معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 121

المقدمة
الحمد لله حمداً كثيراً زاكياً، الحمد لله الكافي من كل شئ ولا يكفي منه شئ الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وقد تفضل الله وأنزل مائدة على عيسى عليه السلام والحواريين في آية حسية عظمى , وفي التنزيل[اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ] ( )، وعن ابن عباس : إن عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل : صوموا ثلاثين يوماً ثم سلوا اللّه ما شئتم يعطكموه فصاموا ثلاثين يوماً فلما فرغوا قالوا : يا عيسى إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا طعاماً ولأصبحنا من وجعنا، فادع لنا اللّه أن ينزل علينا مائدة من السماء فنزل الملائكة بمائدة يحملونها، عليه سبعة أرغفة وسبعة أحوات( ) حتى وضعتها بين أيديهم وأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم( ).
ولأن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية حسية، فقد وثقت معجزة عيسى هذه بالبيان الباقي إلى يوم القيامة، ولم يقف الأمر عند التوثيق ، فقد تفضل الله وجعل القرآن مائدة من السماء ينهل منها المسلمون والمسلمات كل يوم من غير أن ينقص منها شيء من جهة النضارة والطراوة والإعجاز والإقرار بالحاجة العامة لكل آية منه، وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى سور وآيات، ومجئ التحدي في القرآن بالإتيان بسورة واحدة وتكراره مرتين[فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]( )،[ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ]( ).
وهل يصح التحدي بالآية الواحدة من القرآن , الجواب نعم، وهو الذي يتجلى في إستنباط العلوم المتعددة في كل زمان من خزائن كل آية من القرآن من غير أن تنفد هذه العلوم والخزائن، مع التسليم العام بأن ما بقي في ثناياها من الأسرار والذخائر أكثر مما أستنبط وتجلى , لتبقى كل آية من القرآن تدعو العلماء والباحثين للغوص لسبر أغوارها , وإستخراج درر من لآلئ المسائل الكلامية , والأحكام الشرعية التي تنير دروب الهداية للمسلمين .
وقد أنعم الله عز وجل علينا بآية لم يشهدها التأريخ بتأسيس قواعد صرح علوم من التفسير تدعو الناس جميعاً للتدبر بالآية القرآنية وإلتماس المزيد من فيوضاتها في القادم من الأيام , قال تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]( ).
وإذا كانت مائدة عيسى عليه السلام والحواريين طعاماً سماوياً طيباً مباركاً وإرتفعت في حينها فان المائدة التي أنزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علوم متكاملة وصراط مستقيم في الدنيا والآخرة , ولم ولن ترتفع إلى يوم القيامة وهو من مصاديق صبغة العقلية في معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن القرآن وكنوزه اللدنية يدعو الناس كل صباح ومساء إلى الإسلام، ويحبب إليهم الإيمان وجعل الدنيا روضة ناضرة ملاكها الألفة والتراحم في مرضاة الله .
ومنه الآية الكريمة التي إختص بتفسيرها هذا الجزء وهو الواحد والعشرون بعد المائة من كتابنا الموسوم (معالم الإيمان في تفسير القرآن) وهي[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( )، لبيان قانون من جهات:
الأولى : وجوب الإيمان إبتداء وإستدامة، فهو الوظيفة العظمى للبشر، وعلة خلقهم وإنتشارهم في الأرض، فمع أن خلق الإنسان من عند الله إبتدأ بآدم وحواء وفي الجنة فان الله سبحانه أخبر عن الغاية من خلقهم بصيغة الجمع والإشتراك بذات الغاية بينهم وبين الجن بقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ولو دار الأمر بين إرادة العبادة بخصوص عمر معين للإنسان أو زمان مخصوص للناس أو الإطلاق , فالصحيح هو الثاني، فليس من فترة في العبادة سواء بشأن المكلف المنفرد أو الجماعة أوالأمة، لذا تفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء على نحو التوالي والتعاقب وإبتدأت عمارة الإنسان للأرض بالنبوة فكان آدم عليه السلام أبو البشر نبياً.
وعن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال : نعم . كان نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً ، قال له { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة}( ).
الثانية : وجود أمة من المسلمين والمسلمات في كل زمان وإلى يوم القيامة بلحاظ قاعدة وهي:
الكبرى : إستدامة النداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]إلى يوم القيامة لملازمة القرآن للوجود الإنساني في الأرض.
الصغرى : المسلمون هم الذين آمنوا.
النتيجة : إستدامة توارث ووجود المسلمين إلى يوم القيامة.
ليكون هذه النداء القرآني الذي تفتتح به آية البحث وعداً من عند الله ببقاء المسلمين أعزة في الأرض، قادرين على إختيار السلامة والوقاية من طاعة الذين كفروا، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وتقدير آية البحث على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا أبشروا بدوام الإيمان.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا سيرث الأرض من بعدكم أخوة وذراري لكم يتصفون بذات خصالكم الإيمانية ولا يقدح بهذا المعنى كون آخر طبقة من الناس يأتي عليها النفخ في الصور [وعن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما ، فلا يتبايعانه ، ولا يطويانه . ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه ، فلا يسقي فيه . ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته ، فلا يطعمه . ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها] ( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا أنتم أهل الأمانة في حفظ الإيمان في الأرض.
وسيأتي مزيد بيان وذكر وجوه أخرى في رحلة التفسير بين ثنايا هذا الجزء خاصة وقد ورد هذا النداء المبارك تسعاً وثمانين مرة في القرآن، وكلها خطاب ونداء للمسلمين والمسلمات في آية من الإكرام والتشريف وتحمل أعباء المسؤولية العقائدية بخصوص الذات والجماعة والأمة والناس جميعاً، فان قلت تضمنت الآية نهي المسلمين عن طاعة الذين كفروا فكيف تكون مسؤوليتهم أزاءهم، الجواب إن عدم طاعة الذين كفروا رسالة إنذار لهم وسبيل لجذبهم إلى الإيمان.
لقد أراد الله عز وجل للأرض أن تتزين بالنداء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] من جهات:
الأولى : نزول النداء من السماء.
الثانية : تلاوة المسلمين لهذا النداء.
الثالثة : علم المسلمين والمسلمات أنهم المقصودون بهذا النداء التشريفي وهل هذا النداء من مصاديق العلو في قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ). الجواب نعم .
وليتجلى قانون وهو أن نيل المسلمين مرتبة العلو إبتداء وإستدامة بفضل ولطف من عند الله عز وجل
الرابعة : تعاهد المسلمين للإيمان ببركة هذا النداء لما فيه من المدد والعون بالثبات في مقامات الإيمان، وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين بأن نطقوا بالشهادتين فاعانهم الله على أداء الفرائض وإتيان الصالحات وإجتناب المعاصي وإتباع خطوات الكفار في ضلالتهم.
ومن إعجاز القرآن أن النداء الذي إبتدأت به آية هذا الجزء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] أشرف وأوسع وأعظم نداء في تأريخ الإنسانية، لا تجاريه النداءات بين الناس، وهو في إطراد وإتساع مستمر، من جهات:
الأولى : نزول نداء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] من عند الله عز وجل، فلما تفضل الله عز وجل ونفخ فيه من روحه، قال تعالى[ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ]( )، ليدرك الإنسان ببصيرته وحواسه وجوب عبادة الله عز وجل، ويتلقى آيات التنزيل بالقبول والرضا، ومنها النداء بصفة الإيمان النازل من السماء والذي إبتدأت به آية البحث.
الثانية : تفضل الله عز وجل بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، ليبقى هذا الخطاب جزء من الإرث العقائدي للمسلمين , ويحتمل تلقي أجيال المسلمين المتعاقبة للنداء الذي إبتدأت به آية البحث وجوهاً :
الأول : تلقي النداء بالواسطة أي يأتي الخطاب إلى الصحابة وأهل البيت ثم تتلقاه أجيال المسلمين منهم .
الثاني : بيان الفارق الرتبي بين تلقي الصحابة وأهل البيت وبين التابعين وتابعي التابعين .
الثالث : التساوي بين الصحابة وأجيال المسلمين اللاحقة في تلقي النداء من عند الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] .
والصحيح هو الأخير ، فليس من واسطة بين هذا النداء وبين كل مسلم ومسلمة وهو من أسرار التكليف في الدنيا ومن مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا] ( ).
وهل يشمل النداء التشريفي في آية البحث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نفسه أم أنه خارج عنه بالتخصص أو التخصيص لأن من شرائط الإيمان التصديق بنبوته .
الجواب هو الأول، فهو الرسول والإمام في مسالك الإيمان، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ]( ).
الثالثة : تشريف المسلمين بالنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] من بين أهل الأرض، مما يستلزم الشكر والثناء منهم لله عز وجل، وهل تترتب على هذا التشريف وظائف للمسلمين.
الجواب نعم وتتجلى بتعاهد الإيمان وسننه، والإخلاص في طاعة الله لذا من إعجاز نظم آيات القرآن مجئ الآيات الثلاثة السابقة لهذه الآية ببيان خصال الربيين مع تعريفهم بأنهم أصحاب الأنبياء السابقين الذين قاتلوا معهم، وبيان الثواب العظيم الذي فازوا به في النشأتين.
الرابعة : شهادة الله عز وجل والملائكة للمسلمين بأنهم أهل الإيمان، وهو عز وفخر لهم بين الناس ، قال تعالى[وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( )، فان قلت علمنا بدلالة النداء القرآني[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] على شهادة الله عز وجل الجواب من وجوه:
الأول : إخبار الله عز وجل الملائكة بخلق آدم وخلافة الإنسان في الأرض وإحتجاج الملائكة على هذه الخلافة بفساد الإنسان فيها وتفضل الله بالرد عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )ليكون من مصاديق الآية أعلاه تفضل الله باطلاع الملائكة على إيمان وتقوى المسلمين وأهليتهم للخلافة في الأرض بهداية من عند الله بأن لا يطيعوا الذين كفروا .
الثاني : نزول الملائكة بالوحي وآيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ] ( ).
الثالث : قيام الملائكة بتدوين وإحصاء أفعال بني آدم ، قال تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ] ( ) وهل كتابة الملائكة لحسنات المؤمنين من مصاديق الإحتجاج من عند الله عز وجل عليه السلام بخلق آدم في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
الجواب نعم فهذا الإحتجاج برهان متجدد كل يوم يشكر معه الملائكة الله عز وجل لذا بادروا إلى النزول لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر وأحد والخندق لتكون كلمة الله هي العليا.
الخامسة : إقتران النداء بصيغة الإيمان بمصاديق من الأحكام التكليفية الخمسة من وجوه :
الأول : مجئ الواجبات والأوامر مع صيغة الإيمان كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ] ( ).
الثاني : مجئ الأمر بالمستحبات مع نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في القرآن لبيان الإنتفاع منها في الدنيا والآخرة وهي مطلوبة بذاتها مع كونها مقدمة لإتيان الواجب وإجتناب المحرم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ] ( ) .
وظاهر الآية أعلاه وجوب كتابة الدين ، ولكن الجمع بين مضامين الآية وهي أطول آية في القرآن ، وعدد كلماتها مائة وثمانية وعشرون حرفاً , وعدد حروفها خمسمائة وأربعون حرفاً , وذات موضوع الدين يدل على الإرشاد والإستحباب ومنع الخصومة , ولقوله تعالى في الآية التالية لها [فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ] ( ).
الثالث : إقتران المستحبات بالنداء القرآني للمسلمين بصفة الإيمان بالمباحات لبيان الرحمة والتخفيف المصاحب للإيمان ، وتجلي النعم في الدنيا مع الإيمان ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ]( ) .
لبيان أن هذه الطيبات من ثواب الدنيا الذي ذكرته الآية السابقة ، فان قلت تأتي ذات الطيبات للكفار أيضاً فهل هي من الثواب , الجواب لا ، إنما هي إمتحان وإستدراج وحجة على الكفار ، ليكون من معاني هذا التباين بخصوص آية البحث بيان قانون وهو أن الطيبات وزينة الدنيا لا تنال بواسطة الكفار وطاعتهم ، إنما تأتي بفضل وثواب من عند الله .
الرابع : ورود الأحكام مقترنة بنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]فمع أن تنفيذ الأحكام الجزائية خاص بالحكام إلا أن الخطاب بالقيام بها وتعاهدها موجه إلى المسلمين والمسلمات جميعاً مع البيان والتفصيل ومنع الجهالة والغرر كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَان] ( ).
الخامس : إقتران النداء التشريفي ببيان كراهة بعض المسائل كما قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ] ( ).
السادس : إقتران النهي عن المحرمات مع النداء يا أيها الذين آمنوا كما في آية البحث وهي وإن جاءت بصيغة الجملة الشرطية فإنها تتضمن تحريم
طاعة الذين كفروا .
السابع : إبتدأت الآية بالنداء التشريفي للمسلمين بالإيمان ثم تتعقبه جملة خبرية تتضمن الإنشاء والأمر أو النهي في دلالتها كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ]( )، لتكون الآية أعلاه تفسيراً لآية البحث من جهات :
الأولى : بيان أن الله عز وجل غني عن العالمين .
الثانية : تحذير وإنذار المسلمين من طاعة الذين كفروا إنما هو لنفع المسلمين أنفسهم , مع ترشح هذا النفع على الناس جميعاً .
الثالثة : خسارة الذين يتبعون الكفار .
الرابعة : الجمع بين آية البحث والآية أعلاه مصداق لقوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( )ولا يتعارض هذا المعنى مع كون ذات آية البحث من جنود الله وهل هو فرد متحد في هذا الباب أم متعدد ، الجواب هو الثاني من جهات :
الأولى : تبعث آية البحث العز في نفوس المسلمين لما فيها من الثناء عليهم ، وإفرادهم بصفة الإيمان من بين الناس .
الثانية : بيان فضل الله عز وجل على الذين يصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بـأن يتوالى عليه المدح والثناء من عند الله بالنداء والإكرام والشهادة لهم بالإيمان مع الهداية إلى سبل النجاة .
الثالثة : يدل مجئ النداء التشريفي قبل النهي عن طاعة الذين كفروا على أمرين :
الأول : سلامة المسلمين من طاعة الذين كفروا عند نزول الآية بلحاظ تعلق النهي بالمستقبل ، فلم تقل الآية (لماذا تطيعون الذين كفروا ) أو
(أرجعوا عن طاعة الذين كفروا).
الثاني : أهلية المسلمين في أجيالهم المتعاقبة للتنزه عن طاعة الذين كفروا بدليل تسميتهم من عند الله بالمؤمنين لأن هذا الاسم بذاته وموضوعه ومسماه حرز من الميل والركون إلى الكفار .
الرابعة : تتضمن آية البحث توبيخ ووعيد الذين كفروا على سوء فعلهم وأمرهم بالمنكر ومحاولتهم إرتداد المسلمين وهو الذي تبينه الآية بجلاء ، لتكون خاتمة الآية كأولها من جهة تشريف وإكرام المسلمين وكونها مدداً لهم للثبات في مقامات الإيمان والفوز في النشأتين ، قال تعالى [مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا] ( ).
بلحاظ أن الأصل في نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] البلاغ لكل الناس وهو دعوة لهم للإيمان ، ولكن الذين كفروا حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة بالجحود والإمتناع بالإختبار لا ينافي الإختيار فصاروا مصدراً للإضرار بالمؤمنين.
وجاء الإنذار والتحذير من إطاعتهم في آية البحث لسوء إختيارهم وقبح أفعالهم ، والنسبة بين النداء العام للناس في الآية أعلاه والنداء في آية البحث هي العموم والخصوص المطلق ، فالذين آمنوا شطر من الناس .
وتسمى الأوامر والنواهي في الشريعة التكاليف وتقدمت الإشارة إلى أقسامها الخمسة : الإيجاب، الإستحباب، الإباحة، الكراهة، التحريم.
ولكن اسم التكاليف إستقرائي وتعريف للبيان لما فيها من مشقة وعناء الأداء، وفي الحقيقة هي رحمة وكل فرد منها نزهة في رياض التقوى، وسياحة في عالم الملكوت، ومنها النهي الوارد في آية البحث عن طاعة الذين كفروا، إذ تتجلى معاني التحفيف وتيسير الإمتثال فيه من وجوه:
الأول : إبتداء الآية بنداء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لشحذ الهمم وتجديد صبغة الإيمان في النفوس، وهل من معاني هذا النداء ضرورة التآزر والمناجاة بين المسلمين والمسلمات باجتناب طاعة الذين كفروا، الجواب نعم ليدخل النداء الوارد في هذه الآية إلى البيوت ويكون حاضراً في الأسواق والمنتديات .
فمن خصائص صيغة الجمع فيه التعاون في الإمتثال للحكم الوارد في الآية، وهو من أسراً تكرار[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في القرآن ومجئ الأحكام مصاحبة له.
الثاني : مجئ النهي عن طاعة الذين كفروا بصيغة الجملة الشرطية، وهي التي تتكون من أداة شرط وجملتين بعدها، وهما جملة الشرط، وجملة جواب الشرط.
الثالث : إنحصار العلة في جزاء الشرط بوقوع الخسارة , وقوله تعالى[فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] من جهات:
الأولى : الإنقلاب العام والجماعي لأن صيغة الآية الجمع , للبشارة بتعذر خسارة المسلمين لأنه سالبة بانتفاء الموضوع بنفي الخسارة الذي يدل عليه النداء التشريفي في أول الآية.
الثانية : إنحصار علة الخسارة بطاعة الذين كفروا.
الثالثة : سبق أمرين للخسران يكونا كالإنذار، وهما:
الأول : الإرتداد ، وتقييده بأنه على الأعقاب.
الثاني : الإنقلاب في القول والفعل والإعتقاد، لبيان تعدد السبل والمناهج التي تؤدي إلى الخسران، وكلها مخالفة للصراط المستقيم الذي عليه المسلمون، ليتضمن ذات النهي عن طاعة الكفار الأمن والسلامة منه بفضل الله , قال تعالى[فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ]( ).

قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]الآية 149

الأعراب واللغة
يا : أداء نداء .
أي : منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب .
ها: حرف تنبيه .
الذين : اسم موصول مبني في محل نصب بدل من أي .
آمنوا : فعل ماض مبني على الضم .
واو الجماعة : فاعل .
إن تطيعوا : إن حرف شرط جازم .
تطيعوا : فعل مضارع مجزوم وهو فعل الشرط .
وعلام الجزم حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة .
واو الجماعة : فاعل .
الذين : اسم موصول في محل نصب مفعول به .
كفروا : فعل ماض مبني على الضم
يردوكم : فعل مضارع مجزوم جواب الشرط وعلامة الجزم حذف النون.
الواو : فاعل .
و(كم): ضمير مفعول به ، يعود للذين آمنوا ، والميم علامة الذكور للفرد الغالب .
على أعقابكم : جار ومجرور متعلق ب (يردوكم ) .
و(كم ) مضاف إليه .
فتنقلبوا : الفاء حرف عطف .
تنقلبوا : فعل مضارع مجزوم معطوف على يردوكم .
خاسرين : حال منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم .
وأصل الكفر هو التغطية على الشئ ، فكأن الكافر مغطى على قلبه ، ويغطي على الحق ويستر النعم ، لذا جاء نهي المسلمين عن طاعة الكفار ويقال : كفر المزارع البذر أي غطاه وستره في الأرض ، لذا يسمى الفلاح بالكافر ، ويقال كفر بالشئ : أي تبرأ منه
وكفر الله ذنوبه أي محاها وسترها .
ويردوكم أي يرجعوكم بعد إيمانكم وعملكم الصالحات ، والرد : اسم لما أعيد بعد أخذه، قال تعالى في قصة يوسف عليه السلام [فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ]( ).
والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر القدم ، جاءت هنا للكناية عن الرجوع عن مراتب الإيمان ، والإمتناع عن فعل الخيرات ، قال تعالى [قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ] ( )
والقَلْبُ تَحْويلُ الشيءِ عن وجهه قَلَبه يَقْلِبُه قَلْباً وأَقْلَبه ،الأَخيرةُ عن اللحياني وهي ضعيفة وقد انْقَلَب وقَلَبَ الشيءَ وقَلَّبه حَوَّله ظَهْراً لبَطْنٍ وتَقَلَّبَ الشيءُ ظهراً لبَطْنٍ كالحَيَّةِ تَتَقَلَّبُ على الرَّمْضاءِ وقَلَبْتُ الشيءَ فانْقَلَبَ أَي انْكَبَّ وقَلَّبْتُه بيدي تَقْلِيباً وكلام مَقْلوبٌ وقد قَلَبْتُه فانْقَلَب] ( ).
وجاء قوله تعالى [فَتَنْقَلِبُوا] بمعنى أعم من تحويل الوجه فيشمل النكوص والإرتداد، وفيه غاية الإنذار .
سياق الآيات
في صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة على وجوه :
الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ) وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا آتى الله الربيين ثواب الدنيا .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا آتى الله الربيين حسن ثواب الآخرة .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا الله يحب المحسنين .
الرابع : فآتى الله الربيين ثواب الدنيا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على إعقابكم .
الخامس :فآتى الله الربيين حسن ثواب الآخرة إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على إعقابكم .
السادس : إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم والله يحب المحسنين .
الثانية : لما أخبرت الآية السابقة عن المنزلة العظيمة للربيين بلحاظ إكرامهم بالثواب الجزيل إبتدأت هذه الآية بالخطاب للذين آمنوا أي لجميع المسلمين والمسلمات الذين نطقوا بالشهادتين ، وهذا الإنتقال والإلتفات الموضوعي من صيغ الماضي إلى الحاضر إعجاز عقائدي لآيات القرآن ، لأن موضوع التنزيل إصلاح المسلمين لأمور :
الأول : نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصدق الإيمان والتنزه عن الشك والريب .
الثاني : أداء الفرائض والمناسك ليكون تقدير قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )بلحاظ أول آية البحث : يا أيها الذين آمنوا ما خلقتكم إلا لتعبدون وتدعوا الناس لعبادتي ) ، وفيه شاهد على الوظائف الجهادية للمسلمين في جذب الناس للهداية لذا حينما نزلت آية [خَيْرَ أُمَّةٍ] تضمنت قيام المسلمين بالأمر بالصالحات والزجر عن السيئات ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( ).
الثالث : الإحتراز من الكفار وبواعث النفس الشهوية وإغواء الشيطان ، ومضامين الآية السابقة مدد وعون في تحصيل هذا الإحتراز وهو من أسرار تقدمها على الخطاب التشريفي الوارد في آية البحث ، ليتضمن هذا الخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] دعوة المسلمين للإرتقاء إلى مراتب الربيين للفوز بذات الثواب والنعيم الذي تذكره الآية السابقة .
الرابع : الدفاع عن النبوة والتنزيل من جهات :
الأولى : الخروج إلى ساحات القتال تحت راية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدفع شرور كفار قريش ، وعدم الخشية من سطوتهم وهيبتهم لأن النصر بيد الله عز وجل ، ولما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة بدر إلى المدينة قدّم أسرى قريش ليدخلوها قبله، وهو علامة النصر والظفر ، فكان دخولهم زجراً وتوبيخاً للمنافقين الذين أظهروا الشك بهذا النصر عندما دخل قبله البشيران زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحه ، وكان على الأسرى شُقران غلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي شهد معه بدراً .
وخرج أهل المدينة لإستقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتهنئة بالنصر [وَلَقِيَهُ النّاسُ يُهَنّئُونَهُ بِالرّوْحَاءِ بِفَتْحِ اللّهِ . فَلَقِيَهُ وُجُوهُ الْخَزْرَجِ ، فَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ مَا الّذِي تُهَنّئُونَنَا بِهِ ؟
فَوَاَللّهِ مَا قَتَلْنَا إلّا عَجَائِزَ صُلْعًا . فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يَا ابن أَخِي ، أُولَئِكَ الْمَلَأُ لَوْ رَأَيْتهمْ لَهِبْتهمْ وَلَوْ أَمَرُوك لَأَطَعْتهمْ وَلَوْ رَأَيْت فِعَالَك مَعَ فِعَالِهِمْ لَاحْتَقَرْته ; وَبِئْسَ الْقَوْمُ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ لِنَبِيّهِمْ] ( ).
وينقسم هذا الخروج إلى قسمين :
الأول : النفير والخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب التي قادها بنفسه وعددها خمس وعشرون كتيبة ، وقيل أكثر ، على إختلاف منشأ أكثره إحتساب التداخل بين الكتائب المتقاربة أو التفريق بينها ، فمنهم من يحتسب معركة حنين وحصار الطائف كتيبة واحدة ومنهم يحتسبها إثنتين وكذا بالنسبة لمعركة الخندق وبني قريظة .
الثاني : الخروج في السرايا والبعوث التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أطراف المدينة والأمصار ، وعددها أربعون سرية ومنهم من أوصلها إلى السبعين .
وقد تتفرع عن الكتيبة الواحدة عدة سرايا ليكون عد السرايا أكثر بكثير مما ذكر المؤرخون في هذا الباب كما ورد عن ابن سعد : قالوا : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بدومة الجندل جمعا كثيرا يظلمون من مربهم وأنهم يريدون ان يدنوا من المدينة وهى طرف من أفواه الشام بينها وبين دمشق خمس ليال وبينها وبين المدينة خمس عشرة أوست عشرة ليلة فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وخرج لخمس ليال بقين من شهر ربيع الاول في ألف من المسلمين فكان يسير الليل ويكن النهار ومعه دليل له من بنى عذرة يقال له مذكور .
فلما دنا منهم إذا هم مغربون وإذا آثار النعم والشاء فهجم على ماشيتهم ورعاتهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب في كل وجه وجاء الخبر أهل دومة فتفرقوا ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بساحتهم فلم يلق بها أحدا .
فأقام بها أياما وبث السرايا وفرقها فرجعت ولم تصب منهم أحدا وأخذ منهم رجل فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم فقال هربوا حيث سمعوا أنك أخذت نعمهم فعرض عليه الاسلام فأسلم ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لعشر ليال بقين من شهر ربيع الآخر( ). فورد في الحديث أعلاه: (وبث السرايا وفرقها)
ووقعت كتيبة دومة الجندل في السنة الخامسة للهجرة (626م) واستعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة عند خروجه سباغ بن عرفطة الغفاري.
وتبعد دومة الجندل عن المدينة المنورة ستمائة كيلو متراً من جهة بلاد الشام، والمراد من الجندل الحجارة (وعدها ابن الفقيه. من أعمال المدينة سميت بدوم بن إسماعيل بن إبراهيم، وقال الزجَاجي دومان بن إسماعيل وقيل كان لإسماعيل ولد اسمه دُماً ولعله مغير منه، وقال ابن الكلبي دوماءُ بن إسماعيل قال ولما أكثر ولد إسماعيل عليه السلام بتهامة خرج دوماءُ بن إسماعيل حتى نزل موضع دومة وبنى به حصناً فقيل دوماءُ ونسب الحصن إليه وهي على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال أبو سعد: دومة الجندل في غائط من الأرض خمسة فراسخ, ومن قبل مغربه عين تثج فتسقى ما به من النخل والزرع وحصنها مارد وسميت دومة الجندل لأن حصنها مبني بالجندل( ).
الثانية : تلقي الأوامر الفردية والعامة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع وتحقيق الغايات القريبة .
الثالثة : العمل الدفاعي الذي يصدر من المسلم المتحد أو من جماعة منهم فيمضيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويسمى هذا الإمضاء السنة التقريرية .
الرابعة : محاكاة قصص المؤمنين الواردة في القرآن كما في آيات الربيين الثلاثة السابقة وجهادهم في سبيل الله .
الأمر الخامس : إصلاح المسلمين لوراثة الأنبياء والربيين في أداء الفرائض وتحمل الأذى في جنب الله .
السادس : تحلي المسلمين بخصال الإحسان للذات والغير ليكون من مصاديق الإحسان في المقام عبادة الله والعمل بأحكام الكتاب والسنة .
وورد عن الحسن البصري في قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ]( )، قال: من الفيء [وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] قال : من الفيء( )) .
ولكن الآية أعلاه أعم في موضوعها وحكمها وإن جاءت في نظم القرآن بين آيتين بخصوص الفيء والأصناف التي تستحقه بعد ذكر ما لله ورسوله.
فالآية شاهد على إمضاء العمل بالسنة النبوية، وكان بعض الصحابة يحتجون بها ويستشهدون بها في العمل بأحكام الشريعة , عن عبد الرحمن بن يزيد قال: لقي عبد الله بن مسعود رجلا محرماً وعليه ثيابه، فقال : انزع عنك. فقال الرجل : اتقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله؟ قال : نعم {ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا}( ).
ومصداق عموم المعنى في الآية قوله تعالى[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ).
المسألة الثالثة : بينت الآية السابقة الثواب العظيم الذي ناله ويناله الربيون ، فمن إعجازها أن الثواب فيها يستغرق أفراد الزمان الطولية والعوالم كلها ، إذ يأتيهم الثواب من عند الله على وجوه :
الأول : الثواب أيام حياة الربيين بما فيه صلاحهم , وسلامتهم من الآفات .
الثاني : الثواب للربيين بعد وفاتهم ، بالرزق الكريم لأبنائهم ، وهدايتهم لسواء السبيل ليكونوا سبباًً للرحمة والمغفرة لآبائهم ، وهو من رحمة الله عز وجل بالمؤمنين بأن ينتفع الابن الذي لم يولد بعد من الأب ، ويكون هذا النفع سبباً للعفو والمغفرة من عند الله للأب من غير أن يلزم الدور في الموضوع للتباين الجهتي الذي يتقوم بالعمل الصالح الصادر من كل منهما بقصد القربة إلى الله .
الثالث : الثواب الدنيوي الذي يأتي للربيين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : تحقق البشارة العظمى التي نادى بها الربيون، وإجتهدوا في تهيئة أذهان الناس لها ، وتحملوا الأذى رجاء الإنتقام من الكافرين ببزوغ شمس الهداية والرشاد ونزول آيات القرآن , فكان اليهود مثلاً يتطلعون إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان العرب يؤذونهم ليقاتلوا معه ، وهو من معاني قوله تعالى [وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
(عن ابن عباس قال : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود ، فعاذت بهذا الدعاء : اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان( ).
وهل للربيين وثوابهم الذي تذكره آية السياق موضوعية في هذا الدعاء، الجواب نعم من وجوه :
أولاً : إبقاء الربيين البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تركة لأجيال المؤمنين.
ثانياً : نقل الربيين لبشارات الأنبياء السابقين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً : مجئ الكتب السماوية السابقة بتأكيد بعثته ونصرته للمظلومين، وإقامته دولة الحق والعدل.
وجاء في التوراة: لترفع البرية و مدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا ليعطوا الرب مجدا و يخبروا بتسبيحه في الجزائر( ).
وفيه بشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر الديار التي سكنها قيدار بن إسماعيل لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من نسله وذريته، وجعل الشاهد هو عموم البهجة ببعثته , وورد في النص ذكر هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة وهو الذي كان اليهود يتطلعون إليه بعنوان أن البعثة تكون فيها ولكون النبي منهم لذا حرصوا على الهجرة إليها عند إقتران أوان البعثة الخاتمة فورد في النص أعلاه(لتترنم سكان سالع) والمراد من سالع هو جبل في باب المدينة، وأسمه سلع ولا يزال بهذا الاسم إلى زماننا هذا.
وفي سفر التثنية : فقال جاء الرب من سيناء واشرق لهم من سعير وتلالا من جبال فاران واتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم( ).
ليتجلى الإعجاز والبيان في قوله تعالى[وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ]( ).
ومن معاني التين الزيتون إرادة الأرض المباركة التي هاجر إليها إبراهيم, وبيت المقدس وما حوله، وطور سنين هو الجبل الذي كلّم الله عز وجل عليه موسى للدلالة على تلقي الأنبياء للأحكام الشرعية والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والبلد الأمين هو مكة موضع البيت الحرام ومولد ومبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
والمراد من فاران في التوراة هي مكة التي أسكن فيها إبراهيم إسماعيل وأمه هاجر بقوله تعالى[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ]( ).
وكانت سارة زوجة إبراهيم ذات غلظة وقسوة على هاجر لأنها أمتها ولأنها أنجبت وليس عند سارة ولد آنذاك، وفي سفر التكوين( فسمع الله صوت الغلام و نادى ملاك الله هاجر من السماء و قال لها ما لك يا هاجر لا تخافي لان الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو قومي احملي الغلام وشدي يدك به لأني ساجعله امة عظيمة و فتح الله عينيها فابصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء و سقت الغلام و كان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية و كان ينمو رامي قوس وسكن في برية فاران و اخذت له امه زوجة من ارض مصر( ).
لقد ذكرت الآيات الثلاثة السابقة الربيين الذين قاتلوا مع الأنبياء ، والمراد المعنى الأعم من الأصحاب والأتباع والأنصار ليتوارثوا مناهج النبوة ومنها محاربة الكفار وعدم إطاعتهم فيما يدعون إليه من الضلالة.
الثانية : إقتباس أهل البيت وصحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المواعظ والدروس من سنة الربيين في قتالهم مع الأنبياء من غير ضجر أو ملل كما يدل عليه إجتهادهم بالدعاء لتثبيت أقدامهم .
الثالثة : تلاوة المسلمين للآية السابقة وتلقي مضامينها بالتصديق .
الرابع : إتخاذ المسلمين سيرة الربيين مادة للتفقه في الدين ومعرفة أحوال الأمم السالفة ، وأن النصر مصاحب للإيمان بفضل الله ، قال تعالى [ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ).
الخامس : وراثة المسلمين للربيين في نهجهم في الصلاح والتقوى والذب عن النبي والوحي ، وبيان المعجزات .
المسألة الرابعة : جاءت الآية السابقة بصيغة الجملة الخبرية , وبيان عظيم فضل الله على الأنبياء السابقين وأصحابهم من وجوه :
الأول : بعث الأنبياء السابقين رحمة بأصحابهم .
الثاني : إيمان صحابة الأنبياء رحمة بالأنبياء .
الثالث : بعث الأنبياء وإيمان ربيين كثير بكل واحد منهم رحمة بالناس جميعاً، فان قلت جاء قيد الكثرة للربيين بقرينة قتال شطر من الأنبياء , ولم يقاتل كل الأنبياء , والجواب يتجلى عموم الكثرة في المقام من جهات :
الأولى : وحدة الموضوع في تنقيح المناط , لإتحاد سنخية النبوة .
الثانية : مصاحبة فضل الله لكل بعثة نبي لتترشح البركة بكثرة الأنصار والأتباع , وهو من مصاديق فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثالثة : إذا كان النبي الذي يقاتل الكفار يكون معه أصحاب كثيرون ويتحملون الأذى والأضرار والجراحات بصبر ورضا , فمن باب الأولوية القطعية أن النبي الذي لم يقاتل يكون معه أصحاب كثيرون , لتجلي المعجزة والسعة في سبل الإيمان.
الرابعة : موضوعية معجزة كل نبي في جذب الأنصار والأعوان لأنها دليل على صق نبوته، وهو من أسرار إتصاف معجزات الأنبياء السابقين بانها حسية، لتكون ظاهرة للحواس فيبادر الناس إلى التصديق بالنبي ونصرته.
وهل تختص هذه الرحمة بأهل زمانهم الجواب لا ، إذ تفضل الله عز وجل بآية السياق ليجعل هذه الرحمة متصلة إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق كون معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقلية بلحاظ المنافع المتجددة للآية القرآنية من جهات :
الأولى : وجود أمة مؤمنة بالتنزيل في كل زمان .
الثانية : تصديق المسلمين بمضامين الآية القرآنية .
الثالثة : عمل المسلمين بمضامين الآية القرآنية .
وجاءت آية البحث بصيغة الجملة الإنشائية والخطاب للمسلمين ومع التباين الزماني بين موضوعي الآيتين فان وجوه الإتصال والتداخل بينهما متعددة منها :
الأول : إتحاد سنخية الإيمان بين الربيين والمسلمين .
الثاني : السلامة العامة من الإرتداد ، وطاعة الذين كفروا .
الثالث : الدفاع عن النبوة والتنزيل فكان المسلمون مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه ، ولقد جاءت قريش يوم أحد ، وقد بيتوا أمرهم بقتله ، وإقتربوا منه ورموه بالحجارة وكسروا أسنانه الأمامية ، ونادى مناد بينهم (قُتل محمد) بعد أن أشاع قتله ابن قمئة الليثي رجل من المشركين، إذ قتل مصعب بن عمير الذي كان يقاتل دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فظن أنه النبي.
وكان هذا النداء في ماهيته رحمة لأنه صار سبباً لكف أيدي الكفار ، أما المسلمون فقد علموا بان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي ولم يغادر وسط الميدان فرجع أكثرهم وإشتد القتال فانقلب كفار قريش خائبين ، ولا أصل للقول بأن المسلمين إنهزموا في معركة أحد مع الإقرار بأنهم قدموا سبعين شهيداً ، ولم يرجعوا بالأسرى والغنائم كما حصل في معركة بدر ، وكانت معركة أحد هدماً لصرح الكفر , وبعثاً لليأس والقنوط في نفوس الكفار ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
إن عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من معركة أحد نصر عظيم ، وفتح لما فيه من توالي نزول آيات القرآن وبيان الأحكام الشرعية ومسائل الحلال والحرام بالتنزيل والسنة النبوية، (عن سعد بن أبى وقاص قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بامرأة من بني دينار ،وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.
قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل] ( ) , أي هينة وصغيرة لأن الأهم سلامة النبي وبها حفظ للنبوة وتوالي التنزيل وإستدامة إمامة المسلمين.
المسألة الخامسة : لقد بينت آية السياق الإطلاق في ثواب الربيين من جهات :
الأولى : ثواب الدنيا , وهو على أقسام :
الأول : الثواب الذي يأتي للربيين وهم في حال القتال والمرابطة ، والمراد هنا ليس كفاية الحسنات إذ أن الملائكة يدونون هذه الحسنات مستبشرين ولكن المراد هو ما ينزل من الفضل الإلهي والنعم من الثواب المحسوس والظاهر والخفي والذي يتجلى في النفس والبدن والولد والجاه والنصر والغلبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
الثاني : الثواب الذي يأتي للربيين في حال السلم وإقامتهم في المدينة والقرية .
الثالث : الثواب الذي يأتي للربيين بالبركة في الرزق والنماء في المال .
الرابع : الثواب في حياة الدعة والسعة .
الخامس : بقاء الربيين في منازل الإيمان من الثواب .
السادس : صرف البلاء ومحو الضرر من الثواب الذي ذكرته آية السياق وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) ليكون من الثواب رمي الكفار بالضعف والوهن ، ومحو دولتهم وقلة أيامهم وإشغالهم بأنفسهم .
السابع : الثواب الذي يأتي للمسلمين ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم ورثة الربيين في سنن العبادة والجهاد ، فقد نصره الله والمسلمين ليستمر ثواب الربيين في الدنيا ، وتتضاعف حسناتهم حتى بعد وفاتهم ، وتتجدد هذه المضاعفة كل يوم وإلى يوم القيامة، ليشمل قوله [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] ( )وجوهاً :
الأول : ما يأتي للربيين مباشرة في أنفسهم وصلاح أموالهم وما يرد إليهم من الزراعة والتجارة .
الثاني : نزول الخير والنعم على أولاد الربيين وأزواجهم وذويهم ،إذ أنه نعمة مركبة لأنها تشمل الربيين، بالذات والواسطة.
الثالث : إصابة الكفار بالبلاء ، والعجز عن مواصلة القتال والهجوم كما تجلى في كفار قريش فقد قاتلوا في معركة بدر وحرضوا القبائل وقادوا الجيوش في معركة أحد إذ زحفوا في السنة الثالثة للهجرة بثلاثة آلاف رجل وبعدها بأقل من سنتين جاءوا بعشرة آلاف مقاتل تلك المعركة التي سماها الله عز وجل الأحزاب وجاءت سورة كاملة في القرآن بذات الإسم.
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ الأحزاب فيه إحدى عشرة مرة ، كلها بصيغة الذم للكافرين الذين حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والأمم التي إجتمعت على محاربة الأنبياء السابقين .
بينما ورد ذكر المؤمنين بصيغة المفرد ، قال تعالى [فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ] ( )، (عن سعد بن سعيد الجرجاني، عن بعض مشيخته قال : قال داود عليه السلام: إلهي، من حزبك وحول عرشك ؟.فأوحى الله سبحانه إليه : يا داود، الغاضّة أبصارهم، النقيّة قلوبهم، السليمة أكفّهم، أولئك حزبي وحول عرشي) ( ) والحديث ضعيف سنداً للإرسال وجهة الصدور، والقطع البائن والجلي فيه .
وتدعو الآية أعلاه المسلمين إلى عدم الفرقة وتمنع التشتيت وتدعوهم إلى طاعة الله ورسوله والعمل بأحكام الكتاب والسنة [وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : « أتى عبد الله بن سلام ورهط معه من أهل الكتاب نبي الله صلى الله عليه وسلم عند الظهر .
فقالوا : يا رسول الله ، إن بيوتنا قاصية لا نجد من يجالسنا ويخالطنا دون هذا المسجد ، وإن قومنا لما رأونا قد صدقنا الله ورسوله وتركنا دينهم أظهروا العداوة وأقسموا ان لا يخالطونا ولا يؤاكلونا ، فشق ذلك علينا ، فبيناهم يشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم [إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ]( )، ونودي بالصلاة صلاة الظهر.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أعطاك أحد شيئاً؟ قال : نعم . قال : من؟ قال : ذاك الرجل القائم . قال : على أي حال أعطاكه؟ قال : وهو راكع . قال : وذلك علي بن أبي طالب ، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وهو يقول { ومن يتولَّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }( ) ( ).
وتبين آية البحث إتحاد المسلمين في حزب واحد من جهات :
الأولى : إبتدأت الآية بالخطاب التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذي ينحل بعدد المسلمين والمسلمات ، وتقدير الآية بصيغة المفرد على قسمين :
الأول : يا أيها الذي آمن .
الثاني : يا أيتها التي آمنت .
الثانية : بيان صبغة الإتحاد وهو الإيمان وبلغة الإطلاق (يا أيها الذين آمنوا) فجاءت واو الجماعة في الآية أعلاه حرفاً واحداً ليكون المراد منه المليارات من المسلمين وكلهم يتلقى هذا الحرف النازل من عند الله بالإستجابة والبهجة والرضا والعمل بمضامينه القدسية وهو من مصاديق كون القرآن معجزة عقلية من وجوه:
الأول : نزول الحرف الواحد من السماء متوجهاً إلى اللامتناهي من المسلمين والمسلمات.
الثاني : تضمن هذا الحرف وموضوعه التكليف العبادي المتجدد كل عام.
الثالث : تلقي المسلمين النداء التشريفي بالشكر لله عز وجل .
الرابع : إختصاص المسلمين بواو الذين آمنوا وإلى يوم القيامة.
الخامس : إكرام المسلمين والشهادة لهم بالإيمان.
السادس : دلالة هذه الواو على إتحاد المسلمين وأنهم أمة واحدة هو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن مصاديق الخروج بلحاظ هذه الواو أنهم يدعون الناس جميعاً للإيمان والحصانة من طاعة الذين كفروا، فليس بين أي إنسان وبين الفوز بتلقي ذات النداء التشريفي إلا النطق بالشهادتين.
الثالثة : خطاب الإكرام من عند الله للمسلمين والشهادة لهم بالإيمان، ليكون القدر المتيقن من الإيمان هو التصديق بنبوة محمد والعمل بأحكام الفرائض، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، ومن الإعجاز في الآية أعلاه ورود فرض الصيام فيها من وجوه :
الأول : الصيغة الخبرية في الفرض (كتب) والسابق زماناً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من خصائص الربيين حفظ هذا الفرض بين الأجيال وتوارثه من جهات:
الأولى : تعاهد التنزيل والوحي الذي نزل على الأنبياء الذين صاحبهم الربيون.
الثانية : تمسك الربيين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بها، والتطلع إلى أيامها.
الثالثة : أداء الربيين الصيام، وهو من مصاديق قوله تعالى[كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، فتكرر ذات اللفظ(كتب) وبصيغة المبني للمجهول لبيان أن النسبة بين الربيين والمسلمين في أصل فرض وأداء الصيام هي التساوي , ووردت في مقدمة هذه الجزء إشارة إليه.
الرابعة : قتال الربيين من أجل أداء الصيام، ودعوة الناس لأدائه وهو من الغايات الحميدة في قتالهم الوارد بقوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ).
الثاني : التشابه وإتحاد التكليف مع الأمم الأخرى , ومنهم الربيون من أصحاب الأنبياء السابقين .
الثالث : ورود الآية بصيغة المبني للمجهول (كتب) لبيان أنه لا أحد يفرض الفرائض والعبادات إلا الله عز وجل ليكون من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ].
وقد ورد لفظ(كُتب) في القرآن ثلاث عشرة مرة كلها لله عز وجل وبيان عظيم سلطانه، كما ورد فيه لفظ كتبنا خمس مرات، قال تعالى[مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ]( ).
ويفسر القرآن بعضه بعضا، فكتبنا عليكم أي فرضنا عليكم، وتدل صيغة المبني للمجهول في الآية على أمور:
الأول : المسلمون أولوا ألباب، وهم يدركون التكليف ويعلمون الفرض وإن ورد بصيغة المبني للمجهول، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني : سلامة المسلمين من الغلو بالنبي أو الملائكة أو الأئمة، فلا تكليف ووجوب إلا من عند الله، نعم ورد قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، لبيان أن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع، والمختار أن السنة لا تنسخ القرآن، وقد تتضمن التوسعة والتضييق كما في قوله تعالى[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا]( )، فقد قيد القطع بالسنة بما ورد (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تقطع اليد بربع دينار ) ( ).
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال: إن أول حد أقيم في الإسلام لرجل أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرق فشهدوا عليه ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع ، فلما حف الرجل نظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنما سفى فيه الرماد .
فقالوا : يا رسول الله ، كأنه اشتد عليك قطع هذا! . . قال : وما يمنعني وأنتم أعون للشيطان على أخيكم! قالوا : فأرسله . قال : فهلا قبل أن تأتوني به ، إن الإمام إذا أتى بحد لم يسغ له أن يعطله( ).
المسألة السادسة :تبين آية السياق نعمة عظيمة تفضل الله عز وجل بها على الربيين من جهات :
الأولى : رزق الله الربيين ثواب الدنيا وإن لم يسألوه .
الثانية : تغشي ثواب الآخرة للربيين .
الثالثة : إتصاف ثواب الآخرة الذي رزق الله الربيين بأنه الأحسن من بين ثواب أهل الإيمان، ولا يدل على إختصاصهم به، إنما جاء بيان الحسن للدلالة على عظيم فضل الله على أهل الجنان.
وإبتدأت هذه الآية بالنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ليكون من مصاديقه أمور :
الأول : حث المسلمين والمسلمات على بلوغ مرتبة الربيين، والفوز بالثناء والثواب الذي جاءهم بآية السياق ، فان قلت من خصال الربيين القتال مع نبي زمانهم، وليس المسلمون كلهم صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أنهم مقاتلون .
والجواب لقد تعددت الخصال التي ذكرتها هذه الآيات للربيين , وتتقوم بالصبر والتحمل في طاعة الله ، لذا ورد قوله تعالى قبل ثلاث آيات [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) .
وجاء نداء المسلمين بصيغة التشريف والشهادة لهم بالإيمان دعوة لهم للإقامة على الصبر والتحلي بآدابه في أداء العبادات الذي هو بالذات شاهد على عدم إطاعة الكفار وهو الذي ذكرته آية البحث لتدل بالدلالة التضمنية على أن الله عز وجل فضّل أجيال المسلمين بأن رضي منهم في مقام قتال الكفار التحلي بالإيمان وعدم إطاعتهم أو محاكاتهم لأن فيها الردة والخسران المبين .
وفيه شاهد على فضل الله عز وجل على المسلمين بأن الفعل المعدوم والمتعذر من أسباب الرفعة والثواب ليس برزخاً دون نيلهم لأجره ، إذ أن الآية لا تملي على المسلمين القتال للفوز بمرتبة الربيين بلحاظ أنه واجب كفائي ، وأن شطراً من الأزمنة تمر على المسلمين ليس فيها قتال وتنقضي أيام وطبقات وأجيال منهم من دون خوض معركة فلا يحرمون من النعم التي فاز بها الربيون .
وهو من وجوه إكرام المسلمين والمسلمات وبيان أنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ، كما في الحكم بعتق رقبة وإنعدام هذا المصداق في هذه الأزمنة ، وحتى في أيام وجود الرق يسقط هذا الفرض عند عدم الإستطاعة لقاعدة الميسور ، وقاعدة نفي الحرج في الدين ، وقاعدة كل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر.
عن عكرمة : أن امرأة أخي عبادة بن الصامت جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وآله وسلم تشكو زوجها تظاهر عنها وامرأة تفلي رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو قال : تدهنه فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظره إلى السماء فقالت التي تفلي لامرأة أخي عبادة بن الصامت رضي الله عنه واسمها خولة بنت ثعلبة يا خولة ألا تسكتي فقد ترينه ينظر إلى السماء فأنزل الله فيها { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها }( ).
فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عتق رقبة فقال : لا أجد فعرض عليه صيام شهرين متتابعين فقال : لا أطيق إن لم آكل كل يوم ثلاث مرات شق بي فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأطعم ستين مسكيناً قال : لا أجد , فأُتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيء من تمر فقال له : خذ هذا فأقسمه فقال الرجل : ما بين لابتيها أفقر مني، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كله أنت وأهلك)( ).
المسألة السابعة : إبتدأت الآية السابقة بحرف العطف والإستئناف الفاء( )، لتتصل موضوعاً بالآية السابقة بنسبة الفعل وثوابه ، لبيان سعة رحمة الله ، وعظيم كرمه وفضله على المؤمنين من جهات :
الأولى : عدم تخلف الثواب عن العمل الصالح ، لذا قال تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا].
الثانية : الإجمال المبين في موضوع الثواب ، وبيانه بلحاظ أمور :
الأول : إنه جزاء حسن .
الثاني : مجئ الثواب والجزاء من عند الله , وهو الذي [يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
وهل الثواب الذي تذكره آية السياق من هذا الرزق , الجواب نعم , وهو من أبهى وجوه الرزق .
الثالث : العموم في الثواب الذي جاء للربيين من غير حصر ببعضهم وبالرؤساء منهم .
الرابع : البيان باضافة الثواب إلى الدنيا ، فلم تقل الآية فآتاهم الله ثوابهم في الدنيا أو ثوابهم الدنيوي ، وكل فرد منهما له معنى مختلف عن منطوق الآية , وهو من إعجاز القرآن بعصمة حروفه وكلماته على التبديل والتغيير.
فمعنى الأول أعلاه أن ثوابهم مجتمعاً يأتيهم في الدنيا أو أنه خاص بهم، ومعنى الثاني أن ثوابهم في الدنيا يتصف بكونه دنيوياً كالمال والجاه وطول العمر ، والتنعم بالطيبات , ولكن لفظ [ثَوَابَ الدُّنْيَا] أعم في موضوعه فيشمل أموراً :
الأول : تثبيت قلوب الربيين في مقامات الإيمان .
الثاني : مجئ الثواب للربيين بصيغة المقدمة لعمل الصالحات .
الثالث : من الثواب الإلهي للربيين اللطف بهم وتقريبهم إلى منازل التقوى واليقين [قيل لأبي الدرداء : إنه ليس أحد له بيت في الأنصار إلا قال شعراً ، فما لك لا تقول؟! قال : وأنا قلت فاستمعوه :
يريد المرءُ أن يُعـطى مُــــناهُ … ويـــــأبــى الله إلا مـــا أرادا
يقول المرءُ فائدتي وذخري … وتقوى الله أفضل ما استفادا( ).
الرابع : مجئ الثواب للربيين باصلاح أبنائهم لذات نهجهم وهو ما يبعث الضجر والسأم والخوف في قلوب الكافرين ، ويكون آية بصدق دعوة نبي الزمان وقتال الربيين معه ، وتلك حجة في خلافة الإنسان في الأرض وأسرار بعثة الأنبياء بأن ضياء الإيمان يتجدد في أيامهم وبعد مغادرتهم إلى الرفيق الأعلى ليكون شاهداً على صدق دعوتهم إلى الله، ودليلاً على أن معجزاتهم من عند الله عز وجل .
الخامس : من ثواب الدنيا الذي آتاه الله الربيين آية السياق ، وتلاوة المسلمين لها كل يوم وإلى يوم القيامة وتضمنها الثناء عليهم وإتخاذهم أسوة كريمة في نصرة النبوة والتنزيل، وفي قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
قال ابن عطية ( )، (فهذا عند العلماء في المعتقدات فقط ، وأما أحكام الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً}( ).
أما الشطر الثاني أعلاه بخصوص الأحكام فهو صحيح في الجملة ، وأما الأول فان الإقتداء لا يختص بالإعتقاد وليس من دأبنا تتبع كلمات الأعلام ، ولكن لأن ابن عطية نسب القول إلى العلماء وفيه إشارة إلى الإجماع عليه ، وهو لم يثبت وليس فيه نص للبيان ، فهذا الإقتداء على قسمين :
الأول : منطوق الآية أعلاه بخصوص الإقتداء بالأنبياء السابقين الذين تذكرهم الآيات السابقة لها (83-86 الأنعام ) .
الثاني : المعنى الأعم الذي تذكره الآية التالية لها والمعطوفة عليها بذات امر وموضوع الإقتداء بقوله تعالى [وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
وليس كل هؤلاء الآباء والذراري من الأنبياء، والضابطة الكلية في المقام هي الهداية من عند الله بقوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
وتتضمن الآية الجمع بينهما من جهة الإقتداء على قسمين :
الأول : إقتداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء السابقين من جهات :
الأولى : تبليغ الوحي والتنزيل .
الثانية : بيان نبوته وأنه رسول من عند الله، وورد في نوح عليه السلام بعد أن كذبه قومه ونعتوه بأنه في ضلال مبين [قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
الثالثة : الجهاد في سبيل الله .
الرابعة : الصبر على أذى الكفار وإقترانه بالإستمرار بالدعوة إلى الله عز وجل ، ومما يتصف به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يثنه أذى قريش عن دعوة الناس والقبائل إلى الإسلام .
الخامسة : إمامة الجيوش في الدفاع عن الإسلام ، وهل ينحصر إقتداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء السابقين أم يشمل الإقتداء بآبائهم وذراريهم من المؤمنين .
الجواب هو الثاني إذ يشمل الإقتداء هؤلاء المؤمنين ومنهم الربيون الذين ذكرتهم وسيرتهم الآيات الثلاثة السابقة , ومن الإعجاز في الآية أنها جاءت بصيغة التبعيض [وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ] ليخرج الذين لم يهتدوا من موضوع الإقتداء .
فان قلت القدر المتيقن من الربيين هم أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم , والجواب هذا صحيح ، ولا تعارض بين صحبة نبي الزمان وكون هؤلاء الصحابة من أبناء الأنبياء السابقين لنبي الزمان الذي قاتل معه طائفة كثيرة من الربيين وشطر منهم من آباء الأنبياء اللاحقين لنبي الزمان وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] بصيرورة أبناء الربيين أنبياء ومنهم من كانوا أخوة للأنبياء من ذات طبقة وجيل نبي الزمان الذي قاتل معه الربيون.
نعم الربيون وعددهم أعم من هذا الحصر بالصلة النسبية مع الأنبياء, ورحمة الله عز وجل بالناس وهدايتهم لسبل الرشاد والجهاد في سبيله أعم من أن تختص بنسب معين والقربى وإن كانت للأنبياء وذكرت الآيات أعلاه نوحاً ، وفي رواية أنه أبو البشر أي لابد وأن تلتقي الذراري في النسب المتحد.
الثاني : إقتداء المسلمين بلحاظ أن الآية تنزل خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن معناها أعم فيشمل المسلمين والمسلمات الإ مع الدليل على الحصر والتقييد وليس من حصر في المقام ، وتقدير الآية :[ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
وتتجلى في المقام الحاجة إلى قصص القرآن ،وإقتباس المسائل منها ، لذا جاءت آية الإقتداء أعلاه بالمعنى الأعم الشامل للأنبياء وذراريهم وأتباعهم ، قال تعالى [وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ] ( ).
ويحتمل الرزق الكريم بالثواب وجوهاً :
الأول : إنه من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة لجميع الربيين .
الثاني : إنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة كثرة وقلة .
الثالث : يأتي الثواب بكم وكيف وسنخية تفيد إنتفاع الربي منها الإنتفاع الأمثل والأحسن في أمور دينه ودنياه ، فيكون تارة من الوجه الأول أعلاه وأخرى من الثاني .
والصحيح هو الثالث ، وهو من مصاديق تسميتهم الربيين ليعطي الله سبحانه الذين نسبهم في تسميتهم إليه سبحانه أفضل ما يعطي العباد ، وفيه ترغيب للمسلمين بعطاء الربيين هذا .
ويمكن أن نؤسس قاعدة كلامية في المقام وهي إذا تبدل الموضوع تغير الثواب كما أو كيفاً ليبقى هو الأحسن والأفضل.
لذا إبتدأت آية البحث بالنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهو من مصاديق قوله تعالى في خطاب للمسلمين والمسلمات [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالثة( ) : إتصال الثواب والأجر الجميل للربيين في حياتهم الدنيا وفي الآخرة لبيان سر من أسرار خلافة الإنسان في الأرض، وقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )بأن المؤمنين يؤدون وظائف الخلافة بحسن السمت والعبادة والجهاد في سبيل الله ومحاربة النفس الشهوية والأمارة بالسوء .
المسألة الثامنة : أختتمت الآية السابقة بذكر الربيين من أصحاب الأنبياء وتضمنت بيان فضل الله عليهم في الدنيا والآخرة ، والمرتبة القطعية التي فازوا بها .
أما آية البحث فتضمنت الخطاب للمسلمين مع النهي عن فعل مذموم وهو طاعة الذين كفروا التي تجلب لأهلها الخزي في الدنيا والآخرة ، مما يدل على أن الله عز وجل أراد للمسلمين والمسلمات إغتنام الحياة الدنيا وإتخاذها مزرعة للآخرة بالأمن والسلامة من السموم التي ينفثها أهل الجحود والضلالة ، ليكون من أسرار تقديم آيات الربيين على آية نهي المسلمين عن طاعة الكافرين وجوه :
الأول : تفقه المسلمين في كيفية المعاملة مع الكفار .
الثاني : إنقطاع المسلمين إلى طاعة الله ، وفيها الفلاح والنجاح والأمن من الركون للذين كفروا.
وقد تقدم في تفسير الآية أعلاه( ) لحاظ إبتدائها بحرف العطف ( الواو ) وعطفها على الآية التي قبلها [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] ( )، ليتجلى قانون سلامة المسلمين من طاعة الكفار لإنتفاء موضوعها وبيان قبحها لأن المسلمين يتناجون في طاعة الله والرسول التي هي خير محض.
الثالث : بيان فضل الله بالتخفيف عن المسلمين بذكر القرآن لسبق أمم من أهل الإيمان لم يكتفوا بعدم طاعة الكافرين بل حاربوهم وناصبوهم العداء، ولم يهنوا ولم يضعفوا بسبب الأضرار التي لحقتهم من قتال الكفار، لتكون عصمة المسلمين عن طاعة الذين كفروا من باب الأولوية القطعية من جهتين:
الأولى : المسلمون[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، فلابد أنهم يتصفون بالتنزه عن الإنصات للكافرين.
الثانية : إقتباس المسلمين الدروس والمواعظ من سنن الأمم السالفة.
الرابع : بيان علة مرتبة المسلمين بين الأمم بحفظها لسنن التوحيد في الأرض فقد جاهد المؤمنون في الأجيال السابقة الكافرين، ولم يقضوا عليهم.
فجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليستمر جهاد الكفار حتى إزاحة مفاهيم الكفر من الأرض، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وجاء فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ليكون عيداً عبادياً، وأمارة على توجه الناس لعبادة الله، وتقيدهم بسنن التوحيد، وإجتثاث الكفر من الأرض.
الخامس : بلوغ المسلمين مراتب اليقين بتلمس الثواب العاجل والثقة بما عند الله.
وأخبرت الآية أعلاه بأنها سبب للرحمة .
وتتجلى بلحاظ آية البحث من وجوه :
الأول : من الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه عصمة المسلمين من طاعة الكفار .
الثاني : من الرحمة آية البحث لأنها تحذير سماوي من طاعة الكفار .
الثالث : إمتناع إجتماع الضدين ، طاعة الله والرسول من جهة وطاعة الذين كفروا من جهة أخرى , ومن مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الرابع : تجلي البينونة بين المسلمين والكفار في الإعتقاد والقول والفعل .
الخامس : من الرحمة في المقام ما يبتلى به الكفار من الفرقة والضعف والذل بما يجعلهم عاجزين عن حمل المسلمين على طاعتهم .
ويشمل الربيين عالم الآخرة، ومن خصائص هذا الثواب عدم الإنقطاع، الاستدامة ومصاحبة أهل الجنان ليدل قوله تعالى في آية السياق[وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] بالدلالة التضمنية والإلتزامية على أن الربيين يقيمون في الجنان .
ومن معاني الحسن في الآية عدم مغادرتهم لهذا المقام والنعيم الذي يتغشاهم فيه.
وهل تدل الآية على أن الجنة والنار مخلوقتان لورودها بصيغة الماضي(فاتاهم الله) الجواب لا، مع أن المختار والمشهور أنهما مخلوقتان الآن، لإحتمال إفادة الوعد الكريم في الآية، ويكون تقديرها على وجوه:
الأول : فآتاهم الله ثواب الدنيا.
الثاني : فآتاهم الله ثواب البرزخ بلحاظ ما سبق على نزول آية السياق.
الثالث : فيؤتيهم الله ثواب البرزخ للإشارة إلى القادم من الأيام وصيرورة قبر كل واحد منهم روضة وترعة زاهية ، عن أبي سعيد قال : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُصَلاَّهُ فَرَأَى نَاسًا كَأَنَّهُمْ يَكْتَشِرُونَ قَالَ « أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ إِلاَّ تَكَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ. فَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ مَرْحَبًا وَأَهْلاً أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَحَبَّ مَنْ يَمْشِى عَلَى ظَهْرِي إِليَّ , فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِليَّ فَسَتَرَى صَنِيعِي بِكَ. قَالَ فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ أَوِ الْكَافِرُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ لاَ مَرْحَبًا وَلاَ أَهْلاً أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِى عَلَى ظَهْرِى إِلَىَّ فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَىَّ فَسَتَرَى صَنِيعِى بِكَ. قَالَ فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَلْتَقِىَ عَلَيْهِ وَتَخْتَلِفَ أَضْلاَعُهُ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَصَابِعِهِ فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِى جَوْفِ بَعْضٍ قَالَ : وَيُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ سَبْعِينَ تِنِّينًا لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ فِى الأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا فَيَنْهَشْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ حَتَّى يُفْضَى بِهِ إِلَى الْحِسَابِ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ( ).
الرابع : فأتاهم الله ثواب الدنيا وسيؤتيهم ثواب الآخرة، ويكون الفارق بحسب هذا التقدير أن الآية وعد كريم ، بينما وردت بصيغة القطع وحصول الثواب وتنجزه خارجاً.
ولو دار الأمر في الإخبار القرآني في الثواب بين الوعد والتنجز، فالصحيح هو الثاني، ولا تصل النوبة في الآية إلى هذا الدوران لأصالة الظاهر، ومنطوق الآية الكريمة , وعطف ثواب الآخرة على ثواب الدنيا في التحقق والإتيان , ليكون على وجوه:
الأول : بيان مصداق لقوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وأنه ملك تصرف يتصف بالرحمة والكرم والسعة في رزق العباد.
الثاني : تنجز الثواب مدد حسي، يبعث المسلمين على الإجتهاد في الصالحات.
الثالث : غنى المسلمين عن الحاجة إلى الكفار، وإنعدام السبب لطاعتهم والإنصات لهم.
الرابع : بعث المسلمين لمحاكاة الربيين في خصالهم الحميدة للفوز بثواب الدنيا والآخرة، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : فاز الربيون بجهادهم وحسن سمتهم بثواب الدنيا والآخرة.
الصغرى : يشبه المسلمون الربيين بجهادهم وحسن سمتهم.
النتيجة : يفوز المسلمون بثواب الدنيا والآخرة.
المسألة التاسعة : أخبرت آية السياق عن الإطلاق في ثواب الربيين وتغشيه لأيامهم في الحياة الدنيا وتعاقب الأيام والليالي وحتى بعد مغادرتهم الدنيا ، لبيان الفضل الإلهي على الناس ، ودوامه وعدم إنقطاعه والبرهان بأن الموت أمر وجودي وليس عدمياً ، وأن الإنسان ينتقل به من عالم إلى آخر ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ] ( ).
ونزل القرآن بلغة إياك أعني وأسمعي يا جارة في دلالة على أن المقصود إخبار المسلمين عن إتصال ثوابهم في الدنيا والآخرة ، وجاءت آية البحث بشرط وهو وجوب عدم طاعتهم للذين كفروا وأنهم يستطيعون عصمة أنفسهم من هذه الطاعة , لأن الربيين من قبل عصموا أنفسهم منها وقاتلوا الكافرين وتحملوا سيوف الذين كفروا من غير أن يميلوا إليهم .
ليكون من الإعجاز في نظم القرآن وتعقب آية البحث لآيات الربيين وثوابهم بعث السكينة والطمأنينة في نفوس المسلمين بأنهم قادرون على الإمتناع عن طاعة الكافرين ، ودفع الأذى الذي يأتي منهم ويترشح عن تلاوة المسلمين لآية السياق التدبر في سعة وعظمة هذا الثواب فتكون هذه التلاوة نفسها واقية من طاعة المسلم للذين كفروا ، ومناسبة للمناجاة بين المسلمين للإحتراز عنها , وهو من إعجاز نظم القرآن وموضوعيته في إصلاح المسلمين للإمامة في الخيرات , ومن مصاديق قوله تعالى [وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
المسألة العاشرة : أخبرت آية البحث عن سوء فعل الكفار بالإضرار بالناس ومحاولة صد المسلمين عن سبل الهداية والرشاد، ويحتمل حال الكفار في أيام الربيين وجوهاً :
الأول : كان الكفار أشد غلظة وأذى وضرراً على المؤمنين.
الثاني : كان ضرر الكفار على الربيين أخف وطأة.
الثالث : كان الكفار بذات المرتبة من الأذى للمسلمين.
وتبين الآيات السابقة أن الكفار قاتلوا الأنبياء , وهو أشد ضروب الكفر فهم لم يكتفوا بالجحود بالنبوة أو قتال أصحاب الأنبياء بل قاتلوا ذات الأنبياء ومن المتسالم أن القتال سبب للقتل في أحد الطرفين أو فيهما معاً ، قال تعالى[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
ليكون هذا التشابه دعوة للمسلمين لبذل الوسع وأخذ العدة والحذر من القوم الكافرين لذا تفضل تعالى وخاطب المسلمين[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( )، ليكون من فضل الله عز وجل على المسلمين في كل زمان وجوه :
الأول : بيان القرآن لحال المؤمنين من الأمم السابقة، وما لاقوه من ظلم وجور الكفار.
الثاني : العناء والمشقة في تبليغ الأنبياء دعوتهم إلى الناس.
الثالث : جهاد الربيين وهو على وجوه:
الأول : الثبات على الإيمان، لأن الكفار يريدون إرتدادهم، وحملهم على ترك الإيمان، وهو الذي تدل عليه آية البحث، فصحيح أنها جاءت بخصوص المسلمين إلا أن موضوعها أعم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الثاني : بيان معجزات نبي الزمان، ودعوة الناس للتصديق بها، الأمر الذي يسبب النفرة والحنق عند الكفار، قال تعالى[وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( ).
الثالث : بشارة الربيين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من منافع هذه البشارة مسائل :
الأولى : ترغيب الناس بالتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : دعوة الناس للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته.
الثالثة : صد الناس عن إتباع الكفار حين إختيارهم قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الرابعة : حث أهل الكفار من اليهود والنصارى على إجتناب نصرة كفار قريش أو مدهم بالسلاح والرجال والمؤون وتجلت منافع البشارة بنبوته وتوارث الربيين لها في المقام بمصاديق كثيرة، منها إكرام النجاشي للمهاجرين المسلمين مع أن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا زالت في بداياتها.
أخرج عبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب حدثني ابن غنم . أنه لما خرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أدركهم عمرو بن العاص ، وعمارة بن أبي معيط ، فأرادوا عنتهم والبغي عليهم ، فقدموا على النجاشي وأخبروه أن هؤلاء الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة إنما يريدون أن يخبلوا عليك ملكك ، ويفسدوا عليك أرضك ، ويشتموا ربك . فأرسل إليهم النجاشي فلما أن أتوه قال : ألا تسمعون ما يقول صاحباكم هذان؟ لعمرو بن العاص ، وعمارة بن أبي معيط ، يزعمان أنما جئتم لتخبلوا عليَّ ملكي ، وتفسدوا علي أرضي . فقال عثمان بن مظعون ، وحمزة : إن شئتم فخلوا بين أحدنا وبين النجاشي فلنكلمه فانا أَحْدَثَكُمْ سناً ، فإن كان صواباً فالله يأتي به ، وإن كان أمراً غير ذلك قلتم رجل شاب لكم في ذلك عذر . فجمع النجاشي قسيسيه ورهبانه وتراجمته ، ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذي من عنده جئتم ما يقول لكم ، وما يأمركم به ، وما ينهاكم عنه . هل له كتاب يقرأه؟ قالوا : نعم . هذا الرجل يقرأ ما أنزل الله عليه ، وما قد سمع منه ، وهو يأمر بالمعروف ، ويأمر بحسن المجاورة ، ويأمر باليتيم ، ويأمر بأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه إله أخر . فقرأ عليه سورة الروم ، وسورة العنكبوت ، وأصحاب الكهف ، ومريم . فلما ان ذكر عيسى في القرآن أراد عمرو أن يغضبه عليهم فقال : والله إنهم ليشتمون عيسى ويسبونه .
قال النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى؟ قال : يقول ان عيسى عبدالله ، ورسوله ، وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم . فأخذ النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين ، فحلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم ما يزن ذلك القذى في يده من نفثة سواكه ، فابشروا ولا تخافوا فلا دهونة يعني بلسان الحبشة اليوم على حزب إبراهيم قال عمرو بن العاص : ما حزب إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤوا من عنده ومن اتبعهم .
فأنزلت ذلك اليوم خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } .
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن لكل نبي ولاة من النبيين ، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي ثم قرأ { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}( ).
ولم يكتف النجاشي باكرام المسلمين الذي إلتجأوا إلى مملكته، بل قام بارسال جماعة من خاصته إلى المدينة المنورة لإستقراء أسرار البعثة النبوية عن السديّ قال: بعث النجاشي إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، فبكوا. وكان منهم سبعة رهبانٍ وخمسة قسيسين أو: خمسة رهبان، وسبعة قسيسين فأنزل الله فيهم :”وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع”، إلى آخر الآية) ( ).
المسألة العاشرة : جاءت آية البحث بصيغة الشرطية ، ليكون من فوائدها تأديب المسلمين ، وإحترازهم من أسباب الإرتداد , ومن إعجاز ورود هذه الإنذار متعقباً لمسائل في الآيات السابقة وهي :
الأولى : بيان الخصال الجهادية الحميدة للربيين ، فاذا كان أصحاب الأنبياء السابقين يقاتلون مع أنبياء أزمنتهم ويذبون عنهم , فيجب أن يتصف المؤمنون حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذات الصفات الكريمة .
الثانية :كثرة الربيين مع كل نبي قاتل الكفار لقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ( ) وفيه شاهد بأن حرب الكفار على النبوة والتنزيل لم يمنع الناس من دخول الإسلام ، ولم يخيفهم الكفار ووعيدهم وأذاهم ، ليكون من باب الأولوية الثبات على الإيمان وعدم طاعة الكفار والإستماع لمغالطتهم وريبهم .
الثالثة : من الدلالات التي يبينها اللفظ [ ربيون ] هو صدق الإيمان والإنقطاع إلى طاعة الله ، مما يدل بالدلالة التضمنية على سلامتهم من إطاعة الكفار ، فان قلت ذكرت الآية أنهم قاتلوا مع أنبياء زمانهم الكفار وهو دليل على عدم إطاعتهم ، فلا تصل النوبة للإستدلال بنعتهم من عند الله بأنهم (ربيون).
والجواب إن قتال الكفار خير شاهد على عدم إطاعتهم ، ولكن لفظ الربيين أعم في موضوعه ودلالته أي حتى في حال المهادنة والسلم والصلح يكون أصحاب الأنبياء على ذات العداوة مع الكفار والإمتناع عن طاعتهم والخضوع لهم .
ويفيد الجمع بين آية البحث والآية السابقة أن الربيين غادروا الدنيا ولم يرتدوا عن دينهم ولم يضعف إيمانهم , والمسلمون ورثة الربيين ، وهذه الوراثة متصلة إلى يوم القيامة ، وهو من وجوه تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم من جهات :
الأول : تعاهد وراثة الإيمان .
الثاني : إستدامة وراثة المسلمين وإلى يوم القيامة ، ومنها وراثة بعضهم لبعض .
الثالث : إنقضت أيام مؤمني الأمم السابقة بانقضاء زمانهم ، وبقى ذكرهم بالقرآن وبركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاد المسلمين ، وهو من الأسرار في إتصاف معجزته بأنها عقلية وجامعة لمواثيق الأنبياء وجهاد الأولياء , وصفات أهل الإيمان والتقوى .
ومن خصائص القرآن ونعته بالمعجزة العقلية أنه لم يكتف بذكر الأنبياء والمؤمنين بل ذكر الكفار والظالمين والفاسقين مع البيان الذي يتضمن الثناء على المؤمنين والإخبار عن حسن عاقبتهم والذم للكافرين وذكر سوء عاقبتهم في النشأتين ، ويحتمل الحسن الوارد في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) بلحاظ المقام وجوهاً :
الأول : إختصاص الحسن بقصص الأنبياء والمؤمنين ومنها آية السياق وإخبارها عن ثواب الربيين .
الثاني : الإطلاق في الحسن ، وكل قصة قرآنية هي أحسن القصص وأن كانت تذكر نبأ فرعون وهامان مثلا .
الثالث : تختص أحسن القصص بالأنبياء بدليل أن الآية أعلاه وردت في سورة يوسف وهي السورة الوحيدة في القرآن التي تختص بقصة نبي ، والصحيح هو الثاني من جهات :
الأولى : كل قصة في القرآن وحي ونازلة من عند الله .
الثانية : قصص القرآن حقيقة وصدق ، وخالية من المبالغة ونحوها .
الثالثة : كل قصة في القرآن مدرسة في الموعظة والصلاح .
الرابعة : تبين قصص القرآن بديع صنع الله وعظيم قدرته ونصره للمؤمنين وخذلانه للكافرين .
الخامسة : من إعجاز القرآن أن قصص الظالمين لم ترد مستقلة بذاتها بل تأتي مقترنة بلغة الإنذار وإقامة الحجة عليهم في حياتهم كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
إذ تبين الآيات مجئ موسى عليه السلام كرسول من عند الله ومعه البراهين الساطعات إلى فرعون ليدخل وقومه الإسلام ، ولم يختص موسى عليه السلام بهذه البراهين بل جاء بها إلى أركان حكمه , وورد ذكر هامان كناية وإشارة إلى القادة والملأ من قوم فرعون بلحاظ أن هامان وزير فرعون ،أما قارون فلم يكن مع فرعون إنما هو من قوم موسى ومن أصحاب الأموال وكان يكيد لموسى عليه السلام ويغوي شطراً من العامة .
فحينما يذكر القرآن قصص الطغاة فانه يبين أموراً :
الأول : إقامة الحجة على الطغاة والظالمين جميعاً .
الثاني : مبالغة الظالمين في العتو والإصرار على الظلم ، وهل تدل آية البحث على هذه المبالغة ، الجواب نعم لدلالة قوله تعالى [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا]مما يدل على أن الكفار يبذلون الوسع لنكوص المسلمين أو إرتدادهم .
الثالث : إعلان الظالمين إصرارهم على الكفر بعد مجئ الآيات البينات وفي قوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] ( ) قال الإمام الباقر عليه السلام : الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والعصا ويده وكذا ورد عن ابن عباس ولكنه ذكر لسان موسى بدل الحجر ( ).
أي ما ورد في التنزيل [وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي] ( ) وقيل يسأل حلّ العقد كلها إنما أراد إزاحة العي كي يفقهوا ما يقول في دعوته إلى الله .
وفي رواية عن ابن عباس ذكر بدل اللسان والحجر آيتين :
الأولى : السنين في بواديهم ومواشيهم أي قلة الأمطار والجدب .
الثانية : نقص الثمرات في أمصارهم( ) أي للإتعاظ والإعتبار ، ولم يذكر الحجر جمعاً بينه وبين العصا بآية واحدة .
ولا تعارض بين هذه الأقوال بلحاظ أن كل آية من الآيات التسعة توليدية تتفرع عنها آيات ومعجزات أخرى .
الرابع : نزول العقاب الأليم بالكافرين والظالمين ، فحينما ترد قصتهم في القرآن تختتم بسوء عاقبتهم ليكونوا عبرة وموعظة ، وهو من إعجاز القرآن في بعث النفرة في النفوس من سيرة وفعل الظالمين ، فان قلت لم تبين كل من آية السياق والبحث سوء عاقبة الكفار ، الجواب بلى ، قد بينتاه بالمفهوم والدلالة أما آية السياق فمن جهات :
الأولى : قتال الربيين للكفار وفيه شاهد بسوء أيام الكفار ذاتها , وليس العاقبة وحدها .
الثانية : إخبار آية البحث عن ثواب الربيين بسبب قتالهم للكفار وعدم طاعتهم لهم ليدل بالدلالة الإلتزامية على لحوق الإثم والوزر بالكفار لقتالهم الربيين .
الثالثة : ثناء آية السياق على الربيين , ونعتهم بالمحسنين بلحاظ ذكر قتال الكفار للمؤمنين وإضرارهم بهم الذي يدل عليه قوله تعالى [ لما أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]لإفادة الإصابة بالجراحات في القتال تحت لواء النبي ضد الكافرين .
فان قلت قد يختصم ويتحارب المحسنون فيما بينهم , الجواب لم يتحاربوا بصفة الإيمان , قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] ( ) وفيه وجوه :
الأول : نزلت الآية أعلاه بخصوص أفراد من الأوس والخزرج ، والطائفة الجماعة الكثيرة ، وتصدق على الواحد لذا ذكر في الذين تقاتلوا إنما كانا رجلين عن مجاهد( ) وأحدهما من الأوس والآخر من الخزرج .
الثاني : كان قتالهم بالعصي وفي رواية [عن ابن عباس قال : كان قتالهم بالنعال والعصي فأمرهم أن يصلحوا بينهما ] ( ).
الثالث : بيان قرينة في الآية وهي نعتهم بالمؤمنين .
الرابع : حث عموم المسلمين على الإصلاح , ووقف القتال بينهم وجاء الأمر بالصلح من الواجب الكفائي المستديم بتوجه الخطاب لجميع المسلمين إلى أن يتم الصلح بينهم .
وأما بالنسبة لآية البحث فانها تدل على سوء عاقبة الكفار من وجوه :
الأول : صيغة الذم بالنعت [الَّذِينَ كَفَرُوا] .
الثاني : نهي المسلمين والمسلمات عن طاعة الذين كفروا مما يدل على أنهم لا يأمرون إلا بالمعصية والسوء .
الثالث : بيان عاقبة طاعة الكافرين وهي الإرتداد وسوء المنقلب لبعث النفرة في نفوس المسلمين من مفاهيم الكفر .
المسألة الحادية عشرة : أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]لتتضمن الوعد والثواب مجتمعين في آن واحد ، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، فقد يعد الملك من أهل الدنيا بجائزة أو منحة ثم يمنّ بها أو لا يفي بها كلاً أو جزءً , ولكن الله عز وجل يتفضل بالوعد والجزاء في الموضوع المتحد واستمرارها وتغشيها لأفراد الزمان الطولية الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل من غير تزاحم أو تعارض بينهما ، خلافاً للأصل الذي يتبادر إلى الذهن بأن الوعد يأتي أولاً ، ثم يأتي الجزاء ومعه ينقطع الوعد لتحقق مصداقه إلا أن يستحدث وعد جديد ، ولكن الفضل الإلهي أعم ، ويكون على وجوه :
الأول : وعد سابق .
الثاني : جزاء حال على ذات الوعد .
الثالث : وعد لاحق .
الرابع : جزاء مصاحب للوعد اللاحق .
الخامس : جزاء مستحدث على الوعد اللاحق .
السادس : إنقطاع حياة الإنسان بالموت وإستدامة الوعد والجزاء معاً ، وهو الذي يتجلى في آية السياق بقوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا]،فان ثواب الآخرة لم يحن زمانه بخصوص يوم القيامة والخلود في النعيم ليبقى ذكر الربيين عند الأجيال المتعاقبة من المؤمنين والناس جميعاً مقترناً بالوعد والجزاء معاَ .
ويصدق على آية السياق أنها [آية الثواب] وكل كلمة منها روضة من رياض النعيم وباعث للسكينة والبهجة في النفوس ، وتدل في مفهومها على حرمان الكفار من النعيم في الدنيا والآخرة ، وفيه زجر لهم عن الكفر وعن دعوة المسلمين للإرتداد .
ومن الإعجاز في آية البحث تأكيد صدور ثواب الربيين من عند الله وهو من مصاديق نسبتهم إلى نفسه بالاسم ( ربيون) ويحتمل أثر كثرة الربيين بمقدار ثواب الربيين وجوهاً :
الأول : لا موضوعية للكثرة في كم وكيف ثواب الربيين .
الثاني : كثرة الربيين سبب لزيادة وكثرة ثواب الربيين .
الثالث : كثرة الربيين سبب لقلة ثواب الفرد الواحد منهم وإصابته بالنقص .
والصحيح هو الثاني فكلما كثر عدد الربيين كان ثوابهم مجتمعين ومتفرقين أكثر وأعظم من جهات :
الأولى : إن الله سبحانه هو الشاكر العليم ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
الثاني : سعة خزائن الله وعدم إصابتها بالنقص بسبب كثرة الثواب .
الثالث : ذات كثرة الربيين مناسبة لكثرة الثواب ، لأن الكثرة حال ودعاء للمناجاة في فعل الصالحات والمبادرة إلى ساحات القتال دفاعاً عن النبي والتنزيل .
وتتجلى بركة الكثرة بكثرة أعداد المسلمين في كل زمان ومكان , وفي ثواب صلاة الجماعة[وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ( ).
المسألة الثانية عشرة : إقتباس المواعظ من آية البحث بلحاظ الجمع بينهما وبين آية السياق من وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا قد ذكرنا لكم قصة الربيين وعظيم ثوابهم فاجتهدوا في بلوغ ذات الثواب العظيم ، فان الله ذو الفضل العظيم الذي لا تنقص خزائنه .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إن ثوابكم مثل ثواب الربيين [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ] ( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا إن الثواب كله بيد الله ، وأن إيمانكم طريق للفوز به ، فاسعوا في السبل التي سار عليها الربيون وإتخذوا الصبر جلباباً .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد آمن بها قبلكم الربيون وتشوقوا إلى أيامها ، وقاتلوا مع الأنبياء أعداء الله الكفار لتهيئة مقدمات البعثة النبوية وتيسير إيمانكم فاشكروا الله عز وجل هذه النعمة وأحفظوا للربيين جهادهم هذا .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا إن ثواب الدنيا والآخرة بيد الله فطوبى لكم إختياركم الإيمان .
وهل تصح قراءة آية البحث بلحاظ آية السياق على جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا بأن ثواب الدنيا بيد الله آتاه الربيين .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا إن حسن ثواب الآخرة بيد الله يؤتيه من يشاء .
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا إن الله يحب المحسنين ) بلحاظ أن للايمان في الآية مصاديق متعددة كلها من ضروب الإحسان.
الرابعة : يا أيها الذين آمنوا إتخذوا الربيين أسوة كي تنالوا ذات الثواب الذي فازوا به ، وما ذكرهم الله في القرآن إلا رحمة بالمسلمين والناس جميعاً ، وهذا الذكر ومنافعه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فان قلت قد تجلت رحمة الله عز وجل بالمسلمين بهذه الآية فكيف تكون الرحمة للناس فيها ، الجواب من وجوه :
الأول : بقاء باب الدعوة إلى الإسلام مفتوحاً إلى يوم القيامة .
الثاني : إيمان وصبر المسلمين مرآة لجهاد الربيين ، وتذكير به .
الثالث : إزاحة البرزخ بين الناس وبين أخبار النبوة ومؤمني الأمم السابقة ، وهذه الإزاحة من الشواهد على أن القرآن معجزة عقلية لأنه يخاطب العقول ، ويقود الناس في سبل الهداية والصلاح ، ويدل قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) على إمكان معرفة الناس بالصراط المستقيم وأنه ليس خفياً عنهم لذا فهو يتجلى بآيات القرآن ،ومنها آية البحث ولزوم إجتناب طاعة الكفار ، قال تعالى[وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ] ( ).
الرابع : تخاطب آية السياق العقول ،وتدعو إلى التدبر في مضامينها ودلالة الدعاء بتثبيت الأقدام على وضوح وتجلي معجزة نبي الزمان عند أصحابه ، وهو من مصاديق كون القرآن معجزة عقلية من جهات :
الأولى : شهادة القرآن بصدق معجزات الأنبياء .
الثانية : لا ينحصر هذا التصديق بالإخبار القرآني عنها بل يبيّن أثرها في الواقع العقائدي والجهادي بما يدل على صدقها وهو من البرهان الإني بان يكون الحد الأوسط معلولاً للأكبر في تجليه في الأصغر ، والإستدلال من المعلول على العلة .
الثالثة : عدم إنقطاع أثر معجزات الأنبياء ومنافعها وإلى يوم القيامة من جهات :
الأولى : بركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : تلاوة المسلمين لآيات القرآن وإتعاظهم من معجزات الأنبياء وإقتباسهم الدروس منها .
الثالثة : صيرورة المعجزات الحسية للأنبياء السابقين إلى معجزات عقلية بالقرآن وآياته ومضامينه القدسية وبلاغته مع بقاء صبغتها الحسية ، وهذا التحول من مصاديق الحسن , واسم التفضيل في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ).
فما دام الربيون يتضرعون إلى الله بثبات أقدامهم وهم يعلمون الضرر الذي يصاحبه وحتمية القتال والمرابطة فانه يدل على إيمانهم بمعجزة نبي زمانهم الحسية ، وعدد الأنبياء الذين ذكروا في القرآن خمسة وعشرون نبياَ ومنهم من لم تذكر معجزته بالنص ولكنها مستقرأة من الكتاب والسنة ، بينما أخبرت هذه الآيات بأن عدد الأنبياء الذين قاتلوا الكفار ليس قليلاً ، وكل واحد منهم معه [رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ( ) وهؤلاء قاتلوا وجاهدوا وصبروا وتحملوا الأذى في نصرة نبي الزمان فلابد أن معجزته زرعت اليقين في نفوسهم ، فان قلت هل من دليل على أن المعجزة هي العلة التامة لقتال الربيين خاصة وأن الكفار يقاتلون بالطرف الثاني وليس من معجزة بل هم يحاربون المعجزة .
وإذا كانت المعجزة تفيد القطع واليقين بصدق النبوة لما حارب الكفار لا أقل إعتزلوا القوم ،والجواب إنه إشكال واقعي وإن لم نجد من أشار إليه وأقحم نفسه في موضوعه ولكنه شبهة بدوية تزول بأدنى تأمل من وجوه :
الأول :دلالة التنزيل والسنة النبوية ببيان علة قتال كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام إذ أنهم أيقنوا بالمعجزة ولكنهم قاتلوا إستكباراً وعناداً وحباً للجاه والشأن الذي توارثوه ، قال تعالى [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا] ( ).
الثاني: إذا حققت في الوقائع التأريخية لوجدت أن جيوش الكفار أكثرهم من التابعين لهم والأعوان الذين ينقادون لأوامر الطغاة قهراً وجهالة وإستدامة في طاعتهم وطلباً للمؤونة لذا ترى الجيوش التي حاربت الأنبياء تنهزم في الغالب عند قتل قائدها بينما جاءت آية البحث بالنهي عن الإنقلاب والإرتداد سواء في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو بعدها ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
وفي قوله تعالى[أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ] ( ) .
وقال وهب بن منبه وغيره: كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا خلقًا كثيرا وأخذوا منهم بلادًا كثيرة .
ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان وكان ذلك موروثًا لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام , فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم ،ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل ،وانقطعت النبوة من أسباطهم، ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها ،وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلامًا يكون نبيًّا لهم .
ولم تزل تلك المرأة تدعو الله عز وجل أن يرزقها غلامًا فسمع الله لها ووهبها غلامًا، فسمته شمويل: أي: سمع الله. ومنهم من يقول: شمعون وهو بمعناه فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم وأنبته الله نباتًا حسنًا .
فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا يقاتلون معه أعداءهم وكان الملك أيضًا قد باد فيهم .
فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكًا ألا تفوا بما التزمتم من القتال معه { قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا }( ) أي: وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد؟ قال الله تعالى: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } أي: ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم] ( ).
وكان طالوت قائداً لجيش بني إسرائيل ضد الجبابرة ، ولم يكن نبياً فجاءه داود ، وقال له ماذا لي وأقتل جالوت أي سأل على وجه الجعالة ، كما في قصة يوسف ورد الصواع إذ ورد في التنزيل [وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ] ( ).
وكان طالوت يدرك أن قتل جالوت يعني هزيمة الكفار مع كثرتهم وشدة بأسهم ، فقال لداود [لك ثلث ملكي وأنكحك ابنتي] ( ) ولم يهجم داود على جالوت بالسيف وأنى يصل إليه والجيوش والأعوان تحيط به , وهو مدجج بالسلاح ولابس دروع ولأمة الحرب , ولم يبدو منه إلا عيناه .
(وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : عبر يومئذ النهر مع طالوت أبو داود فيمن عبر مع ثلاثة عشر ابناً له وكان داود أصغر بنيه ، وأنه أتاه ذات يوم فقال : يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئاً إلا صرعته ، قال : أبشر فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك ، ثم أتاه يوماً آخر فقال : يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسداً رابضاً فركبت عليه وأخذت بأذنيه فلم يهجني . فقال : أبشر يا بني فإن هذا خير يعطيكه الله ، ثم أتاه يوماً آخر فقال : يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح ، فما يبقى جبل إلا سبح معي . قال : أبشر يا بني فإن هذا خير أعطاكه الله ، وكان داود راعياً.
وكان أبوه خلفه يأتي إليه وإلى إخوته بالطعام فأتى النبي بقرن فيه دهن وبثوب من حديد ، فبعث به إلى طالوت فقال : إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن ( )على رأسه فيغلي حين يدهن منه ولا يسيل على وجهه يكون على رأسه كهيئة الاكليل ، ويدخل في هذا الثوب فيملأه.
فدعا طالوت بني إسرائيل فجربه فلم يوافقه منهم أحد ، فلما فرغوا قال طالوت لأبي داود : هل بقي لك ولد لم يشهدنا؟ قال : نعم ، بقي ابني داود وهو يأتينا بطعامنا ، فلما أتاه داود مرّ في الطريق بثلاثة أحجار ، فكلمنه وقلن له : يا داود خذنا تقتل بنا جالوت ، فأخذهن فجعلهن في مخلاته .
وقد كان طالوت قال : من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في ملكي ، فلما جاء داود وضعوا القرن على رأسه فغلى حتى ادهن منه ، ولبس الثوب فملأه ، وكان رجلاً مسقاماً مصفاراً ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه ، فلما لبسه داود تضايق عليه الثوب حتى تنقص ، ثم مشى إلى جالوت وكان جالوت من أجسم الناس وأشدهم ، فلما نظر إلى داود قذف في قلبه الرعب منه ، وقال له : يا فتى ، ارجع فإني أرحمك ان أقتلك . فقال داود : لا بل أنا أقتلك .
وأخرج الحجارة فوضعها في القذافة ، كلما رفع حجراً سماه فقال : هذا باسم أبي إبراهيم ، والثاني باسم أبي إسحق ، والثالث باسم أبي إسرائيل ، ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجراً واحداً ، ثم أرسله فصك به بين عيني جالوت فثقبت رأسه فقتله ، ثم لم تزل تقتل كل إنسان تصيبه تنفذ منه حتى لم يكن بحيالها أحد ، فهزموهم عند ذلك ، وقتل داود جالوت ورجع طالوت فأنكح داود ابنته ، وأجرى خاتمه في ملكه ، فمال الناس إلى داود وأحبوه) ( ).
وحينما ضرب داود عليه السلام جالوت قائد جيش الجبابرة صرخ فأدرك أركان حربه وعامة جيشه أنها صرخة الموت فإنهزموا وفروا من ساحة المعركة ، ويظهر الخبر أن هزيمتهم كانت قبل أن يحتز داود عليه السلام رأسه إذ ورد عن وهب بن منبه في الخبر (فصرخ جالوت وانهزم من معه واحتز رأسه)( ).
لتكون لهذا الرأس قصة طريفة في إظهار الحق وتأكيد أن داود هو الذي قتله لينال ما وعده طالوت من الجعل في مشاطرة ملكه والزواج من إبنته خاصة وأن طالوت رجل من عامة الناس إنما بلغ مرتبة الملك بأمر من نبي زمانه ، وكانت إستدامة هذا الملك برمية داود والمدد من عند الله عز وجل له .
وهل تكون رمية داود في قتله لجالوت من مصاديق تفضل الله بالرمي كما في قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) بلحاظ أن هذه الآية خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب هو الأول ، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ولسعة فضل الله ، ولأن قتل داود لجالوت مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الأمور بخواتيمها ، وقد حارب الكفار النبوة في كل زمان وسيروا الجيوش وتجرأوا حتى قتلوا عدداً من الأنبياء ، ولكن [َالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) فسرعان ما تزول معالم الكفر عن الأرض ويهزم الكافرون ، ويصبحوا موعظة للأجيال .
وفي البعثة النبوية الشريفة خير مثال ، فقد زحفت قريش في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة بألف من المقاتلين فتعرضوا لهزيمة منكرة ، وجاء القرآن بتوثيق الواقعة بخمس كلمات [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : تأكيد وقوع معركة بدر وإلى يوم القيامة ، فلا يتجرأ أهل الشك والريب في موضوعها .
الثانية : الإخبار عن تحقق نصر المسلمين يوم بدر وسد الذرائع بوجه الذي يحاول تأويل بعض الحوادث العرضية على فرض وجودها ، أو أن يدعي بأنها لم تنته بالنصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ويدل تحقق النصر لعموم المسلمين [نَصَرَكُمْ]على أصالة العموم في النصر وتمامه بحيث نال وينال كل المسلمين من فيوضاته .
الثالثة : نسبة النصر إلى الله عز وجل وإن لم يتم بسعي من المسلمين على نحو العلة التامة ، بل جاء بمدد من عند الله بنزول الملائكة لتكون وظيفتهم على وجوه :
الأول : البشارة بالنصر لقوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ] ( ).
الثاني : بعث السكينة في نفوس المسلمين لقلة عددهم وعدتهم أزاء الكفار وكثرتهم وخيلهم ومؤنهم .
الثالث : القتال مع المسلمين وأختلف فيه على أقوال :
أولاً : لم يقاتل الملائكة إلا يوم بدر ، عن ابن عباس ( ).
ثانياً : قاتل الملائكة في كل مرة نزلوا فيها كما في معركة بدر وأحد وحنين .
ثالثاً : إنحصار وظيفة الملائكة بزيادة عدد المسلمين والمدد .
والمختار أن الملائكة قاتلوا بأمر من عند الله ، وإحتج الذي قال بعدم اشتراكهم بالقتال بأن ملكاً واحداً يهلك جميع المشركين كما أهلك جبرئيل قوم لوط ، ولكن الملائكة يتصورون بهيئات حسنة متعددة ومتباينة بحسب الحال ، فشاء الله عز وجل أن ينزلوا على هيئة البشر مع قدراتهم الفائقة التي لا يظهرون منها إلا بحسب الإذن الإلهي الذي قيدته الآية القرآنية [يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ]هذا اللفظ الذي تكرر في آيتين متتاليتين( ) بعد آية [بِبَدْرٍ] مرة بلفظ (يمدكم ) وأخرى (يمدوكم) لبيان توالي نزول الملائكة وفورية حضورهم في ميدان المعركة وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
ومن الغايات الحميدة في نسبة النصر في معركة بدر لله عز وجل المنع من الغلو بالملائكة أو الأنبياء , خاصة وأن هذه النسبة حق وصدق ، بالإضافة إلى تعدد أسباب النصر وإشتراك أهل البيت والصحابة بسيوفهم فيه ، ومجئ المدد من عند الله يومئذ بما هو أعم من نصرة الملائكة ، قال تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ).
وعموم المدد هذا من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ورد الله عز وجل على الملائكة حين إحتجوا على خلافته بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) أي أن الله عز وجل يعلم بأنه يمد رسوله الكريم والمؤمنين بالملائكة وبفضل منه سبحانه لينزل العذاب بالكفار من وجوه :
الأول : بطش الله بالكفار قبل وإثناء وبعد المعركة ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )فتصاحبهم الخيبة والخزي والإرباك بعد إنتهاء المعركة .
الثاني : تخويف وقتل الملائكة للكفار وجعلهم يصابون بالذعر والفزع .
الثالث : مطاردة وقتل المسلمين للكفار في ميدان المعركة .
الخامسة( ) : يا أيها الذين آمنوا إن الربيين لم يطيعوا الذين كفروا فآتاهم الله ثواب الدنيا والآخرة )، وكذلك أنتم إن صبرتم في منازل التقوى وأعرضتم عن الكافرين تنالوا الثواب العظيم في الدنيا والآخرة .
ليفيد الجمع بين الآيتين البشارة بالثواب للمسلمين والمسلمات .
السادسة : يا أيها الذين آمنوا لقد قاتل الربيون الكفار ،وخفف الله عنكم ونهاكم عن طاعة الذين كفروا لتفوزوا بثواب الربيين فان قلت قد قاتل المسلمون مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتائبه وخرجوا في السرايا بأمر من عنده سبحانه .
والجواب بين قتال الكفار وطاعتهم عموم وخصوص مطلق ، فعدم الطاعة هو الأعم.
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إستدامة أحكامها إلى يوم الدين وتغشيها لأمور الدين والدنيا .
ومن أسرار خلافة الإنسان في الأرض وقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في الإحتجاج على الملائكة والرد على إستفهامهم عن هذه الخلافة أن أكثر أيام الدنيا تكون حال سلم وإقامة ومهادنة وصلح وأقلها أيام القتال مع نفرة النفوس منه ، وهذه النفرة سبب لإنحساره ونقص أيامه وميل الناس إلى إطفاء نار الفتنة ، لذا قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) .
ليخرج المسلمون بالتخصص من عمومات هذه النفرة إذا كان القتال في سبيل الله ويدل على هذا القيد قوله تعالى في الآية أعلاه [كُتِبَ عَلَيْكُمْ]
وورد لفظ [كُتِبَ] بصيغة المبني للمجهول ثلاث عشرة مرة في القرآن كلها عائدة إلى الله وأنه هو الذي فرض الحكم ،إلا آية واحدة بقوله تعالى [وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ] ( )أي من المهر لبيان التشديد فيه وأنه تشريع من عند الله عز وجل ، ويمكن إستقراء قانون في المقام وهو إقتران التخفيف بكل ما كتب الله عز وجل على الناس وصحيح أن كتب بمعنى فرض إلا أنه يتضمن معنى التدوين وما فيه من معاني التخفيف .
ويتعدى كتب في التكاليف والواجبات بحرف الجر (على ) كما في الآية أعلاه , وفيه من جهة المعنى وجوه :
الأول : الإستعلاء على مجرورها ، وهو الغالب لبيان الفرض والوجوب في الأحكام التي كتبها وفرضها الله على الناس .
الثاني : الظرفية .
الثالث : المجاورة كـ (عن ).
الرابع : المصاحبة كـ (مع ).
الخامس : تأتي على بمعنى اللام .
السادس : ترد بمعنى عند .
السابع : مرادفة (من ) .
الثامن : موافقة الباء .
ويكفي المسلمين في حال السلم والمهادنة عدم طاعة الكافرين ، وإن كان النهي عن طاعتهم خطاباً تكليفياً يتغشى أيام الحرب والقتال أيضاً ، وظاهر الآية أن الجيل من المسلمين الذي لا يلاقي القتال والحرب يكفيه لإحراز ثواب الربيين أمران :
الأول : الثبات على الإيمان لقوله تعالى في آية البحث [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]ومنه أداء الفرائض.
الثاني : إجتناب طاعة الكفار والإنصات لهم في أمور الإعتقاد , وأسباب الفتنة.
السابعة : يا أيها الذين آمنوا لقد غادر الربيون الدنيا متنزهين عن طاعة الذين كفروا فشكرهم الله عز وجل من وجوه :
الأول : إفراد الآيات الثلاثة السابقة لبيان خصالهم الحميدة .
الثاني : الشهادة للربيين بنصرة الأنبياء بأنفسهم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ] ( ).
الثالث : منح أصحاب الأنبياء مرتبة [الربيين ] وفيه مسائل :
الأولى : إنفراد الربيين بهذه المرتبة .
الثانية : مصاحبة هذه المرتبة لهم إلى يوم القيامة .
الثالثة : بيان خصائص هذه المرتبة وقد تقدم بيانه( ).
الرابعة : تلاوة المسلمين لآيات الربيين .
الخامسة : إقتداء المسلمين بالربيين .
السادسة : بعث الفزع والخوف في قلوب كفار قريش ونحوهم من ذكر الربيين في القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) والشواهد على أن القرآن معجزة عقلية بلحاظ صيرورة المجاهدين من الأمم السابقة عوناً للمسلمين في قتالهم ، وهل هو من أفراد المدد في قوله [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )الجواب لا ، من وجوه :
الأول : بيان صفات المدد في الآية أعلاه بأنه من الملائكة .
الثاني : دعوة المسلمين للشكر لله على هذه النعمة العظيمة .
الثالث : تجلي مصداق لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابع : الإخبار عن تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين وتفضيل المسلمين على مؤمني الأمم السالفة بتعدد المدد للمسلمين من جهات :
الأولى : المدد السماوي الخارق.
الثانية : المدد بحضور شخص خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان .
الثالثة : المدد العقائدي بآيات القرآن .
الرابعة : المدد بالأخوة الإيمانية ، وذكر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين أصحابه مرتين :
الأولى : المؤاخاة في مكة قبل الهجرة على الحق والمواساة .
الثانية : المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعد مقدمه إلى المدينة في دار أنس بن مالك( ) .
الخامسة : المدد بذكر القرآن لجهاد الربيين أمر إضافي فاز به المسلمون ، ليكون من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) الإنتفاع الأمثل من جهاد الأنبياء وأصحابهم ، وهل هذا الإنتفاع بسبب كون المسلمين الأمة الخاتمة لأهل التوحيد وأهل الشريعة الناسخة.
الجواب إنه أعم في موضوعه وأحكامه إذ أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بهذا التفضيل وليكون منه حفظهم لمواثيق الأنبياء وجهاد الربيين من الضياع ، وهذا الحفظ من الشواهد على أن المسلمين هم جند الله عز وجل ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الثامنة : يا أيها الذين آمنوا لا يقدر على منح ثواب الدنيا وثواب الآخرة مع الحب للمحسنين إلا الله عز وجل ، وقد رزق هذه النعمة مجتمعة للربيين ، فاجتهدوا بالفوز بها بالثبات في مقامات الإيمان.
وبالإسناد عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . قلت : يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب.
قال : نعم . ما من خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله ، فإن شاء الله أقامه ، وإن شاء أزاغه .
فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.
قلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي . قال : بلى . قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني)( ).
التاسعة : يا أيها الذين آمنوا لا يفتنكم الذين كفروا فيحرموكم من الثواب العظيم الذي فاز به الربيون ، وذكرته الآيات الثلاثة السابقة، وتحتمل النسبة بين الطاعة والإفتتان في المقام وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلقة وهي على قسمين :
أولاً : فتنة الكفار للمؤمنين أعم من طاعتهم .
ثانياً : الطاعة أعم من الفتنة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بين الإفتتان بالذين كفروا وطاعتهم ومادة للإفتراق بينهما .
الثالث : التساوي بين الفتنة وطاعة الذين كفروا .
الرابع : التباين بين الإفتتان بالذين كفروا وبين طاعتهم .
والصحيح هو الثاني أعلاه فابتدأت آية البحث بنداء الإكرام للمسلمين والشهادة لهم بالإيمان، وهو دليل على سلامتهم من الإفتتان بالكافرين ، وأختتمت بالنهي عن طاعتهم والإنقياد لأوامرهم وإتباع سلوكهم وخطواتهم في سبيل الضلالة ، وفي التنزيل [رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا] ( ).
ومن ضروب علة ثواب الربيين انهم لم يطيعوا الكافرين ، ويحتمل موضوع الثواب المذكور في آية البحث وجوهاً :
الأول : جاء الثواب للربيين لقتالهم الكفار .
الثاني : خصوص الثواب الذي فاز به الربيون بسبب قتالهم مع الأنبياء وفي الذب عنهم .
الثالث : يأتي الثواب على ذات الإيمان والتصديق بالنبوآت .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكل فرد منها له ثواب عظيم من عند الله لذا يكون تقدير أول آية البحث هو : يا أيها الذين آمنوا لكم ثواب عظيم على الإيمان .
ليترتب ثواب إضافي على كل فعل عبادي يقوم به المسلم منفرداً أو المسلمون مجتمعين ، ومن أسرار هذا المعنى مجئ ثواب آخر على فعل الجماعة الخيرات غير الذي يأتيهم كأفراد ، لذا شرعت صلاة الجماعة ، ووردت نصوص عديدة بفضلها تبعث الشوق في النفوس على تعاهدها وتجعل المسلم يشعر بالغبطة حين أداء صلاته جماعة (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ خمسا وعشرين] ( ) ولم تذكر آيات الربيين الثلاثة عدم طاعتهم للكفار، وفيه وجوه :
الأول : لا يكتب للربيين أجر بخصوص عن هذا الموضوع إلا مع الدليل.
الثاني : يكتب للربيين أجر ما هو أعظم من عدم طاعة الكفار ألا وهو قتالهم .
الثالث : يكتب للربيين ثواب عدم طاعة الكفار ،ويكون في طول ثواب قتالهم الربيين وجزءّ منه .
الرابع : يكتب للربيين من أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم أجر عدم طاعة الكفار وإن لم يذكر موضوعه في هذه الآيات .
والصحيح هو الأخير من وجوه :
الأول : تحقق مصداق عدم طاعة الربيين للكفار .
الثاني : دلالة قتال الربيين الكفار على عدم طاعتهم أو الإنصات لهم من باب الأولوية القطعية .
الثالث : جاء الأنبياء بتحذير قومهم من الكفار والإنذار من إطاعتهم، وورد حكاية عن نبي الله صالح عليه السلام في التنزيل [وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ] ( ) والإسراف تجاوز الحد وهو على قسمين :
الأول : ما يكون في المال .
الثاني : ما يكون موضوعه أعم من المال .
كما يقسم من جهة الحكم التكليفي إلى قسمين :
الأول : المكروه كالإنفاق أكثر من اللازم والمتعارف .
الثاني : المحرم وهو الإفراط والتفريط وتجاوز الحد وإتلاف ما فيه نفع من غير حاجة أو غرض وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً وأشده الظلم والتعدي وضياع أيام العمر بالإقامة على الكفر , وقد ورد ذم فرعون في التنزيل [إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنْ الْمُسْرِفِينَ]( ).
ليكون الإسراف سور السالبة الكلية الذي يتصف به الكفار ، فجاءت آية البحث لسلامة المسلمين من الإسراف المحرم والمكروه.
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين يا أيها الذين آمنوا الله يحب المحسنين .
وبين المحسنين والمسلمين عموم وخصوص مطلق ، فالمحسنون أعم وأكثر لإنبساط هذا الوصف الجميل على المؤمنين في الأجيال المتعاقبة وأئمة الناس في رياضه هم الأنبياء , ويدل ورود هذا الوصف في آية السياق على أن الربيين من المحسنين ، لتكون خاتمة آية السياق شهادة وتزكية لهم ، ومن منافعه في المقام أمور :
الأول : الترغيب بنهج الربيين في الجهاد في سبيل الله والذب عن الأنبياء وحفظ الوحي وتعاهد الإيمان ليكون تركة لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بلحاظ أن أفضل الأمم تحافظ على الإيمان ليكون إرثاً كريماً للمسلمين .
الثاني : بيان الملازمة بين الإيمان والإحسان , ويمكن تقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا أنتم محسنون وتقديره وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : المؤمنون محسنون .
الصغرى : المسلمون مؤمنون .
النتيجة : المسلمون محسنون .
الثالث :من خصائص الإنسان الأنس والسكينة بعدم طاعة الذين كفروا ، وهو الذي تدل عليه آية البحث التي تريد للمسلمين تعاهد مرتبة الإنسانية وما فيها من سمو بلحاظ أنها عنوان الخلافة في الأرض .
الرابع : أنس الإنسان بالسلامة من إتباع إغواء الشيطان ونفرته من هذا العدو الذي يحاربه في إنسانيته وإيمانه ويحاول صده عن سبل الهداية قال تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( )
ويكون إحسان المسلمين بايمانهم على وجوه :
الأول : دخول الإسلام إحسان للذات ،والنطق بالشهادتين واقية للفكر ، لذا فان قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] حرز من طاعة الذين كفروا التي حذرت منها ذات آية البحث .
وهو من الشواهد على إجتماع الأمر مع إمتثال المسلمين له في آية واحدة [عن أبي سعيد قال : لمّا نزلت هذه الآية {وَجِاىءَ يومئذ بِجَهَنَّمَ} تغيّر لون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرق في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله فانطلق بعضهم إلى عليّ عليه السلام , فقالوا : يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء عليّ فاحتضنه من خلفه ثمّ قبَّل بين عاتقيه ثمّ قال : يا نبي الله بأبي أنت وأُمّي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيّرك؟
قال : جاء جبريل عليه السلام فأقرأني هذه الآية : {كلاّ إذا دُكّت الأرض دكاً دكّا وجاء ربّك والملك صفّاً صفّا وجيء يومئذ بجهنّم} قلت : فكيف يجاء بها؟
قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع،
ثمّ تعرض لي جهنّم فتقول : ما لي وما لك يا محمّد فقد حرّم الله لحمك ودمك عليّ،
فلا يبقى أحد إلاّ قال : نفسي نفسي وأنّ محمّداً يقول : أُمّتي أُمّتي،
فيقول الله سبحانه إلى الملائكة : ألا ترون الناس يقولون : ربِّ نفسي نفسي وأنّ محمّد يقول : أُمّتي أُمّتي)( ).
الثاني : إحسان المسلمين للربيين بخلود ذكرهم في التلاوة والذكر الحسن، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، من جهات :
الأولى : نزول هذه القصص من عند الله عز وجل .
الثانية : دوام قراءة المسلمين لهذه القصص .
الثالثة : قصد القرآنية في قراءة المسلمين لقصة الربيين .
الرابعة : ترتب الأجر والثواب على تلاوة المسلمين لقصص القرآن ومنها آيات الربيين .
الخامسة : كل قصة في القرآن موعظة متعددة , وفي المواضيع المتعددة .
السادسة : من علامات الحسن في قصص القرآن حضورها عند المسلم في عالم الأقوال والأفعال من وجوه :
الأول : إتخاذ القصة القرآنية حجة وبرهاناً .
الثاني : الإتعاظ بالقصة القرآنية .
الثالث : صيرورة القصة القرآنية ومضامينها إماما في إختيار السبيل الأفضل وهو من مصاديق [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) بتجلي سنخيته في القرآن .
الرابع : إقتباس سنن الصبر من قصص القرآن.
السابعة : ترتب الثواب للمسلم بخصوص القصة القرآنية من وجوه :
الأول : تصديق المسلم بقصص القرآن مجتمعه ومتفرقة وأنها من الوحي والتنزيل ، وهذا التصديق من عمومات قوله تعالى في أول آية البحث [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثاني :مجئ الثواب على قراءة كل كلمة من القرآن تخص قصص القرآن أو غيرها (عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له عشر حسنات : بالباء ، والتاء ، والثاء)( ).
الثالث : تعظيم شعائر الله بذكر قصص القرآن .
الرابع : المبادرة إلى الصالحات التي تذكرها القصة القرآنية ، وإجتناب السيئات التي تحذر منها .
الخامس : إكرام الأنبياء وأصحابهم الذين قاتلوا معهم , فمن الإعجاز في آية السياق أنها لم تقل (قاتل) من غير تقييد بالمعية، ولم تقل(قاتل بين يديه) أو (قاتل له) بل ذكرت الآية قتال أصحاب الأنبياء بعرض واحد مع ذات الأنبياء لبيان التساوي في مراتب الثواب في ساحات الوغى، وعند لمعان السيوف، وإلى الآن فان القادة العسكريين يدركون أن أخلاق ومزاج الجندي في المعركة يختلف عنه في حال السلم والتدريب فيلجأون إلى الثناء عليه ويخشون غضبه ويتجنبون توبيخه أو التعريض به أو عقابه أثناء إحتدام القتال .
وفي يوم أحد وعندما إشتد القتال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من يأخذ هذا السيف بحقه فقام إليه رجال فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة اخو بنى ساعدة فقال : وما حقه يا رسول الله .
قال : ان تضرب به في وجه العدو حتى ينحني , قال : أنا آخذه يا رسول الله بحقه فأعطاه إياه، وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب إذا كانت( )، ( فلما أخذ السيف اعتمَّ بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول :
أنا الذي عاهدني خليــلي ونحــن بالسفح لدى النخيل
ألاّ أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لمشية يبغضها الله إلاّ في هذا الموضع، ثم حمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم( ).
وفي رواية أنه أخذ عصابة حمراء، فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت) وأنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن السيف فقال: فما حقه، قال: لا تقتل به مسلماً ولا تفر به من كافر( ).
ليكون فيه درس لأمراء السرايا والقادة في كيفية بعث الهمم، وتشجيع الأفراد على القتال والتضحية، فلم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغض البصر عن تبختر أبي دجانة، بل أمضاه بالسنة التقريرية، وقيد موضوعه خصوص القتال وترّس أبو دجانة دون النبي يتلقي عنه السهام ببدنه، وتقع النبال في ظهره وهو لا يتحرك خشية أن تكون حركته سبباً لوصول النبال إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكثرت الجراحات في أبي دجانة ، ولكنه بقي حياً يوم أحد ، وإشترك في قتل مسيلمة الكذاب.
واستشهد يوم اليمامة، وعن أنس قال: رمى أبو دجانة بنفسه في الحديقة يومئذ فانكسرت رجله فقاتل حتى قتل. وقد قيل: إنه عاش حتى شهد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه صفين والله أعلم( ).
الثامنة : إتخاذ القصة القرآنية موضوعاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من مصاديق الإقتداء في قوله تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
الثالث : إحسان المسلمين بأيمانهم لذراريهم وأبنائهم ، وتلك نعمة عظمى أن ينتقل شخص أو جماعة إلى رياض الإسلام فتتصف الأجيال اللاحقة من ذراريهم بذات صبغة الإيمان ، ليكون من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت صرح خلافة الإنسان في الأرض بسنن التقوى ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
وهل يمكن تقدير آية البحث بما يفيد جلب المعصية في الإمتناع عن طاعة الكفار الضرر على الأبناء وهو : يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوا أبنائكم على أعقابهم الجواب لا ، إذ يأتي الإيمان عاماً يتصف بالتوارث الطوعي والإنطباقي والقهري فيه ،إما إرتكاب السيئة والضلالة على فرضه فهو خاص باصحابه ولا تنتقل العدوى فيه بالوراثة ، ولا أصل للمقولة العامية (الخير يخص والشر يعم )، بل العكس هو الصحيح ببركة القرآن ثم أن آية البحث إنحلالية ، فتتوجه للمكلف وابيه وإبنه وأمه وزوجته وإبنته بعرض واحد ،وتقديرها لكل واحد من المسلمين الذكور :
الأول : يا أيها الذي آمن إن تطع الذين كفروا …
الثاني : يا أيها الذي آمن إن تطع الذي كفر يردك على عقبك .
الثالث : يا أيها الذي آمن إن تطع التي كفرت تردك على عقبك .
الرابع : يا أيها الذي آمن إن تطع الذين نافقوا يردوك على عقبك .
الخامس : يا أيها الذي آمن إن تطع الذي نافق يردك على عقبك .
السادس : يا أيها الذي آمن إن تطع التي نافقت تردك على عقبك.
وتقدير الآية بالنسبة لكل مسلمة على وجوه :
الأول : يا أيتها التي آمنت إن تطيعي الذين كفروا يردك على عقبك .
الثاني : يا أيتها التي آمنت إن تطيعي الذي كفر يردك على عقبك .
الثالث: يا أيتها التي آمنت إن تطيعي التي كفرت تردك على عقبك .
الرابع : يا أيتها التي آمنت إن تطيعي الذين نافقوا يردوك على عقبيك .
الخامس : يا أيتها التي آمنت إن تطيعي الذي نافق يردك على عقبك .
السادس : يا أيتها التي آمنت إن تطيعي التي نافقت تردك على عقبيك .
وقد يرد إشكال بخصوص المنافقين وذم طاعتهم بالتقريب أعلاه من جهتين :
الأولى : القدر المتيقن من النهي الوارد في آية البحث خصوص طاعة الذين كفروا .
الثانية : إتصاف المنافقين باظهار الإيمان مع إخفاء الكفر مما يترجح معه أنهم لا يأمرون بالكفر خشية إفتضاح أمرهم .
أما الأولى أعلاه فان الكفار ذكروا للفرد الغالب والجلي والملاك هو الحيطة والحذر من طاعة الأمر بالسوء ، قال تعالى في ذم المنافقين [ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ] ( ).
(وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { يأمرون بالمنكر } قال : هو التكذيب . قال : وهو أنكر المنكر { وينهون عن المعروف } قال : شهادة أن لا إله إلا الله والإِقرار بما أنزل الله وهو أعظم المعروف ]( ).
ولكن الأمر بالمنكر أعم من التكذيب ، فقد يكون التكذيب أمراً ذاتياً أما الأمر بالمنكر ففيه أطراف وهي :
الأول : الأمر .
الثاني : الموضوع المأمور به.
الثالث :إتصاف المأمور به بالقبح الذاتي .
الرابع : الشخص المأمور نعم الأمر بالمنكر أعم من العمل به فقد لا يستجيب المأمور ، وجاءت آية البحث لهذا الغرض ، وللأمن طاعة الكفار والمنافقين لأنهم يأمرون بما فيه الجحود والمعصية .
وأما الثانية فان إظهار المنافقين للإيمان ليس أمراً دائماً ، فهم يتربصون بالمؤمنين الدوائر وينظرون ساعة ضيق وضراء لبث الفزع والخوف وأسباب الشك ومفاهيم الريب .
الرابع : إحسان المسلمين بأيمانهم إلى الكفار أنفسهم وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض وإحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )عندما إستفهموا عن علة خلافة الإنسان للأرض مع إتصافه بالفساد وسفك الدماء وتتجلى في الإحتجاج الإلهي في المقام مسائل:
الأولى : وجود أمة في عصمة من الفساد والقتل بغير حق وهم المسلمون وقد مدح الله عز وجل المؤمنين بقوله [وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ] ( ).
وجاء التنزه عن القتل في الآية مقدمة على إجتناب الزنا للتقييد في القتل وإستثناء القتل بالحق كالقصاص بقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى] ( )، والفساد الذي ذكرته الملائكة أعم من الزنا وبينهما عموم وخصوص مطلق .
الثانية : عدم إكتفاء المسلمين بالإمتناع عن الفساد وسفك الدماء بل إنهم يدعون الناس إلى الهدى والإيمان ، ومنهم الكفار لتكون الغاية من قتالهم على وجوه :
الأول : الدفاع عن النبوة والتنزيل .
الثاني : حفظ النفس والعرض والمال .
الثالث : دعوة الناس عموماً للإسلام، ويحتمل قتال المسلمين للكفار يتضمن دعوة غيرهم للإيمان وجوهاً :
الأول : إنه من الدعوة بالحكمة ومن مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الثاني : إنه من الدعوة بالسيف والقتال .
الثالث : إنه دعوة مستقلة قائمة بذاتها وبرزخ بين الوجهين أعلاه لأنها بواسطة الدفاع والسيف .
الرابع : إنها رشحة من الجهاد والدفاع وفرع منه بالإنطباق .
الخامس : هذه الدعوة من مصاديق آية البحث من جهات :
الأولى : النداء للمسلمين بصفة الإيمان ، وفيه دلالة بأن تحليهم بالإيمان دعوة صامتة وناطقة للناس لدخول الإسلام .
الثانية : إمتناع المسلمين عن طاعة الذين كفروا لما فيه من الموعظة والهداية للناس بلزوم محاكاة المسلمين .
الثالثة : بيان القرآن لسوء عاقبة طاعة الكافرين فهي خسارة وأضرار بالذات ، ومن خصائص الإنسان إجتناب الضرر والإجتهاد في دفعه عن نفسه.
الرابعة : بعث الآية الكريمة النفرة في نفوس الناس من الكافرين وطاعتهم في مسالك المعصية .
المسألة الثالثة : صدور المسلمين عن التنزيل وهو القرآن، والوحي الذي يتجلى بالسنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية وهو واقية من الفساد إلى يوم القيامة، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي]( ).
الرابعة : تحذير القرآن من طاعة المفسدين كما في آية البحث التي تضرب الحصار على الذين كفروا، وتمنع من إنتشار مفاهيم الكفر وتجعل الناس في حال يقظة وفطنة تكون واقية ذاتية من الإنقياد لهم ، وعن مكحول في قوله[إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا( ).
إن إجتناب الناس للكفار وإمتناعهم عن الإنصات للكفار أذى لهم، وسبب لإصابتهم بالوهن والضعف .
ومن إعجاز القرآن أنه كلام الله الذي أنزله بواسطة جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون كل حرف وكل كلمة منه خيراً محضاً وباباً مفتوحاً للثواب المتجدد .
ففي كل مرة يتلو فيها المسلم كلمات من القرآن يأتيه الثواب ، وهذا الثواب يتجدد ويتضاعف بنفسه بفضل من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ] ( ) .
وهل تختص مضاعفة الثواب بأيام المسلم في الدنيا.
الجواب لا ، إذ يموت المسلم وذات الثواب يتضاعف , ليبلغ القليل منه في ساعة الفعل الجبل في كبره وسعته يوم القيامة ، ومن خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) في المقام أمور :
الأول : تعاهد المسلمين آيات القرآن وحفظها من التبديل والتغيير ، ومن أسباب الفخر عند المسلمين حفظهم حتى لترتيب الآيات والسور ورسم الحروف والتلاوة وإتخاذ المرسوم في المصاحف هو الأصل في القراءة ، مع تعيين القراءة الشاذة وهي قراءة الآحاد ومخالفتها للرسم القرآني مع موافقتها للغة العربية في الجملة ، وأختلف في الإحتجاج بالقراءة الشاذة على أقوال متعددة .
الثاني : تلاوة المسلمين لآيات القرآن على نحو الوجوب العيني في الصلاة، وبقصد القرآنية لتكون صلة يومية دائمة وقوس صعود للأعمال العبادية وإعلاناً يومياً للإيمان .
الثالث : مجئ الثواب للمسلمين والمسلمات كل يوم بأداء الصلاة ، وهو من الشواهد على فضل الله بوجوب قراءة القرآن في الصلاة ليثاب المسلم والمسلمة كل يوم ولا يمر شطر من ليل أو نهار من غير تدوين حسنات في صحيفة أعماله مع مضاعفة هذه الحسنات ، ويحتمل هذا الثواب بالنسبة للصلاة وجوهاً :
الأول : ثواب المنفرد في صلاته أكثر من ثواب المأموم في الجماعة لقيام المنفرد بالتلاوة .
الثاني : ثواب كل فرد من الجماعة أكثر من المنفرد .
الثالث : صلاة إمام الجماعة أكثر من صلاة المنفرد دون المأمون .
الرابع : ثواب قراءة المنفرد عظيم .
والصحيح هو الثاني والرابع، [وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى]( ).
الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا ما كان قول الربيين إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا .
وهل يصح تقدير الجمع بين الآيتين : وما كان قولهم إلا أن قالوا يا أيها الذين آمنوا ، الجواب لا , إلا مع إرادة الحث على محاكاتهم في الدعاء لإخبار آية السياق بانقطاع الربيين إلى الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل بما هو أعم من دعائهم حفظ المسلمين الذين يصدقون ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ما كان قول الربيين إلا أن قالوا ربنا إغفر لنا إسرافنا في أمرنا .
ومن خصائص دعاء الربيين أمور :
اولاً : الدعاء باسم الرب وهو من أمهات الأسماء الحسنى .
ثانياً : بيان تسليم أصحاب الأنبياء بأن الله عز وجل رب العالمين، وفيه شاهد على أن الأنبياء لم يدعوا لأنفسهم ، إنما جاهدوا في سبيل الله لمنع الغلو ، وتكرر في القرآن قول الأنبياء لقومهم [اعْبُدُوا اللَّهَ] سبع عشرة مرة ، قال تعالى [وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ] ( ).
ثالثاً : إشتراك الربيين جميعاً في ذات الدعاء وموضوعه مما يدل على أن الدعاء الوارد في آية السياق من الوحي وميراث النبوة .
رابعاً : إدراك الربيين مجتمعين ومتفرقين أنه لا يقدر على غفران الذنوب إلا الله وأنه سبحانه يغفرها بالدعاء وباخلاص العبادة له .
ومن إعجاز نظم آيات القرآن ،أن آية قتال الربيين للكفار جاءت سابقة لآية الدعاء وهي آية السياق لبيان أنهم لم يتكلوا على عملهم وجهادهم وتفانيهم في مرضاة الله بل أدركوا الحاجة إلى الدعاء من جهات :
الأولى : من الذنوب ما لا تغفر إلا بالدعاء .
الثانية : من خصائص المؤمنين الدعاء .
الثالثة : إن كان الفعل الجهادي يجلب الثواب فان تعلق الذنوب بالعبد باب لنقصان الحسنات وقد لا ترجح كفتها في الميزان فتوجه الربيون إلى الدعاء .
الرابعة : الإمتثال لأمر الله بالدعاء الذي يحمل على الوجوب[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، لبيان أن الأوامر والواجبات رحمة بالناس.
الوجه الثالث : يا أيها الذين آمنوا ما كان قول الربيين إلا أن قالوا وثبت أقدامنا، وفيه مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين للدعاء بتثبيت الأقدام في مواطن القتال .
الثانية : تهيئة أذهان ومجتمعات المسلمين للقاء الكفار في ميادين الوغى ، لذا إستشار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه حين الخروج إلى معركة بدر وكانت آيات القرآن مدداً لتهديهم للخروج منها آية السياق، وهي من مصاديق الحسن والأفضلية في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) .
بلحاظ انها عون ومدد للذين آمنوا في دفاعهم عن النبوة وعن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام .
الثالثة : الثناء على المسلمين بأنهم إنتفعوا من دعاء الربيين الوارد في آية السياق وتوجهوا إلى الله عز وجل بسؤال ثبات الأقدام بتلاوة هذه الآية بفضل من عند الله فصحيح أنها تحكي دعاء الربيين إلا أن تلاوة المسلمين لها بقصد القرآنية تكون بفضل الله عز وجل دعاءً لهم في الدفاع والغزو، وزاد الله عز وجل على المسلمين من فضله في المقام من وجوه :
أولاً : تلاوة المسلمين آية السياق كل يوم ، فقد دعا الربيون الله ثبات الأقدام ولولا آية البحث لما علمت أجيال الناس المتعاقبة هذا الدعاء وموضوعه ، فحفظه الله عز وجل بالمسلمين والمسلمات وحفظه لهم وللناس بواسطتهم.
ثانياً : صيرورة تلاوة آية السياق من الحرب النفسية ضد الكفار، لما فيها من عزم المسلمين على عدم مغادرة مواضع القتال، وهو من مصاديق قوله تعالى بخصوص معركة أحد [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
وجاءت السنة النبوية يومئذ بياناً عملياً للآية القرآنية إذ أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بعدم مفارقة مواقعهم بأي حال من الأحوال( عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبدالله بن جبير، وقال: لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا.
فلما لقينا هربوا، حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة.
فقال عبد الله: عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا.فأبوا، فلما أبوا صرفت وجوههم( ).
ثالثا : أخبرت آية السياق عن رزق الله للربيين ثواب الدنيا، فهل يرزق الله المسلمين ثواب الدنيا على تلاوة هذه الآيات وإجتهادهم وبذلهم في سبيل الله.
الجواب نعم، وهو من أسرار مجئ آية البحث ونداء (يا أيها الذين آمنوا) بعد آية ثواب الربيين ليكون من وجوه تقدير آية البحث: يا أيها الذين آمنوا آتاكم الله ثواب الدنيا فان تطيعوا الذين كفروا يردوكم على اعقابكم).
وفيه ترغيب للمسلمين باللبث في مقامات الإيمان، والنفرة من الذين كفروا ومن مقدمات وأسباب طاعتهم.
ومع أن الجهاد ساقط عن النساء , فإن المؤمنات يبذلن الوسع في بابه من وجوه :
الأول : تلاوة المسلمات لآية السياق من مقامات الإيمان لشمولهن بخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]في آية البحث .
الثاني : من منافع آية السياق التفقه في الدين ومعرفة أحوال المؤمنين في الأمم السابقة .
الثالث : إتخاذ آية السياق عوناً في الصبر على الأذى الذي يأتي من الكفار وسقوط القتلى والجرحى من المؤمنين ، وحينما أرادت قريش وضع أهل بيت النبوة في حصار شعب أبي طالب لم يستثنوا النساء أو الأطفال لتكون لكل واحد منهم قصة في إمامة جهاد المسلمين وبيان المائز الذي يتصفون به عن الربيين , للبشارة برجاء ذات ثوابهم , قال تعالى[فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] ( ).
ويبين التشبيه في الآية أعلاه سمو مرتبة أهل البيت والمسلمين في تأريخ صبر طبقات المؤمنين , وهو من مصاديق فوزهم بمرتبة ( خير أمة ) ( ).
الرابع : إجتهاد المسلمات في الدعاء بمثل ما سأل الربيون الله عز وجل بتلاوة آية البحث ، وباختيار الدعاء بذات المضامين خارج الصلاة ، فتتلو المسلمة قوله تعالى [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( )في صلاتها وفي مخدعها فيستجيب الله عز وجل لها ، ويمد المرابطين بالصبر ويؤتيهم النصر والظفر .
وأخرج ابن أبي شيبه وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال : خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس ، فمر بنملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك ، فاما أن تسقينا ، وإما أن تهلكنا فقال سليمان للناس : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم ( ).
وفي هذا الخبر مسائل :
الأولى : إنه ضعيف من جهة الصدور إذ أن أبا صديق هذا لم يرفع الحديث.
وأبو صديق الناجي هو بكر بن عمرو، مات سنة ثمان ومائة، وروى عن أبي سعيد الخدري (قال ابن سعد: ويتكلمون في أحاديثه ويستنكرونها ( ).
ومع هذا فان تفضل الله عز وجل على الخلائق بدعاء نملة ونحوها من الحشرات والحيوانات، يجعل من باب الأولوية التطلع بفضل الله ونصره بدعاء المؤمنات.
الثانية : الدعاء وسؤال الله الغيث والمطر دليل على إقرار المسلمين بأن الله عز وجل هو[الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ).
الثالثة : في صلاة الإستسقاء أجر وثواب للمسلمين مجتمعين ومتفرقين.
الخامس : تعضيد المرابطين من الآباء والأزواج والأبناء ، وعدم حثهم على ترك مقاعدهم ، وهو من الإعجاز في وجوب قراءة القرآن في الصلاة على المسلم والمسلمة في الصلاة فيصح تقدير آية السياق في تلاوة المسلمة على وجوه :
أولاً : وثبت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين، أي بذات منطوق ورسم الآية بلحاظ مجئ صبر وجهاد المؤمنين نيابة عن عموم المسلمين والمسلمات وأن المراد من النصر هو نصر الإسلام، وهو كلي طبيعي يتغشى المسلمين والمسلمات جميعاً .
ثانياً : وثبت أقدام المرابطين وأنصرهم على القوم الكافرين .
ثالثاً : وثبت أقدام المرابطين لنعبدك حق عبادتك , وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ( ).
السادس : إرادة المسلمات قصد القرآنية في التلاوة من غير تقييد بالقصد والنية الشخصية .
السابع : التلاوة باستحضار دعاء الربيين وحكاية الآية الكريمة له .
الثامن : شكر المسلمات لله عز وجل لفضل الله في تثبيت أقدام المؤمنين في أيام الإسلام الأولى .
وهذا التعدد من الشواهد على أن القرآن معجزة عقلية بملائمة تلاوة الآية القرآنية لكل الناس وإنطباق موضوعها على كل فئة وطائفة وفي كل زمان ، فتتلو المسلمة آية البحث مع التسليم بأنها المقصودة بالنداء والنهي الواردين فيها ، وأن مسؤوليتها لا تختص بالإمتثال الشخصي بل تشمل إعانة الآخرين للتقيد بمضامينها فتكون داعية في البيت للزوج والأخ والابن وفي خارجه للمؤمنات والمؤمنين , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( ).
وكل من آية البحث والسياق مدرسة في سبل الصلاح والوقاية من الإنصات للكافرين .
الوجه الرابع : يا أيها الذين آمنوا ما كان قول الربيين إلا أن قالوا وأنصرنا على القوم الكافرين ، وفيه أمور :
اولاً : أخبرت الآية السابقة لآية السياق عن قتال الربيين مع الأنبياء ولم تذكر الطرف الآخر الذي يقاتلونهم وهو جلي وظاهر بقرينة قتال الأنبياء فهم لا يقاتلون مؤمناً ولا موحداً إنما قتالهم ينحصر بالكفار، لتأتي آية السياق لتبين هذا القانون , وتمنع من اللبس أو الشك فيه فتختتم بدعاء الربيين [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ].
ثانياً : من خصائص الربيين والشواهد على بلوغهم مراتب سامية في الإيمان إدراك أن النصر لا يتم إلا بالدعاء ، قال تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ] ( ) .
ثالثاً :لقد تحلى الربيون بالصبر ، وحملوا الأرواح على الأكف وقدموا الشهداء وتلقوا الجراحات في سبيل الله ولم يغفلوا عن الدعاء فرفعوه سلاحاً في المعركة وخارجها ، ليكون أرثاً عقائدياً عظيماً للمسلمين يتلونه في حال الحرب والسلم.
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا قولوا انصرنا على القوم الكافرين ، بلحاظ مسائل :
الأولى : حاجة المسلمين إلى الدعاء بالنصر .
الثانية : بيان الأذى الذي يلاقيه المسلمون .
الثالث : الشكوى إلى الله من كيد وظلم الكافرين ، وفي شكوى النبي يعقوب ورد قوله تعالى [إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ] ( ).
الثالثة : الإيمان بأن النصر بيد الله وأن الدعاء طريق إلى إحرازه .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إتعظوا من الربيين وتعلموا أدعيتهم، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( )ويتجلى الحسن في المقام باتعاظ المسلمين منها ، وهو لا يتعارض مع الحسن الذاتي لنفس القصص، ومنها قصة الربيين التي تذكرها آية السياق .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا قد سبقكم الربيون في الإيمان فقالوا [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]فقولوا ذات القول وإجتهدوا بالدعاء بالنصر والغلبة .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا قد إنقضى زمان الربيين ولكن دعاءهم بالنصر باق وهذا البقاء نعمة من عند الله عز وجل على المسلمين وأهل الأرض ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما سألوا عن علة خلافة الإنسان في الأرض أنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )لبيان قانون وهو أن دعاء المؤمنين بالنصر على الكافرين يطرد الفساد في الأرض ويمنع الناس من الإفتتان بالكافرين .
ثالثاً : لم يسأل الربيون الله النصر على الكافرين إلا من منازل الإيمان، إذ أن هذا السؤال مركب من جهات :
الأولى : صدق إيمان الربيين .
الثانية : قيام الأنبياء بتبليغ رسالاتهم وإصلاح أمة من الأصحاب والأنصار تتصف بالتقوى .
الثالثة : إعلان الربيين الحرب على الكفر ومفاهيمه .
الرابعة : عدم رضا الربيين إلا بالنصر ، إذ يدل قوله تعالى [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] على عدم إرادتهم المهادنة وإمتناعهم عن التصالح والتعايش مع الكفار ، ترى لماذا لا يرضى الربيون إلا بالنصر الجواب من وجوه :
الأول : التقيد بالأحكام التي تأتي من عند الله .
الثاني : حفظ التنزيل .
الثالث : نصرة النبي لأنه مبعوث من عند الله .
الرابع : إصرار الكفار على الجحود وإنكار العبودية لله والنبوة ، ومن مصاديق تسمية الربيين أنهم يحملون الناس على عبادة رب العالمين .
الخامس : محاربة الذي يصر على الكفر والضلالة .
السادس : بيان أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارة بها حق من عند رب العالمين ،قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ] ( ).
الثاني : مواصلة الكفار الإعتداء على الربيين ، وتجهيز الجيوش لحملهم على ترك الإيمان ، والإمتناع عن نصرة نبي الزمان .
الثالث : كثرة الضرر الذي لحق الربيين بسبب عدوان الذين كفروا بدليل قوله تعالى [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
الرابع : مجئ آية البحث بالنهي عن طاعة الذين كفروا الذين لا يرضون من المؤمنين إلى إتباعهم والإنقياد لهم .
الخامس : علم الربيين بأن النصر بيد الله ، وأن الدعاء هو مفتاحه والطريق إليه .
لذا يتلو المسلمون في كل يوم وليلة [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) وصحيح أن لفظ الصراط متحد إلا أن مواضيعه متعددة وتأتي مجتمعة ومتفرقة ، إذ تجتمع في المقام مصاديق متعددة منه وهي :
أولاً : إتخاذ الدفاع منهاجاً بلحاظ أنه سبيل هدى وصلاح .
ثانياً : سؤال النصر على الكفار ، ودلالته على إرادة النفع العام ،ولو ببذل النفوس والأموال ، ويدل هذا البذل على السلامة من الرياء ومن حب الدنيا .
ثالثاً : الإهتداء لسنن المؤمنين من الأمم السابقة ، فان قلت تدل آية السياق على تحقق هداية الله للمسلمين إلى سنة الربيين في الجهاد والدعاء بينما ورد قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) بصيغة الدعاء والرجاء ، والجواب من وجوه :
الأول : ليس من حصر لأبواب وضروب الإهتداء بسنن الربيين ، فقد ذكرت آية السياق شطراً منها .
الثاني : تلاوة هذه الآيات من الهداية وعلى المسلمين العمل بها والمواظبة عليها .
الثالث : يحتاج المسلمون كل يوم الهداية والمدد من عند الله ،قال تعالى [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( ).
الرابع : تضمنت آية السياق سؤال الربيين النصر على الكافرين ليكون نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر وأحد والخندق وحنين إستجابة لدعاء الربيين ،ومصداق الإستجابة هذا من أفراد الصراط المستقيم الذي سأله المسلمون .
المسألة الثانية : ذكرت آية السياق قول الربيين الذي يجعلهم بمرتبة الملائكة لإنحصاره بذكر الله عز وجل [وأخرج ابن المنذر والأزرقي عن وهب بن منبه قال : لما تاب الله على آدم أمره أن يسير إلى مكة فطوى له المفاوز والأرض ، فصار كل مفازة يمر بها خطوة وقبض له ما كان فيها من مخاض أو بحر فجعله له خطوة ، فلم يضع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمراناً وبركة ، حتى انتهى إلى مكة فكان قبل ذلك قد اشتد بكاؤه وحزنه لما كان به من عظم المصيبة ، حتى إن كانت الملائكة لتبكي لبكائه وتحزن لحزنه ، فعزاه الله بخيمة من خيام الجنة ، وضعها له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة .
وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة ، فيها ثلاث قناديل من ذهب ، فيها نور يلتهب من نور الجنة ، ونزل معها يومئذ الركن ، وهو يومئذ ياقوتة بيضاء من ربض الجنة ، وكان كرسياً لآدم يجلس عليه ، فلما صار آدم بمكة حرسه الله وحرس له تلك الخيمة بالملائكة ، كانوا يحرسونها ويذودون عنها سكان الأرض وساكنها يومئذ الجن والشياطين ، ولا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء من الجنة لأنه من نظر إلى شيء من الجنة وجبت له ، والأرض يومئذ طاهرة نقية طيبة لم تنجس ، ولم يسفك فيها الدم ، ولم يعمل فيها بالخطايا ، فلذلك جعلها الله مسكن الملائكة ، وجعلهم فيها كما كانوا في السماء يسبحون الليل والنهار لا يفترون .
وكان وقوفهم على أعلام الحرم صفاً واحداً مستدبرين بالحرم كله من خلفهم والحرم كله من أمامهم ، ولا يجوزهم جني ولا شيطان من أجل مقام الملائكة حرم الحرم حتى اليوم ، ووضعت أعلامه حيث كان مقام الملائكة .
وحرم الله على حوّاء دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم من أجل خطيئتها التي أخطأت في الجنة ، فلم تنظر إلى شيء من ذلك حتى قبضت ، وأن آدم إذا أراد لقاءها ليلة ليلم بها للولد خرج من الحرم كله حتى يلقاها ، فلم تزل خيمة آدم مكانها حتى قبض الله آدم ورفعها الله إليه .
وبنى بنو آدم بها من بعدها مكانها بيتاً بالطين والحجارة ، فلم يزل معموراً يعمرونه ومن بعدهم حتى كان زمن نوح ، فنسفه الغرق وخفي مكانه .
فلما بعث الله إبراهيم خليله طلب الأساس الأول الذي وضع بنو آدم في موضع الخيمة ، فلم يزل يحفر حتى وصل إلى القواعد التي وضع بنو آدم في موضع الخيمة ، فلما وصل إليها ظلل الله له مكان البيت بغمامة ، فكانت حفاف البيت الأول ، فلم تزل راكدة على حفافه تظل إبراهيم وتهديه مكان القواعد حتى رفع القواعد قامة ، ثم انكشفت الغمامة فذلك قوله عز وجل
{ وإذ بوأنا لإِبراهيم مكان البيت }( ) للغمامة التي ركدت على الحفاف لتهديه مكان القواعد ، فلم يزل يحمد الله مذ رفعه الله معموراً] ( )وهل في آية البحث ما يدل على ذات قول الربيين أو ما يشبهه ، الجواب نعم ، وفيه وجوه :
الأول : خاطبت آية البحث المسلمين والمسلمات بالنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]والإيمان إقرار في الجنان وقول وفعل .
الثاني : نهت آية البحث عن طاعة الذين كفروا ،ومن مصاديق الطاعة الإنقياد لهم باللسان .
الثالث : تتضمن أحكام الشريعة الإسلامية إعلان الإيمان بالنطق واللسان ، وفرض الله عز وجل التلاوة في الصلاة اليومية، وأكثر فرائضها تتقوم بالجهر بالقراءة وهي صلاة الصبح والمغرب والعشاء ، قال تعالى [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] ( ).
الرابع : من سنن الإيمان التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء والإجتهاد فيه .
ومن مصاديقه أنه إنقطع إلى التضرع والدعاء ليلة ويوم بدر إلى أن أخبر المسلمين بأن النصر آت [عن عبدالله بن مسعود، قال: ما سمعت مناشدا ينشد أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر، جعل يقول: اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ، ثم التفت وكأن شق وجهه القمر وقال: كأنى أنظر إلى مصارع القوم عشية)( )، ويبين إقتران الإستجابة بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي ساعة المحنة وساعة القتال على تفضيله على الأنبياء وترشح البركات على أمته .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا قولوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا .
من خصائص الإيمان إقتران التدبر بماهية العمل وإستحضاره في الوجود الذهني ، والأصل فيه اللجوء إلى لوم النفس على التقصير في العبادات وإرتكاب الآثام وتضييع الفرص وإيجاد الموانع دون إكتناز الحسنات ، فتفضل الله عز وجل على المسلمين وقطع طريق اللوم هذا، والمشقة التي تصاحبه إذ هداهم إلى الإستغفار.
ومن الشواهد على أن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو القرآن معجزة عقلية كثرة الآيات التي وردت بخصوص الإستغفار والمغفرة والعفو الإلهي ، كما يتجلى في الأسماء الحسنى ليبعث كل اسم وصفة لله عز وجل السكينة في نفوس المسلمين والتوجه إليه تعالى بالدعاء والمسألة كما سأله الربيون المغفرة (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهِىَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ الأَوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْمَلِكُ الْحَقُّ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَلِيمُ الْعَظِيمُ الْبَارُّ الْمُتَعَالِ الْجَلِيلُ الْجَمِيلُ الْحَىُّ الْقَيُّومُ الْقَادِرُ الْقَاهِرُ الْعَلِيُّ الْحَكِيمُ الْقَرِيبُ الْمُجِيبُ الْغَنِىُّ الْوَهَّابُ الْوَدُودُ الشَّكُورُ الْمَاجِدُ الْوَاجِدُ الْوَالِي الرَّاشِدُ الْعَفُوُّ الْغَفُورُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ التَّوَّابُ الرَّبُّ الْمَجِيدُ الْوَلِي الشَّهِيدُ الْمُبِينُ الْبُرْهَانُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْبَاعِثُ الْوَارِثُ الْقَوِيُ الشَّدِيدُ الضَّارُّ النَّافِعُ الْبَاقِي الْوَاقِي الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ الْمُقْسِطُ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الْقَائِمُ الدَّائِمُ الْحَافِظُ الْوَكِيلُ الْفَاطِرُ السَّامِعُ الْمُعْطِي الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْمَانِعُ الْجَامِعُ الْهَادِى الْكَافِى الأَبَدُ الْعَالِمُ الصَّادِقُ النُّورُ الْمُنِيرُ التَّامُّ الْقَدِيمُ الْوِتْرُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِى لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ .
قَالَ زُهَيْرٌ فَبَلَغَنَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَوَّلَهَا يُفْتَحُ بِقَوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى] ( ).
ومن الأسماء الحسنى ما يدل على المغفرة مثل العفو ، الغفور ، الغفار، وكما في قوله تعالى [غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ] ( )، فوردت الآية بصيغة الإطلاق بأطرافها وهي :
أولاً : تفضل الله بالمغفرة وعدم تقييدها بشرائط تتعلق بالموضوع أو الحكم أو المتعلق .
ثانياً : الإطلاق في الذنوب التي تغفر، إلا أن يأتي دليل على التقييد كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ) .
ولو تردد الأمر بين الجمع والتخصيص النسبي والإستثناء فيقدم الجمع أولاً ثم التخصيص النسبي ولا يصار إلى الإستثناء من رأس , لأولوية وسعة مواطن الرحمة والتخفيف من عند الله .
(عن سعد بن عبيدة أن ابن عباس كان يقول : لمن قتل مؤمناً توبة . قال : فجاءه رجل فسأله ألمن قتل مؤمناً توبة؟ قال : لا ، إلا النار . فلما قام الرجل قال له جلساؤه : ما كنت هكذا تفتينا ، كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمناً توبة مقبولة ، فما شأن هذا اليوم؟ قال : إني أظنه رجل يغضب يريد أن يقتل مؤمناً ، فبعثوا في أثره ، فوجوده كذلك)( ).
ثالثاً : السعة والعموم والإطلاق في قبول التوبة لأن قوله تعالى [وَقَابِلِ التَّوْبِ] وعد كريم وبشارة للناس جميعاً إلى يوم القيامة ، وكنز من كنوز العرش فتحه الله للناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يخرج من ذخائر العفو والمغفرة يبقى كالشجرة الطيبة في الأرض التي يستطيع أي إنسان التعلق باغصانها لتقوده في الدنيا إلى السكينة والرضا وفي الآخرة إلى الدرجات العلى .
رابعاً : إنعدام الحصر والتقييد في الوقائع والأفعال التي يتوب عنها الفرد والجماعة ، وترك الذنب مع الإعتذار ورجاء العفو عنه ، وجاء الإسلام بصيرورة السيئة حسنة بالتوبة والإنابة .
والتوبة هي ترك المعصية لقبحها والأسى على التفريط بارتكابها مع العزم على هجرانها وعدم العودة إليها ، ويدخل فيها التقصير والغفلة في العبادات .
الثاني : إرادة بقاء الإستغفار في الأرض إلى يوم القيامة ليكون ضياء من وجوه :
الأول : إنارة دروب الهداية للقلوب المنكسرة والإستغفار من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )لما فيه من المعافاة من أوزار الخطايا .
الثاني : إدراك قبح الذنوب والمعاصي بدلالة الحاجة إلى الإستغفار منها والإعتذار عن إرتكابها .
الثالث : إزاحة غشاوة الأسى والندم والحسرة عن الأبصار التي تتراكم بتكرار فعل المعصية أو بدونه بلحاظ تذكرها وبعثها الألم والفزع في النفس عند حضورها في الوجود الذهني ،قال تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( )، فجاءت آية السياق لبعث المسلمين إلى الفزع للإستغفار لإزاحة الغشاوة عن الأبصار والتمييز بين إرتكاب المعصية والإصرار عليها وبين التوبة ورجاء الفضل الإلهي .
الرابع : بعث السكينة في النفوس بالإستغفار وإستقبال القادم من الإعمال بحسن السمت .
ومن الإعجاز في آية البحث والسياق مجئ كل واحدة منهما بصيغة الجمع ليكون على وجوه :
الأول : الإستغفار على نحو القضية الشخصية كما لو قال : استغفر المسلم لنفسه ، وعن أبى موسى الاشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار وبالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها( ).
الثاني : حث المسلمين على السلامة من الفتنة وسوء العاقبة، قال تعالى[وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً]( ).
الثالث : بيان ضرورة قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم، وهل تلاوة آية البحث منه الجواب نعم، وتلك آية إعجازية في مضامين القرآن من جهة الموضوع والأثر والتأثير وليتضاعف الثواب عن قراءة الآية القرآنية وما يترشح عنها من المنافع العامة والخاصة.
وجاء بسط اليد في الحديث كناية عن فتح باب التوبة وترغيب الناس به واللطف الإلهي في إعانتهم للمبادرة إلى الإستغفار .
ومن الإعجاز في شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الصلوات اليومية الخمسة واجبة وجوباً عينياً وكل فريضة منها مصداق للتوبة والإنابة (وعن سعد بن أبي وقاص وجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان رجلان أخوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان أحدهما أفضل من الآخر ، فتوفي الذي هو أفضلهما ، ثم عمر الآخر بعده أربعين ليلة ثم توفي ، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة الأول على الآخر .
فقال : ألم يكن يصلي ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، وكان لا بأس به قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فما يدريكم ماذا بلغت به صلاته ؟ إنما مثل الصلاة كمثل نهر جار بباب رجل غمر عذب يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون ذلك يبقي من درنه لا تدرون ماذا بلغت به صلاته)( ).
الخامس : لما تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) أنعم عليهم بآية السياق لتكون على وجوه :
أولاً : بيان قانون وهو مصاحبة الإستغفار للمؤمنين في كل زمان .
ثانياً : الإستغفار هو النعمة العظمى على أهل الأرض، ومن الآيات في المقام أن أول المستغفرين هو آدم وحواء .
لقد بينت آية السياق حقيقة وهي إنحصار كلام الربيين بالإستغفار والدعاء ،ويحتمل الأمر بلحاظ حال المسلمين ونداء (يا ايها الذين آمنوا) وجوهاً :
الأول : كفاية الدعاء القليل من المسلمين ، وهو من التخفيف عنهم .
الثاني : لزوم التساوي بين الربيين والمسلمين في الدعاء كماً وكيفاً وموضوعاً .
الثالث : يجتهد المسلمون في الدعاء أكثر من الربيين لأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
والصحيح هو الثالث بفضل من عند الله ومضاعفته حسنات المسلمين ومنها الإستغفار ، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ) وبركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستغفاره والملائكة للمسلمين أحياءً وأمواتاً .
ويحتمل ظاهر آية البحث أموراً :
اولاً : الربيون أكثر الناس إستغفاراً وإنقطاعاً إلى الله عز وجل ، لقوله تعالى [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] ( ).
ثانياً : المسلمون هم الأكثر إستغفاراً بلحاظ تعدد أجيالهم وكثرتهم وإستدامة إستغفارهم إلى يوم القيامة .
ثالثاً : نسبة التساوي في الإستغفار وصيغ الإنابة بين الربيين والمسلمين .
والصحيح هو الثالث ، وتلاوة المسلمين لإستغفار الربيين إستغفار من المسلمين بفضل من الله عز وجل وتذكير بالإستغفار، وتنمية ملكته في نفوس المسلمين.
لقد ذكر القرآن الربيين ليكونا أسوة حسنة للمسلمين ليكون تقدير آية [أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) في المقام : نحن نقص عليك أحسن قصص المستغفرين ، ومن التحدي والإعجاز في القرآن مجي الآية بصيغة الجملة الخبرية وهي آية [أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) الواردة في سورة يوسف لتأتي الشواهد الكثيرة على صدقها وصحتها.
فتتضمن كل قصة في القرآن وجوهاً عديدة من الأحسن في موضوعه وحكمه ، وإن كانت هذه القصة من آية من بضع كلمات أو أنها شطر من آية من آيات القرآن ، وقد تقدم أن هذا الحسن يتعلق حتى بآيات الذم والعقاب .
وجاء الإستغفار بمدد من عند الله ، قال تعالى [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ] ( )، لتتجلى الكلمات للمسلمين بلحاظ آية البحث والسياق من وجوه :
الأول : النداء للمسلمين بصيغة الإيمان ،ومن شرائط الإيمان الإستغفار.
الثاني : وجود الكلمات التي تلقاها آدم من ربه في القرآن ذخيرة للمسلمين .
عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه ، رفع رأسه إلى السماء فقال : أسألك بحق محمد إلا غفرت لي؟ فأوحى الله إليه : ومن محمد؟ فقال : تبارك اسمك . لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله « فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك . فأوحى الله إليه : يا آدم انه آخر النبين من ذريتك ، ولولا هو ما خلقتك( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : لما أصاب آدم الخطيئة عظم كربه ، واشتد ندمه . فجاءه جبريل فقال : يا آدم هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك منه؟ قال بلى يا جبريل قال : قم في مقامك الذي تناجي فيه ربّك فمجده وأمدح ، فليس شيء أحب إلى الله من المدح قال : فأقول ماذا يا جبريل؟ .
قال : فقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير . ثم تبوء بخطيئتك فتقول : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت . رب إني ظلمت نفسي وعملت السوء فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . اللهم إني أسألك بجاه محمد عبدك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي .
قال : ففعل آدم فقال الله : يا آدم من علمك هذا؟ فقال : يا رب إنك لما نفخت فيّ الروح فقمت بشراً سوياً أسمع وأبصر وأعقل وأنظر رأيت على ساق عرشك مكتوباً « بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله .
فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك . قال : صدقت . وقد تبت عليك وغفرت لك خطيئتك قال : فحمد آدم ربه وشكره وانصرف بأعظم سرور ، لم ينصرف به عبد من عند ربه . وكان لباس آدم النور قال الله في ذم إبليس وفتنته{ ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما }( ) ثياب النور قال : فجاءته الملائكة أفواجاً تهنئه يقولون : لتهنك توبة الله يا أبا محمد( ).
الثالث : إمتناع المسلمين عن طاعة الكفار وسلامتهم من الإرتداد , وهذه السلامة مقدمة للإستغفار وسبب ليكون قريباً منهم وسهلاً عليهم .
ثالثاً( ) : صيرورة المسلمين أئمة الناس في الإستغفار والندب إليه ، وتحتمل الصلة بين الإيمان والإستغفار من جهة الإبتداء وجوهاً :
أولاً : الإيمان سابق زماناً للإستغفار لشرط قصد القربة فيه .
ثانياً : الإقتران الزماني بين الإيمان والإستغفار سواء للذي دخل الإسلام أو الذي ولد لأبوين مسلمين وأدرك الحاجة إلى كل من الإيمان والإستغفار بالتمييز أو الوصول إلى سن البلوغ .
ثالثاً : سبق الإستغفار وإدراك الحاجة إلى التوبة قبل الإيمان .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من أسرار خلافة الإنسان في الأرض وإحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )فمن علمه تعالى أمور :
الأول : تلقي الناس الإستغفار كما في آدم عليه السلام ليكون إمام الناس في مسالك التوبة والإستغفار .
الثاني : تقريب الناس من التوبة وتذكيرهم بها , قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ).
الثالث : عشق المسلمين للتوبة والإنابة ولجوئهم إليها مجتمعين ومتفرقين.
الرابع : إعانة النبي للمسلمين بهدايتهم وإرتادهم إلى صيغ الإستغفار ، وبيان موضوعيته ونفعه وهذه الإعانة من رشحات الوحي (وعن جابر بن عبد الله قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : واذنوباه واذنوباه فقال هذا القول مرتين أو ثلاثا فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قل:
اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي ورحمتك أرجى عندي من عملي فقالها : ثم قال : عد فعاد قال : ثم قال : عد فعاد قال : قم قد غفر الله لك( ).
ومن السعة في باب الإستغفار عدم إنحصاره بصيغة معينة فقد وردت صيغ عديدة له في القرآن والسنة.
الثالث : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] . وفي تقدير الجمع بين الآيتين مسائل :
المسألة الأولى : يا أيها الذين آمنوا كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير )
وفيه إكرام متعدد من جهات :
الأولى : إكرام المسلمين من وجوه :
أولاً : النداء للمسلمين بصفة الإيمان .
ثانياً : إخبار الله للمسلمين بأحوال الأمم السابقة ، لقد تفضل الله عز وجل وأخبر الملائكة عندما خلق آدم بأن الإنسان خليفة في الأرض ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )وفيه إكرام للملائكة مع أن سكنهم في السماء وخلافة الإنسان في الأرض ، وكذا فان إخبار المسلمين عن حال الربيين إكرام للمسلمين وتزكية لأجيالهم المتعاقبة بلحاظ أن الخطاب يا أيها الذين آمنوا شامل لذراري المسلمين .
ثالثاً : صيرورة المسلمين كالمشبه به بالنسبة للربيين في آية السياق بلحاظ تعلق التشبيه وذكر الأنبياءفي الآية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقديرها : وكأين من نبي مثل النبي محمد قاتل معه ربيون كثير ) وهذا المعنى لا يتعارض مع إفادة كأين معنى ( كم ).
رابعاً : بيان صفحة مشرقة من إعجاز القرآن بأن تكون قصص الأمم السابقة حاضرة عند المسلمين ونازلة لهم من عند الله ، فلا يدّب الشك أو الريب إلى نفوسهم ، وهو من مصاديق اسم التفضيل في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( )بلحاظ أمور :
الأول : تسليم المسلمين بأن هذه القصص نازلة من عند الله .
الثاني : تلقي المسلمين قصص الربيين وغيرها من قصص القرآن بالقبول.
الثالث : تفقه المسلمين بقصص القرآن وتدبرهم في معانيها .
الرابع : إجماع المسلمين على أن هذه القصص حق وصدق ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ] ( ).
الخامس : عدم طرو الشك إلى نفوس المسلمين بخصوص قصص القرآن.
السادس : التآزر والتعاون بين المسلمين لإقتباس الدروس من قصص القرآن.
الثانية( ) : إكرام الأنبياء ، وبيان أن شطر منهم قاتلوا في سبيل الله وأنهم صدّقوا بما أنزل الله عز وجل عليهم ولم يخالطهم شك بالوحي والمعجزة التي تجري على أيديهم .
الثالثة : إكرام أصحاب وأتباع الأنبياء الأنبياء الذين قاتلوا معهم ودونهم وبأمر منهم ، ليكون قتالهم توطئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسبباً لتوارث سنن التوحيد ومعالم الإيمان في الأرض.
المسألة الثانية : يا أيها الذين آمنوا وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير وما ضعفوا وما إستكانوا ).
وفيه تأديب المسلمين وإرشادهم إلى سبل الثبات في منازل الإيمان بذكر صبر وجهاد الربيين من أصحاب الأنبياء السابقين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )باجتماع أمور عند المسلمين وهي :
الأول : نزول القرآن وسلامة آياته من التحريف والتبديل والنقص والزيادة إلى يوم القيامة .
الثاني : ذكر القرآن لقصص المؤمنين من الأمم السابقة وبيان حسن سمتهم وصبرهم والثواب الذي تفضل الله عز وجل به عليهم .
الثالث : إكرام المسلمين بالنداء والخطاب التشريفي في القرآن، ومنه أول آية البحث والآية أعلاه.
الرابع : بيان سوء العاقبة الذي يترتب على طاعة الكافرين ومن مصاديق الإعجاز العقلي للقرآن إجتماع الندب إلى العمل الصالح والفعل الجهادي بذكر قصص الأنبياء السابقين وإصلاحهم لأصحابهم في مسالك التقوى واليقين كما في آية السياق ومجئ آية البحث بالزجر عن طاعة الكفار الذي قاتلهم الربيون، ليكون من مصاديق المعنى الأعم لقوله تعالى [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) .
ولا يطيع المسلمون أولئك الذين قاتلوا الأنبياء والربيين ، لأن الربيين أخوة للمسلمين وان تعاقبت الأجيال وتعددت النبوة والشريعة التي يعملون بها ، وإختلف أشخاص الكفار وأجيالهم ،وملة الكفر واحدة.
الخامس : بيان قانون وهو موضوعية عدم ضعف أو إستكانة أو خضوع الربيين للذين كفروا في أمرين :
الأول :تعاهد الناس لبشارة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حين البعثة الشريفة ونزول آيات القرآن.
الثاني : عبادة الله وتعظيم شعائره، قال تعالى[وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
ومن منافع توارث البشارة ببعثة سيد المرسلين ضعف وتشتت الذين كفروا أيام البعثة النبوية الشريفة ، فان قلت قد زحفت جيوش قريش وحلفائها على المدينة المنورة في السنة الثانية والثالثة والخامسة للهجرة ، والجواب هذا صحيح إلا أن ضعف الكفار يتجلى في المقام من وجوه :
أولاً : خيبة كفار قريش وعجزهم عن تحقيق النصر سواء في معركة بدر أو أحد أو الخندق .
ثانياً : صيرورة رؤساء الكفر من قريش في حال ذل ووهن عند القبائل وبين الناس ، ودخول الإسلام بيوتهم بإسلام أبنائهم وأخواتهم .
ثالثاً : إمتناع الدول العظمى آنذاك عن نصرة ومدد الذين كفروا فيدل قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) بالدلالة التضمنية على صلات قريش الإقتصادية والإجتماعية مع بلاد الشام واليمن وفارس، وموضوعية هذه الصلات في النصرة وتدخل الدول والقبائل في المعارك والحروب حفاظاً على مصالحها ، أو جلباً للغنائم .
وفي الخبر أن أبا سفيان ذهب إلى كسرى عن (قال الأصمعي حدثنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن بكر :الأصمعي قال: حدثنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن بكر المري قال: قال أبو سفيان: أهديت لكسرى خيلاً وأدماً فقبل الخيل ورد الأدم، وأدخلت عليه، فكان وجهه وجهين من عظمه، فألقى إلي مخدة كانت عنده، فقلت: وا جوعاه! أهذه حظي من كسرى بن هرمز؟ قال: فخرجت من عنده، فما أمر على أحد من حشمة إلا أعظمها، حتى دفعت إلى خازن له، فأخذها وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب.
قال الأصمعي: فحدثت بهذا الحديث النوشجان الفارسي، فقال: كانت وظيفة المخدة ألفاً أن الخازن اقتطع منها مائتين( ).
وعلى فرض صحة الخبر أعلاه فأنه لا يدل في منطوقه على أنه قبل الإسلام وأنه لطلب النصرة ولكن الأول ظاهر ، وفي هدايا الخيل أمارة على بيان القوة وكثرة الرجال ، وإكتفى كسرى بأن أهدى لأبي سفيان هدايا شخصية ثمينة، ولعله في سني المجاعة التي أصابت قريش بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد تماديهم في الغي , وإسرافهم سفك دماء المؤمنين .
(عن أنس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم : القراء فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال له : بئر معونة فقال القوم : والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقتلوهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم شهرا في صلاة الغداة فذلك بدء القنوت وما كنا نقنت.
وقنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة العتمة شهرا يقول في قنوته : اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف( ).
رابعاً : تعطل تجارة ومكاسب الكفار عند محاربتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ولم يكن عند المسلمين في المدينة تجارات يخشون كسادها ، وتلك آية في فنون الحرب بلزوم إجتناب قتال صاحب المبدأ والإيمان الذي ليس عنده شئ وأموال يخسرها ، ولا يملك إلا نفسه وقد نذرها في سبيل الله .
وحتى بعد إنتهاء حال الحروب والقتال فان المسلمين لم يفارقوا ذكر الله قال تعالى في الثناء عليهم[رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ] ( ) لبيان أن الصلاة اليومية للمسلمين واقية من طاعة الذين كفروا التي تحذر منها آية البحث .
السادس : من مصاديق عدم وهن أو استكانة الربيين أنهم غادروا الدنيا بسجايا الإيمان ، ومن غير تفريط بنصرة الأنبياء وجاء القرآن بحث المسلمين على البقاء في منازل الهدى والإيمان ، قال تعالى [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
ومن خصال المسلمين الإمتناع عن طاعة الكفار ، لتكون مغادرة المسلم للدنيا موعظة من وجوه :
الأول : دعوة إخوانه المسلمين لتعاهد الفرائض والعبادات والصبر عن المعصية وعن طاعة الذين كفروا .
الثاني : الوصية العقائدية للأبناء بالبقاء على الإسلام وإستلام لواء الإيمان ، وفي المثل الولد سر أبيه ومن أشبه أباه فما ظلم ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المسلمين يتوارثون الإيمان وأداء العبادات وتلاوة القرآن وهو من مصاديق آية الآية التي من بركاتها إعانة المسلمين في إصلاح أبنائهم للإسلام , وإيجاد برزخ بينهم وبين الإرتداد بقطع أسبابه وبيان قبح هذه الأسباب ومنها طاعة الكفار والإصغاء لهم.
وهل يصدق قول الولد سر أبيه على الكفار ، الجواب لا ، لإفتضاح أمر الكافر ، ولتوجه الخطاب التكليفي للابن بالإيمان .
وهل يشمل قوله تعالى [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )أبناء الذين كفروا أم أن القدر المتيقن منه إرادة المسلمين الجواب صحيح أن آية البحث تخاطب المسلمين والمسلمات إلا أن موضوعها عام لدلاتها على القبح الذاتي لطاعة الذين كفروا وأنها لا تجلب إلا الخزي والضرر .
فيشملهم بالواسطة النداء الوارد في آية البحث بالإمتناع عن طاعة الذين كفروا، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق( ) .
وعن أبي سعيد الخدري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن بجزر على بعث أنا فيهم ، فلما كنا ببعض الطرق أذن لطائفة من الجيش وأمر عليهم عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي – وكان من أصحاب بدر ، وكان به دعابة – فنزلنا ببعض الطريق ، وأوقد القوم ناراً ليصنعوا عليها صنيعاً لهم ، فقال لهم : أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا : بلى . قال : فما أنا آمركم بشيء إلا صنعتموه؟ قالوا : بلى . قال : أعزم بحقي وطاعتي لما تواثبتم في هذه النار . فقام ناس فتحجزوا حتى إذا ظن أنهم واثبون .
قال : احبسوا أنفسكم إنما كنت أضحك معهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أمركم بمعصية فلا تطيعوه( ).
الثالث : موت المسلم على الإيمان وعدم الركون للظالمين وسلامته من النفاق بعث لليأس والقنوط في نفوس الكفار ، ودعوة لهم للتوبة والإنابة ، لذا ورد في قوله تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا] ( ) (أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله { ننقصها من أطرافها } قال : ذهاب العلماء ] ( ) [وعن الأمام جعفر الصادق عليه السلام قال : ننقصها بذهاب علمائها وفقهائها وأخيارها)( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا الله يحب الصابرين ) وفيه وجوه :
الأول : بيان قانون كلي يتغشى أهل الأرض جميعاً ،والصبر هو تلقي الأذى بتحمل وتجلد من غير جزع . وقال الجرجاني [هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله) ( ).
ولكن الصبر أعم سواء في معناه اللغوي أو الإصطلاح الذي يعني تحمل الأذى قربة إلى الله وإحتساباً عنده سبحانه ورجاء الصلاح والإصلاح والفوز بالثواب وليس من حصر لموضوعات الصبر إذ تشمل العبادات والتكاليف، وأداءها بشرائطها، والصبر في المعاملات وإجتناب الشبهات وإن ثقل على النفس أو البدن ، والصبر عن المعاصي والسيئات .
ومن الصبر حبس النفس الشهوية والغضبية ، وترك الشكوى لغير الله لازم الصبر ، ومن الإعجاز في القرآن أن الصبر يدخل في التكاليف بآيات منها [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( )وقوله تعالى [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا] ( ) وجاءت خاتمة آية السياق لتبين أن الله يحب الصابرين ليكون من معانيه :
الأول : مصاحبة الجزاء الحسن للصبر ، فيرجو المؤمن الثواب على الصبر في الآخرة بينما هو يصاحب الصبر في ساعته ولا يتخلف عنه ، فما أن يصدق على العبد أنه صبر حتى تأتيه شآبيب الرحمة من عند الله [عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إذا أحب الله سبحانه وتعالى عبداً دعا جبريل عليه السلام إن الله تعالى يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض)( ).
ترى لماذا أختتمت آية السياق ببيان حب الله للصابرين ، ولم تقل (والله يحب الربيين ) الجواب من جهات :
الأولى : بين الصابرين والربيين عموم وخصوص مطلق فالصابرون أعم .
الثانية : إنقطاع أيام الربيين بمغادرتهم الدنيا ، أما الصابرون فهم في كل زمان .
الثالثة : إنما يأتي حب الله للربيين لأنهم صابرون في جنب الله .
الرابعة : بيان عموم النفع من قانون حب الله للصابرين .
الخامسة : الإخبار بتعدد طرق الفوز بحب الله من أداء العبادات وعمل الصالحات والتحلي بالخلق الكريم ،وورد في الحديث القدسي (عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، عن جبريل عن الله عز وجل قال : يقول الله عز وجل : من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرود ، وما تقرب إلي عبدي المؤمن ، بمثل أداء ما افترضت عليه ، وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً ، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته .
وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه ، وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة ، فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك .
وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ، ولو أصححته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير)( ).
السادسة : بشارة المسلمين بأن الله عز وجل يحبهم لتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيمانهم ، وهو الذي يدل عليه أول آية البحث [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] قال تعالى [ْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ] ( ) .
وسمّى بعضهم هذه الآية آية الإمتحان لمعرفة صدق إيمان العبد بحبه لرسول الله .
الثاني : الله يحب الصابرين في السراء والضراء.
الثالث : الله يحب الصابرين الذين يمتنعون عن طاعة الذين كفروا.
الرابع : الله يحب الصابرين الذين يجتهدون للنجاة من الخسارة التي أختتمت بها آية البحث
المسألة الرابعة : مواساة المسلمين في قتالهم الكفار، وتلقيهم الأذى والجراحات في هذا القتال باخبارهم عن ملاقاة أصحاب الأنبياء السابقين ذات الأذى .
لقد جعل الله عز وجل النبوة رحمة بالناس، وتتجلى بركات أي نبي في زمانه على أصحابه وأهل الأرض من جهات:
الأولى : التحدي بالمعجزة الجلية الخارقة للعادة وجريان الأمور وفق قاعدة الأسباب والمسببات.
الثانية : صيرورة موضوعية للبشارة والإنذار بين الناس .
الثالثة : ظهور طائفة مؤمنة بين الناس تناصر النبي , وتدعو إلى تصديقه.
الرابعة : كشف زيف الضلالة وظلم الكفار لأنفسهم والناس، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الخامسة : نزول الأمطار وعمارة الأرض وكثرة الزراعات ببركة النبوة.
السادسة : الإجهار بذكر الله، وإشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكون من أسرار معجزات الأنبياء أنها توليدية وتصاحبها فيوضات وأمارات تدل عليها، لتحث الناس على التصديق بالأنبياء.
وهل لهذه الأمارات موضوعية في قتال الربيين الجواب نعم، وهو من المدد الخاص والعام، ومن أسرار كثرة الربيين مع كل نبي لذا قال الله تعالى[رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ].
وبدل أن يتلقى الكفار هذه النعم بالشكر لله عز وجل والتصديق بالنبوة وإتباع الوحي لإستدامتها وزيادتها شهروا السيوف، وحشّدوا الأتباع للإجهاز على المعجزة وصاحبها، فتصدى لهم الربيون بالأنفس والأموال.
فجاءت آية البحث لتأمر المسلمين بالثبات في منازل الإيمان , والإمتناع عن الإستماع للذين كفروا بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من إعجاز القرآن إصلاح المسلمين لسبل الهدى باجتماع أمور:
الأول : ذكر قصص مؤمني الأمم السابقة وإجتهادهم في طاعة الله والأنبياء.
الثاني : بيان الثواب العظيم لأهل الإيمان والتقوى والذي يدل في مفهومه على سوء عاقبة الكافرين بلحاظ إنعدام البرزخ بين الثواب بالجنة والعقاب بالنار
الثالث : تهيئة أذهان المسلمين للقتال مع الكفار، فقد يتبادر إلى ذهن المسلم أن الناس كلهم سيتلقون معجزة نبي الزمان بالقبول والتصديق مثلما تلقاها هو وأصحابه الربيون خاصة وأنهم ليسوا قلة، وإذا هو يفاجئ باقطاب الكفر من قريش وأتباعهم يجحدون بالمعجزة ويصرون على الجحود ويحرضون الناس على النبي وأصحابه.
فجاءت آية السياق لمنع هذا التبادر والتباين في تلقي الناس للمعجزة بأن قيام فريق من أهل الدنيا والجاه والسلطان بانكار النبوة أمر معهود، وسجية قبيحة، قال تعالى في ذم الكفار[وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ]( ).
ليكون دفاع المسلمين واجباً وحاجة لجميع أهل الأرض من جهات:
الأولى : سلامة المؤمنين في دينهم وانفسهم.
الثانية : دعوة عموم الناس للإسلام، والتصديق بالمعجزة.
الثالثة : ملاقاة الكفار بالسيف، ومحاربتهم في القول والفعل، والإحتجاج عليهم.
الرابعة : صد الناس عن إتباع الكفار في إصرارهم على الباطل وصدودهم عن الهدى.
وتتضمن كل من آية السياق والبحث معنى هذا الصد , أما آية السياق فمن وجوه :
الأول : إخبار الآية عن بعثة الأنبياء، وأن شطراً من الأنبياء زاولوا القتال بأنفسهم وصبروا وأصحابهم على المحن وواجهوا سطوة وبطش الجبارين .
قال تعالى في الثناء على المؤمنين[يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( )، وهل سبقت القتال هجرة للأنبياء وأصحابهم .
ويكون تقدير آية البحث: وكأين من نبي هاجر معه ربيون كثير) الجواب من جهتين :
الأولى : نعم هاجر شطر من الأنبياء وأصحابهم بعد تخيير قومهم لهم بين البقاء على ملة الكفر أو الطرد , قال تعالى[وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا]( ).
الثانية : القدر المتيقن من آية السياق أن أصحاب الأنبياء نالوا مرتبة الربيين بالقتال معهم في سبيل الله، ويكون موضوع الهجرة مقدمة للقتال، وقد يكون إجتناباً للقتال كما في هجرة لوط .
قال ابن إسحاق: خرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق مهاجراً إلى ربّه، وخرج معه لوط وسارة كما قال الله سبحانه {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى} ( ) .
فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة الله حتى نزل حرّان فمكث بها ما شاء الله أن يمكث، ثمّ خرج منها مهاجراً حتّى قدم مصر،ثمَّ خرج من مصر إلى الشام , ونزل السبع من أرض فلسطين وهي بُرية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة , وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب من ذلك .
فبعثه الله سبحانه نبيّاً فذلك قوله {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرض الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} يعني الشام، وبركتها أنّ منها بعث أكثر الأنبياء وهي أرض خصبة كثيرة الأشجار والأنهار والثمار يطيب فيها عيش الفقير والغنىّ( ).
الثاني : إخبار آية السياق عن قتال الأنبياء وأصحابهم عند إصرار الكفار على الإستكبار وإتصافهم بالعناد ، والإعراض عن المعجزات الخارقة للعادة الجارية والتي تدل على صدق الأنبياء في دعوتهم إلى عبادة لهم , ويتضمن هذا الأخبار التحذير من الكفار .
الثالث : الضرر الذي لحق مؤمني الأمم السابقة من الكفار وقتالهم الأنبياء ، فالأصل هو تلقي الناس النبوة بالقبول والرضا ، ولكن الكفار إنتهجوا خلاف ما يأمر به العقل حباً للدنيا وإتباعها للشهوات ، فذكرت آية السياق جهاد الأنبياء وأصحابهم في محاربة الكفار ، وهذه الممارسة بالذات سبب لدفع الناس عن نصرة الكفار ، وتجلى في صلح الحديبية إذ فاءت قبيلة خزاعة إلى حلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن المسور بن خرمة قال : كان في صلح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية بينه وبين قريش : إن من شاء أن يدخل في عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعهده دخل فيه ، ومن شاء أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه ، فتواثبت خزاعة فقالوا : ندخل في عقد محمد وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : ندخل في عقد قريش وعهدهم ، فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهراً ، ثم إن بني بكر الذي كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهده ليلاً بماء لهم يقال له الوتير قريب من مكة .
فقالت قريش : ما يعلم بنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الليل وما يرانا أحد ، فاعانوهم عليهم بالكراع والسلاح فقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وركب عمرو بن سالم عندما كان من أمر خزاعة وبني بكر بالوتير حتى قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيات أنشده اياها :
الـلـهـمَّ إنـي نـاشـد مـحـمـدا … خلف أبينا وأبيه إلا تلدا
كــنـا والـداً وكـنـت ولـداً … ثَمَّتَ أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر رسول الله نصراً عندا … وادعُ عباد الله يأتوا مددا
فـيـهـم رسـول الله قـد تـجـردا … إن شئتم حسنا فوجهه بدر بدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا … ان قريشاً اخلفوك موعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا … وزعموا أن ليس تدعو احدا
فهم أذل وأقل عددا … قد جعلوا لي بكداء رصدا
هم بيوتنا بالهجير هجدا … وقتلونا ركَّعا وسجَّدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نصرت يا عمرو بن سالم، فما برح حتى مرت غمامة في السماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس بالجهاد وكتمهم مخرجه ، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم( ).
وأما آية البحث فانها تتضمن الصد عن إتباع الكفار بالمنطوق والمفهوم من وجوه :
الأول : يبعث النداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] النفرة في نفوس المسلمين من الكفار ، ويجعل المسلمين في ربوة ومقام رفيع يتنزهون معه عن الإكتساب من الكفار ، وفيه ترغيب للناس بالإسلام .
الثاني : دلالة الآية على تحريم طاعة الكفار فان قلت وردت الآية خطاباً للمسلمين ، فهل تدل على حرمة طاعة الناس جميعاً للكفار , الجواب نعم ، من باب الأولوية القطعية من جهات :
الأولى :يتوجه النداء والخطاب القرآني إلى المسلمين والمراد الناس جميعاً بلحاظ وجوب دخول الإسلام على الناس جميعاً .
الثانية : إطاعة الكفار أمر قبيح ذاتاً لإتيانه على الباطل والضلالة .
الثالثة : بيان آية البحث لعاقبة طاعة الكفار وهي الإرتداد والرجوع قهقري عن منازل الإيمان
الثالث : الأصل في الخطابات الموجهة للمؤمنين إرادة عموم الناس الوجوب الإيمان.
الرابع : إتصاف الأوامر والنواهي الإلهية للمسلمين بأنها خير محض.
الرابع : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( )وفيها مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا ما محمد إلا رسول , وفيه وجوه :
الأول : لقد آمن المسلمون بالله ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات الحسية والعقلية التي جاء بها ، ليتغير بهذا الإيمان وجه التأريخ , ويتجلى نهج الصراط المستقيم واضحاً للناس في الإهتداء بضيائه والسير في جادته التي يسطع نورها بأداء الفرائض والعبادات وسنن التقوى، وأخبرت آية السياق المسلمين بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله ، وفيه وجوه :
أولاً : تأكيد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان ما هو حق وصدق ، قال تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ).
ثانياً : مجئ القرآن بذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالاسم وفيه تنمية لحب المسلمين له، وهذا الحب طريق إلى الجنة، ومقدمة للإنقياد لأوامره وطاعته.
ثالثاً : الآية شهادة من عند الله عز وجل بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله سبحانه .
رابعاً : لما أخبر الله عز وجل الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة جاءت هذه الآية لبيان شخص الخليفة في زمان البعثة النبوية والإخبار بأنه [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل].
ويتوجه هذا البيان إلى جهات وغايات :
الأولى : إلى الملائكة ، وفيه رد على إحتجاجهم بجعل خليفة في الأرض فقوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ] مصداق لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )لأن الرسالة السماوية إمامة في مسالك الخير والفلاح وحرب على الفساد وسفك الدماء ، وهل يعني هذا البيان تجديد الإحتجاج على الملائكة.
الجواب لا ، لأنهم أذعنوا وسلّموا لأمر الله [قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا] ( ) ولكنه مناسبة ليشكر الملائكة الله عز وجل ، والدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , وقد إبتهج الملائكة ببعثته كما في حديث الأسراء , وهو من مصاديق الصلاة في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ).
وعن الأمام الحسن عليه السلام قال : قالوا يا رسول الله أرأيت قول الله { إن الله وملائكته يصلون على النبي } ؟ قال « إن هذا لمن المكتوم ، ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم! إن الله وكل بي ملكين لا أذكر عند عبد مسلم فيصلي عليَّ إلا قال ذانك الملكان : غفر الله لك ، وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين : آمين . ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلي عليّ إلا قال : ذلك الملكان لا غفر الله لك ، وقال الله وملائكته لذينك الملكين : آمين)( ).
والصلاة من الله عز وجل الرحمة ، ومن الملائكة الإستغفار والدعاء فمن صلاة ورحمة الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية السياق أمور :
الأول : ذكر اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين.
الثاني : إخبار أهل الأرض في كل زمان أن الله عز وجل هو الذي بعث لهم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً .
الثالث : حصر وظيفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول من عند الله، والحصر يقال له القصر هو تخصيص أمر بصفة أو فعل أو خصلة معينة ، وإثبات حكم مذكور لذات الموصوف ونفي ما عداه .
وللقصر ثلاثة أركان وهي :
أولاً : المقصور .
ثانياً : المقصور عليه ،ويسميان (طرفا القصر) وهما في الآية (محمد رسول ) .
ثالثاً : طريق القصر .
والقصر على قسمين :
الأول : قصر الموصوف على الصفة وينقسم إلى شعبتين :
الأولى : القصر الحقيقي المطابق للواقع .
الثانية : القصر الإضافي أو المجازي .
وقوله تعالى في آية السياق [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ] من الشعبة الأولى فهو من القصر الحقيقي, وجعله السيوطي من الثاني أعلاه بقوله [ومثاله مجازياً وما محمد إلا رسول أي أنه مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الموت الذي هومن شأن الإله( ).
الثاني : قصر الصفة على الموصوف وينقسم إلى شعبتين :
الأولى : القصر الحقيقي ومنه [وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( ).
الثانية : القصر الإضافي أو المجازي كما في لغة الثناء والمدح وبيان الشأن والموضوعية تقول (ما السخي إلا فلان ).
الثانية : توجه الإخبار ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخلافته في الأرض إلى أهل الكتاب لذا فمن إعجاز آية السياق إنقطع بانقضاء أيام الأنبياء والرسل السابقين، لتأكيد صدق النبوات السابقة، ومجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة المتكاملة، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
الثالثة : تحذير الكفار بأن الله عز وجل يشكر للمسلمين إتباعهم لرسوله الكريم فيحذرهم من طاعة الكفار، ويحجبهم عن مزالق ومقدمات هذه الطاعة، وهذا الحجب من مصاديق قوله تعالى[وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( )، الذي أختتمت به آية السياق.
الرابعة : إشعار وإنذار الكفار بأن الله عز وجل أبى إلا إظهار دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض، وتسلح المسلمين بالفقاهة ولإنقطاع إلى طاعة الله ورسوله ليكون من مصاديق الرحمة في قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، الأمن والسلامة من طاعة الذين كفروا وما يترشح عنها من الأذى والضرر.
الخامسة : توجه الإخبار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً وهو من رحمة الله بالناس ولتحصيل عموم الفائدة وأخذ الحائطة من الكفار وطاعتهم، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
الثاني( ) : وجوب إنصات المسلمين والناس لما يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من التنزيل والوحي ، وهذا الإنصات من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )بدليل قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ] ( ) .
فتلقي ما يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والإمتثال في عالم القول والفعل والعبادات والمعاملات من الأخذ الوارد في الآية أعلاه ، وبين الأخذ من النبي والإنصات له عموم وخصوص مطلق ، فالأخذ أعم من الإنصات .
فيكون تقدير الآية بهذا المعنى على وجوه :
أولاً : وما محمد إلا رسول من عند الله فآمنوا به .
ثانياً : وما محمد إلا رسول فاستمعوا له .
ثالثاً : وما محمد إلا رسول يأبى الله إلا أن يظهر نبوته وينصره .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا وما محمد إلا رسول من عند الله فأجتهدوا في طاعة الله والدعوة إلى عبادته .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا إشكروا الله عز وجل على نعمه العظيمة من جهات :
الأولى : رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورته خاتم النبيين .
الثانية : تمام الدين ، وكمال أحكام الشريعة الناسخة ، ونزول القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الثالثة : الهداية إلى الإسلام والتمسك بعرى الإيمان، والصدور عن آيات القرآن .
الرابعة : وحدة وأخوة المسلمين وصيغة الإيمان التي تتغشى هذه الوحدة ويتجلى هذا القيد بقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ولا يعلم إنتفاع المسلمين والناس من مضامين الآية أعلاه إلا الله عز وجل فهي منهاج عقائدي وإجتماعي وعسكري تجلى بالتضحيات والإيثار ومسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامسة : يا أيها الذين آمنوا اشكروا الله على السنة النبوية التي هي فرع الوحي والمصدر الثاني للتشريع ، وهل لورود اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آية السياق موضوعية في ترغيب وحث الذين آمنوا على العمل بسنته الشريفة .
الجواب نعم ليكون هذا الذكر مدداً للمسلمين، وعوناً لهم في أداء الوظائف العبادية.
السادسة : يا أيها الذين آمنوا أشكروا الله لإكرامه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذكره في القرآن بالاسم والشهادة له بالرسالة ، وما فيها من جذب الناس للتصديق برسالته .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا توارثوا أمانة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه مسائل :
الأولى : لقد بينت آية السياق أن النبي محمداً لابد وأن يغادر الدنيا ، وأن موته وكيفيته وأوانه أمر بيد الله , ومغادرة الأرواح الأجساد سنة الله في آدم وذريته ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
ليفيد الجمع بين آيتي السياق والبحث ضرورة حمل المسلمين لأمانة التنزيل ، وتعاهد سنن الرسالة وهو من أسرار إبتداء آية البحث بالنداء التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فلم تبدأ بالجملة الشرطية مباشرة [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] كما في نظم الآيات السابقة التي بدأت بحرف العطف الواو .
فمن إعجاز نظم القرآن مجئ ذات النداء التشريفي قبل عشر آيات وبصيغة النهي والتحذير والوعيد أيضاً بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ( ).
الثانية : بيان التضاد بين الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين كفروا بها ، وتبين آية البحث إصرار الذين كفروا على الجحود بلحاظ أنهم لم يكتفوا بالكفر فتراهم يسعون لحمل المسلمين على طاعتهم .
لذا فمن إعجاز رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعاهد إيمان المسلمين ، وجاء ذكر اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار بأنه رسول من عند الله لسلامتهم من أدران الكفر والشك والريب ، وصدّ الذين كفروا وإرجاع كيدهم إلى نحرهم .
المسألة الثانية : يا أيها الذين آمنوا وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، وفيه وجوه :
الأول : إخبار المسلمين عن حقيقة وهي سبق أمم من المسلمين آمنوا بالرسل السابقين ، وهل أطاع هؤلاء المؤمنون فريقاً من الكافرين تلك الطاعة التي تحذر منها آية البحث ، الجواب لا ، وهو الذي تدل عليه الآيات الأربعة السابقة والمحصورة بين آية السياق وآية البحث ، إذ تبين جهاد الربيين وسعيهم لثواب الآخرة ، هذا الثواب لا يأتي إلا بطاعة الله ورسله ، ويكون الركون إلى الكفار والإنصات لهم برزخاً دون نيله وبلوغه ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ).
الثاني : تقدير الآية يا أيها الذين آمنوا إتبعوا نهج الربيين أتباع الرسل الذين خلوا من قبل بالجهاد في سبيل الله والعصمة من طاعة الذين كفروا ، وهذه العصمة مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون تقدير آية السياق على وجوه :
أولاً : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الذين يبشرون برسالته ويدعون الناس إلى التصديق بها .
ثانياً : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل جاءوا بالآيات والبراهين التي تدل على صدق رسالاتهم ، مع الفارق الرتبي ، وهو أن معجزات الأنبياء السابقين حسية تدرك بالحواس .
ثالثاً : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل فأدى الأمانة وقام بالتبليغ وجاهد في سبيل الله وحارب الذين كفروا في مكة والمدينة وقاد الجيوش لتكون كلمة الله هي العليا .
الثالث : حث المسلمين على التفقه في الدين ومعرفة وجوه الإلتقاء بين الأنبياء السابقين ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،والوجوه التي تختص بها نبوته .
وهل تدل آية البحث على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين , الجواب نعم من جهات :
الأولى : صيرورة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علة لدخول الناس في الإسلام وتلقي النداء التشريفي .
الثانية : تثبيت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يوم القيامة ، إذ يطل هذا النداء على الناس في كل ساعة , وتقديره : يا أيها الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهو من أسرار فرض الصلاة اليومية على المسلمين لما فيها من تجديد الإيمان والولاء لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : بنبوة وبعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم آمن المسلمون برسالات الأنبياء السابقين وأن الله بعثهم جميعاً لدعوة الناس لعبادته ، وأنهم بلغوا رسالاتهم وهم صادقون ، أئمة الهدى ، كرام ، منزهون عن الشرك الظاهر أو الخفي .
الرابعة : وقاية المسلمين من طاعة الذين كفروا ، لتتجلى منافع رسالات الأنبياء السابقين بإستقامة وصلاح المسلمين .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا أفائن مات أو قتل محمد انقلبتم على أعقابكم ، وفيه مسائل :
الأولى : التذكير بنعمة الإيمان ولزوم تعاهدها .
الثانية : تنمية ملكة الصبر في طاعة الله .
الثالثة : الإعجاز القرآني بالإخبار بأن الذين كفروا والمنافقين سيظهرون كفرهم وزيغهم عند إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ويحاولون إغواء المسلمين ، ليكون من أسرار الجمع بين الآيتين أخذ المسلمين الحائطة في الدين عند موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا ذكرت كل من آية البحث والسياق الإرتداد على الأعقاب .
الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين من وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا سيموت أو يقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم باقون على إيمانكم بلحاظ أن النداء في الآية القرآنية متجدد ويخاطب أجيال المسلمين إلى يوم القيامة ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله اثبتوا في منازل الإيمان ، ولا يغرنكم الذين كفروا .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا تنزهوا عن الغلو بالنبوة وعن طاعة الكفار فقد يبدو أن الغلو والكفر متضادان ، ولكنهما من سنخية محرمة واحدة ، فجاء ذكر وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإحتراز منهما مجتمعين ومتفرقين.
المسالة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا افائن مات الرسول محمد أو قتل إنقلبتم عل أعقابكم، وفيه وجوه :
الأول :إبتدأت آية السياق بالقصر والحصر وبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله وهو غاية المدح والإكرام ، وإبتدأت آية البحث بذات المعنى من القصر والمدح ولكنه أعم فيشمل المسلمين والمسلمات وهو من إفاضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأتي الثناء عليه وعلى أمته من عند الله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثاني : بيان حقيقة وهو أن الأنبياء يزورهم الموت وقد يقتلون في المعارك أو غيلة فمع أن النبوة أسمى مقامات البشر ، ويقترن بها الوحي من عند الله إلا أنها ليست برزخاً دون حلول الأجل وبالكيفية التي يأذن بها الله عز وجل.
وإذ ذكرت الآيات الثلاثة السابقة قتال الربيين وصحابة الأنبياء السابقين معهم في ملاقاة الكفار فان آية السياق لم تذكر قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولكنها تدل عليه بالدلالة التضمنية إذ ذكرت إحتمال أن يقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يروم أحد قتل النبي إلا الكفار ليكون عدم طاعة المسلم للكفار حاجة عقائدية له وللمسلمين والناس جميعاً .
لذا إبتدأت آية البحث بالنداء التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذ ِينَ آمَنُوا] فهو من مصاديق الأمانة التي حملها الله عز وجل للناس بلزوم الهداية والإيمان ، قال تعالى [ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا] ( ).
الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين تحذير المسلمين من طاعة الذين كفروا عند مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا ، لتبقى آية البحث حية تدعو المسلمين في كل يوم للثبات على سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا حث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على الثبات على نهجه العبادي وسنته في التقوى والإنقطاع إلى الله ، إذ قال (صلّوا كما رأيتموني أصلّي)( ) وهو من أسرار ذكره بالرسالة من عند الله بالأذان بقول المؤذن : أشهد أن محمداً رسول الله .
وجاءت آية السياق لتثبيت فصول الأذان ، وتذكير المسلمين بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباعه وهو وقاية من الإنقلاب .
لقد أثنى الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخبر بأنه ونبوته رحمة مهداة للناس جميعاً بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وجاءت آية السياق لتبين أن عدم إنقطاع هذه الرحمة بمغادرة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا فهو حاضر بين المسلمين بذكره في القرآن وبسنته المباركة ، وكذا فان آية البحث تذكير للمسلمين بلزوم تعاهد منهاج الإيمان الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الزلل أو الغفلة عنه .
وأخبرت آية السياق بأن الرسل قد خلوا وانقضت أيامهم قبل بعثة النبي محمد صلى الله وآله وسلم فهل تدل على عدم وجود نبي بعده , الجواب من إعجاز القرآن بيان الحقيقة الواحدة من جهتين :
الأولى : المنطوق وعلى نحو النص الذي يمنع الإجمال واللبس والترديد.
الثانية : المفهوم ، وهو المستقرأ من دلالة الآية ولزوم المعنى .
وفي المقام ورد النص القرآني بقوله تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ).
وجاءت آية البحث لتأكد بالمفهوم أنه ليس من نبي بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحول نبوته دون الإرتداد ، مما يدل على تحقق الكفاية وسلامة الناس منه برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإطلاق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الرابع : بيان قانون في حياة الأنبياء وهو جهادهم لجذب الناس إلى عبادة الله ، ومنعهم من طاعة الذين كفروا .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً كشأن الخلائق كلها ، وتصاحبه الحاجة في حياته وتنفسه وطعامه وسلامته وفي إعتقاده فلابد أن يطيع الله بضروب العبادة وهو من أسرار خلافته في الأرض وتعليم آدم الأسماء كلها بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ]( ).
لبيان أن هذا التعليم مقدمة ووسيلة لإنقياد الإنسان للأوامر والنواهي الإلهية ويكون من مصاديق [وَمَا خَلَقْتُ] في الآية أعلاه .
بلحاظ أن المراد من الخلق في المقام أعم من الإنشاء والتكوين الإبتدائي ،إنما يشمل كمال الخلقة والحواس، فيكون تقدير الجمع بين الآيتين أعلاه ( وما علّمت الناس إلا ليعبدون).
ومن الإعجاز أن هذا التعليم إبتدأ بآدم وموضوع الأسماء لتأتي الكتب السماوية والأنبياء بذكر المسميات وعالم الأفعال .
الخامس : من خصائص آية السياق أنها جمعت بين حال النبوة والناس من وجوه :
أولاً : ما قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإخبار عن إنقضاء أيام الأنبياء السابقين .
ثانياً : توالي نزول آيات القرآن أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومنها آية السياق التي تبين أحوال الناس قبل وبعد البعثة .
ثالثاً : حال المسلمين والناس بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى إذ وردت آية السياق بصيغة التحذير والإنذار والوعيد من وجوه :
الأول : تنزه المسلمين عن الغلو بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : ذكر الرسل السابقين من باب المثال على مغادرتهم الدنيا بالموت , وفيه آية لمنع الغلو بإيمان الأنبياء، ولا يخدش بهذه القاعدة رفع عيسى عليه السلام إلى السماء , قال تعالى[وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ]( ) .
ومن إعجاز اللفظ القرآني أن كلاً من كلمة (قتلوه) (صلبوه) (رفعه) لم ترد إلا في هاتين الآيتين وبخصوص عيسى عليه السلام، وتجلت موضوعية رفع عيسى إلى السماء بلفظ (قد خلت من قبله) فلم تقل الآية (قد مات أو قتل الرسل من قبله) كما جاء ذات اللفظ بخصوص عيسى عليه السلام بقوله تعالى[مَا الْمَسِيحُ ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ]( ) .
وأخرج ابن المنذر عن عمر مولى غفرة يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن إدريس كان نبياً تقياً زكياً ، وكان يقسم دهره على نصفين : ثلاثة أيام يعلم الناس الخير ، وأربعة أيام يسيح في الأرض ، ويعبد الله مجتهداً . وكان يصعد من عمله وحده إلى السماء من الخير مثل ما يصعد من جميع أعمال بني آدم ، وإن ملك الموت أحبه في الله ، فأتاه حين خرج للسياحة فقال له : يا نبي الله ، إني أريد أن تأذن لي في صحبتك . فقال له إدريس – وهو لا يعرفه – إنك لن تقوى على صحبتي . قال : بلى ، إني أرجو أن يقويني الله على ذلك ، فخرج معه يومه ذلك حتى إذا كان من آخر النهار مر براعي غنم ، فقال ملك الموت لإدريس : يا نبي الله ، إنا لا ندري حيث نمسي ، فلو أخذنا جفرة من هذه الغنم فأفطرنا عليها؟ فقال له إدريس : لا تعد إلى مثل هذا ، تدعوني إلى أخذ ما ليس لنا ، من حيث نمسي يأتي الله برزق! فلما أمسى أتاه الله بالرزق الذي كان يأتيه ، فقال لملك الموت : تقدم فكل . فقال ملك الموت : لا والذي أكرمك بالنبوة ما أشتهي .
فأكل إدريس وقاما جميعاً إلى الصلاة ، ففتر إدريس وكل ومل ونعس ، وملك الموت لا يفتر ولا يمل ولا ينعس ، فعجب منه , وقال : قد كنت أظن أني أقوى الناس على العبادة فهذا أقوى مني! فصغرت عنده عبادته عندما رأى منه . ثم أصبحا فساحا ، فلما كان آخر النهار مرا بحديقة عنب فقال ملك الموت لإدريس : يا نبي الله ، لو أخذنا قطفاً من هذا العنب لأنا لا ندري حيث نمسي .
فقال إدريس : ألم أنهك عن هذا وأنت حيث تمسي يأتينا الله برزق! فلما أمسى أتاه الله الرزق الذي كان يأتيه فأكل إدريس ، فقال لملك الموت هلم فكل . فقال : لا والذي أكرمك بالنبوة يا نبي الله ، لا أشتهي . فعجب! ثم قاما إلى الصلاة ففتر إدريس أيضاً ، وكل ومل ، وملك الموت لا يكلّ ولا يفتر ولا ينعس .
فقال له عند ذلك إدريس : لا والذي نفسي بيده ما أنت من بني آدم! فقال له ملك الموت عند ذلك : أجل لست من بني آدم . فقال له إدريس : فمن أنت؟ قال : أنا ملك الموت . فقال له إدريس : أمرتَ فيَّ بأمر؟ فقال له : لو أمرت فيك بأمر ما ناظرتك ، ولكني أحبك في الله ، وصحبتك له . فقال له إدريس : يا ملك الموت ، إنك معي ثلاثة أيام بلياليها لم تقبض روح أحد من الخلق؟ .
قال : بلى والذي أكرمك بالنبوة يا نبي الله ، إني معك من حين رأيت ، وإني أقبض نفس من أمرت بقبض نفسه في مشارق الأرض ومغاربها ، وما الدنيا عندي إلا بمنزلة المائدة بين يدي الرجل ، يمد يده ليتناول منها ما شاء . فقال له إدريس : يا ملك الموت ، أسألك بالذي أحببتني له وفيه ألا قضيت لي حاجة أسألكها؟ فقال له ملك الموت : سلني ما أحببت يا نبي الله . فقال : أحب أن تذيقني الموت ، وتفرق بين روحي وجسدي حتى أجد طعم الموت ، ثم ترد إلي روحي .
فقال له ملك الموت عليه السلام : ما أقدر على ذلك ، إلا أن استأذن فيه ربي ، فقال له إدريس – عليه السلام – فاستأذنه في ذلك . فعرج ملك الموت إلى ربه ، فأذن له ، فقبض نفسه وفرق بين روحه وجسده ، فلما سقط إدريس عليه السلام ميتاً ، رد الله إليه روحه ، وطفق يمسح وجهه وهو يقول : يا نبي الله ، ما كنت أريد أن يكون هذا حظك من صحبتي! فلما أفاق.
قال له ملك الموت : يا نبي الله ، كيف وجدت؟ قال : يا ملك الموت ، قد كنت أحدث وأسمع ، فإذا هو أعظم مما كنت أحدث وأسمع! ثم قال : يا ملك الموت ، أريد منك حاجة أخرى قال : وما هي؟ قال : تريني النار حتى أنظر إلى لمحة منها .
فقال له ملك الموت : وما لك وللنار ، إني لأرجو أن لا تراها ، ولا تكون من أهلها ، قال : بلى أريد ذلك؛ ليكون أشد لرهبتي وخوفي منها! فانطلق إلى باب من أبواب جهنم فنادى بعض خزنتها فأجابوه ، وقالوا : من هذا؟ قال : أنا ملك الموت – فارتعدت فرائصهم – قالوا : أمرت فينا بأمر؟ فقال : لو أمرت فيكم بأمر ما ناظرتكم ، ولكن نبي الله إدريس – عليه السلام – سألني أن تروه لمحة من النار . ففتحوا له قدر ثقب المخيط فأصابه من حرها ولهبها وزفيرها ما صعق! فقال ملك الموت : أغلقوا! فأغلقوا ، فمسح ملك الموت وجهه وهو يقول : يا نبي الله ، ما كنت أحب أن يكون هذا حظك من صحبتي . فلما أفاق قال له ملك الموت : يا نبي الله ، كيف رأيت؟ قال : يا ملك الموت ، كنت أحدث وأسمع ، فإذا هو أعظم مما كنت أحدث وأسمع! فقال له : يا ملك الموت ، قد بقيت لي حاجة أخرى لم يبق غيرها . قال : وما هي؟ قال : تريني لمحة من الجنة . قال له ملك الموت – عليه السلام : يا نبي الله أبشر! فإنك إن شاء الله من خيار أهلها ، وأنها إن شاء الله مقيلك ومصيرك .
فقال : يا ملك الموت ، إني أحب أن أنظر إليها ، ولعل ذلك أن يكون أشد لشوقي وحرصي وطلبي! فذهب به إلى باب من أبواب الجنة ، فنادى بعض خزنتها فأجابوه ، فقالوا : من هذا؟ قال : ملك الموت . فارتعدت فرائصهم .
وقالوا : أمرت فينا بشيء؟ فقال : لو أمرت فيكم بشيء ما ناظرتكم ، ولكن نبي الله إدريس – عليه السلام – سأل أن ينظر إلى لمحة من الجنة فافتحوا . فلما فتح أصابه من بردها وطيبها وريحانها ما أخذ بقلبه فقال : يا ملك الموت ، إني أحب أن أدخل الجنة فآكل أكلة من ثمارها ، وأشرب شربة من مائها ، فلعل ذلك أن يكون أشد لطلبتي ورغبتي وحرصي .
فقال : ادخل . فدخل فأكل من ثمارها ، وشرب من مائها . فقال له ملك الموت ، اخرج يا نبي الله ، قد أصبت حاجتك حتى يردك الله مع الأنبياء يوم القيامة . فاحتضن بساق شجرة من شجر الجنة وقال : ما أنا بخارج منها ، وإن شئت أن أخاصمك خاصمتك . فأوحى الله إلى ملك الموت ، قاضه الخصومة .
فقال له ملك الموت : ما الذي تخاصمني به يا نبي الله؟ فقال إدريس : قال الله تعالى { كل نفس ذائقة الموت } فقد ذقت الموت الذي كتبه الله على خلقه مرة واحدة . وقال الله : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً } وقد وردتها ، أفأردها مرة بعد مرة؟ وإنما كتب الله ورودها على خلقه مرة واحدة ، وقال لأهل الجنة : { وما هم منها بمخرجين }.
أفأخرج من شيء ساقه الله إليّ؟ فأوحى الله إلى ملك الموت ، خصمك عبدي إدريس ، وعزتي وجلالي : إن في سابق علمي قبل أن أخلقه أنه لا موت عليه إلا الموتة التي ماتها ، وأنه لا يرى جهنم إلا الورد الذي وردها ، وأنه يدخل الجنة في الساعة التي دخلها ، وأنه ليس بخارج منها ، فدعه يا ملك الموت ، فقد خصمك وإنه احتج عليك بحجة قوية . فلما قر قرار إدريس في الجنة ، وألزمه الله دخولها قبل الخلائق ، عجب الملائكة إلى ربهم فقالوا : ربنا خلقتنا قبل إدريس بكذا وكذا ، ألف سنة ، ولم نعصك طرفة عين ، وإنما خلقت إدريس منذ أيام قلائل ، فأدخلته الجنة قبلنا؟ فأوحى الله إليهم : يا ملائكتي ، إنما خلقتكم لعبادتي وتسبيحي وذكري ، وجعلت فيها لذتكم ، ولم أجعل لكم لذة في مطعم ولا مشرب ولا في شيء سواها ، وقوّيتكم عليها ، وجعلت في الأرض الزينة والشهوات واللذات والمعاصي والمحارم ، وإنه اجتنب ذلك كله من أجلي ، وآثر هواي على هواه ، ورضاي ومحبتي على رضاه ومحبته ، فمن أراد منكم أن يدخل مدخل إدريس فليهبط إلى الأرض ، فليعبدني بعبادة إدريس ، ويعمل بعمل إدريس ، فإن عمل مثل إدريس أدخله مدخل إدريس ، وإن غير أو بدل استوجب مدخل الظالمين .
فقالت الملائكة : ربنا لا نطلب ثواباً ، ولا تصيبنا بعقاب ، رضينا بمكاننا منك يا رب ، وفضيلتك إيانا . وانتدب ثلاثة من الملائكة : هاروت وماروت ، وملك آخر رضوا به ، فأوحى الله إليهم : أما إذا اجتمعتم على هذا فاحذروا إن نفعكم الحذر ، فإني أنذركم ، اعلموا أن أكبر الكبائر عندي أربع : – فما عملتم سواها غفرته لكم ، وإن عملتموها لم أغفر لكم . قالوا وما هي؟ قال : أن لا تعبدوا صنماً ولا تسفكوا دماً ولا تشربوا خمراً ولا تطؤوا محرماً .
فهبطوا إلى الأرض على ذلك ، فكانوا في الأرض على مثل ما كان عليه إدريس : يقيمون أربعة أيام في سياحتهم ، وثلاثة أيام يعلمون الناس الخير ، ويدعونهم إلى عبادة الله تعالى وطاعته . حتى ابتلاهم الله بالزهرة ، وكانت من أجمل النساء . فلما نظروا إليها افتتنوا بها – أراد الله ولما سبق عليهم في علمه مع خذلان الله إياهم – فنسوا ما تقدم إليهم ، فسألوها نفسها .
قالت لهم : نعم . ولكن لي زوج لا أقدر على ما تريدون مني إلا أن تقتلوه ، وأكون لكم . فقال بعضهم لبعض : إنا قد أمرنا أن لا نسفك دماً ، ولا نطأ محرماً ، ولكن نفعل هذا مع هذا ، ثم نتوب من هذا كله . فلما أحس الثالث بالفتنة ، عصمه الله من ذلك كله بالسماء فدخلها فنجا ، وأقام هاروت وماروت لما كتب عليهما ، فنشدا على زوجها فقتلاه . فلما أراداها ، قالت : لي صنم أعبده ، وأنا أكره معصيته وخلافه ، فإن أردتما ، فاسجدا له سجدة واحدة . فدعتهما الفتنة إلى ذلك ، فقال أحدهما لصاحبه : إنا قد أمرنا أن لا نسفك دماً ولا نطأ محرماً ، ولكنا نفعله ، ثم نتوب من جميعه ، فسجدوا لذلك الصنم . فلما أراداها قالت لهما : قد بقيت لي حاجة أخرى قالا : وما هي؟ قالت : لي شراب لا يطيب لي من العيش إلا به . قالا : وما هو؟ قالت : الخمر .
فدعتهما الفتنة إلى ذلك ، فقال أحدهما لصاحبه : إنا قد أمرنا أن لا نشرب خمراً , فقال الآخر : إنا قد أمرنا أن لا نسفك دماً ، ولا نطأ محرماً ، ولكنا نفعله ، ثم نتوب من جميعه . فشربا الخمر . فلما أراداها قالت : قد بقيت لي حاجة أخرى . قالا : وما هي؟ قالت : تعلماني الذي تعرجان به إلى السماء . فعلماها إياه ، فلما تكلمت به عرجت إلى السماء ، فلما انتهت إلى السماء مسخت نجماً ، فلما ابتليا بما ابتليا به ، عرجا إلى السماء ، فغلقت أبواب السماء دونهما ، وقيل لهما أن السماء لا يدخلها خطاء ، فلما منعا من دخول السماء ، وعلما أنهما قد افتتنا وابتليا ، عجا إلى الله بالدعاء والتضرع والإبتهال .
فأوحى الله إليهما : حل عليكما سخطي ، ووجبت فيما تعرضتما ، واستوجبتما ، وقد كنتما مع ملائكتي في طاعتي وعبادتي ، حتى عصيتما فصرتما بذلك إلى ما صرتما إليه من معصيتي وخلاف أمري ، فاختارا إن شئتما عذاب الدنيا وإن شئتما عذاب الآخرة . فعلما أن عذاب الدنيا وإن طال فمصيره إلى زوال ، وأن عذاب الآخرة ليس له زوال ولا انقطاع ، فاختارا عذاب الدنيا ، فهما ببابل معلقين منكوسين مقرنين إلى يوم القيامة( ).
الثالث : إقامة الحجة على الذين يغالون بالأنبياء والرسل السابقين ، قال تعالى [مَا الْمَسِيحُ ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( ) فمن إعجاز القرآن ذكر المسيح في القرآن بذات الكلمات التي أفتتحت بها آية السياق مع التعدد في الغرض ،إذ تنهى الآية أعلاه عن الغلو بعيسى بن مريم وأمه ، بينما جاءت آية السياق للزجر عن الإرتداد والإنقلاب وتؤكد هذا المعنى آية البحث بالنهي عن طاعة الذين كفروا وتحتمل وجوها :
الأول: لا دلالة على تضمن آية السياق النهي عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : تتضمن آية السياق النهي عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : في آية البحث دلالة على لزوم عدم الغلو بالأنبياء السابقين .
الرابع : ليس من دليل أو أمارة على تضمن آية البحث النهي عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الأنبياء السابقين .
والصحيح هو الوجه الأول والثالث والرابع بإدماج أغراض ومقاصد حميدة في غرض حميد ، ويأتي النهي ليدل في مفهومه على الأمر بدفع الضرر ، فيكون من معاني آية السياق لا تكونوا كالذين إتخذوا من الرسول الذي قد خلت من قبله الرسل إلها .
وهل يحتمل أن يؤدي الحرص الشديد على إجتناب الإرتداد إلى الغلو ، الجواب لا ،لأن ذات الغلو وعبادة غير الله عز وجل إرتداد فجاءت آية البحث والسياق لتأكيد قاعدة لا إفراط ولا تفريط .
المسألة الرابعة : ورد لفظ [عَلَى أَعْقَابِكُمْ] في كل من آية البحث والسياق ، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن مرة أخرى إلا في ذم المترفين من الكفار ونزول عذاب الإستئصال بهم ، قال تعالى [قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ] ( ).
لإفادة الثناء على المسلمين وأنهم يتقيدون بسنن الإسلام ، ويتنزهون عن الإرتداد ، وعن جعل النعمة والترف سبباً للتقصير في العبادات وسنن الإيمان، وهذا التنزه من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن الإعجاز في آية البحث والسياق إتحاد صيغة الجملة الشرطية في النهي عن الإرتداد، ويفيد هذا التكرار والتقارب بين الآيتين على أيلاء موضوع عدم الإرتداد موضوعية في حياة المسلمين والعلماء والحكام والأئمة .
ويتجلى بوضوح في زمان تداخل الأمم والأفكار وإنتشار أسباب الإغواء ومفاهيم الضلالة.
إن دلالة هذه الآيات على الثناء على المسلمين في عدم إرتدادهم لا يعني الغفلة والتفريط في تعاهد مقامات العصمة من الإرتداد والنكوص والتخلف عن الوجبات العبادية، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
وبين آية البحث والسياق في المقام عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : التحذير من الرجوع إلى الخلف .
الثاني : توجه الخطاب والتحذير إلى المسلمين .
الثالث : مجئ كل من الآيتين بصيغة الجملة الشرطية .
الرابع : ذكر لفظ [أَعْقَابِكُمْ] وهو جمع عقب أي مؤخر القدم كناية عن القصور والتقصير .
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : ذكرت آية السياق موت أو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتدل بالدلالة التضمنية على سلامة المسلمين من الإرتداد في أيام حياته.
أما آية البحث فجاءت مطلقة في الإنذار والتحذير الزماني والمكاني .
وهل يمكن القول أن آية السياق تقيد آية البحث في زمانها الجواب لا ، للتباين الموضوعي في علة الإرتداد إذ تقيده آية البحث بطاعة الذين كفروا ، وهو أمر قد يحدث حتى في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لولا فضل الله عز وجل على المسلمين ، وكف أذى المنافقين وفضح ميلهم إلى الذين كفروا , وتحذير المسلمين من الإنصات لهم وللمنافقين ، قال تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ] ( ).
الثاني : إبتدأت آية البحث بنداء الإكرام والعز [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ليكون مدداً للمسلمين في إجتناب طاعة الذين كفروا والإرتداد بينما إبتدأت آية السياق بذكر اسم النبي محمد صل الله عليه وآله وسلم وهو ايضاً مدد للمسلمين في السلامة من الإرتداد , وهذا من إعجاز القرآن بأن يسبق النهي القرآني ثناء على المسلمين وإكرام لهم .
الثالث : ذكرت آية السياق نبأ الرسل قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن أيامهم قد إنقضت، أما آية البحث فذكرته بالدلالة التضمنية لأن من معاني نداء التشريف في أولها هو : يا أيها الذين آمنوا بالرسل قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ] ( ).
الرابع : بينت آية السياق غنى الله عز وجل عن الناس ، وأن الذي يرتد لا يضر إلا نفسه ، أما آية السياق فأختتمت بذكر سوء عاقبة الإرتداد وأنه خسارة في الدارين.
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : أفائن مات أو قتل محمد إنقلبتم على أعقابكم بان تطيعوا الذين كفروا ) وفيه وجوه :
الأول : من الإعجاز في آية السياق والبحث إتحاد جهة الخطاب وتوجهه إلى المسلمين والمسلمات والجمع بين الثناء عليهم وبين صيغة الإستفهام الإنكاري في آية السياق ولغة الشرط في آية البحث ، والتقارب بين هذه الصيغة واللغة جلي في الموضوع والدلالة ، وكل فرد منهما يبعث على النفرة من تحقيق المصداق المنهي عنه أو الذي يفيد هذا الإستفهام التحذير منه.
ولا دلالة على إرادة التوبيخ من صيغ الإستفهام الإنكاري في القرآن عندما يرد خطاباً للمسلمين ، إنما هو لتجديد الإيمان وبعث الهمة في نفوس المسلمين للمناجاة بسنن التقوى والحث على إستحضار سيرة وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات الوحي التي كانت تتغشاه، قال تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الثاني : وكأن في الآية عهداً مضمراً من المسلمين ، وتقدير الآية : أفائن مات أو قتل إنقلبتم على أعقابكم قالوا لا ننقلب على أعقابنا )ويدل على هذا القول تجدد النداء في أول آية البحث [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذي يطل على المسلمين والمسلمات كل يوم وإلى يوم القيامة، وكأنه نازل في الحال وللتباين بين الإيمان والإنقلاب , والتضاد بين الهدى وإتباع الذين كفروا .
الثالث : يؤكد الجمع بين آية السياق والبحث بأنه ما من مجمل في القرآن إلا وفصل في ذات الآية أو آية أخرى ، فقد حذرت آية السياق من الإنقلاب والإرتداد بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبين آية البحث مصداقاً لهذا الإنقلاب وهو طاعة الذين كفروا ، ليكون من منافع آية البحث وجوه :
أولاً : البيان الوارد في آية البحث بالنهي عن طاعة الذين كفروا والخسارة التي تترشح عن هذه الطاعة مانع من الجهالة والغرر.
ثانياً : وجوب السلامة الخسارة التي تترتب على طاعة الكفار.
ثالثاً : دعوة المسلمين للتعاون بينهم , ونبذ الفرقة التي ينفذ منها العدو.
رابعاً : حث الناس على التدبر بما تبينه آية البحث من التباين والتضاد بين المؤمنين والكفار.
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا من ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً) .
يتضمن الجمع بين الآيتين بيان قوانين عامة ، تتجلى في المقام منها :
القانون الأول : وجود أمة مؤمنة في كل زمان وإلى يوم القيامة ، بلحاظ إستدامة وتجدد النداء التشريفي والشهادة بالإيمان ، فلابد من مصداق في المبرز الخارجي للنداء النازل من السماء ، ويتصف هذا المصداق بالتعدد والكثرة .
الثاني : تقييد الإيمان بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فصحيح أن الأصل فيه هو الإيمان بالله ، وأن تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا بالله ، إلا أنه لا يمنع من تعدد مصاديق الإيمان ، فتشمل الإيمان بالرسل والملائكة والكتب التي أنزل الله واليوم الآخر ، وقد خص الله عز وجل المسلمين باختصاصهم بوصف الذين آمنوا بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ] ( ).
الثالث : قانون النهي عن طاعة المشركين والكافرين ، ومصاحبته للمسلمين وإلى يوم القيامة ، ليبقى التضاد بين الفريقين جلياً يدركه الناس بحواسهم وعقولهم ، فيكون هذا التضاد وحده دعوة إلى الله ، وحثاً على عدم الميل والركون إلى الذين كفروا ، فيأتي النداء للمسلمين وهم منزهون عن طاعة الذين كفروا ، ليكون الفضل الإلهي ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله من وجوه :
أولاً : إنتفاع أهل الملل والنحل من النداء التشريفي الموجه من عند الله للمسلمين،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ثانياً : اتعاظ المسلمين من منهاج المسلمين .
ثالثاً : تدبر الناس في علة وموضوع وأثر التضاد بين المسلمين والكفار .
رابعاً : إنه من الشواهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، إنما إنتشر بالإحتراز والتوقي من الظالمين .
الرابع : قانون ذم الكتاب السماوي للكفار وتحذير الناس منهم ، وتخويفهم ، وتوجه الوعيد لهم بسوء العاقبة والخلود في العذاب ، قال تعالى[الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ]( ).
ومن الإعجاز في آية البحث تقدم ذكر الذين آمنوا في الآية لإقامة الحجة على الذين كفروا وأن الدعوة إلى الله ووجوب الإيمان قد بلغتهم ، وهو المستقرأ من لفظ [الَّذِينَ كَفَرُوا] فمعنى الكفر هو الستر والتغطية فلابد من موضوع يسعى الكافر للتغطية عليه .
قال ابن فارس : الكاف والفاء والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد ، وهو الستر والتغطية] ( ) وسمي الفلاح كافراً ، قال تعالى [كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ] وقيل المراد من الكفار هنا أي الزراع الذين يتعاهدون البذر والزرع ويسقونه( ) ،ويسمى الليل لغة الكافر لأنه يستر بظلمته الأشياء والأفعال كما يطلق لفظ الكافر على السحاب المظلم لأنه يحجب الشمس ويستر ويمنع ضياءها .
ومنه تسمية الكفارات لأنها تكفر الذنوب أي تغطيها وتسترها بفضل من عند الله ، مثل كفارة اليمين عند الحلف على شئ أن يفعله ولم يفعله , أو بالعكس ، قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ] ( ) ويدل لفظ الكافر ومعنى التغطية فيه على أطراف :
الأول : قيام الكافر بالتغطية .
الثاني : وجود أمر مغطى وهو الحق .
الثالث : وعاء التغطية ، وهو القلب والحواس .
فالكافر يغطي قلبه عن الحق ويحجب عنه الإيمان ، فتأتي هذه الآيات لتحذر المسلمين لجعل ضرر الكافر وتغطيته للإيمان محصوراً بنفسه ومنعه.
(وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)( ) وفيه تقييد لمعنى الكفر ، فلا يدخل في معنى الذين كفروا في آية البحث ،لبيان أن القرآن يحذر من طاعة الذين كفروا ، وتأتي السنة النبوية لتحذر من الإقتتال بين المسلمين الذي يجعلهم كالكفار في الإضرار بالإسلام وبأنفسهم والنسبة بينهما على وجوه :
الأول : قد تؤدي طاعة المسلمين للذين كفروا إلى الإقتتال بين المسلمين ، فيكون تقدير الحديث أعلاه ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بطاعة الذين كفروا ) وهو من الإعجاز في آية البحث وإخبارها عن حصول الإرتداد بسبب هذه الطاعة .
الثاني : الإقتتال بين المسلمين مقدمة وطريق لطاعة الذين كفروا .
الثالث : الإقتتال بين المسلمين سبب لبعث الذين كفروا سموم الجحود بالربوبية والتوحيد .
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : أفائن مات أو قتل محمد إنقلبتم على إعقابكم خاسرين ] وفيه وجوه :
الأول : بيان معنى ومفهوم الإنقلاب في المقام بما يبعث النفرة منه .
الثاني : إحتراز المسلمين من الإنقلاب والردة فمجئ خطاب يا أيها الذين آمنوا لا يمنع من إستدامة التكاليف العقائدية والعبادية بالنسبة للمسلمين ومنها الإمتناع عن طاعة الذين كفروا .
الثالث : إذا كان في طاعة الذين كفروا خسارة ، فهل في عدم طاعتهم فلاح ، الجواب نعم ، وهو من مفهوم الآية الكريمة والبشارة.
الرابع : بيان أن القرآن رحمة بالمسلمين والناس جميعاً ، إذ تبعث آية البحث على السلامة من الخسارة في النشأتين .
الخامس : عند موت أو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينقطع الوحي , وفيه مسائل :
الأولى : تمام نزول آيات القرآن .
الثانية : عند حصول سبب للنزول لا تنزل آية قرآنية.
الثالثة : غياب السنة النبوية التي هي فرع الوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وهل يصح القول أنه عند موت أو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس من آيات قرآنية جديدة ، الجواب يجوز مع التسامح في اللفظ ، لأن الأصل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغادر الدنيا إلا وقد نزلت كل آيات القرآن .
(وأخرج الخطيب وابن عساكر عن علي عليه السلام قال: نعى الله لنبيه صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنزل عليه { إذا جاء نصر الله والفتح }، فكان الفتح سنة ثمان بعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما طعن في سنة تسع من مهاجره تتابع عليه القبائل تسعى فلم يدر متى الأجل ليلاً أو نهاراً ، فعمل على قدر ذلك فوسع السنن ، وشدد الفرائض ، وأظهر الرخص ، ونسخ كثيراً من الأحاديث ، وغزا تبوك ، وفعل فعل مودع] ( ).
أما بالنسبة لأسباب النزول فأن آيات القرآن مستوفية للوقائع والأحداث، وهو من إعجاز القرآن من وجوه :
الأول : إحاطة كلمات القرآن المحدودة باللامتناهي من الوقائع والأحداث .
الثاني : المدار على عموم اللفظ القرآني وليس سبب النزول .
الثالث : تجلي سنخية الوقائع وملائمة الحوادث لمضامين آيات القرآن .
الرابع : بيان غنى القرآن عن أسباب النزول، وهو الذي يوثق تلك الأسباب والأحداث والأشخاص.
المسألة الثامنة : يا أيها الذين آمنوا سيجزي الله الشاكرين , وفيه وجوه :
الأول : إقتران بعث السكينة والرضا في نفوس المسلمين بمجئ النهي عن فعل مذموم، وهو في آية البحث النهي عن طاعة الذين كفروا .
الثاني : ذات الإيمان والتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شكر من المسلمين لله وجلب للمنفعة ، قال تعالى [وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ]( ) ومن مصاديقه إخبار آية السياق بالجزاء من عند الله .
الثالث : آية البحث من جزاء الله عز وجل للمسلمين ، لذا إبتدأت بنعتهم بصبغة الإيمان , وتقدير الآية : يا أيها المسلمون يشكر لكم الله إيمانكم بنهيكم عن طاعة الذين كفروا، ليكون إمتثال المسلمين لهذا النهي مورداً لشكر آخر منه تعالى يتصف بتكرار النماء في الدنيا والآخرة، قال تعالى[مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( )، ويحتمل ترك طاعة الذين كفروا وجوهاً:
الأول : إنه عمل صالح ومن مصاديق الآية أعلاه.
الثاني : إنه إمتناع عن فعل سيئ ومكروه.
الثالث : إرادة العنوان الجامع للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث ويدل على قصد القربة وإجتناب المسلمين طاعة الكفار بصبغة الإيمان إبتداء الآية بالنداء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
ويحتمل الفعل العبادي المتحد وجوهاً:
الأول : إنه فرد واحد من مصاديق الشكر لله عز وجل .
الثاني : الإنحلال والتفكيك في أجزاء الفعل العبادي ، وكل واحد منها مصداق للشكر لله .
الثالث : مقدمات الفعل العبادي من الشكر لله .
الرابع : ما يترتب على الفعل العبادي من العصمة من فعل السيئات من الشكر لله ، كما في قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) فأداء الصلاة واقية من طاعة الذين كفروا والخسران الذي يترشح عنها .
الخامس : الفعل العبادي من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
السادس : نية المسلم في أداء الفعل العبادي , وإرادته قصد القربة من شكره لله عز وجل، وهو شاهد على إرتقاء المسلمين في مقامات الحكمة بلحاظ أن من معانيها تعاهد النعم، والذي لا يكون إلا بالشكر ، وتقدير العلم بالأحسن والأنفع، وتقديمه على ما هو أدنى منه ، وما يسمى في علم الأصول : تقديم الأهم على المهم ، وفيه دعوة للمسلمين لنبذ طاعة الذين كفروا , وإن كانت فيها منافع دنيوية حاضرة ، قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ] ( ).
السابع : صيرورة المسلم أسوة لغيره في مسالك الإيمان والإهتداء إلى الصراط المستقيم من الشكر لله عز وجل .
الثامن : إستدامة إتيان المسلم الفرض العبادي المتجدد كالصلاة والصيام والزكاة شكر لله ، وإقرار بالعبودية لله وسبب لإستدامة النعم ، وهو من مصاديق التقوى لأن التقوى من أصدق معاني الشكر لله ، قال تعالى [بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( ) وهل عدم طاعة الكفار من التقوى والوفاء بالعهد الجواب نعم ، لذا جاء النداء في أول الآية تنبيهاً للمسلمين لتعاهد منازل التقوى.
قال مقاتل بن حيان : كان بين الأوس والخزرج في الجاهلية عداوة حتى هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فأصلح بينهم.
فافتخر بعد ذلك منهم رجلان : ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج .
فقال الأوسي : منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين .
ومنّا حنظلة غسيل الملائكة.
ومنّا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين.
ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمة له ورضى الله بحكمه في بني قريظة،
وقال الخزرجي : منّا أربعة أحكموا القرآن : أُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد،
ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الكلام بينهما فغضبا .
فقال الخزرجي : أما والله لو تأخر الإسلام قليلا وقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتلنا ساداتكم، واستعبدنا آبائكم ونكحنا نسائكم بغير مهر.
فقال الأوسي : قد كان الإسلام متأخراً زماناً طويلا فهلاّ فعلتم ذلك،
فقد ضربناكم حتى أدخلناكم الديار، وأنشدا الأشعار وتفاخرا وتأذيا، فجاء الأوس إلى الأوسي والخزرج إلى الخزرجي ومعهم سلاح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فركب حماراً وأتاهم فأنزل الله تعالى هذه الآية[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( )، الآيات، فقرأها عليهم فاصطلحوا ( ).
المسألة العاشرة : ذكرت آية السياق أن الذي ينقلب على عقبيه بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا [فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا] ولم يبين منطوق الآية إضرار الذي يرتد بنفسه وغيره ونوع وكم هذا الضرر، نعم تتضمنه الآية بالمفهوم والمعنى والدلالة من جهات :
الأولى : لغة التحذير والإنذار من الإنقلاب .
الثانية : قبح الإنقلاب على الأعقاب .
الثالثة : تقييد أوان الإنقلاب وأنه بعد موت أو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفقد أهل الأرض له وللوحي والتنزيل مرة واحدة ، وجاءت آية البحث في منطوقها ببيان إضرار الذي يرتد بنفسه وغيره من جهات :
الأولى : الزجر عن طاعة الكفار ، وتأكيد قبحها الذاتي .
الثانية : تسمية وتعيين الذي ينهى الله عز وجل عن طاعتهم ووصفهم بأنهم جاحدون بالربوبية والنبوة والتنزيل مما يدل على حقيقة وهي تجلي صبغة الإنسان هل هو مؤمن ام كافر ، وإن لم تتجلى للمؤمن معرفة الكافر أول وهلة فانه يفصح عن نفسه بما يفعل وما يجري على لسانه ، قال تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ] ( ).
فقد يخشى الكافر والمنافق التصريح بالأمر بالمعصية فيميل إلى اللحن كالتلميح والتعريض والتورية والمغالطة وتكرر كلامه للغير بما يتضمن الشك والريب (وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري في قوله { ولتعرفنهم في لحن القول } قال : ببغضهم علي بن أبي طالب) ( ).
الثالثة : مجئ آية البحث بالإطلاق الزماني من غير تقييد بأوان مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، فقد يقال إن القدر المتيقن من آية السياق أوان ما بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد إستتبت الأمور للمسلمين وقضي على إرتداد بعض القبائل ، وأعيدوا إلى طاعة الله ورسوله كما في قوم مسيلمة الكذاب وسجاح بنت الحارث التي إدعت النبوة بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبعها بعض قومها من بني تميم وخدعها مسيلمة الكذاب وتزوجت منه وسلمت له الأمر ثم تابت .
وكان عطارد بن حاجب معها فقال :
أمست نبيّتنا أنثى نطيف بها … وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا( )
وكان شبث بن ربعي مع سجاح ثم أسلم ثم صار مع الخوارج ثم إشترك بقتل الحسين بن علي عليه السلام، بعد أن كتب إليه يدعوه إلى المجئ، وكان شبث على الرجالة وأعطى الراية دريداً غلامه، وكان شبث مؤذن سجاح وذكر أن مسيلمة لما نزلت به سجاح أغلق الحصن دونها فقالت له أنزل قال فنحي عنك أصحابك ففعلت .
فقال مسيلمة اضربوا لها قبة وجمروها لعلها تذكر الباه ففعلوا فلما دخلت القبة نزل مسيلمة فقال ليقف ههنا عشرة وههنا عشرة ثم دارسها فقال ما أوحى اليك وقالت هل تكون النساء يبتدئن ولكن أنت ما أوحى إليك , قال ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى قالت وماذا أيضا قال أوحى إلى أن الله خلق النساء أفراجا وجعل الرجال لهن أزواجا فنولج فيهن قعسا إيلاجا ثم نخرجها إذا نشاء اخراجا فينتجن لنا سخالا إنتاجا قالت أشهد أنك نبى قال هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب قالت نعم قال
ألا قومــــي إلى النيك * فقــد هيى لك المضجع
وإن شئت ففى البيت * وإن شئت ففى المخدع
وإن شــئـت سـلـقـنـاك * وإن شـئـت على أربع
وإن شـئـت بثـلـثـيـه * وإن شـئـت بـه أجـمــع
قالت بل به أجمع قال بذلك أوحى إلي فأقامت عنده ثلاثا ثم انصرفت إلى قومها فقالوا ما عندك قالت كان على الحق فاتبعته فتزوجته قالوا فهل أصدقك شيئا قالت لا .
قالوا ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق فرجعت فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن وقال مالك قالت أصدقني صداقا قال من مؤذنك قالت شبث بن ربعى الرياحي قال علي به فجاء فقال ناد في أصحابك أن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر قال وكان من أصحابها الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب ونظراؤهم( ).
المسألة الحادية عشرة : وردت مادة (إنقلب) مرتين في آية السياق ومرة في آية البحث وجاء أيضاَ فيها بذات المعنى بلفظ [يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ].
لتكون هاتان الآيتان مدرسة وموعظة من وجوه :
الأول : بيان قبح الإرتداد .
الثاني : تأكيد نعمة الهداية والإيمان ، ودعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على أمور :
أولاً : فضل الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : نزول القرآن جامعاً للأحكام الشرعية .
ثالثاً : سلامة القرآن من التحريف والتغيير ، ومنه آيتا البحث والسياق ودلالة كل منهما على التمسك بأحكام الإسلام ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
رابعاً : التعاضد والتآزر بين آية البحث وآية السياق في وقاية المسلمين من الإرتداد من جهات :
الأولى : نهي آية السياق المسلمين عن الإرتداد بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : زجر آية البحث المسلمين عن طاعة الذين كفروا .
الثالثة : بيان كل من آية البحث والسياق العواقب الوخيمة للقصور في أداء العبادات .
توجه مضامين الآيتين مجتمعة إلى المسلمين لزيادة التنبيه وطرد الغفلة عنهم ، وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى آيات وسور .
الثالث : دلالة آية السياق وآية البحث على علم الله عز وجل بعواقب الأمور وما تؤول إليه طاعة الكفار ، والإمتثال لأوامرهم إذ نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ولكنه يتضمن الإخبار عن الحوادث في هذا الزمان وقبله وبعده وإلى يوم القيامة ، وما يترشح عن الحوادث والمعاملات بين الناس من المنافع والأضرار ، وفيه دعوة للمسلمين والناس لإتخاذ القرآن إماماً .
الرابع : بيان التضاد بين الإيمان والإرتداد ، وأن الإيمان يجلب السعادة والغبطة وتنزل البركة معه ،أما الإرتداد فيؤدي إلى الخسارة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ).
المسألة الثانية عشرة: أختتمت آية السياق بقانون من الإرادة التكوينية وهو [وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها وردت بحرف الإستقبال للقريب (السين ) ولم تقل (وسوف يجزي الله الشاكرين ) مما يدل على أن الجزاء من عند الله للشاكرين قريب ومحسوس ، وأنه في أيام الحياة الدنيا وإذا إجتهد المسلم بالدعاء فهل يقرب له الجزاء وبعض أفراده أم يبقى على أوانه ، الجواب هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
بلحاظ أن الدعاء يثبت ذات الجزاء ،أما ما يمحوه الله عز وجل بدعاء المسلم فمن وجوه منها طول المدة بين الفعل العبادي وبين الجزاء ولزوم الإجتهاد بالدعاء وكثرته ، فيتفضل الله عز وجل ويرضى بالقليل وصرف الطبيعة من الدعاء .
ولم تبين آية السياق هل تتعدد الجهة التي يتوجه لها الشكر فيشمل شكر الإنسان للمحسن ذي اليد من الناس , الجواب القدر المتيقن من الآية هو شكر المسلمين لله عز وجل , ويكون تقدير الآية : وسيجزي الله الشاكرين له بدليل قوله تعالى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ] ( ).
المسألة الثالثة عشرة : أختتمت آية السياق بشكر الله عز وجل للشاكرين , ويمكن أن نؤسس قانوناً وهو أن كل آية قرآنية تتضمن (الشكر لله) عند تلاوة المسلمين لها سواء في منطوقها أو مفهومها، ومنه بخصوص آية البحث مسائل :
الأولى : يتضمن النداء [يا أيها الذين آمنوا] الدلالة على شكر المسلمين لله من وجوه :
الأول : إيمان المسلمين بالله ورسوله .
الثاني : تلقي المسلمين الأوامر والنواهي بالقبول .
الثالث : الإمتثال لما بعد نداءات يا أيها الذين آمنوا .
الرابع : سلامة قلوب المسلمين من درن الشك والريب .
الخامس : إجتماع وإشتراك المسلمين بسنخية الإيمان .
السادس : ترجل الإيمان بعالم القول والفعل .
السابع : إقتران حب الله ورسوله بالإيمان .
الثامن : التآخي بين المسلمين بسنخية الإيمان .
الثانية : شكر المسلمين لله لمجئ النهي عن طاعة الذين كفروا بصيغة الجملة الشرطية لدلالتها على عدم وقوع هذه الطاعة أو تحققها في الواقع .
وتقدير الآية : إن تطيعوا الذين كفروا في المستقبل وقادم الأيام ) وتنزه المسلمين عن طاعة الكفار في الزمان الحال متجددة ومتصلة إلى يوم القيامة لأن آية البحث تطل على المسلمين كل يوم بذات صيغة الشرط التي نزلت فيها على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من إعجاز القرآن وذخائر الثناء على المسلمين التي في ثنايا كلماته وما يتم كشفه عند تأويلها.
الثالثة : نجاة المسلمين من أسباب الكفر والضلالة ، قال تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
الرابعة : جاءت آية البحث لتكون برزخاً بين المسلمين وطاعة الكفار ،فمن خصائص المسلمين وصيغة الإيمان التي يتصفون بها الإنتفاع الأمثل من الآية القرآنية ، وما فيها من الأوامر والنواهي فيشكر المسلمون الله عز وجل على أمور :
الأول : التنبيه والتحذير من طاعة الذين كفروا .
الثاني : بيان الأضرار والخسران بسبب طاعة الذين كفروا .
الثالث : وجوب تنزه المسلمين عن طاعة الكفار مطلقاً .
الخامسة : شكر المسلمين لله لمجئ الآية بأسباب التفقه في الدين ، قال تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] ( ).
السادسة : مجئ آية البحث لسلامة المسلمين من الخسارة بالإنقلاب عن سبل الهدى والإيمان .
المسألة الرابعة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا سيجزي الله الشاكرين ) ليكون ذات الإيمان شكراً من المسلمين لله عز وجل على النعم العظيمة التي تفضل بها ، وهي في المقام :
الأولى : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : صيرورة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة الرسالات [عن ابن عباس قال : قال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب أنزل قبل كتابكم ، ونبينا خير الأنبياء . وقال أهل الإنجيل مثل ذلك ، وقال أهل الإسلام : كتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا ، فقضى الله بينهم فقال { ليس بأمانيكم ولا أمانيِّ أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به } وخير بين أهل الأديان فقال { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه }( ) ( ).
الثانية : فضل الله على المسلمين بالهداية إلى الإيمان والتصديق بالنبوة ، وهل هذه الهداية نعمة متحدة أم متعددة , الجواب هو الثاني وأفراد هذه النعمة مما لا يحصى ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( )أي أن كل نعمة من عند الله لا تحصى أفرادها وعظيم نفعها وثوابها .
الثالثة : الشكر لله عز وجل على نعمة نزول القرآن معجزة الأزمان المتعاقبة الخالدة .
وهل تعاهد المسلمين لآيات القرآن وسلامته من التحريف والتبديل من الشواهد على تنزههم من طاعة الذين كفروا ومن الإرتداد .
الجواب نعم لذا تفضل الله وإبتدأت الآية بنداء الإيمان ومن إعجاز الآية وجود شواهد وأمارات تدل على صدق نيل المسلمين لمرتبة الذين آمنوا وتتجلى بالقول والعمل .
إعجاز الآية
من خصائص آية البحث أنها تجمع بين أمور :
الأول : الثناء من عند الله على المسلمين ، فالله عز وجل هو الغني عن العالمين ، وهو الذي هدى المسلمين للإيمان ومع هذا يتفضل ويمدحهم .
الثاني : تثبيت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض .
الثالث : توارث المسلمين للوقاية من طاعة الكفار .
الرابع : بيان القبح الذاتي والعرضي لما يأمر به الذين كفروا .
الخامس : فضح المقاصد الخبيثة للذين كفروا .
السادس : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الإسلام ، بالتحلي بالصبر ، وإغاظة الكفار بالإعراض عنهم , وعن طاعتهم ، قال تعالى [اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا] ( ).
وعن ابن عباس قال : مُطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم «أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا : هذه رحمة وضعها الله، وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا( ).
السابع : بيان أن التفريط بأصل من أصول الإسلام إرتداد .
الثامن : الملازمة بين الإرتداد والخسارة العامة والخاصة .
التاسع : التخويف من الإرتداد وسوء عاقبته .
ومن إعجاز الآية أن مضامينها كلها خطاب للمسلمين وسبب للرفعة والعز لهم ، وتبين قانوناً في الإرادة التكوينية وهو أن الثناء والمدح في أول الآية لا يمنع من الإنذار والتخويف في آخرها ، ولكن هذا التخويف يأتي على نحو الجملة الشرطية مما يجعله لا يتعارض أو يتزاحم مع الثناء في أولها إنما القدر المتيقن منه دعوة المسلمين لتعاهد أسباب هذا المدح والثناء ، والدليل هو إبتداء الآية الكريمة بقانون إتصاف المسلمين بصيغة الإيمان على نحو الإطلاق الزماني المنبسط على الأزمنة الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل .
ومن وجوه الإعجاز في الآية مجئ النداء بصيغة الذين آمنوا وذكرت بعدها الذين كفروا مع التحذير من طاعتهم والإستجابة لأوامرهم .
إبتدأت الآية الكريمة بالثناء على المسلمين وإكرامهم من بين الأمم بوصفهم حاملي لواء الهدى وسنن الإيمان بالقول والفعل ليعلم أهل السموات والأرض منزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الله برسالته وشخصه وشريعته وأمته ، بلحاظ أن نداء [يا أيها الذين آمنوا] فيه حذف للمفعول به وموضوع الإيمان ، وهو على وجوه منها :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بالله .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بتمام الشريعة ،قال تعالى [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ] ( ).
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بالملائكة .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي .
السادس : يا أيها الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : يا أيها الذين آمنوا بوجوب إتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن جابر بن عبد الله ، قال : لمّا نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم {وَتُعَزِّرُوهُ} ،
قال لنا : ماذا كُم؟
قلنا : الله ورسوله أعلم.
قال : لتنصروه وَتُوَقِّرُوهُ وتعظّموه وتفخموه] ( ).
الثامن : يا أيها الذين آمنوا بالكتب السماوية التي نزلت من عند الله ومن خصائص المسلمين أنهم يؤمنون بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وما انزل على الأنبياء كما يؤمنون بنزول القرآن ،ويتخذونه إماماً فتلقوا نهي الآية عن طاعة الذين كفروا بالإمتثال وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
التاسع : يا أيها الذين آمنوا بوجوب أداء الصلاة اليومية ،ومن سنن الخلافة في الأرض ،أن الصلاة مصاحبة للإنسان في إقامته في الأرض , وفي عيسى ورد قوله تعالى [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( ).
العاشر : يا أيها الذين آمنوا بوجوب الصيام لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] ( )، وقد يقال أن هذه الآية مصداق للتفريق بين أركان الإيمان وأنها تتعلق بالإعتقاد ومحلها القلب, وأركان الإسلام وهي العبادات وأعمال الجوارح المنصوص عليها بلحاظ أن التكليف بالعبادة جاء بعد بلوغ مرتبة الإيمان .
والتقسيم أعلاه تقسيم إستقرائي لطيف ، ولكن لا دليل عليه . وبخصوص الآية أعلاه فان صيغة الكتابة والفرض ومجيؤها بصيغة الماضي المبني للمجهول تدل على الملازمة بين الإيمان وأداء الفرائض ، ولا تنخرم هذه القاعدة بسبق البعثة النبوية على فرض الصيام الذي نزل تشريعه في السنة الثانية للهجرة لذكر الآية التشبيه بالذين من قبل زمان الإسلام .
ومن أسرار تقديم الإيمان في الآية أعلاه إرادة قصد القربة في أداء الصيام لأنه عبادة ، وأخرج أحمد عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله جعل حسنة ابن آدم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أجزي به] ( ) كما أن أداء الصلاة ملازم للبعثة النبوية ، وجاءت آية البحث بالنهي بالمعنى الأعم الشامل لحرمة طاعة الكفار في أمور الإعتقاد والعبادات لأمور :
الأول : أصالة الإطلاق وعدم وجود مقيد في البين .
الثاني : الملازمة بين الكفر وصدور الأمر ممن تلبس به .
الثالث : شمول معنى الإرتداد لأبواب الإعتقاد الفاسد ، وتعمد ترك الفرائض العبادية [عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة] ( ).
وروى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال : كنت أمرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقاً ،وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم، فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخرّ الشاب ساجداً فسجدا معه فرفع فرفع الغلام والمرأة فقلت : يا عباس أمرٌ عظيم فقال : أمرٌ عظيم. فقلت : ويحك ما هذا؟ فقال : هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء.
قال عبد الله الكندي بعدما رسخ الإسلام في قلبه : ليتني كنت رابعاً)( ).
الحادي عشر : يا أيها الذين آمنوا بوجوب أداء الزكاة مع تحقق النصاب والشرائط .
الثاني عشر : يا أيها الذين آمنوا بوجوب حج بيت الله الحرام ، وهل يقيد هذا الإيمان بالإستطاعة في أشهر الحج مثل تعلق الوجوب الجواب لا ،لأن الإيمان بوجوب أداء الحج واجب سواء كان المكلف مستطيعاً أو لا أدى فريضة الحج أم لم يؤدها ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا] ( ).
الثالث عشر : يا أيها الذين آمنوا بأن الجنة حق والنار حق وأن الله يبعث من في القبور .
الرابع عشر : يا أيها الذين آمنوا باليوم الآخر ، قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ] ( ).
وهل يمكن تقدير حذف في آية البحث بلحاظ الآية أعلاه الجواب نعم ويكون تقديرها على وجوه :
الوجه الأول : [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ].
الثاني : يا أيها الذين آمنوا باليوم الآخر إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بالملائكة إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم .
الرابع: يا أيها الذين آمنوا بالنبيين إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا بالكتاب المنزل من عند الله إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم.
السادس : يا أيها الذين أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أدباركم .
لبيان أن إقامة الصلاة وأداء الزكاة واقية من طاعة الكفار ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وجاءت آية البحث لدفع الخوف وطرد الحزن عن المؤمنين في الدنيا والآخرة , والبشارة بالسلامة من طاعة الكفار ، وهو من الشواهد على أن ثواب الصالحات يتغشى أيام الحياة الدنيا والآخرة ، ويكون تقدير الآية : ولا خوف عليهم من الخسارة ولا هم يحزنون لسلامتهم من طاعة الذين كفروا تلك الطاعة التي تخلف الهّم والحزن.
ولا تنحصر هذه الخسارة بأتباع الذين كفروا بمفاهيم الجحود والكفر .
فقد يطيع المسلم الذين كفروا فيقصر في واجباته ، أو يتهاون في أداء الفرائض والنفير .
وقال الخطابي :
وَلَسْتُ بِسَائِلٍ مَا دُمْتُ حَيًّا … أَسَارَ الْجَيْشُ أَمْ رَكِبَ الأَمِيرُ( )
وبين الخسارة والجحود عموم وخصوص مطلق ، فالخسارة أعم ومنه نقص الثواب لذا جاءت الآية السابقة بالثناء على الربيين من أصحاب الأنبياء وبيان الثواب العظيم الذي رزقهم الله عز وجل في الدنيا والآخرة .
وذكرنا هذين الوجهين وتقدير الحذف فيها إختصاراً وبه يتجلى الحذف في الوجوه الأخرى التي بينهما .
وجاء النهي عن طاعة الذين كفروا بصيغة الجملة الخبرية الشرطية لتدل بالدلالة التضمنية على سلامة المسلمين من طاعتهم أوان نزول هذه الآية الكريمة .
ومن خصائص الآية القرآنية أنها تبقى غضة طرية وتخاطب المسلمين والمسلمات في كل زمان بذات المرتبة ،وكأن آية البحث تنزل كل يوم على المسلمين في ثنائها ومدحها وإنذارها وإلى يوم القيامة ،وهو من إعجاز الآية في دفع المسلمين عن أسباب ومقدمات طاعة الذين كفروا .
فالآية القرآنية لم تخاطب جيلاً دون جيل من المسلمين ، أو طبقة دون أخرى بل تخاطب أجيال المسلمين المتعاقبة ، وإذا كانت الآية تخاطب الأحياء من المسلمين فهل تخاطب الأموات فيه وجهان :
الأول : لا تخاطب الآية الذين ماتوا من المسلمين ، ولا المعدوم الذي لم يولد بعد ، والقدر المتيقن من الآية مخاطبة الأحياء منهم .
الثاني : تخاطب آية البحث الذين ماتوا بعرض واحد مع الأحياء في كل زمان , فيكون النداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في كل يوم إنحلالياً بعدد المسلمين والمسلمات من أيام النبوة ونزول الآية الكريمة وإلى اليوم الذي أنت فيه فلا يحصي عدد النداءات الفردية لمضامين الآية الكريمة إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا] ( ).
والصحيح هو الأول , وقد خاطبت وتخاطب آية البحث أجيال المسلمين وهي شاهد حاضر في كل زمان بأن أجيال المسلمين السابقة تقيدوا بأحكامها ولم يطيعوا الذين كفروا بل غادروا الدنيا بالثبات في منازل الإيمان ولم ينقلبوا خاسرين ليكون جواب الشرط في الآية سالباً بانتفاء الموضوع ، ولا عبرة بالقليل النادر ، وهذا الثبات دعوة للأجيال اللاحقة لإنتهاج سبل السلامة من الإذعان للكفار ، وهو من مصاديق [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) إذ يعجز الكفار عن القعود على هذا الصراط .
ويمكن تسمية آية البحث آية [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] وورد لفظ [تُطِيعُوا] في القرآن خمس مرات أربعة منها بصيغة الشرط ، قال تعالى [وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا] ( )، وسيأتي مزيد بيان في باب علم المناسبة.

الآية سلاح
من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )أن المسلمين يتخذون الآية القرآنية سلاحاً في باب العبادات والمعاملات والأحكام ، وفي حال السلم والحرب بما يكون أعم من أسباب وموضوع النزول وهو من إعجازه وإحاطته باللامحدود من الوقائع والأحداث .
ويحتمل موضوع السلاح في آية البحث وجوهاً :
الأول : الآية القرآنية سلاح متحد .
الثاني : التعدد والكثرة في صبغة السلاح في الآية القرآنية .
الثالث : التباين بين الآيات القرآنية ، فمنها ما تكون سلاحاً متحداً ، ومنها ما تكون سلاحاً متعدداً .
والصحيح هو الثاني ، وهو من إعجاز القرآن ، وأسرار عدم إمكان الإستغناء عن أي آية من القرآن في الأمور المختلفة ،وآية البحث سلاح من جهات :
الأولى : تعاضد وتآزر المسلمين للثبات في منازل الإيمان ،وكل من هذا التعاضد والثبات سلاح لدفع إغواء الكفار ويتجلى مصداق وعلة هذا التعاضد بالنداء في أول الآية [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ليكون من إعجازها أمور :
الأول : دعوة المسلمين للإتحاد والتمسك بمفاهيم الأخوة الإيمانية ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الثاني : مجئ السلاح والمدد للمسلمين من عند الله قبل التحذير والتخويف من طاعة الذين كفروا .
الثالث : البشارة ببطلان أثر الكفار في تحريضهم المسلمين على المعصية لأن النداء بصبغة الإيمان واقية وحرز .
الثانية : دلالة الآية على التضاد بين طاعة الله وطاعة الذين كفروا وقد ثبت في الفلسفة أن المتضادين لا يجتمعان .
وتضمنت آية البحث في أولها الشهادة للمسلمين بطاعة الله لقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فتكون هذه الشهادة بدفع ما هو ضد طاعة الله ورسوله ، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ] ( ) ليكون من مصاديق خشية الله وتقواه التوقي من طاعة الكفار .
الثالثة : بيان الآية للاثر والضرر المترتب على طاعة الذين كفروا، وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : قصد الكفار والمنافقين إرتداد المسلمين على أعقابهم .
الثاني : جاءت الآية لبيان أضرار طاعة الكفار ، وإرادة تبصرة المسلمين بالحال التي تترشح عن طاعتهم .
الثالث : مجئ الآية بالمعنى الأعم للوجهين أعلاه .
والصحيح هو الثالث وهو من فضل الله على المسلمين وأسباب الثناء عليهم ومدحهم وتفقههم في أمور الدين .
الرابعة : إختتام آية البحث بالإخبار عن عاقبة طاعة الكفار والإرتداد وأنها الخسران المبين ، وسبب لتمسك المسلمين بالقرآن والسنة للنجاة من الخسارة في الدنيا والآخرة .
وأخبرت آيات القرآن عن مجىء المدد من عند الله بنزول الملائكة لنصرة المسلمين ، كما في معركة أحد بقوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ] ( ) ليكون المدد من عند الله عز وجل للمسلمين متعدداً وحسياً وعقلياً .
ومن مصاديق الصبر في الآية أعلاه [إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]بلحاظ آية البحث صبر المسلمين عن طاعة الذين كفروا ، ومعنى[تَتَّقُوا]أي يكون صبركم وامتناعكم عن طاعة الذين كفروا في الله ولله ومن الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] ( ).
وإبتدأت الآية بالثناء على المسلمين ، والدعوة من السماء للتعاون والتآزر بينهم ، وهل يختص هذا التعاون بالتوقي والإحتراز من طاعة الكافرين أم هو أعم ، الجواب هو الثاني للزوم التعاون في تعاهد إيمان الفرد والجماعة منهم ، لذا ترى الذي يدخل الإسلام لا يغادره .
ولما وصل كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل صاحب الروم بيد دِحية الكلبي يدعوه إلى الإسلام بادر هرقل (فأرسل إلى صاحب العرب الذى بالشام في ملكه يأمره أن يبعث إليه برجال من العرب يسألهم عنه، فأرسل إليه
ثلاثين رجلا منهم أبو سفيان بن حرب، فدخلوا عليه في كنيسة إيلياء التى في جوفها)( ).
فأخذ هرقل يسأل أباسفيان بما يدل على التدبر وما عندهم من الأخبار عن نبي آخر الزمان ،منها قال هرقل [كيف عقله ورأيه ؟ قال: لم نعب له رأيا قط.
قال هرقل: هل كان حلافا كذابا مخادعا في أمره ؟ قال: لا والله ما كان كذلك.
قال: لعله يطلب ملكا أو شرفا كان لاحد من أهل بيته قبله ؟ قال أبو سفيان: لا.
ثم قال: من يتبعه منكم.
هل يرجع إليكم منهم أحد ؟ قال: لا.
قال هرقل: هل يغدر إذا عاهد ؟ قال: لا إلا أن يغدر مدته هذه] ( ).
ليكون من إعجاز آية البحث المنع من إتساع التغطية القبيحة والمذمومة الصادرة من الكافر ،إذ أنها تحول دون قيام الكفار مجتمعين ومتفرقين بالتغطية على قلب الفرد الواحد من المسلمين ، قال تعالى [وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
وتبين الآية لزوم تعاهد المسلمين القرآن والسنة فهما الذخيرة والضياء المستنير إلى يوم القيامة ، وهذا التعاهد من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )أي يكون من معاني الصراط في المقام وجوه :
أولاً : إرادة القرآن الكريم ذاته ، وهو من معاني الصراط (واخرج البيهقي في الشعب من طريق قيس بن سعد عن رجل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : القرآن هو النور المبين ، والذكر الحكيم ، والصراط المستقيم)( ).
ثانياً : تعاهد القرآن رسماً وتلاوة وحفظاً .
ثالثاً : العمل بأحكام الحلال والحرام في القرآن ، والصدور عنه في الأوامر والنواهي للنجاة من الخسارة التي تخّوف منها خاتمة آية البحث ، وتحذر من أسبابها .
وتجتمع هذه الوجوه بما ورد عن علي عليه السلام قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول « ستكون فتن قلت : وما المخرج منها؟ قال : كتاب الله . فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل وليس بالهزل ، وهو حبل الله المتين ، وهو ذكره الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله تعالى[إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ]( )، قال كانا شريكين في بني إسرائيل . أحدهما مؤمن . والآخر كافر ، فافترقا على ستة آلاف دينار ، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار . ثم افترقا فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك ، أضربت به شيئاً اتجرت به في شيء؟ قال له المؤمن : لا . فما صنعت أنت؟ قال : اشتريت به نخلاً ، وأرضاً ، وثماراً ، وأنهاراً ، بألف دينار .
فقال له المؤمن : أو فعلت؟ قال : نعم . فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل ، فصلى ما شاء الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ، ثم قال : اللهم إن فلاناً – يعني شريكه الكافر – اشترى أرضاً ، ونخلاً ، وثماراً ، وأنهاراً ، بألف دينار ، ثم يموت ويتركها غداً . اللهم وإني اشتري منك بهذه الألف دينار أرضاً ، ونخلاً ، وثماراً ، وأنهاراً ، في الجنة . ثم أصبح فقسمها للمساكين .
ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت ، أضربت به في شيء ، اتجرت به؟ قال : لا . قال : فما صنعت أنت؟ قال : كانت ضيعتي قد اشتد على مؤنتها ، فاشتريت رقيقاً بألف دينار ، يقومون لي ، ويعملون لي فيها . فقال المؤمن : أو فعلت؟ قال : نعم .
فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل ، صلى ما شاء الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ ألف دينار ، فوضعها بين يديه ثم قال : اللهم إن فلاناً اشترى رقيقاً من رقيق الدنيا بألف دينار ، يموت غداً فيتركهم ، أو يموتون فيتركونه ، اللهم وإني أشتري منك بهذه الألف دينار رقيقاً في الجنة . ثم أصبح فقسمها بين المساكين .
ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ، أضربت به في شيء ، اتجرت به في شيء؟ قال : لا . فما صنعت أنت؟ قال : كان أمري كله قد تم إلا شيئاً واحداً ، فلانة مات عنها زوجها فأصدقتها ألف دينار ، فجاءتني بها وبمثلها معها فقال له المؤمن : أو فعلت؟ قال له نعم . فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ الألف دينار الباقية ، فوضعها بين يديه ، وقال : اللهم إن فلاناً تزوّج زوجة من أزواج الدنيا بألف دينار ، ويموت عنها فيتركها أو تموت فتتركه ، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف دينار حوراء عيناء في الجنة . ثم أصبح فقسمها بين المساكين ، فبقي المؤمن ليس عنده شيء .
فلبس قميصاً من قطن ، وكساء من صوف ، ثم جعل يعمل ويحفر بقوته فقال رجل : يا عبد الله أتؤجر نفسك مشاهرة؛ شهراً بشهر ، تقوم على دواب لي؟ قال : نعم . فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه ، فإذا رأى منها دابة ضامرة أخذ برأسه فوجأ عنقه ، ثم يقول له : سرقت شعير هذه البارحة . فلما رأى المؤمن الشدة قال : لآتين شريكي الكافر ، فلأعملن في أرضه ، يطعمني هذه الكسرة يوماً بيوم ، ويكسيني هذين الثوبين إذا بليا .
فانطلق يريده ، فانتهى إلى بابه ، وهم مُمْسٍ ، فإذا قصر في السماء ، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي صاحب هذا القصر ، فإنكم إن فعلتم ذلك سره فقالوا له : انطلق فإن كنت صادقاً فنم في ناحية فإذا أصبحت فتعرض له . فانطلق المؤمن فألقى نصف كسائه تحته ونصفه فوقه ثم نام ، فلما أصبح أتى شريكه ، فتعرض له ، فخرج شريكه وهو راكب ، فلما رآه عرفه ، فوقف فسلم عليه وصافحه ، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت فأين مالك؟ .
قال : لا تسألني عنه ، قال : فما جاء بك؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه ، تطعمني هذه الكسرة يوماً بيوم ، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا قال : لا ترى مني خيراً حتى تخبرني ما صنعت في مالك قال : أقرضته من الملأ الوفي قال : من؟ قال : الله ربي ، وهو مصافحه ، فانتزع يده ثم قال { أئنك لمن المصدقين ، أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون }( ) وتركه ، فلما رآه المؤمن لا يلوي عليه رجع ، وتركه يعيش المؤمن في شدة من الزمان ، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان .
فإذا كان يوم القيامة ، وأدخل الله المؤمن الجنة يمر فإذا هو بأرض ، ونخل ، وأنهار ، وثمار ، فيقول : لمن هذا؟ فيقال : هذا لك فيقول : أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ ثم يمر فإذا هو برقيق لا يحصى عددهم فيقول : لمن هذا؟ فيقال : هؤلاء لك فيقول : أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء فيقول : لمن هذه؟ فيقال : هذه لك فيقول : أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ ثم يذكر شريكه الكافر فيقول { إني كان لي قرين ، يقول أئنك لمن المصدقين }( ) فالجنة عالية ، والنار هاوية ، فيريه الله شريكه في وسط الجحيم ، من بين أهل النار ، فإذا رآه عرفه المؤمن فيقول { تالله إن كدت لتردين ، ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ، أفما نحن بميتين ، إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين ، إن هذا لهو الفوز العظيم ، لمثل هذا فليعمل العاملون}( ) بمثل ما قدمت عليه قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة فلا يذكر أشد عليه من الموت( ).
مفهوم الآية
في الآية مسائل :
الأولى : تتضمن الآية دعوة المسلمين لتعاهد صبغة الإيمان التي شهدت بها هذه الآية ، وهي كلام نازل من عند الله عز وجل ، من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ليكون من معاني البيان في نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] أمور :
الأول : الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبلوغ أمته مرتبة الإيمان .
الثاني : الشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن أمته خير الأمم .
الثالث : وجوب الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : المسلمون على ذات نهج الربيين في حفظ بيضة الإسلام بالنفوس والأموال .
الثانية : ترغيب الناس بالإسلام وبيان أنه خير محض , ونعم متصلة في النشأتين ، وتبين الآية وجوهاً :
الأول : حاجة الناس للإسلام .
الثاني : إنتفاع الناس جميعاً وإسلام طائفة وأمة منهم .
الثالث : خسران الكفار وحملهم لآثامهم وآثام الذين يصدونهم عن سبيل الله .
الرابع : نجاة الذين آمنوا بفضل وثواب مضاعف من عند الله (عن أبي سعيد الخدري . أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان قال أبو سعيد : فمن شك فليقرأ { إن الله لا يظلم مثقال ذرة }( )( ).
الثالثة : تضمنت الآية زجر المسلمين والمسلمات عن طاعة الذين كفروا ليدل في مفهومه على أمور :
الأول : غنى المسلمين عن الذين كفروا في أوامرهم ونواهيهم .
الثاني : بيان قانون وهو أن الذين كفروا لا يأمرون إلا بما هو قبيح ومناف لمرضاة الله .
الثالث : تأكيد التضاد والتباين بين الإيمان وطاعة الكفار ، إذ تبين الآية خصلة من خصال الذين آمنوا وهي تنزههم عن طاعة الكفار .
الرابع : بعث اليأس والقنوط في قلوب الذين كفروا ، لأن هذه الآية برزخ دون إصغاء المسلمين لهم , وفيها تحذير للمسلمين والمسلمات منهم .
أما البرزخ فيتجلى بالنداء الكريم من عند الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وأما التحذير فيتجلى بوجوه :
الأول : النهي الصريح عن طاعة الكفار .
الثاني : بيان الضرر الفادح الذي تلحقه طاعة الكفار بالمؤمنين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ] ( ).
الثالث : قبح الإرتداد ، وهو ظلم للنفس والغير ، وهل في النداء والخطاب [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بشارة للمسلمين بالسلامة منه ،الجواب نعم ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة في نصب الإنسان خليفة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فمن علم الله تعالى أنه يمد المؤمنين بآية البحث سلاحاً وواقية من طاعتهم وخضوعهم للذين كفروا .
الرابع : بيان قبح الإرتداد ، ودعوة المسلمين والمسلمات للمناجاة فيما بينهم لإجتنابه والعصمة منه .
ومن أسباب إرتقاء المسلمين لمرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ] صيرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة دائمة لهم وملازمة للإيمان , وهو الذي يتجلى بنظم آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( ) .
ونسب الله عز وجل خطأ آدم وحواء بالأكل من الشجرة التي نهاهما عنها وهما في الجنة إلى إبليس بقوله تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ] ( ) [وقال بعضهم : دخل الجنة في فم الحية وهي ذات أربع كالبختية ، بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم تدخله إلا الحية ، فخرج إلى حواء وأخذ شيئاً من الشجرة ، وقال : انظري ما أحسن هذا فأغواها حتى أكلت ، ثم أغوى آدم .
وقالت له حواء : كل فإني قد أكلت فلم يضرني فأكل فبدت لهما سوءاتهما ، وحصلا في حكم الذنب ، ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها ، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم ، وقيل لحواء : كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم في كل شهر ، وكذلك تحملين كرهاً ، وتضعين كرهاً ، تشرفين به على الموت مراراً . زاد الطبري والنقاش : وتكونين سفيهة ، وقد كنت حليمة .
وقالت طائفة : إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد أن أخرج منها ، وإنما أغوى آدم بشيطانه وسلطانه ووساوسه التي أعطاه الله تعالى ، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ] ( ).
ويعود الضمير في (عنها) إلى الشجرة ، وقيل إلى الجنة ولكن خروجهما من الجنة لم يكن إلا بأمر من عند الله وإن كان السبب الأكل من الشجرة (قرأ حمزة وحده : فَأَزَالَهُمَا) ( ) أي نحاهما عن الجنة , والصحيح هو المرسوم في المصاحف .
فكذا وردت آية البحث بنسبة الإرتداد إلى الذين كفروا إلا أن الآية تخبر بأنهم ليسوا علة تامة للإرتداد فهم سبب لهذا الإرتداد ، والأصل في الجناية أنه يتحملها المباشر ، وقد تجلى في آية البحث من جهات :
الأولى : لزوم عدم طاعة الذين كفروا .
الثانية : طاعة الكفار طريق وسبب للإرتداد .
الثالثة : خسارة الذين يطيعون الكفار ، ولحوق الضرر بهم وحرمانهم من الثواب في الأولى والآخرة .
الرابعة : من خصائص المؤمنين التنزه عن طاعة الكفار .
الخامسة : يدل إبتداء الآية بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] على أنه إفتتاح لموضوع أو حكم أو هما معاً فتشرئب أعناق المؤمنين لها ، وهل يشاركهم أهل الكتاب والكفار بالتطلع لما بعد النداء , الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بلحاظ أن كل مرة يتلو مسلم أو مسلمة هذه الآية ينصت لهما الناس طوعاً وإنطباقاً بفضل الله عز وجل , وفيه وجوه :
الأول : الإنتفاع الأعم بين الناس من نزول الآية .
الثاني : إقتباس الناس المسائل والمواعظ من الآية الكريمة .
الثالث : إنصات الناس لتلاوة المسلم وقاية له ولإخوته , لذا تفضل الله عز وجل وجعل تلاوة القرآن واجبة في الصلاة اليومية والقراءة جهراً في ثلاث فرائض منها وهي صلاة الصبح والمغرب والعشاء .
وإذا كانت طاعة الذين كفروا سبباً للإرتداد على الأعقاب ومقدمة للوقوع في التهلكة ، فهل عدم طاعتهم نجاة من الإرتداد على الأعقاب ،الجواب نعم بقيد الإيمان ، فيكون الأصل إجتماع الإيمان مع عدم طاعة الكفار ، وهو من أسرار إبتداء الآية بالنداء التشريفي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وتقديرالآية : يا أيها الذين آمنوا حافظوا على إيمانكم بعدم طاعة الذين كفروا ).
لذا قد تحصل الخصومة بين الكافرين أنفسهم ولا يطيع بعضهم بعضاً مع لحوق الإثم لكل منهم فلابد من الإيمان ، ومن مفاهيم الآية أنه إذا وقع الخلاف والخصومة بين فريقين من الكفار فلا تطيعوا أحدهما ظناً منكم أنه إضعاف للطرف الكافر ، أو للكفار مطلقاً ، فعدم طاعة الكفار قانون مصاحب للمسلمين دائماً ،وفي حال السلم والحرب .
ومن خصائص القرآن بيان علة النهي والضرر الفادح الذي يلحق الإنسان من عدم التقيد بأحكامه ، ليكون الإستبصار صبغة يتصف بها المسلمون ، وهو من أسرار كون القرآن معجزة عقلية ، إذ يدل بيان ضرر المنهي عنه على وجوب إجتنابه والتحلي بضده الحسن .
وقال أبو تمام :
وليس يعرف طيب الوصل صاحبه … حتى يصاب بنأيٍ أو بهجران( )
ولكن القرآن بيّن النفع العظيم الذي يترشح عن الصبر والإعراض عن الكافرين وما في أيديهم ، فيتذوق المسلم حلاوة الصبر ، ويدرك أنه طريق إلى النعيم الدائم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( ).
ليتضمن النهي عن طاعة الكفار الثناء على المسلمين بدليل مجئ الإرتداد بصيغة المضارع ومقيداً بطاعة الذين كفروا بقوله تعالى [يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] لتخبر الآية في كل زمان بأن المسلمين لم يرتدوا على أدبارهم ، وتحتمل النسبة بين طاعة الذين كفروا والإرتداد وجوهاً :
الأول : نسبة العلة والمعلول وعدم تأخر الإرتداد عن طاعة الذين كفروا .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وأن أسباب الإرتداد أعم .
الثالث : الإرتداد سبب لطاعة الذين كفروا مثلما هو مسبب ومعلول لطاعتهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ، لذا فمن إعجاز الآية تحذيرها من الإرتداد بذاته وإن تباينت أسبابه وتعددت صيغه .
ومن مفاهيم آية البحث تحذير الناس جميعاً من الكفر ومن طاعة الكفار ، ليكون هذا التحذير دعوة بالواسطة لدخول الإسلام لذا ذكرت الآية ما يصاحب طاعة الكفار من الأمر القبيح من جهات :
الأولى : الإرتداد .
الثانية : بيان حد الإرتداد بأنه على الأعقاب .
الثالثة : الإنقلاب إلى الخلف والرجوع إلى العمى بعد الإنتقال إلى منازل البصيرة والهدى .
الرابعة : الخسران المبين الذي يأتي للفرد والجماعة بسبب طاعة الذين كفروا .
وهل هذا النداء بصيغة الإيمان الذي أفتتحت به الآية واقية من هذا الإرتداد أم لابد من الجد والإجتهاد في طاعة الله ، والإحتراز من طاعة الذين كفروا .
الجواب لا تعارض بين الأمرين إنما هما من الخاص والعام ، فان هذا النداء حرز من طاعة الذين كفروا كما أنه باعث للمسلمين لتعاهد الفرائض العبادية .
ومن الإعجاز فيها أن كل فرد من الفرائض حاجب من طاعة الذين كفروا ، فكل فرد من الصلوات اليومية الخمسة يؤديه المسلم مانع من الإنصات للذين كفروا ، وإذا أداه جماعة يكون أكثر نفعاً لأن الجماعة مدد وعون لإجتناب طاعة الذين كفروا وكذا كل يوم يصومه المسلم هو برزخ دون طاعة الذين كفروا لتأتي ثلاثين يوماً متعاقبة من الصيام في شهر رمضان مقترنة بالصلاة مع حجز وتقييد الشياطين بالسلاسل والأغلال بفضل من الله لتنمية ملكة التقوى عند المسلمين .
[وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : رمضان شهر مبارك تفتح فيه أبواب الجنة و تغلق فيه أبواب السعير وتصفد فيه الشياطين و ينادي منادي كل ليلة يا باغي الخير هلم و يا باغي الشر أقصر)( ).
افاضات الآية
تكشف آية البحث حقيقة وهي أن المسلمين في حال حرب دائمة ومفتوحة مع الذين كفروا , وتشترك فيها النساء من الطرفين لذا جاءت الآيات بذكر المسلمات والمؤمنات بعرض واحد مع المسلمين والمؤمنين .
ومن إعجاز القرآن ذكر المسلمات مرة واحدة بينما ذكرت المؤمنات فيه ثماني عشرة مرة إلى جانب أوصاف وخصال حميدة تتصف بها المؤمنات , وقد تجتمع في آية واحدة كما في قوله تعالى [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] ( ).
وذكر الله عز وجل المنافقات خمس مرات , وردت كلها متعقبة لذكر المنافقين وذكر المشركات وبصيغة الوعيد الصريح والتخويف بالعذاب ، قال تعالى [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ]( ) كما وردت لغة التأنيث للكافرات مرة واحدة في القرآن بقوله تعالى [وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ] ( ).
[قال ابن عباس : يقول لا تأخذوا بعقد الكوافر ممن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها فقد أنقطعت عصمتها منه وليست له بامرأة .
وإن جاءتكم امرأة مسلمة من أهل مكّة ولها بها زوج كافر فلا تعتدن به فقد أنقطعت عصمته منها.
قال الزهري : فلما نزلت هذه الآية طلّق عمر بن الخطاب أمرأتين كانتا له بمكّة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوّجها بعده معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمر بن حروا الخزاعية أم عبد الله بن عمر]( ).
ولكن المشهور أن أمه زينب بنت مظعون وأنه أخو حفصة زوج الرسول لأبويها والتي تزوجها النبي بعد وفاة زوجها خنيس بن حذافة بالمدينة وهو ممن شهد بدراً , وكان زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها بعد زواجه من عائشة .
وتنمي آية البحث وقلة الإيمان في نفوس المسلمين ، وتروض قلوبهم على القناعة والرضا بقدر الله ومجاهدة النفس وزجرها عن الإنقطاع إلى حب التملك والإكثار من الذنوب واللهث وراء الدنيا ، فقد يقود هذا اللهث إلى الإستعانة بالكفار والإستماع لهم وطاعتهم او إلى ضعف الإيمان فينفذ منه الذين كفروا ليبثوا سمومهم ، قال تعالى [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً] ( ) .
وهل الغفلة عن الأسلحة أعلاه من طاعة الذين كفروا التي تحذر منها آية البحث الجواب لا ، إنما هو أمر أخر وتفريط يؤدي إلى الخسارة لبيان التعدد في فضل الله في تحذير المسلمين في حال الحرب والسلم .
وتبين آية البحث حب الله عز وجل للمسلمين إذ أراد لهم عدم نزع الإيمان من نفوسهم ما داموا في الحياة الدنيا ، إذ تطل عليهم آية البحث بالنداء التشريفي الذي هو مدد للإمتثال العام والخاص لما يرد بعده في ذات الآية والآيات القرآنية الأخرى .
لقد أراد الله عز وجل أن يسمع الناس جميعاً ثناءه على المسلمين ،وفيه ترغيب بدخول الإسلام , ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الإنتماء إلى الإسلام غير مقيد بشرط أو إذن من أحد ، إنما هو علقة وصلة بين العبد وربه تتقوم بالنطق بالشهادتين ، وهو من مصاديق الهداية في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) .
إذ تدل الآية أعلاه على مجئ الهداية من عند الله مباشرة للعباد من غير واسطة من أحد وإستدامتها وإستمرارها بالدعاء .
الآية لطف
من إعجاز القرآن مجئ كل من البشارة والوعيد بصيغة اللطف وبعث اليقين بأن الفضل بيد الله وأنه سبحانه الهادي إلى الفلاح والنجاح ، ومن أسرار آية البحث إبتعاد المسلمين عن ظلم الغير ، وإنشغالهم مجتمعين ومتفرقين باصلاح الذات والإحتراز من إعانة الكفار والتنزه من طاعتهم لأمور :
الأول : هذا التنزه محبوب بذاته لأنه من الشواهد على إمتلاء قلب المسلم بالإيمان ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الإيمان سبع وسبعون شعبة ، أعلاها : شهادة أن لا إله إلا الله . وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان] ( ).
الثاني : ندب المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبيان مصاديق لكل منهما، فمن المنكر بلحاظ آية البحث أمور :
أولاً : الكفر والجحود وهو أقبح ضروب المنكر .
ثانياً : طاعة الذين كفروا فيما يأمرون به من أسباب الضلالة .
ثالثاً : الإنقلاب والإرتداد عن الإيمان .
وهل تلاوة آية البحث من الأمر بالمعروف والنهي عن هذه المنكرات ،الجواب نعم ، وهو من أسرار مجىء الثواب للمسلمين على نحو دفعي ومتجدد كل يوم [عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان)( ).
وتضمنت الآية في مفهومها حث المسلمين على تعاهد طاعة الله وأداء الفرائض والإمتناع عن الركون للكافرين في ظلمهم ،وهي نهي عن المنكر من جهات :
الأولى : الآية زجر للمسلمين عن طاعة الكفار .
الثانية : دعوة الذين يطيعون الكفار إلى الإمتناع والكف عن هذه الطاعة .
الثالثة : حث الناس لإجتناب طاعة الكفار لأن الله عز وجل حذر منها .
الرابعة : جعل الكفار يدركون قبح الكفر ، ومجئ الذم لهم بسبب هذا الكفر ، وبعث اليأس في نفوسهم بعد نزول القرآن فلا يظنون أن الناس تطيعهم .
وتحبب آية البحث الذكر والإستغفار للنفوس ، وتبعث على النفرة من المنافع الدنيوية والشهوة والمال والجاه التي تأتي بواسطة طاعة الكفار لأنها تجعل المسلم يدرك أن ما عند الله عز وجل من أسباب الفضل واللطف أعظم ، واللطف لغة الرفق .
(عن ابن الأعرابي يقال: لَطف فلان لفلان يَلْطُف: إذا رفَق لُطْفاً: ويقال: لَطَف الله لك. أي أوصل إليك ما تُحب برفق)( ).
ولكن لطف الله أعم موضوعاً وأثراً وحكماً ،فلا يختص بما يصل إليك ، فمنه أن الله يوصلك إلى ما ينفعك ويبعدك عما يضرك لذا فأن آية البحث خير محض ولطف دائم بالمسلمين وباعث لليأس والقنوط في نفوس الكفار ، وبعث اليأس هذا من اللطف الإلهي بالمسلمين والكفار والناس [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
جاء أول الآية نداءً للمسلمين والمسلمات ،وفيه تنبيه ودعوة للإنصات والإصغاء , وتحتمل وجوهاً :
الأول : إختصاص الدعوة بالصحابة وأهل البيت .
الثاني : شمول الدعوة للمسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة.
الثالث : دعوة الإنصات في نداء [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تشمل أهل الكتاب .
الرابع : شمول دعوة الإنصات هذه للذين كفروا الذين تحذر الآية منهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق آية البحث ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) بلحاظ أن هذه الإنصات مقدمة للتدبر في مضامين الآية القرآنية وما فيها من النهي وسوء عاقبة مخالفته ، قال تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا] ( ).
فيأتي الخطاب القرآني خاصاً ، ولكن موضوعه عام ،وفيه مسائل :
الأولى : إرادة النفع العام من الآية القرآنية ، وهو من مصاديق قانون (كل آية قرآنية فرقان ) الذي سيأتي بيانه في الجزء المبارك التالي إن شاء الله .
الثانية : بيان إنتفاع الناس جميعاً من إيمان المسلمين فالذي ينطق بالشهادتين والذي يؤدي الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج هو داعية إلى الله ، وشاهد على نزول القرآن من عند الله .
الثالثة : تأكيد حقيقة وهي حال الهيبة والشأنية العظيمة للآية القرآنية عند نزولها وعند تلاوتها ، وهو من أسرار قراءة القرآن في الصلاة .
ولا تختص الصلة في الآية بين أولها وآخرها بل يتجلى التداخل بينهما وبين الآية التي قبلها والآية التي بعدها والتي إبتدأت بحرف الإضراب والإبطال [بل] لإبطال الأول وهو خسارة المؤمنين .
لقد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]ليكون على وجوه :
الأول : إنه مقدمة للنداء التشريفي .
الثاني : الإخبار بأن الإيمان إحسان محض للذات والغير [عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « أن رجلاً قال : يارسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك . قال : طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي , ولم يرني)( ).
الثالث : تهيئة الأذهان لما تتضمنه آية البحث من النهي وبيان موضوعيته واثره .
الرابع : بعث النفرة في نفوس المسلمين من الكافرين .
الخامس : ترغيب المسلمين بالإيمان وأصول وفروع الدين وكل فرد منها واقية وحرز من طاعة الكافرين .
ويبعث النداء التشريفي والشهادة من عند الله للمسلمين بالإيمان الفخر والعز في نفوسهم ليكونا مناسبة لتلقي النهي عن طاعة الكفار بالإمتثال ولا يقف هذا النهي عند الإمتثال له ، لدلالته بالدلالة التضمنية على أضرار طاعة الكفار ، ليكون إجتناب طاعة الكفار سجية ثابتة عند المسلمين فكما يتوارثون تلقي النداء [يا أيها الذين آمنوا] فأنهم يتوارثون الإحتراز من طاعة الكفار ، وهو من أسرار إبتداء الآية بالنداء [يا أيها الذين آمنوا] .
ثم إنتقلت الآية إلى ذكر أثر طاعة الكفار وهو الإرتداد والنكوص والإرتماء في الفتنة ،وفي التنزيل [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ) لبيان أن التضاد بين الإيمان والكفر بالذات والأثر الذي يترتب على كل منهما وموضوعية الطاعة في هذا الأثر ، ويدرك كل مسلم ومسلمة القبح الذاتي للكفر ، لذا جاءت الآية بالبيان التفصيلي للأضرار والأخطار التي تحف بمن يطيع الكفار .
ليرتقي المسلمون إلى مرتبة وهي عدم كفاية التنزه من الكفر بل لابد من العصمة من طاعة الكفار لأن فيها الإرتداد .
وجاءت الآية بالنهي المطلق عن طاعة الكفار ، وتحتمل طاعتهم على نحو السالبة الجزئية وجوهاً :
الأول : تؤدي الطاعة الجزئية للكفار إلى ما هو أدنى من الإرتداد .
الثاني : الإرتداد من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، فتؤدي الطاعة الجزئية في المقام إلى إرتداد محدود في موضوعه , ولكن يصدق عليه إرتداد .
الثالث : لا يتحقق الإرتداد إلا بالطاعة التامة للكفار .
والصحيح هو الثاني ، فان أي طاعة في قضية أو واقعة قد تؤدي إلى نوع إرتداد على الأعقاب ، لذا فان النهي المطلق عن طاعة الذين كفروا إنحلالي ، فيجب عدم طاعتهم فيما يقولون أو يأمرون أو ينهون أو يفعلون من أسباب الكفر ، وضروب الضلالة.
ولم تقل الآية (على أعقابهم ) لأن الكفار لم يجاوزوا مرتبة الأعقاب ولا يصدق عليهم أنهم مرتدون لأن الإرتداد بعد الإيمان ، بل قالت الآية [عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ليكون حال المرتد مثل حال الكفار في التخلف عن الواجبات والوظائف العبادية .
لقد صار المؤمنون فتنة للذين كفروا ليزداد ثواب المؤمنين ويزداد الوزر والإثم على الذين كفروا ، وجاءت هذه الآية لمنع الكفار من الفلاح , ولصدهم عن أسباب الرشاد ، لقد منع الكفار أنفسهم عن الصراط المستقيم ، فأرادوا أن يضلوا ويحجبوا المؤمنين عنه فأكرم الله عز وجل المسلمين بالواقية من هذا الحجب ، لبيان قانون وهو أنه إذا جاء النداء التشريفي للمسلمين [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فلا يقف هذا التشريف عنده فما يأتي بعده يتضمن تشريف المسلمين أيضاً ، ويتجلى بالمنافع العظيمة للنهي عن طاعة الذين كفروا .
فلم تبين الآية أن النهي عن طاعتهم لأنهم أعداء لله ولرسوله والمؤمنين , فجاء هذا البيان بنعتهم بالكفر ، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ] ( ) وبين الذين كفروا في آية البحث وبين الذين ذكرتهم الآية أعلاه عموم وخصوص مطلق فآية البحث أعم ، وقد يأمر الكفار الذين لا يقاتلون المسلمين بالمهادنة والصلح المهين مع الكفار المقاتلين ، أو يخوفون هم والمنافقون المسلمين منهم لذا جاءت آية البحث بالمعنى الأعم .
فذكرت الآية ما يلحق المسلمين من الضرر في الدنيا والآخرة بطاعة الذين كفروا لقد إبتدأت آية البحث بالنداء للمسلمين بصفة الإيمان ليكونوا بذات المرتبة عند خاتمة الآية إيضاً ، فأختتمت الآية بقوله تعالى [فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] لبيان أن النداء التشريفي في أول الآية عصمة من الإنقلاب وواقية من الخسارة ،فتأتي الآية القرآنية بالنهي ليبعث الغبطة والأمل في نفوسهم وللتقيد بأحكامه .
وتتصف آية البحث بورود مضامينها بصيغة الجمع من جهات :
الأولى :النداء والإكرام من عند الله للمسلمين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ليكونوا بمرتبة وعرض واحد في تلقي هذا الفضل الإلهي وهل للطبقة الأولى من المؤمنين وأهل البيت الذين صاحبوا التنزيل من فضل على طبقات التابعين وتابعي التابعين في المقام ، الجواب نعم ، إذ بادروا إلى العمل بأحكام الآية القرآنية وصاروا أسوة للأجيال اللاحقة.
الثانية : صيغة الجمع في النهي عن طاعة الذين كفروا من وجوه:
الأول : إرادة الجمع بالنسبة للذين يتوجه لهم الخطاب بالنهي، وهم ذات المسلمين والمسلمات الذين أفتتحت الآية بالنداء لهم لبيان إفادة هذا النداء بعث المسلمين على التقيد بأحكام هذا النهي .
الثاني : الجمع بالنسبة للطرف المنهي عن طاعته ، وهم الذين كفروا، فلم تقل الآية : ولا تطع الذين كفروا ، ولم تقل ولا تطيعوا الذي كفر .
وفي صيغة الجمع في الذين كفروا نكتة قرآنية وهي أن الكفار يتعاونون في الباطل والسعي لإرتداد المسلمين وينفقون الأموال بهذا الخصوص ، فلم يترشح موضوع الإرتداد المحتمل عرضاً عن فعل قبيح للكفار ، كما أنهم لم يقصروا في سعيهم إرتداد المسلمين ، ولكن ضعيف الإيمان قد يقتبس منهم ويدّب الشك إلى نفسه ، فجاءت الآية لحصانته وإعاذته من كيدهم، لذا فمن معاني آية البحث أنها فضح للكفار , وإخبار عن سوء نواياهم ، وهو من مصاديق مكر الله بهم ، لذا أخبر سبحانه بأن [مَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ] ( ) أي يفسد ولم ينتفع الذين كفروا منه، ومن أسباب عدم إنتفاعهم منه نزول آية البحث.
الثالث : الجمع في أفراد ومواضيع الطاعة المنهي عنها ، وهو المستقرأ من مضامين آية البحث , ومن إستدامة النهي وتعدده مع إختلاف الأحوال ، وتجدده مع تعاقب الأجيال وسيأتي مزيد بيان في التفسير ، وتقدير قراءة الآية .
الثالثة : سعي الكفار لإرتداد المسلمين لقوله تعالى [يَرُدُّوكُمْ]وهو ظاهر حتى في الصناعة النحوية ، والذي يتضمن صيغة الجمع بالنسبة للفاعل والمفعول به .
الرابعة : الأثر المترتب على طاعة الذين كفروا .
الخامسة : الخسارة العامة بسبب الإنقلاب والإرتداد.
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : إن تطيعوا الذين كفروا في الإعتقاد والمبدأ .
الثاني : إن تطيعوا الذين كفروا في القعود عن الجهاد .
الثالث : إن تطيعوا الذين كفروا في الناسخ والمنسوخ كما في تغيير القبلة ومجئ القرآن بوجوب التوجه إلى البيت الحرام (عن ابن عباس قال : صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة في رجب ، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفاعة بن قيس ، وقردم بن عمرو ، وكعب بن الأشرف ، ونافع بن أبي نافع ، والحجاج بن عمرو ، حليف كعب بن الأشرف ، والربيع بن أبي الحقيق ، وكنانة بن أبي الحقيق .
فقالوا له : يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ، ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك ، وإنما يريدون فتنته عن دينه . فأنزل الله [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ]( )، إلى قوله { إلاَّ لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } أي ابتلاء واختباراً { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله }أي ثبت الله { وما كان الله ليضيع إيمانكم } يقول : صلاتكم بالقبلة الأولى ، وتصديقكم نبيكم ، واتباعكم اياه إلى القبلة الآخرة ، أي ليعطينكم أجرهما جميعاً { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } إلى قوله { فلا تكونن من الممترين }( ).
الثالث : إن تطيعوا الذين كفروا في أسباب الفرقة والإختلاف .
الرابع : إن تطيعوا الذين كفروا في مقدمات الظلم .
الخامس : إن تطيعوا الذين كفروا في فعل المعاصي وإرتكاب الآثام وهذه الطاعة خلاف ما جاء به القرآن والسنة .
السادس : إن تطيعوا الذين كفروا في تحريمهم لما أحل الله وتحليلهم لما حرم الله .
السابع : إن تطيعوا الذين كفروا في أمرهم بالمنكر وينهم عن المعروف .
الثامن : إن تطيعوا الذين كفروا في السر أو العلانية .
التاسع : إن تطيعوا الذين كفروا في الحضر أو السفر .
العاشر : إن تطيعوا الذين كفروا في جحودهم بالنبوءات .
وذكرت الآية مقاصد الكفار الخبيثة وسعيهم لإرتداد بعض المسلمين بما يأمرون به خلاف الشريعة والحق ، بقوله تعالى [يَرُدُّوكُمْ] ثم بينت الآية حال الذين يرتدون على أعقابهم بانقلابهم خاسرين محرومين من الثواب العظيم، وهو من إعجاز آية البحث بأن تكون الخسارة خاصة بالذي يطيع الكافرين ، ويستمع لقولهم ويأتمر بأوامرهم ، فلم تقل الآية : فينقلبون خاسرين ) مثلما نسبت الآية سبب الإرتداد على الأعقاب إلى الذين كفروا ، لبيان أن السلامة من الخسارة من التكليف .
وليس كل الضرر ينسب إلى الكفار , فالإنسان يدرك بعقله سوء وقبح وضرر إتباع وطاعة الذين كفروا ، وإمتاز المسلم بأن جاءت الآيات بالتحذير والتخويف من هذه الطاعة التي لا تجلب لصاحبها إلا الخسران، وجاءت سورة العصر بذكر الذين ينجون من الخسران بقوله تعالى [وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]( ) .
أما الإيمان فقد شهدت آية البحث للمسلمين ببلوغ مراتبه والحمد لله، وأما العمل الصالح فان إجتناب طاعة الكفار عمل صالح لأنه ترك عن نية وعزم، وأما التواصي بالحق فيتجلى بتلاوة آية البحث، ويتجلى التواصي بالصبر بتعاهد الفرائض والسنن العبادية , وكل فرد منها حرز وواقية من الميل والركون للذين كفروا.

من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : إشتراك المسلمين بنداء الإكرام [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ليكون من الكلي الطبيعي الذي يتغشاهم جميعاً ، ويحتمل وجهين :
الأول : إنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
الثاني : إنه من الكلي المتواطئ الذي يكون على مراتب متساوية من جهات :
الأولى : صيغة الخطاب .
الثانية : ماهية الخطاب .
الثالثة : معاني الثناء والمدح .
الرابعة : درجة التحذير والإنذار .
الخامسة : سوء العقوبة لمن يرتد عن دينه .
والصحيح أن الخطاب التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] من الكلي المتواطئ فيأتي بمرتبة واحدة ليشمل المؤمن والمؤمنة , والمسلم والمسلمة , والحر والعبد , والغني والفقير ، والآمر والمأمور ، ولو كانت طائفتان من المسلمين تقتتلان فيحتمل الخطاب في توجهه وجوهاً :
الأول : حجب الخطاب عن الطائفتين وخروجهم بالتخصيص من عمومات الخطاب التشريفي .
الثاني : حجب الخطاب عن الطائفة التي بدأت القتال والطائفة المعتدية .
الثالث : عدم حجب الخطاب التشريفي في آية البحث عن أي منها .
والصحيح هو الأخير أعلاه ، وهو من معاني الكلي المتواطئ أعلاه فجاءت الآية بالجامع المشترك بين المسلمين لأن الإيمان واقية من الإقتتال بين المسلمين، وتدل عليه الآية التالية[بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]( ).
الثاني : بيان قانون وهو إتصال وملازمة الأحكام العبادية مع الإيمان ، فما أن يدخل الإنسان الإسلام حتى تأتيه الأوامر والنواهي ويحتمل وجوهاً:
الأول :مجئ الأوامر للمسلمين قبل النواهي .
الثاني : مجئ النواهي للمسلمين قبل الأوامر ، لأن النواهي قبيحة بذاتها ، وهي برزخ دون الإمتثال للأوامر الإلهية .
الثالث : مجئ الأوامر والنواهي بعرض وزمان واحد .
والصحيح هو الأول بدليل قوله تعالى أن أول آية أنزلت من عند الله هي [بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( )وهو فعل وليس تركاً ، وحتى آية البحث تدل على هذا المعنى إذ إبتدأت بصيغة الإيمان.
ولا يعني هذا أن الإمتناع عن المنهي عنه أمر عدمي، بل هو أمر وجودي أيضاَ ولكن الأمر يكون سلاحاً ومدداً في هذا الإمتناع الذي يكون أيضاً مدداً وعوناً في الإمتثال للأوامر من غير أن يلزم الدور بينهما وتدل عليه آية البحث بأن إبتدأت بالنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] .
ويدل بالدلالة التضمنية على تقيد وإمتثال المسلمين للأوامر الإلهية.
الثالثة : تقسم آية البحث الناس إلى قسمين :
الأول : المؤمنون .
الثاني : الكافرون .
وهل يحتمل قسيم ثالث غيرهم بلحاظ أن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره , الجواب نعم , ليتدبر أهل الكتاب والناس جميعاً في إعجاز القرآن ويدركون أن وظيفة المسلمين العقائدية هي عدم طاعة الذين كفروا، وفيه بعث لليأس في نفوس أعدائهم ليكون هذا المنع عوناً للمسلمين في السلامة من الإرتداد ، وهو من الشواهد على أن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية فيأتي الخطاب بالنهي للمسلمين فيتعظ الناس منه ، وتكون للمسلمين هيبة في نفوس الناس وفيها مسائل :
الأولى :إنها مقدمة لدخول الناس الإسلام .
الثانية : عدم طمع الذين كفروا بأغواء المسلمين أو جعلهم يتركون فرائضهم وعباداتهم أو حصول التقصير في أدائها أو الخلاف والخصومة في كيفيتها ولما نزل أمر الله عز وجل بتحويل القبلة إلى البيت الحرام أظهر الذي في قلوبهم مرض الريب وتعمدوا ركوب جادة المغالطة فنزل قوله تعالى [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ] ( ).
وأخرج ابن أبي شيبة وابن حرير في قوله[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، قال: أعرض عن أذاهم إياك( ).
ولكن هناك تباين بين الجدال والإعراض من وجوه:
الأول : الجدال نوع مفاعلة، وفيه أطراف:
أولاً : المجادل : يقال جادل يجادل مجادلة وجدالاً.
ثانياً : موضوع الجدال والحوار والمسألة التي يقع فيها الخلاف والخصومة.
ثالثاً : المُجادًل، بصيغة المفعول.
الثاني : صحيح أن الإعراض هنا أمر وجودي لإفادته الترك ولكن معنى الترك لا يستقيم مع نظم الآية، إذ تقول (أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
الثالث : من خصائص القرآن أنه يفسر بعضه بعضاَ، قال تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ]( )، فحتى الذين ظلموا منهم لايعرض عنهم بل يجادلون بالمشتركات والسور الجامع في الوحدانية .
الرابع : قد ورد عن مجاهد نفسه في تفسير الآية أعلاه قولان كلاهما مناقض لتفسيره للآية أعلاه ومعنى الإعراض:
الأول : أخرج الفريابي وابن جرير عن مجاهد في قوله { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم } قال : الذين قالوا : مع الله إله أو له ولد أو له شريك ، أو يد الله مغلولة ، أو الله فقير ونحن أغنياء ، أو آذى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهم أهل الكتاب . وفي قوله { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } قال : لمن يقول هذا منهم . يعني من لم يقل مع الله إله ، أو له ولد ، أو له شريك ، أو يد الله مغلولة ، أو الله فقيراً ، وآذى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج الفريابي وابن جرير عن مجاهد في قوله { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } قال : إن قالوا شراً فقولوا خيراً { إلا الذين ظلموا منهم } فانتصروا منهم( ).
الثاني : سفين عن خصيف عن مجاهد : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ) قال ولا تجادلوا ولا تقاتلوا إلا من قاتلكم ولم يعط الجزية( ).
وفي رواية ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم إضافة عن مجاهد: ومن أدى منهم الجزية فلا تقولوا لهم إلا حسناً( ).
وبخصوص آية البحث هل يختص الإمتناع عن طاعة الذين كفروا بالأعراض عنهم، أم يشمل الجدال والإحتجاج وإقامة البرهان الجواب هو الثاني.
ولما سعى المسلمون في الحج والعمرة بين الصفا والمروة ، تساءل بعضهم إنكاراً لأن المشركين كانوا يسعون بينهما فنزل قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]( ).
فما دام السعي من شعائر الله فلا ضير على المسلمين من إتيانه, وإنقرض المشركون وزالت معالم الكفر والأصنام من مكة، وبقي المسلمون وحدهم يؤدون الحج ومناسكه (وأخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث علياً عليه السلام بأربع : لا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى عهده ، وإن الله ورسوله بريء من المشركين)( ) .
ونزلت سورة براءة على نحو متفرق قبل وبعد معركة تبوك، التي خرج لها رسول الله في شهر رجب سنة تسع للهجرة , وبعد حصار الطائف بستة أشهر , أما الآيات (1-28) منها فنزلت قبيل أيام الحج من السنة التاسعة للهجرة.
الرابعة : تذم الآية الكافرين من وجوه :
الأول : تسمية الكافرين باسمهم ، وما يدل على جحودهم وإنكارهم للربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثاني : إتحاد وتشابه والتقاء الكافرين بالكفر والضلالة .
الثالث : التحذير من طاعة الذين كفروا مما يدل بالدلالة التضمنية على أنهم لا يأمرون بما هو خير وما فيه صلاح ونفع .

أسباب النزول
في الآية وجوه :
الأول : ورد عن الإمام علي عليه السلام أن الآية نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة : إرجعوا إلى أخوانكم وأدخلوا في دينهم ( ) والمراد من الهزيمة يوم أحد.
الثاني : كانت طائفة من الناس يوقعون الشبه في الدين (وقيل نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم ولو كان محمد نبياً لما قتل . وقيل أن تستكينوا لأبي سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم . وقيل عام في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم فإنه يستجر إلى موافقتهم( ).
الثالث : إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم [يردوكم]إلى دينكم( ).
الرابع : قول المشركين وغيرهم يوم احد للمسلمين ارجعوا إلى دين آبائكم ( ).
الخامس : إرادة العموم والتحذير من طاعة الكفار مطلقاً.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق هذه الآية الكريمة التي نزلت بعد معركة أحد ، وما لاقاه المسلمون فيها من الخسارة في الأرواح وكثرة الجراحات والكلوم فأتخذها عبد الله بن أبي سلول وأصحابه المنافقون وكذا المشركون مناسبة لحث المسلمين على ترك إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فبينت الآية السابقة الثواب العظيم الذي ناله المجاهدون من المسلمين في الدنيا ، وما ينتظرهم في الآخرة من الثواب الذي يتجلى باللبث الدائم في النعيم ، وتدل على موضوعية أسباب النزول في الآية صيغة الجملة الشرطية وتقديرها : إن تطيعوا الذين كفروا بما يأمرون به يردوكم ).
ليكون من إعجاز الآية الكريمة أنها سلاح إيماني يواجه سموم المشركين وشكوك المنافقين وريب الحاسدين ، ويحتمل أثر وتأثير الآية الكريمة في المقام وجوهاً :
الأول : كفاية آية البحث في إبطال سحر الكفار ، وهي فضح لمآربهم الخبيثة .
الثاني : حاجة هذه الآية لتعضيد آيات أخرى لها لحصول تمام الأثر والتأثير .
الثالث : من خصائص السنة النبوية أنها تفسير للقرآن فلابد من مجئ السنة القولية والفعلية لبيان المقاصد التفصيلية للآية الكريمة ، كما أن ذات الآية تأكيد سماوي لحث النبي للإقامة في منازل الإيمان ، وعدم طاعة الكفار والإستماع إليهم .
الرابع : الأثر والتأثير لآية البحث زجر المسلمين والمسلمات عن طاعة الذين كفروا , ولكن على نحو الموجبة الجزئية .
والصحيح هو الأول ويكون الثاني والثالث في طوله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) فتنزل الآية القرآنية فتكفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في الموضوع والحكم الذي تنزل فيه .
التفسير
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]
خطاب إكرام وتشريف خصّ به الله عز وجل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، فهو أعظم وأوسع خطاب من جهة عدد المتلقين ، فلما أخبرت الآيات السابقة عن نعت أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم باسم تشريفي والنسبة إلى الله عز وجل مع تأكيد كثرتهم مع كل نبي بقوله تعالى [رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]تفضل الله عز وجل وآتى المسلمين نعتاً يعرفهم به أهل السموات والأرض , ولا يختص هذا النعت بأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته كما في لفظ (الربيين) وصحبتهم للأنبياء بل يصاحب أجيال المسلمين في كل زمان من جهات :
الأولى : النداء التشريفي للمسلمين .
الثانية : تحذير أجيال المسلمين من الركون للكفار والإنصات لهم .
الثالثة : وجوب التوقي من الإرتداد وما يترشح عنه من الخسران (ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة] ( ).
لتكون كثرة عدد المسلمين والمسلمات في هذا الزمان والإحصائيات للأزمنة اللاحقة مصداقاً لرجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا ، وورد هذا النداء في القرآن تسعاً وثمانين مرة وفي عشرين سورة من سور القرآن ، وهي وفق ترتيب سور القرآن كالآية :
1 – سورة البقرة 11 مرة
2- سورة آل عمران 7 مرات
3- سورة النساء 9 مرات
4- سورة المائدة 16 مرة ،وهي أكثر السور التي أنزل فيها هذا النداء التشريفي من جهات :
الأولى : سورة المائدة آخر سور القرآن نزولاً .
الثانية : بيات هذه السورة للكثير من الأحكام الشرعية .
الثالثة : كثرة النداء هذه شاهد على التخفيف عن المسلمين بفتح مكة وقلة الحروب والمعارك مع المشركين .
الرابعة : دخول الناس في الإسلام أفواجاً وحرصهم على التفقه في الدين ، لذا تكرر لفظ يسألونك في القرآن خمس عشرة مرة ، جاء في سورة البقرة سبع مرات ، ولم يرد في سورة آل عمران ، وورد مرة واحدة في سورة المائدة [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ] ( ).
وردت هذه الأسئلة في باب الحلال والحرام ، والآيات الكونية ، وقيام الساعة ، قال تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ]( ) وفي الآية أعلاه مسائل :
الأولى : الإطلاق في السؤال من غير تقييد بيتامى المسلمين ، أو خصوص أبناء الشهداء الذين قتلوا في الدفاع عن الإسلام .
الثانية : تفضل الله عز وجل بالإجابة بخصوص اليتامى لبيان ما لهذا المسألة من الشأن .
الثالثة : لزوم العناية باليتامى مطلقاً ،وإصلاحهم لسبل الرشاد والفلاح .
وهل من صلة بين النداء [يا أيها الذين آمنوا] وبين قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ] الجواب نعم .
الرابعة : قاعدة تقديم الأهم على المهم ، وبيان أن تنمية ملكة الإيمان عند اليتامى هو الأهم والأولى من وجوه :
الأول : إصلاح اليتيم لوظائفه العبادية .
الثاني : نشر وتثبيت معالم الدين .
الثالث : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابع : تأديب المسلمين للعناية باليتامى ، والتصرف الشرعي في أموالهم من غير إسراف وتفريط ، قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
الخامس : بيان الأخوة الإيمانية بين المسلمين ، وأنها تشمل عناية الحي بأولاد الميت من المسلمين .
السادس : تهيئة وإصلاح الجيل اللاحق لسنن الهداية والإيمان .
الخامسة : إستقراء قانون كلي من الآية ،وهو لزوم إصلاح الأبناء وتربيتهم على مناهج الربيين في تقوى الله والإستغفار والدعاء .
5- سورة الأنفال 6 مرات .
6 – سورة التوبة 6 مرات .
7 – سورة الحج مرة واحدة .
8 – سورة النور 3 مرات .
9 – سورة الأحزاب 7 مرات .
10 – سورة محمد مرتين .
11 – سورة الحجرات 5 مرات .
12 – سورة الحديد مرة واحدة .
13 – سورة المجادلة 3 مرات .
14 – سورة الحشر مرة واحدة .
15 – سورة الممتحنة 3 مرات .
16 – سورة الصف 3 مرات .
17 – سورة الجمعة مرة واحدة .
18 – سورة المنافقون مرة واحدة .
19 – سورة التغابن مرة واحدة .
20 – سورة التحريم مرتين .
وإذ إختصت الآيات الثلاثة السابقة في قصة الربيين وجهادهم وإستغفارهم وأخبرت عن إنقضاء أيامهم بقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ( ).
وقد مضت أيام الأنبياء السابقين وأخرهم الرسول عيسى عليه السلام إذا كانت هناك فترة في النبوة بينه وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو ستمائة سنة لتتجلى حاجة أهل الأرض إلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبيان المنزلة العظيمة لأهل بيته وأصحابه في إيمانهم وجهادهم وصبرهم في محاربة الكفار والوثنية بينما ورد الخطاب في آية البحث لأجيال المسلمين وإلى يوم القيامة فهو متجدد في جهة الخطاب .
فكلما يطل على الناس الجديدان الليل والنهار كذا تطل على أهل الأرض نسخة جديدة من ذات النداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فان قلت جاءت الآية بالتقييد في النداء وإرادة خصوص المسلمين والجواب هذا صحيح ، وفيه مسائل :
الأولى : وجوب الإيمان بالله والنبوة على كل الناس .
الثانية : لقد حرم الكفار أنفسهم من تلقي الخطاب هذا الخطاب بالإصرار على الكفر والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار , عن عدي بن حاتم(قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يؤتى يوم القيامة بناس بين الناس إلى الجنة ، حتى إذا دنوا منها استنشقوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها فيقولون : يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من الثواب وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون .
قال : ذاك أردت بكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظيم ، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين ولم تجلوني ، وتركتم للناس ولم تتركوا إلي ، فاليوم أذيقكم العذاب الأليم مع ما حرمتم من الثواب] ( ).
الثالثة : من خصائص نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] دعوة الناس جميعاً إلى الإسلام ، وترغيبهم بالصلاة والصيام وأداء الفرائض مطلقاً .
الرابعة : بيان التشابه والإتحاد في خطابات التنزيل ، وعن الإمام علي عليه السلام قال : ليس في القرآن يا أيها الذين آمنوا إلا وهي في التورية يا أيها الناس، وفي خبر آخر يا أيها المساكين( ).
الخامسة : بعث المسلمين على أداء الفرائض وإدراك وجوبها ، وعدم الإلتفات إلى أهل الشك والريب ، إن أداء المسلم للفريضة العبادية صلاة كانت أو صياماً أو زكاة أو حجاً إنما هو حرب على الكفر , ومن مصاديق سلامة المسلم من طاعة الذين كفروا .
فقد وردت آية البحث بالنهي عن طاعتهم والتحذير منها بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بعد إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( )، وكل أداء للفريضة هو تأكيد لسلامة المسلمين من طاعتهم لذا تفضل الله عز وجل وشرع الأذان للصلاة ،وأداءها خمس مرات في اليوم وإستحباب أدائها جماعة لتأتي صلاة الجمعة لبيان موضوعية الصلاة ، وهي إعلان عبادي للحرب على الكفر والشرك ، فتكون دليلاً على عدم طاعة الكفار من باب الأولوية القطعية .
ومن بين نداءات [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] التسعة والثمانين الواردة في القرآن جاء واحد منها خاصاً بصلاة الجمعة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ] ( )وذكر اسم يوم السبت والجمعة في القرآن من بين أيام الأسبوع ، ومن الإعجاز أن اسم يوم السبت ورد خمس مرات في القرآن كلها بلغة الإنذار والوعيد [وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ]( ) بينما ورد ذكر يوم الجمعة خاصاً بالمسلمين وبصبغة العبادة وإقترن بصلاة جامعة مخصوصة سميت باسمه .
لما بينت الآية السابقة ما رزق الله عز وجل الربيين من النعم الدنيوية والأخروية وبصفة الثواب والجزاء تعقبتها هذه الآية بالإبتداء بالنداء للمسلمين بصيغة الإيمان وصبغة الهداية ليكون من أسرار هذا التعاقب أمور :
الأول : بيان علة ووجه من وجوه مجئ قصة الربيين دعوة للمسلمين للإتعاظ وأخذ الدروس منها أن دار الدنيا دار إمتحان وملاقاة بالسيف بين المؤمنين والكفار وأن الذي يختار الإيمان عليه الإستعداد للبلاء بحرب من الكفار .
ويمكن أن تكون بدايات الإسلام تفسيراً عملياً ، وشاهداً حاضراً لقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ( ) بلحاظ أن الكفار هم الذين بدأوا الحرب والقتال على النبي والذين آمنوا معه ، فلم يقاتل النبي في مكة .
وحينما إشتد أذى قريش عليه وعلى أهل بيته وأصحابه أمر شطراً منهم أن يهاجروا إلى الحبشة مع بعد الشقة والمخاطر الجسيمة عليهم ، ولو كان في نيته القتال لتركهم إلى جنبه يشدون أزره ويدافعون عنه ، ويكونوا سبباً لزيادة عدد المسلمين ولم يبعثهم إلى بلاد كفر وجحود ، بل بعثهم إلى مملكة لأهل الكتاب وعند حاكم عادل ، كما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف ولقى الأذى من أهلها ، ثم عاد ليهاجر مرة أخرى إلى يثرب ببيعة ودعوة من أهلها .
ولم تتضمن هذه البيعة الخروج معه للقتال لذا سميت بيعة النساء ، والأولى أن تسمى بيعة الإسلام أو بيعة السلام من جهات :
الأولى : لا ملازمة بين بيعة الرجال وتضمنها شرط القتال .
الثانية : بيان قانون وهو أن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، إنما إنتشر بالمعجزة والحكمة ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الثالثة : الأسوة والريادة في إختيار الإسلام في أيامه الأولى ووسط أذى قريش .
الرابعة : توثيق حقيقة وهي كفاية الإيمان وحفظ سلامة النبي بين ظهرانيهم لتوالي نزول آيات القرآن ، وهو من مصاديق إكرام المسلمين في آية البحث بلفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
نعم كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو قريشاً على مدار أيام السنة إلى الإسلام ، ويجتهد في الأشهر الحرم وأيام موسم الحج بدعوة أفراد القبائل إلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وخصال النبوة [عن عقيل بن أبي طالب قال : جاءت قريش إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب ، إن ابن أخيك يأتينا في كعبتنا ونادينا فيسمعنا ما يؤذينا به ، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل ، فقال لي : يا عقيل ، التمس لي ابن عمك ، فأخرجته من كبس( ) من أكباس شعب أبي طالب ، أو قال : كبس من أكباس أبي طالب ، شك إبراهيم بن أبي سويد ، فأقبل يمشي معي يطلب الفيء بطاقته فلا يقدر عليه حتى انتهى إلى أبي طالب ، فقال له أبو طالب : يا ابن أخي ، والله ما علمت إن كنت لي لمطيعا ، وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وناديهم تسمعهم ما تؤذيهم به ، فإني رأيت أن تكف عنهم ، فحلق ببصره إلى السماء .
فقال : والله ما أنا بأقدر على أن أدع ما بعثت به من أن يشتعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار ، فقال أبو طالب : والله ما كذب قط ، ارجعوا راشدين] ( ).
والتقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رهطاً من الآوس والخزرج في موسم الحج ، وطلب منهم أن يجلسوا معه ليكلمهم ، فجلسوا ودعاهم إلى الإسلام ، وتلا عليهم آيات من القرآن فهداهم الله عز وجل (قال ابن أسحاق :حَتّى إذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ وَافَى الْمَوْسِمَ مِنْ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، فَلَقَوْهُ بِالْعَقَبَةِ . ( قَالَ ) وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى ، فَبَايَعُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ الْحَرْبُ .
مِنْهُمْ مِنْ بَنِي النّجّارِ ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ وَعَوْفٌ وَمُعَاذٌ ابْنَا الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ[ رِجَالُ الْعَقَبَةِ الْأُولَى مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ.
وَمِنْ بَنِي زُرَيْقِ بْنِ عَامِرٍ رَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ ؟ وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ خَلَدَةَ بْنِ مُخْلِدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ . قَالَ ابن هِشَامٍ : ذَكْوَانُ ، مُهَاجِرِيّ أَنْصَارِيّ .
وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَهُمْ الْقَوَاقِلُ عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ أَصْرَمَ فِهْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمٍ وَأَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَمّارَةَ مِنْ بَنِي غُصَيْنَةَ مِنْ بَلِيّ ، حَلِيفٌ لَهُمْ .
قَالَ ابن هِشَامٍ : وَإِنّمَا قِيلَ لَهُمْ الْقَوَاقِلُ لِأَنّهُمْ كَانُوا إذَا اسْتَجَارَ بِهِمْ الرّجُلُ دَفَعُوا لَهُ سَهْمًا ، وَقَالُوا لَهُ قَوْقِلْ بِهِ بِيَثْرِبَ حَيْثُ شِئْت . قَالَ ابن هِشَامٍ : الْقَوْقَلَةُ ضَرْبٌ مِنْ الْمَشْيِ .
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ بْنِ زَيْدِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمٍ الْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ .
وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَلِمَةَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ .
وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ سَوَادِ.
وَشَهِدَهَا مِنْ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ : أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ ، وَاسْمُهُ مَالِكٌ قَالَ ابن هِشَامٍ : التّيّهَانُ يُخَفّفُ وَيُثَقّلُ كَقَوْلِهِ مَيْتٌ وَمَيّتٌ .
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ : عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ[ عَهْدُ الرّسُولِ عَلَى مُبَايِعِي الْعَقَبَةِ ]
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ ( أَبِي ) مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْيَزَنِيّ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ الصّنَابِحِيّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ ، قَالَ كُنْت فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى ، وَكُنّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللّهِ شَيْئًا ، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا ، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ . فَإِنْ وَفّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنّةُ . وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ إنْ شَاءَ عَذّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ .
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَذَكَرَ ابن شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عَائِذِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْخَوْلَانِيّ أَبِي إدْرِيسَ أَنّ عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ حَدّثَهُ أَنّهُ قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللّهِ شَيْئًا ، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ فَإِنْ وَفَيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنّةُ ، وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ ( شَيْئًا ) فَأُخِذْتُمْ بِحَدّهِ فِي الدّنْيَا ، فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَإِنْ سُتِرْتُمْ عَلَيْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَمْرُكُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ إنْ شَاءَ عَذّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَر] ( ).
وورد عن عبادة بن الصامت ذكر هذه البيعة من غير ذكر للفظ بيعة النساء (قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن عائذ الله أبى إدريس الخولانى، أن عبادة بن الصامت حدثه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الاولى ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر] ( ).
الرابعة : تأخر بيعة النساء زماناً عن بيعة العقبة .
الخامسة : بيعة العقبة شاهد تأريخي على أن دعوة النبوة بالسلم والموعظة ، وكذا بالنسبة للأنبياء السابقين في دعوتهم ، ولكن الكفار يذبون عن صروح عروشهم وأنظمة حكمهم والشأن والمصالح التي نالوها بالبطش والقهر ، ولو أنهم تلقوا دعوة الأنبياء بالتسليم والتصديق لبقوا في منازلهم ولزاد الله عليهم من فضله ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] ( ).
الثاني :من حب الله عز وجل للمحسنين عدم مغادرة الإحسان الأرض بأن ترث المحسنين طائفة من ذات السنخية تتصف بالإيمان ، ولأن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم فقد تفضل وجعل المؤمنين بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمة عظيمة تتخذ الإحسان منهجاً , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وتتضمن آية البحث معاني الإحسان من جهات :
الأولى : ذات نداء صيغة الإيمان وما فيه من نزول الثناء على المسلمين من السماء .
الثانية : حفظ المسلمين لسنن الإحسان في الأرض ليتبعهم الناس ويقتدوا بهم ويتعلموا منهم ، فمن حب الله للمحسنين تفضله بجعلهم أئمة هدى ، وأعلاماً للصلاح يعرفهم الناس بصيغة الإيمان التي خاطبهم الله عز وجل بها في آية البحث فيكونوا حجة في الدعوة إلى الله والتذكير بوجوب عبادته وأن هذه العبادة إحسان للذات والغير ، وفيه شاهد بأن من معاني حب الله عز وجل للمحسنين أن الإحسان أمر توليدي تترشح منافعه على الذات والغير القريب والبعيد .
الثالثة : زجر المسلمين عن طاعة الكفار للتنافي بين الإحسان وبين طاعتهم ، وفيه دلالة بأن من خصال الإيمان الإنزجار عن طاعة الكفار وأهل الجحود ، قال تعالى [وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ] ( ).
الرابعة : تفقه المسلمين في أمور الدين ، فحينما شهد الله عز وجل للمسلمين والمسلمات بالإيمان بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]تفضل وهداهم إلى سبل تعاهد الإيمان ومنها أخذ الحائطة في الدين وإجتناب طاعة الكفار أو الإنصات لأهل الشك والريب .
وتبدأ هذه الآية بمخاطبة المسلمين بصفة الإيمان , وفيه مسائل :
الأولى : الإيمان إحسان وخير محض ، وهو من أعظم مصاديق الإحسان للذات والغير ، وتلك آية في بديع صنع الله عز وجل بأن يكون الإحسان إعتقاداً في الجنان فيأتي الثواب بسببه على نحو دفعي ، وتقدير الجمع بين الآيتين : (الله يحب المحسنين الذين آمنوا) أي أن الذين آمنوا محسنون ، ويكون لفظ [الَّذِينَ آمَنُوا]كالبدل في الصناعة النحوية .
وهل الصلة بين خاتمة الآية السابقة وأول هذه الآية مما إذا إجتمعا إفترقا , الجواب لا ، بل هي من العام والخاص ، وتقدم العام ، فكل مسلم مخاطب بآية البحث هو محسن أما خاتمة الآية السابقة فهي أعم وتشمل المحسنين من الأمم السابقة .
الثانية : بيان حقيقة وهي عدم إنقطاع الإحسان والفضل الذاتي والغيري ، فلما إنقضت أيام الربيين أنعم الله عز وجل على الناس باتصاف أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإيمان ليبقى صراطاً مستقيماً في الأرض إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، لأن من معانيه إستدامة الإيمان في الأرض , وتوارث أداء العبادات .
ومن الإعجاز في خلافة الإنسان في الأرض أن توارث الإيمان أعم من التوارث النسبي بين الأب وإبنه كمرتبة أولى ، والأخ وأخيه كمرتبة ثانية عند فقد الوارث من المرتبة الأولى ، أو بين ذوي العمومة والخؤولة عند فقد الوارث من المرتبة الأولى والثانية ، فوراثة الإيمان أعم ويأخذه الابن من الأب ، وبالعكس , والجار من جاره ، والطالب من صاحبه ،والمسافر من المقيم وبالعكس ، وجاءت هذه الآية لتدعو في مفهومها إلى إقتباس الإيمان لتحذيرها من طاعة الذين كفروا .
الثالثة : وجوب الإحسان ، وأن الأصل هو أن كل إنسان يجب ان يكون محسناً لنفسه باختيار الإيمان ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض بأنه سبب للفساد والقتل بغير حق .
فمن معاني الإحسان في الإنتماء للإسلام أنه حرب على الفساد , وزاجر عن القتل بغير حق , ولا عبرة بالمفاهيم الخاطئة والأفعال التي تبين للناس بالذات والأثر أنها لا تمت إلى الإيمان بصلة .
إن قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] حرب على هذه المفاهيم ، ودعوة للمسلمين مجتمعين ومتفرقين إلى إدراك منافاتها للإسلام .
الثالث : يطرد تعقب نداء الإيمان قانون حب الله لمحسنين اليأس والقنوط من النفوس ، فلا يظن الناس بأن الإحسان إنطوى مع إنقضاء أيام الربيين وليس في الناس في هذه الأزمنة من يحبهم الله كما يحب الربيين خاصة وأن الايات السابقة ذكرت صفات الربيين على سبيل التقييد وهي :
الأولى : الإيمان بالله والنبوة والتنزيل .
الثانية : القتال مع النبي في محاربة الكافرين .
الثالثة : تشريف أصحاب الأنبياء هؤلاء بتسميتهم من عند الله (الربيين) وهو اسم عام مشتق من صفات كمال قائمة بهم تستحق المدح والثناء ، وقد تفضل الله عز وجل باسم شخصي خاص كما في قوله تعالى [يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] ( ).
وقد وردت تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لسان الأنبياء السابقين بما يدل على توارث البشارة برسالته كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ) .
ولم يسمع أحد بهذا الاسم من قبله وهو من الإعجاز في هذه الآية وموضوع البشارة ، ومن أسرار ورودها بتسمية أحمد وليس محمداً إلى جانب أن هذا التعدد في الأسماء والصفات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أسباب حفظه وسلامته ، وإقامه الحجة على الناس ببعثته .
ومما يتصف به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو كثرة الأسماء ، وتدل هذه الكثرة على تعدد صفات الحسن والكمال والرفعة عنده ، ومن خصائص العرب أنهم إذا عظّموا أحداً أو شيئاً أكثروا له الأسماء ، وقد جمعوا للسيف مثلاً خمسمائة اسم ليكون تعدد الأسماء مدرسة عقائدية تقتبس منها الدروس ، وقد ورد تسمية الكفار باسم الكافرين ، والكفرة قال تعالى [أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ] ( ) ولفظ كفور وإرادة اسم الجنس ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ) وورد في آية البحث بلفظ [الذين كفروا] وفيه مسائل :
الأولى : بيان حقيقة أن الكفار هم الذين إختاروا الكفر وتلبسوا به .
الثانية : تيسير معرفة المسلمين للكفار الذين يجب إجتناب طاعتهم .
الثالث : إقامة الحجة على الكفار .
الرابعة : الإخبار بأن وراثة الكفر ليس عذراً ولا يجوز إتخاذهم له ذريعة .
وورد لفظ [ الذين كفروا ] في القرآن مائة وثمانياً وخمسين مرة ، وهو أكثر من الأسماء الأخرى لهم مثل [الكافرين] , ولعظيم أهوال يوم القيامة وحتمية وقوعه ذكرت لهذا اليوم في القرآن أسماء كثيرة منها يوم البعث ، قال تعالى[لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ] ( ) والساعة ،والقارعة ،ويوم الفصل ،ويوم الدين ،ويوم الخلود ،ويوم الحساب ،يوم الأزفة ،الحاقة ،يوم الجمع ،يوم التغابن ، قال تعالى [يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ] ( ) .
(عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن لي خمسة أسماء : أنا محمد وأنا أحمد ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا العاقب ، والعاقب الذي ليس بعده نبي)( ).
لما أختتمت الآية السابقة بقانون حب الله للمحسنين ، جاءت هذه الآية للإخبار عن أمور :
الأول : إرتقاء المسلمين لمرتبة المحسنين بالشهادة لهم من عند الله بالإيمان.
الثاني : ترغيب الناس بدخول الإسلام .
الثالث : بيان نعمة من عند الله وهي أن نزول تسمية الربيين وثوابهم العظيم الذي أخبرت عنه الآية السابقة لم يغادر الأرض لقانون أن الله عز وجل أكرم من أن يرفع نعمة تفضل بها على الناس جميعاً ، أو على طائفة منهم ، لذا فمن معاني تعقب نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لآية ثواب الربيين الإخبار عن نيل المسلمين لهذه النعمة ، وتقديره من وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا أنتم ورثة الربيين فاجتهدوا في فعل الصالحات.
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا تجمعكم والربيين مسائل :
الأولى : الإيمان بالله عز وجل .
الثانية : الإيمان بالأنبياء والرسل على نحو العموم الإستغراقي .
الثالثة : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة الناس لإتباعه .
الرابعة : ذات الإيمان برسالة خاتم النبيين من ثواب الدنيا ،وبين الثواب الذي تذكره الآية السابقة وبين الإهتداء للإيمان بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عموم وخصوص مطلق .
الخامسة : إلتقاء المسلمين والربيين بالإحسان إلى الذات والغير وفوزهم بمرضاة الله .
ثالثاً : يا أيها الذين أمنوا كونوا كالربيين الذين أخلصوا في طاعة الله فآتاهم الله الثواب العظيم (عن ابن عباس قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية – وأصحابه عنده – { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } فقال : هل تدرون أي يوم ذاك؟ .
قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ذاك يوم يقول الله يا آدم ، قم فابعث بعث النار . فيقول : يا رب ، من كم؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحداً إلى الجنة . فشق ذلك على القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ، ثم قال : اعملوا وأبشروا ، فإنكم بين خليقتين لم تكونا مع أحد إلا أكثرتاه : يأجوج ومأجوج ، وإنما أنتم في الأمم كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة ، وإنما أمتي جزء من ألف جزء) ( ).
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا أبشروا بما أنعم الله به على الربيين .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا قد شكر الله لكم إتباعكم ونصرتكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،كما شكر للربيين جهادهم مع الأنبياء السابقين.
سادساً : يا أيها الذين آمنوا أبشروا بثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة مثل الذي فاز به الربيون .
سابعاً : يا أيها الذين آمنوا أنتم محسنون بإيمانكم .
ثامناً : يا أيها الذين آمنوا إن الله يحبكم ، قال تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ] ( ).
تاسعاً : يا أيها الذين آمنوا واظبوا على الفرائض كما واظب عليها الربيون .
عاشراً : يا أيها الذين آمنوا قد أفردكم الله باسم تشريفي في القرآن وهو [الَّذِينَ آمَنُوا]كما أفرد أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معه باسم (الربيين).
لقد ورد لفظ (ربيون) مرة واحدة في القرآن( ) بينما ورد لفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة ، وكلها للمسلمين مع إقترانها ببيان الأحكام ، هذا عدا نعت المسلمين باسم الذين آمنوا من غير حرف نداء ، كما في قوله تعالى [قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ]( ).
الرابع : خطاب وتسمية المسلمين الذين آمنوا سور الموجبة الكلية في سبيل الصلاح والتحلي بخصال الربيين ، ومن معاني الإيمان قصد القربة في إتيان الصالحات وهو سبب لحب الله .
الخامس : من شرائط الإيمان إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بالتنزيل ، ليكون قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )شاهداً على بلوغ المسلمين مرتبة الربيين وأسمى درجات الإيمان .
السادس : لما أختتمت الآية السابقة بقانون حب الله للمحسنين ومجئ أول هذه الآية بالإخبار عن إيمان المسلمين وهو من مصاديق الإيمان فان الله عز وجل أكرمهم بالإخبار عن ثنائه على الربيين ليكون سلاحاً ومدداً لهم في تعاهد الإيمان والتحلي بصفاتهم ، وإذا كان زمان الربيين إنقضى بصحبتهم للأنبياء وإنقطاع أيام حياتهم بمفارقة الروح قهراً للجسد ، فان أجيال المسلمين تتعاقب على الأرض باحياء ذكر الله ، وهو من المائز التشريفي للمسلمين على الربيين , والذي تدل عليه أمور :
الأول : مجئ ذكر الربيين في الآية السابقة بصيغة الغائب ،وذكر آية البحث للمسلمين بصيغة النداء .
الثاني : تجدد الخطاب والنداء في آية البحث ليشمل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
الثالث : ذكرت آيات الربيين خصوص أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم ، بينما ورد الخطاب في آية البحث شاملاً للمسلمين ليشمل المجاهدين والقاعدين وغيرهم ، قال تعالى [فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى] ( ).

تسمية الإنسان
ورد أول ذكر للإنسان بصفة الخلافة في الأرض وبخطاب من عند الله إلى الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فلم ينصب الإنسان في هذا المقام السامي إلا بأمر ومشيئة من عند الله ،وعلم من الملائكة ، إذ يدل إعلام الله عز وجل لهم بخلافة الإنسان على موضوعيته في الإرادة التكوينية , وفي الكائنات وأمور الخلائق كلها من باب الأولوية لأن الملائكة أشرف منها مرتبة ، ولأن من خصائص الخليفة تسخير الأشياء له .
وورد لفظ(سخر) في القرآن اثنتي عشرة مرة، كلها بخصوص الإنسان وإكرام الله عز وجل له، وجاءت أربعة منها في آيتين متجاورتين[وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ] ( ).
وورد لفظ (الإنسان) في القرآن خمساً وستين مرة كما ورد بصيغة الجم(الناس) مائتين وإحدى وأربعين مرة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ]( ).
وجاء بلفظ( الانس) جمع تكسير ثمان عشرة مرة كلها مقترنة بذكر الجن، بصيغة الإنذار , قال تعالى[يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي]( )، وعلة تسمية الإنسان إنساناً على وجوه:
الأول : أنه مأخوذ من النسيان، وهذا النسيان حالة نفسانية، وجزء من ماهية خلق الإنسان , وهو على جهتين:
الأولى : النسيان النافع بترك الكدورات والضغائن والأحقاد.
الثانية : النسيان غير النافع كالقصور والتقصير في الواجبات والوظائف العبادية.
وعن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان : لأنه عهد إليه فنسي( )، يريد الإشارة إلى قوله تعالى[وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا]( )، ولا يحصل النسيان وغياب الأمر عن الحافظة إلا بعد العلم به لذا فمن إعجاز القرآن الإخبار عن تعليم الله عز وجل لآدم قبل أن ينس ويأكل من الشجرة، قال تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، كما بّين الله عز وجل لآدم عداوة إبليس له ولزوجه.
وقد تفضل الله وأكرم المسلمين برفع أثر النسيان عنهم، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما أُكرهوا عليه ( ).
الثاني : إشتقاق لفظ الإنسان من الأنس، إذ يأنس الإنسان بأخيه ويألفه، ولإرادة حرصه على إجتناب الوحشة والإنفراد ولا عبرة بالقليل النادر(والاستثناسُ والأُنْسُ والتَّأنُّسُ واحد، وقد أَنِسْتُ بفلان، وقيل: إذا جاء اللّيل استأنس كلُّ وحشيّ، واستوحش كلّ إنسيّ. والآنِسةُ: الجارية الطَّيِّبة النَّفْس التّي تحبّ قربها وحديثها ( )، قال الشاعر :
ومَا سُمِّيَ الإنْسانُ إِلاَّ لنَسْيِهِ … ومَا القَلْبُ إِلاَّ أَنَّه يَتَقَلَّبُ( ).
الثالث : إرادة رؤية الغير لذات الإنسان [وقال محمد بن عرفة الملقب بنفطويه وكان عالما سمى الإنسِيُّون إنسيِّين لأنهم يُؤْنسون: أي يرون، وسمى الجن جناًّ لأنهم مُجتنون عن رؤية الناس، أي متوارون]( ).
الرابع : إشتقاق اسم الإنسان من الإيناس , وهو الإبصار والإحساس ، لما جعل الله عز وجل عند الإنسان من الحواس.
وهذه الوجوه إستقرائية ولم يرد في موضوع اشتقاقها نص في الكتاب أو السنة ، ويمكن إضافة وجوه أخرى وهي :
الأول : خلق الإنسان من ذكر وأنثى ليأنس أحدهما بالأخر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
الثاني : ميل الإنسان للتنزيل وأستئناسه بعبادة التوحيد وهو من مصاديق آية البحث من جهات :
الأولى : الخطاب التشريفي للمسلمين بالنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وتقدير الآية على وجوه منها :
الأول : يا أيها الناس الذين آمنوا.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا من الناس .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا أنتم الناس .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا أدعوا الناس للإيمان .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا أنتم أئمة الناس .
الثانية : التحذير من طاعة الذين كفروا لبيان أنهم جحدوا بالوظائف المترتبة على إنسانيتهم ، وفيه توبيخ لهم ، فالأصل في الإنسان أنه يستأنس بالتنزيل ويفتخر به ويتقيد بأحكامه ، وهو من مصاديق تسمية الناس بني آدم كما في قوله تعالى [يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ] ( ).
الثالثة : بيان آية البحث للتضاد بين الإنسانية والإرتداد على الأعقاب ، لتكون الآية خطاباً للمسلمين لعنوان جامع من الإنسانية والإيمان .
الرابعة : لزوم تنزه الناس عن الإنقلاب لأن فيه الخسارة الدائمة وتتنافى هذه الخسارة مع خلافة الإنسان في الأرض .
الخامسة : إختتام الآية بالإخبار عن الخسارة الكبرى والضرر الفادح الذي يلحق الذين يطيعون الكفار ، وهل هي مثل خسارة آدم بالهبوط إلى الأرض عندما أطاع إبليس وأكل وزوجه من الشجرة .
الجواب لا ، فقد كان هذا الهبوط إمتحاناً يؤدي بأهل الإيمان إلى الرجوع إلى الجنة خالدين فيها من غير وسوسة إبليس ولأن علة خلق آدم الخلافة في الأرض لذا فان الخسارة التي تذكرها آية البحث خلاف الخصال الإنسانية وتجلب الأذى والضر لصاحبها .
الثالث : حب الإنسان الفطري للإيمان ، وسكون نفسه للأخلاق الحميدة وسنن التقوى ، وهو من مصاديق [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ] ( ) وتتجلى مضامين هذا الحب بآية البحث ،إذ تضمنت التصريح بالإيمان وحبه بلحاظ النداء بلفظ الإيمان ، وذم طاعة الكفار والضرر الذي يترتب عليها .
العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : والله يحب المحسنين الذي لا يطيعون الذين كفروا ).
إن إبتداء آية البحث بالنداء للمسلمين بصفة الإيمان فضل ورحمة وتزكية من عند الله ، وهو باب للأجر والثواب ، وجاء بعد هذا النداء النهي عن طاعة الذين كفروا .
ومن دلائل هذا التعاقب إنعدام الفتور في حياة المؤمن إذ أن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء الأمر الذي يستلزم الفطنة والحيطة في كل ساعة من ساعات العمر ، قال تعالى [مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ] ( )ويحتمل الصبر وعدم طاعة الكفار وجوهاً :
الأول : إنه من الإحسان .
الثاني : عدم طاعة الكفار أجنبي عن الإحسان .
الثالث : إنه من لوازم ومقدمات الإحسان .
والصحيح هو الأول والثالث ، لتكون الحياة الدنيا دار الإحسان يتنعم فيها المسلمون بالإحسان إلى أنفسهم والغير ، ويقطعون الطريق على الذين يريدون إنحسار الإحسان ..
ويلازم الإحسان النطق بالشهادتين ، لبيان أن حب الله عز وجل قريب من العباد ليس بينهم وبينه حجاب ،وكل فعل عبادي هو إحسان للنفس فيفوز المسلم بأسباب حب الله في فرائض الصلاة اليومية الخمسة .
ونعت المسلمين بصفة الإيمان شاهد بأنهم من المحسنين وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين آمنوا محسنون .
الصغرى : المسلمون هم الذين آمنوا .
النتيجة : المسلمون محسنون .
ويحتمل الإحسان في إستدامته أو عدمها وجوهاً :
الأول : مصاحبة الإحسان لمن يدرك مراتبه ليكون من خصائص صفة المحسن أنها إذا نالها العبد لا تفارقه .
الثاني : ملازمة الإحسان للعمل الصالح .
الثالث : مغادرة صفة المحسن للعبد إذا فعل السيئات .
الرابع : عودة ذات الصفة الكريمة بالإستغفار والتوبة .
وباستثناء الوجه الأول أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها صحيحة ، قال تعالى [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( )لذا جاءت آية البحث بالتحذير من طاعة الذين كفروا لأنهم ليسوا من المحسنين ، وكذا الذي يتبعهم في غوايتهم وجحودهم .
إن لغة الخطاب في الآية (يردوكم) بشارة للنجاة من طاعة الكفار وآثارها، ودلالة على بقاء المسلمين في منازل الهدى, وتقديرها: يردوكم أيها المؤمنون، فما دامت صفة الإيمان ملازمة للمسلمين حتى في لفظ(فتنقلبوا) فانها أمل وتأكيد لفضل الله وأنه مولى المسلمين , كما تأكده الآية التالية.

قانون التحدي القرآني في المغيبات
من وجوه التحدي في القرآن إخبار القرآن عن المغيبات على نحو الإتصال وكل ما غاب عن الإدراك فهو غيب، وخلاف الشهادة، تنقسم علوم الغيب إلى أقسام منها:
أولاً : أخبار الغيب التي تتعلق بالزمن الماضي، وحياة الأمم السالفة، كما ورد في سورة يوسف بقوله تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( ).
ثانياً : علوم الغيب في الزمن الحاضر مما هو غائب عن الحواس، ولا يدركه الإنسان من أسرار الكون.
ثالثاً : الوقائع الحادثة والأمور الطارئة على الناس مجتمعين ومتفرقين كما في ثناء الله عز وجل على نفسه[وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( ).
رابعاً : أحداث المستقبل وما تضمره الأيام للناس وليس لها حصر بلحاظ تعدد المواضيع والأحكام ،ومن أسرار نفخ الله من روحه في الإنسان وتخلف مقامات خلافته عن إدراك كل شئ إقراره طوعاً وكرهاً أن المستقبل كله غيب ، وقد وردت في القرآن الإشارة إليها [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ).
خامساً : ظلمة وأهوال القبر التي ليس للإنسان حينئذ فيها فعل ومشيئة وتأثير .
ويكون فيه الإنسان على أحد وجوه :
الأول : الكرامة والتخفيف في الحساب لمن كان مؤمناً يعمل الصالحات.
الثاني : الترك والإجمال لحين البعث ، وهم الذين ورد فيهم قوله تعالى [قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ] ( ).
الثالث : الحساب الشديد من منكر ونكير والعقاب الإبتدائي على الكفر والجحود .
وجاءت الآيات الثلاثة بخصوص الربيين الذين فازوا بالوعد من عند الله بالثواب العظيم الذي يتغشى العوالم الطولية كلها ، أما آية البحث ففيها تفصيل إذ أن الذين آمنوا من أهل الوجه الأول أعلاه مع الربيين في مرتبتهم ومحاربتهم للذين كفروا .
وإذا كانت الآيات الثلاثة السابقة تتضمن في دلالتها الذم للكفار لأنهم الذين قاتلوا الأنبياء وإن لم تذكرهم الآيات الثلاثة بالاسم فأن آية البحث تتضمن الذم للكفار في أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسطوع شمس الإسلام وإن لم يقاتلوا المسلمين ، فقد ذكرتهم آية البحث بالاسم ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين , ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )من جهات :
الأولى : نعت المسلمين بأنهم الذين آمنوا لبيان أنهم يصدقون بعلم الغيب ،ومنه أخبار الربيين وجهادهم .
الثانية : نهي المؤمنين عن طاعة الذين كفروا .
الثالثة : مجئ الذم للذين كفروا بذات التسمية وهو نوع تحذير إضافي من إتباعهم وطاعتهم ، فان وصف آية البحث للذين كفروا بالجحود والإصرار على الضلالة ذم لهم ووعيد في علم الغيب سواء في الدنيا أو البرزخ أو عالم الآخرة وكما أن تسمية الربيين مدح لهم وكذا نعت المسلمين بالإيمان.
سادساً : علم الغيب الخاص بالآخرة ، وهو أعظم من أن تحيط به الأوهام وتستحضره الأذهان كما في الفارق بين الدنيا وعالم الآخرة ، وحتى الآيات التي وردت بخصوص الآخرة يعجز الناس عن إدراك كنهها والإحاطة بأسرارها , وتتجلى في الدعوة الإلهية إلى المسارعة إلى [ َجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] ( ).
لقد ورد لفظ [الْغَيْبِ ] في القرآن إحدى وأربعين مرة أكثرها في الثناء على الله عز وجل وأنه وحده الذي يحيط بعلم الغيب ويكشف بعض أسراره وأفراده لمن يشاء مع تقييد وبيان الذين يكشف لهم كنوزاً منه وشرائط هذا الكشف لمنع الدعوى الباطلة في المقام من الإنس والجن وأهل التنجيم والكهنة والعرافين ، قال تعالى [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً , ومنه حاجته إلى علوم الغيب لتكون سبباً لإجتهاده في طاعة الله ومناسبة للتقوى والخشية منه تعالى , ووعد الله عز وجل بكشف حقيقة الأشياء الدنيوية وسنخية الإنسان , وصدق الأنبياء وكيفية الوحي ، وتقريب المعقول بصيغة المحسوس بقوله تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ).
وجاء القرآن بالبيان الإجمالي للحقائق الغيبية الذي يكفي الناس مع إختلاف مداركهم العقلية لإدراك وجوب الإيمان وعبادة الله وإجتناب الكفر والجحود وهو من معاني كونه معجزة عقلية ، إذ انه يخاطب عقل كل إنسان غنياً أو فقيراً ، آمراً أو ماموراً ، رجلاً أو امرأة , يدعوهم إلى الإيمان بالله وتلقي علوم الغيب بالتصديق .
قانون أولوية الصلح
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعث إلى الأمراء ممن حول الجزيرة وإلى ملوك الدول العظمى آنذاك يدعوهم إلى الإسلام بصبغة السلام والبيان، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، وتتضمن هذه الدعوة مسائل :
الأولى : إعلان نبأ البعثة النبوة، لتكون هذه الرسائل النبوية تفسيراً وبياناً لقوله تعالى[عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ]( )، إذ تناقل الركبان أخبار نبوته , والمعجزات التي جاء بها.
فان قلت هل بلغت هذه الأخبار بلاد فارس والروم , الجواب نعم، بدليل قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، وقد أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصحابي دحية الكلبي في السنة السادسة للهجرة بعد صلح الحديبية الى هرقل، وكان دحية بهي الطلعة تاجراً يأتي بالبضاعة من الشام وفي سبب نزول قوله تعالى[وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا]( )، ذكر أنها كانت تجارة لدحية وصلت مع صلاة الجمعة كما أن وفداً من قريش كان حاضراً في بلاد هرقل عندما وصل كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل يدعوه فيها إلى الإسلام، وسلم دحية الكتاب إلى عظيم بُصرى فدفعه إلى هرقل الذي فتحه وقرأه بتدبر.
وفيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ( ).
وإبتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابه بالبسملة كاملة، لبيان أن رضاه في صلح الحديبية بكتابة (باسمك اللهم) بطلب من سهيل بن عمرو ممثل قريش الذي أنكر كتابة البسملة مقصور على أسبابه , فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمام علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم فكتبها.
ثم قال اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو فقال سهيل بن عمرو لو شهدتك أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين. يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض( ).
لبيان موضوعية الصلح في السنة النبوية الشريفة، وإختيار الأمن والسلامة لعموم الناس، ويكون هذا الأمن مناسبة للتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا سمي هذا الصلح فتحاً، ودافع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه التسمية , ليكون هذا الدفاع وثيقة تأريخية، قال تعالى[فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ) .
ونسب إلى أكثر المفسرين أن المراد من الفتح القريب أعلاه هو صلح الحديبية وقال الزهري: ما فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية( ).
وجاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو ونفسه مهاجراً أثناء كتابة مسودة الصلح وأصر سهيل على إعادته إلى مكة بالقيود فرضي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الغضاضة لتقديم الأهم على المهم، ومصلحة عامة الناس على القضية الشخصية التي يجعل الله عز وجل لصاحبها فرجاً.
فما أن تم صلح الحديبية حتى توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدول العظمى بسلاح البسملة والدعوة إلى الله وتأكيد نبوته بكلمات معدودات من جوامع الكلم تتضمن الوعد بالثواب المضاعف بقوله صلى الله عليه وآله وسلم(يؤتك أجرك مرتين) لبيان النفع العظيم من إسلام الرئيس وكبير القوم، مع الإنذار والتخويف (فان توليت فان عليك إثم الأريسيين( )، وفي معنى كلمة الأريسيين وجوه:
الأول : المراد الفلاحون، ، وهؤلاء يتبعون ملوكهم وجاء ذكر الفلاحين للفرد الغالب من الأتباع والعامة وإلا فان المراد أعم وفيه تذكير بأوزار الرعية ولزوم إصلاحها.
الثاني : المراد الفلاحون من أرض السواد والعراق، بلحاظ أن أغلبهم كانوا مجوساً، فصحيح أن أهل الشام أهل صناعة، وأنهم أهل كتاب ولكن الوعيد في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان الإتحاد في الإثم مع المجوس، وهو بعيد.
الثالث : الأرسيون نسبة إلى عبد الله بن أريس، وكان من رؤساء المذاهب عند النصارى، وقيل إنه من قوم بعث إليهم نبي فقتلوه.
الرابع : أتباع عبد الله بن أريس، وكانوا أهل مملكة هرقل، أي عليك إثم المتبوعين.
والضابطة الكلية في الوعيد هو الوزر من بقاء الأتباع في ضلالة، وبيان أن النجاة للذات والأتباع في التوحيد وإخلاص العبودية لله عز وجل.
الثانية : البيان العملي لعدم طاعة المسلمين للذين كفروا، بأن يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم الملوك والأمراء وأتباعهم إلى طاعة الله ورسوله.
الثالثة : رسائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأمراء شاهد على ثبات المسلمين في منازل الإيمان، وتنزههم عن الإرتداد ومقدماته.
الرابعة : دعوة المسلمين للعمل بما فيه التقدم إلى الأمام وافرتقاء في مقامات العز والرفعة بلباس الإيمان فان هذا التقدم سبيل لعدم الإلتفات إلى طاعة الذين كفروا.
الخامسة : أن أي إستجابة لدعوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العالمية للإسلام حرب على الذين كفروا من قريش ونحوهم، وتثبيط لسعيهم في إرتداد بعض المسلمين.
السادسة : رسائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملوك من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وتبين رسائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الملوك والأمراء بلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى : السنة النبوية واقية من طاعة الذين كفروا، لقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحثهم على دخول الإسلام.
الثانية : إنتفاء المهادنة مع الدول العظمى مع قوتها وكثرة جنودها، وشدة البطش التي يتصفون بها.
الثالثة : بعث اليأس في نفوس الكفار من إرتداد المسلمين.
الرابعة : القاء الخوف والفزع في قلوب كفار قريش بعد صلح الحديبية لعلو ورفعة الإسلام ودعوة الناس من أهل الملل والأمصار الأخرى لدخوله، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ]( ).
ودعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لملوك زمانه إلى الإسلام من مصاديق الآية أعلاه.
وعن عبد الله بن عباس قال: حدثنى أبو سفيان من فيه إلى في قال: كنا قوما تجارا، وكانت الحرب قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا، فلما كانت الهدنة – هدنة الحديبية – بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نأمن إن وجدنا أمنا، فخرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا وقد حملني بضاعة، وكان وجه متجرنا من الشام غزة من أرض فلسطين.
فخرجنا حتى قدمناها وذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس فأخرجهم منها، ورد عليه صليبه الاعظم وقد كان استلبوه إياه، فلما أن بلغه ذلك وقد كان منزله بحمص من الشام فخرج منها يمشي متشكرا إلى بيت المقدس ليصلى فيه تبسط له البسط ويطرح عليها الرياحين، حتى انتهى إلى إيلياء فصلى بها.
فأصبح ذات غداة وهو مهموم يقلب طرفه إلى السماء، فقالت له بطارقته: أيها الملك لقد أصبحت مهموما ؟ فقال: أجل.
فقالوا: وما ذاك ؟ فقال: أريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر، فقالوا: والله ما نعلم أمة من الامم تختتن إلا اليهود وهم تحت يديك وفى سلطانك فإن كان قد وقع ذلك في نفسك منهم فابعث في مملكتك كلها فلا يبقى يهودى إلا ضربت عنقه، فتستريح من هذا الهم .
( أقول : على فرض صحة الخبر، فان بعثة ورسائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبب لنجاة اليهود من إبادة جماعية آنذاك وهو من مصاديق قوله تعالىوَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
فإنهم في ذلك من رأيهم يديرونه بينهم إذ أتاهم رسول صاحب بصرى( )، برجل من العرب قد وقع إليهم، فقال: أيها الملك إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والابل يحدثك عن حدث كان ببلاده فاسأله عنه.
فلما انتهى إليه قال لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذى كان في بلاده ؟ فسأله فقال: هو رجل من العرب من قريش خرج يزعم أنه نبي وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن، فخرجت من بلادي وهم على ذلك. فلما أخبره الخبر قال: جردوه.
فإذا هو مختتن فقال: هذا والله الذى قد أريت لا ما تقولون، أعطه ثوبه، انطلق لشأنك.
ثم إنه دعا صاحب شرطته فقال له: قلب لي الشام ظهرا لبطن حتى تأتى برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه.
قال أبو سفيان: فوالله إنى وأصحابي لبغزة إذ هجم علينا فسألنا: ممن أنتم ؟ فأخبرناه، فساقنا إليه جميعا.
فلما انتهينا إليه قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الاغلف – يريد هرقل – قال: فلما انتهينا إليه قال: أيكم أمس به رحما ؟ فقلت: أنا.
قال: أدنوه منى.
قال: فأجلسني بين يديه ثم أمر أصحابي فأجلسهم خلفي وقال: إن كذب فردوا عليه، قال أبو سفيان: فلقد عرفت أنى لو كذبت ما ردوا على، ولكني كنت امرءا سيدا أتكرم وأستحي من الكذب، وعرفت أن أدنى ما يكون في ذلك أن يرووه عنى ثم يتحدثوا به عنى بمكة، فلم أكذبه.
فقال: أخبرني عن هذا الرجل الذى خرج فيكم.
فزهدت له شأنه وصغرت له أمره (فوالله ما التفت إلى ذلك مني وقال لي: أخبرني عما أسألك عنه من أمره ) فقلت: سلنى عما بدا لك.
فقال: كيف نسبه فيكم ؟ فقلت: محضا من أوسطنا نسبا.
قال: فأخبرني، هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به ؟ فقلت: لا. قال: فأخبرني هل له ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوه عليه ! فقلت: لا.
قال: فأخبرني عن أتباعه، من هم ؟ فقلت: الاحداث والضعفاء والمساكين، فأما أشرافهم وذوو الانساب منهم فلا.
قال: فأخبرني عمن صحبه أيحبه ويكرمه أم يقليه
ويفارقه ؟ قلت: ما صحبه رجل ففارقه.
قال: فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه ؟ فقلت: سجال يدال علينا وندال عليه.
قال: فأخبرني هل يغدر ؟ فلم أجد شيئا أغره به إلا هي، قلت: لا ونحن منه في مدة ولا نأمن غدره فيها.
فوالله ما التفت إليها منى.
قال: فأعاد على الحديث، قال: زعمت أنه من أمحضكم نسبا، وكذلك يأخذ الله النبي، لا يأخذه إلا من أوسط قومه.
وسألتك: هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به ؟ فقلت: لا.
وسألتك: هل كان له من ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه ؟ فقلت: لا.
وسألتك عن أتباعه، فزعمت أنهم الاحداث والضعفاء والمساكين.
وكذلك أتباع الانبياء في كل زمان.
وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويكرمه أم يقليه ويفارقه ؟ فزعمت أنه قل من يصحبه فيفارقه.
وكذلك حلاوة الايمان لا تدخل قلبا فتخرج منه.
وسألتك كيف الحرب بينكم وبينه ؟ فزعمت أنها سجال يدال عليكم وتدالون عليه، وكذلك يكون حرب الانبياء ولهم تكون العاقبة.
سألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر. فلئن كنت صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمى هاتين، ولوددت أنى عنده فأغسل عن قدميه ! ثم قال: الحق بشأنك.
قال: فقمت وأنا أضرب إحدى يدى على الاخرى وأقول: يا عباد الله لقد أمر أمر ابن أبى كبشة، وأصبح ملوك بنى الاصفر يخافونه في سلطانهم( ).
قوله تعالى [إِنْ تُطِيعُوا الذين كفروا]
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على عدم الزجر عن الصلات مع الناس الذين كفروا في المعاملة والجدال والإحتجاج مع أخذ الحائطة والحذر ، كما في قوله تعالى [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا] ( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع وهي إنحلالية من جهات :
الأولى : تحذير المسلمين مجتمعين من طاعة الذين كفروا .
الثانية : تحذير المسلم المنفرد من طاعة الذين كفروا ، ويكون تقدير الآية يا أيها الذي آمن إن تطع الذين كفروا يردوك على أعقابك .
الثالثة : يا أيها الذي آمن إن تطع الذي كفر يردك على أعقابك.
الرابع : يا أيتها التي آمنت إن تطيعي الذين كفروا يردوك على أعقابك.
الخامس : يا أيها الذي آمن إن تطع التي كفرت تردك على أعقابك.
السادس : يا أيتها التي أمنت إن تطيعي التي كفرت تردك على أعقابك.
السابع : يا أيتها التي أمنت إن تطيعي الذي كفر يردك على أعقابك.
وتبين الآية أن الكفار لم يتركوا المسلمين وشأنهم ، ولم يكتفوا بالجدال وإثارة أسباب الشك بل إنهم يسعون لحمل المسلمين على طاعتهم في أسباب الفتنة والضلالة وما يؤدي إلى الضعف ، ويدل نهي الله عز وجل عن الوهن والحزن على الإحتراز من مقدماتهما وأسبابهما، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ) ( ).
(أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال : مر شاس بن قيس وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ، على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من ألفتهم ، وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد . والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتى شاباً معه من يهود فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ، ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار .
وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج . ففعل ، فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس ، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا.
ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة . وغضب الفريقان جميعاً وقالوا : قد فعلنا . السلاح السلاح . . . موعدكم الظاهرة ، والظاهرة الحرة . فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية .
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال : « يا معشر المسلمين الله الله . . . أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟! فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوّهم لهم .
فألقوا السلاح ، وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس ، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع { قل يا أهل الكتاب لمَ تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون } إلى قوله { وما الله بغافل عما تعملون }( ) وأنزل في أوس بن قيظي ، وجبار بن صخر ، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } إلى قوله { أولئك لهم عذاب عظيم }( ).
وتضمنت آية البحث نهي المسلمين عن طاعة الكفار ، ترى هل الكفار قادرون على حمل المسلمين على طاعتهم أم أن الله عز وجل يرميهم بالعجز عنه ، الجواب هو الثاني ، فخطاب الآية للمسلمين بصيغة الإيمان شاهد على تخلف الكفار عن حمل أو إكراه المسلمين على طاعتهم.
وتبعث الآية التالية السكينة في النفوس بسلامتهم من طاعة الذين كفروا فقد أبى الله عز وجل إلا أن يتوارث المسلمون العز بإقامة شعائر الله في الأرض.
وجاءت آية البحث ليفوز المسلمون بالإمتثال للأمر والنهي النازل من عند الله , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ] ( ) ومن بطلان الأعمال طاعة الذين كفروا ، لذا تفضل الله عز وجل باللطف بالمسلمين في الآية أعلاه بالبيان التفصيلي بطاعة الله وطاعة الرسول ليكون هذا التعدد من أسباب الوقاية من طاعة الكفار والإنصات لهم وليس من حصر لمواضيع بطلان الأعمال، وفيه وجوه :
الأول : لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب المعاصي .
الثاني : لا تبطلوا أعمالكم بالكبائر، قاله الزهري( ).
الثالث : لا تبطلوا أعمالكم بالكفر .
الرابع : لا تبطلوا أعمالكم بالنفاق، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
الخامس : لا تبطلوا أعمالكم بالمن والأذى .
السادس : لا تبطلوا أعمالكم بعدم إتمامها عمداً .
وذهب جمع إلى دلالة الآية أعلاه على إحباط العمل الصالح بالكبائر ، وكأنها تنسخه ولا دليل عليه، وهو خلاف قوانين الثواب ورحمة الله بالمؤمنين، وجاءت آية البحث لتبين وجهاً آخر من وجوه البطلان وهو طاعة الذين كفروا .
وتقدير الجمع بين الآيتين : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ بطاعة الذين كفروا.
ليكون المراد من بطلان الأعمال هو عدم إستدامة فعل الصالحات والتوقف عن عمل الصالحات وظهور أثر طاعة الذين كفروا بالفتور في العبادات لتشمل الآية إرادة الأعمال اللاحقة أي : ولا تبطلوا أعمالكم في الأيام التالية بطاعة الذين كفروا [عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله نرى أو نقول : أنه ليس شيء من حسناتنا إلاّ وهي مقبولة حتّى نزلت هذه الآية {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟
فقيل لنا : الكبائر والفواحش.
قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا : قد هلك،
فنزلت هذه الآية،
فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك،
فكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاً خفنا عليه،
وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له( ).
ليكون النهي الوارد في آية البحث سبيلاً لنيل المسلمين ذات الثواب الذي أحرزه الربيون بلحاظ مسائل :
الأولى : إنقضاء أيام الربيين ، وأيام الأنبياء الذين شرّفهم الله بصحبتهم.
الثانية : ذكر الآيات السابقة للخصال الإيمانية الحميدة للربيين، والذي يدل بالدلالة التضمنية على تنزههم عن طاعة الذين كفروا .
الثالثة : أخبرت الآيات السابقة بأن الربيين كانوا في حال حرب وقتال ضد الذين كفروا بدليل قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ].
الرابعة : مجئ الآية قبل السابقة بدعاء الربيين بالنصر على القوم الكافرين والذي يدل على إدراك عداوة الكفار لهم .
وورد قوله تعالى [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( )، لبيان التعدد في اليسر بصيغة التنكير بينما ورد العسر في الآية أعلاه بالتعريف بالألف واللام مما يدل على إتحاده .
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن ثلثمائة أو يزيدون ، علينا أبو عبيدة بن الجراح ، ليس معنا من الحمولة إلا ما نركب فزوّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين من تمر ، فقال بعضنا لبعض : قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أين تريدون وقد علمتم ما معكم من الزاد ، فلو رجعتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألتموه أن يزوّدكم .
فرجعنا إليه ، فقال : إني قد عرفت الذي جئتم له ، ولو كان عندي غير الذي زوّدتكم لزوّدتكموه . فانصرفنا ، ونزلت { فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً } فأرسل نبي الله إلى بعضنا ، فدعاه ، فقال : أبشروا فإن الله قد أوحى إليّ { فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً } ولن يغلب عسر يسرين( ).
وصحيح أن الموضوع من القياس مع الفارق ، ولكن لبيان أنه من الأولوية القطعية بأن طاعة الله ورسوله حرز وسلامة من الإنصياع إلى الكفار، وطاعتهم ولطرد وهم بأن الحاجة في الزاد والمؤن وأسباب المعاش تقود إلى طاعة الكفار، والإنقياد لأوامر الطاغوت ، ولبيان أن النهي عن طاعة الذين كفروا الوارد في آية البحث مطلق في حال اليسر والعسر .
ترى لماذا يترشح الإرتداد عن طاعة الكفار , الجواب من وجوه:
الأول : نعت الذين كفروا بالجحود والعناد للزوم إحتراز المسلمين منهم ومن طاعتهم.
الثاني : الملازمة بين طاعة الكفار وبين الخسران المبين لأنهم يسارعون إلى الفتنة ويعملون على وقوع التخاذل في جيش المسلمين والتشكيك بالوعد الذي يأتي من عند الله ورسوله ، قال تعالى في ذم المنافقين , وأهل الريب يوم الخندق [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا] ( ).
الثالث : بيان قانون كلي , وهو أن الكفار لا يأمرون إلا بالقبيح ، ليكون من مفاهيم الآية إنذار الناس من أمور :
الأول : صيرورة الإنسان من ذات الكفار الذي تحذر منهم آية البحث.
الثاني : الميل والركون إلى الذين كفروا ولو إنتقل الإنسان من مرتبة إلى منازل الكفر , وصار من الذين كفروا الذين تذمهم وتحذر منهم آية البحث ، ففيه وجوه :
الأول : إنه من الإرتداد على الإعقاب الذي تحذر منه آية البحث .
الثاني : هو من الإنقلاب والخسارة التي تختتم بها آية البحث .
الثالث : لا صلة لهذا الإنتقال بالإنقلاب الذي تذكره آية البحث.
الرابع : إنه أشد من الإنقلاب الذي تذكره الآية.
والصحيح هو الثالث والرابع، فمع أن الآية تنهى عن هذا الإنتقال وتجعل النفوس تنفر منه إلا أنه ليس من الإرتداد الذي يأتي بعد الإرتقاء ونيل مرتبة الإيمان لأن النداء في أول الآية حرز وواقية من الكفر.
والقدر المتيقن من الإرتداد القصور والتقصير والجحود بعد الهداية والإيمان، ولما أثنى القرآن على المسلمين وحذرهم من الإرتداد أخبر بأن عاقبته شخصية لا تضر الإسلام، وأن الله عز وجل يأتي بقوم مؤمنين يمتنعون عن طاعة الكفار أو الإصغاء لهم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ]( ).
ترى ما الفرق بين لفظ الكافرين كما في الآية أعلاه , وبين الذين كفروا الوارد في آية البحث.
الجواب كلاهما بمعنى، ولابد من دلالات خاصة لكل من اللفظين إذ يدل لفظ (الذين كفروا) على التلبس المتجدد بالكفر ومقابلة المعجزات الجلية بالجحود والصدود ففي كل يوم تراهم يكفرون بالله والنبوة والنعم، قال تعالى [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ] ( ).
أما لفظ (الكافرين) فيفيد الإخبار عن إقامتهم على الكفر وصيرورتهم طائفة وأمة في الضلالة .
وهل يشمل التحذير في الآية الزجر عن طاعة المنافقين ، الجواب فيه وجوه :
الأول : خروج المنافقين بالتخصيص من التحذير وعدم دخولهم مع الذين كفروا في آية البحث لأنهم يظهرون الإيمان وإن أخفوا الكفر وقد ورد ذكرهم في القرآن منفصلاً عن الكفار كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ) .
الثاني : شمول المنافقين بالتحذير والزجر عن طاعة المنافقين الوارد في آية البحث ، فهم من الذين كفروا لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثالث : إنحصار شمول النهي عن طاعة المنافقين بخصوص ما يصدر منهم من المقاصد الخبيثة ومفاهيم الضلالة .
والصحيح هو الثاني لصدق عنوان الكفر على المنافقين ولو ورد الذم والفضح لما يأمرون به ، قال تعالى [ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ] ( ) فتضمنت الآية النهي عن طاعة الذين كفروا بما يأمرون به ، لبيان أنهم يأمرون بالمنكر والقبيح وفعل المعصية ، وما يفيد التكذيب بالنبوة والتنزيل والقعود عن الدفاع والوظائف العبادية وهو ذات الشىء الذي يأمر به المنافقون ، لذا فأن آية البحث تنهى عن طاعة :
الأول : الكفار من الرجال .
الثاني : الكوافر من النساء .
الثالث : المنافقون .
الرابع : المنافقات .
لذا ذكرت الآية أعلاه التداخل والتشابه بين المنافقين والمنافقات وتعاونهم في الكفر والإبتعاد عن الإيمان بعضهم يمنع بعضهم الآخر من الإيمان والنصيحة للمؤمنين ، وأختتمت بقوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]لنعتهم بالإصرار على التمرد والضلالة والخروج عن فعل الخيرات .
ومن إعجاز القرآن مجيؤه بالنهي عن طاعة المنافقين بعرض واحد مع الزجر والنهي عن طاعة الكافرين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ] ( )، لتأكيد وجوب إستدامة مخالفتهم وعدم الإمتثال بشأنهم (عن ابن عباس قال : إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة ، دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم ، وخوفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه ، فأنزل الله الآية أعلاه.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج { ولا تطع الكافرين } أبي بن خلف { والمنافقين } أبو عامر الراهب ، وعبد الله بن أُبي بن سلول، والجد بن قيس( ).
لقد جاءت الآية بالنهي عن طاعة الذين كفروا ، وهو المستقرأ من صيغة الشرط فيها ، وسوء عاقبة الذي يطيعهم ، فهل تشمل الآية النهي عن مشورتهم وإتخاذهم بطانة واللجوء إليهم بالحكم وإنتظار المدد منهم .
الجواب نعم يأتي النهي عنها في المقام بلحاظ أنها مقدمات موصولة للحرام والمنهي عنه ، قال تعالى [يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ] ( ).
وسيأتي في الجزء التالي وهو الثاني والعشرون بعد المائة قانون (البطانة المنهي عنها) إن شاء الله.
وجاءت الآية بصيغة الجمع [إِنْ تُطِيعُوا] ويحتمل وجوهاً :
أولاً : إرادة طاعة المسلمين مجتمعين ومتفرقين .
ثانياً : المراد المهاجرون والأنصار .
ثالثاً : الآية إنحلالية لإفادة نهي أي مسلم أو مسلمة عن طاعة الذين كفروا لما للمسلم من الشأن ولتوجه الخطابات التكليفية لكل واحد من المسلمين ، وفي الثناء على إبراهيم ، قال تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا] ( ) .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ، ولو دار الأمر بين إفادة العموم أو الخصوص في النهي القرآني فالأصل هو الأول ، لذا فان مضامين هذه الآية باقية إلى يوم القيامة تدعو المسلمين إلى التوكل على الله واللجوء إليه تعالى للنجاة من الركون للكافرين والإصغاء اليهم فيما يأمرون به .
وجاءت الآية التالية لبيان أن ولاية الله مصاحبة لهم تدفعهم عن أسباب الضلالة التي تتفرع عن طاعة الذين كفروا .
ولما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان يفسد فيها ويقوم بازهاق الأرواح بغير حق ، تفضل الله عز وجل ورد بالإحتجاج عليهم باحاطته بكل الأمور والنوايا والغايات والعواقب للناس في الدنيا والآخرة بقوله فجعلهم يلوذون بالتسبيح والإستغفار [قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا] ( ).
ومن علم الله تعالى نزول آية البحث بما يفيد أموراً :
الأول : صيرورة الكفار في حال وهن وضعف من جهات :
الأولى : نعت الكفار بصفة الجحود والكفر .
الثانية : دلالة لفظ [الَّذِينَ كَفَرُوا] على الذم والتقبيح .
الثالثة : إحتراز المسلمين من الذين كفروا ببركة النهي الوارد في آية البحث .
الرابعة : الآية إعلان عام بين الملأ يتضمن فضح وتوبيخ للكفار من قبل أن تصل النوبة لتقيد المسلمين بالنهي الوارد فيه.
الخامسة : صحيح أن الآية جاءت خطاباً للمسلمين إلا أنها في دلالتها دعوة عامة للناس بلزوم إجتناب الإنصات للكفار والإنصياع لأوامرهم ، وهل يدخل الكفار أنفسهم في هذه الدعوة أم أنهم يخرجون منها بالتخصيص .
الجواب هو الأول ، وهو من إعجاز القرآن , ومن مصاديق قوله [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( )لتأتي آيات القرآن على وجوه :
الأول : آية البشارة للمؤمنين، وتتضمن في مفهومها الإنذار للكافرين.
الثاني : آية الإنذار للكافرين ، وتتضمن في مفهومها البشارة للمؤمنين .
الثالث : الآية التي تتضمن البشارة والإنذار معاً في منطوقها وفي مفهومها .
الرابع : الآية التي تتضمن البشارة والإنذار في مفهومها .
وجاءت آية البحث من الوجه الثالث أعلاه فهي بشارة للمؤمنين وإنذار للكفار ودعوة لهم للتوبة والإنابة إذ تبين وجوب عدم طاعتهم لرؤسائهم من الكفار وعدم إتباع النفس الغضبية ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ] ( ).

بحث أصولي (مقدمة الحرام)
تدل الآية بالدلالة التضمنية على حرمة طاعة الكفار ، والنهي عن مقدمات هذه الطاعة كحرمة المقدمة بسبب حرمة ذيها ، فاذا كان ذو المقدمة حراماً ، تكون مقدمته حراماً لأنها طريق إليه ، ومن إعجاز آية البحث أنها إبتدأت بالنداء التشريفي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لبيان أهلية المسلمين للإحتراز , وعدم إقتحام مقدمات الحرام .
وبالنسبة للواجب فان وجوب مقدمته يترشح عنه لأن إتيان الواجب لا يتم إلا بها ، فيأتي به المكلف على نحو الطريقة اللازمة ، أما مقدمة الحرام , ففيه تفصيل من جهات :
الأولى : إنحصار المنع والنهي بذات الحرام ، فلا موضوعية للنهي عن مقدماته .
الثانية : إرادة ترك الفعل المحرم فيكون مشتركاً مع الأمر في سنخية الطلب والبعث بلحاظ أن إجتناب المنهي عنه أمر وجودي وليس عدمياً ، فمتعلق الأمر هو الفعل ، ومتعلق النهي هو الترك والكفر عن نية وقصد، فحينئذ يختص النهي بالسبب الذي يؤدي إلى الفعل المحرم لقاعدة السبب والمسبب ،وقيل أن المقدمة غير السببية لا حرمة فيها , ولكنها تخرج بالتخصيص عن موضوع مقدمة الحرام .
الثالثة : نية الفعل الحرام حرام ، وكانت سبباً للإثم وكتابة السيئات على صاحبها ، وقد خفف الله عز وجل على المسلمين ، وإن كانت النية فرع الإرادة التي هي الجزء الأخير من مقدمات العلة التامة .
(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يروي عن ربه « من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ، ولا يهلك على الله إلا هالك] ( ).
الرابعة : القدر المتيقن من مقدمة الحرام المحرمة هو ما تنعدم الواسطة والإختيار والإرادة بينها وبين فعل الحرام، وتسمى الأسباب التوليدية ، كما لو جاء بالمقدمة ، فوقع الحرام قهراً وانطباقاً بحيث يتعذر معه تركه وإن لم تصل النوبة إلى قانون العلة والمعلول ، وعدم تخلف المعلول عن علته.
الخامسة : حرمة المقدمة التي يريد منها الإنسان التوصل إلى الحرام مع أنها في ذاتها ليست بحرام ، وهي محرمة وإن كانت حرمتها غيرية للتجري والسراية إلى ذي المقدمة , ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم [إنما الأعمال بالنيات] ( ).
ويتجلى التباين بين مقدمة الواجب ومقدمة الحرام ورجحان تبعية مقدمة الواجب لذيها بأن الواجب أمر وجودي يستلزم إجتماع أفراد العلة التامة وتحقق كل مقدماته ، فاذا إنعدمت إحداها لم يتحقق المطلوب لذا يكون الأجر والثواب في أي واحدة منها مع قصد القربة إلى الله.
أما بالنسبة لمقدمة الحرام فانه ترك وإمتناع ، ويتحقق بترك أي من مقدماته، وقد ينزل بين مقدمة الحرام وذاته فضل الله، وصرف السوء وإن همّ به العبد , وفي يوسف عليه السلام وهمّ امرأة العزيز بالفاحشة , قال تعالى[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]( ) والمختار أن نعمة البرهان أعلاه وحضوره عند الهم بالفاحشة والمعصية مطلقاً نعمة دائمة ومتجددة للبر والفاجر , وفيها مسألتان :
الأولى : البرهان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً بحسب إيمان العبد أو عدمه , ويكون البرهان أظهر وأبين عند الهّم بالمعصية أول مرة .
الثانية : إتعاظ الإنسان من البرهان على مراتب ، فكلما إزداد المسلم هدى إلتفت إلى البرهان وإن كان سريعاً وعلى نحو الإيحاء والإشارة والتعريض ، قال تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ] ( ).
وباستثناء الجهة الأولى فان الجهات الأخرى صحيحة ، ليكون من معاني الآية:
يا أيها الذين آمنوا بحرمة طاعة الذين كفروا إجتنبوا مقدمات هذه الحرمة , ومنها الركون للكافرين وطلب مودتهم , وهل الحب في قوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] ( ) من المقدمة لطاعتهم المنهي عنه , الجواب لا .
فلم تأت الآية أعلاه بصيغة اللوم والذم ، إنما لبيان نفع المسلمين لغيرهم ، وفضل الله على المنافقين والكفار ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللإشارة لتقيد المؤمنين بصلات الرحم والمصاهرة والقرابة وحسن الجوار .

علم المناسبة
ورد لفظ تطيعوا خمس مرات في القرآن ، ولم يرد فيه بلفظ (تطيعون ) لبيان مجئ هذا اللفظ لتأديب المسلمين وهدايتهم إلى سبل الرشاد والطاعة بالخير ، وزجرهم ومنعهم عن الطاعة بالمنكر وأسباب الضلال وبذات معنى آية البحث ورد قوله تعالى [إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( ).
ومن إعجاز نظم الآية مجئ ذات الآيتين في سورة آل عمران، وتحتمل الصلة بين الآية أعلاه وآية البحث وجوهاً:
الأول : نسبة التساوي في الجهة المنهي عن طاعتها .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الآيتين .
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : آية البحث أعم من الآية أعلاه .
الثانية : الآية أعلاه هي الأعم .
الرابع : نسبة التباين بخصوص الجهة المنهي عن طاعتها .
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثالث ، وقد يقال بأن الثاني هو الأنسب بارادة تحذير آية البحث من طاعة المشركين والمنافقين .
ومن الإعجاز في المقام لغة الإطلاق في الذين كفروا والتبعيض بخصوص طائفة من أهل الكتاب ،ومن وجوه الإتحاد بين الآيتين إبتداء كل واحدة منهما بنداء التشريف والإكرام [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
وقد ورد لفظ [إِنْ تُطِيعُوا] بالندب إلى طاعة الله ورسوله وبيان الأجر العظيم بسبب هذه الطاعة ، قال تعالى [قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] ( ).
وموضوع الطاعة في الآية أعم من أن ينحصر بالأعراب فكل مسلم يطيع الله عز وجل في حال الشدة والضراء ولقاء العدو يرزقه الله عز وجل الثواب العظيم في النشأتين .
ونزلت آية أخرى بذات المعنى وبخصوص الأعراب أيضاً بقوله [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا]( ).
[نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سنة جدبة فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر، فأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والعيال والذراري، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، يمنون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويريدون الصدقة، ويقولون: أعطنا، فأنزل الله فيهم هذه الآية] ( ).

قانون الصراط المستقيم
لقد ذكرت الآية السابقة الثواب العظيم الذي فاز به الربيون من أصحاب وحواري الأنبياء السابقين، ومن مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ووجوه البيان في هذه الآيات ذكر صفات الربيين التي تبين سلامتهم من طاعة الذين كفروا ، وتكون نبراساً وطريق هداية للمسلمين للأمن والتوقي من طاعتهم وما تجلبه من الأضرار ، وهذا البيان من مصاديق ما ورد في التنزيل [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : إهدنا الصراط المستقيم صراط الربيين .
الثاني : إهدنا الصراط المستقيم للفوز بثواب الربيين .
الثالث : إهدنا الصراط المستقيم الذي هديت إليه الربيين .
الرابع : إهدنا الصراط المستقيم بالتدبر والعمل بسنن الربيين .
الخامس : إهدنا الصراط المستقيم وإجعلنا بمرتبة الربيين.
السادس : إهدنا الصراط المستقيم , وما رزقت الربيين من الثواب وزد علينا من فضلك ورجاء الزيادة في المقام من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وهذا التعدد من أسرار وجوب قراءة كل مكلف من المسلمين والمسلمات سورة الفاتحة عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني ، وفيه آية الهداية إلى الصراط ، لبيان قانون وهو أن المسلمين يسألون الله عز وجل الهداية إلى الصراط , فيتفضل سبحانه باصلاحهم وهدايتهم لوجوه وضروب هذا الصراط.
فان قلت إن صفة ( المستقيم ) قيد يفيد إتحاد الصراط فكيف يكون على وجوه ، والجواب هو إرادة الصراط المستقيم في كل أمر على نحو مستقل ويكون بلحاظ آيات الربيين الثلاثة السابقة على وجوه :
الأول : الصراط المستقيم في الإعتقاد .
الثاني : الصراط المستقيم في مسالك الطاعة .
الثالث : الصراط المستقيم في كل قول .
الرابع : في كل فعل .
الخامس : في كل معاملة .
السادس : في كل حكم .
السابع : الصراط المستقيم في العبادات، وأداء الفرائض.
الثامن : الصراط المستقيم في الأخوة الإيمانية .
التاسع : الصراط المستقيم في العصمة من طاعة الذين كفروا .
العاشر : الصراط المستقيم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الحادي عشر : الصراط المستقيم في الحرب على الكفر .
الثاني عشر : الصراط المستقيم في الإقتداء بالربيين .
الثالث عشر : إهدنا الصراط المستقيم صراط الربيين الذين انعمت عليهم .
الرابع عشر : إهدنا صراط الربيين غير المغضوب عليهم .
الخامس عشر : إهدنا صراط الربيين غير الضالين .
السادس عشر : إهدنا الصراط المستقيم صراط الربيين وهو الإسلام ، وقد فضل الله عز وجل المسلمين بنزول القرآن وبقاء آياته معجزة إلى يوم القيامة .
السابع عشر : إهدنا الصراط المستقيم الجامع لسنن الإيمان.
الثامن عشر : إهدنا الصراط المستقيم بقتال الربيين مع الأنبياء .
التاسع عشر : إهدنا الصراط المستقيم بعدم الوهن لما أصابنا من الجراحات وتعدد الشهداء , وفي يوم أحد قال تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ] ( ).
العشرون : إهدنا الصراط المستقيم صراط الربيين الذين [وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا] ( ).
الحادي والعشرون : إهدنا الصراط المستقيم صراط الربيين الصابرين .
الثاني والعشرون : إهدنا الصراط المستقيم لتكون من الصابرين [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ].
الثالث والعشرون : إهدنا الصراط المستقيم صراط الربيين الذين سألوك سبحانك غفران إسرافهم في أمرهم .
الرابع والعشرون : إهدنا الصراط المستقيم بثبات أقدامنا .
الخامس والعشرون : إهدنا الصراط المستقيم بالنصر على القوم الكافرين ، وتدل صيغة الجمع في هذه الآيات على تعاون المسلمين من الصالحات، ونفي الجهالة والغرر عنهم لتجلي سبل النجاة والصلاح، وكل مرة يدعو فيها المسلمون الهداية إلى صراط مستقيم في موضوع مخصوص أو على نحو الإطلاق تكون سؤالاً لإجتناب طريق الضلالة وسبل الغواية .
السادس والعشرون : إهدنا الصراط المستقيم الذي عميت أبصار الذين كفروا وصمت آذانهم عنه ، فمن فضل الله عز وجل أن الهداية إلى الصراط لا تختص بالبصائر أو الأبصار ، بل كل حاسة عند الإنسان تدعوه إلى الصراط ، وكذا بالنسبة للجوارح كاللسان.
(عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما على كتفي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة وعلى الابواب سور وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو من فوقه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فالأبواب التي على كتفي الصراط حدود الله لا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف ستر الله والذي يدعو من فوقه واعظ الله عز وجل قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى)( ).
السابع والعشرون : إهدنا الصراط المستقيم بتلقي الأوامر القرآنية بالإمتثال .
الثامن والعشرون : إهدنا الصراط المستقيم بطاعة رسولك الكريم ، كما كان الربيون طائعين لأنبياء زمانهم .
التاسع والعشرون : إهدنا الصراط المستقيم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثلاثون : إهدنا الصراط المستقيم بالإعتصام بالقرآن .
الحادي والثلاثون : إهدنا الصراط المستقيم للفوز يوم القيامة بأحسن الثواب الذي رزقته الربيين.
الثاني والثلاثون : إهدنا الصراط المستقيم الذي إنتهى بالربيين إلى النعيم الدائم.
الثالث والثلاثون : إهدنا العبور على الصراط المستقيم يوم القيامة (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : شعار أمتي إذا حملوا على الصراط : يا لا إله إلا أنت)( ).
فان قوله تعالى [من كفر] بشارة تعاهد المسلمين والمسلمات لفريضة الحج ، وأن جحود الكفار بهذا الركن العبادي لن يضر في إستدامتها ودوام تلبية وفد الحاج كل عام بصوت واحد (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) ويكون من معاني (ومن كفر) في الآية أعلاه أي (من كفر بالله واليوم الآخر)( ).
لقد عشق المسلمون أداء الحج ومنهم من يصدق عليه أنه مدمن عليه ، وجاءت السنة ببيان تحقق الإستطاعة بالمسمى وصرف الطبيعة منه (روى الحرث عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ملك زاداً وراحلة تبلغانه إلى بيت الله فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، فإن الله تعالى يقول : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}]( ).

قانون كثرة مصاديق الصراط
ليس من حصر لأبواب وسبل الصراط المستقيم ليكون من إعجاز القرآن مجئ اللفظ من كلمتين كل واحدة منهما تتصف بالإتحاد وعدم التعدد وهما :
الأول : الصراط .
الثاني : المستقيم .
ومع هذا فان مصاديقهما من اللامتناهي كما أنها تتغشى أيام الحياة الدنيا والآخرة ، ومن مصاديق الهداية إلى الصراط وجوه :
الأول : الهداية إلى الأسلام والنطق بالشهادتين ، فان قلت يتلو المسلم قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )وهو قد دخل الإسلام أو ولد لأبوين مسلمين أو لأب مسلم ، بينما ظاهر الآية الكريمة إرادة الزمن المستقبل في سؤال الهداية مما يدل على أن الصراط يتعلق بأمور أخرى غير الإسلام.
والجواب لا تعارض بين سؤال النعمة المستديمة وصيغة المضارع بالسؤال وشموله الماضي بصيغة الشكر , ورجاء عدم الإنقلاب الذي تحذر منه آية البحث عند إطاعة الذين كفروا بقوله تعالى [فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] .
إن الإنسان كائن محتاج ، ودخوله الإسلام لا يخرجه عن هذه الحاجة , فيسأل المسلمون الله عز وجل الثبات في منازل الإيمان ، قال تعالى [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون] ( ).
الثاني : الهداية إلى القرآن ، كتاب الله الذي انزله [لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ) وموضوع الهداية في القرآن من جهات :
الأولى : التصديق بنزول القرآن من عند الله .
الثانية : تلاوة آيات القرآن بقصد القرآنية .
الثالثة : حفظ آيات القرآن .
الرابعة : التدبر في آيات القرآن .
الخامسة : تعاهد آيات القرآن وسلامة كلماته وحروفه من التبديل والتغيير .
السادسة : قراءة آيات وسور القرآن في الصلاة .
السابعة : العمل بمضامين آيات القرآن والإمتثال لما فيه من الأوامر والإنزجار عما نهى عنه .
الثامنة : الدفاع عن القرآن ، والحرص على وراثة الأجيال المتعاقبة له رسماً وتلاوة وعملاً وعهداً على حفظه وسلامته.
التاسعة : التفقه في الدين، ومعرفة أحكام الحلال والحرام .
العاشرة : معرفة أحوال الآخرة وعالم الجزاء وفق ما مذكور في القرآن .
الثالث : الهداية إلى إتيان الواجبات والعبادات , وهذه الهداية من جهات :
الأولى : معرفة ضروب العبادات ، وأفرادها الواجبة .
الثانية : إتقان كيفية أداء العبادات ، كما في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين [صلوا كما رأيتموني أصلي]( ).
الثالثة : الحرص على أداء العبادات في أوقاتها سواء المضيقة منها كشهر رمضان أو الموسعة بلحاظ أوانها كصلاة الصبح ووقتها ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .
الرابعة : المسارعة في فعل الخيرات والندب إلى الصالحات واللجوء إلى الإستغفار ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الخامسة : القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من منهاج الأنبياء ، وصراط مستقيم بذاته ويقود الذات والغير إلى الصراط من غير تعارض بين أن يكون الأمر غاية في ذاته ومقدمة وسبباً لغيره، وجاءت السنة النبوية بتعدد مصاديق الصراط.
قوله تعالى [يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]
من مصاديق قوله تعالى [خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ] ( )تجلي وجوه البيان بآيات القرآن فبعد أن إبتدأت الآية بنداء الإكرام حذرت المسلمين من طاعة الذين كفروا والإستجابة لأوامرهم ومناجاتهم وفيه آية إعجازية وهي أن مدح المسلمين والثناء عليهم لم يمنع من تحذيرهم وزجرهم ، لأن هذا الزجر وسيلة مباركة لإستدامة الثناء عليهم إذ جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار ، وأنعم على المسلمين بأن هداهم إلى الصراط المستقيم وحذرهم ونهاهم عن سبل الغواية والضلالة بالبيان الجلي الذي يدركه كل واحد منهم وإن تباينت مداركهم ، وإختلفوا في الإنشغال بالدنيا لأن هذا الإختلاف يفنى عند وقوفهم بين يدي الله خمس مرات في اليوم لأداء الصلاة ، وهو من معاني التلاوة فيها بحال خشوع وخضوع ليكون مناسبة للتدبر وهو من أسرار صلاة الجماعة لما توحيه من نزع رداء الدنيا أوقات الصلاة .
ويحتمل موضوع الإرتداد الذي تذكره آية البحث وجوهاً :
الأول : القصور الشخصي في أداء العبادات والفرائض .
الثاني : الفتور في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالث : الإبطاء عن النفير والمرابطة والإضطرار لصيرورة الواجب الكفائي واجباً عينياً على شطر من المؤمنين لحصول النكوص عند طائفة وشطر منهم ، لذا تفضل الله عز وجل يوم أحد ومنع من فشل وجبن طائفتين من المسلمين هم بنو سلمة وبنو حارثة كيلا تصيب الخسارة باقي المؤمنين أو أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ] ( ).
وهل آية البحث من ولاية الله عز وجل للمسلمين الجواب نعم فهي برزخ بينهم وبين طاعة الكفار والأضرار الخاصة والعامة التي تترشح عنها .
ويدل إخبار الله عز وجل للملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )على تقوم الخلافة بالإيمان والتسليم بالربوبية لله عز وجل والرجوع إليه في الأمور ، فتفضل ببعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية رحمة بالناس جميعاً ، وتفضل بالترغيب بالإيمان والوعد عليه بالثواب العظيم وحذّر سبحانه من الكفر والجحود .
وتفضل الله وجعل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة النبوات وناسخة للشرائع فآمن شطر من الناس وكفر شطر آخر ، فجاءت آية البحث لتبين إنعدام البينونة والفصل الإجتماعي بين الفريقين , وهو من أسرار سنخية الخلافة في الأرض بأن يكون الإختلاط والمعاملة قائمة بين الناس بما هم بشر .
فتفضل الله عز وجل بآية البحث واقية للمسلمين عن طاعة الكفار ، ومن الإنقلاب والإرتداد إذ تدل على عدم الحرمة في المعاملات والبيع والشراء والجوار بين المؤمن والكافر ، والقدر المتيقن من النهي هو لزوم الإمتناع عن طاعتهم بما يخالف سنن الإيمان ، ويدل على هذا المعنى أمور :
الأول : إبتدأت آية البحث بالنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وما يتضمنه من الشهادة للمسلمين بالإيمان، ولزوم تعاهد المسلمين له ، ويتجلى هذا التعاهد باجتناب طاعة الذين كفروا .
الثاني : ذم الآية للذين كفروا بنعتهم بالجحود والإستكبار عن الحق والهدى ، فحينما يأمرون لا يأمرون إلا بما يوافق هواهم وما هم عليه من الضلالة ، وحتى إن لم يأمروا بالكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأنهم يأمرون بترك الفرائض أو عدم التقيد بأحكامها وآدابها وأوقاتها والإستخفاف ببعضها والإلحاح بالسؤال عن علة تشريعها ، قال تعالى [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ] ( ).
فان قلت ما يأمر به الكفار يستقبحه العقل وتستنكره النفس في الأصل فلماذا جاء النهي عن طاعتهم هل هو تحصيل لما هو حاصل ؟ الجواب لا ، إنما هو على وجوه مباركة منها :
الأول : كشف الحقائق .
الثاني : تبصرة المسلمين في أمور الشريعة .
الثالث : تفقه المسلمين في الدين .
الرابع : إبطال مغالطات الكفار ، وبيان فساد نواياهم وخبث سريرتهم , وآية البحث من أسباب كشف الحسد والأحقاد التي ذكرها الله في قوله [أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ] ( ) بأن يجتهد المسلمون بسنن التقوى ويعرضون عن تعريض الذين كفروا والمنافقين فيقوم هؤلاء ببث سمومهم بالتصريح ودعوة المسلمين لطاعتهم وهو من إعجاز الآية وأسباب وقاية المسلمين من شرورهم .
ومن إعجاز آية البحث نسبة إرتداد المسلم الذي يطيع الكفار إلى ذات الكفار ليبوؤا بأوزار في المقام من جهات :
الأولى : الإقامة في مواطن الكفر .
الثانية : محاربة المسلمين في دينهم وعقيدتهم .
الثالثة : تمادي الكفار بضلالة المعتقد وركوب الفتنة ، والإعراض عن الآيات الباهرات ودوام الفتنة وعدم الكف عن إرادة إفتتان المسلمين في أحكام الشريعة وصحتها وتمامها ، كما في قول الكفار [قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا] ( ) .
وذكرت آية البحث ما يلحق المسلمين من الضرر , وما يحل بساحتهم من أسباب التحريف والتبدل إذا أطاعوا الذين كفروا ، ولم تذكر ما يلحق الكافرين من الضرر إن يطيعهم الذين آمنوا وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي الإنذار والتخويف في آية البحث للمسلمين والمسلمات من غير أن تترك الذين كفروا وشأنهم بل تتضمن الآية التخويف والوعيد لهم من جهات :
الأولى : ذم وتوبيخ الكفار بنعتهم بصفة الكفر والجحود .
الثانية : مجئ ذكر الذين كفروا وأسباب ذمهم بعد الثناء على المسلمين بصيغة النداء والخطاب من عند الله بصفة الإيمان .
الثالثة : إخبار الآية عن عداوة الذين كفروا للمسلمين لأن إرادة الإرتداد حرب وعداوة وإضرار ، فجاءت آية البحث للوقاية من هذه العداوة وكتابة الثواب للمسلمين ، والذي يكون على وجوه :
الأول : إصغاء المسلمين لنداء الإيمان الذي إبتدأت به آية البحث, والتطلع بقصد الإمتثال لما بعده من الأمر أو النهي .
الثاني : تعاهد المسلمين لصيغ الإيمان .
الثالث : إمتناع المسلمين عن إبدال طاعة الله ورسوله بطاعة الذين كفروا ، فهذا الإمتناع أمر وجودي , ويأتي عن نية وعزيمة وقصد .
وتتجلى في آية البحث مباحث كلامية من وجوه :
الأول : الجهة التي يرتدون منها .
الثاني : الوجهة التي يرتدون إليها .
الثالث : موضوع الإرتداد .
الرابع : سوء عاقبة الإرتداد .
الخامس : العقاب الإليم للكفار الذين يسعون لحمل المسلم على طاعتهم في المنكرات (عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآيات { فلولا إذا بلغت الحلقوم } ( )، إلى قوله : { فروح وريحان وجنة نعيم } إلى قوله : { فنزل من حميم وتصلية جحيم } ثم قال : إذا كان عند الموت قيل له هذا فإن كان من أصحاب اليمين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه ، وإن كان من أصحاب الشمال كره لقاء الله وكره الله لقاءه]( ).
أما الأول فقد بينته آية البحث في بدايتها بصبغة الإيمان ، وأما الوجهة التي يرتدون إليها فهي ضد الإيمان ، وحال الناس من الجاهلية والوثنية قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وأما موضوع الإرتداد فيحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة مسمى طاعة الذين كفروا وصرف الطبيعة .
الثاني : المقصود الطاعة التامة ومحاكاة الذين كفروا في الأقوال والأفعال .
الثالث : القدر المتيقن لزوم عدم الإصغاء لمغالطة وإفتراء الذين كفروا وتكذيبهم النبوات .
الرابع : وردت الآيات الثلاثة السابقة بالثناء على الربيين , وذكر قتالهم في سبيل الله , ليفيد معنى الإنقلاب القعود عن قتال الذين كفروا بسبب طاعتهم ، فتكون الخسارة بما يترشح عن هذا القعود من أسباب الذل والضعف , وبيان أن الله مولاكم فلا تصلون إلى هذه الخسارة .
السادس : فتنقلبوا خاسرين ،الأمر الذي يسعى إليه الذين كفروا ، ولكن الله عز وجل يصرف كيدهم ، قال تعالى [عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً] ( ).إنما إبتدأت الآية بالنداء [يا أيها الذين آمنوا]لسلامة المسلمين من طاعة الذين كفروا في صدورهم وجحودهم وتكذيبهم المعجزات والبراهين الدالة على التوحيد وصدق النبوة .
السابع : فتنقلبوا عن مقامات الذين آمنوا خاسرين ،
ومن إعجاز آية البحث ملازمة الخسارة للإنقلاب , فليس ثمة فترة وبرزخ بين الإيمان والخسارة مدة الإنقلاب كما في قطع المسافة بين مدينتين مثلاً.
فحالما يطيع الإنسان الكافرين ينقلب مع الخسارة أثناء الإنقلاب والتبدل والإرتداد وإن جاء تدريجياً وعلى مراتب متعددة وليس من نهاية للإنقلاب إلا التوبة فلا يعني الإنقلاب هنا الإنتقال المكاني من موضع إلى أخر إنما هو تبدل سنخية المبدأ والتغير النوعي في العقيدة ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] ( )
ويحتمل الإنقلاب في سنخيته وجوهاً :
الأول : إرادة التدحرج والتقهقر المتصل أو المتعاقب أو المنفصل من مقامات الإيمان إلى مستنقع الشك وهاوية الضلالة والفسوق .
الثاني : الإنقلاب الدفعي , وكأن ليس له مقامات من الإيمان إلى منازل الكفر .
الثالث : الإقامة في طاعة الذين كفروا .
الرابع : صيرورة الإنسان بعد إنقلابه من الكفار الذين يريدون جر المؤمن وإغوائه في طاعتهم .
وجاءت آية البحث لمنع هذه الوجوه كلها , وجعل المسلم في خشية من الله وحرص على سلامة دينه ، وجهاد مع النفس والجوارح لنيل الثواب العظيم الذي أخبرت عنه الآية السابقة وأن الربيين من أصحاب الأنبياء نالوه لبيان أنه قريب من المسلمين ، قال تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] ( ).

بحث بلاغي
من صيغ الإبداع البلاغية الإئتلاف اللفظي بأن تلائم الكلمات والجمل بعضها بعضاً من جهة المتداول والمعروف أو الغريب والنادر , وجعل موضوعية لحسن الجوار , ومناسبة الموضوع والحكم .
وذكر الإئتلاف بين اللفظين مع صحة إتيان لفظ آخر محله ولكن يؤثر بلفظ مخصوص مراعاة للنظير وللجمع بين المتشابهات ومن فوائده تجلي معاني الفصاحة في الكلام وظهور صيغ البلاغة ، وجعل الأسماع تميل إليه ، والأذهان تتدبر فيه .
ومن منافع الإئتلاف اللفظي في القرآن إصلاح النفوس ونقلها إلى مواطن الهداية وسبل الرشاد ، ليكون من الإعجاز في بلاغة القرآن إصلاح النفوس .
ومن إئتلاف اللفظ في القرآن قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )لبيان إتحاد وتعاون قريش بالأسباب ومنها التجارة لتكون مناسبة لتعاهدهم خدمة البيت الحرام ، ومقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإعجاز في المقام مزاولة نساء قريش للتجارة فتكون لهن بضائع وقوافل بين مكة والشام ومكة واليمن ليصبحن على مرتبة من الفطنة والمشاركة بالحياة السياسية والمنتديات ، لذا كان عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمتاجرة بأموال خديجة ثم الزواج منها ، ومبادرتها للتصديق بنبوته من أسباب في نشر لواء الإسلام ، (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أفضل نساء العالمين خديجة ، وفاطمة ، ومريم ، وآسية امرأة فرعون)( ).
ومنه إئتلاف اللفظ والمعنى ، بأن تكون الألفاظ موافقة للمعاني فتأتي الألفاظ الجزلة والشديدة للفخر وبعث الحماسة وتأتي الكلمات الرقيقة في باب الترغيب والإصلاح , وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا صعد المنبر وخطب بخصوص الحرب نطق بالكلام الجزل الذي يبعث الحماسة في النفوس.
وإذا خطب بخصوص الآخرة رغّب بالجنة ونعيمها ، وخوّف من النار وبين شدة عذابها .
ومن تجليات إئتلاف اللفظ والمعنى في آية البحث صيغة الجمع في كل من :
الأول : المخاطبون وهم المسلمون والمسلمات ، فلم تستثن الآية فريقاً أو طائفة من المسلمين ممن ثبت الإيمان في نفوسهم وسخروها للفداء والتضحية في الإسلام .
الثاني : الذين تحذر منهم آية البحث وهم الذين كفروا سواء الذين كفروا بالله والربوبية أو بالنبوة أو التنزيل .
الثالث: سوء عاقبة الذين يطيعون الذين كفروا ،فلم تقل الآية (يردوكم على أعقابكم إلا من شاء الله ) .
ومن أسرار إنعدام الإستثناء في الآية أن الإرتداد يضر الإسلام ذاته وليس الأفراد وحدهم ، لذا وردت الآية التالية تأكيداً لإئتلاف اللفظ والمعنى بالإخبار عن ولاية الله للمسلمين بصيغة الإضراب والخطاب [بل الله مولاكم ] فالولاية لصبغة الإسلام .

علم المناسبة
ورد لفظ [يردوكم] في القرآن ثلاث مرات ، كما ورد مرة واحدة من غير حذف النون (يردونكم ) وكلها خطابات للمسلمين تتضمن التحذير من الإرتداد في الدين نتيجة طاعة الكفار وفريق من أهل الكتاب ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان وجود أمة تريد للمسلمين التخلف عن منازل الإيمان والتقصير في العبادات .
الثانية : تأكيد وجه من وجوه جهاد المسلمين في سبيل الله بحصانتهم من الإرتداد .
وهل يختص هذا الوجه من الجهاد بالحصانة الذاتية ،الجواب لا إذ يشمل تعاون المسلمين للإحتراز من طاعة الذين كفروا .
الثالثة : بينت آيات القرآن عدم إنحصار أسباب ووسائل الذين كفروا لإرتداد المسلمين بالقول والأمر والنهي والإغراء ، بل يصل الأمر للقتال فيحاربون المسلمين لغرض ردتهم ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ).
وذكرت آية البحث إرادة الكفار إرتداد المسلمين مطلقاً من غير بيان موضوعه ، ولكنه جلي بالذات والمضمون ومع هذا تأتي آيات القرآن لبيان حدود الإرتداد وأنه لا يقف عند القصور والتقصير ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ]( ).
ليكون تفسير [يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] أي يردوكم إلى الكفر والجحود ، فلذا أختتمت الآية بقوله تعالى [فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ].
أداء الصلاة وآية البحث
إذا كان الناس يتناقلون أخبار المعجزة الحسية للأنبياء في المنتديات والحضر والسفر مع فتور عنها في بعض المواطن كالأسواق وإنشغال الناس بالتجارة أو بسبب تعدد الإستماع لها والإحاطة بها ، فان آيات القرآن حاضرة في هذه المنازل كلها ، وتدخل البيوت وتخترق شغاف القلوب، وهو من مصاديق وأسرار تشريع الصلاة اليومية ووجوب التلاوة فيها ولزوم القراءة الجهرية في شطر منها ، ليتجدد النداء إلى المسلمين بعدم طاعة الكفار كل يوم من جهات :
الأولى : ذات الصلاة التي هي إنقياد وخشوع الله عز وجل .
الثانية : أفعال الصلاة وما فيها من التسليم والخضوع لله عز وجل ومعاني كل فعل منها مثل القيام بين يدي الله ،ودلالة الركوع على الإستعداد لتسليم الرقبة في سبيل الله ،والسجود لتأكيد التطامن والذل والمسكنة لله عز وجل وتجلت بآيات الحج وتركة الأنبياء بقوله تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ) .
الثالثة : تلاوة آيات القرآن , ومنها آية البحث التي تستنهض المسلمين بالمناجاة في سبيل الإيمان والإحتراز من طاعة الكفار .
الرابعة : تعاهد المسلمين لأوقات الصلاة اليومية ، وعدم التفريط فيها والإنسلاخ ساعتها من شوائب الدنيا .
الخامسة : الرضا والقبول بالثواب الغيبي للصلاة والذي يتغشى عالم الدنيا والآخرة ، فان قاتل الربيون في سبيل الله فنالوا نعمة الثواب المطلق ، فقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالإنذار من طاعة الذين كفروا ، وفي سلامتهم من دهاء ومكر الكفار الثواب العظيم في الدنيا والآخرة ، وتحتمل الصلاة اليومية والعبادات في المقام وجوهاً :
الأول : إنها من مقدمات إجتناب طاعة الذين كفروا .
الثاني : الصلاة حرز وواقية من طاعة الذين كفروا .
الثالث : الصلاة ذكرى وتذكير يتكرر في اليوم خمس مرات بلزوم العصمة من طاعة الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( )بلحاظ أن طاعة الكفار من المنكر .
الرابع : ليس من ملازمة بين أداء الصلاة والنهي الوارد في آية البحث عن طاعة الذين كفروا .
الخامس : أداء الصلاة من مصاديق عدم طاعة الذين كفروا ، وباستثناء الوجه الرابع فان الوجوه أعلاه كلها صحيحة ، وهو من إعجاز القرآن العقلي بأن يأتي النهي في القرآن ثم يتفضل الله عز وجل ويهيئ للمسلمين أسباب الإمتثال والتقيد بأحكام هذا النهي وجعل الموانع التي تحول دون طاعة المسلم للذين كفروا وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بلحاظ إصلاحهم للتوقي من الكافرين وفضح المنافقين بتعاهد الصلاة اليومية بشرطها وشروطها ، وهو من أسرار قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [صلوا كما رأيتموني أصلي] ( )وإذا كانت الصلاة نفع وخير للمسلمين فهل فيها نفع للكفار ، الجواب نعم من جهات:
الأولى : إنها حجة على الكفار في لزوم عبادة الله .
الثانية : بعث اليأس في نفوس الكفار من طاعة المسلمين لهم لإدراك الناس بعدم إجتماعها مع طاعة المسلمين لله عز وجل .
الثالثة : أداء المسلمين للصلاة دعوة للكفار والناس جميعاً لدخول الإسلام وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الرابعة : بيان مصداق عملي للإيمان المسلمين بالغيب من جهة رجاء الثواب الذي يأتي من عند الله على الصلاة ، وفيه آية في النفع العام للناس من إيمان المسلمين بالغيب .
قانون معجزة التلاوة
بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو توالي الثواب للمسلمين والمسلمات على إجتنابهم طاعة الذين كفروا ، وهذا الثواب على وجوه :
الأول : الثواب على إبطال مغالطة الذين كفروا وتبديد أوهامهم .
الثاني : حصانة النفس من طاعة الذين كفروا .
الثالث : صيرورة المسلم أسوة لأخيه المسلم ولذريته في لزوم إجتناب طاعة الذين كفروا .
الرابع : العزم على الإمتناع عن طاعة الذين كفروا عند تلاوة آية البحث .
وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي الثواب على تلاوة آية من القرآن بالذات والعرض والأثر , فيكون الثواب في آية البحث على وجوه :
الأول : ثواب القراءة ، وهو إنحلالي ففي قراءة كل حرف من كلمات آية البحث عشر حسنات ، قال تعالى [وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ) وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قال : كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله عز وجل : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، للصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)( ).
الثاني : ترشح الثواب من عزم المسلم الذي يتلو آية البحث على العصمة من طاعة الذين كفروا ، وهو من أسرار إبتداء الاية بالنداء الكريم [يا أيها الذين آمنوا ] لما فيه من شحذ الهمم ، والبعث على العمل بمضامين الآية الكريمة .
الثالث : إنتفاع المستمع لمن يقرأ أية البحث من أسرار الجهر في صلاة الصبح والمغرب والعشاء كل يوم وهذا الإنتفاع على جهات :
الأولى : تدبر المسلم في آية البحث ، ما فيها من النهي عن الإمتثال لأوامر ومقاصد الكفار والفاسقين .
الثانية : ترغيب المسلم بتلاوة آية البحث .
الثالثة : إستماع الكافر لآية البحث فيندم على إختياره الكفر ، وينشغل بنفسه .
الرابعة : إنصات أهل الكتاب لآية البحث ، وفيها تحذير لهم من طاعة الكفار في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن , فيمكن قراءة الآية بخصوصهم إبتداء [آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ويكون من معاني الآية الخسارة الإضافية والأوزار التي تأتي للإنسان بطاعة الكفار .
الخامسة : سماع الناس لآية البحث وإستقراء المسائل منها ، وإدراك فضل الله عز وجل على المسلمين وإجتماع الأمر والنهي المتوجهين لهم كل فرد في بابه من غير تزاحم بينهما فابتدأت الآية بنداء الإيمان ، لتتضمن وجوب تعاهد هذا التشريف والإكرام بالحصانة الذاتية .
الرابع : إستحضار المسلم والمسلمة لآية البحث عند الإبتلاء بحسد ومكر الذين كفروا ، وهذا الإستحضار فرع تكرار التلاوة والتدبر ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل قراءة القرآن واجبة في الصلاة اليومية .
الخامس : إتخاذ المسلمين آية البحث وتلاوتها مادة ومناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فاذا تلا المسلم آية البحث تكون هذه التلاوة على وجوه :
الأول : الأمر بذكر الله عز وجل .
الثاني : تعاهد تلاوة القرآن .
الثالث : حث الناس على تلقي النداء التشريفي في أول الآية وهذا التلقي مقيد بدخول الإسلام والنطق بالشهادتين .
الرابع : تلاوة هذه الآية زجر عن الكفر وبيان قبحة وضرره الخاص والعام .
الخامس : إذا تلى المسلم جهراً آية البحث يكون ناهياً عن طاعة الذين كفروا ، وإن تلاها إخفاتاً فهل تكون هذه التلاوة نهياً لنفسه وجوارحه عن طاعتهم , الجواب نعم ، وهو باب للثواب , وتكزن مقدمة لنهيه بالقول والفعل عن طاعة الكفار , فليس في المقام ما يكون نهياً بالقلب وحده , لأن المسألة عقائدية إبتلائية
قانون إجتماع الإمتثال مع الأمر أو النهي في الآية الواحدة
من خصائص القرآن أن عجائبه لاتنتهي من جهات لا تحصى منها :
الأولى : تجدد مصاديق آياته في المبرز الخارجي والمصاديق العملية.
الثانية : إدراك الناس للمطابقة بين مضامين آيات القرآن والواقع العام للناس.
الثالثة : إستنباط المسائل العلمية والكلامية والفقهية والإجتماعية من القرآن في كل زمان، فيستخرج العلماء مضامين قدسية من القرآن، ويبينون تأويلاً مستحدثاً من ذات الآية وكأنه كشف مرهون بزمانهم قد غاب عن أذهان أساطين العلم من قبلهم، وهو من مصاديق الإعجاز العقلي للقرآن باتصاف إستقراء وإستخراج العلوم منه بالامتناهي.
الرابعة : مجئ الآية القرآنية بالأمر الإلهي مع الدلالة على إمتثال المسلمين لهذا الأمر، ومجيؤها بالنهي مع بيان إجتناب المسلمين لما نهوا عنه، وفيه غاية الإكرام للمسلمين، وهو من مصاديق النداء الذي إبتدأت به آية البحث[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بلحاظ أنه شهادة وتزكية مستديمة للمسلمين، وتقديرها في كل زمان من أزمنة المسلمين على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا كما آمن أباؤكم.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا سيؤمن أبناؤكم مثلكم.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا قد آمن الربيون قبلكم.
وهذا النداء الذي أفتتحت به آية البحث واقية من الوعيد والتخويف الوارد في خاتمتها وهو الإنقلاب بالخسارة.
ويكون تقدير الآية بلحاظ التشريف والإكرام والتوثيق من عند الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لن تنقلبوا خاسرين.
فان قلت إذن لماذا ورد التحذير والإنذار في الآية الجواب من وجوه :
الأول : جهاد المسلمين في تحصين أنفسهم من الإصغاء للكفار. الثاني : سلامة أقوال وأفعال المسلمين من محاكاة الكفار والإنقياد لهم .
الثالث : الإخبار عن سعي الكفار لإفتتان المسلمين .
الرابع : ذكر وجه من ضروب حرب الكفار والمشركين على الإسلام ، ومنه ما يسمى بالحرب النفسية .
فان قلت قال الشاعر :
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ..في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ( )
والجواب قول الشاعر ليس حجة في المقام ، وهذا البيت من قصيدة لأبي تمام بخصوص فتح عمورية أيام المعتصم إذ قال المنجمون بالنحس وأنها لا تفتح ، وأن الجيش ينكسر , فالمراد من الكتب هنا هو قول وأخبار المنجمين لأن السيف فيصل بين الحقيقة والوهم ، والسيف المقصود في بيت الشعر المترشح عن آيات القرآن في قتال الكافرين ، وعدم طاعتهم والمنجمين الذين تدل عليه آية البحث .
إن عدم إجتماع النداء [يا أيها الذين آمنوا] مع الإنقلاب على الأعقاب، والخسارة في النشأتين شاهد على إمتثال المسلمين للنهي الوارد في هذه الآية، ويتجلى الأمر بوضوع قوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا]( )، فصحيح أن الآية أعلاه لاتتضمن النداء للمسلمين بصبغة الإيمان إلا أنها تحذرهم من الإنقلاب وهم في حال ثبات على الإيمان، بقوله تعالى[أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] أي أنهم لم يرقدوا عن دينهم عند نزول هذه الآية، نعم تضمنت الآية ذكر تبدل حال المسلمين بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم عند نزول الآية ويتعلق الإنذار بما بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى .
والجواب إن بقاء الآية أعلاه مصاحبة للمسلمين في أيام حياتهم وصف متجدد لسلامتهم من الإنقلاب والإرتداد.
مما يدل على أن الآية القرآنية تأتي بذكر الوصف الحسن والشهادة بالإيمان ثم تأتي بما يمنع من مغادرته للمسلمين.
والأصل في الوجوب أنه يأتي بصيغة (إفعل) وقد يأتي بصيغة الجملة الخبرية وتفيد الإنشاء والوجوب، وفيه مسائل:
الأولى : إنه من الدلائل بأن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية، تخاطب العقول وذوي الألباب بحمل الخبر على الإنشاء.
الثانية : الثناء على المسلمين بتلقي الوجوب بصيغة الخبر، والعمل بمضمونه مع ما فيه من التكليف , ومنه قوله تعالى[آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : بيان صدق المسلمين وشوق نفوسهم للتكليف ، والعمل به سواء جاء بصيغة الأمر أو الخبر .
الرابعة : صيرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واسطة وسلاحاً عند المسلمين للعمل بأحكام الشريعة .
الخامسة : فضح المنافقين ، وبيان عجزهم عن إتخاذ صيغة الفرائض بلغة الجمل الخبرية سبباً لإثارة الشكوك عند المسلمين .
وجاءت آية البحث بالنهي عن طاعة الذين كفروا فأين هو الشاهد على إمتثال وتقيد المسلمين بهذا النهي ، الجواب من وجوه :
الأولى : إبتداء آية البحث بالشهادة للمسلمين بحلية الإيمان التي هي حرز وأمان من طاعة الكفار .
الثانية : دلالة النداء من عند الله للمسلمين [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] على تفقه المسلمين في أمور الدين وتلقي الخطاب القرآني بالتدبر والمبادرة إلى الإمتثال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة : بيان الآية للتباين والتضاد بين المسلمين والكفار ، وكأنها تقول : لا يطيع الذين كفروا إلا أمثالهم ونظائرهم , وأنتم أيها المسلمون أسمى من الإنزلاق إلى طاعتهم .
الرابعة : مجئ آية البحث بصيغة الجملة الشرطية : [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا ] وتكرار الأجيال لهذه الآية من أسرار سلامة القرآن من التحريف إلى يوم القيامة ، فلا تنقلب الجملة الشرطية من الآية إلى جملة خبرية ، وتقول (أطعتم الذين كفروا ) وفيه شاهد بأن المسلمين أحباء الله ومتحرزون من الإرتداد وكذا لا ينقلب المسلمون خاسرين لقانون الملازمة بين منطوق آيات القرآن وبين حال المسلمين .
الخامسة : عصمة المسلمين من الإنقلاب الذي يؤدي إلى الخسارة ويدل قوله تعالى [فَتَنْقَلِبُوا] على أن المسلمين في كل زمان لم ينقلبوا بعد ، وهل يمكن القول أن المسلمين لو أطاعوا الكافرين لبقوا على ذات حال السلامة الخسارة , ويكون تقدير الآية على هذا الفرض (فتنقلبوا فلا تكونوا خاسرين) .
الجواب لا ، فذات طاعة الذين كفروا خسارة وإن كانت من الكلي المشكك , ولكن أدناها فادح لأنها معصية لأمر الله عز وجل بعدم طاعتهم والذي ورد في آيات عديدة منها قوله تعالى [وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ] ( ) .
ويدل قانون إجتماع الإمتثال مع الأمر والنهي في منطوق أو مفهوم الآية القرآنية على تكامل مضامينها ، وهو من الإعجاز في تقسيم القرآن إلى آيات ، فعدد آيات القرآن هو ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية ، وكل واحدة منها علم مستقل بذاته تستقرأ منه المسائل.
ويمكن تأسيس قانون في المقام وهو إذا جاء أمر أو نهي في آية من آيات القرآن فيجب إستقراء إمتثال المسلمين له من ذات الآية أو الآيات المجاورة ثم الأقرب فالأقرب ، لتتجلى معجزه للقرآن وهي تعدد شواهد إمتثال المسلمين ودلائل الثناء عليهم ليكون ضياء ينير دروب الصلاح ويمكن على سبيل المثال في هذا الباب تأليف آلاف المجلدات لمصاديق الهداية التي عليها المسلمون في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )..
بلحاظ الموضوع والحكم وذات القرآن هو صراط مستقيم ليكون صراطاً في ذاته وتنزيله وموضوعه وأحكامه ، والفيوضات والإعجاز الذي يترشح عنه .
[عن الحارث الأعور قال : « دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث ، فأتيت عليّاً فأخبرته ، فقال : أوقد فعلوها؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنها ستكون فتنة ، قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا تلتبس منه الألسن ، ولا يخلق من الرد ، ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : { إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد } ( ) ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم]( ).
وتتضمن آية[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) ، مثلاً تفسيرها الذاتي من جهات :
الأول : لفظ (إهدنا) دعاء وسؤال لما هو حسن ذاتاً، وهو الصراط المستقيم.
الثاني : لما تفضل الله , وقال[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، توجه المسلمون لسؤال الأتم والأحسن، والأتم ببيان الشوق إلى رياض الصراط الزاهرة , والتي تتجلى باستقامته وخلوه من الآثام.
الثالث : بيان أن الفوز بالصراط المستقيم بلغة وغاية ينال بالدعاء وسؤال الله عز وجل الهداية والرشاد إليه.
الرابع : في الصراط المستقيم حرز وأمن من الإرتداد ومقدماته كطاعة الذين كفروا.
قوله تعالى [فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]
الخسارة في المقام على أقسام :
الأول : الخسارة الذاتية للشخص الذي يطيع الكافرين .
الثاني : الخسارة العامة للمسلمين بسبب طاعة بعض منهم للكافرين .
الثالث : الخسارة العامة للمسلمين بطاعة طائفة منهم الذين كفروا .
الرابع : الخسارة في أمور الدنيا والمكاسب , وقلة البركة وإنتفاء النماء في المال .
الخامس : مجئ الهّم وأسباب الحسرة والأذى .
السادس : فقدان ملكة الصبر .
السابع : خسران النفس وقلة أو إنعدام الحسنات ، وصيرورة الميزان خفيفاً ، قال تعالى [وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ] ( ).
فجاءت آية البحث للنجاة من أقسام الخسارة مطلقاً , وهو من الإعجاز في الآية القرآنية من جهة الموضوع والأثر والنفع الخاص والعام .
وفي الآية ترغيب للمسلمين بتعاهد طاعة الله ورسوله، والإخبار بأن هذه الطاعة واقية من الإرتداد والذي بينه وبين طاعة الذين كفروا عموم وخصوص مطلق، فلا تختص أسباب الإرتداد بطاعة الذين كفروا، لذا فمن إعجاز آية البحث مجيؤها بالنهي عن الإرتداد وأسبابه مطلقاً في ثنايا النهي عن الخاص من ذات الجنس.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالإيمان وإتيان الفرائض وصيرورة أدائها ملكة دائمة ،ثم أمرهم بعدم طاعة الكفار لتكون الواقية العقائدية والذاتية موجودة عندهم، وهو من مصاديق التخفيف في الأحكام الشرعية والعمل بسنن الحلال والحرام.
فجاءت آية البحث وثيقة سماوية تبين فضل الله في نجاة المسلمين من طاعة الكفار .
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتبت لوالديه، فإن عمل سيئة لم تكتب عليه، ولا على والديه، فإذا بلغ الحنث وجرى عليه القلم، أمر الله الملكين اللذين معه يحفظانه ويسدّدانه، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه الله سبحانه من البلايا الثلاث : من الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين خفف الله حسابه، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه فيما يحب( ).
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين خلافة منهاج النبوة في الأرض وحفظ الفرائض العبادية بالأداء الصحيح والأكمل بلحاظ محاكاة أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها مع تقارب أو تباعد الزمان بين زمان بعثته وطبقات أجيالهم، وفيه بعث للسكينة في نفوسهم، ومنع للفرقة بينهم، فجاءت آية البحث لتحقيق هذين الغرضين لتكون الآية من عمومات قوله تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا]( ) وتترشح السكينة عن آية البحث من وجوه:
الأول : معرفة المسلمين لحال الذين كفروا، وتمييزهم عن الناس في مسالك الطاعة، وعدمها، فلم تنه الآية عن طاعة طوائف من المسلمين، بل إختصت بالنهي عن طاعة أعدائهم وهم الكفار.
وهل تقيد هذه الطاعة بشرط العلو للمطاع وأن يكون الذين كفروا في مقام أعلى الجواب لا، لثبوت مرتبة العلو للمسلمين، كما في قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الآية أعلاه أعم في موضوعها إرادة حال النصر والغلبة، والعز للمسلمين في القتال وشؤون القتال فتشمل حال السلم وتوثيق وإصلاح لعدم طاعة الذين كفروا فان الله عز وجل ينهاهم عن هذه الطاعة ويمدهم بما يصرفهم عنها, ويثيبهم على تركها والسلامة منها ، وكل فرد منها من مصاديق العلو في الآية أعلاه .
الثاني : تأكيد الآية على سلامة المسلمين من الإرتداد، لأنها تتضمن الإنذار من حال الإرتداد، وتجعل له شرطاً وهو طاعة الذين كفروا فيكون الإرتداد من إنتفاء المشروط بانتفاء شرطه.
الثالث : شكر المسلمين لله عز وجل على نزول آية البحث وما فيها من التحذير والتخويف والوعيد.
وهل تدعو الآية المسلمين لمراجعة أحوالهم والإطمئنان لعملهم بمضامين آية البحث بلحاظ النداء بصيغة الإيمان، والتقيد بالنهي عن طاعة الذين كفروا، الجواب نعم، وهو من المناجاة بسنن التقوى، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والنسبة بين الخسارة وطاعة الذين كفروا هي العموم والخصوص المطلق ، فلا تنحصر أسباب الخسارة بطاعة الكفار ، وهو من إعجاز القرآن بأن يتضمن النهي عن الخاص التحذير من العام الذي يؤول إليه .
وورد لفظ الخاسرين ثماني عشرة مرة في القرآن ، وتبين صيغة الإطلاق فيها شمولها للدنيا والآخرة ، ووردت كلها في ذم الكافرين باستثناء آية البحث التي وردت بصيغة الجملة الشرطية خطاباً للمسلمين والمسلمات ، وهي في مفهومها ذم للكفار أيضاً لدلالتها على خسارتهم .
وفي التنزيل بيان لعلم من علوم الغيب يوم القيامة وإحتجاج المؤمنين بقوله تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] ( ).
وهل خسارة الذي يرتد على فرض حصوله في آية البحث مثل خسارة الكفار أم أنها تختلف كماً وكيفاً ومدة ، الأقرب هو الثاني لذا قيدته الآية بالإنقلاب , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : فتنقلبوا خاسرين تمام الثواب .
الثاني : فتنقلبوا خاسرين حسن ثواب الآخرة الذي فاز به الربيون كما مبين في الآية السابقة .
الثالث : فتنقلبوا خاسرين مراتب العز والرفعة التي عليها المؤمنون .
الرابع : فتنقلبوا خاسرين بسبب طاعة الذين كفروا والأفعال التي تؤتونها مما يترشح عن هذه الطاعة .
الخامس : فتنقلبوا خاسرين بالتفريط بالتنبيه والتحذير , قال تعالى [وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] ( ) والمدهن هنا الذي يتراخى ويتوانى عن فعل ما يجب عليه ، ويدفعه بالعلل والأعذار , قال تعالى [وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ] ( ) .
وتحتمل طاعة الذين كفروا المنهي عنها في آية البحث بلحاظ الأية أعلاه وجوهاً :
الأول : إنها من ظاهر الإثم وعلانيته ، كما لو كانت طاعة الإنسان للكفار أمر ظاهر ومكشوف ، وذات الفعل الذي يطيعهم فيه ظاهراً أيضاً .
الثاني : إنها من باطن الإثم وما يؤتى به سراً ، كما لو كانت طاعة الإنسان للكفار خفية وسراً , ويأتي المعصية التي يأمرونه بها سراً وخفية .
الثالث : الجامع بين الوجهين أعلاه ، وفيه تفصيل على وجهين :
الأول : أن تكون طاعة الإنسان للكفار علنية كاظهاره الولاء والتأييد لهم ، أما الفعل الذي يرتكبه فيكون سراً .
الثاني : تكون طاعة الإنسان للكفار سرية , ولكن المعصية التي يرتكبها بأمرهم أو التي يرضون بها علنية , وتنشطر وتتداخل هذه الوجوه من جهة الكيف والكم والقليل والكثير من طرفيها.
فجاءت آية البحث للنهي عنها وعن آثارها التي يراد منها هدم صرح التوحيد [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
بحث بلاغي
من ضروب البديع العنوان وهو إتمام الكلام بالفاظ وشواهد وأمثلة تؤكد مضمونه والقصد منه وسمي العنوان لأنه يكون مفتاحاً لمواضيع متعددة من ذات جنس المعنى ويفتح باباَ للعلوم والمسائل الخاصة به ، كما في قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) لما فيه من الدلائل على تعلم اللغات ،والعلقة بين اللفظ والمعنى المخصوص الذي يتبادر إلى الذهن به ليكون هذا التعليم مقدمة لنزول الكتب السماوية وقاعدة للتبليغ وبيان الأحكام .
ويتجلى في آية البحث غرض كريم وهو وقاية المسلمين من طاعة المنافقين والمشركين ثم بينت الآية ما في طاعة الذين كفروا من الأضرار وأسباب البلاء.

قانون النفع العام والخاص من القصة القرآنية
الحمد لله الذي جعل ذخائر القصة القرآنية من اللامتناهي في دلالاتها ونفعها ، وهو من الإعجاز والبراهين التي تدل على أن القرآن كلام الله , وتضمن القصة والخبر الذي يتجدد موضوعه في كل زمان ، ويكون شاهداً على الناس في الدنيا والآخرة ، ومن الإعجاز أن القصص حاضرة يوم القيامة ،وأن الله هو الذي يقصها ، قال تعالى [فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ] ( ).
أي أن الله عز وجل يخبر الناس بما عملوا وحقيقة استجابتهم أو إعراضهم عن دعوة الأنبياء [عن ابن عباس { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين }( ) قال : نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ، ونسأل المرسلين عما بلغوا { فَلْنَقُصَّنَّ عليهم بعلم } قال : يوضع الكتاب يوم القيامة ، فيتكلم بما كانوا يعملون] ( ).
لبيان قانون وهو ترغيب المسلمين والناس بقصص القرآن كي تكون طريقاً للنجاة يوم القيامة بالإتعاظ من مضامينها وما فيها من السنن ، وهذا الإتعاظ من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
وليكون نفع المسلمين من القصة القرآنية مطلقاً وشاملاً للحياة الدنيا والآخرة ، فيسأل الله عز وجل الناس والأنبياء يوم القيامة عن التبليغ ، ليكون المسلمون في مأمن من الحرج يومئذ لأنهم أجابوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق والإمتثال والنصرة وأداء الفرائض ، لذا فمن مصاديق قوله صلى الله عليه وآله وسلم [صلّوا كما رأيتموني أصلّي] ( ) شهادة الصلاة اليومية يوم القيامة للمسلم على إستجابته للكتاب والسنة كما يشهد المسجد له الذي صلى فيه .
وهل في آية البحث قصة قرآنية الجواب لا ، ولكنها تهدي إلى القصة القرآنية ، وتكون طريقاً إليها , إذ تتضمن آية البحث أموراً :
الأول : التدبر في قصص القرآن والتي تحكي سوء عاقبة الكافرين والذين أطاعوهم وأنصتوا لهم .
الثاني : النظر والتفكر في آيات القرآن التي تبين سوء عاقبة الذين كفروا ليكونوا عبرة للناس ويجتنبوا طاعتهم ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
الثالث : الثناء على الذين أطاعوا الله ورسوله ليكونوا أسوة للأجيال من بعدهم .
الرابع : إستحضار يوم القيامة ،وما فيه من الأهوال ،والتباين والتضاد بين حال المؤمنين وحال الكافرين يومئذ .
[عن أبي سعيد قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة فقال: يا أيها الناس ، إن هذه الأمة تبتلى في قُبورها ، فإذا الإنسان دُفِن وتفرَّق عنه أصحابه ، جاءه ملك بيده مِطْراقٌ فأقعده فقال: ما تقولُ في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبدُه ورسوله . فيقول له: صدقْتَ . فيفتح له بابٌ إلى النار .
فيقال: هذا منزلك لو كفرتَ بربّك ، فأما إذْ آمنت به ، فإن الله أبدَلك به هذا. ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة ، فيريد أن ينْهَضَ له ، فيقال له: اسكُنْ. ثم يُفْسَح له في قبره. وأما الكافِر أو المنافق فيقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما أدري !
فيقال له: لا دَرَيْتَ ولا تَدَرّيتَ ولا اهتديتَ! ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة فيقال له: هذا كان منزلك لو آمنت بربك ، فأما إذْ كفرت ، فإن الله أبدَلك هذا. ثم يفتح له بابٌ إلى النار ، ثم يَقْمَعُه المَلَكُ بالمطراق قَمْعَةً يسمعه خَلْقُ الله كُلهم إلا الثقلين.
قال ، بعضُ أصحابه ، يا رسولَ الله ، ما مِنَّا أحدٌ يقوم على رأسه مَلَكٌ بيده مِطْراق إلا هِيلَ عند ذلك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم 🙁 يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثَّابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضِلُّ الله الظالمين ويفعلُ الله ما يشاء ] ( ).
ويحتمل النفع من القصة القرآنية من جهة المتعلق وجوهاً :
الأول : إنتفاع خصوص المؤمنين من القصة القرآنية .
الثاني : مجئ النفع من القصة القرآنية للمسلمين والمسلمات جميعاً ، بلحاظ الإتعاظ منها طوعاً وإنطباقاً .
الثالث : إقتباس أهل الكتاب من القصة القرآنية ، قال تعالى [وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ] ( ).
والقصة القرآنية مما أنزل على المسلمين ، وهل يدخل في التنزيل في الآية أعلاه السنة النبوية بلحاظ أنها فرع الوحي ، الجواب القدر المتيقن من الآية أعلاه هو التصديق بنزول القرآن من عند الله عز وجل .
الرابع : إنتفاع الناس جميعاً من القصة القرآنية .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق إرادة عموم الناس في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبليغاً وبشارةً وإنذاراً ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) أمور :
الأول :القصة القرآنية رحمة بالناس ، وهو من إعجاز القرآن فتتضمن آية البحث ذما للكافرين ولكنها رحمة بهم في ذات موضوع الذم ،وفي تحذير المسلمين منهم ،كي يجتنبهم الناس ،ومن فوائد هذا الإجتناب مسائل :
الأول : عدم إشاعة مفاهيم الكفر بين الناس .
الثاني : إنقاذ الذين كفروا من آثام إضافية تترشح من طاعة الكافرين لهم ، قال تعالى [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ] ( ).
ومن إعجاز آية البحث أن كل موضوع فيها يتضمن الإشارة إلى قصة من قصص القرآن ليكون الجمع بينها مناسبة للإتعاظ والإعتبار والدلالة على خزائن القرآن وتأكيد صيغة اللامتناهي في علومه ،وفيه مسائل :
الأول : بيان طاعة الكفار طريق إلى الإقامة في الجحيم ، وصيرورتهم في حال تلاوم وأسى ،وفي التنزيل حكاية عن عامة أهل النار [رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ] ( ).
الثاني : حذرت الآية من طاعة الذين كفروا وأخبرت بترشح الإرتداد عنها وورد في القرآن ما يدل على قبح هذا الإرتداد ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ]( ).
الثالث : ذكرت آية البحث الأعقاب والإرتداد عليها ، وقد جاءت في القرآن بوجهين :
الأول : ذم الكفار والمترفين الذين أصروا على الكفر والجحود فنزل بهم العذاب ،وإنتصرعليهم المسلمون في معارك الإسلام الأولى بفضل من الله ، قال تعالى [قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ] ( ).
الرابع : تحذير الآية للمسلمين من أمرين مجتمعين ومتفرقين :
الأول : الإنقلاب إلى الوراء .
الثاني : صبغة الخسارة بذات الإنقلاب ، قال تعالى [وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] ( ) .
الخامس : بيان أن التحذير والإنذار الذي جاء في آية البحث ، ورد للمسلمين من الأمم السابقة مما يدل على أنه إبتلاء عام في كل زمان ، قال تعالى في بني إسرائيل ونداءات موسى عليه السلام لهم [يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ) .
وجاء النداء والتحذير للمسلمين من عند الله عز وجل في آية البحث وهو من مصاديق كون معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية .
لبيان أن القصور وعدم التصدي للكفار ودفعهم عن منازل السلطة والحكم بغير ما أنزل الله باب للضعف والوهن ، فبادر المسلمون بالجهاد ومحاربة القوم الظالمين في معركة بدر وأحد والخندق ودخلوا مكة فاتحين ، ولم يخشوا سطوة وهيبة قريش , قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

                        العدد : 465/15                                                                                                                                                            
                                                                           التا ريخ :  3/4/2015 

م/ضرورة وقف إطلاق النار في اليمن
[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا]
ورد في أسباب نزول الآية أعلاه عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مماراة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذن عنوة – لكثرة عشيرته – وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأبى ، فلم يزل الأمر حتى تدافعوا ، وحتى تناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال ، ولم يكن قتالاً بالسيوف .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد ، وأنها أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها ، وإن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها ، وكان الرجل قد خرج فاستعان أهل الرجل ، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها ، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال ، فنزلت فيهم هذه الآية { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم ، وفاؤوا إلى أمر الله.
فليس من قتال بالسيوف ونزلت الآية لتكون نبراساً ومناراً يدعو العلماء والحكومات الإسلامية وأهل الحل والعقد إلى المبادرة والتدارك عند وقوع خصومة ومقدمات حرب أو قتال بين المسلمين، وما يجري في اليمن من القتال مع وجود المانع عنه وإنتفاء المقتضي يحتم على علماء الإسلام الدعوة إلى الصلح ورأب الصدع ولغة الحوار وإزاحة الكدورات , قال تعالى[وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ].
ويدل إطلاق وعمومات الآية أعلاه على عدم كسب طرف في هذه المعركة بالقتال والحرب أكثر مما يكسبه بالصلح العاجل أو الآجل، ويجوز التنسيق بين الحاضرات العلمية للقيام بجهد مبارك مشترك أو مستقل للصلح والوئام.
أكتب هذه البيان مع صدور الجزء الخامس عشر بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) الذي هو آية علمية لم يشهد لها التأريخ نظيراً وبعيداً عن الطائفية وأسباب الغضاضة مع أي فرقة أو طائفة من المسلمين.
وعندما إندلعت الحرب العراقية الإيرانية سنة 1980 بادرت حكومات وشخصيات وعلماء للوساطة، ولم تجد نفعاً، فكانت حرب إستنزاف للطرفين وقتل مئات الآلاف وهدرت المليارات وضاعت سنوات من أعمار شباب الدولتين ولم تكن النتيجة بعد ثماني سنوات بأفضل من الصلح في أولها ولو بالرضا بشروط الطرف الآخر .
ومن رفض الوساطة في بداية الحرب أخذ يدعو إلى الصلح بنفسه , والحرب أولها نجوى وأوسطها شكوى وآخرها بلوى.
ندعو إلى وقف إطلاق النار في اليمن , وقصف الطائرات, وإلى الجلوس الى الحوار طوعاً وإنطباقاً , وتقاسم السلطة، إن العرب جميعاً والمسلمين يتطلعون الى شجاعة وتقوى أهل اليمن باختيار الصلح وإدخال البهجة إلى القلوب المنكسرة , والصلح والتوافق من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

        العدد : 516/15       التاريخ :  12/4/2015                                                                                                                                          

م/عدم جواز مقاطعة الحج
قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]
الحمد لله الذي جعل الحج ركناً من أركان شريعة سيد المرسلين , ودليلاً على كون المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] بهذا العيد والمنسك العبادي الذي إبتدأته الملائكة قبل أن يخلق آدم بالفي عام، ويحمل صفات الجهاد سواء بأداء المناسك أو حيازة الثواب العظيم ليوم القيامة، وهو شاهد سنوي متجدد على وحدة المسلمين وإعتصامهم بحبل الله، وحرب على الفرقة والخلاف، وهو عبادة بدنية ومالية مركبة وسفر روحي وجسدي وعقائدي تتجلى فيه آيات العرفان , وتخترق فيه النفس حجب السموات بسلطان وسلاح (لبيك اللهم لبيك)،وفيه تحرير للذات وإتصال روحي وإنقطاع بدني للحق ووسيلة إستلهام في سماء المعرفة، إنه مصداق للصبر في العبادة والتنزه عن المعصية.
وأنا أكتب في الجزء السادس عشر بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن) في آية علمية لم يشهد لها التأريخ نظيراً وردنا من أحد أبناء العم في البحرين هذا اليوم عبر شبكة التواصل الإجتماعي البيان التالي:
عاجل لقد قرر حجاج البحرين لبيت الله الحرام المقاطعة للحج لهذا العام والسبب جشع المقاولين واستهتار شئون الحج والأسعار المبالغ فيها حيث قيمة الحجة من 2100 الى 3000 دينار لذلك: أولا يجب إعطائهم درساً، ثانياً: تخفيض الأسعار إلى الحد المعقول، ثالثاً : تنبيههم بان هذا استغلال للحاج، رابعاً : المقاول هو الذي يمنع الحجاج من بيت الله لسبب الأسعار الخيالية).
وهذه المقاطعة محصورة وليست عامة إذ أن أكثر الحملات أغلقت أبواب التسجيل إلا أنه مفروض مسألة فنقول: لا يجوز مثل هذه المقاطعة وهي حرام من وجوه:
الأول : لا بد من التفكيك بين الحج وموضوع المقاولين أو غيرهم.
الثاني : زيادة الأسعار ليست سبباً للمقاطعة , وهو إنفاق معوض .
الثالث : تقديس فريضة الحج وأدائه في المقدمات والمعاملات، وفي صحيح هشام بن سالم ومعاوية بن عمار وغيرهم ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : لو أنّ الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده ، ولو تركوا زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده ، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين ).
وهل يشمل المقام لزوم تدخل لجنة شؤون الحج في وزارة العدل البحرينية بمسألة أجور نفقات الحج الجواب نعم، ويجب أن يعقدوا إجتماعات مع مقاولي الحج ومع طوائف من الراغبين في الحج ثم الجمع بينهم وتحديد أجور مناسبة ومتابعة الأمور بالمباشرة .
ويجب ألا يتحمل الحاج كلفة إضافية بسبب قلة أعداد وفد الحاج، ولا يجوز لبعضهم أن ينطق بمسألة (مقاطعة الحج) وليس من أحد أو جماعة يحق لهم تمثيل حجاج البحرين والتصريح عنهم .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

            العدد : 515/15      التاريخ :  10/4/2015                                                                                                                                             

م/عدم جواز خطبة الإنسان الآلي في صلاة الجمعة

إنتشرت صور على صفحات التواصل الإجتماعي لإنسان آلي بزي عربي، وأشيع بأنه سيكون خطيباً لخطبة الجمعة، ومع أن الأمر لا يرقى إلى الحقيقة إنما صنع لشخصية ابن سينا ولكنه مفروض مسألة فلابد من الفتوى، ونرجو أن لا تترشح عن هذه الإشاعة مقاصد أخرى.
وصلاة الجمعة عبادة وفرض , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] وإجماع المسلمين على إشتراط أن يكون الإمام في صلاة الجمعة مسلماً عاقلاً، ذكراً، وعدلاً عند الذين نهوا عن الصلاة خلف الفاسق، ومنهم الإمامية والحنابلة، وما يشترط في إمامة الصلاة يشترط في الخطبة، وحتى الذي تسامح في شرط العدالة أو في حال تعذرها فانه قيد الصلاة بصحتها لنفس الإمام لتصح الصلاة خلفه .
والخطبة جزء من صلاة الجمعة لذا سقطت منها ركعتان، ويجب الإنصات للإمام الخطيب، وإشترط المالكية أن يكون الإمام هو الخطيب.
ومن شرائط صحة الخطبة أنه لا تصح خطبة من لا تجب عليه بنفسه كالمسافر، والمرأة، والعبد، وهذه الشرائط لا تتوفر في هذه الآلة فلا تجوز خطبة الإنسان الآلي في صلاة الجمعة هذا المقام التشريفي الذي رزقه الله عز وجل لسيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله تركة مباركة للأئمة والملأ من أمته ومن الإعجاز في التكليف بصلاة الجمعة أمور:
الأول : ذكر هذه الصلاة في القرآن على نحو التعيين.
الثاني : تخصيص يوم الجمعة لهذه الصلاة وذكره بالاسم في القرآن.
الثالث : توجه الخطاب التكليفي الى المسلمين بأداء صلاة الجمعة جماعة، وبيان أنها ذكر لله وتلاوة ودعاء , لمنع الإجتهاد فيها خلاف النص.
الرابع : إختصاص المسلمين بصلاة الجمعة لتكون عيداً متجدداً لهم، وعنواناً للوحدة والتآخي بين المسلمين , ومناسبة للصلح , ونبذ الفرقة والخصومة والخلاف , وكان الإمام علي عليه السلام يخرج السجناء إلى صلاة الجمعة عسى أن يعفو المجني عليه أو وليه , أو الغريم , أو يتبرع محسن بالدين أو الدية, كما أنها تأديب وإرشاد وضياء أمل لذات السجناء وأهليهم .
الخامس : بيان قانون وهو أن يوم العيد عند المسلمين يوم عمل يتقوم بالذكر والصلاة والحشر العبادي في المسجد للتذكير بالآخرة والإستعداد لها بصلاة الجماعة من غير أن يتعارض مع الكسب قبل إقامتها وبعد إنقضائها.
بعد إنتهاء الصلاة، ليكون يوم الجمعة شاهداً أسبوعياً على إمكان الجمع بين العبادة وطلب الرزق , مع التأكيد على عدم التفريط بالواجبات العبادية.
لقد تفضل الله عز وجل بصلاة الجمعة لتثبيت أحكام الصلاة وتعاهدها والتلاوة، وضبط وتوارث أجيال المسلمين لها , وتحبيب صلاة الجماعة في الفرائض كلها إلى نفوس المسلمين، وفيها بعث للفزع والخوف في نفوس الكافرين، وهي أمور لا تتحقق بالإنسان الآلي .
السادس : ذكر القرآن لفعل المسلمين لما بعد الصلاة بقوله تعالى[فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ] ( ).
وهذا الخطاب موجه للمؤمنين المكلفين على نحو التعيين ومن غير واسطة بين الآمر والمأمور، والسيد والعبد ، والعالم وغيره , وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
والأولى ترك العناية والإعلام الزائد لمثل مسألة الإنسان الآلي هذه إلا مع وجود الراجح والبيان وقاعدة نفي الجهالة والغرر .
حررت هذه الفتوى وقد صدر الجزء الخامس عشر بعد المائة من تفسيري للقرآن (معالم الإيمان في تفسير القرآن) ولا زلت في سورة آل عمران، وكله تأويل وإستنباط في آية علمية لم يشهد لها التأريخ نظيراً

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn