي عليه وكيفيته [قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وان جبينه ليرفض عرقاً] ( ).
رابعاً : التدبر في أسباب نزول الآية القرآنية وموضوعها .
خامساً : نزول الوحي بالحث لعمل الصالحات وإجتناب السيئات.
سادساً : إنه مناسبة للتفقه في الدين والإحاطة بأحكام الشريعة وسنن الحلال والحرام .
سابعاً : فضح المنافقين ، وحثهم على التوبة .
ومن إعجاز القرآن أن كل آية قرآنية لها منطوق وموضوع وحكم ومفهوم وليس من حصر لمعانيها وتجلياتها ، وكل فرد من مضامينها ودلالاتها منعة للمسلمين وبرزخ دون ضعفهم ووهنهم .
العاشر : وما ضعفوا في تعاهد مرتبة الربيين التي هي شرف عظيم في النشأتين نالها أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم ببذل النفوس والثبات في منازل التقوى , كما تدل عليه آية السياق والآية السابقة وهذا المرتبة ليست إبتداء فقط إنما هي إبتداء وإستدامة ووراثة ، لذا طرد الربيون عن أنفسهم أسباب ومقدمات الضعف في مراتب الرفعة والعلو الإيمانية ، قال تعالى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
الحادي عشر : وما ضعفوا عن الهجرة إلى النبي ونصرته والهجرة المكانية وترك الأهل والعشيرة وحياة الدعة بينهم قربة إلى الله جهاد في سبيل الله وإن لم يكن من أجل القتال ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
ويدل على هذه الهجرة بالدلالة التضمنية قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]من جهات :
الأولى : كثرة الأنبياء الذين كان لكل واحد منهم أصحاب يقاتلون معه إذ أن القتال يستلزم الخروج من البلد والقرية سواء للدفاع أو الغزو كما في خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة أحد من المدينة للدفاع حينما بلغهم مجئ قريش وغطفان بجيش عرمرم للقتال في السنة الثالثة للهجرة النبوية بعد أن خسروا في معركة بدر (وقال موسى بن عقبة: ورجعت قريش فاستجلبوا من أطاعهم من مشركي العرب،
وسار أبو سفيان بن حرب في جمع قريش، وذلك في شوال من السنة المقبلة من وقعة بدر، حتى نزلوا ببطن الوادي الذى قبل أحد، وكان رجال من المسلمين لم يشهدوا بدرا قد ندموا على ما فاتهم من السابقة، وتمنوا لقاء العدو ليبلوا ما أبلى إخوانهم يوم بدر.
فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدرا بقدوم العدو عليهم، وقالوا: قد ساق الله علينا أمنيتنا.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى ليلة الجمعة رؤيا فأصبح، فجاءه نفر من أصحابه فقال لهم: رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح، والله خير، ورأيت سيفى ذا الفقار انقصم من عند ضبته، أو قال: به فلول، فكرهته، وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة وأنى مردف كبشا.
فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤياه، قالوا: يا رسول الله، ماذا
أولت رؤياك ؟ قال: ” أولت البقر الذى رأيت بقرا ( )فينا وفى القوم، وكرهت ما رأيت بسيفي “( ).
وفيه مسائل :
الأولى : بيان موضوعية رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي جزء من الوحي ، وفي إبراهيم وإبنه إسماعيل ورد قوله تعالى [قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( )، فلم يقل إسماعيل أنها رؤيا منام وأضغاث أحلام ، وأن القتل لا يكون بسبب الرؤيا خاصة مع عدم وجود راجح .
الثانية : بيان حقيقة وهي أن الرؤيا مدد إضافي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قبل المعركة .
الثالثة : تهيئة أذهان المسلمين لوقوع الخسارة وحدوث الشهادة .
الرابعة : الوقاية من مكر الكافرين وخبث المنافقين ، ومنعهم من الشماتة بالمسلمين أو التشكيك بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : بيان أن المسلمين بمرتبة الربيين في مقامات التقوى , لأن هذه الرؤيا وتأويلها تجعل كل واحد منهم ينتظر الشهادة والقتل في سبيل الله , وأن هذا الأمر لم يمنعهم من الخروج إلى القتال ، ولعله من أسباب رجوع نحو ثلث جيش المسلمين في الطريق إلى أحد حيث حرضهم على الرجوع رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول (قَالَ ابن إسْحَاقَ : حَتّى إذَا كَانُوا بِالشّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ ، انْخَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابن سَلُولَ بِثُلُثِ النّاسِ وَقَالَ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ وَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ يَا قَوْمِ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ أَلّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيّكُمْ عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ عَدُوّهِمْ فَقَالُوا : لَوْ نَعْلَمُ أَنّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ وَلَكِنّا لَا نَرَى أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ . قَالَ فَلَمّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ قَالَ أَبْعَدَكُمْ اللّهُ أَعْدَاءَ اللّهِ فَسَيُغْنِي اللّهُ عَنْكُمْ نَبِيّهُ0 ( ).
السادسة : توثيق حقيقة وهي أن المهاجرين والأنصار خرجوا للقتال باختيارهم وهم يعلمون بأن المعركة ستقع ويسقط منهم قتلى بخلاف معركة بدر التي جلبوا فيها الغنائم مع سبعين أسيراً وسبع وسبعين قتيلاً من المشركين .
السابعة : بيان مصداق ودليل على أن قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( )نزل في الثناء على المؤمنين الذين خرجوا إلى معركة أحد وليس ذمهم .
وعن موسى بن عقبة (ويقول رجال: كان الذى رأى بسيفه: الذى أصاب وجهه، فإن العدو أصاب وجهه يومئذ، وقصموا رباعيته وخرقوا شفته، يزعمون أن الذى رماه عتبة بن أبى وقاص، وكان البقر من قتل من المسلمين يومئذ.
وقال: أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو يقتله الله، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا واجعلوا الذراري في الآطام، فإن دخل علينا القوم في الازقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت.
وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى [ صارت ] كالحصن.
فقال الذين لم يشهدوا بدرا: كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه الله
إلينا وقرب المسير.
وقال رجل من الانصار: متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا ؟ وقال رجال: ماذا نمنع إذا لم نمنع الحرب بروع ؟ وقال رجال قولا صدقوا به ومضوا عليه، منهم حمزة بن عبدالمطلب، قال: والذى أنزل عليك الكتاب لنجادلهم( ).
وقال نعيم بن مالك بن ثعلبة، وهو أحد بنى سالم: يا نبى الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لادخلنها.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم ؟ قال: بأنى أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت.
واستشهد يومئذ.
وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه، ولو رضوا بالذى أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرا، قد علموا الذى سبق لاصحاب بدر من الفضيلة.
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة وعظ الناس وذكرهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثم انصرف من خطبته وصلاته، فدعا بلامته فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج.
فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي قالوا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمكث بالمدينة وهو أعلم بالله وما يريد ويأتيه الوحى من السماء.
فقالوا: يا رسول الله امكث كما أمرتنا.
فقال: ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب ( )وأذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم
إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا.
قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فسلكوا على البدائع وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بأحد.
ورجع عنه عبد الله بن أبى بن سلول في ثلاثمائة، فبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.
قال البيهقى: هذا هو المشهور عند أهل المغازى، أنهم بقوا في سبعمائة مقاتل.
قال: والمشهور عن الزهري أنهم بقوا في أربعمائة مقاتل] ( ).
الثانية : إخبار الآية عن القتال بصيغة الجمع ، ومع القتال تضمنت الآية السابقة دعاء الربيين للثبات في ميادين القتال والنصر على القوم الكافرين ، مما يدل على تجدد القتال الذي يحتاج إلى كثرة الرجال ، وتفضل الله عز وجل بالمعجزة للنبي ومن منافعها جذب الأنصار وإذكاء الهمم .
الثالثة : كثرة الربيين الذين يقاتلون مع النبي ،ويدل الجمع بين كثرة الأنبياء الذين قاتلوا الكفار وكثرة الربيين على مجيئهم من نواحي شتى .
الرابعة : صحيح أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي خاتمة النبوات وأن آية البحث جاءت بخصوص النبوات السابقة إلا أنه لا يمنع من الإستدلال بها في بيان كثرة عدد المهاجرين الذين وفدوا إلى المدينة المنورة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقتال معه ، وهذا الإستدلال ليس من الإستصحاب القهقري إنما هو لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وإن كانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وتوافد المؤمنين عليها آية ومعجزة له لم يشهد لها التأريخ مثيلاً كسبيل نجاة وإظهار لأحكام الرسالة وكثرة الأنصار .
الثاني عشرة : وما ضعفوا في رجائهم النصر والغلبة على الكفار ، وما أصابهم اليأس والقنوط ويتطلع الربيون لفضل الله في كل معركة بالظفر بالكفار وإلحاق الهزيمة بهم .
وهل للرجاء موضوعية في النصر , الجواب نعم خصوصاً الرجاء الذي يكون رشحة من رشحات التوكل على الله وحسن الظن بالمدد منه سبحانه، قال تعالى [حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ] ( ) وقد يقترب الرسل من اليأس بخصوص إيمان قومهم وكف الكفار عن القتال ، فيأتي نصر الله عز وجل لهم .
وهل كثرة الربيين من النصر الذي أخبرت عنه آية البحث أم أنهم عون لتحقيق النصر بدليل ما ورد في الآية السابقة [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] .
الجواب لا مانع من إجتماع الأمرين ، فكثرة الربيين نصر للرسل والأنبياء ، وتقدير الآية : جاءهم نصرنا بربيين كثير . ثم يأتي النصر الأكبر للنبي وأصحابه والمسلمين عموماً في ميادين القتال كما في قوله تعالى [حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ).
الثالث عشر : لم يرد لفظ [ضعفوا ] في القرآن إلا في آية السياق وورد بصيغة النفي ،وفيه دعوة للمسلمين لإجتناب الوهن والضعف .
وتقدير الآية : وما ضعفوا فلا تضعفوا )وعدم ضعف المسلمين من باب الأولوية لأن الله عز وجل أكرمهم وصيرّهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وقد أثبت المسلمون أنهم على نهج الربيين فلم يضعفوا ولم يخضعوا لكفار قريش ولم ترهبهم كثرة جيوشهم وخيولهم وجعجعة أسلحتهم ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدفاع وميادين القتال .
في الآية مسائل :
الأولى : إبتدأت الآية بحرف العطف الفاء الذي ينفي التراخي بين السبب والمسُبب ،وبين الدعاء والإستجابة ، فمن فضل الله على الربيين انهم لم يغادروا الدنيا حتى رأوا الثواب العظيم الذي جزاهم الله عز وجل به على إيمانهم .
وهل هذه النعمة خاصة بهم وأنها رفعت من بعدهم ، أم أنها باقية في الأرض هبة من عند الله على المؤمنين , الجواب هو الثاني فاذا إجتهد المؤمنون في قتال الكفار ، وإنقطعوا إلى الدعاء فانه سبحانه يرزقهم ذات نعمة النصر والثواب العظيم الذي رزق الربيين والمصاديق العملية جلية للحواس ، ويكون تقدير آية البحث بخصوص زمان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه : فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ] .
[عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل، فقال: “يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها”، قال: “فإن طالت بك حياة فَلَتَريَنَّ الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله”، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد؟، “.
ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى” قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: “كسرى بن هرمز.
ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب وفضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليَلْقَينَّ اللهَ أحدُكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجمُ فليقولنّ له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنَّم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم”.
قال عدي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة”، قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت ممن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترونَّ ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يخرج ملء كفه] ( ).
الثانية :بعث الحسرة في نفوس الكافرين لحرمانهم من ثواب الدنيا وثواب الآخرة ، إذ تبين آية البحث أموراً :
الأول : ثواب الدنيا بيد الله عز وجل ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ).
الثاني : ثواب الآخرة بيد الله عز وجل وحده .
الثالث : يأتي الثواب جزاء على الإيمان وعمل الصالحات , وحجب الكفار عن أنفسهم هذه النعمة وأصروا على الكفر .
الثالثة : بعث المسلمين على التفقه في الدين ومعرفة كيفية جذب الثواب الذي هو رحمة خاصة بالمؤمنين .
الرابعة : ترغيب الناس بالإسلام لأن فيه ثواب الدنيا والآخرة، وليس في البقاء على الكفر والضلالة من أجر أو ثواب ،والكفر سبب لمجئ العقاب من عند الله عز وجل بلحاظ أن الدنيا دار إمتحان وإختبار ومزرعة للآخرة ، فليس من برزخ بين الثواب والعقاب وليس من أمة لا يأتيها ثواب أو عقاب ، بل لابد لكل إنسان من أحد أمرين , ليكون المصير إما إلى الجنة بالثواب , وأما إلى النار عقوبة على الكفر والظلم والعتو ، قال تعالى [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] ( ).
الخامسة : دعوة المسلمين للإلحاح بالدعاء رجاء الثواب .
السادسة : تدبر المسلمين في ماهية الأحداث والوقائع لإستقراء الثواب العاجل والآجل الذي يأتي من عند الله ليزدادوا إيماناً وليتوجهوا بالشكر لله على النعم .
المسألة الثانية عشرة : ذكرت آية البحث ثواب الدنيا وهو متعدد من وجوه:
الأول : الثواب الذي يأتي إبتداء من عند الله .
الثاني : الثواب جزاء من عند الله على كل فرد من الصالحات التي عملها الربيون من جهات :
الأولى : الإيمان بالله .
الثانية : التصديق بالنبوة والتنزيل .
الثالثة : نصرة نبي الزمان والذب عنه .
الرابعة : بعث اليأس والقنوط في نفوس الكفار وصدهم عن الوصول إلى النبي ومنعهم من حجب معجزاته عن الناس ، وهو من اللطف الإلهي في النبوة بأن يتفضل الله عز وجل ويهيئ أسباب علم الناس بالمعجزة ويحجب المانع التي تحول دون بلوغها لهم .
الخامسة : كثرة الربيين ، وهي سبب في نزول الثواب عليهم ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بلحاظ كثرتهم بالمقارنة مع الربيين بلحاظ مجموع أجيال المسلمين أم أن كل طبقة وجيل منهم كثيرون , الجواب هو الثاني وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء ، وصيرورة رسالته خاتمة الرسالات .
السادسة : الثواب الذي يأتي للربيين على أمرين :
الأول : ما أصاب الربيين من الخسائر والأضرار والجراحات في سبيل الله .
الثاني : عدم الوهن والضعف بسبب هذه الأضرار .
ومن خصائص القتال أن العدو يسعى لإنزال أشد الخسائر بعدوه في ميادين الوغى ومقدماته ، وإرباك الحالة النفسية للخصم وبعث الفزع في نفوس أفراده ، فجاءت آية البحث لتؤكد سلامة الربيين من الوهن والضعف ثواباً من عند الله ، ولتكون هذه السلامة وثوابها علة وسبباً لثواب دنيوي آخر وثواب أخروي يتصف بالحسن الذي يجعله يفوق التصور الذهني .
السابعة : بيان قانون كلي وهو أن الذين يؤتيهم الله الثواب الدنيوي العاجل يكونون في عصمة من الضعف والخضوع والذل للقوم الكافرين مجتمعين ومتفرقين ، وتتجلى هنا موضوعية للكثرة في قوله تعالى [رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] لأن بعضهم يعضد الآخر .
[عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا] ( ).
الثامنة : مجئ الثواب الدنيوي العاجل على الصبر ، ويحتمل هذا الوجه من الثواب ضروباً :
الأول : يأتي الثواب من ذات سنخية الصبر .
الثاني : الثواب هو جزاء على الصبر في أمور الدنيا .
الثالث : يأتي الثواب في مقدمات الصبر .
الرابع : ذات الصبر الذي أشارت إليه خاتمة آية السياق بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]هو ثواب من عند الله ، أي ما كان للربيين الثبات في وجه الكفار وبطشهم وكثرة أسلحتهم لولا أن يمدهم الله عز وجل بسلاح الصبر والسكينة ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الثواب على الصبر ، إذ أن آية البحث وردت على نحو الإطلاق ، وخزائن السموات والأرض بيد الله يهب منها ما يشاء لمن يشاء .
التاسعة : مجئ الثواب للربيين ببيان الفرائض والواجبات العبادية بواسطة الأنبياء والتنزيل وإعانتهم على أدائها ، كما تجلى في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي قوله تعالى أعلاه [لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ] [قال ابن عباس : بعث الله نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة أن لا إله إلاّ الله،
فلمّا صدّقوا فيها زادهم الصلاة،
فلمّا صدّقوا زادهم الصيام،
فلمّا صدّقوا زادهم الزّكاة،
فلمّا صدّقوا زادهم الحجّ،
ثمّ زادهم الجهاد،
ثمّ أكمل لهم دينهم بذلك] ( ).
العاشرة : إظهار الربيين الخضوع والخشوع لله عز وجل، وسؤالهم العفو والمغفرة من عند الله، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال إبليس وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني( ).
الحادية عشرة : مجئ الثواب للربيين لأنهم سألوا الله عز وجل ثبات الأقدام، والذي يدل بالدلالة التضمنية على إقرارهم بالحاجة إلى رحمة الله، ولم يتكلوا على كثرتهم التي وردت بقوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( )، ترى لماذا لم يلجأوا إلى وجود نبي الزمان بين ظهرانيهم، وتجلي معجزاته، الجواب لم يغفل الربيون عن حضور النبي بينهم، ويعلمون بنفعه العظيم ولكنهم أدركوا بأن ما يأتي به النبي من المعجزة هو من عند الله عز وجل، وتقدير الآية السابقة على جهات:
الأولى : وثبت أقدامنا وأقدام نبي الزمان.
الثانية : وثبت أقدامنا في منازل الإيمان بك سبحانك وبالنبي الذي بعثت.
الثالثة : وثبت أقدامنا في مقامات الإيمان التي جاء بها النبي.
الرابعة : وثبت أقدامنا لنصرة نبي الزمان والدفاع عنه.
الخامسة : وثبت أقدامنا لتبليغ البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : وثبت أقدامنا كي ننال الثواب الدنيوي والأخروي.
السابعة : وثبت أقدامنا ليزداد عددنا وتتجلى للناس كثرتنا.
وبعد فتح مكة وظهور الإسلام ودخول الناس فيه أفواجاً , قال بعضهم: لن نهزم اليوم من قلة، قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ لَمّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إنّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا ، قَالَ وَفِي عَمَايَةِ الصّبْحِ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إلَى الْوَادِي ، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ وَمَضَايِقِهِ وَقَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيّئُوا وَأَعَدّوا ، فَوَاَللّهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطّونَ إلّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدّوا عَلَيْنَا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَانْشَمَرَ النّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَانْحَازَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمّ قَالَ أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ هَلُمّوا إلَيّ أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . قَالَ فَلَا شَيْءَ حَمَلَتْ الْإِبِلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَانْطَلَقَ النّاسُ إلّا أَنّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ( ).
لقد باغتت هوازن المسلمين في الوادي وهجموا عليهم في آن واحد ومن مواضع متعددة ولم يكن المسلمون في حال نفير وتهيئ ودفاع بل كانوا فرحين بفضل الله عز وجل بالفتح وهو ثمرة الجهاد في سنين عجاف، ولكن دعاء[وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( )، حاضر في المقام وكذا الثواب من عند الله، وشاء الله عز وجل أن يظهر يومئذ علامات النفاق ويكشف أهل الحسد والريب ليكون نصراً آخر ، ويتعلم المسلمون درساً جهادياً، ويشهد الناس بأجيالهم المتعاقبة أن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ضرورة دفاعية وكذا بالنسبة لقتال الربيين وليس هو من الإستصحاب القهقري الذي لا نقول به في علم الأصول، ولكنه من وحدة سنخية النبوة، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
قال ابن إسحاق: فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الضّغْنِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ : لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ وَإِنّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ . وَصَرَخَ جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ , قَالَ ابن هِشَامٍ : كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ وَهُوَ مع أَخِيهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ مُشْرِكٌ فِي الْمُدّةِ الّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاكَ فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ .
قَالَ ابن هِشَامٍ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَهْجُو كَلَدَةَ
رَأَيْتُ سَوَادًا مِنْ بَعِيدٍ فَرَاعَنِي … أَبُو حَنْبَلٍ يَنْزُو عَلَى أُمّ حَنْبَلِ
كَأَنّ الّذِي يَنْزُو بِهِ فَوْقَ بَطْنِهَا … ذِرَاعُ قَلُوصٍ مِنْ نِتَاجِ ابن عِزْهِلِ
أَنْشَدَنَا أَبُو زَيْدٍ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَذَكَرَ لَنَا أَنّهُ هَجَا بِهِمَا صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ ، وَكَانَ أَخَا كَلَدَةَ لِأُمّهِ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ قُلْت : الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي ( مِنْ مُحَمّدٍ ) ، وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ، الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمّدًا . قَالَ فَأَدَرْتُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَقْتُلَهُ فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي ، فَلَمْ أُطِقْ ذَاكَ وَعَلِمْت أَنّهُ مَمْنُوعٌ مِنّي . قَال ابن إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ مَكّةَ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حِينَ فَصَلَ مِنْ مَكّةَ إلَى حُنَيْنٍ ، وَرَأَى كَثْرَةَ مَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِ اللّهِ لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلّة , قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَزَعَمَ بَعْضُ النّاسِ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَهَا .
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبّاسِ عَنْ أَبِيهِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَالَ إنّي لَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آخِذٌ بِحَكَمَةِ ,قال وَكُنْت امْرَأً جَسِيمًا شَدِيدَ الصّوْتِ قَالَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنْ النّاسِ ” أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ ” فَلَمْ أَرَ النّاسَ يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ فَقَالَ يَا عَبّاسُ اُصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَة( )ِ قَالَ فَأَجَابُوا : لَبّيْكَ لَبّيْكَ قَالَ فَيَذْهَبُ الرّجُلُ لِيُثْنِيَ بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُ دُرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ وَيُخَلّي سَبِيلَهُ فَيَؤُمّ الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . حَتّى إذَا اجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ مِائَةٌ اسْتَقْبَلُوا النّاسَ فَاقْتَتَلُوا ، وَكَانَتْ الدّعْوَى أَوّلَ مَا كَانَتْ يَا لِلْأَنْصَارِ . ثُمّ خَلَصَتْ أَخِيرًا : يَا لِلْخَزْرَجِ . وَكَانُوا صَبْرًا عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَكَائِبِهِ . فَنَظَرَ إلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ فَقَالَ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ، قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْن جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ بَيْنَا ذَلِكَ الرّجُلُ مِنْ هَوَازِنَ صَاحِبُ الرّايَةِ عَلَى جَمَلِهِ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ إذْ هَوَى لَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُرِيدَانِهِ قَالَ فَيَأْتِيهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَيْ الْجَمَلِ فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيّ عَلَى الرّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ فَانْجَعَفَ عَنْ رَحْلِهِ قَالَ وَاجْتَلَدَ النّاسُ فَوَاَللّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وَجَدُوا الْأُسَارَى مُكَتّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ( ).
رشحات حب الله للصابرين
أختتمت آية السياق بقانون وهو أن الله عز وجل يحب الصابرين فجاءتهم بحار البيان التي لا تسعها القراطيس ليشترك المسلمون مع الناس جميعاً بالمعنى الأعم للبيان الوارد في قوله تعالى [خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ] ( ) وينفردوا بمعاني خاصة من ذات البيان بنزول القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ومنه آية البحث التي هي شاهد سماوي يتحدى الكافرين ويتضمن ذلهم وتوبيخهم وإنذارهم من جهات :
الأولى : الإخبار بمجئ الثواب العظيم للربيين من عند الله .
الثانية : حرمان الكفار من الثواب .
الثالثة : ترتب الإثم والعقاب على الكفار بسبب محاربتهم للربيين لجحودهم بالنعم , ومنها نعمة بعث الأنبياء ، قال تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ]( ).
الرابعة : زجر الكفار عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في كل زمان ، وهو من ثمرات آية السياق والبحث، والجمع بينهما .
الخامس : التحدي بإخبار الناس جميعاً عن خسارة الكفار الذين يحاربون الإسلام من وجوه :
الأول : بيان قانون وهو الدار الدنيا وعاء لثواب عظيم [لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] ( ).
الثاني : ثواب الدنيا والآخرة بيد الله عز وجل .
الثالث : فوز المسلمين بالثواب في الدنيا والآخرة .
السادسة : زجر الناس عن إعانة الكفار والمشركين في قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فان قلت قد زحف عشرة آلاف رجل لقتال النبي وأصحابه في معركة الخندق ، ويدل هذا العدد آنذاك على إصطفاف القبائل خلف رايات قريش ، والجواب نعم ، إنه عدد كبير بلحاظ سكان مكة وقبائل الجزيرة آنذاك ، ولكن الحجة ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى من وجوه :
الأول : عدم نشوب حرب وقتال في معركة الخندق .
الثاني : لقد كانت قريش تعلم أن هذه المعركة هي الفيصل بين المسلمين والكفار لذا سماها الله عز وجل واقعة الأحزاب بقوله تعالى [ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ] ( ).
ومع هذا عجزوا عن إقتحام المدينة المنورة وأصابهم الفزع والخوف .
الثالث : لم تمر الأيام والليالي حتى دخلت هذه الآلاف من الناس الإسلام .
الرابع : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تراجع وإنحسار هجوم الكفار مع ثبات المؤمنين في ميادين القتال من وجوه :
أولاً : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في السنة الثانية للهجرة إلى معركة بدر ، وقدّم أهل بيته لأول مبارزة في تأريخ الإسلام إذ ندب الأمام علي عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب وعبيد بن الحارث لملاقاة الكفار الذين طلبوا وعلى مرأى ومسمع من الفريقين المبارزة الفردية وهم عتبة بن ربيعة وإبنه الوليد وأخوه شيبة ، وكان النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، قال تعالى [َوَلَقَد نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
ثانياً : لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة إلا بعد أن بلغه قدوم جيوش الكفار من قريش وغطفان والأحابيش ليثأروا لقتلاهم في معركة بدر ولما لحقهم من الخزي يومئذ .
ولم يأت خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أحد عن إجماع من المهاجرين والأنصار بل حدث إختلاف بينهم ، وإتخذه المنافقون ذريعة للإنسحاب وسط الطريق إلى المعركة بنحو ثلث الجيش البالغ عدده نحو ألف من الرجال ، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع الجدال والإختلاف بدخول بيته وخروجه لابساً لأمة الحرب ، وهذا الدخول والخروج من الوحي .
ثالثاً : إكتفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحفر الخندق حول بعض أطراف المدينة يوم الأحزاب ،ويحتمل هذا الخندق وجوهاً :
الأول : إنه من مشورة لسلمان الفارسي عمل بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثاني : إنه من الوحي والتنزيل .
الثالث : إنه حاجة وأمر رأى المسلمون أنه ضرورة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ،والصحيح هو الثاني ويكون الوجهان الآخران في طوله ،ومن رشحاته إذ أن إمضاء النبي لمشورة الصحابي سلمان من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
ويحتمل حب الله عز وجل للصابرين وجوهاً :
الأول : عند تحليهم بالصبر .
الثاني : حب الله للصابرين في الحياة الدنيا .
الثالث : حب الله للصابرين في الآخرة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية لوجوه :
الأول : أصالة الإطلاق وعدم وجود تقييد في البين.
الثاني : إن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم .
الثالث : تغشي حب الله عز وجل للصابرين أمن وسلامة من اهوال الدنيا والآخرة ، ومن مصاديق الإطلاق في قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )لذا أخبرت آية البحث عن تفضيل الله عز وجل لهم بإتيانهم ثواب الدنيا والآخرة .
وذكرت آية السياق إسمين بصفة الجمع :
الأول : ربيون .
الثاني : لفظ (الصابرين ).
وكل منهما معرفة وهو الاسم الذي يدل على فرد أو أفراد معينين من ذات الجنس مثل : القرآن ،الرجال ،البلد كما في دعاء إبراهيم عليه السلام بخصوص مكة [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا]( ).
بخلاف النكرة وهو كل اسم لا يدل على معين من أفراد جنسه مثل : كتاب ، بلد .
ولفظ (ربيون) معرفة على نحو الإجمال لأن مسبوق بأداة تعريف وهو قتالهم مع نبي زمانهم في سبيل الله فهذا اللفظ ليس شائعاً غير معين ، بل هم أمة أكرمهم الله عز وجل بالجهاد في سبيله ورزقهم نعمة عظمى لم ينلها غيرهم من أهل الأرض وهي إفرادهم بهذا الاسم التشريفي (ربيون) وما يدل عليه من الشهادة لهم باخلاص العبادة لله وصدق الجهاد في سبيله ، وما دام في الأرض أمة من الربيين فأن الإسلام وعبادة الله باقية وفيه شاهد وبشارة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الشواهد على إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )عندما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض وأن هذه الخلافة سبب للإفساد في الأرض وسفك الدماء ، ليكون من وظائف الربيين أمور :
الأول : نصرة الأنبياء .
الثاني : تعاهد الإيمان بالله في الأرض .
الثالث : القتال بالسيف وبذل النفوس في سبيل الله ، وفيه نكتة من جهات :
الأولى : تهيئة مقدمات وسبل تبليغ كل نبي لرسالته .
الثانية : بيان كل نبي لمعجزته وسيوف الربيين تحرسه وتحيط به ، ليكون من معاني العصمة في قوله تعالى خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ) وجود صحابة منتجبين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يذبون عنه ، ويبذلون أنفسهم من أجل أمور :
الأول : إستدامة نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني :تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ينزل من آيات القرآن وتبليغها الناس ، وتدوين كتاب الوحي لها .
الثالث : عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأحكام آيات القرآن ، ليكون من وظائف أهل البيت والصحابة المبادرة إلى الإمتثال للأوامر الإلهية ، وإجتناب ما نهى الله عنه .
الثالثة : تدل آية السياق والبحث على حسن سمت الربيين وطاعتهم لله والأنبياء .
ومن الإعجاز في آية السياق مجيؤها بلفظ النبي [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ] وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول , وفي ورود الآية أعلاه بلفظ النبي وليس الرسول طرد لوهم , فلا يقال أن صفة الربيين خاصة بالرسل وأن القتال لا يصح إلا معهم ، بل جاهد الأنبياء وقاتل معهم أصحابهم وليس بين أصحاب الرسل والأنبياء من فارق ، فكل فريق منهم يسمى ربيين ، وكل فرد منهم يسمى ربي لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، وفيه وجوه :
الأول : إنه من الإعجاز بمجئ آية السياق بالبيان .
الثاني : إرادة المعنى الأعم للنبوة والوحي .
الثالث : تأكيد كثرة عدد الربيين مجتمعين ومتفرقين .
الرابعة : ترك الربيين القتال في سبيل الله إرثاً لأبنائهم والتابعين والمؤمنين من بعدهم .
الخامسة :صيرورة الخوف والفزع خصلة للكفار ، قال تعالى [لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ ] ( ) .
ليكون من مصاديق ومعاني حب الله للصابرين نفعهم المتجدد حتى بعد إنقضاء أيام حياتهم , وهذا النفع بفضل ومدد من عند الله عز وجل ومنه آية السياق والبحث فلكل واحدة منهما نفع متعدد من جهات :
الأولى : إصلاح المؤمنين لإتباع نهج الربيين , وفي الثناء على إبراهيم والذين آمنوا وجاهدوا معه قال تعالى في خطاب للمسلمين [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ] ( ).
الثانية : نيل الربيين الثواب لصيرورتهم قدوة مباركة في طريق الهداية ، ليكون من معاني قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )إتباع نهج الأنبياء وأصحابهم ، وبذل الوسع لبلوغ مرتبة الصابرين ، والفوز بحب الله عز وجل .
الثالثة : إنذار الكفار في كل زمان ، وبشارتهم بالخيبة والخسران فآية الربيين شاهد على دوام الإيمان ، وجهاد المؤمنين في سبل الهداية والرشاد .
الرابعة : بيان إنتفاء التكافؤ بين المؤمنين والقوم الكافرين بفوز المؤمنين بأمور :
الأول : نيل مرتبة الصبر .
الثاني : العمل من مقامات الصبر وحبس النفس على الأذى .
الثالث :حب الله عز وجل للمؤمنين في كل زمان ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : يحب الله الصابرين .
الصغرى :المسلمون صابرون .
النتيجة : يحب الله المسلمين .
ويتحقق الصبر وصرف الطبيعة منه من وجوه :
الأول : أداء المسلمين الفرائض العبادية .
الثاني : تحمل الأذى بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : حبس النفس الشهوية والإمتناع عن المعاصي ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
وتقدير قوله تعالى [وَمَا اسْتَكَانُوا] على وجوه :
الأول : وما استكانوا وما ذلوا ) فجاءت الآية مطلقة من غير تقييد بالحجة التي عصم الربيون أنفسهم بها من الإستكانة للظالمين ، قال تعالى [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]أي لا تكون الدعوة إلى الصلح والمسالمة بسبب خوف وفزع من الكفار وكثرتهم والمراد على شعبتين :
الأولى : ما إستكانوا للكفار فلم يخضعوا لهم أو يقبلوا شروطهم.
الثانية : تنمية ملكة العزة عند الربيين فما إستكانوا في سعيهم ، ولم تظهر علامات الذل والخضوع عليهم .
الثاني : فما إستكانوا بسبب ما أصابهم في سبيل الله ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) فان تقدير الآية على شعبتين :
الأولى : وما ضعفوا لما أصابهم في سبيل الله .
الثانية : وما إستكانوا لما أصابهم في سبيل لله.
الثالث : وما إستكانوا وما ذلوا إلا لله عز وجل .
الرابع : وما إستكانوا للكفار توكلاً على الله وثقة بفضله ومدده .
الخامس : وما إستكانوا لحاجاتهم للعز وعدم إظهار الخوف من الكفار .
ترى لماذا لم تقل الآية فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا لما أصابهم في سبيل الله ، الجواب من جهات :
الأولى :بيان قانون وهو بين عدم الضعف وعدم الوهن عموم وخصوص من جهة السبب والموضوع ، وكذا ذات النسبة بين عدم الإستكانة وعدم الوهن .
الثانية : ترتب عدم ضعف وإستكانة الربيين على عدم الوهن والجبن بسبب الخسارة التي لحقت بهم في ميادين القتال .
الثالثة :ملازمة عدم الوهن للربيين في حال الحرب بدليل تعقبه بعد ذكر القتال وبحرف العطف الفاء الذي ينفي الفترة أو التراخي [قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا]( ) .
الثالث : فما إستكانوا إلا لله عز وجل ، لذا تفضل الله سبحانه ونسبهم في تسميتهم إلى نفسه بالإضافة إلى رفعة ومرتبة الربيين المطلقة بين الناس ،فسماهم الربيين وتتجلى إستكانة وخضوع الربيين لله عز وجل من جهات :
الأولى : إيمان الربيين بالله عز وجل والتصديق بنبي زمانهم .
الثانية : تلقي الأوامر والنواهي والبشارات والإنذارات التي يأتي بها النبي بالقبول والتصديق .
الثالثة : قتال الربيين تحت لواء النبي ، وهو من أبهى معاني الإستكانة والخضوع لله عز وجل ، وقد ذم الله عز وجل الكفار بقوله [فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ] ( )ولم تقيد الإستكانة هنا بالقتال بل يكفي الخضوع والإقرار بالعبودية لله عز وجل وأداء الفرائض .
وقد أبطأت ثقيف في دخولها الإسلام وجاء وفد من رؤسائها بعد فتح مكة وواقعة حنين وقتل عروة وأدركوا أنه لا طاقة لهم بقتال المسلمين وقد بايع العرب وأسلموا .
[فَلَمّا دَنَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَنَزَلُوا قَنَاةَ ، أَلْفَوْا بِهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ ، يَرْعَى فِي نوْبَتِهِ رِكَابَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ رِعْيَتُهَا نُوَبًا عَلَى أَصْحَابِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَآهُمْ تَرَكَ الرّكَابَ عِنْدَ الثّقَفِيّينَ وَضَبَرَ يَشْتَدّ ، لِيُبَشّرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَكْبِ ثَقِيفٍ أَنْ قَدْ قَدِمُوا يُرِيدُونَ الْبَيْعَةَ وَالْإِسْلَامَ بِأَنْ يَشْرُطَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شُرُوطًا ، وَيَكْتَتِبُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا فِي قَوْمِهِمْ وَبِلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُغِيرَةِ أَقْسَمْت عَلَيْك بِاَللّهِ لَا تَسْبِقُنِي إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَكُونَ أَنَا أُحَدّثُهُ فَفَعَلَ الْمُغِيرَةُ .
فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَأَخْبَرَهُ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَرَوّحَ الظّهْرَ مَعَهُمْ وَعَلّمَهُمْ كَيْفَ يُحَيّونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يَفْعَلُوا إلّا بِتَحِيّةِ الْجَاهِلِيّةِ .
وَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ضَرَبَ عَلَيْهِمْ قُبّةً فِي نَاحِيَةِ مَسْجِدِهِ كَمَا يَزْعُمُونَ فَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، هُوَ الّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى اكْتَتَبُوا كِتَابَهُمْ وَكَانَ خَالِدٌ هُوَ الّذِي كَتَبَ كِتَابَهُمْ بِيَدِهِ .
وَكَانُوا لَا يَطْعَمُونَ طَعَامًا يَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى يَأْكُلَ مِنْهُ خَالِدٌ حَتّى أَسْلَمُوا وَفَرَغُوا مِنْ كِتَابِهِمْ ، ولعلهم يخشون دس السم فيه ، بسبب محاربتهم للإسلام ، وإصرارهم على الكفر والقتال حتى بعد فتح مكة
وَقَدْ كَانَ فِيمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَدَعَ لَهُمْ الطّاغِيَةَ ، وَهِيَ اللّاتِي ، لَا يَهْدِمُهَا ثَلَاثَ سِنِينَ فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَمَا بَرِحُوا يَسْأَلُونَهُ سَنَةً سَنَةً وَيَأْبَى عَلَيْهِمْ حَتّى سَأَلُوا شَهْرًا وَاحِدًا بَعْدَ مَقْدَمِهِمْ فَأَبَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَدَعَهَا شَيْئًا مُسَمّى ، وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِيمَا يُظْهِرُونَ أَنْ يَتَسَلّمُوا بِتَرْكِهَا مِنْ سُفَهَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ وَيَكْرَهُونَ أَنْ يُرَوّعُوا قَوْمَهُمْ بِهَدْمِهَا حَتّى يَدْخُلَهُمْ الْإِسْلَامُ , فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَنْ يَبْعَثَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَيَهْدِمَاهَا ، وَقَدْ كَانُوا سَأَلُوهُ مَعَ تَرْكِ الطّاغِيَةِ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ الصّلَاةِ وَأَنْ لَا يَكْسِرُوا أَوْثَانَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا كَسْرُ أَوْثَانِكُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَسَنُعْفِيكُمْ مِنْهُ وَأَمّا الصّلَاةُ فَإِنّهُ لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ فَسَنُؤْتِيكهَا ، وَإِنْ كَانَتْ دَنَاءَةً] ( ).
الرابعة : كثرة الربيين إذ أنها سبب وموضوع للإستكانة والخضوع لله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) بلحاظ المناجاة بينهم بخصال الخشوع والخضوع لله عز وجل .
[عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية وأغزاها التقى المنافقون فانغضوا رؤوسهم إلى المسلمين ، ويقولون : قتل القوم .
وإذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تناجوا وأظهروا الحزن فبلغ ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن المسلمين ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإِثم والعدوان] ( ) .
ويحتمل الخطاب في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إرادة المسلمين جميعاً ، ويشمل الخطاب المنافقين .
الثاني : خروج المنافقين بالتخصيص لعدم إيمانهم حقيقة .
الثالث :المقصود في الخطاب إنذار المنافقين على نحو الخصوص .
والصحيح هو الأول ، لإرادة الإيمان الظاهري والنطق بالشهادتين ، لذا تأتي الفرائض بصيغة التكليف على نحو العموم الإستغراقي ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
الخامسة : لقد وصف الله عز وجل الربيين بأنهم [ما وهنوا] وعدم الوهن رشحة من رشحات الخضوع والإستكانة لله عز وجل ، فكلما أفنى العبد نفسه في مرضاة الله فانه يتماسك أمام العدو .
السادسة : تحمل الضرر والجراحات بصبر وحبس للنفس وعدم الشكوى إلا لله عز وجل مما يبعث الخيبة واليأس في نفوس الكفار .
السابعة : تبين آية السياق أن الربيين لم يضعفوا ،وهو من نتائج حسن التوكل على الله والرضا بما قسم الله لهم من الثواب العظيم ، ومن الآيات أن الربيين يجمعون في الفوز بين بأمور :
الأول : الاسم التشريفي [ الربيون ] .
الثاني : الثواب الدنيوي العاجل .
الثالث : الثواب الأخروي الآجل .
الرابع : فما استكانوا طيلة أيام حياتهم ، ليكون من خصائص الربيين التي تدل عليها آية السياق أن الربيين لما نالوا هذه المرتبة العظيمة صاحبهم العز والفخر والتحدي للكفار إلى أن غادروا الدنيا.
الخامس : وما استكانوا إن أصابتهم الفاقة والجوع فقد يفرض الكفار الحصار على المؤمنين كما في شعب أبي طالب ليلقى أهل البيت أشد الأذى والحاجة ولكنهم صبروا وتحملوا الأذى كما صبر الربيون في سبيل الله .
ولم تمر الأيام والسنين بعد شعب أبي طالب حتى وقع الحصار على كفار قريش وأهل مكة [قال ابن عباس : لما أتى ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم وهو أسير فخلّى سبيله فلحق باليمامة .
فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة وأخذ الله قريشاً بسنيّ الجدب حتى أكلوا العِلهز( )،
فجاء أبو سفيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أُنشدك بالله والرحم أليس تزعم أنك بُعثت رحمة للعالمين؟
فقال : بلى.
فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع،
فأنزل الله سبحانه هذه الآية : {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ}]( ).
فكتب النبي إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين ميرتهم.
السادس : وما إستكانوا عند قتل أو موت نبي زمانهم بل إستمروا في الجهاد ومحاربة الكفار ، لتتضمن آية السياق الإنذار إلى الكفار أن لا تنظروا موت النبي ،فان أصحابه الربيين يقاتلونكم في حياته وبعد مغادرته إلى الرفيق الأعلى ، وهو من أسرار تسميتهم ونسبتهم إلى الرب سبحانه لأنهم يقاتلون الكفار بعد موت النبي كما كانوا يقاتلونهم في حياته .
وصحيح أن الآية بخصوص الأنبياء السابقين وأصحابهم إلا أن المراد أيضاً الدلالة على أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما بعده وأن قتال أهل البيت والصحابة للكفار مستمر بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى ، وهو من الإعجاز في لغة التشبيه في أول آية السياق .
وتقدير الآية : وكأين من نبي كالنبي محمد قاتل معه ربيون كثير .
لذا يصح قراءة الآية على وجوه :
الأول : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله .
الثاني : فما يهنون لما أصابهم في سبيل الله .
الثالث : وما يضعفون .
الرابع : وما يستكينون .
الخامس : وما ضعفوا وما يستكينون .
السادس : وما يضعفون وما استكانوا .
وما ضعفوا لعدوهم بل صبروا في ملاقاته لعلمهم بأن الله يحب الصابرين في سبيل الحق والهدى .
ومن إعجاز آية السياق أنها أختتمت بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] بعد أن قيدت فعل الربيين بالإيمان وأنه في سبيل الله ليكون من مصاديق صبر الربيين إتصافهم بالخصال الحميدة المتعددة التي ذكرتها آية السياق والآية السابقة ، وقد تقدم البيان في الجزء السابق .
السابع : وما إستكانوا وما ذلوا عند موت أو قتل نبيهم )ليكون المعنى من باب الأولوية أنهم لم يرتدوا على أعقابهم ، بل قاتلوا على ذات النهج الذي قاتل عليه نبيهم حتى غادروا الدنيا بالموت أو القتل ، فرجعوا إلى ثواب الله عز وجل الذي وعدهم به في آية البحث ، ولتكون تسميتهم بالربيين أمناً وحرزاً لهم في الآخرة .
وهل من أثر للاسم [ الربيون] من أثر في عدم الإستكانة, الجواب فيه وجوه:
الأول :عدم ترتب الأثر على جهاد وصبر الربيين للتباين بين الاسم والمسمى .
الثاني : التفصيل إذا كان أصحاب الأنبياء يعلمون بأن الله عز وجل رزقهم اسم الربيين كما لو أخبرهم الأنبياء أو ذكره الله في الكتب السماوية السابقة بهذا الاسم تكون للاسم موضوعية في عملهم ، وإذا لم يعلموا بهذا الاسم فلا أثر له .
الثالث : رزق الله عز وجل أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم اسم الربيين ولهذا الرزق أثر ونفع ومبرز خارجي .
والصحيح هو الثالث وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا]وتقديره فآتاهم الله ثواب الدنيا بأن جعل لاسم الربيين موضوعية في أمور :
الأول : عدم الوهن مع تعدد الإصابة في سبيل الله .
الثاني : السلامة والأمن من الضعف من جهات :
الأولى : الإرتقاء في مراتب الإيمان ودرجات اليقين .
الثانية : الإجتهاد في أداء الفرائض والعبادات .
الثالثة : التفاني والتآزر في قتال الأعداء .
الرابعة : إملاء شرائط الصلح والهدنة .
الخامسة : وما ضعفوا مع تقادم الآية .
الثالث : لاسم الربيين موضوعية في عصمة أصحاب الأنبياء من الإستكانة والخضوع والذل للقوم الكافرين .
الرابع :أختتمت آية السياق بالإخبار عن حب الله للصابرين ويتضمن الوعد الكريم ، ليكون من مصاديق الآية موضوعية اسم الربيين في إجتهادهم لبلوغ مرتبة الصابرين ، وتعاهد الإقامة فيها عند نزول البلاء وحدوث المصيبة وحتى في حال السراء والدعة للحاجة إلى الصبر والإمتناع عما نهى الله عز وجل عنه .
الثامن : من معاني [وَمَا اسْتَكَانُوا] بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى: وما إستكانوا لعلمهم بأن الله عز وجل له [مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )وهو سبحانه الذي يدفع شرور الكفار ، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والمسلمات فجعلهم يتلون في الصلاة اليومية ولعدة مرات كل يوم [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( )ليكون فيها وقاية من الركون للقوم الظالمين والخشية منهم ، فما دامت الإستعانة بالله وحده فان النصر حليف المؤمنين لأنه بيد الله عز وجل.
الثانية : وما إستكانوا للكفار ليأتيهم ثواب الدنيا من عند الله عز وجل بلحاظ أن ملاقاة العدو والمسلمين بحال العز والثبات في مقامات الإيمان قربة إلى الله .
الثالثة : عدم الإستكانة والخضوع للكفار دعوة للناس للتصديق بالنبوات ودخول الإسلام ، وذم الكفار وزجر عن إتباعهم .
لقد أراد الله عز وجل للربيين أن يكونوا مرآة للنبوة ، وعضداً لنبي زمانهم الذي يغادر الدنيا لتبقى طائفة من المؤمنين تدعو الناس إلى الإسلام باظهار معاني العز .
الرابعة : إخبار آية السياق عن عدم إستكانة وإنكسار وتذلل الربيين للكفار دعوة للمسلمين من وجوه :
الأول : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمه على الربيين .
الثاني : العلم بوجود إرث عظيم للمسلمين من الربيين هو عدم الإستكانة للكفار .
الثالث : حث المسلمين للعمل على إجتناب الإفتقار إلى الكفار ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ).
الرابع : جعل خضوع القلب والجوارح لله عز وجل .
الخامس : بيان خصلة من خصال الربيين وسر من أسرار نسبتهم إلى الله عز وجل بأن خضوعهم وتذللهم لا يكون إلا لله عز وجل .
السادس : إصلاح المسلمين لملاقاة العدو بجنان وعزائم صادقة ، وفي معركة أحد وحنين إشتد القتال وحميت الحرب [فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وآله وسلم «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري وكان رجلا شجاعاً يحتال عند الحرب، فلما أخذ السيف اعتمَّ بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول :
أنا الذي عاهدني خليلي
ونحن بالسفح لدى النخيل
ألاّ أقوم الدهر في الكيول
أضرب بسيف الله والرسول
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «إنها لمشية يبغضها الله إلاّ في هذا الموضع ثم حمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم.
وقتل علي بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة وهو يحمل لواء قريش،
فأنزل الله نصره على المؤمنين.
قال الزبير بن العوّام : فرأيت هنداً وصواحبها هاربات مصعدات في الجبل باديات خدادهن ما دون أخدهن شيء،
فلما نظر الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا النبي {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب. واختلفوا،
فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : ما بقي من الأمر شيء.
ثم انطلقوا عامتهم ولحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأوا ظهورهم خالية.
صاح في خيل المشركين ثم حمل على أصحاب النبي من خلفهم.
فهزموهم وقتلوهم،
ورمى عبد الله بن قمية الحارثي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه فأثقله،
وتفرّق عنه أصحابه] ( ).
ولو أن الرماة إستحضروا الآية السابقة ودعاء الربيين [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( )لما إختلفوا أو تركوا مواضعهم على الجبل ، نعم تحقق مصداق ثبات الأقدام ببقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان يقاتل مع بضعة أفراد من أهل بيته وأصحابه ليعود أكثر الصحابة إليه ويزيحون الكفار عنه.
وهل قول الله تعالى عند الخروج إلى أحد [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) إخبار عن عودة الصحابة إلى ميدان المعركة الجواب نعم ، لما فيه من معاني التزكية ، ولا عبره بالقليل النادر .
الخامسة : من معاني الإستكانة المحبة والخوف وإجتماعهما وكانت محبة الربيين خالصة لله عز وجل وخوفهم منه سبحانه ، وأظهروا الزهد بالدنيا وإشتاقوا إلى الآخرة وأبوا أن يسكنوا لغير الله وأن يستأنسوا إلا برحمته ولطفه [عن أنس بن مالك قال: سمعت النبي الله صلى الله عليه وآله و سلم يقول اشتاقت الجنة إلى أربعة علي والمقداد وعمار وسلمان] ( ).
لقد غاب عن الربيين شخص النبي ولكنهم تعاهدوا مناجاة الله وإنقطعوا إلى الذكر ولم يهنوا في قتال الكفار فأكرمهم الله حتى بالتسمية .
وروي أن عيسى عليه السلام [مرّ على طائفة من العباد قد احترقوا من العبادة كأنهم الشنان البالية فقال: ما أنتم؟ فقالوا: نحن عبّاد قال: لأي شيء تعبدتم؟ قالوا: خوّفنا اللّه من النار فخفنا منها فقال: وحق على اللّه أن يؤمنكم ما خفتم.
ثم جاوزهم فمرّ بآخرين أشدّ عبادة منهم فقال: لأي شيء تعبدتم؟ قالوا: شوّقنا اللّه إلى الجنان وما أعدّ فيها لأوليائه فنحن نرجو ذلك، فقال: حق على اللّه أن يعطيكم ما رجوتم.
ثم جاوزهم فمرّ بآخرين يتعبدّون فقال: ما أنتم؟ قالوا: نحن المحبون للّه، لم نعبده خوفاً من ناره ولا شوقاً إلى جنة ولكن حبّاً له وتعظيماً لجلاله فقال: أنتم أولياء اللّه حقّاً، معكم أمرت أن أقيم فأقام بين أظهرهم، وفي لفظ آخر أنه قال للأوّلين: مخلوقاً خفتم ومخلوقاً أحببتم، وقال لهؤلاء: أنتم المقربون] ( ) .
وتقدم في الأجزاء السابقة حديث قريب منه في صفات المتقين عن الأمام علي عليه السلام مع بيان مسائل فيه , ويبعث الشوق إلى الجنة على الصبر على المكاره وتحمل الأذى في جنب الله ، والمبادرة إلى فعل الخيرات ، وترك راحة البدن ، والدعة ونشوة البيع والشراء وحب التملك وهجران لذيذ الرقاد ، لإدراك أن طرق الجنة بالمثابرة والجد في الصالحات ، ومن مصاديقه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان حينما يستنهض أصحابه ويندبهم للدفاع يقول قوموا إلى [جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] ( ).
وقد تقدم في الجزء الرابع عشر بعد المائة أن من وجوه البيان إختتام آية السياق بقانون حب الله للصابرين والجهاد( ) ليكون من معانيه بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : حب الله عز وجل ليس كيفية نفسانية لأنه سبحانه تنزه عن الكيف والتغيير ، ولكن حبه مدد وعون وثواب وسلاح يصاحب العبد المحبوب في النشأتين ، ومن حق الذي يحبه الله أن تكون أيام حياته كلها أعياداً ، فمن يحبه الله يتفضل عليه بأمور لا تحصى منها :
أولاً : الرزق الكريم .
ثانياً : كفاية أذى وشر الأعداء ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
ثالثاً : التنحية والإبعاد عن المعصية ،وزجر ذات المعصية من الإقتراب منه ، وفي يوسف عليه السلام قال تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ) أي أن الله سبحانه صرف ذات السوء عن يوسف قبل أن يظهر يوسف عفته وعصمته بلحاظ أنه من العباد المخلصين ، وفيه تخفيف عنه وتعطيل وإماتة للنفس الشهوية .
رابعاً : مغفرة الذنوب والتجاوز عن السيئات .
خامساً : إلهام العبد الإستغفار ، وتذكيره بلزوم التوبة ،وجعله يرتقي إلى مقامات العلم والإنزجار عن الأصرار على الذنب ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين الذين يحسنون لأنفسهم [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( ).
ومن معاني الإستغفار بلحاظ الصبر مسائل :
الأولى : إنه مقدمة للصبر وطريق إليه .
الثانية : ذات الإستغفار صبر يحبه الله .
الثالثة : الإستغفار رشحة من رشحات الصبر في طاعة الله .
ومن خصائص آيات الربيين الثلاثة أي آية البحث والآيتان السابقتان تنمية ملكة الإستغفار عند المسلمين ، وجعلهم الأمة التي تتعاهد وتتوارث سنة الربيين في الإستغفار وإلى يوم القيامة روى [أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أحدنا يذنب ؟ قال : يكتب عليه قال : ثم يستغفر منه ويتوب .
قال : يغفر له ويتاب عليه قال : فيعود ويذنب قال : يكتب عليه قال : ثم يستغفر منه ويتوب.
قال : يغفر له ويتاب عليه قال : فيعود ويذنب قال : يكتب عليه قال : ثم يستغفر منه ويتوب.
قال : يغفر له ويتاب عليه ولا يمل الله حتى تملوا] ( ).
خامساً : الهداية إلى الصالحات وفعل الخيرات .
سادساً : التفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام .
سابعاً : يرزق الله عز وجل العباد الذين يحبهم إلى سبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ثامناً : الرشاد إلى مكارم الأخلاق في البيت والسوق والعمل والمسجد وإظهار حسن الجوار ،[عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم قال : من سره أن يحب الله و رسوله أو يحبه الله و رسوله فليصدق حديثه إذا حدث وليؤد أمانته إذا ائتمن وليحسن جوار من جاوره] ( ).
الثاني : يفيد الجمع بين آية البحث والسياق بيان الملازمة بين أمرين :
الأول : الإيمان .
الثاني : الصبر .
[وعن الأمام علي عليه السلام قال: ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا قطع الرأس باد الجسد.
ثم رفع صوته فقال ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له] ( ).
الثالث : مجئ الثواب من عند الله عز وجل للعبد , ويتصف هذا الثواب بخصائص :
الأولى : تعلق الثواب بحب الله للعبد .
الثانية : التحلي بالصبر في طاعة الله طريق للفوز بحب الله , ومن الإعجاز في آية السياق بيان حقيقة وهي أن هذا الحب مع عظمته وإنفتاح خزائن الدنيا والآخرة به ليس أمراً مستعصياً .
الثالثة : يكون الإنتفاع من الصبر في المقام على وجوه:
الأول : حب الله عز وجل للعبد الصابر.
الثاني : حب الله للصابرين مجتمعين.
الثالث : إنتفاع المؤمنين من حب الله عز وجل للفرد الصابر منهم.
الرابع : إنتفاع كل مؤمن على نحو مستقل من حب الله لهم مجتمعين.
الرابع : ذكرت آية السياق الصبر إلا أنها جاءت بخصال حميدة تكون موضوعاً لحب الله عز وجل كما أخبر سبحانه لإفادة أن طرق مجئ حب الله للعبد كثيرة وهي على أقسام :
أولاً : ما جاء بالمنطوق في القرآن كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ].
ثانياً : ما يستقرأ مفهومه من القرآن .
ثالثاً : ما يرد بيانه في السنة النبوية بلحاظ أنها المصدر الثاني للتشريع ، ومرآة للقرآن ، ومن وجوه تقوى الربيين وأسباب فوزهم بحب الله لهم وجوه :
الأول : حب الله عز وجل للربيين لقتالهم في سبيله تعالى ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ] ( ).
الثاني : تدل الآية السابقة على صدق توبة وإنابة الربيين ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ] ( ).
الثالث : تدل آية السياق على حسن توكل الربيين على الله عز وجل ، فهم يخوضون غمار المعارك مع نبي زمانهم وبعد مغادرته الدنيا لعلمهم بأن الله عز وجل وليهم وناصرهم وقد أظهروا العزم في إنتهاج الصراط المستقيم في حال السلم والحرب ، قال تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ).
الرابع : تدل آية السياق على إحسان الربيين إلى أنفسهم وذراريهم ، لذا تفضل الله عز وجل وتغشاهم بحبه وشآبيب رحمته ، قال سبحانه [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
وهل في قوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] نفع لذراري الربيين أم أن القدر المتيقن منه هو ذاتهم وأشخاصهم وزمانهم الجواب هو الأول .
الخامس : حب الله عز وجل للشاكرين الذين يتعاهدون الفرائض ويقيمون على الطاعات وكما خلق الله عز وجل الناس وجعل لكل واحد شأناً خاصاً ، فانه سبحانه جعل نعمة على كل إنسان تختلف عن غيره ولو على نحو الموجبة الجزئية ، وهذا الإختلاف لنفع العبد وصالح الناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( .
الثالث : الصلة بين آية البحث وقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه
الأول : وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله فاتى الله الربيين ثواب الدنيا .
الثاني : وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله فأتى الله الربيين حسن ثواب الآخرة .
الثالث : وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله والله يحب المحسنين .
الرابع : كتاباً مؤجلاً فآتاهم الله ثواب الدنيا .
الخامس : كتاباً مؤجلاً فآتاهم الله حسن ثواب الآخرة .
السادس : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها فآتى الله الربيين ثواب الدنيا .
السابع : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
الثامن : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها والله يحب المحسنين .
التاسع : ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها فآتى الله الربيين ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
العاشر : فآتاهم الله ثواب الدنيا وسنجزي الشاكرين .
الحادي عشر : فآتاهم الله حسن ثواب الآخرة وسنجزي الشاكرين .
الثاني عشر : وسنجزي الشاكرين والله يحب المحسنين .
الثانية : يكشف الجمع بين الآيتين عن حقيقة وهي عدم الملازمة بين الخروج إلى ميادين القتال ومزاولته وبين القتل .
فقد يدخل الإنسان الحرب ويشترك في المعارك ويخرج سالماً وقد يأتي الموت فجأة إلى الذي إختار القعود في البيت وظل سعيداً بهذا القعود .
[عن ابن جريج قال : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب يوم أحد ، فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وما فعل فلان؟ فنعى بعضهم لبعض ، وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، فكانوا في هم وحزن . فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل ، وكان على أحد مجنبتي المشركين وهم أسفل من الشعب ، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم « اللهم لا قوّة لنا إلا بك ، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر ، فلا تهلكهم وثاب نفر من المسلمين رماة ، فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله ، وعلا المسلمون الجبل ، فذلك قوله { وأنتم الأعْلَوْنَ إن كنتم مؤمنين]( ).
الثالثة : لما أخبرت آية البحث عن تفضل الله عز وجل على الربيين بثواب الدنيا فان آية السياق تبين وجوهاً من هذا الثواب :
الأول : صرف الأذى والضرر عن الربيين .
الثاني : سلامة نبي الزمان الذي قاتل معه الربيون وتهيئة أسباب ومقدمات بيانه لمعجزته وتبليغه أحكام الحلال والحرام .
الثالث : إطالة أعمار الربيين ، وإعانتهم في فعل الخيرات ،إذ أن طول أعمارهم خير محض بلحاظ أنه مناسبة ووعاء للإجتهاد في العبادات .
الرابع : الخروج إلى القتال والمرابطة في الثغور برزخ دون كثرة الإنجاب لأنه سبب في الفصل بين المجاهد وزوجه ، فتفضل الله عز وجل وجعل آجال الناس جميعاً بيده ليمد في عمر الربيين ويتفضل عليهم برؤية أولادهم يقتفون أثرهم في تعاهد سبل الإيمان ليكونوا شهداء على زمانهم ، قال تعالى [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا] ( ).
المسألة الرابعة :جاءت كل من آية البحث والسياق بصيغة الجملة الخبرية وبينهما عموم وخصوص مطلق، إذ وردت آية السياق بصيغة العموم، وذكر موضوع آجال الناس من غير تعيين للملة والمذهب لبيان قانون عام يتغشى الحياة الدنيا وخلافة الإنسان في الأرض من جهات:
الأولى : الموت أمر حتم لايستثنى منه أحد.
الثانية : تقييد موت أي إنسان بأنه باذن الله لينهل المؤمنون من هذا التقييد من وجوه:
الأول : اللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء لدفع الأجل، قال تعالى [أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ]( ).
الثاني : سؤال حسن العاقبة ومغادرة الدنيا في طاعة الله.
الثالث : الدعاء للوقاية من ميتة السوء.
الرابع : تعاهد سنن الإيمان.
الثالثة : وجود مندوحة وفضل من الله في أجل كل إنسان وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[كِتَابًا مُؤَجَّلاً]( )، وفيه دعوة للمسلمين للسؤال بسعة هذا التاجيل ومد أيامه.
الخامسة : من الإعجاز في الجمع بين آية البحث والسياق أمور :
الأول : ذكر لفظ (ثواب) مرتين في كل من الآيتين.
الثاني : المتشابه المتعدد في الاسم الذي يضاف إليه الثواب، من جهتين :
الأولى : ثواب الدنيا.
الثانية : ثواب الآخرة.
الثالث : حصر الثواب مطلقاً بيد الله.
السادسة : لما أختتمت آية السياق بقانون كلي من الوعد الإلهي غير المتناه وهو قوله تعالى[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] أخبرت آية البحث بأن ثواب الدنيا والآخرة قد آتاه الله عز وجل الربيين ليكون من إعجاز القرآن تضمنه الوعد الإلهي وتحقق مصداقه في الواقع، لأن آية البحث لم تقل (فيؤتيهم الله) ويكون حينئذ مجئ ثوابهم بعد إنتقامهم إلى دار الخلود، وبعد نزول هذه الآيات، ولظن المسلمون أن ثوابهم ياتيهم بعد وفاتهم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، ونزل القرآن رحمة بالمسلمين، وباعثاً لهم في عمل الصالحات فتفضل وأخبر بأن الربيين نالوا جزاءهم في الدنيا، وكذا ينال المسلمون جزاءهم ليأتي الثواب على وجوه:
الأول : الثواب الدنيوي للمؤمنين في حياتهم.
الثاني : الثواب الدنيوي للمؤمنين بعد مماتهم.
الثالث : ثواب المؤمنين الأخروي وهم في الدنيا، بما أعد لهم من القصور والحور العين.
الرابع : الثواب في عالم البرزخ.
الخامس : الثواب يوم النشور وتطاير الصحف ومواطن الحساب والحرض والعبور على الصراط المستقيم.
السادس : الثواب الأبدي بالإقامة في النعيم.
وتبين آية البحث مصداقاً لخاتمة آية السياق بجزاء الله عز وجل للشاكرين بلحاظ أن الربيين من الشاكرين لله عز وجل، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : يجزي الله الشاكرين.
الصغرى : الربيون من الشاكرين.
النتيجة : يجزي الله الربيين.
فان قلت ورد لفظ (سيجزي الله الشاكرين) بصيغة الفعل المضارع، بينما أخبرت آية البحث عن تفضل الله باتيان أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم ثواب الدنيا.
والجواب قد بينت آية السياق إتيان ثواب الدنيا لمن يريده وجاءت خاتمة الآية لبيان فضل الله عز وجل ليجتمع تحقق الثواب الذي يريده العبد مع الجزاء من عند الله للعبد الشاكر لله، ومن خصائص هذا الإجتماع توظيف العبد للثواب في مرضاة الله.
إعجاز الآية
إبتدأت الآية بفضل الله عز وجل على الربيين خاصة وعلى المسلمين عامة بمجئ حرف الفاء العاطفة والإستئنافية في أولها ، فلم تقل الآية [وآتَاهُمْ اللَّهُ] أو [ثم آتَاهُمْ اللَّهُ] لما فيها من الترتيب والتراخي والمهلة .
لقد كان الربيون محتاجين إلى رحمة الله ، فالكفار أشداء وذوو بأس وكثيرون وأصحاب عدة وعتاد متوارث ودولة فجاءت الفاء في فاتحة الآية لبيان نزول الفضل الإلهي على الربيين مقترناً بالثواب العظيم ، فصحيح أن الدار الآخرة هي دار الثواب والجزاء ، ولكن الله عز وجل هو الكريم الذي لا يدخر الثواب كله إلى الآخرة بل يتفضل بشطر منه في الدنيا لقضاء حاجات المؤمنين وتجلي عزهم .
وهل ينقص هذا الشطر من ثوابهم في الآخرة , الجواب لا , وهو من خصائص الربيين فلقد أكرمهم الله عز وجل بأمور :
الأول : صحبة الأنبياء بقيد الإيمان .
الثاني : القتال مع الأنبياء وبين أيديهم وبأمرهم .
الثالث :إتصاف الربيين بالصبر وتحمل الأذى في مرضاة الله لقوله تعالى في الآية قبل السابقة [وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
فكانت عزيمة الربيين وقوة شكيمتهم وإمتناعهم عن الضعف أو الذل والخضوع للكافرين صبراً وتحدياً ، مما يدل على أن الصبر أمر وجودي وليس عدمياً ، وهل التحلي بالصبر من ثواب الدنيا الذي تذكره آية البحث , الجواب نعم ، ليكون عند الربيين وجهان من الصبر :
الأول : الصبر الذي إختاروا الإقامة عليه ، وهو ملكة نفسانية تتضمن الرضا بالقضاء وهي متناهية .
الثاني :مراتب الصبر التي تأتي ثواباً من عند الله لتجعل الصبر عند المؤمن من اللامتناهي ليفنى في مرضاة الله ، ويختار السعي إلى الشهادة في سبيله ، لذا ورد قوله تعالى في الثناء على المسلمين [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ] ( ). [وعن الأمام الصادق عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله عز وجل: إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا فمن أقرضني منها قرضا أعطيته بكل واحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف، وما شئت من ذلك، ومن لم يقرضني منها قرضا فأخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها مني قال: ثم تلا قول الله تعالى ” الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون * اولئك عليهم صلوات من ربهم ” فهذه واحدة من ثلاث خصال ” ورحمة ” اثنتان ” واولئك هم المهتدون ” ثلاث ] ( ).
ويحتمل وجوهاً :
الأول : تفضل الله عز وجل بالصبر على الربيين في ضروب الطاعة والعبادة .
الثاني :مجئ الصبر للربيين في قتالهم الكفار ، وهو أشد المواطن التي تستلزم الصبر [عن سعيد بن جبير في الآية قال : إن الله أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بمكة بالتوحيد ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن يكفوا أيديهم عن القتال ، فلما هاجر إلى المدينة نزلت سائر الفرائض وأذن لهم في القتال ، فنزلت { كتب عليكم القتال }( ) يعني فرض عليكم ، وأذن لهم بعد ما كان نهاهم عنه { وهو كره لكم } يعني القتال وهو مشقة لكم { وعسى أن تكرهوا شيئاً } يعني الجهاد قتال المشركين { وهو خير لكم } ويجعل الله عاقبته فتحاً وغنيمة وشهادة { وعسى أن تحبوا شيئاً }( ) يعني القعود عن الجهاد { وهو شر لكم } فيجعل الله عاقبته شراً فلا تصيبوا ظفراً ولا غنيمة] ( ).
الثالث : صبر الربيين عند نزول المصيبة بهم كقتل بعضهم في سبيل الله , وسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه [قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « من تعدون الشهداء فيكم ؟ قالوا : يا رسول الله ، من قتل في سبيل الله فهو شهيد , قال : « إن شهداء أمتي إذا لقليل قالوا : من يا رسول الله ؟ قال : « من قتل في سبيل الله ، فهو شهيد ، ومن مات في سبيل الله ، فهو شهيد ، ومن مات في الطاعون فهو شهيد ، ومن مات في بطن أمه فهو شهيد] ( ) .
الرابع : صبر الربيين عند توالي النعم وعدم الركون إليها والغفلة عن الواجبات ، وهل يمكن القول إن تسميتهم من عند الله [ ربيون] كافية للقطع بأن النعم لا تشغلهم عن واجباتهم وسنن الجهاد ومحاربة الكفار ، الجواب نعم لما فيها من تزكيتهم والشهادة لهم بالتقوى والصلاح من عند الله .
ومن أسرار آية البحث أنها تجمع للربيين الفضل الإلهي والثواب من عند الله للتباين بينهما ، فالفضل رحمة زائدة من عند الله أما الثواب فهو نوع جزاء ليفوز الربيون بمرتبة وهي مجىء الفضل لهم من عند الله , وإنتفاعهم به في مرضاته ليتعقبه الثواب فيلازمه ويصاحبه ليرتقوا في سبيل الصلاح ،ويبلغوا مراتب اليقين ،ويكونوا النواة لبناء صرح الإيمان والمقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاد المسلمين في ملاقاة كفار قريش .
وذكرت الآية ثواب الدنيا والآخرة وإبتدأت بثواب الدنيا ، وفيه مسائل :
الأولى : ثواب الدنيا هو الحال والعاجل .
الثانية : إتضاح وظهور ثواب الدنيا للحواس ، ومدارك الأفهام ، ليكون مناسبة لأمور :
أولاً : شكر الربيين لله عز وجل ، ولما سمّى الله أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم الربيين وتفضل ونسبهم إلى مقام ربوبيته فهل يجب سماع شكرهم له والثناء عليه , الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ثانياً : ترغيب الناس بدخول الإسلام والتصديق بنبي الزمان وبشارته بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،ومن فضل الله ونزول المدد منه للناس في هذا الباب إقتران هذه البشارة بالمعجزة الحسية لنبي الزمان ، للتأكيد والحث على لزوم عدم تضييع فرصة الإيمان ،وهل فيه حجة للناس بأن يتطلعوا إلى المعجزة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم ، وهي عنوان جامع لفضل الله والثواب من عنده سبحانه .
ثالثاً : إستدامة ثواب الربيين إلى أن أكرمهم الله بذكرهم في القرآن ليكون هذا الإكرام من مصاديق تسمية القرآن بالفرقان في قوله تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ( ) بلحاظ أن ذكرهم في القرآن فيصل في دوام ذكرهم بعز وشأن في هذه الآيات بما يمنع من اللبس والترديد في صدق جهادهم .
ويمكن تأسيس قانون وهو ( كل آية قرآنية فرقان ) يأتي بيانه في الجزء التالي إن شاء الله .
ثالثاً : زيادة إيمان المسلمين ، وتلقيهم نزول آيات القرآن بالتصديق والعمل بمضامينها ، فكما إنعدمت الفترة والتراخي بين فعل الربيين الصالحات وبين الثواب الذي جاءهم من عند الله عز وجل تفضل الله عز وجل على المسلمين بأن هداهم للعمل بأحكام الآيات حال نزولها ، وهو من مصاديق أسباب نزول الآيات ، وكذا بالنسبة للفرائض ، فقد نزلت فريضة الصوم والزكاة في السنة الثانية للهجرة فبادر المسلمون إلى صيام شهر رمضان وإخراج الصدقات الواجبة .
رابعاً : كل مرة يتلو فيها المسلم آيات الربيين أو بعضها هو من ثواب الدنيا للربيين ،وهل هو سبب بزيادة حسناتهم وثوابهم الأخروي الجواب نعم ، وفيه وجوه :
الأول : إنه من فيوضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأمم السابقة .
الثاني : إنه من الشواهد على العموم في لفظ الناس في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بمعنى أن المسلمين أخرجوا لأجيال الناس السابقة واللاحقة ، ومنه الثواب الذي يأتي للربيين بمحاكاة المسلمين لهم في الصالحات وتلاوة آيات الربيين .
الثالث : يتلو المسلمون والمسلمات في الصلاة اليومية الواجبة قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وإفادة الإطلاق في لفظ [الْعَالَمِينَ] في مقام الثناء على الله ، وكذا بالنسبة لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )فان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس في أجيالهم المتعاقبة وفي الدنيا والآخرة .
الرابع : بيان قانون في ماهية الثواب من عند الله ،وهو لما بشّر الربيون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاهدوا لتهيئة مقدماتها ووجود أمة تتلقاها بالتصديق والقبول تفضل الله بجعل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحفظ ذكر الربيين وتتعاهد الثناء عليهم ، وتذم الكفار الذين حاربوها .
الثالثة : ثواب الدنيا مدد للأنبياء والربيين والمؤمنين مطلقاً في جهادهم في سبيل الله وليس من حصر لمصاديقه في ميادين الصبر والعزم واليقين مع الجراحات والخسائر ، وفيه بيان لتفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته بأن المدد الذي رزقهم الله كان ذات الثواب , مع نافلة وهو نزول الملائكة لنصرتهم .
[عن أبي عبد الرحمن الفهري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حنين ، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر فنزلنا تحت ظلال الشجر ، فلما زالت الشمس لبست لامتي وركبت فرسي ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، قد حان الرواح يا رسول الله ؟ قال : أجل .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا بلال . . . فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طائر فقال : لبيك وسعديك وأنا فداؤك . ثم قال : أسرج لي فرسي . فأتاه بدفتين من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر قال : فركب فرسه ثم سرنا يومنا فلقينا العدوّ وتشامت الخيلان فقاتلناهم ، فولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز وجل .
فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله ، فاقتحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن فرسه ، وحدثني من كان أقرب إليه مني : أنه أخذ حفنة من تراب فحثاها في وجوه القوم , وقال : شاهت الوجوه . . . ! قال يعلي بن عطاء : فأخبرنا أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب ، وسمعنا صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست الحديد ، فهزمهم الله عز وجل] ( ).
لقد أراد الله عز وجل لآية البحث أن تكون قانوناً يمنع من الجدال والخصومة والمغالطة من جهة الثواب وبياناً بأن الله عز وجل هو الواسع الكريم الذي يهب لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت , ويجمع لهم ثواب الدنيا والآخرة [عَنْ الأمام عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : ” مَنْ عَمِلَ لِدُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ ، وَمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ] ( ) ، والربيون ممن جمع لهم هذه النعم ، وهو درس للمسلمين للدعاء والعمل ليجمع الله عز وجل لهم ثواب الدنيا والآخرة .
ويمكن تسمية هذه الآية الكريمة آية [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] ولم يرد لفظ فآتاهم الله في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة .
نعم ورد لفظ (فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)بهمزة القطع .
وفي الآية أعلاه حذف وهي إنذار وموضوع عقاب .
الآية سلاح
لما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار فانه تفضل وجعل المدد والعون مصاحباً لأهل الإيمان والتقوى فان قلت هذا المدد راجح وسلاح لهم دون عامة الناس مع أن الدنيا [دار الرحمة ] والجواب إن أبواب ولوج سنن الإيمان مفتحة للناس جميعاً ، فحرم الكفار أنفسهم المدد .
والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار .
فقوله تعالى [فَآتَاهُمْ] دعوة للناس جميعاً للإقتداء بالربيين والفوز بالثواب العظيم الذي إكتسبوه بالهدى والرشاد ، ليكونوا أسوة للناس ، وهل سيرتهم ومضامين آية البحث مدد إضافي للناس في المقام , الجواب نعم ، وهو من مصاديق آيات عديدة من القرآن منها :
الأولى : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )بلحاظ أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة كريمة لإنتفاع الناس من سنة الربيين وإقتباس المواعظ منها .
فنبوة محمد صلى الله عليه آله وسلم ونزول القرآن رحمة لإخبار الله عن نيل أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم وسام شرف وعز بتسميتهم [ الربيين ] وصار الناس جميعاً شرعاً سواء في الإنتفاع من سنتهم وسيرتهم.
وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) لتبين للناس سيرة الربيين من أصحاب الأنبياء ، وما تدل عليه هذه السيرة من أمور :
أولاً: التصديق ببعثة الأنبياء السابقين ، وهذا التصديق من شرائط الإيمان ، وهو مدخل للفوز بحسن ثواب الآخرة الذي ذكرته آية البحث، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ] ( ).
ثانياً : الثناء على الأنبياء السابقين ، وبيان أنهم لم يكتفوا بالتبليغ اللساني ، بل حملوا السيوف وقاتلوا في سبيل الله لذا لم تذكر الآية قتال الربيين على نحو مستقل ، بل قيدته بالمعية مع الأنبياء بقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( )للدلالة على حقيقة وهي لولا بعثة الأنبياء لما قاتل المؤمنون في سبيل الله ، فكانت النبوة إمامة في الجهاد وحمل الناس على الإيمان بالسيف .
ثالثاً : بعثة كل نبي رحمة من عند الله عز وجل بأهل زمان البعثة وغيرهم [وعن أبي هريرة عن النبّي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الأنبياء إخوة لعلاّت( ) شتّى ودينهم واحد،
وأنا أولى النّاس بعيسى بن مريم ؛ لأنّه لم يكن بيني وبينه نبّي،
وإنّه عامل على أُمّتي وخليفتي عليهم،
إذا رأيتموه فاعرفوه فإنّه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأن شعره ممطر وإن لم يصبه بلل،
يدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال،
وليسلكنّ الروحاء حاجّاً أو معتمراً أو كلتيهما جميعاً،
ويقاتل النّاس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملك كلها ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذّاب الدجّال،
ويقع في الأرض الأمنة حتى يرتع الأسود مع الإبل،
والنمور مع البقر،
والذئاب مع الأغنام،
ويلعب الصبيان بالحيّات لا يضرّ بعضهم بعضاً،
ويلبث في الأرض أربعين سنة.
وفي رواية كعب : «أربعاً وعشرين سنة،
ثم يتزوج ويولد،
ثم يتوفى ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه في حجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ] ( ).
رابعاً : التدبر في معجزات الأنبياء التي قادت الربيين للخروج إلى ميادين القتال في سبيل الله ، قال تعالى [ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] ( ).
خامساً : التفقه في الدين وشكر المسلمين الله عز وجل على نعمة المعجزة العقلية وهو القرآن الذي صاروا به أغنياء وعلى بصيرة في حياتهم الدنيا , وعن[رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة”]( ).
ومن إعجاز آية البحث أنها تخبر عما رزق الله الربيين لتكون سلاحاً عقائدياً للمسلمين وحصانة لهم في إيمانهم ، وهي ثناء عليهم في العالمين ، ودعوة لهم للسعي في مسالك الهدى لجني الحسنات والفوز بذات ثواب الربيين وزيادة من فضل الله .
الثاني : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، ليكون أصحابك وأهل بيتك وأمتك كالربيين .
الثالث : وما أرسلناك إلا رحمة للربيين بذكرهم الحسن في القرآن .
الرابع : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ليتلو المسلمون آية البحث فيأخذوا منها المواعظ والعبر .
الخامس : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ببيان نهج وجهاد الأنبياء السابقين وذكر سيرة أصحابهم الربيين .
السادس :وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ببيان ما أعدّ الله للمؤمنين من الثواب الدنيوي والأخروي.
السابع : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين بالإخبار عن حب الله للمحسنين.
الثامن : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين بالدنيا بالثواب العاجل للمؤمنين , وبالآخرة باقامتهم في النعيم المقيم.
وليس من شيء من الخلائق إلا وهو محتاج إلى رحمة الله في إستدامة وجوده مثلما أنه لم يوجد ولم يخلق إلا بمشيئة وإذن من عند الله، وقد أكرم الله عز وجل الإنسان بالعقل، وبعث الأنبياء من ذات جنس الإنسان، ويأتي كل نبي بلسان قومه للبيان وتمام الحجة .
وبالإسناد عن أبي ذر قال: لم يبعث الله نبياً إلا بلغة قومه، وعن ابن عباس : كان جبريل عليه السلام يوحى إليه بالعربية ، وينزل هو إلى كل نبي بلسان قومه( ).
ومن إعجاز القرآن تضمنه لمضامين الثواب للمؤمنين في الأجيال المتعاقبة، والعقاب للمكذبين والجاحدين في الأمم المتباينة، قال تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( )، ليتخذ المسلم آيات القرآن حرزاً وواقية من وجوه:
الأول : آيات الفضل الإلهي الجلي والحاضر وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الثاني : آيات البشارة التي تأتي مصاحبة لشآبيب الفضل الإلهي الحاضر والحال، وبينهما عموم وخصوص مطلق لأن آيات البشارة أعم فتشمل الزمن الماضي، وهو من إعجاز القرآن لأن موضوع البشارة هو الزمن الحال والمستقبل ، ولكن البشارة في القرآن تتغشى أفراد الزمان الطولية الثلاثة، وهو الذي تتضمنه آية البحث ، وهو من الإعجاز فيها من وجوه :
اولاً : إبتداء الآية بصيغة الفعل الماضي[فَآتَاهُمْ اللَّهُ].
ثانياً : إستدامة ثواب الربيين في الحياة الدنيا، ومنه آية البحث بالذات والدلالة والموضوع والحكم.
ثالثاً : البشارة بالثواب اللاحق في الحياة الدنيا، فصحيح أن أيام الربيين إنتهت ومضت بقتل من قتل منهم، وموت من مات منهم ولكن آية البحث جعلت ثوابهم متصلاً متجدداً.
رابعاً : البشارة بثواب الآخرة للرببين.
وهذه الوجوه تشمل أجيال المسلمين المتعاقبة، من أيام بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يوم القيامة، فتلتقي طبقات المؤمنين التي مضت وإنقضى زمانها مع الربيين بخصوص أولاً أعلاه أي الزمن الماضي وتشاركها الثواب الحاضر واللاحق في أيام الدنيا المتتالية.
الثالث : آيات الإنذار والتخويف، وهي سلاح للمسلمين لما يترشح عنها من فيوضات الأمن والنجاة للذين إختاروا سبل الإيمان.
الثانية : قوله تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ] ( ) لبيان عظيم منزلة المسلمين عند الله باتصافهم بالتصديق بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي .
[عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « من فرّ بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند الله صديقاً ، فإذا مات قبضه الله شهيداً ، وتلا هذه الآية { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم }( ) ثم قال : والفارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابن مريم في درجته في الجنة .
وأخرج ابن جرير عن البراء بن عازب رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مؤمنوا أمتي شهداء ، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم }]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] ( ) وفيه دعوة للتسليم بعصمة الأنبياء في تبليغ الوحي والتنزيل .
ليكون من خصائص الربيين أمور :
الأول : تلقي الوحي من الأنبياء مباشرة من غير واسطة ومنه البشارة من جهات :
الأولى : البشارة بالنصر على القوم الكافرين .
الثانية : البشارة بالثواب الدنيوي العاجل والآجل , أي الذي يأتيهم في زمانهم ، والذي يرد عليهم بعد وفاتهم برشحات عملهم الصالحات ، وفعل ذراريهم وأتباعهم الخيرات .
الثالثة : البشارة بالثواب الأخروي الذي يتصف بالحسن في مراتبه كلها ، قال تعالى [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا] ( ).
الرابعة : البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحقيق النصر والفتح وإزاحة مفاهيم الشرك عن الأرض إلى يوم القيامة .
الثاني : تلقي بعثة نبي الزمان بالتصديق .
الثالث : محاربة الطاغوت والملأ من الكفار قربة إلى الله تعالى .
الرابع : دعوة الناس للتصديق بمعجزات النبوة ، وإن صارت حياتهم ثمناً لهذه الدعوة .
الخامس : الأجر والثواب على كل عمل صالح ليشكر الربيون ربهم على بعثة النبي بين ظهرانيهم والتوفيق لنصرته .
السادس : صيرورة الربيين سبباً لبيان قانون من فضل الله وهو أن الدنيا دار ثواب وأجر .
وهل يصح القول أن من فاته الثواب من الربيين في حياته يأتيه في ذريته وفي قبره بعد وفاته الجواب لا ، لورود الآية بصيغة الإطلاق وإرادة الثواب الحال للربيين في حياتهم مع إتصاله بعد مماتهم وإنتفاع أبنائهم منه بالذات والأثر
مفهوم الآية
في الآية مسائل :
الأولى :بيان قانون كلي وهو أن الثواب يأتي للمؤمنين في الحياة الدنيا ولا يختص بعالم الآخرة ، وإذا كان يصدق تسمية عالم الآخرة (دار الثواب ) فان الحياة الدنيا تحتمل وجوهاً :
الأول : الدنيا دار الثواب على نحو الموجبة الجزئية .
الثاني : لا يصدق على الدنيا أنها دار ثواب لإنفراد الآخرة بهذه التسمية .
الثالث : يصدق على الدنيا تسميتها (دار الثواب ).
والصحيح هو الأخير ، فكون الثواب العظيم والدائم في الآخرة لا يمنع من صيرورة الدنيا دار للثواب من عند الله ، ليدل في مفهومه على توبيخ الكفار لتفويت الفرصة والثواب على أنفسهم وذلهم لمحاربتهم الربيين وإصرارهم على الجحود .
الثانية : علم الله عز وجل بأفعال العباد ، وما في صدورهم من النوايا والعزائم فيثيب المؤمنين على أفعالهم ونواياهم ، لقد جاءت آية السياق والآية السابقة بصفات الربيين ، وهل فيها ما يتعلق بعالم النيات أم كلها إعتقاد وأفعال وجهاد .
الجواب هو الثاني لأن الآية في مقام البيان وإقامة البرهان على إستحقاق أصحاب الأنبياء لاسم [الربيين] ودلالات النسبة إلى الله في المقام .
الثالثة : تأكيد قانون في الإرادة التكوينية وهو أن الله عز وجل يجازي بالكثير المتصل والفضل الدائم الذي يتغشى أيام الحياة الدنيا والآخرة ، وفيه حث للناس للإقتداء بالربيين ودخول الإسلام وأداء المناسك والفرائض .
الرابعة : تبعث آية البحث في مفهومها الحسرة في نفوس الكافرين من وجوه :
الأول : حرمان النفس من بلوغ مراتب الهداية .
الثاني : حسرة الكافرين بسبب إصرارهم على الظلم والتعدي ومحاربة الأنبياء والأولياء .
الثالث : التخلف عن الثناء الذي خص الله به أصحاب وأتباع الأنبياء .
الرابع : حجب الثواب عن النفس .
الخامس : الحسرة لتركهم الكفر والضلالة تركة ووزراً.
السادس : إمتناع الكفار عن التصديق بمعجزات الأنبياء والتدبر بالآيات الكونية ، قال تعالى [وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا] ( ).
الخامسة : دلالة آية البحث على تدلي الثواب الحاضر , فمن الناس من يريد رؤية الجزاء الحسن ويتنعم بالثواب العاجل للعلم بأن الله عز وجل بيده مقاليد السموات والأرض وهو [ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ).
إفاضات الآية
يمكن تسمية هذه الآية آية ( الثواب المطلق ) لما فيها من الإخبار عن الثواب الدائم الذي يتغشى الحياة الدنيا والآخرة ، وجاءت الآية بأمرين :
الأول : تلقي الربيين لثواب الدنيا على نحو التأكيد .
الثاني : الإخبار عن فوز الربيين بثواب الآخرة .
وورد كل من الأمرين في الآية بصيغة الحقيقة والقطع ، مع التباين من جهة زمان التحقق الفعلي لثواب الدنيا ،والإرجاء في ثواب الآخرة .
ومن الإعجاز في المقام أن ثواب الدنيا الذي آتاه الله الربيين متصل ومستمر إلى يوم القيامة ببركة آية البحث والسياق ، إذ يتلو المسلمون آيات الربيين الثلاثة ، وهي آية البحث والآيتان السابقتان ويقتدون بهم ، فيأتي ثواب إضافي للربيين بهذا الإقتداء ودعاء المسلمين للربيين ، فان قلت إن قوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] بصيغة الماضي والقدر المتيقن منه أيام حياة الربيين , والجواب الثواب أعم من جهات :
الأولى : قد يأتي الفعل الماضي ويراد منه الإستمرار والإستدامة ، قال تعالى [وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( )ومغفرة ورحمة الله عز وجل متصلة ودائمة ، وفي الدنيا والآخرة .
الثانية : بيان صدور الأمر الإلهي بثواب الربيين وتحقق المشيئة الإلهية بثوابهم ، فقوله تعالى [فَآتَاهُمْ] أي شاء الله أن يؤتيهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
الثالثة : المشاكلة بين ثواب الدنيا وثواب الآخرة إذ جمعت آية البحث بينهما للقطع بأن ثواب الآخرة لم يحن أوانه ويكون ثواب الدنيا مستمراً لأنه مقيد بالحياة الدنيا .
الرابعة : أصالة الإطلاق ، ولو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد ، فالأصل هو الإطلاق .
الخامسة : سعة رحمة الله وعظيم فضله وإحسانه على الربيين خاصة وعلى المسلمين عامة ، وهل يعلم الربيون بثواب الله عز وجل فيه وجوه :
الأول : يعلم الربيون بثواب الله لهم بالدنيا .
الثاني : يعلم الربيون بما رزقهم الله من ثواب الدنيا وثواب الآخرة .
الثالث : لا يعلم الربيون بثواب الدنيا أو ثواب الآخرة .
الرابع : يعلم الربيون بخصوص ثواب الدنيا , والمختار هو الثاني وهو من مصاديق آية السياق [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] نعم هذا العلم على نحو الموجبة الجزئية من جهة العجز عن تصور عظمة وسعة الثواب , وتخلف الناس عن الإحاطة به .
فمن الخصائص التي يتصف بها النبي الوحي ، وبه يخبر أصحابه ما أعد الله عز وجل لهم من الثواب العظيم على الإيمان والجهاد في سبيل الله .
وتدعو الآية المسلمين إلى التدبر بسبل وكيفية بلوغ الربيين منازل المحسنين، فهم لم يكتفوا بالزهد في الدنيا ولكنهم إختاروا الجهاد في سبيل الله فهو الباب الأوسع للإحسان.
الآية لطف
من فضل الله عز وجل على الناس أنه لطيف بهم يقربهم إلى الهدى ويجعلهم على جادة الحق ويوصلهم إلى غاياتهم الحميدة لذا فمن مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) وجوه :
الأول : الإقرار بأن سبل الهداية بيد الله عز وجل .
الثاني : شكوى المسلمين إلى الله بالضعف والعجز عن التدبر والإستبصار بالطريق المستقيم .
الثالث : الإعتراف بأن الطرق التي أمام الإنسان منفرداً ومجتمعاً مع غيره متعددة ومنها ما فيه الغواية والضلالة فجاء السؤال بالهداية للنجاة من الضلالة ومقدماتها .
[عن ابن مسعود قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ، ثم قال « هذا سبيل الله مستقيماً ، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ، ثم قال : وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }]( ).
الرابع : أدرك المسلمون بأن الفرقة والإختلاف والمذاهب ضعف ووهن ليكون تقدير الآية [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] لأن به وحدتنا وقوتنا .
الخامس : لما قال الله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )صار المسلمون يتوجهون كل يوم إلى الله بالدعاء بصيغة القرآنية (إهدنا الصراط المستقيم ) لتعاهد الأخوة بيننا يخص الإيمان ، وهو الذي تدل عليه الآية أعلاه فالحصر والتقييد [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ] أي أن أخوتهم بالحق وللحق وفي سبيل الحق وبانتهاج مسالك الهدى ، قال تعالى [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي] ( ) .
الخامس : إهدنا الصراط المستقيم الذي سار عليه الربيون ، والخصال الحميدة التي إتصفوا بها .
ويكون تقدير آية السياق على وجوه :
الأول : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير على الصراط المستقيم .
الثاني : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ليقول الناس [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]وقد فاز المسلمون بهذه النعمة العظيمة ، لتكون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذات مرتبة جهاد الربيين مجتمعين ومتفرقين .
الثالث : وكأين من نبي قاتل معه ربيون لمنع الكفار من حجب الناس عن الصراط المستقيم .
الرابع: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير لبلوغ الغايات الحميدة التي يوصل إليها الصراط المستقيم .
ويحتمل الصراط وجوهاً :
الأول : للصراط المستقيم حد ونقطة ينتهي عندها .
الثاني : الملازمة بين الصراط المستقيم والحياة الدنيا ، بلحاظ أن دار الدنيا دار عمل وإمتحان وإختبار , فتفضل الله عز وجل بلطفه ورحمته ولقن المسلمين الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم فيها ليفوزوا بالثواب الأخروي .
الثالث : الصراط المستقيم من اللامتناهي في الحياة الدنيا ، فيعمل المسلم بما يجعل الثواب يأتيه بفعل غيره ممن عاصره في حياته ومن ورثته والأجيال التي من بعده ، كما في الربيين فقد جاهدوا في سبيل الله فجعلهم الله بآية السياق والبحث أسوة للمسلمين .
الرابع : أصالة الإطلاق بالصراط المستقيم وإرادة عالم الدنيا والآخرة ، وهو الذي تدل عليه آية البحث بقوله تعالى [وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ]فهذا الثواب من ذات الصراط .
ولا تعارض بين هذه الوجوه من مصاديق الصراط بلحاظ إرادة العمل الصالح والسلامة من أدران المعاصي والذنوب صراط يؤدي إلى صراط نجاة ، قال تعالى [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ] ( ).
لقد أخبرت آية البحث بأن الله عز وجل آتى الربيين ثواب الدنيا وفيه وجوه :
الأول : من اللطف الإلهي أن يعلم الربيون بهذه النعمة ،وهم في الحياة الدنيا .
الثاني : يدرك الربيون هذه النعمة بتجلي مصاديقها .
الثالث : يعلم الناس هذه النعمة على الربيين بالمحسوس والعز الظاهر على الربيين ، ومنه عدم الوهن أو الضعف .
الرابع : من الثواب الذي تذكره آية البحث [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] ما يعلم به الربيون ، ومنه ما لا يعلمون به وهو من أسرار الربوبية المطلقة لله عز وجل .
الخامس : لا يعلم الربيون بمصاديق الثواب الدنيوي إلا عند مغادرتهم الدنيا بلحاظ أن إخفاء هذا الثواب من مصاديق الإمتحان والإبتلاء فيها .
السادس : الإطلاق والتعدد في ثواب الدنيا الذي فاز به الربيون فيكون على ثلاثة أقسام :
اولاً : ما ناله الربيون أيام حياتهم الدنيا .
ثانياً : الثواب الذي يأتي للربيين بعد مغادرتهم الحياة الدنيا .
ثالثاً :الفرد الجامع من الأجر والثواب والجزاء الذي يكون متصلاً في أيام حياة الربيين وبعد مغادرتهم الدنيا وإنتقالهم إلى عالم البرزخ .
وباستثناء الوجه الخامس أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق آية البحث .
وهو من اللطف الإلهي بالربيين وعموم المسلمين والمسلمات للإنتفاع الأمثل مما رزقهم الله لكبرى كلية وهي أن الله عز وجل إذا أنعم نعمة على أهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها ، ومن خصائص اللطف الإلهي أنه توليدي ، فكل فرد من اللطف تترشح عنه أفراد كثيرة , ويأتي اللطف على وجوه :
الأول : اللطف الإلهي لكل فرد من أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم .
الثاني :مجئ اللطف الإلهي للربيين مجتمعين .
الثالث : كل فعل وخصلة حسنة للربيين سبب لنزول اللطف الإلهي وتغشيه للربيين .
الرابع : ذات الفعل العبادي والجهاد للربيين لطف وتوفيق من عند الله ولم يقع إلا بهداية الله عز وجل فيتعدد اللطف الإلهي بالربيين من وجوه :
الأول : بعثة الأنبياء في أيام النبي لطف من عند الله ، وكذا فان الله عز وجل تفضل على أهل البيت وصحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن كانت بعثته في أيام حياتهم .
ولأن اللطف الإلهي واسع وكثير وليس له حد أو منتهى تفضل الله وجعل عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرين نبياً وقاتل شطر منهم وهو الذي تدل عليه آية السياق [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] وكان مع كل واحد من الأنبياء مجاهدون كثيرون ليعم اللطف الإلهي بهم وينزل الثواب عليهم وعلى ذراريهم [عن الزبير بن العوّام قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين }( ) صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قبيس : « يا آل عبد مناف ، إني نذير فجاءته قريش ، فحذرهم وأنذرهم .
فقالوا : تزعم أنك نبي يوحى إليك ، وأن سليمان عليه السلام سخرت له الريح والجبال ، وإن موسى عليه السلام سخر له البحر ، وإن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى .
فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ، ويفجر لنا الأرض أنهاراً فنتخذها محارث ، فنزرع ونأكل وإلا ، فادع الله أن يحيي لنا الموتى فنكلمهم ويكلمونا وإلا ، فادع الله أن يجعل هذه الصخرة التي تحتك ذهباً فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف ، فإنك تزعم أنك كهيئتهم . فبينا نحن حوله ، إذ نزل عليه الوحي .
فلما سرى عنه الوحي قال : والذي نفسي بيده لقد أعطاني الله ما سألتم ، ولو شئت لكان ، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم ، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة ولا يؤمن مؤمنكم ، فاخترت باب الرحمة ويؤمن مؤمنكم ، وأخبرني إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم يعذبكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين] ( ) .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الجبال التي حول البيت الحرام تنحت عنهم في هذا الزمان لتبنى محلها البنايات الشاهقة وأن موسم الحج في كل سنة يدر ذهباً إلى جانب نعمة النفط التي لم تجعلهم بحاجة إلى رحلة الشتاء والصيف ، وهو من الشواهد في الباب الذي إحتجت به قريش بخصوص معجزات الأنبياء على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من الأنبياء السابقين .
الثالث: تصديق الربيين بنبي زمانهم وما جاء به من عند الله من الفعل والترك ، والأمر والنهي ، وإخبار الأنبياء عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي فيها تمام الأحكام الشرعية التي يحتاج إليها الناس وإلى يوم القيامة ، وهل يدل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ) على أن ما كان عند الربيين من النعم هو عند المسلمين .
الجواب نعم ، وتلك آية في نيل المؤمنين صفة الربيين سواء من صاحب النبي في أيام حياته أو التابعين أو تابعي التابعين وإلى يوم القيامة وهو من معاني تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : ما رزق الله عز وجل الأنبياء السابقين تفضل سبحانه وآتاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : أنه من مصاديق نيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة سيد المرسلين وخاتم النبيين .
الثالث : تعاهد المسلمين لمنهاج الربيين بالعمل بالقرآن والسنة .
الرابع : دلالة الثناء من عند الله عز وجل على المسلمين ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وهذا الثناء من اللطف الإلهي بالمسلمين والمسلمات والناس جميعاً لأنه سبيل للإصلاح ومناسبة لتعاهد الفرائض والعبادات .
الصلة بين أول و آخر الآية
إبتدأت آية البحث بالعطف الموضوعي على الآية السابقة بصيغة التسبيب التي تملي على القارئ والسامع الجمع بين هذه الآية وما قبلها ، سواء خصوص الآية السابقة أو أكثر من آية ، وموضوع آية البحث ظاهر وهو حال الربيين ، ليكون العطف على الآيتين السابقتين موضوعاً لإتحاد الموضوع وإن كان العطف لا يختص بهما لأن كل واحدة منهما إبتدأت بحرف العطف الواو .
فقوله تعالى في الآية قبل السابقة [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ] يتضمن عطف حال الربيين على الآية التي قبلها التي تتضمن قوانين ثابتة إلى يوم القيامة وهي :
الأول : إختتام حياة الناس في الدنيا بالموت على نحو القطع والحتم .
الثاني : مجئ الموت لأفراد البشر على نحو القضية الشخصية لقوله تعالى في أول الآية [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] وفيه دلالة بأن ملك الموت يتلقى الموت بقبض الأرواح على نحو فرادى وإن وقع الموت في جماعة دفعة كالغرق والحروب ووسائط النقل فلم تقل الآية أعلاه ( وما كان للنفوس ان تموت إلا بأذن الله ) وفيه نكتة من جهات :
الأولى : إكرام الله عز وجل للإنسان مطلقاً حتى في كيفية موته بأن يأتي الأمر الإلهي لملك الموت بقبض روحه على نحو التعيين ، وهو من مصاديق فوز آدم بالنفخ في روحه وسجود الملائكة له ، قال تعالى [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] ( )بتقريب أن الملائكة سجدوا لآدم فانه وذريته يأتون لعالم الآخرة على نحو الإنفراد بذات الكيفية التي خلقهم بها الله عز وجل .
وتتجلى هذه المعجزة والكرامة بقوله تعالى [وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ] ( ).
الثانية : السعة والمندوحة لكل إنسان بأن يستغفر الله ويتوب من فعل المعاصي ، وأن يستعد للموت وأهواله كما تدل عليه الآية السابقة في الثناء على الربيين [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]( ).
وفيه دعوة للناس بكفاية مسمى الإستغفار ، وصرف الطبيعة منه ،فاذا كان الربيون إنقطعوا للإستغفار والدعاء يكفي الناس اليسير منه ، وهو الذي يتبين بفريضة الصلاة اليومية على المسلمين إذ أنها لا تأخذ مع مقدمة الوضوء إلا نحو الجزء من الستين من آنات الليل والنهار عدا النوافل أو قل مع التأني في القراءة والحرص على درك الجماعة من وقته لتجلب له الغبطة والسعادة في النشأتين .
الثالثة : إنتفاع المسلم من الإستغفار والدعاء عند نزول البلاء العام والآفة السماوية أو الأرضية للناس ، إذ تنفي الآية إستحالة النجاة من الموت الذريع والهلاك السريع وإن أحكمت على الناس أسبابه القريبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( ) فقد تحل المصيبة بجماعة وينجو بعضهم بآية من عند الله أو تكون هذه النجاة بالمقدمات كالإبطاء عن أوان أو موضع حدوثها مع الإتفاق عليه بالأصل ، فيأتي الإذن من عند الله لملك الموت بمحو موت مؤمن مستغفر ، وهلاك كافر مقيم على الظلم ، فان قلت قد يكون العكس الجواب نعم إذ تخبر آية البحث عن فوز المؤمن بـ [حُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] لأن الله عز وجل أراد له التعجيل بالجنة .
الرابعة : بيان إحاطة الله عز وجل علماً بأحوال الناس وآجالهم ودقة وضبط عمل الملائكة وعدم حدوث الخطأ والإشتباه عندهم .
الخامسة : عدم تعليق الإنسان لموته على موت غيره أباً كان أو أماً فلا ملازمة بين مدة العمر وطرو الموت .
السادسة :إدراك الملوك والرؤساء انتفاء المائز بينهم وبين غيرهم من الناس في قرب سلطان الموت وإحتمال زيارته وحضوره عندهم بأي ساعة ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ] ( ).
الثالث : قانون الفخر والعز لكل إنسان لأن مغادرته الدنيا لا تكون إلا بإذن الله عز وجل ، فهو نفسه القادر على الأمر بموت الإنسان ، وهو من مصاديق [إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ] ( ) .
ليكون موضوع حياة وموت الإنسان من اللامتناهي ، وجاءت الآية أعلاه بصيغة المضارع للدلالة بأن موت الإنسان لم يحدد لملك الموت من يوم خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه ولا حتى من حين خلق ذات الإنسان كما في أهل هذا الزمان ، بل يأتي الإذن لملك الموت حين حلول الأجل لتكون مندوحة من الوقت للعبد للدعاء والإستغفار وعمل الصالحات ، وهو الذي تدل عليه آيات الربيين الثلاثة هذه .
الرابع : بيان قانون من جهات :
الأولى : للدنيا ثواب عظيم .
الثاني : في الآخرة ثواب عظيم .
الثالث : مجئ الثواب وإنتفاع الناس منه أمر بيد الله عز وجل .
الرابع : يأتي الثواب جزاء ويكون ذاته موضوعاً يترتب عليه الجزاء ليكون من النعم المتداخلة والمتعاقبة والتي يكون بعضها سبباً لبعضها الآخر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] ( ) .
وفيه نكتة وهي لزوم تلقي الثواب بالشكر وإن كان ثواب الدنيا وزينتها ، ليكون من مصاديق الشكر وبلحاظ مضامين الآية أعلاه نفسها وجوه :
أولاً : وسنجزي الشاكرين الذين يؤمنون بأن الموت بإذن الله .
ثانياً : وسنجزي الشاكرين الذين يريدون ثواب الدنيا من عند الله عز وجل.
ثالثاً : وسنجزي الشاكرين الذين يسألون الله ثواب الآخرة .
رابعاً : وسنجزي الشاكرين الذين يشكرون الله عز وجل على الثواب )، وأفراد الثواب لأي مؤمن من اللامتناهي فلذا لم يكن قول الربيين [إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]فهل يلزم المسلم شكر الله عز وجل على كل نعمة على نحو التعيين , الجواب لا .
وهو من فضل الله عز وجل الذي يرضى بالشكر القولي أو الفعلي المتحد على النعم الكثيرة وهو لا يمنع من حرص المؤمن على الشكر لله على كل نعمة ظاهرة أو باطنة دائمة أو طارئة ، يلتفت إليها ، وفيه الغنى والعز وتوالي النعم ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال [كان نوح عليه السلام لا يحمل شيئاً صغيراً ولا كبيراً إلا قال : بسم الله والحمد لله ، فسماه الله عبداً شكوراً] ( ).
وتكرر اسم الجلالة في الآية مرتين في بيان لفضل الله على الربيين والمسلمين جميعاً، وأيام الربيين إنقضت قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخطابات القرآن متوجهة إلى المسلمين والمسلمات، فلما جاءت هذه الآيات الثلاثة في الثناء على الربيين وبيان عظيم منزلتهم، وإتصال الجزاء والثواب الحسن لهم أختتمت هذه الآيات بقانون كلي من الفضل الإلهي يشمل المسلمين وهو[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، وفي هذا الإختتام مسائل:
الأولى : إخبار المسلمين بأن الثواب الذي ناله الربيون قريب منهم.
الثانية : بعث المسلمين على السعي لبلوغ مرتبة الربيين ورجاء الزيادة والإرتقاء بفضل الله.
الثالثة : الإجتهاد في الإحسان طريق للفوز بالثناء من عند الله.
وتدعو آية البحث المسلمين لجعل الحياة الدنيا (دار الإحسان) وليس من حصر لمواضيع الإحسان وجهات صدوره ومضامينه وتوجهه .
وتقدير الآية: والله يحب المحسنين فكونوا منهم، إن مجئ هذه الآيات بخصوص الربيين ثم إختتامها بقانون تغشي النعيم لأهل الإيمان من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ أنه حتى الآيات الخاصة بأصحاب الأنبياء السابقين تتضمن في منطوقها الثناء على المسلمين والإخبار بأنهم في عين الله , فبين حب الله والثواب منه تعالى عموم وخصوص مطلق، فالحب الإلهي أعم في موضوعه ونفعه وأثره , أما من حيث السببية فهو سبب للثواب نعم الثواب من الله سبب لحبه للذين يثيبهم من غير أن يلزم الدور بينهما للتباين الجهتي ، ولأن قوانين الإرادة التكوينية أعم من القواعد الفلسفية.
وتكرر لفظ (ثواب) في الآية مرتين مع قلة كلماتها، وجاء بصيغة التعريف بالإضافة لأنه في مقام بيان الفضل الإلهي وهو من المقامات التي تتضمن القطع بتوالي النعم من عند الله، وينتفي فيها اللبس والترديد والوهم لبعث السكينة في نفوس المسلمين ، وحثهم على السعي في الصالحات وسؤال توالي النعم .
ومع أن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، فقد ذكرتها الآية ببهاء جميل بأنها دار الثواب، وفيه بعث لعمل الصالحات والإقتداء بالربيين في جهادهم وصبرهم لأن الثواب نوع جزاء يترتب على فعل العباد، وقد يستبطئ المؤمنون الثواب الأخروي ويسألون الله عز وجل التعجيل بالأجر والفضل من عنده تعالى.
فجاءت آية البحث لتخبرهم بأن الدنيا دار ثواب، وهو لا ينقص من ثواب الآخرة من جهات:
الأولى : الجمع بينهما في آية البحث لذات الطائفة من المؤمنين وهم الربيون.
الثانية : إخبار آية البحث بأن جميع ثواب الدنيا والآخرة من عند الله، ولا يقدر عليهما غير الله سبحانه.
الثالثة : بيان الرجحان والزيادة في ثواب الآخرة باتصافه بالحسن، فلم تقل الآية فاتاهم الله ثواب الدنيا وثواب الآخرة ، ولم تقل فآتاهم الله الثواب في الدنيا والآخرة، لدفع وهم باتحاد الثواب، إنما بينت الآية أن الثواب متعدد وأنه يتصف في الآخرة بالحسن الذاتي والعرضي، مع إضافة بيان وهو أن الله عز وجل يحب المحسنين سواء من الربيين أو من المسلمين والمسلمات لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحث على الدعاء بالفوز بمرتبة المحسنين.
وعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن للموت فزعا فإذا أتى أحدكم وفاة أخيه فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا إلى ربنا لمنقلبون , اللهم اكتبه في المحسنين واجعل كتابه في عليين واخلف عقبه في الآخرين اللهم لا تحرمنا أجره و لا تفتنا بعده( ).
وتكررت مادة (حسن) في الآية مرتين، إذ خبرت عن صفة ثواب الربيين في الآخرة وأنه الأحسن والأعظم والأكبر لتغبطهم الخلائق على هذه النعمة كما غبطهم أهل الدنيا على نيلهم اسم الربيين، وإشتقاقه من اسم الرب الذي هو من أمهات الأسماء الحسنة .
وأختتمت الآية بلفظ الى المحسنين، وبينه وبين اسم الربيين عموم وخصوص مطلق، فالمحسنون أعم ليدخل فيه المسلمون ولبيان وجه من إعجاز القرآن وهو حتى آيات الربيين الثلاثة لم تختتم إلا بذكر المسلمين والثناء عليهم ووعدهم بالفضل والمن العظيم كما أنعم الله عز وجل على الربيين ، لأن من معاني حب الله توالي الثواب ونماؤه وزيادته وإستدامته وقربه من المسلمين في أيام حياتهم ، وفيه بشارة للتخفيف عنهم ونصرهم على القوم الكافرين لذا ورد في سورة البقرة.
وفي حديث الإسراء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورد أنه قال[رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] ( )، قال: قد رفعت الخطأ والنسيان عنك وعن أمتك وما استكرهوا عليه.
قلت : {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال : قد فعلت ذلك بك وبأمتك. قلت ربنا {وَاعْفُ عَنَّا} من الخسف {وَاغْفِرْ لَنا} من القذف {وَارْحَمْنَا} من المسخ {أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال : قد فعلت ذلك لك ولأُمتك،
ثمّ قيل : لي سل.
فقلت : يارب إنك إتخذت إبراهيم خليلاً،
وكلمت موسى تكليماً،
ورفعت إدريس مكاناً علياً،
وآتيت سليمان ملكاً عظيماً،
وآتيت داود زبوراً،
فما لي يارب؟
قال ربي : يا محمّد اتخذتك خليلي كما اتخذت إبراهيم خليلاً, وكلمتك كما كلمت موسى تكليماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة وكانا من كنوز العرش ولم أعطها نبياً قبلك،
وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعاً أبيضهم وأسودهم وإنسهم وجنّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبياً قبلك وجعلت الارض كلها برّها وبحرها طهوراً ومسجداً لك ولأمتك وأطعمتك وأمتك الفيء ولم أطعمه أمة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوك مسيرة شهر،
وأنزلت عليك سيد الكتب كلها ومهيمناً عليها قرآناً فرقناه ورفعت لك ذكرك فتذكر كلما ذكرت في شرائع ديني،
وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الانجيل المبين ومكان الزبور الحواميم،
وفضلتك بالمفصّل وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس وجعلهم أمة وسطاً وجعلتهم الأولين وهم الآخرون فخذما أتيتك وكن من الشاكرين( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو عدم تخلف الثواب عن العمل الصالح لإبتداء الآية بحرف الإستئناف الفاء [فَأَتَاهُمْ] وفيه ترغيب للمسلمين بالصالحات ، ودعوة لهم وللناس جميعاً للتدبر في مصاديق الثواب التي تتجلى في حياتهم .
الثانية : تأكيد سلامة المسلمين من الهزيمة والإنكسار وهذه السلامة من مصاديق الثواب العاجل فان قلت جاءت الآية بخصوص الربيين من أصحاب الأنبياء , والجواب تشمل الآية المسلمين لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثالثة : الثواب الوارد في آية البحث نعمة عظمى أصلها في السماء وتتدلى أغصانها في عموم الأرض ولجميع الناس لينالها المؤمنون ويأكلوا من ثمرها ويجددوا العهد بها ، فيعمل المسلمون بذات نهج الربيين .
فيكون تقدير الآية :فيؤتيكم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ) فنزلت آية البحث لترغيب المسلمين بسنن الصلاح والثبات في مقامات الإيمان ، وإمامة الناس في الخيرات .
الرابعة : مع قلة كلمات الآية تكرر اسم الجلالة ولفظ الثواب فيها لبيان أن الله عز وجل يعلم بأفعال الصالحين وأنه يرزقهم ثواباً عاجلاً وآجلاً وهو من مصاديق قوله تعالى [لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
ويحتمل موضوع وأوان ثواب الربيين وجوهاً :
الأول : كفاية صرف الطبيعة من الثواب .
الثاني : مجئ الثواب للربيين عند الحاجة إليه .
الثالث : إنحصار ثواب الربيين بموضوع السؤال .
الرابع : الإطلاق وعدم الحصر في موضوع الثواب .
وأخرج أبو يعلى عن جابر « أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتى شق ذلك عليه ، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً ، فأتى فاطمة فقال يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ فقالت : لا والله . فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم ، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نفسي ومن عندي ، وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام ، فبعثت حسناً أو حسيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إليها .
فقالت له : بأبي أنت وأمي قد أتى الله بشيء قد خبأته لك فقال : هلمي يا بنية بالجفنة . فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً ، فلما نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله .
فحمدت الله تعالى وقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه حمد الله وقال : من أين لك هذا يا بنية؟ قالت : يا أبت { هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب }( ).
فحمد الله ثم قال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله رزقاً فَسُئِلَتْ عنه { قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب }]( ).
الخامس : الإتصال الزماني في ثواب الله عز وجل للمؤمنين والصحيح هو الرابع والخامس أعلاه , لذا فمن إعجاز الآية الإتصال بين فعل الربيين وبين ثوابهم بحرف العطف والإستئناف الفاء ومجئ ثواب الدنيا وثواب الآخرة مجتمعين بآية واحدة وهي آية البحث .
الخامسة : إن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى، ومنه توالي الهبات والفيض , ومنه آية البحث بحرف العطف الفاء الذي يفيد عدم تخلف الثواب عن الفعل العبادي، لورود الفعل (آتاهم) بصيغة الفعل الماضي، ويحتمل أموراً :
الأول : مجئ الثواب للربيين متعقباً لجهادهم وصبرهم.
الثاني : مصاحبة الثواب للربيين في عباداتهم وجهادهم.
الثالث : تأخر الثواب الدنيوي الذي ناله الربيون لحين مغادرتهم الحياة الدنيا.
والصحيح هو الثاني ، لذا إبتدأت آية الثواب بالحرف الفاء لبيان إنتفاء الفترة بين الفعل العبادي ونزول ثوابه، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
السادسة : بيان ماهية الصلة بين المسلمين والربيين، والسنن التي تتقوم بها، وفيه أمور :
الأول : بيان رحمة الله عز وجل بالمسلمين.
الثاني : تجلي قاعدة نفي الجهالة والغرر عن المسلمين والناس جميعاً.
الثالث : ترغيب المسلمين بسيرة ومنهاج الأنبياء والربيين لما فيها من الثواب العظيم، قال تعالى[لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا]( ).
الرابع : بعث الفزع والخوف في قلوب الكافرين من المسلمين وثباتهم في مقامات الإيمان، بلحاظ أن هذا الثبات سبب لغزو اليأس والعجز نفوس الكافرين.
الخامس : تنمية ملكة قصد القربة عند المسلمين.
السادس : دعوة المسلمين إلى الصبر على الأذى الذي يأتي من مرابطة المجاهدين , والأذى الذي يأتي من قبل الكفار.
السابع : تحبيب الإيمان إلى النفوس، وبيان أن طريقه شاق يتقوم بالصبر وتحمل الأذى ليأتي الثواب مصاحباً ومتعقباً له، ولاحقاً به.
السابعة : من خصائص الصلة بين الربيين والمسلمين والجامع المبارك بينهم الإجتهاد في الدعاء، واللجوء إلى الإستغفار، وحسن التوكل على الله.
لتأتي آية البحث وتبين الثواب الدائم الذي فاز به الربيون باخلاصهم العبودية لله عز وجل وإقامتهم على الدعاء لتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على البشارة للمسلمين بذات الثواب وأنه حاضر عندهم مصاحب لهم في أيام حياتهم ومصاديقه التي تنتظرهم أعظم وأكبر.
الثامنة : بيان قانون كلي من وجوه:
الأول : في الدنيا ثواب على الإيمان والعمل الصالح.
الثاني : في الآخرة ثواب أعظم مما في الدنيا على ذات الأفعال العبادية وغيرها كإستغفار الابن ، فمن فضل الله يكون الفعل العبادي من المكلف متحداً، ولكن الثواب متعدد في الدنيا، ومتعدد ومضاعف في الآخرة، وهو من معاني الرحمة في قوله تعالى في الثناء على نفسه[كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]( ).
الثالث : الفارق الرتبي بين ثواب الآخرة وثواب الدنيا، فالثواب الأخروي أعظم وأكبر وأحسن إذ أنه خال من الشوائب العرضية للنفس الإنسانية في الدنيا كالهّم والحرص والطمع، ومن أسباب الحسد والأذى الذي يأتي من الغير ز
وتدل عليه الآيتان السابقتان فيأتي ثواب الدنيا، مع المرابطة والصبر على أذى الكفار والكدورات الظلمانية وعداوة الشيطان، أما في الآخرة فيأتي الثواب كاملاً من غير أن يصاحبه أذى أو هم أو حزن، وهو من مصاديق تسميته بالحسن.
الرابع : ومن معاني قوله تعالى[وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] أن الثواب فيها على مراتب إذ يبدأ من أول ساعة دخول القبر، فبينت آية البحث أن الربيين ينالون من أحسنه، وهو جزاء على إحسانهم لأنفسهم ولغيرهم.
التفسير
قوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا]
وقد رزق الله عز وجل المسلمين ما رزق الله الربيين من ثواب الدنيا , وتدل آيات القرآن على أن هذا الثواب قانون كلي شامل للمؤمنين في أيام الحياة الدنيا ، قال تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ] ( )وبقاء أغصان شجرة هذا الثواب متدلية للناس جميعاً من مصاديق قانون إذا أنعم الله عز وجل بنعمة على أهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها .
[أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : اجتمعت قريش فقالوا : إن محمداً رجل حلو اللسان ، إذا كلمه الرجل ذهب بعقله ، فانظروا أناساً من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم ، فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس كل ليلة أو ليلتين .
فمن جاء يريده فردوه عنه . فخرج ناس منهم في كل طريق ، فكان إذا أقبل الرجل وافداً لقومه ينظر ما يقول محمد فينزل بهم . قالوا له : أنا فلان ابن فلان . فيعرفه بنسبه ويقول : أنا أخبرك عن محمد ، فلا يريد أن يعني إليه ، هو رجل كذاب ، لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه . وأما شيوخ قومه وخيارهم ، فمفارقون له فيرجع أحدهم . فذلك قوله { وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأوّلين } ( ).
فإذا كان الوافد ممن عزم الله له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك في محمد ، قال : بئس الوافد انا لقومي إن كنت جئت ، حتى إذا بلغت إلا مسيرة يوم ، رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل . وانظر ما يقول : وآتي قومي ببيان أمره ، فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم : ماذا يقول محمد؟ فيقولون : { خيراً للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } ( )يقول : قال { ولدار الآخرة خير } وهي الجنة] ( ).
وإن قلت قيدت الآية أعلاه مجئ الحسنة بإحسان ذات الفرد والجماعة ، فهل كان الربيون محسنين , الجواب نعم من وجوه :
الأول : كل ربي هو محسن .
الثاني : الربيون مجتمعين محسنون لأن في اجتماعهم فضائل عديدة منها :
الأولى : الدفاع عن النبي ،لأن الفرد الواحد من الربيين لا يستطيع مواجهة جموع الكفار إلا أن يشاء الله .
الثانية : تعاون الربيين في عمل الصالحات .
الثالثة : كثرة المؤمنين دعوة للناس للتصديق بالنبوة , ووسيلة لنفي الوحشة في طريق الهدى .
الثالث : الإحسان المترشح عن عمل الربيين متفرقين ، وهو غير فعل الفرد الواحد منهم ، فمن معاني التعدد والتفرق هنا أن أثر ونفع فعل كل واحد منهم في الصالحات تعضيد للآخر وفعله وباعث له للسعي والعمل والإقتداء ، والتنافس فيما بينهم ، قال تعالى في ثواب الجنة [خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ]( ).
ومع أن الأحكام الشرعية لا تصل إلى الربيين والمؤمنين والناس جميعاً إلا بواسطة النبي إذ جعله الله عز وجل بشيراً ونذيراً للناس ، فان آية البحث بينت بأن الثواب يأتي مباشرة من عند الله للربيين من غير واسطة نبي أو ملك مقرب ، وهو آية من بديع صنع الله , وحبه للمؤمنين وشكره لهم .
وتفضل الله بالرد على الملائكة حين سألوا إستفهاماً عن جعل آدم خليفة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ليكون ثواب الربيين في الدنيا من الآيات التي جعلها الله في ذات البشر وأسرار حياتهم ، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ).
ويحتمل نصر الربيين على الكفار وجوهاً :
الأول : إنه من الآيات والبراهين في الآفاق .
الثاني : إنه من الآيات والدلائل الباهرات .
الثالث : إنه من الآيات في الآفاق وفي النفوس .
والصحيح هو الثالث كما أنه من الآيات المتعددة للتفكيك بين نصر الربيين وهزيمة الكافرين وإن كانا في واقعة واحدة , وعن مجاهد في الآية أعلاه [قال : كانوا يسافرون فيرون آثار عاد وثمود يقولون والله لقد صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم { وما أراهم في أنفسهم } قال : الأمراض] ( ).
ولكن معنى الآية أعم سواء في الأفاق وفي النفوس ونظم الآية أعلاه وصيغة الإنذار فيها للكافرين ليس سبباً لتقييد مضامينها ودلالاتها خاصة وأنها جاءت بحرف الإستقبال السين في [سَنُرِيهِمْ]مما يدل على تعدد الآيات في كل زمان في الآفاق والنفوس مجتمعين ومتفرقين .
بيان التنزيل بلحاظ آية البحث
يكون تقدير قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) بإستحضار مضامين آية السياق والبحث على وجوه :
الأول : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لإيمان الربيين بالله وأنبيائه .
الثاني : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لقتال الربيين مع الأنبياء في سبيل الله .
الثالث : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لسلامة الربيين من الوهن والضعف .
الرابع : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لعدم ذل أو إستكانة الربيين .
الخامس : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لصبر الربيين .
السادس : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء , ومنه أخبار الربيين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ).
وتحتمل أخبار الربيين في آية السياق والبحث والآية التي بينهما وجوهاً :
الأول : حال وأخبار الربيين مجتمعين قصة من قصص القرآن والتي تتصف بالحسن الذاتي .
الثاني : كل عدد من الربيين وصحابة أحد الأنبياء قصة مستقلة قائمة بذاتها .
الثالث : كل فرد من الربيين له قصة خاصة به ، وهو من الأفراد الحسنة لقصص القرآن المذكورة في قوله تعالى [أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) لبيان حقيقة وهي أن كل فرد من أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم مدرسة متكاملة في الجهاد ومكارم الأخلاق ، ومن إعجاز القرآن أن إحدى سوره تسمى سورة القصص وهي ثمان وثمانون آية ورد فيها لفظ القصص مرة واحدة [فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ] ( ) .
ولم يرد في القرآن لفظ [قصة] بصيغة المفرد بل ورد بصيغة الجمع ليقتبس المسلمون منها المواعظ والعبر ، ولبيان حقيقة وهي أن قصص القرآن نعمة من عند الله .
الرابع : كل فعل عبادي وعمل جهادي لأي من الربيين قصة من قصص القرآن ذات الحسن في موضوعها وحكمها ودلالاتها .
ولا تعارض بين هذه الوجوه الأربعة , وكلها من مصاديق آيات القصص لبيان أن أفرادها في عالم الواقع من اللامتناهي ، وأن مواضيع هذه القصص لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله عز وجل ليكون من معاني قوله تعالى [أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) أي أمهات القصص ، والمجمل والمفصل منها وما فيها من الأدلة وما يستنبط منها من الأحكام والسنن وما يستقرأ من المعاني والدلالات .
السابع : ونزلنا عليك القرآن تبياناً لكل شىء ]ليتعظ المسلمون والناس جميعاً من سنن الربيين ، قال تعالى [فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ] ( ).
الثامن : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ] ليعلم الناس علوم الغيب بالكتاب .
التاسع : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء]ليكون المسلمون بمرتبة الربيين .
العاشر : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء] ليهتدي المسلمون إلى سيرة وجهاد الربيين .
الحادي عشر : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء لينال المسلمون ثواب الربيين في الدنيا والآخرة ، وهل يمكن إستقراء معاني ثواب الربيين في الدنيا بلحاظ ما رزق الله المسلمين ،الجواب فيه وجوه :
الأول : الثواب الدنيوي الذي تفضل ويتفضل به الله على المسلمين أكبر وأعظم من الثواب الذي فاز به الربيون ، وبينهما عموم وخصوص مطلق .
الثاني : نسبة التساوي بين الثواب الذي رزقه الله الربيين والذي تفضل به على صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته .
الثالث : الثواب العظيم الذي ناله الربيون خاص بهم مثلما وردت تسميتهم [ربيون ] في القرآن مرة واحدة ، وفي آية السياق بالذات ليكون إتحاد وإختصاص التسمية بهم من الشواهد على إنفرادهم بثواب مخصوص ،وهو من مصاديق قوله تعالى أعلاه [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
وفيه شاهد على إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية وتفضيلهم من جهات :
الأولى : إقتداء المسلمين بالأنبياء .
الثانية : إلحاق المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأمر المتوجه إليه من عند الله تعالى بهذا الخصوص كما في قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
الثالثة : إتخاذ المسلمين أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم وهم الربيون أسوة حسنة ، وهو الذي تدل عليه آية البحث والسياق بالدلالة التضمنية .
الرابعة : إتباع المسلمين لنهج الصالحين الذين تذكرهم آيات القرآن .
الخامسة : إتباع المسلمين والمسلمات لنهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإمتثالهم لأحكام الشريعة التي جاء بها ، قال تعالى [ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
وهذا التعدد في مصاديق الصيغة الإيمانية الذي يتولى المسلمون القيام به من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابع : ثواب الربيين مساو بالجنس لثواب المسلمين ، ولكنه أكثر وأكبر كماً وكيفاً .
والصحيح هو الأول لقوله تعالى في خطاب المسلمين [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )ولنعمة الله ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا كان الربيون يبشرون بها ويدعون إلى التصديق بها ويتطلعون إلى أيامها المباركة .
فرائد صلح الحديبية
لقد ظن بعض المسلمين أن صلح الحديبية ليس فتحاً للإسلام, ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكد أنه فتح ونصر عظيم للمسلمين ، وهو من مصاديق الإستجابة والثواب العظيم له وللربيين في دعائهم في الآية السابقة ودعاء المسلمين .
[ وعن عروة قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية راجعاً ، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والله ما هذا بفتح ، لقد صددنا عن البيت وصدَّ هدينا ، وعكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا .
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول رجال من أصحابه : إنّ هذا ليس بفتح .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بئس الكلام ، هذا أعظم الفتح ، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإِياب ، وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم ، وردكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتح .
أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، وأنا أدعوكم في أخراكم ، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟ .
قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا . فأنزل الله سورة الفتح ] ( ).
وكان صلح الحديبية فتحاً مبيناً من وجوه :
الأول : مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة معتمرين من غير سلاح يعتد به ، وهو من مصاديق الآية السابقة [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] ( ).
الثاني : وقوع إختلاف بين أقطاب قريش في صد النبي وأصحابه عن البيت الحرام عندما أطلوا على المسلمين في الحديبية وقد تقدم بيانه في الأجزاء السابقة .
الثالث : إمتلاء صدور الكفار غيظاً بمجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة معتمرين من غير إذن ورخصة من قريش ، قال تعالى في خطاب للمسلمين يتضمن ذم الكافرين [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ).
الرابع : عقد صلح بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين وما فيه من الدلالة على إقرار كفار قريش بمنعة الإسلام وأن المسلمين صاروا أمة ودولة ذات سيادة .
الخامس : السعة والمندوحة للقبائل بالدخول في حلف مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ دخلت خزاعة في حلف معه ، ودخلت كنانة في حلف مع قريش .
[قال الزهري : فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد محمد وعهده وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم ،وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها] ( ) ليكون صلح الحديبية فتحاً ومقدمة لفتح مكة من وجوه :
أولاً : صيرورة كنانة سبباً لنقض قريش الصلح لانضمامها إلى كنانة في صراع طارىء لها مع خزاعة .
ثانياً : دخول الأفراد والقبائل في الإسلام بعد صلح الحديبية .
ثالثاً : إعتناء المسلمين بأداء الفرائض والعبادات ،والتدبر في آيات القرآن والإنصات إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباع سنته لأن ذات الصلح تخفيف ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ]( ).
وتبين عمومات الآية أعلاه أن الصلح خير محض في ذاته وموضوعه وآثاره ، فهل ينتفع الكفار من إطلاق النفع في الصلح أم أنهم يخرجون بالتخصيص من هذا النفع ومصاديق الخير ،الجواب هو الأول من وجوه :
الأول : الصلح مناسبة لتدبر الكفار بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها ذات صلح الحديبية الذي يدخل في السنة الدفاعية .
الثاني : في الصلح هدنة ووقف لهجوم الكفار على المسلمين ونجاة للكفار من تحمل أوزار إضافية من الآثام بسبب تعدد وتعاقب هذا الهجوم .
الثالث : رؤية الكفار للحقائق والوقائع ، فبعد الصلح توافدت القبائل على المدينة لإعلان دخولها الإسلام ، وقريش عاجزة عن الفعل .
الرابع : دعوة قريش لإصلاح تجارتها [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) وإن لم تتم لها الفرحة بهذا الأمر بسبب إصرارهم على قهر إبنائهم الذين دخلوا الإسلام .
وعن ابن إسحاق قال الزهري: فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ هُوَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، إذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِو يَرْسُفَ فِي الْحَدِيدِ قَدْ انْفَلَتَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجُوا وَهُمْ لَا يَشُكّونَ فِي الْفَتْحِ لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنْ الصّلْحِ وَالرّجُوعِ وَمَا تَحَمّلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نَفْسِهِ دَخَلَ عَلَى النّاسِ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتّى كَادُوا يُهْلِكُونَ .
فَلَمّا رَأَى سُهَيْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ وَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ ثُمّ قَالَ يَا مُحَمّدُ قَدْ لَجّتْ الْقَضِيّةُ بَيْنِي وَبَيْنَك قَبْل أَنْ يَأْتِيَك هَذَا ؛ قَالَ صَدَقْتَ فَجَعَلَ يَنْتُرُهُ بِتَلْبِيبِهِ وَيَجُرّهُ لِيَرُدّهُ إلَى قُرَيْشٍ .
وَجَعَلَ أَبُو جَنْدَلٍ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَأُرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي ؟ فَزَادَ ذَلِكَ النّاسَ إلَى مَا بِهِمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ ، فَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، إنّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللّهِ وَإِنّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ( ).
الخامس : إصلاح المسلمين لأحوالهم المعاشية والإجتماعية بعد المعارك المتتالية في بدر وأحد والخندق وغيرها.
السادس : الصلح شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عز ورفعة المسلمين، وهو مصداق لقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
السابع : من مصاديق الخير والنفع للناس في صلح الحديبية هجران شطر من الكفار الضلالة الإسلام.
السادسة : بيان قانون وهو أن ثواب الدنيا من اللامتناهي بدليل خلود ذكر الربيين في الدنيا بآية البحث والآيتين السابقتين، ويأتي الثواب لهم عند كل تلاوة لمسلم أو مسلمة لواحدة من هذه الآيات، وقد تفضل الله عز وجل على الربيين بإخبار القرآن عن إقتران الثواب بهم في الدنيا والآخرة.
السابعة : بيان فوز الربيين بالثواب العظيم في الآخرة، وقيدته الآية بانه (حسن) وسيأتي مزيد بيان في الصلة بين أول وآخر الآية والتفسير.
الثامنة : بعث السكينة في نفوس المسلمين لما أعدّ الله لهم من الثواب لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وللأولوية لقوله تعالى في الثناء على المسلمين[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
التاسعة : الترغيب بالإحسان للذات والغير لإختتام الآية بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، ودعوة المسلمين للتطلع إلى فضل الله عليهم في جهادهم وصبرهم في طاعته، وصبرهم عن المعصية وفيه بشارة حفظ المسلمين من جهات:
الأولى : إحسان المسلمين لأنفسهم.
الثانية : إحسان المسلمين للناس بالدعوة إلى الله وتحمل الأذى في مرضاته.
الثالثة : إحسان المسلمين بتعاهد سنن الربيين.
الرابعة : حسن سمت المسلمين بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه، وحينما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشام في جمادى الأولى بثلاثة آلاف (واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: ” إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس ( ) إنطلقوا بشوق للجهاد والشهادة.
قال ابن إسحاق : ثُمّ إنّ الْقَوْمَ تَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ فَأَتَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَدّعَهُ ثُمّ قَالَ
فَثَبّتَ اللّهُ مَا آتَاك مِنْ حَسَنٍ … تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَاَلّذِي نُصِرُوا
إنّي تَفَرّسْتُ فِيكَ الْخَيْرَ نَافِلَةً … اللّهُ يَعْلَمُ أَنّي ثَابِتُ الْبَصَرِ
أَنْتَ الرّسُولُ فَمَنْ يُحْرَمْ نَوَافِلَهُ … وَالْوَجْهَ مِنْهُ . فَقَدْ أَزْرَى بِهِ الْقَدَرُ ( ).
الخامسة : إحسان المسلمين للربيين باحياء ذكرهم في الآخرين، وصيرورة صفحات جهادهم مدرسة للأجيال، وباعثاً للفزع والخوف في قلوب الكفار.
[عن سالم، عن جابر قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم ؟ قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشرب إلا ما في ركوتك.
فوضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون.
قال: فشربنا وتوضأنا.
فقلنا لجابر: كم كنتم يومئذ ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة] ( ) وقيل أربع عشرة مائة ( ).
قانون الإضمار
تضمنت آية السياق لهج الربيين بالإستغفار والذكر والدعاء، وجاءت آية البحث بالإطلاق في الثواب والأجر، وهو من فضل الله عز وجل على أهل الإيمان بأن يأتوا بالقليل فيرزقهم الله عز وجل الكثير.
إذ يفيد إخبار الآية عن قصر قولهم على الإستغفار على الحاحهم بالدعاء وإستجارتهم بالإستغفار، وهل هو من ثواب الدنيا أم أن هذا الثواب رشحة وسبب كريم لهذا الثواب، الجواب لا تعارض بين الأمرين، وهو من بديع فضل الله عز وجل على الناس، والمندوحة في عموم النفع الذي يأتي للناس مجتمعين ومتفرقين بخصال الإيمان الذاتي والغيري، بمعنى يؤمن الإنسان فيأتيه الثواب، وينتفع غيره من هذا الإيمان .
ويتلو المسلم آية البحث فيأتيه الثواب ويأتي لغيره كسبب لذات التلاوة ونتيجة لها، وفيض من فيوضاتها.
ومن منافع هذه التلاوة أمور:
الأول : تنمية ملكة الإستغفار عند المسلمين والمسلمات.
الثاني : بيان الخصال الحميدة التي إستحق بها أصحاب الأنبياء مرتبة الربيين .
الثالث : الملازمة بين الجهاد والإستغفار .
الرابع : رجاء المسلمين الثواب العاجل والآجل نتيجة هذا الإستغفار، وهل هو من الطمع في العبادات الجواب لا، إنما هو رجاء لفضل الله وتطلع إلى وعده الكريم، وفي التنزيل حكاية عن نوح عليه السلام[فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا]( ).
وتبين هذه الآيات كنوز الإستغفار، والمنافع العظيمة التي تترشح عنه من جهات:
الأولى : الوعد الكريم بأن الله عز وجل هو الغفار، وورود الآية على نحو الإطلاق مما يدل على أنه يغفر الذنوب كلها، ويغفر لكل الذين يستغفرونه.
وهل تدل الآية على إرادة المغفرة من الله لغير الذي لم يستغفره فضلاً وإبتداءً منه تعالى، الجواب نعم ,وبركة فعل الغير الصالحات.
الثانية : مجئ الدعوة إلى الإستغفار بصيغة الأمر (استغفروا ربكم) وأخرج ابن مردويه عن سلمان قال: أكثروا من الاستغفار ، فإن الله لم يعلمكم الاستغفار إلا وهو يريد أن يغفر لكم.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : { ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً } قال : رأى نوح عليه السلام قوماً تجزعت أعناقهم حرصاً على الدنيا فقال : هلموا إلى طاعة الله فإن فيها درك الدنيا والآخرة( ).
مما يدل على إتحاد سنخية النبوة، وأن الأنبياء يحثون أصحابهم وغيرهم من الناس على الإستغفار ويرغبون فيه، وتبين الآية والحديث أعلاه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول : حفظ مواثيق الأنبياء وأوامرهم ونواهيهم بالقرآن الذي نزل على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : صيرورة أمر نوح لقومه وكأنه أمر للمسلمين، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالث : إخبار آية السياق عن لجوء الربيين إلى الإستغفار ، وبيان كيفيته وتعليم الله عز وجل للمسلمين الإستغفار.
الرابع : تعدد منافع الإستغفار، والبركات المترشحة عنه، ويمكن معه تقدير مضمر متعدد منه على سبيل المثال البياني قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، بلحاظ هذه الآيات من جهات:
الأولى : وان تعدوا نعمة الله في الإستغفار لاتحصوها.
الثانية : وإن تعدو نعمة الله على الربيين لا تحصوها، وكل تلاوة للمسلمين لهذه الآيات نعمة على الربيين، ونعمه تعالى عليهم تشمل الدنيا والآخرة.
الثالثة : وإن تعدوا نعمة الله بتعليمكم الإستغفار في القرآن لا تحصوها.
الرابعة : وإن تعدوا نعمة الله في دعاء ثبات الأقدام لا تحصوها.
الخامسة : وان تعدوا نعمة الله في الدعاء لنصركم على القوم الكافرين لاتحصوها.
السادسة : وان تعدوا نعمة الله في كثرة الربيين مع كل نبي لاتحصوها.
السابعة : وان تعدوا نعمة الله بالسلامة من شرور الكفار ومكر المنافقين لاتحصوها.
وعن ابن أسحاق قال: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الثنية نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خذوا بطن الوادي فهو أوسع عليكم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ الثنية ، فذكر الحديث في مكر المنافقين بنحو مما ذكرنا في رواية عروة إلى قوله لحذيفة : هل عرفت من القوم أحدا فقال : لا ، ولكني أعرف رواحلهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم ، وسأخبرك بهم إن شاء الله عند وجه الصبح ، فانطلق إذا أصبحت فاجمعهم « فلما أصبح قال : ادع عبد الله : أظنه ابن سعد بن أبي سرح ، وفي الأصل : عبد الله بن أبي ، وسعد بن أبي سرح ، إلا أن ابن إسحاق ذكر قبل هذا أن ابن أبي تخلف في معركة تبوك ولا أدري كيف هذا .
قال ابن إسحاق : وأبا حاضر الأعرابي ، وعامرا وأبا عامر ، والجلاس بن سويد بن الصامت ، وهو الذي قال : لا ننتهي حتى نرمي محمدا من العقبة الليلة ، ولئن كان محمد وأصحابه خيرا منا إنا إذا لغنم وهو الراعي ولا عقل لنا ، وهو العاقل . وأمره أن يدعو مجمع بن جارية ، وفليحا التيمي ، وهو الذي سرق طيب الكعبة ، وارتد عن الإسلام ، فانطلق هاربا في الأرض ، فلا يدرى أين ذهب .
وأمره أن يدعو حصين بن نمير الذي أغار على تمر الصدقة ، فسرقه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحك ، ما حملك على هذا ، قال : حملني عليه أني ظننت أن الله لم يطلعك عليه ، فأما إذ أطلعك الله عليه وعلمته فإني أشهد اليوم أنك رسول الله ، وإني لم أؤمن بك قط قبل الساعة يقينا ، فأقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عثرته، وعفا عنه بقوله الذي قال.
وأمره أن يدعو طعمة بن أبيرق ، وعبد الله بن عيينة ، وهو الذي قال لأصحابه : اشهدوا هذه الليلة تسلموا الدهر كله ، فوالله ما لكم أمر دون أن تقتلوا هذا الرجل ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ويحك ما كان ينفعك من قتلي لو أني قتلت ، فقال عدو الله : يا نبي الله والله لا تزال بخير ما أعطاك الله النصر على عدوك ، إنما نحن بالله وبك ، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال لحذيفة : ادع مرة بن ربيع « وهو الذي ضرب بيده على عاتق عبد الله بن أبي ، ثم قال : تمطى ، والنعيم لنا من بعده كائن نقتل الواحد المفرد ، فيكون الناس عامة بقتله مطمئنين ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : ويحك ، ما حملك على أن تقول الذي قلت .
فقال : يا رسول الله ، إن كنت قلت شيئا من ذلك إنك لعالم به ، وما قلت شيئا من ذلك . فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلا الذين حاربوا الله ورسوله ، وأرادوا قتله ، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم ومنطقهم وسرهم وعلانيتهم ، وأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك بعلمه ، ومات الاثنا عشر منافقين محاربين لله تعالى ورسوله ، وذلك قول الله عز وجل : [وهموا بما لم ينالوا] ( ) وكان أبو عامر رأسهم وله بنوا مسجد الضرار ، وهو الذي كان يقال له الراهب ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الفاسق ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة فأرسلوا إليه ، فقدم عليهم أخزاه الله وإياهم ، وانهارت تلك البقعة في نار جهنم ، وقال مجمع حين بنى المسجد : إن هذا المسجد إذا بنيناه اتخذناه لسرنا ونجوانا ولا يزاحمنا فيه أحد ، فنذكر ما شئنا ، ونخيل إلى أصحاب محمد إنما نريد الإحسان( ).
الثامنة : وان تعدوا نعمة الله في عصمة الربيين من الإستكانة لاتحصوها.
التاسعة : وان تعدوا نعمة الله في قوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، لا تحصوها.
العاشرة : وان تعدوا نعمة الله في قوله تعالى[فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا]( )، لا تحصوها.
الحادية عشرة : وان تعدوا نعمة الله في كثرة الإستغفار لا تحصوها.
الثانية عشرة : وان تعدوا نعمة الله في طاعة الله لا تحصوها.
الثالثة عشرة : وان تعدوا نعمة الله في افراد ومصاديق ثواب الدنيا للربيين لاتحصوها.
الرابعة عشرة : وان تعدوا نعمة الله في ثواب الدنيا بتلاوة هذه الآيات لاتحصوها.
الخامسة عشرة : وان تعدوا نعمة الله في مصاديق حسن ثواب الآخرة للربيين[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ) لا تحصوها.
السادسة عشرة : نعمة الله في سلامة الربيين من الوهن لاتحصوها.
وعن أنس بن مالك قال أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : انطلقوا بسم الله ، وبالله ، وعلى سنة رسول الله ، فقاتلوا أعداء الله في سبيل الله ، قتلاكم أحياء مرزقون في الجنان ، وقتلاهم في سبيل الله ، لا تقتلن شيخا فانيا ، ولا طفلا صغيرا ، ولا امرأة ، ولا تغلوا( ) غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا ، إن الله يحب المحسنين( ).
ويفيد الحديث أعلاه أن الإحسان عام لا يختص بالنفس والجهاد في سبيل الله، فيشمل الرأفة بالناس عموماً ممن لم يعتد على المسلمين من الرجل الكبير والمرأة والطفل وإن كانوا من القوم الكافرين، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ودليل على رجحان إسلام هؤلاء عند التدبر في المعجزات وإزالة البرزخ والحاجب الذي كان يضعه رؤساء الكفر على أبصارهم.
ولم يخش النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن هؤلاء الصبيان يكبرون ويثأرون لآبائهم من الكفار، أو أن النساء تحرض عليه وعلى جيش المسلمين، ليكون هذا الحديث من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ويكون تقدير الإضمار في آية النعمة بلحاظ الآية أعلاه وجوه منها :
الأول : وإن تعدوا نعمة الله في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تحصوها، ومنها إخبار القرآن عن جهاد الربيين في سبيل الله، وعن إياس ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه كان يقول في خطبته : « إن أصدق الحديث كلام الله ، وأوثق العرى كلمة التقوى ، وخير الملل ملة إبراهيم ، وأحسن القصص هذا القرآن ، وأحسن السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأشرف الحديث ذكر الله ، وخير الأمور عزائمها ، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء ، وأشرف القتل موت الشهداء ، وأغر الضلالة الضلالة بعد الهدى ، وخير العلم ما نفع ، وخير الهدى ما اتبع ، وشر العمى عمى القلب( ).
الثاني : وإن تعدوا نعمة الله في مصاديق الرحمة في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تحصوها.
الثالث : وإن تعدوا نعمة الله ورحمته بالعالمين في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تحصوها.
المسألة التاسعة : تتعلق آية السياق بدعاء الربيين، وعدد كلماتها أكثر قليلاً من عدد كلمات آية البحث التي تتعلق بالثواب العظيم لهم.
ولكن دعاء الربيين إنقطع بمغادرتهم الدنيا، أما الثواب العظيم الذي خصهم الله عز وجل به فانه من الدائم غير المتناهي من جهات:
الأولى : ثواب الدنيا الذي ناله الربيون وهو على أقسام:
الأول : ما كان في زمان وأيام حياة الربيين من جهات:
الأولى : النصر في ميادين القتال.
الثانية : الهداية إلى الإستغفار.
الثالثة : الثبات في ميادين القتال.
الرابعة : هزيمة وإنكسار القوم الكافرين.
وعن البراء بن عازب قال: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ يَوْمَ جَالُوتَ ثَلَاثَ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ الَّذِينَ جَازُوا مَعَهُ النَّهْرَ قَالَ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ النَّهْرَ إِلَّا مُؤْمِنٌ( ).
الرابعة : من ثواب الدنيا الذي آتاه الله للربيين إصلاح ذراريهم للإيمان، فلم يغادروا الدنيا إلا وهم يرون أبناءهم على سبيل الهدى والصلاح.
الثاني : الثواب الدنيوي الذي فاز به الربيون بعد مغادرتهم الدنيا، من جهات:
الأولى : وراثة نهج الربيين في التقوى.
الثانية : وهن وضعف الكافرين أيام الربيين وبعد إنقضاء أيامهم في الحياة الدنيا.
الثالثة : قيام التابعين بذات عمل الربيين في سنن التقوى.
الرابعة : الذكر الحسن للربيين.
الخامسة : نزول آية البحث والسياق في الثناء على الربيين.
السادسة : تلاوة المسلمين لآيات الربيين الثلاثة( )، وفيه ثواب للربيين يتجدد كل ساعة من اليوم والليلة وإلى يوم القيامة.
السابعة : قراءة المسلمين وغيرهم لكتب التفسير وبيان العلماء لمضامين آيات الربيين.
الثامنة : إقتباس الناس من حسن سمت الربيين.
التاسعة : دخول فريق من الناس الإسلام بالتدبر في قصص الربيين.
الثالث : الثواب الأخروي للربيين والذين ذكرته آية البحث بقوله تعالى[حُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] وهو الدائم غير المنقطع من جهات:
الأولى : إتصاف النعيم الأخروي بالخلود.
الثانية : إخبار آية البحث عن فوز الربيين بنعيم الجنة.
الثالثة : نعت آية البحث الربيين بالمحسنين.
الرابعة : تقييد آية البحث جزاء وثواب الربيين في الآخرة بالحسن وصيغ التمام.
ومع التباين والتعاقب بين الدنيا وعالم الآخرة فان آية البحث تجمع بينهما بخصوص إتصال وتداخل وإستدامة ثواب الربيين، وهو من إعجاز البيان القرآني بأن يأتي الإخبار عن الثواب الأخروي للربيين في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي آخر الزمان وتلاوة المسلمين لآية البحث مع أن زمان الربيين قد إنقضى قبل بعثته.
المسألة العاشرة : أختتمت الآية السابقة بدعاء الربيين[وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( )، ويحتمل هذا النصر وجوهاً :
الأول : إرادة ذات النصر كغاية قائمة بذاتها.
الثاني : دلالة النصر على الكافرين في مفهومه على كفاية أذى الكفار، وعدم إستباحتهم لثغور المسلمين، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الثالث : بيان عظيم قدرة الله وسلطانه ليرى المؤمنون والناس جميعاً معجزة حسية في آية نصر الأنبياء وأصحابهم وتكون مناسبة لدخول الناس الإسلام.
الرابع : النصر على الكافرين مقدمة لإقامة حكم الله في الأرض.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة والتي يكون تقديرها على وجوه:
الأول : وانصرنا على القوم الكافرين لإستئصال الشرك من الأرض.
الثاني : وانصرنا على القوم الكافرين كي نشكرك سبحانك على هذه النعمة العظيمة.
الثالث : وأنصرنا على القوم الكافرين توطئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : وانصرنا على القوم الكافرين ليتوارث المؤمنون البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : وانصرنا على القوم الكافرين ليكون هذا النصر مقدمة لهزيمتهم عند حربهم وقتالهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : وانصرنا على القوم الكافرين باعانتنا على الوحدة ونبذ الفرقة بيننا.
لقد أدرك الربيون حاجتهم إلى الوحدة في مرضاة الله عز وجل، لذا جاءت أدعيتهم بصيغة جماعة المتكلم، وكان جميع الربيين مشغولين بالدعاء ذي الموضوع المتحد، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الأمر في الجزء السابق، وقال تعالى في الثناء على المسلمين[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ]( ).
قوله تعالى [وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ]
تضمنت الآية الجمع بين المتشابه والمتفرق بما يفيد الكثرة والزيادة وبيان اللامتناهي من عطاء الله، فالكريم إذا أعطى لا يبالي، وليس من حد لفضله وإحسانه.
إذ ذكرت الآية الثواب مطلقاً في الدنيا والآخرة، وتكرر لفظه مرتين مع قلة كلمات الآية لبيان التباين الموضوعي والزماني بينهما مع إتحاد اللفظ , وهل هذا التباين على نحو السالبة الكلية، الجواب لا، للتداخل بينهما وتأثير أحدهما في الآخر نفعاً ومضاعفة ونماء للأجر وذات الثواب، رجاء التباين بين الدنيا والآخرة ولكن كل واحدة منهما روضة بهيجة للثواب ز
ليكون الربيون في سعادة دائمة وفي سلامة من أدران الدنيا، إذ سخروا أنفسهم لمداواة الناس من دنس الشرك والضلالة، فكتب الله لهم طهارة الأبدان وسلامة الأذهان والأمن من نزغ الشيطان، ليصيروا مصدراً للخير العام، وسبباً لنزول البركات.
عاهدوا الله بميثاق الولاية، وأعرضوا عن مباهج الدنيا فابت إلا مصاحبتهم ، صبروا عن لذات الدنيا فضمن لهم الله عز وجل حسن الثواب والنعيم الدائم في الآخرة.
وتتضمن الآية التحدي لإخبارها عن أمور:
الأول : حتمية عالم الآخرة، والوقوف بين يدي الله للحساب.
الثاني : حضور أعمال الناس الدنيوية في الآخرة، ومنها أعمال الربيين وجهادهم في سبيل الله، وعن فضالة بن عبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : كل ميت يختم على عمله إلا المرابط، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ، ويؤمن من فتنة القبر( ).
الثالث : تفضل الله بجعل الثواب بيده وحده، سواء كان الثواب الدنيوي أو الأخروي، وفيه رحمة بالناس في النشأتين، ودعوة للشكر، ورجاء فضله ورفده وعفوه سبحانه وسؤال تفضله بمضاعفة الثواب والجزاء وتستقرأ هذه المضاعفة من إنتفاع المؤمنين عامة بقوله تعالى[وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] فهم مجتمعين ومتفرقين يفوزون بالثواب الأحسن وليس الربيين وحدهم.
الرابع : تحدي الكفار الذين يؤذون المؤمنين، بانفراد المؤمنين بالنعيم الدائم في الآخرة.
الخامس : حتمية النشور والوقوف للحساب بين يدي الله، قال تعالى[قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
علم جديد عطف المسُبب على السبب
وما ضعفوا عن عدم الإستكانة ، فلما أخبرت آية السياق بأن الربيين لم يضعفوا وعلى نحو الإطلاق من غير تقييد للموضوع الذي لم يضعفوا فيه سواء في حال السلم او الحرب ورد العطف عليه بذات صيغة النفي [وَمَا اسْتَكَانُوا]لبيان أن عدم الإستكانة فرع عدم الضعف ،وحينئذ يكون المقام من باب عطف المسُبب على السبب وهو أمر مستحدث في قواعد اللغة العربية وأسرار ومضامين آيات القرآن أعم من قواعد اللغة التي هي إستقرائية ، إذ ذكر العطف في اللغة على وجوه منها :
الأول : عطف فعل على فعل .
الثاني : عطف اسم على اسم .
الثالث : عطف جملة على جملة .
الرابع : عطف الخاص على العام .
الخامس : عطف الخاص على العام .
السادس : عطف البيان .
السابع : عطف الوصل بالواو إذا إتحدت الجملتان بصيغة الخبر او الإنشاء ، كما في قوله تعالى [وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا] لإتحادهما في الخبر والموضوع لفظاً ومعنى ، وهذا لا يمنع من جعلهما مثلاً لقسيم آخر من العطف كما سيأتي ، وقد تأتي جملة ثانية بدون عطف ويسمى [الفصل ]كما في قوله تعالى [وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ] ( ).ولو قالت ( ويخادعون الله) لكانت أدنى مرتبة في البلاغة , والأهم أن المعنى يختلف لما فيه من تعدد الحال .
وتكرر حرف العطف الواو أربع مرات في آية السياق ، وهو يفيد مطلق الجمع بين المتعاطفين وهو على أقسام :
الأول : مجئ أو حدوث المتعاطفين في زمان واحد ، كما في قوله تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ]( ).
الثاني : إتحاد الموضوع كما في معاني التوحيد التي تنفرد بالإستدامة والتأبيد مثل قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وإقرار الأسباط كما في قوله تعالى [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
الثالث : إرادة الترتيب في العطف إذا تقدم أحد المتعاطفين على الآخر ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( )ومن معاني العطف في القرآن الذي نبينه في المقام وجوه :
الأول : عطف المسُبب على السبب .
الثاني : عطف السبب على المسّبب .
الثالث : تعدد العطف في ذات الآية , فكل فرد من المتعاطفين يكون سبباً للآخر ومسّبباً عنه .
ومنه آية البحث فان عدم الضعف والوهن سبب لعدم الإستكانة ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الوجه الأول : وما ضعفوا فما استكانوا ، أي أن عدم ضعف الربيين سبب لصيرورتهم في عصمة من الإستكانة والذل للكفار ، فان قلت قد ورد ذكر الذل بخصوص المسلمين في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) والجواب فيه مسائل :
الأولى : المراد من الذل في الآية أعلاه العوز ونقص الأسلحة والمؤون .
الثانية : ورد ذكر الذل في الآية أعلاه على نحو النص ، أما في آية السياق فورد لفظ [استكانوا ] الذي لم يرد في القرآن إلا مرتين ، كل واحدة منهما بصيغة النفي مع التباين والتضاد بينهما ، إذ وردت آية السياق في الثناء على الربيين وحسن توكلهم على الله وعدم خضوعهم للكفار والمشركين ، أما الثانية فجاءت في ذم الكفار لأنهم لم يستجيبوا للنبوة والتنزيل .
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله { ولقد أخذناهم بالعذاب } قال : بالسنة والجوع .
وأخرج العسكري في المواعظ عن علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله { فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } أي : لم يتواضعوا في الدعاء ، ولم يخضعوا ، ولو خضعوا لله لاستجاب لهم] ( ).
الثالثة : أخبرت آية [ببدر] عن زوال الذل عن المسلمين في معركة بدر .
ويحتمل موضوع وزمان وأثر رفع الذل في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : خصوص وقائع معركة بدر .
الثاني : الصحابة في المدينة المنورة .
الثالث : أيام النبوة ونزول القرآن ، لذا ورد قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )أي لا ترجعوا إلى حال الذل والضعف والفرقة .
الرابع : إرادة ميادين الحرب والقتال .
الخامس : الإطلاق الزماني بإزاحة جاثوم الذل والضعف والفقر عن المسلمين .
والصحيح هو الأخير فلقد كانت معركة بدر فيصلاً وبرزخاً بين المسلمين والذل ، ولتصبح بينونة بينهما إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار تسمية يوم معركة بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( ).
الوجه الثاني : صيرورة عدم الإستكانة سبباً لعدم الضعف .
وتقدير الآية : وما ضعفوا لأنهم ما استكانوا ، لقد إمتلأت قلوب الربيين بالإيمان ، وترشح عنه إزدراء مفاهيم الكفر والصدود عن الكافرين الذين لم يسكتوا أزاء إظهار الربيين التصديق بنبي زمانهم ، ومن الربيين من كان مستضعفاً أو أجيراً أو عبداً عند أقطاب الكفر ومنهم أيضا أبناء الكافرين أنفسهم كما تجلى في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول أبناء وبنات وأخوات المشركين في مكة في الإسلام , فأخذت الكفار حمية الكفر وعصبية الأمرة والرياسة فأبوا إلا محاربة النبي وأصحابه .
ولكن الإيمان الذي ملأ قلوب الربيين طهّرهم ونجاهم من حالات الضعف والإستكانة التي إعتاد الكفار صدورها أزاءهم . ليكون من مصاديق تشريف وإكرام الربيين بهذه النسبة إلى الله أنهم إنتقلوا من حال الضعف والإستكانة أزاء الكفار إلى ملاقاتهم بالسيوف من غير خوف أو خشية منهم .
وقد تجلى ببدايات البعثة النبوية الشريفة التي هي مرآة لقصص الأنبياء ، ومدرسة غضة باقية إلى يوم القيامة ، [عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟
قال: نعم والله ! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهاًن من دون الله ؟ فيقول: نعم ! افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم] ( ).
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسليم الناس بصدق نبوته أن أول شهيد في الإسلام امرأة وهي سمية أم عمار بن ياسر ، طعنها ابو جهل بحربة في قلبها ، ليكون مقتل أبي جهل يوم بدر من مصاديق تسمية [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) وزوال الذل فيه عن المؤمنين [قال ابن هشام:
وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز [ وهو يقاتل ] ويقول:
ما تنقم الحرب العوان منى * بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عدوه أمر بأبي جهل أن يلتمس في القتلى.
وكان أول من لقى أبا جهل كما حدثنى ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس وعبد الله بن أبى بكر أيضا، قد حدثنى ذلك، قالا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بنى سلمة: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة , وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه.
فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، فو الله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها.
قال: وضربنى ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي
فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لاسحبها خلفي، فلما آذتنى وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها.
قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان.
ثم مر بأبى جهل، وهو عقير، معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته، وتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل.
فمر عبدالله بن مسعود بأبى جهل، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس في القتلى، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني: انظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش في أحدهما جحشا ( )لم يزل أثره به.
قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه.
قال: وقد كان ضبث( ) بي مرة بمكة فأذاني ولكزنى، ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال: وبماذا أخزاني [ قال ] أعمد من رجل قتلتموه.
أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال: قلت لله ولرسوله.
قال ابن إسحاق: وزعم رجال من بنى مخزوم أن ابن مسعود كان يقول: قال لي: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم.
ثم احتززت رأسه، ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدو الله.
فقال: ” آ لله الذي
لا إله غيره ؟ “.
وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقلت: نعم والله الذي لا إله غيره.
ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله] ( ).
إن إتخاذ الربيين عدم الضعف وسيلة وسبباً لعدم الإستكانة للكفار من أسباب إكرام الله لهم وإخبار آية البحث بفوزهم بثواب الدنيا العاجل المتصل وحسن ثواب الآخرة .
الوجه الثالث : كل من عدم الضعف وعدم الإستكانة عند الربيين نتيجة ومُسبب لأمر آخر بلحاظ مضامين آية البحث وغيرها مما يدل عليه الدليل والأمارة والقرينة ،ومنه وجوه :
أولاً : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما ضعفوا وما استكانوا ) أي أن قتالهم مع النبي كان سبباً لعدم ضعفهم وإستكانتهم في حال الحرب والسلم .
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين في بدايات البعثة النبوية بقانون سماوي وهو (الأشهر الحرم) حيث يمتنع العرب عن القتال ، وهو من حنيفية إبراهيم المتوارثة عندهم ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ] ( ).
[عن أبي بكرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً : منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو العقدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان] ( ).
وهل من ملازمة بين القتال في سبيل الله وبين عدم الضعف والإستكانة الجواب نعم لأنه شاهد على تحدي الكفار بالسيف وإرادة البطش بهم أو دخولهم الإسلام وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره , وهو لا يمنع من المعنى الأعم بالملازمة بين الإيمان وعدم الضعف والإستكانة .
فيصح تقدير الآية : وكأين من نبي آمن به كثير فما ضعفوا وما استكانوا .
ثانياً : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله فما ضعفوا وما إستكانوا فقد يظن الإنسان أن كثرة الإصابات والجراحات بالربيين وتعطيل مكاسبهم وطول غيابهم عن أهليهم بالمرابطة في الثغور والقتال يجعل الضعف يدب إلى نفوسهم ، فجاءت آية السياق برفع هذا الظن ونفي أصله .
ثم جاءت آية البحث لتبين أن الثواب العظيم الذي فاز به الربيون شاهد على سلامتهم من الضعف والوهن والإستكانة .
وتقدير الآية على جهات :
الأولى : فما ضعفوا وما إستكانوا قبل أوان ما أصابهم في سبيل الله .
الثانية : فما ضعفوا وما إستكانوا عندما أصابهم الأذى في سبيل الله .
الثالثة : فما ضعفوا وما استكانوا بعدما اصابتهم الجراحات والمصيبة في سبيل الله .
ثالثاً : العطف باتحاد السبب وتعدد المسُبب ، كما في حمل عدم الضعف وعدم الإستكانة على كونهما مسبباً ونتيجة لعدم الوهن .
رابعاً : العطف بتعدد وإتحاد المسبب ، كما في تقدير الآية : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا فما استكانوا ، فيكون عدم وهن وعدم ضعف الربيين مجتمعين سبباً لعدم إستكانة وخضوع الربيين للكافرين .
خامساً : العطف بتعدد السبب والمسُبب في ذات آية البحث ، فيكون قتال الربيين وعدم وهنهم لما أصابهم سبباً لسلامتهم من الضعف والإستكانة .
وفي علم الأصول قاعدة تسمى قاعدة تداخل الأسباب بأن تكون كالسبب الواحد في الفعل أو الترك .
وقاعدة تداخل المسُببات بأن يكفي الإتيان بمصداق واحد جامع لعناوين متعددة , ويكون مجزياً للإمتثال لأوامر متعددة كالغسل المتحد عن الجنابة والحيض والمندوب ، نعم الأصل هو قاعدة عدم تداخل الأسباب والمسببات لقاعدة الإشتغال ، ولعدم العلم بكفاية الفرد الواحد من الإمتثال فالأولى الإحتياط مع عدم الدليل .
ومن إعجاز القرآن إجتماع هاتين القاعدتين في الموضوع المتحد بحسب اللحاظ ولو على نحو جهتي ، وهو الذي تجلى في آية السياق وآيات كثيرة من القرآن ، ليكون هذا القانون علماً جديداً كاشفاً عن علوم مستحدثة من التأويل في ذات الآية القرآنية .
قانون مراتب التحدي بالقرآن
المعجزة هي الأمر الذي يأتي بصيغة وماهية أعظم وأكبر من السنن الراتبة والطبيعية والمجاري المتعارفة بين الناس , إنها أمر قهري يجذب الناس إلى قانون من جهات:
الأول : إن الله عز وجل إله الخلائق كلها.
الثاني : قدرة الله عز وجل على كل شئ.
الثالث : نبوة الذي تجري المعجزة على يديه.
الرابع : وجوب عبادة الناس لله عز وجل وطاعته والنبي الذي بعثه، لذا جاءت الآيات باقتران طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطاعة الله عز وجل ، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الخامس : المعجزة أمارة على الوحي من عند الله للنبي وأنه صادق في القول والفعل، وجاءت آيات الربيين الثلاثة هذه لتؤكد مبادرتهم للتصديق بانبياء أزمنتهم ، فتواليت عليهم سحب الثواب العظيم لتكون المعجزة النبوية طريقاً وسبباً لفوز الناس بالثواب في الدنيا والآخرة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وجاءت آية البحث لتبين أن الربيين من الناس والعالمين الذين تذكرهم الآية أعلاه لما فيها من الإخبار عن الثواب العظيم لهم، ومجئ الثواب المستحدث لهم باقتداء المسلمين بهم، وثنائهم عليهم وإستغفارهم لهم، وهل في ذكر المسلمين لقصص الربيين ثواب لهم، الجواب نعم، وهو أعم من تلاوتهم لهذه الآيات , فيشمل تتبع أخبارهم بالقرآن والسنة، وإقتباس الدروس والمواعظ منها.
ويتحد الربيون مع المسلمين في التصديق بمعجزات الأنبياء، ليكون المسلمون شهود حق للربيين في إيمانهم وتقواهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ]( ).
لتجتمع الشهادة مع أداء الفرائض والعبادات، وتكون صادرة في كل زمان من مقامات التقوى ورشحات العدالة التي يتصف بها المسلمون بتعاهدهم للصلاة والزكاة، والتمسك بالقرآن وعدم الإختلاف بينهم.
وكانت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أقسام :
القسم الأول : المعجزات الحسية ككفاية الطعام القليل للجمع الكثير وركوة الماء لأفراد الجيش ، والماء القليل لأهل الصفة من فقراء الذين يقيمون عند المسجد النبوي يصل عددهم إلى سبعين من الصحابة .
عن جابر بن عبد الله قال : أن أباه توفى وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشعفع إليه فكلم اليهودي ليأخذ تمر نخله بالذي له فأبى فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمشى فيها ثم قال يا جابر جد له فأوفه الذي له فجد بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا وفضلت له سبعة عشر وسقا فأخبر جابر عمر فقال لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليباركن الله فيها] ( ) .
وكان نفث ومسح ودعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة لشفاء الجراحات لعدد من أصحابه ، وفيه شواهد عديدة منها [عن يزيد بن أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضربة ؟ قال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر فقال الناس: أصيب سلمة.
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة] ( ).
عن جابر بن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” إنى لاعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث إنى لاعرفه الآن] ( ).
وفيه آية بأن سلام الحجر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته مما يدل على علم النبي بمقدمات البعثة وأنه يعلم أن الله عز وجل خصه بكرامات تكون توطئة للنبوة وعلامة للمعجزات التي ستجري على يديه .
وهل هذه المعجزات من ثواب الدنيا الذي آتاه الله للربيين بقوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] بلحاظ أنهم كانوا يبشرون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , بتقريب أن ثواب الدنيا منبسط على آناتها وأيامها وإن غادرها الربيون .
الأقرب نعم لأن دخول الناس الإسلام من الغايات الحميدة للربيين ، وأن ثوابهم هو ما ينتفعون منه بالذات أو بالواسطة في الحياة الدنيا , ومنه إستحضار المسلمين لسنتهم ومراتب الرفعة التي بلغوها كما تدل عليه آية البحث.
القسم الثاني : المعجزات العقلية وهي آيات القرآن الذي خص الله عز وجل به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أبى الله عز وجل إلا إظهار سلطانه في الأرض والسماء، قال الشاعر :
وفي كل شئ له آية تدل على أنه واحد( ).
ومن بديع قدرته سبحانه أنه إبتدأ وجود الإنسان بالنبوة، فكان آدم عليه السلام نبياً، وأخذ الأنبياء يتعاقبون على الأرض ومع كل نبي مؤمنون وأنصار، والذين قاتلوا معهم نالوا مرتبة التشريف من جهات:
الأولى : تسميتهم الربيون، ونسبتهم إلى الله عز وجل.
الثانية : ذكر سنة الربيين من الإستغفار والدعاء إلى الله عز وجل .
الثالثة : بيان ولاية الله عز وجل للربيين في الدنيا والآخرة.
الرابعة : ذكر مصداق هذه الولاية بالثواب العظيم في الدنيا والآخرة.
الخامسة : الشهادة من عند الله للربيين بأنهم محسنون.
السادسة : الذكر الخالد للربيين بمعجزة القرآن الباقية إلى يوم القيامة.
وشاء الله أن تنقطع النبوة وتختتم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتفضل وجعل آية هذا الإنقطاع معجزة عقلية وهو القرآن.
القسم الثالث : المعجزة العقلية الحسية: وهو الفرد الجامع للمعجزة العقلية والحسية، وتتجلى بأمور:
الأول : أسباب نزول آيات القرآن، فمن الآيات ما كان لها سبب حاضر للنزول سابق أو مصاحب أو متأخر عنها.
الثاني : المصداق العملي لآيات القرآن الذي يدل بادراك الحواس على صدق نزوله من عند الله، قال تعالى[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
الثالث : الشواهد التأريخية المتجددة في كل زمان التي تؤكد صدق نزول القرآن من عند الله.
الرابع : بيان النبي صلى لله عليه وآله وسلم لآيات القرآن.
ويتجلى التحدي في معجزة القرآن ، من جهات :
الأولى : كل شطر من الآية القرآنية إعجاز قائم بذاته يتحدى أرباب الفصاحة والبلاغة من العرب.
الثانية : كل آية قرآنية إعجاز وبرهان بأنها نازلة من عند الله.
الثالثة : كل آيتين متجاورتين من القرآن معجزة مستقلة.
الرابعة : كل آيتين من آيات القرآن سواء من السورة الواحدة أو من سور متعددة معجزة وشاهد على نزولهما مجتمعتين ومتفرقتين من عند الله بلحاظ المعاني والدلالات المستنبطة من هذا الجمع.
الخامسة : كل آيات سورة من القرآن معجزة في ذاتها ومضامينها القدسية.
السادسة : أسباب نزول آيات القرآن ، والدروس المستقرأة منها وموضوعيتها في التدبر بمضامينها، ومنع إختلاف الأجيال اللاحقة في تفسيرها وتأويلها.
السابعة : أسرار ترتيب آيات وسور القرآن، وفي ترتيب سوره وجوه:
الأول : هذا الترتيب الذي عليه مصاحف المسلمين تم بفعل وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومدارسة جبرئيل له كل سنة القرآن، وإذا أنزلت عليه آية أو عدد من الآيات أو سورة كاملة فاما أن تكون تابعة ومتعقبة لما قبلها، أومجاورة لها , وأما أن تكون غير ملحقة بها فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ضعوا هذه الآية أو الآيات في سورة كذا وبين هذه الآية وتلك (وعن مسروق عن عائشة عن فاطمة عليها السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن جبريل كان يعارضنى القرآن كل سنة مرة، وقد عارضنى في هذا العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا لاقتراب أجلى( ).
وفي ترتيب سور القرآن كما هي عليه الآن في المصاحف وجوه:
الأول : تم ترتيب السور بوحي من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إنه من إجتهاد الصحابة.
الثالث : الترتيب توقيفي بالوحي باستثناء سورة التوبة والأنفال, والصحيح هو الأول وهو المشهور، والأدلة التي ذكرها القائلون بأنه إجتهاد الصحابة ضعيفة.
الثامنة : الإعجاز في مجموع ما بين الدفتين، من جهة اللغة والبلاغة والمضمون والغايات والمقاصد السامية، والأثر العظيم وأسرار التلاوة إلى جانب مدارس الإعجاز من وجوه:
الأول : الإعجاز في لغة الخطاب التشريفي للمسلمين، وملائمة أحكام القرآن إلى الأزمنة والبلدان المتباينة , ومنه آيات المواريث، ففي كل زمان يخاطب القرآن المسلمين[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( )، وهو من الثواب الدنيوي الذي ناله الربيون بنزول أحكام الشريعة النازلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضل الله عز وجل وجعل سنته القولية والفعلية المصدر الثاني للتشريع لأنها لا تصدر إلا عن الوحي من عند الله تعالى.
الثاني : الإعجاز العلمي والآيات الكونية , وفي التنزيل إشارة إلى علوم الفضاء الحديثة[وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ]( ).
الثالث : الإعجاز التأريخي : الذي يتضمن توثيق قصص الأمم السالفة، وتعاقب الممالك وعاقبة الظالمين , قال تعالى[قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
الرابع : الإعجاز البلاغي : وتجلي إرتقائه عن لغة العرب في الشعر والنثر.
الخامس : ملائمة آيات القرآن لكل زمان ومكان، وصدور الناس عن مدارسه وأحكامه.
ورد التحدي في القرآن على وجوه متعددة , وهو من مصاديق تقسيم القرآن إلى سور وآيات، وجاء التحدي على جهات في موضوعاته, ومطلقاً للإنس والجن , قال تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ).
ويحتمل وجوهاً :
الأول :إرادة الإنس والجن في كل زمان على نحو الحصر والتعيين .
الثاني : المقصود إجتماع الإنس والجن من الأزمنة المختلفة .
الثالث : إرادة الإنس في الأزمنة المختلفة وإلى يوم القيامة ، أما الجن فافراد مخصوصون منهم ممن يؤذن له بالصلة مع البشر .
والصحيح هو الثاني لأصالة الإطلاق ويتجلى هذا المعنى بأن تجتهد كل طبقة وجيل من الإنس والجن بمحاكاة القرآن ويتركون ما وضعوه وإفتروه تركة لمن بعدهم ليقوم بالإضافة عليه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ] ( ).
وقدمت الآية أعلاه الإنس على الجن مع أن الجن خلقهم الله قبل الإنس ليفيد هذا التقديم ان التحدي موجه للإنس ، وأن القوم الكافرين هم الذين يؤذون النبي والمؤمنين بمغالطتهم وشكهم .
عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري – أخا بني أسد – والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيهاً ومنبهاً ابني الحجاج السهميين ، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه : أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك .
فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بدء ، وكان عليهم حريصاً يجب رشدهم ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس إليهم فقالوا : « يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنعذرك ، وإنا والله . . . ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة ، فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك .
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً؛ وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا؛ وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك – وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي – فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون . . . ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا فيئكم ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليَّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم . . . . فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة؛ وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم . فقالوا : يا محمد ، فإن كنت غير قابل منّا ما عرضنا عليك ، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلاداً ولا أقل مالاً ولا أشد عيشاً منا ، فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من قد مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك ، صدقناك وعرفنا به منزلتك من عند الله ، وإنه بعثك رسولاً] ( ).
الثاني : الإحتجاج بعدد محدود من سور القرآن ، قال تعالى [فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ] ( )وفي نعت مفتريات إعجاز قرآني من جهات :
الأولى : ما يأتيه أهل الريب من السور لابد وان يكون إفتراؤها أمراً جلياً للناس.
الثانية : من سور القرآن ما هي قصيرة مثل سورة الكوثر التي تتكون من ثلاث آيات وعدد كلماتها عشرة.
الثالثة : الإستدلال بالأولوية القطعية بأن الإفتراء بأكثر من عشر آيات سالبة بإنتفاء الموضوع ، وباطل وكذب صريح ، وخزي لأصحابه ، فليس من قرآن حقاً وصدقاً إلا الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة :بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو ليس من قرآن في تأريخ الإنسانية إلا هذا الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : التحدي بسورة واحدة من القرآن كثيرة كانت آياتها أو قليلة وتوجه هذا التحدي لخصوص العرب العاربة أهل البلاغة والفصاحة بقوله تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ] ( ).
والضمير الهاء في مثله راجع للقرآن ، وقيل أنه راجع (إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) [ومعناه : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} أي من رجل أُمّي لا يُحسن الخط والكتابة] ( ).
ولكن المعنى لا يستقيم فالمراد القرآن ولنظم الآية التي تتحدث عن التنزيل ، إذ سمت الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ( عبدنا ) ولو كان التحدي بخصوصه لورد بدل (عبدنا) ( رسولنا ) ولنظم موضوع هذا التحدي والجامع بينها وهو آيات وسور القرآن .
الرابع : التحدي بالقرآن بصيغة الحديث بقوله تعالى[أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ]( ).
والمتقول هو إبتداع وإختلاق القول ونسبته للغير، ويرد أحياناً في الكذب في القول أو الفعل ليكون من إعجاز القرآن الجمع في الآيتين أعلاه بين مسائل:
الأولى : الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومرتبته عند الله عز وجل.
الثانية : تفضل الله عز جل بالدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( )، لبيان تفضل الله بالدفاع عن الأنبياء من باب الأولوية القطعية.
الثالثة : توثيق أقوال وإفتراء المشركين، ولأنه تعد وظلم من وجوه:
الأول : إنه ظلم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : فيه ظلم للأنبياء السابقين الذي بشروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : ظلم الربيين الذين تذكرهم هذه الآية، يكون من مصاديق [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] الآية أعلاه وفضح المشركين في بهتانهم.
الرابع : ظلم المشركين لأنفسهم لرفعهم لواء الباطل وإصرارهم على الجحود، وعن ابن عباس قال: إن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قول بعضكم بعضا.
فقيل: يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقوم به فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع فقالوا: نقول كاهن.
فقال: ما هو بكاهن: رأيت الكهان، فما هو بزمزمة الكهان.
فقالوا: نقول مجنون.
فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
فقالوا: نقول شاعر.
فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول هو ساحر.
قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجني ، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لان تقولوا: هذا ساحر، فتقولوا هو ساحر يفرق بين المرء ودينه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته.
فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره.
وأنزل الله في الوليد” ذرنى ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا( ).
الخامس : صد المشركين الناس عن الإسلام بالتقول على القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتأتي ذنوب وآثام إضافية للمشركين.
السادس : ظلم المشركين للمسلمين ومحاولة بعث الشك في نفوسهم، خاصة وأن إفتراءهم لم يكن مجرداً بذاته بل مقترناً بتعذيب المسلمين الأوائل في مكة، وبالهجوم بالجيوش عليهم في المدينة المنورة.
الرابعة : بيان الأذى الذي كان يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكفار.
الخامسة : علو مرتبة المسلمين الذين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إفتراء وأذى الكفار له ولهم .
السادسة : بيان حقيقة وهي أن كلام الله أسمى وأقدس حديث، وليس مثله حديث في مضمونه ومعانيه ودلالاته , قال تعالى[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ]( ) وقرأ الجحدري وأبو السمّال : { بحديث مثله } ، على الإضافة : أي بحديث رجل مثل الرسول في كونه أمياً لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده ، أو مثله في كونه واحداً منهم( ).
والصحيح هو أن المراد بالهاء هو القرآن لأن مقام التحدي بالقرآن، وكنوزه الجلية.
بحث نحوي
تبدأ آية البحث بالوعد الكريم الحاضر على نحو دفعي ، إذ إبتدأت بحرف الفاء وهي على وجوه :
الأول : إفادة الترتيب والتعقيب كما في قوله تعالى [وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا] ( ).
الثاني : إنعدام المدة أو الفترة بين جهاد ودعاء الربيين وبين مجئ الثواب لهم , وتبين الفاء في [فَانفَجَرَتْ] في الآية أعلاه أنه ليس من فترة أو مدة بين ضرب موسى عليه السلام الحجر وبين إنفجار عيون الماء بسبب ضرب الحجر لحاجة بني إسرائيل إلى الماء والزاد حينئذ.
وفي الآية أعلاه إضمار وإختصار بياني ، وتقدير الآية : ضرب فانفجرت )، أي إنشق الحجر , وسال الماء من بين ثناياها وجوفها ، (وعن الأمام جعفر الصادق عليه السلام قال :وكانوا إذا أمسوا نادى مناديهم: أمسيتم الرحيل، فيرتحلون بالحداء والرجز حتى إذا أسحروا أمر الله الارض فدارت بهم فيصبحون في منزلهم الذي ارتحلوا منه، فيقولون: قد أخطأتم الطريق، فمكثوا بهذا أربعين سنة، ونزل عليهم المن والسلوى حتى هلكوا جميعا إلا رجلين: يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وأبناءهم، وكانوا يتيهون في نحو من أربعة فراسخ فإذا أرادوا أن يرتحلوا ثبت ثيابهم عليهم وخفافهم، قال: وكان معهم حجر إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين، فإذا ارتحلوا رجع الماء فدخل في الحجر ووضع الحجر على الدابة( ).
الثالث : تفيد [ الفاء ] في آية البحث مجئ الثواب للربيين من غير مهلة أو تراخ بعد جهادهم وصبرهم ودعائهم وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) ليكون من مصاديق إستجابة الدعاء في الآية أعلاه سرعة الإستجابة ، وحضور الفضل الإلهي وإنعدام الحاجز والفترة بين العمل العبادي وبين الإستجابة ، ومن خصائص الربيين العصمة من أضرار وساوس الشيطان ، وسلامتهم من الخوف من الضائقة والعسر لأن الثواب مانع دونهما .
وأيهما أفضل إنفجار الماء من الحجر لبني إسرائيل حينما إستسقى لهم موسى عليه السلام أم ثواب الدنيا الذي آتاه الله الربيين .
الجواب كل واحد منهما معجزة وفضل عظيم وآية في العالمين ، وإذا كان لابد من التمايز بينهما فان ثواب الدنيا هو الأكبر والأعظم ، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق إذ أن إنفجار عيون الماء من الحجر بعصا موسى من مصاديق قوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا].
ليكون من إعجاز آية البحث الأفراد غير المتناهية من الثواب التي جاءت في القرآن والسنة ، وبالإمكان تأليف مجلدات بقوله[فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] وموسوعات خاصة من جهات :
الأولى : كل واقعة وآية منها معجزة وبيان لفضل الله .
الثاني : تأليف مجلدات خاصة بما يتفضل به الله على المؤمنين من [حُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ].
الثالثة : العنوان الجامع ومصاديق إجتماع ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
الرابعة : تفيد الفاء في [فَآتَاهُمْ]السببية ، وهي التي يكون ما بعدها مُسبباً عما قبلها ، وينصب الفعل المضارع بعدها إذا كان مسبوقاً بنفي أو طلب كما في قوله تعالى [لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا] ( )فلم تقل الآية أعلاه (فيموتون) بل حذف حرف النون لنصب الفعل المضارع بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة ونصب الفعل المضارع بفاء السببية لتقدير إضمار [إن] وجوباً وتقدير الآية أعلاه (فان يموتوا).
الخامس : إفادة حرف (الفاء ) الإستئناف ، كما تقدم في باب الإعراب وأنها للعطف والإستئناف .
وقيل إن فاء الإستئناف هي التي لا يصح عطف ما بعدها على ما قبلها لإختلاف المعنى ، ولا دليل على إطلاق هذا القول وما يتضمنه من النفي ، فالقدر المتيقن من الإستئناف هو إبتداء جملة جديدة متصلة بالجملة السابقة على نحو التفسير أو التعليل أو السببية ولكنها ليست بذات تداخل المعنى والإتحاد الموضوعي بفاء العطف ، والقرآن حمال أوجه والآية فيه ذات معان متعددة لذا فان معنى الحرف القرآني أعم من حصر الصناعة النحوية له بالعطف أو الإستئناف .
ويمكن تقسيم الفاء تقسيماً إستقرائياً جديداً :
الأول : الفاء حرف عطف.
الثاني : الفاء حرف إستئناف.
الثالثة: الفاء حرف عطف وإستئناف .
لبيان قاعدة وهي ان ما نذهب إليه بالجمع بين العطف والإستئناف في فاء [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا]لا يعني أن كل فاء ترد في القرآن واللغة هي للعطف والإستئناف بل هي بحسب اللحاظ فقد تكون للعطف وحده أو للإستئناف وحده .
قانون عالم البرزخ
البرزخ هو الحاجز والفاصل وما يكون بين شيئين، قال تعالى [بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ]( )، أي حاجز بفضل الله وسلطانه، وعالم البرزخ هو وجود الإنسان في القبر من حين دخوله إلى أوان بعثته، سمي به لأنه ما بين الدنيا والآخرة، مما يدل على أن وجود الإنسان فيه من الكلي المشكك من حيث مدته إذ أن أوان موت أجيال الناس متباين بلحاظ تعاقبهم في أيام الحياة الدنيا، أما زمان البعث وإنقطاع حياة القبر بالنشور فهو من الكلي المتواطئ الذي يكون في ساعة واحدة ، قال تعالى[وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ]( )، والأجداث القبور.
ويطلق على عالم البرزخ عالم المثال ، وقال الجرجاني : البرزخ هو العالم المشهور بين عالم المعاني المجردة، والأجسام المادية، والعبادات تتجسد بما يناسبها إذا وصل إليه، وهو الخيال المنفصل، وهو الحائل بين الشيئين، ويعبر به عن عالم المثال، أعني الحاجز من الأجسام الكثيفة وعالم الأرواح المجردة، أعني الدنيا والآخرة( ).
ولا دليل على أن عالم الآخرة هو عالم الأرواح المجردة إنما يبعث الناس بأجسادهم وأرواحهم بدليل مضامين آيات القرآن ، قال تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
وأخبرت السنة النبوية عن حسن منزلة المجاهدين ومنهم الربيون وسلامتهم من الغم والحزن في عالم البرزخ، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الشهداء ثلاثة : رجل خرج بنفسه وماله محتسباً في سبيل الله يريد أن لا يقتل ولا يقتل ولا يقاتل ، يكثر سواد المؤمنين ، فإن مات وقتل غفرت له ذنوبه كلها ، وأجير من عذاب القبر ، وأومن من الفزع الأكبر ، وزوّج من الحور العين ، وحلت عليه حلة الكرامة ، ووضع على رأسه تاج الوقار والخلد .
والثاني رجل خرج بنفسه وماله محتسباً يريد أن يقتل ولا يقتل ، فإن مات أو قتل كانت ركبته مع ركبة إبراهيم خليل الرحمن بين يدي الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
والثالث رجل خرج بنفسه وماله محتسباً يريد أن يقتل ويقتل ، فإن مات أو قتل جاء يوم القيامة شاهراً سيفه واضعه على عاتقه والناس جاثون على الركب يقول : ألا أفسحوا لنا ، مرتين . فإنا قد بذلنا دماءنا وأموالنا لله .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لو قال ذلك لإبراهيم خليل الرحمن ، أو لنبي من الأنبياء لتنحى لهم عن الطريق لما يرى من واجب حقهم ، حتى يأتوا منابر من نور عن يمين العرش ، فيجلسون فينظرون كيف يقضى بين الناس ، لا يجدون غم الموت ، ولا يغتمون في البرزخ ، ولا تفزعهم الصيحة ، ولا يهمهم الحساب ، ولا الميزان ولا الصراط ، ينظرون كيف يقضي بين الناس ، ولا يسألون شيئاً إلا أعطوا ، ولا يشفعون في شيء إلا شفعوا ، ويعطون من الجنة ما أحبوا ، وينزلون من الجنة حيث أحبوا( ).
وفي قوله تعالى [وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( )، ورد عن مجاهد في معنى البرزخ في الآية أعلاه قال: حاجز بين الميت والرجوع إلى الدنيا ( ).
وعن قتادة قال: البرزخ : بقية الدنيا.
وعن الربيع قال: البرزخ : القبور .
وفي قوله تعالى[ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ] قال الحسن وقتادة والضحاك : الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والأجل الثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو البرزخ.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : ثم قضى أجلاً يعني أجل الدنيا وأجل مسمىً عنده وهو الآخرة.
وعن ابن عباس : ثم قضى أجلاً هو النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة. {أجل مسمى عنده} هو أجل موت الإنسان. ثم قضى أجلاً يعني جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها لا تجاوزونها( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: إن الارواح في صفة الاجساد في شجرة في الجنة تعارف وتسائل، فإذا قدمت الروح على الارواح تقول: دعوها فإنها قد أفلتت من هول عظيم، ثم يسألونها: ما فعل فلان ؟ وما فعل فلان ؟ فإن قالت لهم، تركته حيا ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك قالوا: قد هوى هوى ( ).
ويحتمل حال الإنسان عند موته وجوهاً:
الأول : صيرورته جماداً معدوماً إلى حين البعث ، وعودة الروح في الأجساد.
الثاني : إعادة الحياة للإنسان في عالم البرزخ، وهذه العودة على وجوه:
اولاً : عودة الروح برهة من الوقت لغرض الحساب الإبتدائي من قبل الملكين منكر ونكير.
ثانياً : عودة الحياة للإنسان في القبر على نحو دائم إلى حين البعث.
ثالثاً : عودة الحياة للإنسان حين ذكر أهله له بفعل الصالحات، وإهداء تلاوة القرآن والطاعات بالنيابة عنه والإستغفار له.
ولا تعارض بين هذه الوجوه للتباين في أفعال الناس في الدنيا، وذكر ذراريهم لهم.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم :القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران( ).
ويحتمل قوله تعالى[حُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] وجوهاً :
الأول : شمول الثواب لحال الربيين في عالم البرزخ.
الثاني : المراد من قوله تعالى[حُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] الجزاء يوم القيامة.
الثالث : كما أن البرزخ حاجز ووسط بين الدنيا والآخرة، فان موضوع الثواب فيه مستقرأ من ذات آية البحث وذكرها للثواب في الدنيا والآخرة.
والمختار هو الأول، بلحاظ أن الآخرة على وجوه متعاقبة :
الأول : عالم البرزخ.
الثاني : عالم البعث والنشور.
الثالث : عالم النشر.
الرابع : مواطن الحساب والحوض والصراط.
الخامس : اللبث الدائم في الجنة للمؤمنين، وإقامة الكفار في نار الجحيم .
وتجمع آية البحث بين الإخبار والوعد الكريم وتبعث على الأمن من عذاب القبر وتطرد وحشته وأهواله.
والبرزخ الحاجز بين مسافتين، والفاصل بين نقطتين، ومن أسرار تسمية عالم القبر بأنه عالم البرزخ أن الماكثين فيه ليسوا من أهل الدنيا وما فيها من الإختيار والإمتحان ونعمة الأكل والشرب واللبس، وليسوا من أهل الآخرة التي هي دار الجزاء الدائم، لكنه لايمنع من مجئ الثواب الإبتدائي للمؤمنين في عالم البرزخ، لذا ذكرته الآية لفظ الثواب وليس الجزاء ونعته بالحسن(حسن ثواب الآخرة) ليكون من حسنه صفة العموم وتغشيه للربيين وهم في الدنيا وعند مغادرتهم لها ودخول عالم البرزخ قهراً وطوعاً وفي يوم القيامة والجزاء .
عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده من الغداة والعشي . إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار . يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة . زاد ابن مردويه { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً }( )( ).
بحث بلاغي
من ضروب البديع (الإلتفات ) وهو لغة الإنصراف عن الشىء يقال لفتّ فلاناً عن رأيه أي صرفته عنه ، والفلتة الأمر الذي يحصل من غير تدبر وروية.
وكان العرب يسمون آخر يوم من الشهر الذي يأتي بعده الشهر الحرام الفلتة [كآخِر يوم من جُمادَى الآخِرة وذلك أنَّ الرجلَ يَرَى فيه ثأره، فرُبَّما تَوانَى فيه، فإذا كان الغدُ، دَخَلَ الشهر الحَرامُ ففاتَه، فيُسَمَّى ذلك اليوم فَلتةً] ( )أي فات على ولي المجني عليه أخذ ثأره حتى دخل الشهر الحرام .
والإلتفات في الإصطلاح مخاطبة الحاضر ثم التوجه فيه إلى الغائب ، أو تخاطب الغائب وتتحول إلى الحاضر والملاك فيه تغيير جهة الخطاب وإن كان متوجهاً نحو الفرد أو الجماعة أو إنصراف في المعنى ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ]( )، وللإلتفات منافع منها جذب الأذهان والإنصات والزيادة في البيان ، وطرد الملل عن الأسماع ، ومن خصائص الإلتفات في القرآن أنه في أغلبه قوانين كلية .
فبعد أن بينت آية البحث فضل الله عز وجل على أصحاب الأنبياء الذين ساروا تحت ألويتهم ، وحملوا رايات التوحيد من بعدهم بإيمان وصبر .
لقد جاءت الآية لإصلاح المسلمين للجهاد في سبيل الله تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرت عن حال الربيين ليكون هذا الإخبار موعظة ومناسبة لإقتباس الدروس والإجتهاد في طاعة الله لذا إنتقلت الآية إلى قانون عام وهو أن الله عز وجل يحب المحسنين ، لترغيب المسلمين بالثبات في منازل الإيمان والمسارعة في الخيرات وجذب الناس إلى الهدى [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) والبعث على الإنفاق في سبيل الله .
فصحيح أن مضمون الآية يخص الربيين إلا أن خاتمتها تشملهم والمؤمنين في الأزمنة السابقة واللاحقة ، قال تعالى [أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى] ( ).
وقال أبو الطيب المتنبي:
وتُسْعِدني في غَمْرةٍ بعدَ غَمْرةٍ … سَبُوحٌ لها مِنْها عليها شَواهِدُ( ).
والسبوح الفرس الحسن الجري، يقال فرس سابح وسبوح، وخيل سوابح كأنها تسبح بيديها في عدوها، والمعنى أن الفرس السبوح تساعدني في خوض غمار الحروب، ويدل على نفعها صفات ذاتية لها ، فأكثر من التكرار غير الممل، مع أن الأصل هو تعدد حروف الجر في الكلام أمر يقدح ببلاغته لبيان قانون وهو إتصاف بلاغة القرآن بالإعجاز في اللفظ ودلالته وأثره , ومنه المسائل البلاغية والكلامية التي تستقرأ لقوله تعالى[رِبِّيُّونَ] .
وجاء التكرار في آية البحث بمعاني بلاغية، وعقائدية وتشمل الحياة الدنيا والآخرة فيسبح معها المؤمن في رحاب الملكوت.
قوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]
أختتمت الآية بقانون كلي عام من وجوه :
الأول : أيام الحياة الدنيا .
الثانية : عالم البرزخ .
الثالث : عالم الآخرة .
ومن مصاديق حب الله للمحسنين حسن جزائهم ، ويأتي من جهات :
الأولى : الجزاء لذات المحسن .
الثانية : الجزاء للمحسنين مجتمعين .
الثالثة : الجزاء لذراري المحسنين .
الرابعة : الجزاء للمحسن بما يجعله يزيد من إحسانه .
ومن خصائص خاتمة آية البحث بيان قانون وهو أن الثواب الذي جاء للربيين إنما هو من فيوضات ومصاديق حب الله لهم لإتصافهم بالإحسان لأنفسهم وغيرهم، فيكون في الآية تقديم وتأخير , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : والله يحب المحسنين فآتى الربيين ثواب الدنيا .
الثاني : والله يحب المحسنين فآتى الربيين حسن ثواب الآخرة .
الثالث : والله يحب المحسنين فاحب الربيين ،وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الله يحب المحسنين .
الصغرى : الربيون محسنون .
النتيجة :الله يحب الربيين .
والفوز بمحبة الله مرتبة تتوق لها نفس كل مؤمن فيبذل الوسع والإخلاص في طاعة الله، وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى[قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ] ( )، قال: على البر، والتقوى، والتواضع، وذلة النفس( ).
وتحتمل الصلة بين أطراف الآية وجوهاً:
الأول : ثواب الدنيا هو معنى ومضمون حب الله للمحسنين.
الثاني : يتجلى حب الله للمحسنين بحسن ثواب الآخرة.
الثالث : حب الله للمحسنين أمر مستقل، وموضوع قائم بذاته.
الرابع : حب الله للمحسنين سبب للثواب الدنيوي والأخروي، المذكور في آية البحث.
الخامس : ترشح حب الله للمحسنين لصلاحهم وتقواهم.
السادس : حب الله للمحسنين مادة وسبيل لزيادة الثواب الدنيوي والأخروي الذي تذكره آية البحث.
السابع : حب الله للمحسنين علة لزيادة خصوص الثواب الدنيوي، لأن الآخرة عالم الجزاء على الأعمال في الدنيا، نعم تكون هذه الزيادة سبباً لنيل حسن الثواب في الآخرة.
الثامن : حب الله للمحسنين علة لزيادة ثوابهم في الآخرة حسناً وكماً وكيفاً.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق آية البحث والشواهد على أن حب الله للعبد خزائن من الأجر والثواب والحفظ والهداية والتوفيق , وهو من مصاديق الأمن يوم القيامة، وفيه دعوة لعامة المسلمين والمسلمات للسعي الحثيث لنيل مرتبة حب الله عز وجل.
وعن ابن عمر مرفوعاً: ان لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منه ، فجثا أعرابي على ركبيته فقال : يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا . قال : قوم من إفناء الناس من نزاع القبائل تصادقوا في الله وتحابوا في الله ، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم ، يخاف الناس ولا يخافون ، هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون( ).
قانون حب المحسنين
أختتمت آية البحث بقانون[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] وهو وعد كريم لما تترشح عنه من النعم، ولا تختص هذه النعم بالربيين أو عموم المحسنين بل تشمل الناس جميعاً , وتقدير الآية : والله يحب المحسنين فيرحمهم والناس جميعاً، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، حينما قالوا إن الإنسان يفسد في الأرض[وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
ومن الإحتجاج بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : الربيون ليسوا ممن يفسد في الأرض.
الثاني : تنزه الربيين عن سفك الدماء بغير حق.
الثالث : محاربة الربيين للذين يحملون لواء الكفر ويفسدون في الأرض وإذ سأل الملائكة مستفهمين عن إقتران الخلافة في الأرض بالفساد وسفك الدماء، فان الربيين حملوا أرواحهم على أكفهم لمنع الفساد وأن الله عز وجل يأذن للملائكة بالنصرة عند إشراقة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأرض لقهر وإذلال الكفار.
وعن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله، قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله تعالى( ).
الرابع : من مصاديق الإحتجاج الإلهي على الملائكة في المقام وجود محسنين من الناس، فيكون تقدير قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، على وجوه :
اولاً : إني اعلم وجود محسنين من ذرية آدم.
ثانياً : قيام المحسنين بالجهاد في سبيل الله، وصيرورة الشرك و[كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى]( ).
ثالثاً : من علم الله عز وجل أنه يبعث أنبياء ينصرهم ويقاتل معهم الربيون.
رابعاً : إني أعلم أن الغلبة والنصر يكونان للذين يتنزهون عن الفساد والقتل، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
خامساً : إني اعلم بوجود أمة عظيمة من المجاهدين يقاتلون مع الأنبياء، وعلى نهجهم حتى بعد إنقضاء أيامهم، وهو المستقرأ من قوله تعالى[قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ).
سادساً : إني أعلم بسلامة أصحاب الأنبياء من الوهن مع كثرة الجراحات والخسائر التي تلحق بهم في سبيل الله.
سابعاً : إني أعلم بتنزه الربيين من الضعف والذل للكفار، وهذا التنزه من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ثامناً : إني أعلم حبي للصابرين ، وفيه مدد لهم وعون للعصمة من درن الفساد، وسفك الدماء، فاذا كان الكفار يعيثون في الأرض فساداً ويقتلون بغير حق، والمؤمنون مقيمون على العبادة والطاعة لله عز وجل فان هذه الصبر من مصاديق إستدامة الخلافة وإستحقاق الإنسان لها لتقومها بالتقوى، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
تاسعاً : إن الله عز وجل يعلم بأن قول الربيين مثل قول الملائكة في التسبيح والتحميد والثناء على الله عز وجل , كما في قوله تعالى[وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]( )، ولأنه تعالى يعلم أن الذي يستغفر من ذنوبه كالذي لا ذنب له.
عاشراً : إن الله عز وجل يعلم بأن المؤمنين يدركون بأن تثبيت أقدامهم في ملاقاة الأعداء بفضل من عنده تعالى، وفيه دلالة على تسليمهم بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله سبحانه، قال تعالى[وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
الحادي عشر : إن الله يعلم بدحر الكفر، وهزيمة المشركين، لقاعدة وفق القياس الإقتراني وهي:
الكبرى : الذين يسألون الله يستجيب لهم.
الصغرى : الربيون يسألون الله النصر على الكافرين.
النتيجة : يستجيب الله للربيين بالنصر على الكافرين.
لقد قال الله تعالى[وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ]( )، لتكون الزيادة أعم من النصر والغلبة وتشمل الزيادة في نعم الدنيا وثواب الآخرة.
الثاني عشر : إن الله عز وجل يعلم بالثواب الذي أعده للربيين والمؤمنين عموماً في الدنيا والآخرة والذي تبينه آية البحث، إذ أن قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عام يشمل أجيال الناس في الأرض وإلى يوم القيامة، فهو سبحانه الذي يتعاهد الإيمان وأهله بالمدد والعون والحب والإفاضات.
الخامس : من وجوه إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بلحاظ آية البحث أن الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء.
السادس : إن الله عز وجل يعاقب الذين يفسدون في الأرض بأيدي المؤمنين من جنس الناس وذرية الخليفة، فلا يأمر الله عز وجل خلقاً آخر بمحاربة الكفار بل يقوم الربيون والمؤمنون جميعاً بالإجهاز على الكفر والكافرين.
فان قلت قد نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم بدر بقوله تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
والجواب من وجوه :
الأول : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فاذا كان الملائكة يحتجون على إشاعة الإنسان الفساد في الأرض، فان الله سبحانه يأذن للملائكة للنزول مدداً وعوناً لإقامة شعائر الله، وتنزيه الناس من الفساد.
الثاني : جاء نزول الملائكة من جهات:
الأولى : إستغاثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لنصرتهم.
الثانية : إستجابة الله عز وجل لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ( وعن ابن عباس قال: اقبلت عير أهل مكة تريد الشام فبلغ اهل المدينة ذلك فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون العير فبلغ ذلك اهل مكة فأسرعوا السير إليها لكيلا يغلب عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين .
وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم وأيسر شوكة وأحضر مغنما فلما سبقت العير وفاتت سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم فكره القوم مسيرهم لشوكة القوم .
فنزل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون وبينهم وبين الماء رملة دحضة فأصاب المسلمين ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوسهم تزعمون انكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم كذا .
فأمطر الله عليهم مطرا شديدا فشرب المسلمون وتطهروا فأذهب الله عنهم رجز الشيطان وأصاب الأرض المطر و مشى الناس عليه والدواب فسار إلى القوم وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة وكان جبرئيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبة وجاء إبليس في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجال بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان للمشركين[لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ] ( ).
فلما اختلط القوم قال أبو جهل اللهم أولانا بالحق فانصره.
ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا فقال له جبرئيل خذ قبضة من التراب فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين ( ).
الثالثة : إمتثال الملائكة لأمر الله عز وجل بالنزول لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تذكير للملائكة بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، من جهات :
الأولى : إخبار الملائكة بأن من أسباب إصلاح الإنسان للخلافة نزولهم لنصرة الأنبياء والمؤمنين.
الثانية : تتقوم خلافة الإنسان في الأرض بالتقوى والصلاح، ونزول الملائكة لنصرة الخليفة وإستدامة عبادة الناس لله عز وجل.
الثالثة : ليس من بينونة بين أهل الأرض وأهل السماء، وخلافة الإنسان في الأرض مقيدة، فالمشيئة بيد الله عز وجل، وقد يهبط الملائكة لنصرة دين الله وتنزيه الأرض من الفساد وأصله وهو الكفر والضلالة.
الثالث : إخبار آية البحث عن حب الله للمحسنين، ومن خصائص هذا الحب إعانتهم في مسالك التقوى، وهدايتهم إلى الرشاد، وحجب المعصية عنهم، وصد الكفار عن الإضرار بهم، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الرابع : في آية الخليفة إضمار على وجوه منها:
الأول : إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة فانصروه.
الثاني : إني جاعل في الأرض خليفة يحارب الفساد ويمنع شيوع القتل.
الثالث : إني جاعل في الأرض خليفة ليتعاهد الناس ذكري وعبادتي فيها، ( وعن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس، ومثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود .
فقال: من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر؟ فعملت النصارى، ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب بقيراطين قيراطين، قالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاءً قال: هل ظلمتكم من حقكم؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من شئت( ).
الرابع : إني جاعل في الأرض خليفة لتكون أمة كبيرة من الربيين.
الخامس : إني جاعل في الأرض خليفة ليقيم المؤمنون في جنات النعيم , قال تعالى[لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
ولما إحتجت الملائكة على إقامة الإنسان خليفة في الأرض مع حال الفساد والقتل التي تشيع في الأرض مصاحبة لهذه الخلافة تفضل الله عز وجل على الملائكة بالرد بالبرهان القاطع وهو [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )لبيان أن الغايات من خلافة الإنسان في الأرض عمارتها بعبادته سبحانه ، وأن الذين يؤمنون بالله والنبوة يسكنهم الله عز وجل الجنة على نحو مؤبد ودائم لأنهم قهروا إغواء الشيطان وحاربوا الكفر والضلالة وحبسوا نفوسهم عن الشهوات .
السادس : اني جاعل في الأرض خليفة إلى حين ، كل أمة لها زمان وتغادر من غير رجعة إلى الدنيا ، قال تعالى [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ) فتلطف الله عز وجل بالناس وجعل في كل زمان أمة من الربيين تهدي للحق وتتحلى بالإيمان , وتنزين الأرض بسنن التقوى وأداء الفرائض ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل البيت الحرام موضعاً لإظهار الناس إخلاص العبادة له وحده ، فينادي وفد الحاج مجتمعين ومتفرقين [لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك].
فمن معاني قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )في إحتجاج الله على الملائكة أنه سبحانه ملأ الأرض بالآيات الكونية التي تجذب الإنسان إلى الإيمان ، وتجعل نفسه تنفر من الفساد ومن القتل بغير حق ، ليرى الملائكة وهم في السماء إرتقاء الإنسان في منازل الحكمة واليقين بتنزه عن الدنيا وزينتها.
وعن أبي مسلم الخولاني( ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن لقمان كان عبداً كثير التفكر ، حسن الظن ، كثير الصمت ، أحب الله فأحبه الله تعالى ، فمن عليه بالحكمة ، نودي بالخلافة قبل داود عليه السلام ، فقيل له : يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة تحكم بين الناس بالحق.
قال لقمان : إن أجبرني ربي عز وجل قبلت ، فإني أعلم أنه إن فعل ذلك أعانني . وعلمني . وعصمني . وإن خيرني ربي قبلت العافية ، ولم أسأل البلاء ، فقالت الملائكة : يا لقمان لم؟! قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاه الظلم من كل مكان ، فيخذل أو يعان ، فإن أصاب فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة.
ومن يكون في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً شائعاً ، ومن يختار الدنيا على الآخرة فاتته الدنيا ولا يصير إلى ملك الآخرة .
فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فغط بالحكمة غطاً فانتبه فتكلم بها ، ثم نودي داود عليه السلام بعده بالخلافة ، فقبلها ولم يشترط شرط لقمان ، فأهوى في الخطيئة ، فصفح عنه وتجاوز . وكان لقمان يؤازره بعلمه وحكمته فقال داود عليه السلام : طوبى لك يا لقمان ، أوتيت الحكمة فصرفت عنك البلية ، وأوتي داود الخلافة فابتلى بالذنب والفتنة]( ).
السابع : إني جاعل في الأرض خليفة أي يخلف الناس بعضهم بعضاً في عمارتها فالخلافة في الآية ليس خلافة الله عز وجل بل يتوارث الناس السكن والملك والعبادة في الأرض كما في قوله تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ] ( )أي لخلافة الأنبياء والملوك من قبلك تقؤم الناس في الصالحات وتدبر أمورهم بما يقربهم إلى الهدى ويجعلهم يؤدون الفرائض والعبادات .
وكان قبل داوود النبوة في سبط والملك في سبط آخر من أسباط بني إسرائيل ، فجمعهما الله عز وجل لداوود ، ليكون هذا الجمع مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يحتج بنو إسرائيل بلزوم التفريق بين النبوة والحكم ، فقد جمع الله عز وجل النبوة والإمامة والحكم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتنخرم هذه القاعدة بالنسبة لأدم لأنه لم يرث أحد من الناس في الأرض قبله مع أنه السبب في الخلافة.
والجواب أن الخلافة أعم من الوراثة فتفيد التصرف الإختياري .
الثامن : إني جاعل في الأرض خليفة يتنزه عن حب الدنيا واللهث وراء مباهجها ليكون آية للعالمين وحجة أمام الملائكة في عصمة الربيين وعموم المؤمنين إتباع الهوى والميل للشهوات [عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الدنيا حُلْوَة خَضِرَة وإن الله مُسْتَخْلِفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء] ( ).
التاسع : إني جاعل في الأرض خليفة يتعاهد التنزيل ويحفظ تراث النبوة ويحارب مفاهيم الكفر والضلالة إلى أن تقوم الساعة ليكون من معاني رد الله عز وجل على الملائكة حينما [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) أنه كل أهل الأرض يفسدون في الأرض وليس السفك صفة غالبة وشائعة بين الناس إنما الخلافة وسنتها وآدابها هي المتوارثة بين الأجيال.
وكل طبقة من الربيين تساهم في بناء صرح التوحيد [عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة ، فكان من دخلها فنظر إليها قال : ما أحسنها! إلا موضع اللبنة ، فأنا موضع اللبنة فختم بي الأنبياء)( ).
ومن الإعجاز في آية البحث أنها جعلت حب الله للمحسنين خاتمة لها ليتغشى ثواب الدنيا وثواب الآخرة اللذين تذكرهما الآية وفيه نكتة وهي أن هذا الثواب يأتي بأبهى حلة وأسمى كيفية وبسلامة من إغواء الشيطان وأضرار الحسد.
علم المناسبة
ورد لفظ الثواب في القرآن إثنتي عشرة مرة، نصفها في ثلاث آيات من سورة آل عمران منها آية البحث، وهو من الإعجاز في مواضع الألفاظ في القرآن، وقرأ الجحدري فأثابهم من لفظ الثواب بدل فآتاهم( )، وكل أفراد الثواب هذه تعود إلى الله عز وجل , لبيان قانون من جهات:
الأولى : لا يقدر على الثواب إلا الله عز وجل.
الثانية : حاجة الناس إلى الثواب، وهو من فضل الله عز وجل عليهم لبعثهم إلى فعل الصالحات وأسباب جلب الثواب، وفي سفر التثنية قال موسى لبني إسرائيل: لا تطيعوا العرافين ولا المنجمين ، فسيقيم لكم الرب نبيا من أخوتكم مثلي ، فأطيعوا ذلك النبي( ).
الثالثة : مجئ الثواب من عند الله أمن من العقاب لعدم إجتماع الضدين لتكون آية البحث أمن وسلامة للربيين في الدنيا والآخرة، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].
الرابعة : إقامة الحجة على الذين حرموا أنفسهم من الثواب الدنيوي والأخروي باختيارهم الكفر ومحاربة الأنبياء والربيين.
الخامسة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل لسعيهم لنيل الثواب باختيار الإيمان لذا إبتدأت الآية التالية بقوله تعالىيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، في نداء الى المسلمين والمسلمات لبعثهم للفوز بالثواب المتعدد والمتصل الذي تذكره آية البحث , ويدل تعدد وكثرة ورود لفظ الثواب في القرآن على موضوعيته في حياة المسلمين، وإتخاذه مناراً وسبيل هداية , وجاء الثواب في القرآن على وجوه:
الأول : ثواب الدنيا، كما في قوله تعالى[وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا]( ).
الثاني : ثواب الآخرة، والآيات التي وردت بذكره أكثر من الآيات التي وردت بذكر ثواب الدنيا وهو من إعجاز القرآن , ليكون مرآة للنسبة بين قصر أيام الدنيا وإستدامة الثواب في الآخرة، قال تعالى[وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
الثالث : الفرد الجامع لثواب الدنيا والآخرة، وجاء على قسمين :
الأول : التفصيل وذكر كل من ثواب الدنيا وثواب الآخرة بالاسم والتعيين، كما في آية البحث.
الثاني : الإتيان بالثواب على نحو سور الموجبة الكلية الشامل للدنيا والآخرة، قال تعالى[وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ]( ).