معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 122

المقدمة
الحمد لله الذي تفضل على الناس , وأنزل القرآن كتاباً مبيناً, وفرقاناً فيصلاً ينصتون له طوعاً وقهراً، فيترشح عن هذا الإستماع إقتباس للمواعظ والحكم , وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، وقد إستمع له الجن فانبهروا وأخذ بعضهم يحث بعضاً على الإنصات له والإتعاظ منه، وحملوا لواء التبليغ بمضامينه وإنذاراته بين قومهم ، لبيان أن إعجازه أعم من البلاغة ولا تختص أسراره وذخائره ببني آدم ، وفي التنزيل[وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ] ( ).
فجاء إستماع الجن للقرآن بأمر من عند الله، وهو سبحانه الذي هيئ أسبابه ومقدماته، واثنى الله عز وجل عليهم لأنهم إستمعوا للقرآن وتناجوا بالسكوت عند التلاوة وقالوا صه كيلا ينشغلوا عن التدبر في بديع آياته فجاءوا إلى رسول الله وفوداً وقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم.
ويحتمل عودة الضمير (الهاء) في حضروه ، في الآية أعلاه وجوهاً:
الأول : يعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وها الحضور من ولاية الله التي تذكرها آية البحث .
الثاني : يعود إلى القرآن وتلاوته، لقاعدة عودة الضمير إلى الاسم الذي سبقه.
الثالث : إرادة الحضور عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو القرآن.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وفيها دلالة على أن للقرآن عند تلاوته حيزاً مكانياً ، وموضوعية في ذات موضع التلاوة لتشع منه أنوار التقوى والصلاح وأدركها الجن بما رزقهم الله من الصفات الخلقية الخاصة، مما يكون عوناً على الهداية والإيمان، ويتجلى بحال الخشوع والخضوع التي يكون عليها المؤمن عند التلاوة أو وحال إستماعها .
ليكون لعلم التفسير حضور في حضرة القرآن، والمكان الذي يزهو رفعة بين بقاع الأرض بتلاوته فيه، وجاء إستماع الجن للقرآن عرضاً مواساة من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين أعرض عنه قومه، وليكون مقدمة وبشارة لدخول الناس أفواجاً في الإسلام قبل أن يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى مقروناً بالنصر ومصاديق الفتح , قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ] ( ).
الحمد لله الذي أنعم على الناس بالقرآن طريقاً إلى اللبث الدائم في الجنان، ومنهاجاً يقي الإنسان السيئات ويدفع عنه الزلات ويفتح له أبواب التوبة بإصلاح لسانه للإستغفار، ويجعله يفوز بولاية الله فتكون حرزاً في الدنيا والآخرة.
الحمد لله الذي جعل فترة من الرسل , وفيها نفر من الصالحين يدعون الناس إلى الهدى إلى أن بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وانقطعت النبوة والوحي بانتقاله إل الرفيق الأعلى ولكن ليس من فترة للإيمان في الأرض إذ يحيى القرآن الموتى ويجعل العمي يبصرون نور الهدى، قال تعالى[أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ]( ).
الحمد لله الذي تفضل وأخبر عن ولايته للمسلمين لتأكيد حاجة الخلائق لرحمته، وأنه سبحانه المتصرف في الأكوان وعوالم السماء والأرض، لتتقوم الولاية في أسبابها بطاعة الله وإجتناب فعل المعاصي.
ويتضمن هذا الجزء وهو الثاني والعشرون بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) تفسير آية من سورة آل عمران وهو قوله تعالى[بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( ).
لتدعو كل كلمة من هذه الآية لإستحضار مضامين الآية السابقة، وبيان وجوه الإتصال الموضوعي والحكمي بينهما، ومن الإعجاز في المقام أنها إبتدأت بحرف الإضراب (بل) الذي يتعلق معناه بالإعراض عما سبقه وإثبات ما بعده، وتتعدد الأفراد الواردة في الآية السابقة والتي ينفيها (بل) كما سيأتي في ثنايا هذا الكتاب ، اما ما بعده مما يثبته فان مصاديقه من اللامتناهي من أفراد ولاية الله للمسلمين في الدنيا والآخرة، والحرب والسلم، وإتيان الأوامر وإجتناب النواهي.
لقد أراد الله عز وجل أن تكون الدنيا روضة ناضرة بولايته، ومن مصاديق قوله تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( )، عدم حجب الولاية عن أي أحد من البشر ذكراً أو أنثى، آمراً أو مأموراً، غنياً أو فقيراً.
ولكن الكافرين حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة العظمى وإمتنعوا عن النهل من فيوضاتها ،والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار , وهل في هذه الآية ترغيب للناس بالإسلام والفوز بولاية الله، الجواب نعم , وهو من مفاهيم الآية القرآنية وأنها تأتي خطاباً لفريق أو أمة من الناس، ليتعظ وينتفع منها الناس جميعاً سواء كانت مدحاً وثناء وبشارة أو إنذاراً وتحذيراً ووعيداً ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
وليس بين أي إنسان سواء في المشرق أو المغرب وفي أي جيل وطبقة من الناس وبين ولاية الله إلا التسليم بالتوحيد والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل وأنه سبحانه له مقاليد الأمور.
ليكون من معاني آية البحث أن الإخبار عن ولاية الله للمسلمين دعوة للناس لدخول الإسلام، ورؤية مصاديق الولاية الحسية والعقلية، كما أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية حسية إذ تترشح المنافع العظيمة من الإيمان، وتأتي دفعة وتدريجياً.
ومع قلة كلمات الآية التي إختص هذا الجزء بتفسيرها فانها أخبرت عن قوانين من الإرادة التكوينية يتجلى عدد منها في ثنايا هذا الجزء وهي أكبر وأعظم من أن نحيط بها مع حضور شطر منها كل يوم مع المسلمين ومصاحبتهم في عالم البرزخ ومواطن يوم القيامة، فترفع عنهم أهوال الفزع والخوف، وهو من مصاديق قوله تعالى حين أمر آدم وحواء بالخروج من الجنة والهبوط إلى الأرض بعد أن وسوس لهما إبليس فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
فيأتي الهدى للناس في الدنيا ، ولكن ثواب إتباعه والعمل به مطلقاً يتغشى أيام الحياة الدنيا وعالم الآخرة ، وهل مجئ هذا الهدى من ولاية الله التي تذكرها آية البحث ، الجواب إنما هو مقدمة للفوز بولاية الله عند العمل بالهدى ومصاديقه من الأوامر والنواهي التي جاء بها الأنبياء ونزلت بها الكتب السماوية، وفيه حجة على الناس بعدم وجود مشقة وتكليف أو واسطة متعددة لنيل ولاية الله .
فليس بين العبد وإحراز ولاية الله إلا إتباع الهدى الذي تفضل به، وفيه شاهد على قاعدة نفي الجهالة والغرر في العقائد، ومصداق لقوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
وهل يمكن إحتساب نزول وحضور هذه الآية عند المسلمين عيداً متجدداً , الجواب نعم ، لما فيه من التفصيل والتشريف والإكرام للمسلمين والإخبار لتولي الله أمورهم في كل الأحوال ، وأنه سبحانه يكفل رزقهم ويصلح نفوسهم ، ويعينهم على طاعته [فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] ( ).
فالآية ترقّي مستمر في معارج الإيمان، وهي أمن للناس جميعاً ، فمن خصائص ولاية الله التحلي بالأخلاق الحميدة , والتنزه عن الظلم والتعدي ومجاوزة ما حدّ الله من السنن والأحكام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
والأخلاق الحميدة نعمة تترشح عن ولاية الله وفضله ورحمته وتتجلى هذه المعاني لولاية الله بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ).
ليكون هذا التأديب من الولاية للمسلمين بالذات والواسطة , أما بالذات فبالإقتباس من القرآن وإستنباط الدرر واللآلى الموضوعية والحكمية منه ، وأما بالواسطة فالإقتداء بالسنة النبوية (عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “انصر أخاك ظالما أو مظلوما”. قيل: يا رسول الله، هذا نصرته مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: “تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه) ( ).
ومع أن آية البحث جاءت خطاباً للمسلمين [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] إلا انها تتضمن التحدي الدائم للكافرين ، لذا جاء الشطر الثاني من الآية بصيغة الجملة الخبرية والمبتدأ والخبر ، فلما تضمنت الآية السابقة نهي المسلمين عن طاعة الذين كفروا جاءت هذه الآية بالوعيد والإنذار للكفار بأن بقاءكم على الكفر وسعيكم لإغواء المسلمين للإرتداد سبب لإلحاق الخزي والهزيمة بكم لأن الله عز وجل ولي المسلمين وهو ناصرهم على أعداء الله وأعدائهم ، وهو من أسرار إبتداء الآية بحرف الإضراب [بل] وإتصال ذات صيغة لغة الخطاب بين الآية السابقة وهذه الآية .
فالآية السابقة معطوفة على ذات نداء التشريف في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ( ) ولم يشمل ذات العطف الآية السابقة بل إبتدأت بذات النداء التشريفي أعلاه ، وفيه مسائل :
الأولى : تعدد الآيات المعطوفة على ذات النداء .
الثانية : مجئ آيات الربيين الثلاثة قبل الآية السابقة ، وتتضمن الإخبار عن صلاح وجهاد وثواب أصحاب الأنبياء السابقين وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( )وقد تقدم بيان وجوه الحسن في قصة الربيين( ) .
الثالثة : تكرار نداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] من وجوه :
الأول : بيان عظيم منزلة المسلمين عند الله عز وجل.
الثاني : دعوة المسلمين للخشوع والخضوع لله عز وجل عند كل نداء قرآني يشهد لهم بالإيمان .
الثالث : جذب الأسماع والتنبيه لمضامين الآية التي يأتي فيها هذا النداء .
الرابع : تكرار الخطاب والنداء للمسلمين بصبغة الإيمان عز لهم وهو من مصاديق آية البحث [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]وتقدير الجمع بينه وبين آية البحث : يا أيها الذين آمنوا الله مولاكم .
الخامس : ترغيب الناس بالإسلام ، والفوز بالتلقي المتكرر لنداء التشريف والإكرام .
السادس : موضوعية نداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]في مضامين وأحكام ذات الآية التي ورد فيها , فهو في الآية السابقة حرز وواقية من طاعة الذين كفروا .
السابع : إنذار الكفار وإيصال بلاغ لهم بأن الإيمان راسخ في قلوب , المسلمين وأنهم قائمون على طاعة الله ورسوله ، ولم يغادروا منازل الإيمان ،وهذه الآية من الآيات التي نزلت في موضوع معركة أحد والمواعظ المقتبسة منها ز
ومن أسرار ولاية الله عز وجل للمسلمين بعث الرعب في قلوب أعدائهم وجعلهم عاجزين عن التحدي ومواصلة القتال (قال السدي : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أُحد متوجهين نحو مكة انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنّهم ندموا وقالوا : بئسما صنعنا، لو قتلناهم حتى لم يبق منهم إلاّ الشريد وتركناهم رجعوا. فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عمّا همّوا به) ( ) .
وفي هذا الجزء من التفسير إشراقة بشذرات من معالم ولاية الله ليكون سياحة في عالم الملكوت ، وإستحضاراً للنعم العظيمة التي فاز بها المسلمون لإيمانهم بالله وتصديقهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتتعاقب أجيال الناس على الأرض ولكن ذات الولاية ثابتة باقية متجددة , وبزيادة في الكيف والسنخية والكم والنفع العام لقانون الزيادة الذاتية والعرضية للنعم وثوابها بفضل الله عز وجل .
فليس من نعمة تبقى على حالها إنما تضاعف للمؤمنين ، لذا أخبرت آية البحث عن قانون النصرة المطلقة من عند الله , ومجيئها ملازمة ومصاحبة لولاية الله , وبين الولاية والنصرة في المقام عموم وخصوص مطلق ، فالولاية أعم في موضوعها وزمانها ومضامينها القدسية وتأتي للفرد والجماعة وللمسلم والمسلمة ، وفيه ترغيب بتقوى الله والإنفاق في سبيله ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ] ( ) .
ومن ولاية الله بعث المسلمين على الإنفاق في حال الرخاء والشدة , ليبدلهم ويخلفهم الله خيراً مما أنفقوا.
ونهت الآية السابقة المسلمين عن طاعة الذين كفروا وذكرت أنها تؤدي بها إلى الإرتداد والخسارة في النشأتين .
فجاءت هذه الآية لمنع صيرورة المسلم في حيرة من أمره والخشية من طرق وأسباب أخرى تؤدي إلى ذات الخسارة أو تكون مقدمة للإبتداء إذ أخبرت بأن النصرة التامة والتي هي خير محض تأتي من عند الله عز وجل ، ليتجنب المسلمون اللجوء إلى الذين كفروا ودعوتهم إلى نصرتهم في أمور الدنيا أو الدين .
وفي الطريق إلى معركة أحد إنخزل رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول بنحو ثلث جيش المسلمين فكلمهم الأنصار بلزوم عدم خذلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة الضيق والشدة ولكنهم أصروا على الإنسحاب والرجوع .
مما يدل على أن الصحابة آمنوا بمنطوق آية البحث وأحسنوا التوكل على الله ، وإستغنوا عن المنافقين في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، ليكون من معاني نصرة الله عز وجل للمؤمنين بالتحذير من المنافقين , وعدم البناء على نصرتهم ، أو الإرتباك والوهن عند خذلانهم ، قال تعالى [فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا] ( ).
(وذكر الزهري أن الانصار استأذنوا حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة، فقال: لا حاجة لنا فيهم) ( ).لإفادة تجلي المعنى الأعم للولاية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في ساعة الضيق والشدة , ونزول الملائكة مدداً .
ومن معاني الآية المائة والخمسين من سورة آل عمران التي يزدان ويختص هذا الجزء بعلوم تفسيرها تنمية ملكة الإعتصام بالله ، وعدم اللجوء إلى تفويض الأمور إلى إستنصار غيره ، نعم الولاية لا تمنع أو تحرم مثل هذا الإستنصار والإستعانة بالأسباب والوسائل والمدد من الغير ، من وجوه :
الأول : ثبات المسلمين في مقدمات الإيمان .
الثاني : عدم جعل الغير شرطاً لإستنصاره مخالفاً للكتاب والسنة.
الثالث : النصرة من الناس للمسلمين إنما هي من رشحات ومصاديق نصرة الله للمسلمين ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الرابع : عدم كفاية نصرة الناس لتحقيق النصر ، فلابد من اللجوء والحاجة إلى نصرة الله ، وهو من معاني قوله تعالى في آية البحث [خير الناصرين].
وعن ابن إسحاق:”بل الله مولاكم”، إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقًا في قلوبكم) ( ).
ولا أصل لهذا التقييد ولغة الشرط ، وهو من التشديد على الذات والغير ، ولم تأت الآية ضمن آيات من الإنذار والوعيد بل هي عهد ووعد وحرز للمسلمين مصاحب لهم إلى يوم القيامة .
وتتصف الآية التي يختص بها هذا الجزء من التفسير بأنها أقل آيات سورة آل عمران المائتين كلمات بعد الحروف المقطعة في أولها, ولكنها دليل قوانين متعددة من الإرادة التكوينية ومصدر إلهام , ومنبع للعلوم , وذخيرة في النشأتين .
ومن ولاية الله عز وجل ولطفه وبديع إحسانه أني أقوم بكتابة ومراجعة وتصحيح أجزاء التفسير كلها من غير إعانة من أحد, وكذا كتبي الفقهية والأصولية والكلامية ، وأشرف وأتابع طبعها مع الشكر لله عز وجل على هذه النعمة العظيمة ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).

حرر في 27/5/2015
8 شعبان 1436

قوله تعالى[بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] الآية 150

الأعراب واللغة
بل : حرف إضراب، يفيد الإبتداء لأن ما بعده جملة.
اسم الجلالة : مبتدأ مرفوع وعلامة الرفع الضمة .
مولاكم : مولى خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الألف وأجاز الفراء النصب ، وقال (ولو نصبته [بل أطيعوا الله مولاكم ] كان وجهاً حسناً)( ) .
ولكن المدار على القراءة المرسومة في المصاحف , ولو دار الأمر بين الرفع والنصب في المقام ، فالرفع هو الأولى , لأن معناه أعم موضوعاً وحكماً .
الضمير (كم): مضاف إليه .
وهو خير : الواو : حرف عطف .
هو : ضمير منفصل مبني في محل رفع مبتدأ .
خير : خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
الناصرين:مضاف إليه مجرور, وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم .
وجملة [اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]إستئنافية لا محل لها.
وجملة [َهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] لا محل لها لأنها معطوفة على الإستئنافية .
و[بل] حرف إضراب أي ترك الشئ والإعراض عن الأول وبينه وبين لكن التي تفيد الإستدراك عموم وخصوص مطلق ، وبل أعم منها ، إذ يفيد الإضراب , والترك للأول والإثبات للثاني ، وهو على شعبتين :
الأولى : تستعمل (بل) في نفي ما بعدها مع القرينة ، كما في قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ), إذ ورد حرف النفي لا .
الثانية : تستعمل (بل) في الإيجاب ، وهي الأكثر في الإستعمال من النفي ، وفي التنزيل [إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ] ( ).
وتأتي ( بل ) على قسمين :
الأول : الانتقال من غرض إلى غرض [وقال ابن مالك : إنها لا تقع في التنزيل إلا على هذا الوجه ] ( ) قال تعالى [أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ] ( ) ولكن معنى بل أعم من هذا الحصر .
الثاني : الإبطال كما في قوله تعالى [وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ] ( ) أي هم عباد مكرمون بالولاية والنصرة من عند الله عز وجل.
وتفيد كلمة مولى في آية البحث معاني منها الناصر والهادي والحافظ والمنجي من الإرتداد , ومن الخسارة , وهل نزول الآية السابقة من ولاية الله للمسلمين.
الجواب نعم , وسيأتي مزيد بيان في صفحات هذا الجزء, وترد كلمة مولى على وجوه أخرى خاصة بين الناس منها :
الأول : مولى الحلف والعقد .
الثاني : مولى العتق من الرق .
الثالث : مولى إسلام بأن يدخل الشخص الإسلام على يد فرد من قبيلة فيكون مولى لهم ، ويلحق أولاده به فينسبون إلى القبيلة بالولاية .
الرابع : نسبة الولاية إلى القبيلة ، فيقال (مولاهم) بالعتق أو الإسلام .
الخامس : معنى المالك .
السادس : معنى القريب والناصر والإمام .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن بريدة قال : غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت علياً ، فتنقصته فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغير وقال : « يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : من كنت مولاه فعلي مولاه) ( ) .
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة على وجوه :
الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ] ( ) وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا الله مولاكم , وفيه وجوه :
الأول : بيان الملازمة بين الإيمان وولاية الله عز وجل ، وهو النعمة العظمى على أهل الأرض ، وفيه تثبيت للإيمان في النفوس ومدد متصل ودائم إلى المسلمين .
الثاني : لما إبتدأت الآية السابقة بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وما فيه من معاني الثناء على المسلمين جاء المدد من غير فترة أو برزخ لما في آية البحث من الوعد الكريم من عند الله بالنصرة .
الثالث : تأكيد الملازمة بين الإيمان وولاية الله , ليكون من منافعها أمور:
أولاً : دوام بقاء المسلمين في منازل الإيمان .
ثانياً : سلامة المسلمين من الجبن والخور واليأس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ) فالهّم النية والقصد النفسي الذي لم يترجل إلى الخارج أو يصدر بصيغة اللفظ والقول والفعل الذي يفيد ذات معنى النية والعزم فقد يكون ذات الفعل قولاً ولكن الهم وإن كان قولاً فهو نية وعزم ، كما لو قال إنسان سأدخل الإسلام فهو من الهّم ، اما لو نطق بالشهادتين فهو إتيان القول المطلوب والفعل المراد .
ثالثاً : ولاية الله حرز للمسلمين والمسلمات في أمور الدين والدنيا وواقية من الفتنة والإفتتان .
رابعاً : الهداية إلى سبل الخير والصلاح , لأن ولاية الله مدد وعون وذخيرة في دفع موانع الإحسان , لذا تقدم قبل آيتين [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ) .
ليكون من مصاديق ولاية الله بلحاظ الآية أعلاه أمران :
الأول : هداية المسلمين إلى الإحسان وفعل المعروف .
الثاني : حب الله عز وجل للمسلمين بلحاظ أفعالهم المباركة وذات الحسن الذاتي .
الرابع : من ولاية الله عز وجل نزول الآية السابقة , وما فيها من التحذير والإنذار من إتباع الكافرين وهو من الشواهد على إنفراد ولاية الله بأمور عظيمة منها :
أولاً : ليس من أحد له الولاية يستطيع التحذير من طاعة الذين كفروا على نحو يومي متجدد ، إذ تعجز الخلائق وإن إجتمعت على مخاطبة المسلمين في كل مكان وكل ساعة وإلى يوم القيامة عن التحذير من ولاية الكفار .
ثانياً : مجئ التحذير من ولاية الكفار على نحو الوجوب العيني فمع أن المسلمين هم الذين يتلقون التحذير والإنذار ، فإنهم يقومون بتلاوة التحذير والإنذار ليكون حجة لهم وعليهم .
ثالثاً : تعاون المسلمين في التحذير والإنذار من الكفار وطاعتهم , وكل مرة يتلو فيها المسلم أو المسلمة الآية السابقة فهو شاهد على ولاية الله عز وجل للتالي والمستمع والمتعظ منها , وهو من أسرار مجئ آية البحث بصيغة الجمع [ بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ ]وبيان أن الولاية عامة وخاصة ، فتتغشى الأمة والأفراد مجتمعين ومتفرقين ، وتنقلهم في رياض الولاية وما يترشح عنها من النعيم الدائم.
رابعاً : دلالة آية السياق على حضور ولاية الله مع وعند المسلمين , فليس من ولاية لأحد يستطيع أن يكون حاضراً على نحو دائم مع المولى عليه ، ولكن رحمة الله تتغشى المسلمين ، وفي التنزيل [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الخامس : تقدير الجمع بين الآيتين : إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على إعقابكم بل الله مولاكم ) وفيه وجوه :
أولاً : كما أن ولاية الله واقية وحرز ، فهي طريق للنجاة والسلامة فمن معاني ولاية الله الحيلولة دون طاعة المسلمين للكافرين .
ثانياً : لو تنزلنا وقلنا بأن المسلم أطاع الكافرين غفلة وحباً للدنيا ولحاجة من حوائجها فان ولاية الله عز وجل برزخ دون الإرتداد على الأعقاب .
ثالثاً : تنفي آية البحث الملازمة بين طاعة الذين كفروا وبين الإرتداد ، وهذا النفي خلاف القاعدة , لبيان قانون وهو الإطلاق بقانون ولاية الله .
إذ تبين الآية السابقة قاعدة وهي أن طاعة الذين كفروا تؤدي بالمسلم إلى الأرتداد على الأعقاب والتخلف عن أداء الواجبات العبادية، ويدّب معها إلى نفسه الوهن والجبن , فتأتي ولاية الله ناسخة لها.
وهل تبعث في نفسه اليأس والقنوط والشك والريب , الجواب لا، لأن الآية تخاطب المسلمين بصيغة الإيمان [يردوكم] وتقديرها: يردوكم أيها المؤمنون) فلابد أن الرد والإنقلاب هنا ليس إرتداداً تاماً، وهو يختلف عن حال الذين إرتدوا بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الآخرة كمسيلمة الكذاب وأصحابه فكانت حروب الردة، أي أن الإرتداد الذي تذكره الآية السابقة ليس ردة كفر وجحود، وهو من الإعجاز في منطوق الآية وصيغة الخطاب فيها.
المسألة الثانية : الأصل أن يأتي الإضراب بين جملتين متساويتين من جهة الإنشاء أو الخبر , بينما جاءت الآية السابقة بصيغة الإنشاء والنهي ووردت مضامين هذه الآية بعد حرف الإضراب ( بل) بصيغة الجملة الخبرية ، ليكون من أسراره وجوه :
الأول : بيان شاهد من إعجاز القرآن في نظم الألفاظ وسياق الآيات .
الثاني : تأكيد قانون عائدية السموات والأرض في ملكيتها لله عز وجل ، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ] ( ) ومن مصاديق الملك هنا السلطان وتدبير أمور الخلائق وتصريف أحوالها ، لبيان قانون كلي وهو : أنه حتى إذا إتحد الوصف بين الخالق والمخلوق مثل مالك وملك ، فان ماهية الملك تتباين وتختلف .
فملك الإنسان للأرض جامد لا يستطيع التصرف التام والتغيير فيها إلى أن يغادرها تركة للورثة أو تغادره بالبيع ونحوه ، أما ملك الله للأرض فهو مطلق ودائم ، وكذا بالنسبة للسموات ومن ملكه تعالى العناية بالملك وتعاهده وحفظه بما فيه الناس وما يملكون , قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى] ( ) .
وتدعو الآية أعلاه علماء الأرض [geoscience] إلى دراسة حال الأرض لو إنقطع عنها كلها المطر لسنوات ، وماذا يحصل لها لو حصل الأمر بعد آلاف السنين لا سامح الله، وما تؤدي إليه أحوال الناس معه وإنتشار الفقر والبطالة وتعطيل التجارات والأسواق وشيوع الجريمة والحروب والحسرة على إعتدال الأمزجة .
فحينما يغيب عنها الغيث لبضعة شهور تصبح هامدة غبراء مهشمة ذات شقوق فكيف إذا غاب عنها كلها لسنوات وجاءت صلاة الإستسقاء للفوز بشآبيب ولاية الله ومنع آفة إحتباس المطر لسنوات , فمن مصاديق رحمة الله بالناس وولايته للمؤمنين عدم إصابة الناس بالبلاء والقحط دفعة واحدة وعدم وجود قوة وسلطان تمنع وصول رحمة الله للناس ، قال تعالى [مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا] ( )لبيان حقائق :
الأولى : شمول رحمة الله للناس جميعاً.
الثانية : إن حجبَ الكفار عن أنفسهم ولاية الله فان الله لا يحبس فضله عنهم .
الثالثة : فوز المؤمنين باجتماع رحمة الله التي تأتيهم كشطر من الناس ، وخصوصاً ولاية الله .
الرابعة : إتخاذ المسلمين رحمة الله لعامة الناس للنهل من مصاديق ولاية الله وصيرورة أفراد الولاية مناسبة للإنتفاع الأمثل من رحمة الله , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
فنزول المطر من نعمة الله على الناس جميعاً ينتفع منه البر والفاجر ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ) فيجحد الكفار النعمة ويسعون في إيذاء المسلمين ، ومن وجوه الإيذاء محاولة حملهم على طاعة الكفار ، فكانت ولاية الله هي الحرز والواقية والدرع الحصين وسبيل النجاة .
وتتعلق علوم الأرض بنشأتها وصلتها بالكائنات ، وما يطرأ عليها من تغيير والعوامل الداخلية والخارجية المؤثرة بها ، وهو من أقسام علوم الكواكب والعلوم الطبيعية , ولكن له خصوصية لأن الأرض الكوكب الوحيد الذي ثبت وجود الحياة فيه ، وهذا العلم من مصاديق خلافة الإنسان في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) من جهات :
الأولى : بيان حقيقة وهي أن الله عز وجل يرزق الإنسان الإطلاع على علوم الأرض .
الثانية : دعوة الناس للإنتفاع الأمثل من إكتشاف علوم الأرض .
الثالثة : شكر الناس لله عز وجل على آياته في خلق الأرض , وذخائرها .
الرابعة : الإعجاز في الإرادة التكوينية بخروج وإستخراج كنوز الأرض على نحو متعاقب في أفراد الزمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ] ( ).
(عن ابن عباس : أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والإثنين ، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب ، فهذه أربعة فقال تعالى [قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( ).
وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه . فخلق في أول ساعة من هذه الثلاثة الآجال حين يموت من مات .
وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء من منتفع به . وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة ، وأمر إبليس بالسجود له ، وأخرجه منها في آخر ساعة قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد؟ قال : ثم استوى على العرش « قالوا : لقد أصبت لو أتممت . ثم قالوا : استراح . فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً . فنزل { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ، فاصبر على ما يقولون}( ) ( ).
الخامسة : بعث الناس للسعي والجد في إستخراج كنوز الأرض بدل الخصومات والإقتتال فيما بينهم ويدل على البعث ما ورد من حكاية عن يوسف عليه السلام في التنزيل [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]( ) لبيان نكتة من وجوه :
الأول : لزوم العناية بثروات الأرض .
الثاني : التدبير والتصرف في كنوز الأرض بحكمة .
الثالث : جعل موضوعية للأجيال اللاحقة في الإدخار وتوجيه الإنفاق.
الرابع : التوجه بالشكر لله عز وجل على النعم الكامنة والمدخرة في الأرض .
الخامس : الحرص على إجتناب الخصومة والإقتتال بسبب هذه الثروات .
السادس : زجر الكفار عن إتخاذ كنوز الأرض وسيلة لإغواء المؤمنين ومحاولة إرتدادهم ، وهو الذي حذرت منة الآية السابقة , ليكون من معاني [فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] صيرورة طاعة المؤمنين للكفار سبباً لقلة ثروات الأرض وغياب البركة عنها ،قال تعالى [لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] ( ).
السابع : إستخرج ذخائر الأرض من مصاديق ولاية الله للمؤمنين وإنتفاع الناس عرضاً منها .
السادسة :تسخير ما تقذفه الأرض وتعطيه في طاعة الله وإقامة الصلاة وإتيان الزكاة ، وهو سبب في مضاعفة خيرات الأرض والنماء فيها ومن مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
السابعة : كرم الله عز وجل وسعة رحمته بالناس وإقامة الحجة على الكفار في جحودهم وسعيه لإغواء المؤمنين مع أن إيمانهم سبب لنعم تتغش الناس جميعاً وهو من مصاديق خروج المسلمين للناس بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالث : تضمنت الآية السابقة النهي بصيغة الشرط لزجر المسلمين عن طاعة الكفار وتعقبتها آية البحث لبيان لطف الله بالمسلمين وإعانتهم للعمل بمضامين هذا النهي .
الرابع : من فضل الله على المسلمين مجئ الآية السابقة ،وإنتفاعهم منها بالسلامة من طاعة الذين كفروا وقد يخشى المسلم الزلل في أمر آخر وقول أو فعل يؤدي به إلى الخسارة لأن الآية السابقة أختتمت بقوله تعالى [فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] فجاءت آية البحث للإخبار عن سلامة المسلمين من الخسارة مطلقاً ، وهو من أسرار ورودها بصيغة الجملة الخبرية .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآية السابقة وهذه الآية : إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على إعقابكم بل الله مولاكم ) ، ويحتمل هذا التقدير وجوهاً :
الأول : إنتفاء المشروط بإنتفاء شرطه فلا يحصل إرتداد من قبل المسلمين لإنعدام طاعتهم للذين كفروا بفضل ولاية الله عز وجل للمسلمين .
الثاني : حتى وإن أطاع المسلمون الذي كفروا فأنهم لا يردونهم على أعقابهم , فمن خصائص ولاية الله عز وجل الحيلولة دون المسلمين والإرتداد والإنتقام من الذين يسعون لغواية المسلمين وفي الحديث القدسي (قال الله من آذى لى وليا فقد استحل محاربتى وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء الفرائض وما يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت عينه التى يبصر بها وأذنه التى يسمع بها ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها وفؤاده الذى يعقل به ولسانه الذى يتكلم به إن دعانى أجبته وإن سألنى أعطيته وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددى عن وفاته وذاك لأنه يكره الموت وأنا أكره مساءته) ( ).
فان قلت جاءت الآية السابقة بالملازمة بين طاعة الذين كفروا والإرتداد، والجواب هذا صحيح، إنما وردت الآية بصيغة الجملة الشرطية التي تفيد التعليق من جهات:
الأولى : تنجز موضوع الجملة الشرطية، وهو في المقام طاعة المسلمين للذين كفروا، وفيه وجوه :
أولاً : إرادة الإرتداد الجمعي.
ثانياً : حصول إرتداد أفراد قلائل.
ثالثاً : الإرتداد المؤقت ثم العودة منه إلى منازل الإيمان.
أما الأول، فان كلاً من الآية السابقة وهذه الآية تنفيانه ، فلم يتنجز إرتداد والحمد لله وأما الثاني والثالث فقد يحصل مع ضعيفي الإيمان وهو اذى نادر وقع بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى بفتنة الكفار والمنافقين، ولا عبرة بالقليل النادر، وتفضل الله عز وجل بالإخبار عن هذه الحال بقوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، ليكون من منافع هذه الآية في المقام مسائل:
الأولى : إحتراز المسلمين من الإرتداد.
الثانية : تعاضد وتآخي المسلمين لإجتناب الإرتداد عند فقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : الإجتهاد في طاعة الله، وإظهار التوكل عليه، للنجاة من الإرتداد، وهو الذي تدل عليه آية البحث التي تخبر عن ولاية الله عز وجل للمسلمين.
الرابعة : توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على نعمة النجاة من الإرتداد، فاختتمت الآية السابقة بذكر الخسارة على نحو الشرط في طاعة الذين كفروا، وجاءت الآيات بالإخبار عن فضل الله بالسلامة ،وفي نوح عليه السلام ورد في التنزيل[قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
الخامسة : بيان مصداق عملي لولاية الله للمسلمين بالأمن من الإرتداد لناّ غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وهل من موضوعية في المقام لقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( )أم أن القدر المتيقن منها خصوص واقعة أحد ، الجواب صحيح أن المراد من الطائفتين في الآية هما بنو سلمة وبنو حارثة إلا أن موضع الآية أعم لذكرها لقانون ولاية الله ويمكن إقتباس أمور منها :
الأول : المراد من [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] أن الولاية على وجوه :
أولاً : الولاية العامة للمسلمين .
ثانياً : ولاية الله لطائفة أو أكثر من المسلمين وتكون في طول الولاية العامة .
ثالثاً : ولاية الله للأفراد من المسلمين ، ومن معاني قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] في الآية السابقة الملازمة بين دخول الإسلام وبين ولاية الله، فما أن ينطق الإنسان بالشهادتين حتى تتغشاه الولاية وتكون مدداً له في أداء الفرائض والإنصراف عن المعاصي ودفع السيئات عنه .
الثانية : مجئ حال مستقلة عن طاعة الذين كفروا وإن تفرعت عنها، وهي الإرتداد على الأعقاب، فقد يحصل الأول ولا يحصل التالي، وإن وردا في الآية السابقة وكأنهما من العلة والمعلول، وإحتمال عدم حصول الإرتداد حتى مع طاعة الذين كفروا وهو من مصاديق قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، وتكون موضوعية لولاية الله عز وجل في المحو والإثبات في المقام، فيمحو الله عز وجل عن المسلم الإرتداد ولو اجتمعت بعض الأسباب ، وهل يمكن القول بامكان تحقق شرائط الإرتداد أو أفراد علته التامة الجواب لا ، لأنه باطل وخلاف علة خلق الإنسان ولعدم وجود المقتضي له ، ولأن ولاية الله مانع منه .
الثالثة : بلوغ الإرتداد أشده وأسوأه بأن يكون على الأعقاب والقهقرى، وذكرت الأعقاب ، جمع عقب ،وهو مؤخر القدم لبيان أن الإنسان يضر نفسه بطاعته للكفار وإنزلالقه في هاوية الإرتداد.
لتكون سلامة المسلمين من الإرتداد بالمعجزة وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )وتحتمل هذه المعجزة وجوهاً :
أولاً : إنها خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : المعجزة للمسلمين عامة .
ثالثاً : المراد من المعجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها خاصة بالأنبياء ، والمنتفع منها المسلمون في أجيالهم المتعاقبة ولا تعارض بين هذه الوجوه لإمكان تداخلها وإتحاد موضوعها , ليكون من أسرار معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على أنها عقلية تجددها وأستمرار مصاديقها المتكررة والمستحدثة حتى بعد مغادرته إلى الرفيق الأعلى بمئات وآلاف السنين ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل إنتفاع الناس جميعاً من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفاز المسلمون بتجدد النفع من نبوته في أمور الدين والدنيا ، والوقاية من الأضرار التي تأتي من الكفار ، وليكون تجدد معجزاته من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : وردت الآية السابقة بصيغة الإنذار والوعيد، وبيان تنزه المسلمين عن الإرتداد وتأكيد فضل الله عز وجل عليهم وعلى الناس بنزول الآية السابقة وهذه الآية في إنعدام الإرتداد بين المسلمين، وهذا الإنعدام رحمة وخير محض .
فمن الإعجاز في القرآن إتحاد أمور في الآية الواحدة وهي :
أولاً : مجئ الآية بالأمر من عند الله .
ثانياً : إخبار ذات الآية القرآنية عن إمتثال المسلمين للآية القرآنية وهو من أسرار إنقطاع الوحي بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) بلحاظ أن إمتثال المسلمين للأمر القرآني ، وشهادة الله لهم بهذا الإمتثال من[لِكُلِّ شَيْءٍ].
ثالثاً : تضمن الآية القرآنية في منطوقها أو مفهومها للنهي أو الزجر عن فعل قبيح .
رابعاً : دلاية الآية القرآنية على تقيد المسلمين بالأوامر والنواهي الواردة في الآية القرآنية ، نعم قد يأتي الإخبار عن الإمتثال بآية قرآنية أخرى على نحو التفصيل والبيان أو الإجمال .
الرابع : حمل الكلام على الحقيقة، وإحتمال الجملة الشرطية في أفراد فتكون عاقبتهم الخسران، لبيان أن دخول الإسلام تكليف، وكذا إستدامة البقاء فيه وأداء الفرائض والمناسك، إبتداء وإستدامة من غير تفريط أو تقصير، وقد خفف الله عز وجل عن المسلمين.
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم ) وفيه وجوه :
الأول : لما ذكرت الآية السابقة الإنقلاب والخسارة كنتيجة لجملة شرطية، وفعل معلق ، جاءت هذه الآية بصيغة الإضراب , ونفي ما قبله وهو الإرتداد ولوازمه ، وتثبيت ما بعده وهو قانون ولاية الله للمسلمين والمسلمات لبعث السكينة في نفوس المسلمين فيتلو المسلم الآية السابقة [وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] ( ) لا يخشى الإرتداد لأن ولاية الله تدفعه وتطرد أسبابه فلا تصل إلى المسلم ، كما في قوله تعالى بخصوص يوسف عليه السلام [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
إذ تبين الآية أعلاه أن الله عز وجل يصرف ذات السوء عن المؤمن (وقال وهب بن منبه والسدّي وغيرهما : أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن،
فقال : هل تعرفني أيّها الصدّيق؟
قال : أرى صورة طاهرة وريحاً طيّبة،
قال : فإنّي رسول ربّ العالمين،
وأنا الروح الأمين،
قال : فما الذي أدخلك حبس المذنبين وأنت أطيب الطيّبين،
ورأس المقرّبين،
وأمين ربّ العالمين؟
قال : ألم تعلم يا يوسف أنّ الله يُطهّر البيوت لهؤلاء الطيّبين،
وأنّ الأرض التي تدخلونها هي أطهر الأرضين،
وأنّ الله قد طهّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين؟
قال : كيف لي بابن الصدّيقين وتعدّني من المخلصين،
وقد أدخلت مدخل المُذنبين،
وسمّيت باسم المفسدين؟
قال : لأنّه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربّك فلذك سمّاك الله في الصدّيقين،
وعدّك مع المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين،
قال : هل لك علم بيعقوب أيّها الروح الأمين؟
قال : نعم وهب الله له البلاء الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم،
قال : فما قدر حزنه؟
قال : حزن سبعين ثكلى،
قال : فماذا له من الأجر يا جبرئيل؟
قال : أجر مائة شهيد،
قال : أفتراني لاقيه؟
قال : نعم،
فطابت نفس يوسف،
قال : ما أُبالي ما ألفيته أن رأيته ( ).
الثاني : ذكرت الآية السابقة المنتهى وسوء العاقبة للإرتداد ، فبعد أن جاء القرآن بالإنذار والوعيد للكافرين وبيان خسارتهم .
وتحتمل الخسارة في الآية السابقة وجوهاً :
الأول: الخسارة في الدنيا .
الثاني : خسارة الإنتماء إلى الإسلام والحرمان من النداء الذي ورد في أول الآية السابقة [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ].
الثالث : الحرمان من نعمة التصديق بالنبوة والكتاب وأداء العبادات والمناسك وفعل الصالحات .
الرابع : تبين ذات الآية السابقة معنى الخسارة ، فالمدار فيها على الحرمان والضرر الذي يجلبه الإنقلاب ، وهو على أقسام :
أولاً : الحرمان من السعي والإرتقاء في مسالك الهدى والطاعة .
ثانياً : فقدان إستدامة الإقامة في منازل الإيمان ، إذ أن ذات النطق بالشهادتين ، وأداء الفرائض مرتبة وإجتناب النواهي مرتبة ،وهذا التقسيم إستقرائي فلا يعني التفكيك بينها إنما تجب على نحو العموم المجموعي ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
ثالثاً : ذات الإنقلاب خسارة ، وتترشح عنه أفراد من الضلالة .
رابعاً : البقاء في منازل الإنقلاب خسارة وضرر ومناسبة لتدوين الملائكة الذنوب والآثام .
الخامس : إرادة الخسارة في النشأتين ، وجلب المرتد لنفسه الخزي بين الخلائق ، وحرمانه من العبور على الصراط المستقيم يوم القيامة ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ] ( ) .
ومن الإعجاز في نظم القرآن مجئ الآية أعلاه بالتعريف بالألف واللام في الخاسرين لإفادة الإطلاق والتمام في الخسارة .
بينما ذكرت الآية السابقة الخسارة بصيغة التنكير [خاسرين] ، فلم تقل (فتنقلبوا فتكونوا الخاسرين ) (أو مع الخاسرين ) لبيان أن الخسارة التي تترشح عن طاعة الذين كفروا من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً لتأتي آية البحث عليها فتنسفها بولاية الله وما فيها من أسباب الوقاية من الخسران الذي يترشح عن طاعة الذين كفروا وغيرها .
المسألة الخامسة : تأكيد التباين بين ولاية ونصرة الله وبين أمور:
الأول : طاعة الذين كفروا ، لتكون سيرة المسلمين أسوة وإمامة للناس في كل زمان , وفيه ترغيب بالإسلام وحجة على الذين يطيعون الكفار ويتبعونهم في الضلالة ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )فمن حجة الله تعاهد المسلمين والمسلمات للإعراض عن الذين كفروا .
الثاني : عداوة الله للذين كفروا والحرب من الله والملائكة والتنزيل عليهم بنهي [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )عن طاعتهم والميل إليهم ، فان قلت أن القدر المتيقن من الآية السابقة النهي عن طاعة الذين كفروا , والجواب من وجوه :
أولاً : يفيد هذا النهي الزجر عن مقدمات طاعة الناس للكفار .
ثانياً : من رشحات النهي القرآني تنمية ملكة النفرة في نفوس المسلمين من المنهي عنه , وجريان صيغ هذه النفرة على ألسنتهم وصيرورتها موضوعاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يفتح للمسلمين سبلاً تكون مدخلاً وموضوعاً للجهاد في باب الأمر والنهي .
ثالثاً : قد تقدم في الجزء السابق البحث الأصولي ( ) وإفادة حرمة المقدمة الموصولة للحرام ، ولو تدبرت آيات القرآن فهل تجد النهي عن مقدمات طاعة الذين كفروا أم لا ؟ الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : بيان القرآن لقبح فعل الذين كفروا .
الثانية : ذكر القرآن لسوء عاقبة الذين كفروا .
الثالثة : سوء عاقبة الذين إتبعوا الكفار وإنقادوا لأوامرهم وصيرورة هذا الإنقياد سبباً للحسرة في نفوسهم ، إذ يتبرأ رؤساء الكفر منهم فيتمنى الأتباع العودة إلى الحياة الدنيا للتبرأ من رؤساء الكفر وإظهار الإمتناع عن الإنقياد لهم .
وجاءت الآية السابقة وآية البحث لسلامة المسلمين من الحسرة يوم القيامة .
الرابعة : إلحاق أتباع الذين كفروا بهم بالعذاب الأليم يوم القيامة ولا ينفعهم التبرأ منهم حينئذ ولا يؤذن لهم بهذا التبرأ ، وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ] ( ) .
الثالث : التباين والتضاد بين ولاية الله والإنقلاب على الأعقاب إذ تقود ولاية الله المسلم في سبل الهداية والصلاح ليكون من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) أمور :
الأول : إهدنا الصراط المستقيم بالولاية من فضلك .
الثاني : اللهم إهدنا الصراط المستقيم بجعل ولايتك حرزاً من الإرتداد .
الثالث : إهدنا الصراط المستقيم المصاحب للولاية ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : من كان الله مولاه يهديه إلى الصراط المستقيم .
الصغرى : الله مولى المسلمين .
النتيجة : المسلمون يهديهم الله إلى الصراط المستقيم .
الرابع : التباين بين ولاية الله والخوف والفزع ، لبيان حقيقة وهي ان الإنقلاب يؤدي إلى الخوف والذل والهوان ، فلذا قال الله عز وجل [أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
فان قيل تخبر الآية أعلاه عن ولاية المؤمنين لله عز وجل وإنقطاعهم إلى طاعته ، أما آية البحث فتتضمن الإخبار عن ولاية الله للمسلمين ، فيكون المسلمون بلحاظ آية البحث متلقين للولاية ،وليس هم الأولياء بصيغة الفاعل ، ويتجلى الجواب بالجمع بين الولايتين فعلاً عبادياً من المؤمنين , وجزاءً ورحمة من عند الله , قال تعالى [نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ]( ).
المسألة السادسة : إبتدأت الآية السابقة بنداء [يا أيها الذين آمنوا] وهو شهادة ومدح من عند الله للمسلمين ، وهو سبحانه الذي يجزي على الإيمان الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة ، فأخبرت آية البحث بأن من الجزاء ولاية الله للمسلمين والمسلمات لتكون هذه الولاية واقية من الإرتداد عن مقامات الإيمان ، وعن الفوز بذات الولاية .
وإذا دار الأمر في الولاية من عند الله بين التقييد والإطلاق ،فالأصل هو الثاني ، فلا ينسلخ المسلم عنها ، ولا هي مغادرة له ،بل هي حرز له من طاعة الذين كفروا بأن يكتشف مكرهم ، ويستبين له خبثهم وسوء سرائرهم ، وبغضهم للنبوة والتنزيل ، وخسارتهم في النشأتين ، قال تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ).
وفي الصلة بين الإيمان والولاية في المقام وجوه :
الأول : آمن المسلمون بالله والنبوة فتفضل الله عز وجل بالولاية لهم .
الثاني : جاءت ولاية الله للمسلمين إبتداء من فضله تعالى فآمنوا .
الثالث : مصاحبة الولاية للمسلمين في الدنيا والآخرة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وليس بينها دور لسعة رحمة الله عز وجل بالناس ، قال تعالى [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ] ( ).
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين أول الآية السابقة وخاتمة آية البحث [يا أيها الذين آمنوا الله هو خير الناصرين ]وفيه وجوه :
الأول : بيان قانون (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) ( )لينتفع المسلمون من هذا القانون الإنتفاع الأمثل بالنصرة والمدد والتأييد .
ومن الشواهد التي تكون حجة بخصوص الآية السابقة وهذه الآية المدد الملكوتي الذي تفضل الله عز وجل به في معركة بدر وأحد فمن أسباب نزول الآية السابقة ورود الآية في موضوع معركة أحد بعد أن تعرض المؤمنون إلى إنكسار , وفي موضوع وسبب نزول الآية السابقة [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] ورد عن الإمام الرضا (يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم) ( ).
فتفضل الله عز وجل بأسباب ثبات المؤمنين في الميدان وعودتهم للقتال، ومن هذه الأسباب :
أولاً : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان ،وتعرضه للجراحات ،وكسرت رباعيته أي أسنانه الأمامية , ولم يغادر موضعه وسط المعركة ، وتلك آية ودلالة على شجاعته وصدق نبوته وحسن توكله على الله ، وفريدة من فرائد إمامته التي غيرت مجرى التأريخ وأرست قواعد الإسلام.
ثانياً : الوعد من عند الله عند خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى معركة أحد لقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وفي خاتمة الآية أعلاه وعد كريم من عند الله من جهات :
الأولى : إن الله عز وجل يسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في مناجاتهم للقتال ، وإستعدادهم للتضحية والفداء ، كما في قوله تعالى بخصوص يوم أحد [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
الثانية : يسمع الله عز وجل الشكوك التي يبثها المنافقون .
الثالثة : علم الله عز وجل بعودة ثلث الجيش مع رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول في الطريق ، والله سبحانه يعلم ما كانوا يذكرون من الأعذار الواهية .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رؤيا غداة معركة أحد ورؤياه شعبة من الوحي , وفسرها لهم وأشار عليهم بالبقاء في المدينة بلحاظ تأويل هذه الرؤيا المباركة خاصة ، ولكن نفراً من المسلمين فاتهم حضور يوم بدر فارادوا الخروج لقتال قريش وتدارك ما فات عنهم (وقال محمد بن إسحاق: لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه قال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
وكان رأى عبد الله بن أبى بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ألا يخرج إليهم.
فقال رجال من المسلمين، ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد( )، وغيرهم ممن كان فاته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا.
فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من بنى النجار يقال له مالك ابن عمرو، فصلى عليه ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك.
فلما خرج عليهم قالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد.
فقال: ما ينبغى لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبدالله بن أبى بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس.
فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام السلمى والد جابر بن عبد الله، فقال: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم.
قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال.
فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغنى الله عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى: ” وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) ( ).
الرابع : إن الله يسمع كلام قريش وغطفان ومناجاتهم بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وقد نادوا في المعركة (قّتل محمد ).
الخامس : يعلم الله عز وجل همّ طائفتين من المؤمنين يوم أحد بالخور والجبن فتفضل ودفع عنهم ذات الهم ومنع من إستدامة أسبابه , وهذا السمع من الولاية , وصحيح أن الله عز وجل هو السميع لكل صوت ودعاء إلا أن سمعه للمؤمنين يتضمن ولايتهم ونصرهم .
السادس : يعلم الله عز وجل بالإنكسار الذي يلحق المسلمين يوم أحد فتفضل الله سبحانه وأعان المسلمين بالعودة إلى وسط المعركة حيث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثلة من أهل بيته وأصحابه لتصير الكرة للمسلمين .
ويكون من وجوه تقدير الآية أعلاه ( وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم بما كان قبل معركة أحد وما يكون بعدها ) لبيان حضور ونفع ولاية الله في الأمور الكبيرة والصغيرة وحال الحرب والسلم .
ثالثاً : نزول الملائكة لنصرة المسلمين [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
رابعاً : بعث الخوف والفزع في قلوب الكفار .
الثاني : تأكيد حسن إختيار المسلمين بالتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه باب لجلب نصرة الله وسبب للعزة والمدد من فضله تعالى .
الثالث : ترغيب الناس بدخول الإسلام إذ يحتاج الإنسان النصرة والعون ، وقد يتجه للأقربين والأرحام والقبيلة فجاءت آية البحث لتدله على النصرة المطلقة وسبل التوفيق والفلاح في الدنيا والآخرة بالهداية إلى الإسلام وأداء الفرائض والواجبات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
الرابع : بيان قانون وهو أن الإيمان بالله ورسوله والكتاب مطلوب بذاته ، وهو وسيلة ومقدمة للفوز بالنصرة من عند الله .
الخامس : الإسلام أمن من كيد الأعداء وشرورهم حتى وإن كان لهم مدد وناصر لأن الله عز وجل خير الناصرين ، فاذا إجتمع الكفار وأتباعهم وأنصارهم فان نصرة الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين سبب لوهن وهزيمة الكفار ، قال تعالى [فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ] ( ).
المسألة الثامنة : من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] بلحاظ الآية السابقة أمور :
الأول : هداية المسلمين إلى التمسك بالقرآن وأحكامه وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( )فيأتي الأمر من عند الله ويتفضل ويرزق المسلمين حسن الإمتثال له.
وهل من موضوعية للفرقة بطاعة الذين كفروا أو قل هل من موضوعية لعدم الفرقة في الأمن والسلامة من طاعة الذين كفروا، الجواب نعم ، وعن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « ما من ثلاثة في قرية ولا بلد ولا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية( ).
لبيان أن صلاة الجماعة والهداية إليها من ولاية الله , مصداق الوحدة بين المسلمين، وهي سبب لقوتهم ويأس الكفار من بث الشك والريب في نفوسهم.
الثاني : تعاهد المسلمين لواجبات الشكر لله على تفضله بالنداء [يا أيها الذين آمنوا] . وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول الله « يا ابن آدم إنك إذا ما ذكرتني شكرتني ، وإذا ما نسيتني كفرتني .
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإِيمان عن زيد ابن أسلم . أن موسى عليه السلام قال : يا رب أخبرني كيف أشكرك ؟
قال : تذكرني ولا تنساني ، فإن ذكرتني شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني)( ) .
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالصلوات اليومية وعلى نحو التعدد خمس مرات وبالوجوب العيني على كل مكلف ومكلفة لتكون ذكراً متجدداً لله عز وجل ومصداقاً لشكرهم له سبحانه، وشاهداً على عدم كفر المسلمين بالنعم الظاهرة أو الباطنة .
وهل فيها وقاية من طاعة الذين كفروا، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز بالتكاليف بأن تكون باباً للأجر والثواب وحرزاً من المعصية , إذ تتقوم خلافة الإنسان في الأرض وإستدامة الحياة بأداء التكاليف، فيكون أداء المسلمين لها سبباً لعمارة الناس للأرض، ومع هذا يسعى الكفار لحملهم على طاعتهم أي أن الكفار يريدون الإضرار بأنفسهم وتعجيل العذاب بهم .
لذا يتضمن إخبار آية البحث عن ولاية الله للمسلمين حفظ الذين كفروا في حياتهم في الأرض، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً]( ).
الثالث : تفضل الله عز وجل بنزول آيات القرآن , وكل واحدة منها سلاح ومادة للظفر على الأعداء ، ومنها الآية السابقة التي من منافعها منع دبيب الفرقة والخلاف في صفوف المسلمين ، هذه الفرقة التي تأتي بطاعة الذين كفروا .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم :ترى المؤمنين فى تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى) ( ).
الرابع : من نصرة الله للمسلمين تهيئة مقدمات النصر ، وفي علم الأصول مبحثان :
الأول : مقدمة الواجب ، وترشح الوجوب عليها لوجوب ذيها كما في وجوب الوضوء عند القيام لأداء الصلاة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] ( ).
الثاني : مقدمة الحرام ولزوم إجتنابها إذا كانت طريقاً موصلاً للوقوع بالحرام ( ).
وجاءت آية البحث بمقدمة عظيمة تأكل غيرها من المقدمات، وتكون فيصلاً في أمور وحالات :
الأول : حال الحرب والقتال ، قال تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ).
وبلحاظ آية البحث يكون موضوع الآية أعلاه المثال والبيان والعهد من عند الله بأن كل رمية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تكون من عند الله .
الثاني : حال الحرج والشدة والضيق ، كما ورد في حديث الغار عند خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر من مكة بعد إزدياد إيذاء قريش له ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] ( ).
فاذا تخلف الناس أو تثاقلوا عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان الله عز وجل ينصره قبل الهجرة وأثناء قطع المسافة في الهجرة ، وما بعدها وتجلت معالم نصرة الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة خروجه مهاجراً من جهات :
الأولى : كانت الهجرة ومغادرة مكة المكرمة ضرورة للنبي محمد ليشتري فيها سلامته من القتل (عن ابن عباس قال : شرى علي عليه السلام بنفسه ، لبس ثوب النبي صلى الله عليه وآله ثم نام مكانه
فكان المشركون يرمون رسول الله صلى الله عليه وآله قال : فجاء ابو بكر وعلي عليه السلام نائم وأبو بكر يحسب انه نبى الله ، فقال : أين نبي الله ؟ فقال علي : ان نبى الله قد انطلق نحو بئر ميمون فأدرك قال : فانطلق ابو بكر فدخل معه الغار وجعل عليه السلام يرمي بالحجارة كما
كان يرمي رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يتضور قد لف رأسه فقالوا انك لكنه كان صاحبك لا يتضور قد استنكرنا ذلك) ( ).
الثانية : عجز قريش عن إدراك النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنهم خرجوا في أثره ركباناً , وعن أنس ابن مالك وغيره(يذكرون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم تستره .
وأن الله بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلتا تدفان حتى وقعتا بين العنكبوت وبين الشجرة، وأقبلت فتيان قريش من كل بطن منهم رجل، معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم، حتى إذا كانوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدر مائتي ذراع قال الدليل، وهو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى: هذا الحجر ثم لا أدري أين وضع رجله.
فقال الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة.
حتى إذا أصبحوا قال: انظروا في الغار، فاستبقه القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدر خمسين ذراعا، فإذا الحمامتان، فرجع فقالوا: ما ردك أن تنظر في الغار ؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أن ليس فيه أحد.
فسمعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعرف أن الله قد درأ عنهما بهما، فسمت عليهما، أي برك عليهما، وأحدرهما الله إلى الحرم فأفرخا كما ترى)( ).
الثالثة : إستقبال أهل يثرب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأسباب النصرة ومعاني الولاء مع وجود طائفة من أهل الكتاب والمنافقين والكفار فيها ، ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بدل اسم يثرب وسمّاها المدينة , وهو من النصرة والتوفيق وشاهد على إمتثال الناس لأوامره العامة حتى في الأسماء لتبقى بركة هذا الاسم إلى يوم القيامة .
الرابعة : نصرة النبي ببيعة العقبة الأولى والثانية ، وأداء الأنصار الصلاة في المدينة قبل قدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , إذ بعث معهم مصعب بن عمير يعلمهم الصلاة، قال البراء: أَوّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابن أُمّ مَكْتُومٍ فَجَعَلَا يُقْرِئَانِ النّاسَ الْقُرْآنَ ثُمّ جَاءَ عَمّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ … الحديث ( ).
الثالث : نصرة الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارات التي جاءت على ألسنة الأنبياء السابقين ، وفي الكتب السماوية, ومن الإعجاز أن هذه البشارات لم تطالها يد التحريف وإن أنكروا صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته من غيرهم .
الرابع : مجئ الرؤى للناس عامة باطلالة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتغيير النوعي والصلاح الذي يطرأ على النفوس والمجتمعات ببعثته.
ومن الإعجاز في المقام مجئ تلك الرؤى جلية كالدلالة الواضحة لتملي على صاحبها الحديث بها والإخبار عنها ، كما أنها نوع طريق لدخوله والمستمع لها الإسلام (عن عمرو بن مرة الجهنى، أنه كان يحدث قال: خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية.
فرأيت في المنام وأنا بمكة نورا ساطعاً من الكعبة حتى أضاء في جبل يثرب وأشعر جهينة .
فسمعت صوتا في النور وهو يقول: انقشعت الظلماء، وسطع الضياء، وبعث خاتم الانبياء.
ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن.
فسمعت صوتا في النور وهو يقول: ظهر الاسلام، وكسرت الاصنام،
ووصلت الارحام.
فانتبهت فزعا، فقلت لقومي: والله ليحدثن في هذا الحى من قريش حدث، وأخبرتهم بما رأيت.
فلما انتهينا إلى بلادنا جاءنا رجل فأخبرنا أن رجلا يقال له أحمد قد بعث، فأتيته فأخبرته بما رأيت فقال: ” يا عمرو بن مرة، إنى المرسل إلى العباد كافة أدعوهم إلى الاسلام، وآمرهم بحقن الدماء وصلة الارحام، وعبادة الله ورفض الاصنام، وحج البيت، وصيام شهر من اثنى عشر شهرا وهو شهر رمضان، فمن أجاب فله الجنة.
ومن عصى فله النار، فآمن يا عمرو بن مرة يؤمنك الله من نار جهنم “.
فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، آمنت بكل ما جئت به من حلال وحرام، وإن أرغم ذلك كثيرا من الاقوام، ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به، وكان لنا صنم وكان أبي سادنا له، فقمت إليه فكسرته ثم لحقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أقول:
شهدت بأن الله حق وأنني * لآلهة الاحجار أول تارك
فشمرت عن ساقى إزار مهاجر * إليك أدب الغور بعد الدكادك
لاصحب خير الناس نفسا وولدا * رسول مليك الناس فوق الحبائك.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” مرحبا بك يا عمرو بن مرة “.
فقلت: يا رسول الله بأبى أنت وأمي، ابعث بي إلى قومي، لعل الله أن يمن بى عليهم كما من بك علي.
فبعثني إليهم وقال: عليك بالقول السديد، ولا تكن فظا ولا متكبرا
ولا حسودا “.
فأتيت قومي فقلت لهم: يا بني رفاعة ثم يا بني جهينة، إنى رسول من رسول الله إليكم، أدعوكم إلى الجنة، وأحذركم النار، وآمركم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله، ورفض الأصنام، وحج البيت، وصيام شهر رمضان، شهر من اثنى عشر شهرا.
فمن أجاب فله الجنة.
ومن عصى فله النار، يا معشر جهينة: إن الله، وله الحمد، جعلكم خيار من أنتم منه، وبغض إليكم في جاهليتكم ما حبب إلى غيركم من الرفث، لانهم كانوا يجمعون بين الأختين، ويخلف الرجل على امرأة أبيه، والكتائب في الشهر الحرام.
فأجيبوا هذا النبي المرسل صلى الله عليه وآله وسلم من بني لؤي بن غالب، تنالوا شرف الدنيا وكرامة الآخرة، سارعوا سارعوا في ذلك يكون لكم فضيلة عند الله.
فأجابوا إلا رجلا منهم قام فقال: يا عمرو بن مرة، أمر الله عليك عيشك !، أتأمرنا أن نرفض آلهتنا ونفرق جماعتنا بمخالفة دين آبائنا إلى ما يدعو هذا القرشي من أهل تهامة ؟ لا ولا مرحبا ولا كرامة، ثم أنشأ يقول:
إن ابن مرة قد أتى بمقالة * ليست مقالة من يريد صلاحا
إنى لاحسب قوله وفعاله * يوما وإن طال الزمان رياحا
أنسفه الاشياخ ممن قد مضى * من رام ذلك لا أصاب فلاحا
فقال عمرو بن مرة: الكاذب مني ومنك أمر الله عيشه وأبكم لسانه، وأكمه بصره.
قال عمرو بن مرة: والله ما مات حتى سقط فوه، وكان لا يجد طعم الطعام، وعمى وخرس.
وخرج عمرو بن مرة ومن أسلم من قومه حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فرحب بهم وحباهم، وكتب لهم كتابا هذه نسخته: ” بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله على لسان رسول الله بكتاب صادق، وحق ناطق، مع عمرو بن مرة الجهني، لجهينة بن زيد: إن لكم بطون الأرض وسهولها، وتلاع ( )الاودية وظهورها، ترعون نباته وتشربون صافيه.
على أن تقروا بالخمس( )، وتصلوا الصلوات الخمس، وفي التبعة والصريمة شاتان إن اجتمعتا، وإن تفرقتا فشاة شاة.
ليس على أهل الميرة صدقة، ليس الوردة اللبقة “.
وشهد من حضرنا من المسلمين بكتاب قيس بن شماس رضى الله عنهم.
وذلك حين يقول عمرو بن مرة:
ألم تر أن الله أظهر دينه * وبين برهان القرآن لعامر
كتاب من الرحمن نور لجمعنا * وأخلافنا في كل باد وحاضر
إلى خير من يمشى على الارض كلها وأفضلها عند اعتكار الضرائر( )
أطعنا رسول الله لما تقطعت * بطون الاعادي بالظبى والخواطر
فنحن قبيل قد بنى المجد حولنا * إذا اجتلبت في الحرب هام الاكابر
بنو الجرب نقريها بأيد طويلة * وبيض تلألأ في أكف المغاور
ترى حوله الانصار تحمى أميرهم * بسمر العوالي والصفاح البواتر
إذا الحرب دارت عند كل عظيمة * ودارت رحاها بالليوث الهواصر
تبلج منه اللون وازداد وجهه * كمثل ضياء البدر بين الزواهر) ( ).
المسألة التاسعة : إبتدأت آية البحث بحرف الإضراب (بل) والأصل فيه أن يأتي وسط الكلام لأنه ينفي ما قبله ويثبت ما بعده ، وفي مجيئه في أول الآية مسائل :
الأولى : بيان قانون في نظم القرآن وهو الإتصال والتداخل الموضوعي بين الآيتين المتجاورتين .
الثانية : النهي عن القول بأن الفاصلة بين الآيتين برزخ بينهما في المعنى والدلالة .
الثالثة : دعوة المسلمين عامة والعلماء خاصة لإستنباط المواعظ والدروس من الصلة الموضوعية بين الآيتين المتجاورتين ، وعدم التفريط به كعلم مستقل ( ).
الرابعة : بعث الشوق في النفوس لمتابعة تلاوة آيات القرآن ، وجذب الأسماع لها , وحمل القارئ والمستمع على التدبر في معانيها ، وهي على أقسام :
الأول : معاني الآية القرآنية في مضامينها مجتمعة .
الثاني : دلالات الشطر والجزء من الآية القرآنية .
الثالث : مفاهيم وأحكام الآيتين المتجاورتين .
الرابع : أسرار الجمع بين الآية وشطر من الآية التي قبلها , وشطر من الآية التي بعدها .
الخامس : العلوم المستقرأة من الجمع بين كلمتين أو شطرين من مجموع الآية القرآنية .
وتتجلى شذرات من الوجه الأول والأخير في باب صلة أول وآخر الآية لكل آية من الآيات التي تضمنها هذا التفسير ، من سورة الفاتحة وسورة البقرة وشطر من آيات آل عمران , ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعربوا القرآن واتبعوا غرائبه ، وغرائبه فرائضه وحدوده . فإن القرآن نزل على خمسة أوجه : حلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال . فاعملوا بالحلال ، واجتنبوا الحرام ، واتبعوا المحكم ، وآمنوا بالمتشابه ، واعتبروا بالأمثال .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن القرآن ذو شجون ، وفنون ، وظهور ، وبطون . لا تنقضي عجائبه ، ولا تبلغ غايته . فمن أوغل فيه برفق نجا ، ومن أوغل فيه بعنف غوى . أخبار وأمثال وحرام وحلال ، وناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وظهر وبطن . فظهره التلاوة ، وبطنه التأويل . فجالسوا به العلماء ، وجانبوا به السفهاء ، وإياكم وزلة العالم)( ).
السادس : حفظ وتعاهد المسلمين لنظم القرآن سواء على القول بأنه توقيفي أو قام المسلمون بتنظيم سياقه، وهو من الدلائل على المختار والمشهور بأنه توقيفي .
المسألة العاشرة : من خصائص حرف [بل] الإضراب عن الأول وإثبات الثاني ، ويأتي بعدها الموجب وقد يأتي بعدها المنفي ، وفي آية البحث جاء بعدها الموجب ، لأن الآية القرآنية مدد وعون للمسلمين في أمور دينهم ودنياهم .
فلما تضمنت الآية السابقة التخويف والإنذار بصيغة التعليق على فعل مذموم وما يسمى بلغة الشرط بالتحذير من طاعة الذين كفروا ، جاءت آية البحث بالوقاية المطلقة وعلة السلامة والنجاة من مكر وكيد الكفار ، فلا يختص الأمر بالجملة الشرطية الواردة في الآية السابقة [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] لبيان قانون وهو عدم لحوق الضرر بالمسلمين بسبب عدم طاعة الذين كفروا .
فقد يخشى المسلم الكفار لسطوتهم وسلطانهم فيهم وينوي طاعتهم ، ويرى مهادنتهم فجاءت هذه الآية لبيان ولاية الله للمسلمين ومنها أحكام التقية ، قال تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ).
وعن محمد بن عمار بن ياسر قال أخذ المشركون أبي فلم يتركوه حتى سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم وآله قال ما وراءك قال شر يا رسول الله ،والله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال فكيف تجد قلبك قال أجده مطمئنا بالإيمان قال فإن عادوا فعد] ( ).
وقد يفتر المسلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحث تقوية عزائم المسلمين في الصبر والتحمل , وعدم الركون إلى الكفارخوفاً من بطشهم وبلوغ أمره وجهاده باللسان وتحريض المسلمين على عدم طاعتهم ، فجاءت هذه الآية لتخبر بأن الله مولى المسلمين من جهات :
الأولى : المسلم الذي يأمر بالتنزه والإمتناع عن طاعة الذين كفروا .
الثانية : المسلم الذي ينهى عن طاعة الذين كفروا ويصد المسلمين والناس عنها .
الثالثة : المسلم الذي يمتلأ قلبه بالإيمان ،ويعرض عن إغراء وإغواء الكافرين .
المسألة الحادية عشرة : ذكرت آية البحث قانوناً وهو [الله خير الناصرين]وفيه بلحاظ الآية السابقة وجوه :
الأول : بيان الملازمة بين دخول الإسلام والنصرة من عند الله .
الثاني : دعوة المسلمين للتدبر في وجوه وضروب نصرة الله لهم سواء في حال الحرب أو السلم .
الثالث : ترغيب الناس بالإسلام ، والفوز بنصرة الله عز وجل وحضور رحمته في حال الشدة والرخاء ( عن عكرمة ابن عباس قال : قال لما نزلت إذا جاء نصر الله والفتح إلى آخر السورة قال نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنزلت فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك جاء الفتح وجاء نصر الله وجاء أهل اليمن فقال رجل يا رسول الله وما أهل اليمن قال قوم رقيقة قلوبهم لينة قلوبهم الايمان يمان والحكمة يمانية والفقه يمان( ).
الرابع : مضامين الآية السابقة من نصرة الله للمسلمين لما فيها من مسائل :
الأولى : بيان القبح الذاتي للكفر وسوء إختيار الكفار .
الثانية : الأضرار العرضية المترشحة عن أقوال وأفعال الكفار .
الثالثة : تحذير الآية السابقة من طاعة المسلمين للكفار سواء في باب الإعتقاد أو القول أو الفعل .
الرابعة : بيان سوء أثر وعاقبة طاعة الكفار إذ أنها علة وسبب للإرتداد أو الرجوع على الأعقاب إلى حال الضلالة .
الخامسة : من نصرة الله عز وجل بيان الملازمة بين طاعة الإنسان للكفار وخسارته على نحو الإطلاق في الدنيا والآخرة .
الخامس : بعث القنوط في نفوس الكفار من طاعة المسلمين لهم .
السادس : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين للتسليم بقرب النصر من عند الله عز وجل لهم ، قال تعالى [حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ).
السابع : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة النصر , وما فيه من معاني السكينة والعز والأمل ، وهو مناسبة ودعوة لأداء الفرائض العبادية.
الثامن : إقبال المسلمين على ضروب الطاعات والتفقه في الدين ، (وأخرج ابن عساكر عن أبي جحيفة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تفطر قدماه فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبداً شكوراً) ( ).
المسألة الثانية عشرة : من وجوه تقدير الجمع بين الآيتين : إن تطيعوا الذين كفروا والله خير الناصرين ) وفيه مسائل :
الأولى : بيان التباين بين نصرة الله وطاعة الذين كفروا .
وهذا التباين من وجوه :
الأول : نصرة الله رحمة من عند الله عز وجل , وطاعة الذين كفروا سوء إختيار من العبد .
الثاني : في نصرة الله ترغيب بالإيمان وعز للمؤمنين ، وفي طاعة الذين كفروا ذل وهوان .
الثالث : تفتح نصرة الله أبواباً من الخير والثواب ، أما طاعة الذين كفروا فتجلب الخزي والضرر.
الرابع : في نصرة الله إرتقاء في سلم المعارف وإجتهاد في سنن التقوى أما طاعة الذين كفروا فهي تقهقر إلى الوراء ورجوع إلى منازل الضلالة ، وهي مقدمة لغلبة الجهالة .
(عن سهل بن سعد الساعدي . أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعبد الله بن عباس « ألا أعلمك كلمات تنتفع بهن؟ قال : بلى يا رسول الله . قال : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، جف القلم بما هو كائن ، فلو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، ولو جهد العباد أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل لله بصدق في اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً)( ).
الثانية : بيان حقيقة وهي أن الذي يطيع الذين كفروا يحرم نفسه من نصرة الله عز وجل له في الدنيا والآخرة , وتحتمل طاعة الذين كفروا وجوهاً :
أولاً : ليس من نفع تجلبه للإنسان طاعته للذين كفروا .
ثانياً : حصول نفع قليل لمن يطيع الذين كفروا .
ثالثاً : إتصاف طاعة الذين كفروا بخلوها من النفع أو الضرر .
رابعاً : في طاعة الذين كفروا نفع وضرر ، ويكون الضرر هو الأكثر كما في مسألة الخمر والقمار ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا] ( ).
خامساً : طاعة الذين كفروا ضرر محض ، وهي خالية من أي نفع .
والصحيح هو الخامس ، لذا جاء البيان في الآية السابقة بأنهم يردون المسلم على عقبيه وليس من خسارة أكبر منها .
وهل يرد الذين كفروا غير المسلم على عقبيه , الجواب نعم ، وما هو أشد من الإرتداد فمع الكفر تأتي طاعة الذين كفروا ، وفيها إستدامة للحرمان من نصرة الله وزيادة للآثام .
الثالثة : من أسرار الجمع أعلاه بين آيتي السياق والبحث إفادة الإستفهام الإنكاري أي كيف تطيعون الذين كفروا وهم أعداء الله وهو سبحانه خير الناصرين ، ومن مصاديق أفضلية نصرته أنه سبحانه لا ينصر الذين كفروا ، قال تعالى [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وهل من مصاديق الآية أعلاه سلامة المسلمين من الإرتداد أم أن القدر المتيقن منه هو الظفر عند المعركة .
الجواب هو الأول ، فمن مصاديق النصر تعاهد الإيمان .
الرابعة : من أسرار الإيمان الملازمة بين الهداية ونصرة الله عز وجل ، وليس من حصر لضروب النصرة من الله التي تشمل قهر النفس الشهوية والغضبية وهو من وجوه الوعد الإلهي في قوله تعالى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
فمن مصاديق رحمة الله للمؤمن في الدنيا النصرة الذاتية ، والغلبة على إغواء الذين كفروا بلحاظ أنهم يسعون لطاعة المسلم في إغوائهم .
الخامسة : حث المسلمين على الإستجارة بالله عز وجل من طاعة الذين كفروا ، قال تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي]( )ومن رحمة الله في المقام أنه ناصر المسلمين من الوقوع في هاوية الضلالة ، وتكون نصرة الله في المقام من جهات :
الأولى : إحتراز المسلمين والمسلمات من طاعة الذين كفروا .
الثانية : تفضل الله عز وجل ببيان القبح الذاتي للكفر ومفاهيم الضلالة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الثالثة : بيان قانون وهو أن الأصل وجوب ترك الناس جميعاً الكفر والجحود ، ولكن الكافرين يصرون على أمور :
الأول : الإقامة في جب الرذيلة ، والإمتناع عن الإقلاع عن المعصية .
الثاني :ترك التوبة ومقدماتها ومستلزماتها .
الثالث : بذل الوسع وإنفاق المال لإرادة إرتداد عدد المسلمين .
الرابع : صيرورة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدداً للمسلمين لمنعهم من الوقوع في طاعة الكفار ، وكل آية من القرآن معجزة ودليل وضياء ، وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى سور ، والسور إلى آيات قرآنية ، ويتجلى هذا القانون في المقام من وجوه :
أولاً : آية السياق معجزة في تنبيه وإنذار المسلمين من الركون إلى الذين كفروا والإستماع إليهم .
ثانياً : آية البحث معجزة مستقلة في وقاية المسلمين من طاعة الذين كفروا .
ثالثاً : إجتماع آية السياق والبحث معجزة إضافية وعلم قائم بذاته للإنزجار عن طاعة الذين كفروا ، وبعث اليأس في نفوسهم من إنقياد المسلمين لهم .
الرابعة : فضح مكر الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ] ( )ولم يرد لفظ [يَبُورُ] في القرآن إلا في هذه الآية .
وقال ابن كثير في تفسير الآية أعلاه [أي: يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فإنه ما أسر عبد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم، بل يُكشَف لهم عن قريب] ( ).
ولكن الآية أعلاه جاءت مطلقة من جهات :
الأولى : بوار وبطلان ذات المكر فيكون سالباً بإنتفاء الموضوع ، وكأن مكرهم يولد ميتاً ، فاقداً للطعم .
الثانية : إرادة الإطلاق في عدم ترتب الأثر على مكر وكيد الكافرين .
الثالثة : جاءت الآية أعلاه مطلقة ، وبينها وبين النهي عن طاعة الكفار في الآية السابقة عموم وخصوص مطلق ، فالسيئات في الآية أعلاه أعم لأنها تشمل إبتغائهم طاعة المسلمين لهم ، وتحريض الناس على النبوة والتنزيل ، والإضرار بالمسلم حتى لو أطاعهم ، وهذا الإضرار دنيوي يتجلى باستضعافه وتسخيره بالباطل والسخرية منه ، إلى جانب ما تسببه طاعة الذين كفروا من الكدورات ، وغياب الصبر عند الشدائد والمحن ، وحال الضيق وحدة المزاج ، قال تعالى [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] ( ).
لبيان أن من نصرة الله عز وجل للمسلمين حال الإنشراح والرضا بما قسم ، والإلتفات إلى وجوب شكره تعالى على النعم ، ومنها نعمة النصرة التي هي حرز من طاعة الذين كفروا وما يترتب عليها الذي هو على قسمين :
الأول : الحرمان من نعمة الإيمان وثواب فعل الصالحات .
الثاني : ترتب الذنوب على عدم التقيد بالنهي الوارد في آية البحث من وجوه :
أولاً : العدول عن جادة الصراط التي أرادها الله للمسلمين ، قال تعالى [وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ] ( ).
ومن تفصيل الآيات في آية السياق مسائل :
الأولى : الثناء على المسلمين والشهادة لهم من عند الله بصبغة الإيمان .
الثانية : بيان الحسن الذاتي لمبادئ الإسلام وأنها واقية من الضلالة ، ومن الوقوع في وحل المعصية .
الثالثة : الإخبار عن حقيقة بأن الإنسان يطيع ويمتنع عن الطاعة ،ويتفضل الله عز وجل في هدايته لطاعته , ومنعه من طاعة الكفار , وهو من أسرار الخلافة في قوله تعالى للملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ولما إحتجت الملائكة على هذه الخلافة بفساد الإنسان أجابهم الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) لتكون مصاديق هذا العلم في كل أمر وحال للناس ، ومنه وقاية المؤمنين من طاعة الذين كفروا.
الرابعة : تنهى آية البحث عن الخلط في الأعمال بين الصالح والطالح لذا إبتدأت بالثناء على المسلمين وأختتمت بذم الكافرين والتحذير من طاعتهم ، قال تعالى [وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا] ( ).
ثانياً : الركون والإصغاء للذين كفروا بلحاظ أن طاعتهم فرع الركون إليهم , وبين الركون والطاعة عموم وخصوص مطلق ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها تحذير وزجر عن الميل والطمأنينة إلى الذين ظلموا مطلقاً ، وبينهم وبين الذين كفروا عموم وخصوص مطلق ، فالذين ظلموا أعم وأكثر , وهو من إعجاز القرآن بالنهي عن الركون للأعم , والنهي عن الطاعة للأخص .
ثالثاً : الطاعة في المقام كالوعاء ، إذ تترشح بمصاديق في عالم القول والفعل ، سواء بالترك كالتخلف عن أداء الفرائض والمستحبات ، أو بالفعل كإتيان المحرمات وفعل الشبهات .
وجاءت آية البحث مخرجاً من الشبهات ، وواقية من المحرمات ، إذ يدرك المسلم حرمتها وإن لم يأمر بها الكفار ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :(من سمع منكم بخروج الدجال فلينأى عنه ما استطاع ، فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فما يزال به حتى يتبعه مما يرى من الشبهات ( ) , ليكون من إعجاز القرآن التحذير من الإفتتان برؤساء الكفر مطلقاً .
الثالث : لقد أراد الله عز وجل للدنيا أن تكون دار السكينة والأمن وهو المستقرأ من قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فالخلافة رحمة بالذي يقيم في الأرض من الناس، وعز له، ولما إحتجت الملائكة أخبرهم الله عز وجل باحاطته علماً بكل شئ بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
فمن علمه تعالى بعث السكينة في نفوس المسلمين من الإرتداد وأسبابه، وتأتي السكينة بلحاظ آية السياق من وجوه:
الأول : إفتتاح الآية بالنداء من عند الله، ولجهة الصدور في أي نداء موضوعية في ماهيته وأثر وتأثير عند المتلقي.
الثاني : نزول النداء للمسلمين من السماء بواسطة جبرئيل ليكون عيداً يتجدد في كل مرة يتلو فيها المسلم آية السياق لما فيها من الإكرام له ولآبائه المسلمين ولذريته الموجود والمعدوم.
الثالث : بيان سنخية النداء , وأنه ثناء وتزكية بصيغة العموم الإستغراقي للمسلمين والمسلمات بقوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الرابع : دلالة نداء الثناء هذا على أهلية المسلمين للإمتثال للنهي الوارد في ذات آية السياق ،وهو مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس : مع دلالة هذا النداء فانه مدد وعون للمسلمين , وأمن من الردة .
وتقدير الجمع بين الآيتين : يردوكم على أعقابكم بلى الله مولاكم ).
وفي الآية وجوه :
الأول : إبتدأت آية البحث بحرف الإضراب [ بل] مع إثبات ولاية الله عز وجل لتكون برزخاً دون طاعة المسلمين للكفار ، فقد يقول القائل أن أحوال الفرد والجماعة في تبدل وتغير ، ويدل عليه قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ).
وقد يكون المسلمون في حال إنكسار كما حدث يوم أحد ،أو في حال فقر وعوز أو يصيب الإنكسار والفاقة طائفة كما لو كانت فرقة منهم بين ظهراني الكفار ، أو أنهم يعملون بالأجرة عند الكفار فيظهرون الإستهزاء بالشريعة , قال تعالى [وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ) .
فاخبرت آية البحث عن نصرة الله للمسلمين ، وعجز الكفار عن جعلهم منقادين لهم ، ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية إمكان أداء المسلم واجباته العبادية بينه وبين ربه ، كالصلاة في حال الخلوة والصيام الذي هو إمساك عن المفطرات ، وأداء الزكاة وإخراجها إلى مستحقيها ، وكل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر .
الثاني : من وجوه تقدير الآية الإستفهام الإنكاري وتقديره على وجوه :
أولاً : كيف تطيعون الذين كفروا والله مولاكم وهو خير الناصرين .
ثانياً : لا تطيعوا الذين كفروا فالله مولاكم وهو خير الناصرين .
ثالثاً : لن تطيعوا الذين كفروا لأن الله مولاكم وهو خير الناصرين .
رابعاً : لم تطيعوا الذين كفروا لأن الله مولاكم وهو خير الناصرين .
خامساً : لم ولن تطيعوا الذين كفروا لأن الله مولاكم وهو خير الناصرين .
الثالث : تحتمل ولاية المسلمين وجوهاً :
أولاً : إذا أطاع المسلمون الذين كفروا فإنهم لم يردوهم على أعقابهم لأن الله مولاهم .
ثانياً : سلامة المسلمين من الإرتداد على الأعقاب مطلقاً سواء بسبب طاعة الذين كفروا أو غيرها .
ثالثاً : عصمة المسلمين من طاعة الذين كفروا .
والصحيح هو الثاني والثالث لأصالة الإطلاق في ولاية الله ، ولأن مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ] ( ), فمن مصاديق ملك الله عز وجل سلامة المؤمنين من طاعة الذين كفروا.
الرابع : من ولاية الله عز وجل للمسلمين دخول الناس في الإسلام ، وفيه ضعف ووهن للكفار ، فكل إنسان يترك منازل الكفر والظلم وينتقل إلى الإيمان وضياء الهدى هو نصر للمسلمين ،وشاهد على ولاية الله عز وجل لهم ، ومنه قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ).
ليكون النصر بخصوص مضامين السورة أعلاه على وجوه :
الأول : مجئ نصر الله عز وجل ، ويحتمل هذا النصر بلحاظ آية البحث وجوهاً :
أولاً : إنه من ولاية الله عز وجل ، إذ يلازمها النصر والظفر .
ثانياً : إنه من مصاديق قوله تعالى [وهو خير الناصرين ] إذ ينصر الله عز وجل المسلمين سواء كانوا قلة أو كثرة ، في حال ضعف أو غنى ، وكذا ينصرهم وإن كان عددهم اكثر عدداً وعدة ، كما تجلى يوم بدر وأحد ، إذ كان جيش المسلمين نحو ثلث جيش الكفار في كل من المعركتين ، أما من حيث العدة والسلاح والمؤون , فالفارق يتسع أكثر .
ثالثاً : إرادة المعنى الأعم من فيوضات آية البحث ، فيأتي النصر للمسلمين من عند الله لأنه سبحانه وليهم ولأنه خير الناصرين .
رابعاً : بيان ضعف ووهن الكفار ، قال تعالى [ذلك بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق آية البحث ،وإنعدام الولي للكافرين على جهات :
الأولى : لا ولي لهم ينصرهم من الله عز وجل .
الثانية : لا ولي لهم يدفع عنهم عذاب الله .
الثالثة : لا ولي للكافرين يمنع نصر المؤمنين عليهم .
الرابعة : لا ولي للكافرين إلا الشيطان .
الخامسة : لا ولي للكافرين في الدنيا وفي الآخرة .
الثاني : عدم تقييد نصر الله إنما يأتي مطلقاً , ويصل إلى غايته بتمام النصر والنفع الأعم منه ، لذا ورد في السورة أعلاه [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( ) ليكون على وجوه :
أولاً : إنه من عطف الخاص على العام ، لكثرة إنتصارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتقييد الفتح وإرادة فتح مكة منه .
ثانياً : إنه عطف ذي المقدمة على المقدمة بتقريب أن النصر في معركة بدر وأحد كان مقدمة لفتح مكة .
ثالثاً : إنه من عطف التمام والكمال على الفرع .
(عن أم حبيبة قالت : لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح }( ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله لم يبعث نبياً إلا عمر في أمته شطر ما عمر النبي الماضي قبله ، وإن عيسى ابن مريم كان أربعين سنة في بني إسرائيل ، وهذه لي عشرون سنة وأنا ميت في هذه السنة ، فبكت فاطمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنت أول أهل بيتي لحوقاً بي فتبسمت ) ( ).
الثالث : نسبة وإضافة النصر إلى الله عز وجل منع لدبيب الغرور إلى نفوس المسلمين ، ولتنزيههم عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن هذا التنزيه نسبة رمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل بقوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) لما في هذا الرمي من إعجاز إذ يرمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حفنة من تراب , فتصل إلى جيش الكفار الذي يبتعد أكثر من رمية الرمح أي بالأولوية القطعية لا تصل إليه رمية التراب باليد ، ولكن رمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل منها لعيني كل واحد من المشركين فصارت سبباً لهزيمتهم .
(أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بالمدينة وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت , فقال ما ترون فيها لعل الله يغنمناها ويسلمنا ، فخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتعادّ ففعلنا ، فإذا نحن ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدّتنا ، فسر بذلك وحمد الله ، وقال : عدة أصحاب طالوت . فقال : ما ترون في القوم فانهم قد أخبروا بمخرجكم؟.
فقلنا : يا رسول الله لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم إنما خرجنا للعير ، ثم قال : ما ترون في قتال القوم؟ فقلنا مثل ذلك ، فقال المقداد : لا تقولوا كما قال أصحاب موسى لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون } ( ) فأنزل الله { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } إلى قوله { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم }( ) فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين – اما القوم واما العير – طابت أنفسنا ، ثم إنا اجتمعنا مع القوم فصففنا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أنشدك وعدك . فقال ابن رواحة : يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك – ورسول الله أفضل من أن نشير عليه – إن الله أجل وأعظم من أن تَنْشُدَهُ وعده .
فقال : يا ابن رواحة لأنْشُدَنَّ اللهَ وعده فإن الله لا يخلف الميعاد ، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه القوم فانهزموا ، فأنزل الله { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }( )( ).
وهذه الرمية من ولاية الله عز وجل ، وهل هي خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورفعت من بعده ، أم أنها نعمة أنزلها الله لتبقى سلاحاً عند المسلمين ، الجواب هو الثاني .
الرابع : نصر الله الذي تذكره الآية أعلاه على شعبتين :
الأولى : إنه من مصاديق ولاية الله للمسلمين ، وتقدير الآية : بل الله مولاكم وهو الذي يأتي بنصره ) فيحق للمسلمين التطلع إلى نصر الله والإجتهاد بالدعاء لتقريب النصر والظفر على المشركين .
الثانية : نصر الله من مصاديق قوله تعالى [وهو خير الناصرين ] وخير اسم تفضيل والله سبحانه مالك النصر ومفاتيحه ورزق المسلمين نصره ، ليكون نصر الملائكة أو نصر الأنبياء أو نصر الأولياء والربيين والمؤمنين بفضله ورحمته وحكمته ، وفيه دعوة للمسلمين للإنقطاع إلى الدعاء ورجاء نزول النصر من عند الله .
(وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر دعا بقوس فأُتي بقوس طويلة فقال : جيئوني بغيرها.
فجاءوا بقوس كبداء فرمى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتّى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه ،فأنزل الله تعالى : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ})( ).
ولا تعارض بين الأمرين وإن كان المشهور والصحيح هو الأول أعلاه وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمى في وجوه كفار قريش ، لإرادة المعنى الأعم وصيرورة هذا الرمية نصراً ومقدمة للنصر ، وتكون رميته السهم أعلاه في طول الرمية العامة .
وفيه نكتة وهي تعدد مصاديق رمي النبي الذي يتغشى الأزمنة الثلاثة قبل نزول آية الرمي أعلاه وحال نزولها وما بعده , وتقدير الآية بصيغة المضارع : وما ترمي إذ ترمي ولكن الله يرمي ).
المسألة الرابعة عشرة : إبتدأت آية البحث بحرف الإضراب [بل] لبيان نصرة المسلمين لسلامتهم من الإنقلاب والإرتداد وما يترشح عنهما إنطباقاً وقهراً من الخسارة ، وتكون ولاية الله في المقام على وجوه :
الأول : صيرورة الذين كفروا متخلفين عن مقدمات طاعة المسلمين لهم.
الثاني : جعل الذين كفروا منشغلين بأنفسهم عن جذب المسلمين إلى طاعتهم .
الثالث : إمتلاء نفوس الذين كفروا بالخوف والرعب من الإيمان والذكر وآيات النبوة .
(وعن الإمام علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم) ( ).
وكل فرد من النعم الخمس أعلاه من ولاية الله عز وجل ، وأسباب نصر المسلمين ، إذ أن أصابة الكفار بالرعب من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برزخ دون دعوتهم المسلمين لطاعتهم وعلة لوهن وضعف الذين كفروا ، أما مفاتيح الأرض فهي باب للسعة والمندوحة للمسلمين في إجتناب طاعة الذين كفروا ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ) .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم أعطيت مفاتيح الأرض بيان لما يكون عليه المسلمون من العز والرفعة إلى يوم القيامة ، وصيرورة التراب طهوراً ومقدمة للصلاة , وبديلاً عن الطهارة المائية تخفيف من المسلمين ووقاية لهم من الحاجة إلى الذين كفروا أو طاعتهم أو التقية منهم في باب الصلاة وسقوط العذر في البقاء تحت كنفهم وسلطانهم لوجود الماء والعشب ، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم جعل التراب لي طهوراً إرادة تهيئة مقدمات العبادة وأسباب الرزق للمسلمين في أي موضع من الأرض، قال تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ] ( ) فألى أي جهة يكون إنتشار وتوجه المسلمين فهناك سعة من الرزق وأمن وفضل من عند الله .
أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم (وجعلت أمتي خير الأمم) فمن خصائص المسلمين الأمن من طاعة الذين كفروا والإنقلاب والإرتداد بسبب هذه الطاعة أو مطلقاً , ومن مصاديق (خير الأمم) مجئ آية البحث بالإخبار عن ولاية الله عز وجل للمسلمين ونصرته لهم ، ومصاحبة هذه الولاية لهم إلى يوم القيامة .
المسألة الخامسة عشرة : لقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته ، وسخّر لهم ما في السموات والأرض , لتكون عوناً لهم في العبادة والتدبر في أسرار الخلق وإدراك عظيم رحمة الله بهم جميعاً ، ولكن الشيطان إجتهد في إغوائهم فصارت الدنيا دار إمتحان وإبتلاء لإفتتان فريق من الناس بحيله وإغوائه .
ومع هذا تتوجه الخطابات القرآنية بالعبادة والنسك إلى الناس جميعاً ، بل لهم وللجن وهو من مصاديق العموم في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وتحتمل كيفية العبادة بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : مجئ الأوامر والنواهي من عند الله عز وجل .
الثاني : نزول الأحكام التكليفية على نحو الإجمال ، أما التفصيل والبيان فيقوم به الأنبياء .
الثالث : الأحكام التكليفية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة , فمن الأمم من كانت تكاليفها أخف , ومنها ما كانت تكاليفها أشد .
الرابع : ترك كيفية ونوع العبادة للأنبياء ، فكل نبي يرى ما يناسب أمته من جهة سنخية وكم وكيفية العبادة.
الخامس : يختار الناس الطريقة التي يعبدون بها الله عز وجل .
والصحيح هو الأول والثالث , وتقدير الآية أعلاه ( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون بما أمرتهم ونهيتهم ) فان قلت يدل قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )على مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأحكام .
والجواب المراد ما آتاكم من التنزيل والوحي والتشريع من عند الله ، لذا وردت تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآية أعلاه [الرسول] لبيان أنه مأمور بالرسالة فيما آتاكم , وأن الذي يأتيكم به بصفة الرسالة .
وهل يمكن التفصيل بلإستدلال بقوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( )بلحاظ أن الذي يأتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قسمين :
الأول : ما يأتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أمور الدين والوحي والتنزيل فهو من عند الله .
الثاني : الأمر الدنيوي كالمعاشات والمكاسب فيما يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من باب الظن والرجحان .
والجواب لا دليل على هذا التفصيل , والآية أعلاه لا تدل عليه إنما جاءت لبيان المائز الذي يتصف به النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ومعاني ولاية النبوة وحضور الوحي معه .
وقد ذكرت الآية قبل السابقة ثواب الربيين وهم أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم ، وأنه كان ثواباً مطلقاً في الدنيا والآخرة ، بقوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] ( )لبيان قانون وهو أن علة خلق الناس هي العبادة ويترشح عن العبادة الجزاء والثواب العاجل والآجل ، فما هو ثواب المسلمين .
الجواب جاءت آية البحث لبيانه وذكر مصاديقه غير المتناهية بالإخبار عن ولاية الله للمسلمين ونصرته لهم كأحسن كيفية من أسباب النصرة والظفر .
ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : بل الله مولاكم في عبادتكم له سبحانه .
الثاني : بل الله خير الناصرين في حربكم على الكفار والمشركين .
الثالث : الله خير الناصرين الذي ينصركم على النفس الأمارة بالسوء وعلى حال الوهن والضعف .
الرابع : الله مولاكم الذي يمنعكم من طاعة الذين كفروا ، ويصرف أذاهم .
الخامس : بيان قانون كلي وهو أن الذين مولاهم الله في مأمن من الإنقلاب على الأعقاب والإرتداد .
حديث التأبير
ورد حديث تأبير النخل الذي قد يفيد معنى القسم الثاني أعلاه من الأمر الدنيوي كالمعاشات , وروي هذا الحديث بعدة طرق منها عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع أصواتا . فقال (ما هذا الصوت) قالوا النخل يؤبرونها . فقال : لو لم يفعلوا لصلح).
فلم يؤبروا عامئذ . فصار شيصا( ) . فذكروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( إن كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به . وإن كان من أمور دينكم فإلي) ( ) .
والأصل في الحديث أعلاه أنه مرسل وليس متصلاً , وورد الإرسال عن خالد بن الحارث ومحاضر وحفص بن غياث وغيرهم .
وورد الحديث بطرق أخرى , وليس فيها سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأبير النخل ، ورد (عن مجاهد عن الشعبي ، عن جابر قال : أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس يلقحون النخل ، فقال : ما للناس ؟ قال : يلقحون يا رسول الله قال : لا لقاح أو ما أرى اللقاح بشيء قال : فتركوا اللقاح ، فجاء تمر الناس شيصا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أنا بزراع ولا صاحب نخل ، لقحوا) ( ) .
وسند الحديث ضعيف بمجالد بن سعيد ، كما أنه إختلط آخر أيامه .
وورد الحديث بطرق أخرى عن أنس بن مالك ، وفي حديث طلحة بن عبيد الله ذكر أن النبي مرّ على قوم على رؤوس النخل , ومن المستبعد تكرار الحديث .
ويتعلق الحديث على فرض صحته بقضية في واقعة لذا لابد من تأويله وأنه بعث على العمل والاجتهاد في أمور المعايش وجعل موضوعية للخبرة والتجربة في المكاسب , وعدم الجمود على بعض الأخبار .
وخصص النووي باباً على هذا الحديث سماه باب وجوب إمتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي .
ولا تصل النوبة إلى تخصيص باب وصيرورة الحديث وكأنه تأسيس لتقسيم في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لقد بقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم بالوحي ثلاثاً وعشرين سنة ولو كانت أمور وأحاديث مثل هذا لاستبانت في حال الحرب والسلم والتجارة والزراعة .
ويمكن مناقشة هذا الحديث دلالة وهو أنه يتضمن الإخبار عن قيام زراعة النخيل بالتلقيح , وكانوا فوق رؤوس النخل حينما تحدث النبي، فكيف يقال : جاء التمر شيصاً ، إلا أن يراد بالنسبة للنخل الذي لم يلقح ، فلا يقال جاء التمر على نحو الإطلاق شيصاً ، كما في حديث جابر أعلاه .
ومن جهة أخرى فان شطراً من النخيل يلقح بواسطة الهواء وهبوب الرياح خاصة إذا كان النخيل متقارباً , وتلك آية في بديع صنع الله .
فمن خصوصيات ثمار النخيل أن الأزهار المذكرة والمونثة لا تجتمع في نخلة واحدة فتنتقل حبوب اللقاح المذكرة من النخيل المذكر إلى المؤنث فيحصل نوع إخصاب لذا نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النخلة بالعمة .
(وعن عروة عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة أبيكم آدم وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران فأطعموا نسائكم الوالد الرطب فان لم يكن رطبا فتمر) ( ).
المسألة السادسة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : فتنقلبوا خاسرين بل الله خير الناصرين ) وفيه وجوه :
الأول : تجمع الآية السابقة بين الثناء والإنذار ، والوعد المقيد والإكرام المشروط بلزوم عدم طاعة الذين كفروا ، وكأنها تقول : يا أيها الذين آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا فلستم بمؤمنين ) .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] ( ) الجواب لا ،لأن الآية أعلاه وردت وصفاً لطائفة من المنافقين والمخادعين ، أما التقدير في الآية أعلاه فجاء للبيان وترتب الأثر على شرط مخالف لحال المسلمين , لتتجلى معاني جهادهم وصبرهم في مقامات الإيمان ، إنما تفيد الآية حث المسلمين على التنزه من محاكاة المنافقين الذين تذكرهم الآية أعلاه .
ترى ما هو أثر وموضوعية هذه الآية والآية السابقة وبيانهما لسوء عاقبة طاعة المسلم للذين كفروا بالمنافقين ، الجواب من جهات :
الأولى : تطرد كل من الآية السابقة وهذه الآية النفاق من النفوس وتنزه المسلمين والمسلمات منه .
الثانية : كل من آية البحث والسياق حرب على النفاق .
الثالثة : تبعث كل من الآيتين الخصومة والخلاف بين المنافقين والذين كفروا ، وتؤسسان لبينونة ونفرة بينهما .
الرابعة : إدراك المنافقين لحال الضلالة التي هم عليها ، وما تجلبه طاعتهم للذين كفروا من الخسران المبين ، وحتى لو لم يطع المنافقون الذين كفروا فانهم يعملون بما يوافق هوى الكفار ، ويقومون بالإضرار بالإسلام من بين ظهراني المسلمين ، لذا جاء الوعيد لهم بقوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ).
الثاني : تتجلى معاني الإضراب والإبطال في أول آية البحث بجلاء مع إتصالها بآخر كلمات الآية السابقة وهو من أبجديات علوم نظم القرآن فحينما أختتمت آية السياق بالوعيد إبتدأت آية البحث بحرف الإضراب [بل] وفيه مسائل :
الأولى : بعث السكينة في نفوس المسلمين والمسلمات .
الثانية : سلامة المسلمين من الخسارة مطلقاً سواء في الدنيا أو الآخرة .
الثالثة : بيان علة سلامة المسلمين من الخسارة وهي ولاية الله لهم ، لتأكيد قانون كلي في الإرادة التكوينية وهو لا تصيب الخسارة الذي وليه الله، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى :الأمة التي وليها الله لا تخسر .
الصغرى : المسلمون وليهم الله .
النتيجة : المسلمون أمة لا تخسر .
وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب الكفار ، وزجر لهم عن التعدي على المسلمين ومحاولة جذبهم إلى طاعتهم بالباطل والحرام ، وقد بينت الآية السابقة أن هذه الطاعة خسارة وضلال .
الثالث : أختتمت الآية السابقة بالإنذار والتخويف بقوله تعالى [فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] وتعلق هذا الإنقلاب والخسارة الفادحة بطاعة الذين كفروا وتعقبتها هذه الآية لبيان مصداق من مصاديق رحمة الله بالمسلمين وهو عدم إستقرار أسباب الخوف وآثار الإنذار في نفوسهم , وما يسببه من الضيق والحسرة او الأمراض العضوية فأخبرت هذه الآية بأن الله عز وجل [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] .
وتتجلى أفضل مصاديق النصرة في المقام ببقاء المسلمين في منازل الإيمان التي تؤهلهم لتلقي النداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لأنه شاهد على السلامة من طاعة الذين كفروا بلحاظ كبرى كلية وهي عدم إجتماع الضدين وهما الإيمان والخسارة ، فيفيد الجمع بين الآيتين الإبتداء بصبغة الإيمان والإختتام بالنصرة، ومن مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]وجوه :
أولاً : ينصر الله المسلمين .
ثانياً : لا ينصر الله عز وجل الكافرين ، ويدل عليه ما حدث في واقعة أحد ، فما أن تغيرت الريح وصارت الجولة للكافرين حتى تجلت معاني ولاية الله عز وجل للمسلمين فأصاب الكفار الفزع وتقهقروا من وسط المعركة ، ولم يقفوا إلا في مكة ، وكانوا في كل مرة سواء في بدر أو أحد أو الخندق يطوون طريق العودة بكآبة وبأسرع مما جاءوا زاحفين ينشدون الأشعار ، ويتناجون بالباطل ، وهو من الشواهد على قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
وكل من هذا الإنقلاب والخيبة من مصاديق قوله تعالى في آية البحث ( الله مولاكم ).
ثالثاً : فضح الله للمنافقين ، وجاء هذا الفضح من جهات :
الأولى : نزول آيات القرآن بندم المنافقين وتقبيح فعلهم وذم سوء سرائرهم .
الثانية : مجئ السنة النبوية بذم وكشف المنافقين .
وعن (ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه) ( ).
وقد أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة بن اليمان بأسماء سبعة عشر منافقاً ، وبقي سراً لعدم إنغلاق باب التوبة والإنابة ولأن أداء الصلاة والواجبات العبادية وسيلة مباركة للتنزه عن النفاق وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) .
وبلحاظ الآية أعلاه هل الصلاة من الولاية ومن نصرة الله اللتين تذكرهما آية البحث ، الجواب نعم .
الثالثة : صدور مفاهيم النفاق والخداع والمكر في قول وفعل المنافقين وميلهم للكفار .
الرابع : لقد ذكرت الآية السابقة الذين كفروا وقبح طاعة الإنسان لهم، ولم تذكر الآية المنافقين ، وفيه مسائل :
الأولى : دخول المنافقين في سرب الذين كفروا في سوء السريرة والنية لوحدة الموضوع في تنقيح المناط , فيشمل التحذير الوارد في الآية السابقة المنافقين ، قال تعالى [بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا المنافقين يردوكم …. ) على القول بأن نداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]يشمل المنافقين فكيف يصح الجمع بينه وبين التحذير من المنافقين ، والجواب من وجوه :
الأول : يتوجه النداء بالإيمان بجميع المسلمين والمسلمات فيدخل فيهم المنافق لأنه يظهر الإيمان وإن كان يخفي الكفر ، وفيه منع لرمي بعض المسلمين بالنفاق , أما دخول المنافق مع الكفار فلأنه يخفي الكفر، فلذا فصّلت الآية السابقة .
الثاني : إرادة توبة المنافق ،وإنتفاعه من مضامين هذه الآية وإدراك القبح الذاتي للكفر ، وما يضمره من مصاديقه .
الثالث : التفكيك في النداء فيأتي للمؤمن والمنافق والضال وكل من نطق بالشهادتين .
الرابع : قلة عدد المنافقين ولا تبنى الأحكام على القليل النادر .
الخامس : منع بث وتفشي روح الشك والريب بين المسلمين بعضهم مع أزاء بعض .
ويمكن تقدير الآية السابقة على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا المنافقين .
ثانياً : يا أيها المنافقون لا تطيعوا أنفسكم الأمارة بالسوء .
ثالثاً : يا أيها المنافقون لا تطيعوا الذين كفروا .
رابعاً : يا أيها المنافقون توبوا من طاعة الذين كفروا , وفي التوبة نجاة من الإنقلاب خاسرين .
المسألة السابعة عشرة : يبين الجمع بين الآيتين حال الصراع في الدنيا بين الإيمان والكفر , وبذل الكفار الجهد وتحمل العناء وإنفاق الأموال للبقاء على الكفر ومحاولة إرتداد المسلمين ، وهو أمر إبتلائي إضافي للمسلمين فدخول الإنسان الإسلام ليس نهاية للإبتلاء الخارجي مع أهل الضلالة ، ولا تكون العداوة الظاهرة وحدها التي تحكم نوع العلقة بين الطرفين فبدل أن يحاكي الكفار المسلمين في الإيمان والتخلي عن لباس الكفر والضلالة تراهم يعملون على صد المسلمين عن فعل الصالحات والإقامة في منازل الهدى .
فتفضل الله عز وجل وأخبر في آية البحث بأنه سبحانه مولى المسلمين لإفادة الولاية بلحاظ الآية السابقة وجوهاً :
الأول : تأكيد الشهادة للمسلمين بصبغة الإيمان .
الثاني : إستدامة النداء للمسلمين [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وهو من معاني تكرار هذا النداء تسعاً وثمانين مرة في القرآن إذ تدل هذه الكثرة على مصاحبة الإيمان للمسلمين خاصة وأنها جاءت في أمور الدين والدنيا ، وهذا النداء باق إلى يوم القيامة .
الثالث : من ولاية الله في المقام الإخبار عن قبح طاعة الذين كفروا ، والتي تتقوم بأطراف:
أولاً : الذي يطيع الذين كفروا .
ثانياً : موضوع طاعة الذين كفروا .
ثالثاً : الجهة التي تطاع وهم الذين كفروا .
رابعاً : سوء عاقبة طاعة الذين كفروا .
خامساً : حكم طاعة الإنسان للذين كفروا .
سادساً : إقامة الحجة على الذين كفروا , كما في الآية السابقة منطوقاً ومفهوماً.
أما أولاً أعلاه فان الآية تحذر المسلمين من طاعة الذين كفروا ليكون هذا التحذير إنذاراً لغير المسلمين ، أي أنه أعم في موضوعه من المنطوق ويمكن إستقراء قانون , وهو أن الإنذار في القرآن على مراتب وإن جاء متحداً , فيكون على وجوه :
الأول : تنبيه وتحذير المسلمين .
الثاني : إنذار ووعيد الكافرين ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )
ويدل هذا الإنذار على الترغيب بتلاوة آية البحث إذ تخص المسلمين بولاية الله بقوله تعالى [بل الله مولاكم].
الثالث : إقامة الحجة على الناس .
الرابع : دعوة الناس بالحكمة والموعظة لدخول الإسلام , وتحبيب مبادئه وأحكامه للنفوس .
ومن معاني التباين في الإنذار تقدير الآية السابقة : الذين أطاعوا الذين كفروا خاسرين ) كما في قوله تعالى بخصوص فرعون وقومه [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ] ( ).
ويتجلى الإنذار والوعيد في الجمع بين الآيتين لغير المسلم من باب الأولوية القطعية .
وأما ثانياً أعلاه فموضوع طاعة الذين كفروا هو سعيهم لإزاحة المسلم عن منازل الإيمان وأداء العبادات .
(عَلِىُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِىِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ . قَالَ أَبُو الصَّلْتِ لَوْ قُرِئَ هَذَا الإِسْنَادُ عَلَى مَجْنُونٍ لَبَرَأَ)( ).
وتقدير الآية السابقة على وجوه :
الأول : إن تطيعوا الذين كفروا في الإعتقاد .
الثاني : إن تطيعوا الذين كفروا في القول وأسباب الشك والريب .
الثالث : إن تطيعوا الذين كفروا في إرادتهم عدم نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إن تطيعوا الذين كفروا في القعود عن النفير والجهاد .
الخامس : أن تطيعوا الذين كفروا يردوكم عن واجباتكم العبادية ، لقد تعلق المسلم بالصلاة والصيام والعبادات الأخرى فاذا سمع الآية تحذره من أسباب التقصير فيها فان نفسه تنفر من هذه الأسباب التي تتقوم بطاعة الكفار .
السادس : إن تطيعوا الذين كفروا في كفرهم وفسقهم وضلالتهم يردوكم على أعقابكم , ليخرج بالتخصيص إكتساب العلوم وجوازه وإن كان مصدره من الكفار ، وهذا التعلم ليس من الطاعة , لذا فمن الإعجاز في الآية السابقة تقييد التحذير بتعلقه بطاعة الذين كفروا .
الثاني : صلة هذه الآية [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ). وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فآتاهم الله ثواب الدنيا بل الله مولاكم ) وفيه وجوه :
الأول : بيان قانون كلي وهو أن ثواب الدنيا بيد الله عز وجل , وجاءت الآية أعلاه بالإطلاق في الثواب الذي آتاه الله الربيين الذين قاتلوا مع الأنبياء السابقين من جهة الكم والكيف والموضوع , وهو المستقرأ من قوله تعالى [ثَوَابَ الدُّنْيَا] فلم تقل الآية (فآتاهم الله من ثواب الدنيا ) ولم تقل (فآتاهم الله ثواباً في الدنيا ).
وقد يقال إذن ماذا بقي للمسلمين إذ كان ثواب الدنيا كله للربيين مع أن المسلمين أكثر أمم الأنبياء ، الجواب إن الثواب من عند الله غير متناه في مصاديقه وأفراده وكيفيته وكمه , فتأخذ منه كل أمة من غير أن ينقص منه شيء .
وفي قوله تعالى في ثمار الجنة [لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ] ( ) فلا تنقطع في بعض المواسم والأوقات ، ولا تمنع عن أهل الجنة أو يطلب عليها ثمن أو تكون هناك شروط لأخذها وإن كان من الذكر والتسبيح المتحد (عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «ما قطعت من ثمار الجنة إلاّ أبدل الله مكانها ضعفين)( ).
ترى لماذا آثر الله عز وجل الربيين بثواب الدنيا الجواب قد تقدمت الآيتان( ) لآية السياق في الخصال الحميدة للربيين وترتب الثواب عليها بدليل إبتداء آية السياق بحرف الفاء الذي ربط السبب والمسبب ، وبيّن ترتب الثواب على فعل الصالحات , وهناك مسائل :
الأولى : هل يرزق الله المسلمين ذات ثواب الربيين ، أم يشترط القيام بذات فعلهم من القتال مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : لو أطاع المسلم الذين كفروا على نحو السالبة, فهل يأتيه مثل ذات ثواب الربيين .
الثالثة : هل ينحصر ثواب الدنيا بذات خصال الربيين .
أما الأولى فالجواب إن الله عز وجل يرزق المسلمين ذات ثواب الربيين ويزيد عليهم من فضله , أما موضوع القيام بالقتال مع الأنبياء فهو مقيد بشرائطه وتهيئة أسبابه ومقدماته .
وأما الثانية فالجواب تتضمن الآية السابقة التنبيه لإخبارها عن صيرورة الذي يطيع الكافرين في خسارة وضلال .
وأما الثالثة فأن ثواب الدنيا أعم من أن ينحصر بذات خصال الربيين وصفاتهم الحميدة ، وقد بيّن القرآن الواجبات العبادية التي يجب على المسلمين إتيانها والتي تجعلهم ينالون الثواب مطلقاً، قال تعالى [قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] ( ) .
الثاني : أخبرت آية البحث بأن الله عز وجل مولى المسلمين وهو ناصرهم ، ويحتمل الأمر بالنسبة للربيين وجوهاً :
الأول : أن الله عز وجل مولى الربيين أيضاً مثلما هو سبحانه مولى المسلمين لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثاني : مرتبة الربيين أدنى من أن تصل إلى الولاية .
الثالث : درجة الربيين أعظم وأعلى في مراتب الإسلام .
والصحيح هو الأول ، والجامع المشترك هو الإيمان , فتنزل الآية في الثناء على المسلمين كما في آية البحث لتدل بالدلالة التضمنية على الثناء والجزاء للمؤمنين من الأمم السابقة .
(أخرج عبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب حدثني ابن غنم . أنه لما خرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أدركهم عمرو بن العاص ، وعمارة بن أبي معيط ، فأرادوا عنتهم والبغي عليهم ، فقدموا على النجاشي وأخبروه أن هؤلاء الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة إنما يريدون أن يخبلوا عليك ملكك ، ويفسدوا عليك أرضك ، ويشتموا ربك .
فأرسل إليهم النجاشي فلما أن أتوه قال : ألا تسمعون ما يقول صاحباكم هذان؟ لعمرو بن العاص ، وعمارة بن أبي معيط ، يزعمان أنما جئتم لتخبلوا عليَّ ملكي ، وتفسدوا علي أرضي . فقال عثمان بن مظعون ، وحمزة : إن شئتم فخلوا بين أحدنا وبين النجاشي فلنكلمه فانا أَحْدَثَكُمْ سناً ، فإن كان صواباً فالله يأتي به ، وإن كان أمراً غير ذلك قلتم رجل شاب لكم في ذلك عذر .
فجمع النجاشي قسيسيه ورهبانه وتراجمته ، ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذي من عنده جئتم ما يقول لكم ، وما يأمركم به ، وما ينهاكم عنه . هل له كتاب يقرأه؟
قالوا : نعم . هذا الرجل يقرأ ما أنزل الله عليه ، وما قد سمع منه ، وهو يأمر بالمعروف ، ويأمر بحسن المجاورة ، ويأمر باليتيم ، ويأمر بأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه إله أخر . فقرأ عليه سورة الروم ، وسورة العنكبوت ، وأصحاب الكهف ، ومريم .
فلما ان ذكر عيسى في القرآن أراد عمرو أن يغضبه عليهم فقال : والله إنهم ليشتمون عيسى ويسبونه .
قال النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى؟ قال : يقول ان عيسى عبد الله ، ورسوله ، وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم .
فأخذ النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين ، فحلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم ما يزن ذلك القذى في يده من نفثة سواكه ، فابشروا ولا تخافوا فلا دهونة يعني بلسان الحبشة اليوم على حزب إبراهيم قال عمرو بن العاص : ما حزب إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤوا من عنده ومن اتبعهم . فأنزلت ذلك اليوم خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } ) ( ).
الثالث : لقد أخبرت آية السياق عن فوز الربيين من أصحاب الأنبياء بثواب الدنيا ،وهو على أقسام :
الأول : الثواب الذي يناله الربيون في أيام حياتهم .
الثاني : ما يترشح من الثواب على ذراري الربيين ،وتقدير آية السياق : فآتاهم الله ثواب الدنيا في صلاح أبنائهم .
ومن فضل الله عز وجل في خلافة الإنسان في الأرض أن هذا الصلاح سبب لمجئ ثواب إضافي للربيين بسبب سعي أبنائهم في الصالحات وإستغفارهم .
(وفي الحديث المشهور عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ عن ثلاث : ولد صالح يدعو له ، وعلم يُنتفع به ، وصدقة جارية) ( ).
الثالث : مضاعفة ذات ثواب الربيين ، وتحتمل هذه المضاعفة في زمانها وجوهاً :
أولاً : مضاعفة الثواب في أيام الربيين .
ثانياً : مضاعفة ذات الثواب بعد إنقضاء أيام الربيين ومغادرتهم الدنيا .
ثالثاً : مجئ مضاعفة الثواب بسبب إقتباس الناس من سيرة الربيين والإستضاءة بسيرتهم الجهادية وإتباع نهجهم .
رابعاً : مضاعفة الثواب من عند الله للربيين في أيام حياتهم وبعدها فضلاً من الله .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية السياق ودلالات آية البحث لذا تفضل الله عز وجل وأضاف الثواب إلى الدنيا لإرادة الإطلاق في أيامها بقوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] ففي كل يوم من أيام الدنيا يأتي للربيين ثواب ، ومنه تلاوة المسلمين لآيات الربيين الثلاثة المتعاقبة وآخرها آية السياق ، قال سبحانه [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( ).
ليكون من الشأن المتجدد الذي تذكره الآية أعلاه مضاعفة ثواب الربيين.
(عن أبي الدرداء: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله { كل يوم هو في شأن } قال : من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين)( ) .
وهذا الثواب من الشواهد على ولاية الله للمسلمين ونصرته لهم من جهات :
الأولى : من مصاديق ولاية الله إنتفاع المؤمنين من الأمم السابقة وتوارث منهاج المسلمين في الصالحات .
الثانية :تجدد فيوضات الولاية على المسلمين كل يوم , وهو من الرزق الكرم
الثالثة : من أسرار نزول القرآن إنتفاع الأنبياء السابقين وأصحابهم من آياته وذخائره من وجوه :
الأول : الذكر الحسن .
الثاني : التوفيق لجهاد الأنبياء وإتباعهم في سبيل الله .
الثالث : ذكر شطر منهم بالاسم والذات .
الرابع : بيان الأذى الذي لاقاه الأنبياء وأصحابهم من المشركين .
الخامس : المنع من تحريف ذكرهم في الكتب السماوية السابقة .
السادس : من ولاية الله للمسلمين في المقام إقتباس دروس الصبر من سنن الأمم السابقة .
السابع : سلامة المسلمين من الجهالة والغفلة ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).
فمن ثواب الربيين في حياتهم بلحاظ الحديث أعلاه وجوه :
الأول : غفران ذنوب الربيين .
الثاني : إزاحة الهم والغم عن نفوس الربيين ودفع الحزن والحسرة عنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
ولم يرد لفظ [وَهَنُوا]في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وفيه تأكيد لإمتثال المسلمين لقوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( )وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : لم يهن الربيون لما أصابهم في سبيل الله .
الصغرى : المسلمون بذات مرتبة الربيين وأفضل منهم لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
النتيجة : لم ولن يهن المسلمون لما أصابهم في سبيل الله , وهو من ولاية ونصرته لهم من جهات :
الأولى : هداية المسلمين إلى الصبر وإدراك لزوم المرابطة إقتباساً من مؤمني الأمم السابقة .
الثانية : تفقه المسلمين وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية .
الثالثة : تحلي المسلمين بالمنعة وقوة الشوكة عند لقاء الذين كفروا ، فقد حذرت الآية السابقة من طاعتهم ، أما هذه الآية فجاءت بملاقاتهم بحسن التوكل على الله والثبات على الإيمان والإستعانة بالله لتحقيق النصر، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ) أي نستعين بالله للفوز بالولاية والنصرة .
الثالث : إرتقاء الربيين في سلم الفقاهة ، وبلوغهم مراتب الرفعة والعز بين الناس لأنهم صدّقوا بالمعجزات النبوية وحاربوا الكفار الظالمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينََّ] ( ).
الرابع : تدني مرتبة وشأن الكافرين الذين يحاربون الأنبياء والربيين .
أما الثواب الذي يأتي الربيين بعد إنقضاء أيامهم بلحاظ حديث أبي الدرداء أعلاه يرفعه ، فهو على وجوه :
الأول : غفران الذنوب وصيرورتها حسنات بفضل من الله .
الثاني : إدخال السكينة إلى الربيين في قبورهم .
الثالث : علو شأن الربيين بين الناس ، وهو الذي تجلى بهذه الآيات التي تذكرهم بمعاني الثناء ، فيتلقاها المسلمون بالقبول والثناء ، ولولا فضل الله بتسميتهم الربيين لما أطلقت هذه التسمية على طائفة من الناس ، فقد وردت تسمية أصحاب عيسى بالحواريين .
الرابع : حفظ الربيين في ذراريهم وصلاح أبنائهم وتوارثهم البشارة بنبوة محمد صلى عليه وآله وسلم , ومبادرتهم لدخول الإسلام عند إطلالة بعثته بالفيوضات والبراهين , وقد دخل فريق من أهل الكتاب ومن ذراري الأنبياء في الإسلام .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين آية البحث والسياق بل الله مولاهم فآتاههم حسن ثواب الآخرة ، وفيه وجوه :
الأول : دلالة مجئ الآية بصيغة الفعل الماضي ( فآتاهم )على بدايات حلول ثواب الآخرة بخصوص الربيين، ولنعم التذكير بالآخرة إذا تضمن ذكر الثواب وما يبعث للطمأنية والغبطة في النفوس[قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ]( ).
الثاني : الإخبار عن المشيئة الإلهية بالثواب العظيم للربيين يوم القيامة .
الثالث : صيرورة قبور الربيين روضة من رياض الجنة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية السياق وعمومات ولاية الله ، قال تعالى [وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ] ( )أي حافظهم وناصرهم سواء المتقدم منهم زماناً أو المتأخر.
وجاءت آية السياق لبيان مصاديق الولاية بالجزاء بالثواب للربيين , وهو على أقسام .
الأول : ثواب الدنيا .
الثاني : ثواب الآخرة .
الثالث : إتصاف ثواب الآخرة بالحسن والأحسن لبيان عدم إنقطاع ثواب الربيين في الآخرة ، ومنه إنتفاء الخوف والحزن عنهم في مواطن الحساب وشدة أهوال يوم القيامة .
لقد أخبر الله عز وجل بأنه مولى المؤمنين , فبينت آية السياق عدم إنحصار هذه الولاية بالمسلمين أو زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل هي متقدمة زماناً ، ومصاحبة لوجود الإنسان في الأرض ، ومن الإعجاز في المقام أن إبتداء الوجود الإنساني على الأرض بالنبوة والوحي، فآدم عليه السلام أبو البشر نبي.
عن أبي أمامة الباهلي، أن رجلاً قال : يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال : نعم . مكلم . قال : كم بينه وبين نوح؟ قال : عشرة قرون قال : كم بين نوح وبين ابراهيم؟ قال : عشرة قرون قال : يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً . قال : يا رسول الله كم كانت الرسل من ذلك.
قال : ثلثمائة وخمسة عشر . جماً غفيراً) ( ).
والأنبياء قادة الأولياء والأسوة الحسنة لهم ، وبينت هذه الآيات أن الربيين لم ينالوا هذه التسمية الشريفة إلا بايمانهم بالنبوة وقتالهم مع الأنبياء مما يدل بالدلالة التضمنية على أن منزلة الأنبياء أعلى وأسمى من مرتبة الربيين , ومع هذا فقد تفضل الله على الربيين بحسن ثواب الآخرة لأن عطاءه وجزاءه غير محدود ، وقد ورد في ثواب أهل الجنة قوله تعالى [عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ] ( )أي متصل غير مقطوع .
ويبعث الجمع بين الآيتين الحسرة في قلوب الذين كفروا ، ويفيد بأن ولاية الله خير محض ورزق كريم دائم في النشأتين وقد حرم الكفار أنفسهم من هذه النعمة العظيمة لإختيارهم الكفر ، وتركهم الأسباب وصلات العبودية والرق والخضوع والخشوع إلى الله والذي يجلب ولايته.
وتبين هذه الآيات صدق جهاد الربيين وإستحقاقهم للثواب بفضل من الله ، ومنه قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ( )ففي الآية مسائل :
الأولى : تسليم الربيين بأن الذي يقاتلون معه نبي من عند الله تجب نصرته، وفيه تأكيد لإنتفاء الخلاف والخصومة بينهم، وإنعدام التنافس على الأمرة والرياسة إذ يصدر الجميع عن النبي ويطيعون أوامره , وهذه الطاعة مناسبة لاجتهادهم بطاعة الله، والتفقه في الدين، وهو من أسرار بعثة الأنبياء من عند الله سبحانه .
الثانية : يدل قوله تعالى [قَاتَلَ مَعَهُ] أي قاتلوا معه بصفته نبياً وليس لأغراض الدنيا ، وأنهم يلتقون معه في الغايات الحميدة وصدق نية الجهاد في سبيل الله .
وفي حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من غزا وهو لا ينوي إلاّ عقالاً فله ما نوى، وقال: إني استعنت رجلاً يغزو معي، فقال: لا حتى تجعل لي جعلاً: فجعلت له.
فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ليس له من ديناه وآخرته إلا ما جعلت له) ( ).
الثالثة : قاتل الربيون مع النبي للفوز بولاية الله ، فهو سبحانه ولي الذين ينصرون الأنبياء .
الرابعة : تقدير الآية على وجوه :
الأول : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير لدفع المشركين عنه .
الثاني : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير لسلامته وإستدامة نزول الوحي عليه .
الثالث : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير لتعاهد البشارة ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير لمنع الفتنة وشيوع الرذيلة ومفاهيم الكفر ، قال تعالى [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] ( ).
الخامس : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ليفوزوا بالثواب من عند الله فرزقهم الله الغبطة والنعم في الدنيا والآخرة .
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله جعل مائدة عليها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، لا يقعد عليها إلا الصائمون) ( ).
فلم يعلم أصحاب الأنبياء أن الله عز وجل ينعم عليهم باسم منسوب إليه وينفردون به إلى يوم القيامة ، فمع أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فان اسم الربيين إختص به أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم، وفيه مسائل :
الأولى : بيان أن صحبة الأنبياء نعمة عظيمة لم تتجدد ، فاذا غادر أحد الأنبياء الدنيا يغلق باب صحبته ولكن باب الإيمان بنبوته يبقى مفتوحاً إلى يوم القيامة ، ليفوز به المسلمون بالثواب ، قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ]( ).
الثانية : تأكيد قانون وهو أن الله عز وجل واسع كريم ينعم بالأسماء والمسميات من فضله، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
الثالثة : بعث المسلمين لنيل مرتبة الربيين، وصحبة الأنبياء باتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه وجوه :
أولاً : إختصاص نيل مرتبة الربيين بأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً : إرادة العموم، وأن المسلمين بأجيالهم المتعاقبة مؤهلون لنيل هذه المرتبة.
ثالثاً : إرادة قيد القتال مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو تحت لوائه أو أمره.
رابعاً : لاينال المسلم رتبة الربيين، إلا أن يقاتل في سبيل الله ,قال تعالى[لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ]( ).
والمختار هو الثاني أعلاه وهو من ذخائر فضل الله على المسلمين وبلوغهم مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ولتكون نعمة تسمية الربيين متجددة في الأرض بلطف وتخفيف ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعاهد المسلمين للفرائض العبادية التي هي جهاد مع النفس، وتثبيت لأركان التوحيد في الأرض , وصبر في مرضاة الله عز وجل، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
السادس : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير طاعة لله ومنعاً للفساد والقتل بغير حق .
وعندما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض لأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء رد عليهم الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، فالتجأوا إلى التسبيح والتقديس لمقام الربوبية لأنهم يعلمون أن مصاديق علم الله والحكمة في جعل الإنسان خليفة في الأرض تتجلى كل ساعة، ومنها قتال الربيين مع الأنبياء طاعة له سبحانه .
وتفضل الله باثابتهم في الدنيا والآخرة , وكل فرد من الثواب مادة وموضوع لقول الملائكة [قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
وكذا تسبيح الملائكة لله سبحانه عندما ترى أفراد الثواب تترى على الربيين وهذه الأفراد من اللامتناهي لذا فان تسبيح الملائكة من اللامتناهي ، وهو من أسرار مجئ اسم الحكيم في الآية أعلاه على لسان الملائكة لأن تغشي الأرض بتسبيح المؤمنين , والسماء بتسبيح الملائكة من حكمة الله عز وجل .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : بل الله مولاكم والله يحب المحسنين ) وفيه وجوه :
الأول : إجتمعت في الآيتين ولاية الله للمسلمين وحبه للمحسنين .
وتحتمل النسبة في المقام وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي بين حب الله وولايته ، فالذين يحبهم الله هم الذين يكون الله ولياً لهم .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين :
الأولى : ولاية الله أعم من حبه تعالى فالذي يتولاه الله يحبه سبحانه دون العكس أي ليس كل الذين يحبهم الله هو وليهم .
الثانية : حب الله أعم من الولاية , فكل الذين يتولاهم الله سبحانه يحبهم، ولكن ليس كل الذين يحبهم الله أولياوء .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بين الولاية والحب وأخرى للإفتراق.
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني ، لبيان منزلة وشأن المسلمين عند الله وبين الخلائق ، ولأن ولاية الله تجلب حب الخلائق وودهم [الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
وجاءت الآية أعلاه بحرف السين للمستقبل القريب (سيجعل) وتحتمل الصلة بينه وبين قوله تعالى(فآتاهم) وجوهاً:
الأول : إرادة التساوي في تأخر المودة في الآية أعلاه، والثواب في آية السياق.
الثاني : لا ملازمة بين الود في الآية أعلاه والثواب في آية السياق من حيث تعقب الإيمان والعمل الصالح.
الثالث : لا دليل على إرادة التأخر والإبطاء من السين في قوله تعالى[سَيَجْعَلُ].
والصحيح هو الثاني ، فمن الإعجاز في نظم القرآن ورود الفاء في (فأتاهم) لبيان عدم تأخر الجزاء عن فعل الصالحات والثواب بين الله عز وجل والعبد، أما الود فانه نوع إنفعال لأن فيه أطرافاً وهي:
الأول : الذي يكتسب مرتبة المودة ، ويكون محبوباً عند الناس.
الثاني : الود والمحبة.
الثالث : الذين يودون المؤمن , ويكفي في إرادة معنى المستقبل من السين في (سيجعل) المسمى وصرف الطبيعة.
ليكون شمول المسلمين في الآية أعلاه من الإعجاز فيها إذ يكون على نحو دفعي وتدريجي بلحاظ نزول فضل الله، وإشاعتهم فعل الصالحات، و( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أحب الله عبداً ، نادى جبريل : إني قد أحببت فلاناً ، فأحبه . فينادي في السماء ، ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض ، فذلك قول اللهإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا.
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : والله يحب المحسنين وهو خير الناصرين , وفيه وجوه :
الأول : ترى هل تعلم الملائكة حينما إحتجت على خلافة الإنسان في الأرض أن الله عز وجل يحب المحسنين وأنه خير الناصرين , فيه وجوه :
الأول : تعلم الملائكة أن الله عز وجل يحيط المؤمنين في الأرض بلطفه وحبه وإحسانه فلا يضرهم الفعل القبيح للمفسدين .
الثاني : يعلم الملائكة أن الله عز وجل ينصر المؤمنين في حربهم لإستئصال الفساد في الأرض .
الثالث : لا يعلم الملائكة بالمدد الإلهي ونزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورجحان كفة المؤمنين في القتال ،وقطع دابر الكافرين .
الرابع : يعلم الملائكة بأن الله عز وجل يحب المحسنين ،وينصر المؤمنين ولكن هذا العلم على نحو الموجبة الجزئية .
الخامس : يعلم الملائكة حب الله سبحانه للمحسنين ونصرته للمؤمنين ، ولكنهم لم يحيطوا بالمصاديق والأفراد غير المتناهية لكل أفراد هذا الحب والنصرة .
والصحيح هو الأول والثاني والخامس ، فمن الإعجاز في المقام أن الله عز وجل أبلغ الملائكة بصيرورة الإنسان خليفة في الأرض مما يدل بالدلالة التضمنية على عناية ولطف الله به .
وأما بالنسبة للخامس أعلاه فان الله عز وجل قال [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )ومن مصاديق علم الله في المقام ما يستحدث من معاني حب الله للمسلمين عامة وللربيين وأسباب المدد والعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنه أمر الله عز وجل للملائكة بالنزول لنصرتهم يوم بدر وأحد والخندق ليتولى الملائكة بأنفسهم الإنتقام من المفسدين .
الثاني : من منافع الجمع بين الآيتين ترغيب الناس بالإسلام وتأكيد قبح الإقامة على الكفر والضلالة ، فدخول الإسلام خير محض وهو من الإحسان من وجوه :
أولاً : الإحسان إلى الذات والنجاة من براثن الضلالة وأوزار المعاصي .
ثانياً : دخول الإسلام إحسان للذرية بلحاظ التبعية والإلحاق ووراثتهم الإنتساب للإسلام ، وهذا الإحسان من عمومات السؤال عن الأرحام في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ] ( )بتقريب إرادة السؤال عما ترك الإنسان لأبنائه من سنن الإيمان والتقوى .
ثالثاً : يحسن الذي يدخل الإسلام إلى المسلمين الذين سبقوه في الإسلام من جهات :
الأولى : الشهادة العملية بأن المسلمين على حق بحسن الإختيار .
الثانية : حث المسلمين على تعاهد سنن الإيمان .
الثالثة : تلقي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المسلمين ،وهل تعلّم أداء الفرائض وكيفيتها وأوقاتها من الأمر بالمعروف أم أنه خارج بالتخصيص عنه .
الجواب هو الأول ، ليكون دخول الإنسان الإسلام باباً لفوزه والمسلمين بالثواب العظيم ، وليلحقوا بالربيين كما في آية السياق [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ]( ).
الرابعة : تقوية الإسلام ، وزيادة منعة المسلمين ، وكل فرد يدخل الإسلام هو مدد وعون ونماء .
رابعاً : يحسن الذي يدخل الإسلام إلى الذين كفروا لأن دخوله هذا حجة عليهم , ودعوة لهم للإسلام , وبيان فعلي بأن الكفر والإقامة عليه أمر قبيح ومجلبة للخزي .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: إذا مات المؤمن شيعه سبعون ألف ملك إلى قبره، فإذا ادخل قبره أتاه منكر ونكير فيقعدانه. ويقولان له: من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟
فيقول : ربي الله، ومحمد نبيي، والاسلام ديني، فيفسحان له في قبره مد بصره، ويأتيانه بالطعام من الجنة، ويدخلان عليه الروح والريحان.
وذلك قوله عز وجل: ” فأما إن كان من المقربين فروح وريحان ” يعني في قبره ” وجنة نعيم ” يعني في الآخرة ) ( ).
الثالث : بيان نصرة الله للأنبياء ولطفه بالمؤمنين ، ويمكن تسمية الدنيا بلحاظ الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : الدنيا دار الولاية المطلقة ،وفيها أطراف :
أولاً : الولي والناصر .
ثانياً : المولى والمنصور والجهة التي تصدر إليها الولاية .
ثالثاً : موضوع الولاية .
رابعاً : أفراد ومصاديق الولاية
الثاني : الدنيا دار الثواب والجزاء على الصالحات لقوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا]الذي يدل بالدلالة التضمنية أن للدنيا ثواباً كأغصان الشجرة المتدلية التي يستطيع إنسان أن ينالها ويأكل من ثمرها ويتقوى بها على عبادة الله وتكون مقدمة لثواب الآخرة ، وقد فاز الربيون بهذه النعمة .
ومن الإعجاز في آية السياق أمور :
أولاً : ذكر ثواب الدنيا .
ثانياً : بيان حسن ثواب الآخرة .
ثالثاً : إجتماع ثواب الدنيا والآخرة لذات الطائفة من الناس وهم أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم القوم الكافرين ، وهو من ولاية الله عز وجل ونصرته لهم في النشأتين ، قال تعالى [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ] ( ) .
ويدفع هذا الجمع الظن بان الثواب خاص بعالم الآخرة وكيلا يقول بعضهم أن المراد من ثواب الدنيا ما يكون في الآخرة على عمل الصالحات في الدنيا إذ تبين الآية التعدد والتغاير بين ثواب الدنيا وثواب الآخرة .
الثالث : الحياة الدنيا مزرعة لعالم الجزاء ، ومقدمة لحسن الثواب في الآخرة ودوامه , وفيها ترغيب بالسعي في الصالحات في الدنيا بقصد إتخاذها ذخيرة ومتاعاً في الآخرة [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
وعن محمد بن كعب القرظي قال: قال : لمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة : عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمر بن عمير، عندهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله تعالى وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه. فقال أحدهم، هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله تعالى أرسلك .
وقال الآخر : أما وجد الله أحد يرسله غيرك؟ وقال الثالث : والله لا أُكلّمك كلمة أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أُكلّمك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم : إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموه. وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه فيديرهم عليه ذلك، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم، وعبيدهم يسبّونه، ويصيحون به، حتّى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة.
وشيبة ابني ربيعة، هما فيه، ورجع عنه سفهاء ثقيف.
ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة من بني جمح،
فقال لها : ماذا لقينا من أحمائك، فلمّا اطمئن رسول الله،
قال : اللَّهم إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدوَ ملّكته أمري. إن لم يكن بك عليَّ غضب، فلا أُبالي، ولكن عافيتك هي أوسع، وأعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، ويحلّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، لا حول، ولا قوّة إلاّ بك.
فلمّا رأى أبناء ربيعة ما لقي تحرّكت له رحمهما، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً، يقال له : عداس. فقالا له : خذ قطفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثمّ اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس ثمّ أقبل به حتّى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا وضع رسول الله يده، قال : بسم الله. ثمّ أكل، فنظر عداس إلى وجهه، ثمّ قال : والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. قال له رسول الله : ومن أي أهل البلاد أنت يا عداس، وما دينك، قال : أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى. فقال له رسول الله : من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى.
قال له : وما يدريك ما يونس بن متّى ،قال له رسول الله : ذاك أخي.
كان نبيّاً وأنا نبيّ. فأكبّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبّل رأسه، ويديه، ورجليه.
قال : فيقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه، أما غلامك فقد أفسده عليك. فلمّا جاءهم عداس، قالا له : ويلك يا عداس ما لكَ تقبّل رأس هذا الرجل، ويديه، ورجليه.
قال : يا سيّدي ما في الأرض خيرٌ من هذا،
لقد خبّرني بأمر ما يعلمه إلاّ نبي. فقال : ويحك يا عداس لا يصرفنّك عن دينك، فإنّ دينك خيرٌ من دينه. ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكّة حتّى يئس من خير ثقيف، حتّى إذا كان بنخلة، قام من جوف الليل يصلّي، فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين اليمن، وكان سبب ذلك أنّ الجنّ كانت تسترق السمع، فلمّا حرست السماء ورجموا بالشهب. قال إبليس : إنّ هذا الذي حدث في السماء لشيء في الأرض،
فبعث سراياه لتعرف الخبر، فكان أوّل بعث بُعث ركب من أهل نصيبين وهم أشراف الجنّ وساداتهم، فبعثهم إلى تهامة، فاندفعوا حتّى بلغوا وادي نخلة، فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه يصلّي صلاة الغداة، ببطن نخلة ويتلو القرآن، فاستمعوا إليه، وقالوا: أنصتوا. هذا معنى قول سعيد بن جبير وجماعة من أئمّة الخبر.
ورواية العوفي عن ابن عباس، وقال آخرون : بل أُمر رسول الله أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى، ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفراً من الجنّ من نينوى وجمعهم له.
فقال رسول الله : إنّي أُمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة فأيّكم يتبعني؟
فأطرقوا ثمّ استتبعهم فأطرقوا، ثمّ استتبعهم الثالثة، فاتبعه عبدالله بن مسعود.
قال عبد الله : ولم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتّى إذا كنّا بأعلى مكّة دخل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له : شعب الحجون وخط إليَّ خطّاً، ثمّ أمرني أن أجلس فيه. قال : لا تخرج منه حتّى أعود إليك. ثمّ انطلق حتّى قام وافتتح القرآن فجعلت أرى أمثال النسور تهوي تمشي في رفوفها، وسمعت لغطاً شديداً، حتّى خفت على نبي الله، وغشيته أسورة كثيرة حالت بيني وبينه، حتّى ما أسمع صوته، ثمّ طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب داهنين، ففزغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، ثمّ انطلق إليَّ، وقال : أنمت، فقلت : لا والله لقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتّى سمعتك تقرعهم بعصاك. تقول : اجلسوا.
قال : لو خرجت لم آمن أن يتخطّفك بعضهم.
ثمّ قال : هل رأيت شيئاً،قلت : نعم رأيت رجالاً سوداً مسفري ثياب بيض. فقال : أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع والمتاع الزاد «فمتعتهم بكلّ عظم حائل وبعرة وروثة.
فقالوا : يا رسول الله يقذرها الناس علينا. فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُستنجى بالعظم والروث. قال : فقلت : يا رسول الله وما يعني ذلك عنهم، قال : إنّهم لا يجدون عظماً إلاّ وجدوا عليه لحمة يوم أُكل، ولا روثة إلاّ وجدوا فيها حبّها يوم أُكلت.
فقلت : يا رسول الله، لغطاً شديداً. فقال : إنّ الجنّ يدارك في قتيل قتل بينهم وقيل : قتل فتحاكموا إليَّ، فقضيت بينهم بالحقّ. قال : ثمّ تبرّز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ أتاني فقال : هل معك ماء، قلت : يا رسول الله معي أداوة فيها شيء من نبيذ التمر، فاستدعاه فصببت على يديه فتوضّأ.
وقال : تمرة طيبة وماء طهور، قال قتادة : فذكر لنا ابن مسعود لمّا قدم الكوفة رأى شيوخاً شمُطاً من الزط، فأفزعوه حين رآهم. وقال : اظهروا. فقيل له : إنّ هؤلاء قوم من الزط، فقال : ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الجنّ( ).
من معاني [الفاء] في [فَأَتَاهُمْ]
إبتدأت آية السياق بحرف الفاء لإفادة التعقيب , وعدم تخلف الثواب عن جهاد ودعاء الربيين كما تقول : رأيت هلال شهر رمضان فصمت) أي ليس من فترة ومدة بين رؤية الهلال ويوم الصيام لقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) لبيان قانون تعقب الثواب للعمل الصالح ، وعدم تأخره عنه لتكون الدنيا دار الثواب وقضاء حوائج المؤمنين .
ولو إبتدأت الآية بحرف العطف الواو لأحتمل تأخر الثواب عن جهادهم وعملهم ،وقد تقدم أن الفاء في آية السياق تفيد العطف والإستئناف والتعقيب والسببية( ) .
وهنا نذكر تحدياً آخر تتضمنه آية السياق وهو أن وظيفة (الفاء) لا تنحصر بالفعل بين التالي والسابق فلا يلازمها قانون ما بعدها يأتي بعد الفرد المذكور قبلها فقد يتداخل الأمران ويتحدان زماناً أو مكاناً أو موضوعاً أو حكماً بحسب الحال إذا كان المعطوف عليه وما قبل الفاء متعدداً كما في آيات الربيين هذه ، نعم لابد من مسمى وصرف الطبيعة لتقدم ما قبلها ويحتمل المسمى هنا أموراً :
الأول : إيمان الربيين ، فهو السبب الإبتدائي للثواب .
الثاني : قتال الربيين مع الأنبياء .
الثالث : صبر الربيين في طاعة الله .
ويكون تقدير آيات الربيين على وجوه :
الأول : وكأين من نبي قاتل معه ربيون فآتاهم الله ثواب الدنيا فما وهنوا لما أصابهم ) أي أن عدم الوهن من ثواب الدنيا وإن ذكرته هذه الآيات بلحاظ أنه عمل جهادي وصبر للربيين في مرضاة الله .
الثاني : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فأتاهم الله ثواب الدنيا فما ضعفوا ) فعدم الضعف الذي يتصف به الربيين هو من ثواب الدنيا الذي رزقهم الله .
الثالث : وكأين من نبي قاتل معه ربيون فآتاهم الله ثواب الدنيا وما استكانوا ) أي أن عدم الذلة والهوان في لقاء الكافرين هو نعمة وثواب عظيم من عند الله .
الرابع : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فآتاهم الله ثواب الدنيا والله يحب الصابرين ، أي يرزقهم الله عز وجل مراتب الصبر ففازوا بمحبته ونزول شآبيب رحمته ، قال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ] ( ).
وقد إتصف الربيون بالجهاد والتحلي بالصبر في سبيل الله وأخبرت الآيات عن إنقطاعهم إلى الإستغفار والدعاء فنالوا أسمى المراتب .
الخامس : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فآتاهم الله ثواب الدنيا ما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ).
أي أن الثواب الذي فاز به الربيون على قتالهم مع الأنبياء هو التوجه إلى الله بالدعاء وسؤال العفو والمغفرة ، وهو لا يتعارض مع نظم الآيات , وذكر آية [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ]وآية [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ]خصال الربيين , ثم مجئ آية [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ]بعدهما إذ تتداخل أسباب الثواب ومنها ما يكون مرة سبباً للثواب ، وأخرى يكون مسبباً لذات السبب ، ولا تنخرم هذه القاعدة بوجوب تقدم أحدهما على الآخر لجهات :
الأولى: موضوعية النية في الفعل العبادي وترتب الثواب عليها (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما يبعث المقتتلون على النيات ) ( ).( وروينا في الإسرائيليات أنّ رجلاً مرّ بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه: لو كان لي هذا الرمل طعامًا لقسمته بين الناس، قال: فأوحى اللّه تعالى إلى نبيّهم أن قل له: إنّ اللّه تعالى قد قبل صدقتك , وقد شكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به) ( ).
الثانية : إنتفاء الدور في أسباب الفضل الإلهي .
الثالثة : موضوعية الإيمان بلقلب والجنان , وصيرورة ثوابه سبباً لأفعال عبادية متكثرة ، لكل فرد منها ثواب مخصوص .
الرابعة : إجتماع عدة أفعال عبادية ليكون ثوابها فعلاً عبادياً آخر سواء من ذات الجنس أو غيره .
ويصح الجمع في هذه الآيات على وجوه :
الأول : وكأين من نبي معه ربيون كثير فآتاهم الله ثواب الدنيا ما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، أي جاءهم الثواب على صحبتهم للأنبياء فان قلت الصحبة أعم ، وقد لا تكون صفة إيمانية كما في قوله تعالى في يوسف عليه السلام [يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ] ( ) .
والجواب وردت القرينة المكانية في الآية أعلاه وأن السجن هو الجامع وكان الموضوع سؤالاً عن رؤيا ، أما آيات البحث فقد ذكرت أن الصحبة ذات صبغة إيمانية مع الأنبياء , ليترتب الثواب على أمور :
أولاً : التصديق بالأنبياء .
ثانياً : صحبة الأنبياء .
ثالثاً : القتال مع الأنبياء .
وهل يمكن القول أن صحبة الأنبياء ثواب للتصديق بهم , وأن القتال معهم ثواب لصحبتهم الجواب نعم ، وتلك آية في مصاديق الثواب في آية السياق ، وأن متعلق وسبب الثواب في قوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا]على وجوه :
الأول : إيمان الربيين بالله إلهاً واحداً ، وهو المستقرأ من قتالهم مع النبي بصبغة النبوة .
الثاني : سلامة الربيين من الغلو بالأنبياء , وعدم نسبتهم إلى الربيين ، وفيه حجة على الذراري والتابعين من أهل ملتهم أو غيرهم الذين غالوا بالأنبياء .
عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِى الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِى الدِّينِ) ( ).
الثالث : الإيمان بالأنبياء ، والتصديق بالمعجزة التي جاء بها نبي الزمان ، وفيه ثواب عظيم بالذات والأثر لأنه دعوة للناس الموجود والمعدوم بالتصديق بالنبوة والإقرار بالمعجزة .
الرابع : قتال الربيين مع الأنبياء والذي يدل بالدلالة التضمنية على تعدي الكفار ، وشدة بأسهم وامتناعهم بالسيف عن التصديق بالنبوة , وهذا الإمتناع من مصاديق وقول الملائكة لجعل خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ) فلم يجحد الملائكة خلافة الإنسان في الأرض ، إنما أنكروا حرب الكفار على الأنبياء ، وأرادوا أن يؤمن الناس جميعاً بالله ويصدقوا بالأنبياء , ويكون من معاني [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ] في الآية أعلاه على وجوه :
أولاً : ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك لصيرورة الناس كلهم مؤمنين .
ثانياً : ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك لنصرة الأنبياء والربيين .
ثالثاً : ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين .
ويبين قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ) تجدد القتال بين الأنبياء والربيين من جهة وبين الكفار , وتدل كثرة الأصحاب الذين يقاتلون مع كل نبي على كثرة الكفار في كل زمان .
ويتجلى هذا الأمر جلياً في بدايات الدعوة الإسلامية فكان النبي وأصحابه في مكة المكرمة قلة قليلة أزاء كثرة الكفار وإستحواذهم على أموال التجارة والجاه والقرار وتأليب القبائل من حول مكة ، ومن إعجاز القرآن في المقام مسائل :
الأولى : تسمية مكة (أم القرى ) .
الثانية : ورود هذه التسمية في القرآن مرتين ، وإرادة مكة على نحو الخصوص .
الثالثة : ذكر من حول مكة في كل مرة تذكر بها باسم أم القرى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).وتقييد هذا الذكر بأنه في الإنذار بالتنزيل .
الرابعة : إتحاد موضوع آيتي [أم القرى ] بإرادة التبليغ والإنذار بالقرآن ، ومن معاني تسمية مكة أم القرى وإقتران ذكر الذين من حولها معها أمور :
أولاً : إنذار القبائل من نصرة كفار قريش .
ثانياً : إن فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمكة طريق لدخول القبائل من حولها في الإسلام , وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
ثالثاً : إزالة عبادة الأصنام ، لتكون مناسبة للتنزه عن الجهالة ووسيلة لجذب الناس إلى الإيمان (جابر بن عبد الله قال : دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة ولكل قوم صنم يعبدونه ، فنجعل يأتيها صنماً صنماً ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره ، كلما صرع صنماً أتبعه الناس ضرباً بالفؤوس حتى يكسرونه ويطرحونه خارجاً من المسجد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم })( ).
واستمرت ذات النسبة في قلة المسلمين مقابل كثرة الكفار في معارك الإسلام الأولى بدر ، وأحد ، والخندق لذا قاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصيب الكفار الوهن والضعف والتشتت لأن القرآن , وما ينزل من سوره وآياته مدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوة الناس للإسلام والتخلي عن رؤوس الكفر والضلالة (عن قتادة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة ، قاتل في ثمان : يوم بدر ، ويوم أحد ، ويوم الأحزاب ، ويوم قديد ، ويوم خيبر ، ويوم فتح مكة ، ويوم ماء لبني المصطلق ، ويوم حنين) ( ).
الخامس : إصلاح الربيين بالقوة والقدرة الشخصية والعامة لقتال الربيين فقد جاء قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ( ) لبيان مسائل من ولاية الله للربيين ونصرته له من وجوه :
الأولى : صيرورة الإيمان عزيمة وإقدام في القتال .
الثانية : تهيئة العدة والمؤون بولاية الله وهداية من عنده سبحانه ، فان قلت , قال الله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ) مما يدل على تفويض الأمر للمسلمين ووجوب سعيهم لتهيئة مستلزمات القتال , والجواب من ولاية الله في المقام أمور :
أولاً : نزول الآية أعلاه .
ثانياً : بيان دلالات وأثر تهيئة مقدمات القتال .
ثالثاً : إرشاد المسلمين للإستعداد للقتال .
رابعاً : إيجاد أسباب بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا.
خامساً : تتضمن الآية أعلاه الوعد من عند الله بايجاد المسلمين لما يطلبونه من أسباب المنعة والعدة والمؤون , وهو من معاني الولاية وأسرار إقتران نصرة الله مع ولايته سبحانه في آية البحث والإخبار بقانون أن الله عز وجل خير الناصرين .
الثالثة : من ولاية الله رزق المؤمنين بغير حساب ومن حيث لا يحتسبون ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( ).
السادس : من خصائص الإنسان ظهور علامات الضعف والوهن عليه في حال الشدة والضراء ومداهمة الأخطار دفعة واحدة .
وعند ملاقاة العدو الأقوى والأكثر عدة وعدداً ، فتأتي ولاية الله للمؤمنين ليخرجوا من هذه القاعدة بالتخصص , فان قلت كيف يخرج المؤمنون عن هذه القاعدة التي هي من الإرادة التكوينية, والجواب إنما الضعف في أصل الخلقة وتأتي الولاية مدداً وهو من مصاديق التخفيف في قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
السابع : ورد الثناء على الربيين في قوله تعالى [وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا] ( )وفيه وجوه :
الأول : عدم ضعف أو استكانة الربيين للكفار بسعي وجهد خاص منهم .
الثاني : إختيار الربيين عدم الإستكانة والخضوع للعدو قهراً وإنطباقاً ، فلم يكن أمامهم إلا النصر أو الشهادة ، قال تعالى [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( ).
الثالث : ولاية الله للربيين هي علة عدم ذلهم ومسكنتهم أمام العدو الكافر .
والصحيح هو الثالث ، فتأتي الولاية من عند الله لتكون سبباً للثواب , ونيل مرتبة من التشريف في الاسم والمسمى مع موضوعية عزم وسعي الربيين وصبرهم وجهادهم ، لتكون الولاية سور الموجبة الكلية للخصال الحميدة التي يتصف الربيون .
الثامن : ولاية الله سبب لإيجاد اسم [ الربيين ] وهو أيضاً شاهد على الولاية بلحاظ النسبة إلى الرب , وهو الله عز وجل ، فلا يعلم أحد أن الله ينسب شطراً من المؤمنين إلى نفسه وحضرة الربوبية بالاسم مع تعيين هذه الطائفة بخصال كريمة , وحال تدل على إنقضاء زمانهم وهم أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم المشركين .
وهل يجوز تسمية أصحاب وأهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين قاتلوا معه بالربيين أم أنه خاص بأصحاب الأنبياء السابقين .
الجواب هو الأول ، وهو من الإعجاز في ورود قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]بصيغة التشبيه في الكاف [َكَأَيِّنْ].
الثامن : ورد قوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] خاتمة لآية الربيين ، وفيه بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : تحتمل النسبة بين حب الله للمؤمنين وولاية الله لهم وجوهاً :
الأول : التساوي فحب الله هو ذاته الولاية من عنده سبحانه .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين حب الله والولاية .
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهي على شعبتين :
الأولى : حب الله للعبد أعم من الولاية .
الثانية : ولاية الله للعبد أعم من حبه تعالى .
الرابع : التباين الموضوعي بين حب الله والولاية .
والمختار هو الثاني مع إضافة وهي ترتب حب الله على ولايته ، وكذا العكس بترتب ولايته على حبه من غير أن يلزم الدور بينهما ليفوز المؤمنون مجتمعين ومتفرقين بحب الله , والنعم التي تترشح عنه ، وولاية الله والتعضيد والنعم التي تتفرع عنها ، فان قلت هل يدل قوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ]بأن الصبر من الولاية فترشح عنها حب الله الجواب نعم , ليكون من اللطف الإلهي تقريب المسلم لأسباب الولاية .
الثانية : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فآتاهم الله ثواب الدنيا ) أي يترتب الثواب على نيل صفة الربيين ونسبتهم إلى الله عز وجل التي تدل على إخلاصهم وصدق إيمانهم (عن عمَارة بن خزيمة الأنصاري، أن عمه حدثه -وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتَعْه، وإلا بعتُه، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سمع نداء الأعرابي.
قال: “أو ليس قد ابتعته منك؟ ” قال الأعرابي: لا والله ما بعتك. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “بل قد ابتعته منك”.
فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأعرابي وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هَلُم شهيدًا يشهد أني بايعتك. فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك! إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقول إلا حقًا. حتى جاء خزَيْمة، فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومراجعة الأعرابي يقول هلم شهيدًا يشهد أني بايعتك.
قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: “بم تشهد؟” فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم شهادة خُزَيمة بشهادة رجلين.) ( ).
الثالث : وكأين من نبي قاتل معه كثير فآتاهم الله ثواب الدنيا )أي أن الثواب يأتي مع القتال مع النبي ،حتى وإن لم ينل العبد مرتبة الربيين ، وفيه نكتة وهي أن هذه المرتبة من ثواب القتال مع الأنبياء تكون سمة وعلامة خاصة لهم في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فلعدم ورود هذا الاسم إلا مرة واحدة في هذه الآيات ، وتلاوة المسلمين لها ، وأما في الآخرة فقد أكدت آية السياق ثوابهم وأنه الأحسن والأتم .
الرابع : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فآتاهم الله ثواب الدنيا أن قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا ) لبيان أن الهداية إلى الإستغفار من الثواب العظيم ويترشح عنه الثواب الجزيل (عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) ( ).
لقد أراد عز وجل أن يغفر للربيين ويتجاوز عن سيئاتهم فهداهم إلى الإستغفار وسؤال العفو عن الإسراف والتفريط في أمورهم للتذكير بحال صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الإسلام ، وعبادة شطر منهم الأوثان قبل دخول الإسلام، أو لتخلف بعضهم عن المبادرة إلى الإسلام .
ومنهم من كان يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، وأرسلت قريش إلى الحبشة تحرض على المؤمنين الذين هاجروا إليها , وما لبث أن صار بعضهم أميراً وقائداً في الكتائب والشواهد كثيرة ومتعددة .
الخامس : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فآتاهم الله ثواب الدنيا فقالوا ربنا ثبت أقدامنا ) من ولاية الله عز وجل للمؤمنين هدايتهم إلى الدعاء وسؤال العفو والمغفرة ، وتجلى بعدم إنشغال الربيين عنه مع أنهم يخوضون غمار القتال مع القوم الكافرين ، فأتخذوا الدعاء سلاحاً للنصر وصبروا في القتال مقدمة للإستجابة للدعاء من غير أن يلزم الدور بينهما .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في باب الدعاء والبيان العملي لمواطنه ، وقد إنقطع ليلة معركة بدر إلى الصلاة والدعاء , وعن علي عليه السلام (قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي تلك الليلة ليلة بدر ، ويقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد ، وأصابهم تلك الليلة مطر شديد ، فذلك قوله { ويثبت به الأقدام }( ).
السادس : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا فآتاهم الله ثواب الدنيا قالوا ربنا اغفر لنا إسرافنا في أمرنا ) .
أي أن إستحضار الربيين الإستغفار ولجوءهم إلى الدعاء باب للفوز بثواب الدنيا من عند الله ، وصار هذا الثواب سبباً لسؤالهم مغفرة الإسراف في الأمور ، بلحاظ أن هذا السؤال نعمة عظيمة والهداية إليه فضل من الله عز وجل ، ومن الصحابة من فاز باستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له (عن جابر بن عبد الله قال : استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة خمساً وعشرين مرة) ( ) .
وتجلت بركات هذا الإستغفار بأن مدّ الله في عمر جابر بن عبد الله ، وأخذ المسلمين جميعاً الحديث عنه يرفعه (وكان من المكثرين الحفاظ للسنن وكف بصره في آخر عمره وتوفى سنة أربع وسبعين وقيل سنة ثمان وسبعين , وقيل سنة سبع وسبعين بالمدينة) ( ).
السابع : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فآتاهم الله ثواب الدنيا قالوا ربنا أنصرنا على القوم الكافرين ) ويحتمل حال الربيين عند القتال والشروع فيه وجوهاً :
الأول : يعلم الربيون بنصرهم على القوم الكافرين بالأخبار والبشارات التي يذكرها لهم النبي الذي يقاتلون معه وبالوحي والأنباء التي وصلتهم عن الأنبياء السابقين .
الثاني : دخل الربيون إلى المعارك , وساروا إلى ميادين الوغى وتناجوا بالدفاع عن نبي الزمان والإسلام , وهم لا يعلمون بتحقق النصر .
الثالث : يعلم الربيون بالنصر على نحو الموجبة الجزئية أي في بعض المعارك دون جميعها .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وما تصل من الأخبار لا ترقى إلى درجة العلم واليقين , إنما هي بشارات ورجاء ، نعم تكون لها موضوعية بحسن التوكل على الله ، ورجاء فضله والدعاء لذا فمن الثواب الذي رزقه الله الربيين الإجتهاد بالدعاء بجلب النصر , قال تعالى [إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] ( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين مسائل :
الأولى : بيان شاهد على التأريخ , وهو أن قتال الربيين في سبيل الله .
الثانية : حسن توكل الربيين على الله عز وجل وتفويض أمورهم إليه .
الثالثة : سلامة الربيين من الغلو بالأنبياء أو الملائكة ، فلا ينسبون النصر ولا يرجونه إلا من عند الله .
وقد قاتلت الملائكة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه فما أفتتنوا بهم ، وعندما همّ ابن مسعود بقتل أبي جهل يوم بدر (سأله أبو جهل : من أين كان يأتينا الضرب ولا نرى الشخص، قال :مِن قِبَلِ الْمَلاَئِكَةِ فقال : هم غلبونا لا أنتم)( ).
الثامن : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فآتاهم الله حسن ثواب الآخرة) لقد ذكرت آية السياق نعمة ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة دفعة واحدة لا يفصل بينهما لبيان سعة فضله وأنه يجلب النعم العظيمة ، وهو لا يمنع من التفكيك بينهما في علم التفسير والبيان ، خاصة مع التباين بينهما من جهات :
الأولى : التباين الزماني فأيام الحياة الدنيا وعاء للثواب الدنيوي ، أما الثواب الأخروي فهو من علم الغيب ، نعم هذا التباين ليس مطلقاً إذ يتداخل فردا الثواب بعد موت الربيين بأن يكون لهم ثواب من وجوه :
الأول : مجئ الثواب الدنيوي للربيين في أيام الحياة الدنيا بعد مماتهم ، ومنها أيامنا هذه بتلاوة آيات البحث والثناء على الربيين وترشح الثواب على الربيين بإقتداء المسلمين بهم .
الثاني : مجئ الثواب للربيين في عالم البرزخ جزاءً لهم على حسن سمتهم وإخلاصهم في طاعة الله ، وإحياء المسلمين لذكرهم والإقتباس من سيرتهم .
الثالث : مضاعفة حسنات الربيين على نحو يومي متجدد وإلى يوم القيامة لتحضر وكأنها جبال من الحسنات تغبطهم عليها الخلائق بجهادهم وسعيهم ، وبتلاوة المسلمين لآيات الربيين وإتخاذها مدرسة في الفقاهة والدفاع .
الثانية : الفصل بين الثوابين في الآية بحرف العطف (الواو ) الذي يدل على التعدد والمغايرة ، وأن ثواب الآخرة وهو المعطوف غير ثواب الدنيا وهو المعطوف عليه .
الثالثة : الوصف الزائد في ثواب الآخرة وأنه حسن بالذات ، لتكون مصاديق الحسن في قوله تعالى [وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] من اللامتناهي من جهات :
الأولى : إن الله عز وجل هو مولى المؤمنين , وهو الذي يهبهم الأحسن من الثواب .
الثانية : تنجز ما يشتهي المؤمنون من الثواب في الآخرة ، قال تعالى [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ]( ).
ترى ما هي النسبة بين ثواب المؤمنين في الآخرة وبين ما يشتهون, الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالثواب أعم وأكبر وأكثر وهو من مصاديق الحسن في قوله تعالى [وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ].
الثالثة : من مصاديق الآخرة الخلود ،ووصفت آية السياق ثواب الآخرة بالحسن للدلالة على عدم إنقطاعه .
الرابعة : مجئ ثواب الآخرة فضلاً من عند الله وخالياً من شائبة الشك والريب والحسد ووسوسة الشيطان .
الخامسة : مضاعفة ثواب الآخرة على نحو متجدد .
السادسة : حال الأخوة والمودة بين أهل الجنان ، وإنتفاء الغضاضة والكدورة بينهم ، قال تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ] ( ).
السابعة : إتصاف نعيم الجنة بأنه أعظم وأكبر من التصور الذهني وما يطرأ على بال الإنسان (عن ابن سابط،
إنّ رجلاً قال : يارسول الله إنّي أحبُّ الخيل،
فهل في الجنة خيل؟
فقال : «إنّ يدخلك الله الجنّة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء تطير بك في أي الجنّة شئت،
إلاَّ ركبت.
فقال : إعرابي يا رسول الله إنّي أحبّ الإبل،
فهل في الجنّة إبل؟
فقال : يا إعرابي إن يدخلك الله الجنّة إن شاء الله. كان لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عيناك) ( ).
ويتكون لفظ [فَآتَاهُمْ] من :
الأول : حرف العطف الفاء .
الثاني : الفعل المضارع آتى.
الثالث : المفعول به وهو الضمير (هم) .
الرابع : دلالة مفهوم الكلمة على الفاعل ، ووفق الصناعة النحوية جاء الفاعل هنا متأخراً , إلا أنه لا يمنع من إستقرائه من ذات كلمة[فَآتَاهُمْ] التي تتضمن في دلالتها ومفهومها وجود فاعل ولا يقدر على هذه الإتيان إلا هو .
وتقدم المفعول به على الفاعل الذي هو اسم الجلالة لنظم الكلام العربي والبلاغة ، وفيه نكتة كلامية وهي أن الربيين وما آتاهم الله من ملكه سبحانه ، ومن ولايته لهم وللمسلمين .
ويمكن تأسيس قانون في آية البحث وهو : كل ذكر لموضوع ولاية الله للمؤمنين من الأمم السابقة يكون للمسلمين نصيب فيه ، أما ما يأتي من معاني الولاية للمسلمين في القرآن فقد يكون خاصاً بهم وقد يكون نصيب فيه للمؤمنين من الأمم السابقة بحسب الدليل والقرينة .
ومن معاني الفاء في آية السياق بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : البشارة للمسلمين بأن الله عز وجل يؤتيهم ما أتى الربيين من ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الثانية : الشهادة للمسلمين بأنهم من المحسنين ، ولم ينل المسلمون هذه المرتبة إلا بولاية الله (عن سفيان الثقفي أن رجلاً قال: يا رسول الله مرني بأمر في الإِسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك؟ قال: قل آمنت بالله ثم استقم قلت : فما اتقى؟ فأوما إلى لسانه) ( ).
الثالثة : في الفاء حث للمسلمين على النهل من مصاديق ولاية الله , وعدم التراخي في الصالحات وإكتساب الحسنات .
الرابعة : الفاء إرشاد وهداية للمسلمين من وجهين :
الأول : وجود ثواب في الدنيا على الصالحات .
الثاني : تعقب الثواب للعمل الصالح ، وهو من ولاية الله عز وجل للمسلمين ، ومن منافعه المواظبة على فعل الصالحات .
الخامسة : من منافع الفاء زيادة إيمان المسلمين لأن الله سبحانه يمنح الثواب الدنيوي والأخروي على الفعل العبادي المتحد ، فيعجل بالدنيوي ويرجأ الأخروي إلى حين أوان عالم الآخرة .
لقد أراد الله عز وجل أن تكون آيات الربيين هذه نبراساً وسبباً لزيادة هدى المسلمين ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا] ( ).
لقد كتب الله عز وجل لشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم البقاء في الأرض إلى يوم القيامة لتعمل بأحكامها [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ولتكون هذه دعوة للناس لدخول الإسلام من وجوه :
الأول : الحسن الذاتي لشرائع الإسلام ، وما في القرآن من أحكام الحلال والحرام .
الثاني : تقيد المسلمين بما في القرآن والسنة من الأحكام .
الثالث : ولاية الله للمسلمين لأنها علة النصر والغلبة والتوفيق للمسلمين ، قال تعالى [وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا]( ).
السادسة : تمنع الآية من الجدال والإختلاف بين المسلمين ، فلا يقول شطر منهم بأن الثواب خاص بالآخرة وأن الدنيا دار عمل وحده بل أنه عمل مقرون بالجزاء على الصالحات ويتصف العمل الذي يكون مع الولاية بخصائص :
الأولى : هذا العمل ثواب بذاته .
الثانية : إنه مسبب ومعلول الثواب .
الثالثة : إنه سبب لثواب مستحدث ، وهو من مصاديق فضل الله على المسلمين , ومادة لوحدتهم وتآلفهم ، قال تعالى [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] ( ).
السابعة :مجئ الفاء بدل الواو ونحوها من حروف العطف تأكيد لقانون في ولاية الله وهو تنجز الثواب من عند الله وعدم تأخره أو إبطائه ، وفيه دعوة للمسلمين لشكر الله تعالى على نعمة الفورية في الثواب وصيرورتها مادة في الجدال , وشاهداً حاضراً في الإحتجاج مع غير المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
الثامنة : الفاء في [فَأَتَاهُمْ] برزخ دون نزول الفشل واليأس بالمسلمين فما دام الثواب قريباً فان المسلم يبذل الوسع لنيله ويصبر للفوز به ، ويجتهد بالدعاء لتقريبه والإنتفاع الأمثل منه ، وهناك تباين وتناف بين الولاية والفشل ، لذا فان آية البحث بشارة الأمل والسلامة من اليأس والقنوط .
التاسعة : دعوة أهل الكتاب والدول العظمى آنذاك كدولة فارس والروم للإمتناع عن نصرة مشركي قريش ومن والاهم أو إرسال جيوش إلى الجزيرة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لأن الله ولي المسلمين وهو ناصرهم , ومن نصرته لهم حجب المدد عن عدوهم .
وأخرج(عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية { وتعزروه }( )، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : ما ذاك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : لتنصروه( ).
ولم تأت هذه الولاية إلا بتصديقهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته وحسن إخلاصهم في مسالك الإيمان ، وقتالهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإعجاز في المقام أن أهل الكتاب يعلمون معنى الولاية والنصرة المطلقة من عند الله , لأن آية السياق تتعلق بالربيين وهم أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم ، فتشمل الولاية في المقام بني إسرائيل الذين قاتلوا مع الأنبياء وتشمل عيسى عليه السلام والحواريين الذين تحملوا الأذى في جنب الله ، مما يجعل هذه الآيات زاجراً لأهل الكتاب عن نصرة المشركين إلى جانب التباين في العقيدة والمبدأ .
فالمسلمون أقرب إلى أهل الكتاب بلحاظ الجامع بينهم في التوحيد والإقرار ببعثة الأنبياء ، قال تعالى [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى] ( ).
وإمتناع أهل الكتاب عن نصرة المشركين من مصاديق ولاية الله للمسلمين , وحتى اليهود الذين كانوا في المدينة إمتنعت طائفة كبيرة منهم عن التواطئ مع كفار قريش .
وتردد شطر منهم في إعانتهم ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان التلاوم بينهم ظاهراً ، ومنهم من عقد العهود مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
العاشرة : جاءت لفظ [فَآتَاهُمْ] مرة واحدة في القرآن [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] ولكن مصاديقها متعددة في الدنيا إلى يوم القيامة وهو من ولاية الله والذخائر التي يتضمنها اللفظ القرآني بأن تكون النعم والمنافع في الكلمة القرآنية الواحدة من اللامتناهي وتتغشى الحياة الدنيا والآخرة (وعد قوم كلمات القرآن سبعة وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعاً وثلاثين كلمة، وقيل وأربعمائة وسبعاً وثلاثين، وقيل ومائتان وسبع وسبعون) ( ) .
وتكون نعمة الولاية في المقام على وجوه :
الأول : ولاية الله للربيين .
الثاني : ولاية الله للمسلمين .
الثالث : ولاية الله للمسلمين والربيين مجتمعين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، ولفظ[فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا] من مصاديق هذه الوجوه مجتمعة ومتفرقة ، وهو من علم الغيب الذي لا يحيط به إلا الله عز وجل .
والملازمة بين ولاية الله والثواب من اليقينيات التي لا تحتاج إلى طرف آخر وسيط بينهما أو تقدم التصور والتفكر , ولكن أوان الثواب يستلزم البيان ليشكر المسلمون الله عز وجل ، فأخبرت آية السياق عن إنعدام المدة والفترة بين الفعل العبادي وبين الثواب ، قال تعالى [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ] ( ).
الحادية عشرة : دلالة الفاء في [فَآتَاهُمْ] على القرآن ، وعلى تقيد المسلمين بتلاوة آيات القرآن كتنزيله , وعدم طرو التحريف عليه ليأتي البيان والشواهد التي تدل على صدقه والإعجاز الذي تتضمنه آياته.
وسلامة القرآن من التحريف من ولاية الله عز وجل للمسلمين مما يدل على بقاء القرآن سالماً من النقص والزيادة والتحريف وسوء التأويل إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثانية عشرة : من مصاديق ولاية الله إرتقاء المسلمين إلى مرتبة الرضا بفضله تعالى، وتلمس مصاديق نعمته وآيات النصر والظفر التي يتفضل بها عليهم، فجاء قوله تعالى (فاتاهم) للكشف والدلالة عن فضل الله على المؤمنين، وجعل دنياهم روضة ناضرة، وتأتي الفاء لوجوه:
الأول : الترتيب المعنوي والذكري بعطف المبين على المجمل.
الثاني : التعقيب والتوالي بين المعطوف والمعطوف عليه في الفعل والموضوع.
الثالث : تأتي الفاء للسببية ليكون ما قبلها سبباً لما بعدها , قال تعالى[وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا]( ).
الثالثة عشرة :يحتمل الثواب الذي آتاه الله الربيين وجوهاً :
الأول : إنه عرض ساري ملازم لهم ، ومصاحب لهم في الحياة الدنيا .
الثاني : إنه عرض زائل ومفارق ، فيطرأ عند الحاجة والشدة أو حيث يشاء الله كما في حال الإنقطاع إلى العبادة أو الدعاء أو فعل الصالحات أو الأمر بالمعروف .
الثالث : ثواب الربيين قرين مصاحب لهم وغير مفارق لهم ، ويترك الربيون الدنيا ، ولكن ذكرهم ونفعهم من فعلهم الصالحات فيها باق ومتجدد .
والصحيح هو الثالث ، وتلك آية في ولاية الله للمؤمنين ، وأن أشخاصهم تغادر الدنيا ، ولكن ولاية الله لهم في الدنيا باقية ومجتمعة مع ولايته لهم في الآخرة في زمان واحد ، فصحيح أن الحياة الدنيا غير عالم الآخرة وبينهما تفاوت في أفراد الزمان ولكنهما يلتقيان في ولاية الله ومصاديق الثواب للمؤمنين فتأتي لهم أفراد من ثواب الدنيا وأخرى من ثواب الآخرة في وقت واحد .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال [إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة] ( ) أي تكون الحسنة مليوني حسنة .
الرابعة عشرة : ويحتمل ثواب الربيين والمؤمنين من جهة السبب والمسبب وجوهاً :
الأول : تداخل الأسباب وإتحاد المسُبب ،بأن يأتي الربيون بعدة أفعال صالحة فيكون ثوابها متحداً فيستغفرون الله ، ويسألونه ثبات الأقدام وينفقون في سبيل الله ، فيكون الثواب سلامتهم من كيد الكافرين .
الثاني : إتحاد السبب والثواب ، بأن يأتي للعمل الصالح المتحد ثواب خاص به وهو من مصاديق قوله تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ).
الثالث : إتحاد السبب وتعدد المسُبب ، بأن يفعل المسلم عملاً صالحاً فيأتي الثواب متعدداً , وهذا التعدد على وجوه :
أولاً : التعدد في الحكم والمقدار .
ثانياً : التعدد في الكيفية والسنخية .
ثالثاً : التعدد في ذات الثواب بأن تأتي أفراد كثيرة منه ، وهو على شعب :
الأولى : مجئ الأفراد المتعددة مرة واحدة .
الثانية : توالي وتعاقب أفراد الثواب .
الثالثة : الفرد الجامع بأن يأتي الثواب دفعياً ومتوالياً ، ولما إحترز المسلمون من طاعة الذين كفروا وسلموا من الإرتداد والإنقلاب خاسرين توالت عليهم أفراد الثواب ، قال تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] ( ).
الرابع : تعدد الأسباب وتعدد المسُببات بأن تجتمع الأفعال العبادية والعمل الصالح في مصاديق متعددة من الثواب ، فيكون كل فرد من العمل الصالح كالكلي في المعين .
وهذه المعاني أعم من قاعدة (تداخل الأسباب والمسُببات ) التي تعني إشتراك أسباب متعددة في مُسبب واحد ،كما في إتحاد عدة أسباب في غسل واحد ، أو نقض الوضوء بأسباب متعددة فيجزي وضوء واحد .
ومن منافع التعدد بالثواب وأسبابه وجوه :
الأول : زيادة حسنات المسلمين .
الثاني : إصلاح المسلمين للعبور على الصراط يوم القيامة (عن النواس بن سمعان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ، وعلى جنبتي الصراط سور ، وأبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ، ولا تعوجوا ، وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد فتح شيء من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه ، فإياك أن تفتحه ، فالصراط الإسلام ، والسور حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على الصراط كتاب الله ، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم) ( ).
الثالث : بيان فضل الله على المسلمين في ذات الثواب وأثره الحسن.
الرابع : هذا التعدد من مصاديق ولاية الله عز وجل للمسلمين ونصرته لهم ، وشاهد على أن الولاية حاضرة في السبب والمسُبب من جهات :
الأولى : ولاية الله في بعث المسلمين لفعل المتعدد من الصالحات، فلم يكل الله عز وجل المسلم إلى نفسه ولم يترك الشح والبخل يستحوذان عليه ، ويحتمل قوله تعالى [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ] ( )وجوهاً :
الأول : إنه من ولاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثاني : إنه مقدمة للولاية وبعث للمسلمين لإنتهاج سبل الولاية.
الثالث : لا صلة بين الولاية أعلاه والنهي عن البخل .
والصحيح هو الأول ،وتكون مصاديق ولاية الله في الآية أعلاه على وجوه :
الأول : إرشاد المسلمين إلى الإنفاق في سبيل الله , إذ وردت الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن موضوعها أعم ويشمل المسلمين والمسلمات جميعاً .
وعن عبد الله بن مسعود (قال : جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن أمي تسألك كذا وكذا؟ فقال : ما عندنا اليوم شيء قال : فتقول لك اكسني قميصك ، فخلع قميصه فدفع إليه ، فجلس في البيت حاسراً « فأنزل الله { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا }( )) ( ).
الثاني : إمتثال المسلمين لمضامين الآية أعلاه ،وهو من ولاية الله عز وجل لما فيه من أسباب التوفيق واللطف وتقريبهم إلى الإمتثال بلطف من عند الله.
الثالث : فتح أبواب الثواب للمسلمين بقاعدة التعدد في الثواب وأسبابه .
الرابع : بيان مصاديق لولاية الله وتفقه المسلمين في مضامين الولاية وكيفية الفوز بها .
الخامس : ترغيب الناس في دخول الإسلام من أجل الفوز بولاية الله ، وإجتناب الكفر الذي هو مانع منها ، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ] ( ).
السادس : إنذار وتحذير الكفار من أمور :
الأول : الحرمان من ولاية الله .
الثاني : الإمتناع عن الصدور عن طاعة الله التي هي علة خلق الإنسان ، والإثم على الإمتناع عن ولاية الله ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال : من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن) ( ).
الثالث : إختيار ولاية الظالمين وإتباعهم خطوات الشيطان .
الخامسة عشرة : سيبقى قوله تعالى [فَأَتَاهُمْ] حسرة في قلوب الكفار والمشركين إلى يوم القيامة ، فصحيح أن زمان الربيين إنقضى مع مغادرتهم والأنبياء السابقين الحياة الدنيا ، وكذا الذين قاتلوهم من الكفار إلا أن آية السياق ذم وإنذار للكافرين في كل زمان وإلى يوم القيامة مثلما هي ثناء على المؤمنين ، ويتجلى ذم الكافرين بلحاظ آية السياق والبحث من وجوه :
الأول : مجئ الثواب للربيين بسبب قتالهم الكفار .
الثاني : دلالة عظيم ثواب الربيين على ترتب الإثم على الكفار لقتالهم للأنبياء وأصحابهم , وليس من الناس من هو أشد عقوبة من الذين يقاتلون الأنبياء (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من قتل نبياً ، أو قتله نبي ، أو قتل أحد والديه ، والمصوّرون ، وعالم لم ينتفع بعلمه) ( ).
الثالث : ذات تسمية الربيين توبيخ للكافرين في مفهومها ، لأنها تبين إكرام الله للذين يؤمنون بالنبوة والتنزيل , وفيه ذم ووعيد للذين لم يؤمنوا بهم ممن رأوا الآيات والمعجزات الباهرات .
وهل قوله تعالى [فَأَتَاهُمْ] حرز من كيد الكافرين , فيه وجوه :
الأول : إنه مقدمة للإحتراز من تعدي الكافرين .
الثاني : إنه واقية من طاعة المسلم للذين كفروا .
الثالث : ليس من دليل على الملازمة بين قوله تعالى [فَأَتَاهُمْ]وبين السلامة من كيد الكافرين .
الرابع : قوله تعالى [فَأَتَاهُمْ] أمن وحرز من كيد وتعدي الذين كفروا .
وباستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية ورشحات نفع اللفظ القرآني ، وهو من أسرار وجوب تلاوة المسلمين والمسلمات آيات القرآن على نحو الوجوب العيني عدة مرات في الصلاة اليومية .
بحث أصولي
يحتمل مجئ الثواب للربيين وجوهاً:
الأول : توالي الثواب للربيين كأفراد على نحو العام البدلي ، فكل واحد منهم يؤتيه الله الثواب المناسب لعمله وفعله، وما يناسب حاله وتثبيت قلبه في مقامات الإيمان، ومن أدواته (أي).
الثاني : توالي الثواب للربيين على نحو العموم الإستغراقي وإحاطة جميع الربيين بالثواب , مع إستقلال كل واحد منهم بخصوصيته، كوجوب صيام أيام شهر رمضان , وهي أفراد مستقلة غير إرتباطية .
وسور الموجبة الكلية في العموم الإستغراقي : كل، كيف، جميع ،ونحوها من الأدوات التي تفيد الشمول والسريان.
الثالث : مجئ الثواب دفعة وعلى نحو العموم وإتحاد ذات وجنس الثواب كما في التصديق بالكتب السماوية , فلا يصح التبعيض في التصديق بها.
والمختار أن الثواب الملازم لولاية الله يأتي بجميع وجوه العموم الثلاثة هذه، وما رزق الله الربيين هو عند المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بفوز المسلمين بالمنزلة الرفيعة التي نالها المجاهدون من أصحاب الأنبياء .
فمن فضل الله عز وجل على الناس عامة والمؤمنين خاصة أنه إذا أنعم بنعمة على أهل الأرض فانها لا ترتفع بل تبقى تتدلى أغصانها وينهل الناس منها، خاصة إذا كانت النعمة من رشحات ولاية الله عز وجل التي ليس لها حد ، ويحتمل إتيان الثواب للربيين في الحياة الدنيا وجوهاً:
الأول : ثواب الربيين من الحقيقة , وهو اللفظ الذي وضع للمعنى في أصل اللغة، وإرادة المصداق الخارجي للثواب.
الثاني : ثواب الربيين من المجاز , ومجئ اللفظ لمعنى لم يوضع له في الأصل إنما أطلق على المعنى المجازي لوجود قرينة ووجه للشبه بينه وبين المعنى الحقيقي , كما في إطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع فتقول : حضر معنا أسد، لإرادة الشجاع ، فالأسد أصلاً حيوان مفترس لا يحضر مع الناس ، ولكنه المجاز والمندوحة في اللغة وفنون البلاغة .
ويكون الثواب في المقام من المجاز بلحاظ أنه عنوان إعتباري مثلاً (ومن المجاز: ضرب الإسلام بجرانه , أي ثبت واستقر) ( ).
الثالث : إرادة المعنى الأعم الجامع للحقيقة والمجاز من جهات:
الأولى : الإشتراك والتداخل بين الحقيقة والمجاز.
الثانية : التناوب، فمرة يأتي الثواب حقيقة، وأخرى مجازاً.
الثالثة : التباين بين ذات الربيين فمنهم من يأتيه الثواب حقيقة وأخرى مجازاً.
والصحيح هو الأول ، وإرادة المعنى الحقيقي من الثواب في الآية لوجوه:
الأول : أصالة الحقيقة فيما إذا تردد المراد من اللفظ بين الحقيقة والمجاز وليس من تردد في المقام.
الثاني : الشواهد والمصاديق الخارجية التي تدل على توالي الثواب من عند الله.
الثالث : يتعلق موضوع الثواب بفضل الله ورزقه الكريم وهو كله حقيقة وليس فيه مجاز وهو قانون في الإرادة التكوينية , ومن رحمة الله بالخلائق.
الرابع : تجلي علامات الحقيقة في قوله تعالى[فَآتَاهُمْ] من وجوه:
الأول : من علامات الحقيقة التبادر، وهو إنسياق المعنى الذي وضع له اللفظ إلى الذهن حال سماع اللفظ لثبوت العلقة بينهما في الوجود الذهني.
الثاني : عدم صحة السلب، بلحاظ موافقة لفظ الثواب لمعناه المرتكز في الأذهان، وكذا بالنسبة للفاء في[فَآتَاهُمْ] وإرادة عدم تخلف الثواب عن العمل الصالح.
الثالث : الإطراد، ومعناه إنبساط اللفظ على الأحوال المتباينة المناسبة له، ولا يرتفع حال المعنى المشكوك ،فالثواب من الله في كل حال هو جزاء حسن يأتي في البدن والرزق والمقام والإعتبار والجاه والسلامة من الأدران ونحوها من النعم الكثيرة، لبيان فضل الله على الربيين، والبشارة للمسلمين بحضور الثواب لهم بأبهى حال وأحسن مصداق ،وهو من الشواهد على قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
سؤال ثواب الدنيا أمر حسن
ورد في تفسير آية السياق (وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن إسحق { وما كان لنفس } الآية أي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أجل هو بالغه ، فإذا أذن الله في ذلك كان { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } أي من كان منكم يريد الدنيا ليست له رغبة في الآخرة نؤته ما قسم له فيها من رزق ولا حظ له في الآخرة) ( ).
وقال في النكت والعيون (من أراد بجهاده ثواب الدنيا أي ما يصيبه من الغنيمة ، وهذا قول بعض البصريين) ( ).
ولكن ظاهر الآية خلاف هذا المعنى من جهات :
الأولى : مجئ الآية بصيغة الجملة الشرطية [ومن يرد].
الثانية : ذكر الآية لمسألة الثواب وهو الجزاء الحسن من عند الله، وقال الجرجاني : الثواب ما يستحق به الرحمة والمغفرة من الله تعالى، والشفاعة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: الثواب: هو إعطاء ما يلائم الطبع) ( ) .
وفيه أن الثواب ذاته رحمة ومغفرة ، نعم يكون مقدمة ونوع طريق لمصاديق أخرى من الرحمة , والنسبة بين الثواب والشفاعة هي العموم والخصوص المطلق , فالشفاعة من الثواب ، أما ملائمة الثواب ما يلائم الطبع فلا دليل عليه ، إنما يأتي الثواب من عند الله بما يكون فيه النفع العظيم وإصلاح الذات ومنه الطبع .
ومن البيان الذاتي في القرآن وتجلي معانيه في نظم آياته أن لفظ [ثَوَابَ الدُّنْيَا] ورد في القرآن أربع مرات ،كلها جاءت بصيغة البشارة والترغيب بالصالحات منها آيتان وردتا في سورة آل عمران ولا تفصل بينهما إلا آيتان , فبعد آية السياق ورد قوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] ( ) بخصوص الربيين وهم أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم ودونهم وجاهدوا تحت لوائهم ، لبيان أن سؤال ورجاء ثواب الدنيا ليس عيباً أو تقصيراً أو حباً بالدنيا وإستغناءً عن النعيم في الآخرة .
الثالثة : قسمت الآية أعلاه الثواب إلى قسمين :
الأول : ثواب الدنيا .
الثاني : ثواب الآخرة ، مع بيان أفضليته وعظيم كمه وكيفيته وطول مدته وعدم إنقطاعه بقوله تعالى [وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ]( ) وفيه شاهد على إتحاد سنخية ثواب الدنيا والآخرة , وتدل قاعدة وحدة الموضوع في تنقيح المناط على أمور :
الأول : ثواب الدنيا نعمة من عند الله .
الثاني : عدم التعارض أو التزاحم بين ثواب الدنيا وثواب الآخرة .
الثالث : ترغيب المسلمين بثواب الدنيا .
الرابع : التفات المسلمين إلى مصاديق ثواب الدنيا التي تترى عليهم .
الخامس : توجه المسلمين بالشكر لله على نعمة ثواب الدنيا وحسن التصرف وعدم التفريط بها .
وجواز سؤال المسلم الله عز وجل تفضله بثواب الدنيا والآخرة للذات والأبناء ، وهل يصح سؤال ثواب الدنيا لمن مات من الآباء أو الأبناء , الجواب نعم بتجلي الصلاح في الذرية ، وباستغفار الناس للميت وذكره ذكراً حسناً .
الرابعة : إخبار الآية بأن ثواب الدنيا من عند الله , وهو الذي يهبه ويعطيه .
الخامسة : إختتام الآية أعلاه بقانون [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ) ويحتمل وجوهاً :
الأول : الذين يؤتيهم الله ثواب الدنيا من المحسنين .
الثاني : الذين يتفضل الله عز وجل عليهم بثواب الآخرة من المحسنين .
الثالث : إعراب الواو في [وَاللَّهُ] للإستئناف مع الإلتفات الذي هو في إصطلاح علم المعاني الإنتقال من لغة الخطاب إلى الغائب, وبالعكس كما في قوله تعالى [لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ) ويكون من معناه أن حب الله عز وجل للمحسنين على وجوه :
أولاً : مجئ الثواب الإضافي للربيين بلحاظ أنهم من المحسنين .
ثانياً : فوز المسلمين بذات الثواب الذي سأله الربيون .
ثالثاً : ترغيب المسلمين بعمل الصالحات .
رابعاً : الإخبار عن قانون عام يتغشى الناس في الدنيا والآخرة .
خامساً : تأكيد حقيقة وهي أن حب الله أعظم من الثواب ، وهو طريق وسبب لنيل الثواب .
السادس : وفي ذم الذين يريدون الدنيا ويسعون لها ويجعلونها غاية أعمالهم , قال تعالى [وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ] ( ) (عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال : { المال والبنون } حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة) ( ).
وتقدير آية السياق : ومن يرد ثواب الدنيا من عند الله نؤته منها) وفيه تزكية لمن يطلب ثواب الدنيا من الله عز وجل بالدعاء والعمل الصالح ، ومن الإعجاز في آية السياق تقييد الفضل الإلهي بأنه ثواب .
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : ومن يرد ثواب الدنيا على عمله الصالحات في الدنيا نؤته من الدنيا ثواباً وإستجابة له ز
الثاني : ومن يرد ثواب الآخرة على عمله الصالحات في الدنيا نؤته في الآخرة الثواب والجزاء على عمله في الدنيا .
الثالث : ومن يرد ثواب الدنيا وثواب الآخرة على عمله الصالحات في الدنيا نوته منهما مع زيادة من فضل الله بقوله تعالى في خاتمة آية السياق [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ]لبيان ترشح الثواب المتصل من ولاية الله ، فهي كنز وضياء في الحياة الدنيا , وذخيرة في الآخرة .
ولم تجعل آية السياق شرطاً أو قيداً للثواب الدنيوي أو الآخروي بل جعلته مطلقاً بارادة العبد نفسه , وهو من مصاديق قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ ]أي إذا أردتم الثواب الدنيوي أو الأخروي تفضل به عليكم .
الثالثة : صلة هذه الآية [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً ….الآية] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله بل الله مولاكم ) وفيه وجوه :
الأول : بين الولاية وأوان الموت عموم وخصوص مطلق ، فالولاية أعم , ويدخل تعيين الأجل من عند الله في مصاديق الولاية ليفوز المسلم في المقام بمحو أوان الأجل الأول ، وما فيه الإنخرام أو إتيانه أو تأجيله , وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
وتلك آية من فضل الله إذ ينفرد المسلمون بنعمة ولطف من الله حتى في أوان الموت ، ليحضر عند أحدهم وهو بأحسن حال من جهه الإستعداد للآخرة .
وسواء مدّ الله للمسلم في عمره أو لا , فان ولايته تعالى تتغشى أيامه ليقضيها بالعمل الصالح ويسخرها في مرضاة الله ، ليكون المحو والتأجيل نوع طريق لوفادة المسلم إلى الجنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) أي إرشدنا إلى ما يقودنا إلى اللبث الدائم في النعيم ، وأهدنا إلى ولايتك .
وهل تمسك المسلم بولاية الله من مصاديق الإعتصام في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) .
الجواب نعم سواء على القول بأن المراد من حبل الله القرآن أو المعنى الأعم ، ليكون تقدير آية البحث : بل الله مولاكم فتمسكوا بولايته .
الثاني : بيان التباين بين المؤمنين والكفار حتى في الموت من وجوه :
أولاً : كيفية قبض الروح ، إذ تقبض الملائكة روح المؤمن بلطف ، فمن يكن الله مولاه فالملائكة مواليه ويحرصون على الدفع عنه وعدم إيذائه ، أما الكافر فان الملائكة تقبض روحه بشدة لكثرة ذنوبه ،ولأن في موته راحة لأولياء الله من المؤمنين .
(عن السدي قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً سأل ملك الموت أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك فأذن له ، فأتى إبراهيم ولم يكن في البيت ، فدخل داره .
وكان إبراهيم من أغير الناس إذا خرج أغلق الباب ، فلما جاء وجد في بيته رجلاً ثار إليه ليأخذه ، وقال له : من أذن لك أن تدخل داري؟
قال ملك الموت : أذن لي رب هذه الدار . قال إبراهيم : صدقت ، وعرف أنه ملك الموت . قال : من أنت؟ قال : أنا ملك الموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلاً . فحمد الله ،
وقال : يا ملك الموت أرني كيف تقبض أرواح الكفار؟ قال : يا إبراهيم لا تطيق ذلك قال : بلى . قال : فاعرض ، فاعرض إبراهيم ثم نظر فإذا هو برجل أسود ينال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار ، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل يخرج من فيه ومسامعه لهب النار ، فغشي على إبراهيم ثم أفاق وقد تحوّل ملك الموت في الصورة الأولى .
فقال : يا ملك الموت لو لم يلق الكافر عند موته من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه ، فأرني كيف تقبض أرواح المؤمنين؟
قال : فأعرض ، فاعرض إبراهيم ثم التفت ، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجهاً ، وأطيبه ريحاً ، في ثياب بياض . قال : يا ملك الموت لو لم ير المؤمن عند موته من قرة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفيه . فانطلق ملك الموت وقام إبراهيم يدعو ربه يقول :[ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ] ( )حتى أعلم أني خليلك . قال : أو لم تؤمن؟ يقول : تصدق بأني خليلك . قال : بلى ، ولكن ليطمئن قلبي بخلولتك)( ).
ثانياً : بيان الإختلاف في كيفية مغادرة الدنيا ، فيغادرها المؤمن وقد إطمأن لعمله وإخلاصه لله في طاعته ، وهو يرى أبناءه يحيطون به تالين للقرآن ذاكرين لله عز وجل (عن أنس بن مالك قال : إن الله لما جمع ليعقوب عليه السلام شمله ببنيه وأقر عينه ، خلا ولده نجيا .
فقال بعضهم لبعض : ألستم قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ ؟ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنب أبيه قاعد ، قالوا : يا أبانا ، أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط ، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله ، حتى حركوه – والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أرحم البرية – فقال : ما لكم يا بني؟؟؟ . . . قالوا : ألست قد علمت ما كان منا إليك ، وما كان منا إلى أخينا يوسف؟ قالا بلى . قالوا : ياأبانا ؟ قالوا : نريد أن تدعو الله ، فإذا جاءك من عند الله بأنه قد عفا ، قرت أعيننا واطمأنت قلوبنا . وإلا ، فلا قرة عين في الدنيا لنا أبداً .
قال : فقام الشيخ فاستقبل القبلة ، وقام يوسف خلف أبيه ، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين . فدعا وأمن يوسف ، فلم يجب فيهم عشرين سنة ، حتى إذا كان رأس العشرين ، نزل جبريل عليه السلام على يعقوب عليه السلام فقال : إن الله بعثني أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك ، وإنه قد عفا عما صنعوا ، وإنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوّة)( ).
ثالثاً : تأجيل أوان موت المسلم وتهيئة أسباب المندوحة والسعة له للتوبة والإنابة وإصلاح أمور دينه ودنياه .
رابعاً : تجلي البشارة للمسلم ومجئ الإنذار والوعيد للكافر عند الموت، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اذا حضر( ) المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون اخرجي راضية مرضيا عليك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان فتخرج كأطيب ريح المسك حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا حتى يأتوا به باب السماء فيقولون ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الارض فيأتون بأرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألون ما فعل فلان ما فعل فلان فيقولون دعوه فإنه كان في غم الدنيا فإذا قال ما أتاكم قالوا ذهب به إلى أمه الهاوية .
وان الكافر إذا حضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون اخرجي ساخطة مسخوط عليك إلى عذاب الله فتخرج كأنتن ريح جيفة حتى يأتون به باب الارض فيقولون ما أنتن هذه الريح حتى يأتون به أرواح الكفار فيمن أحب لقاء الله( ).
وهل أمارات ساعة الموت من عمومات البشارة والإنذار في قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( )الجواب نعم بالإضافة إلى صيرورة أوان الموت ذاته بشارة أو إنذار.
الثالث : بين المؤمن والكافر عموم وخصوص مطلق بخصوص طرو وحال الموت فيلتقيان بولاية الله عز وجل، التي تصاحبه في الحياة الدنيا وعند ساعة الموت ووحشة القبر وأهوال الآخرة، لذا فان قوله تعالى[بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُم]( )، وعد كريم بالأمن والسلامة من الفزع والخوف ساعة حلول الأجل.
الرابع : يتصف المسلم بالدعاء لدفع وتأجيل أوان الموت، قال تعالى[ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ]( ).
الخامس : من وجوه الجمع بين الآيتين إنذار الكافرين بولاية الله للمؤمن، ومن مصاديق الإنذار في المقام تقريب آجال الكفار.
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : كتاباً مؤجلاً بل الله مولاكم ، وفيه وجوه :
الأول : إرادة نسبة العموم والخصوص بين تأجيل الكتاب وأجل الموت للأحياء من أهل الأرض عامة ، مع العناية واللطف الإلهي بالمسلمين خاصة ، فيحضر الموت وملك الموت عند الإنسان في أجله ولا يمهل ليستعد للإنتقال للآخرة بالتوبة والإنابة ، أما المسلم فان الله عز وجل يرحمه ويقيض له أسباب التوبة والإنابة .
الثاني : من مصاديق ولاية الله للمسلمين بعث السكينة في نفوس المسلمين من الموت وأوانه وكيفية حضوره عند المسلم , ويعيش الإنسان أيام عمره متنعماً بأسرار الخلافة فيها ، ليأتيه الموت بغتة فينتزعه منها وهو من مصاديق تقييد خلافته بأنها في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وهو شاهد على تعاقب الناس في الحياة الدنيا ، ومن يغادرها بالموت تنقطع صفة الخليفة عنه , ليتحمل أعباءها الموجود والمولود من البشر ، وعندما تظهر على الإنسان أمارات الموت البعيدة والقريبة يستحضر الموت وشدته ، ومن الأمارات البعيدة ظهور الشيب والوهن في البدن وعلامات الشيخوخة وتخلف الأعضاء والحواس عن وظائفها فيصاب الإنسان بضعف البصر والسمع , وتعاقب سقوط الأسنان ونحوها ، وفي زكريا ورد في التنزيل [قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا] ( ).
الثالث : قد يأتي الموت للمجاهد وهو في سن الشباب كما في شطر من شهداء أحد ، فجاءت آية البحث للإخبار بأن المؤمن لم يقتل إلا باذن الله ، وهو من عمومات قوله تعالى في أية السياق (إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) .
ومن مصاديق ولاية الله عز وجل للمسلم إرادة الدرجة الرفيعة للشهيد [عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن للشهيد عند الله خصالاً . يغفر له في أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى عليه حلة الإيمان ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن يوم الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه] ( ).
الرابع : جعل المسلم في أمن وسلامة من الخشية والفزع من الموت سواء حضره فجأة أو جاءه زحفاً وتدريجياً كما في حال المرض لإدراكه بأن أوان وكيفية الموت من عند الله .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها بل الله مولاكم ، وفيه وجوه :
الأول : تدل آية السياق على أن الدنيا عالم مستقل بذاته ، وتتعلق الدنيا بأمور :
أولاً : أيام حياة الإنسان من حين ولادته إلى بلوغه سن التكليف ثم إلى حين وفاته ، ومغادرته الدنيا بالموت أو القتل .
ثانياً : عمل الإنسان في الدنيا سواء في الخير أو الشر أو بالجمع بينهما ، قال تعالى [خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا] ( ) ولا ينفع الإنسان إلا العمل الصالح والخير المحض والمبادرة إليه ، قال تعالى [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
ثالثاً : ما يعمله الإنسان في الدنيا ليكون سبباً للثواب أو الإثم من بعده ،ويدل حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده) ( ).
على أن العمل الصالح هو الباقي والذي يترتب عليه الجزاء أما ما فيه إثم فيتحمل وزره الذي يرتكبه من الأحياء إلا أن يقال إنما جاء الحديث لذكر خصوص العمل الصالح والثواب عليه ولترغيب المسلمين والناس بأفعال الخير التي ينتفع منها الناس فيتوارث المسلمون ملكة فعل الخيرات التي تبقى بعد مماتهم ويكون فيها ذكر لهم وهو من مصاديق [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ ]ليكون الحديث النبوي أعلاه إرشاداً إلى سبل الهداية
رابعاً : ترغيب المسلمين بثواب الدنيا وإصلاحهم للفوز به ، وهذا الترغيب ولاية الله عز وجل ، ولما توجه المسلمون بالدعاء إلى الله [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) وألحوا بالدعاء كل يوم وهم في حال خشوع وقيام أفراداً وجماعات بين يدي الله عز وجل , تفضل سبحانه فهداهم إلى خير الدنيا والترغيب فيه، وهذا الترغيب مقدمة لتسخيره في طاعة الله ، وجعله مقدمة لثواب الآخرة ، ومرآة له .
خامساً : بيان قانون كلي وهو أن ثواب الدنيا بيد الله ، لا يقدر عليه غيره سبحانه ، ولا يقدر الخلائق منعه عن العباد ، ويأتي ثواب الدنيا بسؤال إرادة العبد لقوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا]وهناك مسائل :
الأولى : هل يأتي ثواب الدنيا إبتداء وفضلاً من عند الله .
الثانية : هل يأتي ثواب الدنيا لغير المؤمن .
الثالثة : هل يأتي ثواب الدنيا جزاء من عند الله وإن لم يسأله المؤمن .
أما الأولى أعلاه , فالجواب نعم وهو من رحمة الله وولايته للمؤمنين , وأما الثاني فلا يأتي الثواب للكافر والضال ، بلحاظ أن الثواب جزاء من عند الله يتضمن الشكر والثناء وقصد القربة في النية والفعل , وقد حجبه الكفار عن أنفسهم ، وتدل عليه آية البحث من جهتين :
الأولى : قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ ] أي أن الله سبحانه يتبرأ من الكفار والمنافقين ، وليس لهم ولاية عنده ، ولا يأذن بولاية أحد لهم، قال تعالى [وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ] ( ).
الثانية : إخبار آية البحث عن نصرة الله للمؤمنين ، وتتقوم بفضل الله برمي الكفار بالضعف والوهن ، ليكون النصر سهلاً وتاماً ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ).
وصحيح أن الآية أعلاه نزلت بخصوص فريضة الصيام والرخصة فيه إلا أن موضوعها أعم .
سادساً : يفيد الجمع بين الآيتين دعوة الناس إلى التوبة والإنابة، وجاء الفوز بولاية الله والتنعم بثواب الدنيا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني : بيان حاجة الإنسان لرحمة الله في الدنيا، وأن الثواب من عند الله في الدنيا فضل محض، لأنها دار إمتحان وإبتلاء، ودار عمل من غير جزاء , قال تعالى[إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً]( ).
الثالث : دعوة المسلمين للتنزه عن اللهث وراء الدنيا ومباهجها، وعن المسور بن مخرمة( ) (أن عمرو بن عوف وهو حليف بني عامر بن لؤي ، كان شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي ، فقدم أبو عبيدة بمال البحرين فسمعت الأنصار بقدومه فوافت صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف تعرضوا له فتبسم حين رآهم، وقال : أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة ، وأنه جاء بشيء، فقالوا : أجل يا رسول الله .
قال : فأبشروا وأملوا ما يسركم ، فوالله ما أخشى عليكم الفقر ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها فتلهيكم كما ألهتهم( ).
المسألة الرابعة : لقد أخبرت آية السياق عن ثواب الدنيا وثواب الآخرة بعرض واحد ، بلحاظ إرادة العبد , وجاء التفضيل وتفضيل ثواب الآخرة بعد ثلاث آيات بقوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] ( ), وفيه مسائل :
الأولى : ذكرت آية السياق إرادة العبد الثواب فتفضل الله وأخبر بأنه يؤتيه ويهبه من خزائنه , بينما وردت آية ثواب الربيين بأنه من عند الله فضلاً وإحساناً .
الثانية : آية ثواب الربيين بيان وتفسير لآية السياق ، ويكون تقديرها على وجهين :
الأول : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته من أحسنه .
الثاني : ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها , ومن يرد حسن ثواب الآخرة نؤته منها .
الثالثة : لزوم إستحضار قانون عام في الإرادة التكوينية وهو أن ثواب الآخرة لا يكون إلا حسناً , وهو الأحسن من وجوه :
أولاً : يأتي ثواب الآخرة جزاء على عمل الصالحات .
ثانياً : إتصاف ثواب الآخرة بالمضاعفة أضعافاً كثيرة ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
ثالثاً : من معاني ثواب الآخرة أنه يأتي للعبد المؤمن وهو في أشد حاجة إليه .
رابعاً : السلامة من تسخير ثواب الآخرة في فعل المعصية أو إرتكاب السيئات .
خامساً : الحرص على ثواب الآخرة ليس من الشح أو البخل .
سادساً : تجلي مصاديق ثواب الآخرة للعبد والناس والخلائق ، ففي ثواب الدنيا قد يظن بعضهم أنه من سعي وكسب ذات الإنسان لأن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء , وفي قارون ورد قوله تعالى [قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي] ( ).
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين (كتاباً مؤجلاً والله خير الناصرين )
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار عبادته ووعاء زمانياً ومكانياً لأداء المناسك ، وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض بلحاظ أن علة الخلافة وملاك تقومها هو عبادة الله ولما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) تفضل الله سبحانه بالبرهان الجلي بأهلية الإنسان للخلافة بآية البحث إذ ان قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] واقية من إشاعة الفساد وأمن وسلامة من إستدامة الظلم والبطش لذا قال سبحانه [فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ] ( )وقال تعالى [وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( )ليرى الملائكة والناس .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : بل الله مولاكم ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ) .
من منهاج الأنبياء التبليغ عن الآخرة وأن قيام الناس بين يدي الله للحساب حق وحتم ، وهو من أسرار خلق آدم في الجنة وسكنه وحواء فيها قبل أن يهبط إلى الأرض ، ليسعى الناس إلى العودة إليها بالإيمان والعمل الصالح ، ويكونوا في مأمن من وسوسة إبليس ، ومغادرة النعيم ، قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببشارة عظمى وهي ولاية الله للمسلمين لتكون طريقاً للجنان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) .
ومن ولاية الله للمسلمين نجاتهم من النار والعذاب الأليم في الآخرة لعدم إجتماع الضدين ،قال تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ]( ) ومن ولاية الله عز وجل للمسلمين بلحاظ آية السياق وجوه :
الأول : إخبار الآية بعالم الآخرة وأنه غير أيام الحياة الدنيا .
الثاني : في الآخرة ثواب يناله شطر من الناس ، وليس من حد لمصاديق النعيم الأخروي .
الثالث : قرب الثواب الأخروي من الإنسان وهو في الدنيا بالإنتفاع من ولاية الله عز وجل .
الرابع : من أسرار ولاية الله هداية المسلم لعمل الصالحات , وما يجلب له ثواب الآخرة ، ويكون تقدير آية السياق على وجوه :
أولاً : ومن يرد ثواب الآخرة وهو مؤمن.
ثانياً : ومن يرد ثواب الآخرة بولاية الله .
ثالثاً : ومن يهده الله إلى إرادة ثواب الآخرة بالولاية .
رابعاً : ومن يرد ثواب الآخرة من الله نؤته منها ، إذ تدل الآية بالدلالة التضمنية بأن ثواب الدنيا وثواب الآخرة بيد الله عز وجل .
خامساً : ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها لأن ذات إرادة الثواب شاهد على أمور :
أولاً : التصديق باليوم الآخر .
ثانياً : إنتفاء العمل يوم القيامة .
ثالثاً : إنحصار الحكم والأمر بيد الله في الآخرة ، وفي التنزيل [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] ( ) فان قلت جاءت الآية بالشفاعة فهل تتعارض مع ملك الله المطلق , الجواب لا ، لأن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله ووفق المشيئة الإلهية ، قال تعالى [يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا] ( ).
وممن يريد الآخرة لنفسه يرزقه الله عز وجل الشفاعة لغيره يوم القيامة كما في حال الشهداء ، وهو من مصاديق ولاية الله عز وجل (عن أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الشهداء ثلاثة : رجل خرج بنفسه وماله محتسباً في سبيل الله يريد أن لا يقتل ولا يقتل ولا يقاتل ، يكثر سواد المؤمنين ، فإن مات وقتل غفرت له ذنوبه كلها ، وأجير من عذاب القبر ، وأومن من الفزع الأكبر ، وزوّج من الحور العين ، وحلت عليه حلة الكرامة ، ووضع على رأسه تاج الوقار والخلد .
والثاني رجل خرج بنفسه وماله محتسباً يريد أن يقتل ولا يقتل ، فإن مات أو قتل كانت ركبته مع ركبة إبراهيم خليل الرحمن بين يدي الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
والثالث رجل خرج بنفسه وماله محتسباً يريد أن يقتل ويقتل ، فإن مات أو قتل جاء يوم القيامة شاهراً سيفه واضعه على عاتقه والناس جاثون على الركب يقول : ألا أفسحوا لنا ، مرتين . فإنا قد بذلنا دماءنا وأموالنا لله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لو قال ذلك لإبراهيم خليل الرحمن ، أو لنبي من الأنبياء لتنحى لهم عن الطريق لما يرى من واجب حقهم ، حتى يأتوا منابر من نور عن يمين العرش ، فيجلسون فينظرون كيف يقضى بين الناس ، لا يجدون غم الموت ، ولا يغتمون في البرزخ ، ولا تفزعهم الصيحة ، ولا يهمهم الحساب ، ولا الميزان ولا الصراط ، ينظرون كيف يقضي بين الناس ، ولا يسألون شيئاً إلا أعطوا ، ولا يشفعون في شيء إلا شفعوا ، ويعطون من الجنة ما أحبوا ، وينزلون من الجنة حيث أحبوا) ( ).
الخامس : من ولاية الله جعل المسلم يريد الآخرة ويرجو الثواب فيها ، لتكون هذه الإرادة بولاية الله على وجوه :
أولاً : إرادة المسلم للآخرة عمل صالح وإن كان من باب النية والعزم ، قال رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إنما الأعمال بالنيات) ( ).
ثانياً : مجئ المدد للمسلم لإستحضار عالم الآخرة في الحضر والسفر والبيت وموضع العمل ، ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية صدح المؤذن بما يذكر بالآخرة خمس مرات في اليوم وإقامة الصلاة وقراءة القرآن فيها ، وكل آية تدعو المسلم ليطلب الآخرة ويرجو الأمن والسلامة والنعيم فيها .
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : ومن يرد ثواب الآخرة والله خير الناصرين .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار النصرة والغلبة والفوز ، ولم يختص الله عز وجل بنصرته أفراداً معينين أو جنس مخصوص من البشر , بل تصاحب نصرة الله ولايته للمؤمنين فيلتقي فيها الغني والفقير , والعربي والأعجمي , والسيد والعبد , والرجل والمرأة , وهو من أسرار إجتماع الولاية والنصرة في آية البحث ، فان قلت قد جمع الله عز وجل الولاية والنصرة للمؤمنين , ولم يجعل لغيرهم نصيباً .
والجواب لقد حجب الكفار عن أنفسهم هذه النعمة وبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لجذبهم إلى الفوز بالولاية والنصرة ، ليكون من معاني [خَيْرُ النَّاصِرِينَ]ان الله يقرب الناس من نصرته لهم ، ويمدهم بالدلائل والبراهين العقلية والحسية التي تجعلهم يفوزون بها ، فالناصر من الناس تدعوه لنصرتك وتتوسل إليه لإعانتك وقد يستجيب لك أو لا ،وإن إستجاب فان عونه محدود ، أما نصرة الله فهي خير وأفضل وأعظم من جهات :
الأولى : ترغيب الله عز وجل الناس بنصرته لهم , وتتلمس في كل آية من آيات القرآن معاني هذه الدعوة , وتتجلى في آية السياق من وجوه :
أولاً : إخبار آية السياق عن موت كل إنسان , ورجوع الناس إلى الله عز وجل لأن الموت أمر وجودي وليس عدمياً , وهو إنتقال إلى عالم آخر وليس فناءً ، قال تعالى [هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] ( ).
ثانياً : لا ينزل الموت بالإنسان إلا باذن الله عز وجل لتكون موضوعية لنصرة الله في أوان وكيفية الموت وحال الإنسان عند حضوره بالتهيئ له بالإستفغار والتوبة وعمل الصالحات ليكون من نصرة الله إصلاح الإنسان للموت فلا يأذن الله عز وجل للموت في زيادة العبد إلا بعد أن ينصره الله .
ثالثاً : جعل الموت نصراً وفوزاً للمؤمن فلا يغادر المسلم الدنيا إلا وقد أمن من العذاب في الآخرة .
رابعاً : دلالة قوله تعالى [كِتَابًا مُؤَجَّلاً] على أن أوان موت الإنسان من مصاديق [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] وقد يؤخر أوان موت الإنسان أو يعجله بما فيه نصره وإعانته ، وعن أنس بن مالك ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تدعوا بالموت ، ولا تمنوه فمن كان داعيا ، فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) ( ).
خامساً : لا ينال ثواب الدنيا إلا بنصر من عند الله على النفس الشهوية والغضبية , والنصر في إزاحة الموانع التي تحول دون نيل الثواب , ويكون من معاني [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا] بلحاظ آية البحث : ومن يرد ثواب الدنيا بنصرة الله له .
الثانية : إتصال نصرة الله في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا] فيأتي كل فرد من الثواب بنصرة الله وإزاحة الدافع عنه .
الثالثة : نصرة الله عز وجل من مصاديق الجزاء في قوله تعالى [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] وفيه وجوه :
الأول : إختتام آية السياق بالإخبار عن جزاء الله للشاكرين ترغيب بنصرة الله وتقريبها من المسلمين بالذات والمصداق ، فلذا حين دعا وتضرع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يوم بدر وأحد لله عز وجل نزل الملائكة من السماء بطرفة عين ، وكأن لم تكن ثمة مسافة بين السماء والأرض , وهو من مصاديق [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
الثاني : ترغيب المسلمين بالشكر لله عز وجل والحرص على الشكر باللسان والأفعال .
الثالث : التدبر في الملازمة بين الشكر لله ونزول النصرة من عند الله عز وجل .
الرابع : هداية العبد إلى منازل الشكر من نصرة الله له , وإرادة نفعه في النشأتين .
المسألة الثامنة : تقدم الجمع بين الآيتين [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ ]و[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] ليتضمن معنى الجمع بين الآيتين أموراً :
الأول : ولاية الله أمر حال وصحبة حاضرة .
الثاني : الجزاء من عند الله ومجيؤه بحرف الإستقبال القريب السين في [وَسَنَجْزِي] وإن كان معناها أقرب من مسمى الإستقبال .
الثالث : نصرة الله عز وجل .
الرابع : إجتماع الولاية والنصرة والشكر من عند الله للمسلمين وهو نعمة عظيمة لم تنلها أمة من الموحدين من قبل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن وجهة التداخل بهذه النعم وجوه :
الأول : جزاء الله عز وجل للمسلمين من نصرته لهم .
الثاني : ولاية الله عز وجل للمسلمين من نصرته لهم .
الثالث : نصرة الله للمسلمين من جزائه لشكرهم له .
الرابع : ولاية الله للمؤمنين جزاء لهم على بلوغهم مرتبة الشاكرين .
الخامس : نصرة الله عز وجل للمسلمين من ولايته لهم .
السادس : جزاء الله عز وجل للمسلمين نصرة لهم , قال تعالى[لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَن الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ولا يستلزم الدور بينها .
لقد أختتمت آية السياق بالوعد الكريم [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] .
فجاءت آية البحث لبيان ماهية الوعد من جهتين :
الأولى : ولاية الله للشاكرين .
الثانية : نصرة الله للشاكرين .
فان قلت إن وردت آية البحث بخصوص المسلمين ، وبين الشاكرين والمسلمين عموم وخصوص مطلق ، فالشاكرون أعم وكل مسلم هو شاكر وليس العكس لوجود أمم من الموحدين شاكرين لله عز وجل .
والجواب ، تدل القرائن في آية البحث على نعمة الولاية والنصرة على صيغة الإيمان , وقد نالها المؤمنون من الأمم السابقة الذين صدّقوا بالأنبياء والكتب السماوية وتوارث البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قضاء العبادات
قد يموت المسلم , وعليه واجبات وديون فهي على قسمين :
الأول : ديون الناس ،فلا بد أن تقضى عن الميت ، لأنها حقوق للعباد (عن أبي هريرة قال : « كان المؤمن إذا توفي في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل هل عليه دين؟ فإن قالوا : نعم . قال : هل ترك وفاء لدينه؟ فإن قالوا : نعم . صلى عليه ، وإن قالوا : لا . قال : صلوا على صاحبكم ، فلما فتح الله علينا الفتوح قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن ترك ديناً فإليّ ، ومن ترك مالاً فللوارث) ( ) .
وفيه مسائل :
الأولى :أنه آية في التكافل الإجتماعي في الإسلام .
الثانية : تحمل بيت المال مسؤولية أداء الحقوق عن الموتى من المسلمين.
الثالثة : فيه إكرام وجزاء للمسلمين .
الرابعة : بيان مصداق لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
الخامسة : السنة النبوية من مصاديق آية البحث وقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] فهو سبحانه الذي يتكفل قضاء ديون المسلم في الدنيا بواسطة الولي ، وهو إنفاق معوض أو يدفع من بيت المال من غير إشتراط عجز الولي عن الدفع أو فقده ،ولو لم يقض دين المسلم ، فهل من ولاية الله قضاءه في الآخرة .
الجواب نعم بالجزاء الحسن للدائن وهو في مواطن يحتاج فيها إلى الحسنة والثواب ورجحان كفة الميزان ، ليكون من ولاية الله عز وجل للمسلم الذب والقضاء عنه في الدنيا والآخرة ، وعدم لحوق الضرر بمن يمد له يد العون والمساعدة , ولزوم قضاء الدين مطلق ، سواء كان الدائن رحماً قريباً أو أجنبياً .
الثاني : ديون الله عز وجل ، وتتعلق بالفرائض والعبادات , وهي على أقسام :
أولاً : العبادات البدنية وهي الصلاة والصيام .
ثانياً : العبادات المالية وهي الزكاة والخمس .
ثالثاً : العبادات البدنية المالية , وهو الحج لما فيه من جهد وسعي في قطع المسافة وأداء المناسك وإنفاق للمال في الحج , و( عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله ، الدرهم بسبعمائة ضعف) ( ) (وعن الحسن بن علي عليهما السلام قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إني جبان وإني وضعيف . فقال : هلم إلى جهاد لا شوكة فيه : الحج ) ( ).
أما قضاء ما فات المسلم من الصلاة , ففيه وجوه :
الأول : عدم قضاء الصلاة ، وإستدل عليه الإمام الشافعي بقوله تعالى [لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى] ( ) وقد أجبنا عليه بأن الولد مما يلحق بسعي الإنسان ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ( ).
وورد عن ابن عباس أن الآية أعلاه منسوخة بقوله تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ] ( ) وعن عكرمة (كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى ، وأما هذه الأمة فلها سعي غيرها ، والدليل حديث سعد بن عبادة قال : يا رسول الله هل لأمي إن تطوعت عنها؟ قال : نعم . وقال الربيع بن أنس : « الإنسان الذي في هذه الآية هو الكافر ،وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له) ( ).
(لقد أمضى الشارع الهبة والهدية في الأموال والمعاملات وقضاء الدين عن الميت , وفيه تبرئة لذمته وان سعي الإنسان في العبادة المهداة والمستأجرة لابد وأن يكتبه الله لأحدهما أو لهما معاً أي لمن أداها ومن أهدى ثوابها إليه وهو الواسع الكريم الذي لا يضيع أجر من عمل صالحاً .
نعم يجب ألا يكون هذا الفضل باباً للتراخي والتهاون والتسويف في أداء الفرائض والواجبات العبادية , ومن قوانين المشيئة الإلهية أن فضل الله سبحانه لا يترشح عنه إلا الخير والنفع , ولا بأس في البحث عن الفوارق الكبيرة بين ثواب الأداء الشخصي للواجبات العينية وقضاء المكلف نفسه ، وفي الخبر أن الأمام الصادق عليه السلام قال لمن أرسله ليحج نيابة عن أحد ولده قال : اعلم أن له واحدة ولك تسع ) ( ).أي لعمومات قوله تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : هل يمكن الإستدلال على وجوب قضاء الصوم عن الميت بقوله تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( ) لأن القضاء ذكر بصيغة التنكير سواء بالأيام أو الذي يقضيها .
الثانية : هل يمكن الإستدلال بإرادة اليسر في قوله تعالى في آيات الصيام [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ) .
الجواب ليس من أمارة أو شاهد على مثل هذا الإستدلال في الأولى والثانية أعلاه , لأن الأصل توجه الخطاب للمكلفين في الآيتين أعلاه على نحو الوجوب العيني .
كما أستدل بأنه لم يرد نص خاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجواز قضاء الصلاة عن الميت ، ونجيب عليه بالإطلاق الوارد في حديث (عَنِ ابن عَبَّاسٍ : أَنَّ امرأة أَتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَتْ : إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ فَقَالَ :« أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِينَهُ . فَقَالَتْ : نَعَمْ فَقَالَ :« دَيْنٌ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ) ( ) .
فذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم دين الله مطلقاً ليكون قانوناً كلياً شاملاً للعبادات البدنية والمالية مع رجحانه على حقوق وديون العباد التي جاء التأكيد بلزوم قضائها.
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمَّتِهِ، أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ عَنْ جَدَّتِهِ : أَنَّهَا كَانَتْ جَعَلَتْ عَلَى نَفْسِهَا مَشْياً إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَمَاتَتْ وَلَمْ تَقْضِهِ، فَأَفْتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنَتَهَا أَنْ تَمْشِيَ عَنْهَا) ( ).
ولا دليل عليه وقد جعلت المشي على نفسها , وهو بالأصل ليس بواجب , ويحتاج بقاء ذات النذر وإنتقاله إلى غيرها إلى دليل , وقد يستدل بما ورد (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابن عَبَّاسٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَنْ نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ فَقَالَ اقْضِهِ عَنْهَا) ( ) ونقل عن ابن عباس حديثاً مخالفاً له .
وإذا كان المشي يقضى عن الميت مع أنه مقدمة للصلاة فمن باب الأولوية قضاء ذات الصلاة , وضروب العبادة الأخرى .
وإذا كان النذر في العبادات يقضى عن الميت وهو واجب بالعرض فمن باب الأولوية القطعية قضاء الصلاة اليومية المفروضة لأنها واجب بالذات والأصل .
وقال الجمهور لا تقضى الصلاة المفروضة بلحاظ أن هذا القضاء قد يبعث على تهاون المكلف فيها أيام حياته ، مع قولهم بجواز صلاة النافلة عن الميت , لذا وردت الرخصة بأداء الصلاة بأي كيفية يقدر عليها المكلف مما يدل على عدم سقوطها ، , وفيه مسائل :
الأولى : يدرك المسلم وجوب أدائه الصلاة , وأن القضاء من بعده أمر معلق قد يحصل أو لا , وأن نجاته بقيامه بأدائها بنفسه.
الثانية : إن حصل القضاء ، فثوابه معشار ثواب أداء المكلف عن نفسه .
الثالثة : إذا أهمل المسلم الصلاة اليومية فانه يبتلى بالأسف والندامة والحسرة , وتذكره ساعات النهار والليل بوجوب أدائها ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الرابعة : من رشحات الصلاة بعث السكينة في النفس قبل وأثناء وبعد أدائها مما يجعل المؤمن يجتنب التفريط بها .
الخامسة : أداء الصلاة من ولاية الله للمسلمين التي تذكرها آية البحث.
السادسة : القضاء عن الميت إقرار بأن الجنة حق والنار حق , وأن الله يبعث من في القبور .
السابعة : من يحرص على القضاء عن الميت يكون حرصه على أداء واجباته بالذات والأصل من باب الأولوية القطعية .
الثامنة : في القضاء عن الميت ثواب عظيم لمن يقضي العبادات عنه ، والذي يسعى ويبذل المال لأدائها من جهات :
الأولى : دلالة القضاء عن الميت على التسليم بالمعاد ووقوف الناس للحساب .
الثانية : في القضاء إقرار بوجوب أداء العبادات ، وإمكان التدارك فيها .
الثالثة : من ولاية الله للمسلم الحي والميت ، التدارك بقضاء العبادات.
الرابعة : في القضاء عن الميت إقرار بالربوبية المطلقة لله علة وحاجة الإنسان بعد الموت إلى رحمته سبحانه ، قال تعالى [وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
الخامسة : تنمية ملكة الإستعداد للموت عند المسلمين بالحرص على أداء الفرائض بأوقاتها وذات الكيفية التي أداها بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
أما الصيام فهو واجب عل كل مكلف من المسلمين والمسلمات ، قال تعالى[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ] ( ).
ليكون من منافع الصيام الإرتقاء في مراتب التقوى والصلاح وفرضه على المسلمين من ولاية الله لهم ،كما أنه طريق للفوز بولاية الله .
وتقدير الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث على وجوه :
الأول : كتب عليكم الصيام لأن الله مولاكم .
الثاني : يتعاهد المسلمون الصيام لأن الله مولاهم .
الثالث : يتقيد المسلمون بالصيام فينالون مرتبة ولاية الله ، إذ أن الصيام عبادة بدنية خالصة لوجه الله , وخالية من الرياء والضمائم التي تفوت الإخلاص ، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ( ).وفيه لزوم القضاء عن الميت الذي تعلق بذمته الأداء ولم يكن مريضاً ، والظاهر شمول القضاء لمن أفطر عمداً مع كفارة إفطار متعمد .
ولا فرق بين الصيام والصوم لغة وإصطلاحاً شرعياً، وكل منهما مصدر صام.
قال ابن منظور : الصَّوْمُ تَرْكُ الطعامِ والشَّرابِ والنِّكاحِ والكلامِ صامَ يَصُوم صَوْماً وصِياماً( ).
وقيل في هذه الأيام بالفرق بينهما، وأن المراد من الصوم تهذيب اللسان وذكروا قوله تعالى في مريم[إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا]( )، ولا دليل على هذا القول.
ويمكن الإستلال بقضاء الصلاة عن الميت بالجمع بين النص بقضاء الصيام وقضاء الحج وقضاء الزكاة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط, وقيل للقياس , إلا مع الجمود على النص والقول بأن أداء الصلاة اليومية مرهون بوقته .
وقال الشافعية والحنابلة باستحباب قضاء الصيام ، وبجوازه من الأجنبي ، وقال الأحناف والمالكية : لا يصوم عنه وليه ، ولكن يطعم فداء عن كل يوم ، لأن الصيام عبادة بدنية على ذات المكلف لا تقبل بالنيابة .
وعن حفص بن البحتري أنه سأل الإمام جعفر الصادق عليه السلام في الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام (قال : يقضي عنه أولى الناس بميراثه ، قلت : فإن كان أولى الناس به امرأة ؟ فقال : لا ، إلا الرجال ) ( )وظاهر الحديث وجوب القضاء .
أما بالنسبة للزكاة وتسمى الصدقة فهي عبادة مالية فيها حق لله وحق للعباد وقضاؤها صحيح وورد فيه نص.
وروي (ان رجلا قال للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ان أبى مات وترك مالا , ولم يوص فهل يكفر عنه ان اتصدق عنه .
قال : نعم) ( ).
وقد جعل الله الحج واجباً على الناس جميعاً بأجيالهم المتعاقبة بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
إن تعاهد المسلمين للفريضة التي كتبها الله على الإنسان منذ بداية نزوله إلى الأرض وجعلها مناراً للتوبة وسلماً للإرتقاء إلى منازل الخلود في الجنة تشريفاً وإكراماً لهم في الدارين لتحملهم مسؤولية تعظيم شعائر الله وإختيارهم الطريق السليم للعروج بالروح في ذروة التشبه بالملائكة , والإبتعاد الإختياري عن حضيض النفس البهيمية وأسباب الشهوة وتركهم الإفراط في المباح من اللذات كمقدمة تتضمن البشارة والوعد بعروجها والبدن يوم القيامة إلى منازل المخبتين.
إذا إستقر عليه الحج بان إجتمعت الشرائط ولكنه قصّر ولم يبادر الى الحج حتى زالت الإستطاعة، صار الحج ديناً عليه ويجب عليه الإتيان به بأي وجه ممكن، وإن مات فيجب ان يقضى عنه إن كانت له تركة.
إذا إستقر علي المكلف الحج دون العمرة، كما لو أدى العمرة وكانت وظيفته حج الإفراد ثم زالت إستطاعته وجب عليه قضاء ما فاته، وإن مات يُقضى عنه.
تقضى حجة الإسلام من أصل التركة إذا لم يوص بها من الثلث سواء كانت حج التمتع أو القِران أو الإفراد، أما لو أوصى باخراجها من الثلث وجب إخراجها وتقدم على الوصايا المستحبة وإن كانت متأخرة عنها في الذكر وإذا لم يف الثلث بها أخذ الباقي من أصل التركة.
لو أوصى بالثلث ولم يوص بحجة الإسلام مع وجوبها عليه، فانها تخرج من الأصل , ثم يخرج الثلث.
لا بأس بفتح مكاتب لحج النيابة في مكة المكرمة والمدينة المنورة موثقة وموثوقة ، تتولى تنسيق الحج والعمرة نيابة من الميقات وإن كان المنوب عنه من بلد آخر.
(عن ابن عباس ان امرأة اتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت ان امي ماتت وعليها صوم شهر فقال ارأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه عنها فقالت نعم .
فقال : دين الله احق بالقضاء)( ).
فاذا كان الحج المنذور يقضى عن الميت فيستقرأ من الحديث قانون كلي في باب قضاء العبادات وهو وجوب وأولوية قضاؤها من قبل الحي نفسه أو الميت فلم يقيد الحديث القضاء بالحج .
وقضاء العبادات عن الميت من مصاديق آية البحث وولاية الله للمسلم حياً وميتاً , من وجوه :
الأول : فرض العبادات على المسلمين رحمة بهم ، وهو من ولاية الله بهم .
الثاني : قضاء العبادات نوع تدارك وإبراء للذمة وإسقاط للفرض ولقاعدة الإشتغال في التكاليف مع فرض العلم بالخطاب ، وحصول التخلف عن ذات المصداق .
الثالث : بيان قانون وهو عدم إنقطاع صلة المسلم بالحياة الدنيا عند موته بل يأتيه الثواب والأجر وقضاء العبادات في آية تسر الملائكة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) عندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض ، ليكون من علمه تعالى أن المسلم يقصر في واجباته فتأتيه إلى قبره لتوسعه وتجعله روضة من رياض الجنة .
الرابع: الابن الذي يقضي عن أبيه يحرص على أداء واجباته بنفسه لأن من معاني القضاء حب العبادة , وإمتلاء النفس بالرغبة فيها .
الخامس : مجئ الثواب للذي يقضي عن الميت , ولو صلى الحي عن الميت قضاء , ففيه مسائل :
الأولى : ثواب الميت في هذه الصلاة أكثر من ثواب الحي .
الثانية : ثواب الحي من هذه الصلاة هو الأكثر , سواء قضلهل لأنه ولي الميت , أو تطوعاً أو بالإجارة .
الثالثة : التساوي في الثواب بين الحي والميت .
الرابعة : إختصاص الثواب بالميت دون الحي الذي يؤديها .
الخامسة : تغشي الثواب للميت المؤدى عنه , والحي الذي يقضي عنه إلا أن يكون الذي يقضيها عن إجارة وعوض مالي .
والصحيح هو الثانية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [منْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ).
إن قضاء الصلاة والفرائض الأخرى عن الميت من مصاديق ولاية الله للمسلمين الأحياء والأموات الذي يقضي والذي يقُضي عنه والواسطة والداعي إلى القضاء ، كما أنه من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] بلحاظ أن تمام أداء العبادات وإستيفاء أفرادها من النصر والغلبة على الشيطان والنفس الشهوية ، وهو واقية من طاعة الذي كفروا وشاهد على الإعراض عنهم ، وكل أداء لفرض عبادي إبتعاد وسبب للنفرة من مفاهيم الشرك والضلالة ، وهو من أسرار فرض الصلاة على المسلمين خمس مرات في اليوم لتنمية ملكة التقوى .
إعجاز الآية
جاءت آية البحث بصيغة الإطلاق في ولاية الله من وجوه منها :
الأول : إرادة الإطلاق في تغشي ولاية الله للمسلمين والمسلمات من جهات :
الأولى : ولاية الله لكل مسلم ومسلمة على نحو الإستقلال .
الثانية : ولاية الله للمسلمين مجتمعين .
الثالثة : ولاية الله للمسلم عند الشدة والضراء .
الرابعة : ولاية الله للمسلم عند إرتكاب معصية بهدايته إلى الإستغفار والتوبة والإنابة ، قال تعالى في الثناء عليهم [وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( ).
الثاني : ولاية الله عز وجل للمسلمين في أفراد الزمان الطولية, ففي كل زمان الله ولي المسلمين ، وهل تختص الولاية بالأحياء أم تشمل الأموات , الجواب هو الثاني .
الثالث : إذا أعطى الله فأنه يعطي بالأتم والأكمل , فجاءت ولايته مطلقة بخصوص الموضوع والمتعلق والجهة لتكون من مواضيعها اللامتناهي في النداء العام للمسلمين [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفيه مسائل :
الأولى : علة ولاية الله الإيمان بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : موضوع وسنن الولاية أعم بلحاظ أن أداد الفرائض والعبادات فرع الإيمان بالله والنبوة .
الثالثة : يفيد نظم الآيات أن الولاية في المقام سلامة من الإنقلاب والإرتداد على الأعقلاب .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، فان قلت يشمل الخطاب في [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] المنافقين , لأن القدر المتيقن منه النطق بالشهادتين ، والجواب من جهات :
الأولى : يخرج المنافقون بالتخصيص لورود آيات القرآن بذمهم وإنذارهم وتقبيح فعلهم ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا] ( ).
الثانية : الأصل والتمييز بين المؤمنين الذين تتغشاهم ولاية الله وبين الذين يطيعون الذين كفروا ويحملون الكفر بين أضلاعهم الكفر والضغائن التصديق بالنبوة والتنزيل .
الثالثة : إرادة توبة المنافقين ، وإصلاحهم ، وآية البحث ترغيب لهم بالإيمان ، وهل منه إعطاء المؤلفة قلوبهم سهماً من الزكاة لتقوية الدين , وجذبهم للإيمان ودفع شرهم كما عن (عن سعيد بن المسيب، عن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إلي) ( ) .
الجواب نعم وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) إذ تأتي رحمة الله للمنافق لتخليصه من الكدورات الظلمانية , وكل في القرآن حرب على النفاق , وزجر للمنافقين .
ومن أسرار آية البحث جعل المسلمين في حال خضوع وخشوع دائم وأقبال على الصلاة والفرائض الأخرى لإدراك أمور :
الأول : الحاجة إلى رحمة الله .
الثاني : فضل الله عز وجل بالمدد والإعانة للمسلمين , وقضاء حوائجهم .
الثالث : غنى المسلمين عن الكفار وطاعتهم ، لأن مقاليد الأمور بيد الله , وفي التنزيل [لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
فما أن نهت الآية السابقة عن طاعة الذين كفروا حتى تعقبتها هذه الآية لتبين غنى المسلمين مجتمعين ومتفرقين عن الكفار ، وعدم حاجتهم لهم في الأمور الخاصة والعامة .
ويفيد حرف الإضراب [بل] وجوهاً :
الأول : الزجر الإضافي عن طاعة الذين كفروا ، إذ يدل على وجود المانع وفقد المقتضي لهذا الطاعة .
الثاني : بيان مصداق قاعدة نفي الحرج في الدين , فلا يتخذ المسلم طاعة الذين كفروا مقدمة وبلغة ووسيلة لحاجاته , فولاية الله عز وجل عامة وشاملة وهي بلغة وغاية ، وهذا المعنى قراءة جديدة لقاعدة نفي الحرج في الدين إذ تتضمن آية البحث النهي عن إختيار طاعة الذين كفروا وهذا النهي من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )وإجتناب الطرق والوسائل التي لا تتصف بالفلاح ولا تؤدي إليه .
(عن ابن مسعود قال : خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطاً بيده ، ثم قال : هذا سبيل الله مستقيماً ، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط , وعن شماله ، ثم قال : وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}( )( ).
الثالث : بعث اليأس والفرقة بين صفوف الذين كفروا ، فلا يجمعون أمرهم لمحاربة الإسلام بارتداد عدد من المسلمين ، لأن آية البحث جعلت هذا الإرتداد سالبة بإنتفاء الموضوع .
ويمكن تسمية هذه الآية الكريمة آية [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ ] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.

الآية سلاح
تقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا الله مولاكم ) بلحاظ إتحاد موضوع هذه الآية مع الآية السابقة التي تبدأ بالنداء بصبغة الإيمان .
وما أن اعلن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبوته وآمن بمعجزاته نفر من أهل بيته وشباب قريش والمستضعفين حتى إشتد أذى كبراء الضلالة من قريش عليه وعلى بني هاشم ، ولاقى المسلمون الأوائل شتى صنوف التعذيب بصبر فيه دروس وإنذار لرؤوس الكفر بحتمية إنتصار الإسلام إذ أظهر المسلمون الأوائل مع قلتهم البقاء على الإسلام مع شدة التعذيب .
ولم تحارب قريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلا بعد أن ذم آلهتهم وأعاب عليهم عبادتهم الأوثان , وهناك ملازمة بين النبوة وذم الأوثان والنهي عن عبادتها , وهو منهاج الأنبياء جميعاً .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمر على عمار وأمه وأبيه وهم يعذبون فيقول صبراً يا آل ياسر فان موعدكم الجنة.
فان قلت لماذا لم يعذب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب إنه معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان عمه أبو طالب يذب عنه ، وهو معظم عند قريش ، ومع هذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت يتلقون الأذى من كفار قريش .
وكان أمية بن خلف يخرج بلالاً (إذا حميت الظهيرة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى.
فيقول، وهو في ذلك : أحد أحد) ( ) .
فتمر الأيام بسرعة ويتمادى أمية بن خلف في غيه ويخرج إلى بدر لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ويراه بلال فيحرض المسلمين على قتله .
(عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ كَانَ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ لِي صَدِيقًا بِمَكّةَ وَكَانَ اسْمِي عَبْدَ عَمْرٍو ، فَتَسَمّيْت ، حِينَ أَسْلَمْت ، عَبْدَ الرّحْمَنِ وَنَحْنُ بِمَكّةَ فَكَانَ يَلْقَانِي إذْ نَحْنُ بِمَكّةَ فَيَقُولُ يَا عَبْدَ عَمْرٍو ، أَرَغِبْت عَنْ اسم سَمّاكَهُ أَبَوَاك ؟ فَأَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ فَإِنّي لَا أَعْرِفُ الرّحْمَنَ فَاجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَك شَيْئًا أَدْعُوك بِهِ أَمّا أَنْتَ فَلَا تُجِيبُنِي بِاسْمِك الْأَوّلِ وَأَمّا أَنَا فَلَا أَدْعُوك بِمَا لَا أَعْرِفُ قَالَ فَكَانَ إذَا دَعَانِي : يَا عَبْدَ عَمْرٍو ، لَمْ أُجِبْهُ .
قَالَ فَقُلْت لَهُ يَا أَبَا عَلِيّ اجْعَلْ مَا شِئْت ، قَالَ فَأَنْتَ عَبْدُ الْإِلَهِ قَالَ فَقُلْت : نَعَمْ قَالَ فَكُنْت إذَا مَرَرْت بِهِ قَالَ يَا عَبْدَ الْإِلَهِ فَأُجِيبُهُ فَأَتَحَدّثُ مَعَهُ . حَتّى إذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ مَرَرْت بِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَ ابْنِهِ عَلِيّ بْنِ أُمَيّةَ أَخَذَ بِيَدِهِ وَمَعِي أَدْرَاعٌ قَدْ اسْتَلَبْتهَا ، فَأَنَا أَحْمِلُهَا . فَلَمّا رَآنِي قَالَ لِي : يَا عَبْدَ عَمْرٍو ، فَلَمْ أُجِبْهُ .
فَقَالَ يَا عَبْدَ الْإِلَهِ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ قَالَ هَلْ لَك فِي ، فَأَنَا خَيْرٌ لَك مِنْ هَذِهِ الْأَدْرَاعِ الّتِي مَعَك ؟ قَالَ قُلْت : نَعَمْ هَا اللّهِ ذَا ، قَالَ فَطَرَحْت الأَدْرَاعَ مِنْ يَدِي ، وَأَخَذْت بِيَدِهِ وَيَدِ ابْنِهِ وَهُوَ يَقُولُ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطّ ، أَمَا لَكُمْ حَاجَةٌ فِي اللّبَنِ ؟ ( قَالَ ) : ثُمّ خَرَجْت أَمْشِي بِهِمَا .
قَالَ ابن هِشَامٍ : يُرِيدُ بِاللّبَنِ أَنّ مَنْ أَسَرَنِي افْتَدَيْت مِنْهُ بِإِبِلِ كَثِيرَةِ اللّبَنِ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، قَالَ قَالَ لِي أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ آخِذٌ بِأَيْدِيهِمَا : يَا عَبْدَ الْإِلَهِ مَنْ الرّجُلُ مِنْكُمْ الْمُعَلّمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ ؟ .
قُلْت : ذَاكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَالَ ذَاكَ الّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ , قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ : فَوَاَللّهِ إنّي لَأَقُودُهُمَا إذْ رَآهُ بِلَالٌ مَعِي – وَكَانَ هُوَ الّذِي يُعَذّبُ بِلَالًا بِمَكّةَ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ فَيُخْرِجُهُ إلَى رَمْضَاءِ مَكّةَ إذَا حَمِيَتْ فَيُضْجِعُهُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمّ يَأْمُرُ بِالصّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمّ يَقُولُ لَا تَزَالُ هَكَذَا أَوْ تُفَارِقَ دِينَ مُحَمّدٍ فَيَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ .
قَالَ فَلَمّا رَآهُ قَالَ رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، لَا نَجَوْت إنْ نَجَا . قَالَ قُلْت : أَيْ بِلَالٌ أَبِأَسِيرَيّ قَالَ لَا نَجَوْت إنْ نَجَا . قَالَ قُلْت : أَتَسْمَعُ يَا ابن السّوْدَاءِ قَالَ لَا نَجَوْت إنْ نَجَا . قَالَ ثُمّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا أَنْصَارَ اللّهِ رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، لَا نَجَوْت إنْ نَجَا . قَالَ فَأَحَاطُوا بِنَا حَتّى جَعَلُونَا فِي مِثْلِ الْمُسْكَةِ وَأَنَا أَذُبّ عَنْهُ . قَالَ فَأَخْلَفَ رَجُلٌ السّيْفَ فَضَرَبَ رَجُلٌ ابْنَهُ فَوَقَعَ وَصَاحَ أُمَيّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْت مِثْلَهَا قَطّ .
فَقُلْت : اُنْجُ بِنَفْسِك ، وَلَا نَجَاءَ بِك , فَوَاَللّهِ مَا أُغْنِي عَنْك شَيْئًا . قَالَ فَهَبَرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ حَتّى فَرَغُوا مِنْهُمَا . قَالَ فَكَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ يَقُولُ يَرْحَمُ اللّهُ بِلَالًا ، ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي وَفَجَعَنِي بِأَسِيرَيّ) ( ) .
وفيه مسائل بلحاظ ولاية الله للمسلمين :
الأولى : تحتمل ولاية الله للمسلمين وجوهاً :
الأول : الولاية من حين نزول آية البحث في المدينة المنورة .
الثاني : مصاحبة ولاية الله للمسلمين من أول بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إختصاص ولاية الله للمسلمين في حال الحرب وميادين القتال .
والصحيح هو الثاني ، وهو من فضل الله على المسلمين .
وحينما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أول بعثته وقبل أن تسلم خديجة وعلي وعدد من الصحابة في اليوم الأول والثاني والثالث للبعثة وما بعده هل كان مصداق آية البحث خاصاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ويكون تقدير الآية (بل الله مولاك) الجواب لا ، بل الله عز وجل مولى المسلمين قبل نزول الآية وبعده وهذه الولاية سبب هدايتهم .
الثانية : دعوة المسلمين لإستقراء ولاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في بدايات الدعوة الإسلامية ، وعندما إشتد أذى رؤساء قريش للمسلمين في بداية الدعوة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدداً منهم إلى الجنة ، لتصاحبهم الولاية هناك بآية من عند الله , ومن منافعها وجوه :
الأول : السلامة من أذى قريش والنجاة من الإفتتان والتلفظ بكلمات الكفر تحت شدة التعذيب .
الثاني : صيرورة المهاجرين إلى الحبشة دعاة إلى الله والنبوة .
الثالث : بيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس .
الرابع : التدبر في وجوه الإلتقاء بين رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين لا سيما موسى وعيسى عليهما السلام .
الخامس : بقاء المهاجرين على دينهم حتى مع إختلاطهم مع أهل الكتاب من النصارى ، فهم من مجموع ثلاثة وثمانون رجلاً وثمان عشرة امرأة على فرض كون عمار بن ياسر معهم .
السادس : تبادل المعارف بين المسلمين وأهل الكتاب .
السابع : بيان صدق إيمان الصحابة لفرارهم بدينهم إلى بلاد الغربة ، ومن ولاية الله لهم أن هجرتهم وتعيين البلد الذي يهاجرون إليه كان بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وقال محمد بن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله عزوجل ومن عمه أبى طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه) ( ).
وبقى المهاجرون على دين الإسلام باستثناء واحد منهم هو عبد الله بن جحش تنصر ومات هناك وكان معه زوجته أم حبيبة ، فكتب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصخمة النجاشي ملك الحبشة في السنة السابعة للهجرة (كتابا يدعوه فيه إلى الاسلام وبعث به مع عمرو بن أمية الضمرى فلما قرئ عليه الكتاب أسلم وقال لو قدرت أن آتيه لاتيته وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان ففعل وأصدق عنه تسعمائة دينار , وكان الذى تولى التزويج خالد بن سعيد بن العاص بن أمية .
وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليه من بقى عنده من أصحابه ويحملهم ففعل فجاءوا حتى قدموا المدينة فيجدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خيبر فشخصوا إليه فوجدوه قد فتح خيبر فكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين أن يدخلوهم في سهمانهم ففعلوا) ( ).
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة وخروجهم بسلامة دينهم ومحاولة قريش اللحاق بهم ، إذ تبعوهم إلى جدة , ولكن المسلمين غادروا قبل أن يصل رجال قريش .
ولتكون أول عودة المهاجرين بقبض سهم الغنيمة لكل واحد منهم (عن ابن عباس قال قسمت خيبر على الف وخمسمائة سهم وثمانين سهما وكانوا الفا وخمسمائة وثمانين رجلا الذين شهدوا الحديبية منهم الف وخمسمائة وأربعون , والذين كانوا مع جعفر بن أبى طالب بأرض الحبشة أربعون رجلا) ( ).
الثالثة : ولاية الله عز وجل واقية من بطش الكفار , سواء في مكة أو غيرها ، ولم تكتف آية البحث بذكر الولاية مع أنها الواقية من السماء التي تتغشى المسلمين إلى يوم القيامة بل ذكرت نصرة الله عز وجل .
ولم تذكر آية البحث نصرة الله بذات النسق الذي ذكرت فيه الولاية ، ولم تقل (بل الله مولاكم وهو ناصركم ) لبيان الإقتران والملازمة بين نعمة الولاية والنصرة .
والجواب جاءت خاتمة الآية بالمعنى الأعم لبيان مصاحبة الولاية للمسلمين في كل الأحوال وحضور نصرة الله لهم ولبيان أن نصرة الله خير نصرة , وأنها أعم من الولاية , فمن يتولى الله ينصره ، ويهيئ مقدمات نصره وثباته في جادة الولاية .
ومن معاني قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] أن الله سبحانه يهدي العبد إلى الإيمان بالولاية وينصره بفضل من عنده فهو خير الناصرين لأنه يوصل المسلمين إلى المرتبة التي يستحقون بها النصرة من عنده فيتفضل بنصرهم .
كما سيأتي في باب التفسير للترغيب بالدعاء وسؤال الله عز وجل النصرة .
مفهوم الآية
في الآية مسائل :
الأولى : لما احتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )تفضل الله عز وجل وبيّن لهم وللخلائق في الدنيا والآخرة بصيغة الإحتجاج والبيان من مقام الربوبية المطلقة أن خلافة الإنسان من علمه سبحانه الواسع الذي لا تحيط به الخلائق ليكون أول خلق الإنسان حجة على الملائكة، ونصرة لهم في إنقطاعهم إلى طاعة الله، [قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
فمن علمه تعالى (أنه مولى المسلمين والمسلمات من أيام أبينا آدم،لبعث السكينة في نفوس الملائكة وبيان قانون لأهل السموات وهو أن خلافة الإنسان في الأرض خير محض، وذكر دائم لله عز وجل.
وتحتمل هذه الآية في زمانها وجوهاً :
الأول : إرادة ولاية الله أيام الحياة الدنيا .
الثاني : شمول عالم البرزخ بولاية الله للمؤمنين ، وتقدير الآية: بل الله مولاكم في الدنيا والبرزخ .
الثالث : إرادة ولاية الله في الدنيا وعالم البرزخ ويوم القيامة .
الرابع : ولاية الله للمسلمين على نحو الإبتداء والإستدامة والتأبيد.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث من وجوه :
الأول : أصالة الإطلاق وعدم وجود مقيد في البين .
الثاني : ملك الله للسموات والأرض ، ملك تصرف لما فيهما من الأجناس والذوات إيجاداً وإستدامة وإعداماً .
الثالث : إذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأتم والأوفى .
الرابع : إنحصار الولاية يوم القيامة بالله عز وجل، وفي التنزيل [هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا] ( ) ليكون من إعجاز القرآن تعقب البشارة بالأمن مطلقاً للتنبيه والإنذار في القرآن .
الخامس : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين ، وفيه ترغيب لهم بترك طاعة الذين كفروا والإنصات لهم .
(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عزّ وجلّ قسّم الأجر وقسّم العمل،
فقيل لليهود : اعملوا،
فعملوا إلى نصف النهار،
فقيل : لكم نصف قيراط. وقيل للنصارى : اعملوا،
فعملوا من نصف النهار إلى العصر،
فقيل : لكم قيراط. وقيل للمسلمين : اعملوا،
فعملوا من صلاة العصر إلى غروب الشمس بقيراطين. فتكلّم اليهود والنصارى في ذلك،
فأنزل الله سبحانه : {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ})( ).
الثانية : إبتدأت آية البحث بحرف الإضراب [بل] ليكون من مفاهيمه بعث اليأس في نفوس الذين كفروا بأن المسلمين لن يطيعوهم من قبل ،ويدل على سلامة المسلمين من طاعة الكفار من قبل مجئ الآية السابقة بصيغة الجملة الشرطية وصيغة الفعل المضارع [إِنْ تُطِيعُوا] مما يدل على سلامتهم وعصمتهم من طاعة الذين كفروا من جهات :
الأولى : قبل نزول آية البحث عندما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأوائل في مكة والأيام الأولى في المدينة المنورة بعد الهجرة .
الثانية : قبل تلاوة الصحابة لآية البحث .
الثالثة : قبل تلاوة آية البحث من قبل الأجيال السابقة من المسلمين .
الرابعة : قبل تلاوتنا في هذا الزمان لآية البحث .
الخامسة : قبل تلاوة آية البحث في اليوم الذي تقرأ هذا الجزء وهو الثاني والعشرون بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) ومن أسراره توالي تلاوة القرآن دعوة أبناء المسلمين للثبات على نهج آبائهم ، ففي كل يوم بعد الطبقة الأولى من المسلمين تتلى الآية السابقة بصيغة الجملة الشرطية وما فيها من معاني التعليق ،وتقديرها : يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم … وإن آبائكم المسلمين لم يطيعوا الذين كفروا ) ، وهو في مفهومه أنهم لم يرتدوا عن دينهم ، ولم ينقلبوا خاسرين .
وفيه بعث للعز في نفوسهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) بأن تتعاهد كل طبقة من المسلمين الإيمان ليبقى تركة لمن بعدهم ، تتضمن السلامة من طاعة الذين كفروا .
وتلك آية في نيل المسلمين الثواب من عند الله , ويحتمل هذا الثواب وجوهاً :
الأول : إنه من ثواب الإيمان وتعاهد الفرائض .
الثاني : ثواب عدم طاعة الذين كفروا أمر مستقل قائم بذاته .
الثالث : إنه فرع الصبر والإقامة على العبادات ليكون من رشحات الإستعانة في قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية السابقة، وفيه نكتة بالترغيب بعدم طاعة الذين كفروا وأن إجتنابها أمر وجودي وليس عدمياً ، وإذا كان المسلم لم يبتل بطاعة الذين كفروا ومقدماتها وأسبابها فهل يأتيه الثواب من عدم طاعتهم أم لا لإنتفاء الموضوع .
الجواب هو الأول وهو من أسرار إبتداء الآية السابقة بنداء الإكرام والوعد الكريم من عند الله [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]وابتدأت هذه الآية بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] لأصالة الإطلاق فيها وشمول الولاية لهداية أفراد الأمة الإسلامية إلى الإسلام وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الثالثة : تتضمن الآية في منطوقها الوعد والعهد للمسلمين بأن الله عز وجل هو وليهم وناصرهم والذاب عنهم ، وفي التنزيل [َاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ) وفي الحفظ في الآية أعلاه بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : هل الحفظ من النصرة في آية البحث [وهو خير الناصرين] أم القدر المتيقن من النصرة هو الغلبة على الكفار .
الثانية : هل يشمل الحفظ في الآية أعلاه السلامة من طاعة الذين كفروا والإنقلاب والإرتداد .
الثالثة : ما هي النسبة بين اسم التفضيل [خير] في الآية أعلاه وفي آية البحث .
أما الأولى فالجواب إن حفظ المسلم من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [وهو خير الناصرين] وهذا الحفظ من وجوه :
الأول : الحفظ لذات المسلم، ودفع الآفات وأسباب الهلكة عنه، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ] ( ).
الثاني : حفظ المسلم في إيمانه بالله ورسوله والكتاب واليوم الآخر ، وما جاء في التنزيل من الأحكام .
الثالث : طاعة المسلم لله عز وجل وأداء الواجبات العبادية ، وإتيان ما أمر الله به وإجتناب ما نهى عنه .
الرابع : حفظ المسلم في باب التقية وعدم وصولها إلى مرتبة طاعة الذين كفروا ، وتبين آيتا السياق والبحث حدود التقية في قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( )وفيه وجوه :
الأول : طاعة المسلم للذين كفروا تقية خارجة بالتخصص عن النهي الوارد في الآية السابقة ، أي أن حال التقية غير مشمولة بالنهي الوارد في آية السياق ، فيجوز طاعة الذين كفروا تقية وخشية من سطوتهم وبطشهم ودفعاً لأذاهم .
الثاني : أحكام آية السياق مطلقاً وتشمل حال التقية أيضاً لأن ولاية ونصرة الله واقية من أذى وضرر الكفار .
الثالث : التقييد والحصر في موضوع التقية ، وورد (عن ابن عباس في قوله {إلا أن تتقوا منهم تقاة}، فالتقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإِيمان ، فإن ذلك لا يضره إنما التقية باللسان .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق عطاء عن ابن عباس { إلا أن تتقوا منهم تقاة } قال { التقاة } التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإِيمان ، ولا يبسط يده فيقتل ولا إلى إثم فإنه لا عذر له) ( ).
الرابع : موضوع التقية أجنبي عن مسألة طاعة الذين كفروا لموضوعية الإضطرار ولفقد شرط الإختيار فيه ولأنه لا يتعدى اللسان مصانعة (وعن الأمام جعفر الصادق عليه السلام: التقية ترس الله بينه وبين خلقه) ( ).
وباستثناء الوجه الثاني أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة وتكون التقية بقدرها، قال تعالى [مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] ( )بالإضافة إلى تجلي البيان في آية السياق بما يخرج موضوع التقية من جهات :
الأولى : موضوعية الإختيار في طاعة الذين كفروا .
الثانية : إفادة الآية النهي عن معاني طاعة الذين كفروا من منازل الإيمان على نحو الإختيار .
الثالثة : ترتب الضرر والخسارة على طاعة الذين كفروا ، وليس من ضرر بالتقية (عن السدي ، أن عبد الله بن أبي سرح أسلم ثم ارتد فلحق بالمشركين ، ووشى بعمار وخباب عند ابن الحضرمي ، أو ابن عبد الدار فأخذوهما وعذبوهما حتى كفرا ، فنزلت { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}( ).
وفيه تفصيل بأن الذي إرتد بعد إسلامه ولحق بالمشركين باختياره وهو عبد الله بن أبي سرح ظالم وآثم .
(أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح أمن الناس إلا أربعة نفر منهم عبد الله بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى البيعة جاء به فقال يا رسول الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبي فبايعه بعد ثلاث .
ثم أقبل على أصحابه فقال أما فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته ليقتله قالوا ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت بعينك قال انه لا ينبغي أن تكون لنبي خائنة الأعين) ( ).
(قال محمد بن شهاب الزهري: قلت لسعيد بن المسيب في حديث : قال: إن عثمان لما ولي، كره ولايته نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن عثمان كان يحب قومه، فولي الناس اثنتي عشرة سنة.
وكان كثيراً ما يولي بني أمية ممن لم يكن له مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة، فكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عثمان يستعتب فيهم فلا يعزلهم.
فلما كان في الست حجج الأواخر استأثر بني عمه فولاهم وما أشرك معهم، وأمرهم بتقوى الله، ولى عبد الله بن أبي سرح مصر، فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه، وقد كان قبل ذلك من عثمان هنات إلى عبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وعمار بن ياسر، فكان بنو هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لحال ابن مسعود، وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها، وكانت بنو مخزوم قد حنقت على عثمان لحال عمار بن ياسر.
وجاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح، فكتب إليه كتاباً يتهدده فيه، فأبى ابن أبي سرح يقبل ما نهاه عنه عثمان، وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان من أهل مصر ممن كان أتى عثمان فقتله، فخرج من أهل مصر سبع مئة رجل فنزلوا المسجد، وشكوا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح بهم، فقام طلحة بن عبيد الله فكلم عثمان بن عفان بكلام شديد، وأرسلت عائشة إليه فقالت: تقدم إليك أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسألوك عزل هذا الرجل، فأبيت إلا واحدة! فهذا قد قتل منهم رجلاً، فأنصفهم من عاملك.
ودخل عليه علي بن أبي طالب عليه السلام وكان متكلم القوم فقال: إنما يسائلونك رجلاً مكان رجل، وقد ادعوا قبله دماً، فاعزله عنهم واقض بينهم فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه. فقال لهم: اختاروا رجلاً أوليه عليكم مكانه، فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر، فقال: أستعمل عليه محمد بن أبي بكر.
فكتب عهده وولاه، وخرج معهم عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح، فخرج محمد ومن معه، فلما كان على مسيرة ثلاث من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير خبطاً، كأنه رجل يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: ما قصتك وما شأنك كأنك هارب أو طالب؟ فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين، وجهني إلى عامل مصر، فقال له رجل: هذا عامل مصر، قال: ليس هذا أريد، فأخبر بأمره محمد بن أبي بكر فبعث في طلبه رجلاً فأخذه، فجيء به إليه .
فقال : غلام من أنت؟ فأقبل مرة يقول: أنا غلام أمير المؤمنين، ومرة يقول: أنا غلام مروان، حتى عرفه رجل أنه لعثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ إلى عامل مصر، قال: بماذا: قال برسالة، قال معك كتاب؟ قال: لا، ففتشوه فلم يجدوا معه كتاباً، وكانت معه إداوة ( )قد يبست، فيها شيء يتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يخرج، فشقوا الإداوة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح، فجمع محمد من كان عنده من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فضوا فك الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه: إذا أتاك فلان ومحمد وفلان فاحتل قتلهم وأبطل كتابه، وقر على عملك حتى يأتيك رأيي، واحبس من يجيء إلي يتظلم منك ليأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله.
فلما قرؤوا الكتاب فزعوا وأزمعوا فرجعوا إلى المدينة، وختم محمد الكتاب بخواتيم نفر كانوا معه، ودفع الكتاب إلى رجل منهم، وقدموا المدينة فجمعوا طلحة والزبير وعلياً وسعداً ومن كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم فضوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام، وأقرؤوهم الكتاب، فلم يبق أحد من المدينة إلا حنق على عثمان، وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وأبي ذر وعمار حنقاً وغيظاً. وقام أصحاب محمد صلى الله عليه وآله سلم فلحقوا بمنازلهم، ما منهم أحد إلا وهو مغتم لما قرؤوا الكتاب. وحاصر الناس عثمان) ( ) .
وتوفى عبد الله بن أبي سرح بعسقلان ، حين خرج معاوية إلى صفين وكره الخروج معه .
وفي الحديث نكتة وهي أن غلاماً للخليفة يسير بمفرده من المدينة المنورة إلى مصر وهو يحمل معه بريداً ولابد أن يكون قد تجهز من المتاع ومع هذا لا يخشى السلب والنهب والقتل والإستحواذ على بعيره ومتاعه.
وهو من مصاديق إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغيب وما يصير عليه المسلمون من الأمن والأمان في المدن وفي البراري والصحارى كما في حديث عدي بن حاتم الطائي عندما جاء من الشام ودخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عدي :
فَخَرَجْت حَتّى أَقْدَمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ الرّجُلُ ؟ فَقُلْت : عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ ؛ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَانْطَلَقَ بِي إلَى بَيْتِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَعَامِدٌ بِي إلَيْهِ إذْ لَقِيَتْهُ امرأة ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتوْقَفْتُهُ فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا تُكَلّمُهُ فِي حَاجَتِهَا ، قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِمَلِكِ.
قَالَ ثُمّ مَضَى بِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا دَخَلَ بِي بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ( ) مَحْشُوّةٍ لِيفًا ، فَقَذَفَهَا إلَيّ فَقَالَ اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ قُلْت : بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا ، فَقَالَ بَلْ أَنْتَ فَجَلَسْت عَلَيْهَا.
وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْأَرْضِ قُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ ثُمّ قَالَ إيِهِ يَا عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيّا، قُلْت : بَلَى.
قَالَ : أَوْ لَمْ تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِك بِالْمِرْبَاعِ ؟ قُلْت : بَلَى، قَالَ فَإِنّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلّ لَك فِي دِينِك ؛ قَالَ قُلْت : أَجَلْ وَاَللّهِ وَعَرَفْت أَنّهُ نَبِيّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ ثُمّ قَالَ لَعَلّك يَا عَدِيّ إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ فَوَاَللّهِ لَيُوشِكَنّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتّى لَا يُوجَدُ مَنْ يَأْخُدُهُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوّهِمْ وَقِلّةِ عَدَدِهِمْ فَوَاَللّهِ لِيُوشِكَنّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرَجُ مِنْ الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا ( حَتّى ) تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنّك تَرَى أَنّ الْمُلْكَ وَالسّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ وَاَيْمُ اللّهِ لَيُوشِكَنّ أَنّ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ قَالَ فَأَسْلَمْت) ( ).
ومن الإعجاز أن مصداق إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن المغيبات حصل أيام الصحابة أنفسهم ولكن لم يبعث هذا الغلام بما فيه خير.
وتوفى عدي بن حاتم سنة سبع وستين عن مائة وعشرين سنة في قرقيسيا وهي قصبة عند مصب نهر الخابور في الفرات ، ليرى بنفسه الشواهد المتكثرة للأمن في الأمصار والبراري ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتهذيب الأخلاق وحضور أحكام الحلال والحرام في أقوال وأفعال الناس , وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
أما المسألة الثانية التي تقدمت : وهي هل يشمل الحفظ في قوله تعالى [فاللهُ خيرٌ حافظًا] ( ) سلامة المسلمين من طاعة الذين كفروا والإنقلاب والإرتداد .
الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن وبيان مصاديق الحفظ والشواهد على أن الله عز وجل [خيرٌ حافظًا ] ويعطي الله عز وجل بالأوفى والأكمل ، ومنه مصاديق الحفظ في العقيدة والسلامة من الذل والهوان .
أما بالنسبة للمسألة الثالثة فقد جاء [خيرٌ حافظًا] بصيغة التمييز والحال [حافظًا]لأن الذي يأتي بعد اسم التفضيل على قسمين :
الأول : ما يكون من جنسه فيكون مضافاً ، كما في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ).
الثاني : إذا كان الذي بعد اسم التفضيل من غير جنسه يكون منصوباً ، قال تعالى [ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] ( ).
والتمييز أقوى وأظهر من الحال لأن موضوع الحال هو التقييد بذات الحال ، أما التمييز فهو أعم.
ولله عز وجل له ملك السموات والأرض وهو سبحانه الحافظ الناصر.
إبتدأت الآية بحرف الإضراب (بل) ليكون نفياً كما ورد في الآية السابقة متعددة المضامين ، ويستثنى من الإبطال والنفي النداء التشريفي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]الذي ابتدأت الآية الكريمة السابقة به من جهات :
الأولى : إمتناع ذات النداء عن النفي بعده في ذات موضوع الإيمان.
الثانية : مجئ مضامين آية البحث وما بعد حرف الإضراب تأكيداً لنداء التشريف والإكرام ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول: يا أيها الذين آمنوا الله مولاكم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بالله، هو خير الناصرين .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا الله مولاكم وهو خير الناصرين .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بأن الله هو مولاكم ، وفيه شاهد على تسليم المسلمين بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا بأن الله هو خير الناصرين ، وفيه دعوة للمسلمين للصبر والتنزه عن الوهن والجبن والضعف وأسباب القصور عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : التباين والتضاد بين دلالات النداء التشريفي وبين النهي الوارد في الآية السابقة .
الرابعة : النداء بصبغة الإيمان في أمر وجودي وشهادة من عند الله ، أما الذي ينهى الله عز وجل عنه المسلمين في الآية السابقة فهو تعليقي ورد بصبغة الجملة الشرطية، قال تعالى في الثناء على نفسه وبيان دلالات وغايات النهي في القرآن[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ]( ) .
لتكون الآية السابقة واقية من مقدمات الفحشاء والمنكر والبغي فلا تصل إلى المسلمين وتدّب إلى أفعالهم، وهو من مصاديق تفضل الله بصرف ذات السوء عن أوليائه قال تعالى في يوسف عليه السلام[كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( )، وجاءت آية البحث بالمعنى الأعم بالإحتراز من السوء والفحشاء ومن أسبابها ومقدماتها وأربابها، لصيغة الإطلاق بالولاية والنصرة في آية البحث، وهو من مصاديق[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابعة : تعلق النفي والإضراب بما قبل حرف الإضراب من حال الإنقلاب والخسارة التي تلحق المسلمين عند طاعة الذين كفروا .
ومن مفاهيم آية البحث بعث الحسرة في نفوس الكافرين من جهات :
الأولى : عجز الكفار عن جعل المسلمين يطيعونهم .
الثانية : علم المسلمين بمكر الذين كفروا ، وإرادتهم إغواء المسلمين .
الثالثة : إحتراز المسلمين من طاعة غير الله ورسوله .
الرابعة : بيان قانون كلي وهو أن المسلمين لا يطيعون أرباب الكفر ولا يتبعون الباطل وإن جاءهم بصيغة الأمر.
وفيه بشارة إستدامة علو راية التوحيد، وإستدامة أداء الناس للفرائض والعبادات , وفي عدم طاعة الذين كفروا خسارة لذات الكفار في النشأتين ، وإزاحة لهم عن منازل الرأي والقرار، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا]( ).
إفاضات الآية
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، يداهم البلاء الإنسان مسلماً كان أو كافراً، فجاءت الآية السابقة لغلق باب من أبواب الإبتلاء والإختبار بالسلامة من طاعة الذين كفروا، وقد يخشى المسلم الوقوع في مستنقع طاعتهم، ومحاولة إكراهه على ترك سنن التقوى التي تتضمنها الشريعة الإسلامية في العبادات والمعاملات وهذه المحاولة من مصاديق إحتجاج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
فتفضل الله عز وجل بآية البحث لتكون من فيض جوده , وسعة علمه من جهات:
الأولى : تفقه المسلمين في أمور الدين وإحاطتهم علماً بأن الذين كفروا لم ينفكوا عن السعي لإرتدادهم.
الثانية : ضعف ووهن كيد الكفار، وزاد نزول الآية السابقة من ضعفهم ووهنهم إذ أنها تبعث الإرباك والخيبة في نفوسهم، وآية الولاية من مصاديق[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( ).
وكل كلمة من الآية السابقة حرز من الإفتتان بطاعة الذين كفروا، وهي أمارة على ولاية الله عز وجل ونصرته للمسلمين من وجوه :
الأول : إبتداء الآية السابقة بنداء الإكرام (يا أيها الذين آمنوا) لبيان قانون وهو إتصاف المسلمين بمراتب سامية من الإيمان والتقوى.
الثاني : من الإعجاز في الآية السابقة نسبتها أسباب الإرتداد إلى ذات المسلمين، بقوله تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] وهو شاهد على فضل الله في قصور وتخلف الكافرين عن حمل المسلمين على طاعتهم.
الثالث : تعلق الإرتداد بطاعة الذين كفروا، لبيان قانون وهو أن الكفار لا يستطيعون حمل المسلمين على الإرتداد أبداً إلا أن يبدأ المسلمون بطاعتهم , وجاءت آية البحث مانعاً منه، نعم تدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الكفار يسعون في إضلال المسلمين وإشاعة الشك والريب في نفوسهم، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]( )، فقوله تعالى[إِنْ تُطِيعُوا] مدرسة في علم الكلام بنسبة مقدمات وأسباب الإرتداد إلى نفس السلم، وأنه لا موضوعية وأثر معتبر لسعي الكفار في إضلالهم.
الرابع : من خصائص النفس الإنسانية النفرة من الإرتداد والإنصراف بعد التقدم، يقال(ردَدْتُه أرُدّه ردّاً فارْتدّ وارتدَدْت عنه والاسم الرِدّة واسترددْتُ الشيءَ – طلبتُ ردّه والاسم الرِداد وكلّ ما رُدّ بعد أخذٍ فهو ردّ)( )، فجاءت الآية السابقة موافقة للفطرة الإنسانية بأن إبتدأت بالثناء على المسلمين ونعتتهم بصفة الإيمان، وفيه حث لهم على تعاهد هذه المرتبة بالإبتعاد عن طاعة الذين كفروا.
فلم تقل الآية السابقة إن تطيعوا الذين كفروا يجعلوكم مثلهم، بل ذكرت الإرتداد لبيان أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وأن المثلية في الكفر أشد قبحاً وقد لا تصل النوبة إليها.
الخامس : البيان التفصيلي لأمر الإرتداد وأنه لن ينتهي إلا بالتخلف عن الوظائف العبادية وغياب خصال الإيمان الجلية في القول والفعل لتقييد الإرتداد بقوله تعالى[يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ووصف الإرتداد بالأضرار التي تلحق بذات المسلمين، وكأنه هدم لجهاد المسلم في مسالك طاعة الله، وتفويت للفرصة على النفس بتدوين الملائكة الحسنات.
إن قيد (على اعقابكم) تذكير للمسلمين بحالهم قبل البعثة النبوية الشريفة وتصديقهم بالرسالة وإصابتهم بالجراحات والكلوم في سبيل الله، قال تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]( ).
السادس : نسبة الإنقلاب إلى المسلمين، فلم تقل الآية فيقلبوكم خاسرين، بل إن الخسارة تأتي للإنسان بفعله وإختياره، وطاعته للذين كفروا فينقلب عن الصراط المستقيم، وأسباب الهداية والرشاد، وفيه أن الذين كفروا في حال ضعف، وعاجزين عن دعوة المسلمين إلى ترك دينهم.
السابع : من الإعجاز في آية البحث أنها جاءت بصيغ ثلاث:
الأولى : إبتداء الآية بصيغة الجملة الإنشائية بالنداء التشريفي الذي يحمل أيضاً في معانيه لغة الخبر.
الثانية : مجئ الآية بصيغة الجملة الشرطية، وتعليق الإرتداد على فعل المسلم نفسه.
الثالثة : إختتام الآية السابقة بصيغة الجملة الخبرية وبيان أن الإنقلاب يكون بفعل المسلمين أنفسهم وليس من فعل الكفار، وفيه دلالة على عجزهم عن صرف المسلم عن مبادئ دينه والواجبات الشرعية، لتكون الآية السابقة من ولاية الله بسلامة المسلمين ورد مكر الكافرين إلى نحورهم، قال تعالى[وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ]( ).
الآية لطف
لقد أخبرت آية البحث عن ولاية الله ونصره للمسلمين ، وفيه وجوه :
الأول : كل من الولاية والنصرة من الجزاء من عند الله للمسلمين على إيمانهم وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : ولاية الله من الجزاء والنصرة فضل من عند الله .
الثالث : ولاية الله مقدمة للنصرة والغلبة على الكفار .
الرابع : كل من الولاية والنصرة فضل من عند الله أما الجزاء فهو أمر آخر ونعمة إضافية .
الخامس : موضوعية نظم الآيات ولحاظ الآية السابقة، خاصة وأن الآية إبتدأت بحرف الإضراب (بل) الذي يدل على تعلق موضوع آية البحث بالآية السابقة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من معاني دلالات اللطف الإلهي بالمسلمين والناس جميعاً .
ومن الإعجاز في الآية القرآنية أنها لطف في الدنيا والآخرة بذاتها، وليس من حصر لمصاديق اللطف الإلهي في آية البحث من جهة الموضوع والأثر والدلالة والحكم ، وتبين الآية حضور ولاية الله عند المسلمين عند الهم بالفعل وعند الشروع فيه وبعد إنجازه بتوفيق لأصالة الإطلاق فيها .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الإستغناء عن موالاة الكافرين وأسباب الركون إليهم ، فجاءت الآية موعدة كريمة منه سبحانه وبما يبعث السكينة والطمأنينة في نفوس المسلمين إذ توالى هجوم الكفار على المدينة المنورة وجهزوا الجيوش وألبوا الناس على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدوهم عن الإيمان وأكثروا من الإفتراء عليه وعلى التنزيل وعلى المسلمين ، فتفضل الله بالولاية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وهو سبحانه [نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] ( )وفيه مسائل :
الأولى : إختصاص المسلمين بالولاية والنصرة .
الثانية : مجئ الفضل الإلهي دفعة وعلى نحو متعدد في موضوعه وما يترتب عليه ، فليس من أمة تحضر عندهم ولاية الله ونصرته في آن وزمان واحد كما هو عند المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
ومن اللطف الإلهي في آية البحث بلحاظ قوله تعالى أعلاه[أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، في المقام مسائل :
الأولى : تثبيت المسلمين في منازل الهدى والإيمان، ليكون دعوة يومية متجددة للناس لدخول الإسلام , فالخروج في الآية أعلاه أعم من ذات فعل الخروج .
الثانية : إمتناع المسلمين عن طاعة الذين كفروا، وفيه خروج للناس من وجوه :
الأول : المناجاة بين المسلمين بالعصمة من الركون للكافرين والإنصات لهم ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن المسلمين شطر من الناس .
الثاني : إعطاء الناس درساً في لزوم عدم الإنقياد للذين كفروا، وحثهم على إتخاذ المسلمين أئمة في التنزه عن طاعة الكفار والإستماع لهم .
الثالث : زجر رؤساء الكفر عن دعوة الناس لطاعتهم .
الثالثة : دعوة الناس لدخول الإسلام .
الرابعة : خروج المسلمين للناس بولاية الله عز وجل لهم، لذا فمن إعجاز آية البحث أنها جاءت بصيغة الجملة الإسمية التي تفيد الدوام والإطلاق [اللَّهُ مَوْلاَكُمْ].
ليتجلى للناس المائز بين المسلمين والكفار في أمور :
الأولى : ولاية الله للمسلمين ، وليس من ولي للكفار .
الثاني : نصرة الله عز وجل للمؤمنين بالربوبية المطلقة لله عز وجل، وليس من ناصر للكفار ، قال تعالى [وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] ( ).
الثالث : إجتماع الولاية والنصرة من عند الله للمؤمنين .
الخامسة : دعوة المسلمين لتعظيم شعائر الله , وبذل الوسع في الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، وعندما جاءت قريش بخيلها وخيلائها لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستشارة أصحابه في الخروج إليهم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]( ) ولإرادة سماع قرار الأنصار بالقتال خارج المدينة لأن شرائط وفصول بيعة العقبة لم تشر إليه.
وعن ابن أسحاق أن المقداد بن عمرو قام (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ امْضِ لِمَا أَرَاك اللّهُ فَنَحْنُ مَعَك ، وَاَللّهِ لَا نَقُولُ لَك كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى : اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلَا ، إنّا هَهُنَا قَاعِدُونَ ” وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إنّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ سِرْت بِنَا إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَك مِنْ دُونِهِ حَتّى تَبْلُغَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا ، وَدَعَا لَهُ بِهِ .
ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاس وَإِنّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ ، وَذَلِكَ أَنّهُمْ عَدَدُ النّاسِ وَأَنّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا بُرَاءٌ مِنْ ذِمَامِك حَتّى تَصِلَ إلَى دِيَارِنَا ، فَإِذَا وَصَلْتَ إلَيْنَا ، فَأَنْتَ فِي ذِمّتِنَا نَمْنَعُك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا . فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَخَوّفُ أَلّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إلّا مِمّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوّهِ وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إلَى عَدُوّ مِنْ بِلَادِهِمْ . فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : وَاَللّهِ لَكَأَنّك تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ أَجَلْ قَالَ فَقَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك ، وَشَهِدْنَا أَنّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقّ ، وَأَعْطَيْنَاك عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا ، عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَك ، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَك ، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا ، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ . لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقَرّ بِهِ عَيْنُك ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ .
فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشّطَهُ ذَلِكَ . ثُمّ قَالَ سِيرُوا وَأَبْشِرُوا ، فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ وَاَللّهِ لَكَأَنّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ) ( ).
ليكون من ولاية الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنبي والمسلمين عزمهم على نصرة النبي وإعلان الإستعداد للبذل والتضحية والقتل في سبيل الله من غير خشية من الذين كفروا .
وجاءت خاتمة الحديث أعلاه نوع معجزة لما فيها من الإخبار عن نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ومن مصاديق قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] حضور ولاية الله وترشحها على لسان الصحابة والمؤمنين ، وإنتفاع المسلمين من آيات القرآن وكل آية مصداق للولاية وإستقراء مصاديق الولاية من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المقداد يقول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك بولاية الله وهو خير الناصرين.
ومن الآيات أن الأنصار سمعوا كلام المقداد فلم يردوا عليه ، مما يدل على إمضائهم وتقريرهم لقوله ليكون كلام المقداد وإمضاء الأنصار له من ولاية الله عز وجل لهم وهو مقدمة لنزول الملائكة لنصرتهم .
لذا بشرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر العظيم بأن أخبر عن مصارع كبار كفار قريش للبشارة بأن المسلمين لا يطيعون الذين كفروا يوم بدر لأن رؤساء الكفر والضلالة سقطوا بين قتيل وأسير وفيه تخفيف عن المسلمين بكسر شوكة الكفار وإزاحة ما لهم من الهيبة والشأن من النفوس لتكون هزيمتهم يوم بدر واقية من طاعتهم ومناسبة لإعراض الناس عنهم .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف الإضراب [بل] لتأكيد تضمن آية البحث لقانون أو أكثر من قوانين المشيئة الإلهية التي تفيد القطع ، وتدل عليها الشواهد من ذاتها وموضوعها وأحكامها .
قال المتنبي :
سَبُوحٌ لها مِنْها عليها شَواهِدُ( ).
ويحتمل ما بعد حرف الإضراب وجوهاً :
الأول : تعلق الموضوع بخصوص ما قبل حرف الإضراب ، فاذا أفاد ما قبله بيان سوء عاقبة طاعة الذين كفروا تأتي الآية لبيان ما هو ضده من النفع العظيم باجتناب طاعتهم.
الثاني : مجئ قانون عام بعد حرف الإضراب لا يختص بما قبله وحده .
الثالث : الإنتقال بحرف الإضراب إلى موضوع وحكم آخر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث وعموم الدلالة .
ولم تقل الآية [مولاكم الله] بل قدمت الآية اسم الجلالة.
لإفادة الحصر والقطع وأن المسلمين لا مولى لهم إلا الله ، وفيه حرب على عبادة الإوثان والطواغيت لذا ورد في التنزيل [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ).
وتفضل الله وجعل هذه الآية في سورة الفاتحة التي يقرأها كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم ، وتقدير الآية أعلاه بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : اللهم إياك نعبد أنت مولانا .
الثاني : اللهم أنت مولانا وجعلتنا إياك نعبد .
الثالث : إياك نعبد لا نعبد سواك أنت مولانا .
الرابع : إياك نستعين أنت مولانا.
الخامس : إياك نستعين للأمن والسلامة من طاعة الذين كفروا.
السادس : إياك نعبد وأنت خير الناصرين.
السابع : إياك نستعين وأنت خير الناصرين.
وهل يصح تقدير آية البحث (بل هو خير الناصرين) ام أن القدر المتيقن من موضوعية حرف الإضراب تعلقه بولاية الله، وأن قوله تعالى[وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] جملة استئنافية وقانون عام لا صلة له بموضوع الآية السابقة.
والصحيح هو الأول، وتلك آية في الإستغناء عن عون ومدد الذين كفروا من قريش والأحابيش والمنافقين، وفيه دعوة للمسلمين للثبات في منازل الإيمان وإقامة الفرائض، ويكون تقدير الآية بلحاظ الآية السابقة على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا الله خير الناصرين عند اللقاء مع كفار قريش، وهو الذي يفرق كلمتهم ويشتت جمعهم، ويجعل شطراً منهم يدخلون الإسلام، فمن مصاديق قوله تعالى[خَيْرُ النَّاصِرِينَ] أمور :
الأول : عدم مغادرة المسلمين منازل الهدى والإيمان.
الثاني : إزدياد ومضاعفة أعداد المسلمين، وهل من مصاديق المعنى الأعم لقوله تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً]( )، أنهم يكونوا أئمة للذين يدخلون الإسلام حديثاً، ليتلقوا منهم أحكام الصلاة والعبادات الأخرى، الجواب لا مانع منه، وهو من ولاية ونصرة الله عز وجل للمسلمين.
الثالث : ترك حلفاء قريش القتال معهم ونصرتهم لأنهم على الباطل، أما نصرة الله عز وجل للمسلمين فهي مستديمة.
الرابع : نصرة الله عز وجل للمسلمين ترغيب للناس بدخول الإسلام، سواء بلحاظ قوانين آية البحث أو مصاديق هذه النصرة وشواهدها المتكثرة والظاهرة لحواس الناس.
الخامس : توالي دخول الناس في الإسلام، ومن نصرة الله للمسلمين تفضله بجعل الإفئدة تهوى الإسلام والعقول تختار الإيمان، وهو من مصاديق اسم التفضيل في آية البحث(خير الناصرين) .
فليس من أحد أو أمة أو خلق يستطيع تغيير ما في القلوب إلا الله، وعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك . قلنا : يا رسول الله تخاف علينا وقد آمنا بك؟ فقال : إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يقول به هكذا . ولفظ الطبراني : إن قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الله عز وجل ، فإذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه( ).
السادس : إختيار طائفة من الكفار الإسلام، ومنهم عدد من رؤسائهم، وهو من نصرة الله للمسلمين لما فيه من الحجة على الأتباع والعامة.
ترى لماذا عطفت الآية نصرة الله على ولايته في آية البحث، الجواب من وجوه:
الأول : بيان أن عدم طاعة الذين كفروا يستلزم النصرة والعون من عند الله.
الثاني : كان إيمان المسلمين جهاداً في سبيل الله، وذات النطق بالشهادتين تحد لأقطاب الكفر والموروث من عبادة الأوثان، وكان المتعارف بين الناس ان النبوة في بني إسرائيل وعند أهل الكتاب، فجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إحياءً لحنيفية إبراهيم عليه السلام، وبياناً لموضوعية البيت الحرام في تأريخ النبوة، قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
الثالث : عدم إنحصار عمل المسلمين بالسلامة من طاعة الذين كفروا، فلابد لهم أن يطيعوا الله عز وجل ويتفقهوا في الأحكام الشرعية، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ومن رحمة الله عز وجل ولايته ونصرته للمسلمين.
الرابع : الجمع بين ولاية الله ونصرته من ثناء الله عز وجل على نفسه، والإخبار عن قدرته المطلقة ورحمته بالمؤمنين وعدم إستعصاء مسألة عليه ، قال تعالى[إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ]( ).
الخامس : بيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وإفادة القطع بظهور دولته، وتثبيت أحكام شريعة الإسلام في الأرض.
السادس : نزلت آية البحث , والكفار يواصلون الهجوم على المدينة، وتصاحب هجومهم الإشاعات والإفتراءات، خاصة مع قلة عدد وأسلحة ومؤون المسلمين، فجاءت آية البحث معجزة عقلية وحسية تجلت مصاديقها لأجيال الناس، وصارت موعظة وزاجراً عن التعدي على المسلمين.
السابع : حث المسلمين على الدعاء والتضرع لتفضله بنصرتهم ولم تقل الآية (والله خير ناصر لكم) لدلالة اللفظ أعلاه على تعدد الناصر للمسلمين , ولكن آية البحث أخبرت عن حصر ولاية المسلمين بالله ثم ذكرت صفة من صفاته تترشح بركاتها على مصاديق الولاية بسلامة المسلمين وإزاحة مفاهيم الكفر.
وفي حديث الإسراء وعندما إنتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سدرة المنتهى في دعائه ومناجاته لله عز وجل : فقلت : {رَبَّنَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} قال : قد رفعت الخطأ والنسيان عنك وعن أمتك وما استكرهوا عليه،
قلت : {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال : قد فعلت ذلك بك وبأمتك. قلت ربنا {وَاعْفُ عَنَّا} من الخسف {وَاغْفِرْ لَنَا} من القذف {وَارْحَمْنَآ} من المسخ {أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: قد فعلت ذلك لك ولأُمتك،
ثمّ قيل : لي سل.
فقلت : يارب إنك إتخذت إبراهيم خليلاً،
وكلمت موسى تكليماً،
ورفعت إدريس مكاناً علياً،
وآتيت سليمان ملكاً عظيماً،
وآتيت داود زبوراً،
فمالي يارب؟
قال ربي : يا محمّد اتخذتك خليلي كما اتخذت إبراهيم خليلاً وكلمتك كما كلمت موسى تكليماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة وكانا من كنوز العرش ولم أعطها نبياً قبلك،
وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعاً أبيضهم وأسودهم وإنسهم وجنّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبياً قبلك وجعلت الارض كلها برّها وبحرها طهوراً ومسجداً لك ولأمتك وأطعمتك وأمتك الفيء ولم أطعمه أمة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوك مسيرة شهر،
وأنزلت عليك سيد الكتب كلها ومهيمناً عليها قرآناً فرقناه ورفعت لك ذكرك فتذكر كلما ذكرت في شرائع ديني،
وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الانجيل المبين ومكان الزبور الحواميم،
وفضلتك بالمفصّل وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس وجعلهم أمة وسطاً وجعلتهم الأولين وهم الآخرون فخذما أتيتك وكن من الشاكرين]( ).
الثامن : إخبار المسلمين عن قانون في حياتهم العبادية ، وهو أن سعيهم وصبرهم وجهادهم لا يختص بعدم طاعة الكافرين ، بل عليهم بذل الوسع في الدعوة إلى الله ، وبيان الأحكام ، وتلك آية في إصلاح المسلمين لوظائف وراثتهم للأنبياء ، ومصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
وكأن آية البحث تقول ، بل الله مولاكم فهو الذي ينجيكم من طاعة الذين كفروا والخسارة المترشحة عنها ، وهو ناصركم عليهم وفيه خيبة للذين كفروا , لذا قال تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] وهذا المعنى لا يمنع من الجمع بين إرادة نصرة الله للمسلمين ومن ولايته لهم عند اللقاء , ونجاتهم من طاعة الذين كفروا.
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : الإخبار والوعد الكريم من عند الله للمسلمين بالولاية والنصرة ، وليس من شئ في الدنيا أبهى من مصاحبة الوعد الإلهي للفرد والجماعة ، وجاء هنا ليصاحب أمة عظيمة وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )فالمسلمون خير أمة لأن الله عز وجل أخبر بولايته ونصرته لهم , ويخرجون للناس بآية البحث لينهلوا منها , ويتدبروا بشواهدها ومصاديقها العملية في الواقع .
الثانية : تثبيت قلوب المسلمين ، وطرد الإرتياب عنهم ، وتنزيه صفوفهم من النفاق وأثر المنافقين ، فمن الإعجاز في آيات القرآن علاج ظاهرة النفاق بما يؤدي إلى إصلاح المنافقين وصيرورة ما يضمرون في أنفسهم موافقاً لما يقولون ويظهرون من مفاهيم الإسلام ، لذا إمتنع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل رأس النفاق مع مجئ الحث عليه من إبنه نفسه .
وحينما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في كتيبة بني المصطلق حدثت خصومة بين غفاري مهاجر وبين حليف لبني عوف بن الخزرج على الماء ،فنادى الأول يا معشر المهاجرين ، وصرخ الثاني يا معشر الأنصار قال ابن إسحاق (فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث فقال: أو قد فعلوها ؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ؟ والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الاول: سمن كلبك يأكلك” أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل.
ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.
فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لا ولكن أذن بالرحيل.
وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرتحل فيها.
فارتحل الناس.
وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم بلغه ما سمع منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به.
وكان في قومه شريفا عظيما، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الانصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل.
حدبا على ابن أبي ودفعا عنه.
فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، وقال: يا رسول الله والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح
في مثلها ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال: أي صاحب يا رسول الله ؟ قال: عبدالله بن أبي.
قال: وما قال ؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الاعز منها الاذل.
قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت،
هو والله الذليل وأنت العزيز.
ثم قال: يا رسول الله ارفق، فو الله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الارض فوقعوا نياما.
وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالامس من حديث عبد الله بن أبي، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع يقال له بقعاء.
فلما راح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هبت على الناس ريح شديدة فآذتهم وتخوفوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تخوفوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار.
فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع، وكان عظيما من عظماء اليهود وكهفا للمنافقين، مات ذلك اليوم) ( ).
وأتى عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمر لي به فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده منى، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا) ( ).
الثالثة : بعث اليأس والقنوط في نفوس الكفار ، إذ إبتدأت الآية بحرف الإضراب [بل] الذي ينفي إرتداد المسلمين ويبطل إحتمال إنقلابهم وتلقيهم الخسارة لإنتفاء المعلول بانتفاء علته فما دام المسلمون لا يطيعون الذين كفروا فهم في عز وتوفيق وإقامة على النهج القويم ، وعدم الطاعة هذا من وجوه :
الأول : إبتداء الآية السابقة بالخطاب للمسلمين بصبغة الإيمان [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]ففي كل زمان يصدق على المسلمين أنهم مؤمنون , والإيمان واقية من طاعة الذين كفروا للملازمة بينه وبين طاعة الله , وعدم إجتماع الضدين، وهو وفق القياس الإقتراني .
الكبرى : الذين يطيعون الله لا يطيعون الذين كفروا .
الصغرى : المسلمون يطيعون الله .
النتيجة : المسلمون لا يطيعون الذين كفروا .
الثاني : تأكيد آية البحث والآية السابقة على قبح ذات الكفر وسوء فعل الكافرين ، لتكون طاعتهم صفحة إضافية لذات القبح والأمر المذموم .
الثالث : توجه كل مسلم ومسلمة بالدعاء وبصبغة القرآنية إلى قول [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
ومن لوازم هذه الهداية الأمن والسلامة من طاعة الذين كفروا والإعراض عنهم .
الرابعة : بيان مصداق من مصاديق ملك الله للسموات والأرض وأن الإطلاق في هذا الملك رحمة بالمؤمنين ، فمن ولايته لهم عصمتهم من طاعة الذين كفروا.
ومن الإعجاز في القرآن أن لفظ يطيعون لم يرد فيه إلا مرة واحدة وبخصوص طاعة المسلمين لله ورسوله بقوله تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ] ( ) وكأن فيه وحصر صيغة المضارع في الطاعة بلغة الجمع بطاعة الله إخبار عن إنقراض عبادة غيره ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن رحمته تعالى سلامة منالمسلمين من طاعة الذين كفروا بولاية الله لهم ، وتحتمل هذه السلامة وجوهاً :
الأول : نجاة وسلامة المسلمين من طاعة الذين كفروا عن علم ودراية .
الثاني : تأتي هذه السلامة إنطباقاً وإتفاقاً .
الثالث : تحصل هذه السلامة من جهاد وصبر من المسلمين في موضوعها .
الرابع : تتحقق هذه السلامة بانتفاء موضوعها ، كما لو كان المسلمون في بلد أو قرية منفصلين عن الذين كفروا .
والصحيح هو الأول ولا مانع من الوجوه الأخرى وهي من فضل الله، ومن إسرار ولاية الله عز وجل للمسلمين وتفقههم في الدين , وفي التنزيل[وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا]( ) .
الخامسة : تتضمن الآية التحدي في مضمونها القدسي فصحيح أنها جاءت بصيغة الخطاب الموجه للمسلمين إلا أنها تتحدى الكفار وتقول لهم لا تستطيعون إغواء المسلمين ، ويتعذر عليكم فتنتهم ودبيب الإرتداد إلى بعضهم لأن الله مولاهم .
فمجئ الآية بصيغة الخطاب لا يمنع من قراءتها بصيغة الغائب وإرادة غير المسلمين ، فهي تقول لعموم الناس : لا يستطيع الكفار إغراء المسلمين وجعلهم يرتدون عن دينهم) ليكون من معاني هذا التقدير للآية أمور :
الأول : يا أيها الناس سارعوا إلى دخول الإسلام من جهات :
الأولى : الإسلام دين ولاية الله .
الثانية : إقتران وملازمة النصر للإسلام ، فان قلت قد إنهزم المسلمون يوم أحد ، والجواب إنما خسر المسلمون جولة من المعركة التي إنتهت بانسحاب كفار قريش من ساحة المعركة ومغادرتهم إلى مكة , ويبدو أن هجومهم على المسلمين ساعة من نهار يوم أحد ليس له حلاوة أو طعم عندهم ، ولم يدفعهم إلى مواصلة القتال مما يدل على عدم إنتصارهم (وأخرج ابن جرير عن السدي قال : فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة : ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي، فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان) ( ).
وما لبث المسلمون أن إجتمعوا حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يغادر وسط الميدان , وهذا الثبات الذي لم يتم إلا بالوحي دليل على عدم حصول الهزيمة للمسلمين .
الثالثة : الإسلام دين الوقاية والأمن من طاعة الذين كفروا , وما فيها من الضرر والإثم.
الثاني : زجر الناس عن إعانة قريش والذين كفروا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام.
الثالث : هذا الجمع من الشواهد على العموم في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الرابع : من نصرة الله للمسلمين تحذير الناس من نصرة عدوهم، والإخبار بأن عاقبتها الخيبة والخسران.
السادسة :بيان قانون وهو أن ولاية الله منجية من المهالك لقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] وإذا قيل كيف تكون الولاية وسيلة للدخول إلى الجنة , الجواب من وجوه :
الأول : ولاية الله عون لأداء الفرائض والعبادات .
الثاني :من فضل الله عز وجل بولايته للمسلمين تقيدهم بأحكام الحلال والحرام وإيمانهم باليوم الآخر وخشيتهم من العقاب والحساب الشديد .
الثالث: إختتام آية البحث بقوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] إذ يأخذ الله عز وجل بأيدي المؤمنين إلى الجنة ، ليدل النهي عن طاعة الذين كفروا في مفهومه على الدعوة إلى السعي إلى الجنة بطاعة الله ورجاء نصرته وذكرنا لفظ (المهالك) أعلاه بصيغة التعدد لبيان كثرة أسباب الهلكة التي تترشح عن طاعة الذين كفروا والإضرار الجسيمة التي تلحق بالذي يطيعهم ، وهم لا يرضون إلا أن يحملوا الإنسان على محاكاتهم في جحودهم وضلالتهم ولا يريدون للإنسان الا أن يكون معهم ولا ضدهم.
لذا فمن معاني (يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) في الآية السابقة أي تنقلبوا على أصحابكم المسلمين ، وتكونوا حرباً عليهم ، وهو الذي يتجلى بالأولوية في عداوة المنافقين للإسلام والنبوة والمسلمين ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ] ( ).
السابعة : بعث الأمل في نفوس المسلمين ودعوتهم للصبر في مرضاة الله وترك الجزع والفزع والخوف إن تعرضوا للأذى ، قال تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ] ( ).
فيلجأ المسلمون مع الضرر الذي يلحق بهم بلحاظ آية البحث إلى أمرين في كل واحد منهما خير الدنيا والآخرة ، ولو لجأ إليه أهل الأرض جميعاً لأنجاهم من كل كرب وبلوى وهما :
الأمر الأول : ولاية الله , ورجاء لطفه وفضله على المسلمين .
الأمر الثاني : نصرة الله عز وجل التي تتصف بالإطلاق في حال الحرب والسلم , والشدة والرخاء، والضراء والبأساء .
وهل عدم طاعة الذين كفروا من الصبر أو أنه يستلزم الصبر، الجواب هما معاً من جهات :
الأولى : الصبر على المعصية لنهي الآية السابقة عن طاعتهم وعدم التقيد بمقتضى هذا النهي معصية .
الثانية : الصبر في طاعة الله لأن أداء الفرائض والواجبات العبادية واقية من طاعة الذين كفروا ، قال تعالى [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ]( ).
الثالثة : حبس النفس عن الهوى ، ومحاربة النفس الشهوية, والإمتناع عن اللهث وراء مباهج الدنيا .
الرابعة : الصبر في سوح القتال , وعدم الخضوع للكفار في شروطهم ومقاصدهم .
الثامنة : إخبار المسلمين والناس عن قانون كلي في الإرادة التكوينية , وهو على وجوه :
الأول : ولاية الله للمسلمين .
الثاني : نصرة الله عز وجل للمسلمين.
الثالث : الكفاية في المدد والعون الذي يأتي من عند الله , وفي التنزيل[وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ]( ).
ومن غاياته الحميدة وجوه :
الأول : بعث المسلمين على الشكر لله عز وجل , وإجتهادهم في الثناء على الله وتسبيحه .
الثاني : بيان فضل الله بأنه يعطي ويهب المتعدد في جنسه , وكل فرد يتفرع إلى فروع كثيرة .
الثالث : دعوة المسلمين لتعاهد نعمة الولاية والنصرة .

التفسير
قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]
تتصل هذه الآية في موضوعها بالآية السابقة ، فصحيح أنها لن تبدأ بعطف نسق أو بيان إلا أن من خصائص حرف الإضراب (بل) الذي تبدأ به آية البحث أنه يفيد تعلق الموضوع الذي بعدها بما قبلها مع تعيين نوع العلقة بينهما ، وكأنه عطف من نوع خاص ، عطف بنفي ما قبلها وإثبات ما بعدها.
ومن خصائص النفي في المقام أنه لا يشمل ما يوافق المعنى المثبت الذي جاء بعد (بل) فاذا تضمن الكلام قبل (بل) ثناء وذماً ، وجاء بعدها من ذات جنس الثناء فان الإبطال يختص بالذم دون الثناء .
ومن الإعجاز في المقام ورود الإنذار قبل [بل] من الإنقلاب والخسارة ، بينما بدأت الآية السابقة بالثناء على المسلمين ونعتهم بصفة الإيمان وهو أمن من الخسارة ، ليكون من نصرة الله في الآية السابقة إكرام المسلمين بنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]ليكون واقية من الخسارة , وكشفاً لأحوال الأمم السابقة , وفيه مسائل :
الأولى : النطق بالشهادتين من نصرة الله للمسلمين .
الثانية : صيرورة النطق بالشهادتين مقدمة وطريقاً لنصرة الله .
الثالثة : تكرار النداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في القرآن تسعاً وثمانين مرة ، وإختصاص المسلمين به ، وجاء مدخلاً لبيان الأحكام والأوامر والنواهي وهو نصر من عند الله .
الرابعة : إعانة المسلمين لأداء العبادات والفرائض التي تترشح عن النطق بالشهادتين .
ومن خصائص إتصال آية البحث بالآية السابقة بالجامع بينهما وهو لغة الخطاب والنداء شمول المسلمات بالخطاب في آية البحث لأن قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الوارد في الآية السابقة شامل للمسلمين والمسلمات ، إنما ورد التذكير فيها لتغليب لغة التذكير وتقدير الآية : بل الله مولاكن .
ومن خصائص الجمع بين المذكر والمؤنث في لغة التذكير حاجة المسلمات إلى ولاية الله عز وجل للرجال من المسلمين في ميادين المعارك , وفي حال السلم والبناء والمكاسب .
لقد ورد لفظ (بَلْ) في القرآن نحو إثنين وتسعين مرة، وهي مدرسة في موضوعاتها وأحكامها للإرتقاء في سلم المعارف ، وفقاهة في علم الكلام , ومادة في الإحتجاج وإقامة البرهان .
وأول فرد منها بلحاظ نظم الآيات هو [وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ] ( ).
وفيه ذم وتقبيح لأمور :
الأول : الإصرار على الكفر والجحود , فهو مبغوض قولاً وفعلاً .
الثاني : اللجوء إلى المغالطة في الجدال وإرادة الفتنة .
الثالث : عدم الإصغاء للحجة والبرهان , والإمتناع عن التدبر في الدلائل الواضحات التي تدل على وجوب عبادة الله , وصدق النبوة .
وآخر فرد منها في القرآن في قوله تعالى[كَلاَّ بَل لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ]( ) في ذم الكفار في الجاهلية إذا كانوا لا يورثون اليتيم ويحرمونه من سهمه من الميراث ، وفيه حجة لحاجة الناس إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن .
وتدل الآية أعلاه على إقامة الكفار على أعراف وقواعد تتصف بالظلم , وتجلب لهم النفع الخاص مما يدل على إستعدادهم للقتال دفاعاً عنها ، وكان الحال والشأن والجاه والعادة معهم , فبعث الله الأنبياء , وشطر من الناس على منهج مخصوص لا أصل له فجاءت ولاية الله لنصرة الأنبياء والمؤمنين , قال تعالى[كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي]( ).
من الإعجاز في آية البحث أنها إبتدأت بحرف الإضراب (بَلْ)، وفيه وجوه:
الأول : إبطال ما تقدم من الإنقلاب والخسارة التي قد تلحق المسلمين فليس ثمة فترة أو كلمات أو جملة إعتراضية بين الإنذار بالخسارة وبين إبطالها.
ولم يأت الإبطال بصيغة الجملة الشرطية لبعث المسلمين على عمل الصالحات والمسارعة في الخيرات، بل جاءت بصيغة الجملة الخبرية لإفادة الثبوت والقطع خاصة , وأن الآية نزلت في المدينة وقد فشا الإسلام وبانت أحكامه وبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعض أهل البيت والصحابة أمراء في مكة واليمن والبحرين وغيرها .
ومن معاني (بل) إذا سبقها نهي أنها تكون بمعنى لكن، فتقرر ما قبلها وتثبت خلافه نحو لا تصم العيد، صم شهرَ رمضان.
وقالوا إن حرف [بَلْ] يفيد الإضراب ولكن لو جاء وحده لما إستبان المعنى , وأبى الله إلا أن يجعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وهذا التبيان ليس بذاته بل تأتي معه شآبيب الرحمة ، وهو من إعجاز القرآن , وتقدير الآية أعلاه ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ رحمة للعالمين ) جمعاً بينها وبين آية الرحمة التي تقدمت ، كما أن هذا التباين من ولاية الله للمسلمين إذ تفضل سبحانه وأخبر المسلمين بخير الدنيا والآخرة وهو ولايته لهم ، وفيه بلحاظ التبيان مسائل :
الأولى : من أسرار خلق الإنسان ووراثته الأرض ولاية الله عز وجل لأهل الإيمان .
الثانية : تعيين الأمة التي فازت بولاية الله، ومن رحمة الله بالناس توارث وتعاقب أفراد الأمة المرحومة نعمة الولاية إلى يوم القيامة.
ومن مصاديق ولاية الله في آية البحث أنه يعطي للمسلمين ما به كمال عزتهم ومنعتهم، والبلغة التي يصلون بها إلى الغاية الأحسن من غير تقييد بحسب الحال والمقال، وأخرج أبو يعلي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتى شق ذلك عليه ، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً ، فأتى فاطمة فقال يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ فقالت : لا والله .
فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم ، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها , وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي ، وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام ، فبعثت حسناً أو حسيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليها , فقالت له : بأبي أنت وأمي قد أتى الله بشيء قد خبأته لك فقال : هلمي يا بنية بالجفنة . فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً ، فلما نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله .
فحمدت الله تعالى وقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه حمد الله وقال : من أين لك هذا يا بنية؟ قالت : يا أبت { هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } فحمد الله ثم قال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله رزقاً فَسُئِلَتْ عنه[قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
الثالثة : المسلمون هم أمة الولاية , وتدل عليه آية البحث لمجيئها بصيغة الخطاب المتوجه إلى المسلمين والمسلمات ولغة الإضراب لبيان أن من خصائص الولاية عدم إجتماع الخير والشر والثواب والعقاب فيها ، بل الولاية خير محض وجزاء حسن .
الرابعة : خروج المسلمين للناس بولاية الله ، فلما إنقطعت النبوة وتوقف الوحي بإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، تفضل الله عز وجل , وأخرج المسلمين للناس بأمور:
الأول : الإيمان بالله ورسله وأنبيائه وكتبه.
الثاني : أداء الفرائض والعبادات.
الثالث : تلاوة آيات القرآن والعمل بأحكامها.
الرابع : العمل بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أنها وحي .
الخامس : ولاية الله التي رزقها المسلمين , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ), وتقدير الآية أعلاه بلحاظ آية البحث على وجوه :
أولاً : كنتم خير أمة بولاية الله ، ويصح تقدير الآية صرتم خير أمة) ، أي باتباعكم سيد الأنبياء والرسل( ).
ثانياً : كنتم خير أمة أخرجت لذاتها بولاية الله بلحاظ أن بين الناس المذكورين في الآية أعلاه وبين المسلمين عموم وخصوص مطلق ، فيصح التفصيل والبيان في الآية .
ثالثاً : كنتم خير أمة أخرجت لأهل الكتاب بولاية الله , والسلامة من الإنقلاب والإرتداد .
رابعاً : كنتم خير أمة أخرجت للكفار فيقاتل المسلمون، ويكون النصر حليفهم بولاية الله ، ويدعو المسلمون الناس إلى الإسلام بولاية الله ويهيئ الله عز وجل مدداً لهم من الملائكة والجن والإنس والطير.
وما قوله تعالى [وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ] ( ) إلا مصداق لولاية الله للأنبياء.
(قال مقاتل في هذه الآية : كان سليمان عليه السلام جالساً إذ مرَّ به طائر يطوف فقال لجلسائه : هل تدرون ما يقول الطائر الذي مرَّ بنا؟
قالوا : أنت أعلم.
فقال سليمان : إنّه قال لي : السلام عليك أيّها الملك المسلّط على بني إسرائيل.
أعطاك الله سبحانه وتعالى الكرامة وأظهرك على عدوّك.
إنّي منطلق الى فروخي ثم أمرّ بك الثانية.
وإنّه سيرجع إلينا الثانية فانظروا إلى رجوعه.
قال : فنظر القوم طويلاً إذ مرَّ بهم فقال : السلام عليك أيّها الملك إن شئت أن تأذن لي كيما أكسب على فروخي حتى يشبّوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت.
فأخبرهم سليمان بما قال وأذن له) ( ).
وتحتمل ولاية الله عز وجل وجوهاً :
الأول : أنها من الكلي المتواطئ إذ تكون على مرتبة واحدة بالنسبة للأنبياء والأولياء والصالحين وعموم المسلمين .
الثاني : التعدد في سنخية الولاية , بلحاظ عمل وتقوى المسلم فمنهم ما تكون ولاية الله له من الكلي المتواطئ , ومنهم ما تكون له من الكلي المشكك .
الثالث : إنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً , خاصة في الآخرة ورزق الله الشهداء مثلاً الشفاعة إلا أن يقال أن الشفاعة ليس من الولاية، وأنها نعمة أخرى قائمة بذاتها .
ولا تعارض بين الأمرين، فالشفاعة فرع الولاية، ويصدق عليها أنها نعمة بذاتها، قال تعالى[لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا] ( )، فلا يأذن بالشفاعة[إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( ).
الرابع : إرادة ولاية الله للمسلمين كأمة.
والمختار أن الوجوه أعلاه صحيحة , وإن تباين المصداق وأوان حضوره, وفيه بعث للمسلمين للإجتهاد بسبل التقوى .
وولاية الله للأنبياء أسمى واعلى مرتبة منها لعموم المسلمين ، بدليل الآية أعلاه فسخر الله عز وجل الجن والأنس والطير لسليمان ونزل ملك الجبال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (عروة بن الزبير : ان عائشة حدثته انها قالت : يا رسول الله هل اتى عليك يوم كان اشد من يوم احد ؟ فقال: ما لقيت من قومك وكان اشد ما لقيت منهم يوم العقبة اذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبنى إلى ما اردت فانطلقت وانا مهموم على وجهى، فلم استفق الا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسى فاذا انا بسحابة قداظلتنى ، فنظرت فاذا فيها جبرئيل عليه السلام فنادانى فقال : ان الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث اليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم .
قال : فنادانى ملك الجبال وسلم علي ، ثم قال : يا محمد ان الله قد سمع قول قومك لك وانا ملك الجبال وقد بعثنى ربك اليك) ( ).
ترى لماذا لم تقل آية البحث (مولاكم الله ) والجواب ورد لفظ (اللَّهُ مَوْلاَكُمْ) أربع مرات في القرآن يتقدم فيها اسم الجلالة ليكون من مصاديق الآية الوعد الكريم من عند الله عز وجل ، وفيه دعوة للمسلمين للتوكل عليه سبحانه ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]( ).
أي ليس للمسلمين مولى غير الله عز وجل لتجتمع البشارة مع الوعد والعهد من عند الله في الموضوع المتحد فالله عز وجل هو الذي يتولى أمور المسلمين ويجعلهم أعزة في الدنيا والآخرة .
وجاءت آية البحث لدفع وهم ، فلا يظن المسلم أن الكفار ينصرونه أو يمدون يد العون للمسلمين مجتمعين أومتفرقين ، ومن ولاية الله عز وجل للمسلمين إخبار الآية عن نصرة الله عز وجل لهم ومن نصرته لهم إخبار الآية عن ولاية الله لهم.
والطاعة فعل مركب من أطراف :
الأول : المطاع .
الثاني : المطيع .
الثالث : موضوع الطاعة .
أما بالنسبة للأول فان الآية السابقة تنفي الجهالة والغرر سواء في الموضوع أو الحكم إذ تقيد النهي عن الطاعة بخصوص الذين كفروا لأنهم لا يأمرون بالحق ولا يدعون إلى الهدى إنما يأمرون بالمنكر ويكتمون الحق ويحرفون الكلم ويجحدون بالمعجزات عناداً وحباً لمتاع الدنيا والجاه .
فجاءت آية البحث للإخبار بأن ما عند الكفار زائل وغير مستقر لأنهم لم يتمسكوا بولاية الله وحرموا أنفسهم من نصرته تعالى .
لقد تضمنت الآية السابقة ذم الذين كفروا ونهت عن طاعتهم وجاء النهي للمسلمين مجتمعين ومتفرقين ، أما موضوع الطاعة الذي تنهى عنه الآية السابقة [إِنْ تُطِيعُوا] لقد بينت الآية السابقة الأضرار التي تتفرع عن طاعة الذين كفروا ، فجاءت آية البحث لتخبر عن سلامة المسلمين منها ومن الأصل الذي تترتب عليه، وتحتمل آية البحث وجوهاً :
الأول : إخبار الكافرين بعصمة المسلمين من طاعتهم وإن أنفق الكفار الأموال وبذلوا الوسع وآذوا المسلمين، ومن ولاية الله عز وجل للمسلمين صرف الضرر عنهم , وتخفيف شدة الأذى الذي يأتي من الكفار ، كما في قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وتقدير الآية : لن يضروكم إلا أذى لأن الله مولاكم ) ولولا ولاية الله لأضروا بالمسلمين ، وفي الآية إعجاز وهو سلامة الإسلام من إضرار وكيد الكافرين فقد يقع الأذى بالمسلمين وهو أدنى مرتبة من الضرر ليكون من ولاية الله بالمسلمين سلامة مبادئ وأحكام الإسلام وآيات القرآن من شرور الكافرين .
وهل يصح القول : بل الله مولى الإسلام الجواب نعم بلحاظ المعنى اللغوي , والإسلام دين الله , والقدر المتيقن من الولاية أنها تتعلق بالمؤمنين لثباتهم في دين الله، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : بل الله مولاكم في بقائكم في منازل الهدى والإيمان .
الثاني : الله مولاكم في العصمة من طاعة الذين كفروا .
الثالث : الله ناصركم ومولاكم بالأمن من الإرتداد مطلقاً , إذ أن الآية ذكرت طاعة الذين كفروا والتي قد تسبب الإرتداد , وفيه مسائل :
الأولى : أضرار طاعة الذين كفروا أعم من الإرتداد لذا من إعجاز الآية السابقة إختتامها بترشح الخسارة المطلقة عن طاعة الذين كفروا , وإبتدأت هذه الآية بالبشارة بالأمن والنجاة منها .
الثانية : أسباب الإرتداد أعم من طاعة الذين كفروا ، للقاعدة العامة في الغالب , وهي أن المسُبب أعم من أن ينحصر حدوثه بسبب واحد، قال تعالى [وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] ( ).
الثالثة : لزوم الصبر في ميادين القتال , ومن مصاديق أداء الصلاة على كل حال وتشريع صلاة الخوف ساعة القتال ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن تعاهدها في حال القتال آمن من الإرتداد ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( ).
الرابع :الله مولاكم لتعبدوه وتجتهدوا في طاعته .
الخامس : الله مولاكم لأنه ولي المؤمنين من أيام آدم وإلى قيام الساعة , وفي التنزيل [وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
السادس : الله وليكم وبولايته النجاة في الدارين .
السابع : الله وليكم , وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام ، وترغيب بالأخوة الإيمانية المترشحة عن هذه الولاية .
الثامن : الله وليكم لتكونوا في مأمن من الهزيمة ومن الخسارة سواء الخسارة في ميادين القتال أو المترشحة عن طاعة الذين كفروا أو غيرها من الأسباب ، قال تعالى [وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا] ( ).
التاسع : الله وليكم أيها المسلمون فلا تتخذوا ولياً غيره سبحانه وهذه العصمة من ذخائر ولاية الله , وفي التنزيل [قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
وتدل آيات القرآن على أن ولاية الإيمان على أقسام :
الأول : ولاية الله للمؤمنين ، وهو الذي جاءت به آية البحث .
الثاني : ولاية المؤمنين لله عز وجل .
الثالث : ولاية المسلمين لله عز وجل ، وفي التنزيل [ إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ] ( ).
إذ تجمع الآية أعلاه بين إخبار وتسليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله هو وليه وناصره وحافظه ، وأن الله عز وجل يتولى الصالحين ، وبين لفظ الصالحين في الآية وبين الأنبياء عموم وخصوص مطلق , فالصالحون أعم .
وقد يقال أن معنى الولاية في الآية أعلاه واحد , وأن المراد منها أن الله مولاي , وإرادة قوس نزول الولاية من عند الله وهذا صحيح إلا أنه لا يمنع من صعود معنى الولاية من العبد فمن ولاية العبد إنقطاعه لعمل الصالحات وإقراره بأنه منقاد له ، يؤدي الأوامر التي تأتي من عند الله ورسوله ويجتنب ما نهى الله عنه.
وتحتمل الولاية في المقام وجوهاً:
الأول : الملازمة بين الولاية وسن البلوغ للمسلم.
الثاني : إرادة الإطلاق فحالما يولد المسلم تأتيه الولاية بقدرها من الحفظ والعناية الإلهية.
الثالث : القدر المتيقن من الولاية نصر المسلمين في ميادين القتال، وسلامتهم من إطاعة الذين كفروا بلحاظ نظم الآيات، وموضوع الآية السابقة.
الرابع : إرادة ولاية الله للمسلمين كأمة واحدة.
والمختار هو الثاني والرابع، ويكون الأول والثالث في طولهما، وهو من أسرار إبتداء الآية بحرف الإضراب (بل) للدلالة على بيان قانون كلي وهو حضور وكفاية ولاية الله في كل الأحوال .
علم المناسبة
ورد لفظ [مَوْلاَكُمْ] خمس مرات في القرآن ، وبصيغة الخطاب وهو على قسمين :
الأول : الخطاب الموجه للمسلمين والمسلمات , وجاء اربع مرات وتتضمن جميعاً الإخبار بأن الله عز وجل مولى المسلمين والمسلمات .
الثاني : الخطاب الموجه للمنافقين والكفار وجاء مرة واحدة ويتضمن الإخبار عن ولاية النار لهم بقوله تعالى [مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
وفيه آية إعجازية تدل على أن النار ذات إحساس ، ومن ولايتها للذين يقيمون فيها العذاب الأليم ، وفي التنزيل في خطاب للنار [يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ] ( ) وكأن النار تدعو الكافرين في الدنيا إليها لدلالة الآية اعلاه على ولايتها لهم مطلقاً ، وهل يدل هذا المعنى على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، وأن النار تدعو الكفار كل يوم سواء بالذات أو بلحاظ الفعل والمعنى الأعم .
الجواب لا دليل على هذا المعنى , وإن كان المختار هو أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، ولذا ذكرناه أعلاه بصيغة التشبيه (وكأن النار ) وإفادة هذا المنعى من الآية أعلاه أشد وطأة على الكفار ، وهو من أسرار وجوب تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة إذ تحذر الآية الناس من الكفر , وتنذر منه ومن أربابه ، وهو من مصاديق نصرة الله عز وجل من جهات :
الأولى : نصرة الله للإيمان وعقيدة التوحيد فلما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) تفضل الله سبحانه بالإحتجاج عليهم بعلمه المطلق ليكون من مصاديقه نصرته لدينه وجعله التوحيد كلمة حقيقة وعقيدة باقية في الأرض ، يذب الله عنها وينصرها بالذات وينصر الذين يحملون لواءها .
وهو من أسرار اسم التفضيل في [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] فنصرة الله عز وجل في الدنيا أعم من أن تختص بالذين آمنوا بل تشمل ذات عقيدة الإيمان والكتب المنزلة والأنبياء والملائكة ، وفي قوله تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) .
(عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه بعدما أصيب بصره يقول : لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى ، فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس ، وأوحى الله إليهم إني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، وتثبيتهم أن الملائكة عليهم السلام تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول : ابشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم .
فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال : إني بريء منكم وهو في صورة سراقة ، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول : لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على موعد من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم قال : واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمداً وأصحابه في الحبال ، فلا تقتلوا وخذوهم أخذاً)( ).
ومن الآيات أن المرات الأربعة التي ورد فيها لفظ [مَوْلاَكُمْ] تتصف بأمور :
الأول : كل واحدة منها وردت بذكر اسم الجلالة , وجاء لفظ مولى خبراً له ، وواحدة منها بصيغة الضمير ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] ( )وفيه ثناء على الله عز وجل وشاهد بأنه مالك السموات والأرض , وأن ملكه ملك تصرف فيه رحمة ونصر للمؤمنين .
الثاني : جاءت الآيات خطاباً للمسلمين والمسلمات، ليكون من معاني التعدد فيه أمور :
أولاً : تذكير المسلمين بنعمة الولاية .
ثانياً : بعث المسلمين للدعاء والمسألة من عند الله بالولاية .
ثالثاً : ترغيب المسلمين بالإستغناء عن ولاية وطاعة غير الله ورسوله .
رابعاً : حث المسلمين على الشكر لله على نعمة الولاية .
الثالث : إقتران النصر من عند الله مع كل آية تتضمن ولاية الله كما في الآية السابقة أعلاه وآية البحث وقوله تعالى [قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ] ( ) فمن علمه وحكمته تعالى النهي عن طاعة الذين كفروا .
قانون مصاديق الولاية
قد يداهم الإبتلاء الفرد والجماعة في الدنيا.
وليس من حصر لأسباب الإبتلاء فيها، فقد يأتي من الناس أو من ذات الشخص، أو لآية كونية أو أمر يتعلق بأسباب الرزق وآفات البدن من الأمراض ونحوها، وقد يتعلق الإبتلاء بآمال الإنسان وغاياته وسعيه في الدنيا، قال المتنبي:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه… تجري الرياح بما لا تشتهي السفن( )
وقد أمر الله عز وجل الناس بعبادته، ولو إجتمعت أسباب الإبتلاء أعلاه فانها تعجز وتتخلف عن إفتتان المسلم أو تقيده في عباداته، وهو من أسرار آية البحث ومصاديق الولاية والنصرة للمسلمين فيها من جهات:
الأولى : التوفيق بالثبات في مقامات الإيمان.
ومن خصائص الممكن طرو التغيير عليه، وقد يصل إلى مبدأ أو عقيدة الإنسان وتكون على أقسام:
الأول : التغيير نحو الإيمان بالله، والنبوة والهداية إلى الحق.
الثاني : التغيير بالإنتقال من ضلالة إلى أخرى مثلها.
الثالث : الإنتقال من الهدى إلى الضلالة، وهو من الممتنع , وآية البحث تمنع من هذا الإنتقال، وهو من الإعجاز فيها لفظاً ودلالة وموضوعاً وحكماً.
الرابع : طرو أسباب الهداية دفعة واحدة على الإنسان بالفطرة.
وجاءت آية البحث سبيلاً إلى الأول والأخير أعلاه، وبرزخاً دون الثاني والثالث، إذ تحذر مما ورد في الآية السابقة من طاعة الذين كفروا , وما يترتب عليها من الخسارة في النشأتين.
فان قلت إذن كيف يكون التغيير عند المؤمن، الجواب هو بتجليات الإيمان، والإرتقاء في سلم المعارف، والتوقي من السيئات لأن الحق بسيط وجلي وغير مبهم، فالمسلم يبقى ثابتاً في مقامات الإيمان، ويزداد إيماناً وإرتقاءاً.
عن جندب قال: كنا غلمانا حزاورة( ) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمنا الايمان قبل القرآن ثم يعلمنا القرآن فازددنا به ايمانا وانكم اليوم تعلمون القرآن قبل الايمان ( ).
الثانية : الهداية إلى الإجتهاد في فعل الصالحات .
لقد جعل الله الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وتفضل وجعل أسباب الخلود بالنعيم قريبة من الإنسان بالنبوة والكتاب والآيات الكونية التي تكون حجة على الناس جميعاً، تطل عليهم في كل ساعة من ليل أو نهار، ومنها ما تأتي فجأة لتجذب الناس إلى مسالك الهدى والرشاد.
ومن ولاية الله للمسلمين الإتعاظ بهذه الآيات، والسعي الدؤوب إلى السلامة من الخوف والفزع يوم القيامة بالتقيد بسنن التقوى والمسارعة في الخيرات.
وعن سالم بن أبي الجهد قال: قال عيسى عليه السلام : اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم . انظروا إلى هذا الطير يغدو ويروح لا يحرث ، ولا يحصد ، الله تعالى يرزقها . فإن قلتم نحن أعظم بطوناً من الطير فانظروا إلى هذه الأباقر من الوحش والحمر ، تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد ، الله تعالى يرزقها . اتقوا فضول الدنيا فإن فضول الدنيا عند الله رجز ( ).
الثالثة : إعانة المسلم للتقيد بأحكام وسنن العبادات , وعن عبد الله بن مسعود – قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي العمل أفضل؟ قال : الصلاة على ميقاتها . قلت : ثم ماذا يا رسول الله؟ قال : بر الوالدين . قلت : ثم ماذا يا رسول الله؟ قال : أن يسلم الناس من لسانك . قال : ثم سكت ، ولو استزدته لزادني) ( ).
الرابعة : من مصاديق ولاية الله للعبد تدبير أموره وتقريبه لما فيه الخير والنفع ، وصدّه عما فيه أذى وشر ، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] ( ).
الخامسة : من الولاية البرزخية بين العبد وإغواء الشيطان وفضح الشيطان ومنع وسوسته للمؤمن .
السادسة : نصرة المؤمنين مجتمعين ومتفرقين ، وهو من أبهى مصاديق الولاية ، وعدم إضرار خذلان ونكوص الناس به، قال تعالى [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ] ( ).
السابعة : تفقه المسلم في أمور الدين وأحكام الشريعة وإتيان الواجبات وإجتناب المحرمات .
الثامنة : المدد من عند الله للمسلم في الجدال والإحتجاج وحضور البرهان والدليل عنده .
التاسعة : التبصرة في أحوال الناس ومعرفة صيغ النفاق ، قال تعالى [وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ] ( ) .
(قال أنس بن مالك : ما أخفي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين،
كان يعرفهم بسيماهم،
ولقد كنّا معه في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشكوهم النّاس،
فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كلّ واحد منهم مكتوب هذا منافق. فذلك قوله : {سِيمَاهُمْ}( ).
وظاهر الآية تعليق معرفتهم بسيماهم وصفاتهم الجلية بتفضل الله بجعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يراهم كمنافقين ، ولكنه لا يمنع من الجمع بين الأمرين وتحقق فضحهم والإشارة عليهم بالتدوين والكتابة بأنهم منافقون مع ثبوت صحة الحديث أعلاه سنداً وجهة صدور خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم مرة بالخروج من المسجد لأنهم منافقون أما معرفتهم بلحن القول فهي ظاهرة ومنه سوء مقاصد المنافقين وقبح نواياهم ومحاولتهم تثبيط العزائم وإظهار الشماتة بالمسلمين إن نزلت بهم مصيبة.
العاشرة : صرف ضروب الضرر عن المؤمنين ، وطرد الفاقة ومنع الآفات من أن تتغشي المؤمنين ، وعن عبد الله بن مسعود (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى، إما أجَلٌ عاجل، وإما غنى عاجل) ( ).
الحادية عشرة : من ولاية الله للمسلم عدم إيكاله إلى نفسه والمنع من غلبة الهوى على قوله وفعله ، ويمكن تقدير قوله تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] ( ) بالولاية ، وبين رحمة الله والولاية في المقام عموم وخصوص مطلق فالرحمة من عند الله أعم وأظهر لأن الله عز وجل يريد نفع الناس بالأعم , وليس بالولاية وحدها .
الثانية عشرة : من الآيات في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذكر القرآن لولاية الله، وبيان عظيم نفعها وحاجة الناس إليها وجاءت السنة النبوية بالدعوة إلى ولاية الله، والتنزه من ولاية الناس (وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس « سليمان . بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ، من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران.
إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب . أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب ، والسلام .
فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديداً ، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة ، فدفع إليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه فقال له الأسقف : ما رأيك . . . ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوّة ، فما يؤمن أن يكون هذا الرجل! ليس لي في النبوّة رأي ، لو كان رأي من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك .
فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران ، فكلهم قال مثل قول شرحبيل ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة ، وعبد الله بن شرحبيل ، وجبار بن فيض ، فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم وسألوه ، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى ابن مريم؟ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغد فأنزل الله هذه الآية { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } إلى قوله { فنجعل لعنة الله على الكاذبين }( ) فأبوا أن يقروا بذلك .
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعدما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له ، وفاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة،( ) وله يومئذ عدة نسوة .
فقال شرحبيل لصاحبيه : إني أرى أمراً مقبلاً ان كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه لا يبقي على الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له : ما رأيك؟ .
فقال : رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً . فقالا له : أنت وذاك . فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك .
قال : وما هو؟ قال : حكمك اليوم إلى الليل ، وليلتك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو جائز . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية) ( ).
الثالث عشر : وجوب عدم تجاوز ولاية الله والمؤمنين إلى الكافرين وأهل الضلالة ، ففي ولاية الله غنى وكفاية ، وهو سبحانه الذي يعلم سرائر النفوس وخفايا الأمور [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
وفيه شاهد على حرمان الكفار أنفسهم من نعمة النصره، ولكن النصح والأمر بالمعروف لم ينقطع عنهم وعن الناس جميعاً.
الرابعة عشرة : ولاية الله عز وجل للعبد أمن ووقاية من الفتنة والهلكة ومصارع السوء وسلامة له من الأخطار العرضية الطارئة ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ] ( ).

قانون التلاوة من الولاية
من الإعجاز في قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) تلاوة القرآن أمن من طاعة الذين كفروا لكل من :
الأول : الذي يتلو الآية القرآنية ،خاصة وأن التلاوة تأتي بحال خشوع وخضوع .
الثاني : المسلم الذي يستمع للآية القرآنية لما فيها من العبرة والموعظة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( )فمن رحمة الله في الآية أعلاه وجوه :
أولاً : الإحتراز من طاعة الذين كفروا.
ثانياً : فوز المسلمين بثواب تلاوة القرآن، وفصّلت آية السياق ثواب الربيين وأنه على قسمين :
الأول : ثواب الدنيا الذي يجعلها روضة من رياض الجنة ، فيعيش المؤمن في بحبوحة الطمأنينة ورضا بفضل الله (عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجز وعده، ومن أوعد على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار)( ).
الثاني : ثواب الآخرة ذو الحسن الذاتي فان ثواب التلاوة يتغشى الدارين ، ومنه ما يكون عاجلاً وحالاً بالوقاية من فعل السيئات.
ثالثاً : تجلي رحمة الله بحلة بهية بالولاية من عند الله عز وجل لتلاوة القرآن في الصلاة (عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وأرق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) ( ).
رابعاً : تفضل الله بالمدد والعون والنصرة للمصلي الذي يقرأ القرآن جهرة أو اخفاتاً وهو من مصاديق آية البحث [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]بلحاظ موضوع النصرة وعلتها بالتلاوة التي هي من مصاديق التقوى والصلاح ، لذا تفضل الله وقال [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] ( ).
وقد ورد في تفسير الآية أعلاه عن ابن عباس (قال : بينه تبييناً)( ) ويمكن إستقراء المسائل من الآية بحسب الموضوع أو القرينة والحكم ولحاظ آيات القرآن الأخرى , وهو بحسب آية البحث على وجوه :
الأول : رتل القرآن لتفوز بولاية الله عز وجل في الدنيا , ومن مصاديقها إتصال ودوام أداء المسلم للصلاة وتلاوة القرآن فيها ، وهذا الدوام نعمة عظمى ودليل بأن من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )أنه ملك تصرف يكون الشأن فيه للمسلمين على نحو التعيين ، ويتقوم هذا الشأن بأداء الفرائض والعبادات .
الثاني : رتل القرآن لتحترز من طاعة الذين كفروا بالتلاوة، قال تعالى[وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا] ( ) .
الثالث : إستقراء مصاديق ولاية الله التي تتجلى في آيات القرآن ، وذات التلاوة منها (عن علي : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قول الله : { ورتل القرآن ترتيلاً } قال : بينه تبييناً ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة) ( ).
الرابع : من ولاية الله عز وجل للمسلم بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار ، ومن أسباب هذا الفزع بخصوص التلاوة أمور :
الأول : وقوف المسلم بين يدي الله في الصلاة .
الثاني : تكرار أداء المسلم الصلاة خمس مرات في اليوم .
الثالث : أداء المسلمين الصلاة جماعة ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ).
الرابع : تلاوة المسلمين لآيات وسور القرآن في الصلاة ، ومن الإعجاز في الصلاة أن أثرها في نفوس الكافرين لا ينحصر ببعث الفزع والخوف ، فتشمل مسائل:
الأولى : الدعوة إلى التدبر بالآيات الكونية.
الثانية : الإقرار ببديع صنع الله.
الثالثة : حث الناس على الإيمان .
الرابعة : ترغيب الناس بسنن التقوى بما فيها الصلاة ، وكأن الصلاة مصداق عملي يومي متكرر لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( )بتقريب أن أداء المسلم للصلاة اليومية بشارة وإنذار من جهات :
الأولى : أداء الصلاة بشارة ولاية الله عز وجل , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الثانية : الصلاة نوع طريق ودعاء وتوسل للفوز بنصرة الله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]بلحاظ أن أداء وتعاهد الصلاة وسيلة مباركة لنيل نصرة الله .
الثالثة : أداء الصلاة دعوة للناس لدخول الإسلام ، فيكون من معاني [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] صيرورة العمل العبادي للمسلمين دعوة إلى الله ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ) ، فيتلو المسلم القرآن في الصلاة وخارجها ، فتأتي نصرة الله من جهات :
الأولى : سلامة المسلم من الشك والريب ، وهذه السلامة مقدمة للأمن من طاعة الذين كفروا التي حذرت منها الآية السابقة والتي إبتدأت بالنداء التشريفي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ليكون من مصاديقه تلاوة القرآن في الصلاة مع التسليم بوجوبها .
الثانية : إعانة المسلمين لتقيدهم وضبطهم أحكام وآداب الصلاة، إن تعاهد المسلمين بأجيالهم المتعاقبة لذات أفعال الصلاة والكيفية التي أداها بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية له في نبوته , وقد قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) وقال (لتأخذوا عني مناسككم) ( ) .
ومن أسرار ولاية الله للمسلمين أن كل جيل وطبقة منهم يتلقون هذين الأمرين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أنهم المقصودون بهما ، ويجعلون الإمتثال لهما تركة للجيل الذي بعدهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) وهذه الأخوة من ولاية الله عز وجل للمسلمين، وكذا جعل الضابطة الكلية فيها هو الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتعاون والتآزر في العصمة من طاعة الذين كفروا.
ومن الإعجاز إلتقاء الأب والابن والحفيد في هذه الأخوة من غير تعارض بينها وبين الصلات النسبية ، وتتجلى بقيام الثلاثة أعلاه بين يدي الله في صلاة الفريضة وكل فرد منهم يسلم بأنها واجبة عليه وعلى غيره ، وكذا في أداء فريضة الصيام إذ جاء الخطاب التكليفي لكل مسلم بقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
ولم تبين الآية أعلاه حكم من لم ير الهلال لإفادة ترتب صوم الجماعة على رؤية البينة ، وهما شاهدان عدلان , وإن لم تثبت رؤية الهلال فيكون الحكم إتمام ثلاثين يوماً على هلال شعبان بلحاظ ان الشهر القمري لا يقل عن تسعة وعشرين يوماً ولا يزيد عن ثلاثين يوماً ، ويلحق باتمام العدة عدم رؤية الهلال بسبب الغيوم والأغبرة ونحوها ، قال تعالى [صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ] ( ) .
والعدالة شرط في الشاهد في المقام لترشح الحكم العبادي على هذه الشهادة ، ولأنها إخبار بخصوص الأمور الدينية والعبادات .
والعدالة هي الإستقامة على طريق الحق ، والتنزه عما هو محظور شرعاً من الكبائر والصغائر ، قال تعالى [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ]( )، لبيان قانون وهو أن أداء كل فريضة من الفرائض العبادية من ولاية الله، وسبيل الى فوز المسلمين بنصرته تعالى وهو من مصاديق[وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] بلحاظ أن موضوع وعلة ونتيجة النصرة أداء العبادات وترتب الثواب العظيم عليها.
الثالثة : من نصرة الله للمسلمين تهيئة مقدمات أداء الصلاة وإزاحة المانع دونها ، وعدم نفرة الناس من أداء المسلمين الصلاة اليومية .
الرابعة : حفظ الله عز وجل للقرآن وآياته والحيلولة دون طرو التحريف عليه أو رفع بعض آياته ، إن تقديس وإكرام المسلمين للقرآن سبب لإكرام الناس له وإنصاتهم لآياته وتدبرهم في علومه ومضامينه ، وهو من فيوضات ولاية الله للمسلمين، وحفظ الله للقرآن , ودخول فريق من الناس الإسلام , لتكون ولاية الله توليدية من وجوه :
أولاً : الولاية واقية من الشرور ، وفيها صرف للبلاء والأذى .
ثانياً : الولاية من عند الله عز وجل ، سبب لجلب المنفعة للمسلمين وغيرهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ثالثاً : الولاية رحمة تتغشى الناس جميعاً، أما المسلمون فبالأصالة وأما غيرهم فبالتبعية والإلحاق لما تدل عليه من تقبيح البقاء على الكفر أو إعانة الظالمين، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) بتقريب أن الناس جميعاً تنالهم شآبيب الرحمة ببركة نبوته , ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
أولاً : بل الله مولاكم رحمة بالعالمين .
ثانياً : بل الله مولاكم ليهتدي الناس إلى طاعة الله .
ثالثاً : بل الله مولاكم لإستدامة الحياة الإنسانية على الأرض .
رابعاً : بل الله مولاكم لنزول الرزق الكريم للناس .
خامساً : بل الله مولاكم لإستئصال الفساد من الأرض , وسيأتي مزيد بيان في باب التفسير .
الثانية : من نصرة الله للمسلم حال الخشوع والخضوع في الصلاة, وفيها تنمية لملكة التقوى والعصمة من طاعة الذين كفروا .
الثالثة : من مصاديق النصرة تعاهد الصلاة بذات الكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والتقيد بأحكام الصلاة التي وردت في السنة القولية والفعلية من مصاديق ولاية الله عز وجل وشاهد على فوز المسلمين بها لأن هذا التعاهد والتقيد توفيق وهداية , و( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : مثل المهجر( ) إلى الصلاة كمثل الذي يهدي البدنة ، ثم الذي على إثره كالذي يهدي البقرة ، ثم الذي على إثره كالذي يهدي الكبش ، ثم الذي على إثره كالذي يهدي الدجاجة ، ثم الذي على إثره كالذي يهدي البيضة) ( ).
الثالث : تلاوة القرآن أمن من طاعة الذين كفروا لغير المسلم الذي يرى المسلمين في صلاتهم ويستمع لتلاوة القرآن طوعاً وإنطباقاً، ومن أسرار تكرار الصلاة في اليوم الواحد صيرورتها واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة ، ورؤية الناس للمصلين ، وسماع الآيات , وإقتباس المواعظ منها.
وكل آية في القرآن إفاضة سماوية من وجوه :
أولاً : الآية القرآنية دعوة إلى التوحيد , وبرزخ دون الشرك والضلالة.
ثانياً : الآية القرآنية مرآة لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : كل آية شاهد على ولاية الله ونصرته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ رسالته .
رابعاً : كل آية قرآنية مصداق لولاية الله للمسلمين في مضامينها وأحكامها .
خامساً : الآية القرآنية سلاح بيد المسلمين , وهي من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] فينصر الله المسلمين بالآية القرآنية من جهات :
الأولى : نزول الآية القرآنية .
الثانية : مجئ جبرئيل بالآية القرآنية لتبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بها .
الثالثة : دعوة النبي لكتاب الوحي لتدوين الآية القرآنية حال نزولها.
الرابعة : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن في الصلاة وخارجها، وسماعه الآيات من أهل البيت والصحابة .
وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقلت : أسماني لك؟ قال : نعم . قيل لأبي رضي الله عنه : أفرحت بذلك؟ قال : وما يمنعني والله تعالى يقول: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما تجمعون، هكذا قرأها بالتاء( ).
الخامسة : مبادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعمل بأحكام الآية القرآنية .
السادسة : دفع الآية القرآنية للجهالة والغرر عن المسلمين .
السابعة : إتخاذ المسلمين الآية القرآنية إماماً وضياءً وسبيل هداية كما في آية البحث والسياق وإقتباس المسائل من ثواب الربيين في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
الرابع : تلاوة المسلمين آيات القرآن في الصلاة رحمة بأهل الكتاب وإجهار بقراءة التنزيل وتذكير بما أنزل الله من التوراة والإنجيل وسبب لإستدامة البينونة بينهم وبين الذين كفروا .
وهل يصح تلاوة الآية السابقة بتقدير : يا أهل الكتاب إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم ) أم أن النسبة بين أهل الكتاب والذين كفروا في الآية السابقة هي التساوي .
والمختار هو الأول ، من جهات :
الأولى : نزلت الآية السابقة بخصوص واقعة أحد , ودعوة بعض المنافقين للجوء إلى رؤساء الكفر من قريش وطلب الأمان منهم( ) .
الثانية : التباين بين أهل الكتاب في نوع الصلة مع المسلمين إذ أن عداوة الكفار جلية وظاهرة .
الثالثة : قيام قريش بتجهيز الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كما في معركة بدر وأحد ويوم الأحزاب.
الرابعة : يدل عليه قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ]( ) .
وعن سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعروة بن الزبير قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ، وكتب معه كتاباً إلى النجاشي ، فقدم على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه ، وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم ، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ عليهم سورة مريم ، فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع ، وهم الذين أنزل فيهم { ولتجدن أقربهم مودة } إلى قوله { مع الشاهدين) ( ).
لقد تضمنت آية البحث الوعد والعهد من عند الله للمسلمين بولايته لهم ، وندبهم إلى أداء الفرائض والعبادات لينالوا مرتبة الولاية التي تتقوم بالصلاة .
ومن الإعجاز تيسير أداء المسلمين للصلاة وإزاحة الموانع التي تحول دونها لتكون ولاية الله قريبة منهم ، فان قلت تتضمن آية البحث الإخبار والقطع بأن الله مولى المسلمين فكيف تكون ولايته قريبة منهم بفعل الصالحات.
الجواب إنما تكون الولاية بالإيمان وعمل الصالحات والسلامة من طاعة الذين كفروا ، لذا إبتدأت الآية بحرف الإضراب [بل] الذي يفيد الإضراب ونفي طاعة المسلمين للذين كفروا ويكون تقدير قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ) .
والذي ورد في القرآن أربع عشرة مرة بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : من ولاية الله للمسلمين والمسلمات أمرهم بإقامة الصلاة كما في الآية أعلاه .
الثاني : مجئ آيات إقامة الصلاة بصيغة الجمع ليكون خطاباً إنحلالياً متجدداً بعدد المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، وحتى الخطاب الذي ورد بصيغة المفرد يفيد الجماعة وإرادة عموم المسلمين ، كما في قوله تعالى[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]( ).
فيأتي الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العبادات والمراد الأمة وأجيال المسلمين المتعاقبة، ومن أسرار صيغة المفرد في الخطاب الزجر عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء والأولياء .
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إتخذني الله عبداً قبل أن يتخذني نبياً.
وأخرج الحاكم وصححه من طريق جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال : هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء.
فقال زياد بن لبيد : يا رسول الله وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن فو الله لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نساءنا وآباءنا فقال : ثكلتك أمك يا زياد ، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة ، هذا التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا يغني عنهم ، فلقيت عبادة بن الصامت فقلت له : ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ وأخبرته . فقال صدق وإن شئت لأحَدِّثَنَّكَ بأول علم يرفع من الناس ، الخشوع . يوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً) ( )، وفي الحديث مسألة وهي أنه لم يثبت تقسيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه إلى فقهاء أهل المدينة وغيرهم، وقال في المستدرك بصحة سند الحديث.
وبلحاظ آية البحث هل تحلي المسلمين بالخشوع من ولاية الله لهم أم أنه خارج بالتخصيص بدليل الحديث أعلاه.
الجواب هو الأول ، إنما ورد حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجملاً وبصيغة الإنذار، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد الصلاة بهيئة الخشوع والخضوع لله عز وجل ، وحث على الدعاء للسلامة من قسوة القلوب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
الثالث : الصلاة عبادة توقيفية بأمر من عند الله تلقاها وأداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء والمعراج بقوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا]( ).
ولم يرد لفظ [لِنُرِيَهُ] إلا في الآية أعلاه ، لبيان إنفراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمعراج , ورؤية آيات لم يطلع عليها نبي غيره أو أحد من عموم البشر , وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء السابقين، إن آية نزول أحكام الصلاة بأركانها وأجزائها وكيفيتها من ولاية الله للمسلمين ونصرته لهم.
الرابع : من ولاية الله للمسلمين تعاهدهم للصلاة بذات الكيفية التي أداها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الشواهد على مجئ ولاية الله لهم جميعاً أنه قد يصبح المسلمون مذاهب وفرقاً وطوائف ولكن صلاتهم واحدة لتكون مرآة لولاية الله لهم , وشاهداً على إستدامة ذات الوحدة ونبذ الفرقة ويصبح أداء الصلاة من نصرة الله لهم على الفرقة والتشتت، ومقدمة للنصر على أعدائهم.
وهل بيان وإتحاد كيفية الصلاة ووجوبها العيني على المسلمين، وتساوي الرجال والنساء في عين الوجوب من نصرة الله للمسلمين ضد الفرقة والتشتت ، الجواب نعم , فتجتمع الولاية والنصرة في ذات الموضوع وتكون كل منهما متوجهة لإصلاح حال المسلمين، والوقاية من كيد الأعداء.
من ولاية الله عز وجل نزول القرآن من عند الله تعالى , وليس من حصر لمصاديق الولاية في نزول القرآن , لأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى .
ولما تفضل الله عز وجل وجعل الإنسان خليفة في الأرض إحتجت الملائكة فقال سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) لبيان أنه سبحانه ولي المؤمنين ، وهو الذي تفضل بنزول القرآن مرآة للولاية ، ولتكون حاضرة مع المسلمين في حضرهم وسفرهم ، وفاقتهم وغناهم ، تذهب عنهم الحزن ووحشة الطريق إلى الآخرة.
وأراد الله عز وجل أن تكون ولايته قريبة من الناس جميعاً ، ليس بينهم وبينها حاجز أو برزخ، ولا يرد فضله أحد من الخلائق فليس بين العبد وولاية الله إلا النطق بالشهادتين.
وعن طارق بن عبد الله المحاربي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بسوق ذى المجاز وانا في بياعة لي فمر وعليه حلة حمراء، فسمعته يقول: يا ايها الناس قولوا لا اله الا الله تفلحوا ورجل يتبعه يرميه بالحجارة قد ادمى كعبيه يعنى ابا لهب وذكر الحديث) ( ).
لقد إمتنع الكفار عن الفوز بالغنيمة والغبطة والسعادة التي تترشح عن الولاية لذا جاءت الآية السابقة بالتحذير من طاعتهم كيلا تكون هذه الطاعة برزخاً بين المسلم وولاية الله، وفيه مسائل :
الأولى : إنه من إعجاز القرآن وتأكيد كونه كلام الله عز وجل ليزداد المسلمون إيماناً ، وفي إبراهيم عليه السلام ورد قوله تعالى [أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] ( )، فتبعث كل آية من القرآن الطمأنينة في نفوس المسلمين من وجوه :
الأول : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن من عند الله عز وجل.
الثاني : نزول جبرئيل بآيات القرآن نجوماً وفي مدة ثلاث وعشرين سنة، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ] ( ).
الثالث : خلو القرآن من الزيادة، وسلامته من النقيصة , وهو من ولاية الله عز وجل للمسلمين بأن يصاحبهم كلامه إلى يوم القيامة , ويتنزهون عن الخصومة والخلاف في ذات سور وآيات القرآن ، وإجماع المسلمين على أن ما بين الدفتين قرآن .
الرابع : صيرورة الآية القرآنية سبباً لطمأنينة المسلمين لولاية الله لهم .
الخامس : من ولاية الله للمسلمين بعث الطمأنينة في نفوسهم عند تلاوة القرآن ، وهل هذه الكيفية النفسانية من الشواهد على نزول آيات القرآن من عند الله ، الجواب نعم ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
السادس : تجلي مصاديق الولاية من عند الله بأسباب نزول الآيات والشواهد على مضامينها القدسية، وتجدد أفرادها في كل زمان ومكان وكل جيل من الناس يدرك عند التدبر , وكأن القرآن نازل في زمانهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] ( ).
ويقع الشاهد على صدق نزول الآية القرآنية حال نزولها ، وهو من مصاديق ولاية الله للمسلمين ، وتنمية ملكة حب التنزيل والمواظبة على قراءة القرآن بشوق ، والنسبة بين هذا الشاهد وسبب النزول هي العموم والخصوص المطلق ، فالشاهد أعم موضوعاً ودلالة وأثراً.
فجاءت الآية السابقة بنهي المسلمين عن طاعة الذين كفروا فامتنع المسلمون عن الهزيمة يوم أحد , ولم يطلبوا من أبي سفيان وغيره من رؤساء قريش الصفح , بل إلتحقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وسط المعركة وقاتلوا المشركين ، ليكون من ولاية الله في المقام عدم إكتفاء المسلمين بالعصمة من طاعة الذين كفروا بل قاتلوا مع ما فيهم من الضعف والقلة والنقص في الرجال والسلاح والمؤون.
وما لبث أن جاء أبو سفيان إلى المدينة ملتمساً إطالة مدة الهدنة بعد أن قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه كأنكم بأبي سفيان وقد جاء ليشد العقد، ويزيد في المدة( ).
قال ابن إسحاق: ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بما أصيب منهم ومظاهرة قريش بنى بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشد العقد ويزيد في المدة) ( ).
وكان من مقدمات فتح مكة صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش و( كان فيما شرطوا أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فدخلت بنو بكر في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل بن بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأرا بأولئك النفر الذين أصابوا منهم في الاسود بن رزن .
فخرج نوفل بن معاوية الديلى في بنى الديل بن بكر من كنانة حتى بيّت( )، خزاعة وهم على الوتير ماء لهم فأصابوا منهم رجلا وتحاوروا واقتتلوا ورفدت بنى بكر قريش بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا.
ذكر ابن سعد منهم صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الاخيف حتى جاوزوا خزاعة إلى الحرم.
فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك.
فقال كلمة عظيمة لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه( ).
وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلا يقال له منبه فلما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعى ودار مولى لهم يقال له رافع، ولما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العهد والميثاق خرج عمرو بن سالم الخزاعى.
قال ابن سعد في أربعين راكبا حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة , وكان ذلك ما هاج فتح مكة فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس( ) فقال :
يَا رَبّ إنّي نَاشِــــدٌ مُحَـمّـدًا…حِـلْـــفَ أَبِـيـنَـا وَأَبِـيـهِ الْأَتْـلَـدَا
قَـدْ كُـنْتُمْ وُلْـدًا وَكُنّـا وَالِدًا…ثُـمّـتَ أَسْـلَـمْـنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاك اللّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا … وَادْعُ عِـبَـادَ اللّهِ يَـأْتُـوا مَـدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا … إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا … إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا … وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْت أَدْعُو أَحَدًا … وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا … وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا
يَقُولُ قُتِلْنَا وَقَدْ أَسْلَمْنَا . قَالَ ابن هِشَامٍ : وَيُرْوَى أَيْضًا : فَانْصُرْ هَدَاك اللّهُ نَصْرًا أَيّدَا قَالَ ابن هِشَامٍ : وَيُرْوَى أَيْضًا : نَحْنُ وَلَدْنَاك فَكُنْت وَلَدًا .
قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ” نُصِرْت يَا عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ ” ثُمّ عُرِضَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنَانٌ مِنْ السّمَاءِ فَقَالَ إنّ هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ( ).
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من بنى خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بنى بكر عليهم.
ومضى بديل بن ورقاء في أصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان وقد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليشد العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا الذى صنعوا فلما لقى أبو سفيان بديل بن ورقاء قال من أين أقبلت يا بديل ؟ وظن أنه قد أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال سرت في خزاعة في هذا الساحل وفى بعض هذا الوادي قال أوما جئت محمدا قال لا فلما راح بديل إلى مكة.
قال أبو سفيان لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى( ) فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة .
فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوته عنه , فقال يا بنية ما أدرى أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني قالت بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنت مشرك نجس.
قال والله لقد أصابك بعدي شر .
ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال ما أنا بفاعل.
ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوالله لو لم أجد إلا الذم لجاهدتكم به.
ثم جاء فدخل على علي بن أبى طالب وعنده فاطمة وحسن غلام يدب بين يديها فقال يا علي انك أمس القوم بي رحما وإنى قد جئت في حاجة فلا أرجع كما جئت خائبا اشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة، فقال يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر قالت والله ما يبلغ بنيي ذاك أن يجير بين الناس , وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال يا أبا الحسن إنى أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني , قال والله ما أعلم لك شيئا يغنى عنك ولكنك سيد بنى كنانة فقم وأجر بين الناس ثم الحق بأرضك قال أو ترى ذلك مغنيا عنى شيئا.
قال لا والله ما أظنه ولكني لا أجد لك غير ذلك.
فقام أبو سفيان في المسجد فقال أيها الناس إنى قد أجرت بين الناس , ثم ركب بعيره فانطلق فلما قدم على قريش قالوا ما وراءك قال جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد على شيئا ثم جئت ابن أبى قحافة فلم أجد فيه خيرا ثم جئت عمر بن الخطاب فوجدته أدنى العدو.
ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم , وقد أشار على بشئ صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عنى شيئا أم لا قالوا وبم أمرك قال
أمرنى أن أجير بين الناس ففعلت قالوا فهل أجاز ذلك محمد، قال لا قالوا ويلك والله إن زاد الرجل على أن لعب بك قال لا والله ما وجدت غير ذلك وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه) ( ).
المسألة السابعة عشرة : من أسماء الله [الرحمن][الرحيم]ومن إعجاز القرآن إجتماعهما في البسملة في بداية كل سورة عدا التوبة لتنبسط الرحمة على كل آية من آيات القرآن ، وإبتداء سور القرآن بالبسملة من ولاية الله عز وجل للمسلمين من جهات :
الأولى : تغشي رحمة الله للمسلمين عند تلاوتهم لآيات القرآن وهو من مصاديق ولايته تعالى , سواء في التلاوة أو نفعها العظيم في الدارين.
الثانية : تدبر المسلمين بمعاني آيات القرآن عند التلاوة .
الثالثة : جذب المسلمين لتلاوة آيات القرآن برحمة الله .
الرابع : بعث روح العفو والسماحة في نفوس المسلمين عند قراءة القرآن، قال تعالى [وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا] ( ).
ومن مصاديق رحمة الله في قوله [فَآتَاهُمْ]مسائل :
الأولى : الفورية في مجئ الثواب للربيين من جهات :
الأولى : دلالة حرف العطف الفاء على نفي الفترة والتراخي بين العمل الصالح من العبد والثواب من عند الله.
الثانية : إن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم ، ومنه فورية الثواب .
الثالثة : قدرة الله المطلقة وحضور الثواب عند الربيين بالكاف والنون ، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الرابع : ولاية الله عز وجل للمسلمين ، وحبه للمحسنين , ومنهم الذين يحسنون إلى أنفسهم بأداء الفرائض والعبادات، قال تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ]( ).
الثانية : إتصاف ثواب الربيين بالتمام والكمال .
الثالثة : إستيفاء ثواب الربيين الدنيوي لحاجات الربيين وأمانيهم وهو صلاح وبلغة لعمل الصالحات .
الرابعة : ذكر ثواب الربيين على نحو الخلود في الحياة الدنيا ببركة آية السياق وفيه شاهد على موضوعية الآية القرآنية في ضبط الوقائع التأريخية بما يهذب النفوس ويصلح المجتمعات ، وهو من مصاديق الأحسن في وصف قصص القرآن بقوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ).
وتقدير آية البحث بلحاظ الرحمة : بل الله مولاكم وهو خير الناصرين لأنه الرحمن الرحيم ) ليكون بين رحمة الله وولايته عموم وخصوص مطلق ، فالرحمة من عند الله أعم وأشمل لبيان فضل الله عز وجل على الناس ، وأن الذي يحرم نفسه من ولاية الله ومن نصرته لا يحجب الله عز وجل عنه واسع رحمته ، لتكون رحمة الله نوع طريق للفوز بالولاية إذ تأخذ بيد الإنسان في مسالك التوبة والصلاح ، قال تعالى [قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ] ( ).
ولم يرد لفظ [رَحِمَهُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان مجئ الرحمة الخاصة والعامة للناس من غير تقييد بأسبابها وكيفيتها إنما الملاك فيها نجاة العبد في النشأتين .
الثامنة عشرة : من صفات الله عز وجل الثبوتية أنه القدير والقادر والمقتدر ، وليس من حد لقدرته وسلطانه سبحانه ، قال تعالى في الثناء على نفسه [وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا]( )وأبى الله إلا أن تكون قدرته رحمة بالعباد وسبيل نجاة للمؤمنين إذ خصهم بالولاية وسبل النصرة ولا تنحصر نصرة الله للمؤمنين بتهيئة مقدمات النصر وتقريبهم منه ، بل تشمل تحقيق النصر التام على العدو ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
ومن أسرار خلافة الإنسان في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )إدراك الناس بعقولهم وحواسهم عظيم قدرة الله وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة ، وليس من شئ إلا وهو محتاج في وجوده وإستدامته لقدرة الله بلحاظ ملازمة الحاجة لعالم الإمكان فيحتاج الحادث إلى المؤثر الفاعل المختار الممتنع عن التبديل والتغيير ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل ممكن محتاج .
الصغرى : الإنسان ممكن .
النتيجة : الإنسان محتاج .
فتفضل الله عز وجل وخص المؤمنين بقضاء حاجاتهم بولايته ليكون فيها غنى عن الذين كفروا فلا يمنون يوم القيامة على أهل الجنان ، ولا يقفون في المحشر ويقولون نحن مددنا يد العون للمؤمنين لذا جاءت الآية السابقة بالإخبار عن عاقبة طاعة الذين كفروا وأنها الخسارة والوقوع في الهاوية لتكون حجة على الكافرين ، ووزراً إضافياً ومناسبة وحجة في شدة عذابهم يوم القيامة ، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ] ( ).
وجاء القرآن بشواهد كثيرة على عظيم قدرة الله لجذب الناس إلى الغاية التي خلقهم من أجلها وهي طاعته وعبادته , وجعل سبحانه قدرة الناس محدودة ومتناهية كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً لقهرهم على الإعتراف بربوبيته المطلقة ، وجعلهم في حال قصور عن تحقيق الآمال والغايات التي تخطر في التصور الذهني ، أو التي تجري على الألسنة .
فجاءت ولاية الله عز وجل للمسلمين فضلاً من الله عز وجل لتدارك النقص في باب العبادات وسبل الطاعة ، وليس من حصر لمصاديق الولاية في هذا الباب ، فتنزل عليهم آيات القرآن بالأوامر والنواهي والأحكام والسنن ومصاديق الحكمة ، قال تعالى [وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا] ( ).
ويهجم الكفار على ثغر المسلمين الوحيد وهو المدينة المنورة لصدهم عن عبادة الله ، وحملهم على طاعتهم فينزل الملائكة بطرفة عين لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وكأن ليس ثمة مسافة بين السماء التي هي مسكن الملائكة وبين الأرض وموضع القتال سواء عند بئر بدر أو جبل أحد أو خندق المدينة وتدفق الأحزاب نحوها ظالمين، وكان الدعاء الوسيلة المحمودة والسلاح المبارك ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
ونزول الملائكة من ولاية الله للمسلمين ، ومن معاني نسبة العموم والخصوص المطلق بين رحمة الله وولايته مجئ الولاية للمسلمين , أما نفعها فهو عام يشمل الناس جميعاً من جهات :
الأولى : زجر الكفار عن إستمرار التعدي على المسلمين .
الثانية : بيان سوء عاقبة الظلم .
الثالثة : إزاحة الموانع عن هداية الناس إلى الإسلام باجتثاث رؤوس الكفر والضلالة ،وفي معركة أحد نزل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )
وفيه شاهد سماوي متجدد بأن المسلمين لم يخسروا معركة أحد وأنى تكون الخسارة مع نزول الملائكة حتى وإن كان نزولهم تكثير السواد ونحوه ، إذ يحتمل نزولهم وجوهاً :
الأول : تحقيق النصر للمسلمين .
الثاني : سلامة المسلمين من الإنكسار والهزيمة .
الثالث : قلة خسارة المسلمين في الأرواح والجراحات والأموال.
الرابع : خصوص سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ليتم نزول آيات القرآن والتبليغ ، قال تعالى [وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
الخامس : تكثير عدد المسلمين .
السادس : نزول الملائكة جزء علة لتحقيق النصر على الكافرين فيكون من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( )وجوهاً :
الأول : نصركم الله بالملائكة .
الثاني : نصركم الله بالريح والمطر .
الثالث : نصركم الله بإصابة الكافرين بالفزع والخوف والجبن .
الرابع : نصركم الله ببدر بأهل البيت , ففي أول مبارزة بين المسلمين والكفار ، قال ابن أسحاق ( ثُمّ خَرَجَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ، حَتّى إذَا فَصَلَ مِنْ الصّفّ دَعَا إلَى الْمُبَارَزَةِ فَخَرَجَ إلَيْهِ فِتْيَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ثَلَاثَةٌ وَهُمْ عَوْفٌ وَمُعَوّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ – وَأُمّهُمَا عَفْرَاءُ – وَرَجُلٌ آخَرُ يُقَالُ هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فَقَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟ فَقَالُوا : رَهْطٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، قَالُوا : مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ . ثُمّ نَادَى مُنَادِيهِمْ يَا مُحَمّدُ أَخْرِجْ إلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ وَقُمْ يَا عَلِيّ ، فَلَمّا قَامُوا وَدَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالَ عُبَيْدَةُ : عُبَيْدَةُ . وَقَالَ حَمْزَةُ : حَمْزَةُ . وَقَالَ عَلِيّ : عَلِيّ .
قَالُوا : نَعَمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ . فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنّ الْقَوْمِ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَبَارَزَ عَلِيّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ.
فَأَمّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ وَأَمّا عَلِيّ فَلَمْ يُمْهِلْ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ وَكَرّ حَمْزَةُ وَعَلِيّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ فَذَفّفَا عَلَيْهِ وَاحْتَمَلَا صَاحِبَهُمَا فَحَازَاهُ إلَى أَصْحَابِهِ) ( ).
الخامس : ولقد نصركم الله بالولاية , وتقدير آية البحث : بل الله مولاكم الذي نصركم ببدر .
السادس : ولقد نصركم الله وهو خير الناصرين .
السابع : ولقد نصركم الله ببدر [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
الثامن : ولقد نصركم الله ببدر , ف[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
التاسع : ولقد نصركم الله ببدر , وصدقكم وعده .
العاشر : ولقد نصركم الله ببدر ، ليتوالى نزول آيات القرآن .
الحادي عشر : ولقد نصركم الله ببدر لتكونوا ورثة الأنبياء وحملة التنزيل إلى يوم القيامة .
الثاني عشر : ولقد نصركم الله ببدر لأن [الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ] ( ).
الثالث عشر : ولقد نصركم الله ببدر لأن النصر بيد الله .
الرابع عشر : ولقد نصركم الله ببدر ليكون يوماً عسيراً على الكافرين وإلى يوم القيامة .
الخامس عشر : ولقد نصركم الله ببدر لتعملوا بأحكام الحلال والحرام في القرآن .
السادس عشر : ولقد نصركم الله ببدر ليؤتيكم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
السابع عشر : ولقد نصركم الله ببدر، وهو مصداق لما ورد في التنزيل [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الثامن عشر : ولقد نصركم الله ببدر لتكون [َكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا]( ).
التاسع عشر : ولقد نصركم الله ببدر لتقيموا دولة الحق والعدل.
العشرون : ولقد نصركم الله ببدر [لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ]( ).
الحادي والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر جزاءً على إيمانكم .
الثاني والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر مقدمة لفتح مكة .
الثالث والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر , ليكون فيصلاً بين الحق والباطل , وعيداً متجدداً للمسلمين وإلى يوم القيامة .
وكما تقدمت آيات الربيين الثلاثة ( ) وهم أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم بإكرامهم باسم خاص من عند الله , ونسبتهم إليه سبحانه بصفة الربوبية المطلقة (ربيون).
فقد تفضل الله وسمى يوم بدر تسمية خاصة ينفرد بها من بين أيام الدنيا , فسماه يوم الفرقان بقوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
الرابع والعشرون : لقد كان المدد من عند الله أعم من نزول الملائكة إذ سبق الكفار إلى الماء , ولكن الله أنزل الغيث في أرض الجزيرة في تلك الساعة بآية من عنده .
وفي قوله تعالى[لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ]( )، الْآيَةَ كَانَ الْعَدُوّ قَدْ أَحْرَزُوا الْمَاءَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَفَرُوا الْقُلُبَ لِأَنْفُسِهِمْ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ أَحْدَثُوا وَأَجْنَبَ بَعْضُهُمْ وَهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى الْمَاءِ فَوَسْوَسَ الشّيْطَانُ لَهُمْ أَوْ لِبَعْضِهِمْ وَقَالَ تَزْعُمُونَ أَنّكُمْ عَلَى الْحَقّ , وَقَدْ سَبَقَكُمْ أَعْدَاؤُكُمْ إلَى الْمَاءِ وَأَنْتُمْ عِطَاشٌ وَتُصَلّونَ بِلَا وُضُوءٍ وَمَا يَنْتَظِرُ أَعْدَاؤُكُمْ إلّا أَنْ يَقْطَعَ الْعَطَشُ رِقَابَكُمْ وَيُذْهِبَ قُوَاكُمْ فَيَتَحَكّمُوا فِيكُمْ كَيْفَ شَاءُوا .
فَأَرْسَلَ اللّهُ تَعَالَى السّمَاءَ فَحَلّتْ عَزَالِيهَا فَتَطَهّرُوا وَرَوَوْا وَتَلَبّدَتْ الْأَرْضُ لِأَقْدَامِهِمْ وَكَانَتْ رِمَالًا وَسَبَخَاتٍ فَثَبَتَتْ فِيهَا أَقْدَامُهُمْ وَذَهَبَ عَنْهُمْ رِجْزُ الشّيْطَانِ ثُمّ نَهَضُوا إلَى أَعْدَائِهِمْ فَغَلَبُوهُمْ عَلَى الْمَاءِ وَعَارُوا الْقُلُبَ الّتِي كَانَتْ تَلِي الْعَدُوّ فَعَطِشَ الْكُفّار ، وَجَاءَ النّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ( ).
الخامس والعشرون : ولقد نصركم الله عز وجل ببدر إذ ألقى الرعب في قلوب الكفار يومئذ، وسيأتي بيانه في الجزء التالي إذ ورد قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
السادس والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر برمية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي هي من عند الله لقوله تعالى[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( )، وهذه الآية لا تسلب الرمي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أضافت له الحذف والرمي ولكن الأثر والإيصال بفضل الله عز وجل، كما في قوله تعالى[فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ]( )، بالإضافة إلى تأكيد الإعجاز في ذات الرمي، ونوع الحصيات التي رماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج أبو نعيم عن جابر بن عبد الله قال: سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست فلما اصطف الناس أخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن في وجوه المشركين فذلك قوله تعالى وما رميت إذ رميت) ( ).
السابع والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر بدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والحاحه بسؤال النصر.
الثامن والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر للسلامة والأمن من طاعة الذين كفروا , فالمنتصر والغالب لايطيع المنهزم والفار وسبعين أسيراً من كفار قريش.
الخامس : تحصيل التوازن والتكافؤ بين جيش المسلمين وجيش الكفار ، لأن أقطاب الكفر من قريش وغطفان زحفوا في كل مرة بثلاثة أضعاف جيش المسلمين ، وهل هذه النسبة وكثرة عدد الكفار عن علم وعيون للمشركين , ومعرفة بأحوال المسلمين , وعدد المهاجرين والأنصار الإجمالي والذين يخرجون للقتال منهم ، أم أنهم يستنفرون كل قواتهم والقبائل التابعة لهم والمتحالفة معهم ، فيتفق أن يكون عددهم ثلاثة أضعاف جيش المسلمين.
المختار هو الأول , وفيه دلالة على إتخاذهم سبيل الرصد والتجسس على المسلمين ، وتتبع أخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن قريشاً تتصف بأمور :
الأول : تولي قريش سدانة البيت الحرام ، وما لها من الشأنية بين القبائل وعند الناس لذا يذكرهم الله عز وجل بقوله [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، أي لا يتخذوا من سدانة وجوار البيت الحرام موضوعاً لمحاربة عبادة الله ، بل يجب أن يكونوا أولى الناس المبادرين إلى طاعة الله , والتي تتجلى بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إستحواذ قريش على أغلب التجارة بين المشرق والمغرب والتي تمر عبر الجزيرة العربية بين الشام واليمن، فمع أن طريق التجارة هذا من أخطر الطرق في العالم آنذاك على رجال القوافل والبضائع والعير( )، ومحفوف بالمخاطر وعمليات السلب والنهب من القبائل في الليل والنهار إلا أن قريشاً إستطاعت تأمينه وطمأنة ملوك وتجار الروم وفارس والهند وإيصال الأعيان أو أثمانها إلى أهلها.
وفيه معجزة للنبي محمد بمواجهة طائفة من رؤساء الكفر في الجزيرة قادرين على تأليب الملأ عليه، وجذب الجيوش مدداً، وأنهم ليسوا جهلة في فنون القتال ومقدماته , ولكن الله عز وجل أبطل سعيهم وشلً أيديهم وبعث الفرقة بينهم , مع تعاون الظالمين، وإتحاد سنخيتهم في فعل المسيئات، قال تعالى[وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ) .
إن ولاية الله عز وجل للمسلمين تجعل الظالمين في حال إختلاف وخصومة وإنشغال عن أهل الإيمان، وهو قانون من سنن الله في الأرض، قال تعالى[وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( )، وقيل(ولا ظالم إلا سيبتلى بأظلم) , ولكن الله بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين , والله سبحانه يمحو ما يشاء .
لقد جعل الدول العظمى تتباطئ وتتردد عن نصرة كفار قريش ,خاصة وأن تلك الدول كانت مشغولة أيام البعثة النبوية بالقتال بينهم فيمتنعون عن المجازفة بأرسال شطر من جيشهم ، وأي ضرر يتعرض له جيشهم في الجزيرة يكون وقعه على عموم الجيش وأفراد الأمة بالغاً خاصة وأن الملوك آنذاك يتصفون بالتدبير والإحاطة بفنون القتال وأحوال البلد , ولهم عيونهم , وغالباً ما يختارون الوزراء من أهل الحكمة والعلم.
فكانوا يخشون غدر العرب وإجهازهم بالليل على الجيش إلى جانب إنقطاع المؤون في الجزيرة وعدم إعتياد الروم أو جيش فارس على حر الجزيرة وشدة لهيبه، وقلة المياه ، والتباعد المكاني بين الآبار ، وإذا كانت البئر تكفي لمرور قافلة كل شهر عليها مثلاً ، فهي لا تكفي لمرور الجيش العرمرم، وما يحتاجه من التجهز والإحتياط بحمل الماء ، وما يلزم نقل أواني الماء معهم من الدواب الإضافية.
وهل في قوله تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ] ( )دلالة على المندوحة في أفراد الزمان وقوله تعالى [بِضْعِ سِنِينَ] لقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الرسالة من غير تدخل من الروم والفرس مع إستغاثة قريش بهم.
الجواب نعم، وتلك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشاهد على ولاية الله عز وجل له وللمسلمين بأن يكونوا في مأمن من زحف الجيوش العظيمة ذات التدريب العالي والأسلحة الفتاكة في زمانها لقتال المسلمين ، وإن كانت ولاية الله حاضرة حتى في حال مجئ هذه الجيوش ولكن إنشغالهم بأنفسهم والإقتتال بينهم من أبهى مصاديق ولاية الله للمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ] ( ) وهذا التخفيف من ولاية الله عز وجل للمسلمين وهو دائم ويتغشى أحوالهم العبادية والمعاملات , ومنه صرف القتال عن المسلمين ومحو الهزيمة عنهم ، قال تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
الثالث : مجئ وفود القبائل إلى مكة من جهات وأسباب:
الأولى :حج بيت الله الحرام ، وهو من بقايا حنيفية إبراهيم وتوارث العرب لها ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
فمن إعجاز الآية أعلاه مجيؤها بلفظ الناس للدلالة على دعوة الناس جميعاً للحج والطواف بالبيت إلى أن جاء التقييد بقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا] ( ).
الثانية : أداء أفراد القبائل للعمرة والسعي بين الصفا والمروة في غير أشهر الحج.
الثالثة : مجئ وفود القبائل للتجارة والتسوق من مكة .
الرابعة : اللجوء إلى قريش في أمور تخص القبائل والخصومات بينها والإنفاق والديات موضوعاً ومقداراً، وكانت قريش تساعد أحياناً في الدفع عن الجاني.
الخامسة : إتخاذ العرب رجالات من قريش للتحكيم والفصل في الخلافات بينهم .
السادسة : ما متوارث وشائع بين الناس والأمم برجوع أفراد القبائل والقرى إلى مركز المدينة القريب منهم ، ويدل قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( )على الإتحاد والتقارب بين أهل مكة وأفراد القبائل المحيطة بها.
السابعة : موضوعية دعاء إبراهيم عليه السلام وسؤاله الأمن والرزق الكريم ،قال تعالى [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل أهل مكة والجزيرة على إطلاع وعلم بما ينزل من القرآن ولو على نحو الموجبة الجزئية , ليس بينهم وبينه حجاب يتمثل بزحف جيوش الروم وفارس وإنشغال الناس به فأخذ الركبان ينقلون آيات القرآن ويتبادلون أخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وصارت تجارة قريش في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ] ( ) سبباً لنشر أحكام الشريعة الإسلامية وهو من مصاديق قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]أي بإشاعة تلاوة آيات القرآن ، فيقرأها المؤمن والكافر ليسمعها الكفار من باب نقل الخبر والتدبر فيه ، فيدخل الناس الإسلام بولاية الله .
وقد يتلو الكافر الآية مستخفاً مستهزءاً بذات الآية أو في موضوعها وأحكامها فيسمعها غيره فيدخل الإيمان قلبه لتنقيح المناط بتدبره فيما يسمعه ويطرح لغة الإستهزاء ، وهو من أسباب دخول أبناء وبنات كبار قريش في الإسلام .
وفي صلح الحديبية وأثناء كتابة الصلح جاء أبو جندل وهو ابن الذي يمثل قريش في كتابته سهيل بن عمرو ، في آية وبشارة لإنقضاء أيام المشركين وولادة جيل مؤمن من أبنائهم رغم المشاق والقهر والصعاب ، وهو من ولاية الله عز وجل للمسلمين ومصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدراية وصلاح أبناء أقطاب الشرك والضلالة (فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ هُوَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، إذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي الْحَدِيدِ قَدْ انْفَلَتَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجُوا وَهُمْ لَا يَشُكّونَ فِي الْفَتْحِ لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَلَمّا رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنْ الصّلْحِ وَالرّجُوعِ وَمَا تَحَمّلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نَفْسِهِ دَخَلَ عَلَى النّاسِ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتّى كَادُوا يَهْلِكُونَ .
فَلَمّا رَأَى سُهَيْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ وَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ ثُمّ قَالَ يَا مُحَمّدُ قَدْ لَجّتْ الْقَضِيّةُ بَيْنِي وَبَيْنَك قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَك هَذَا ؛ قَالَ فَجَعَلَ يَنْتُرُهُ بِتَلْبِيبِهِ وَيَجُرّهُ لِيَرُدّهُ إلَى قُرَيْشٍ .
وَجَعَلَ أَبُو جَنْدَلٍ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَأُرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي ؟ فَزَادَ ذَلِكَ النّاسَ إلَى مَا بِهِمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ فَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، إنّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللّهِ وَإِنّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ) ( ).

هل قاتل الملائكة يوم أحد
المدد الملكوتي من عند الله من مصاديق الولاية والنصرة المذكورين في آية البحث ، وفي نزول الملائكة أو عدمه يوم أحد وجوه :
الأول : تفضل الله وأمد المؤمنين يوم أحد بالملائكة , وإشترك الملائكة بالقتال نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
الثاني : نزل الملائكة يوم أحد ولكنهم لم يقاتلوا بل كانوا عدداً وزيادة في السواد (عن ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكة إلاّ يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عدداً ومدداً) ( ).
الثالث : لم ينزل الملائكة يوم أحد ، وأوان وموضوع آيات مدد الملائكة ومنها الآية أعلاه إنما هي معركة بدر (وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : أمدوا بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف . وذلك يوم بدر)( ).
والمختار هو الأول ، نعم قد يقال بأن قتال الملائكة من الكلي المشكك في مرتبته وكيفيته وكمه .
وكان إشتراك الملائكة يوم أحد على وجوه :
الأول :القتال وتعاهد سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( )ولا يضر بهذا المعنى نزول الآية في حجة الوداع وخصوص سبب النزول .
(عن سعد ابن أبى وقاص قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك ولا بعده) ( ) وفي الخبر أنهما جبرئيل وميكائيل .
الثاني : إعانة المقاتلين والرماة ، (عن ابن إسحاق : لما كان يوم أُحد انجلى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبقي سعد بن مالك يرمي،
وفتىً شاب ينبل له فلمّا فني النبل أتاه به فنثره , فقال : ارمِ أبا إسحاق، ارمِ أبا اسحاق كرتين فلما انجلت المعركة سئل عن الرجل فلم يعرف)( ).
الثالث : بث الفزع والخوف في قلوب المشركين ، إذ انسحبوا من المعركة مع أن الريح كانت لهم ولكن أدركوا حال الوهن والجبن التي أخذت تدب وتنتشر بينهم.
وهو من مصاديق قوله تعالى في يوم أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَه]( ).
الرابع : بعث المنعة وقوة الشكيمة في نفوس المسلمين .
الخامس : تكثير عدد المسلمين .
السادس : لقد أخبرت آية البحث عن أمرين:
الأول : ولاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الثاني : إن الله عز وجل خير الناصرين .
ولو دار الأمر بين نصرة الله بنزول الملائكة لتكثير السواد أو القتال ، فالصحيح هو الثاني لوجوه:
الأول : مجئ مصاديق ولاية الله بأبهى حلة وأعظم أسباب النصر.
الثاني : اسم التفضيل (خير) في قوله تعالى[خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
الثالث : ورود بعض الأخبار بقتال الملائكة.
لقد نزل جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقانون الولاية في هذه الآية وعرج إلى السماء ، ولم تمر بضعة سنوات حتى غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى , ولكن آية الولاية هذه بقيت في الأرض تصاحب المسلمين وتبعث السكينة في نفوسهم , وهو من أسرار الإطلاق فيها ، فلم ترتفع الآية ولا الولاية إلى يوم القيامة، وهو من أسباب سلامة القرآن من التحريف .
ولقد آخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار لإبدال نظام الأحلاف والعقود والولاية بين القبائل والأفراد قال ابو تمام:
أعطيتني دية القتيل وليس لي … عقل ولا حق عليك قديم( ).
وتحتمل آية البحث وجوهاً :
الأول : تأكيد نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار .
الثاني : الإخبار عن أواصر الأخوة في العقيدة بين المسلمين ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الثالث : بيان حقيقة وهي أن ولاية الله أعظم من المؤاخاة والأخوة الإيمانية وهي الأصل .
والصحيح هو الثالث ، فآية البحث كنز من تحت العرش ورحمة للمسلمين , وهي تعضيد لما ورد في الوجه الأول والثاني اعلاه .
ترى ما هي النسبة بين طاعة الذين كفروا التي تحذر منها الآية السابقة وبين ولايتهم، الجواب هو العموم والخصوص المطلق فالطاعة أعم وأشد أذى وضرراً لذا بينت الآية السابقة أسباب الهلكة التي تؤدي إليها طاعة الكفار.
وجاءت آية البحث بصيغة الإضراب وتأكيد ولاية الله للمسلمين لنجاتهم من طاعة وولاية الذين كفروا ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ] ( ).
فاذا جاءت آية البحث للمنع من طاعة الذين كفروا فهل تمنع من ولايتهم ومن الميل إليهم فيما يدعون من أسباب الضلالة ، الجواب نعم ، وهو من الوعد الكريم ومصاديق ولاية الله , وما دام المسلم يجتنب طاعة الكفار فان الله عز وجل يتغشاه برحمته.

قانون البطانة المنهي عنها
لقد أخبرت آية البحث عن ولاية الله عز وجل للمسلمين، لتكون الأوامر والنواهي التي جاءت بالقرآن والسنة من هذه الولاية وكذا إعانة المسلمين للتقيد بأحكامها وحفظها وتوارثها وجاءت الآية السابقة بالنهي عن طاعة الذين كفروا لسوء العاقبة الذي يترشح عن هذه الطاعة .
وهل تشمل الآية النهي عن إتخاذ الذين كفروا بطانة أو وليجة، الجواب فيه وجوه :
الأول : القدر المتيقن من الآية هو النهي عن طاعة الذين كفروا، وصيرورة المسلم في حال المطيع له والذي يتلقى الأوامر والنواهي منهم .
الثاني : تمنع الآية السابقة من إتخاذ الكفار وليجة وبطانة .
الثالث : التفصيل وشمول النهي والمنع للبطانة التي تكون بمنزلة الآمر الناهي ، ولو بالواسطة وإبداء المشورة والتي تؤدي إلى ذات العاقبة الأليمة والتي يحصل منها الإنقلاب والإرتداد .
ولا تعارض بين هذه الوجوه والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ) .
ومن ولاية الله عز وجل للمسلمين تجلي معاني النصح والبيان والمودة بينهم وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) ومن مصاديق الجمع بين الآية أعلاه والآية السابقة النهي عن إتخاذ البطانة من الذين كفروا، وتقدير الجمع بينهما على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذين كفروا وتتخذوا بطانة من دونكم لا يألونهم خبالاً .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً بدعوتهم لطاعة الذين كفروا .
الثالث : لا تطيعوا الذين كفروا قد بدت البغضاء من أفواههم .
وتلك حجة وآية لتنبيه المسلمين، فحينما نهت الآية السابقة عن طاعة الذين كفروا بينت الآية أعلاه أسراراً من وجوه الحاجة لهذا النهي.
ليكون من ولاية الله للمسلمين إعانتهم للوقاية من إتخاذ البطانة الفاسدة التي تحاول أخذهم إلى مستنقع طاعة الذين كفروا ومنها طاعة ذات البطانة , وقد يتقرب الكافر والمنافق للمؤمن باظهار الحرص على نفعه , وإدعاء إرادة مصلحة المؤمن، ويبذل الوسع والجهد والفطنة في جلب ثقته والفوز برضاه بشواهد على السعي لجلب النفع له أو دفع الأذى عنه، حتى إذا ما إطمئن المؤمن له توجه الكافر إلى السعي في هدم الصرح الذي بناه المسلم لنفسه وبذل الجهد كي يقصر في واجباته الإيمانية التي تتعلق بنفسه وعمله وصلاته ليتخذ من فعله على فرض وقوعه عبرة في ترغيب الناس بأسباب الجحود , ولكن الله عز وجل حذر من هذا النفاق بقوله تعالى[إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ]( ).
فلذا أنذرت الآية من الإدعاء الكاذب الذي يأتي من الكافر ويؤدي بالمسلم إلى الإنقلاب والخسارة المبينة لتتعقبها آية البحث لتؤكد سلامة المسلم من هذا الإنقلاب وما تترشح عنه من الخسارة مع بيان الدليل والحجة على هذه السلامة ، وهي مركبة ومتعددة من جهات:
الأولى : ولاية الله عز وجل للمسلم التي تغنيه عن إتخاذ بطانة من الكفار أو وليجة تدعو إلى طاعة الكفار .
الثانية : نصرة الله عز وجل للمسلمين ، وهي متعددة في المقام من وجوه :
الأول : صيرورة المسلم محترزاً من البطانة السيئة .
الثاني : إكتشاف المسلم لقبح سريرة بطانة السوء , ومقاصدها الخبيثة الظاهرة والخفية , قال تعالى في آية البطانة[وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ]( ).
الثالث : سلامة المسلم من الإنقياد والإنصياع لبطانة السوء .
الرابع : تعاون وتآزر المسلمين للوقاية من البطانة الكافرة أو التي تدعو إلى الكفر .
الثالثة : التعدد في وجوه نصرة الله من مصاديق اسم التفضيل في قوله تعالى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
لقد حذرت آيات القرآن من ولاية الذين كفروا وبينت خلوها من النفع، وهي سبب لجلب الأذى والضرر، وفي التنزيل [قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا]( ).
ويدل قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] على المسؤوليات العظيمة التي ينهض بها المسلمون أزاء أنفسهم وأجيال الناس وإلى يوم القيامة ، وتتقوم هذه المسؤولية بتعاهد عبادة الله والتصديق بالقرآن كتاباً نازلاً من عند الله والعمل بأحكامه، فأمن الله عز وجل لهم الغنى عن أهل الحسد والبغضاء سواء في باب المشورة أو إتخاذهم خاصة.
ومن ولاية الله في المقام حث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون كالبطانة الصالحة في نفعه وحضوره الدائم ، ومن منافعه أمور :
الأول : تقوم الأمر والنهي بأحكام وقوانين الشريعة ، فلا يصدر الأمر إلا بما يوافق الأوامر في القرآن والسنة ، ويتوجه النهي إلى المسلم في الكتاب والسنة ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الثاني : صدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إبتداء من المؤمنين ، فلا يستلزم السؤال وطلب النصيحة والمشورة من الغير.
الثالث : مجئ الكتاب والسنة بالترغيب بالمعروف , وبيان عظيم ما يترتب عليه من الثواب .
(عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: على كل منسم( ) من بني آدم صدقة كل يوم ، فقال رجل من القوم : ومن يطيق هذا ، قال : أمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، والحمل على( ) الضعيف صدقة ، وكل خطوة يخطوها أحدكم إلى الصلاة صدقة) ( ).
الرابع : إرادة الثواب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ولاية الله للمسلمين أن هذا الثواب متعدد من جهات :
الأولى : مجئ الثواب للأمر بالمعروف .
الثانية : الثواب لمن يعمل بالأمر بالمعروف ، وهو أعم من الذي يتوجه إليه الخطاب وقصد الأمر ، فقد يسمع طرف ثالث الأمر بالمعروف من ذات الآمر أو المأمور أو من غيرهما فيعمل به ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
والآية اعلاه من ولاية الله للمسلمين في حفظهم وتعاهدهم لأحكام الشريعة وصرف الكيد والمكر عنهم لذا جاء قوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] ( ) لتكون هذه الآية من جنود الله ونصرته للمسلمين في باب المشورة والخاصة والذين يتولون إدارة أعماله ومكاسبه ونفقاته.
وقد تنهى البطانة السيئة عن إخراج الحقوق الشرعية بحجة توظيف المال في المضاربة والتجارات أو بأقتراح التأجيل والتسويف في إخراجها مع وجوب إخراجها عند اجتماع الشرائط كالنصاب .
وهل يدخل النهي عن بطانة الضلالة والسوء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجواب نعم تدخل إبتداء وإستدامة أي ينصح المسلم أخاه وإن كان ذا شأن بعدم إتخاذ بطانة السوء ، وإن اتخذها يتجدد النصح والنهي عن إستدامة إتخاذ تلك بطانة مع الأمن من الضرر.
ومن ولاية الله عز وجل للمسلمين دلالة قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ) على أمور :
الأول : صبغة الإيمان وسيلة وسلاح عند المسلمين في إختيار وتعيين البطانة وأنها لا تفرض من غيرهم ، ولا يستطيع المشركون والمنافقون أن يكونوا بطانة عند المسلمين ، وعلى فرض أن أحدهم وصل إلى مرتبة البطانة وأن المسلم رضي به تقية فانه يكون في حيطة ويقظة منه ومما يأمر به .
وهل يمكن أن يقال إلى جانب التقية أعلاه أن المسلم يرضى بالكافر بطانة في حال وجود الراجح والنفع , الجواب لا ، لورود الآية أعلاه مطلقة في النهي والتحذير والموضوع , وولاية الله عز وجل هي الأمان والضمان ، وتكون البطانة على وجوه :
الأول : البطانة الشخصية للجماعة، كما لو كان البطانة من أهل المعرفة والإختصاص من المسلمين .
الثاني : بطانة الجماعة والطائفة للمسلمين .
الثالث : البطانة الشخصية للفرد الواحد .
الرابع : بطانة الجماعة للفرد الواحد ، كما لو كان أميراً أو صاحب أموال وتجارات .
الخامس : البطانة بالواسطة كالبطانة والخاصة للجماعة، ولكن بواسطة فرد واحد منهم أو من غيرهم ، أو البطانة للفرد الواحد ولكن بواسطة جماعة .
السادس : البطانة المؤقتة والخاصة بموضوع معين خاصة وأن هذا الزمان زمن التخصص.
ويشمل النهي عن بطانة السوء الوارد في الآية أعلاه جميع هذه الوجوه ، وهو من مصاديق الإطلاق في ولاية الله وحضورها في مسألة المشورة والوليجة وعلى نحو التفصيل ، وفيه بعث لإتخاذ البطانة الصالحة ، والتوفيق في إختيارها من ولاية الله وهو واقية من طاعة الذين كفروا بلحاظ قرب البطانة الصالحة من المسلم.
ولفظ البطانة مصدر مأخوذ من بطانة الثوب الذي يلاصق البدن، وفيه دلالة على أن البطانة قد تطلع على دقائق أمور الذي يتخذها خاصة ، وترقب أحواله وتطلع على أسراره , ولو في الجملة لقربها من مصدر القرار ،ومحل ورود الأخبار فاراد الله عز وجل تحصين المسلمين فيما حولهم ، وولايتهم في باب النصيحة، وفي التنزيل[يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن الآية القرآنية بطانة صالحة للمسلمين مجتمعين ومتفرقين، ومنها في المقام:
الأولى : آية البحث التي هي بطانة ومستشار أمين للمسلمين في العبادات والمعاملات والصلات.
الثانية : الآية السابقة لإكرامها المسلمين في أولها، بنداء الإيمان، ولما فيها من الإنذار والتحذير من طاعة الذين كفروا والزجر عن إتباعهم.
الثالثة : إجتماع آية البحث والآية السابقة , وصيرورتهما بطانة متحدة للمسلمين، وهو من الإعجاز في إبتداء آية البحث بحرف الإضراب (بل) لأنها تتضمن صرف المسلمين عن طاعة الذين كفروا ، وتدعوهم إلى ولاية الله التي تتجلى بالقرآن والسنة النبوية وإتخاذهما إماماً ، وتعدهم بالنصر بشرط ملازمة سنن الإيمان , وكل آية ضياء وبطانة، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : يتخذ المسلمون بطانة صالحة.
الصغرى : الآية القرآنية بطانة صالحة.
النتيجة : يتخذ المسلمون الآية القرآنية بطانة.
وقد يقال أن القدر المتيقن من المراد من البطانة هو من جنس الإنسان بأن يكون حاضراً في قوله وفعله , وهذا صحيح، ولكن المسلم يتصف بنعمة إضافية وهي إستحضار الآية القرآنية عند الوقائع دليلاً وهادياً , وحينما نهى الله عز وجل عن بطانة السوء فانه سبحانه تفضل بالمتعدد والقريب من مصاديق البطانة.
ولو إتخذ الناس الإنسان الآلي ما يشبه البطانة فهل يصح، الجواب إذا كان مزوداً بمعلومات وأرقام تفيد النصح وعدم الغش والتغرير فلا يأس به، كما لو كان مزوداً بالآية القرآنية والحديث الذي يكون مناسباً لواقعة مخصوصة، ولكنه لا يرقى إلى مرتبة المؤمن الناصح، ومعرفة الإنسان بالأحوال الخاصة الظاهرة والخفية.
ومن إعجاز القرآن مدرسة المثل القرآني وقصص القرآن، وأسباب النزول وتكون الآية القرآنية مقدمة للتفكر والتدبر، قال تعالى[وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الصدور عن القرآن، وسلامة كلماته وآياته من التحريف، وعدم تضييعه، وإتخاذ البطانة المؤمنة طريقاً لإستدامة العبادات، وتلاوة الآيات والتدبر في معانيها، والإقرار بأنها نازلة من عند الله.
ومن خصائص القرآن أنه يحذر من الفتنة، ويمنع من إفتتان المؤمنين، وفي التنزيل[رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا]( )، فجاءت ولاية الله في آية البحث للأمن من الفتنة , ومنها التي تأتي عن طريق البطانة الظالمة التي تحث على الطمع والشره والإنتقام.
بينما تدعو البطانة الصالحة إلى صلة الرحم وإصلاح ذات البين وإلى الإنصاف والوئام والتقيد بأحكام الشريعة الذي لا يجلب إلا النفع والسكينة والرضا.
لقد إتخذ فرعون هامان وزيراً وبطانة فلم يشر عليه باتباع موسى حيث نجاته وملكه وأهل مملكته، ولكنه كان على مقدمة جيشه للحاق بموسى عليه السلام وبني إسرائيل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي: ثم إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل فقال[فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً]( )، فأمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا ، وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط ، وأمر أن لا ينادي أحد منهم صاحبه ، وأن يسرجوا في بيوتهم حتى الصبح ، وأن من خرج منهم أمام بابه يكب من دم حتى يعلم أنه قد خرج ، وأن الله قد أخرج كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل ، وأخرج كل ولد زنا في بني إسرائيل من القبط حتى أتوا آباءهم . ثم خرج موسى ببني إسرائيل ليلاً والقبط لا يعلمون .
وألقى على القبط الموت فمات كل بكر رجل منهم ، فأصبحوا يدفنونهم فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس ، وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألفاً .
لا يعدون ابن عشرين لصغره ، ولا ابن ستين لكبره ، وإنما عدوا ما بين ذلك سوى الذرية.
وتبعهم فرعون على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ماذيانة( )، وذلك حين يقول الله { فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ، إن هؤلاء لشرذمة قليلون }( ) فكان موسى على ساقة بني إسرائيل ، وكان هارون أمامهم يقدمهم فقال المؤمن لموسى : أين أمرت؟ قال : البحر . فأراد أن يقتحم فمنعه موسى .
فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم قالوا : يا موسى { إنا لمدركون } قال موسى { كلا إن معي ربي سيهدين }( ) يقول : سيكفين . فتقدم هارون فضرب البحر فأبى البحر أن ينفتح وقال : من هذا الجبار الذي يضربني؟ حتى أتاه موسى ، فكناه أبا خالد وضربه { فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم }( ) يقول : كالجبل العظيم.
فدخلت بنو إسرائيل وكان في البحر اثنا عشر طريقاً في كل طريق سبط ، وكانت الطرق إذا انفلقت بجدران فقال كل سبط : قد قتل أصحابنا . فلما رأى ذلك موسى صلى الله عليه وسلم دعا الله ، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطبقات ينظر آخرهم إلى أولها حتى خرجوا جميعاً.
ثم دنا فرعون وأصحابه فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقاً قال : ألا ترون إلى البحر منفلقاً قد فرق مني ، فانفتح لي حتى أدرك أعدائي فاقتلهم ، فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم ، فنزل على ماذيانة.
فشامت الحصن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم . أمر الله البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم، وتفرد جبريل بفرعون بمقله من مقل البحر ، فجعل يدسها في فيه( ).
وقيل أن أول من خضب بالسواد فرعون حيث قال له موسى : إن أنت آمنت بالله سألته أن يرد عليك شبابك ، فذكر ذلك لهامان فخضبه هامان بالسواد – وهو من مصاديق بطانة السوء –
فقال له موسى : ميعادك ثلاثة أيام . فلما كانت ثلاثة أيام فصل خضابه( ).
ومن إعجاز القرآن أنه ينهى عن البطانة الفاسدة في آية البطانة ثم تتضمن آياته تقسيماً لذات البطانة , لتكون على أقسام:
الأول : البطانة المتحدة كالوزير.
الثاني : البطانة الخاصة والقريبة.
الثالث : البطانة المتعددة والعامة، والتي تتجلى معانيها في قوله تعالى في الرؤساء والوجهاء من قوم فرعون، قال تعالى[قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ]( ).
لبيان أن شطراً من الأذى الذي تلقاه الأنبياء كان من البطانة فجاءت آية البحث بولاية الله للمسلمين لأمور:
الأول : كفاية أذى البطانة التي تضمر النفاق ونية السوء.
الثاني : التحذير من البطانة الفاسدة.
الثالث : الحيطة والحذر من المشورة المخالفة للكتاب والسنة.
الرابع : إعانة المسلمين لإختيار البطانة الصالحة، وهو من مصاديق الولاية.
الخامس : صيرورة المسلم بطانة صالحة، لا يأمر إلا بالخير والفلاح والنفع العام والخاص.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين حمل لواء العدل , وتثبيت سننه في الأرض بما يجعل الناس يتدبرون بالآيات الكونية وأسباب جذبهم إلى الهدى والإيمان , فتفضل ورزقهم ولايته .
لقد خاطب الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ]( ).
ليجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ، فهو بمرأى ومسمع من الله عز وجل، وهو سبحانه يتعاهده وأمته بالولاية، ويحفظه من شرور المشركين بالولاية، لتكون هذه النعمة العظيمة واقية من الإستماع للمشركين في أسباب الإغواء والمكر .
ولا تعني الآية والتحذير من البطانة الأدنى الإعراض التام عن غير المسلمين فيما يقولون لذا فمن إعجاز آية البطانة أنها قيدت النهي عن الأدنى[لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ]( )، والفارق ليس كبيراً لأن المدار على خصال السوء , التي تحذر الآية من إتخاذ الذي يتصف بها خاصة ووليجة.
فيجوز الإقتباس والتعلم والأخذ منهم بما فيه النفع العام والخاص، وتبادل المعارف العلمية والمكاسب التجارية وأمور الزراعات والصناعات والتقنية الحديثة فان الله عز وجل جعل الناس بالناس، ولكن مع الحيطة واليقظة، وإجتناب الوليجة غير الصالحة.
ومن مصاديق الدون والأدنى في قوله تعالى[لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ]( )، أي أدنى في المقاصد وأنها تتخلف عن الغايات الحميدة التي يسعى إليها المسلمون، ثم أن الآية قيدت البطانة التي تنهى عنها بقيود:
الأول : بث الخصومة والخلاف بين المسلمين، قال تعالى[لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]، وقد ورد لفظ (خبالاً) مرتين في القرآن، إذ جاءت في ذم المنافقين وأن خروجهم مع المؤمنين في القتال سبب للإرباك والنقصان والضعف , وبث معاني الوهن والجبن، قال تعالى[لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ]( ).
الثاني : إقتراح أو فعل ما فيه فوق طاقة وقدرة الإنسان، ونشر أسباب الفساد ومقدمات الخسارة، وأسباب الأذى والجور لقوله تعالى[وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ].
الثالث : إفتضاح سوء نوايا المنافقين وبطانة السوء، وظهوره على ألسنتهم، لقوله تعالى في الآية أعلاه [قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ] ليكون كشف المسلمين لهم من ولاية الله للمسلمين، ومنها آية البحث التي هي حرز في باب المشورة والخاصة وصاحب السر، ومستقر الوديعة المالية، والمعنوية وبث الهموم وبيان الأماني.
بحث بلاغي
من ضروب البديع ما يسمى (الفرائد) وهي لغة جمع فريدة أي الجوهرة النفسية، وهو مختص بالفصاحة إذ يأتي المتكلم بكلمة فصيحة من كلام العرب تكون مثل الفريدة واللؤلؤة من العقد لتدل على فصاحته، وإن رفعتها عن الكلام فليس من كلمة تكون بديلاً لها، ومنه قوله تعالى[أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ]( )، فليلة الصيام فريدة، والرفت فريدة لا تسد غيرها محلها.
وتأتي الفرائد في الشعر والنثر والتأليف، وأستدل عليه بقول عنترة في معلقته:
يا دَارَ عَبْلَةَ بالْجِواءِ تَكَلَّمِي … وعِمِي صَباحاً دَارَ عَبْلَةَ واسْلَمِي( ).
قال يونس: وسئل أَبو عمرو بن العلاء عن قول عنترة وعِمِي صَباحاً دارَ عَبْلَة واسْلَمي فقال هو كما يَعْمِي المطرُ ويَعْمي البحرُ بزَبَدِه وأَراد كثرةَ الدعاء لها بالاسْتِسْقاء قال الأَزهري إن كان من عَمى يَعْمي إذا سال فحقّه أن يُرْوى واعْمِي صَباحاً فيكون أَمْراً من عَمى يَعْمي إذا سال ( ).
ولكن الصحيح هو إرادة التحية والسلام وتقديره أنعم صباحاً، وهو المروي عن ابن الأعرابي وابن منظور (وقيل ان قحطان أول من قيل له أبيت اللعن وأول من قيل له عم صباحاً( ).
ويمكن الإستلال عليه بما ورد عن عبد الجبار بن الحارث بن مالك ، قال : وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرض سراة ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فحييته بتحية العرب ، فقلت : أنعم صباحا ، فقال : إن الله قد حيى محمدا وأمته بغير هذه التحية ، بالتسليم بعضها على بعض .
فقلت : السلام عليكم يا رسول الله ، فقال: وعليك السلام ، قال لي : ما اسمك، فقلت : الجبار بن الحارث ، فقال لي : أنت عبد الجبار بن الحارث، فقلت : وأنا عبد الجبار بن الحارث ، فأسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بايعت ، قيل له : إن هذا المنادي فارس من فرسان قومه ، قال : فحملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس فأقمت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاتل معه .
ففقد رسول الله صلى الله عليه وسلم صهيل فرسي الذي حملني عليه ، فقال : ما لي لا أسمع صهيل فرس الحدسي ، فقلت : يا رسول الله ، بلغني أنك تأذيت من صهيله فخصيته ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل ، فقيل لي : لو سألت النبي صلى الله عليه وسلم كتابا كما سأله ابن عمك تميم الداري ، فقلت : أعاجلا أسأله أم آجلا ؟ قالوا : بل عاجلا اسأله ، فقلت : عن العاجل رغبت ، ولكني أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يعينني غدا بين يدي الله عز وجل ( ).
وتتألف آية البحث من أربع كلمات , وكل كلمة منها فريدة ليس لها بديل في محلها، لأنها قانون متكامل من شعبتين , وهما:
الأولى : ولاية الله للمؤمنين.
الثانية : نصره الله للمؤمنين بأحسن ضروب النصرة.
وهل من حد لهذا الحسن والأفضلية التي يدل عليها قوله تعالى[خَيْرُ النَّاصِرِينَ] الجواب لا، سواء في الكم أو الكيف أو الزمان أو المكان أو العاجل أو الآجل.
ومن أسرار النصر الإلهي أنه يتحقق في الواقعة مثل معركة بدر، أما منافعه للمؤمنين فانها تتعلق وتتجدد في كل زمان كما أنه مناسبة للثواب للمؤمنين، ويحضرهم هذا الثواب في الدنيا وفي عالم البرزخ وفي الآخرة، ويكون النصر في الميدان نصراً على الشيطان وخطواته، وزجراً للذين من خلف الكفار , فتمتلأ قلوبهم رعباً، فلم يأت منهم مدد أو عون لأصحابهم كفار قريش، وهو من مصاديق الآية التالية[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، أي أن الرعب يملأ قلوب المقاتلين منهم في الميدان والذين من خلفهم وأصحاب ذات سنخية الكفر وإن بعدت ديارهم، قال تعالى[فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ]( ).
قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]
تبين آية البحث أسباب العز وتحقيق الرفعة والغلبة للمسلمين وسوء خاتمة حياة المفسدين ، وفيه شاهد بقطع الفساد بدولة الحق ويتم هذا القطع بوجوه :
الأول : إنخرام دولة المفسدين وإنقضاء أيامهم , لأن الفساد علة لزوال الممالك وخراب الديار وفي قوله تعالى بخصوص فرعون[أَلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ]( ) (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «قال لي جبرئيل : ما أبغضت أحداً من عباد الله إلاّ أنا أبغضت عبدين أحدهما من الجنّ والآخر من الأنس،
فأما من الجنّ فإبليس حين أبى بالسجود لآدم , وأما من الإنس ففرعون حين قال : أنا ربكم الأعلى، ولو رأيتني يا محمد وأنا أدسّ الطين في فيه مخافة أن تدركه الرحمة) ( ).
الثاني : مجئ دولة بدل دولة المفسدين ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ).
الثالث : إبتلاء المفسدين بالفقر والجوع والضراء وأسباب الفناء.
الرابع : قيام الأنبياء وأنصارهم وأتباعهم بالجهاد وإزاحة المفسدين عن السلطة والحكم ، لأن قوله تعالى [وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ] ( ) يصدق على المتحد والمتعدد ، وعلى الفرد ذي الشأن والملك من الكفار.
الخامس : زوال هيبة ودولة المفسدين مقدمة لإقامة دولة الحق ، وهل هذه المقدمة من ولاية الله للمؤمنين، الجواب نعم ، إذ تشمل نصرة الله أموراً :
الأول : بث أسباب الوهن في دولة الكفر والضلالة .
الثاني : تهيئة مقدمات أداء المؤمنين عباداتهم ومناسكهم من غير أذى أو ضرر.
الثالث : إقامة المؤمنين أحكام الشريعة ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ) ومن خصائص النصرة من عند الله تغشيها لأحوال المؤمنين كلها ، وهو من مصاديق الأفضلية في قوله تعالى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
ومن أسرار عدم إكتفاء آية البحث بالإخبار عن ولاية الله للمسلمين مجئ قوله تعالى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ]للدلالة على أن تقيد المسلمين بمضامين الآية السابقة وما فيها من النواهي يستلزم النصرة والعون والمدد , فأخبرت الآية بأن الله هو الذي ينصر المسلمين بلحاظ الآية السابقة من وجوه :
الأول :ثبات المسلمين في مقامات الإيمان ، وهو الذي يدل عليه لفظ [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]في أول الآية السابقة بلحاظ تجدده كل يوم ، فهو يطل على المسلمين مع طلوع كل فجر يوم جديد، وهو من الإعجاز في الشريعة الإسلامية من جهات :
الأولى : تعيين أوان صلاة الصبح .
الثانية : الإمساك عن الطعام في أيام شهر رمضان بقوله تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] ( ).
الثالثة : حرمة الإرتداد في الإسلام، فالذي يتوجه له الخطاب [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]والذي يكون بلحاظ المسلم المنفرد ( يا أيها الذي آمن ) يبقى يتلقى الخطاب إلى أن يغادر الحياة الدنيا ، وهو من مصاديق [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] لما في هذه الإستدامة من نصر المسلم على النفس الأمارة بالسوء .
الثاني : بيان الآية السابقة لحرمة طاعة المسلم للذين كفروا في أمور العقائد وأحكام الشريعة ، إذ يسعون لمنعه من عبادة الله حق عبادته.
وعندما نزل نسخ القبلة والأمر من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله للتحول إلى إستقبال البيت الحرام ، أظهرت طائفة من أهل الحسد والشك الإستهزاء كما في قوله تعالى [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ] ( ) مما يدل على أن قول وفعل الذين كفروا أشد وأمر .
وتدل الآية على إنعدام العائق والمانع بين نصرة الله والعبد وهو من مصاديق قوله تعالى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] فقد يهم السلطان والأمير وقائد الجيش وغيرهم بالنصرة والمدد، ولكنه يرى الموانع فيتوقف عن النصرة أو يهم به فيفاجئ بمرجوحية قرار النصرة أو يبذل قصارى جهده في النصرة ولكن لا يترتب عليها نفع للمنصور.
أما نصرة الله فتأتي مطلقة وتشمل الأمور الخاصة والعامة ، وتنفذ إلى أعماق النفس وتصلحها وتجعلها والأركان دائبة على ذكر الله وإستحضار فضله واللجوء إليه في المهمات وكان من دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( اللهم أمتعني بسمعي وبصري ، واجعلهما الوارث مني ، اللهم انصرني على عدوي ، وأرني فيه ثأري) ( ).
الثالثة : ما من نصرة من الخلائق إلا وتكون محدودة ، وتنقطع بانقطاع الأسباب وحصول الغياب في أحد أطرافها وهي :
الأول : الناصر الذي يمد يد العون .
الثاني : المنصور ، وهو الذي يتلقى النصرة والمدد .
الثالث : موضوع ومادة النصرة.
ومن خصائص نصرة الله أمور :
الأول : عدم إنقطاع النصرة.
الثاني : الإتصال والدوام، قال تعالى[إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ]( )، فان قلت وردت الآية أعلاه بخصوص نعيم الجنة فهذا صحيح إلا أن الكبرى الكلية فيه نسبة الرزق إلى الله عز وجل وبيان إتصاله في النشأتين.
الثالث : حضور ولاية ونصرة الله في كل الأحوال .
الرابع : مجئ نصرة الله عند سؤال المؤمن وفي حال عدم السؤال فضلاً من عند الله .
الخامس : كفاية نصرة الله للموجود والمعدوم بمعنى تأتي النصرة للمسلم الحي فينتفع منها الميت والذي لم يولد بعد وهو من مصاديق لفظ [خَيْرُ] في قوله تعالى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] .
ومنها أيضاً إنتفاع الكافر وعدو الإسلام من نصرة الله للمسلمين من جهات :
الأولى : زجر الكافر عن محاربة الإسلام .
الثانية : بيان آية متجددة في نصرة الله للمسلمين مجتمعين ومتفرقين , وفيه حجة على الكفار ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن كلاً من لفظ الحجة والبالغة لم يردا في القرآن إلا فيها .
الثالثة : دعوة الكفار للإيمان والإقرار بالربوبية المطلقة لله وأنه سبحانه [خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
السادس : مجئ نصرة الله بالدعاء والمسألة من غير توسل ومسكنة وحاجة للناس، قال سبحانه [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]أي أستجب بلحاظ آية البحث من.
السابع : الغنى بنصرة الله عن نصرة ومدد غيره ، فقد تأتي النصرة من الناس ولكنها قاصرة عن نيل المراد وتحقيق المقصود فيقع البحث عن مصداق آخر للنصرة ولكن نصرة كافية شافية ، وهو من عمومات قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
الثامن : إن الله عز وجل خير الناصرين لأن نصرته غاية بذاتها وهي بلغة وغاية حميدة أخرى في ذات الوقت .
ومن مصاديق فضل الله عز وجل على المسلمين بمرأى ومسمع من الناس كافة ، الجمع في آية البحث بين أمور:
الأول : ولاية الله المطلقة للمسلمين .
الثاني : نصرة الله للمسلمين .
الثالث : إتصاف نصرة الله بأنها الأفضل والأحسن، وفيه بشارة بسيادة الإسلام، وإنتشار مبادئ التوحيد، وأحكام الرسالة ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ] ( ) ,
ترى لماذا لم تقل الآية (وهو الناصر ) الجواب نعم ،إن الله عز وجل هو الناصر وتكون الألف واللام أعلاه للعهد ولكنه لم يرد هذا اللفظ في القرآن ، كما أنه لم يرد لفظ [النَّاصِرِينَ] إلا في آية البحث، وفيه مسائل :
الأولى : إخبار القرآن عن حصول النصرة بين الناس .
الثانية : دعوة المسلمين للتوجه إلى الله عز وجل بطلب النصرة والمدد وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
الثالثة :دعوة الناس لإجتناب قتال المسلمين.
الرابعة : دعوة المسلمين والناس جميعاً للتدبر في مصاديق نصرة الله للمسلمين في معارك الإسلام الأولى.
الخامسة : نصرة الله أعم من أن تختص بحال الحرب والقتال، ومن مصاديق صرف القتال عن المسلمين مع تحقق الغايات الحميدة للنبوة، كما في صلح الحديبية الذي هو فتح من عند الله .
وعن ابن عباس قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً في سنة ست من الهجرة ، وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت ، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل ، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من المسلمين وأقصه الله منهم ، نزلت هذه الآية الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ.
يدل إبتداء آية البحث بحرف الإضراب [بل] على أحد أمور :
الأول : إتصال موضوع آية البحث بالآية السابقة .
الثاني : تعلق مضامين آية البحث بالآيات السابقة .
الثالث : موضوع آية البحث متصل بشطر من الآية السابقة .
الرابع : إتصال موضوع آية البحث بالآية السابقة , وشطر من الآية التي سبقتها .
الخامس : جزء من آية البحث متصل بالآية السابقة .
والصحيح هو الأول ، وهو من الإعجاز في إبتداء الآية السابقة بالنداء التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بينما جاءت الآيات السابقة معطوفة على الآية الثلاثين بعد المائة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ( ) .
ولا يعني هذا الإتصال حصر مضامين آية البحث بموضوع الآية السابقة إنما جاء ذكر الله هنا كقانون عام متعدد ينتفع منه المسلمون في حال السراء والضراء , وفي الوقاية من الكفار وكيدهم .
ومن مصاديق نصرة الله للمسلمين بلحاظ الآية السابقة مسائل :
الأولى : بلوغ المسلمين مرتبة الإيمان نصر على العادة والموروث من مفاهيم الشرك ، وقهر للنفس الشهوية الأمارة بالسوء ، ومن نصر الله للمؤمن إصلاحه للإيمان وبعث الشوق في نفسه لأداء العبادات والفرائض .
الثانية : توجه النداء للمسلمين مجتمعين من نصر الله لهم بلحاظ صيرورتهم أمة متحدة تتلقى الخطاب التشريفي من عند الله .
الثالثة : يتضمن قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الشهادة للمسلمين بالإيمان ، وهو نصر لهم بين الناس ونهي للذين كفروا من السعي لإرتداد بعضهم .
الرابعة : في نداء المسلمين بصبغة الإيمان من عند الله إضعاف لجبهة الكفر ، ومقدمة للنصر والغلبة عليهم ، فمن مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] مجئ النداء للمسلمين من عند الله ، فيصيب الذين كفروا الوهن .
الخامسة : من مصاديق وصف الله لنفسه بأنه [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] إختصاص المؤمنين بنصرته ، فهي لا تشمل الكفار والفاسقين والمارقين ، وهو من مصاديق نصب الإنسان خليفة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وأن نصرة المؤمنين إستدامة لهذه الخلافة وتقومها بالتقوى والصلاح .
السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا بأن الله مولاكم وهو خير الناصرين ) وهو من معاني الشكر لله عز وجل والثناء عليه سبحانه .
وهل هو من مصاديق العبادة في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )بلحاظ أن هذا الإيمان عبادة لله عز وجل ، الجواب نعم لأن الإيمان إقرار فيه أجر وثواب ، لقد أراد الله عز وجل أن تترجل عبادته في الخارج بهيئة وأفعال مخصوصة كالصلاة والصيام والحج والزكاة ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
وتبين الآية أعلاه التعدد والتغاير بين الإيمان والعبادة ، ليكون الإيمان مطلوباً بذاته وهو مقدمة وأصل للعبادة بلحاظ لزوم قصد القربة فيها .
السابعة : تأديب إرشاد المسلمين في موضوع الطاعة وبيان الجهة التي يجب أن يجتنبوا طاعتها وهم الذين كفروا مجتمعين ومتفرقين ، إذ تصح قراءة الآية السابقة على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذي كفر .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا التي كفرت .
الثالث : يا أيها المؤمن لا تطيع الذي كفر .
الرابع : يا أيها المؤمن لا تطيع التي كفرت .
الخامس : يا أيها المؤمن لا تطيع الذين كفروا .
السادس : يا أيتها المؤمنات لا تطعن الذين كفروا .
السابع : يا أيتها المؤمنات لا تطعن الذي كفر .
الثامن : يا أيتها المؤمنة لا تطيعي الذي كفر .
التاسع : يا أيتها المؤمنة لا تطيعي الذي كفر .
العاشر : يا أيها المؤمنة لا تطيعي التي كفرت .
الحادي عشر : يا أيتها المؤمنات لا تطعن التي كفرت .
الثاني عشر : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا اللائي كفرن .
وهل يصح تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذين نافقوا , الجواب نعم ، بلحاظ إتحاد سنخية الكفر الجامعة للفريقين وعن السدي (قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة ، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتخمناها ، فلعلنا أن نخرج إلى الظهر حتى نتماثل ثم نرجع ، فإنا كنا أصحاب برية .
فانطلقوا واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت طائفة : أعداء الله منافقون ، وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم . وقالت طائفة : لا ، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتخموها ، فخرجوا إلى الظهر يتنزهون فإذا برئوا رجعوا . فأنزل الله في ذلك { فما لكم في المنافقين فئتين })( ).
الثامنة : من نصرة الله عز وجل للمسلمين إعانتهم في أمور :
الأول : التنبيه بوجوب عدم طاعة الذين كفروا ، وجاء هذا التنبيه في القرآن وبصيغة الزجر والنهي ليبقى مصاحباً للمسلمين ولا يفارقهم ليلاً أو نهاراً , وهو من ولاية الله لهم , وأسرار جمع آية البحث بين الولاية والنصرة من عنده سبحانه .
الثاني : إعانة المسلمين للتقيد بأحكام النهي عن طاعة الذين كفروا وهذا النهي حجة وطارد للغفلة والجهالة عن المسلمين ، وقد يقال في الآية السابقة تكليف للمسلمين بلزوم إجتناب طاعة الكفار، ولو لم تنزل لكانوا في سعة ومندوحة لحديث الرفع , قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال : رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما أُكرهوا عليه)( ).
والجواب من وجوه :
أولاً : إرادة الأجر والثواب للمسلمين في التقيد بالأوامر والنواهي .
ثانياً : طاعة الذين كفروا قبيحة بالذات والأثر .
ثالثاً : يترتب على طاعة الذين كفروا الضرر الفادح على ذات المسلم وعلى الأمة وهذه الطاعة حاجب عن الأجر والثواب .
رابعاً : تأكيد التباين والتضاد بين الإيمان وطاعة الذين كفروا .
خامساً : ورود آيات أخرى تنهى عن طاعة الذين كفروا, وآيات تدعو إلى قتالهم .
الثالث : دلالة الآية السابقة على تقسيم الناس إلى مؤمنين وكفار , وموضوعية هذا التقسيم في الطاعة في القول والفعل .
الرابع : دعوة المسلمين للمناجاة والتناصر بينهم بالإمتناع عن طاعة الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وتعاون المسلمين في الإبتعاد عن طاعة الذين كفروا دعوة للناس لدخول الإسلام , وبعث للنفرة في النفوس من الذين كفروا .
التاسعة : من نصرة الله للمسلمين هدايتهم لطريق الصلاح وإضاءته لهم ، وزيادة حدة بصرهم وبصيرتهم بتعاهد طاعة الله ، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ] ( ).
وطاعة الذين كفروا من الظلمات ، لذا فمن مصاديق إخراج المسلمين إلى النور وقايتهم من طاعة الذين كفروا .
العاشرة : من نصرة الله للمسلمين أمور :
الأول : منع المسلمين من الإرتداد .
الثاني : تخلف الإرتداد عن الإقتراب للمسلمين .
الثالث : إنعدام سلطان الذين كفروا على المؤمنين .
الرابع : إمتناع مقدمات إرتداد المسلمين .
الحادية عشرة : بيان الضرر الفادح الذي يترشح عن طاعة الذين كفروا لإختتام الآية السابقة بقوله تعالى[فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ].
وهل تكون النسبة بين الذين كفروا والذي يطيعهم من المسلمين العموم والخصوص المطلق ، إذ يلتقيان بالكفر في القول أو الفعل بينما يكون الكافر مقيماً على الكفر ، ويأتي المسلم بحال إنقلاب وتقهقر إلى الوراء وإبدال النعمة بأسباب النقمة , الجواب لا دليل على هذه النسبة لبقاء صبغة الإيمان وباب التوبة للمسلمين , فالخسارة التي تذكرها الآية السابقة لا تصل إلى درجة الكفر.
الثانية عشرة : إجتماع مضامين الآية السابقة من نصرة الله , فتقدم النداء بصفة الإيمان على النهي نصرة ولطف من عند الله لتعاهد المسلمين طاعته ، ودعوة الناس جميعاً لطاعته ، قال تعالى [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ] ( ).
الثالثة عشرة : من نصرة الله كشف الآية السابقة لمراتب الضرر في طاعة الذين كفروا , ليتفقه المسلمون في الدين ويزدادوا إيماناً وصلاحاً .
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : والله خير الناصرين لكفاية نصرته للمؤمنين .
الثاني : والله خير الناصرين لأنه يتفضل بالمدد والعون والنصير وفي التنزيل [وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا] ( ).
الثالث : والله خير الناصرين لأنه الهادي إلى الحق .
الرابع : والله خير الناصرين لكفاية نصرته وعونه ، وهو الذي أنعم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بفتح مكة في بضع سنين بعد الهجوم المتكرر من كفار قريش وحلفائهم ، ليكون هذا الفتح معجزة حسية ومصداقاً لآية البحث .
وعن ابن عباس [قال : أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت ز
وقال : «الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثمّ قال : ما تظنون؟
قالوا : نظنّ خيراً،
أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت،
قال : وأنا أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم( ).
الخامس : والله خير الناصرين الذي نصركم ببدر وأحد والخندق وحنين ومواطن كثيرة كما في قوله تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )ولم يرد لفظ [حُنَيْنٍ] إلا في الآية أعلاه وتبين الآيتان أعلاه مصاديق من نصرة الله في الواقعة الواحدة وهي :
أولاً : قيام الحجة بحاجة المسلمين إلى نصرة الله .
ثانياً : شدة وبطش عدو المسلمين وتدبيره ومكره ، ليأتي نصر الله عز وجل للمسلمين , فتلحق الهزيمة النكراء بالعدو .
[عن البراء بن عازب. أنه قيل له : هل كنتم وليتم يوم حنين؟ قال : والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسراً ليس عليهم سلاح ، فلقوا جمعاً رماة هوازن وبني النضر ما يكاد يسقط لهم سهم ، فرشقوهم رشقاً ما كادوا يخطئون ، فأقبلوا هنالك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على بغلته البيضاء وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب يقود به ، فنزل ودعا واستنصر ثم قال :
أنا النبي لا كذب … أنا ابن عبد المطلب
ثم صف أصحابه] ( ).
ثالثاً : من مصاديق جهالة الذين كفروا أنهم لم يدركوا موضوعية نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مع تقدم شواهد منها ، فتجلت لهوازن وغطفان يوم حنين , ليكون من مصاديق قوله تعالى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ]لحوق الخزي والعار بأعداء الإسلام .
رابعاً : تبين الآية أعلاه الإطلاق في ولاية الله , وأنها تأتي للمؤمنين في ميادين المعركة عند التوالي والإنسحاب ودبيب الوهن والجبن إلى النفوس ، فمع إنسحاب أكثر المسلمين في معركة حنين إلا أن الله نصرهم .
ومن ولاية الله عز وجل في المقام ثبات النبي في ميدان القتال يوم حنين , مثلما ثبت يوم أحد , وكان هذا الثبات مقدمة للنصر وواقية من الهزيمة والخسران .
وهو خير الناصرين الذي يتفضل ويجعل العدو الكافر يدخل في الإسلام لما يرى من الآيات كما حصل في فتح مكة وغيره ، فأي ناصر لطرف يجعل الطرف الآخر يغتاظ منه ويكيد له ويمكر به ، والله عز وجل هو العزيز الذي لا يضره ولا ينقص من ملكه شئ والذي يكون نصره سبباً لهداية الكفار أنفسهم ، ومنه قوله تعالى في الآية التالية [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) ليكون هذا الرعب على وجوه :
الأول : توبة الكفار ، وتركهم لمنازل الكفر .
الثاني : التسليم بقبح الكفر , وأنه لا يجلب إلا الرعب والفزع والخسران .
الثالث : إدراك الكفار بلزوم الكف عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لأن الله هو الذي ينصر رسوله والمؤمنين [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
الرابع : دخول الناس في الإسلام ، ومنهم ذات الكفار الذين حاربوا النبي محمداً وآذوا المؤمنين .
الخامس : والله خير الناصرين الذي أنزل السكينة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ومن الإعجاز في الآية أعلاه نسبة السكينة إلى الله صدوراً وجهة صدور وإضافة إذ قال [سَكِينَتَهُ] لبيان كفايتها بعث الطمأنينة في النفوس وإنقطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى الدعاء والتدبر في فنون القتال والمناجاة ببذل الوسع لتحقيق النصر .
السادس : نزول الملائكة من عند الله ومن مصاديق قوله تعالى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ]تسمية الملائكة جنوداً ، وهو من الشواهد بقتالهم في المعارك .
السابع : والله خير الناصرين الذي يعذب الكافرين وينزل الخسارة بهم ، وقد خسر الكافرون يوم حنين أموالهم وسبيت نساؤهم وذراريهم , إذ جاءوا بها إلى المعركة لتكون سبباً للقتال دونها والدفاع عنها , ولكن الله أبطل كيدهم , وجعل هذا المكر وبالاً وخزياً لهم .
(قال ابن إسحاق: ولما سمع بهم نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليهم عبد الله ابن أبى حدرد الاسلمي، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم.
فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره الخبر) ( ).
الثامن : الله خير الناصرين الذي يجعل النصر سبباً لتعظيم شعائره وبناء صرح الإيمان .
التاسع : الله خير الناصرين الذي يجعل نصره للمؤمنين مقدمة لدخولهم الجنة ، وسبباً لعذاب الكافرين .
العاشر : الله خير الناصرين الذي تفضل بنزول آيات القرآن ، وكل آية نصر من عند الله وفتح في الأحكام والسنن والعلوم.
ويحتمل العطف بالواو في آية البحث وجوهاً:
الأول : إنه من عطف العام على الخاص أي أن خير الناصرين هو العام، وأن الولاية هي النعمة الخاصة.
الثاني : إنه من عطف الخاص على العام، وأن الولاية هي النعمة العامة المصاحبة للمسلمين.
الثالث : إرادة التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه.
والمختار على وجهين:
الأول : إنه من عطف الخاص على العام بخصوص الحضور الدائم للولاية لعموم موضوعها وحاجة المسلمين لها.
الثاني : التساوي في القرب والحضور عند الحاجة.
وقد يأتيان معاً أي الولاية والنصرة، ليكون من مصاديق اسم التفضيل (خير) في الآية مصاحبة النصرة للولاية من عند الله، في الدنيا والآخرة، وكفايتهما , قال تعالى[وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا]( ).

علم المناسبة
صحيح أن لفظ (خير الناصرين) لم يرد في القرآن إلا في آية البحث , لأن مصاديقه والشواهد عليه في آيات القرآن كثيرة ، وهي علم مستقل قائم بذاته .
كما أن مصاديقه في الواقع العملي وحياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين متجددة إلى يوم القيامة .
ووردت مادة [نصر] في القرآن بصيغ متعددة تبين نصرة الله ، وأنها حق وصدق ، وفيها الحسم والظفر ، قال تعالى [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ( )وهذا الحصر لجهة ومصدر النصر ونسبته إلى الله عز وجل من الشواهد على أنه سبحانه [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] .
وإذ وردت الآية أعلاه مطلقة في الجهة التي ينصرها الله عز وجل فانه سبحانه ذكرها على نحو التعيين في آيات أخرى ، قال سبحانه [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وإختصاص المؤمنين بالنصر من معاني اسم التفضيل في آية البحث وللإخبار بأنه مصاحب للإيمان ، وهو فرع ولاية الله ، فلذا ورد بصيغة العطف في آية البحث.
ومن مصاديق نصرة الله للمسلمين قذف الخوف والرعب في قلوب أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع بيان علة هذا الإلقاء وموضوعه وهو إصرارهم على الكفر والجحود ، وهو الذي ذكرته الآية التالية والتي سيأتي الجزء الثالث والعشرون بعد المائة خاصاً بتفسيرها وتأويلها ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ).
بحث بلاغي
من وجوه البديع (الإلتفات) وهو لغة ليّ الشئ إلى غير جهته، وفي الإصطلاح إنتقال المتكلم من الخطاب إلى الإخبار , ومن الحاضر إلى الغائب أو بالعكس، وكذا الإنصراف من معنى يتكلم فيه إلى معنى آخر، وفي التنزيل[إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
ومن خصائص الإلتفات أنه جذب للأسماع، ومانع من الملل الذي قد يأتي إذا كان الكلام يجري باسلوب واحد، وفيه دعوة للإنصات له، والتدبر في معانيه , ولا يخرج الإلتفات الكلام عن قواعد البيان والإفهام مثل إتحاد الموضوع.
وإستدل ابن المعتز في باب الإلتفات بقوله تعالى[إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومع قلة كلمات آية البحث فقد تضمنت معنى الإلتفات بأن إبتدأت بلغة الخطاب (بل الله مولاكم) لإرادة أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، لتنتقل الآية إلى صيغة الإخبار، ولأن الآية في مقام الثناء على الله عز وجل وبيان عظيم فضله على المسلمين وقدرته الواسعة , فقد أخبرت الآية عن قانون وهو أن نصرة الله خير نصرة، ولا تكون إلا للذين هو سبحانه مولاهم , وهم المسلمون.
ترى لماذا لم تقل الآية (بل الله خير الناصرين وهو مولاكم) الجواب لإرادة سلامة المسلمين بالولاية من طاعة الذين كفروا على نحو الإطلاق الزماني والمكاني، وسواء في حال القتال والحرب أو حال السلم والإختلاط في المعاملات والجوار والسفر، ولبيان إنقاذ وسلامة المسلمين من الإنقلاب والخسارة بولاية الله للمسلمين، ولتأكيد قانون وهو أن من مصاديق اسم التفضيل (خير) في قوله تعالى[خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( )،ولم يرد هذا اللفظ إلا في آية البحث أن الله لا يصلون إلى حال الإرتداد والإنقلاب، لأن ولاية الله واقية لهم منهما , فيأتيهم نصر الله وهم أولياء لله، يتعاهدون معاني التفضيل بالإيمان في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn