المقدمة
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض , وتعاهد إستدامتها , وأخرج كنوزها وسخرها للناس رحمة وحجة ودعوة للإيمان .
الحمد لله الذي أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للأجيال المتعاقبة من الناس بآيات القرآن , وكل واحدة منها بشارة وإنذار في منطوقها ومفهومها , ودعوة للهدى والإيمان , وزاجر عن الضلالة والجحود .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة يلتقي الناس في موسم الحج (يقول : مَنْ رَجُل يُؤْوِيني عَلى أن أبلغ كلامَ رَبِّي)( )، ليتفضل الله عز وجل بأمة مؤمنة من الأوس والخزرج لنصره , فتتوالى آيات القرآن وتثبت وتترسخ في الصدور والمجتمعات رسماً ولفظاً وعملاً بأحكامها ، وهو من أسرار وجوب قراءة القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة مع تباين نسبهم وأوطانهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بلحاظ الإتحاد والألفة ودلائل الإيمان التي تترشح عن قراءة القرآن في الصلاة ليكون القرآن حافظاً ومحفوظاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )بلحاظ النفع من وجوه :
الأول : نفع ما يسخره الله من الجنود لأنفسهم .
الثاني : نفع جنود الله بعضهم لبعض ، من غير أن يلزم الدور بينها .
الثالث : النفع العام من جنود الله .
وهل يمكن القول بأن بين ملك الله وبين جنوده نسبة التساوي , الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل على الناس وتتآزر جنود الله لتثبيت الإيمان في الأرض , ومحاربة الكفر وإزاحته عن القلوب والمجتمعات ، وهو من أسرار إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )حينما سألوا عن خلافة الإنسان في الأرض مع صدور الفساد منه وتعديه بالقتل ظلماً وعدواناً.
إن نزول القرآن من علم الله عز وجل الذي إحتج به على الملائكة يوم خلق آدم لنفاذه إلى القلوب ، وصدور المؤمنين عنه في العبادات والمعاملات والأحكام ، وكل آية منه حرب على الفساد في منطوقها ومفهومها , ومنها الآية الكريمة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) التي إختص بتفسيرها هذا الجزء من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) وهو الجزء الثالث والعشرون بعد المائة في آية علمية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ، مع أني أقوم بالتأليف والتصحيح والمراجعة لأجزاء سِفر التفسير وكتبي الفقهية والأصولية والكلامية بمفردي , مع وظائف الإفتاء والتدريس ، وهو من فضل الله ونعمه الظاهرة والجلية , قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
لقد أفاض الله عز وجل علينا ليكون هذا التفسير تأسيساً لتثوير علوم القرآن واستقراء خزائنه ، والغوص في ذخائره من غير أن يستوفي البحث والتحقيق فيها لذا قلنا إنه تأسيس ليكون فيه دعوة للعلماء في الأجيال اللاحقة على إستنباط العلوم وإستظهار اللامتناهي من إعجاز الآية القرآنية ومنه آية البحث التي جعلها الله عز وجل رحمة للناس وسبيل نجاة من الكفر والضلالة إذ تبين ترتب إمتلاء القلب بالرعب على إختيار الكفر والضلالة ترتب العلة على المعلول .
لقد أثنى الله عز وجل على القرآن بقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( )وتحتمل كل آية من القرآن بلحاظ موضوع البيان المذكور في الآية اعلاه وجوهاً :
الأول : تتضمن الآية القرآنية البيان على نحو الموجبة الجزئية .
الثاني : تتصف الآية القرآنية بمجيئها بشطر من البيان للموضوع المتحد , ويلزم الرجوع إلى آية أو آيات قرآنية أخرى لتحصيل تمام البيان .
الثالث : الآية القرآنية أصل وقاعدة بيانية ، فتأتي آية أخرى أو أحاديث السنة النبوية ليتم معها البيان .
الرابع : كل آية قرآنية بيان قائم بذاته .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق ورشحات الآية القرآنية فيشملها معنى الآية القرآنية ودلائل الحكم التي تتضمنها وتفيض عنها في كل زمان وهو من ذخائر الإعجاز في القرآن .
وتجتمع الوجوه أعلاه في آية البحث التي إزدان هذا الجزء ببيان شطر من دررها ، فبعد أن جاءت الآية السابقة [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ) بالإخبار عن ولاية الله ونصرته المطلقة من جهة الأسباب والنتائج والغايات الحميدة للنصرة وعجز الناس عن الإحاطة بها .
وقد تقدم البيان في الجزء الثاني والعشرون بعد المائة من هذا التفسير الذي جاء خاصاً بتفسير الآية أعلاه , وهي أقل آيات سورة آل عمران كلمات بعد الحروف المقطعة في أولها , وتتضمن الإعجاز بذكر وتأكيد نصرته تعالى من جهات :
الأولى : الزمان وأوان النصرة ومجئ الفرج .
الثانية : مكان النصرة وتحقق الغلبة للمؤمنين .
الثالثة : ماهية النصرة ، ومنها كف أذى الكفار .
الرابعة : من نصرة الله للمؤمنين ما ذكرته آية البحث من إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، فان قلت إنه مقدمة للنصر لأن النصر يتقوم بأطراف :
الأول : المنتصر .
الثاني : ذات النصر .
الثالث : سبب وعلة النصر .
الرابع : الخاسر والمهزوم .
والجواب نعم , وجاءت آية البحث بأمور إضافية وهي :
الأول : الإخبار بأن الله عز وجل هو الناصر للمؤمنين .
الثاني : البيان بأن من نصرة الله إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثالث : التحدي والإعجاز بذكر سلاح لا يقدر عليه , وعلى إستدامته إلا الله عز وجل , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا] ( ).
فيتقدم العلم وترتقي وسائله وتصنع أسلحة فتاكة كالقنبلة النووية والأسلحة الجرثومية في هذا الزمان ، وما يصنع في قادم الأحقاب تكون القنبلة النووية بالنسبة له كالبندقية بالقياس مع القنبلة والمدفع ،ولكن الناس يعجزون وإلى يوم القيامة عن إلقاء سلاح الرعب في القلوب وجعله مستقراً في النفوس ، نعم قد يتخذون من الاشاعات والفتن سبيلاً لإلقاء الرعب ، ولكن نتائجه ليست دائماً لصالحهم ، فقد ينتفض العدو ويبادر للدفاع والهجوم , وتتغير الريح , ويصلح نفسه للمقاومة ، وفي التأريخ القديم والحديث شواهد كثيرة .
أما الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا فيتصف بأمور:
أولاً : الإستقراء والثبات وعدم مغادرة القلب إذا هجر الإنسان الشرك ومفاهيمه .
ثانياً : لحوق الضرر بأعضاء بدن الكافر مع إستمرار بقاء الرعب في قلبه ، ليكون من إعجاز آية البحث ندب الكفار للتنزه عن الكفر والجحود والتخلص من كدوراتها والإنتقال من ظلماته إلى نور الهداية ، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] ( ).
ثالثاً : زجر الناس عن محاكاة الكافرين في أفعالهم .
رابعاً : التخفيف عن المسلمين بأصابة عدوهم بالوهن والضعف الذي يترشح عن الرعب .
الرابع : تغشي الرعب للكافرين مجتمعين ومتفرقين ، فترى القادة وحملة الألوية يصبرون عند اللقاء , ويحثون الجنود على القتال والمرابطة ، فيأتي الرعب ليجعلهم في كآبة دائمة وإرباك , ولا يلاقي الندب إلى القتال بين الكفار على فرض وقوعه إلا الإعراض والصدود ، كما تجلى في تأريخ معارك الإسلام الأولى , والنسبة التصاعدية في عدد أفراد جيش قريش الزاحف نحو المدينة حرباً على الله ورسوله والمؤمنين ، وفجأة أدرك رؤساء الكفر من قريش عجزهم عن جمع الجنود لمحاربة الإسلام ، فرضوا بصلح الحديبية , وقبلوا بالهدنة , وأدركوا حاجتهم لها ، ليكون بذاته فتحاً ويكون مقدمة لفتح مكة , وفيه دليل على ترجيح وتفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلح مع الكفار على القتل وسفك الدماء , ويأبى الله إلا أن يظهر الحق وسبل الهدى , قال تعالى[وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
وعن عروة قال (أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية راجعاً ، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والله ما هذا بفتح ، لقد صددنا عن البيت وصدَّ هدينا ، وعكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول رجال من أصحابه : إنّ هذا ليس بفتح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بئس الكلام ، هذا أعظم الفتح .
لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإِياب ، وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم ، وردكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتح .
أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، وأنا أدعوكم في أخراكم ، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار , وبلغت القلوب الحناجر , وتظنون بالله الظنونا، قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه , ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا . فأنزل الله سورة الفتح) ( ).
الخامس : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مدد للمسلمين يأتي لأولهم فينتفع منه هو وآخرهم أيضاً .
وتبين آية البحث أن الرعب أمر وجودي وأنه لا يختص بالترشح عن أسبابه المادية الخارجية كمداهمة الخطر ، ودنو الضرر بل يأتي من عند الله عز وجل للكفار مجتمعين ومتفرقين بسبب ذاتي وحال إعتقاد ، فما أن يختار الإنسان الكفر حتى يدنو منه الرعب ثم يغزو قلبه ، ويكون له سلطان عليه مثلما إختار الشريك الذي لا سلطان به من عند الله ، قال تعالى [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي] ( ) ليكون من أسباب ووجوه النصر والغلبة إلقاء الرعب في قلوب الكافرين .
لقد رمى الله الذين كفروا بالرعب لينشأ معه اليأس عن تحصيل الغايات الخبيثة ، ويتدنى شأن الكافرين بين الناس بسبب الرعب الذي يستحوذ على قلوبهم ليدرك الناس المائز بين المؤمنين وما يتصفون به من الحكمة وبين الكافرين الذين هم في فزع متصل .
ومن ضروب البيان في آية البحث ذم وتوبيخ الكفار بذكر علة إلقاء الرعب في قلوبهم وهو شركهم بالله عز وجل , ومع القبح الذاتي للشرك فقد تفضل الله عز وجل وذكر إنتفاء السلطان والبرهان والعلم بالشريك ، فلم ينزل السلطان من عند الله إلا بالتوحيد والتصديق بالرسالة والتنزيل واليوم الآخر ، لتخبر الآية عن سوء عاقبة الذين كفروا يوم القيامة , وتعيين جزائهم وهو الإقامة في العذاب الأليم .
وأختتمت الآية بتأكيد إستحقاق الذين كفروا العذاب ولبثهم الدائم في النار بسبب ظلمهم لأنفسهم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الا وان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله الا وهي القلب ( ).
وقد إختار الكافر فساد قلبه بالشرك والضلالة، فيأتيه الرعب من عند الله لمنع ظهور الفساد على الجوارح والإركان، واللسان، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بأنه يعلم ما لا يعلمون عندما [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ليتجلى الإعجاز في آية البحث بأنها واقية للناس جميعاً من إشاعة الفساد لأنها تجعل الكافر مشغولاً بنفسه، بلحاظ أن هذا الرعب أمر وجودي يترشح عنه الأثر في عالم الأقوال والأفعال.
قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]الآية 151
الإعراب واللغة
(قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وحمزة : الرعب بتسكين العين . وقرأ ابن عامر ، والكسائي : الرعب بالضم) ( ).
سنلقي : السين حرف إستقبال للقريب .
نلقي : فعل مضارع مرفوع ، وعلامة رفعة الضمة المقدرة على الياء ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (نحن) لإرادة الذات المقدسة بصيغة التعظيم .
في قلوب : جار ومجرور متعلق ب[نُلْقِي] .
الذين كفروا : الذين اسم موصول مبني في محل جر مضاف إليه.
كفروا : فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل .
الرعب : مفعول به منصوب .
بما : الباء حرف جر [ما] حرف مصدري ، والحروف المصدرية هي التي تكون وما بعدها في تأويل مصدر وهي أنْ ،أنَّ ، كي ،ما ، لو ، همزة التسوية ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا] ( ).
اشركوا : فعل ماض مبني على الضم ، والواو فاعل .
بالله : جار ومجرور متعلق بأشركوا، والمصدر المؤول (ما اشركوا) في محل جر بالباء متعلق بسنلقي وتقديره بشركهم بالله .
ما لم ينزل : ما اسم موصول مبني في محل نصب مفعول به .
لم : حرف نفي وقلب وجزم .
ينزل : فعل مضارع مجزوم , والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو).
به : جار ومجرور .
سلطاناً : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة .
ومأواهم النار : الواو : حرف عطف .
مأوى : مبتدأ مرفوع , وعلامة رفعة الضمة المقدرة على الألف، والضمير (هم) مضاف إليه .
النار : خبر مرفوع , وعلامة رفعة الضمة الظاهرة على آخره وبئس مثوى الظالمين : الواو حرف عطف، بئس: فعل ماض جامد مبني على الفتح يفيد معنى الذم، وهو بمعنى قبح، وعكسه نعم في المدح، وسيأتي مزيد كلام في الجزء التالي، مثوى : فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الألف .
الظالمين : مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم .
والرعب مصدر سماعي لفعل رعب يرعب و(الرُّعْبُ: الخوف. رَعَبْتُ فلاناً رُعْباً ورُعُباً فهو مرعوب مُرْتَعِبٌ، أي: فَزِع)( ).
ويقرأ الرعب بضمة على الراء , وبضمتين (الرُعُبُ ) والأول أصح وهو المرسوم في المصاحف , ونسب إلى القيل (الرعب هو الخوف الذي يملأ الصدر والقلب أشار له الراغب والزمخشري تبعا لأبي علي وابن جني) ( ) ويصيب الرعب الفرد والجماعة , والشجاع والجبان .
والمختار في معنى الرعب على وجوه :
الأول : النسبة بين الخوف والرعب هي العموم والخصوص المطلق فالرعب أشد من الخوف في وطأته على النفس والجوانح .
الثاني : قد يترتب الخوف على حال او فعل مخصوص ويكون أثراً ومعلولاً لعلة جلية وظاهرة , أما سبب الرعب فهو متعدد وعام وقد يكون من أسباب متتالية متعاقبة فلا يخلو القلب من الرعب ، ويكون تقدير آية البحث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب مرات ومرات ) فليس ثمة فترة وسكون في حال الرعب التي تملأ قلوب المشركين .
الثالث : يأتي الخوف والتخويف إلى المشركين فلا يتعظون ويظهرون الإستكبار والغرور ، فيقذف الله في قلوبهم الرعب ، قال تعالى [وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا] ( ) .
فلا ينزل الرعب بساحة الذين كفروا إلا بعد إنذارهم وتخويفهم ليكون هذا التخويف مقدمة لإلقاء الرعب ، وحجة عليهم ، قال تعالى [فََلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( )ولا يقول الذين كفروا يوم القيامة اللهم لم ألقيت الرعب في قلوبنا دفعة واحدة مع شدته كضرب من ضروب الفزع , فقد سبقه التخويف وأسباب الخوف .
الرابع : قد يصيب الخوف المؤمنين كما يصيب غيرهم من الناس ، ولكن الله عز وجل يكشفه ويدفعه عن المؤمنين كما في قوله تعالى في الثناء عليهم والوعد الكريم لهم [وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا]( ) فبعد أن كان المسلمون الأوائل مطلوبين في مكة ويلاقون أشد العذاب وأنواع الحصار والإستحقاق وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدداً منهم بالهجرة إلى الحبشة مع بعد المسافة وإجتماع أخطار الغربة والإختلاف في الإعتقاد مما يدل على سلامة قلوبهم من الرعب ليصبح المسلمون والمسلمات بعد بضع سنوات في أمن ودولة ويزول عنهم القهر والذل , قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
لبيان التضاد بين إنتقال المسلمين من حال الوهن والذل إلى حال النصر والغلبة وإصابة المشركين بالله بالنكسة والخيبة التي تصاحب الرعب والفزع .
والسلطان على وزن فُعلان الذي هو قليل في اللغة , والسلطان الحجة والبرهان , والأعم منهما بلحاظ قوة الأثر، وورد بخصوص الكافر الذي يؤتى كتابه يوم القيامة بشماله أنه يقول [مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِي * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِي] ( ) أي ذهبت وبارت حجته وانكشف ضعفه وتخلى عنه الأتباع، وفقد الأمر والنهي وأسباب الطاعة وإنقياد الناس له في الدنيا ، فليس من ناصر ولا شفيع له ويأتي السلطان بمعنى الحكم والملك لما لهما من سلطان وأمر ونهي .
وعن عروة بن محمد بن عطية عن أبيه عن جده (عطية السعدي، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا استشاط السلطان تسلط الشيطان) ( ) أي تحرق الملك غضباً واحتد وامتلأ حنقاً ، وقيل الحديث ضعيف سنداً لجهالة محمد بن عطية , ولا يضر في موضوعيته إذا كان الذين رووا عنهم ثقاة ، وكذا فان الحديث ليس في العبادات ، إنما في المواعظ ومصداقه ظاهر في كل زمان لان السلطان ومع فقد الورع والخشية من الله والقانون العام قد يبطش ويسجن ويسفك الدم ويظهر المكر والكيد والخبث والدهاء كما أن تسلط الشيطان لا يعني حدوث البطش والسجن والقتل ولكن الحديث دعوة نبوية لأمور :
الأول : إجتناب غضب السلطان .
الثاني : الدعاء بالأمن والسلامة من غضب السلطان .
الثالث : الحذر والتوقي من صحبة السلطان مع عدم وجود الراجح والنفع المشروع، لأن السلطان قد يختار قراره من جهتين:
الأولى : إطلاق يد الحاكم في الحكم.
الثانية : غلو الحاكم في موضوعية المحافظة على إستدامة حكمه ولعل معه رجاء وراثته لمن بعده، فيصاحبه الشك والريب والخشية من أخذ أو غصب الملك منه.
الرابع : دعوة الأمراء والملوك إلى الإحتراز من شدة الغضب وإستحواذه على الجوارح .
الخامس : لزوم صدور الملوك وعن القرآن في الأحكام .
السادس : حث الأمراء والملوك على إتخاذ بطانة صالحة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ، لذا قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ).
فان قلت هذا الزمان يختلف عن الأزمنة السابقة بخصوص الموضوع لوجود منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام ، والجواب ليس من إختلاف كبير , ولأن الحديث أعلاه يبين تسلط الشيطان والفتنة.
والمأوى : كل مكان وموضع يصار إليه في الليل أو النهار ، وفي التنزيل حكاية عن ابن نوح [سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ]( )، وفي بيان التباين بين مقامات المؤمنين ومثوى الكافرين بذات لفظ (المأوى ) ومعنى الإقامة الدائمة ، وورد في القرآن ذكر جنة المأوى ، قال تعالى [وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى]( ).
(عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قرأ : جنة المأوى قال : جنة المبيت) ( ).
والمثوى بفتح الميم : المنزل يقال ثوى بالمكان يثوي ثواء ، وفي قصة يوسف عليه السلام [وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ] ( )، للعناية بيوسف وإكرامه، وعدم معاملته معاملة الرق والعبيد ، ووردت في الآية أعلاه كلمات لم ترد إلا فيها، وهي:
الأول : لإمرأته .
الثاني : أكرمي .
الثالث : مثواه .
وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: فبأي شيء تأخذون رزق السلطان؟ فقال: لأقول فيما لا أدري لا أدري ) ( ).
أراد أن قوله لا أدري في المسألة التي لا يعلمها يستحق أخذ الأجرة والراتب عليه ، وليس بحجة أو عذر ، نعم له أن يعتذر بأن الفقيه لا يحيط علماً بكل شيء، أو أن الرزق والأجر والعطاء الذي نأخذه على ما نجيب عنه ونفتي فيه .
والمأوى : مفعل من أوى إلى كذا إذا ذهب إليه .
والمثوى : مفعل من ثوى إذا أقام وإستقر .
بحث نحوي
بين النحو والإعراب عموم وخصوص مطلق ، فالنحو أعم لأنه يتضمن أمرين :
الأول :الإعراب وهو تبدل حركة أواخر الكلم لفظاً أو تقديراً بلحاظ موقعها من الجملة وموضوعية العوامل الداخلة عليها ولاجله وضعت قواعد النحو لإجتناب اللحن فيها .
الثاني : البناء وهو لزوم أواخر الكلم حركة ثابتة لا تتغير وإن طرأ عليها إختلاف .
وسبب تسمية علم النحو أن الإمام علياً عليه السلام قال لأبي الأسود الدؤلي : نعم النحو الذي نحوت)، عندما كتب شيئاً من النحو بأمر من عنده.
ومنهم من جعل للنحو علم أصول كعلم أصول الفقه بالنسبة للفقه ، تدرس فيه القواعد التي تعتمد في الإعراب ، والخلاف بين مدرسة الكوفة والبصرة النحويتين وإن كان عدد من النحويين في هذا الزمان لا يشيرون إلى موضوعية هاتين المدرستين في نشأة وبناء صرح علم النحو والمسائل المنبثقة من الخلاف بينهما وإستدلال كل منهما ، وقد ألف السيوطي كتاباً إسمه (أصول النحو ) وعليه شروحات عديدة لكنه لا يعني أن للنحو علم أصول مستقل بذاته .
وبين علوم العربية وعلم النحو عموم وخصوص مطلق ، فعلوم العربية أعم ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
الأول : علم اللغة وهو علم الكلمات بالفاظها المنقولة عن العرب ، ومعانيها الحقيقية وفق ما مذكور في المعاجم اللغوية وفي الشعر الجاهلي وفي صدر الإسلام، والرجوع إلى أمهات معاجم اللغة مثل لسان العرب لابن منظور ، وتاج العروس لمحمد مرتضى الزبيدي.
ومنها ما يتعلق بفهم مفردات ألفاظ القرآن مثل المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني , ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس بن زكريا .
الثاني : علم النحو وهو أسمى وأهم علوم اللغة ، وتقدم بيانه أعلاه ، وهو مقدمة للتفقه في كلام الله، ومعرفة أحكام الحلال والحرام وسلامة اللسان من اللحن والخطأ ، ومن أهم كتبه التي توارث أهل العلم دراستها قطر الندى لابن هشام ، وألفية بن مالك وشرح ابن عقيل لها , ثم مغني اللبيب لابن هشام .
والأجرومية وهي رسالة صغيرة في النحو ولكن لها شهرة عظيمة واعتنى بها العلماء ، ولها شروح كثيرة ، وليس لمؤلفها شهرة في زمانه وإسمه محمد بن محمد بن داود الصنهاجي وإشتهر بابن آجُرّوم بفتح الهمزة الممدودة وضم الجيم والراء المشددة وتوفى في مدينة فاس في صفر سنة 723 هـ -1323 م وقد ألفها في مكة تجاه الكعبة الشريفة ولم يجعل لها إسماً لذا تعددت أسماؤها فتسمى أيضاً المقدمة الآجرومية وإتبع مدرسة الكوفة في اصطلاحاتهم مثل القول بالخفض بدل الجر .
وإبتدأ الكتاب بقوله : (الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع وأقسامه ثلاثة : اسم ، وفعل ، وحرف جاء لمعنى .
فالاسم يعرف : بالخفض ، والتنوين ، ودخول الألف واللام ، وحروف الخفض وهي : من وإلى وعن وعلى وفي ورب والباء والكاف واللام)( ).
فلم يقل حروف الجر كما عليه البصريون والمتعارف في هذه الأزمنة بل قال حروف الخفض , كما في قوله فالماضي مفتوح الآخر أبداً والأمر مجزوم أبداً ) فلم يقل أنه مبني على السكون .
الثالث : علم الصرف وتصريف الكلمة، وبه تعرف أحوال أبنية الكلم مما ليس بإعراب وفائدته عصمة اللسان من الخطأ في الفصاحة والبلاغة، ومن أمهات الكتب فيه ( الممتع في التصريف ) لابن عصفور .
الرابع : علم المعاني ويتعلق بمعنى اللفظ مثل [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]الوارد في الآية السابقة( ) وتعرف به أحوال اللفظ العربي بحسب قرائن الحال والمقال ، وملائمة الجواب لمقتضى الأمر والموضوع، ومن فوائده فهم آيات القرآن .
الخامس : علم الإشتقاق ، والإشتقاق لغة أخذ وإقتباس الشئ من الشئ والفرع من الأصل ، وفي الإصطلاح النحوي هو إفادة تغيير في الكلمة على نحو الموجبة الجزئية بما يدل على وحدة الموضوع وإختلف البصريون والكوفيون في أصل الإشتقاق ، وقال البصريون أن الأصل هو المصدر ، وقال الكوفيون أنه الفعل , وساق كل فريق جملة من الأدلة ، وقد بيناه مفصلاً في أحد الأجزاء السابقة.
ومن منافع الإشتقاق إحاطة الألفاظ بالمعاني المتكثرة وإضفاء نوع جمال على اللغة ، وتسهيل نظم الشعراء لقوافيهم ، والخطباء في بلاغتهم ، ومعرفة الكلمات الدخيلة على العربية والتي ليس لها أصل فيها أو العكس بتأكيد أصل كلمات قد يظن أنها دخيلة على اللغة.
ويقسم الإشتقاق إلى :
الأول : الإشتقاق الأصغر .
الثاني : الإشتقاق الكبير أو القلب اللغوي ،وذكر أن أول من وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي، وأول من سماه بهذا الاسم ابن جني .
الثالث : الإشتقاق الأكبر أو الإبدال اللغوي .
السادس : علم البيان : وهو علم الإحاطة بالقواعد التي يعرف بواسطتها المعنى المتحد بطرق وتراكيب متعددة .
وبين علم البلاغة وعلم البيان عموم وخصوص مطلق إذ يتألف علم البلاغة من العلوم التالية :
الأول : علم المعاني .
الثاني : علم البديع .
الثالث : علم البيان .
ويشمل علم البيان الدلالة المطابقية والتضمنية والإلتزامية، ويتألف من أركان هي :
الأول : التشبيه وهو التمثيل ، ويتقوم بثلاثة أطراف وهي : الأول : المشبه .
الثاني : المشبه به .
الثالث : وجه الشبه .
كما تقول : زيد كريم كالسحاب ، لأن السحاب يأتي بالمطر على الأرض الواسعة .
الركن الثاني : المجاز وهو إرادة معنى من اللفظ غير المعنى الذي وضع له بلحاظ علقة بينهما، والمجاز قسمان :
أولاً : المجاز اللغوي وهو إستعمال اللفظ في غير ما وضع له في أصل اللغة ، ولكن لوجود علاقة بين المعنى المجازي المستحدث والمعنى اللغوي كما لو قلت : تناولنا الفطور عند حاتم ) في دلالة بأن المضيف كريم مثل حاتِم الطائي .
ثانياً : المجاز العقلي : وهو إسناد فعل لجهة أو شخص لم يقم به بالأصل ، ولكن لموضوعيته في تحقيقه أو تهيئة مقدماته بوجه من التأويل , وسمي بالمجاز العقلي لأن العقل هو واسطة معرفة التجاوز والدلالة في هذا المجاز .
ومنه المجاز بلحاظ السبب كما في قوله [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابن لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ] ( ) فهامان لا يباشر البناء بنفسه ولا ينفق عليه من ماله ، ولكنه يأمر به ويتولى الإنفاق من بيت المال على فرض إرادة بناء صرح حقيقة .
ومن المجاز العقلي ما يكون الإسناد فيه إلى الزمان أو المكان كما تقول : سال الوادي بإسناد السيلان إلى الوادي مع أنه وعاء مكاني ثابت والذي يسيل هو الماء أو الإسناد إلى الفاعل والمفعول.
وذكروا أن قوله تعالى [جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ) من المجاز لأن الجري يكون في أوعية الأنهار ولا تجري ذات الأنهار، والمختار في الآية أعلاه هو الجمع بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، فاسناد الجريان للأنهار حقيقة ، وإمكان إنتقال الأنهار من جنة إلى أخرى بسؤال أهل الجنان لذا فمن الإعجاز في الآية أعلاه أنها وردت بصيغة الجمع في لفظ جنات ، ولإمكان إمتداد النهر الذي يكون تحت جنة كالفردوس ليكون تحت جنة أخرى كجنة الخلد .
أما ما ورد عن فرعون [َ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي] ( ) فهو من المجاز العقلي من جهتين :
الأولى : جريان الأنهار والمقصود جريان الماء في الأنهار .
الثانية : قوله [مِنْ تَحْتِي] فهو لا يجري من تحت فرعون ولكن لبيان سلطانه وتحكمه بالجداول والزراعات ليكون التباين بين أنهار الجنة والمعنى الحقيقي لجريانها ، وبين قول فرعون شاهداً على أن الذي أعدّ الله عز وجل للمؤمنين ومنهم الفقراء والمستضعفون في الدنيا هو أفضل وأعظم مما كان عند فرعون .
وفي آية البحث مسائل :
الأولى : هل يلقي الله عز وجل نفسه الرعب في قلوب الذين كفروا أم أنه من باب المجاز العقلي , ومنه إصابة الكفار بالفزع لإخلاص المؤمنين في الجهاد وتفانيهم في مرضاة الله , ولإقبال الكفار على اللهو وزينة الدنيا ليكونوا عاجزين عن المواجهة والقتال والصحيح هو الأول .
ولو دار الأمر في الكلام بين الحقيقة والمجاز فان الأصل هو الحقيقة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الثانية : هل الرعب الذي يلقى في قلوب الكفار حقيقة أم من المجاز اللغوي أو العقلي .
والصحيح هو الأول ، فهو حقيقة ، وتكون أماراته ظاهرة للعيان .
ولو دار الأمر بين الأشد والأخف من العذاب بالنسبة للكفار ، فالصحيح هو الأول، والرعب حقيقة أشد وطأة على الكافر من الرعب مجازاً .
الثالثة : يحتمل الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الكفار بلحاظ الآية السابقة وجوهاً :
الأول : غزو الرعب لقلوب الكافرين من ولاية الله للمؤمنين التي ذكرتها الآية السابقة.
الثاني : إنه من نصرة الله للمؤمنين، وقوله تعالى[وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
الثالث : إرادة المعنى الجامع لولاية الله ونصرته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وهو من أسرار الجمع بين الولاية والنصرة في الآية السابقة .
الرابع : إنه من المعنى الأعم من الولاية والنصرة للمؤمنين ، ومنه إرادة تثبيت معالم الإيمان في النفوس والمجتمعات.
الخامس : بيان آية البحث لعلة إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا وهو إشراكهم بالله مع أن الحجة والبرهان والدليل تتضمن بطلان الشرك والنهي عنه، وترتب الإثم والضرر عليه، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الأعمال عند الله سبعة : عملان موجبان ، وعملان أمثالهما ، وعمل بعشرة أمثاله ، وعمل بسبعمائة ، وعمل لا يعلم ثواب عامله إلا لله . فأما الموجبان : فمن لقي الله يعبده مخلصاً لا يشرك به شيئاً وجبت له الجنة ، ومن لقي الله قد أشرك به وجبت له النار .
ومن عمل سيئة جزي بمثلها ، ومن هم بحسنة جزي بمثلها ، ومن عمل حسنة جزي عشراً ، ومن أنفق ماله في سبيل الله ضعفت له نفقته الدرهم بسبعمائة والدينار بسبعمائة ، والصيام لله لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل( ).
الركن الثالث : الكناية ، وهو التلميح والإشارة بما لا يصل إلى مرتبة التصريح وأقسام الكناية عديدة منها التنزه عن ذكر ما يتضمن الفحش فيؤثر بكناية لا تنفر منها الأسماع ، أو تستهجنها الطباع ، كما في الكناية من الجماع في قوله تعالى [أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ] ( ) وقوله تعالى [هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ] ( ).
وقد تسبب الكناية بين الناس الحرج أو اللبس، أو الفهم خلاف المطلوب مع ما فيها من البلاغة والبيان والجمال .
(عن رجلٍ من بني عامر يقال له ورقاء قال: كنت عند الحجاج بن يوسف، فدخل عليه الآذن فقال: أصلح الله الأمير، بالباب امرأة تهدر كما يهدر البعير الناد .
قال: أدخلها. فلما دخلت نسبها فانتسبت له. فقال: ما أتى بك يا ليلى؟ قالت: إخلاف النجوم ، وقلة الغيوم ، وكلب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرد . قال: فأخبريني عن الأرض. قالت: الأرض مقشعرة ، والفجاج مغبرة، وذو الغنى مختل، وذو الحد منفل. قال: وما سبب ذلك؟ قالت: أصابتنا سنون مجحفة مظلمة، لم تدع لنا فصيلاً ولا ربعاً، ولم تبق عافطةً ولا ناقطةً؛ فقد أهلكت الرجال، ومزقت العيال، وأفسدت الأموال، وقال في الخبر: قال الحجاج: هذه التي تقول :
نحن الأخايل لا يزال غلامنا … حتى يدب على العصا مشهوراً
تبكي الرماح إذا فقدن أكفنا … جزعاً وتعرفنا الرفاق بحوراً
ثم قال لها: يا ليلى، أنشدينا بعض شعرك في توبة( )، فأنشدته قولها:
لعمرك ما بالموت عار على الفتى … إذا لم تصبه في الحياة المعاير
وما أحد حي وإن عاش سالماً … بأخلد ممن غيبته المقابر
فلا الحي مما أحدث الدهر معتب ولا الميت إن لم يصبر الحي ناشر
وكل جديدٍ أو شبابٍ إلى بلًى … وكل امرئٍ يوماً إلى الموت صائر
قتيل بني عوفٍ فيا لهفتا له … وما كنت إياهم عليه أحاذر
ولكنني أخشى عليه قبيلةً … لها بدروب الشأم بادٍ وحاضر
فقال الحجاج لحاجبه: اذهب فاقطع لسانها. فدعا لها بالحجام ليقطع لسانها، فقالت: ويلك! إنما قال لك الأمير اقطع لسانها بالصلة والعطاء، فارجع إليه واستأذنه. فرجع إليه فاستأمره ، فاستشاط عليه وهم بقطع لسانه، ثم أمر بها فأدخلت عليه، فقالت: كاد وعهد الله يقطع مقولي) ( ).
السابع : علم البديع : وهو مجموع صيغ وسنن كلامية لتحسين الكلام مع التقيد بأحكام الدلالة ورعاية المطابقة ومن المحسنات الجناس والطباق والتورية والإقتباس ، ولكل واحدة منها له معنى ورد في البحوث البلاغية من أجزاء هذا التفسير ، وعلم البديع من علوم البلاغة .
الثامن : علم العروض : وهي القواعد والأصول التي تعرف بها أوزان الشعر ، ويميز بها صحيحها من فاسدها ، وما يصيبها من الزحافات والعلل ، وفائدته تعاهد الشعر وضبطه وتمييزه عن غيره من الزجر والنثر والسجع.
وذكروا في علم العروض ستة عشر بحراً صنفها الخليل بن أحمد الفراهيدي باستثناء واحد منها وهو المتدارك أضافه الأخفش.
وقد نظمت العرب الشعر دون ملاحظة العروض أو دراسة الأوزان وقام الفراهيدي باستقرائها ، فلا يسمع بيت من الشعر إلا وجد لنظمه مثيلاً في هذه البحور , وهناك من يضيف لها بحرين آخرين.
وقد جمعها ( أبو الطاهر البيضاوي ) في بيتين:
طَوِيلٌ يَمُدُّ البَسْطَ بِالوَفْرِ كَامِلٌ… فَسَرِّحْ خَفِيفًا ضَارِعاً يَقْتَضِبْ لَنَا
وَيَهْزِجُ فِي رَجْزٍ وَيَرْمُلُ مُسْرِعَا…منْ اجْتثَّ مِنْ قُرْبٍ لِنُدْرِكَ مَطْمَعَا.
وقد نظَم ( صفي الدِّين الْحُلِي ) بيتاً لكل بَحْرٍ سُمِّيَت مفاتيح البحور ليسهل حِفْظُهَا
وهذا جدول بياني بأسماء بحور الشِّعر وذكر تفاعيل كل بحر ومثال عليه
الأول : بحر الطويل فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن طويلٌ له دون البحور فضائلٌ.
الثاني:المديد فاعلاتن فاعلن فاعلاتن لمديد الشعر عندي صفاتُ.
الثالث : البسيط مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن إن البسيط لديه يبسط الأمل.
الرابع : الوافر مفاعلتن مفاعلتن فعولن بحور الشعر وافرها جميل.
الخامس : الكامل متفاعلن متفاعلن متفاعلن كمل الجمال من البحور الكامل.
السادس : الهزج مفاعيلن مفاعيلن على الأهزاج تسهيل.
السابع : الرجز مستفعلن مستفعلن مستفعلن في أبحر الأرجاز بحرٌ يسهل.
الثامن : الرمل فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن رمل الأبحر ترويه الثقات.
التاسع :السريع مستفعلن مستفعلن فاعلن بحرٌ سريع ماله ساحل.
العاشر : المنسرح مستفعلن مفعولات مفتعلن منسرح فيه يضرب المثل.
الحادي عشر : الخفيف فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن يا خفيفاً خفّت به الحركات.
الثاني عشر : المضارع مفاعيلُ فاعلاتن تعدّ المضارعات.
الثالث عشر : المقتضب مفعلات مفتعلن اقتضب كما سألوا.
الرابع عشر : المجتث مستفعلن فاعلاتن أن جثت الحركات.
الخامس عشر : المتقارب فعولن فعولن فعولن فعول.
التاسع : علم القوافي : ويتعلق بضبط أواخر الأبيات الشعرية من إتحاد الحرف ولحاظ الحركة أو السكون .
العاشر : علم قرض الشعر ، ويتعلق بكيفية تأليف الموزون المقفى بلحاظ الحسن والقبح في الكلمات الشعرية، فهو متمم لعلم العروض وقرض الشعر للزوم السبك والبيان وإفادة المعنى في الشعر.
الحادي عشر : علم الخط أي رسم الحروف , وكيفية تركيبها وإتصال بعضها ببعض ، وفيه سلامة للقلم من الخطأ في تدوين الكلمات، ومنه كتب الإملاء .
الثاني عشر : علم المحاضرة : ويتعلق بكيفية البيان القولي وإيصال الموضوع والغايات إلى الأذهان , وذكر القصة أو النثر بحسب الحال , وسنخية المتلقي من غير بعث للملل في النفوس .
الثالث عشر : علم الأدب : وهو جمع الحسن من كلام العرب سواء كان منظوماً أو شعراً، ويدخل فيه كتاب الرسائل والخطب .
وذكر ابن خلدون أربعة كتب في هذا الباب وهي :
الأول : أدب الكاتب لابن قتيبة .
الثاني : البيان والتبيين للجاحظ ت 255 هـ .
الثالث : الكامل في اللغة والأدب للمبرد ت 285 هـ .
الرابع : النوادر لأبي علي القالي إسماعيل بن القاسم البغدادي ثم الأندلسي ت 256 هـ( ).
ونحن نضيف لها أمهات هذا الكتاب .
الرابع عشر : علم التفسير والتأويل .
السادس عشر : علم القراءة والتلاوة .
السابع عشر : علم حفظ القرآن وضبط رسمه.
الثامن عشر : علم السنة النبوية .
في سياق الآيات
الصلة بين هذه الآية والآيات السابقة على وجوه :
الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : قد تقدم في مقدمة الجزء السابق أن عدد كلمات الآية السابقة أقل عدد كلمات أي آية من آيات سورة آل عمران كلها بإستثناء الحروف القطعة في أول السورة .
وتقدير الجمع بين الآيتين : بل سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) وفيه وجوه :
الأول : إبتدأت الآية السابقة بحرف الإضراب [بل] الذي يدل باللفظ والمعنى على إتصال موضوع الآية السابقة بنفي الموضوع السابق وتثبيت اللاحق.
وهل يصح إضافة (بل) لآية البحث بلحاظ أنها معطوفة في موضوعها على الآية السابقة التي أفتتحت بـ[بل] الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في نظم آيات القرآن , فقد أخبرت الآية السابقة عن ولاية الله للمسلمين ونصرته لهم , وأراد الله عز وجل ألا ينتهي ذكر الولاية والنصرة بآية واحدة بل تبين الآيات التالية لها أموراً :
أولاً : مصاديق ولاية الله عز وجل للمسلمين .
ثانياً : إنتفاع المسلمين من ولاية الله الإنتفاع الأمثل .
ثالثاً : نصرة الله عز وجل للمسلمين , قال تعالى [نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
رابعاً : الشواهد التي تدل على أن الله عز وجل هو [خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
خامساً : الضرر الذي يلحق الكفار من نصرة الله للمسلمين .
الثاني : يحتمل إلقاء الرعب في قلوب الكفار وجوهاً :
الأول : إنه من ولاية الله عز وجل للمسلمين .
الثاني : إنه من نصرة الله للمسلمين .
الثالث :إنه من إجتماع ولاية ونصرة الله للمسلمين .
الرابع : لا ملازمة وصلة بين ولاية ونصرة الله للمسلمين وبين إلقائه الرعب في قلوب الذين كفروا ، بلحاظ أن هذا الرعب عقوبة للكافرين قائمة بذاتها .
الخامس : إنه من اسم التفضيل [خير] في قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]فليس من ناصر غير الله يستطيع ملأ قلوب العدو بالرعب في حال الحرب والسلم ، وعندما يكون المسلمون قريبين منهم وعند البعد عنهم ، قال تعالى [فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ] ( ).
وباستثناء الوجه الرابع أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق آية البحث ونصرة الله للمسلمين بصيرورة عدوهم في حال فزع وخوف دائمين .
الثاني : ذكرت الآية قبل السابقة مسألة الإرتداد من وجوه :
أولاً : إكرام المسلمين بالنداء التشريفي [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وفيه طرد للفزع والخوف من الإرتداد في نفوس المسلمين ، إنما يكون محل ومستقر الرعب والفزع في نفوس الذين كفروا وليس في نفوس الذين آمنوا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ] ( )، بسلامة قلوب المسلمين من الفزع من الإرتداد , وما تمتلأ به النفوس من الرعب .
ثانياً : بيان التضاد بين الإيمان والإرتداد .
ثالثاً : دعوة المسلمين للصبر في مقامات الهدى والإيمان .
رابعاً : بيان صفحة من المكر والكيد الذي يتصف به الكفار بمحاولات إرتداد بعض المسلمين بالإشاعة وإثارة أسباب الشك والريب.
الثالث : أخبرت الآية قبل السابقة عن تعليق الإرتداد , لنفيه من طرفين :
الأول : تضمن الآية السابقة نفيه من طرف المسلمين بالولاية والنصرة من عند الله .
الثاني : جاءت هذه الآية بنفي الإرتداد بتخلف طرف الذين كفروا عن إلقاء الرعب في قلوبهم ، والخذلان في أركانهم وجوارحهم بلحاظ أن القلب أمير الجوارح، ويحتمل هذا النفي وجوهاً:
الأول : إنه على نحو السالبة الكلية بخصوص الطرف الأول أعلاه والسالبة الجزئية بخصوص الطرف الثاني أعلاه .
الثاني : جاء النفي على نحو السالبة الكلية والإمتناع في طرفي الإرتداد التعليقي .
الثالث : التفصيل بأن النفي في الطرف الأول , لأن الآية تدل بالدلالة التضمنية على أن الإرتداد منصرف عن المسلمين بفضل الله وسعي وإحتراز المسلمين ، أما النفي وتخلف الطرف الثاني فهو من عند الله لمجئ آية البحث بالنص والبيان بأن الله عز وجل هو الذي يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا .
الرابع : كل من النفي في الطرفين من السالبة الجزئية.
والصحيح الثاني ، فلا يستطيع الكفار إغواء وإزاحة المسلمين عن مقامات الإيمان ، كما أن المسلمين يتعاهدون منازل الإيمان ولا يغادرونها بالولاية من عند الله وإن اراد الكفار بذل الوسع والأموال وأسباب البطش من أجل إرتداد المسلمين فأن الله عز وجل ينصر المسلمين .
وفي الدعاء (أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الغافرين) ومن رحمة الله بالمسلمين وقايتهم من الإرتداد، وحصانتهم من مقدماته، وصيرورة هذه الحصانة سبيلاً إلى العفو والمغفرة.
فمن الإعجاز في الآية أعلاه أمور:
الأول : بلوغ المسلمين مرتبة العلم بأن الله عز وجل وليهم , وهو من تفسير الآية السابقة [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ].
الثاني : تلقي المسلمين لمضامين الآية السابقة بالتصديق والتسليم.
الثالث : من مصاديق الولاية الهداية الى الدعاء والترغيب في المسألة.
الرابع : سؤال المسلمين العفو والمغفرة ، وترك المؤاخذة بالذنوب، وفي التنزيل[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا الله]( ).
الخامس : توجه المسلمين بسؤال الرحمة من عند الله بالولاية، وتحتمل رحمة الله لمن هو سبحانه وليهم وجوهاً:
الأول : رحمة الله بالولاية أعظم وأكبر من رحمته لغيرهم ممن لم ينالوا مرتبة الولاية في الدنيا والآخرة.
الثاني : التساوي في رحمة الله للناس في الحياة الدنيا.
الثالث : إختصاص التفضيل في رحمة الله بالمؤمنين وأولياء الله بعالم الآخرة.
الرابع : رحمة الله في الدنيا لغير أوليائه أكثر من رحمته لأوليائه لأن الدنيا دار إمتحان وإختبار.
والصحيح هو الأول، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )، ومن دلالات آية البحث عدم إستجابة سؤال الذين كفروا المغفرة والرحمة لأنهم[أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] فمن شرائط إستجابة الدعاء التوحيد والإقرار بالربوبية المطلقة لله ، قال سبحانه[قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
ومن مصاديق نصرة الله للمسلمين رمي الذين كفروا بالفزع والرعب.
ولا يختص هذا الوجه من النصر لا يختص بالمسلمين بل هو عام وشامل للمؤمنين من الأمم السابقة ، وفي قوله تعالى في بني إسرائيل [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، ورد عن ابن عباس قال : السكينة دابة قدر الهر لها عينان لهما شعاع ، وكان إذا التقى الجمعان أخرجت يديها ونظرت إليهم ، فيهزم الجيش من الرعب)( ).
الثالث : عندما يعلم المؤمنون أن الذين كفروا أكثر منهم عدداً وعدة، وهذه الكثرة ليست قليلة، إنما هي بلغة الإضعاف، فقد يصابون بالخوف والفزع والتردد، فتفضل الله بالآية السابقة وهذه الآية مجتمعتين ومتفرقتين لطرد الخوف والفزع من نفوسهم، وإزاحته عن عزمهم على التوجه لملاقاة الكفار ، فاذا قال المنافقون زحفت قريش بجيش عرمرم , يكون جواب المؤمنين بل يلقي الله في قلوب الذين كفروا الرعب.
ومن خصائص هذا الجواب عدم إنحصار إلقاء الرعب بقلوب أفراد جيش قريش بل بالأعم من الكفار فيشمل الذين من خلفهم ومن يمولهم ويمدهم ويناصرهم،.
الرابع : إرادة معنى الحتم والقطع من حرف (بل) فلابد أن يلقي الله الرعب في قلوب الذين كفروا سواء قعدوا في بيوتهم، أم زحفوا لمحاربة الإسلام، أو أعانوا على الصدود والتعدي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإستهزاء بالتنزيل.
المسألة الثانية جاءت الآية السابقة بصيغة الخطاب للمسلمين في أولها [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] وإبتدأت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] وتحتمل وجوهاً :
الأول : هذه الجملة خطاب للمسلمين , وبعث للسكينة في نفوسهم .
الثاني : إنه من الإلتفات في علم البديع وأن الآية إنتقلت إلى صيغة الخبر والكلام عن الغائب .
الثالث : إرادة الإتصال مع الشطر الثاني والأخير من الآية السابقة [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] الذي يتضمن معنى القانون الكلي في الإرادة التكوينية .
الرابع : الفرد الجامع للخطاب والخبر والإنشاء .
والصحيح هو الأخير ، وهو من إعجاز القرآن ، وإتصاف الآية القرآنية بأنها غضة طرية في كل زمان إذ أن تقسيم الجملة إلى خبرية وإنشائية والخطاب ، والغيبة تقسيم إستقرائي ،ومعاني اللفظ القرآني أعم منه أفراداً وجمعاً لإحاطته بالوقائع والأحداث إلى يوم القيامة ولإمكان قراءة الآية بالوجوه أعلاه .
ومن معاني الجمع بين الآيتين تأكيد التضاد بين المؤمنين والكفار ،فقد رزق الله المؤمنين بالولاية الهدى والرشاد والحفظ والأمن، وإختار الكفار الحيرة والخوف والخيبة والفزع والرعب [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] ( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : بل الله مولاكم سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ) وفيه وجوه :
الأول : بيان قانون وهو أن أسباب إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب لا تنحصر بقتالهم للمسلمين ، وسعيهم لإرتداد بعض المسلمين إنما هو بسبب إشراكهم بالله ، وفيه دلالة على الملازمة بين الفزع والرعب والشرك بالله ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : يقذف الله الرعب في قلوب الذين أشركوا بالله .
الصغرى : الذين كفروا أشركوا بالله .
النتيجة : يقذف الله الرعب في قلوب الذين أشركوا .
ولا يتعارض هذا المعنى مع القول بأن بعث الرعب في قلوب الكفار من نصرة الله عز وجل للمؤمنين ، ويكون من مصاديق قوله تعالى [وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] ( ).
الثاني : من خصائص الإلتفات وفق الإصطلاح البلاغي والذي يتجلى بالصلة بين الآية السابقة وهذه الآية ندب المسلمين إلى الإجتهاد في السعي بطاعة الله والتفقه في الدين ، وهو سبحانه يتفضل بكفايتهم من شرور أعدائهم ، فقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] إخبار عن توقي وسلامة المسلمين من طاعة الذين كفروا , وسلامتهم من الإرتداد والخسارة ليتخذوا من الدنيا مزرعة في عمل الصالحات وتأسيس سنن العبادة وكيفية أداء المناسك بذات الصيغة التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتوارثها المسلمون في أجيالهم المتعاقبة ، بالولاية من عند الله وقذف الرعب في قلوب الذين كفروا ومنعهم من التحريف والإستهزاء والمغالطة في المقام وصد الناس عن سبل الهداية.
الثالث : ترغيب المسلمين بالأخوة الإيمانية وإشاعة المحبة بينهم لأن الجامع المشترك بينهم هو ولاية الله عز وجل ، فكل فرد منهم الله وليه ، وهم مجتمعون وليهم الله ، وهو من أسباب السعادة والغبطة ورغد العيش في الدنيا ، لذا سنت المصافحة بين المسلمين وصارت سبباً للعفو والمغفرة ، وواقية من الإرتداد ، وإقتبستها الأمم منهم .
( عن تميم الداري « أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن معانقة الرجل الرجل إذا هو لقيه؟ قال : كانت تحية الأمم . وفي لفظ : كانت تحية أهل الإِيمان وخالص ودّهم ، وإن أول من عانق خليل الرحمن ، فإنه خرج يوماً يرتاد لماشيته في جبال من جبال بيت المقدس إذا سمع صوت مقدس يقدس الله تعالى ، فذهل عما كان يطلب فقصد قصد الصوت ، فإذا هو بشيخ طوله ثمانية عشر ذراعاً أهلب يوحد الله عز وجل ، فقال له إبراهيم : يا شيخ من ربك؟ قال : الذي في السماء . قال : من رب الأرض؟ قال : الذي في السماء . قال : فيها رب غيره؟ قال : ما فيها رب غيره ، لا إله إلا هو وحده .
قال إبراهيم : فأين قبلتك؟ قال : إلى الكعبة . فسأله عن طعامه فقال : أجمع من هذه الثمرة في الصيف فآكله في الشتاء . قال : هل بقي معك أحد من قومك؟ قال : لا . قال : أين منزلك؟ قال : تلك المغارة . قال : اعبر بنا إلى بيتك . قال : بيني وبينها واد لا يخاض . قال : فكيف تعبره؟ فقال : أمشي عليه ذاهباً وأمشي عليه عائداً . قال : فانطلق بنا لعل الذي ذلله لك يذلله لي .
فانطلقا حتى انتهيا فمشيا جميعاً عليه كل واحد منهما يعجب من صاحبه ، فلما دخلا المغارة فإذا بقبلته قبلة إبراهيم قال له إبراهيم : أي يوم خلق الله أشد؟ قال الشيخ : ذلك اليوم الذي يضع كرسيه للحساب ، يوم تسعر جهنم لا يبقى ملك مقرب و لا نبي مرسل إلاَّ خر يهمه نفسه . قال له إبراهيم : ادع الله يا شيخ أن يؤمني وإياك من هول ذلك اليوم . قال الشيخ : وما تصنع بدعائي ولي في السماء دعوة محبوسة منذ ثلاث سنين؟ قال إبراهيم : ألا أخبرك ما حبس دعاءك قال : بلى . قال : إن الله عز وجل إذا أحب عبداً احتبس مسألته يحب صوته ، ثم جعل له على كل مسألة ذخراً لا يخطر على قلب بشر ، وإذا أبغض الله عبداً عجل له حاجته أو ألقى الأياس في صدره ليقبض صوته ، فما دعوتك التي هي في السماء محبوسة؟
قال : مر بي ههنا شاب في رأسه ذؤابة منذ ثلاث سنين ومعه غنم ، قلت : لمن هذه؟ قال : لخليل الله إبراهيم قلت : اللهم إن كان لك في الأرض خليل فأرنيه قبل خروجي من الدنيا . قال له إبراهيم عليه السلام : قد أجيبت دعوتك ثم اعتنقا ، فيومئذ كان أصل المعانقة ، وكان قبل ذلك السجود هذا لهذا وهذا لهذا ، ثم جاء الصفاح مع الإِسلام فلم يسجد ولم يعانق ، ولن تفترق الأصابع حتى يغفر لكل مصافح) ( ).
الرابعة : تبين آية البحث علة إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا ، فهو سبحانه الذي خلق الإنسان ليعبده ويصدق بانبيائه ويتلقى الفرائض , بالإمتثال والأوامر باتيانها والأمتثال لها, والنواهي باجتناب ما حرم الله.
قانون نور الولاية
ولاية الله عز وجل النعمة العظمى والكنز الذي لا يفنى ، والخليل المصاحب ، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ] ( ).
وليس من فصل وعزلة تامة بين الذين آمنوا والذين كفروا في الحياة الدنيا ، لذا فان هذا الخروج المتضاد والمتباين يؤثر بالطرف الآخر , فيكون خروج المسلمين من الظلمات إلى النور بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : إنه سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثاني : إدراك الناس جميعاً لفيوضات ولاية الله .
الثالث : تبكيت الكافرين لحرمانهم أنفسهم من ولاية الله .
فمن يشرك بالله يلقي نفسه في الظلمات ، ويتبع خطوات الشيطان .
الرابع : تفضل الله بإلقاء الرعب في قلوب الذين أشركوا مناسبة لأمور :
أولاً : الكشف ورؤية المسلمين الحقائق .
ثانياً : المندوحة في التدبر في الآيات .
ثالثاً : التسليم بالعبودية التامة لله عز وجل .
رابعاً : الإستقامة في سبل الهدى والتنزه عن الضلالة .
وقال الواقدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان.
وقال قتادة : يعني الجنة والنار وإنما جمع الظلمات , ووحد النور لأن النور يتعدى والظلمة لا تتعدى) ( ).
ولكن معنى الظلمات والنور أعم إذ يشمل أموراً :
الأول : إرادة الإيمان والعلم , وضدهما من الجهالة والضلالة .
الثاني : قد تأتي الظلمات بمعنى الليل ووحشته كما في قوله تعالى [وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ] ( ).
الثالث : إرادة إنارة سبل العمل ومقدمات حسن الإختيار من النور ، وبيان ضرر اللبس والشك والتردد والحيرة من الظلمات .
الرابع : من معاني النور في المقام إنشراح الصدر بذكر الله والرضا بما قسم سبحانه ، والبصيرة في أمور الدين والدنيا ،قال تعالى [أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ] ( ).
الخامس : من النور معرفة قبح الشرك وسوء عاقبته .
السادس :من مصاديق النور أنه وسيلة ومادة للبصر والبصيرة في العبادات والمعاملات والأحكام ، ويدل عليه قوله تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ] ( ) فالنور في الآية أعلاه ليس وعاء فقط ، بل يكون وسيلة ومنهجاً .
السابع : من النور في المقام التطهير من دنس الرذائل وقبائح الأخلاق , وحمية الجاهلية الأولى .
الثامن : إرادة تعليم المسلمين الكتاب والحكمة والأحكام الشرعية والسنة النبوية بعد أن كانوا غارقين في ظلمات الجاهلية ، قال تعالى [كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ ويعلمكم الكتاب وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ]( ).
التاسع : من النور ولاية الله التي تذكرها الآية السابقة .
العاشر : المقصود بلوغ مراتب نهج الصراط المستقيم والسلامة من الإعوجاج والإرتداد وطاعة الذين كفروا .
فان قلت جاءت الآية بإرادة التعدد والغيرية بين النور والصراط في قوله تعالى [وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( )والجواب من جهات :
الأولى : من معاني الآية أعلاه عطف الخاص على العام فالإخراج من الظلمات أعم من الهداية إلى الصراط ، والنور أعم من الصراط المستقيم .
الثانية :تقييد الخروج إلى النور بإذن الله ، ثم ذكرت الآية الهداية إلى الصراط لبيان أن الخروج من الظلمات إلى النور مقدمة للهداية إلى الصراط المستقيم لتفيد الواو في [وَيَهْدِيهِمْ] الترتيب .
الثالثة : من معاني الخروج من الظلمات النجاة من الهلكة ومن طاعة الذين كفروا وما يترشح عنها من الإرتداد وأسباب الخسارة كما مبين في الآية قبل السابقة ، وبعد هذه النجاة تكون الهداية إلى الرشاد وسبل التقوى , وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين بأن يجمعوا بين سبل النجاة والفوز ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) .
ويكون نور الولاية من أسباب إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من جهات :
الأولى : إخلاص المسلمين في صلاتهم ومناسكهم ، وإقبالهم عليها بشوق وشغف .
(عن مجاهد، عن ابن عياش، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الظهر فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم.
ثم قالوا: تأتى الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم.
قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر: ” وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة “.
قال: فحضرت، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذوا السلاح، فصففنا خلفه صفين، ثم ركع فركعنا جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد بالصف الذى يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء.
قال: ثم ركع فركعوا جميعا ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد الصف الذى يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم.
ثم انصرف.
قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين، مرة بأرض عسفان، ومرة بأرض بني سليم) ( ).
الثانية : عشق المسلمين للشهادة في سبيل الله وعدم الخشية من الموت ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) ومن مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا في الآية أعلاه أمور :
ومن مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا في الآية أمور:
أولاً : بسالة المؤمنين في القتال , وعجز الذين كفروا عن التمييز بين الشاب والهرم منهم .
ثانياً : حال التآزر بين المؤمنين في القتال والمبادرة إيثاراً ، قال تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] ( ).
ثالثاً : وصول أنباء تمني المؤمنين الشهادة إلى أسماع ومنتديات الذين كفروا في مكة الذين يتلقونه وهم في حال خوف فيزداد خوفهم ورعبهم ليكون من رحمة الله , لأنه نوع إنذار للإمتناع عن قتال المؤمنين لتكون آية تمني الموت أعلاه من مصاديق قوله تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ) فيشمل الإنذار فيها كفار قريش وغيرهم من أهل الضلالة .
وهل منه الإنذار من الرعب وملازمته للكفر والجحود , الجواب نعم ، وللولي معنيان :
الأول : فعيل بمعنى فاعل , وهو المقصود في الآية السابقة وقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] فالله سبحانه يتولى كفاية المسلمين ويتعاهد مصالحهم ويدفع عنهم المفسدة والأضرار , وهو الذي يجذب لهم النصر ويلقي في قلوب أعدائهم الرعب والفزع , قال الله تعالى في الثناء على نفسه [وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ] ( ) وفيه وعد كريم وإخبار بأن ولايته للذين آمنوا به ، وهي نعمة وشكر منه تعالى على الهداية والإيمان لإقتران اسم الحميد بالولي .
الثاني : معنى فعيل مفعول ، وهو الذي يتغشاه الله عز وجل برحمته في أحواله المختلفة ، ولا يكله إلى نفسه ، وجاءت آية البحث بإعجاز وهو من ولاية الله إلقاء الخوف والرعب في قلوب الأعداء مجتمعين ومتفرقين , لتبين الآية أعلاه قانوناً من وجوه :
الأول : ليس من ولي للمسلمين إلا الله .
الثاني : الخسارة التامة للذي يحارب المسلمين .
الثالث : ترغيب الناس بالإسلام للفوز بولاية الله .
الرابع : بيان مصداق متجدد من التحدي في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو مصاحبة الولاية للمسلمين ، وهل رفقة القرآن للمسلمين من ولاية الله , الجواب نعم ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل تلاوته واجبة في الصلاة ، لتجدد مصاديق الولاية مع قراءة المسلم والمسلمة كل آية من آيات القرآن .
رابعاً : بذل المؤمنين الوسع في القتال والدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة , وفيه خزي للكفار .
الثالثة : من خصائص ولاية الله نشر معاني الرأفة والرحمة بين المؤمنين ، بل بين الناس جميعاً ليكون من معاني قوله تعالى في آية البحث [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]المنع من إشاعة الفساد ومفاهيم الضلالة والجحود في الأرض ، ولا يبقى الناس معه في حال من البرزخية بل تأتي ولاية الله لتجذبهم إلى سبل الإيمان وتقودهم إلى بر الأمان .
الرابعة : المراد من النور في الآية نور السريرة ، وحسن النية وسلامة المقصد والغاية ،لأصالة الإطلاق في لفظ النور الوارد في الآية أعلاه وإحاطته بنفس المؤمن وصيرورته وعاء وصاحباً وحالاً في المحل .
( عن ابن مسعود : عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم أنه قال: لا ترضين أحدا بسخط الله ولا تحمدن أحدا على فضل الله ولا تذمن أحدا على ما لم يرد الله فإن رزق الله لا يسوقه إليه حرص حريص و لا يرده عنك كره كاره وأن الله عز و جل بقسطه وعدله جعل الروح و الراحة و الفرح في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في السخط و الشك ) ( ) .
الخامسة : من النور الصدور عن القرآن والسنة النبوية ، فقد تفضل الله عز جل وجعل كلاً منهما ضياء ينير دروب السالكين وجاءت السنة بياناً وتفسيراً للقرآن لهداية الناس وإصلاحهم , ليكون من معاني وتقدير قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )ليخرجكم الله من الظلمات إلى النور .
السادسة : من خزائن قراءة المسلمين لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) عدة مرات في اليوم على نحو فرض العين على الذكر والأنثى في الصلاة اليومية ، سؤال نور الولاية والوقاية من الإرتداد ومداهمة الظلمات للفرد أو إقتحامه لها قبل نور الولاية .
وقد يسأل إلى بعض المؤمنين عن مصاديق ولاية الله لهم في سلامتهم من الذين كفروا خاصة في حال الضعف والإنكسار ، كما في واقعة أحد عندما تحولت الريح فيها وإنهزم أكثر المسلمين وسقط الشهداء من بينهم .
فيأتي الجواب بآية البحث بأن الله عز وجل قد ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب حتى في حال هجومهم وإنكسار المسلمين في جولة من المعركة .
ويحتمل ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط المعركة مع عدد قليل من أهل بيته وأصحابه يومئذ وجوهاً :
أولاً : إنه من أسباب إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لدلالته على عدم تحقق النصر للكافرين .
ثانياً : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حياً , ويقاتل في المعركة خزي للكفار وموضوع لقذف الرعب في نفوس الذين كفروا.
ثالثاً : من ولاية الله للمسلمين فوز المؤمنات بالذب والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمر الذي يلقي الرعب والفزع في نفوس الكفار.
وبخصوص يوم أحد ورد عن أم سعيد إبنة سعد بن الربيع كانت تقول دخلت على أم عمارة فقلت يا خالة أخبريني خبرك فقالت (خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين , فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس حتى خلصت الجراحة إلى فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور فقلت من أصابك بهذا قالت ابن قمئة اقماه الله لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقبل يقول دلوني على محمد فلا نجوت ان نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضربني هذه الضربة ولكن ضربته ضربا على ذلك ولكن عدو الله كان عليه درعان قال ابن اسحق وترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل .
ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال سعد فلقد رأيته يناولني النبل ويقول ارم فداك أبى وأمى حتى أنه ليناولني السهم ماله من نصل فيقول ارم به، وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده.
واصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته فحدثني عاصم بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ردها بيده فكانت أحسن عينيه واحدهما) ( ) .
لتكون سلامة المسلمين والمعجزات في برأ الجرحى منهم نوراً يهدي إلى سبل التقوى .
لقد أحاط المشركون بالمسلمين من جهة كثرة مدد المشركين وكثرة مؤونهم وبسبب ثغرة الجبل التي زحف المشركون منها خلف المسلمين ، ولكن الله عز وجل خفّف عن المسلمين بامتلاء قلوب الذين كفروا بالخوف والرعب ، لتتقدم راية الإسلام وسط صفوفهم في دعوة للذين إنهزموا من المؤمنين بالعودة إلى القتال (قال ابن هشام: وحدثني مسلمة بن علقمة المازني ، قال: لما اشتد القتال يوم أحد جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت راية الانصار، وأرسل إلى علي: أن قدم الراية.
فقدم علي , وهو يقول: أنا أبو القصم.
فناداه أبو سعد بن أبى طلحة، وهو صاحب لواء المشركين: هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة ؟ قال: نعم.
فبرزا بين الصفين، فاختلفا ضربتين، فضربه على فصرعه، ثم انصرف ولم يجهز عليه.
فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه ؟ فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم , وعرفت أن الله قد قتله) ( ).
وثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام كلها سواء في بدر أو أحد أو الخندق أو حنين وغيرها نتيجة وثمرة لإلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا , وهو على وجوه :
الأول : يتفضل الله عز وجل ويخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم الثبات , وأنه سبحانه [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
الثاني : يبين الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد ألقى الرعب في قلوب الذين كفروا ، وعليه الثبات في المعركة للملازمة بين الرعب الذي يأتي من عند الله وبين الهزيمة .
الثالث : حال اليقين عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الرعب الذي يأتي من عند الله للكفار سبب لهزيمتهم .
فقد يصاب أفراد الجيش بالرعب ومع هذا يحققون النصر ، كما كانوا يقاتلون مع الرعب لأن المعركة حياة أو موت أو أن ذات الرعب ملأ قلوب الطرف الآخر في المعركة أو لأسباب تتعلق بالمعركة ونوع الأسلحة والمعدات وحال الهجوم أو الدفاع لأن الذي يكون في حال الدفاع يكون القتال أسهل وأيسر عليه .
أما بالنسبة للرعب الوارد في آية البحث فانه سهام تتوجه إلى قلوب الذين كفروا وغشاوة إلى عيونهم ويؤدي إلى إصابة أيديهم بالشلل وعقولهم بالعقم عن الإبداع والخدعة وهو مانع لفرسانهم من إظهار المهارة وفنون القتال بينما يكون المؤمنون في مأمن من الرعب والفزع ، وكان بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدداً للمسلمين يوم أحد وفي كل حال للمسلمين وإلى يوم القيامة وهو من مصاديق شمول قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]لجميع المسلمين والمسلمات وفي حال السراء والضراء ، والشدة والرخاء .
وجاءت الآية السابقة بانحصار ولاية المسلمين بالله عز وجل وجاء قوله تعالى [إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] ( )لبيان فضل الله بالمعنى الأعم للولاية بما فيه نفع المسلمين في أمور الدين والدنيا لتكون ولاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا مشتقة من ولاية الله ومترشحة عنها (عن الأعمش عن عبادة بن الربعي،
قال : بينا عبد اللّه بن عباس جالس على شفير زمزم إذ أقبل رجل متعمم بالعمامة فجعل ابن عباس لا يقول،
قال رسول اللّه : إلاّ قال الرجل : قال رسول الله؟
فقال ابن عباس : سألتك باللّه من أنت؟
قال : فكشف العمامة عن وجهه،
وقال : يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جُندب بن جنادة البدري،
أبو ذر الغفاري : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين وإلاّ صمّتا ورأيته بهاتين وإلاّ فعميتا يقول : عليّ قائد البررة،
وقاتل الكفرة،
منصور من نصره،
مخذول من خذله أما إني صليت مع رسول اللّه يوماً من الأيام صلاة الظهر فدخل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء , وقال : اللهم اشهد إني سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئاً وكان علي راكعاً فأومى إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما فرغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة فرفع رأسه إلى السماء .
وقال : اللهم إن أخي موسى سألك،
فقال : {ربّ إشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري} الآية،
فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} اللهم وأنا محمد نبيّك وصفيّك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أُشدد به ظهري.
قال أبو ذر : فواللّه ما استتم رسول اللّه الكلمة حتى أنزل عليه جبرئيل من عند اللّه،
فقال : يا محمد إقرأ،
فقال : وما أقرأ؟
قال : إقرأ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ،
إلى {رَاكِعُونَ})( ).
وعن الإمام أحمد بن حنبل يقول : ما جاء لأحد من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من الفضائل مثل ما جاء لعلي بن أبي طالب عليه السلام ( ).
وليس من حصر للشواهد بأن السنة النبوية من ولاية عز وجل للمؤمنين بلحاظ أنها شعبة من الوحي , وفيه مسائل :
الأولى : حضور ولاية الله مع المسلمين في حياتهم اليومية ، ويمكن تأليف مجلدات بعنوان (تجلي ولاية الله في السنة النبوية ).
الثانية : ترغيب المسلمين بتوثيق السنة النبوية القولية والفعلية والإستحضار بها وصيرورتها إماماً للمسلمين والإستشهاد بها .
الثالثة : تعاهد العمل بالسنة النبوية من أبهى مصاديق ولاية الله عز وجل فمثلاً جاء القرآن بفريضة الصيام وأخبر بأنه يبدأ برؤية هلال الشهر بقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( )وتفيد الألف واللام في الشهر العهد لإرادة شهر رمضان الذي ذكرته ذات الآية أعلاه , ليكون من إعجاز القرآن بالنسبة للأسماء أمور :
الأول : لم يذكر في القرآن اسم شهر إلا شهر رمضان .
الثاني : ذكر اسم زيد بن حارثة من الصحابة في القرآن وفي موضوع يتعلق بالسنة النبوية والحياة الزوجية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يفيد رفع الحرج ونفي العسر عن المؤمنين , قال تعالى [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ] ( ).
الثالث : لم يذكر من أسماء النساء في القرآن إلا اسم مريم بنت عمران وإذ ذكر كل من شهر رمضان واسم زيد مرة واحدة في القرآن ، فقد ذكرت مريم في القرآن مرات بوجوه :
الأول : ذكر مريم وإرادة قصدها بالذات في قوله تعالى [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا] ( ).
الثاني : ورود اسم مريم مقترناَ مع اسم عيسى ومتعقباً له للتعريف ولبيان أنها أمة كما في قوله تعالى [ذَلِكَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ] ( ) وفيه تزكية بالعرض لمريم عليه السلام وثناء عليها.
الثالثة : ذكر مريم بالاسم للدلالة على عيسى والإخبار عنه [وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ] ( ) وفيه فخر لمريم وللمؤمنات بأن يكون تعريف رسول من الرسل الخمسة أولي العزم بأمه لبيان عظيم شأنها.
الرابع : مجئ الثناء على مريم مصاحباً للثناء على عيسى عليه السلام والشهادة من عند الله بأنها آية من الله بشخصها وتقواها وصبرها ، ومجي فاكهة الشتاء لها في الصيف , وفاكهة الصيف في الشتاء وحملها بعيسى من غير أب , قال تعالى [وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ] ( ) وهناك مسألتان :
الأولى : لم تقل الآية أعلاه (وجعلنا عيسى وأمه آية ) .
الثانية : لم تقل الآية ( وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين ) .
إما بالنسبة للأولى , ففي الآية وصيغتها منع للبس والشك , وهو زجر عن الغلو , وللإخبار بأن ولادة عيسى من غير أن يكون له أب معجزة وآية من عند الله .
لذا ترى أولاد وذرية فاطمة الزهراء عليها السلام يفتخرون بالإنتساب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإليها .
وأما الثانية ففيها وجوه :
إولاً : بيان إتحاد موضوع الإعجاز في آية خلق عيسى عليه السلام .
ثانياً : بيان قانون وهو أن الآية من عند الله إنحلالية تنقسم إلى آيات متعددة ، وتترشح عنها الدلالات والبينات التي تدل على عظيم قدرة الله .
ثالثاً : إلحاق معجزة مريم بمعجزات الأنبياء بوساطة عيسى عليه السلام .
رابعاً : التذكير بالإشتراك في المعجزة عند إجتماع عيسى ومريم عند ولادته حينما سألها قومها سؤالاً إستنكارياً عن ولادته ، كما ورد في قوله [فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا] ( ).
خامساً : إرادة اسم الجنس من لفظ [آيَةً] في قوله تعالى [وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً] ( ) والآية إنحلالية وتقديرها على وجوه :
الأول : وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية .
الثاني : وجعلنا ابن مريم وأمة آيتين .
الثالث : وجعلنا ابن مريم آيات وأمة آيات .
الرابع : وجعلنا ابن مريم آية وأمة آية ، وهما معاً آية .
الخامس : وجعلنا ابن مريم آية وصارت أمه آية بواسطته .
السادس : وجعلنا ابن مريم آية نبوية ، وأمه آية في النساء .
السابع : وجعلنا ابن مريم وأمه آية بذكر كل منهما في القرآن ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ] ( ).
الثامن : إرادة تنزيه مريم وذم الذي إفتروا عليها ، لذا جمعها الله بآية واحدة مع عيسى عليه السلام .
وهل في الآية دلالة على موضوع تحقق حمل المرأة بواسطة التلقيح والأنابيب, الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) والدلالة على أن المعجزة تنزل من عند الله إلى الأرض ، ولا ترتفع ثم تأتي بالعلم والكسب والتحصيل رحمة من عند الله بالعباد .
وفي الآية نكتة وهي أن النسبة إلى مريم فخر وعز وإن كان المنسوب إليها رسولاً من أهل العزم , وقيدت صفة أولي العزم بأنهم الذين أمروا بالقتال , وأختلف في صفة وأسماء الرسل أولي العزم على وجوه منها :
الأول : ورد عن ابن عباس[فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ]( )، قال : هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان ( ).
الثاني : عن جابر بن عبد الله قال : بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر( ).
الثالث : كلّ الرسل كانوا أُولي عزم، ولم يتّخذ الله رسولاً، إلاّ كان ذا عزم( ).
الرابع : من لم تصبه فتنة من الأنبياء , وفي قوله تعالى [اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ] ( ) قال ابن أبي حاتم (يعني كما صبر أولوا العزم من الرسل لا كمن لم يصبر مثل يونس) ( ).
ولا دليل على هذا المعنى فليس في القرآن ما يتضمن التعريض بنبي وحتى على القول بأن التفسير أعلاه ليس في التعريض فانه لا يرد ذكر الأنبياء في القرآن إلا بصيغة المدح والثناء , وقوله تعالى [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ] ( ) لا يدل على التعريض بالنبي يونس أو أنه بمرتبة أدنى من الصبر .
وعن عائشة قالت (ظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صائما ثم طواه، ثم ظل صائما ثم طواه، ثم ظل صائما، ثم قال: “يا عائشة، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد. يا عائشة، إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم، فقال: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } وإني -والله-لأصبرن كما صبروا جَهدي، ولا قوة إلا بالله) ( ).
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لا تفضلوني على يونس بن متى)( )
وقال : لا تفضلوني عل يونس بن متى فإنه كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا : وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب ، لأن أحداً لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض) ( ).
ليكون من الإعجاز في السنة النبوية نهي علماء التفسير عن تأويل الآية أعلاه بما يفيد قلة صبر يونس أو تخلفه عن صفات أولي العزم ، فلقد إجتهد يونس في الدعوة إلى الله بصبر وحكمة .
الخامس : هم الأنبياء الذين لم يصبهم بلاء بغير ذنب .
السادس : أولوا العزم من الأنبياء هم الذين صبروا على أذى قومهم , فلم يجزعوا ( ).
السابع : عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام أن أولي العزم بعثوا إلى شرقها وغربها وجنها وأنسها .
وأختلف في أسماء الأنبياء أولي العزم على وجوه :
الأول : نوح وهود وإبراهيم عليهم السلام ، فأمر الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون رابعهم ، عن أبي العالية .
الثاني : أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عن ابن عباس وعن الأمام الرضا عليه السلام .
ويستدل عليه بذكرهم بالاسم , وعلى نحو الخصوص في قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ]( ).
الثالث : إنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى .
الرابع : أولوا العزم هم إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم , قاله السدي ( ).
وذكر إن آدم لم يكن من أولي العزم لقوله تعالى [وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا]( ).
(عن ابن عباس : إنما أخذ الإِنسان من أنه عهد إليه فنسي) ( ).
ومشهور علماء الإسلام هو الثالث أعلاه .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : بل الله مولاكم ومأواهم النار ، وفيه وجوه :
الأول : بيان التضاد بين المؤمنين والكفار ، وأخبرت الآية السابقة عن ولاية الله للمؤمنين , وتحتمل وجوهاً :
أولاً : الولاية في الدنيا ، ويدل عليه نظم الآية وإبتداؤها بحرف الإضراب [بل] الذي يدل على إتصال موضوعها مع مسألة لزوم إجتناب طاعة الذين كفروا .
ثانياً : إرادة ولاية الله للمسلمين في الآخرة وسلامتهم من الفزع والخوف والعذاب , قال تعالى [ أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ] ( ).
ثالثاً : الإطلاق في ولاية الله للمسلمين في الدنيا والآخرة والصحيح هو الأخير ، ومن ولاية الله عز وجل للمؤمنين تفضله بجعل الملائكة أولياء للمؤمنين ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ]( ).
الثاني : دعوة الناس للنفرة من الكفر، وحثهم على التبرأ من مفاهيم الكفر وأربابه الذين لا ينالون إلا الخسران لأنهم يتحدون ولاية الله وأسرار الربوبية المطلقة لله عز وجل، ومنها أنه سبحانه خلق الناس لعبادته وأن الذي يحارب المؤمنين الذي يتعاهدون العبادة يغزو قلبه الرعب والفزع .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) رمي الذين يحاربون المتقين بالرعب , ومن خصائص وآثار الرعب على صاحبه أمور منها :
أولاً : إنقباض النفس ، قال تعالى [وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ]( ).
ثانياً : الإرباك والعجز عن إتخاذ الرأي السديد والقول الرشيد عند تزاحم الأمور .
ثالثاً : مصاحبة الحسرة والأسى للرعب .
رابعاً : الرعب علة لتنغيص الحياة ، ومداهمة الكدورة للنفس عند الخلوة ، وحال الإختلاط بالناس .
خامساً : ملازمة الشك والريب لحال الرعب .
سادساً : تقدير حذف في آية البحث , ومنه وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب من المؤمنين .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب من الموت .
سابعاً : ظهور أمارات الخور والجبن على الكفار ،وإن كان بعضهم في الجاهلية كالليث في جرأته ، وهو من مصاديق الإعجاز الغيري في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي الإعجاز الذي يظهر على الأعداء وغير المسلمين والحالات العامة بسبب بعثته ، وأسباب الهداية والصلاح التي تفيض منها .
ثامناً : إصابة الذين كفروا بالرعب عند اللقاء حتى وإن كانوا هم الأكثر عدداً وعدة ، وهل يحصل هذا الرعب عند لمعان السيوف وسقوط الرؤوس عند الأقدام أم أنه أعم ،الجواب إنه أعم ،إذ يصيب الذين كفروا الرعب من جهات :
الأولى : عند الإستعداد للقتال وتهيئة مقدماته ، فان قلت إنه أمر خلاف نواميس القتال ، فان المناجاة والأشعار تشد من حماس المقاتلين ، ولكن الرعب يدب إلى نفوس الكافرين ويخالط قلوبهم ، وإن لم تر بعضهم على هيئاتهم وإصرارهم ، وهو من أسرار تقييد آية البحث بأن محل الرعب في القلوب ، وهو لا يمنع من ظهوره بحال التردد والفزع والخوف عند الكفار ، قال تعالى [وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا] ( ).
الثانية : الفزع والخوف في ميدان القتال وقبل نشوب القتال ، لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أمراء السرايا بدعوة العدو للإسلام والنصح والموعظة قبل بدء القتال وأن لا يكون المسلمون أول من يبدأ القتال .
الثالثة : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب عند اللقاء من جهات :
الأولى : رؤية شدة بأس المسلمين ، وتفانيهم في القتال في سبيل الله كما في مقدمات معركة بدر إذ أصاب المشركين الفزع من هيئة الأنصار ورؤيتهم وهم عازمون على إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة (قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الانصار قالوا: لما اطمأن القوم( ) بعثوا عمير بن وهب الجمحى فقالوا احزر لنا القوم أصحاب محمد.
قال: فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم , فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر: أللقوم كمين أو مدد.
قال: فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ! ؟ فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس) ( ) ، لقد أراد نصيحة قريش ، وبعثهم على الإنصراف عن القتال وكف أيديهم عن التعدي على المؤمنين ، وكلام عمير هذا من الرعب الذي ألقاه الله في قلوب الذين كفروا من وجوه :
الأول : لقد أصاب العين الذي بعثته قريش الفزع والخوف حالما رأى جيش المسلمين عن بعد.
الثاني : مجي الأخبار إلى قريش بما يبعث في نفوسهم الرعب ومن أمثال العرب (الرائد لا يكذب أهله ) ( )أي يرسله أهله لمعرفة مكان الكلأ والماء فيصدقهم لأنهم يتبعون قوله ويسيرون حيث يصف لهم الموضع الأحسن .
الثالث : أخبر هذا العين قريشاً بأنهم لا يستطيعون قتل الأنصار كلهم حتى يقتلون بعددهم منكم أي من المشركين (عن ابن عباس قال: كان المهاجرون يوم بدر سبعين رجلا، وكان الانصار مائتين وستة وثلاثين رجلا، وكان حامل راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بن أبى طالب، وحامل راية الانصار سعد بن عبادة.
وهذا يقتضى أنهم كانوا ثلثمائة وستة رجال.) ( ).
الرابع : إرادة بعث الرعب في قلوب الكفار إلى يوم القيامة فكلام عمير هذا رسالة إنذار متجددة تبعث الفزع في قلوب الذين إختاروا الشرك وعبادة الأوثان .
الثانية : إستيلاء الفزع والخوف على قلوب وأركان وأعضاء الذين كفروا عند اللقاء وإشتداد القتال .
الثالثة : آية البحث بإنذار الكفار من عذاب الآخرة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
الرابعة : مغادرة الكفار ميدان المعركة بصحبة الرعب والفزع وظهوره على أقوالهم وأفعالهم ، وفيه دعوة لذويهم والناس لدخول الإسلام ونبذ محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولا يختص إمتلاء قلوب الكفار بالجماعة والجيش منهم ، بل يتعلق بالقضية الشخصية ، وأمتلاء قلب الفرد منهم بالرعب ، وتقدير آية البحث : سنلقي في قلب الذي كفر الرعب ) لبيان مصاحبة الرعب للكفر .
(عن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من بنى محارب يقال له غورث قال لقومه من غطفان ومحارب ألا أقتل لكم محمدا قالوا بلى وكيف نقتله قال أفتك به قال فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس وسيفه في حجره فقال يا محمد أنظر إلى سيفك هذا قال نعم فأخذه فاستله ثم جعل يهزه ويهم فيكبته الله ثم قال يا محمد أما تخافني قال لا وما أخاف منك قال وفى يدى السيف قال لابل يمنعني الله منك قال ثم عمد إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرده عليه فأنزل الله تبارك وتعالى (يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم) ( )( ) .
وقد رواه من حديث جابر أيضا أبو عوانة وفيه فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : من يمنعك قال كن خير آخذ قال تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله قال الاعرابي أعاهدك انى لا اقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك قال فخلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبيله فجاء إلى قومه فقال جئتكم من عند خير الناس ( ).
قلت وقد تقدم في كتيبة ذي أمر خبر لرجل يقال له دعثور بن الحارث من بنى محارب يشبه هذا الخبر إذ قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف فقال من يمنعك منى اليوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال من يمنعك منى قال لا أحد أشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله ثم اتى قومه فجعل يدعوهم إلى الاسلام ونزلت (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم) الآية( )، وقد قيل ان هذه الآية نزلت في امر بنى النضير كما سبق فالله اعلم، وفى انصرافه عليه السلام من هذه الكتيبة أبطأ جمل جابر بن عبد الله فنخسه النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق متقدما بين يدى الركاب ثم قال اتبيعنيه فابتاعه منه وقال له لك ظهره إلى المدينة، فلما وصل إلى المدينة أعطاه الثمن ووهب له الجمل) ( ).
وهل لولاية الله للمؤمنين موضوعية في إقامة الذين كفروا في النار ، الجواب نعم ، ليكون من معاني [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] الإنذار والوعيد للكفار , وزجرهم عن الإصرار على الكفر بالله والنبوة والتنزيل لأن هذا الكفر طريق إلى الخلود في العذاب , وإن لم يحاربوا المؤمنين ، قال تعالى [وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] ( ) وهناك مسألتان :
الأولى : من معاني البشارة للمسلمين بولاية الله بعث الفزع والحزن في قلوب الذين كفروا .
الثانية : من دلالات الوعيد في القرآن للذين كفروا بعث السكينة في نفوس المؤمنين .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : بل الله مولاكم وبئس مثوى الظالمين ) ، وفيه وجوه :
الأول : حث المسلمين على تعاهد نعمة الولاية من جهات :
الأولى : الشكر لله عز وجل على نعمة الولاية ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) وتحتمل هذه الزيادة وجوهاً :
أولاً : الزيادة في ذات نعمة الولاية كماً وكيفاً وحضوراً.
ثانياً : الزيادة في المصاديق المتكثرة من النعم ، وما يحتاج إليه المسلم .
ثالثاً : الفرد الجامع للوجهين اعلاه .
رابعاً : مجئ الزيادة على الشكر بكيفية لا يعلمها إلا الله , ومنها الزيادة في ذات الشكر بتنمية ملكته , ليكون المسلم مقيماً على الشكر.
وعن الأوزاعي قال : إنّ جبرئيل أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : يا جبرئيل صف ليّ النّار.
فقال : إنّ الله أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اصفرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة لا يضي لهيبها ولا جمرها.
والّذي بعثك بالحقّ لو أنّ ثوباً من ثياب أهل النّار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً ولو أنّ ذَنوَباً من سرابها صبّت في الأرض جميعاً لقتل من ذاقه.
ولو أنّ ذراعاً من السلسة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلّت ولو إنّ رجلاً دخل النّار ثمّ أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه فبكى النبيّ {صلى الله عليه وسلم} وبكى جبرئيل لبكائه وقال : أتبكي يا محمّد وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر قال : أفلا أكون عبداً شكوراً.
ولم بكيت يا جبريل وأنت الروّح الأمين أمين الله على وحيه)( ).
ليكون من معاني قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( )، وجوه:
الأول : النعم التي تأتي للمسلم كانسان.
الثاني : النعم التي تنزل على المسلم لإيمانه.
الثالث : ما ينزل على المسلم من النعم على عمله الصالحات، ويحتمل وجوهاً :
أولاً : تنزل نعمة على المسلم على كل فعل عبادي أو عمل صالح فيؤدي الصلاة الواجبة خمس مرات في اليوم فتأتيه خمسة من النعم.
ثالثاً : كل صنف ونوع من العبادات والعبادات عليه نعمة متحدة.
رابعاً : يكون على مجموع العبادات والصالحات نعمة واحدة.
خامساً : مجئ النعم المتعددة على العمل العبادي المتحد.
سادساً : توالي النعم على الجمع بين كل فعلين من الصالحات بقصد القربة إلى الله .
سابعا: إرادة التعدد والتباين في ضروب النعم بلحاظ الوجوه أعلاه، فمرة تأتي نعمة متحدة على أعمال عبادية متعددة، وأخرى تأتي نعم متعددة على فعل عبادي متحد.
والصحيح هو الخامس والسادس أعلاه، وهو من مصاديق قوله تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
ترى هل من صلة بين النعم التي تأتي للمسلمين وبين القاء الرعب في قلوب الذين كفروا، الجواب نعم، فكل نعمة من هذه النعم مصداق للرعب الذي يلقيه الله في قلوب الكفار الذين حرموا أنفسهم منها , وصارت أذى وحسرة عليهم لإشراكهم بالله ما لم ينزل به برهاناً أو دليلاً أو شاهداً، وفيه نكتة وهي أن إلقاء الرعب في قلوب الكفار يأتي بالذات والمباشرة وبالواسطة، والتسبيب والعرض.
الثانية : الثبات في منازل التقوى والإجتهاد في طاعة الله .
الثالثة : تلاوة آيات القرآن , ومنها آيات الولاية والتسليم بها .
الرابعة : إجتناب طاعة الذين كفروا والمنافقين , وهذا الإجتناب من أسباب نزول الآية السابقة ، وما تتضمنه من الإخبار عن اللطف الإلهي بالمسلمين والذي هو نوع عهد وتزكية من عند الله للمسلمين.
الثاني : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بالولاية التي تأخذ بأيديهم في سلم العبادات وسنخية الصالحات , لتكون عاقبتهم اللبث الدائم في الجنان ، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] ( ).
الثالث : من ولاية الله عز وجل للمسلمين لحوق الآثام بالكفار الذين يتعمدون إيذاءهم والإضرار بهم , لتكون وزراً يحملونه يوم القيامة , ويؤدي بهم إلى الجحيم .
الرابع : سلامة المسلمين من النعت بالظلم وجماعة الظالمين لدلالة الجمع بين الآيتين عليه ، فمن مصاديق ولاية الله نجاة المسلمين من الظلم للذات وأسباب الشرك والضلالة .
الخامس : تأكيد حجب ولاية الله على الظالمين ، فلا تحضر لإعانتهم ونصرتهم سواء في الدنيا أو في الآخرة .
السادس : إدراك الناس يوم القيامة وفي مواطن الحساب للحاجة إلى ولاية الله فهي حرز ونجاة في الدارين .
الرابعة : يصيب الكفار الرعب عند أمور :
أولاً : توالي نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : دخول أفواج الناس في الإسلام ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( ).
ثالثاً : عند توالي النعم الظاهرية على المسلمين وظهور الزيادة في أرزاقهم ومعاشاتهم .
رابعاً : حال تجليات ولاية الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
خامساً : تحقق فتح عدد من القرى والأمصار للمسلمين بالصلح ومن غير قتال ، ومن القرى ما يأتي وفد من أهلها للمدينة ليعلنوا دخولهم وقومهم الإسلام فيؤخرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدة أيام في ضيافته في المدينة حتى يتعلموا الصلاة وأحكام الحلال والحرام .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يؤم المصلين في الصلاة اليومية بفرائضها الخمسة فلا يأتي مسلم إلى المدينة إلا وقد صلى خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأدرك كيفية صلاته , فيكون نفعه على وجوه :
الأول : إتقان الصلاة وكيفيتها .
الثاني : معرفة موضوعية تلاوة القرآن في الصلاة .
الثالث : عظيم منزلة وشأن الصلاة والعناية الخاصة التي يوليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة .
الرابع : تقديس الصحابة للصلاة .
الخامس : تجلي معاني الأخوة في أداء الصلاة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
السادس : تعليم الوافد كيفية الصلاة .
السابع : أداء المسلمين من القرى والمدن المختلفة الصلاة بكيفية واحدة ، وهو من مصاديق ولاية الله للمسلمين في الآية السابقة ، وهذا الأداء من مقدمات النصر في قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] لأن الفرقة والإختلاف في أداء الصلاة سبب للشقاق, وبرزخ دون تحقيق النصر التام .
الثامن : توثيق حقيقة تأريخية وهي فوز الوافد إلى المدينة المنورة من قومه بالصحبة والصلاة خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : يفتح الوفود إلى المدينة باب للتفقه في الدين وتعلم آيات القرآن لتلاوتها , وللإجابة على أسئلة أبناء قومه .
العاشر : اللقاء بالمهاجرين والإنصار والإستماع إليهم والإخذ عنهم .
الحادي عشر : رؤية عالم جديد في المدينة يتقوم بصدور الصحابة عن القرآن , وإنشغالهم بالذكر والدعاء , وشوقهم للشهادة وتنزههم عن المحرمات ، قال تعالى [رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] ( ).
الثاني عشر : التدبر في مصاديق ولاية الله للمسلمين , وزيادة الإيمان بهذا التدبر .
المسألة السابعة : ذكرت كل من آية البحث والآية السابقة اسم الجلالة [الله] مع التعدد في الموضوع ، إذ جاءت آية السياق بالعهد والوعد والبشارة للمسلمين ، بينما وردت آية البحث بذم الذين كفروا لأنهم أشركوا بالله ، وفيه وجوه :
الأول : دلالة مفهوم الآية السابقة على ذم الذين كفروا لتفريطهم وحرمانهم أنفسهم من نعمة الولاية التي هي نجاة في الدنيا والآخرة .
الثاني : إنذار الذين كفروا بالمحق والهلاك وزوال مفاهيم الكفر التي يتمسكون بها ويقاتلون من أجلها ، ومن مصاديق الجهالة التي يتصفون بها أن قتالهم ليس دفاعاً بل هيئوا الجيوش العظيمة للزحف إلى المدينة المنورة لمحاربة كل من :
أولاً : النبوة التي تتجلى في شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم إذ لا نبي غيره في زمانه , وهو خاتم النبيين , وقد بعثه الله رحمة للعالمين , قال تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ] ( ) .
وكانت الفترة بين عيسى ومحمد خمسمائة سنة وستون . قال معمر : قال الكلبي : خمسمائة سنة وأربعون سنة)( ).
ثانياً : عزم قريش على محاربة التنزيل، وإرادة وقف نزول آيات القرآن وما فيها من ذم لهم، وبيان لقبح الكفر والجهالة وعبادة الأوثان , ولا يتحقق هذا الوقف الا بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا كانت غايتهم في معركة أحد[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
ثالثاً : سخط قريش على المهاجرين الذين تركوا مكة، وغادروا الأهل وأحدثوا الإرباك في مجتمعات قريش، إذ صاروا الرواد في نبذ الشرك والضلالة.
رابعاً : محاربة الأنصار الذين آووا وذبوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعلنوا إسلامهم، وتلقوا التنزيل باليقين والأوامر والنواهي القرآنية النبوية بحسن الإمتثال.
الثالث : ترغيب الناس بدخول الإسلام لموضوعية ولاية الله وإدراكهم لحاجتهم لها ، والإنتفاع الأمثل منها في الدارين ويصاحب الولاية إمتلاء النفس بالسكينة ، ومن الإعجاز بتعقب آية البحث لآية الولاية بيان قانون وهو أن الذي يعرض عن نعمة الولاية يهاجم صدره الفزع والرعب.
وليس من وسط وبرزخ بين الأمرين , لتكون هذه التثنية والحصر مقدمة وشاهداً على حال الناس في الآخرة ، وأن أهل الولاية في النعيم , لتكون السكينة المترشحة عن ولاية الله على وجوه :
الأول : إنها نواة ومقدمة للغبطة والسعادة الدائمة.
الثاني : إنه سبيل رشاد في الدنيا ومانع من إستيلاء النفس الغضبية والشهوية على الأقوال والأفعال (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَوْمًا صَلاَةَ الْعَصْرِ بِنَهَارٍ ثُمَّ قَامَ خَطِيبًا فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَخْبَرَنَا بِهِ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ , وَكَانَ فِيمَا قَالَ « إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أَلاَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ . وَكَانَ فِيمَا قَالَ « أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ رَجُلاً هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ .
قَالَ فَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَا أَشْيَاءَ فَهِبْنَا. وَكَانَ فِيمَا قَالَ: أَلاَ إِنَّهُ يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ وَلاَ غَدْرَةَ أَعْظَمَ مِنْ غَدْرَةِ إِمَامِ عَامَّةٍ يُرْكَزُ لِوَاؤُهُ عِنْدَ اسْتِهِ .
وَكَانَ فِيمَا حَفِظْنَا يَوْمَئِذٍ « أَلاَ إِنَّ بَنِى آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا أَلاَ وَإِنَّ مِنْهُمُ الْبَطِىءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَىْءِ وَمِنْهُمْ سَرِيعُ الْغَضَبِ سَرِيعُ الْفَىْءِ فَتِلْكَ بِتِلْكَ أَلاَ وَإِنَّ مِنْهُمْ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِىءَ الْفَىْءِ .
أَلاَ وَخَيْرُهُمْ بَطِىءُ الْغَضَبِ سَرِيعُ الْفَىْءِ , أَلاَ وَشَرُّهُمْ سَرِيعُ الْغَضَبِ بَطِىءُ الْفَىْءِ أَلاَ وَإِنَّ مِنْهُمْ حَسَنَ الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ وَمِنْهُمْ سَيِّئُ الْقَضَاءِ حَسَنُ الطَّلَبِ وَمِنْهُمْ حَسَنُ الْقَضَاءِ سَيِّئُ الطَّلَبِ فَتِلْكَ بِتِلْكَ أَلاَ وَإِنَّ مِنْهُمُ السَّيِّئَ الْقَضَاءِ السَّيِّئَ الطَّلَبِ .
أَلاَ وَخَيْرُهُمُ الْحَسَنُ الْقَضَاءِ الْحَسَنُ الطَّلَبِ أَلاَ وَشَرُّهُمْ سَيِّئُ الْقَضَاءِ سَيِّئُ الطَّلَبِ أَلاَ وَإِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِى قَلْبِ ابن آدَمَ أَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ فَمَنْ أَحَسَّ بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَلْصَقْ بِالأَرْضِ .
قَالَ وَجَعَلْنَا نَلْتَفِتُ إِلَى الشَّمْسِ هَلْ بَقِىَ مِنْهَا شَىْءٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَلاَ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلاَّ كَمَا بَقِىَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ . قَالَ أَبُو عِيسَى وَفِى الْبَابِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِى مَرْيَمَ وَأَبِى زَيْدِ بْنِ أَخْطَبَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَذَكَرُوا أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ) ( ).
الثالث : السكينة واقية من الطمع والحرص ونحوه من الأخلاق المذمومة , فمن معانيها الرضا بما قسم الله ، وهو من مصاديق الطمأنينة في قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ) .
الرابع : من ولاية الله تجلي معالم السكينة على المؤمنين عند أداء الأفعال العبادية والمناسك .
(عن ابن عباس قال : أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة , وعليه السكينة ورديفه أسامة ، فقال : يا أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بايجاف الخيل والإِبل . قال : فما رأيتها رافعة يديها عادية حتى أتى جمعاً ، ثم أردف الفضل بن العباس .
فقال : أيها الناس إن البر ليس بايجاف الخيل والإِبل فعليكم بالسكينة . قال : فما رأيتها رافعة يديها حتى أتى منى) ( ).
أما الذين أشركوا بالله فان الرعب الذي يملأ قلوبهم في الدنيا مقدمة لعذابهم في الآخرة ،ويكون الرعب في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] على وجوه :
الأول : هذا الرعب زاجر للكفار ، وإنذار فعلي للزوم ترك الشرك بالله ، ولا يستطيع الشريك الذي يتخذونه من القاء الرعب في قلب أحد ، ولا يقدر على دفع أو رفع الرعب , إذا إخترق القلب بآية من عند الله , لذا نعتت آية البحث الشريك بانه [لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
الثاني : هذا الرعب من مصاديق رحمة الله التي صاحبت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديقها التي نزلت مع آيات القرآن ، وتجلت بالإيحاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أفراد السنة القولية والفعلية لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لذا بينت الآية على نحو جلي بأن هذا الرعب مستحدث , وخاص بالذين كفروا ككفار قريش لمقام سين الإستقبال في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا].
الثالث : الرعب الذي يملأ قلوب الكفار من مقدمات ورشحات ولاية الله عز وجل للمسلمين لأن منها بعث الوهن والضعف في صفوف عدوهم.
وتقدير الجمع بين الآيتين بل الله مولاكم الذي يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله .
الرابع : إنه من مصاديق نصرة الله عز وجل للمسلمين بصيرورة الكفار في حال خذلان وتخاذل , فتترجح كفة الذين تملأ قلوبهم السكينة على كفة الذين هم في فزع دائم.
وتقدير الجمع بين الآيتين : والله خير الناصرين الذي يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب.
وفيه دلالة بأن الله لن ينصر الذين كفروا لأن إلقاء الرعب في القلوب برزخ دون تحقيق النصر والغلبة.
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فِيمَا يرويهِ عَن الله تبَارك وَتَعَالَى أَنه قَالَ : يَا عبَادي إِنِّي حرمت الظُّلم عَلَى نَفسِي ، وَجَعَلته بَيْنكُم محرما ، فَلَا تظالموا ، يَا عبَادي (كلكُمْ ضال إِلَّا من هديته ، فاستهدوني أهديكم ، يَا عبَادي كلكُمْ جَائِع إِلَّا من أطعمته ، فاستطعموني أطْعمكُم .
يَا عبَادي كلكُمْ عَار إِلَّا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يَا عبَادي إِنَّكُم تخطئون بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَأَنا أَغفر الذُّنُوب جَمِيعًا ، فاستغفروني أَغفر لكم ! يَا عبَادي ! إِنَّكُم لن تبلغوا ضري فتضروني ، وَلنْ تبلغوا نفعي فتنفعوني .
يَا عبَادي ! لَو أَن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كَانُوا عَلَى أَتْقَى قلب رجل وَاحِد مِنْكُم (مَا زَاد ذَلِك فِي ملكي شَيْئا . يَا عبَادي ! لَو أَن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنّكم كَانُوا عَلَى أفجر قلب رجل وَاحِد , مَا نقص ذَلِك من ملكي شَيْئا ، يَا عبَادي ! لَو أَن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قَامُوا فِي صَعِيد وَاحِد فسألوني ، فَأعْطيت كل إِنْسَان مَسْأَلته ، مَا نقص ذَلِك مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا ينقص الْمخيط إِذا أَدخل الْبَحْر ، يَا عبَادي ! إِنَّمَا هِيَ أَعمالكُم أحصيها لكم ثمَّ أوفيكم إِيَّاهَا ، فَمن وجد خيرا فليحمد الله ، وَمن وجد غير ذَلِك فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه( ) .
وبعد إخبار الآية عن ولاية ونصرة الله للمسلمين لم تأت آية تبين مصاديق هذه الولاية والنصرة فيما يخص المسلمين أنفسهم بل ذكرت إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا مما يدل على أن هذا الرعب من ولاية الله للمسلمين ، ومن الشواهد على نصرته لهم ، إذ تبين الآية مصداقاً من مصاديق اسم التفضيل [خير] في الآية السابقة وهو سلامة المسلمين من الرعب عند اللقاء وفي مقدماته ، وإمتلاء قلوب أعدائهم بالرعب والفزع , ليكون من معاني الجمع بين الآيتين الإخبار عن إمتناع كفار قريش عن بعث الجيوش بعد معركة الخندق في السنة الرابعة للهجرة , والبشارة بفتح مكة , ومن الآيات أن الكفار لم يقاتلوا في معركة الخندق مع أن عددهم عشرة آلاف رجل .
المسألة الثامنة : ويحتمل تسمية الدنيا بلحاظ الجمع بين هذه الآية والآية السابقة على وجوه :
الأول : الدنيا دار الولاية لقوله تعالى[اللَّهُ مَوْلاَكُمْ].
الثاني : الدنيا دار خير نصرة ومدد، لقوله تعالى[وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
الثالث : الدنيا دار الرعب وإلقائه.
الرابع : الفرد الجامع بين الوجوه أعلاه.
والصحيح هو الأول والثاني، أما الفرد الثالث فان الرعب أمر طارئ، ويتوجه إلى الذين كفروا على نحو الخصوص لأنهم إختاروه بسوء سريرتهم وإشراكهم بالله عز وجل.
لقد خلق الله عز وجل الناس للإقرار بالوحدانية , وذكر وعبادة الله، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، فخالف الذين كفروا الأصل والعمل والمنهاج الذي خلقوا من أجله فابتلاهم الله عز وجل بالرعب ليكون على وجوه :
الأول : تذكير الكفار بقبح منهج الضلالة الذي هم عليه.
الثاني : زجر الكفار عن محاولة إرتداد المسلمين، كما في الآية السابقة[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
الثالث : دعوة الذين كفروا إلى التوبة والإنابة، فمن إعجاز الآية مسائل :
الأولى : عدم إنقطاع أسباب التوبة وطرق الهداية عن الذين يجحدون بالربوبية والنبوة والتنزيل، لتكون الدنيا(دار التوبة والإنابة) .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده ، ما من إنسان يتوب قبل أن يموت بيوم إلا قبل الله توبته) ( ).
الثانية : كل آية كونية دعوة للناس للتوبة والصلاح، والناس فيها شرع سواء ،فتطل هذه الآيات على الناس جميعاً، نعم يتباين الناس في التدبر فيها، وإتخاذها طريقاً للتوبة والإيمان .
ترى ما هي الصلة بين الآيات الكونية وبين القاء الرعب في قلوب الذين كفروا، الجواب من وجوه:
الأول : نسبة العلة والمعلول، فإلقاء الرعب مناسبة ليتدبر الناس في الآيات الكونية، وهل التدبر هنا خاص بالذين يلقى في قلوبهم الرعب أم أنه عام ،الجواب إنه عام لما فيه من الموعظة.
الثاني : ليس من صلة أو ملازمة بين الآيات الكونية، وإلقاء الرعب في نفوس الذين كفروا.
الثالث : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مناسبة وعبرة وطريق للتدبر بالآيات الكونية.
الرابع : كل من الآيات الكونية وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا سبب لطرد الغفلة عن الناس، ومن فضل الله إجتماعها بالنسبة للكافر للوقاية من شره، ولدعوته للتوبة.
الخامس : الآيات الكونية من مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الكفار لما فيها من الأمر الخارق للعادة.
وباستثناء الوجه الثاني أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق آية البحث، وهو من معاني الجمع والإلتقاء في قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
وتتجلى رشحات التداخل في هذه الآيات، وصيرورة بعضها سبباً لبعضها الآخر، وهو من بديع صنع الله، وقانون التوليدية للآية الكونية.
الثالثة : قيدت آية البحث الجهة التي يلقي الله عز وجل الرعب في قلوبهم ، وهم الذين كفروا لإفادة الحصر والتعيين ، ومنع إتساع الكفر ، فيمتنع الناس عن الكفر ويتوبون إلى الله .
الرابعة : تدل الآية بالدلالة التضمنية على أن المراد التوبة من أمرين :
الأول : الكفر بالله والنبوة والتنزيل بل والجحود بالفرائض .
الثاني : إتخاذ شريك أو شركاء لله عز وجل , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال : من أكبر الكبائر الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا كانت نكتة في قلبه يوم القيامة) ( ).
الخامسة : بيان الآية لحاجة الناس للتوبة في الدنيا والآخرة , أما في الدنيا فللسلامة من قذف الرعب في القلب ، وأما في الآخرة فالأمن والنجاة من النار ، وهذه النجاة غاية كل ذي لب ، قال تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] ( ).
المسألة التاسعة : من خصائص القرآن البيان والوضوح في الموضوع ، والعلة والسبب والمقدمة وذو المقدمة، وماهية أحكام الحلال والحرام، فما من أمر أو نهي في آية قرآنية إلا وتجد بيانه ومنافعه في آية أخرى، وهو من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، ليكون بيان القرآن حجة وبرهاناً على نزوله من عند الله عز وجل.
تدل الآية السابقة على أمور بصيغة الفضل الإلهي والوعد والبشارة، وهي:
الأول : ولاية الله للمسلمين.
الثاني : إمضاء العبادات والصالحات التي يعملها المسلمون لأنها من ولاية الله.
الثالث : الإخبار عن نصرة الله عز وجل.
الرابع : إتصاف نصرة الله بأنها (خير نصرة) ولتدل بالدلالة الموضوعية على أن نصرته للمؤمنين.
وذكرت آية البحث أموراً:
الأول : الإخبار بأن الرعب مستجيب لأمر الله ويغزو القلوب .
الثاني : إلقاء الرعب من عند الله عز وجل.
الثالث : بلوغ الرعب إلى القلوب.
الرابع : إختصاص قلوب الذين كفروا بالرعب.
الخامس : بيان علة قذف الرعب وهو الشرك بالله.
السادس : بطلان الشرك، ودلالة الكفر على الضلالة (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول الجبار تبارك اسمه : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل لي عملا ، وأشرك معي غيري فأنا منه بريء ، وهو للذي أشرك ) ( ).
المسألة العاشرة : إبتدأت الآية السابقة بحرف الإضراب [بل] ويكون جمعه مع أول هذه الآية والفعل [سَنُلْقِي] على وجوه :
الأول : بل سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بلحاظ سلامة المؤمنين من الإرتداد ومن الخسارة ، فان قلت إذن أين ولاية الله ونصرته اللتان ذكرتهما الآية السابقة , الجواب من جهات :
الأولى : دلالة سنلقي على الولاية والنصرة للمسلمين .
الثانية : لا يقدر على إلقاء الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا إلا الله.
الثالثة : أثر ونتيجة القاء الرعب في قلوب الذين كفروا من ولاية الله ونصرته للمسلمين , إذ يترشح عن الرعب الوهن والضعف والتشتت في صفوف الذين كفروا رجحان كفة المؤمنين .
وهل يكون هذا الرعب سبباً لدخول شطر منهم الإسلام الجواب نعم ، لذا قيدت آية البحث إلقاء الرعب بحال وصفة الكفر ، ويدل في مفهومه على أنه حالما يتخلى الإنسان عن الكفر يغادره الرعب , وتحل محله السكينة , ويحتمل وجوهاً :
أولاً : مغادرة الرعب لقلب الكافر الذي يدخل الإسلام على نحو تدريجي ولحين تلاوته للقرآن وأدائه للفرائض .
ثانياً : بقاء قلب المسلم الذي يترك الكفر خالياً من الرعب كمقدمة لمجئ السكينة .
ثالثاً : ذهاب الرعب والفزع عن قلب المسلم دفعة واحدة حالما ينطق بالشهادتين .
رابعاً : مصاحبة السكينة للإسلام ، ولها موضوعية في مغادرة الرعب لقلب المسلم ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا] ( ).
الثاني : بل الله مولاكم سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، فمن مصاديق ولاية الله للمسلمين بعث الرعب في قلوب الذين كفروا .
ولم تنحصر علة هذا الإلقاء بارادة الكفار إرتداد المسلمين بل لإشراكهم بالله عز وجل ، وهذا الإشراك سبب وباعث لسعيهم على إرتداد المسلمين ، وهما كالأصل والفرع فأراد الله عز وجل كفاية المسلمين باشغال الكفار بأنفسهم ، وجعلهم عاجزين عن المكر والكيد والأغواء ، قال تعالى [أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ] ( ).
الثالث : بل الله خير الناصرين سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) لما أخبرت الآية السابقة عن نصرة الله للمسلمين تفضل سبحانه وبيّن في هذه الآية وجهاً من وجوه هذه النصرة من جهات :
الأولى : عدم إختصاص النصرة بحال القتال وميادين المعارك .
الثانية : مجئ النصرة في أمور العقيدة ، بتعاهد ثبات المسلمين في منازل الهداية .
الثالثة : من النصرة ما يتعلق بمقدمات القتال فصيرورة الإنسان بحال من الرعب سبب لتخلفه عن اللقاء في الميدان ، ومن الإعجاز في آية البحث أنها جاءت بصيغة الجمع [قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا] ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة رؤساء الكفر والضلالة .
الثاني : المقصود عموم الذين كفروا .
الثالث : خصوص الذين يسعون في إرتداد المسلمين .
والصحيح هو الثاني ، لأصالة العموم وللجامع المشترك في علة إلقاء الرعب وهو الشرك بالله .
الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ).
وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) وفيه إكرام المسلمين من جهات :
الأولى : النداء للمسلمين بصفة الإسلام .
الثانية : الأمن والسلامة للمسلمين من الرعب .
الثالثة : تفضل الله بإخبار المسلمين عما يلحق الذين كفروا من العقاب العاجل بسبب إختيارهم الشرك .
وكما تفضل الله وأخبر الملائكة عن خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فقد تفضل الله في آية البحث وأخبر الذين آمنوا بالله ورسوله عن حال الكفار وما يلحقهم من الأذى .
الرابعة : إرادة تثبيت المسلمين في منازل الإيمان , وتحبيبه إلى نفوسهم لما في الكفر من الضرر وسوء المنقلب ، قال تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ]( ).
الخامسة : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة أسرار الأذى الذي يلحق الكفار .
السادسة : تفضل الله عز وجل على المسلمين بالصبر في ميدان المعركة ، فحتى إذا رأى المسلم الكفار يبذلون الوسع في القتال ويتناجون بالصبر ، فأنها حال زائلة لأن الرعب سيدب إلى قلوبهم ، وهو من أسرار مجئ السين في [سَنُلْقِي] وما تفيده من معاني الإستقبال .
ومن الإعجاز في تأريخ المعارك بين المسلمين والكفار عجز الكفار عن المرابطة في الثغور وفي خطوط المواجهة ، فان قلت قد حاصروا المدينة أكثر من عشرين ليلة في معركة الخندق , والجواب هذا صحيح ، وفيه وجوه :
الأول : حدث الحصار مرة واحدة .
الثاني : عجز الكفار عن إختراق الخندق .
الثالث : إختيار الكفار الإنسحاب والهزيمة .
الرابع : كانت معركة الخندق فيصلاً ، بدل على إمتلاء قلوب الذين كفروا الرعب قبل وأثناء وبعد المعركة .
الخامس : البشارة المتقدمة زماناً بإنكسار الأحزاب ، قال تعالى [جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ] ( ) فنزلت الآية أعلاه من مكة المكرمة ليأتي تأويلها ومصداقها في معركة بدر وأحد والخندق ومعنى [جُندٌ] في الآية أعلاه أي أتباع ليس فيهم رشيد أوحكيم .
وعن حذيفة بن اليمان قال (لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال:
من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع ؟ فشرط له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرجعة، أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة.
فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد، فلما لم يقم أحد دعاني، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون ، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا.
قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان ، فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه.
قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذى كان إلى جنبي فقلت: من أنت ؟ قال فلان بن فلان، ثم قال: يا معشر قريش أنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذى نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنى مرتحل.
ثم قام إلى جمله وهو معقول , فجلس عليه , ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.
ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي : لا تحدث شيئا حتى تأتيني.
لقتلته بسهم.
قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو قائم يصلي في مرط ( )لبعض نسائه مرحل( )، فلما رأني أدخلني إلى رجليه وطرح على طرف المرط، ثم ركع وسجد وإنى لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم) ( ).
السابعة : بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن أعداءه يصابون بالخوف والفزع المستمر .
الثامنة : دعوة المسلمين لقتال الكفار المشركين لرجحان كفة المسلمين بالأمن والسكينة ، ولوهن وضعف المشركين باصابتهم بالخوف والرعب .
التاسعة : التخفيف عن المسلمين في دعوتهم إلى الله بصيرورة المشركين في فزع وخوف ، وتخلف عن الجدال ولغة البرهان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )فمن مصاديق ملكيته المطلقة إبتلاء أعدائه بالخوف والفزع .
العاشرة : هل لإيمان المسلمين موضوعية في إصابة الذين كفروا بالرعب ،الجواب نعم ، وتلك آية من بديع صنع الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) بتقريب أن من يتخلف عن الإيمان ويصر على الكفر , ويبقى في مستنقع الشرك يبتلى بإمتلاء قلبه بالخوف والرعب .
الثاني : تقدير الجمع بين الآيتين [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] وفيه مسائل :
الأولى : تفضل الله عز وجل بإخبار المسلمين عن علة إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب .
الثانية : حث المسلمين على بيان أضرار الشرك بالله على النفس الإنسانية , وعلى الفرد والجماعة ، وفيه زجر للناس عن الشرك ومفاهيم الضلالة .
الثالثة : تفقه المسلمين في معرفة علل الأحكام ،وأسباب الأذى الذي يأتي للإنسان في الدنيا بالجحود والشرك .
الرابعة : دعوة المسلمين للصدور عن القرآن والتقيد بأحكام التنزيل .
الخامسة : لزوم التصديق بالنبوة والإخبار بأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما نزّل الله به حجة وبرهاناً .
السادسة : ذم عبادة الأصنام والتوسل بالأوثان ،وتأكيد إنتفاء العذر للكافرين في إصرارهم على الجحود .
وجاءت أخبار السنة النبوية بمصداق هذا الرعب في حال السلم والحرب .
الثالث : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا مأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ) وفيه مسائل :
الأولى : بيان شاهد على أن المسلمين أئمة الناس في سبل الهداية والدعوة إلى الصلاح .
ومنها الإخبار عن سوء عاقبة الذين يموتون على الكفر بأن مقامهم هو النار ، ومن إعجاز القرآن أن تأتي البشارة والإنذار بآيتين متعاقبتين ، قال تعالى [يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابن وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
الثانية : في الجمع بين الآيتين شفاء لصدور المؤمنين بما سوف يلقاه الكفار من العذاب الأليم .
الثالثة : تذكير المسلمين باليوم الآخر ، وإستحضار ذكره في العبادات والمعاملات والأحكام , لأنه زاجر عن التعدي والتفريط .
الرابعة : دعوة المسلمين لإتخاذ عالم الحساب والجزاء وسيلة لحث الناس وجذبهم إلى الإيمان والتنزه عن الكفر .
الخامس : لما تفضل الله عز وجل وقال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فان مصاديق هذه الرحمة من اللامتناهي من وجوه :
أولاً : أسباب ووسائل رحمة الله بالبعثة المباركة .
ثانياً : تجلي اللطف في مقدمات رحمة الله عز وجل .
ثالثاً : مواضيع رحمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : منافع رحمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
خامساً : الدروس المستقرأة من خصوص شآبيب الرحمة بالبعثة المباركة .
سادساً : رحمة الله بالبعثة الخاتمة توليدية بمعنى أنها تنحل إلى مصاديق متكثرة من الرحمة .
سابعاً : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باب للتوبة يتصف بأمور :
الأول : بقاء هذا الباب مفتوحاً إلى يوم القيامة .
الثاني : تهيئة أسباب الترغيب بالتوبة .
الثالث : العموم في شمول التوبة وإمكانها للناس جميعاً [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا] ( ).
ثامناً : إقتران الحجة والبرهان بلزوم التوبة والإنابة ، ومنه الحجج الباهرة والدلائل القاطعة على صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم .
تاسعاً : تبعث وقائع بدايات البعثة النبوية السكينة في النفوس الشوق والرغبة في الإسلام ، فبعدما نزل قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ).
وضم جبرئيل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ثم تجلى له بصورة رجل صادف قدميه في أفق السماء وهو يقول يا محمد أنت رسول وأنا جبرئيل , إنصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله ليقص الخبر على خديجة ، فقالت (إنّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيّ هَذِهِ الْأُمّة
ثُمّ قَامَتْ فَجَمَعْت عَلَيْهَا ثِيَابَهَا ، ثُمّ انْطَلَقْت إلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْن قُصَيّ ، وَهُوَ ابن عَمّهَا ، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، فَأَخْبَرْته بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَنّهُ رَأَى وَسَمِعَ فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : قُدّوسٌ قُدّوسٌ وَاَلّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ لَئِنْ كُنْتِ صَدّقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ لَقَدْ جَاءَهُ النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى ، وَإِنّهُ لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ فَقُولِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ .
فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَأَخْبَرْته بِقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، فَلَمّا قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ جِوَارَهُ وَانْصَرَفَ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بِهَا ، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ يَا ابن أَخِي أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّك لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ وَلَقَدْ جَاءَك النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي جَاءَ مُوسَى وَلَتُكَذّبَنّهُ وَلَتُؤْذَيَنّهُ وَلَتُخْرَجَنّهُ وَلَتُقَاتَلَنّهُ وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنّ اللّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ ثُمّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ فَقَبّلَ يَافُوخَهُ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَنْزِلِهِ .) ( ).
وتحتمل الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس من جهة الحكم والكيف والأثر وجوهاً :
أولا ً: نسبة التساوي بين الناس .
ثانياً : ما يأتي من الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين أكثر وأعظم مما يأتي لغيرهم .
ثالثاً : إنتفاع أهل الكتاب من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر مما ينتفع منها الذين كفروا .
رابعاً : إرادة التفصيل وهو التساوي في أصل البعثة مع المائز والراجح بالنسبة للمسلمين .
والمختار هو الأخير ، إذ جاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للناس جميعاً للهداية والإيمان ، وإنتفع المسلمون منها الإنتفاع الأمثل وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وهذا لا يعني إنقطاع الرحمة في نبوته عن أهل الكتاب والناس جميعاً بل هي مستمرة ومتجددة في كل زمان لذا وردت الآية بصيغة الإطلاق من جهة ذات الرحمة , ومن جهة المتلقي بلفظ العالمين .
ترى ما هي أسباب الشفاء , الجواب من وجوه :
الأول : سعي الكفار في محاربة الإسلام .
الثاني : إختيار الكفار وبظلم وعناد الشرك والضلالة .
الثالث : غواية الكفار الناس وصيرورتهم قدوة ضلالة لهم .
الرابع : إرادة الكفار إرتداد بعض المسلمين وإغوائهم ولحوق الخسارة بهم وبالإسلام , وقال أبو فراس الحمداني :
معللتي بالوصل والموت دونه . إذا مت عطشاناً فلا نزل القطر( )
فهل ينطبق إغواء الكفار لغيرهم على عجز هذا البيت وما فيه من الشح والأنانية ، الجواب لا ، فالعطش في البيت ، أعلاه يأتي قهراً أما الكفر فهو بسوء إختيار العبد ، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن الإيمان قريب منه في كل أيام حياته وإلى حين مغادرته الدنيا .
وأيهما أقرب لقلب الكافر الإيمان أم الرعب ، الجواب هو الأول ، ولكن الكافر يمتنع عن الحق فيظلم نفسه .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا سنلقي في قلوبهم الرعب , وفيه مسائل :
الأولى : بيان مصداق لولاية الله للمؤمنين وحضورها حتى في حال إصابة المسلم بالوهن وإنجراره إلى طاعة الذين كفروا ، إذ يبعث الله عز وجل الرعب في قلوبهم فيرى المسلم خورهم وجبنهم ووهنهم وأنهم ليسوا أهلاً للطاعة والإنقياد .
ومن معاني وآثار إمتلاء القلب بالرعب العجز عن القيادة والزعامة ، وفيه ترغيب للمسلمين في الجهاد ،وأمل بتحقيق النصر على الذين كفروا ، وهو من مصاديق اسم التفضيل في الآية السابقة [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ).
ويفيد الجمع بين آية البحث والسياق بأنه إذا أطعتم الذين كفروا فستجدونهم فزعين خائفين , ومن مصادر هذا الخوف أمور :
الأول : خوف الكفار من نزول آيات قرآنية تذمهم وتخبر عن سوء إختيارهم , وشدة العذاب الذي ينتظرهم .
الثاني : الخوف من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته إلى الإيمان بالحجة والبرهان ، لأن الكفار ليس عندهم دليل أو برهان على إختيارهم الكفر ، لذا قال تعالى [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا].
الثالث : الخشية من المسلمين وشدة بأسهم , وهل تختص هذه الخشية بحال الحرب ، الجواب إنه أعم ويشمل حال السلم ، وهو من مصاديق ولاية ونصرة الله للمسلمين .
الرابع : خوف الذين كفروا من أنفسهم ، ومن بعضهم بعضاً ، قال تعالى [ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] ( ).
الخامس : فزع الذين كفروا من سوء العاقبة الذي تخبر عنه آية البحث ، وهو من مصاديق قانون كل آية قرآنية سلاح .
السادس : خوف الذين أشركوا من طاعة المسلم لهم فهم يريدون طاعة المسلم لهم ، ولكن إن أطاعهم إمتلأت قلوبهم بالخوف من جهات :
الأولى : موضوعية دخول الإسلام في جعل الإنسان يميز بين الحق والباطل ، والغث والسمين ، قال تعالى [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الثانية : عدم إنقطاع ولاية الله عز وجل عن المسلم حتى وإن أطاع الذين كفروا .
الثالثة : من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين من المسلم الذي يطيعهم ، والمسلم الذي لا يطيعهم.
الرابعة : الإطلاق في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إذ أن حمل المسلم على طاعتهم تعد وظلم .
السابع : خوف المشركين من السنة النبوية القولية والفعلية ،قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ).
الثامن : خوف الكفار من دخول شطر منهم الإسلام ، ومن الآيات أن إحتمال دخول الإسلام لا يختص بالأتباع منهم ، فحتى رؤساء الكفر يحتمل دخولهم في آية ساعة وفيه مصاديق كثيرة ، وقد يدخل رئيس قبيلة الإسلام فتسلم قبيلته كلها ، وهو أمر كان يخشاه رؤساء الكفر من قريش .
وهذه الخشية من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] وحينما أسلم ثمامة زعيم بني حنيفة هابته قريش ، وأصابها الرعب من الهّم بقتله , ثم قطع الميرة عن قريش (قَالَ ابن هِشَامٍ : فَبَلَغَنِي أَنّهُ خَرَجَ مُعْتَمِرًا ، حَتّى إذَا كَانَ بِبَطْنِ مَكّةَ لَبّى ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ دَخَلَ مَكّةَ يُلَبّي ، فَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ ، فَقَالُوا : لَقَدْ اخْتَرْت عَلَيْنَا ، فَلَمّا قَدّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ دَعُوهُ فَإِنّكُمْ تَحْتَاجُونَ إلَى الْيَمَامَةِ لِطَعَامِكُمْ فَخَلّوهُ فَقَالَ الْحَنَفِيّ فِي ذَلِكَ وَمِنّا الّذِي لَبّى بِمَكّةَ مُعْلِنًا بِرَغْمِ أَبِي سُفْيَانَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمْ وَحُدّثْت أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَسْلَمَ ، لَقَدْ كَانَ وَجْهُك أَبْغَضَ الْوُجُوهِ إلَيّ وَلَقَدْ أَصْبَحَ وَهُوَ أَحَبّ الْوُجُوهِ إلَيّ . وَقَالَ فِي الدّينِ وَالْبِلَادِ مِثْلَ ذَلِكَ .
ثُمّ خَرَجَ مُعْتَمِرًا ، فَلَمّا قَدِمَ مَكّةَ ، قَالُوا : أَصَبَوْت يَا ثُمَامُ ؟ فَقَالَ لَا ، وَلَكِنّي اتّبَعْت خَيْرَ الدّينِ دِينَ مُحَمّدٍ وَلَا وَاَللّهِ لَا تَصِلُ إلَيْكُمْ حَبّةٌ مِنْ الْيَمَامَةِ حَتّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
ثُمّ خَرَجَ إلَى الْيَمَامَةِ ، فَمَنَعَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا إلَى مَكّةَ شَيْئًا ، فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّك تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرّحِمِ وَإِنّك قَدْ قَطَعْت أَرْحَامَنَا ، وَقَدْ قَتَلْت الْآبَاءَ بِالسّيْفِ وَالْأَبْنَاءَ بِالْجَوْعِ فَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَيْهِ أَنْ يُخَلّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَمْلِ) ( ).
الخامس : تقدير الجمع بين الآيتين : إن تطيعوا الذين كفروا مأواهم النار ) وفي الآية مسائل :
الأولى : البيان والتفصيل في المسائل الإبتلائية في الحياة الدنيا ولزوم معرفة المسلم سنخية الذين يتعامل معهم من جهة الإيمان والكفر عندما يلزم الأمر الطاعة والإستجابة ، لذا يدل قوله تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ) على الحاجة إلى التفحص والتدبر كمقدمة لمعرفة الذين ظلموا والإحتراز منهم , ومن الميل إليهم .
ومن التخفيف عن المسلمين في آية البحث أنها جاءت بصيغة الجمع من الطرفين وهما:
الأول : الذين ينهاهم الله عن طاعة الكفار.
الثاني : الكفار الذين ينهى الله المسلمين عن طاعتهم.
لأن لغة الجمع وإشتراك الجماعة في الفعل يجعل الأمر أكثر وضوحاً، وهو من البيان فلا يغتر المسلم بالكفار وينجذب إليهم بل يحاكي إخوانه المسلمين في إجتناب طاعتهم.
الثانية : قد يقال بأن من معاني هذا الجمع بين الآيتين توبيخ المسلمين .
والجواب لا دليل عليه , إنما على فرض تقديره فانه يفيد تنبيه وتحذير المسلمين مع لزوم إعتماد قاعدة كلية في المقام , وهو لزوم عدم خروج معاني تقدير الجمع بين الآيات عن المعنى الأصلي الذي تشير إليه كل من الآيتين .
الثالثة : بعث النفرة في نفوس المسلمين من الكافرين وطاعتهم ، فمن الإعجاز في الجمع بين الآيتين الثناء على المسلمين بنعتهم بصفة الإيمان بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
ومن أسرار هذا الثناء إمتناع المسلمين عن الركون والإطمئنان للذين تكون عاقبتهم إلى النار ، لبيان سلامة المسلمين من طاعة الذين كفروا .
الرابعة : جاء الجمع في طرفي ومواضيع آية السياق ،أما الطرفان فهما :
الأول : الذين آمنوا , وتوجه النداء لهم مجتمعين ومتفرقين .
الثاني : الذين كفروا والتحذير منهم .
أما مواضيع آية السياق , وصيغة الجمع فيها ، فهي :
الأول : طاعة الذين كفروا .
الثاني : الإرتداد .
الثالث : الإرتداد على الأعقاب .
الرابع : صيغة الجمع في الإنقلاب [فَتَنْقَلِبُوا] .
الخامس : الخسارة لقوله تعالى [خَاسِرِينَ] لتدل هذه الصيغة على الضرر الفادح الذي يترتب على طاعة المسلمين للذين كفروا , فتفضل الله عز وجل وحذر المسلمين من هذه الطاعة , ومن خصائص هذا التحذير مسائل :
الأولى : بيان مصداق لولاية الله للمسلمين ، ودعوة المسلمين لإقتباس المسائل ، وإستنباط الدلائل والسنن من موضوع الولاية هذا .
الثانية : الثواب العظيم للمسلمين لإجتنابهم طاعة الذين كفروا , وبيان أن هذا الإجتناب أمر وجودي وليس عدمياً .
وجاءت آية البحث بذات صيغة الجمع ، لتشمل الذين كفروا , وفيه دعوة للمسلمين لأخذ الحائطة لدينهم .
الثالثة : ثبوت قانون وهو التنافي بين المسلمين والخسران العام، فهم في مأمن من هذا الخسران لأن الله عز وجل تفضل وجعلهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، مما يدل على تقيد المسلمين بالنهي الوارد في آية السياق.
الرابعة : يفيد الجمع بين الآيتين تنمية ملكة الحذر عند المسلمين, فقد يتعلق موضوع الطاعة الذي يقود إلى الخسارة في التخلف عن العبادات أو المعاملات أو القصور في الأحكام، أو الإنفاق أو في فنون القتال وغيرها.
الخامسة : من معاني الخسارة في آية السياق الحرمان من الأجر والثواب، وتفويت المصلحة وجلب المفسدة على النفس أو الغير، ومن رحمة الله بالمسلمين بعث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا لأمور:
الأول : الحيلولة بين المسلمين , وبين التفريط الذي يتفرع عن طاعة الذين كفروا.
الثاني : تخلف الكفار عن بلوغ مرتبة الأمر والنهي.
الثالث : إمتلاء نفوس الذين كفروا باليأس من طاعة المسلمين لهم، وهذا اليأس مقدمة لهزيمة الكفار، وهو مصاحب لهم منذ بدايات البعثة النبوية في مكة المكرمة.
وعن ابن عباس أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل في مكة ، ويزوجوه ما أراد من النساء ، ويطأون عقبه . فقالوا له : هذا لك عندنا يا محمد ، وتكف عن شتم آلهتنا ، ولا تذكرها بسوء . فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة هي لنا ولك فدلوه .
قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي ، فجاء الوحي { قل يا أيها الكافرون } ( )إلى آخر السورة وأنزل الله عليه { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون }( ) { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } ( ) .
وأخرج البيهقي في الدلائل عن الحسن قال : قال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إياك وأجدادك يا محمد . فأنزل الله { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } إلى قوله { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين }( )( ).
السادس : تقدير الجمع بين الآيتين سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب إن تطيعوهم يردوكم على اعقابكم )وفيه مسائل :
الأولى : بيان فضل الله على المسلمين بجعل الرعب الذي يملأ قلوب الذين كفروا برزخاً بينهم وبين السلطان والأثر والتأثير .
الثانية : إدراك المسلمين لحقيقة ، وهي عجز الكفار عن الفكر السليم والرأي السديد مما يدل على لزوم تنزه المسلمين عن طاعتهم والإنصات لهم .
الثالثة : التخفيف عن المسلمين بقصور الذين كفروا عن إغوائهم لأن قلوبهم ممتلئة رعباً وخوفاً .
الرابعة : بيان وجه من وجوه وأسباب ترتب الإرتداد على طاعة الذين كفروا وهو إستيلاء الرعب على قلوبهم ، وهل يقتبس الذين يطيعون الكفار من ذات الرعب الذي يملأ قلوبهم أم أن القدر المتيقن أنه خاص بهم .
الثالث : صلة هذه الآية بقوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ …] ( ).
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : بيان المائز بين المؤمنين والكفار في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
أما في الدنيا فان المؤمنين يثابون ويؤجرون لقوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا]لتصير الدنيا وعاء ومحلاً للثواب النازل للمؤمنين , بينما يملأ الرعب قلوب الكافرين .
وأما في الآخرة فان المؤمنين يأتيهم أحسن الثواب في ذات الوقت الذي يدخل فيه الكفار النار , ويحتمل دخول المؤمنين الجنة والكافرين النار وجوهاً :
الأول : تقدم دخول المؤمنين في الجنة زماناً على دخول الكافرين النار فيدعى الذين آمنوا من بين أهل المحشر إلى الجنان ، قال تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا] ( ).
الثاني : تقدم دخول الكافرين النار قبل دخول المؤمنين الجنة ، فيؤخذ الذين كفروا من بين الناس إلى النار , وكلما أخذ وفد منهم يشكر الباقون الله أنهم ليسوا معهم ، ويرجون النجاة من النار[ فَنَادَوْا وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ] ( ).
الثالث : إتحاد الوقت في دخول المؤمنين الجنة والكفار النار .
الرابع : لحاظ الترتيب بحسب الأجيال والطبقات من الناس ، فيبدأ الحساب والجزاء مع أولاد آدم ثم أحفاده ثم الذين بعدهم .
الخامس : موضوعية المرتبة والتقوى بالنسبة للذي يقدم من أهل الجنة ، فأول من يدخل الجنة الأنبياء والشهداء ثم يدخل عامة المؤمنين ، وكذا بالنسبة لأهل النار فيساق أولاً أشد الناس كفراً ، قال تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ] ( ) والمختار هو الثالث والخامس إذ لا تعارض بينهما . إلا مع الدليل على الترتيب في الدخول , كتقديم أهل الجنان تشريفا , ولأنه من مصاديق قوله تعالى في الشهداء [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
نعم ورد في سورة الزمر تقدم آية سوق الذين كفروا النار , قبل آية سوق المؤمنين الجنة ، في نظم القرآن ، ويدل على التقدم الترتيبي يوم القيامة .
عن أبي سعيد (قَالَ : إِنَّ آخِرَ رَجُلَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنَ النَّارِ يَقُولُ اللَّهُ لأَحَدِهِمَا يَا ابن آدَمَ مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ هَلْ عَمِلْتَ خَيْراً قَطُّ هَلْ رَجَوْتَنِى فَيَقُولُ لاَ أَىْ رَبِّ. فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ فَهُوَ أَشَدُّ أَهْلِ النَّارِ حَسْرَةً وَيَقُولُ لِلآخَرِ يَا ابن آدَمَ مَاذَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ هَلْ عَمِلْتَ خَيْراً قَطُّ أَوْ رَجَوْتَنِى فَيَقُولُ لاَ يَا رَبِّ إِلاَّ أَنِّى كُنْتُ أَرْجُوكَ. قَالَ فَيَرْفَعُ لَهُ شَجَرَةً فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَقِرَّنِى تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَآكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا.
وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا فَيُقِرُّهُ تَحْتَهَا ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِىَ أَحْسَنُ مِنَ الأُولَى وَأَغْدَقُ مَاءً فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَقِرَّنِى تَحْتَهَا لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا فَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَآكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا. فَيَقُولُ يَا ابن آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِى أَنْ لاَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهَا فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ هَذِهِ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا فَيُقِرُّهُ تَحْتَهَا ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِىَ أَحْسَنُ مِنَ الأَوَّلَتَيْنِ وَأَغْدَقُ مَاءً فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ هَذِهِ أَقِرَّنِى تَحْتَهَا. فَيُدْنِيَهُ مِنْهَا وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلاَ يَتَمَالَكُ فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ الْجَنَّةَ أَىْ رَبِّ أَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَلْ وَتَمَنَّهْ.
فَيَسْأَلَ وَيَتَمَنَّى مِقْدَارَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَيُلَقِّنُهُ اللَّهُ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ فَيَسْأَلُ وَيَتَمَنَّى فَإِذَا فَرَغ قَالَ لَكَ مَا سَأَلْتَ . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ « وَمِثْلُهُ مَعَهُ) ( ).
المسألة الثانية : من خصائص نظم آيات القرآن بيان حسن عاقبة الإيمان وسوء عاقبة الكفر والضلالة ، وفيه زجر للمؤمنين عن طاعة الذين كفروا فمتى ما جعل الإنسان خاتمة الأعمال أمام ناظريه تكون لها موضوعية في قوله وفعله , لذا تفضل الله سبحانه وأخبر في آية السياق عن حسن ثواب الربيين , وتضمنت آية البحث ذكر عذاب الذين كفروا يوم القيامة ، قال تعالى [الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ] ( ).
المسألة الثالثة : بين ذكر آية السياق للآخرة وذكر آية البحث لها عموم وخصوص مطلق ، فقد ذكرت آية السياق عالم الآخرة على نحو الإطلاق ، بينما ذكرت آية البحث خصوص النار ، وفيه نكتة وهي مجئ آية السياق بالوعد الكريم والإخبار عن الجزاء العظيم الذي ينتظر الربيين ، وذكرت عالم الآخرة بما يفيد دعوة الناس للتصديق باليوم الآخر ، وحثهم على التفقه في الدين ومعرفة عالم الحساب وأهوال يوم القيامة ، قال تعالى [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ]( ).
المسألة الرابعة : ذكرت آية السياق اسم الجلالة مرتين لمجيئها لبيان فضل الله وعظيم إحسانه ، ومن إحسانه تعالى أنه يحب المحسنين ، وهل التعدد في ذكر إسمه سبحانه في آية السياق من الإحسان الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : إنه تذكير بالله عز وجل ولزوم عبادته .
الثانية : تلاوة المسلمين لآية السياق من مصاديق ذكر الله عز وجل .
الثالثة : جاءت آية السياق بصيغة الوعد ، ومن الدلائل عليه تكرار اسم الجلالة .
الرابعة : تعدد الموضوع في آية السياق من وجوه :
الأول : ثواب الدنيا .
الثاني : ثواب الآخرة .
الثالث : حب الله للمحسنين .
الخامسة : بيان أن الثواب أمر عظيم يستحق ذكر اسم الله معه ، وكذا حب الله للمحسنين .
السادسة : تأكيد نكتة , وهي ترتب النفع العظيم على حب الله للمحسنين , ولا يختص هذا النفع بالمحسنين من المسلمين بل يشمل عموم الناس لبركة المحسن في جلب المصالح للناس ، ودعوتهم للهداية والإيمان .
وذكرت آية البحث اسم الجلالة مرة واحدة ، وفيه وعيد للذين كفروا لإشراكهم بالله ، ويفيد الجمع بين الآيتين بخصوص ذكر اسم الجلالة مسائل :
الأولى : الثناء على الله عز وجل لتفضله بالثواب العاجل للمؤمنين .
الثانية : حاجة المسلمين والناس للتصديق بعلم الغيب وعالم الآخرة ، (وفي بعض قصص موسى عليه السلام: إنه قال للخضر عليه السلام: بأيّ شيء أطلعك اللّه تعالى على علم الغيب؟ فقال: بترك المعاصي لأجل اللّه تعالى) ( ).
الثالثة : إستقراء الدروس من ذكر اسم الجلالة والأسماء الحسنى في الآية القرآنية ، ومعرفة أسرار تكرارها في الآية الواحدة .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : فآتاهم الله حسن ثواب الآخرة وسنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) وفيه مسائل :
الأولى : كما يتجلى التباين بين المؤمنين والذين كفروا في الإعتقاد والقول والعمل ، فانه يتجلى في الجزاء من وجوه :
الأول : الجزاء العاجل بالثواب للمؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثاني : الجزاء الآجل بحسن ثواب الآخرة للمؤمنين وسوء عاقبة الكافرين .
الثالث : إجتماع الجزاء العاجل للمؤمنين بالثواب , وبعث السكينة والطمأنينة في نفوسهم .
الرابع : إبتلاء الذين كفروا بالفزع والخوف , والعجز عن سبل الفلاح .
الثانية : القاء الرعب في قلوب الذين كفروا إنذار من وجوه :
الأول : إنه إنذار للكافرين من غضب الله عز وجل .
الثاني : إنذار الذين كفروا من الإقامة على الكفر ليكون العذاب العاجل رحمة بالناس ودعوة للتنزه عن الإقامة على الكفر، وهو من مصاديق الربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثالث : تحذير الناس للزوم الإمتناع عن إطاعة الذين كفروا بالبينة والبرهان لقانون أن الذي يملأ الله قلبه بالرعب يتخلف عن مرتبة المطاع في القول أو الفعل .
الثالثة : اذا تم تمييز الإنسان بين الرعب العاجل وحسن الثواب الآجل فانه لا يختار إلا الثاني وهو من أسرار ذكر اسم التفضيل في [حسن ثواب الآخرة] إذ أن النفوس تميل إليه .
الرابعة : الإنذار والوعيد باستئصال الذين كفروا وإصابتهم بالنقص في العدد والعدة ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
وهل ذات الإخبار على مجئ الثواب العظيم في الآخرة للربيين والمؤمنين مطلقاً سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا أم لا ، الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : الإخبار السماوي أن مقاليد الأمور بيد الله وأن [لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
الثانية : بيان حقيقة للناس جميعاً وهي وجود نعمة في الدنيا وهي البشارة بحسن ثواب الآخرة ، ويدرك الذين كفروا أنهم حرموا أنفسهم منها .
الثالثة : إستحضار الناس ليوم القيامة وعالم الجزاء وإفتقار الذين كفروا للثواب ، وخسارتهم لأنفسهم ، بينما يكون حسن الثواب معداً وحاضراً للذين آمنوا منذ أن كانوا في الدنيا إذ تطل آية السياق عليهم وعلى الناس كل يوم .
والصحيح أنها جاءت بخصوص الربيين من أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم إلا أنها عامة في موضوعها للمؤمنين .
ومن الإعجاز في الجمع بين الآيتين أمور :
الأول : تضمن كل آية من الآيتين ما يخص الدنيا وما يتعلق بالآخرة .
الثاني : بيان التباين بين المؤمنين والكفار .
الثالث : بعث السكينة في نفوس المؤمنين , والخوف والفزع في قلوب المشركين .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب والله يحب المحسنين ) وفيه مسائل :
الأولى : حث المسلمين على الشكر لله عز وجل على نعمة الإحسان التي تتقوم بالهداية .
الثانية : دعوة الناس للتدبر بحسن عاقبة الإيمان , وسوء عاقبة الذين كفروا .
الثالثة : هناك مسألتان :
الأولى : هل يكون حب الله للمحسنين سبباً في القاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثانية : هل يكون إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب سبباً لحب الله للمحسنين .
أما الأولى فنعم إذ يدل هذا الحب على عظيم قدرة الله وعلمه بما يفعل العباد والتباين بين المؤمنين والكفار .
وأما الثانية ، فالجواب هو [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( )إذ تبين آية السياق بأن علة حب الله هو الإحسان .
وأخبرت آية السياق عن مجئ الثواب العاجل للربيين بقوله تعالى فآتاهم ثواب الدنيا , أما بالنسبة للذين كفروا فأخبرت الآية بصيغة الإستقبال [سَنُلْقِي] وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس في الحياة الدنيا من جهتين :
الأولى : تعجيل الثواب للمؤمنين .
الثانية : الإمهال في نزول البلاء , ولا يؤدي هذا الإمهال بالناس إلى التفريط بواجباتهم لأن مجئ الآية بالوعيد تخويف وإنذار , ويدل على الأولى قوله تعالى في آية السياق [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا].
الثالث : إخبار الله عز وجل في آية البحث بأنه يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا لما في هذا الإخبار من الرحمة بهم .
المسألة السابعة : يفيد الجمع بين الآيتين الإخبار عن الدار الآخرة من جهتين :
الأولى : حسن ثواب الآخرة للربيين .
الثانية : إقامة الذين كفروا في النار .
وقد ذكرت آية البحث النار بالاسم وعلى نحو التعيين ، بينما ذكرت آية السياق الآخرة بخصوص ثواب الربيين ، ولم تذكر النار ، وهل يصح القول أن الكفار ينتظرهم سوء الثواب , الجواب نعم ، قال ابن دريد (والثواب: ثواب الله جلّ وعزّ علي ما عملتَه من خير أو شرّ، وهي المَثوبة والمَثْوَبَة. وأثابه الله يُثيبه إثابةً وثواباً) ( ).
ترى لماذا لم تذكر آية السياق الجنة بالاسم هل لنظم الآية وعطف الثواب العظيم في الآخرة على إتيان ثواب الدنيا ، وأنه لا يصح الجمع بينه وبين لفظ الجنة فلا يقال (فآتاهم الجنة ) الجواب لا ، لأن الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة مطلقاً حتى في نظم الآيات وتركيب الكلمات والألفاظ ، وفيه مسائل :
الأول : بيان أن الثواب للمؤمنين في الآخرة على مراتب ودرجات .
الثانية : تأكيد مجئ ثواب الربيين على المتعدد من العمل الصالح ، لإتصافهم بخصال حميدة ، وهي :
أولاً : الإيمان بالله عز وجل ، إيماناً لا يشوبه شك أو رياء ، فتفضل الله ونسبهم إلى نفسه ، وضمهم إلى حضرة القدس ، وأشهد الناس جميعاً على حبه لهم باختصاصهم بالاسم التشريفي [ ربيون ].
ثانياً : التصديق بالأنبياء لقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ( ) .
ثالثاً : مبادرة أصحاب الأنبياء إلى القتال معهم ، وتحت ألويتهم في التوجه إلى سوح القتال ، وهل يدل قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ] ( ) على تقيدهم بأوامر النبي في الهجوم والدفاع والمبارزة ، الجواب نعم , لأن المعية هنا مقيدة بالنبوة فالذين يقاتلون مع النبي يؤمنون بنبوته لا يصدرون إلا عن أمره ويجتنبون معصيته .
وتنفي الآية أعلاه لجوء الربيين إلى الفرار في القتال من جهات :
الأولى : الفرار من الزحف من الكبائر , وهو يتنافى مع ثناء الله عز وجل على الربيين ، قال تعالى [وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ] ( ).
الثانية : أصالة الإطلاق في آية السياق وصيغة القتال ، وأن الربيين كانوا مقاتلين شجعان في كل معركة .
الثالثة : بيان آية السياق لثبات الربيين في مواطن القتال وسلامتهم من الضعف والجبن مع شدة الأذى لقوله تعالى [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
ليدل قوله تعالى أعلاه بالدلالة التضمنية على عصمتهم من الفرار والإنهزام من باب الأولوية القطعية .
وهل يمكن تأسيس قانون وهو تنزه وسلامة أصحاب كل نبي من الإنهزام والإنكسار في الجملة ، الجواب نعم , من وجوه :
الأول : إكرام الله عز وجل للنبي الذي يقاتل في سبيل الله .
الثاني : تجلي معاني صدق الإيمان بالثبات في المعركة .
الثالث : إنه من نصرة الله عز وجل للأنبياء والربيين.
فان قلت هل أنهزم إكثر أصحاب رسول الله يوم أحد ، خاصة وأن القرآن أخبر عن فشلهم وظهور الجبن عليهم , كما في الآية التالية[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] ( ).
والجواب لم يتحقق مصداق الهزيمة والفرار على إنسحاب أكثر أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المعركة من جهات :
الأولى : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدد من أهل بيته وأصحابه يقاتلون وسط المعركة .
الثانية : تتصف الحرب بأنها كر وفر , والمدار على الخاتمة .
الثالثة: عودة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى القتال .
الرابعة : حمل كفار قريش على الإنسحاب والهزيمة يوم أحد .
الخامسة : تجلي المدد الملكوتي من عند الله .
(عن ابن عباس أنه قال: ما نَصَرَ الله في مَوْطِن كما نصره يوم أحد. قال: فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتابُ الله، إن الله يقول في يوم أحد: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } يقول ابن عباس: والحَسُّ: القتل { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ } الآية وإنما عنى بهذا الرماة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع، ثم قال: “احْمُوا ظُهُورَنَا، فَإنْ رَأيْتُمُونَا نقتل فَلا تَنْصُرُونَا وَإنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلا تُشْرِكُونَا. فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحُوا عسكر المشركين أكبّت الرُّماة جميعا [ودخلوا] في العسكر ينهبون، ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَهُم هكذا -وشبك بين يديه-وانتشبوا، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقُتل من المسلمين ناس
كثير، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أول النهار، حتى قُتِل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعةٌ، وجال المسلمون جَوْلَةً نحو الجبل ولم يبلغوا -حيث يقول الناس-الغار، إنما كان تحت المِهْراس، وصاح الشيطان: قُتل محمد، فلم يُشَك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نَشُك أنه حق، حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين، نعرفه بتلفته إذا مشى -قال: ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا-قال: فَرَقِيَ نحونا وهو يقول: “اشتد غَضَبَ اللهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ”. ويقول مرة أخرى: “اللَّهم إنه ليس لَهم أنْ يَعْلُونَا”. حتى انتهى إلينا، فمكث ساعة) ( ) .
ولم يحضر ابن عباس معركة أحد ، وكذا أبوه العباس بن عبد المطلب ، الذي أظهر إسلامه يوم فتح مكة وقيل (أسلم العباس قبل فتح خيبر وكان يكتم إسلامه) ( ) وولد عبد الله بن عباس في مكة في شعب أبي طالب قبل خروج بني هاشم منه قبل الهجرة النبوية بثلاث سنوات ، وهو مع أبيه في مكة يوم معركة بدر .
ولعل ابن عباس كان يروي عن أحد الصحابة الذين قاتلوا يوم أحد ، أو جرى دمج حديثين .
ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ) مجئ هذه النصرة على وجوه :
الأول : نصرة النبي بشخصه .
الثاني : نصرة النبي بأصحابه .
الثالث : نصرة النبي وأصحابه مرة واحدة , وفي واقعة متحدة لبيان أن فضل الله بالنصرة لا يختص بالنبي بل يشمل إكرام أصحابه وهو من الإعجاز والأسرار في تسمية أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم [ربيون]وإضافتهم في الاسم إلى الذات المقدسة ، لتأكيد أن النصر الذي يأتي من عند الله لهم فيه حصة وإن كان النبي بين ظهرانيهم ، فان غادر النبي إلى الرفيق الأعلى فان نصرة الله للربيين مستمرة غير منقطعة .
رابعاً :كثرة الربيين والمقاتلين مع كل نبي ، فمع أن الأصحاب والأنصار ينقص عددهم عند الشدائد والمحن وعند لمعان السيوف والندب إلى المعركة فان أصحاب كل نبي الذين يقاتلون معه كثيرون وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )من جهات :
الأولى : تعاقب بعثة الأنبياء في الأرض .
الثانية : إقتران النبوة بالقتال في أزمنة متعددة بالقتال ، ليكون أمر النبوة بخصوص القتال على وجوه :
الأول : شطر من الأنبياء لم يقاتلوا ، ولم يأمروا أصحابهم بالقتال إلى أن غادروا الدنيا , وفي لوط ورد قوله تعالى [إِنِّي مهاجراً إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الثاني : دلالة آية البحث على قتال شطر من الأنبياء لقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ].
الثالث : مغادرة بعض الأنبياء للحياة الدنيا من غير قتال ولكن أصحابهم قاتلوا من بعدهم دفاعاً عن النفس والدين .
ويلقي قتال الربيين الرعب في قلوبهم الذين كفروا في أزمنتهم ، وفي أزمنة لاحقة , وجاءت آيات الربيين الثلاثة المتقدمة( )، لتؤكد بقاء هذا الرعب إلى يوم القيامة .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في قصص القرآن ، ويمكن تأسيس قانون وهو أن كل قصة في القرآن سبب وموضوع ومادة لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) فمن حسن هذه القصص أنها تثبت الإيمان في نفوس المسلمين وتبعث الرعب في قلوب الذين كفروا .
ومن مصاديق قوله تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ] ( ) لما في قراءة القرآن من الموعظة والإنذار سواء أنصت الذين كفروا أو إستمعوا لها عرضاً ، وتنمي هذه القراءة عند المسلمين ملكة الإقتداء بالربيين ومحاكاتهم في الجهاد وعمل الصالحات مما يبعث الرعب في قلوب الذين كفروا .
خامساً : تأكيد قصد القربة في قتال الربيين وعدم تركهم له حتى عند الإصابة بالجراحات والكلوم وفقد الأحبة وسط المعركة لبيان كبرى كلية وهي عدم قتال الربيين عصبية أو حمية , وهو من أسباب إقتران بعث الرعب في قلوب الذين كفروا بدعوتهم إلى الإيمان .
ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليتوبوا إلى الله .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليتبين لهم قبح الكفر .
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب .
الرابع : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ببيان جهاد الربيين وإخلاصهم في نصرة الأنبياء .
الخامس : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بالإخبار عن عدم وهن المؤمنين .
السادس : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب إنذاراً من عذاب النار التي ينتظر الذين يموتون على الكفر والضلالة .
سادساً : بيان قانون أن الذين قاتلوا الربيين في العذاب الأليم إذ ذكرت آية البحث أن النار مأوى الذين كفروا .
ويدل التصديق بالأنبياء على وجوه :
الأول : أن بعثة كل نبي رحمة من عند الله وأن الله وحده هو الذي يختار الأنبياء ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( )إي أن الأنبياء يمتازون عن الناس بالوحي والتنزيل ، فمن يصدق بهم كأنبياء فانه يؤمن بأن الله عز وجل رب العالمين ، وهو الذي بعثهم (مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) ( ).
الثاني : الإقرار بعالم الآخرة والشهادة للأنبياء بالنبوة والبعثة من عند الله مقدمة للأمن يوم القيامة (عن أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ان العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل محمد فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به خيرا منه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيراهما وأما الكافر أو المنافق فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري كنت أقول كما يقول الناس , فيقال له لا دريت ولا تليت ثم يضرب ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة فيسمعها من يليه غير الثقلين من قتله بطنه) ( ).
الثالث : التصديق بالكتب السماوية المنزلة من عند الله على نحو الإجمال والتفصيل وقد صاحب التنزيل وجود الإنسان في الأرض إذ نزلت الصحف على آدم عليه السلام وعلى شيث وعلى إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى] ( ) .
وأنزل الله سبحانه الزبور على داود ، والتوراة والصحف على موسى عليه السلام .
وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام ، وأنزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي خطاب من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن ورائه عموم المسلمين والمسلمات [وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ] ( ) وهل ذات الخطاب يتوجه للربيين ، بلحاظ أنهم أصحاب الأنبياء السابقين الجواب لقد آمن الربيون بالتنزيل من وجوه :
الأول : الإيمان بالكتب السماوية السابقة لزمان كل طائفة من الربيين ، فآمن أصحاب إبراهيم عليه السلام بما أنزل على آدم وشيث ونوح وصالح وغيرهم ولو على نحو الإجمال ،وأمن أصحاب موسى عليه السلام بما أنزل على الأنبياء السابقين لأيامه ومنهم إبراهيم عليه السلام .
وآمن أصحاب داود على ما أنزل قبل أيام داود عليه السلام ،وآمن الحواريون بما أنزل على موسى والأنبياء السابقين لإدراك الربيين بأن الكتاب الذي أنزل على نبيهم ليس هو أول كتاب أنزل على الأنبياء ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ] ( ).
فان قلت قد تنخرم هذه القاعدة بأصحاب أول نبي ،فليس من تنزيل قبله كما في آدم عليه السلام ، والجواب لا تنخرم هذه القاعدة ،لأن الآية قيدت صفات الربيين بأنهم قاتلوا مع أنبياء زمانهم ولم يقاتل آدم أحداً من الإنس أو الجن بل قتل أحد ولديه الآخر , فصبر آدم وفوض أمره إلى الله .
وقال ابن أبي حاتم باسناده عن الإمام محمد الباقر عليه السلام (قال: قال آدم، عليه السلام، لهابيل وقابيل: إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يُقَرِّب القربان، فقربا قربانا حتى تَقَر عيني إذا تُقُبّل قربانكما، فقربا. وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكُولة غنمه، خَيْر ماله، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب مشاقة ( ) من زرعه.
فانطلق آدم معهما، ومعهما قربانهما، فصعدا الجبل فوضعا قربانهما، ثم جلسوا ثلاثتهم: آدم وهما، ينظران إلى القربان، فبعث الله نارًا حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق، فاحتمل قربان هابيل وترك قربان قابيل، فانصرفوا.
وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه، فقال: ويلك يا قابيل رد عليك قربانك. فقال قابيل: أحببتَه فصليتَ على قربانه ودعوت له فتُقُبل قربانه، ورد عليَّ قرباني.
وقال قابيل لهابيل: لأقتلنك
فأستريح منك، دعا لك أبوك فصلى على قربانك، فتقبل منك. وكان يتواعده بالقتل، إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه.
فقال آدم: يا قابيل، أين أخوك؟ قال: وبَعثتني له راعيا؟ لا أدري. فقال له آدم: ويلك يا قابيل. انطلق فاطلب أخاك. فقال قابيل في نفسه: الليلة أقتله. وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب، فقال: يا هابيل، تقبل قربانك ورد علي قرباني، لأقتلنك.4فقال هابيل: قربتُ أطيب مالي، وقربتَ أنت أخبث مالك، وإن الله لا يقبل إلا الطيب، إنما يتقبل الله من المتقين، فلما قالها غضب قابيل فرفع الحديدة وضربه بها، فقال: ويلك يا قابيل أين أنت من الله؟ كيف يجزيك بعملك؟ فقتله فطرحه في جَوْبة من الأرض، وحثى عليه شيئًا من التراب) ( ).
الثاني : إيمان الربيين بالوحي والكتاب الذي نزل على نبي الزمان الذي قاتل معه الربيون ، وبين الوحي والكتاب عموم وخصوص مطلق ، فالوحي أعم ، وليس كل نبي من الأنبياء ينزل عليه كتاب من السماء , ولكن الوحي سور الموجبة الكلية وعلامة النبوة فكل نبي ينزل عليه الوحي ، قال تعالى [ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا] ( ).
الثالث : إيمان الربيين بالكتاب أو الكتب التي تنزل من بعد أيامهم ، ويتجلى بالبشارة بالقرآن والتطلع لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويكون تقدير آية الربيين : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير تمهيداً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزجراً للذين كفروا عن محاربته , وهو من مصاديق قوله تعالى [ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( )بلحاظ أن من المن الإلهي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين تهيئة مقدمات النصر والإمامة والعمل بأحكام التنزيل .
المسألة الثامنة : يفيد الجمع بين آية البحث والسياق تأكيد حقيقة تأريخية وهي عدم طاعة الربيين للذين كفروا , فان قلت لم تذكر آيات الربيين الثلاثة هذا المعنى ، والجواب قد ذكرته في دلالاتها التضمنية بتصديق الربيين ببعثة نبي الزمان سبب لملأ قلوب الذين كفروا بالرعب ،وتلك آية في أسرار النبوة وتعاقب الأنبياء ، فكل بعثة لنبي سبب لبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار والمشركين لذا تفضل الله وجعل عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرين ألف نبي ، وأيهما أكثر عدد الأنبياء أم عدد الربيين .
الجواب هو الثاني بدليل قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]الذي يتضمن مسائل :
الأولى : إخبار الآية بحقيقة وهي مع كل نبي مؤمنون يقاتلون معه .
الثانية : إتصاف الربيين الذين مع النبي بأنهم كثير ، وهذه الكثرة تتجدد مع كل نبي ، وفيه وجوه :
أولاً : ذات الربيين الذين يصدقون بالنبي السابق يصدقون بالنبي اللاحق .
ثانياً : كل نبي يؤمن به ربيون غير أصحاب النبي السابق .
ثالثاً : إرادة الأمر الجامع فيومن بالنبي اللاحق أصحاب النبي السابق ، مع مؤمنين جدد لتعدد معجزات الأنبياء ولتعاقب أجيال الناس .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة .
الثالثة : أصحاب كل نبي أكثر من الربيين الذين قاتلوا معه .
وقد تقدم في الجزء الثامن عشر بعد المائة أن من أصحاب النبي من لم يقاتل معه كالقاعدين أو إن إيمانه لا يبلغه مرتبة القتال وعشق الشهادة ، وعلى فرض وجود منافقين في زمان الأنبياء السابقين فهل يعدون من أصحابهم ، الجواب لا ، لأن القدر المتيقن من الصحبة في المقام هي الصحبة الإيمانية .
وهل يصح تقدير الآية : وكأين من نبي قاتل معه المنافقين ربيون كثير ) الجواب لا ، من وجوه :
الأول : لم يقاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين.
الثاني : لم يقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين ولم يأمر بقتلهم مع معرفته بهم وتمكنه منهم وإخباره عن أسمائهم سواء الإخبار العام وهو على المنبر أو الإخبار الخاص لحذيفة بن اليمان مثلاً .
الثالث : وحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الرابع : تحمل الأنبياء السابقين الأذى من قومهم وتلقيه بالصبر وإتصال الدعوة إلى الله .
الرابعة : قتال الربيين بكثرتهم مع النبي وبين يديه وملاقاتهم للمشركين في سوح القتال.
المسألة التاسعة : يفيد الجمع بين الآيتين الترغيب بالإيمان، وبعث النفرة من الكفر والضلالة ، فان قلت إذا كانت قلوب الذين كفروا تمتلأ بالرعب فكيف يأتيها الترغيب والنفرة ثم أنهما متضادان فهل يجتمعان في القلب بلحاظ أنه محل متحد.
والجواب لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل , وجعله فيصلاً في التمييز بين الحق والباطل فيردان عليه فيميز بينهما , ويدرك لزوم إتباع الحق، وهو من وجوه إقامة الحجة على الإنسان في ذات خلقه وبديع تكوينه ليكون من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( )أي بما يساعده على إختيار الإيمان والنفرة من الضلالة .
وصحيح أن المعنى الظاهر من الآية أعلاه هو بديع هيئة الإنسان وأنه منتصب , ولم يمش على أربع أو محدودب الظهر لكن معناها أعم ، وعن ابن عباس في قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ]( ).
يقول : يرد إلى أرذل العمر ، كبر حتى ذهب عقله ، هم نفر كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين تسفهت عقولهم ، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم[فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ]( )، يقول : بحكم الله) ( ).
فتتداخل الأمور في الوجود الذهني لأنه أمر إعتباري ، وتتآزر آية البحث والسياق في جذب الإنسان إلى منازل الإيمان ولا يخرج الكافر من أسباب الجذب هذه , وكل فرد من الرعب والترغيب بالإيمان والنفرة من أسباب رحمة الله عز وجل فثواب الدنيا يقول للكافر هذا لك وبانتظارك لو تركت الكفر ، ويقول له الرعب إني مغادرك إن تنزهت عن الكفر .
فان قلت ورد عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفضيله على الأنبياء السابقين (قال : فضلت على الأنبياء بأربع : أرسلت إلى الناس كافة ، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً ، فأينما رجل أدركه من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره ، ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي ، وأحل لنا الغنائم)( )، فيكون التفضيل بخصوص مدة بعث الرعب وهي مسيرة شهر وأن الأنبياء السابقين على وجوه بخصوص الرعب :
الأول : من الأنبياء من يكون الرعب الذي يقذفه الله في قلوب إعدائه مسيرة يوم .
الثاني : من الأنبياء من يكون الرعب الذي يقذفه الله في قلوب أعدائه مسيرة يومين ، وهكذا إلى تسعة وعشرين يوماً ، خاصة وأن من الأنبياء من لم يقاتل .
الثالث : التباين في ماهية ومقدار الرعب الذي يقذفه الله في قلوب الأعداء .
الرابع : الحصر والتقييد في الجهة التي يقذف الله الرعب في قلوبهم، فقد يلقي الله الرعب في قلوب رؤساء الكفر وأرباب الشرك في أيام الأنبياء السابقين فان قلت إن أفراد الحديث الأخرى تفيد الإطلاق .
والجواب نعم، وقد يتعلق التفضيل في بعث الرعب بخصوص تمام مدة الشهر، ليكون بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين عموم وخصوص مطلق بخصوص طول المدة والمسافة التي يقذف الله عز وجل معها الرعب في قلوب الذين كفروا قبل وصول النبي وطلائع المؤمنين لهم، كما في أول الحديث أرسلت إلى الناس كافة، فان الأنبياء السابقين أرسلوا إلى قومهم وقراهم وقبائلهم ، وقال تعالى في خطاب للنبي محمد [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الصلة بين خاتمتي الآيتين : وفيها مسائل :
الأولى : ندب المسلمين إلى الإحسان ، ودعوة الناس إلى المبادرة لسبل الهداية إلى الإيمان ، فأول ما يبدأ الإنسان بالعمل والإحسان أن يحسن إلى نفسه بالهدى، وعن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية؟ قال : أية آية؟ قال : قوله { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرُّكم من ضل إذا اهتديتم } قال : أما والله لقد سألت عنها خبيراً ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر . حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوى تبعاً ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أيام الصبر ، الصابر فيهن مثل القابض على الحمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً ، يعملون مثل عملكم ( ).
الثانية : بيان التباين بين الإحسان والظلم في الماهية والعاقبة ، والإستدلال به على أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأن الحساب والجزاء ينتظران الناس على نحو الحتم والقطع .
الثالثة : بيان الملازمة بين الإيمان والإحسان وأن الذي يختار الإيمان يفوز بصفة ومرتبة الإحسان وفيه ثناء على المسلمين وبشارة للأجر والثواب ، قال تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الرابعة : أخبرت آية السياق عن الثواب والجزاء من عند الله على نحو متعدد وشامل للدنيا والآخرة ، وجاءت خاتمتها لبيان وجه آخر من وجوه الثواب الكريم من عند الله وهو حبه للمحسنين، وفيه أمور :
الأول : إرادة شمول المسلمين بالثواب، فبين المحسنين والربيين عموم وخصوص مطلق ، فالمحسنون أعم ، ليكون من الإعجاز في آيات الربيين وجوه :
أولاً : حصر موضوع الربيين بثلاث آيات .
ثانياً : مجئ آيتين من آيات الربيين في بيان خصال وجهاد الربيين، وإخبار الآية الثالثة عن الثواب العظيم الذي فازوا به .
ثالثاً : عدم حصر الثواب الوارد في الآية بالربيين فهو باق ومتجدد، قال تعالى[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ).
الثاني : بعث المسلمين للإحسان ومحاكاة الربيين في أفعالهم وأقوالهم في الخير .
الثالث : حب الله للعبد سبب لزيادة ومضاعفة ثوابه .
الرابع : قد يوجه بعض الناس والمنافقين اللوم للمؤمنين في صبرهم وجهادهم فأخبرت آية السياق بأن حب الله واقية من الذل والهزيمة وورد عن مجاهد ( في قوله عز وجل { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ }( )، قال: فئة من قريش: أبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: { غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ } حتى قدموا على ما قدموا عليه، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم) ( ).
الخامس : الإطلاق في حب الله للمحسنين من وجوه :
الأول : حب الله للمحسنين في الحياة الدنيا .
الثاني : إنتفاع المحسنين من حب الله لهم في الدنيا .
الثالث : ترشح النفع على الناس جميعاً من حب الله للمحسنين.
الرابع : حب الله للفرد الواحد من المحسنين , لأن الآية إنحلالية وتقديرها بالنسبة للمنفرد على جهتين :
الأولى : والله يحب المحسن .
الثانية : والله يحب المحسنة .
السادس : حب الله للمحسنين في الآخرة .
قال تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا] ( )ترى كيف يتجلى حب الله للمحسنين في الآخرة , الجواب إن العقول تقصر عن إدراك مصاديق حب الله للمحسنين في الآخرة , ومنها :
الأول : سلامة قلوب المحسنين من الخوف والفزع يوم القيامة .
الثاني : الجزاء بالأحسن من الأجر والثواب ، قال تعالى [وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى] ( ) .
الثالث : إمتلاء قلوب المحسنين يوم القيامة بالطمأنينة .
الرابع : عبور المحسنين الصراط المستقيم يوم القيامة لأن الله يحبهم ويكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين يحبهم الله يعبرون على الصراط يوم القيامة .
الصغرى : المحسنون يحبهم الله .
النتيجة : المحسنون يعبرون على الصراط يوم القيامة .
السابع : فوز المحسنين بالعفو والمغفرة من عند الله .
الثامن : لقاء المؤمنين النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الحوض يوم القيامة ، وعن أنس عن أسيد بن حضير قال: أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ لِلأَنْصَارِ : إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً ، قَالُوا : فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ( ).
التاسع : دخول المحسنين الجنة .
والمختار أن المراد بالمحسنين في الآية أعلاه هم المسلمون في الأجيال المتعاقبة وهم الذين أحسنوا إلى أنفسهم والناس بتصديقهم بالنبوة وأدائهم الفرائض والعبادات.
ومن مصاديق حب الله للمحسنين في الآخرة وجوه :
الأول : عجز الناس عن معرفة أحوال يوم القيامة , وما فيه من المواطن الكثيرة , وأسباب سلامة المؤمنين من الخوف والفزع.
الثاني : إتصاف ثواب المحسنين بالمضاعفة المستمرة من جهات :
الأولى : مضاعفة ثواب العمل الصالح للمؤمن حال قيامه به .
الثانية : تجدد مضاعفة الثواب في أيام الحياة الدنيا .
الثالثة : مجئ ثواب إضافي متجدد للمؤمن لمحاكاة المؤمنين له بذات العمل الصالح الذي قام به ، فما دامت له موضوعية في فعل الغير فان الله يرزقه الثواب , وإن لم تترجل هذه الموضوعية في العالم الخارجي أو لم تكن حاضرة في القلب عند العزم على القيام به ، إذ أن الله عز وجل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
الرابعة : تفضل الله بالثواب للمؤمن لإحسانه وهو في عالم البرزخ وصيرورة قبره روضة من رياض الجنة .
الخامسة : مضاعفة الثواب للمؤمنين لإحسانهم في عرصات يوم القيامة بما يخفف عنهم شدة أهوالها وهو من مصاديق قوله تعالى [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الثالث : تجليات سعة فضل الله يوم القيامة الذي يتغشى أهل المحشر كافة، فيفوز المحسنون بالنصيب الأوفر، وهل هذا التفضيل من مصاديق[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، أم أن فضل الله في رحمته يوم القيامة تأتي للناس على نحو التساوي.
الجواب هو الأول، ومضامين الآية أعلاه بلحاظ نظم الآيات عامة ومطلقة وشاملة للحياة الدنيا والآخرة.
الرابع : سعة رحمة الله يوم القيامة، وشمولها لمواطن الحساب وعالم الجزاء، وإنتفاع الناس منها، برهم وفاجرهم.
وعن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة طباق ما بين السماوات والأرض ، فجعل في الأرض منها رحمة فيها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحش بعضها على بعض ، وأخر تسعا وتسعين إلى يوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة مائة ( ).
صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ….] الآية ( )
تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) وفيه مسائل :
الأولى : بيان قانون شمول الموت للناس جميعاً ، ومجيئه على النفوس وإرادة ذات الإنسان .
وهل في آية السياق دلالة على أن النسبة بين النفس والروح هي العموم والخصوص المطلق , الجواب نعم ، وقيل بنسبة التساوي بينهما، فالنفس أعم لأن في الموت مغادرة الروح للبدن وللحياة الدنيا ، وسكون وتلف البدن والأعضاء ولجوء الأحياء إلى دفن الميت في سنة متوارثة من أيام أبينا آدم.
ومن الإعجاز في أول دفن لإنسان لم يكن لأول أو ثاني إنسان سكن الأرض أو بتوجيه منه ، إنما بايحاء ومحاكاة بواسطة فعل الغراب لقابيل حين إعتدى على هابيل وقتله ، وقيل أنه حمل جثة أخيه لمدة سنة حتى تبعته السباع على الرائحة [فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ] ( ) ومن إعجاز القرآن في الآية أعلاه وجوه :
أولاً : لم يرد لفظ الغراب في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وتكرر فيها مرتين .
ثانياً : بيان موضوع وهو أن موضوعية الغراب في حياة الإنسان تجلت بإخبار الإنسان عن كيفية الدفن للدلالة عن كون الإنسان ممكنا محتاجا ، ولبيان لزوم عدم الإستكبار في التعليم والتحصيل .
ثالثاً : بيان قانون إنتفاع الإنسان من الحيوان ، وهو من مصاديق [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).
الثانية : من مصاديق الجمع بين الآيتين أن نفس الكافر تقبض وهو في رعب وخوف في الحياة الدنيا ليرد على أهوال القبر ويكون فيها الرعب مترشحاً عن عذاب البرزخ الإبتدائي ، وفيه بيان لرحمة الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرعب الذي يقذفه الله في قلوب الذين كفروا بسبب شركهم ، ليكون سبيلاً للتوبة والنجاة من عذاب القبر وشدته .
الثالثة : بيان فضل الله ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من البركات بحيث لا تقبض نفس الكافر إلا بعد أن تتوجه له معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تدعوه إلى الإيمان ، وإن إمتنع يهجم عليه الرعب فيملأ قلبه ويصاحبه ولا يفارقه إلا عند أحد أمرين .
الأول : التوبة والإنابة .
الثاني : الموت ومغادرة الدنيا .
ترى ما هي موضوعية قوله تعالى [بِإِذْنِ اللَّهِ]الجواب من وجوه :
أولاً : بيان لطف الله عز وجل بالعباد .
ثانياً : كل يوم يمر على الإنسان وهو حي في الحياة الدنيا نعمة عظيمة من عند الله ، فتعيين أجل الإنسان لا يعني بقاءه حياً بالأسباب والعلل المادية وماهية الخلق وعمل القلب وأعضاء البدن بل كل نفس يأخذه الإنسان هو بعلم وإذن من الله عز وجل ،وفي التنزيل [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ).
ثالثاً : من حكمة الله إمهال الناس ليتدبروا في الآيات الكونية ومعجزات الأنبياء , وهل يمكن تأسيس قانون بأنه كل ما تقدم الإنسان في العمر إزداد تدبره في الآيات ، وصار أقرب للإيمان ، الجواب نعم ، وهو من فضل الله بلحاظ أن تقادم أيام العمر تراكم ومضاعفة للتجربة والتدبر في البراهين والحجج ، وإدراك لزيف الكفر وبطلان الشرك وأسباب الضلالة .
الثاني : لقد أخبرت آية السياق عن كون موت أي إنسان لا يقع إلا بإذن الله , وأخبرت آية البحث بأن الله عز وجل يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا ، ليكون إلقاء هذا الرعب على وجوه :
الأول : إنه بأمر من عند الله .
الثاني : يتولى الله عز وجل نفسه إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثالث : يلقى الرعب في قلوب الذين كفروا بإذن الله .
الرابع : يقوم الملائكة بالقاء الرعب في قلوب الكفار .
الخامس : صيرورة إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب مقدمة لإجهاز الملائكة والمؤمنين عليهم كما في واقعة بدر , إذ ورد عن ابن عباس أنه (إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عليها نزلوا على الماء يوم بدر فغلبوا المؤمنين عليه ، فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين ومحدثين؟ فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن فقال لهم : أتزعمون أن فيكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنكم أولياء الله وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون مجنبين ومحدثين؟ حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المؤمنون ، وملأوا الأسقية ، وسقوا الركاب ، واغتسلوا من الجنابة .
فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت أقدامهم ، وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة ، فبعث الله المطر عليها فلبدها حتى اشتدت وثبت عليها الأقدام ، ونفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجميع المسلمين وهم يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، منهم سبعون ومائتان من الأنصار وسائرهم من المهاجرين ، وسيد المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة لكبر سنه .
فقال عتبة : يا معشر قريش إني لكم ناصح , وعليكم مشفق لا أدخر النصيحة لكم بعد اليوم ، وقد بلغتم الذي تريدون وقد نجا أبو سفيان فارجعوا وأنتم سالمون ، فإن يكن محمد صادقاً فأنتم أسعد الناس بصدقه ، وإن يك كاذباً فأنتم أحق من حقن دمه . فالتفت إليه أبو جهل فشتمه وفج وجهه , وقال له : قد امتلأت أحشاؤك رعباً . فقال له عتبة : سيعلم اليوم من الجبان المفسد لقومه.
فنزل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، حتى إذا كانوا أقرب أسنة المسلمين قالوا : ابعثوا إلينا عدتنا منكم نقاتلهم . فقام غلمة من بني الخزرج فاجلسهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : يا بني هاشم أتبعثون إلى أخويكم – والنبي منكم – غلمة بني الخزرج؟ فقام حمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبيدة بن الحارث ، فمشوا إليهم في الحديد فقال عتبة : تكلموا نعرفكم ، فإن تكونوا أكفاءنا نقاتلكم . فقال حمزة رضي الله عنه : أنا أسد الله وأسد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال له عتبة : كفء كريم . فوثب إليه شيبة فاختلفا ضربتين فضربه حمزة فقتله ، ثم قام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الوليد بن عتبة فاختلفا ضربتين فضربه علي عليه السلام فقتله ، ثم قام عبيدة فخرج إليه عتبة فاختلفا ضربتين فجرح كل واحد منهما صاحبه ، وكر حمزة على عتبة فقتله .
فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اللهم ربنا أَنْزَلْتَ عليَّ الكتاب وأمرتني بالقتال ووعدتني النصر ولا تخلف الميعاد « فأتاه جبريل عليه السلام ، فأنزل عليه { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين }( ) فأوحى الله إلى الملائكة { إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } فقتل أبو جهل في تسعة وستين رجلاً ، وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبراً ، فوفى ذلك سبعين وأسر سبعون] ( ).
الثالث : تتضمن كل من آية البحث والسياق التذكير بالموت وبينهما بخصوص الموضوع عموم وخصوص مطلق ، إذ تبين آية البحث لغة العموم في الموت وأنه شامل للناس جميعاً ، بينما ذكرت آية البحث خلود الذين كفروا في النار ، لإرادة التذكير بالموت بالواسطة ولحاظ ما بعده من عالم الحساب والجزاء .
الرابع : يفيد الجمع بين الآيتين إنذار الكفار بأن الموت قريب منهم ،وفيه مسائل :
الأولى : تقريب الرعب الأجل ، فاذا إجله الكافر يقترب ليس للآثار العضوية التي تترتب على الكيفية النفسانية المؤلمة فقط بل لأن الرعب تحذير وإنذار ، وإخبار بأن موت الكافر خير من حياته ، بلحاظ أن حياته تكون على وجوه :
أولاً : مناسبة ووعاء لزيادة الآثام .
ثانياً : إفتتان الناس بالكفر .
ثالثاً : إتعاظ الناس من نزول الموت بالكافر على نحو مباغت أو بأسباب طارئة .
نعم لو علم الله عز وجل أن الكافر يتوب إلى الله فانه سبحانه يمد في عمره ، فتأتي كل من آية السياق والبحث لإنذاره .
الثانية : هل إختار الذين كفروا الشرك والضلالة بأذن الله ، أم أن الموت وحده باذن الله ، الجواب جعل الله الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختيار إنما أراد الله عز وجل للإنسان أن يعمل بطاعته , وقال سبحانه [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) مما يدل على أن الكفر يفعل خلاف ما هو مأمور به ولكن هذا الفعل لا يحصل إلا بأذن الله ، وهو سبحانه غني عن العالمين ، فتفضل سبحانه وألقى الرعب في قلب الكافر لبعثه على النفرة من الكفر ز
وجاءت آية السياق لتذكيره بالموت وأنه باذن الله ، ليكون باعثاً له لطاعة أمر الله في عبادته , والتنزه عن الكفر .
السابعة : في الجمع بين الآيتين إنذار للناس جميعاً فلا خير في حياة مملوءة بالرعب والفزع والخوف من الموجود والمعدوم والظاهر والخفي لتختتم بالموت ثم العذاب بعد الموت الذي ينتظر الذين كفروا , وهو الذي تدل عليه آية البحث بقوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ].
الرابع : صلة قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( ) بهذه الآية , وفيه مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : وما محمد إلا رسول سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) وفيه وجوه :
الأول : إبتدأت آية السياق بحرف العطف ( الواو ) لإفادة إتصال مضامين الآية بما سبقها من الآيات ، أما آية البحث فأبتدأت بحرف الإستقبال (السين) وصحيح أنه لم يذكر ضمن حروف العطف إلا أنه يحتمل وجوهاً:
الأول : إفادة العطف بلحاظ نظم الكلام وسياق الآيات .
الثاني : الإستئناف وأنه بداية لموضوع مستقل .
الثالث : إرادة المقدمة والمدخل لكلام آخر متصل به ، كما في بيان سبب وعلة إلقاء الرعب في قلوب الكفار وهو إختيارهم الشرك وإقامتهم على الجحود.
ولا تعارض بين هذه الوجوه لأن تقسيم الحروف إلى حروف عطف وإستئناف ونحوه تقسيم إستقرائي في الصناعة النحوية ، ومعاني الحروف في آيات القرآن أعم دلالة .
ويمكن تأسيس قانون وهو عدم حصر معنى الآية بإعراب الكلمة , بل يشمل المعنى المستقرأ أموراً :
الأول : نظم الآية .
الثاني : إعراب الكلمة والحرف .
الثالث : أسباب النزول .
الرابع : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية .
الخامس : المعنى اللغوي للكلمة , وموضوعية الشعر العربي في دلالاتها .
السادس : المصاديق الخارجية , والشواهد التي تدل على صدق نزول الآية القرآنية من عند الله .
الثاني : بين لفظ الذين كفروا عامة ولفظ الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عموم وخصوص مطلق ، إذ أن الذين كفروا أعم من جهات:
الأولى : المقصود الذين كفروا بالله في الأزمنة السابقة والذين كذبوا بالآيات والتنزيل ، وهل في آية البحث تذكير بسوء عاقبتهم ، الجواب نعم ليكون مناسبة للإنذار , فيأتي هذا التذكير بوجوه :
أولاً : النص وعلى نحو صريح كما في قوله تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
ثانياً : بيان نصر الأنبياء وأصحابهم الذي يدل بالدلالة التضمنية على هزيمة الكفار.
ثالثاً : ذكر جهاد الربيين من أصحاب الأنبياء , وثباتهم في ميادين المعارك ، وقد تقدم في دعائهم [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
رابعاً : ذكر ما يترتب على بعثة الأنبياء وأسباب إستئصال الكفر والضلالة ، لذا ذكرتهم آية السياق [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]للتدبر في جهاد وصبر الأنبياء السابقين ومعرفة ما لاقوه من الأذى من قومهم بلحاظ صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعمله لما لاقاه من قريش ، فان قلت ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ).
وهذا صحيح وفيه دلالة على ملاقاة الأنبياء الأذى من قومهم ولكن بمراتب يكون أذى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر منه.
الثانية : الذين كذبوا بالرسالات والكتب السماوية السابقة، وفيه دليل على رحمة الله عز وجل بالناس بتعاقب الأنبياء وتوالي نزول الكتب السماوية لتنزيه الناس عن الكفر ، ولتكون هذه البعثة مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( ).
الثالثة : الذين كفروا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كفار قريش ونحوهم .
الرابعة : إرادة الذين يكفرون بالنبوة والتنزيل من الأجيال اللاحقة .
الثالث : إخبار المسلمين بمدد متصل لهم من عند الله بوهن وضعف عدوهم فما يلقي الله عز وجل من الرعب في قلوبهم تترتب عليه آثار منها عجز الكفار عن المكر بالمسلمين .
وتضمنت آية السياق وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول على نحو التنكير والإطلاق ، فلم تبين الآية الذي أرسله، وفيه مسائل:
الأولى : بيان قانون كلي وهو إذا ورد لفظ (رسول) على نحو الإطلاق في القرآن فانه ينصرف إلى النبوة والرسالة من عند الله .
الثانية : بيان حقيقة وهي عدم وجود رسول آخر في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو مقدمة لتكذيب الذي يدعّي النبوة.
وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : زويت لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها ، وأعطيت الكنزين الأصفر والأبيض ، يعني : الذهب والفضة ، وقيل لي : إن ملك أمتك إلى حيث زوي لك .
وإني سألت الله عز وجل ثلاثا : أن لا يسلط على أمتي جوعا فيهلكهم به عامة ، وأن لا يسلط عليهم عدوا فيهلكهم ، وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض ، وإنه قيل لي : إذا قضيت قضاء فلا مرد له ، وإني لا أسلط على أمتك جوعا فيهلكهم ، ولا أسلط عليهم عدوا فيهلكهم ، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يقيم بعضهم بعضا ، ويقتل بعضهم بعضا ، وإن مما أتخوف على أمتي أئمة مضلين ، وإذا وضع فيهم السيف فلن يرفع إلى يوم القيامة ، وستعبد قبائل من أمتي الأوثان ، وستلحق قبائل من أمتي بالمشركين ، وإن بين يدي الساعة دجالين كذابين قريب من ثلاثين ، كلهم يزعم أنه نبي ، ولا نبي بعدي ، ولن تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ( ).
وجاءت آية البحث لإلقاء الرعب بهذا اللحاظ من وجوه :
أولاً : إلقاء الرعب في قلب الذي يريد إدعاء النبوة، وكل معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبب ومادة لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، وزجر عن إدعاء النبوة.
ثانياً : تغشي الإرباك والرعب لمن يدعي النبوة ،ومن ضروب الرعب فضحه بتخلف ما يدعيه عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً :إصابة الذين يتبعون الذي يدعي النبوة بالخوف والتباغض بينهم لإدراكهم في قرارة أنفسهم أنهم على باطل، فقد كانت معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كالشمس في رابعة النهار .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : وما محمد إلا رسول سنلقي في قلوب الذين كفروا برسالته الرعب ) لبيان ضرورة التصديق بالنبوة والرسالة وأنها فرع الإيمان بالله عز وجل لمقام الوحي والتنزيل ولأن الرسول يأتي بالأوامر والنواهي من عند الله، وبالرسالة تكون عبادة الله، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) من جهات:
الأولى : إتيان الناس العبادة وفق ما جاء به الرسول .
الثانية : التصديق بالأنبياء والرسل .
الثالثة : الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها، ومن الآيات أن المعجزات تدعو لنفسها بذاتها وأسرارها وما فيها من الأمر الخارق للمتعارف .
وكل آية من القرآن معجزة ، فلا غرابة أن يتضمن الجزء الواحد من هذا السفر تفسير آية واحدة منه ، وقد جاءت ثلاثة أو أربعة أجزاء في تفسير آية واحدة كما جاءت أجزاء متعددة خاصة بالصلة بين الآيات( ).
وقد تقدمت آيات الربيين وقتالهم مع الأنبياء ، وفيه بلحاظ الجمع بين آية البحث والسياق وجوه :
الأول : بيان قانون وهو كل من يكفر بنبوة نبي زمانه يلقي الله الرعب في قلبه .
الثاني : إلقاء الرعب في قلوب الكفار خاص بالذين يجحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بالرسل خاصة دون الأنبياء بلحاظ أن الرسول صاحب شريعة مبتدأة .
الرابع : الملازمة بين الرعب وإنكار معجزة أي نبي من الأنبياء .
والصحيح هو الرابع ، إذ تبين آية البحث علة إلقاء الرعب , وهو الشرك بالله .
وفيه آية بأن الربيين الذين قاتلوا مع الأنبياء كانوا يلاقون قوماً يملأ الرعب قلوبهم ، ومع هذا أصاب الربيين الأذى والضرر وإستعانوا عليه بالصبر والعزيمة والإستغفار والدعاء ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
وفيه رد على قول محتمل وجدال وشك , وهو إذا كان الرعب يملأ قلوب الذين كفروا من قريش , فكيف إنتصروا في جولة من معركة أحد ووقع سبعون شهيداً من المسلمين ، وهو لا يعني موضوعية الرعب في مرجوحية كفة الذين كفروا في القتال ، فتراهم يأتون بثلاثة أضعاف جيش المسلمين في العدد والعدة , ويصابون بالخيبة والخسران ، قال تعالى بخصوص معركة أحد [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ولقد فضل الله النبي محمد بالقاء الرعب والفزع في قلوب أعدائه , وفيه وجوه:
الأول : بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو نفاذ سهام الرعب إلى قلوب يجحدون بالنبوة.
الثاني : صيرورة الخوف سلاح في ملاقاة أعداء النبوة والتنزيل، ويزداد ويتراكم هذا الخوف، فيكون رعباً ، وهو من مصاديق صيغة الإستقبال (سنلقي) .
وتقدير الآية : سنلقي في قلوب الذين كفروا الخوف فيصرون على الكفر فيصبح الخوف رعباً , ويتضمن هذا المعنى إن قلوب الكفار ليست خالية من الخوف قبل مجئ الرعب.
الثالث : التباين في ماهية ومقدار الرعب الذي يقذفه الله في قلوب الأعداء.
الرابع : الحصر والقييد في الجهة التي يقذف الله الرعب في قلوبهم , فقد يلقي الله الرعب في قلوب رؤساء الضلالة الذين يحاربون الأنبياء .
وباستثناء الوجه الأخير ، فان الوجوه الثلاثة الأخرى كلها من مصاديق آية البحث ، إذ تبين علة الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا , وهو الشرك بالله ، ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا بالله الرعب كما ألقيناه في قلوب الذين كفروا من قبل بما أشركوا بالله .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا من قريش الرعب كما القيناه في قلوب الذين كفروا من قبل بما أشركوا بالله .
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا بنبوة محمد الرعب كما القيناه في قلوب الذين كفروا بالنبوات السابقة بما أشركوا بالله .
الرابع : سنلقي في قلوب الذين سيكفرون الرعب بما يشركون بالله .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل سنلقي في قلوب الذين أشركوا بالله الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً.
وفيه مسائل:
الأولى : إقتران الرعب بالجحود ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدلالة آية البحث ، وهل فيه تعارض مع قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) الجواب من وجوه :
الأول : سلامة آيات القرآن من التزاحم أو التعارض .
الثاني : تفسر آيات القرآن بعضها بعضاً ، وهناك تضاد بين سنخية علم التفسير والتعارض ، قال تعالى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ).
الثالث : إختصاص توجه الرعب لقلوب الذين كفروا على نحو الخصوص وفيه أمور :
اولاً : إرادة وقاية الناس من الإفتتان بالذين كفروا .
ثانياً : صيرورة الذين كفروا عاجزين عن جذب الناس إلى مفاهيم الضلالة أو جعلهم ينصتون إلى مغالطتهم .
ثالثاً : ما يصيب الكفار من الرعب سبب لتغشي شآبيب الرحمة الناس كلهم بالتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : التخفيف عن ذات الذين كفروا من جهة ثقل وشدة الأوزار التي يحملونها على ظهورهم يوم القيامة بلحاظ أن إمتلاء القلوب بالرعب سبب للإنشغال بالذات .
وهل إبتلاء الذين كفروا بالرعب يغزو قلوبهم مناسبة للتخفيف في تدوين ذنوبهم ومحو بعضها أو جعل الإثم عليها أقل مما لو لم يبتلوا بالرعب ، الجواب لا .
ويمكن إستقراء معاني الرحمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام بلحاظ حال العرب قبل البعثة النبوية وإنغماسهم في الجهل وعبادة الأوثان .
الرابع : بيان آية البحث لقبح الشرك بالله ، وترتب الضرر عليه في الدنيا ليكون هذا البيان إنذاراً من عذاب الآخرة ، ومن إعجاز آية البحث أنها ذكرت سوء عاقبة الذين كفروا , وأن النار مثواهم .
الخامس : إصلاح المجتمعات ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتحذير من الذين كفروا ، ومنع المسلمين من إتخاذهم بطانة، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ).
والخطاب في الآية أعلاه خاص بالمسلمين إلا أن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره خصوصاً وأن الآية أعلاه بينت تخلف الذين كفروا عن مراتب الخاصة والمشورة ،ومن نصرة الله للمسلمين صيرورتهم بطانة بعضهم لبعض .
فصحيح أن البطانة والوليجة أدنى مرتبة من ذي البطانة إلا أنها بذاتها مرتبة وشأن ورفعة , فلذا نهى الله عز وجل المسلمين عن إختيار بطانتهم من غيرهم .
فقد أراد الله لهم الثواب عندما يكونون بطانة للقيام بالنصح والإرشاد والتبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لا يشترط فيه مرتبة العلو ، فلا يجب أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأعلى والمتلقي هو الأدنى .
وفي البطانة جزء من الشورى بين المسلمين التي هي سبب لفعل الصالحات , وجلب المنافع ودفع المفاسد , والتنزه عن الظلم للذات والغير( ).
ومن خصائص البطانة الصالحة , ونصرة الله المسلمين بها أنها برزخ دون الفرقة والتشتت بينهم ، مما يؤدي إلى تثبيت أركان العز والرفعة عندهم ، وبعث معاني الخوف والفزع في نفوس عدوهم .
الثانية : من خصائص القرآن أنه يتضمن قصص الأمم السابقة ،وجهاد وأحوال الأنبياء السابقين ،والتباين في تلقي الناس لدعوتهم للإسلام ، فقد يتساءل المؤمن لماذا يمتنع كفار قريش عن دخول الإسلام , وهم أكثر الناس إدراكاً للمعجزات التي جاب بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من بين ظهرانيهم .
الثانية : من قواعد الحياة الإجتماعية عند قريش الحضور اليومي في البيت الحرام للتداول في شؤونهم ، خصوصاً وأنهم أهل تجارة ولهم صلات مع القبائل والدول وهي ملتقى طرق القوافل ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) مع التسليم بأنه بيت الله ،وأن إبراهيم عليه السلام بناه بتوجيه وإعانة من جبرئيل لعبادة الله .
الثالثة : رؤية قريش للمعجزات الحسية والعقلية تترى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : تناقل الناس لآيات القرآن ودخول القاصي والبعيد في الإسلام مع إصرار رؤساء قريش على الكفر والضلالة ، ومنهم أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يصد الناس عنه حتى في موسم الحج ، ومع أن الوحي مصاحب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتلقاه من جبرئيل من جبرئيل وأولى الناس بالتصديق به عمومته وعشيرته فانه يصبر على أذى قريش ، ولا يرد عليهم بالمثل ولا يدعو الله عليهم ، وهو معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجمع بين أمور :
الأول : إظهار المعجزة وإعلان النبوة ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ]( ).
الثاني : تجلي وتتابع الشواهد الإعجازية على رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : وجود أمة مؤمنة ، تصدق بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البيت والصحابة الذين يمكن تقسيمهم إلى أقسام :
أولاً : الصحابة الذين آمنوا في مكة قبل بيعة العقبة , ويدخل فيهم أهل البيت كعلي عليه السلام وخديجة والحمزة .
ثانياً : أهل بيعة العقبة .
ثالثاً : المهاجرون والأنصار الذين صارت المدينة المنورة محلاً لسكناهم ،وداراً لحكم الإسلام .
رابعاً : الصحابة الذين توافدوا على المدينة بعد وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها والنصر العظيم الذي تحقق يوم بدر.
خامساً : الصحابة الذين دخلوا الإسلام بعد صلح الحديبية وبعد فتح مكة من الرجال والنساء .
ليكون من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعدد طبقات الصحابة وكثرتهم ففي حين غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة إلى المدينة خائفاً ومعه أبو بكر ، وبات علي عليه السلام على فراشه .
خرج إلى مركز بدر في شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة , ومعه (ثلاثمائة وثلاثة عشر ) ( )من اصحابه .وقد ذكرت آية السياق سبق زمان الأنبياء قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ] ( ) لبيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ موضوع الصحابة من وجوه :
الأول : كثرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء السابقين ، ومنهم من كان يبعث لأسرته أو قريته ، وفي يونس ورد قوله تعالى [وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ]( ).
(عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } قال : يزيدون عشرين ألفاً) ( ) أن صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحدهم بعدد قوم أحد كبار الأنبياء الذين شرفهم الله عز وجل بالذكر في القرآن بالاسم .
الثاني : كل فرد من الصحابة سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، ولا يختص موضوع السببية هنا بالقتال والمبارزة بل دخول الصحابي في الإسلام يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا مع كثرتهم وغرورهم كما أن الصحابي حرب على الشرك ومفاهيمه , وآية في إنذار المشركين وزلزلة قواعد ومفاهيم الشرك والضلالة في الأرض ، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في دعوة الناس للإسلام ، ويرضى منهم النطق بالشهادتين وإتيان الفرائض ، ويتولى بنفسه دعوة الأفراد على مختلف مراتبهم وتباين شأنهم إلى الإسلام ، فهو يكتب إلى كسرى ملك الفرس ، وقيصر ملك الروم يدعوهما للإسلام ، ويجلس مع الفقير والعبد ويرغبهما في الإسلام.
وهل هذه الدعوة من أسباب إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا الجواب نعم لدلاتها على علو شأن الإسلام والإجهار بالدعوة ، وترغيب عامة الناس به ، وحثهم على التدبر في آياته , وتساوي الناس في تلقي الدعوة إلى الإسلام وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي] ( ).
الثالث : تعدد المدن والقبائل والأمم التي ينتمي إليها صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ليكون إسلام كل واحد منهم على وجوه :
أولاً : دعوة المسلم قومه للإيمان .
ثانياً : صيرورة الصحابي رائداً لقومه وعشيرته .
ثالثاً : بيان إنتفاء الحدود والعصبية في الإسلام .
رابعاً : ترغيب الناس في الإسلام .
خامساً : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
سادساً : إمتناع الناس عن قتال إخوانهم وأفراد قبائلهم من المسلمين ، فتعزف القبائل عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ولم يكن هذا الإمتناع بسبب الولاء والنسبية القبلية , ولكن أيضاً بتوالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وإحاطة الناس جميعاً بها.
سابعاً : إقامة الحجة على القبائل وأهل المدن بدخول إخوانهم الإسلام ، ومن الآيات أن الصحابة لم تنقطع صلاتهم مع قبائلهم ، وأخذوا يرسلون لهم الرسائل يدعونهم إلى الإسلام , ويتلون عليهم آيات القرآن ويبينون خصال النبوة التي تتجلى في قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( )وتترشح عن أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحميدة منافع عظيمة منها :
الأولى : سيرة وأخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة وشاهد على صدق نبوته ، وكان يسمى في الجاهلية (الصادق الأمين) .
وورد في سفر رؤيا يوحنا في العهد الجديد إشارة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصفته :
19: 11 ثم رأيت السماء مفتوحة و اذا فرس ابيض و الجالس عليه يدعى امينا و صادقا و بالعدل يحكم و يحارب
19: 12 وعيناه كلهيب نار وعلى راسه تيجان كثيرة وله اسم مكتوب ليس احد يعرفه الا هو
19: 13 وهو متسربل بثوب مغموس بدم ويدعى اسمه كلمة الله
19: 14 والاجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزا ابيض ونقيا
19: 15 ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الامم وهو سيرعاهم بعصا من حديد وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله القادر على كل شيء) ( ).
ومعنى ( يدوس معصرة خمر ) أي يحرم شرب الخمر , وورد عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة ، فنزل تحريم الخمر ، فنادى مناد ، فقال أبو طلحة : اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ فخرجت فقلت : هذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت . فقال لي : اذهب فأهرقها . قال : فجرت في سكك المدينة ، قال : وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ البسر والتمر ، فقال بعض القوم : قتل قوم وهي في بطونهم ، فأنزل الله [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا] ( ).
الثانية : تنمية ملكة الإستقامة والصلاح عند الناس ، ولما إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ليكون من علم الله عز وجل بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأخلاق حميدة من عظمتها أمور :
الأول : إنارة دروب السالكين في الأجيال المتعاقبة وإلى يوم القيامة.
الثاني : إنها سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثالث : هي زاجر للناس عن الشرك والأخلاق المذمومة .
فصحيح أن الدنيا دار إمتحان وتضاد وتناحر بين الحق وعمل الصالحات وبين الباطل وإرتكاب السيئات إلا أن هذا التناحر لا يتصف بالتكافؤ ، بل يكون الرجحان للأول , ومنه أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي حاضرة بين الناس يعلم بها المؤمن والكافر فيزداد إيمان المؤمن , ويملأ الرعب قلب الكافر .
الثالثة : مع أن الله عز وجل أثنى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشهد له بأنه [لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) فقد كان يواظب على سؤال الأخلاق الحميدة (إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ : إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اهْدِنِى لأَحْسَنِ الأَعْمَالِ وَأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَقِنِى سَيِّئَ الأَعْمَالِ وَسَيِّئَ الأَخْلاَقِ لاَ يَقِى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ)( ).
الرابعة : لقد جاء الإسلام لبناء الأسرة المؤمنة ذات الأخلاق الكريمة، والقائمة على تقوى الله عز وجل ،وتبين آيات القرآن أحكام النكاح والعشرة والطلاق وتربية الأولاد ومنهم الأيتام .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسن العشرة مع أزواجه , دائم السعادة معهن , يحول دون حدوث الخصومة بينهن ، يأكل معهن ، ويضاحكهن وينصت إلى كلامهن ويرد عليهن ، وهذا الرد وماهيته من الوحي ليكون قانوناً يتقيد به المسلمون والمسلمات ، لذا وردت أحاديث كثيرة مرفوعة عن أزواج النبي إنتفعت منها أجيال المسلمين .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم (خيركم خيركم لاهله وانا خيركم لاهلي) ( ).
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن حبه لأزواجه ليس عن نفس شهوية بل بفضل من عند الله ، وموعظة للمسلمين (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما حبب إلي من الدنيا النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة) ( ).
الرابع : ومن وجوه تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضوع الصحابة خروجهم معه إلى الغزو , وصدورهم عن أمره في السرايا ، ومرابطتهم في الثغور فأنعم الله عز وجل عليهم فأصبحوا أمراء وأقبلت الدنيا عليهم وكثر عندهم الذهب والفضة وأخذ الناس في الأمصار يتطلعون إليهم ليرووا لهم حديثاً عن النبي أو خبراً عن سنته الفعلية , فصار صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمة قائمة بذاتها .
الخامس : لقد تلقى التابعون وعموم المسلمين من الصحابة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول , وتدارسوا فيها وتعاهد الأجيال لسنته وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالثة : بيان عداوة الذين أشركوا لله والرسول والمؤمنين , وهل هم معادون لأنفسهم , الجواب نعم , لذا إبتلاهم الله بالرعب والهلع عن سبب جلي أو من دون سبب .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : أفان مات محمد أو قتل سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان معجزة متجددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن إصابة أعدائه بالرعب لن تنقطع بانتقاله إلى الرفيق الأعلى .
الثانية : الإخبار عن إتصال وتجدد المدد الإلهي للمسلمين وهو من مصاديق آية البحث , وتقديرها : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل افأئن مات أو قتل إنقلبتم على اعقابكم مع أن الملائكة تنزل مدداً لكم ، ويتفضل الله بالقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثالثة : ويحتمل سين الإستقبال في قوله تعالى [سنلقي ].
الأول :إختصاص الرعب الذي يلقى في قلوب الذين كفروا بخصوص ميادين المعارك مثل معركة بدر وأحد والخندق .
الثاني : الملازمة بين أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا .
الثالث : إستمرار إلقاء الرعب في قلوب الكفار إلى يوم القيامة.
والصحيح هو الأخير لوجوه :
الأول : من مصاديق بقاء شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم طروا النسخ عليها حتى قيام الساعة .
الثاني :من غايات الآيات التي تذكر بمقدمات وقيام الساعة أنها مناسبة لإلقاء الرعب في قلوبهم , كما في قوله تعالى [يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا] ( ).
الثالث : أصالة الإطلاق في الآية القرآنية.
ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [سنلقي ] أنه في كل آية في آيات القرآن إلقاء لالرعب في قلوب الذين كفروا .
ويكون هذا الإلقاء إضافة لما في قلوبهم من الرعب فيزداد ذاتاً وكماً وأثراً بأزدياد نزول آيات القرآن عقوبة عاجلة من الله على الإصرار على الشرك والضلالة .
الثانية : لعل شطراً من الكفار ينتظرون أوان موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فجاءت آية البحث بتحذير المسلمين من الإرتداد ، ليدرك الكفار ان بقاء أحكام الشريعة ، وتعاهد المسلمين والمسلمات لها بالعمل بمضامينها .
الثالثة : بعث الحمية الإيمانية في قلوب المسلمين بالتقيد بالأوامر والنواهي الواردة في التنزيل والسنة ، وهل هذا التقيد سبب لبعث الرعب في قلوب الذين كفروا ، الجواب نعم ، ليكون من فيوضات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] فوز المسلمين بالأجر والثواب ، وليكون هذا الرعب وإختصاصه بالكفار باباً فتحه الله و وموعظة من وجوه :
الأول : حث الكفار على التوبة .
الثاني : تجدد الثواب لأجيال المسلمين في كل زمان على قيامهم بما يكون سبباً لإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، ومنه أداء الفرائض والعبادات .
الثالث : بيان حقيقة وهي أن الرعب من جنود الله , وأنه ينفذ إلى القلوب.
الرابع : إختصاص نفاذ سلاح الرعب بالكفار , فالمؤمنون في سلام وأمن منه , وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الرابعة : دعوة المسلمين للمناجاة بتعاهد سنن الشريعة , وتلاوة القرآن والحرص على أداء الفرائض بشرائطها وأوقاتها ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] ( ).
إعجاز الآية
أخبرت الآية السابقة بأن الله عز وجل [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] وجاءت بعدها هذه الآية بالقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن نصرة الله لا تأتي للذين كفروا وإن قصّر وفرط المسلمون .
ويحتمل إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وجوهاً :
الأول : انه خاص بأيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمجئ سين الإستقبال القريب في [سَنُلْقِي].
الثاني : إفادة الإطلاق في كل الأزمنة من بدايات وجود الإنسان في الأرض إلى يوم القيامة .
الثالث : إرادة خصوص أيام الإسلام من حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يوم القيامة .
والصحيح هو الثاني بدليل ذكر الآية لعلة هذا الإلقاء ،وهو الإشراك بالله , وتقدير الآية : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب كما ألقيناه في قلوب الذين كفروا من قبل .
ومن إعجاز آية البحث التحدي بأن قدرة الله عز وجل تصل إلى القلوب ، وليس من قوة تستطيع أن تكون برزخاً أو حاجباً دونه ، وتتصف قدرة الله بخصوص القلوب وجوهاً :
الأول : شمول قلوب الناس جميعاً بسلطان قدرة الله عليها .
الثاني : تفضل الله بسلامة قلوب المؤمنين من إستحواذ الشك والريب عليها .
وعن أنس بن مالك قال :قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإن ذكر الله خنس ، وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس) ( ).
الثالث : رمي قلوب الكفار بالرعب ، وجعله مصاحباً لهم في حياتهم ، فصحيح أن محل الرعب هو القلب ، ولكن أثره يخرج على اللسان وفي الفعل ، ويكون كل منهما شاهداً على إعجاز آية البحث .
وقد يقال أن قوله تعالى [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] كاف لتقليل إلقاء الرعب في قلوب المشركين ، فلماذا جاء قوله تعالى [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] والجواب من جهات :
الأول : إكمال الحجة على الذين كفروا .
الثانية : تعليم المسلمين كيفية الإحتجاج وإقامة البرهان .
الثالثة : لقد بلغ المسلمون مرتبة من التفقه في الدين بمعرفة كفاية التلبس بالشرك لمهاجمة الرعب لقلب المشرك ، وفي التنزيل [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] ( ) فأراد الله عز وجل بآية البحث البيان والوضوح في الإحتجاج .
الرابعة : غلق باب الجدال والمغالطة على الذين كفروا , وتلك آية فمع أن باب المغالطة واسع وفيه نوع خصومة وعناد ،إلا أن الله عز وجل يغلقه على الذين كفروا في باب الإعتقاد ببيان إنتفاء الدليل والسبب للإقامة على الشرك والضلالة .
الخامسة : دعوة الناس لجعل موضوعية للتنزيل في الإعتقاد، والتدبر في المفاهيم وفق القرآن أو الكتب السماوية السابقة والوحي الذي يأتي للأنبياء ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] ( ).
وتبعث آية البحث النفرة في النفوس من الكفر , وتزجر الناس عن إتباع الكافرين لثقل وطأة الرعب على القلب والجوانح , وتبين الآية للناس سوء عاقبة الذين كفروا بأن محل إقامتهم يوم القيامة في النار جزاءً على جحودهم بالنعم وصدودهم عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فهذا الصدود سبب لإستيلاء الرعب على القلب والإقامة في العذاب الأخروي .
لقد جاءت الآية بالنص الذي يفيد أموراً:
الأول : النهي والزجر.
الثاني : المنع من طاعة الذين كفروا.
الثالث : بيان التضاد بين الواجب على العباد , وبين طاعة أعداء الله.
ليكون من إعجاز الآية في مفهومها ،دلالاتها دعوة الذين كفروا إلى طاعة الله، وجذبهم إلى منازل الإيمان ،وهو من الأسرار في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكون القرآن مدداً وإماماً في إصلاح النفوس , ومحاربة الكفر بلحاظ كبرى كلية وهي أن النهي عن طاعة الذين كفروا تضييق وحصر للكفر، ومنع من إنتشار مفاهيمه بين الناس، وشل لأيدي الكفار، وعزل لهم عن الناس.
ويمكن تأسيس قانون في الخطاب والنداء القرآني، إذ يتوجه للمسلمين , ولكن منافعه والآثار المترتبة عليه تشمل الناس جميعاً، لينهلوا منه بما يصلح أحوالهم، وينجيهم من الفسق والضلالة، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف والتبديل وسوء التأويل.
وتتضمن الآية التحدي بلحاظ أنها تبين قانوناً وهو أن الذين كفروا لا يأمرون إلا بالباطل وأسباب الضلالة ومفاهيم الجحود، لأصالة الإطلاق فيها، وفيه نكتة بيانية من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، وهو أن الذي يترشح عن الكفر من الأوامر إنما هو ضرر وشر محض.
ويمكن تسمية آية البحث [سَنُلْقِي]ولم يرد لفظ [سَنُلْقِي]في القرآن إلا مرتين.
إذ جاء في آية البحث بالتخويف الحاضر والإنذار في ذات الإنسان الذي يدرك برهانه الكافر بالكيفية النفسانية التي تصير عليها من الخوف والفزع ويحس بها الناس جميعاً بلحاظ قوله وفعله.
وورد مرة أخرى في القرآن بصيغة اللطف بالناس جميعاً والرحمة الدائمة إذ يتعلق بنعمة نزول آيات القرآن قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] ( ) وسيأتي مزيد بيان في باب علم المناسبة .
ويمكن تسمية الآية أعلاه (سنلقي عليك ) للفصل في الاسم بينهما.
ومن أسرار مجئ الآية بصيغة الإستقبال بخصوص إلقاء الرعب ، وفيه وجوه :
الأول : خلو قلوب الكفار من الخوف والرعب وأسباب الفزع مثل مجئ الرعب من عند الله .
الثاني : إرادة البيان وتجديد الرعب , ويكون تقدير الآية لقد ألقينا في قلوب الذين كفروا الرعب وسنلقيه في قلوبهم .
الثالث : ملازمة الخوف والفزع للكفر والجحود .
الرابع : صيرورة الخوف مقدمة للرعب والفزع ، ليكون بين الرعب والخوف عموم وخصوص مطلق ، فكل رعب هو خوف وليس العكس ، بلحاظ أن الرعب أشد وطأة من الخوف .
الآية سلاح
الآية سلاح من وجوه :
الأول : الآية سلاح للمسلمين والمسلمات بأن عذاب الله قريب من الذين كفروا , وهذا القرب ليس بإرادة الأشخاص إنما بلحاظ الأفعال ، وفيه ترغيب بالتوبة , وحث على ترك منازل الكفر والصدود عن النبوة والتنزيل .
الثاني : آية البحث تحذير لأهل الكتاب من الذين كفروا كما في كفار قريش ومحاربتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام , إذ نزلت هذه الآيات ليتعظ اليهود الذين كانوا في المدينة من بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع من كفار قريش الذين إتصلوا بهم لعقد حلف ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام فأبى شطر من اليهود مثل هذا الحلف وتخلف المنافقون عن نصرتهم ، بعد أن فضحهم القرآن ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ]( ).
الثالث : في الآية سلاح للناس ضد الكفر إذ أن الإنسان يبغض الرعب ولا يرضى لنفسه إستيلائه عليها .
وهل يشمل التسلح بآية البحث الذي كفروا أم أنهم خارجون بالتخصص أو التخصيص من مصاديق التسلح بالآية الكريمة ، الجواب هو الأول ، إذ أنها تبعث على إزاحتهم من منازل الكفر ،وتحثهم على التوبة والإنابة .
وهل من موضوعية للرعب في نفوسهم في التخلص من الكفر الجواب نعم ، وتلك آية في بديع خلق الإنسان فيصيب الكافر الرعب من بطش الله ومن سيوف المسلمين ومن العذاب يوم القيامة فيكون زاجراً له عن أسباب الكفر والضلالة .
ومن خصائص هذا الرعب أنه يصاحب الكافر في خلوته ، وعندما يأوى إلى الفراش فيفسد عليه يومه وليله ، ومن مصاديق ولوازم الكفر الإفتقار إلى الغبطة والسعادة .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب في الليل والنهار .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليصيبهم الفزع والجزع .
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لظلمهم لأنفسهم وزجرهم عن ظلم الناس .
وإن كان الذي يصيب الكفار خوفاً وخشية من عند الله لكان أمراً محموداً لما جاء بصيغة الرعب والفزع ،وبين الرعب والخوف عموم وخصوص مطلق ، فكل رعب هو خوف , وليس العكس وبينهما مراتب عديدة ، فالخوف يدخل القلب وقد يكون أمراً حسناً كما في الخوف من عند الله , وهذا الخوف مصاحب للمؤمنين من أول هبوط آدم إلى الأرض ، وفي التنزيل حكاية عن هابيل بن آدم [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] ( ) .
وعن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام يحدث رجلا من قريش قال لما قرب ابنا آدم القربان، قرب احدهما أسمن كبش كان في ظأنيته وقرب الآخر ضغثا من سنبل، فقبل من صاحب الكبش وهو هابيل ولم يتقبل من الآخر فغضب قابيل فقال لهابيل والله لاقتلنك، فقال هابيل (إنما يتقبل الله من المتقين لان بسطت الي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لاقتلك انى اخاف الله رب العالمين اني اريد ان تبوء باثمي واثمك فتكون من اصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل اخيه) فلم يدر كيف يقتله حتى جاء ابليس فعلمه، فقال ضع رأسه بين حجرين ثم اشدخه، فلما قتله لم يدر ما يصنع به فجاء غرابان فاقبلا يتضاربان حتى قتل احدهما صاحبه , ثم حفر الذي بقي الارض بمخالبه , ودفن فيها صاحبه، قال قابيل[يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ]( ).
فحفر له حفيرة ودفنه فيها فصارت سنة يدفنون الموتى , فرجع قابيل إلى ابيه فلم ير معه هابيل، فقال له آدم اين تركت ابني؟ قال له قابيل ارسلتني عليه راعيا؟ فقال آدم انطلق معي إلى مكان القربان واوجس قلب آدم بالذي فعل قابيل، فلما بلغ المكان استبان قتله، فلعن آدم الارض التي قبلت دم هابيل وامر آدم ان يلعن قابيل ، ونودي قابيل من السماء لعنت كما قتلت اخاك ولذلك لا تشرب الارض الدم، فانصرف آدم فبكى على هابيل اربعين يوما وليلة فلما جزع عليه شكى ذلك إلى الله فاوحى الله اليه اني واهب لك ذكرا يكون خلفا من هابيل، فولدت حواء غلاما زكيا مباركا، فلما كان اليوم السابع اوحى الله اليه يا آدم ان هذا الغلام هبة مني لك فسمه هبة الله، فسماه آدم هبة الله) ( ) .
وقيل (لا تخلو الرواية أعلاه عن تشويش في متنها حيث إن ظاهرها أن قابيل أوعد هابيل بالقتل ثم لم يدر كيف يقتل؟ و هو معنى غير معقول إلا أن يراد أنه تحير في أنه أي سبب من أسباب القتل).
وليس من تشويش في الرواية إنما هي تفسير لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما إحتج سبحانه على الملائكة الذين أنكروا جعل خليفة في الأرض مع أن هذا الجعل سبب لحدوث القتل والفساد في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
ليكون قتل ابن آدم لأخيه مصداقاً للآية أعلاه ، وشاهداً على علم الله عز وجل وإحاطته علماً بما تؤول إليه أحوال الناس ,وقد بينت الآية أعلاه بأن هابيل يعرف الكيفية الإجمالية للقتل بقوله تعالى [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي] ( )فذكر بسط اليد بقيد القتل .
إذ تبين الآية أن القتل في بدايته كان أمراً عظيماً وشديداَ ، وأن الإنسان لا يعلم كيفية القتل ولا تصل النوبة إلى الحيرة في إختيار أحد أسباب القتل ، بل لا يعلم كيفية مخصوصة للقتل إلى أن علّمه إبليس ، فكما أزل إبليس آدم وحواء وأغواهما في الأكل من الشجرة ، فأنه لحق ابن آدم في الأرض وعلمه كيفية القتل في أول واقعة للقتل ثم إبتدع الناس طرقاً وكيفيات في القتل ليبوء إبليس بأثم التسبيب بالقتل في تعليم كيفيته , وكان في الجنة عاجزاً عن تعليم القتل والوسوسة به.
وأظهر قابيل الندم لقوله تعالى [فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ] ( ) فآدم وأولاده يعلمون القتل وماهيته ،لأنه من مصاديق قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )ولكنهم لا يعلمون كيفية مخصوصة له أو كيفيات وأسباب عديدة للقتل يمكن التخيير بينها .
فأول كيفية للقتل جاءت بتعليم من إبليس ، وقد نهى الله عز وجل عن إتباع خطواته ،قال تعالى [كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )ولا دليل على حصر تعليم إبليس لكيفية واحدة من القتل , ليكون من مصاديق أية البحث بعث الرعب في قلوب الكفار لإجتناب القتل والإسراف فيه.
مفهوم الآية
لما أختتمت الآية السابقة بقانون [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]الذي يتغشى الخلائق كلها ولا يختص بالناس وحدهم ، وفيه نكتة وهي أن نصرة الله لأنبيائه والمؤمنين تشمل تسخير الموجودات وأفراداً من الخلائق لهم , ومنه أسباب الرزق الكريم للمؤمنين والقحط على الكافرين ، فان قلت قد يكون الكافرون في حال وسعة في الرزق وكثرة بالعدد والسلاح أفضل وأكثر مما عند المسلمين ،والجواب هذا صحيح , وهو لا يمنع من مجئ نصر الله لبيان أنه سبحانه ينصر القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة ليكون من مصاديق كونه [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] قوله سبحانه [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
وأخبرت آية البحث عن إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا ، فهل تشترك الخلائق في هذا الرعب كأسباب وجنود من عند الله ، أم أن إلقاء الرعب في قلوبهم يتم من عند الله من غير واسطة بلحاظ أن لا سلطان لأحد من الخلائق على القلوب إلا الله عز وجل .
الجواب هو الأول ، وهو لا يتعارض مع تعدد أسباب هذا الرعب ، ومن دلالات هذا الحصر وجوه :
الأول : تجلي بعض معاني خلافة الإنسان في الأرض ، بلحاظ أنها أعم من خلافة الناس بعضهم لبعض ، خاصة وأن الآية وردت بصيغة الإطلاق [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
الثاني : بيان بديع صنع الله وحكمته في الخلائق .
الثالث : إنحصار السلطان على القلوب من مصاديق الإطلاق في قدرة الله عز وجل وبيان التباين بين قدرته وقدرة الخلائق وإدراك تخلفها عن التجاوز والتعدي لحدود الإمكان الذي تتصف به .
الرابع : إكرام الإنسان وتشريفه ، وجعل الأثر الخارجي على أمير جوارحه وهو القلب بيد الله ، مما يعني أن إمارة القلب مقيدة ومحدودة وغير تامة فاذا غزا الرعب القلب يجعله قاصراً عن التدبير ومشغولاً بذاته دون المأمورين من الجوارح والأركان أو تكون لهذا الرعب موضوعية فيما يأمر به ، وفيه كفاية وسلامة للمؤمنين ، قال تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
ومن فوائد حصر إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بالله بعث السكينة في نفوس المسلمين ، فلا تستطيع الخلائق التلاعب بقلوبهم، وإلقاء الرعب والفزع فيها ، أو إيصال أسباب الشك إليها ، لبيان أن مدرسة القرآن تصلح القلوب من وجوه :
الأول : الإخبار عن سلامة قلوب المؤمنين من الرعب والفزع .
الثاني : صيرورة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مناسبة للتوبة والإنابة .
الثالث : زجر الناس عن موالاة الذين كفروا لما فيها من ضروب البلاء .
لقد أخبرت آية البحث عن حضور المشيئة الإلهية في الكيفية النفسانية , وفي الآية مسائل :
الأولى إمتلاء قلوب المؤمنين بالسكينة ، وفي التنزيل [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا] ( ).
الثانية : كفاية سلامة قلوب المؤمنين من الرعب والفزع ، أما حلول السكينة فيها ، فهو أمر أخر يستلزم مقامات من التقوى.
الثالثة : قد يدّب الرعب إلى قلوب الذين آمنوا فإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره .
الرابعة : لا ملازمة بين إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وإستقرار السكينة في قلوب الذين آمنوا .
والصحيح هي الأولى وهو ممن أسرار قوله تعالى في آدم [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] ( ) فحينما يلائم نهج الإنسان نفخ الروح , ويختار الإيمان تأتيه السكينة فضلاً من عند الله عز وجل.
فأبى الكفار إلا الجحود والعناد وقابلوا معجزات الأنبياء بالتكذيب ، وتلقوا الواجبات العبادية باعلان الإمتناع عن أدائها وسعوا في إرتداد شطر من المسلمين ، فتفضل الله عز وجل فالقى الرعب في قلوبهم لمنعهم في التمادي في الغي ، وللتخفيف عن المسلمين في إنشغال الذي يمكر بهم بنفسه ، ويصبح في حال فزع وخوف يعجز معه عن البيان ، فكيف إذا كان يفتقد إلى الحجة والبرهان .
لقد تضمنت الآية الوعيد بالقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بسين الإستقبال في قوله تعالى[سَنُلْقِي] وفيه مسائل :
الأولى : الأصل في خلق الإنسان سلامته من الرعب، وأن الفطرة لا يشوبها الرعب.
الثانية : تحذير الناس من الكفر، وما يجلب القبيح قبيح من وجوه:
الأول : ذات الكفر قبيح لأنه معصية وإثم.
الثاني : أسباب ومقدمات الكفر قبيحة.
الثالث : ما يترشح عن الكفر قبيح ومذموم، فالكفر أم الكبائر والسيئات.
الرابع : ما يرد على الإنسان من البلاء بسبب الكفر والجحود.
الخامس : سوء عاقبة الكفر، إذ أخبرت الآية عن إقامة الكافر في نار جهنم ، قال تعالى [وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ).
الثالثة : إمهال الكافر، فلا يأتيه الرعب حال الكفر، ويدل عليه قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا] فمع أنهم كفروا إلا أن الرعب لم يأتيهم في الحال، بل تأتيهم أولاً الآيات والإنذارات وتتبين لهم المعجزات التي تدل على النبوة.
تدعو آية البحث المسلمين إلى تعاهد الإيمان والمناجاة بالبقاء في منازل الهدى والإيمان للنجاة والسلامة من الرعب .
إفاضات الآية
من الإعجاز في الآية القرآنية أنها معجزة بذاتها وألفاظها وبلاغتها وتركيبها , ويكون الإعجاز المترشح عنها من اللامتناهي ، وهو من معاني قوله تعالى [لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي] ( )في دلالاتها ومضامينها القدسية ومعانيها .
ومنه آية البحث من جهات :
الأولى : تجدد الوعيد للكافرين ، ففي كل يوم يطل علينا قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
الثانية : إنبساط الرعب على الذين كفروا ، وعدم نجاة بعضهم منه , فيخوف بعضهم بعضاً من ألوية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، كما أن أسباب الرعب لا تختص بالإسلام والدعوة إليه ، فقد يأتي من الأمور الشخصية والعائلية وفي الخصومات بين المشركين كأسباب مادية ، ليكون من معاني الآية إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا , مع تهيئة أسبابه ومقدماته بالحق .
الثالثة : إنتفاع المسلمين من إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بما يؤدي إلى جعل [كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا] ( ).
الرابعة : دعوة الناس لمعرفة كيفية ونوع الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا .
وتبين الآية ما يصاحب الرعب من الكدورة الظلمانية ليختم الله على قلوب الذين كفروا بعد أن يستحوذ عليها الرعب وهو من مصاديق قوله تعالى [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ] ( ) .
وهل يمنعهم الرعب والختم على القلوب من التفقه في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ،وهو من أسرار لفظ الغشاوة في الآية أعلاه لأنها لا تمنع الرؤية وتحجب البصيرة على نحو السالبة الكلية .
لبيان أن الأذى الذي يصيب الذين كفروا لا ينحصر بالرعب ، وأخبرت آية البحث عن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لأنهم أشركوا بالله ، وهناك مسائل :
الأولى : مجئ الرعب للذين كفروا من أسباب أخرى غير ذات الشرك ، وإن كان من مقدمات الشرك ومن رشحاته .
الثانية : تبعث نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاده في سبيل الله الرعب في قلوب الذين كفروا ، وفي حديث عنه (ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي) ( ) والنسبة بين الرعب الذي تذكره آية البحث والرعب الوارد في الحديث اعلاه هو العموم والخصوص المطلق زماناً ومكاناً وموضوعاً ، فاذا كان الحديث يحدد المسافة التي تصلها أسباب الرعب بمسيرة شهر للدابة المتوسطة السرعة فان الرعب الذي يلقيه الله عز وجل في قلوب الذين كفروا لا يحده زمان أو مكان ، وهو من أسرار صيغة الإطلاق في الآية ومجئ حرف الإستقبال فيها (سنلقي).
ومن الإعجاز في الحديث النبوي أعلاه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينسب الرعب إلى نفسه أو بسببه إنما قال (يقذفه الله في قلوب أعدائي ) فنسب قذف الرعب والسلطان على قلوب بني آدم مطلقاً إلى الله عز وجل، ولم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلقيه بل قال يقذفه لبيان أن الإلقاء أعم زماناً وموضوعاً ويأتي دفعة وتدريجياً وإنما يأتي القذف دفعة واحدة .
ويكون الرعب في المقام غاية وبلغة ، فامتلاء الذين كفروا بالرعب غاية بذاته ، وهو بلغة لتوبة الذين كفروا وهداية الناس ونشر معالم الإيمان في الأرض وغزو الحزن والكدورة نفوس الذين كفروا فينشغلوا عن الإعداد لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وهو من أسرار عجز الكفار بعد معركة الخندق في السنة الرابعة للهجرة عن التجهيز وإعداد الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل إتجهوا إلى الهدنة والصلح ثم الغدر غيلة في نقض صلح الحديبية .
ومن إفاضات ما يلقيه الله من الرعب في قلوب الذين كفروا تفقه المسلمين في الدين وإصلاحهم لسبل التقوى والإقرار بأن النصر ومقدماته من عند الله لذا ينسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم النصر ومقدماته إلى الله .
(عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة ، كبر على كل شرف ( ) في الأرض ثلاث تكبيرات ، ثم يقول : « لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، آيبون تائبون عابدون ، ساجدون ، لربنا حامدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده) ( ).
الآية لطف
ليس من حصر لوجوه اللطف الذي يأتي للمسلمين في الحياة الدنيا وهو من مصاديق ولاية الله لهم التي ذكرتها الآية السابقة كقانون يحكم أيام الحياة الدنيا والآخرة فتجلت بركاته في الآية السابقة وآية البحث من غير فاصلة بينهما , وفيه مسائل :
الأولى : الإخبار عن حضور ولاية الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثانية : بيان الفورية في تجلي مصاديق ولاية الله للمسلمين , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) ويتعلق الأمر في المقام بوجوه :
الأول : ولاية الله .
الثاني : إختصاص المسلمين بولاية الله ، وهو تشريف يستلزم منهم رجالاً ونساءاً الشكر له تعالى .
الثالث : مصاديق ولاية الله والشواهد عليها .
الثالثة : تعلق الولاية بعموم المسلمين وتقربهم من شآبيب الرحمة وتوجه سهامها إلى الذين كفروا بالرعب والفزع .
لما تفضل الله عز وجل وجعل علة خلق الناس هي العبادة فانه سبحانه أنعم عليهم بهذه الآية لتكون لطفاً من وجوه :
الأول : إخبار الناس عن قبح وضرر الكفر ، ليكون هذا الإخبار من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : تحذير الناس من الشرك بالله عز وجل .
الثالث : بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو عجز الشركاء عن الدفع عن الذين أطاعوهم وإنقادوا إليهم وقد عجز هؤلاء الشركاء عن المساس بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو التأثير على نزول الآيات والدعوة إلى الله ، وفي التنزيل [قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلاَ تُنظِرُونِ] ( ).
الرابع : بيان قانون وهو أن الرعب لطف من عند الله عندما يلقيه في قلوب الذين كفروا .
ويكون الرعب المذكور في الآية لطفاً من وجوه :
الأول : شكر المسلمين الله عز وجل على نجاتهم من الرعب وأسبابه ، وعلى هدايتهم لتحصين قلوبهم من الرعب وليس من سبيل إلى هذا التحصين إلا الإيمان ، وهو من معاني قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )ليكون من مصاديق الصراط المستقيم بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : الإقرار بالعبودية لله عز وجل .
الثاني : التصديق بالنبوة والتنزيل .
الثالث : محاربة الكفر وسبل الضلالة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لتكون آية البحث على وجوه :
أولاً : إنها من الصراط المستقيم والهداية إليهم .
ثانياً : تلاوة هذه الآية من الأمر بالإيمان والهداية عن الكفر والضلالة ، وهو من أبهى مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلحاظ تعلقه بالأصول التي تترشح عنها فروع كثيرة .
ثالثاً : هذه الآية من سبل محاربة الكفر والضلالة .
الثاني : إلتفات الناس جميعاً إلى قانون تعقب الرعب للكفر وفي موطن مخصوص وهو القلب الذي أكرم الله عز وجل الإنسان به ، وجعله أمير الجوارح وقد أثبت الطب أن حياة الإنسان تتوقف على دوام عمل القلب إذ يقوم بتوزيع الدم على جميع أجزاء البدن ، ليحمل معها الرعب ، وهو من لطف الله بلحاظ أنه سبحانه لو ترك الكفر وحده يجري مع الدم في شرايين ومفاصل البدن لتضاعف الشر وإنتشر الفساد في الأرض ولاقى المؤمنون المشقة في القتال في معركة بدر وأحد والخندق ولعاود الكفار الكرة مرات في هجومهم على المدينة .
الثالث : الرعب الذي يملأ قلوب الكفار من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )ليجعل الرعب الكافرين هم الأذلة في اللقاء وقبله وبعده ، بل وفي حال السلم والمهادنة .
(عن سبرة بن فاتك قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرب . فإذا شاء أقامه ، وإذا شاء أزاغه) ( ).
وجاءت آية البحث وما فيها عن الإخبار عن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بالله والنبوة والتنزيل لإقامة القلوب وإصلاح النفوس ، ودعوة الناس للمناجاة بنبذ الكفر ، ليكون ذات إلقاء الرعب في قلوب الكفار لطفاً من عند الله ، وكذا نزول آية البحث في موضوعه ، وتلاوة المسلمين للآية فكل مسلم يتلو آية البحث هو لطف من عند الله به وبالناس وسبيل لتقويم القلوب بالهداية وسنن التقوى .
ومن إعجاز القرآن أن لفظ (قلوبهم) بصيغة الغائب ورد في القرآن ثمانياً وستين مرة ، أكثرها في ذم الذين كفروا وبيان سوء سريتهم ، قال تعالى [وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ] ( ).
وورد بصيغة الخطاب [قلوبكم] خمس عشرة مرة أكثرها في الثناء على المسلمين ، وبعث السكينة في نفوسهم ، قال تعالى [فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالوعيد القريب والتخويف الحال، ويمكن تقسيم الوعيد إلى أقسام :
الأول : الوعيد الحاضر والحال الذي لا فاصلة بينه وبين مصداقه الواقعي وهو على شعبتين :
الأولى : ما لا يحس به الإنسان إلا وقد حل به ونزل بناحيته ،قال تعالى[وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ).
الثانية : الوعيد الحاضر الذي يعلم الإنسان بوقوعه لأنه كالعلة والمعلول في ترتبه على فعل القبيح ، ومنه إنذارات الأنبياء لقومهم ونزول البلاء بساحتهم ولم ينج منه إلا الذين آمنوا ،وفي هود ورد في التنزيل [وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ] ( ).
الثاني : الوعيد القريب الذي تتدلى أمارته وتلامس الناس إلى أن يصيب الذين يصرون على الكفر ، ومنه آية البحث بدليل حرف الإستقبال السين في [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
الثالث : وعيد العاقبة الدنيوية وإختتام الحياة بالبؤس والبلاء بالنسبة للذين كفروا , وقد وردت آيات عديدة في سوء عاقبة المكذبين والمجرمين والمفسدين والظالمين ، قال تعالى [وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ]( ).
والآية أعلاه في قوم لوط وبعد أن تمادوا في إرتكاب الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من الناس ، وهي إتيان الذكور دون الإناث ،نزه الله عز وجل المسلمين وأهل الأرض منه لأنه فعل قبيح، تدل آيات القرآن على حرمته وسوء عاقبة الناس باشاعته ، وفي المطر الذي تذكره الآية أعلاه ورد عن وهب بن منبه أنه الكريت والنار.
وهل يشمل هذا الوعيد الذين يلقي الله في قلوبهم الرعب أم لا، الجواب هو الأول ، فان سوء العاقبة ينتظر الذين كفروا وأشركوا بالله وهذه العاقبة ليست جديدة فمن قوانين الحياة الدنيا الملازمة بين الشرك وسوء العاقبة، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ]( ) ليكون إلقاء الرعب في قلوبهم رحمة من عند الله عز وجل بهم ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وزجر عن البقاء على الكفر وما يؤدي إليه من سوء العاقبة ، وهو من أسرار صيغة الإستقبال في (سنلقي).
الرابع : الوعيد الأخروي وهو أشد أنواع الوعيد وأكثرها في القرآن لأنه يتجلى بالخلود في النار جزاء وعقوبة على الكفر والجحود ،ومن إعجاز آية البحث أنها تتضمن هذا الوعيد .
إبتدأت آية البحث بحرف الإستقبال (السين) وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات إلى إستقراء الوقائع والأحداث في قادم الأيام بلحاظ آية البحث ، ثم جاء بعدها الفعل المنسوب إلى الله عز وجل (نلقي) لبيان صيغة القطع والحتم في آية البحث لأن الآية إخبار عن فعل يصدر من عند الله وهو [فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ] ( ) ليس من تبديل أو تغيير لكلماته سبحانه .
فان قلت لقد تفضل الله عز وجل وجعل المحو والعفو أمراً قريباً بقوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) فهل يشمل إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا على نحو الموجبة الكلية أو الجزئية .
الجواب الآية عامة في الموضوع مقيدة بالمشيئة ، لذا فمن الإعجاز في الآية أعلاه أنها علقت المحو على المشيئة الإلهية ، وقد شاء الله عز وجل رمي الذين كفروا بالرعب والفزع , ومنعهم من البطش والجور .
لقد أراد الله عز وجل تغيير موازين القوى ، ورجحان الكفة بين المسلمين والكفار ، فاذا بقي المائز وعلة النصر هو الأسباب المادية وكثرة العدد والعدة فان عدد الكفار ثلاثة أضعاف المسلمين في معركة بدر وأحد والخندق ، أما في العدة والمؤون فالأضعاف تتزايد .
فبخصوص يوم بدر (قَالَ ابن هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّهُ كَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْخَيْلِ فَرَسُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ السّبَلُ وَفَرَسُ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيّ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ بَعْزَجَةُ وَيُقَالُ سَبْحَةُ وَفَرَسُ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْيَعْسُوبُ .
قَالَ ابن هِشَامٍ : وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ مِائَةُ فَرَسٍ) ( ).
فليس من تكافؤ في العدد والسلاح والعدة وإن إنتصرت قريش ليس لها فخر ، وإن هزموا كانت معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , تتجلى في كل زمان بذكرها في القرآن ، ليكون من إعجازه الغيري تثبيت وتوثيق المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأنها حاضرة للعين .
لقد كان هذا التباين الكبير بين الفريقين في العدد والعدة مناسبة لإختيار قريش الصلح وإجتناب القتال ، إذ أن الإمتناع عن قتال الفئة الأقل في العدة والعدد فخر ورفعة , ولكن الله عز وجل ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فتجلى بالعناد والإستكبار عند قريش والزهو والخيلاء في الميدان ، وقد تقدم في الأجزاء السابقة كيف أن أبا جهل أصر على القتال .
فان قلت : لا يدل إصرار كفار قريش على القتال وظنهم أن المسلمين أكلة رأس على إلقاء الرعب في قلوبهم , والجواب من وجوه :
الأول : الرعب كيفية نفسانية وموضوعها أعم من أن ينحصر بأوان المعركة .
الثاني : لقد كانت قريش تخشى إنتشار الإسلام ،وملأ الرعب قلوبهم بسبب دخول أبنائهم الإسلام وتوالي هجرة الشباب إلى المدينة بحلية الإسلام.
الثالث : من أسرار آية البحث تضمن صيغة الإستقبال فيها (سنلقي) معنى الإستدراج للمشركين فهم يرون عدد المسلمين قليلاً وأسلحتهم بدائية فيظهر عليهم التبختر في الميدان ويطلبون المبارزة فتقوم الحجة عليهم من عند الله فينزل الرعب في قلوبهم مجتمعين ومتفرقين ، فيفرون منهزمين تاركين مؤونهم خلفهم ، لا يصاحبهم إلا الرعب .
وهل ينقطع هذا الرعب بدخولهم مكة لحرمة الحرم ولعمومات دعاء إبراهيم الذي ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( )وتحقق هذا الدعاء بقوله تعالى [وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ]( ) .
الجواب لا ، فمن الأمن في مكة بعث الرعب في قلوب الذين كفروا وصيرورته مقدمة لفتحها من غير قتال في آية ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويمكن تأسيس قانون من الجمع بين الآيتين اعلاه وهو إذا ورد دعاء لأحد الأنبياء في القرآن فان مصداق الإستجابة له موجود في آيات القرآن وبالدلالة المطابقية أو التضمنية ، وهو من الشواهد على قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
ويكون تقدير الآية أعلاه : أدعوني أستجب لكم كما إستجبت للأنبياء والأولياء من قبل ) والجواب إن الرعب لا ينقطع عن الذين كفروا وإن دخلوا مكة من جهات :
الأولى : لم يجعل الذين كفروا حرمة للبيت الحرام .
الثانية : الرعب حالة نفسية وكيفية ذاتية .
الثالثة : في الرعب الذي يملأ قلوب الكفار رحمة بالناس وأمن للبيت الحرام وعمّاره .
الرابعة : هذا الرعب مقدمة لفتح مكة ،وتطهير للبيت الحرام من دنس الشرك وعبادة الأصنام .
ترى لماذا قدمت الآية القلوب على الرعب ، فلم تقل الآية (سنلقي الرعب في قلوب الذين كفروا ) .
والجواب أن الأصل في خلق الإنسان سلامة قلبه من الرعب والفزع وهو من رحمة الله عز وجل بالناس ،ولبيان الحجة فيترتب الرعب على الكفر ترتب المعلول على العلة ،وفيه وجوه :
الأول : البشارة للمؤمنين بالأمن من الرعب والفزع ومداهمته للقلب .
الثاني : حث المسلمين على الشكر لله عز وجل للأمن من الرعب .
الثالث : توجه الإنذار للناس جميعاً ببيان الآية الكريمة للملازمة بين إختيار الكفر ومداهمة الرعب للقلب .
الرابع : سقوط هيبة الكفار في عيون الناس وهو من أسرار مجئ آية البحث بصيغة الجمع , وهو إنذار ومقدمة لذلهم يوم القيامة الذي تدل عليه آية البحث بإخبارها عن كون النار مثوى ومقام دائم لهم وفي التنزيل [تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ]( ).
الخامس : بيان قانون وهو ما أن يختار الإنسان الكفر حتى يهجم الرعب إلى قلبه فلا يستطيع دفعه أو رده أو تأخيره , أو صرف جزء منه.
السادس : بعث النفرة في نفوس الكفار من ذات الكفر , ومفاهيم الضلالة والجحود بالروبية .
السابع : ترغيب الناس جميعاً بالإيمان ، ومنهم الكفار , وجاءت الآية بباء السببية في ذكر علة الرعب وأسبابه , ولم تقل الآية (بما كفروا) , وتحتمل النسبة بين الشرك والكفر وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بين الشرك والكفر , وهناك مادة للإفتراق بينهما .
الثاني : نسبة التساوي بين الكفر والشرك .
الثالث : إنهما مما إذا إجتمعا إفترقا ، وإذا إفترقا إجتمعا .
الرابع : نسبة العموم والخصوص المطلق ،وهو على شعبتين :
الأولى : الشرك أعم من الكفر .
الثانية : الكفر أعم من الشرك .
والمختار هو الثالث ، والشعبة الأولى من الوجه الرابع بلحاظ أن الكفر فرع الشرك ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
وقد يكون الكفر بالنبوة أو التنزيل أو الجحود بضرورة من ضرورات الدين فتفضل الله عز وجل وأخبر بأن الرعب يأتي للذين كفروا لأنهم مشركون بالله .
لقد أقام الله عز وجل الحجة في القرآن ، ويسر للناس إدراك صدق هذه الحجة , وتجلى الوضوح فيها , فمع التباين في مدارك الناس ، وإختلاف ميولهم ومذاهبهم فأنهم يفقهون الحجة القرآنية وعلة المدح أو الذم لتكون نبراساً وسبيل هداية ومناسبة للتوبة والإناية .
وإبتدأت الآية بصيغة المتكلم (سنلقي) ثم إنتقلت إلى صيغة الغائب [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]مع أن الله عز وجل هو نفسه المتكلم ، فلم تقل الآية ( بما اشركوا بنا ) والجواب تتضمن الآية قانوناً كلياً من جهات :
الأول : حرمة الشرك بالله .
الثانية : الزجر والنهي عن الشرك بالله .
الثالثة : تذكير الناس بوجوب الإيمان بالله .
الرابعة : إعانة المسلمين بموضوع للإحتجاج والبرهان مع أهل الملل والنحل .
الخامسة : معرفة الناس جميعاً بالله عز وجل إلهاً ورباً .
السادسة : جاءت الآية في باب التعليل , وبيان الحجة فاقتضى الوضوح , وذكر الاسم دون الضمير ، وقد ورد الضمير في قوله تعالى[وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا] ( ).
لأن الآية أعلاه خطاب بين الله عز وجل والإنسان مطلقاً من غير واسطة , أما آية البحث فتضمنت ذم الكافر وهو عام يشمل الجحود بالنبوة والرسالة .
وهل يختص البلاء الذي ينزل بالذين كفروا بخصوص إلقاء الرعب في قلوبهم ، الجواب لا ، فاثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره , ويكون الرعب سبباً لضروب أخرى من البلاء والخصومة والشقاق بين الذين كفروا ، قال تعالى [وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ] ( ).
وتكرر لفظ (ما) في الآية مرتين جاء في الأولى حرفاً مصدرياً ، وفي الثانية إسماً موصولاً ، وورد كل منهما في مقام ذم الذين كفروا وتركوا عبادة الله عز وجل .
ولم تبين الآية اسم الذي إتخذه الكفار شريكاً لله عز وجل ولكنها ذكرته بالصفة [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]فجاء تقييد الشريك بافتقاره إلى البرهان وأسباب العلم ،وفيه وجوه :
الأول : إرادة إله وفرد مخصوص كصنم معين .
الثاني : المقصود أفراد عديدة من الشركاء والآلهة من جنس واحد كالأصنام المتعددة ، وفي التنزيل [وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا] ( ).
الثالث : المقصود التعدد من الشركاء في الجنس والنوع والأفراد.
والصحيح هو الأخير وهو من أسرار الإجمال في الآية وعدم تعيين الشريك ، والجامع المشترك بين الشركاء لله هو عدم نزول علم وسلطان بهم من عند الله عز وجل , لتبقى أية البحث غضو طرية في كل زمان .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن أبي عثمان قال : رأيت يغوث صنماً من رصاص , يحمل على جمل أجرد ، فإذا برك قالوا : قد رضي ربكم هذا المنزل .
وأخرج الفاكهي عن عبيد الله بن عبيد بن عمير قال : أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح ،وكانت الأبناء تبرّ الآباء فمات رجل منهم فجزع عليه فجعل لا يصبر عنه فاتخذ مثالاً على صورته، فكلما اشتاق إليه نظره ، ثم مات ففعل به كما فعل ، ثم تتابعوا على ذلك ، فمات الآباء ، فقال الأبناء : ما اتخذ هذه آباؤنا إلا أنها كانت آلهتهم فعبدوها) ( ).
(عن ابن عباس قال : صارت الأصنام والأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ، أما ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ، وكانوا أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد حتى إذ هلك أولئك ونسخ العلم عبدت) ( ).
والمدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول أو الواقعة والحال التي عليها عند نزول الآية , وتتجلى لغة العموم في ذم الكفار في آية البحث من جهات :
الأولى :صيغة الإستقبال في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا, وفيه مندوحة ورحمة ومناسبة للتدارك , والتوبة من الشرك والمعاصي .
الثانية : سوء عاقبة الكفار ، وإنعدام الناصر والشفيع لهم يوم القيامة ، قال تعالى [مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ] ( ).
الثالثة : إنعدام الإستثناء في صفوف الكفار بخصوص إلقاء الرعب في قلوبهم ، فليس من كافر مستثنى من هذا الإلقاء ، نعم قد يكون تقديم وتأخير بخصوص أوان الإلقاء بحكمة الله عز وجل .
وهو من أسرار [سنلقي ] وقد ترى فارساً من فرسان قريش يتبختر في الميدان ويتحدى ويبارز الشجعان , فتقول أين الرعب وأثره على نفسه وجوارحه ، والجواب تدعو آية البحث ولغة الإستقبال فيها المسلمين إلى الترقب وإنتظار مداهمة الرعب لقلبه وظهوره على نحو الوهن والخيبة على جوارحه وفي افعاله .
وقد يتعارض أثر هذا التبختر مع الرعب المستقر في قلوب أصحابه لإقتباسه من شجاعته ، فيأتيهم ضرب من ضروب الرعب بأن يدخل هذا الفارس الإسلام أو ينهزم من المعركة أو يخر قتيلاً كما في فارس قريش عمرو بن ود العامري الذي عبر الخندق يوم الأحزاب .
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمُونَ وَعَدُوّهُمْ مُحَاصِرُوهُمْ , وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ إلّا أَنّ فَوَارِسَ مِنْ قُرَيْشٍ ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدّ بْنِ أَبِي قَيْسٍ ، أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ . – قَالَ ابن هِشَامٍ : وَيُقَال : عَمْرُو بْنُ عَبْدِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ – قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّانِ وَضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ الشّاعِرُ ابن مِرْدَاسٍ أَخُو بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْر ٍ ، تَلَبّسُوا لِلْقِتَالِ ثُمّ خَرَجُوا عَلَى خَيْلِهِمْ حَتّى مَرّوا بِمَنَازِلِ بَنِي كِنَانَةَ ، فَقَالُوا : تَهَيّئُوا يَا بَنِي كِنَانَةَ لِلْحَرْبِ فَسَتَعْلَمُونَ مِنْ الْفُرْسَانُ الْيَوْمَ ثُمّ أَقْبَلُوا تُعْنِقُ بِهِمْ خَيْلُهُمْ حَتّى وَقَفُوا عَلَى الْخَنْدَقِ ، فَلَمّا رَأَوْهُ قَالُوا : وَاَللّهِ إنّ هَذِهِ لَمَكِيدَةٌ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَكِيدُهَا .
قَالَ ابن هِشَامٍ : يُقَالُ إنّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ أَشَارَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَالُوا : سَلْمَانُ مِنّا ؛ وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : سَلْمَانُ مِنّا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَلْمَانُ مِنّا أَهْلَ الْبَيْتِ سَلْمَانُ مِنّا
وَذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ سَلْمَانُ مِنّا أَهْلَ الْبَيْتِ بِالنّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوْ عَلَى إضْمَارِ أَعْنِي ، وَأَمّا الْخَفْضُ عَلَى الْبَدَلِ فَلَمْ يَرَهُ سِيبَوَيْهِ جَائِزًا مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلّمِ وَلَا مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ لِأَنّهُ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَأَجَازَهُ الْأَخْفَشُ .مُبَارَزَةُ عَلِيّ لِعَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدّ
قَالَ ابن إسْحَاقَ : ثُمّ تَيَمّمُوا مَكَانًا ضَيّقًا مِنْ الْخَنْدَقِ ، فَضَرَبُوا خَيْلَهُمْ فَاقْتَحَمَتْ مِنْهُ فَجَالَتْ بِهِمْ فِي السّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ ، وَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتّى أَخَذُوا عَلَيْهِمْ الثّغْرَةَ الّتِي أَقْحَمُوا مِنْهَا خَيْلَهُمْ وَأَقْبَلَتْ الْفُرْسَانُ تُعْنِقُ نَحْوَهُمْ وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدّ قَدْ قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ حَتّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ فَلَمْ يَشْهَدْ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ خَرَجَ مُعْلِمًا لِيُرَى مَكَانُهُ .
فَلَمّا وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ قَالَ مَنْ يُبَارِزُ ؟ فَبَرَزَ لَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ يَا عَمْرُو ، إنّك قَدْ كُنْت عَاهَدْت اللّهَ أَلّا يَدْعُوك رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى إحْدَى خَلّتَيْنِ إلّا أَخَذْتهَا مِنْهُ . قَالَ لَهُ : أَجَلْ.
قَالَ لَهُ عَلِيّ : فَإِنّي أَدْعُوك إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ .
قَالَ لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ : قَالَ فَإِنّي أَدْعُوك إلَى النّزَالِ . فَقَالَ لَهُ لِمَ يَا ابن أَخِي ؟ فَوَاَللّهِ مَا أُحِبّ أَنْ أَقْتُلَك ، قَالَ لَهُ عَلِيّ : لَكِنّي وَاَللّهِ أُحِبّ أَنْ أَقْتُلَك ، فَحَمِيَ عَمْرٌو عِنْدَ ذَلِكَ فَاقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهُ وَضَرَبَ وَجْهَهُ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيّ فَتَنَازَلَا وَتَجَاوَلَا ، فَقَتَلَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ مُنْهَزِمَةً حَتّى اقْتَحَمَتْ مِنْ الْخَنْدَقِ هَارِبَةً . قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ
نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ … وَنَصَرْت رَبّ مُحَمّدٍ بِصَوَابِي
فَصَدَدْت حِينَ تَرَكْته مُتَجَدّلًا … كَالْجِذْعِ بَيْنَ دَكَادِكٍ وَرَوَابِي
وَعَفَفْت عَنْ أَثْوَابِهِ وَلَوْ أَنّنِي … كُنْت الْمُقَطّرَ بَزّنِي أَثْوَابِي
لَا تَحْسَبُنّ اللّهَ خَاذِلَ دِينِهِ … وَنَبِيّهِ يَا مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَأَلْقَى عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ رُمْحَهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ عَنْ عَمْرٍو ، فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ
فَرّ وَأَلْقَى لَنَا رُمْحَهُ … لَعَلّك عِكْرِمَ لَمْ تَفْعَلْ
وَوَلّيْت تَعْدُو كَعَدْوِ الظّلِيمِ … مَا إنْ تَجُورَ عَنْ الْمَعْدِلِ
وَلَمْ تَلْقَ ظَهْرَك مُسْتَأْنِسًا … كَأَنّ قَفَاك قَفَا فُرْعُلِ
وَذَكَرَ خَبَرَ عَمْرِو بْنِ وُدّ الْعَامِرِيّ ، وَمُبَارَزَتَهُ لِعَلِيّ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ , وَوَقَعَ فِي مَغَازِي ابن إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابن هِشَامٍ عَنْ الْبَكّائِيّ فِيهَا زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ رَأَيْت أَنْ أُورِدَهَا هُنَا تَتْمِيمًا لِلْخَبَرِ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : إنّ عَمْرَو بْنَ وُدّ خَرَجَ فَنَادَى : هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ ؟ فَقَامَ عَلِيّ – رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ – وَهُوَ مُقَنّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ أَنَا لَهُ يَا نَبِيّ اللّهِ فَقَالَ ” إنّهُ عَمْرٌو اجْلِسْ ” ، وَنَادَى عَمْرٌو أَلَا رَجُلٌ يُؤَنّبُهُمْ وَيَقُولُ أَيْنَ جَنّتُكُمْ الّتِي تَزْعُمُونَ أَنّهُ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ دَخَلَهَا ، أَفَلَا تُبْرِزُونَ لِي رَجُلًا ، فَقَامَ عَلِيّ ، فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ ” اجْلِسْ إنّهُ عَمْرٌو ” ثُمّ نَادَى الثّالِثَةَ وَقَالَ
وَلَقَدْ بَحِحْت مِنْ النّدَا … ءِ بِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ ؟
وَوَقَفْت إذْ جَبُنَ الْمُشَ … جّعُ مَوْقِفَ الْقِرْنِ الْمُنَاجِزْ
وَكَذَاك إنّي لَمْ أَزَلْ … مُتَسَرّعًا قَبْلَ الْهَزَاهِزْ
إنّ الشّجَاعَةَ فِي الْفَتَى … وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ
فَقَامَ عَلِيّ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا لَهُ فَقَالَ ” إنّهُ عَمْرٌو ” ، فَقَالَ وَإِنْ كَانَ عَمْرًا ، فَأَذِنَ لَهُ النّبِيّ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – فَمَشَى إلَيْهِ عَلِيّ ، حَتّى أَتَاهُ وَهُوَ يَقُولُ:
لَا تَعْجَلَنّ فَقَدْ أَتَا … ك مُجِيبُ صَوْتِك غَيْرَ عَاجِزْ
ذُو نِيّةٍ وَبَصِيرَةٍ … وَالصّدْقُ مُنْجِي كُلّ فَائِزْ
إنّي لَأَرْجُو أَنْ أُقِ … يمَ عَلَيْك نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضَرْبَةٍ نَجْلَاءَ يَبْ … قَى ذِكْرُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ
فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ أَنَا عَلِيّ ، قَالَ ابن عَبْدِ مَنَافٍ ؟ قَالَ أَنَا ابن أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ غَيْرَك يَا ابن أَخِي مِنْ أَعْمَامِك مَنْ هُوَ أَسَنّ مِنْك ، فَإِنّي أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَك ، فَقَالَ لَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَكِنّي وَاَللّهِ لَا أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَك ، فَغَضِبَ وَنَزَلَ فَسَلّ سَيْفَهُ كَأَنّهُ شُعْلَةُ نَارٍ ثُمّ أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيّ مُغْضَبًا ، وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ عَلَى فَرَسِهِ فَقَالَ لَهُ عَلِيّ : كَيْفَ أُقَاتِلُك وَأَنْتَ عَلَى فَرَسِك ، وَلَكِنْ انْزِلْ مَعِي ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ ثُمّ أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيّ وَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيّ – رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ – بِدَرَقَتِهِ فَضَرَبَهُ عَمْرٌو فِيهَا فَقَدّهَا وَأَثْبَتَ فِيهَا السّيْفَ وَأَصَابَ رَأْسَهُ فَشَجّهُ وَضَرَبَهُ عَلِيّ عَلَى حَبْلِ الْعَاتِقِ فَسَقَطَ وَثَارَ الْعَجَاجُ وَسَمِعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ التّكْبِيرَ فَعَرَفَ أَنّ عَلِيّا – رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ – قَدْ قَتَلَهُ فَثَمّ يَقُولُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
أَعَلَيّ تَقْتَحِمُ الْفَوَارِسُ هَكَذَا … عَنّي وَعَنْهُ أَخّرُوا أَصْحَابِي
فَالْيَوْمَ تَمْنَعُنِي الْفِرَارَ حَفِيظَتِي … وَمُصَمّمٌ فِي الرّأْسِ لَيْسَ بِنَابِي
أَدّى عُمَيْرٌ حِينَ أُخْلِصَ صَقْلُهُ . صَافِي الْحَدِيدَةِ يَسْتَفِيضُ ثَوَابِي
فَغَدَوْت أَلْتَمِسُ الْقِرَاعَ بِمُرْهَفِ … عَضْبٍ مَعَ الْبَثْرَاءِ فِي أَقْرَابِ
قَالَ ابن عَبْدٍ حِينَ شَدّ أَلِيّةً … وَحَلَفْت فَاسْتَمِعُوا مِنْ الْكَذّابِ
أَلّا يَفِرّ وَلَا يُهَلّلَ فَالْتَقَى … رَجُلَانِ يَلْتَقِيَانِ كُلّ ضِرَابِ
وَبَعْدَهُ نَصَرَ الْحِجَارَةَ إلَى آخِرِ الْأَبْيَاتِ إلّا أَنّهُ رُوِيَ عَبَدَ الْحِجَارَةَ وَعَبَدْت رَبّ مُحَمّدٍ وَرُوِيَ فِي مَوْضِعٍ وَلَقَدْ بَحِحْت : وَلَقَدْ عَجِبْت ، وَيُرْوَى : فَالْتَقَى أَسَدَانِ يَضْطَرِبَانِ كُلّ ضِرَابِ وَفِيهِ إنْصَافٌ مِنْ عَلِيّ – رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ – لِقَوْلِهِ أَسَدَانِ وَنَسَبِهِ إلَى الشّجَاعَةِ وَالنّجْدَةِ . وَقَوْلُهُ أَدّى عُمَيْرٌ إلَى قَوْلِهِ ثَوَابِي ، أَيْ أَدّى إلَيّ ثَوَابِي ، وَأَحْسَنَ جَزَائِي حِينَ أَخْلَصَ صَقْلَهُ ثُمّ أَقْبَلَ نَحْوَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُتَهَلّلٌ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ هَلّا سَلَبْته دِرْعَهُ فَإِنّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ دِرْعٌ خَيْرٌ مِنْهَا ، فَقَالَ إنّي حِينَ ضَرَبْته اسْتَقْبَلَنِي بِسَوْأَتِهِ فَاسْتَحْيَيْت ابن عَمّي أَنْ أَسْتَلِبَهُ وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ مُنْهَزِمَةً حَتّى اقْتَحَمَتْ الْخَنْدَقَ هَارِبَةً فَمِنْ هُنَا لَمْ يَأْخُذْ عَلِيّ سَلَبَهُ وَقِيلَ تَنَزّهَ عَنْ أَخْذِهَا ، وَقِيلَ إنّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيّةِ إذَا قَتَلُوا الْقَتِيلَ لَا يَسْلُبُونَهُ ثِيَابَهُ .
وَقَوْلُ عَمْرٍو لِعَلِيّ وَاَللّهِ مَا أُحِبّ أَنْ أَقْتُلَك ، زَادَ فِيهِ غَيْرُهُ فَإِنّ أَبَاك كَانَ لِي صَدِيقًا ، قَالَ الزّبَيْرُ كَانَ أَبُو طَالِبٍ يُنَادِمُ مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرٍو ، فَلَمّا هَلَكَ اتّخَذَ عَمْرَو بْنَ وُدّ نَدِيمًا ، فَلِذَلِكَ قَالَ لِعَلِيّ حِينَ بَارَزَهُ) ( ).
وتقدير الآية على وجهين :
أولاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ومأواهم النار ، وفيه شاهد على تلقي الكافرين العذاب في الدنيا والآخرة ، ليكون عذاب الدنيا مقدمة للآخرة ، ورحمة بالناس لإجتناب أسباب العذاب الأخروي .
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء , وتفضل وجعل الرحمة منه تعالى مصاحبة لهذا الإمتحان لينجو الناس من العذاب الأليم في الآخرة ، وليس من إستثناء في كل من الإمتحان والرحمة في الدنيا ، لتكون رحمة الله في آية البحث من وجوه :
الأول : إصابة قلوب الذين كفروا بالرعب كي يدركوا أن الله عز وجل قد وصل سلطانه وقدرته إلى قلوبهم , وهو القادر على أن يبعثهم من الموت ويحاسبهم فرادا ، وفي التنزيل [قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ] ( ).
الثاني : إخبار آية البحث عن إقامة الذين كفروا بالله والنبوة والتنزيل في نار جهنم على نحو التأبيد , ليكون هذا الإخبار زاجراً لهم جميعاً عن الكفر والضلالة .
الثالث : الجمع بين العذاب الإبتدائي من الرعب في قلوب الذين كفروا في الدنيا ، وبين العذاب الأخروي .
وفي موضوع الرعب في الآخرة وجوه :
الأول : إنقطاع الرعب الذي تذكره آية البحث في الحياة الدنيا لأنه أمر عرضي مصاحب للكفر فعندما يتوب الإنسان من الكفر يغادره هذا الكفر دفعة واحدة ، وهو من فضل الله على الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحالما ينطق المسلم بالشهادتين يصبح قلبه وجوارحه نفيه من الرعب وآثاره .
الثاني : مصاحبة الرعب الذي تذكرة آية البحث الإنسان في عالم البرزخ ، كما ورد بخصوص فرعون والملأ من قومه الكافرين ، قال تعالى [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا]( ) أي صباح ومساء ويقال لهم هذه مأواكم في الآخرة ، فيصيبهم الرعب الشديد.
الثالث : مجئ رعب إضافي للذين كفروا في الآخرة .
الرابع : الرعب الذي يأتي في الآخرة هو غير الرعب الذي تذكره آية البحث ويكون كالقطرة في البحر .
وبإستثناء الوجه الأول إعلاه ، فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق آية البحث ، فذات الرعب الذي يقذفه الله عز وجل في قلوب الذين كفروا يصاحبهم في عالم البرزخ ويوم القيامة ، كما يأتيهم فزع ورعب إضافي في الآخرة وهو من عمومات قوله تعالى [يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ]( ) .
وعن الحسن ان النبي عليه السلام قال (أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً وأيما داع دعا إلى ضلالة، فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ثم قرأ الحسن [وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ]( ) .
ثانياً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب وبئس مثوى الظالمين ) .
وفيه بيان بأن الرعب لم يأت إلا بسبب الظلم للذات والغير , وللزجر عنه .
أسباب النزول
عن السدي قال: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجِّهين نحو مكة، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق. ثم إنهم ندموا فقالوا: بئس ما صنعتم، إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! ارجعوا فاستأصلوهم! فقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب، فانهزموا. فلقوا أعرابيًّا، فجعلوا له جُعْلا وقالوا له: إن لقيت محمدًا فأخبره بما قد جمعنا لهم. فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، فأنزل الله عز وجل في ذلك، فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما قُذف في قلبه من الرعب فقال: “سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله)( ).
وذكر ان الآية تتعلق بيوم أحد (وذلك بعد هزيمة المؤمنين ، قذف الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب فانهزموا إلى مكة . ويقال : حين صعد خالد بن الوليد الجبل ، قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع خالد منهزماً .
ويقال : عنى به يوم الأحزاب ، ألقي في قلوبهم الرعب فانهزموا) ( ).
لبيان أن الرعب سلاح من عند الله لكفاية شر وأذى الكفار ولصرفهم عن قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن كسرت رباعيته أي أسنانه الأمامية وشج في وجهه ، وسال الدم منه وليس من مانع من تكرار سبب النزول في الوقائع الأولى للإسلام لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
قانون غايات الآية القرآنية
لكل آية من القرآن غايات متعددة ، وليس من حصر لمصاديقها, وكلها ذات صبغة حميدة ، وتتضمن بالذات والعرض أسباب الهداية ، ويمكن تقسيم غايات الآية القرآنية إلى قسمين :
القسم الأول : الغايات الدنيوية : وهي التي تتعلق بعالم الدنيا وماهية الأفعال ، فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار , وفيه مسائل :
الأولى : من إعجاز القرآن أنه بدأ بـ [بسم الله الرحمن الرحيم] ( ) لحث المسلمين والناس على الإبتداء بذكر الله عند الشروع بالأعمال وجعلها النبي فاتحة كتابه إلى الملوك والأمراء عند دعوتهم إلى الإسلام لبيان إتحاد سنخية الرسالة في الندب إلى التوحيد والتنزه عن الشرك والضلالة .
وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري وابن مسعود مرفوعاً « قال : إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له المعلم : اكتب بسم الله قال له عيسى : وما بسم؟ قال له المعلم : ما أدري؟! قال له عيسى : الباء بهاء الله ، والسين سناؤه ، والميم مملكته ، والله إله الآلهة ، والرحمن رحمن الآخرة والدنيا ، والرحيم رحيم الآخرة .
أبو جاد : الألف . الآء الله ، والباء بهاء الله ، جيم جلال الله ، دال الله الدائم . هوَّزَ : الهاء الهاوية ، واو ويلٌ لأهل النار واد في جهنم ، زاي زين أهل الدنيا ، حطي ، حاء الله الحكيم ، طاء الله الطالب لكل حق يرده ، أي أهل النهار وهو الوجع .
كلمن : الكاف الله الكافي ، لام : الله القائم ، ميم ، الله المالك، نون الله البحر ، سعفص : سين ، السلام ، صاد الله الصادق ، عين الله العالم ، فاء الله ذكر كلمة صاد الله الصمد .
قرشت قاف الجبل المحيط بالدنيا الذي اخضرت منه السماء ، راء رياء الناس بها ، سين ستر الله ، تاء تمت أبداً) ( ).
الثانية : بعد البسملة جاء الثناء على الله , والشكر له سبحانه على النعم مع الإقرار بأنه رب الخلائق كلها بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وهو شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها دعوة خالصة لطاعة الله والتسليم بربوبيته المطلقة والحاجة المستمرة إلى فضله وإحسانه .
ومن الإعجاز تلاوة كل مسلم ومسلمة هاتين الآيتين عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني وضمن الصلاة العبادية وحال الخشوع وإرادة القربة إلى الله .
الثالثة : دعوة الناس إلى الصلاح والإصلاح .
الرابعة : تنزيه الناس عن الفساد وسفك الدماء بغير حق ، وعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بسبب الفساد وسفك الدماء ، تفضل الله عز وجل وأجابهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )فخر الملائكة ساجدين ، فكان من علم الله عز وجل أن كل آية قرآنية من علم الله عز وجل الذي تذكره الآية أعلاه في دلالتها على تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات وتخليص الناس بالإيمان من الفساد والقتل .
الخامسة : كل آية قرآنية من آيات الأحكام قانون في الصلاح , وواقية للنفوس من الأدران .
السادسة : من غايات الآية تثبيت معالم التوحيد في الأرض ، وضبط عبادات الناس وفق ما يريده الله عز وجل .
السابعة : تلقي كل آية من القرآن الرعب في قلوب الذين كفروا وتبين قبح الشرك بالله ، وقد ذمت آية البحث الذين كفروا لأنهم [أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ).
وتحتمل الآية القرآنية من جهة السلطان , والحجة والبرهان وجوهاً :
الأول : مجموع آيات السورة الواحدة سلطان وحجة .
الثاني : كل آية قرآنية سلطان ودليل.
الثالث : ما بين الدفتين إمام وضياء ونور ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا] ( ).
الرابع : كل آيتين متجاورتين دليل وحجة .
الخامس : كل آيتين من القرآن برهان .
السادس : الشطر من الآية القرآن دليل وضياء .
السابع : الجمع بين شطرين من آيتين من القرآن برهان وعلم قائم بذاته.
الثامن : إستنباط الدليل والحجة من الجمع بين ثلاث آيات من القرآن أو أكثر .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق السلطان في آية البحث , ومصاديق الحجة من عند الله , لذا قالت آية البحث [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا].
الثامنة : كل آية قرآنية خزينة للعلوم، ينهل منها المسلمون، ويقتبس الناس من فيوضاتها بالواسطة، وهو من مصاديق عموم الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومن أسرار سلامة القرآن من التحريف وإلى يوم القيامة.
التاسعة : الآية القرآنية وسيلة وسبب لنزول الغيث، ودوام النعم، وتجليات البركة.
العاشرة : تلاوة الآية القرآنية والتدبر في معانيها، والصدور عنها في الأقوال والأفعال من المنافع الدنيوية والأخروية للتنزيل , وهو من أسرار سلامة القرآن من التغيير والنقص أو الزيادة .
الحادية عشرة : لقد جعل الله عز وجل الآية القرآنية قريبة من العباد وسهلة على اللسان لتكون طريقاً مباركاً لنيل محبته ومغفرته ورضوانه، وفي التنزيل[قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ]( ).
الثانية عشرة : كل آية قرآنية ذخيرة متجددة للآخرة، وهو من رحمة الله في جعل القراءة واجبة في الصلاة اليومية ليدخر المسلمون والمسلمات الحسنات بالتلاوة في الصلاة.
وعن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقرأوا القرآن ، فإنكم تؤجرون عليه . أما إني لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف عشر ، ولام عشر ، وميم عشر ، فتلك ثلاثون( ).
وعدد حروف سورة آل عمران التي نقوم بتفسير آية منها في هذا الجزء المبارك هو أربعة عشر ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون حرفاً، فيكون الأجر على قراءتها مائة وخمسة وأربعين الف حسنة، ومائتين وخمسين حسنة.
وعن زرّ بن حُبيش عن أُبي بن كعب قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من قرأ سورة آل عمران أُعطي بكلَّ آية منها أماناً على جسر جهنَّم ( ).
القسم الثاني : الغايات الأخروية للآية القرآنية: وهي المنافع والثمرات والحسنات التي ترد للمسلم من تعاهده للآية القرآنية ، وبين هذا القسم والقسم الأول عموم وخصوص مطلق من جهة نوع ومقدار وكم ومدة النفع من الآية القرآنية.
ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار التلاوة ) إذ تصبح حديقة ناضرة بتلاوة آيات القرآن ، ونزول الملائكة للإستماع للمؤمنين وهم يتلون آيات القرآن .
وتلازم التلاوة صاحبها من حين دخوله القبر ، وتكون واقية له من العذاب
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة { تبارك الذي بيده الملك } ) ( ).
(عن بريدة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب ، فيقول له : هل تعرفني؟ فيقول : ما أعرفك ، فيقول : أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر ، وأسهرت ليلك ، وإن كل تاجر من وراء تجارته ، وإنك اليوم من وراء كل تجارة . قال : فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسي والده حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا ، فيقولان : بم كسينا هذا؟ فيقال لهما : بأخذ ولدكما القرآن .
ثم يقال له : اقرأ واصعد درج الجنة وعرفها ، فهو في صعود ما دام يقرأ هذاً كان أو ترتيلاً) ( ).
وتلاوة آيات القرآن عمل صالح مطلوب بذاته ، كما تترشح عند أسباب الصلاح من وجوه :
الأول : ذات التالي للآية لصدق ذكره الله عز وجل عند قراءة القرآن .
الثاني : قراءة القرآن باعث على فعل الخيرات .
الثالث : من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلاوة آيات القرآن , وهو من إعجاز القرآن الغيري .
الرابع : إنتفاع المستمع من الآية القرآنية تدبراً وعملاً باحكامها وذات الإستماع فيه للمؤمن ثواب ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
والرحمة في الآية أعلاه مطلقة شاملة للحياة الدنيا والآخرة ، ليكون الإستماع له حاجة ونفعاً متجدداً وإذا كان هذا أجر الإستماع فان أجر التلاوة أعظم بالذات ولأنها السبب في تحقيق الإستماع ، ومن أبواب الثواب في المقام تعدد المستمع للقارئ الواحد .
وإذا إستمع الإنسان عبر الجهاز الحاكي والتسجيل الصوتي والأقراص الليزرية فهل يلحق التالي فيها الثواب ، أم أن القدر المتيقن هو الإستماع الشخصي من غير واسطة ، الجواب هو الأول لأنه من مصاديق عمل المعروف ومصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ( ).
الخامس : مجئ الثواب للذي يتلو آية من القرآن ممن ينتفع من تلاوته بالواسطة وبالنقل والإخبار والتسجيل وقد تكون التلاوة مناسبة للإحتجاج والجدال ، ورداً على مغالطة ويستمع لها الإنسان فتكون جواباً لما في نفسه ، أو باعثاً لفعل خير .
ويدل على عظيم ثواب قراءة القرآن ما ورد (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه ) ( ).
وسئل ابن حجر الهيثمي عن المخصوص بهذه الفضيلة , ومن هو صاحب القرآن في الحديث أعلاه فقال إنه من يحفظه عن ظهر قلب فأجاب (الخبر المذكور خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب لا بمن يقرأ في المصحف لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها ولا يتفاوتون قلة وكثرة ، وإنما الذي يتفاوتون فيه كذلك هو الحفظ عن ظهر قلب ، فلهذا تفاوتت منازلهم في الجنة بحسب تفاوت حفظهم ، ومما يؤيد ذلك أيضا أن حفظ القرآن عن ظهر قلب فرض كفاية على الأمة ، ومجرد القراءة في المصحف من غير حفظ لا يسقط بها الطلب فليس لها كبير فضل كفضل الحفظ فتعين أنه أعنى الحفظ عن ظهر قلب وهو المراد في الخبر وهذا ظاهر من لفظ الخبر بأدنى تأمل ، وقول الملائكة له ” اقرأ وارق ” صريح في حفظه عن ظهر قلب كما لا يخفى) ( ).
ولكن ظاهر الحديث الشريف عموم التلاوة لوجوه :
الأول : أصالة الإطلاق , وعدم وجود مقيد ظاهر في البين.
الثاني : سعة رحمة الله عز وجل .
الثالث : تفضل الله بقبول القليل وإعطاء الكثير .
الرابع : ورد اللفظ (كما كنت ترتل في الدنيا) ويصدق الترتيل على الذي يقرأ في الكتاب أو عن ظهر قلب .
ويمكن تأسيس قانون وهو إذا دار الأمر في الثواب الأخروي بين ترتبه على الفعل العبادي والعمل الصالح الأقل أو الأكثر , فالأصل هو الأول لوجوه :
الأول : يرضى الله عز وجل بالقليل .
الثاني : يضاعف الله عز وجل العمل الصالح .
الثالث : زيادة الأجر والثواب على العمل الصالح على نحو مستمر ومتصل ، وهل يصدق لفظ( صاحب القرآن ) على الذي يعمل به .
الجواب نعم , وكذا الذي يأخذ بأوامره ويتجنب ما نهى عنه ، لقد جعل الله عز وجل تلاوة المسلمين من مصاديق اسم التفضيل (خير) وخروجه للناس بها في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان عظيم قدرة الله , وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة ، وهو الذي يقهر أعداءه من الكافرين بالقاء الرعب في قلوبهم ، قال تعالى [وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ] ( ) لبيان أن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من حكمة الله عز وجل ، وعلمه بأن هذا الرعب تقويم للبشر وإصلاح للمجتمعات ، ومنع من إشاعة مفاهيم الكفر والضلالة .
الثاني : المندوحة والسعة في نزول البلاء بالناس ، فحتى الكافر يمنحه الله عز وجل فرصة للتوبة والإنابة بأن يؤخر قذف الرعب في قلبه بدليل حرف السين في (سنلقي) .
وهل تدل الآية على سلامة قلوب الكافرين من الرعب قبل أن يلقيه الله في قلوبهم ، الجواب لا ، فذات الكفر سبب للخوف والرعب وتأتي أسباب الإبتلاء للكافر من جهات متعددة لتكون تذكيراً بلزوم التوبة والإنابة .
الثالثة : عجز الكفار عن الدفع والذب عن قلوبهم في الدنيا مما يدل بالأولوية القطعية على عجزهم عن الدفع عن أنفسهم وأبدانهم في الآخرة ، قال تعالى [كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا]( ).
الرابعة : يمكن تقسيم السكينة التي تأتي للمؤمنين إلى أقسام:
الأول : السكينة الذاتية وهي التي تدخل قلوب المؤمنين بفضل من عند الله .
الثاني : ما يترشح عن أداء الوظائف العبادية من السكينة .
الثالث : ما يصيب الكافرين من الرعب سبب للطمأنينة وبعث السكينة في نفوس المؤمنين ، وتقدير آية البحث :
سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب لبعث السكينة في نفوس المؤمنين .
الرابعة : تعيين الآية للذين يلقي الله الرعب في قلوبهم بما يمنع من اللبس والترديد ، ويرفع الخوف والفزع عن قلوب المؤمنين لأنهم في مأمن من الفزع والخوف .
الخامسة : الرعب سلاح للتخويف والزجر عن الكفر ، وهو من مصاديق [ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ] ( )والرعب مقدمة للبطش بالكفار في الدنيا , والعذاب في الآخرة .
السادسة : ذم الشرك وأسباب الضلالة ، ومن مصاديق سلامة القرآن من التحريف بقاء آية البحث مرآة لتقبيح الشرك والنهي عنه.
السابعة : دعوة الناس لجعل التنزيل هو الملاك والفيصل بين الحق والباطل ، إذ تضمنت آية البحث حث الناس على اللجوء إلى العلم النازل من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ).
ومن الآيات في خلق الإنسان أن أول كلمة نزلت من القرآن هي [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ] ( ) وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها تدعو إلى العلم , ويترشح عنها العلم والفقاهة والأمن من الرعب والفزع .
الثامنة : تأكيد آية البحث للمعاد ، وحث الناس على التصديق به والإستعداد له ، وإتخاذ السلامة من إستيلاء الرعب على القلب وسيلة للنجاة من الإقامة في النار .
التاسعة : بيان سوء عاقبة الظلم والتعدي والجور , ومن أشد وجوه الظلم إختيار الكفر لأنه ظلم للذات في الدنيا والآخرة .
العاشرة : توجيه الذم في الدنيا للذين كفروا على ما ينتظرهم من عذاب النار , وتذكيرهم بسوء الإقامة في الآخرة , وهو من مصاديق الرعب الذي يلقيه الله في قلوبهم , ومن أسرار قوله تعالى[وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
التفسير
قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ]
لم تقل الآية (سألقي )بصيغة الفرد بل وردت بصيغة الجمع لبيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه وأنه سبحانه يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا مرة واحدة ،ويحتمل الرعب في المقام وجهين :
أولاً : الرعب من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة في الكم والكيف سواء الذي يلقيه الله في قلوب الرؤساء من الكفار أو التابعين .
ثانياً : الرعب من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، بكيفية وأسرار وعلل لا يعلمها إلا الله عز وجل , وتكون على وجوه :
الأول: الرعب الذي يصيب الرؤساء من الذين كفروا أشد مما يصيب التابعين لهم .
الثاني : الرعب الذي يغزو قلوب التابعين أشد وأمر لزجرهم عن إستمرار إتباع رؤساء الضلالة .
الثالث : التفصيل ، فكل واحد من الكفار يأتيه الرعب مرة شديداً , وأخرى خفيفاً وضعيفاً .
والمختار هو الأول ، ويكون الثالث في طوله في المصداق الواقعي ،وهو من معاني الإطلاق في آية البحث من جهات :
الأولى : إلقاء ذات الرعب وعدم تقييده .
الثانية : إصابة قلوب عموم الذين كفروا بالرعب .
الثالثة : بيان علة إلقاء الرعب وهو الشرك بالله الذي يشترك فيه التابع والمتبوع من الكفار .
ولم تذكر آية البحث التفصيل بين التابع والمتبوع من الكفار , إنما ذكرت الملازمة بين الكفر وإمتلاء القلب بالرعب والخوف والفزع .
ومن أسرار عدم ذكر آية البحث للتبعية بين الذين كفروا لأن أحد طرفي التبعية يكون أحياناً من الأموات وأن موضوع الرعب في الآية خاص بالأحياء , ولو على نحو السالبة الجزئية , قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ] ( )، كيفية نفسانية وهل له أثر وتأثير بدني على الأعضاء والجوارح وعلى صحة ذات القلب أم لا .
الجواب هو الأول ، وهو الذي دلت عليه الدراسات الطبية الحديثة في الملازمة بين المرض النفسي والعضوي ، ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب مجتمعين ومتفرقين ، ومن مصاديق مجئ الرعب لهم مجتمعين وجوه :
أولا : مجئ الرعب للكفار دفعة واحدة .
ثانياً : تعلق الرعب في موضوع متحد ، ومصداق يكون سبباً لإستيلاء الرعب على قلوب الذين كفروا كما لو طرق أسماعهم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سيغزوهم ، ليكون من تقدير الآية : سنلقي الرعب في قلوب الذين كفروا بانباء كتائب وسرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : علم الله بأحوال الناس جميعاً ، وحال العناد والجحود التي عليها الكفار ، قال تعالى [وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ] ( ).
رابعاً : مناجاة الكفار بسبب مخصوص من أسباب نشر الرعب بين صفوفهم وإستحواذه على أحاديثهم في منتدياتهم ، ومن مصاديق القضية الشخصية في القاء الرعب في قلوب الذين كفروا وجوه :
أولاً : غزو الرعب لقلب الكافر لحمله على التوبة .
ثانياً : مجئ الرعب للكافر بخصوص مسألة يلتفت إليها ، مثل ذات الرعب وعلته , وسوء عاقبة الكفر .
ثالثاً : مصاحبة حال الوحشة للرعب الذي يأتي للكافر .
رابعاً : إبتلاء الكافر على نحو القضية الشخصية وبما يبعث الرعب في قلبه على نحو الخصوص فيتترك الوساد والمهاد ويحرم من التنعم بالأهل والأولاد فزعاً ورعباً مع أنهم من حوله .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بذات آية البحث ، فحينما يسمعها الكافر يصاب بالرعب ، لتكون الآية كالعسكر الذي يهجم على الديار ، فهي تهجم على قلب الكافر فتملأه رعباً ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين للقرآن على نحو الجهر في صلاة الصبح والمغرب والعشاء .
ويحتمل موضوع ومصاديق الهجوم في المقام وجوهاً :
الأول : إختصاص آية البحث ببعث الفزع في قلوب الكفار عند سماعهم لها .
الثاني : تبعث آيات الإنذار والوعيد الرعب في قلوب الذين كفروا مثل قوله تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ] ( ).
الثالث : من خصائص الآيات التي تثني على المؤمنين أنها تبعث الرعب في قلوب الذين كفروا ، كما في الآية السابقة [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( ) إذ أنها تغلق أبواب الولاية والنصرة بوجه الذين كفروا وتجعلهم في حال من الفزع .
الرابع : كل آية من القرآن تبعث الرعب في قلوب الذين كفروا سواء تضمنت الأوامر والنواهي ،أو البشارة والإنذار أو القصة والمثل أو الوعد وأخبار يوم القيامة وما فيه من الأهوال .
والصحيح هو الأخير ليكون من تقدير آية البحث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بآيات القرآن .
وهل يصح تقدير الآية سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بتنزيل آيات القرآن .
الجواب نعم , وبينه وبين الوجه أعلاه عموم وخصوص مطلق ، لمجئ الرعب للكافرين من وجوه :
الأول : تنزيل الآية القرآنية .
الثاني : تعاقب نزول آيات القرآن على مدى ثلاث وعشرين سنة بلحاظ أن القرآن نزل نجوماً .
الثالث : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية .
الرابع : تدوين كتّاب الوحي الآية القرآنية .
الخامس : لحاظ مضامين الآية القرآنية ودلالتها على بعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا .
السادس : حفظ وتعلم المسلمين للآية القرآنية .
(وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا) ( ).
السابع : موضوعية أسباب النزول في معرفة مضامين الآية القرآنية .
الثامن : تلاوة المسلمين للآية القرآنية .
التاسع : تدبر الناس عامة والمسلمين خاصة بإعجاز الآية القرآنية , فهذا التدبر سبب لبعث الفزع في قلوب الذين كفروا .
العاشر : تلاوة القرآن في المنتديات وفي السفر ، لأنه معجزة الزمان الخالدة ، أي أن الناس أدركوا أن القرآن معجزة في زمانه ، وهو خالد في تحديه وتأكيد نزوله من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) إذ يحفظ الله إعجاز القرآن ، فيكون في كل زمان قاهراً للعادة والسياق ، ومقروناً بالتحدي وسالماً من المعارضة .
وتدل الآية على الإمهال في القاء الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا ، ويتجلى هذا الإمهال بحرف السين في [سَنُلْقِي] الذي يفيد الإستقبال القريب ، ومن خصائصه أمور :
الأول : دعوة الكفار إلى التخلص من درن الكفر .
الثاني : بيان الآية لعلة إلقاء الرعب وهو الشرك بالله ، وفيه بيان ومنع للبس والريب والمغالطة فالمدار على الإيمان أو الشرك ، فبالإيمان تأتي الطمأنينة ، وبالشرك يأتي الرعب وكل منهما لا يقدر عليه إلا الله .
الثالث : إخبار الآية عن سوء عاقبة الذين كفروا وإقامتهم في النار يوم القيامة .
الرابع : هذا الإمهال تأكيد لعظيم قدرة الله , وملكيته للسماوات والأرض , وأن الكافرين لم يفلتوا من الحساب , قال تعالى[لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ]( ).
ليكون قذف الرعب في قلوبهم رحمة بهم لأنه دعوة للهداية ووسيلة لمعرفتهم والناس للقبح الذاتي للكفر , وهو مناسبة لإدراك لزوم السلامة منه .
لقد أراد الله عز وجل للرعب أن يكون من أسباب نصرة الله للمسلمين في قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] فالله سبحانه ينصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بخذلان عدوهم برميه بالرعب الذي يستولي على الرؤساء والتابعين من الكفار في زمان واحد ،وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
ومن خصائص إلقاء الرعب في قلوب المشركين صيرورة المسلمين بالمرتبة الأعلى ، فهو مدد من جهات :
الأولى : حال المسلم وأيام الصلح , وبين السلم والصلح عموم وخصوص مطلق فالسلم أعم ، وقد لا يكون صلحاً أو مهادنة ، ولكن حالة من الكف عن القتال وتهيئة مقدماته .
الثانية : إلقاء الرعب مدد وعون عند التهيئ للقتال ، وإستحضار مقدماته ، وهو على وجوه :
الأول : إنه مدد غيري للمسلمين .
الثاني : إنه ضعف ووهن للكافرين .
الثالث : قد يقال باحتمال طرو الوهن على المسلمين بلحاظ قلة عددهم أو النقص في أسلحتهم ومؤنهم ، بما يساوي في أثره وقع الرعب في قلوب الذين كفروا .
والجواب جاءت آية البحث لدفع مثل هذا الوهن , لأنها تمنع من ترتب الأثر على الفارق في العدد والعدة ، لذا قال الله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وتقدير الآية أعلاه بلحاظ مضامين آية البحث على وجوه :
الأول : ولا تهنوا إن أصابتكم مصيبة فان الله يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا فلا يجهزون عليكم .
الثاني : ولا تهنوا كما يصيب الوهن عدوكم .
الثالث : كيف يصيبكم الوهن ومددكم ملأ الرعب قلوبهم .
الرابع : لا تهنوا مع الذين أشركوا بالله في الإحتجاج واللقاء .
الخامس : ولا تهنوا فمأوى عدوكم النار .
السادس : ولا تحزنوا فان الله يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب , وفيه نكتة وهي حتى لو كسب الكفار معركة وسقط الشهداء من المؤمنين كما في واقعة أحد ، ففي إستيلاء الرعب على قلوب الذين كفروا مسائل :
الأولى : إنه مواساة للمسلمين .
الثانية : التخفيف عن المسلمين بما يلاقيه الكفار من الأذى ، قال تعالى [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ] ( ).
الثالثة : بعث المسلمين للإستعداد لقادم الإيام , وتحقيق الغايات الحميدة . ومن أسرار إرتقاء الأمم السعي إلى البناء ،ولحاظ المستقبل، وترك الإقامة على الماضي وأحزانه من غير إهمال لضروب العبرة والموعظة من دروس الماضي .
فتفضل الله عز وجل وأخذ بأيدي المسلمين في مسالك الإرتقاء وجعلهم في أمن وسلامة من الوهن والحزن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) إذ يكون الناس الذين أخرج الله المسلمين لهم على أقسام :
الأول : ذات المسلمين، وتقدير الآية : كنتم خير أمة أخرجت لنفسها وصلاحها) بدليل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تذكره الآية أعلاه شامل للمسلمين والمسلمات أنفسهم وهل يصح القول تخرج لنفسها لتخرج للناس، الجواب نعم، فخروج المسلمين لأنفسهم مطلوب بالذات والعرض.
وبين الناس والمسلمين عموم وخصوص مطلق، فالناس أعم، فيدخل المسلمون في لفظ الناس، ليكون من الإعجاز في اسم التفضيل(خير) الوارد في الآية أعلاه أن المسلمين في إرتقاء متجدد في سلم المعارف الإلهية، وأن الأمة تأخذ بيد الفرد منهم ليسموا في مراتب التقوى، وتقيد خروج الأمة بلفظ(خير) أن المسلمين لايأمرون ولا يتناجون إلا بما هو خير محض، وفيه صلاح وهداية.
الثاني : طائفة من الناس ألقى الله الرعب في قلوبهم ، فهل يقوم المسلمون بنجاتهم من هذا الرعب ، الجواب إن الله عز وجل هو الذي ينجيهم من ذات الرعب الذي ألقاه في قلوبهم إن شاء بهدايتهم للإيمان ، ويكون خروج المسلمين في المقام من فضل الله ، وهم جنود للهداية , ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) .
فان قلت قد علم الناس عدد المسلمين في سعيهم لنجاة الناس من الرعب وما يترشح عنه من الكآبة , فكيف تنحصر الآية أعلاه علم عددهم بالله , والجواب من جهات :
الأولى : المراد من الجنود في الآية أعم من المسلمين , ومن الإنس والجن والملائكة .
الثانية : ذات عدد المسلمين لا يعلمهم إلا الله بلحاظ الموجود والمعدوم منهم ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , قال (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) ( ).
الثالثة : يكون ذات المسلم جندياً يتكرر فعله وجهاده وسعيه لإصلاح المجتمعات .
الرابعة : يقوم المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيسخر أناس من غير المسلمين أنفسهم في الحث على نبذ الظلم وإزدراء الشرك .
الثالث : فريق من الناس من أهل الكتاب يلتقون مع المسلمين في التوحيد ويتجنبون الحرب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتدبر في آيات القرآن ، قال تعالى [ لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ] ( ) وعن ابن عباس : نزلت الآية أعلاه في عبد الله بن سلام وأسيد بن سعية وثعلبة بن سعية حين أسلموا ) ( ).
الرابع : فريق من الناس ليسوا من أهل الكتاب ولا من الذين كفروا , ويحتمل بلحاظ آية البحث وجوهاً :
الأول : إصابة هذا الفريق بالرعب والفزع كالذين كفروا لأنهم ليسوا من المسلمين .
الثاني : إلقاء الرعب في قلوبهم ، ولكن بمرتبة أدنى وأقل من المشركين .
الثالث : سلامة قلوبهم من الرعب .
الرابع : الإتعاظ مما يصيب الذين كفروا من الرعب .
والصحيح هو الثاني والأخير لإقتران الرعب بمفارقة الإيمان ، ليكون من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) أن الذي يؤمن بنبوته من الناس ينجو من الرعب والفزع ليكون هذا الرعب على وجوه :
الأول : بيان عملي لقبح الشرك بالله , وما يترتب عليه من الضرر .
الثاني : دعوة الناس للإسلام للسلامة من الرعب وشدة وطأته على النفوس وتأثيره سلباً في سنخية الإختيار وميدان العمل .
الثالث : شكر المسلمين لله على سلامتهم من الرعب والفزع .
ترى لماذا لم تقل الآية (نلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) الجواب إنه من الإنذار والإمهال ومصاديق عموم رحمة الله في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
فان قلت إن المسلمين بحاجة إلى الإلقاء الفوري للرعب في قلوب الذين كفروا ليكفوا عن التحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجمع الجيوش وتأليب الناس على الإسلام.
الجواب يتضمن مجئ الآية بصيغة المستقبل القريب (سنلقي) في دلالته الإلتزامية كفاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فيما بين الإنذار وإلقاء الرعب مع إستحقاق الكفار للتعجيل به، ودلالة السين التي أفتتحت بها آية البحث على إرجاء الرعب ،كما أن أسباب إرباك وفزع الذين كفروا لا تنحصر بالرعب فهي أعم وأشمل.
وتبين آية البحث أن القلوب لها إدراك وإحساس وأثر في عالم الأفعال وان وظيفة القلب لا تختص بالعمل العضوي , وأنه عضلة مجوفة تدفع الدم المملوء بالأوكسجين الآتي من الرئتين مع إيصال مواد غذائية إلى خلايا الجسم لتقوم بأعمالها , ويسحب القلب الدم الذي يأتي من الأعضاء مختلطاً معه ثاني أوكسيد الكاربون ليدفعه إلى الرئتين لتنقيته وإعادة إرساله إلى القلب بالأوكسجين ، ومقدار ما يضخه القلب من الدم نحو أربعة ونصف إلى خمسة لتر في الدقيقة .
ويتضاعف عند تزايد دقات القلب بالإجهاد والتمارين الرياضية ويزن قلب الإنسان نحو (350) غراماً ، وهو نفسه يحتاج إلى الأوكسجين لمواصلة عمله والنقص فيه كما في الذبحة الصدرية وما تسببه من الألم.
وهناك مسألتان :
الأولى :هل يؤثر الرعب على أعمال القلب العضوية .
الثانية : هل للرعب الذي يغزو القلب موضوعية في خيارات وأفعال الإنسان .
أما الأولى فنعم وهو من العقاب النفسي العاجل , ويمكن إجراء دراسة طبية مقارنة لحال الملحدين القلبية المرتبكة وحال المؤمنين المستقرة من جهات:
الأولى : دقات القلب وعددها في الدقيقة الواحدة .
الثانية : تروية القلب بالشريان التاجي الأيمن ، والشريان التاجي الأيسر ، إذ يغذي كل واحد نصف القلب .
الثالثة : مدة عمل القلب عند المؤمن ، وعند الكافر .
الرابعة : عدد الوفيات بأمراض القلب بين المؤمنين وبين الكفار الملحدين مع موضوعية التساوي التقريبي في العمر والحياة المعاشية .
الخامسة : نسبة وعدد أمراض القلب في طائفة من الكفار الملحدين وأخرى من المؤمنين .
وأما الثانية فللرعب آثر جلي وظاهر على اللسان والجارحة ، وهذا الأثر رحمة من وجوه :
الأول : البيان العملي للضرر الفادح المترتب على الكفر .
الثاني : إنه زاجر عن الكفر .
الثالث : الإخبار بالمصداق والشاهد المحسوس عن قبح الكفر وأنه لا يجلب إلا الشر والأذى .
الرابع : تنبيه الناس وتحذيرهم من طاعة الذين كفروا ، قال تعالى [وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ] ( )والآية أعلاه حكاية عن صالح عليه السلام في حثه قومه على طاعة الله والتحلي بالتقوى ، ونبذ طاعة أوامر المشركين والمفسدين الذين يتجاوزون الحد في الظلم ، لبيان أن طاعتهم تؤدي إلى الهلاك والدماء.
وفي المقام مسألتان :
الأولى : لا يشترط في المؤمنين سلامتهم من الرعب الذي يأتي من الإبتلاء والخوف في أمور الدنيا كالظلم الخاص أو العام والخشية من الفقر والفاقة .
الثانية : لا يشترط عدم مجئ الرعب للكافر من أسباب وأمور دنيوية , ولا مانع من هذا الشرط بخصوص الكفار ، لبيان الحجة الدامغة في ترتب الأثر على سوء الفعل .
وستتجلى آيات وبراهين في هذا الباب لتكون الدراسات العلمية على وجوه :
الأول : إنها شاهد على صدق نزول القرآن .
الثاني : دعوة علماء الأبدان , وهم الأطباء إلى جعل موضوعية للإيمان أو ضده في أمور :
الأول : أسباب المرض .
الثاني :حال المريض .
الثالث : كيفية العلاج .
الرابع : تأكيد موضوعية الإيمان والهداية إلى التقوى ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
الثالث : إستقراء ضروب من العلاج للأمراض العضوية بسنن الإيمان وأداء الفرائض , ومنه قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : صوموا تصحوا،وسافروا تستغنوا) ( )، ورمي سند الحديث بالضعف , لأن في سلسلة رجاله ابن ضميرة وهو ضعيف وحسين بن عبد الله قيل هو متروك الحديث , ولكن العلوم الطبية تؤكد مصداقه .
ترى ما هي الصلة بين الرعب والإسراف ، الجواب من وجوه :
الأول : نسبة العلة والمعلول , وهو على شعبتين :
الأولى : الرعب علة للإسراف.
الثانية : الإسراف علة للرعب والفزع .
الثاني : نسبة التساوي في الإبتلاء، وأن الرعب والإسراف كلاهما من رشحات وأسباب الكفر.
الثالث : إرادة التفصيل والتبعيض ، وهو أن بعض الرعب يأتي بواسطة الإسراف ، وكذا العكس فان بعض الإسراف يأتي بواسطة الخوف الرعب.
الرابع : لا صلة أو ملازمة بين الرعب والإسراف.
وباستثناء الوجه الرابع أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق آية البحث .
ومن معاني حرف الإستقبال السين في [سَنُلْقِي]الوعيد للكفار من الأجيال اللاحقة إذ أن القرآن خطاب من الله للناس جميعاً وإلى يوم القيامة، لبيان حقيقة وهي أن القرآن يتضمن الدعوة إلى الإيمان من جهات :
الأولى : إخبار القرآن عن ولاية الله للمسلمين.
الثانية : بيان الضرر النفسي والبدني المترشح عن الكفر.
إن الله عز وجل هو [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ومن معاني اسم التفضيل [خَيْرُ] في الآية السابقة أن نصره متجدد ومستمر، ويحتمل إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وجوهاً:
الأول : إنه من نصر الله عز وجل للمؤمنين .
الثاني : إنه مقدمة لنصر الله .
الثالث : هذا الرعب دعوة للذين كفروا لإجتناب المواجهة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الرابع : إنه من اسم التفضيل[خَيْرُ] في قوله تعالى[خَيْرُ النَّاصِرِينَ] بلحاظ أنه لا يستطيع أحد إلقاء الرعب في قلوب أحد طرفي الخصومة والخلاف إلا الله عز وجل.
وقد قطعت آية البحث الأمر بأن الرعب لا يتوجه إلا إلى قلوب الذين كفروا ، وإذا توجه إليهم فليس دونه برزخ أو مانع ، ويستطيع رؤساء الكفر إعانة التابعين لهم بالمال والجاه ، وأن يقربوهم إلى مجالس الشأن والسلطان، وتكون لهم الشفاعة وإبداء المشورة.
وقد يستطيع الأتباع نصرة الرؤساء وجلب الأموال والغنائم لهم، وتثبيت حكمهم في القرى والأمصار ، ولكن لا يقدر أي من الطرفين على دفع الرعب الذي يغزو قلبه او قلوب الآخرين ، قال تعالى [وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ] ( ).
وتبين الآية إحاطة الله بكل شئ ، وأنه قريب من الناس وقلوبهم بين يديه , يدخل السكينة للقلوب المؤمنة المنقطعة إلى الشكر له سبحانه ، ويدخل الرعب إلى القلوب التي تصر على الكفر [سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] ( ) ترى مم يكون الرعب الذي يملأ قلوب الذين كفروا , الجواب من وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب في التنزيل من جهات :
الأولى : يخاف الذين كفروا أن تنزل عليهم آية تفضحهم وتذمهم , ويبقى الناس يتلونها إلى يوم القيامة .
الثانية : يخشى الذين كفروا نزول آيات القتال .
الثالثة : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بتوالي نزول الآيات، وتجلي إعجازها ، وصدق تنزيلها من عند الله .
الرابعة : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بقصص القرآن وأخبار الأمم السابقة ومحق الكافرين، وفي هلاك فرعون ورد قوله تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى] ( ).
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بدخول الإسلام، وفيه مسائل :
الأولى : كل فرد يدخل الإسلام سبب لقوة للمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )بلحاظ أن زيادة عدد الأخوة عز ومنعة.
الثانية : دخول الناس في الإسلام شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإعلان عملي على التصديق بالمعجزات التي جاء بها .
الثالثة : دخول أي إنسان للإسلام وهن وضعف للكفار والمشركين ، فالذي يدخل الإسلام يكون قلبه على وجوه :
أولاً : البقاء على الفطرة .
ثانياً : الإنتقال من حال الشرك والوثنية .
ثالثاً : التنزه عن الحيرة وأسباب الوهم.
رابعاً : الإبتعاد عن الشرائع التي حرفت .
خامساً : من أهل الكتاب .
والغالبية العظمى من المسلمين هم الذين يولدون لأبوين مسلمين ، ويتوارثون الإيمان وأداء العبادات ويراقبون الشمس وعقرب الساعة لأداء الصلاة، ويتطلعون إلى شهر رمضان للفوز بصيامه.
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليدخلوا الإسلام ويهجروا منازل الكفر، ويكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : نفرة النفس الإنسانية من الأمر الذي يصاحبه الرعب .
الصغرى : الكفر يلازمه الرعب .
النتيجة : نفرة النفس الإنسانية من الكفر .
ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى : تفضل الله بتقريب الناس إلى عبادته .
الثانية : جعل النفس الإنسانية تنفر من الكفر , وأسباب ترك عبادة الله .
الثالثة : إلقاء الله عز وجل الرعب في قلوب الذين كفروا من اللطف الإلهي من جهات :
الأولى : إنه لطف بالكافر ليكف عن الكفر ويترك الضلالة .
الثانية : دعوة الناس للإتعاظ من الكفر ، وما يلقاه من الضيق والحسرة والأذى .
الثالثة : إجتهاد المسلمين في الشكر لله عز وجل على نعمة مصاحبة الرعب للكفر .
الرابع : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليكفوا أيديهم عن التعدي على الإسلام والمسلمين , وهو من أسرار مجئ آية البحث بصيغة الجمع لبيان أن الرعب يتغشاهم جميعاً ، فيتخلفون عن المناجاة بالتعدي والظلم ، وعن المكر بالمسلمين .
الخامس : لما جاءت الآية السابقة بصيغة الخطاب والوعد الكريم للمسلمين جاءت هذه الآية بالتخويف والوعيد للكافرين لينتفع منه المسلمون خير إنتفاع بالولاية والنصرة من عند الله عز وجل ، ويكون من معاني آية البحث :
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليتفقه المسلمون في الدين، ويؤدوا عباداتهم تامة وصحيحة من غير آذى ويكون تقدير قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلّوا كما رأيتموني أصلّي)( ) صلوا كما رأيتموني أصلي فقد القى الله الرعب في قلوب الذين كفروا ، وفيه مسائل :
الأولى : الشكر لله عز وجل على نعمة إزاحة الموانع عن أداء الصلاة , وعن تعلمها عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فلم يستطع الكفار أن يمنعوا أجيال المسلمين من تعلم الصلاة وتوارث ذات الصلاة التي أداها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من ثمرات إلقاء الرعب في قلوبهم الذي يترشح عنه الإنشغال عن كيفية إتباع المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته العبادية ، قال تعالى [كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ] ( ).
وتكون الآية أعلاه حجة بلحاظ آية البحث ، وتقديرها ولكم في رسول الله أسوة حسنة سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) فيعجزون عن منعكم من الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتخاذ سنته إماماً ، وتعلمكم مصاديق السنة النبوية لأن هذا التعلم يستلزم تهيئة مقدماته وأسبابه , وإن كان هو بذاته مقدمة للعمل بالسنة .
وفي علم الأصول لا يجب تحصيل مقدمة الواجب ، كالإستطاعة بالنسبة للحج ، فما دام المسلم غير مستطيع فلا يجب عليه الحج , وعدم الوجوب لا يمنع من الندب والإستحباب , ولكن فضل الله عز وجل أعم من أن تحيط به قواعد الأصول ، فهو سبحانه الذي يهيئ مقدمات الواجب والمندوب للأمة وأجيالها المتعاقبة وليس للأفراد وحدهم، قال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
الثانية : صلوا كما رأيتموني أصلي , لأن أداء الصلاة بذات الكيفية التي أديتها باعث للرعب في قلوب الذين كفروا ).
ليكون أداء المسلمين الصلاة من مصاديق وأفراد إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
ويكون تقدير آية البحث : سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب بأدائكم الصلاة كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الشواهد بأن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعبة من الوحي ومن حاجة الناس عامة والمسلمين خاصة أن يكون كلامه وحياً وإخباراً من عند الله ، وهو من مصاديق الولاية في الآية السابقة [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] أي (بل الله مولاكم إذ جعل كلام وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي وهو خير الناصرين , بأن جعل كلام وفعل النبي نصراً وسبباً للنصر, وواقية من الخسارة لأنه وحي ،قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الثالثة : صلوا كما رأيتموني أصلي لتعاهد سنن العبادة في الأرض وقد خفف الله عنكم بأن ألقى الرعب في قلوب الذين كفروا.
ولأن يعبدون ويطيعون ما لم يأمر الله عز وجل بطاعته كالأوثان والكهان والطواغيت ورؤساء الشرك من قريش .
ويحتمل الرعب الذين يلقيه الله في قلوب الكفار في مدته وموضوعه وجوهاً:
الأول : قذف الرعب في قلوب الكفار أوان المعركة , وعند لمعان السيوف.
الثاني : حصول الرعب عندما يهم الذين كفروا بالتعدي على النبوة والتنزيل.
الثالث : يقذف الله الرعب في قلوب الذين كفروا عندما تغزوهم سرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : إرادة العموم، وأن الرعب يملأ قلوب الكفار في كل آن ومكان.
والصحيح هو الأخير , لأصالة الإطلاق في قوله تعالى[سَنُلْقِي] نعم الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً فما يغزو قلوبهم عند ساعة المعركة أكبر وأشد، ولكنه لا ينفك عنهم وإن إنتهت المواجهة ورجع المؤمنون إلى المدينة.
وهل هو من مصاديق [وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا]( )، أي إن عاد الذين كفروا إلى التعدي والعناد والإستكبار يعود الله عليهم بالرعب فيملأ قلوبهم، الجواب لا، لإفادة آية البحث إستدامة إصابتهم بالرعب وظهوره على عالم الأقوال والأفعال وإن كان بمراتب متفاوتة، وفيه دعوة لهم وللناس بعدم التسويف والتفريط والإبطاء في لزوم ترك الشرك الذي تتضمن آية البحث النهي عنه وذم أهله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لقد دخل موسى على فرعون وعليه زرمانقة من صوف ما تجاوز مرفقه ، فاستؤذن على فرعون فقال : ادخلوه . فدخل فقال : إن إلهي أرسلني إليك . فقال للقوم حوله : ما علمت لكم من إله غيري خذوه . قال إني قد جئتك بآية[قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ]( )، فصارت ثعباناً ما بين لحييه ما بين السقف إلى الأرض .
وأدخل يده في جيبه فأخرجها مثل البرق تلتمع الأبصار فخروا على وجوههم ، وأخذ موسى عصاه ثم خرج ليس أحد من الناس إلا يفر منه .
فلما أفاق وذهب عن فرعون الروع قال للملأ حوله : ماذا تأمرون ؟ قالوا : أرجئه وأخاه لا تأتنا به ولا يقربنا ، وأرسل في المدائن حاشرين ، وكانت السحرة يخشون من فرعون ، فلما أسرع إليهم قالوا : قد احتاج إليكم إلهكم قال : إن هذا فعل كذا وكذا . قالوا : إن هذا ساحر يسحر ، أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال : ساحر يسحر الناس ولا يسحر الساحر الساحر؟ قال : نعم وإنكم إذاً لمن المقربين ( ).
فاذا إنقطع سبيل ووسيلة للرعب بحسب الموضوع والحكم، تأتي للكافر وسائل أخرى تجعله في حيرة من أمره وتبعث الكآبة والسأم في نفسه، فيلجأ إلى أصحابه فلا يجد حلاً ناجعاً وطريقاً للنجاة، لأنها محصورة بالإيمان والصلاح.
والنسبة بين معنى وتفسير آية البحث وبين قول النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم (نصرت بالرعب مسيرة شهر) ( ) هي العموم والخصوص المطلق من جهات :
الأولى : جاءت آية البحث مطلقة من غير تقييد بان الرعب من المسلمين إنما هو عام في ظاهره , فكل من أشرك بالله عز وجل يلقي الله في قلبه الرعب.
الثانية : بيان سخط الله عز وجل على الأمة والطائفة التي تجتمع على الكفر والشرك في كل زمان .
الثالثة : تقدير الآية : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب كما ألقينا الرعب في قلوب الذين كفروا من الأمم السابقة بدليل ذات آية البحث وبيانها لعلة إلقاء الرعب وهو الإشراك بالله ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : يلقي الله الرعب في قلوب المشركين.
الصغرى :الذين كفروا من الأمم السابقة مشركون.
النتيجة : ألقى الله الرعب في قلوب الذين كفروا من الأمم السابقة .
وإذ تفضل الله ونصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الرعب في قلوب الذين كفروا على مسيرة شهر من توجهه نحوهم ، فان الرعب يملأ قلوب المشركين أينما كانوا ، وفي أي بقعة من الأرض ، وهو ظاهر الإطلاق في آية البحث ، وقد يقال إذن لماذا قال الله تعالى [سنلقي ] ولم تقل الآية (قد ألقينا) الجواب من وجوه :
الأول : إرادة التأكيد والإخبار عن مصداق ظاهر لنزول الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثاني : بيان الملازمة بين الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين إلقاء الرعب ، وتقدير الآية : سنلقي في قلوب الذين كفروا بنبوة محمد الرعب بما أشركوا بالله ).
الثالث : بيان نكتة في المقام وهي مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة ودعوة الناس جميعاً للإسلام فيلقي الله عز وجل الرعب في قلوب الذين كفروا لأنهم أثبتوا بكفرهم بالنبوة والرسالة أنهم مشركون بالله عز وجل.
الرابع : تدل الآية على مصداق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لتأتي الدعوة النبوية للناس جميعاً لتخليصهم من الرعب والذعر والهلع ، ولكن المشركين الذين يقابلون الدعوة بالصدود يقذف الله في قلوبهم الرعب .
الخامس : تأكيد قانون إلقاء الرعب في قلوب الذين أشركوا في الأزمنة السابقة.
وإذا كانت السكينة سبباً لزيادة إيمان المؤمنين فماذا يكون الرعب بالنسبة للكافرين ، الجواب فيه وجوه :
الأول : ما يلقيه الله من الرعب في قلوب الذين كفروا سبب في زيادة رعبهم وخوفهم .
الثاني : يبقى ذات الرعب عند الذين كفروا على مقداره وكمه وكيفيته.
الثالث : الزيادة في الرعب الذي في قلوب الذين كفروا ذاتية وتوليدية .
الرابع : تأتي الزيادة في الرعب من إلقاء الله له على نحو المتعدد والمتكرر من عند الله عز وجل في قلوبهم ، وهو من أسرار صيغة الإستقبال في قوله تعالى (سنلقي).
وتقدير الآية : ألقينا وسنلقي الرعب في قلوب الذين كفروا .
الخامس : الرعب في قلوب الكافرين ليس توليداً , فلا يزداد أو يتفرع بذاته .
السادس : إرادة الفرد الجامع من الوجه الأول والثالث أعلاه
السابع : حصول الجامع المشترك من الوجه الثالث والرابع أعلاه.
الثامن : تحقق إجتماع الوجه الأول والرابع أعلاه .
التاسع : زيادة الرعب في قلوب الذين كفروا في المقدار أو الكم أو الكيف .
العاشر : وقوع النقص في الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا مع تقادم الأيام بلطف من عند الله .
الحادي عشر : الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً بحسب الحال في الكفر والتجاهر به والتعدي على الحرمات ، وتجاوز الحدود ، قال تعالى [وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الثاني عشر : ما يلقيه الله من الرعب في قلوب الذين كفروا يزيدهم كفراً وضلالة .
والصحيح هو الخامس والحادي عشر فكما أن هناك تباين وتضادا بين السكينة والقلوب التي تحل فيها وبين الرعب والقلوب التي يلقي فيها ، فكذا بالنسبة للزيادة فان السكينة تزيد الإيمان أما الرعب فانه لا يزداد بنفسه ولا يزيد في حال الكفر إلا عن علة إضافية وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ).
ويحتمل الرعب في إستدامته أو عدمه وجوهاً:
الأول : الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا من المتزلزل غير المستقر في القلب.
الثاني : تدل آية البحث على استقرار الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثالث : المدار على التلبس بالكفر والإصرار على الشرك .
والصحيح هو الأول والثالث , فالرعب أمر عرضي طارئ على قلب الإنسان لا يأتي إلا بعد إسوداده بالكفر والضلالة .
بينما أخبرت الآية أعلاه من سورة الفتح عن نزول السكينة لبيان إستقرارها ومصاحبتها للمؤمنين , نعم تلتقي السكينة والرعب في موضوع وهو أن كلاً منهما باعث على الإيمان وسبب لدفع الإنسان عن الكفر والضلالة من وجوه :
الأول : تزيد السكينة المؤمن إيماناً .
الثاني : السكينة التي تنزل على المؤمن وسيلة لجذب الكفار والناس جميعاً للإيمان.
الثالث : ما يحل من الرعب في قلب الكافر حث له على هجران الكفر، ومغادرة منازله واللجوء إلى النبوة والتنزيل وولاية الله التي هي قريبة من الناس قرب آية الولاية السابقة من هذه الآية.
الرابع : يبعث الرعب الذي يحل في قلوب الذين كفروا الحيطة واليقظة والحذر في قلوب الذين آمنوا، ومنه آية البحث التي تدعو المسلمين إلى تعاهد مقامات الإيمان والتقيد بأداء الفرائض والعبادات .
الخامس : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
وتتجلى الدعوة إلى الخير بلحاظ آية البحث من وجوه :
الأول : قيام المسلمين بتلاوة آية البحث، وهو من دلالات صيرورة الصلاة اليومية أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر من جهات:
الأولى : وقوف المسلمين بين يدي الله بحال من الخشوع والخضوع.
الثانية : أداء المسلمين الصلاة اليومية جماعة وفرادا تذكير بوجوب عبادة الله، ودعوة لها.
الثالثة : التأكيد العملي لمصداق علة خلق الإنسان وهي العبادة والذكر، قال تعالى[وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ] ( ).
الرابعة : الزجر عن ترك الصلاة , وبيان قبح الإعراض عن عبادة الله سبحانه .
الخامسة : الصلاة مدرسة لتنزيه عالم الأقوال والأفعال.
السادسة : صلاة المسلم إصلاح لنفسه ولأخيه وإن كان واقفاً معه في الجماعة، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
فيكون نهي الصلاة عن المنكر نهياً للغير أيضاً، وهو من الإعجاز الذاتي والغيري في الصلاة، مثلما يكون للآية القرآنية إعجاز ذاتي وغيري.
الثاني : إخبار الآية عن قيام الله عز وجل بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا فلم يكل الله موضوعه الى ملك مقرب أو نبي مرسل، نعم ليس من حصر لجنود الله عز وجل في موضوع إلقاء الرعب، ونسبة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى الله رحمة بهم من جهات:
الأولى : صيرورة الرعب زاجراً عن الكفر.
ومن بديع صنع الله ومصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، أن الرعب لا يأتي وحده إلى قلوب الذين كفروا، فقد تأتي معه أسباب الهداية والصلاح، وعن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَلَمّا أَتَيْتُهُ وَقَعَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ لَا أَرْجِعُ إلَيْهِمْ .
فَقَالَ : إنّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الّذِي فِيهِ الْآنَ فَارْجِعْ( ).
الثانية : لا يعلم مقدار وكم وأوان الرعب الذي يلزم إلقاؤه في قلب الكافرين مجتمعين ومتفرقين إلا الله عز وجل.
الثالثة : بيان قانون كلي، وهو ليس من سلطان على القلوب إلا سلطان الله عز وجل، فلما تفضل الله سبحانه ونفخ من روحه في أدم كما في التنزيل[إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( ).
لتكون من آيات الله عز وجل أن الملائكة حينما سجدوا لآدم لم يكن لهم سلطان النفاذ إلى قلوب الناس، نعم يأتون بالأسباب التي تبعث الرعب في قلوب الذين كفروا , وقد يأتي فعل الملائكة متعقباً لحال الرعب التي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا، وفي التنزيل[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
فيتفضل الله عز وجل فيلقي الرعب في قلوب الكفار ثم يتوجه الأمر من عند الله للملائكة بضربهم والبطش بهم.
وعن ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه , وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه قد خر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد حطم (أنفه) وشق وجهه بضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الانصاري فحدث ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة ( ).
وأخرج أبو نعيم عن رجل من بني سعد بن بكر قال: إني لمنهزم يوم بدر إذ أبصرت رجلا بين يدي منهزما فقلت الحقه فأستأنس به فتدلى من جرف ولحقته فإذا رأسه قد زايله ساقطا وما رأيت قربه أحدا( ).
الرابعة : قد يتوب الكافر مرة واحدة ولا يعلم بتوبته حال وقوعها إلا الله عز وجل لأنه سبحانه[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( )، فيتفضل وينقي القلب من الرعب دفعة واحدة، ويحل بدله التوكل على الله لعدم البرزخية بين الإيمان والكفر.
الخامسة : إنقطاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى الثناء على الله وتسبيحه وتمجيده عند تجلي مصاديق الرعب كما في معركة أحد، ورد عن ابن رفاعة الزرقي عن أبيه قال : لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” استووا حتى أثنى على ربى عز وجل، فصاروا خلفه صفوفا فقال: ” اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادى لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطى لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك.
اللهم إنى أسألك النعيم المقيم الذى لا يحول ولا يزول، اللهم إنى أسألك النعيم يوم العيلة , والامن يوم الخوف.
اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا.
اللهم حبب إلينا الايمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك.
اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق( ).
السادسة : إن الله عز وجل قريب من قلب الإنسان لا يفصله عنه حاجز، قال تعالى[وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ).
ويأمر الله عز وجل المسلمين بقتال الكافرين كما في قوله تعالى [فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ] ( )وفي سبب نزول الآية ورد عن ابن عباس (قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل.
وسائر رؤوساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد , وهم الذين همّوا بإخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم) ( ) .
ويأتي الرعب للذين كفروا بلحاظ الآية أعلاه من وجوه :
الأول : لم يأت الأمر بالقتال على نحو الإبتداء بل جاء مقيداً بشرطين وهما:
أولاً : قيام الكفار بنكث ونقض عهودهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
ثانياً : إستهزاء الكفار بالإسلام وطعنهم فيه وإثارة الشبهات وأسباب الشك والجدال ، ولتكون هذه الآية بشارة للمسلمين بفتح مكة وإنذاراً قريباً.
الثاني : تعيين جهة القتال بأنهم أئمة ورؤساء الكفر لإفادة حصرهم وإنذارهم , وتعريفهم بما يكون توبيخاً لهم وتحذيراً للناس من إتباعهم , أو الإنصات لهم .
وفيه دعوة للمسلمين للرأفة بالمستضعفين والأتباع ، وهو من أسرار إلقاء الحجة في بداية القتال بدعوة أفراد العدو كلهم التوحيد، وهل هذه الدعوة من وجوه إلقاء الرعب في قلوبهم.
الجواب نعم من جهات :
الأولى : بيان الغايات الحميدة للمسلمين وأنهم يعرضون أنفسهم للقتل من أجل هداية الآخرين.
الثانية : هذه الدعوة تذكير بعالم الآخرة , وما فيه من الجزاء .
الثالثة : تأكيد بطلان وزيف ما عليه المشركون .
الرابعة : تظهر هذه الدعوة صدق وإخلاص المسلمين في جهادهم .
الثالث : تحذير وإنذار المسلمين من عهود , ومواثيق الذين كفروا .
الرابع : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من نقض العهود ونكث اليمين ، لإخبار الآية بترشح القتال عنه ، فيدرك الكفار أن المسلمين لا يقفون عند الجدال والإحتجاج حين نقض الكفار العهود ، بل يلجأون إلى القتال.
ومن أسرار التنزيل أن هذه الآية نزلت قبل فتح مكة ، وكأنها تحذير لكفار قريش من نقض شروط صلح الحديبية ، ولكنهم لم يتعظوا بهذه الآية والرعب الذي تسببه فقاموا بمؤازرة ومناصرة حلفائهم من بني بكر ونقضوا صلح الحديبية .
وكان من شروط صلح الحديبية الإذن والإقرار بحق الأفراد والقبائل بعقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعهده ، وكذا يجوز الدخول في عقد وعهد قريش ، فسارعت خزاعة إلى الدخول بعهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكان عندهم عهد مكتوب مع عبد المطلب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحضرته خزاعة إلى النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم(قَالَ ابن وَاقِدٍ : وَهُوَ بِاسْمِك اللّهُمّ هَذَا حِلْفُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ لِخُزَاعَةَ إذْ قَدِمَ عَلَيْهِ سَرَاتُهُمْ وَأَهْلُ الرّأْيِ غَائِبُهُمْ مُقِرّ بِمَا قَضَى عَلَيْهِ شَاهِدُهُمْ .
إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ عُهُودَ اللّهِ وَعُقُودَهُ مَا لَا يَنْسَى أَبَدًا ، وَلَا يَأْتِي بِلَدّ الْيَدُ وَاحِدَةٌ وَالنّصْرُ وَاحِدٌ مَا أَشَرْق ثَبِيرٌ ، وَثَبَتَ حِرَاءٌ ، وَمَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةً لَا يَزْدَادُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلّا تَجَدّدًا أَبَدًا أَبَدًا ، الدّهْرَ سَرْمَدًا. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ فَقَالَ مَا أَعْرِفُنِي بِحِلْفِكُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى مَا أَسْلَمْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْحِلْفِ فَكُلّ حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إلّا شِدّةً وَلَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ) ( ) .
ودخلت بنو بكر في عقد وعهد قريش ، فاستمرت الهدنة والعمل بصلح الحديبية مدة ثمانية عشر شهراً تقريباً فمكرت بنو بكر فانقضوا على خزاعة لثأر بينهم وبيوتهم بليل عند ماء لهم وقامت قريش بإعانة بني بكر خلافاً لشروط صلح الحديبية .
وقال رجال من قريش هذا ليل ولا يرانا أحد ، ولا يعلم بنا محمد ، خصوصاً وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وظنوا أنه مشغول بالتنزيل وإقامة الفرائض وإصلاح المسلمين لأحكام الشريعة ، وكانت إعانة قريش لبني بكر من وجوه :
الأول : المدد والإعارة للسلاح .
الثاني : الإعانة بالكراع – بضم الكاف – أي الخيل .
الثالث : قتال قريش مع بني بكر .
فجاء وفد من خزاعة إلى المدينة المنورة منهم عمرو بن سالم فأخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعدي بني بكر وقتال قريش معهم ونقضهم الميثاق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (نصرت يا عمرو فما برح حتى مرت عنانة في السماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس بالجهاز وكتمهم مخرجه , وسأل الله ان يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم) ( ).
وقام حاطب بن أبي بلتعة بالكتابة إلى قريش يخبرهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجمع على الهجوم عليهم (ثم أعطاه امرأة من مزينة وجعل لها جعلا على ان تبلغه قريشا فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها وخرجت به فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال ادركا امرأة قد كتب معها حاطب كتابا إلى قريش يحذرهم ) ( ).
وعن الإمام علي عليه السلام (يقول: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: ” انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها
ظعينة معها كتاب فخذوه منها ” فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب.
فقالت: ما معى.
فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب.
قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” يا حاطب ما هذا ؟ ” فقال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرءا ملصقا في قريش، يقول: كنت حليفا ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الاسلام) ( ).
ويحتمل نقض قريش لصلح الحديبية بلحاظ آية البحث وجوهاً :
الأول :لا صلة له بالقاء الرعب في قلوب قريش .
الثاني : جاءت آية البحث بصيغة الإستقبال (سنلقي) فقد هجمت قريش على خزاعة حلفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يلقي الله الرعب في قلوب كفار قريش.
الثالث : إنه من مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الرابع : كان الرعب الذي دخل قلوب قريش قليلاً كماً وكيفاً ، فلم يمنعهم من التعدي ونقض العهود .
الخامس : نقض قريش صلح الحديبية مقدمة لإلقاء الرعب في قلوبهم .
والصحيح هو الثالث والخامس وذات صلح الحديبية ورضا قريش بشروط النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق إمتلاء قلوبهم بالرعب لبيان أن هذه الإلقاء رحمة بالمسلمين ومقدمة للفتوحات .
(قال الشافعي وغيره من العلماء: ولما كانت العرب تأتى الشام والعراق للتجارة فأسلم من أسلم منهم، شكوا خوفهم من ملكي العراق والشام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده)( ) . وفيه بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : المراد توجه الشكوى من العرب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه دلالة على الإقرار بنبوته قيام دولة الإسلام.
الثانية : تأتي الشكوى من العرب على وجوه:
الأول : شكوى أهل العراق من ملك فارس.
الثاني : شكوى أهل الشام من ملك الروم.
الثالث : صدور الشكوى من أهل الجزيرة الذين يذهبون إلى العراق أو الشام أو لهما معاً.
الرابع : مجئ الشكوى من القبائل العربية التي كانت تسكن في العراق والتي كانت تسكن في الشام.
الخامس : توالي الشكوى من القبائل العربية المحاذية للعراق والشام مما يقع في أطراف الجزيرة.
الثالثة : الأذى الذي يلاقيه التجار العرب عند ذهابهم إلى العراق أو الشام.
فان قلت جاء الحديث أعلاه بخصوص العرب الذين يذهبون إلى الشام والعراق للتجارة، وإحتمال مجئ الشكوى في مجلس واحد، والجواب موضوع الخوف من الملوك أعم، وفيه بيان لحال العز التي صار عليها العرب، والإجهار بالأذى وأسباب الظلم.
الرابعة : ميل الناس بالفطرة إلى العدل، وإدراك العرب قيام دولة العدل بالإسلام.
الخامسة : ما ذكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جواب الشكوى معجزة تأريخية له، وشاهد على إطلاعه بفضل الله على جانب من علم الغيب يتعلق باتساع رقعة الإسلام.
السادسة : يبين الحديث أن الذين تقدموا بالشكوى مسلمون، ولعل هذه الشكوى من أسباب كتيبة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة وهي آخر كتيبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن ذكرت أسباب خاصة لتلك الكتيبة لم يثبت حصرها .
إذ روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم: أنه لما أمر الله تعالى أن يمنع المشركون من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره، قالت قريش: لتنقطعن عنا المتاجر والاسواق أيام الحج وليذهبن ما كنا نصيب منها، فعوضهم الله عن ذلك بالأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، قلت: فعزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قتال الروم، لانهم أقرب الناس إليه وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الاسلام وأهله.
وقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين، فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على غزو الروم عام تبوك وكان ذلك في حر شديد وضيق من الحال، جلى للناس أمرها ودعا من حوله من أحياء الاعراب للخروج معه , فأوعب معه بشر كثير، قريبا من ثلاثين ألفا، وتخلف آخرون( ).
وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام قال: كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما نعلم السورة من القرآن ( ).
السابعة : بيان قانون، وهو تجدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى بتحقق مصاديق إخباره عن الوقائع والأحداث، ولا أحد يظن في ذلك الزمان سرعة زوال ملك كسرى وقيصر، لولا المشيئة الإلهية وأسباب بعث الرعب في قلوب الذين كفروا، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الثامنة : جاءت أحاديث نبوية تنبأ عن ضم ملك كسرى وقيصر إلى الإسلام، وتسخير خزائن الملوك في الجهاد في سبيل الله، مع التحذير من تسخيرها للترف , وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما ( ).
وعن عوف بن مالك قال: قَامَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ الْفَقْرَ تَخَافُونَ أَوْ الْعَوَزَ أَوَتُهِمُّكُمْ الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ فَاتِحٌ لَكُمْ أَرْضَ فَارِسَ وَالرُّومِ , وَتُصَبُّ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا صَبًّا , حَتَّى لَا يُزِيغُكُمْ بَعْدِي إِنْ أَزَاغَكُمْ إِلَّا هِيَ ( ).
التاسعة : من الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن إخباره عن فتح خزائن كسرى وقيصر كان من أيام البعثة النبوية الأولى في مكة المكرمة.
وأخرج عن عفيف الكندي قال قدمت مكة فأتيت العباس لأبايع منه فإني لعنده بمنى إذ خرج رجل من خبأ قريب منه إذ نظر إلى السماء، فلما رآها مالت قام يصلي ثم خرجت امرأة فقامت تصلي خلفه ثم خرج غلام فقام معه يصلي فقلت للعباس ما هذا قال هذا محمد ابن أخي وامرأته خديجة وابن عمه علي يزعم أنه نبي ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه وهو يزعم أنه سيفتح عليه كنوز كسرى وقيصر( ).
العاشرة : بيان أن من ثمار إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا هلاك رؤساء الكفر وتخريب ممالكهم ، وهدم سلطانهم وعزهم وهناك تباين بين الرعب والعز فلا يجتمعان ، لذا خص الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالعزة إشتقاقاً من عزته سبحانه ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ومن غايات إلقاء الرعب في قلوب الكفار، تعجيل النصر للمؤمنين، وقلة الخسائر في صفوفهم.
لذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال بعد معركة الأحزاب : الآن نغزوهم ولا يغزوننا( ).
ليكون من معاني إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا أمور:
الأول : عزوف الذين كفروا عن الغزو.
الثاني : عجز الذين كفروا عن تهيئة مقدمات القتال.
الثالث : بعث المنعة والقوة عند المؤمنين، وسعيهم للغزو والفتح ولحوق الوهن والضعف بالكفار.
الرابع : دعوة الكفار للإسلام للنجاة من الرعب والفزع، فليس من ملازمة بين الإنسان والكفر لأن الأصل في الخلق هو عبادة الله وفطرة الإنسان على التوحيد، ويأتي الكفر عرضاً وظلماً من حامله، فجاءت آية البحث لتنزه الأفراد والمجتمعات منه.
ومن مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بلحاظ آية البحث نفسها وجوه :
الأول : الوعيد من عند الله في الآية لإدراك الخلائق جميعها أن الوعيد من عند الله حق وصدق ، وأنه سبحانه [يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ]( ).
الثاني : مجئ الآية بصيغة الجمع (سنلقي) لبيان سعة قدرة الله وإحاطته بالخلائق ، وبغضه للكفر .
الثالث : إخبار الآية عن تغشي الرعب لعموم الذين كفروا لتبلغ الآية كل كافر إنتقاء الظن باحتمال إستثنائه أو تركه بعيداً عن الرعب .
الرابع : بيان الآية لعلة نفاذ الرعب إلى قلوب الكافرين إذ تدل الآية بالدلالة التضمنية بأن قلوب الكفار مكشوفة لله عز وجل .
ومن معاني صيغة الإستقبال في [سنلقي]أن المشركين لما رجعوا إلى مكة يوم أحد وبلغوا بعض الطريق ندموا على رجوعهم من غير تحقيق نصر في المعركة ، وتدبروا حالهم عند دخول مكة سيعلم أهل مكة والقبائل أنهم رجعوا خائبين مع أنهم أعدوا لمعركة أحد وجهزوا الجيوش ، وأعلنوا أنهم يثأرون ليوم بدر وسيستأصلون المسلمين ، ويأتون بالمهاجرين أسرى إلى مكة ، فندموا على رجوعهم وهموا بالرجوع إلى أحد والمدينة لقتال المسلمين خاصة وأنهم رأوا منهم إنكساراً وفشلاً بسبب ثغرة جبل الرماة .
فالقى الله عز وجل الرعب في قلوب قريش فأمسكوا وتركوا مسألة الرجوع إلى ميدان المعركة ومحاولة الإجهاز على المدينة وتلك آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ لاحق الرعب أعداءه وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
حواء والمعجزة
من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) تعاقب نزول الأنبياء ، وتوالي نزول الكتب من عند الله عز وجل لدوام الصلة المباركة بين الله عز وجل وبين الذي نصبه خليفة في الأرض ، سواء خليفة بالذات والتصرف في الأرض أو المراد من الخليفة التعاقب والتوارث بين الناس في عمارة الأرض .
وليس للناس الإعراض عن النبوة والتنزيل مجتمعين أو متفرقين وليس لهم الخيار بين الإيمان وعدمه ، بل لابد من الإيمان على نحو التسليم ، ومن فضل الله عز وجل مصاحبة المعجزة للأنبياء كلاً بحسب أهل زمانه والأمر الأهم والأظهر في معاملاتهم وصلاتهم .
وأول من عمر الأرض آدم وحواء ومعجزة آدم انه خلق في الجنة من غير أب ،وسكنها وزوجه قبل أن يهبط إلى الأرض ، قال تعالى [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا] ( ).
وتحتمل هذه المعجزة بخصوص حواء وجوهاً :
الأول : إختصاص المعجزات بالأنبياء والرسل ، وليس من امرأة بلغت مرتبة النبوة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ] ( ).
الثاني : شمول حواء بذات المعجزة والكرامة ، وهو إستثناء من التقييد أعلاه لإنطباق صدق الإقامة في الجنة والهبوط إلى الأرض على حواء ، ليكون فيه فخر لبني آدم مطلقاً وللنساء خاصة بأن المرأة الأولى في الأرض نالت مرتبة المعجزة , وفيه حجة للتنزه عن الكفر وغزو الرعب إلى القلب بسببه .
الثالث : خروج مسألة الخلق في الجنة من المعنى الإصطلاحي للمعجزة ، وهي الأمر الخارق للعادة , المقرون بالتحدي , السالم من المعارضة بضميمة جريانه على يد النبي بحضرة الناس وإلا فان التعريف أعلاه يشمل مسألة الخلق والسكن في الجنة , والهبوط إلى الأرض .
الرابع : إلحاق حواء بآدم في معجزته بخصوص خلقها في الجنة وهبوطها إلى الأرض .
والمختار هو الثاني فان حواء وإن لم تكن نبية , ولكنها فازت بالمعجزة , في ذاتها أو ما يشبه المعجزة في موضوعها , خروجاً عن خلاف حصر المعجزة بالأنبياء, من وجوه :
الأول : الخلق من ضلع أو طينة آدم , وماهية معجزة حواء أنها لم تنشأ في رحم ، ولم تولد لأبوين .
الثاني : سكن حواء في الجنة ، وهل سكن آدم في الجنة أطول مدة من سكن حواء بلحاظ خلقها من ضلعه ، الجواب نعم ، لتأهيل آدم لتعلم الأسماء , ومقام النبوة , لبيان نعمة الزوجية والقيمومة، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً]( ).
الثالث : رؤية حواء للملائكة وحديثها معهم .
الرابع : أكل حواء من ثمار الجنة .
الخامس : تلقي حواء التكليف من عند الله من غير واسطة آدم، كما في قوله [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ).
السادس : تلقي حواء النداء من عند الله بالهبوط إلى الأرض فلم تقل الآية (أهبط انت وزوجك منها ) بل قالت [اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا] ( ).
السابع : الأمر بالهداية والإنابة بعرض واحد مع آدم عليه السلام كما ورد في التنزيل [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وهذا القول بأن حواء صاحبة معجزة وإن لم تكن نبية أمر مستحدث في إصطلاحات علم الكلام ، وينسحب البحث إلى مريم إذ أنها حملت بعيسى من غير نكاح أو سبب مادي للنكاح ، ولكن تلك المعجزة قد تنسب إلى عيسى عليه السلام ، وهو لا يمنع من الشأن الخاص لمريم لذا أكرمها الله عز وجل بأمور :
الأول : لم يرد اسم امرأة في القرآن إلا اسم مريم .
الثاني : تعدد وكثرة ورود اسم مريم في القرآن إذ ورد أربعاً وثلاثين مرة مع بيان آيات خاصة بها .
الثالث : العناية الإلهية بمريم من حين ولادتها ومدة نشأتها ، وفي التنزيل [فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ] ( ).
الرابع : ذكر مريم في السنة القولية والفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغ الإكرام .
علم المناسبة
ورد لفظ الرعب في القرآن خمس مرات ، أربع مرات بصيغة المفعول ، وكلها بالقائه من عند الله , منها مرتين بصيغة الإلقاء إحدهما آية البحث , والأخرى قوله تعالى [سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ]( ).
ونزلت الآية أعلاه في يوم بدر لبيان المدد من عند الله للمسلمين والإخبار بأن الرعب الذي يلقيه الله في قلوب كفار قريش مقدمة لتسليط المسلمين عليهم لأنهم عبدوا ما لم يكن به سلطان أو علم ، قال تعالى [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ] ( ) .
(عن ابن عباس قال : إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عليها نزلوا على الماء يوم بدر فغلبوا المؤمنين عليه ، فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين ومحدثين؟ فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن فقال لهم : أتزعمون أن فيكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنكم أولياء الله وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون مجنبين ومحدثين؟ حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المؤمنون ، وملأوا الأسقية ، وسقوا الركاب ، واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت أقدامهم ، وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة .
فبعث الله المطر عليها فلبدها حتى اشتدت وثبت عليها الأقدام ، ونفر النبي صلى الله عليه وسلم بجميع المسلمين وهم يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، منهم سبعون ومائتان من الأنصار وسائرهم من المهاجرين ، وسيد المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة لكبر سنه .
فقال عتبة : يا معشر قريش إني لكم ناصح وعليكم مشفق لا أدخر النصيحة لكم بعد اليوم ، وقد بلغتم الذي تريدون وقد نجا أبو سفيان فارجعوا وأنتم سالمون ، فإن يكن محمد صادقاً فأنتم أسعد الناس بصدقه ، وإن يك كاذباً فأنتم أحق من حقن دمه . فالتفت إليه أبو جهل فشتمه وفج وجهه , وقال له : قد امتلأت أحشاؤك رعباً . فقال له عتبة : سيعلم اليوم من الجبان المفسد لقومه .
فنزل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، حتى إذا كانوا أقرب أسنة المسلمين قالوا : ابعثوا إلينا عدتنا منكم نقاتلهم . فقام غلمة من بني الخزرج فاجلسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال : يا بني هاشم أتبعثون إلى أخويكم – والنبي منكم – غلمة بني الخزرج؟ فقام حمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبيدة بن الحارث ، فمشوا إليهم في الحديد فقال عتبة : تكلموا نعرفكم ، فإن تكونوا أكفاءنا نقاتلكم .
فقال حمزة رضي الله عنه : أنا أسد الله وأسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فقال له عتبة : كفء كريم . فوثب إليه شيبة فاختلفا ضربتين فضربه حمزة فقتله ، ثم قام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الوليد بن عتبة فاختلفا ضربتين فضربه علي عليه السلام فقتله ، ثم قام عبيدة فخرج إليه عتبة فاختلفا ضربتين فجرح كل واحد منهما صاحبه ، وكر حمزة على عتبة فقتله ، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال اللهم ربنا أَنْزَلْتَ عليَّ الكتاب وأمرتني بالقتال ووعدتني النصر ولا تخلف الميعاد « فأتاه جبريل عليه السلام ، فأنزل عليه { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } ( ) فأوحى الله إلى الملائكة [أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
فقتل أبو جهل في تسعة وستين رجلاً ، وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبراً ، فوفى ذلك سبعين وأسر سبعون) ( ).
وورد ذكر الرعب مرتين بصيغة القذف ، قال تعالى (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ) ( ).
وجاء مرة واحدة بخصوص أهل الكهف ، (وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال : كان لي صاحب شديد النفس ، فمر بجانب كهفهم فقال : لا أنتهي حتى أنظر إليهم ، فقيل له : لا تفعل . . . أما تقرأ[لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا]( )، فأبى إلا أن ينظر ، فأشرف عليهم فابيضت عيناه وتغير شعره ، وكان يخبر الناس بعد يقول : عدتهم سبعة) ( ).
(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أصحاب الكهف أعوان المهدي ) ( ).
ولم يرد لفظ الرعب بخصوص المسلمين وتخويفهم ، إنما ورد بخصوص أعدائهم وقذفه في قلوبهم ليكون عوناً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وفيه دعوة لهم للشكر لله عز وجل على نعمة التخفيف بالرعب وتحصيل مقدمات وأسباب النصر بالرعب الذي يلقيه الله في قلوب الكفار .
قوله تعالى[بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]
وفي التنزيل[وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( )، ولعل المشهور أن ابن لقمان كان مشركاً، فأخذ لقمان يعطه إلى أن آمن بالله وحده، وقيل لعل ابن لقمان يدين بدين قومه فلما فتح الله على لقمان بالحكمة إمتنع إبنه عن متابعته فقام بوعظه، ولا بد من دليل على هذا القول، لأنه خلاف الأصل، الذي يعني تبعية ابن لقمان لأبيه في الإيمان، والأمر بالمعروف وتأديب الولد لا يعني الملازمة بين النهي والتلبس بالمنهي عنه وذكر أن لقمان كان عبداً عند داود.
وجاءت الموعظة في الآية بصيغة المستقبل، وفيها حذف، وتقديره على وجوه:
الأول : يا بني لا تشرك بالله من بعد موتي.
الثاني : يا بني لا تشرك بالله وتحاكي الكافرين.
الثالث : يا بني لا تشرك بالله , وأحرص على تعاهد التنزه عن الظلم.
الرابع : يا بني لا تشرك بالله فتدخل النار.
الخامس : يا بني لا تشرك بالله فتنال سخطه.
السادس : يا بني لا تشرك بالله وتعمل بالمعاصي.
وقد وردت في الأخبار جملة من مواعظ لقمان لابنه لتكون رسائل عقائدية وأخلاقية , وفي المعاملات إلى أجيال الشباب، ووردت عدة أخبار في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها: إن لقمان عليه السلام قال لابنه : يا بني عليك بمجالس العلماء ، واستمع كلام الحكماء ، فإن الله يحيي القلب الميت بنور الحكمة، كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر( ).
ومنها إن الله إذا استودع شيئاً حفظه، ومنها: يا بني إياك والتقنع فانها مخوفة بالليل، ومذلة بالنهار.
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: قال لقمان لابنه : يا بني لكل شيء علامة يعرف بها ويشهد عليها ، وإن للدين ثلاث علامات : العلم والايمان والعمل به ، وللإيمان ثلاث علامات : الايمان بالله وكتبه ورسله .
وللعالم ثلاث علامات : العلم بالله وبما يحب وبما يكره ، وللعامل ثلاث علامات : الصلاة والصيام والزكاة ، وللمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويقول ما لا يعلم ويتعاطى ما لا ينال .
وللظالم ثلاث علامات : يظلم من فوقه بالمعصية ومن دونه بالغلبة ويعين الظلمة . وللمنافق ثلاث علامات : يخالف لسانه قلبه ، وقلبه فعله ، وعلانيته سريرته.
وللإثم ثلاث علامات : يخون ، ويكذب ، ويخالف ما يقول : وللمرائي ثلاث علامات : يكسل إذا كان وحده ، وينشط إذا كان الناس عنده ، ويتعرض في كل أمر للمحمدة . وللحاسد ثلاث علامات : يغتاب إذا غاب ، ويتملق إذا شهد ، ويشمت بالمصيبة . وللمسرف ثلاث علامات : يشتري ما ليس له ، ويلبس ما ليس له ، ويأكل ما ليس له .
وللكسلان ثلاث علامات : يتواني حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم . وللغافل ثلاث علامات : السهو واللهو والنسيان( ).
وعن سعيد بن المسيب قال : قال لقمان عليه السلام لابنه : يا بني لا ينزلن بك أمر رضيته أو كرهته إلا جعلت في الضمير منك أن ذلك خير لك .
قال : أهذه فلا أقدر أعطيكها دون أن أعلم ما قلت كما قلت ، قال : يا بني فإن الله قد بعث نبياً . هلم حتى تأتيه فصدقه . قال : اذهب يا أبت . فخرج على حمار وابنه على حمار ، وتزودا ثم سارا أياماً وليالي حتى تلقتهما مفازة ، فأخذا أهبتهما لها فدخلاها ، فسارا ما شاء الله حتى ظهرا وقد تعالى النهار ، واشتد الحر ، ونفد الماء والزاد ، واستبطآ حماريهما ، فنزلا فجعلا يشتدان على سَوْقِهِما ، فبينما هما كذلك إذ نظر لقمان أمامه فإذا هم بسواد ودخان ، فقال في نفسه : السواد : الشجر . والدخان : العمران والناس .
فبينما هما كذلك يشتدان إذ وطىء ابن لقمان على عظم في الطريق ، فخر مغشياً عليه ، فوثب إليه لقمان عليه السلام ، فضمه إلى صدره واستخرج العظم بأسنانه ، ثم نظر إليه فذرفت عيناه فقال : يا أبت أنت تبكي وأنت تقول : هذا خير لي ، كيف يكون هذا خيراً لي؟ وقد نفد الطعام والماء ، وبقيت أنا وأنت في هذا المكان ، فإن ذهبت وتركتني على حالي ذهبت بهم وغم ما بقيت ، وان أقمت معي متنا جميعاً , فقال : يا بني . أما بكائي فرقة الوالدين ، وأما ما قلت كيف يكون هذا خيراً لي؟ فلعل ما صرف عنك أعظم مما ابتليت به ، ولعل ما ابتليت به أيسر مما صرف عنك ، ثم نظر لقمان أمامه فلم يَرَ ذلك الدخان والسواد .
وإذا بشخص أقبل على فرس أبلق عليه ثياب بيض ، وعمامة بيضاء يمسح الهواء مسحاً ، فلم يزل يرمقه بعينه حتى كان منه قريباً فتوارى عنه ، ثم صاح به : أنت لقمان ؟ قال : نعم .
قال : أنت الحكيم؟ قال : كذلك . فقال : ما قال لك ابنك؟ قال: يا عبد الله من أنت، اسمع كلامك ولا أرى وجهك قال : أنا جبريل . أمرني ربي بخسف هذه المدينة ومن فيها ، فاخبرت انكما تريدانها ، فدعوت ربي أن يحبسكما عنها بما شاء ، فحبسكما بما ابتلي به ابنك ، ولولا ذلك لخسف بكما مع من خسفت ، ثم مسح جبريل عليه السلام يده على قدم الغلام فاستوى قائماً ، ومسح يده على الذي كان فيه الطعام فامتلأ طعاماً ، وعلى الذي كان فيه الماء فامتلأ ماء ، ثم حملهما وحماريهما فزجل بهما كما يزجل الطير ، فإذا هما في الدار الذي خرجا بعد أيام وليال( ).
وورد لفظ (الظلم) في القرآن خمس عشرة مرة، وليس فيها نعته بالعظيم إلا في الآية أعلاه لبيان القبح الذاتي والغيري للشرك بالله، الذي يقود صاحبه إلى العذاب الأليم .
قانون رؤيا الإنذار من الرعب
قد تأتي الرؤيا من عالم البشارة وتكون باعثاً للسكينة في قلوب المسلمين ، عن ابن زَمْل الجهني، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال، وهو ثان رجله: “سبحان الله وبحمده. أستغفر الله، إن الله كان توابا” سبعين مرة، ثم يقول: “سبعين بسبعمائة، لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة”. ثم يقول ذلك مرتين، ثم يستقبل الناس بوجهه، وكان يعجبه الرؤيا، ثم يقول: “هل رأى أحد منكم شيئا؟” قال ابن زمل: فقلت: أنا يا رسول الله. فقال: “خير تلقاه، وشر توقاه، وخير لنا، وشر على أعدائنا، والحمد لله رب العالمين. اقصص رؤياك”. فقلت: رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لا حب، والناس على الجادة منطلقين، فبينما هم كذلك، إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله، يرف رفيفا يقطر ماؤه، فيه من أنواع الكلأ قال: وكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبّروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فلم يظلموه يمينا ولا شمالا. قال: فكأني أنظر إليهم منطلقين. ثم جاءت الرعلة الثانية وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشفوا على المرج كبّروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث. ومضوا على ذلك. قال: ثم قدم عظم الناس، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا:(هذا خير المنزل). كأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا فلما رأيت ذلك، لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى، إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طولا وإذا عن يسارك رجل ربعة باذ كثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء، إذا هو تكلم أصغيتم إكراما له. وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقا ووجها، كلكم تؤمونه تريدونه، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف، وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها. قال: فامتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سري عنه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أمّا ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللا حب، فذاك ما حملتم عليه من الهدى وأنتم عليه. وأما المرج الذي رأيت، فالدنيا مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء، ولم تتعلق منا، ولم نردها ولم تردنا. ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث، ونجوا على ذلك. ثم جاء عظم الناس، فمالوا في المرج يمينا وشمالا فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما أنت، فمضيت على طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني. وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة، فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفا. وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشثل، فذلك موسى، عليه السلام، إذا تكلم، يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه. والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء، فذلك عيسى ابن مريم، نكرمه لإكرام الله إياه. وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها فذاك أبونا إبراهيم، كلنا نؤمه ونقتدي به. وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها، فهي الساعة، علينا تقوم، لا نبي بعدي، ولا أمة بعد أمتي”. قال: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل، فيحدثه بها متبرعا( ).
ليكون من دلالات الحديث أمور :
الأول : تنمية ملكة التأويل عند المسلمين .
الثاني :الإستبشار بالرؤيا الصالحة .
الثالث : الإتعاظ من عالم الرؤيا وإقتباس الدروس منها .
الرابع : تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لموضوعية الرؤيا في عالم الواقع (عن أبي الدرداء أنه سئل عن هذه [لَهُمْ الْبُشْرَى]( )، قال : لقد سألت عن (شيء) ما سمعت أحداً سأل عنه بعد أن سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما سألني عنها أحد قبلك منذ نزل الوحي،
هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له وفي الآخرة الجنة)( ).
الخامس : بعث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا حتى بواسطة الرؤيا التي يراها المؤمنون ، فمن إعجاز آية البحث أنها أخبرت عن إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا ولم تذكر صيغ وكيفية وتفصيل طرق إلقائه لإرادة الإطلاق.
السادس : حث المسلمين على الدعاء لتقريب مصداق الرؤيا الصالحة ومحو اثر رؤيا الإنذار وأسباب الأذى والناس شرع سواء في الرؤيا والأحلام فليس من إنسان إلا ويرى الرؤيا التي تجذبه إلى سبل الطاعات أو تنذره من الموبقات ، وكان المصريون القدامى يصنفون أنواع الرؤيا بحسب الشأن والمقام ، وأن رؤيا الملوك غير رؤيا الأتباع .
(أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : كان من شأن فرعون أنه رأى رؤيا في منامه : أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى إذا اشتملت على بيوت مصر أحرقت القبط ، وتركت بني إسرائيل ، فدعا السحرة ، والكهنة ، والعافة ، والزجرة . وهم العافة الذين يزجرون الطير فسألهم عن رؤياه فقالوا له : يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه – يعنون بيت المقدس – رجل يكون على وجهه هلاك مصر . فأمر بني إسرائيل أن لا يولد لهم ولد إلا ذبحوه ، ولا يولد لهم جارية إلا تركت ، وقال للقبط : انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجاً فادخلوهم ، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة ، فجعلوا بني إسرائيل في أعمال غلمانهم ، وادخلوا غلمانهم . فذلك حين يقول { إن فرعون علا في الأرض}( ) يقول : تجبر في الأرض { وجعل أهلها شيعاً } يعني بني إسرائيل[يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ]( )، حين جعلهم في الأعمال القذرة ، وجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح فلا يكبر صغير.
وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت ، فأسرع فيهم . فدخل رؤوس القبط على فرعون فكلموه فقالوا : إن هؤلاء القوم قد وقع فيهم الموت ، فيوشك أن يقع العمل على غلماننا تذبح أبناءهم فلا يبلغ الصغار فيعينون الكبار ، فلو أنك كنت تبقي من أولادهم . فأمر أن يذبحوا سنة ، ويتركوا سنة ، فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هرون عليه السلام . فترك ، فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت أم موسى بموسى عليه الصلاة والسلام ، فلما أرادت وضعه حزنت من شأنه .
فلما وضعته أرضعته ثم دعت له نجاراً وجعلت له تابوتاً ، وجعلت مفتاح التابوت من داخل وجعلته فيه ، وألقته في اليم بين أحجار عند بيت فرعون ، فخرجن جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن ، فوجدن التابوت ، فادخلنه إلى آسية وظنن أن فيه مالاً ، فلما تحرك الغلام رأته آسية صبياً ، فلما نظرته آسية وقعت عليه رحمتها وأحبته .
فلما أخبرت به فرعون أراد أن يذبحه ، فلم تزل آسية تكلمه حتى تركه لها , وقال : إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل ، وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا . فبينما هي ترقصه وتلعب به إذ ناولته فرعون وقالت : خذه { قرة عين لي ولك }( ) قال فرعون : هو قرة عين لك – قال عبد الله بن عباس : ولو قال هو قرة عين لي إذاً لآمن به ، ولكنه أبى – فلما أخذه إليه أخذ موسى عليه السلام بلحيته فنتفها , فقال فرعون : عليَّ بالذباحين هو ذا .
قالت آسية : لا تقتله { عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } ( ) إنما هو صبي لا يعقل وإنما صنع هذا من صباه ، أنا أضع له حلياً من الياقوت ، وأضع له جمراً فإن أخذ الياقوت فهو يعقل اذبحه ، وإن أخذ الجمر فإنما هو صبي ، فاخرجت له ياقوتاً ، ووضعت له طستاً من جمر .
فجاء جبريل عليه السلام فطرح في يده جمرة ، فطرحها موسى عليه السلام في فيه فاحرقت لسانه ، فارادوا له المرضعات فلم يأخذ من أحد من النساء ، وجعلن النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع فأبى أن يأخذ .
فجاءت أخته فقالت [هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ] ( )، فأخذوها فقالوا : إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله فقالت : ما أعرفه ولكن إنما هم للملك ناصحون . فلما جاءته أمه أخذ منها .
وكادت تقول : هو ابني . فعصمها الله فذلك قوله { إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين } قال : قد كانت من المؤمنين ولكن بقول [إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ]( ).
قال السدي : وإنما سمي موسى لأنهم وجدوه في ماء وشجر والماء بالنبطية مو الشجر سى) ( ).
ويأتي الرعب للمشركين في باب الرؤيا من جهات :
الأولى : الإنذارات التي يراها المشرك وهو من مصاديق رحمة الله بالناس جميعاً في الدنيا , فالرؤيا حبل ممدود بين الله عز وجل والعباد ، ومع الإرتقاء العلمي والطبي وعلوم فسلجة الأعضاء، فان التقنية الحديثة تعجز عن إستحداث أو تغيير تفاصيل الرؤيا عند الإنسان .
ولعل الرؤيا في المنام من رشحات النفخ في الروح في قوله تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( ).
وقد إنشأت في مصر أيام الفراعنة (مكاتب خاصة في المعابد، ففي احدى اللوحات التي اكتشفت أمام غرفة في أحد هذه المعابد تعود الى سنة 3000 ق.م. أو نحو ذلك مكتوب (أني افسر الاحلام ولدي اذن من الآلهة بأن اقوم بذلك حظ سعيد، ان المفسر هو كريتي الاصل).
وفي ورقة محفوظة في متحف القاهرة النص الآتي: اذا ولدت قطة (أي المرأة تحلم بذلك اثناء حملها) فسيكون لها العديد من الاولاد. واذا ولدت كلباً فسيكون لها ولد. وقالوا بعملية مخططة للرقود كتوطئة للحلم والرؤيا. وكان المفسر يشرف على الزائر في معابد السيرابيم المخصصة للاحلام فيطلب منه ان يأخذ قطعة من الكتان الابيض وان يكتب عليها اسماء خمسة من اوثانهم. ثم يلفها في فتيلة ويضعها في سراج ويشعل طرفها البارز. ويحدد لـه كلام يكرر سبع مرات ثم يطفىء السراج وينام واذا لم يأتيه الحلم وما فيه من أجابة على مسألته فعليه ان يكرر العملية مع زيادة في البذل والجهد. وقد يضطر بعضهم لارسال وكيل عنه ليحلم نيابة عنه وقد ذكروا ان حلماً (لتيموس) 450 ق.م. وهو أحد الفراعنة قد نقش على صدر ابي الهول.
وقالوا ان لقدماء المصريين ملكاً للاحلام هو (بس) نقشوا صورته على وسائدهم.
وقد جاء القرآن ليفضح عجزهم عن تأويل رؤيا الملك واعترف مقدموهم صاغرين بافتقارهم لقواعد كلية في تفسير الاحلام تساهم في استنباط منهج موضوعي في التأويل والتعبير الأمر الذي يضفي ظلالاً من الشك على ما ذكر من وجود قواعد تنظيم عند الفراعنة في موضوع الرؤيا. وقد كانت رؤيا الملك في سورة يوسف من بين الآيات الدالة على حاجتهم الى التوحيد والتبصرة والعلوم الطبيعية والروحية ضمن اطار العبودية الخالصة لله عز وجل , قال تعالى[وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ]( ).
ومن فلسفة الرؤيا تأريخياً انها سبيل للتبشير بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للإيمان به , لذا قد تأتي بصيغة الرعب.
أما الحضارة الاغريقية التي جاءت بعد الحضارة الفرعونية والبابلية بقرون فقد أخذت الشيء الكثير منهما وقال بعضهم بانتفاعها من الحضارات الشرقية عموماً، والارواح عند الاغريق تزور الانســان وهو نائم في بيته. وتتجاوز الباب الموصـد عن طريق ثقب المفتاح وترجع في خروجها منه لذلك أنشأوا الهياكل ذات الدهاليز مع غرفة للنوم مقدسة يبدأ الترقيد فيها بطقوس تطهيرية.
وذهب ابقراط الى وجود قيمة تشخيصية للاحلام في امراض الجسم واعترف بوجود الفعل الالهي في بعض الاحلام. وقام بتعبير بعض الاحلام. وتفكيك بعض الرموز، فقال ان من يرى في المنام الاجرام السماوية بصورة واضحة وفي حالتها المعتادة فأن ذلك يرمز لسلامة الجسم اما اذا كان النجم خافت الضوء فانه يشير الى الامراض، وان كان النجم تحت موقعه المتعارف فأنه يرمز الى مرض في الاحشاء، وان كان فوق موقعه المعتاد فأنه إشارة الى وجود مرض في الرأس.
والحلم بفيضان الانهار اشارة الى زيادة الدم. والحلم باشجار غير مورقة هو نقص في القابلية على الجماع.
والحلم بالينابيع يرمز الى اضطراب في المثانة.
وهناك تفسير على اساس فلكي ولكنه أحياناً واضح الارتباك والخلل.
وقال أرسطو (384 – 322 ق.م) بالاعتقاد بعلاقة الاحلام بالغيب. وقال بتأثير الرؤيا على اليقظة واهتم بأحاسيس الانسان.
أما سقراط فذهب الى تفسير الاحلام على أساس الافراط في الطعام والشراب , كسبب فيما يراه الانسان في المنام من سفك دم أو فسق. وذكر جماعة من المؤرخين ان لارطميدوس الذي ولد في القرن الثاني لميلاد السيد المسيح كتاباً شهيراً اسمه تفسير الاحلام ألفه مستنداً الى تجاربه الشخصية وخبرته واختلاطه بالناس في مختلف طبقاتهم واتصاله بأهل الكهانة والعرافة والتنجيم وقام برحلات الى آسيا وايطاليا وبلاد اليونان. ويرى مثلاً ان نزول السلالم في الرؤيا يدل على الهبوط الى مستوى طغام الناس.
وكانت في الحضارة الرومانية بقايا وبصمات نظريات الاغريق في الاحلام بارزة عندهم فقد قالوا بتشوف الاحلام للمســتقبل ووقائعه.
واتخــذ جالينوس (130 -200 م) اتجاهاً طبياً في الاحلام، كما وان اختياره لمهنة الطب كان أثر رؤيا رآها والده. ثم وضع ارثميدوروس وهو معاصر لـه كتاباً سماه تفسير الاحلام وذكر فيه اكثر من ثلاثة آلاف حلم.
وربط الصينيون القدامى بين الاحلام ومشاعر النائم، فالنائم على حزام من جلد يحلم بالحية. وقالوا بتأثير مواقع النجوم ووقت الرؤيا على مضمونها. وذكر ان الحضارة الهندية جعلت تفسيراً لرموز الرؤيا فمثلاً من رأى ان عاهة اصابته فأن ذلك يعد نذير سوء وجعلوا تحقيق الحلم مقترناً بمراحله فأولـه لا يتحقق الا بعد عام واوسطه في بضعة اشهر وآخره ربما تحقق اثناء رؤيته. أما اذا حلم احلاماً متتالية فانهم لا يهتمون في التفسير والتأويل الا بالأخير منها)( ).
وقد تفضل الله عز وجل بجعل الرؤيا علماً مستقلاً ومدرسة قرآنية بواسطة رؤيا الأنبياء مثل رؤيا ابراهيم ، ورؤيا يوسف عليه السلام كما في التنزيل [يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ] ( ) ورؤيا الملوك كما في رؤيا ملك مصر التي صارت سبباً لنجاة أمم عظيمة في مصر والسودان والشام بلحاظ تزويدهم بالميرة ببركة النبوة كما ورد في تأويل يوسف عليه السلام لرؤيا الملك في التنزيل [قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ] ( ).
ليتجلى الإعجاز في نجاة الناس من المجاعة بأمور :
الأول : رؤيا الملك وإصابتهم بالفزع منها , وهل هذا الفزع من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]الجواب نعم ، وإن كان في الزمن الماضي .
ومن منافع هذا الرعب قيام الملك بذكر رؤياه على الملأ وإصراره على إيجاد تأويل لها ، وإختبارهم بها حتى أنهم أقروا بالعجز لما ورد في التنزيل حكاية عنهم وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ .
لإستقراء مسألة , وهي أن الكفار الذين يملأ قلوبهم الرعب عاجزين عن إستنباط الأحكام والتأويل وتفسير الرؤيا فكيف يميزون بين الحق والباطل في باب الأحكام والبرهان ، لذا أخبرت الآية عن علة تركهم التأويل وقصورهم عنه بأنهم لجأوا إلى ما لم ينزل به الله دليلاً أو حجة .
الثاني : شيوع رؤيا الملك بين الملأ والحاشية وعند الخدم .
الثالث : اللجوء إلى يوسف النبي لتأويل الرؤيا ، وهو في السجن .
الرابع : قيام يوسف عليه السلام بالتأويل , وهو معجزة وشاهد من عالم الروح على النبوة ، وهو من مصاديق الآية السابقة [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]فقد نصر الله يوسف عليه السلام وأخرجه من السجن وكشف كيد النسوة برؤيا للملك .
ومع أن يوسف عليه السلام نبي , وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما سئل (أي الناس أكرم؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله ، قالوا : ليس عن هذا نسألك .
قال : فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا : نعم . قال : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإِسلام إذا فقهوا) ( )
فانه لم يكن ليوسف سلطان على روح الملك أو غيره في إستحداث رؤيا تكون سبباً لخلاصه من السجن الذي ظلم باللبث فيه ، وإن وردت بعض الأخبار التي لا أصل لها في هذا الباب , منها قال أحدهم:
(كنت بجزيرة أُوال( ). وكان بها رجل من المتصلين بحبل الله عالماً بهذا العلم فقصدته زائراً فرأيت قوماً من اهل البلد قد دخلوا عليه وشكوا اليه غمهم بمحبوس لهم قد حبسه أمير البلد في جناية جناها. قالوا: قد طرحنا انفسنا على الوزير والحاجب وخواص الامير فلم ينفعنا ذلك وقد بذلنا لـه الرشوة بحسب طاقتنا فلم يقبل وقد ذكر لنا انه قال لا بد لي من قتله.
فأطرق ذلك الرجل اطراقة ثم رفع رأسه وقال الليلة في آخرها صاحبكم عندكم فامضوا أولاً ولا تشعروا احداً بما القيته اليكم. فخرج القوم من عنده فقلت لـه على طريق الملاعبة: قد اوحي اليك ان الامير الليلة يطلق هذا المحبوس، قال: سوف ترى. فقلت: ولا يجوز اطلاقه غداً، فقال ان تأخر اطلاقه الليلة لم يصح اطلاقه الى ستة اشهر وكسر. وانما قد اتفق سعادة لهذا المحبوس ان جاءني هؤلاء القوم في هذا اليوم. واشتغل بحديث آخر وخرجت من عنده.
فلما كان من الغد أتيته زائراً فوجدت الذين كانوا بالامس قد سبقوني الى عنده وهم شاكرون لـه بما بشرهم به من تخلية المحبوس ويسألونه عن علمه بذلك، فقال لهم: الطالع الذي دخلتم به شهد ان محبوسكم في هذه الليلة يُطلق ولم يكشف لهم عن حقيقة الامر، ورأيت غلاماً شاباً مصفر اللون قد انهكه الحبس والقيد فأقبل الشيخ على الشاب فقال لـه: حدث هذا الرجل كيف خلاك الامير البارحة فالتفت اليّ الشاب الذي كان محبوساً فقال: اني كنت محبوساً في الطامورة مطروحاً وانا مكبل بالحديد وقد هددني السجان في آخر يوم امس وقال بان الامير قد انفذ بان يحمل اليه قوم قطعوا في البحر الطريق وانه ينتظر اولئك وانه يصلبك في جملتهم.
ذكر لي هذا عند اصفرار الشمس فبكيت طول ليلتي ولم يحملني النوم اصلاً فبينما انا كذلك وقد عبر من الليل النصف الاول اذ سمعت حركة شديدة وباب الطامورة يفتح ففزعت ورفعت رأسي الى السماء مستعيناً بالله تعالى واذا الجماعة من الخدم قد نزلوا وحملني احدهم بحديدي فادخلنا على الامير فاذا به قائم فلما رآني قال حطوه برفق واستدعى من فك الحديد عني وسألني ان اجعله في حل مما فعل بي وامر ان اجعل في جملة خدمه واثبت لي رزقاً جارياً مع خاصته وافرج عني وهذا حالي.
وقاموا فخرجوا من عنده فجددت السؤال للشيخ ورغبت اليه ان يعلمني السبب في تخليته اذ لم يقل لهم انه سيخلى الليلة عنه فائدة. فقال: لا يمكنني ان اخبرك في هذا اليوم فان صبرت ثمانية وعشرين يوماً اعلمتك، فقلت لـه: اني من الصابرين. فلما انقضت الايام جددت السؤال فقال: هؤلاء القوم الذين جاؤا بمسألة المحبوس قوم اخيار يلزمني امرهم ورأيتهم مغمومين بهذا المحبوس فقلت لهم ما قلت. ولما كان في تلك الليلة على ساعتين من الليل تجردت وعملت نيرنج المريخ وقصدت بالنيرنج الامير والمحبوس فأطلقته كما رأيت.
فقلت للشيخ: احب ان تعلمني سبب اطلاقه لـه؟ فقال: السبب في ذلك ان الامير رأى فيما يرى النائم كأن قد دخل عليه رجل اشقر ازرق على رأسه شعر وهو مكشوف الرأس وبيده سيف مجرد يقول ان لم تخل في هذه الساعة فلان ابن فلان لم يرد في صدر الرواية سؤال العالم لهم عن اسمه – المحبوس عندك وجاءت الليلة قطعت رأسك بهذا السيف! فكان هذا سبب التخلية لـه فاستطرفت ذلك واستعظمته. فقال لي اياك ان يسمع منك هذا احد في هذه المدينة ما دمت بها فضمنت لـه ذلك، وقلت: وللمريخ نيرنج( ) يعمل؟ فقال: لزحل لباس سواد وللمشتري بياض وللمريخ حمرة وللمشتري أصفر وللزهرة اخضر ولعطارد ملون وللقمر سمكون)( ) .
وهذه دعوة لا أصل لها وإن كانت لقصد جذب الناس إلى مذهب وفكرة مخصوصة ، فالرؤيا حبل ممتد بين الله وبين قلوب الناس جميعاً ، ولا تختص الرؤيا الصالحة بالمؤمنين ، فقد يراها الكافر والفاسق وحتى شارب الخمر ، لتكون حجة على الكافرين وسبباً لهداية الناس ،ووسيلة لإتعاظهم أجمعين ،وسلاحاً من أسباب الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا .
وعن أهل التفسير (فلمّا جاء الرسول يوسف قال له : أجب الملك، الآن .
فخرج يوسف ودعا لأهل السجن بدعوة تعرف إلى اليوم وذلك أنّه قال : اللهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار وأنعم عليهم الأخبار،
فهم أعلم الناس بالأخبار في كّل بلدة،
فلمّا خرج من السجن كتب على باب السجن : (هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وحرقة الأصدقاء وشماتة الأعداء)،
ثمّ اغتسل يوسف (عليه السلام) وتنظّف من قذر السجن،
ولبس ثياباً جدداً حساناً،
وقصد الملك.
قال وهب : فلمّا وقف بباب الملك قال (عليه السلام) : حسبي ربي من دُنياي،
وحسبي ربّي من خلقه،
عزّ جاره،
وجلّ ثناؤه ولا إله غيره.
ثمّ دخل الدار،
فلمّا دخل على الملك قال : اللهمّ إنّي أسألك عزّك من خيره،
وأعوذ بك من شرّه وشرّ غيره،
فلمّا نظر إليه الملك سلّم عليه يوسف بالعربية،
فقال له : الملك،
ما هذا اللسان؟
قال : لسان عمّي اسماعيل،
ثمّ دعا له بالعبرانية،
فقال له الملك : ما هذا اللسان؟
قال : لسان آبائي.
قال وهب : وكان الملك يتكلّم بسبعين لساناً،
فكلّما كلّم يوسف بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان،
فأجابه الملك،
فأعجب الملك ما رأى منه،
وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة،
فلمّا رأى الملك حداثة سنة،
قال لمن عنده : إنّ هذا علم تأويل رؤياي ولم يعلمه السحرة والكهنة،
ثمّ أجلسه على سريره،
وقال له : إنّي أحبّ أن أسمع رؤياي منك شفاهاً،
فقال له يوسف : نعم،
أيّها الملك،
رأيت سبع بقرات سمان شهب غرّ حسان،
كشف لك عنهنّ النيل وطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهنّ لبناً،
فبينا أنت تنظر إليهنّ وتتعجّب من حسنهنّ إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبساً،
فخرج من حمأته ووحله سبع بقرات عجاف شُعث غُبر مقلّصات البطون،
ليس لهُنّ ضروع ولا أخلاف،
ولهنّ أنياب وأضراس وأكفّ كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع،
فاختلطن بالسمان فافترسنهنّ افتراس السبع،
فأكلن لحومهنّ ومزّقنَ جلودهنّ وحطّمن عظامهنّ وتشمشن مخّهنّ.
فبينا أنت تنظر وتتعجّب وإذا بسبع سنابل خضر وسبع أُخر سود في منبت واحد عروقهنّ في الثرى والماء،
فبينا أنتَ تقول في نفسك : أنّى هذا؟
هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد،
وأصولهنّ في الماء إذ هبّت ريح فذرّت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهنّ النار فاحرقتهنّ وصرنَ سوداً متغيّراتفهذا آخر ما رأيت من الدنيا ثمّ انتبهت من نومك مذعوراً،
فقال الملك : والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجباً بأعجب ممّا سمعته منك،
فما ترى في رؤياي أيّها الصدّيق؟
فقال يوسف : أرى أن تجمع الطعام،
وتزرع الزرع الكثير في هذه السنين المخصبة وتبني (الأهواء) والخزائن،
فتجعل الطعام فيها بقصبه وسنبله ليكون قصبه وسنبله علفاً للدواب،
وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس , فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها،
وتأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك،
ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك،
فقال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه و(يبيعه) ويكفي الشغل فيه؟
فقال : يوسف [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ ])( ).
ليكون من معجزات يوسف عليه السلام العلم برؤيا الملك على نحو التفصيل فانبهر الملك من إخباره عن رؤياه وعلم أن يوسف عليه السلام يمتاز عن الكهنة والذين يقومون بتأويل الرؤيا إذ لا يستطيعون سبر أغوار , وتفاصيل الرؤيا التي رآها غيرهم من الناس بل ذات الرؤيا ينساها صاحبها .
وفيه دعوة للملك لدخول الإسلام والتهيئ لسني الجدب والقحط بالصلاح والتقوى ، وصلاح الملوك برزخ دون شيوع الفاحشة والمعصية , ومانع من تجاهر الناس بالفسوق , ومناسبة للعمل بأحكام الشريعة والتذكير بالآخرة ، لتكون معجزة يوسف في المقام من جهات :
الأولى : الإخبار عن تفاصيل رؤيا الملك ، بينما إكتفى بالنسبة لرؤيا صاحبيه في السجن بتأويل الرؤيا عندما أخبراه بتفاصيلها بقوله تعالى [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ) .
ومن الإعجاز في سورة يوسف أنها خاصة بقصته , وأن لفظ السجن ورد فيها ست مرات ، ولم يرد في أي سورة من سور القرآن .
الثانية : حث الملك على تقريب مجلس يوسف عليه السلام وتوزيره , وإدراك الحاجة إلى علمه ومعرفته بالمغيبات الخاصة بشؤون المعاش العامة .
الثالثة : زجر الملأ وحاشية الملك من الإحتجاج على إخراج يوسف من السجن وتوليه الوزارة مع أنه ليس من أهل مصر ويدل على نفرتهم من تولي الغريب المناصب العالية إضطهاد فرعون وقومه لبني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام ، وهو من ذراري يعقوب عليه السلام .
الرابعة : تأويل يوسف عليه السلام للرؤيا بما يؤكد أنها إنذار وتحذير ومنهاج في سياسة الملك ، لبيان قانون وهو أن الله يرحم الأمة بالنبي ، وينزل البركات بوجوده بين ظهرانيهم .
وهل إنقطع هذا القانون مع مغادرة خاتم النبيين إلى الرفيق الأعلى , الجواب لا ، بل هو باق إلى يوم القيامة بأمور :
الأول : أداء المسلمين العبادات والفرائض كما أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون من معاني قوله (صلّوا كما رأيتموني أصلّي) ( )أي تنزل على أجيالكم المتعاقبة شآبيب الرحمة بتعاهد الفرائض بالكيفية التي أديتها .
الثاني : إستدامة فضل الله على الناس بالرؤيا، عن الباقر عليه السلام: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قول الله: [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] قال: (هي الرؤيا الحسنة، يراها المؤمن فيبشر بها في دنياه). وروى قريباً من ذلك عبادة بن الصامت( ).
الثالث : حفظ المسلمين للسنة النبوية والعمل بمضامينها.
الرابع : تجدد لغة البشارة والإنذار في الآية القرآنية.
الخامسة : شهادة الملك بتجلي الإعجاز بما أخبر عنه يوسف من وقائع رؤيا الملك إذ قال الملك (والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجباً بأعجب ممّا سمعته منك) ( ) مما يدل على أن الملك ومع وراثته لشؤون الملك وإحاطته خبراً بالوزراء والكهنة ومفسري الأحلام ورجالات التاريخ وعلماء الجواهر والأعيان الثمينة لم يسمع بإنسان يخبر عن تفاصيل رؤيا غيره .
السادسة : ليس للناس أن يكذبوا خبر الرؤيا لأنها رؤيا الملك ولتضمنها بذاتها دلائل التعجب فزاد من موضوعيتها وشأنها أن يوسف عليه السلام أخبر عن تفاصيلها وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في إحتجاج الله على الملائكة بأن إذا ظهر الفساد ومعالم الشرك رمي الله عز وجل الناس بالبلاء وقيض أسباب إنجذابهم للنبي دفعة واحدة وصيرورة شأنية له عند الملك بحيث لا يفسد قلبه عليه أحد .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )الوارد في آية البحث ،والرعب والفزع الذي يتوجه إلى الكفار مطلقاً ، الجواب نعم ،فذات الرؤيا تتضمن أسباب الرعب العام للكفار , وكذا بالنسبة لتأويلها .
وهل تولي يوسف عليه السلام الوزارة سبب آخر لإلقاء الرعب في قلوبهم ، الجواب لا إنما هو باعث لتخفيف وإزاحة الرعب من وجوه :
الأول : بعث السكينة في نفوس الناس بتوالي العالم المجتهد شؤون الوزارة .
الثاني : الإستعداد العام للمجاعة والقحط .
إذ يدل قوله تعالى [تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا…..] ( ) على أمور :
أولاً : بذل الوسع في الإنتاج وأسباب الكسب .
ثانياً : الإدخار العام والخاص .
ثالثاً : إعتماد العلم في الإنتاج والخزن .
رابعاً : وضع خطة لخمس عشرة سنة ، بالإضافة إلى خطة سنوية توضع في بداية كل سنة .
الثالث : بيان رحمة الله بالناس بالنبوة ، فقد تأتي الإنذارات للناس في واقعهم المعاشي وحياتهم الإجتماعية على لسان النبي مع بيانه والتحذير منه , ثم تكون البشارة بالتدارك ودفع آثار القحط والجدب ببركة النبوة مع دعوة الناس إلى الإيمان .
وتجلت هذه الدعوة ويوسف عليه السلام في السجن ، مما يدل على أن إعلان التوحيد ولزوم عبادة الله واجب ، وعدم الإمتناع عنها خشية وعاظ السلاطين وأهل الحسد من الملأ الذين يخشون إنصات الملك ليوسف ،وفي التنزيل [يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ] ( ) لقد قدّم يوسف عليه السلام إعلان التوحيد ونبذ الشرك وعبادة الطواغيت والأوثان قبل تأويل الرؤيا ولم يخف وشاية الذي أخبره يوسف من قبل بـأنه يصلب , وتأكل الطير من رأسه .
لقد أدرك الملك وأهل مصر أنهم بحاجة إلى يوسف وعلمه , ولا يعني هذا أنه لم يلق الأذى فقد أوذي من صغره بعد رؤيا رآها وقصها على أبيه حيث ألقاه أخوته في الجب ليتولى بيان وتأويل رؤيا ملك مصر , فتكون هذه الرؤيا سبباً لنجاته من السجن , وتوليه الوزارة دفعة واحدة [ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
(عن أنس قال : أوحى إلى يوسف : من استنقذك من القتل حين همَّ اخوتك أن يقتلوك؟ قال : أنت يا رب . قال : فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه؟ .
قال : أنت يا رب . قال : فمن استنقذك من المرأة إذ هممت بها؟ قال : أنت يا رب . قال : فما لك نسيتني وذكرت آدمياً؟ قال : جزعاً ، وكلمة تكلم بها لساني . قال : فوعزتي ، لأخلدنك في السجن بضع سنين . فلبث في السجن بضع سنين) ( ).
الرابع : لقد أمر يوسف بالإدخار للسنوات اللاحقة , ويبعث الإدخار نوع طمأنينة في النفوس .
لقد دعا يوسف لطاعته في أمور الحياة اليومية والمكاسب لتكون مقدمة ودلالة على وجوب طاعتهم له في عبادة الله لذا قيل بأن الملك في أيام يوسف أسلم .
فقد أصلح الله له عرشه ببركة نبوة يوسف , وخرجت أمته سالمة من القحط والجفاف بالوحي والنبوة ، وكذا فرعون لو أنه آمن بنبوة موسى عليه السلام لبقي في ملكه وسلطانه ، ولكنه لم يتعظ من الآيات التي جاء بها موسى ومنها معجزة العصا التي تلقف وتبتلع ما يلقي السحرة من الحبال مع أن زمان ملك يوسف متقدم زماناً على فرعون موسى .
والأصل أن يتعظ الملوك من تأريخهم والوقائع التي لاقاها السابق منهم .
قوله تعالى [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]
والسلطان في الآية على وجوه :
الأول : إرادة البرهان .
الثاني : الدليل الواضح المانع من اللبس .
الثالث : الحجة الواضحة .
وسمي السلطان لأنه يتسلط على النفس في وجوده وتجليه .
وفي الآية نوع تقبيح وذم للكفار لإفترائهم على الله، وتهكم بهم لتجرأهم وإختيارهم مصاحبة الرعب لهم في حياتهم الدنيا.
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان وجعله خليفة في الأرض ، وقال تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ) ولم يرد لفظ [كَرَّمْنَا] في القرآن إلا في الآية أعلاه , ومع أن الاسم غير المسمى فقد يكون الاسم مرآة للمسمى وهو من أسرار قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ).
ليكون من معاني التعليم في الآية النفع العظيم من الاسم ودلالته على المسمى ، ومنه إختصاص لفظ ( كرمنا ) في بني آدم للدلالة على إنفرادهم بنعم عظيمة ، وكذا لم يرد لفظ [وَحَمَلْنَاهُمْ] إلا في الآية أعلاه لبيان مصداق لتفضيل الله لبني آدم .
وتبين الآية موضوعية التنزيل ، فهو الإمام والحاكم في الأرض والدليل للناس في أمور الدين والدنيا ، فليس لهم أن يتخذوا عقيدة أو مبدأ إلا ببرهان وحجة من عند الله تعالى .
وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) بلحاظ اللطف الإلهي بهداية الناس إلى سبل الصلاح بالحجة وأسباب العلم , والإستضاءة من عند الله عز وجل .
وتدعو الآية الناس جميعاً إلى الإحتجاج بالتنزيل , وجعل المعجزة هي السبيل إلى الإيمان , ولو إتخذ الناس السلطان والبرهان من عند الله هو الملاك في القول والفعل لصارت الدنيا رياضاً ناضرة تتجلى فيها البركات وحسن المعاملة، والأخوة بين أهل الأرض بصبغة الصلاح , وكانت [الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ).
وتتضمن الآية ذم الذين كفروا من جهة إختيارهم الكفر بالنبوة وبيان علة هذا الكفر وهو الشرك بالله عز وجل , وفيه إبطال لقولهم [لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] ( ).
لبيان أنهم لا يؤمنون في كل حال إلا أن يشاء الله , لأن كفرهم قائم على الشرك بالله والإصرار على عدم مغادرة عبادة الأوثان وأخلاق الجاهلية , وعلى الإستكبار عن عبادة الله .
ترى ما هو الذي ذكرته آية البحث مما لم ينزل به الله سلطاناً الجواب من وجوه :
الأول : إرادة الشرك بالله ، فان الله عز وجل لم يجعل حجة على الشرك ولا حجة أو برهاناً للذين أشركوا .
الثاني : إرادة الفرد أو الأفراد الذين إتخذهم الذين كفروا شركاء لله عز وجل كالأوثان والطاغوت .
الثالث : المقصود موضوع الشرك ذاته، وما يترتب عليه من الأثر.
الرابع : الجحود بالوحدانية وعدم الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل مما لم ينزل الله به سلطاناً.
الخامس : ذات الكفر ، وإتخاذه صبغة .
السادس : ملة الكفر وأسباب الضلالة .
السابع : ترك ملة التوحيد ونهج الأنبياء ، وورد في التنزيل حكاية عن يوسف عليه السلام يثني على نفسه لإتباعه ملة التوحيد التي كان عليها آباؤه [وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ] ( ).
وإذ أخبرت آية البحث عن الشقاء النفسي الذي عليه الذين كفروا مما لم يطلع عليه الناس عياناً , وإن تجلى بعالم الأفعال ، فان القرآن جاء بالإخبار عن إمتلاء قلوب المؤمنين بالسكينة والطمأنينة ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) .
لقد تضمنت الآية أعلاه الوعد الكريم من عند الله والتحدي والإعجاز بأن الله عز وجل هو اللطيف بالعباد من وجوه :
الأول : نزول السكينة من عند الله .
الثاني : إلقاء السكينة في قلوب المؤمنين .
الثالث : زيادة إيمان المؤمنين .
الرابع : صيرورة السكينة سبباً في زيادة إيمان المؤمنين .
الخامس : لله عز وجل جنود السماوات .
السادس : لله عز وجل جنود الأرض .
السابع : لله عز وجل جنوده في السموات والأرض ، ليعملوا مجتمعة ومتفرقة في الموضوع المتحد والمتعدد , ومن الجنود من يكون جندياً في السماء، وجندياً في الأرض [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
لقد إختار الكفار الضلالة ، ورغبوا بالظلمة ومفاهيم الغواية ، وإتبعوا النفس الشهوية وعملوا بالمعاصي والسيئات مما نهى الله عز وجل عنه , ولم ينزل به سلطاناً فرماهم بالرعب , وجعل له سلطاناً على قلوبهم ، لبيان قانون في الحياة الدنيا ، وهو من لم يعمل بسلطان وبرهان التنزيل يبتلى بسلطان الرعب والفزع ليكون في ضيق وحرج وشدة .
والمختار أن النسبة بين السلطان في الآية والبرهان هي العموم والخصوص المطلق، فكل سلطان هو برهان وليس العكس.
للدلالة على أن العبادة لا تكون إلا مع الحجة الدامغة والدليل الساطع والبرهان القاطع الذي يجعل الناس يدركون وجوب العبادة، وليس في الشريك وعبادته أي دليل قاطع، وهل يصح القول بان السلطان في الإصطلاح هو البرهان والدليل الذي يترتب عليه الأثر بذاته الجواب نعم، لذا فمن معاني السلطان هو العلم والحجة التي يترشح عنها الفعل أو الترك , قال تعالى[وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا]( ).
وقد ورد لفظ ( سلطان ) إحدى عشرة مرة في القرآن كلها في الحجة والبرهان من عند الله عز وجل .
بحث منطقي
تتضمن آية السياق[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ) في دلالتها النهي, وفيه وجوه :
الأول : جهة صدور النهي.
الثاني : الجهة التي يتوجه لها النهي.
الثالث : موضوع النهي.
الرابع : المنهي عنه.
وقد يتعلق النهي بالموضوع على نحو الغاية، أما النهي في هذه الآية فقد ورد بخصوص طرف ثالث وهم الكفار.
وجاء النهي من عند الله عز وجل ونزل به جبرئيل عليه السلام ليكون قاعدة من قواعد الهدى والإيمان في الأرض إلى يوم القيامة، لأن فيه سلامة الدين وصلاح النفوس، ومنع الإختلاط والتداخل بين مفاهيم الإيمان والكفر، إذ أن التضاد بينهما لا يمنع من التداخل الذي هو وجه من وجوه الصراع لإرادة البقاء أو الفناء العقائدي ووقوع اللبس والضياع.
وقاعدة عدم إجتماع الضدين مسألة منطقية لا تكون شاملة لأمور الحياة والمعتقدات، إذ جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وصراع ، ومن وجوه الصراع التداخل والغلبة والتدريجية.
وقد يقال إصطلاح إجتماع الضدين أمر محال في المبرز الخارجي، لأن أفراده غير موجودة إنما هي مفترضة ومقدرة، ولا دليل للقول بأن قدرة الله عز وجل تتعلق بالممكن وحده , وأن إجتماع الضدين والنقيضين من المحال، وأن قدرة الله عز وجل تتعلق بما هو قابل للخلق، والمختار أن قدرته سبحانه تتعلق بالمستحيلات عقلاً أيضاً ، إنما هي مستحيلة بإوهامنا القاصرة وفي التنزيل [سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ] ( ).
لقد تكررت الآيات التي تفيد الإطلاق في قدرة الله، إذ ورد بأن الله[عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] نحو خمس وثلاثين مرة في القرآن لتكون تأديباً وإرشاداً للمسلمين جميعاً بأنه لا تستعصي على الله مسألة .
وما تفرق وتضاد المتضادات الا بمشيئة الله، وهو سبحانه الذي يجمع بينها، من غير أن يتغير العنوان، ويرفعها، ويفني بعضها ببعض أو يجعل لها ضداً ثالثاً ورابعاً، وليس المدار في المقام على وجود المصداق الخارجي أو عدمه، بل بالتسليم بقدرة الله، لتتجلى هنا ضرورة موضوعية الإيمان عند الترجمة والتحقيق في علوم المنطلق والفلسفة .
ويتوجه النهي في الآية إلى المسلمين والمسلمات , أما موضوعه فهو لزوم عدم طاعة الذين كفروا.
وهل يصح القول بأن الموضوع المنهي عنه هو الطاعة، الجواب لا، من جهات:
الأولى : التقييد الوارد في آية السياق وأن النهي خاص بطاعة الذين كفروا.
الثانية : إرادة طاعة الله عز وجل من هذا النهي الذي يعني المنع من طاعة أعداء الله، وهل يدل هذا على إمتناع الضدين، الجواب نعم، ولكن لا تصل النوبة إليه من وجوه:
الأول : طاعة أعداء الله محرمة شرعاً وعقلاً.
الثاني : طاعة الذين كفروا برزخ دون تحقق مصاديق طاعة الله.
الثالث : وجوب طاعة الله على العباد جميعاً.
الرابع : ضرورة توبة الذين كفروا وطاعتهم لله ، قال تعالى[فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ]( ).
الخامس : أخذ وإقتباس مصاديق الطاعة من الكتاب والسنة.
الثالثة : الأصل في آية البحث أنها دعوة إلى طاعة الله، وإزالة الموانع التي تحول دونها.
الرابعة : تدل الآية في مفهومها على دعوة الذين كفروا إلى طاعة الله ونبذ الكفر والضلالة.
وموضوع النهي هو الباطل والطاعة فيه، أي أن الآية تنهى عن أمور:
الأول : أمر الذين كفروا بالباطل وأسباب الجحود.
الثاني : ذات الباطل الذي يأمر به الكفار بلحاظ أن النهي الوارد في الآية فضح وذم له، وإخبار للناس جميعاً عن قبحه الذاتي.
الثالث : الإصغاء والإستجابة للذين كفروا , أما بالنسبة لما ورد في الرابع أعلاه من تضمن الآية للمنهي عنه فهم الذين كفروا في أوامرهم ونواهيهم المخالفة للكتاب والسنة، قال تعالى في ذم المنافقين[الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ]( ).
وهل تشمل الآية أعلاه الذين كفروا، الجواب نعم من باب الأولوية القطعية، فاذا كان الذين يخفون الكفر ويظهرون الإيمان ويجمعون بين المتضادين في عالم القول والفعل، بأن يقفون مع المؤمنين بين يدي الله في الصلاة ثم يأمرون بالمنكر وهو خلاف الإيمان، يتجاهرون بالأمر بالضلالة والجحود فمن باب الأولوية أن الذين يظهرون ويخفون الكفر يفعلون ذات الشئ القبيح.
قوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ]
لقد إبتدأت الآية بالإخبار عن حال الذين كفروا في الدنيا بالقاء الرعب في قلوبهم وهذا الإلقاء من عند الله لبيان نكتة وهي عدم وقوع الخطأ في الجهة التي يتوجه لها الرعب أو أوانه أو مقداره ، وللترغيب بالتوبة فكأن الآية تقول للناس بأن الكافر حالما يتوب يغادره الرعب .
وهل يبقى القلب على حال الخلو من الرعب والطمأنينة ، الجواب لا ، فليس من برزخ بين الإيمان والكفر ، ومع الإيمان تأتي السكينة ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( )لبيان عدم إجتماع الضدين ، ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار الطمأنينة ) والتي تأتي من وجوه :
الأول : تجلي الآيات الكونية للناس ، وإنتظام سيرها بقوانين تبعث على الرضا والسكينة ، وهو من أسرار تسخيرها للناس ،قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ] ( ).
الثاني : بعث الأنبياء والرسل ودعوتهم إلى الله بالليل والنهار الناس للإيمان ، وتحملهم الأذى في جنب الله، ومن أسرار تحلي الأنبياء بالصبر بعث السكينة في نفوس الناس بإشراقة ضياء الهدى على النفوس بالنبوة وما يصاحبها من الإعجاز .
وقد تفضل الله عز وجل وجعل سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية مدرسة في الطمأنينة وإتخاذها منهاجاً وبلغة وغاية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الثالث : نزول آيات الكتاب السماوي من عند الله وهي تهدي إلى الإيمان ، وتخبر عن الملازمة بينه وبين الطمأنينة ، وتفضل الله عز وجل وجعل كل آية قرآنية وسيلة لطرد الرعب والحزن عن النفوس ومنه آية البحث ، فمع أن موضوعها هو الرعب والقاؤه في قلوب الكفار إلا أنها تبعث الطمأنينة في نفوس المؤمنين , وتهدي ذات الكفار إلى إنتهاج ذات السبل التي إختارها المسلمون لبلوغ مرتبة الطمأنينة ، وجعل الحياة الدنيا ترعة ناضرة تتجلى فيها معاني الغبطة والسعادة .
الرابع : أسباب الرزق الكريم والعيش الرغيد وكسب الإنسان مؤونة يومه وسنته .
الخامس : نعمة الأولاد وإدراك الإنسان باستدامة صلته بالدنيا بنشأتهم، قال تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ).
السادس : نعمة الصحة في البدن ، والقدرة على الإختيار والفعل أو الترك .
وجاءت آية البحث لتوجيه وتهذيب هذا الإختيار ، وهداية الإنسان إلى فعل الصالحات وترك القبائح , والكفر أم القبائح وأصلها والمانع من الطمأنينة بذاته , ولأنه سبب لغزو الرعب القلب وإحاطته به ، وإذا كان الإنسان يجد علاجاً لأمراضه فان مرض الرعب الذي يلقيه الله في قلب الكافر بسبب جحوده ليس له علاج ولا شفاء إلا التوبة والإنابة، وفي التنزيل [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
قانون تبديل العذاب العاجل بالرعب اللاحق
لقد حّل بالذين كفروا من الأمم السابقة العذاب الأليم وتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتبدل العذاب العاجل بالرعب اللاحق ، وصيرورته تذكيرا بلزوم التوبة ومقدمة للعذاب لمن يصر على الكفر , بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] .
فان الله عز وجل يمهل الذين كفروا إلى حين , ولا يصيبهم بالهلاك ، كما أهلك قوم نوح وصالح ولوط وغيرهم ، ونجّى المؤمنين من بينهم بآية عظمى ، وتفضل وجعل الناس أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مأمن من العذاب الحال مع كفاية حلول الرعب في قلوب الكفار ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
لقد نزل بالكفار من الأمم السابقة البلاء , كما في قوله تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ]( ) فان قلت كان من نتيجة رفع العذاب عن كفار قريش ونحوهم وإمهالهم أن زحفوا بجيوش عظيمة لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ووأد الإسلام .
والجواب لقد تفضل الله بنزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وصرف أذى كفار قريش ، وكفاية أذاهم , وقتل الرؤساء منهم .
وهذا القتل من العذاب على نحو مقيد ومحصور ، وكل فرد يقتل من الكفار موعظة وعبرة لمن خلفهم ، قال تعالى [فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن لفظ تثقفنهم يحتمل وجوهاً :
الأول : الإتفاق والمصادفة .
الثاني : الظفر بالكفار .
الثالث : وقوع الكفار في الأسر .
والتشريد هو التفريق مع حصول الإرتباك والإضطراب عند الذين يتم تشريدهم ، وهو من مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، وصيرورتهم عبرة وموعظة لغيرهم من الكفار ، وفيه زجر لهم عن نقض العهود والمواثيق .
وهل يمكن القول بأن النتيجة واحدة في نزول العذاب العاجل بالكفار في الأمم السابقة وإلقاء الرعب في قلوبهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما الفارق في إرجاء العذاب أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن إلقاء الرعب مقدمة وإنذار لنزول العذاب .
والجواب لا ، إنما الفارق بينهما نوعي وكبير ، من جهات .
الأول : الأرجاء والتأخير في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا [سنلقي] بينما جاء العذاب لبعض أمم الكافرين على نحو دفعي ، ففي قوم لوط ورد (عن ابن عباس قال : لما سمعت الفسقة باضياف لوط جاءت إلى باب لوط ، فاغلق لوط عليهم الباب دونهم ثم اطلع عليهم فقال : هؤلاء بناتي . فعرض عليهم بناته بالنكاح والتزويج ولم يعرضها عليهم للفاحشة ، وكانوا كفاراً وبناته مسلمات ، فلما رأى البلاء وخاف الفضيحة عرض عليهم التزويج ، وكان اسم ابنتيه إحداهما رغوثا والأخرى رميثا ، ويقال : ديونا إلى قوله[أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ]( ).
أي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فلما لم يتناهوا ولم يردهم قوله ولم يقبلوا شيئاً مما عرض عليهم من أمر بناته [قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ]( )، يعني عشيرة أو شيعة تنصرني لحلت بينكم وبين هذا ، فكسروا الباب ودخلوا عليه ، وتحوّل جبريل في صورته التي يكون فيها في السماء ، ثم قال : يا لوط لا تخف نحن الملائكة لن يصلوا إليك ، وأمرنا بعذابهم .
فقال لوط : يا جبريل الآن تعذبهم – وهو شديد الأسف عليهم – قال جبريل : موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب . قال ابن عباس عنهما : إن الله يعبي العذاب في أوّل الليل إذا أراد أن يعذب قوماً ثم يعذبهم في وجه الصبح .
قال : فهيئت الحجارة لقوم لوط في أول الليل لترسل عليهم غدوة الحجارة ، وكذلك عذبت الأمم عاد وثمود بالغداة ، فلما كان عند وجه الصبح عمد جبريل إلى قرى لوط بما فيها من رجالها ونسائها وثمارها وطيرها فحواها وطواها ثم قلعها من تخوم الثرى ، ثم احتملها من تحت جناحه ، ثم رفعها إلى السماء الدنيا فسمع سكان سماء الدنيا أصوات الكلاب والطير والنساء والرجال من تحت جناح جبريل ، ثم أرسلها منكوسة ، ثم أتبعها بالحجارة وكانت الحجارة للرعاة والتجار , ومن كان خارجاً عن مدائنهم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : عرض عليهم بناته تزويجاً ، وأراد أن يقي أضيافه بتزويج بناته) ( ).
الثاني : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل ، فهو سبحانه الذي يلقي الرعب في قلوبهم , وفيه شاهد على الرحمة والفضل من الله من جهات :
الأولى : رحمة الله بالإنسان وإن كان كافراً .
الثانية : رحمة الله بالطائفة والأمة من الناس .
الثالثة : حضور مصاديق رحمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) أي رحمة إضافية من عند الله مع رحمته التي تتغشى الخلائق جميعاً ، وأفراد من الرحمة لم تكن في الأحقاب السابقة ومنها إستبدال العذاب العاجل للكفار بالتخويف والوعيد بالقاء الرعب في قلوب الكفار .
وهذا التباين والإستبدال دعوة للكفار لدخول الإسلام , والشكر لله على نعمة الإمهال والتخفيف والسلامة من نزول العذاب الأليم بهم وبأولادهم وأسرهم .
الثالث : السعة وتهيئة الأسباب لتوبة الذين كفروا من جهات :
الأولى : الوعيد بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كما في آية البحث .
الثانية : إخبار الآية عن إرجاء إلقاء الرعب لقوله تعالى [سنلقي].
الثالثة : عدم تعيين الآية لمقدار وكم ونوع الرعب .
الرابعة : بيان آية البحث لعلة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وهو الشرك بالله عز وجل , وهو من رحمة الله في هداية الناس ، وإنذارهم من الشرك .
الخامسة : يصاحب الرعب كل يوم يطل على الذين كفروا في الحياة الدنيا ، وفيه تذكير بسوء عاقبة الذي يموت منهم على الكفر والضلالة .
لقد أنزل الله عز وجل العذاب الأليم على الذين كفروا من الأمم السابقة إذ علم سبحانه إصرارهم على الكفر والمناجاة بعدم مغادرة منازله , أما الذين كفروا أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان التوبة تدرك أكثرهم ، ويخرج من ذات الذين كفروا ذرية مسلمة .
ومن الشواهد أن أبناء كفار قريش أسلموا في مكة أيام وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم ، وبعد هجرته إلى المدينة ليكون من باب الأولوية القطعية دخول الذين لم يولدوا من أبنائهم في الإسلام ، وهو من الآيات في أمهالهم .
وهل للرعب الذي يملأ قلوب الكفار موضوعية في إسلام أولادهم الجواب نعم ، لأن هؤلاء الأولاد يلحظون حال الإرباك والإضطراب عند آبائهم ، ويتدبرون في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تخاطب العقول وتندبها للإقرار بالتوحيد، لتتجلى معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عموم الأرض .
فاذا سأل أحدهم لماذا لم يحدث الخسف بالكفار ، ويتعجل الله لهم بالعذاب سواء على نحو الأفراد أو الجماعات .
(عن بريدة قال : رأيت عمرو بن العاص واقفاً على فرس يوم أحد وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فاخسف بي وبفرسي) ( ).
أو على نحو القرى والطوائف كما في قوم لوط ورد عن كعب (قال : بلغنا أن إبراهيم عليه السلام كان يشرف على سدوم فيقول : ويلك يا سدوم يوم مالك ، ثم قال[وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ]( )، نضيج وهو يحسبهم أضيافاً { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أُرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } قال : ولد الولد { قالت ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب} فقال لها جبريل[أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ]( ).
وكلمهم إبراهيم في أمر قوم لوط إذ كان فيهم إبراهيم قالوا[يا إبراهيم أعرض عن هذا]( )، إلى قوله [ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم] ( )، قال : ساءه مكانهم لما رأى منه من الجمال { وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب } قال : يوم سوء من قومي ، فذهب بهم إلى منزله ، فذهبت امرأته لقومه { فجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال [يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم] ( )، تزوّجوهن { أليس منكم رجل رشيد ، قالوا : لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد] ( ).
وجعل الأضياف في بيته وقعد على باب البيت[قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد] ( )، قال : إلى عشيرة تمنع.
فبلغني أنه لم يبعث بعد لوط عليه السلام رسول إلا في عز من قومه ، فلما رأت الرسل ما قد لقي لوط في سيئتهم [قالوا يا لوط إنا رسل ربك] ( )، إنا ملائكة [لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك] ( )، إلى قوله [أليس الصبح بقريب] ( )، فخرج عليهم جبريل عليه السلام ، فضرب وجوههم بجناحه ضربة فطمس أعينهم والطمس ذهاب الأعين ، ثم احتمل جبريل وجه أرضهم حتى سمع أهل سماء الدنيا نباح كلابهم وأصوات ديوكهم ثم قلبها عليهم[وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ]( )، قال : على أهل بواديهم ، وعلى رعاثهم ، وعلى مسافرهم فلم يبق منهم أحد) ( ).
وليس من حصر لعدد الأنبياء الذين يبعثون في زمان واحد سواء في بلد واحد أو بلدان وقرى متعددة ليتناقل الناس أخبارهم، وتكون معجزة ودعوة كل نبي على وجوه :
أولاً : تعضيد نبوة النبي المعاصر له في زمانه .
ثانياً : الشهادة على صدق النبوة وأنها حق .
ثالثاً : بيان فضل الله بالتنزيل .
رابعاً : توثيق النبوات السابقة ، ودعوة الناس للتدبر فيها ، ومعرفة معجزات الأنبياء ، فمن سعة فضل الله أن كل نبي له معجزة خاصة به تلائم حاله وقومه وأسباب التحدي في زمانه .
خامساً : البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله , والتطلع إلى أيامه المباركة .
سادساً : دعوة الناس للعمل بأحكام الشرائع السماوية .
سابعاً : تجلي معجزة عامة تتغشى حياة الأنبياء وأقوامهم وكأن بعثات الأنبياء كلها حاضرة مع نبي الزمان ويدعون قومه معه إلى الله ويحثونهم على عدم تضييع فرصة الحياة الدنيا كما ضيعها اكثر قومهم ز
ومن الإسرار في المقام تذكير كل قوم بما لاقاه الجبارون والمشركون من أقوام الأنبياء السابقين ، وهو الذي يتجلى في آية البحث ببيان علة إلقاء الرعب في قلوب المشركين بقوله تعالى [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ).
وبعث الله النبي صالحاً بن عبيد بن أسف بن ماسخ بن عبيد)( ) إلى قومه بمعجزته المشهورة عند أهل الملل ، فقد ورد في التنزيل [هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً] ( )وأضيفت إلى الله لأنها لم تخلق برحم أو وعاء أو إجتماع ذكر وأنثى وليس للناس فيها سعي وجهد وسميت ثمود لقلة مائهم ، والثمد هو الماء القليل وكانت مساكنهم بين الشام والحجاز .
ومن الآيات في كل معجزة للأنبياء أنها توليدية تتفرع عنها معجزات كثيرة ،ومنها معجزة الناقة بتكوينها وخروجها من صخرة منفردة في الصحراء وسقيها وحلبها وفصيلها والبلاء العظيم الذي حلّ بالذين نحروها إذ أهلكوا بصيحة من السماء ورجفة في الأرض, وكأنها تخبر عن علم الإستنساخ في الحيوان بعلم , تابع ومتفرع عن معجزة صالح .
وعن ابن أسحاق والسدي ووهب وكعب(قالوا : إن عاداً لمّا هلكت وانتهى أمرها عمّرت أعمارهم واستخلفوا في الأرض فربوا فيها وعمّروا،
حتّى جعل أحدهم يبني المسكن من (المدر) فينهدم والرجل منهم حي. فلما رأوا ذلك اتخذوا الجبال بيوتاً فنحتوها وجابوها وخرقوها وكانوا في سعة من معائشهم فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله .
فبعث الله إليهم صالحاً وكانوا فيها عرباً ، كان صالح من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً.
فبعثه الله تعالى إليهم شابّاً فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ حتّى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلاّ قليل مستضعفون فلمّا ألحّ عليهم صالحٌ بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقاً لقوله،
قال : أي آية تريدون؟
قالوا : نُريد أن تخرج معنا إلى عيدنا هذا وكان اسم عيد يخرجون إليه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو وإن أستجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا.
فقال لهم صالح : نعم،
فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به. ثمّ قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيّد ثمود : يا صالح اخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها : الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء وبراء فالمخترجة ما شاكلت البخت( ) من الإبل،
فإن فعلت صدّقناك وآمنّا بك،
فأخذ صالح عليهم مواثيقهم إن فعلت لتصدقنني ولتومنن به،
قالوا : نعم.
فصلّى صالح ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثمّ تحرّكت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشرا وجوفاء وبراء كما سألوا لا يعلم ما بين جنبيها إلاّ الله عزّ وجلّ عظماً وهم ينظرون ثمّ (نتجت) ثقباً مثلها في العظم.فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه،
وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويُصدّقوه فنهاهم ذوءاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمعر وكانوا من أشراف ثمود. وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد فأراد أن يسلم فنهاه أُولئك الرهط فأطاعهم فقال رجل من آل ثمود :
إلى دين النبيّ دعوا شهاباً
وكانت عصبة من آل عمرو
فهمَّ بأن يجيب ولو (أجابا)
عزيز ثمود كلّهم جميعاً
وما عدلوا بصاحبهم ذوءاباً
لأصبح صالح فينا عزيزاً
تولّوا بعد رشدهم ذئاباً
ولكن الغواة من آل حجر
فلما خرجت الناقة قال صالح (عليه السلام) : {هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} ( )،
فمكثت الناقة ومعها سقيها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء سبتاً فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر من الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفعها حتّى تشرب كلّ ما فيها لا تدع قطرةً ماء فيها ثم ترفع رأسها (فتفسح) يعني تفجج لهم فيحتلبون ما شاؤوا من لبن فيشربون ويدخرون حتّى يملأوا أوانيهم كلهم ثمّ تصدر من (غير) الفج الذي وردت لا تقدر على أن تصدر من حيث وردت لضيقه عنها فلا يرجع منه ثمّ ترفع رأسها) ( ).
ثم بعث الله عز وجل إبراهيم ، ومعناه الأب الرحيم ، وهو من الرسل الخمسة أولي العزم وهم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وورد عن الحسن عن الأحنف بن قيس ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال داود : (إلهي) أسمع الناس يقولون إله إبراهيم وإسحق ويعقوب فاجعلني رابعاً : فقال : لست هناك،
إنّ ابراهيم لم يَعدل بي شيئاً قط إلاّ اختارني،
وإنّ إسحاق جادَ لي بنفسه،
وإنّ يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف) ( ).
وكان أبناء الأنبياء يتفاخرون بهم وبالنسب إليهم , مما يدل بالدلالة التضمنية على تصديق الناس بنبوتهم ولو على نحو الموجبة الجزئية ، وهو من أسرار بعث النبي من بين قومه فلا تنقرض ذريته ولا تغادر وتعود إلى البلد الذي جاء منه بل تبقى الذرية في بلدهم وبين قومهم ليذكروا أباهم النبي ويتفاخروا بالمعجزات التي جرت على يديه ، ويحرصوا على الإتصاف بالصلاح .
وقد يبعث ولد الأنبياء بالنبوة والرسالة وهو من فضل الله فإسماعيل وإسحاق إبنا إبراهيم من الأنبياء , وورد ذكرهما في مواضع عديدة من القرآن.
وكذا يعقوب حفيد إبراهيم وسيأتي في الخبر التالي أن إسمه إسرائيل أيضاً وإنتقلت بعده النبوة لإبنه يوسف عليه السلام ، وحينما تولى يوسف عليه السلام الوزارة وتوزيع الميرة في مصر وحبس أخاه عنده، أخبر يعقوب بأن إبنه سرق وحبسه عزيز مصر عنده ، فكتب يعقوب إلى يوسف بلحاظ أنه عزيز مصر ولا يعلم أنه إبنه .
وقال (من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله، بن ابراهيم خليل الله أمّا بعد فإنّا أهلُ بيت مُوكَّل بنا البلاء، فأمّا جدّي فشدّت يداه ورجلاه وأُلقي في النار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً،
وأمّا أبي فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكّين على قفاه، ليُقتل، ففداه الله، وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البريّة ثمّ أتوني بقميصه مُلطّخاً بالدم وقالوا : قد أكله الذئب وذهب ثمّ كان لي ابن وكان أخاه من أُمّه وكنت أتسّلى به، فذهبوا به ثمّ رجعوا وقالوا : إنّه سرق، وإنّك حبسته بذلك وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً، فإنْ ردَدته إليّ وإلاّ دعوت عليك دعوة تنزل بالسابع من ولدك، فلمّا قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره فقال لهم ذلك) ( ) [هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا] ( ) .
إن توالي بعث الأنبياء في ذرية إبراهيم مقدمة وبشارة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ذريته , ودعوة لعموم ذرية إبراهيم للتصديق برسالته , خاصة وأن ذكره ورد في الكتب السماوية السابقة .
ومع تباعد المكان والسكن بين إسحاق وأبنائه في الشام، وإسماعيل وأولاده في الحجاز فان أولاد يعقوب ذكروا إسماعيل ساعة حضور أجل أبيهم، بقوله تعالى[أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( )، وفيه مسائل :
الأولى : شهادة أولاد يعقوب وهم يوسف وأخوته بنبوة إسماعيل، وهو ظاهر باقرارهم له بالتوحيد، وتقديم إسماعيل اسم جدهم إسحاق النبي.
الثانية : تفاخر أولاد يعقوب بعمهم إسماعيل، وتسميته أباً لهم ولأبيهم يعقوب النبي.
الثالثة : إنتفاء ما كان من أسباب الحسد والكدورة بين سارة وهاجر فلم يبق لها أثر، وحلّ محلها الإعتراف بوحدة النسب، والإقرار بفضل الله عز وجل عليهم بتعاقب الأنبياء من ذرية إبراهيم عليه السلام.
الرابعة : تأديب العرب بوجوب التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه ابن الأنبياء، فكما جعل بنو إسرائيل الأحد عشر إسماعيل أباهم بنص الآية أعلاه، فان يعقوب وإسماعيل أبوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كابراهيم وإسماعيل.
الخامسة : بيان ماهية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الدعوة إلى التوحيد والحنيفية ونبذ الشرك والضلالة، والإنذار منه كما في آية البحث التي تخبر عن إلقاء الرعب في قلوبهم وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد في التنزيل[ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
ويحتمل هذا الخطاب وجوهاً:
الأول : المراد خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقيد الوحي الوارد في الآية.
الثاني : المقصود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأهل البيت.
الثالث : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
الرابع : توجه الخطاب في الآية أعلاه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والمراد أيضاً المسلمون والمسلمات والناس جميعاً إلى يوم القيامة والإنذار من الشرك والضلالة، لتكون آية البحث بياناً وتفسيراً للآية أعلاه، وإخباراً عن أمور:
الأول : دخول الرعب إلى قلوب الذين كفروا، وأصروا على ترك ملة إبراهيم.
الثاني : مجئ هذا الرعب من عند الله عز وجل.
الثالث : ذكرت الآية أعلاه تنزه إبراهيم عن الشرك والضلالة.
الرابع : الوعد الكريم لكل إنسان يؤمن بالله ويتجنب الشرك والضلالة.
الخامس : الإنذار والوعيد بأن عاقبة المشركين هي النار , والخلود فيها.
السادس : بيان السبيل للنجاة من الإنذار والتخويف الوارد في آية البحث بالتسليم لله عز وجل بالربوبية المطلقة.
السابع : آية البحث من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
فلما وصفت الآية أعلاه أكثر الناس بأنهم لايعلمون، لم يتركهم الله وشأنهم بل بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة الجامعة للأحكام الشرعية ولا باقية إلى يوم القيامة بمعجزاتها، ومنها آية البحث التي هي معجزة قائمة بذاتها، ومعجزة بلحاظ صلتها مع أي آية من القرآن ومعنى اسم اسحاق الضاحك، وفي العربية هو مصدر أسحق , وقد ورد ذكره في القرآن سبع عشرة مرة، قال تعالى[قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ]( ) .
وكان إبراهيم قد هاجر من أور جنوب العراق إلى الشام.
وقيل أن التنقيبات في آثار السومريين كشفت عن قصيدة لشاعر سومري يحكي كيف إنتهت حضارة أور والتي كان يحكمها الملك أورثمو وهو النمروذ بنحو ألفي سنة قبل الميلاد ، وهو زمان مغادرة إبراهيم لها.
وهاجر مع ابراهيم أخوه هاران وزوجه ملكا، ومعه ابن أخيه لوط، الذي آمن بدعوة إبراهيم وبعثه الله نبياً، ووصلوا الى بلدة حران على الحدود التركية الآن حيث شاهدوا الناس يعبدون الكواكب فدعاهم إبراهيم لعبادة الله.
ويقول الشاعر السومري:
فارق الفحل مقره….. وتفرق قطيعه مع الرياح
ثم يذكر أسماء المدن السومرية والدمار الذي حل بها والقتل الذي نزل بأهلها نتيجة هجوم العلاميين ثم الأموريين، قال تعالى[قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
ولقي ( إبراهيم سارة، وهي بنت ملك حَرّان، وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوّجها على أن لا يغيرها)( )، أي لا يأتي معها بضرة، وعن ابن إسحاق أن سارة إبنه عم إبراهيم.
والنبي إسحاق هو الابن الثاني لإبراهيم عليه السلام وأمه سارة وعاش في القرن الثامن عشر قبل الميلاد.
وكان عمر ابراهيم مائة عام، وسارة تسعين عاماً، وفيه بشارة لإرتقاء العلم والطب إلى حدوث الإنجاب عن كبر سواء بالنسبة للرجل أو المرأة وهو الذي بدأت أماراته العلمية والطبية تتجلى في هذا الزمان بلحاظ أن الله عز وجل إذا أنعم بنعمة على الناس فانه أكرم من أن يرفعها.
ليتحقق ذات موضوع المعجزة بالكسب العلمي والتحصيل، ولا يكون بمرتبة المعجزة لإفتقاره للتحدي , ولأنه ليس خارقاً للعادة أو سالماً من المعارضة .
وورد في التوراة: وكان ابراهيم ابن مئة سنة حين ولد له اسحق ابنه وقالت سارة قد صنع الي الله ضحكا كل من يسمع يضحك لي و قالت من قال لابراهيم سارة ترضع بنين حتى ولدت ابنا في شيخوخته فكبر الولد وفطم وصنع ابراهيم وليمة عظيمة يوم فطام اسحق ورات سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لابراهيم يمزح فقالت لابراهيم اطرد هذه الجارية و ابنها لان ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني اسحق .
فقبح الكلام جدا في عيني ابراهيم لسبب ابنه فقال الله لابراهيم لا يقبح في عينيك من اجل الغلام ومن اجل جاريتك في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها لانه باسحق يدعى لك نسل وابن الجارية ايضا ساجعله امة لانه نسلك .
فبكر ابراهيم صباحا واخذ خبزا وقربة ماء واعطاهما لهاجر واضعا اياهما على كتفها والولد و صرفها فمضت وتاهت في برية بئر سبع , ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت احدى الاشجار ومضت وجلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس لانها قالت لا انظر موت الولد فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت فسمع الله صوت الغلام .
ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها ما لك يا هاجر لا تخافي لان الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو قومي احملي الغلام وشدي يدك به لاني ساجعله أمة عظيمة وفتح الله عينيها فابصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال: كانت هاجر لسارة ، فأعطت هاجر إبراهيم ، فاستبق إسماعيل وإسحاق فسبقه إسماعيل فقعد في حجر إبراهيم . قالت سارة : والله لأغيرن منها ثلاثة أشراف ، فخشي إبراهيم أن تجدعها أو تخرم أذنيها ، فقال لها : هل لك أن تفعلي شيئاً وتبري يمينك؟ تثقبين أذنيها وتخفضينها ، فكان أول الخفاض هذا ( ).
لقد كان بيت إبراهيم بيت النبوة المتوارثة، والتي لم تنحصر ببلد واحد، بل أخذ إبراهيم عليه السلام إسماعيل إلى أشرف بقاع الأرض في أشد الأحوال قسوة حيث لا ماء ولا زاد، وكأنه أجل محتوم، ولكن قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( )، كان حاضراً بالبركة واليسر وكذا دعاء إبراهيم عليه السلام[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]( ) .
فرزق الله عز وجل هاجر وإسماعيل الماء والجيران ليكون مقدمة لبناء البيت الحرام ودعوة الناس للحج.
وتزوج إسماعيل امرأة ثم طلقها بأمر أبيه إبراهيم عليه السلام، ثم تزوج امرأة من جرهم فانجب منها أولاداً .
وبعث الله عز وجل لوطاً نبياً وهو بن هاران الذي هو أخو إبراهيم عليه السلام ، وكان إبراهيم ينصح قوم لوط ويؤازره في دعوة قومه إلى الإسلام ونبذ فعل القبائح والرذائل ، ولأنهم كانوا يأتون الرجال في أدبارهم , فقد أنزل الله بهم أشد العذاب .
وعن ابن عباس (قال : أرسل لوط إلى المؤتفكات ، وكانت قرى لوط أربع مدائن : سدوم ، وأمورا ، وعامورا ، وصبوير . وكان في كل قرية مائة ألف مقاتل ، وكانت أعظم مدائنهم سدوم ، وكان لوط يسكنها ، وهي من بلاد الشام ومن فلسطين مسيرة وليلة ، وكان إبراهيم خليل الرحمن عم لوط بن هاران بن تارح ، وكان إبراهيم ينصح قوم لوط .
وكان الله قد أمهل قوم لوط فخرقوا حجاب الإِسلام ، وانتهكوا المحارم ، وأتوا الفاحشة الكبرى ، فكان إبراهيم يركب على حماره حتى يأتي مدائن قوم لوط فينصحهم فيأبون أن يقبلوا ، فكان بعد ذلك يجيء على حماره فينظر إلى سدوم . فيقول : يا سدوم أي يوم لك من الله سدوم ، إنما أنهاكم أن لا تتعرضوا لعقوبة الله .
حتى بلغ الكتاب أجله ، فبعث الله جبريل في نفر من الملائكة فهبطوا في صورة الرجال حتى انتهوا إلى إبراهيم وهو في زرع له يثير الأرض ، فلما بلغ الماء إلى سكتة من الأرض ركز مساحته في الأرض فصلى خلفها ركعتين ، فنظرت الملائكة إلى إبراهيم فقالوا : لو كان الله يبتغي أن يتخذ خليلاً لاتخذ هذا العبد خليلاً ، ولا يعلمون أن الله قد اتخذه خليلاً) ( ).
وورد في أسباب فعلهم هذه الفاحشة أنهم أتوا النساء من أدبارهن ثم صنعوه بالرجال ، وذكر سبباً آخر وأنهم فعلوه بخلاً وشحاً وإزدراء ، إذ ورد (عن ابن عباس قال : كان الذي حملهم على إتيان الرجال دون النساء أنهم كانت لهم ثمار في منازلهم وحوائطهم وثمار خارجة على ظهر الطريق ، وإنهم أصابهم قحط وقلة من الثمار ، فقال بعضهم لبعض : إنكم إن منعتم ثماركم هذه الظاهرة من أبناء السبيل كان لكم فيها عيش قالوا : بأي شيء نمنعها؟ قالوا : اجعلوا سنتكم من أخذتم في بلادكم غريباً سننتم فيه أن تنكحوه واغرموه أربعة دراهم فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك ، فذلك الذي حملهم على ما ارتبكوا من الأمر العظيم الذي لم يسبقهم إليه أحد من العالمين) ( ).
ولم يختص فعل الفاحشة بالرجال فقد إكتفت النساء من قوم لوط بالنساء ، لتتم الحجة عليهم بنزول العذاب وينجو لوط والذين آمنوا معه .
(عن حذيفة قال : إنما حق القول على قوم لوط حين استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال) ( ).
وهل في قصة لوط وقومه في القرآن والسنة , وذكر الكتب السماوية السابقة لها إنذار متجدد للناس من إرتكاب اللواط وشرعنة ما يسمى المثلية المذمومة .
الجواب نعم ، فعلى الحكماء والمصلحين والعلماء والأدباء ورجال السياسة والإعلام والطب الإلتفات إلى هذا الإنذار وتحذير الناس وحثهم على إشاعة الزواج وبيان قبح فعل الفاحشة وأضرارها على الإنسان وعلى المجتمعات وما ينتظر أهلها من سوء العاقبة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة ، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
ونال يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم مرتبة النبوة، وسمي بعقوب لأنه توأم أخيه عيصو، وولد متعقباً له من غير مدة وفترة بينهما، ويسمى يعقوب إسرائيل ومعناه عبد الله لأن (إيل) بالعبرانية معناه الله، وإسرا: العبد .
وعن ابن عباس : أن إسرائيل كقولك: عبد الله ( ).
وولد ليعقوب اثنا عشر رجلاً وهم يوسف وأخوته، وكل واحد منهم صارت منه أمة من الناس فسموا أسباطاً، وعن محمد بن إسحاق قال: نكح يَعقوب بن إسحاق -وهو إسرائيل- ابنة خاله”ليا” ابنة”ليان بن توبيل بن إلياس”، فولدت له”روبيل بن يعقوب”، وكان أكبر ولده، و”شمعون بن يعقوب”، و”لاوي بن يعقوب” و”يهوذا بن يعقوب” و”ريالون بن يعقوب”، و”يشجر بن يعقوب”، و”دينة بنت يعقوب”، ثم توفيت”ليا بنت ليان”.
فخلف يعقوب على أختها “راحيل بنت ليان بن توبيل بن إلياس” فولدت له”يوسف بن يعقوب” و”بنيامين” -وهو بالعربية أسد- وولد له من سُرِّيتين له: اسم إحداهما “زلفة”، واسم الأخرى “بلهية”، أربعة نفر:”دان بن يعقوب”، و”نَفثالي بن يعقوب” و”جَاد بن يعقوب”، و”إشرب بن يعقوب” .
فكان بنو يعقوب اثني عشرَ رجلا نشر الله منهم اثنَى عشر سبطًا، لا يُحصى عددَهم ولا يعلم أنسابَهم إلا الله، يقول الله تعالى[وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا] ( ).
وصارت النبوة إلى يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وقصته معروفة وكيف أن أخوته مكروا به وقرروا تغييبه عن وجه والدهم حسداً له فالقوه في البئر، فشاء الله عز وجل أن ينجيه وتكون نجاة أخوته وأبويه والناس من المجاعة على يديه، عندما تولى الوزارة في مصر وأخوته يقدمون من الشام يريدون الميرة كما ورد في التنزيل[فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ]( ).
ولم يرد لفظ (تصدق) في القرآن إلا الآية أعلاه ، وجاء في الآية بلغة السؤال والرجاء (تصدق علينا).
لقد كان تعدد الأنبياء وتوارث النبوة في بني إسرائيل دعوة للناس للإيمان، وبرزخاً دون الشرك والضلالة ، ولم ينحصر سكنهم في بلاد الشام، بل صار يوسف بضرب من البلاء في بلاد مصر ليكون أمة بمفرده يتولى شؤون الوزارة وتنظيم أمور الإقتصاد، ويصير سبباً لنجاة الناس من الهلاك، ويتخذ هذا المقام وسيلة للدعوة إلى الإيمان، كان يبين للناس بالمصداق العملي أن نزاهته وعصمته وعلمه الذي يفوق علم البشر في التهيئ لبلاء ومصيبة عامة إنما هو من علم الله، وفضله، وأن سبيل النجاة من الهلكة هو الإيمان والتقوى .
لتكون وزارة يوسف مقدمة لدخول أهل مصر الإسلام من غير قتال، ولعل من مصاديقه تأويل قوله تعالى[وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ]( )، وانتقلت النبوة بعده إلى سبط لاوي، وكان الحكم والملك عند سبط يهوذا، لذا انكروا على طالوت الملك لأنه ليس من سبط النبوة والمملكة، كما ورد في التنزيل[قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ]( ).
قوله تعالى [وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]
لما أخبرت آية البحث عن الموضع الذي يأوى إليه الكفار ويستقرون فيه وهو نار جهنم وما فيها من أليم العذاب أختتمت الآية بالتأكيد على أنه مقام بئيس وعذاب مهين ونهاية كلها رعب وفزع ، ليكون من إعجاز الآية أن أولها يشير ويحذر من مضمون آخرها ، وآخرها يذكر بأولها , وتضييع الكفار على أنفسهم فرصة التدارك والإنابة.
ومع إخبار الآية بأن عاقبة الذين كفروا هي النار فقد أختتمت بالتأكيد على إقامتهم الدائمة في النار وعدم خروجهم منها وجاء لفظ [بئس ]لبيان عدم غبطة الخلائق لهم على إقامتهم الدائمة في النار .
فقد يكون الإنسان في حال فقر وفاقة أو مرض أو بلاء ولكنه حينما يرى من هو أكثر منه فقراً وحاجة وأشد بلاءً يشكر الله ويرضى بالذي هو فيه ، أما أهل النار فليس من هو أشد منهم حالاً وأمر حياة ، ترى ما هو موضوع الذم والمستقرأ من لفظ [بئس] الجواب من وجوه :
الأول : إرادة الخلود في الجحيم وتقدير الآية : بئس مثوى الظالمين خالدين في الجحيم .
الثاني : المقصود العذاب الأليم يوم القيامة ، وتقدير الآية : بئس مثوى الظالمين في العذاب الأليم .
الثالث : المراد النار لأنها دار إقامة الذين كفروا , وتقدير الآية : بئس مثوى الظالمين النار .
الرابع : بئس مثوى الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بإختيار الكفر، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الخامس : بئس مثوى الظالمين الذين لا يستطيعون مغادرة منازل العذاب في الآخرة .
السادس : بئس مثوى الظالمين الذي لا يخفف العذاب عنهم .
السابع : بئس مثوى الظالمين الذي توبخهم فيه الملائكة كل يوم على سوء فعلهم، وتذكرهم بأن إلقاء الرعب من عند الله في قلوبهم كان لغرض نجاتهم من هذا العذاب.
وأخرج أحمد عن ابن أبي مهاجر : أن داود عليه السلام كان يعاتب في كثرة البكاء ، فيقول : ذروني أبكي قبل يوم البكاء ، قبل تحريق العظام ، واشتعال اللحى ، وقبل أن يؤمر بي { ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }( )( ).
الثامن : بئس مثوى الظالمين الذين سعوا إليه بأيديهم، وإشتروه بأموالهم وأيام أعمارهم.
وبين الظالمين والذين كفروا عموم وخصوص مطلق، فالظالمون أعم وأكثر، ليكون من الإعجاز في آية البحث عدم الملازمة بين السلامة من الرعب والسلامة من النار، فقد ينجو الإنسان من إلقاء الرعب في قلبه , ولكنه يدخل النار بظلمه لنفسه ولغيره.
التاسع : بئس مثوى الظالمين الذين أشركوا بالله.
العاشر : بئس مثوى الظالمين الذين عبدوا الأوثان والأصنام، وفي التنزيل حكاية عن هود وهو ينذر قومه[أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ]( ).
الحادي عشر : بئس مثوى الظالمين مثواهم.
بحث بلاغي
من ضروب البديع الإلتفات وهو إنتقال المتكلم من لغة الخطاب إلى الغائب أو بالعكس لجذب الأسماع وتحلية الكلام ، وطرد الملل وفيه عذوبة تبدل صيغة الكلام مع إتحاد الموضوع وقد يأتي الإلتفات في الآية الواحدة من القرآن ، كما في قوله تعالى [وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ] ( )فانتقل من الخطاب إلى الغيبة ، وقد يأتي في آيتين أو ثلاث متجاورات .
ومن الإعجاز في المقام أن الآية السابقة جاءت بصيغة الخطاب العام المتوجه للمسلمين والمسلمات على نحو الخصوص , وجاءت هذه الآية بصيغة الغائب وإرادة الكافرين .
وهل من الإلتفات مجئ الآية السابقة بالمدح والبشارة ومجئ هذه الآية بالذم والوعيد , الجواب لا، للتباين في جهة الخطاب ولأن الموضوع أعم من البلاغة .
ويمكن تأسيس علم جديد خاص به يتعلق بعلم الكلام ، يبين الإعجاز في القرآن ، والحاجة في كل زمان إلى إقتباس وإستنباط علوم بلاغية وكلامية جديدة منه.
وإذا كان الإنتقال من صبغة الغائب الى المخاطب وبالعكس يجذب الإسماع، فان إقترانها بالإنتقال من المدح إلى الذم وبالعكس خطاب لأولى الألباب وباعث على التدبر في أسرار الحياة الدنيا، والتفكر بسنن الإبتلاء فيها، ودعوة للإستعداد للآخرة , قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
وبعد أن جاءت آية البحث بصيغة الغائب عادت الآية التالية إلى لغة الخطاب لذات المسلمين والمسلمات وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ ….