المقدمة
الحمد لله الذي جعل رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقطع قراءته للقرآن ( آية آية : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين( ).
لبيان موضوعية وعظيم شأن كل آية من القرآن، بالإضافة إلى جعل القراءة مناسبة للتدبر في معاني ودلالات كل آية من سورة الفاتحة وسور القرآن الأخرى ، وللشكر لله عز وجل بلحاظ أن كل آية من القرآن نعمة مستقلة , فتفضل الله سبحانه وجعل أكثر أجزاء يصدر كل واحد منها بتفسير آية واحدة .
الحمد لله الذي جعل التلاوة وسيلة لحفظ القرآن، والإقرار بتنزيله من عند الله، وبلغة للأجر والثواب، الحمد لله الذي جعل كل آية من القرآن خزينة للعلوم، وكنزاً لا تنفد ذخائره مع أن المسلمين والناس ينهلون منها كل يوم ، ليبين هذا النهل معجزة ذاتية للقرآن بواسطة الغير، وهي خلوه من التعارض والتناقض، لأنه مع طول النهل وإستدامة إغتراف العلماء منه، لم يجدوا إختلافاً أو تعارضاً بين آياته.
ويتضمن هذا الجزء إعجاز القرآن تقسيماً جديداً إلى قسمين:
الأول : الإعجاز الذاتي: الذي يستقرأ من مضامين آيات القرآن، وهو على وجوه منها:
أولاً : بلاغة القرآن.
ثانياً : التسليم بأن القرآن فوق كلام البشر.
ثالثاً : الصلة بين أول ووسط وآخر الآية القرآنية ، وهذا العلم الذي إستحدثته وخصصت له باباً مستقلاً في تفسير كل آية من القرآن ، وتجلت فيه درر ولآلئ علمية وكلامية زاهرة .
رابعاً : إعجاز الآية وأسرار كلماتها ورسمها.
خامساً : إتخاذ المسلمين الآية سلاحاً وواقية وحرزاً، فمع كثرة الإنذار والوعيد في القرآن لم يرد لفظ السيف فيه ، مما يدل على موضوعية الآية القرآنية والحكمة والبرهان في إقامة الحجة على الناس بلزوم عبادة الله عز وجل ، وترك مفاهيم الشرك والضلالة، ويمكن تقسيم الإعجاز الذاتي إلى شعب:
الأولى : الإعجاز الذاتي بالأصالة، ومنه الوجوه أعلاه.
الثانية : الإعجاز الذاتي بالواسطة: كما يتجلى في الأخذ من القرآن والصدور عنه في مختلف الأزمنة.
الثالثة : الإعجاز الذاتي بالإلحاق، ومنه تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن، وبيان شطر من كنوزه وتلاوة المسلمين له ، وهو من أسرار وجوب قراءته كل يوم على كل مسلم ومسلمة.
الثاني : الإعجاز الغيري: وهو الدلالات والأمارات التي تدل على إعجاز القرآن ، والتي تتجلى بالوقائع والأحداث والسنة النبوية القولية والفعلية.
وهذا التقسيم عون لإستقراء ذخائر الإعجاز في ثنايا آيات القرآن، ومدخل لتأسيس مدارس خاصة في علوم القرآن اللامتناهية، ومنها أن أطل على الأرض الجزء القادم وهو الخامس والعشرون بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن) بفضل الله، والذي جاء خاصاً بالصلة بين الآية 151 والآية 152 من سورة آل عمران وهو علم جديد يتعلق بسياق الآيات والذخائر التي تستخرج منه وبواسطته، لتزول فيه الفواصل بين الآيات، والأسوار بين السور، ويتبين أن البسملة في أول السورة ليست للفصل والتمييز بين السور فقط إنما هي ضياء ونبراس في مضامين ذات السورة.
فتصدر أجزاء متكثرة بصلة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، بكل آية من القرآن حتى آية [مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ]( ).
ثم تأتي بعدها أجزاء كثيرة لصلة آية [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، مع كل آية من آيات القرآن إلى آخر آيات القرآن , ليصدر علماء الأجيال التالية أجزاء بالملايين وفق هذا المنهاج أو لا أقل تبين أجزاء الصلة بين الآيات التي أصدرها من أجزاء هذا التفسير( ) وجود المقتضي وإنعدام المانع للامتناهي من أجزاء تفسير وتأويل آيات القرآن ، وإذا إنتهى تفسير الجمع بين كل آيتين يبدأ التفسير بالجمع بين كل ثلاث آيات وهكذا .
وبغية التكامل في هذا العلم نقترح أن يجتمع العلماء من الإختصاصات المختلفة في تفسير الآية الواحدة، كلاً من إختصاصه كعالم اللغة وعالم النحو، وعالم الفقه ، والأصول ،وعالم التلاوة ، ورسم القرآن، والعلماء في السنة النبوية ،والمغازي ، وعلم الرجال ، والأخلاق ، والقانون، والعلوم العسكرية , والفلك , وعلم الهيئة ،وطب الأبدان ، والإقتصاد، وعالم الأرض والجيولوجيا، والرياضيات , والفيزياء , والكيمياء , ليكون هذا التفسير من اللامتناهي، ويصاحب صدور أجزائه المتعاقبة أحقاباً من الحياة الدنيا، ويمكن جعل عدة هيئات للتفسير، كل هيئة من العلماء تتناول تفسير صلة عدد من الآيات مع عموم مجموع آيات القرآن لسعة العمل ولإنتفاع هذا الجيل والأجيال اللاحقة من علوم القرآن.
كما لو تم أمران :
الأول : إنشاء جامعة خاصة لهذا العلم وعلمائه .
الثاني: إختيار مائة فرقة من العلماء، كل فرقة تتولى تأويل الصلة بين شطر من آيات القرآن مع وجود هيئة عليا مشرفة تراجع الأجزاء كلها قبل صدورها، لمنع التزاحم والتعارض والتكرار غير المناسب .
وهل يبدو هذا الإقتراح غريباً أو أنه من مصاديق الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً( ).
الجواب لا، إنما هو جهاد ودعاء لدفع الغربة عن علوم القرآن في آخر الزمان، وأوانها ، رجاء ألا يصبح أهل الإيمان والإستقامة فيه قلة كما كانوا في بداية الدعوة الإسلامية في مكة سواء إجتهد العلماء في علم التفسير والسنة أو لم يجتهدوا إلا أن يشاء الله ، فأبى الله عز وجل إلا أن يحفظ القرآن وأحكام الشريعة في الأرض , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) وقال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وهذا الصرح الخالد لا يتعارض مع الإجتهاد في تفسير ذات آيات القرآن , وإذا شرع في عمل ومشروع تهيئت أسبابه ومقدماته تبرز مشاق وعوائق في الواقع لم تكن بالحسبان، وتستلزم جهوداً إضافية أما الشروع باستظهار كنوز التفسير فان آيات التيسير والتخفيف وأسباب الكشف تتجلى للقائمين عليه، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن .
الحمد لله الذي أنعم علينا بصدور الجزء الثالث والعشرون بعد المائة بتفسير الآية الحادية والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران ٍ[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ…]( ) .
ومن فضل الله أني أقوم بمفردي بالتأليف والمراجعة والتصحيح مرتين الأولى على الورق , والأخرى في الحاسبة من غير إعانة إلا من عند الله , ليكون حجة للعلماء في الأجيال القادمة لبذل الوسع في الغوص في بحور ورياض علوم القرآن الصافية بصبر وفطنة وتوكل على الله .
أما هذا الجزء فهو خاص بتفسير الآية [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ…]( )، وسيأتي الجزء اللاحق بالصلة بينها وبين الآية أعلاه، وفيه مضامين ولآلئ من تفسير كل من الآيتين ليأتي بيان علوم هذه الآية من جهات :
الأولى : تضمن الجزء السابق الصلة والتداخل بينها وبين الآية السابقة .
الثانية : مجئ هذا الجزء خاصاً بتفسير هذه الآية .
الثالثة : تضمن الجزء التالي وهو السادس والعشرون بعد المائة شطراً من صلة الآية السابقة بالآية التالية [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ….] ( ) في فتح علمي جديد وروضة ناضرة , والحمد لله بديع النعم .
وعن النوّاس بن سمعان قال : سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال « لئن ردها الله لأشكرن ربي ، فوقعت في حي من أحياء العرب فيهم امرأة مسلمة ، فوقع في خلدها أن تهرب عليها ، فرأت من القوم غفلة فقعدت عليها ثم حركتها فصبحت بها المدينة ، فلما رأها المسلمون فرحوا بها ، ومشوا بمجيئها حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأها قال { الحمد لله } فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوماً أو صلاة؟ فظنوا أنه نسي فقالوا : يا رسول الله قد كنت قلت لئن ردها الله لأشكرن ربي . قال : ألم أقل { الحمد لله}( ).
ومن الأسرار في المقام أن آية البحث إبتدأت بحرف العطف الواو لبيان عطفها على الآية السابقة ليدل بالدلالة التضمنية على إتحاد لغة الخطاب في هذه الآيات , إذ ورد النداء في الآية قبل ثلاث آيات [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وهو عام وشامل للمسلمين والمسلمات ممن آمن بالدعوة الإسلامية ونطق بالشهادتين ، فيدخل في الآية المنافقون والضلال ،لأن الآية تتضمن زجرهم عن طاعة الذين كفروا إذ ترديهم هذه الطاعة في الهاوية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ).
فهل يشمل الخطاب في آية البحث وما فيه من الثناء المنافقين لأنهم من الذين آمنوا ظاهراً , الجواب لا ، إذ يخرجون بالتخصص عن مضمون ولغة الخطاب في الآية من وجوه :
الأول : إخفاء المنافقين الكفر والجحود وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : الملازمة بين الوعد الإلهي وبين الإيمان.
الثالث : هذه الآية وما فيها من الوعد , وتنجز مصداقه خاصة بالمؤمنين معطوفة على قوله تعالى[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا…].
الرابع : المسائل المستقرأة من قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] الذي يؤكد معنى اللقاء والمسايفة بين المؤمنين والذين كفروا .
ليكون من الإعجاز في هذه الآية أن العطف قد يكون على نحو الموجبة الجزئية ، وفيه مسائل :
الأولى : إرادة تنزيه المسلمين من النفاق والرياء .
الثانية :إصابة فريق من جيش كفار قريش ومن والاهم جرحاً وقتلاً , ويدل عليه قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أن المراد من إذن الله في قوله تعالى[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] أمر ومشيئة الله.
الثالثة : المراد من الفشل والتنازع والمعصية فريق من المسلمين وليس كلهم.
الرابعة : فضح المنافقين الذين يتخلفون عن القتال بغير عذر ،ويحرضون المسلمين على عدم الخروج للقتال , وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) ويتابعون أخبار القتال عسى أن يشمتوا بالمؤمنين لذا تفضل الله عز وجل بالمدد للمؤمنين في هذه الآيات من جهات :
الأولى : الإخبار بأن الله عز وجل هو مولى وناصر وحافظ المؤمنين بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] .
الثانية : نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثالثة : صيرورة الذين كفروا في حال فزع وخوف .
الرابعة : تذكير الناس بأن الشرك قبيح ذاتاً وعرضاَ.
الخامسة : مصاحبة أمرين متلازمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وهما:
الأول : وعد الله.
الثاني : تنجز مصادق الوعد الإلهي على نحو التعدد والكثرة.
السادسة : تأديب وتعليم وهداية المسلمين.
السابعة : نزول العفو من الله للمسلمين، وتفضله بالتجاوز عن أخطائهم يوم أحد.
الثامنة : إختتام آية البحث بقوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] وبين الفضل الإلهي وبين المدد والنعم التي ذكرتها هذه الآيات عموم وخصوص مطلق، فالفضل الذي تذكره خاتمة الآية شامل لأمور الدين والدنيا ، وحاضر في النشأتين .
وجاءت الآية أعلاه[بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]( )، بصيغة الجمع ، ويفيد وجوهاً :
أولاً : تأكيد حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والذب عنه , وفي التنزيل[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
ثانياً : نصرة وحفظ الله عز وجل للمؤمنين على نحو العموم المجموعي .
ثالثاً : سلامة ونصرة كل مؤمن على نحو العموم البدلي والإستغراقي .
رابعاً : إرادة حفظ وسلامة كل مسلمة ومسلمة .
ومن الشواهد في المقام أن دفع الذين كفروا عن المدينة المنورة سلامة لعوائل المؤمنين ولأهل المدينة من الإستباحة والسبي والنهب ، كما في معركة الخندق التي زحف فيها عشرة آلاف من الذين كفروا على المدينة وتوجهوا إليها ، وبلغوا مشارفها وأحاطوا بها .
ولو تم دخولهم لها فهل يتركون بيتاً فيها ، وهل يكفون ويمتنعون عن نهب ما فيها من بيوت المنافقين واليهود وأسواقهم ، الجواب لا يمكن السيطرة على مثل هذه الجيوش التي تنتحل الكفر ، وجاءت من قبائل شتى ومتعددة خاصة وأن سور السالبة الكلية الذي يجمع بينها هو الكفر والعداء للإسلام ولأهل المدينة على إيوائهم للنبي والمهاجرين ونصرتهم له ، لذا فان كفاية المسلمين يوم الأحزاب ودفع شر الذين كفروا وقتل الإمام علي عليه السلام لبطلهم عمرو بن ود العامري من مصاديق خطاب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
فتأتي الآيات باللوم والعتاب للمنافقين ولفريق من أهل الكتاب ، ولكن الله عز وجل يدفع عنهم ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينالون الأمن والسلامة في عموم قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
ليكون من مصاديق الآية أعلاه أمور :
الأول : وكفى الله المؤمنين القتل والجراحات لترشحها عن القتال .
الثاني : وكفى الله مدينة رسول الله الإستباحة ، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال (المدينة حرم ما بين عير إلى ثور من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا) ( ).
الثالث : وكفى الله المؤمنين القتال دعوة للناس للتدبر في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية في ميادين القتال وعموم الغزو .
الرابع : وكفى الله المؤمنين القتال تخفيفاً عنهم بعد الخسارة التي لحقتهم في معركة أحد , ولبيان أن من ولاية الله عز وجل للمسلمين عدم الملازمة بين زحف جيش الكفار ووقوع القتال .
الخامس : وكفى الله المؤمنين ترغيباً للناس بدخول الإسلام ، وهل منه ترغيب الذين كفروا من جنود الأحزاب الذين زحفوا وحاصروا المدينة ، الجواب نعم .
السادس : وكفى الله المؤمنين بتحقيق مصداق لقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] يوم الأحزاب .
فصحيح أن آية البحث قيدت صدق الوعد بحس وقتلِ الذين كفروا إلا أنه لا يمنع من المعنى العام وتنجز صدق الله وعده في كل معركة من معارك الإسلام ، وفي حال السلم أيضاً .
السابع : وكفى الله المؤمنين القتال ، وكفى عدوهم القتال أيضاً لأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فبعد أن رجع الكفار إلى مكة وما حولها وتفرق الناس أخذوا يتدبرون في أسرار طول حصارهم للمدينة الذي إستمر أكثر من عشرين ليلة وتخاذلهم ووهنهم ودبيب الضجر والفزع والرعب إلى قلوبهم مدة الحصار مع أن المسلمين أقل عدداً منهم ، وكانوا مجتمعين خلف الخندق الذي من دلالاته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا يريدون القتال .
وترشح عن إنسحاب الأحزاب إقرارهم بأن الإسلام صارت له دولة ، وأنهم لا يستطيعون قهرها , والعلم بأن الناس يدخلون في الإسلام جماعات ، وهل دخولهم هذا من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية.
الجواب نعم ، وهو من وجوه تفضيله على الأنبياء السابقين لذا ورد في القرآن قوله تعالى [وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً] ( ) لبيان أن هذا الدخول نعمة عظمى من عند الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو المستقرأ من صيغة الخطاب في الآية وإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [رَأَيْتَ].
وبلحاظ الآية أعلاه من سورة النصر يكون من معاني هذا التقدير : وكفى الله المؤمنين القتال , وكفى عدوهم القتال ليدخلوا في دين الله أفواجاً ) .
ومن علم الله عز وجل أنه يعلم ما هو كائن وما يكون , ويعلم الموجود والمعدوم والأشياء كلها حاضرة عنده سبحانه مستجيبة لمشيئته ، فهل قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]يشمل الذين يدخلون في الإسلام لاحقاً .
ويكون من مصاديق تقدير الآية : ولقد صدقكم الله وعده بأنكم تدخلون في الإسلام أفواجاً ، الجواب لا ، لإختصاص الوعد للمسلمين وتحقق تنجزه بصيغة الفعل الماضي ، فلا يشمل غيرهم إلا عند دخولهم الإسلام على المعنى الأعم للآية , وعدم حصر موضوعها بأسباب النزول ، وهو من أسرار عطف آية البحث على النداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] لبيان أن الذين كفروا لا يشملهم الوعد الإلهي ولا مصداقه حتى وإن كان في علم الله أنهم سيدخلون الإسلام .
وصدق الوعد من عند الله للمسلمين من أسباب دخول هؤلاء الإسلام وجذبهم إلى الإيمان ، لأن من مصاديق صدق الوعد الإلهي للمسلمين رمي الذين كفروا بالخوف ، وإمتلاء قلوبهم بالرعب والفزع وإدراك حقيقة وهي إنحصار سبيل النجاة من هذا الخوف والفزع هو الإسلام ، لتترشح عن صدق وعد الله للمسلمين نعم عظيمة على الناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ) .
ويحتمل صدق الوعد من عند الله عز وجل المذكور في آية البحث بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إنه بشارة لأهل الإسلام ، وللناس جميعاً إن إختاروا الإيمان ونبذوا الشرك والضلالة .
بلحاظ أن الله سبحانه وعد المسلمين النصر وعلو راية الإسلام وإقامة حكم الشريعة ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ] ( )لتكون دلالة الآية أعلاه من وعد الله عز وجل ، وتتنجز مصاديقها في كل آن وزمان إلى يوم القيامة .
وهل تختص هذه المصاديق بالحدوث والإبتلاء ، الجواب لا ، إنما تشمل الإستدامة ففي كل يوم يطل على المسلمين وهم يؤدون فيه واجباتهم العبادية إظهار ورفعة للإسلام ، وعلو شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وكلما يحين وقت صلاة فريضة أو صيام يوم من شهر رمضان أو أيام موسم الحج ويؤديه المسلمون كما أداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانه من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
الثاني : هل الوعد من الله لإبراهيم عليه السلام في مجئ وفد الحجاج بقوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( )من عمومات آية البحث وقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] الجواب لا ، لأن آية البحث خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
ومن الإعجاز في المقام إنقطاع وإعراض أهل الملل السماوية السابقة عن حج بيت الله الحرام وتعاهد المسلمين له ، وإدراكهم لقدسية البيت وإتخاذهم له قبلة وإتيانهم مناسك الحج بذات النهج الشريف الذي أداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله (خذوا عني مناسككم) ( ).
الثالث : وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من مصاديق صحة رسالته ، فلما قال سبحانه [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) فانه سبحانه يجعل الدعوة لرسالته تصل أهل الأرض مقرونة بالبينة والبرهان ، وكل آية من القرآن حجة ومعجزة في وصولها للناس وتلقيهم لها , وإقتباس المسائل منها .
لقد إبتدأت آية البحث بأمور متداخلة في كل واحد منها خير الدنيا والآخرة وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وهذه الأمور هي :
الأول : الوعد من الله عز وجل ، وعدم تعيين موضوع وأوان الوعد لعدم الحصر في كل منهما ، وللتجدد والحدوث المستحدث لكل منهما .
الثاني : الخطاب التشريفي للمسلمين والذي يتضمن أمرين :
الأول : الوعد .
الثاني : تنجز الوعد .
وهو من الإعجاز الذاتي للقرآن بأن يحمل اللفظ القرآني معاني أعم وأكثر وأبلغ مما يحمله ذات اللفظ في كلام البشر ومنهم الشعراء والملوك ، فان قيل قد يحمل كلام البشر ذات الأمرين أعلاه ، كما لو قال الملك قد وعدناك المنصب الفلاني فأذهب وتولاه وهذا صحيح ولكنه قياس مع الفارق من جهات :
الأولى : لا يقدر على وعد الله عز وجل إلا هو سبحانه .
الثانية : تعلق وعد الله عز وجل للمسلمين بالنصر والغلبة .
الثالثة : تأكيد دلالة الآية قبل السابقة [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
الرابعة : بيان الآية السابقة لقانون مستديم وهو إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ومن أسرار مجئ الآية السابقة بصيغة المضارع وإرادة المستقبل [سنلقي] أنه من عمومات آية البحث وتقديرها: ولقد صدقكم الله وعده بأن يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ).
وليس من تعارض بين إخبار آية البحث عن تحقق وتنجز وعد الله وبين مجئ الآية السابقة بصيغة الإستقبال .
الثالث : بيان مصداق صدق الوعد الإلهي بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] أي أن الله وعدكم الغلبة على الذين كفروا ، وقد تحقق هذا الوعد بصيرورة الريح للمسلمين في بدايات معركة أحد ، وإنهيار دفاعات المشركين ، وإدراك النساء لدنو الخطر وقرب وقوعهن بالأسر فأتجهن نحو الرواحل للهروب وإرادة قطع مسافة لمنع إدراك المسلمين لهن في طريق العودة إلى مكة ، فكان هذا الفعل منهم كالإستدراج لعدد من الرماة فعجلوا بترك مواضعهم مع أن خيل المشركين تقف خلفهم تتربص الفرصة المناسبة .
وهل يمكن تقدير آية البحث ولقد صدقكم الله وعده بأن جاء الذين كفروا للقتال ، الجواب لا دليل عليه , فمن رحمة الله عز وجل بالمسلمين والناس أن ينتشر الإسلام بالحكمة والبيان الجلي وهو من أسرار وفلسفة مجئ كل نبي بمعجزة تلائم أهل زمانه ، لتكون حجة على الناس ، وبرزخاً دون الإقتتال ، وهل المعجزة من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( )، الجواب نعم من جهات:
الأولى : مجئ الآية أعلاه بالأمر الإلهي بسنخية الدعوة إلى الله.
الثانية : بيان قانون كلي وهو كفاية الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لقيام الحجة على الناس.
الثالثة : تجلي معاني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدعوة إلى الله بالحكمة بالموعظة.
الرابعة : تأكيد نبذ الجدال والخصومة والتنازع في الدعوة إلى الله ليكون من مصاديق الآية أعلاه الحسن الوارد في قوله تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
الخامسة : بيان معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكفاية الدعوة بالحكمة لدخول الناس الإسلام.
السادسة : بين الحكمة والمعجزة في المقام عموم وخصوص مطلق فالمعجزة حكمة , وليس كل حكمة معجزة.
السابعة : من الحكمة والموعظة بيان خصائص المعجزة وأنها أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة.
الثامنة : بيان حقيقة وهي صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتخاذ الدعوة الى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
الثامن : ولقد صدقكم الله وعده وكفى الله المؤمنين القتال ) فمن وعد الله للمسلمين سلامتهم من تجدد وإستدامة القتال لأن الله عز وجل أراد لهم العز والرفعة والأمن , وهو الذي تجلى بصلح الحديبية ثم فتح مكة .
لقد إبتدأت آية البحث بأمور يتعذر على الناس حصر أفراد كل منها وهي :
الأول : الوعد من عند الله للمسلمين .
الثاني : تنجز الوعد الإلهي للمسلمين .
الثالث : إجتماع الوعد الإلهي للمسلمين وتنجزه .
ويحتمل هذا الإجتماع وجوهاً :
أولاً : وجود فترة بين الوعد الإلهي للمسلمين وبين تنجزه وتحققه .
ثانياً : الإتحاد الزماني بين الوعد وتنجزه .
ثالثاً : تنجز الوعد من فضل الله ومتعلق بقيام المسلمين بفعل الصالحات وحسن الجهاد والإجتهاد في الدعاء والمسألة ، قال تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ] ( ).
رابعاً : مدار تنجز الوعد على تحقق موضوعه ومناسبته ، كما في
حال هجوم الذين كفروا على المسلمين .
والمختار هو الرابع فيتجلى صدق الوعد من عند الله بنزول
الملائكة مدداً للمؤمنين وعوناً لهم ، ليكون تقدير قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] على وجوه :
أولاً : إذ تحسونهم بإعانة الملائكة لكم .
ثانياً : إذ تحسونهم ويحسهم الملائكة .
ثالثاً : يشل الملائكة أيدي الذين كفروا فتحسونهم وتقتلونهم .
رابعاً : إذ تحسونهم بإذن الله للملائكة بالنزول لنصرتهم ، قال تعال [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
الرابع : لما أخبرت آية البحث عن تفضل الله عز وجل بالوعد للمسلمين وصدق هذا الوعد بتحققه في الواقع الخارجي ذكرت موضوع الوعد وهو حس وقتل المسلمين للذين كفروا , وفيه آية بحفظ وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد , كيد الذين كفروا إلى نحورهم ، قال تعالى [إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ] ( ) .
لتجتمع في آية البحث نصرة الملائكة للنبي والمؤمنين وكتابتهم لإثم وظلم الذين كفروا , وفيه وجوه :
أولاً : ذات الملائكة الثلاثة آلاف الذين نزلوا لنصرة المؤمنين هم أنفسهم الذين يكتبون مكر وكيد الذين كفروا .
ثانياً : الذين يكتبون مكر الذين كفروا شطر وطائفة من الملائكة الذين نزلوا لنصرة المؤمنين يوم بدر وأحد .
ثالثاً : إختصاص ملائكة معينين بكتابة آثام ومكر الذين كفروا
يوم بدر وأحد وهم غير الملائكة الذين نزلوا لنصرة المؤمنين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، إذ يشهد الملائكة الذين نزلوا للقتال على الذين كفروا في الدنيا والآخرة ويدونون ظلمهم وتعديهم وإصرارهم على تكذيب آيات النبوة والتنزيل ، ليكون من معاني خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]التخويف والوعيد للمكذبين , قال تعالى [وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً] ( ) .
وقيل نزلت الآية أعلاه في صناديد قريش المكذبين .
الخامس : قيدت آية البحث حس وقتل المسلمين للذين كفروا بأنه بأذن الله وهل يمكن إستقراء مسألة وهي لو تعلق صدق الوعد بحس وقتل المسلمين للذين كفروا لما قيدت الآية الحس بأنه بأذن الله بلحاظ أن ذات الوعد وتنجزه الذي تخبر عنه بداية الآية فيكون من تحصيل الحاصل ، الجواب لا .
لتبين الآية قانوناً دائماً وهو أن ذات الوعد وتنجزه لا يقعان إلا بأذن مستحدث من عند الله عز وجل بالإضافة إلى أن صدق الوعد أعم من الحس والقتل ، ومنه الوعد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر والغلبة .
السادس : بعد إبتداء الآية بالبشارات وتحقيق الرغائب إنتقلت إلى بيان ما أصاب المسلمين من الفشل والجبن والخور .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها إبتدأت بذكر ثلاثة وجوه من فضل الله على المسلمين ثم تعقبتها ثلاثة من الذنوب والقصور من قبلهم ، وهي :
الأول : الفشل والجبن .
الثاني : التنازع والإختلاف في الأمر .
الثالث : المعصية التي جاءت بعد رؤية المسلمين بدايات هزيمة الذين كفروا ، وإنكشافهم ومغادرتهم مركز ووسط الميدان ، ومن المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه حين تحولت الريح صارت الجولة للذين كفروا بعد معصية أغلب الرماة وتركهم مواضعهم على الجبل فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك وسط الميدان , ولم يغادر موقعه مع أن الذين كفروا كانوا يطلبونه وصاروا قريبين منه ، وتصله حجارتهم فضلاً عن سهامهم فادموا وجهه وسقطت أسنانه الأمامية وفيه دلالة على شمول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب في أول الآية وخروجه بالتخصيص والذين ثبتوا معه وسط الميدان من أهل البيت والصحابة من اللوم الوارد في وسط الآية ومعاني الفشل والجبن والتنازع والمعصية ، لذا تفضل الله عز وجل وقال في ذات آية البحث [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]لتكون موضوعية لصبر وثبات النبي في فوز المسلمين بمرتبة العفو من عند الله .
وهل بعث وصبر وثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من فضل الله على المؤمنين أم أنه من السنة الفعلية ، الجواب لا تعارض بينهما ، فهو منهما معاً مجتمعين ومتفرقين لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] فيكون ثبات النبي وسط الميدان يوم معركة أحد من الوحي المقرون بالوعيد بالنصر ، ورجاء تحقق ذات الوعد ، لذا لم ينتصر المشركون في معركة أحد إنما إنهزموا خائبين مقرين بالعجز عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن وقف إنتشار الإسلام وسيادته في الأرض، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ].
العاشر من شوالـــــــــــــــــ 1436ــ
27 تموز 2015
قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]الآية 152 .
اللغة ( )
يأتي الفشل على معاني منها :
الأول : التراخي والجبن .
الثاني : الفتور وذهاب القوة .
الثالث : الخيبة وعدم إدراك المأمون .
الرابع : الضعف والكسل .
الخامس : الفزع والخوف , قال تعالى [وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] ( ).
الإصعاد : هو الذهاب في الأرض مأخوذ من لفظ الصعيد وهو وجه الأرض ، قال تعالى [فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا] ( ) وقيل الفرق بين الإصعاد والصعود ، أن الإصعاد في الأرض المستوية فيقال : اصعدنا من الكوفة إلى مكة ، وصعدنا السلم والجبل ، ولكن معنى الإصعاد أعم ، وبينه وبين الصعود عموم وخصوص مطلق .
قال جعفر بن علبة في أبيات من الطويل وهو مسجون
هواىَ مع الركبِ اليمانينَ مُصعدٌ … جَنيبٌ وجُثماني بمكةَ مُوثقُ( )
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة على وجهين :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين بل الله مولاكم ولقد صدقكم الله وعده ) وفيه وجوه :
أولاً : إكرام المسلمين بتوجه خطاب التشريف والفخر لهم في آية البحث والسياق ، ومن حق المسلمين أن يتخذوا نزول ومضمون كل آية من الآيتين عيداً لهم سواء حدد أوانه أو لم يحدد ، لما في كل منهما من الأمن والعز لهم .
وهل هذا الخطاب من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو فعل وعمل المسلمين، الجواب هو الأول ، وتقدير الآية أعلاه بلحاظ لغة الخطاب التشريفي الموجه للمسلمين في آية البحث والسياق على وجوه :
الأول : كنتم خير أمة بنبوة محمد ونزول القرآن .
الثاني : كنتم خير أمة بآية البحث والسياق .
الثالث : كنتم خير أمة بالخطابات القرآنية التي تتوجه إليكم بالثناء والإكرام .
الرابع : كنتم خير أمة فتفضل الله عز وجل عليكم بالخطاب التشريفي .
الخامس : كنتم خير أمة لأن الله مولاكم ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الأمة التي يكون الله مولاهم هي خير أمة .
الصغرى : المسلمون الله مولاهم .
النتيجة : المسلمون خير أمة .
السادس : ذكرت آية السياق قانوناً ثابتاً يتغشى أيام الحياة الدنيا والآخرة وهو [أن الله هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] وقد تفضل ووعد المسلمين بالنصر على أعدائهم ، وهذا الوعد من الشواهد بأن المسلمين خير أمة .
السابع : لقد إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( )فأجابهم الله عز وجل بقانون دائم وهو [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ويتجلى إنفراد الله عز وجل بالعلم في المقام من وجوه :
أولاً : ما يخفى على الملائكة من الأمور والوقائع .
ثانياً : علم الله بعواقب الأمور .
ثالثاً : أسرار ومضامين ذات الأمور التي يعلمها الملائكة .
رابعاً : الغايات الحميدة من خلق الإنسان خلافته في الأرض .
خامساً : عمارة الأرض بذكر الله .
سادساً : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبقاء شريعة الإسلام إلى يوم القيامة ، قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ).
سابعاً : فتح باب التوبة للناس جميعاً ، وتجلي معاني الصلاح بالنسبة للذين نعتهم الملائكة بالفساد وسفك الدماء ، وفي قوله تعالى [إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ] ( ) ، عن قتادة قال (اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأوا أنّ كل شيء عصيَ به ربّه فهو جهالة، عمداً كان أو غيره) ( ).
وعن أبي سعيد (قال : لا أخبركم إلا ما سمعت من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمعته أذناي ووعاه قلبي « أن عبداً قتل تسعة وتسعين نفساً ثم عرضت له التوبة ، فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل فأتاه فقال : إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ قال بعد قتل تسعة وتسعين نفساً . . . ؟ قال : فانتضى سيفه فقتله فأكمل به مائة . ثم عرضت له التوبة فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل ، فأتاه فقال : إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة؟! أخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى القرية الصالحة ، قرية كذا وكذا . . . فاعبد ربك فيها .
فخرج يريد القرية الصالحة فعرض له أجله في الطريق ، فاختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقال إبليس أنا أولى به ، إنه لم يعصني ساعة قط . فقالت الملائكة : إنه خرج تائباً .
فبعث الله ملكاً فاختصموا إليه ، فقال : انظروا أي القريتين كانت أقرب إليه فألحقوه بها . فقرب الله منه القرية الصالحة وباعد منه القرية الخبيثة ، فألحقه بأهل القرية الصالحة) ( ).
ثامناً : الله مولى الذين آمنوا بتحصينهم من الفساد والقتل بغير حق .
تاسعاً : من علم الله عز وجل أنه ينصر الذين يحاربون الكفر والفساد ، ويجاهدون لإقامة حكم الله في الأرض ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
عاشراً : ثناء الله عز وجل على نفسه بأنه خير الناصرين .
الحادي عشر : إلقاء الله الرعب في قلوب الكافرين .
الثاني عشر : مجئ الرعب لعموم الكافرين ، وعدم إستثناء واحد منهم ، فيدخل الرعب إلى بيوتهم ويغزوهم مجتمعين ومتفرقين ، ويختلف ويختصم الكفار فيما بينهم ، ولكن الرعب يحل بساحتهم جميعاً .
الثالث عشر : حكم الذين يشركون بالله من أهل الأرض , وهو على قسمين :
الأول : حكم الله في المشركين في الحياة الدنيا ، وهل يختص هذا الحكم بأيام حياتهم في الدنيا ، الجواب لا ، فهو يشمل ما بعد وفاتهم من جهات :
الأولى : سوء ذكر الناس للمشركين .
الثانية : ذم ذات المشركين لأصحابهم الذين ماتوا .
الثالثة : لحوق الإثم بالذين أشركوا بمحاكاة أتباعهم لهم ، وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا] ( ).
الثاني : حكم وجزاء الذين يشركون في الآخرة وهو اللبث الدائم في النار ، ومن الإعجاز في الآية السابقة أنها جاءت جامعة لوجوه من البلاء الذي يصيب الذين كفروا في الدنيا ، والعذاب الأليم الذي ينتظرهم في الآخرة .
الرابع عشر : بيان قانون كلي يشمل الكافرين ، ومن هو على شاكلتهم كالمنافقين والفاسقين ، بقوله تعالى [وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]ليكون من إعجاز القرآن أن الآية السابقة جاءت بخصوص إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، ولكنها بينت سوء عاقبتهم في الآخرة ، وأخبرت عن قانون العذاب للذين ظلموا مطلقاً ، ليكون من غايات الآية السابقة إصلاح النفوس ، والتحذير من الظلم بلحاظ أمور :
الأول : الظلم طريق للكفر .
الثاني : الكفر مقدمة للظلم .
الثالث : القبح الذاتي للظلم .
الرابع : بين الظلم والكفر عموم وخصوص مطلق فكل كفر هو ظلم كالكفر بالتوحيد أو النبوة أو التنزيل ، وليس كل ظلم هو كفر.
الخامس : إخبار الآية عن حكم الظالمين في الآخرة ، لدفع وهم كيلا يظن الناس أن العقاب بالنار خاص بالذين كفروا ، وهو من إعجاز الآية السابقة .
الخامس عشر : إختصاص إلقاء الرعب في القلوب بالله عز وجل ، وهو من أسرار نفخ الروح في آدم ، فلم تلج الروح ويبدأ آدم بالحركة إلا بعد أن نفخ الله عز وجل فيه من روحه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (قال : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث ، فكان خازناً من خزان الجنة ، وخلقت الملائكة كلهم من نور غير ذلك الحي ، وخلقت الجن من مارج من نار . وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت ، فأول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها ، وسفكوا الدماء وقتلوا بعضهم بعضاً ، فبعث الله اليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم حتى ألحقهم بجزائر البحور واطراف الجبال ، فلما فعل إبليس ذلك اغتر بنفسه , وقال : قد صنعت شيئاً لم يصنعه أحد ، فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة . فقال الله للملائكة { إني جاعل في الأرض خليفة }( ) فقالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }( ) كما أفسدت الجن قال { إني أعلم ما لا تعلمون } يقول : إني قد أطلعت من قلب ابليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره .
ثم أمر بتربة آدم فرفعت ، فخلق الله آدم عليه السلام { مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ }( ) واللازب اللزج الطيب من { حمإ مسنون } منتن ، وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التراب ، فخلق منه آدم بيده ، فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى ، فكان ابليس يأتيه يضربه برجله ، فيصلصل فيصوت ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره ، ويدخل من دبره ويخرج من فمه ، ثم يقول : لست شيئاً ، ولشيء ما خلقت! ولئن سلطت عليك لأهلكنك ، ولئن سلطت علي لأعصينك .فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه ، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحماً ودماً ، فلما انتهت النفخة إلى سرَّته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده ، فذهب لينهض فلم يقدر . فهو قول الله { خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ } ( ).
فلما تممت النفخة في جسده عطس فقال { الحمد لله رب العالمين}( ) بإلهام من الله فقال الله له « يرحمك الله يا آدم ، ثم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات : { اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر } ( )لما حدث في نفسه من الكبر فقال : لا أسجد له ، وأنا خير منه ، وأكبر سناً ، وأقوى خلقاً ، فأبلسه الله وآيسه من الخير كله ، وجعله شيطاناً رجيماً) ( ).
ترى لماذا تفضل الله وإلقى بيده الرعب والخوف في قلب من يشاء من البشر ، وبالذات الذين كفروا , الجواب من جهات :
الأولى :إكرام الله عز وجل لبني آدم لبيان عدم التعارض بين قوله تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا]( )، وبين إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بلحاظ أنهم جلبوا لأنفسهم الضرر ولأن هذا الرعب زجر لهم عن الكفر، ودعوة لهم للإيمان.
الثانية : رحمة الله عز وجل بالناس ، بما فيهم الذين كفروا من جهة أوان ومقدار وزمان الرعب وأثره ، ومن مصاديق الرحمة في المقام صيغة الإستقبال في قوله تعالى [سَنُلْقِي].
الثالثة : كون إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بيد الله، لا يتعارض مع تسخير الملائكة والمؤمنين والناس جنوداً لبعث الرعب في قلوبهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) وهناك مسائل :
الأولى : هل يخوّف الذين كفروا بعضهم بعضاً .
الثانية : هل يصدق على الكافر الذي يخوف أصحابه ويصير سبباً لإبقاء الرعب في قلوبهم أنه من جند الله الذين تذكرهم الآية أعلاه .
الثالثة : هل تخوف النساء الكافرات الرجال منهم وبالعكس ، أم أن عمومات القيمومة تمنع من تخويف النساء للرجال وإن كان الكفر سور السالبة الكلية الجامع لهم.
أما بالنسبة للمسألة الأولى، فالجواب نعم ، ويحتمل هذا التخويف وجوهاً :
الأول : إنه من مصاديق الآية السابقة وإلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثاني : التخويف بين الذين كفروا أمر إضافي يأتي مع وقبل وبعد الرعب الذي يقذفه الله في قلوبهم .
الثالث : التباين بين الرعب الذي ذكرته الآية السابقة ، والتخويف بين الذين كفروا بلحاظ ذات ومعنى كل من لفظ التخويف والرعب والإختلاف الموضوعي بينهما .
الرابع : تخويف الذين كفروا بعضهم لبعض من رشحات الرعب الذي يلقيه الله في قلوبهم .
والمختار هو الثاني والرابع لزيادة الأذى للذين كفروا وإستيلاء اليأس عليهم ، وظهور الإختلاف بينهم ليكون هو والرعب زاجراً عن قتال المسلمين ، كما تجلى في معركة الخندق إذ حاصروا المدينة المنورة أكثر من عشرين ليلة وحال الرعب الذي ملأ قلوبهم من إقتحامها، ومنعهم من القتال ، ولو هموا بالقتال فهل يأتيهم رعب إضافي فيدخل قلوبهم ويتجلى على ألسنتهم ، الجواب نعم ، وقد تفضل الله عز وجل بأن قام الإمام علي عليه السلام بقتل عمرو بن ود العامري , وهو من مصاديق وأسباب الرعب الذي يدخله الله عز وجل في قلوب الذين كفروا .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف { وكفى الله المؤمنين القتال } بعلي بن أبي طالب) ( ).
وقد تفضل الله بالريح الباردة الشديدة على معسكر المشركين مما أصابهم بالهلع إلى جانب الملل والحيرة والرعب الذي هم فيه ، فامروا بالرحيل السريع ومع أن قوله تعالى (فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ) ( )( ) نزلت بخصوص واقعة أحد إلا أن الوقائع تؤكد أن الآية أعلاه نزلت لتكون قانوناً يحكم حال جند المشركين ، وأن كثر عددهم وزحفوا متناجين بالسلاح والمؤون والعهد فيما بينهم على القتال .
وأما الثانية فالمختار هو الإيجاب وجواز أن يكون الكافر من جند الله عز وجل ، وليس له أجر أو ثواب لإفتقاده شرط قصد القربة ، قال تعالى في ذم الذين كفروا [وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
وعن سعيد بن المسيب ، يحدث عن أبي هريرة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر ، فقال لرجل معه : هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل أشد القتال حتى أثقلته الجراحات ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، الذي زعمت أنه من أهل النار قاتل قتالا شديدا ، فقال : « أما وإنه على ذلك من أهل النار ، فلما آلمته الجراحات ، نال الكنانة ، وأخرج سهما ، فانتحر به ، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، قد صدق الله قولك ، إن الذي أخبرتنا أنه من أهل النار أخرج من كنانته سهما فانتحر به ، فأمر بلالا ينادي في الناس : ألا إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) ( ).
وأما المسألة الثالثة أعلاه وهي هل تخوف النساء الكافرات الرجال منهم وبالعكس ، فالجواب نعم ، ليكون من معاني قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] صيرورة الرعب مادة المناجاة بين الكافرين ، وأصلاً في الكلام الدائر في منتدياتهم وفي بيوتهم ولا ينحصر الأمر بالكلام بل بالنهي والزجر عن محاربة الإسلام والإصرار على الكفر، وفيه دعوة لهم رجالاً ونساء لدخول الإسلام لبيان هذا التخويف لزيف وبطلان الكفر، وملازمة الخسران للشرك بالله.
السادس عشر : قد يتكلم الإنسان بصيغة الجمع لإرادة التعظيم والتفخيم بنفسه ، وهو أمر دأب العرب على إتخاذه في الخطاب ويطلقون لفظ الجمع على الواحد ، كما يقال نحن ملك الدولة الفلانية أو نحن فعلنا كذا ،لبيان المائز بين الملك وذي الشأن وعامة الرعية والشعب ، وبعث الهيبة له في النفوس مع أنه لا يختلف عنهم بالعبودية لله عز وجل والوقوف بين يديه للحساب ، وقد جاء القرآن بلغة العرب وأساليبهم في الكلام والخطاب وصيغ البيان ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ] ( ).
ليكون من معاني ودلالات القرآن تصديق صيغ العرب في الكلام ، وتكون لغة الجمع في صيغ الكلام في القرآن على وجوه:
أولاً : الإنذار والوعيد للذين ظلموا وتخويفهم.
ثانياً : تخويف الذين كفروا مما ينتظرهم من العقاب الإليم يوم القيامة ، قال تعالى [فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا] ( ).
ثالثاً : البشرى للمؤمنين بأن الله ينصرهم ويخزي الذين كفروا.
فمثلا جاء قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ] ( ) بصيغة الجمع والتعظيم , والله بيده مقاليد الأمور .
وتأتي لغة الجمع لبيان كثرة الأعوان وأنهم يفعلون باسم السيد والملك وقد سخر الله عز وجل السموات والأرض وما فيها والملائكة لمشيئته وأمره، ومع هذا يحبب نفسه للمسلمين ، ويبين للناس قربه منهم، قال تعالى [وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ).
وقد يأتي كلام الله عز وجل عن نفسه بصيغة المفرد لتأكيد أنه واحد ليس له شريك ، وللإخبار عن قربه وسلطانه، ولبيان إنعدام التعارض بين صيغة الجمع وصيغة المتكلم من عند الله عز وجل.
وجاء الوعيد للكافرين في الآية السابقة بصيغة الجمع[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
وجاء في آية أخرى بصيغة المفرد وبذات الموضوع [سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ] ( ) لبيان عظيم قدرة الله وإستقراء أمور :
الأول : حضور ولاية الله عز وجل في المعركة وعدم تركه للمسلمين يخوضون المعارك الأولى لبناء صرح دولة الإسلام بمفردهم ، قال تعالى [وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ] ( ).
الثاني : إن الله عز وجل هو الذي يلقي بنفسه الرعب في قلوب الذين كفروا.
الثالث : إلقاء الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا بواسطة الملائكة ، مع نسبة الفعل إلى الله عز وجل لأنه سبحانه الذي يأمر به .
الرابع : تدل الآية أعلاه على أن الله عز وجل نصر الملائكة يوم بدر وأحد وهيئ لهم مقدمات الغلبة على الذين كفروا لبيان قانون وهو حاجة الخلائق كلها حتى الملائكة إلى الله عز وجل .
الخامس : إرادة إمضاء وتزكية عمل الملائكة بنصرتهم للمسلمين يوم بدر وأحد ، فقد إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض لأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )فنزلت الملائكة ذاتها لتشارك في قتل الذين كفروا فهل هو من سفك الدماء المذكور في الآية أعلاه، الجواب لا ، إنما هو على وجوه :
أولاً : إنه إنتقام وبطش بالذين يسفكون الدماء .
ثانياً : إرادة تنزيه الأرض من سفك الدماء .
ثالثاً : سلامة المؤمنين من سفك دمائهم , وهو من مصاديق شكر الله عز وجل لهم ، وفي التنزيل [وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا]( ).
رابعاً : نصرة المؤمنين لأنهم يريدون إقامة دولة الحق الخالية من الفساد وسفك الدماء .
خامساً : لقد نزلت الملائكة لتنقية الأرض من الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) أن الله عز وجل ينزل ذات الملائكة الذين إحتجوا على الفساد في الأرض لإجتثاثه منها أوان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلذا إستبشر الملائكة ليلة الإسراء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه، قال فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التى تربط بها الانبياء.
قال ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام باناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل صلى الله عليه وآله وسلم اخترت الفطرة ثم عرج بنا إلى السماء.
فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من أنت قال جبريل.
قيل ومن معك قال محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بى ودعا لى بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل قيل من أنت قال جبريل.
قيل ومن معك قال محمد.
قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه قال ففتح لنا فإذا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهما فرحبا بي ودعوا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وآله وسلم إذا هو قد أعطى شطر الحسن قال فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد.
قيل وبعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بادريس فرحب بي ودعا لي بخير قال الله عز وجل (ورفعناه مكانا عليا)( ).
سادساً : ينزل الملائكة ليمهدوا الحكم الحق في الأرض ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) أن الفساد الذي يستقبحه الملائكة يستأصل من الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأنتم أيها الملائكة جنود في محاربة أهله، وسيتفضل الله بتخويفهم وقتلهم.
السابع عشر : من مصاديق كون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بلحاظ آية البحث والسياق عصمة المسلمين من طاعة الذين كفروا، وهذه العصمة متجددة في كل مكان وزمان لحرمة الإرتداد والقبح الذاتي للكفر ، والتضاد بين الإيمان والكفر.
ويمكن تقدير الآية أعلاه [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بعصمتكم من طاعة الذين كفروا ، نعم هذه العصمة من فضل الله وعظيم إحسانه ، ومع هذا يتفضل وينهي عنها ، وبيان آية السياق لأضرارها الدنيوية والآخروية .
وفيه مسائل :
الأولى : بيان التضاد بين منزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) وبين طاعة الذين كفروا فلما أخبر عز وجل عن كون المسلمين (خير أمة) فانه رزقهم السلامة والأمن من طاعة الذين كفروا .
الثانية : بعد مجيء آية السياق بالنهي عن طاعة الذين كفروا بآيتين جاءت آية [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( )لبيان أن الذي يمتلأ قلبه خوفاً ورعباً ليس أهلاً لأن يطاع .
الثالثة : الرعب الذي يملأ قلوب الذين كفروا عقاب وعذاب من عند الله ، مما يملي على المسلمين إجتناب القوم الذين غضب الله عليهم ، وعدم الإنصات لهم .
الرابعة : لقد نال المسلمون مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( )، بجهادهم وقتالهم للذين كفروا ، فجاءت آية السياق وما فيها من النهي [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] مقدمة لقتالهم .
الخامسة : تتقوم الطاعة بأطراف :
الأول : المطاع .
الثاني : موضوع الطاعة .
الثالث : المطيع .
وإذ وقع الخلاف بين الأصوليين في موضوعية العلو والإستعلاء أو عدمها بالنسبة للأمر بين الآمر والمأمور ، فان موضوعيتها تتجلى واضحة في مسألة الطاعة لتدل آية السياق بالدلالة التضمنية على تحذير المسلمين من الإنقياد والإتباع والذل والضعف أمام الذين كفروا ، وقد قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الثامن عشر : تفقه المسلمين في الدين، والتمييز بين أهل الإيمان ومدّ حبل الأخوة والمودة معهم ، ومعرفة الذين كفروا وأخذ الحائطة منهم ، ويكون النهي في آية السياق على وجوه :
الأول : نهي المسلم عن طاعة الذين كفروا مجتمعين .
الثاني : نهي المسلمين عن طاعة الذين كفروا متفرقين .
الثالث : نهي المسلم عن طاعة الفرد من الذين كفروا بما هو كافر .
الرابع : نهي المسلمين عن طاعة الفرد والشخص الكافر وإن كان ذا شأن، وتبين آية السياق موضوع النهي ، وهو ما يؤدي إلى الإرتداد والنكوص عن الدين ، وهو لا يتعارض مع التبادل المعرفي والمعاملات التجارية والمكاسب .
وهل حرمة الزواج من الكافرة الوثنية من مصاديق آية السياق ، الجواب لا ، إنما لها حكم مستقل أشد من مسألة طاعتهم ، قال تعالى [وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ] ( ).
وفسرت الآية أعلاه بأن المراد منها غير أهل الكتاب( ) وهو المختار ، كما بيناه بالتفصيل في رسالتنا العملية (الحجة) ( ) وتكون النسبة بين الآية أعلاه وبين آية السياق هي العموم والخصوص المطلق ، فآية السياق أعم وهي شاملة للمسلمين جميعاً، أما الآية أعلاه فهي خاصة بالذين كفروا على وجوه:
الأول : الآية أعلاه مقدمة لعصمة المسلمين من طاعة الذين كفروا .
الثاني : عصمة المسلمين من طاعة الذين كفروا مقدمة لطلاقهم للنساء الكوافر .
الثالث : تصدي المسلمين للأمرين معاً للسلامة من طاعة الذين كفروا، ومن إبقاء النساء الكوافر في عصمة زوجيتهم .
الرابع : نهي المسلمين وإلى يوم القيامة عن نكاح المشركات بالله عز وجل ، لقوله تعالى [وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على منع المسلمين من طاعة الذين كفروا بسلامة المؤمن من الخلوة بالمشركة إذا كانت زوجة وإحتمال تأثيرها عليه في القول والفعل وسعيها بمكر لإرتداد المسلم أو منعه من السعي في مرضاة الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ] ( ) .
بلحاظ أن المؤمنات في مأمن من الذم والتبكيت في الآية أعلاه .
ومن إعجاز القرآن أن لفظ المشركات لم يرد في القرآن إلا مرتين ، إذ ورد مرة أخرى في قوله تعالى [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] ( ).
وفيه مسائل :
الأولى : بيان العقوبة العاجلة للمشركين في الدنيا بتنزه المؤمنين عن الزواج منهن .
الثانية : بعث الرعب والفزع في قلوب قريش إذ يرون المسلمين يتقيدون بشرط الإيمان حتى في إختيار الزوجة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]( ).
الثالثة : حصول الأذى والضرر في مجتمعات قريش بصيرورة شطر من نسائهم عوانس بسبب عزوف المسلمين عن الزواج منهن وهجرتهم إلى المدينة .
الرابعة : لما كان الإسلام يدعو إلى النكاح ويحث عليه , فقد نزل القرآن بلزوم تقوم النكاح بالإيمان وأن الأمة المملوكة خير من المشركة الحرة في النكاح ، وهو آية في إصلاح المجتمعات وتدارك النقص والخلل ومنع العزوبة فيه.
الخامسة :تدل آية نهي المسلمين عن إبقاء المشركات في عصمتهم على تهيئتهم لقتال المشركين، ومنع الخلاف بين المسلمين في ملاقاتهم وقد حدث خلاف بين الرماة والمسلمين بخصوص البقاء في مواضعهم أو النزول إلى ساحة المعركة لجمع الغنائم فذكرت آية البحث موضوعه ( وتنازعتم في الأمر ) ليبقى إلى يوم القيامة.
السادسة : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمرأة المؤمنة التي تهاجر إلى المدينة ، وإستثناؤها من إعادة المهاجرين وفق صلح الحديبية، فمثلاً أسلمت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في مكة قبل أن يهاجر منها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، ولما صارت مدة صلح الحديبية خرجت مشياً على القدمين تريد المدينة وهي عاتق أي أشرفت على سن الزواج ولم تتزوج ، وقيل أنها كانت تحت عمرو بن العاص .
وتبين هجرتها لطف الله عز وجل بالمؤمنات ، وكانت تحدث بعد أن ساد الإسلام وتقول : (كنت أخرج إلى بادية لنا بها أهلي فأقيم فيهم الثلاث والأربع، وهي من ناحية التنعيم – أو قالت بالحصحاص – ثم أرجع إلى أهلي فلا ينكرون ذهابي، حتى أجمعت السير فخرجت يوماً من مكة كأني أريد البادية التي كنت فيها، فلما رجع من تبعني خرجت حتى انتهيت إلى الطريق، فإذا رجلٌ من خزاعة فقال: أين تريدين.
فقلت : حاجتي؛ فما مسألتك ومن أنت.
فقال : رجلٌ من خزاعة. فلما ذكر خزاعة اطمأننت إليه؛ لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعقده، فقلت: إني امرأة من قريشٍ أريد اللحوق برسول الله، ولا علم لي بالطريق.
فقال: أهل الليل والنهار ، أنا صاحبك حتى أوردك المدينة. ثم جاءني ببعيرٍ فركبته، فكان يقود بي البعير، لا والله ما يكلمني كلمةً، حتى إذا أناخ البعير تنحى عني.
فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيده في الشجرة وتنحى عني في الشجرة، حتى إذا كان الرواح جذع البعير فقربه وولى عني، فإذا ركبته أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى تنزل؛ فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله خيراً من صاحب.
فكانت تقول: نعم الحي خزاعة.
قالت: فدخلت على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا متنقبة فما عرفتني حتى انتسبت، وكشفت النقاب فالتزمتني.
وقالت: هاجرت إلى الله وإلى رسوله؟ فقلت: نعم، وأنا أخاف أن يردني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين كما رد غيري من الرجال؛ أبا جندل بن سهيل، وأبا بصير، وحال الرجال يا أم سلمة ليس كحال النساء؛ والقوم مصبحي، قد طالت غيبتي عنهم اليوم ثمانية أيامٍ منذ فارقتهم، فهم يبحثون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبونني، فإن لم يجدوني رحلوا إلي فساروا ثلاثاً.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أم سلمة فأخبرته أم سلمة خبر أم كلثوم، فرحب بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله، إني فررت بديني إليك فامنعني ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني، فلا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة وضعف النساء إلى ما تعرف؛ وقد رأيتك رددت رجلين إلى المشركين حتى امتنع أحدهما، وأنا امرأة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله نقض العهد في النساء. وأنزل الله فيهن ” الممتحنة ” ، وحكم في ذلك بحكمٍ رضوه كلهم.
فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرد من جاء من الرجال، ولا يرد من جاءه من النساء. وقدم أخواها من الغد، الوليد وعمارة ابنا عقبة بن أبي معيط.
فقالا: يا محمد، فِ لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه. فقال: قد نقض الله! فانصرفا) ( ).
وأنكحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة بعد أن طلق زينب بنت جحش , فقالت له (يا رسول اللّه زَوّجْت بنت عمك مولاك ? فأَنزل اللّه “وَمَا كَانَ لِمُؤمنٍ وَلاَ مُؤْمنةٍ إذا قَضَى الله وَرَسُوله أمْرًا أنْ يَكُون لَهُم الخِيرَةُ مِنْ أمْرهم” ، قالت: فسلّمت لقضاء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم) ( )وولدت له زيد بن زيد ورقية ، وهلك زيد وهو صغير ، قال (ابن حجر طلقها زيد( )( ).
والأرجح أنها كانت عنده لحين إستشهاده في معركة مؤته ، فأرسل إليها الزبير أثناء مدة العدة يعرض عليها النكاح ، حتى إذا إنقضت عدتها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام ، تزوجها الزبير ، ثم وقع خلاف بينهما , وكان الزبير شديداً على النساء، فضربها وهي حامل سبعة أشهر .
فتوجهت إلى الله بالدعاء تقول (فقلت : اللهم فرق بيني وبينه)( ) فضربها المخاض وهو لا يعلم ، فالحت عليه بأن يطلقها تطليقة واحدة وأنها ترغب بها مع العلم بأنه يحق له الرجوع فيها من غير عقد مدة العدة مادامت حاملاً، لقوله تعالى [وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] ( )،فاستجاب لطلبها فطلقها، وهو خارج من البيت فوضعت في ذات الساعة فاخبر بالأمر.
قال الزبير : خدعتني خدعها الله ، فاتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاكياً مما فعلته فقال صلى الله عليه وآله وسلم : سبق فيها كتاب الله) أخطبها . قال : لا ، لا ترجع إليّ وولدت له زينب ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميداً ثم مات عنها فتزوجها عمرو بن العاص ، فبقيت عنده شهراً وماتت ، وروى عنها ولداها إبراهيم وحميد .
السادسة : ترغيب النساء بدخول الإسلام .
السابعة : إزاحة الفوارق في الزواج ، وجعل الملاك والتكافئ على الإسلام .
الثامنة : إعلان البينونة الإجتماعية بين المسلمين والكفار .
وهو من مصاديق آية السياق بالأمن والسلامة من طاعة الذين كفروا ، فلما جاء النهي في آية السياق عن طاعتهم تفضل الله عز وجل بتهيئة مقدمات إمتثال المسلمين لهذا النهي ، وإعانتهم عليه بالإمتناع عن النكاح من المشركات ، إذ أن النكاح من أهم أسباب أواصر الصلات.
وفي قوله تعالى[وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا]( )، قال الإمام علي عليه السلام : النسب ما لا يحلّ نكاحه، والصهر ما يحلّ نكاحه( ).
إن مبادرة أم كلثوم بنت عقبة لدخول الإسلام وسط أبوين وأخوة ومجتمع ضلالة وشرك معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وشاهد على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) وصفحة مشرقة لجهاد المرأة في الإسلام والذي تجلى بخروجها بعد صلح الحديبية في طريق المجهول , وهي عازمة على قطع مسافة نحو خمسمائة كيلو متراً مشياً على القدمين بمفردها ليس معها محرم أو مجموعة نساء ، ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر بقدومها كي يرسلوا لها من يستقبلها وسط الطريق أو قريباً من مكة , أو تكون لها صحبة من داخل مكة .
وكما تفضل الله عز وجل في آية البحث بذكر موضوعية إذنه ومشيئته في حس وقتل ومطاردة المسلمين للذين كفروا ، فكذا تفضل في نجاة هذه المؤمنة من الوحوش والجوع والعطش وأهل السبي إذ قيّض الله لها رجلاً من قبيلة خزاعة ولها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد وموادعة فتولى إيصالها إلى المدينة باذن الله ليكون فيه زيادة في إيمان المسلمين لأن قصتها مرآة لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستعداد النساء المؤمنات لتحمل الأذى الشديد والتعرض للمهالك من أجل عدم البقاء مع المشركين وقيامهم بإكراهها على ترك دينها بلحاظ أنهم أب وأم وأخوة وهي بنت شابة مستضعفة .
لقد إبتدأت آية السياق بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]وقد حضرت ولاية الله عز وجل مع المؤمنين والمؤمنات المهاجرين إلى المدينة بعد أن تجلت فيوضاتها وأماراتها الإعجازية في مصاحبتها لمهاجري الحبشة وسلامتهم في الطريق .
ومن الإعجاز في هجرتهم أنهم ذهبوا إلى جدة بين ماش وراكب ، وحالما وصلوا إلى البحر وجدوا سفينة تريد أن تبحر إلى الحبشة , فركبوا بنصف دينار ، وهو نوع معجزة إذ يندر في كل زمان وإلى يومنا هذا أن يجد المسافر باخرة وسفينة تريد الرحيل والمغادرة إلى الجهة البعيدة التي يريد , ويأذن قبطانها لنفر من الناس بالركوب .
وخرجت قريش في آثارهم يريدون طلبهم وإعادتهم بالإكراه إلى مكة وأذى المشركين .
وموضوع البحث في المقام هو ما تقدم من تقدير الجمع بين آية البحث والسياق (بل الله مولاكم ولقد صدقكم وعده )وإذا كانت هجرة أم كلثوم بنت عقبة ونجاتها لحين وصولها المدينة وإمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إعادتها مع إخوتها إلى مكة من ولاية الله للمسلمين ، فهل هي من مصاديق صدق الله وعده للمسلمين ، أم أن القدر المتيقن من آية البحث هو صدق وعده تعالى بالغلبة على المشركين في أول نهار يوم معركة أحد، المختار هو الأول لقانون اللامتناهي في كل من :
الأول : وعد الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثاني : صدق الله وعده للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
إن هجرة المؤمنات من أهل البيت والصحابة أمارة على هدم صرح الكفر، وإزاحة مفاهيم الشرك من النفوس وعجز الذين كفروا عن إبقائها في بيوتهم ومنتدياتهم ، لقد جاءت أم كلثوم بنت عقبة إلى المدينة لتحمل معنى هجرة القلوب إلى الإيمان والسياحة في رياضه.
أما الذين أصروا على الكفر فأخبرت الآية السابقة عنهم بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]وهل هجرة المؤمنات من أسباب هذا الرعب .
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بداية عهد جديد بين الناس يتقوم بسلامة الذين آمنوا من طاعة الذين كفروا فيعيشون في بلاد ومصر أو قرية واحدة ، ولكن الصلات بينهم تتقوم بتنزه المسلمين عن طاعة الذين كفروا لأنها خسارة في النشأتين .
وتحتمل آية السياق في مفهومها وجوهاً :
الأول : دعوة الذين كفروا لطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
الثاني : حث الذين كفروا على التبرأ من الكفر، ودعوتهم لإختيار طاعة الذين آمنوا في مرضاة الله والإنصات إلى القرآن.
الثالث : القدر المتيقن من آية السياق هو توجه الخطاب للمسلمين بعدم طاعة الذين كفروا ، وليس في الآية ما يدل على توجيه الأمر للذين كفروا بطاعة المؤمنين .
الرابع : بعث اليأس في نفوس الذين كفروا بلحاظ أمور وأسباب وجهات :
الأولى : إحتراز المسلمين والمسلمات من طاعة الذين كفروا .
الثانية : إنقطاع المسلمين إلى طاعة الله ورسوله .
الثالثة : سلامة المسلمين من الإرتداد، وتطل آية السياق على المسلمين والمسلمات خمس مرات في اليوم أثناء القراءة الواجبة في الصلاة اليومية ، وهي تدعوهم للتوقي من طاعة الذين كفروا ، فان قلت ليس بالضرورة أن يقرأ المسلم آية السياق في كل يوم سواء كان إماماً للجماعة أو منفرداً .
والجواب هذا صحيح ، لكن ذات القراءة في الصلاة تذكير بآيات القرآن وبعث للنفرة من طاعة الذين كفروا .
الخامس : إنذار وتحذير المسلمين من أسباب ومقدمات الإرتداد مطلقاً .
السادس : دعوة المسلمين لتعاهد فوزهم بدخول الإسلام وسلامتهم من الخسارة التي تدل عليها خاتمة آية السياق التي جاءت بصيغة الجملة الشرطية وعاقبة طاعة الذين كفروا .
وباستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق آية السياق ، وتدعو المسلمين إلى التقيد بسنن التقوى وآداب الإسلام فكما أن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول ، فكذا بالنسبة لموضوع آية البحث فانها تضمنت نهي المسلمين عن طاعة المشركين وأهل الضلالة والفسوق ولكن موضوعها أعم إذ أنها دعوة لبناء صرح المجتمع الإسلامي القائم على التقوى والذي تصدر فيه الأحكام والأفعال عن القرآن والسنة النبوية .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : بل الله مولاكم إذ تحسونهم باذنه ) وفيه وجوه :
الأول: إكرام المسلمين بتوجه الخطاب القرآني لهم في كل من آية السياق والبحث بما يفيد الثناء عليهم وفتح آفاق العز والرفعة لهم .
وبين الآيتين عموم وخصوص مطلق ، إذ أن ولاية الله للمسلمين أعم من النصرة ، ومن تعيين موضوعها بخصوص واقعة أحد التي هي سبب نزول الآية .
الثاني : (بل) حرف إضراب عما قبلها ، ويتضمن إثبات ما بعدها ، وهو على قسمين :
الأول : حرف عطف ، إذا جاء بعدها مفرد ليس بجملة , كما لو قلت : لا تصل منفرداً بل جماعة ، ليكون ما بعدها سبباً لزيادة الأجر والثواب وإن لم يكن ما قبلها خطأ أو نسياناً ، للإجماع على عدم وجوب صلاة الجماعة ، ولكنها مستحب مؤكد ، أما الواجب فهو أداء الصلاة ، وقد يكون ما قبل [بل] خطأ وسهواً ، فيكون ما بعدها تداركاً , وبياناً أو ليس خطأ، وتأتي [بل] لبيان أن ما بعدها ضد ما قبلها .
الثاني : حرف إبتداء أي أنها تتصدر الجملة , وإن لم تكن من مبتدأ وخبر، ويرد بهذه الصيغة في القرآن للبيان والسعة ودعوة المسلمين للتفقه في الدين، والإضراب على شعبتين:
الأولى : الإضراب الإبطالي : الذي يفيد إبطال ما قبل [بل] , وفي التنزيل [فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
الثانية : الإضراب الإنتقالي : وهو لا يبطل ولا ينقض ما قبل [بل] ويتضمن معنى الإنتقال إلى غرض ومعنى آخر غيره .
وجاءت [بل] في آية السياق من الشعبة الأولى من القسم الثاني أعلاه، ويحتمل تعلق الإضراب بخصوص الآية السابقة [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] ( )وجوهاً :
الأول : إرادة عموم الآية السابقة .
الثاني : تعلق الإضراب بالجملة الشرطية في الآية السابقة [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] .
الثالث : خصوص قوله تعالى [يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] لبيان سلامة المسلمين من الإرتداد ، فيكون تقدير الآية ( يردوكم على أعقابكم بل الله مولاكم ).
الرابع : تعلق الإضراب بخاتمة الآية السابقة ، وتقدير الجمع بين الآيتين: فتنقلبوا خائبين بل الله مولاكم.
وباستثناء الوجه الأول أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق الإضراب بالحرف [بل] إذ ورد الخطاب التشريفي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] لتأكيد الثناء على المسلمين والمسلمات كما أنه لا يصح الإضراب والإبطال بالجمع بين الخطاب : يا أيها الذين آمنوا وبين الله مولاكم، ليس فيه إضراب وإبطال، إنما يتعلق الإضراب بسلامة المسلمين من طاعة الذين كفروا لأن الله سبحانه هو مولى المسلمين ، والولاية فضل من عند الله على الذين آمنوا.
فان قلت كيف يصح الإبطال مع الجملة الشرطية ، والجواب من جهات:
الأولى : إتصاف اللفظ القرآني بأنه أعم في موضوعه من قواعد النحو مع الدليل والبينة .
الثانية : إرادة مضمون الآية مما بعد الجملة الشرطية .
الثالثة : حصر الجملة الشرطية [إِنْ تُطِيعُوا] بين الخطاب التشريفي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وبين بيان إكرام الله عز وجل للمسلمين بإخباره بولايته لهم .
وفيه مسألتان وهما :
الأولى : هل تتقوم ولاية الله للمسلمين بالإيمان به سبحانه وبالرسول والكتاب .
الثانية : هل عدم طاعة الذين آمنوا للذين كفروا شرط في ولاية الله أم أن الله عز وجل مولى المؤمنين وإن أطاعوا الذين كفروا .
الجواب على الأولى بنعم ، لذا إبتدأت الآية السابقة لآية السياق بالخطاب للمسلمين بصيغة الإيمان , ويكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الله ولي المؤمنين .
الصغرى : المسلمون هم المؤمنون .
النتيجة : الله ولي المسلمين .
وأما الثانية ، فصحيح أن عدم طاعة المؤمنين للذين كفروا شرط للفوز بولاية الله وإستدامتها ، ولكن النوبة لن تصل إليها ، فقد تفضل الله وعصم المسلمين عن مثل هذه الطاعة ، ومن لطف الله بهم أن جعل طاعتهم له ولرسوله ، قال سبحانه [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ] ( ).
الوجه الثاني : يتضمن قول ونداء الله تعالى للمسلمين [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] التخويف والوعيد للذين كفروا وإسقاط ما في أيديهم ، وبعث اليأس في نفوسهم من طاعة الذين آمنوا لهم ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]أمور :
أولاً : تفقه المسلمين في الدين ومعرفة وجوب التوقي من طاعة الذين كفروا .
ثانياً : الفصل والتمييز بين الذين آمنوا والذين كفروا في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ، لذا تفضل الله عز وجل وسمى يوم بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) فقد أنزل الله عز وجل الكتب السماوية فرقاناً بين الحق والباطل ، قال تعالى [وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ] ( ).
كما تفضل بتسمية آيات القرآن بالفرقان بقوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ]( ).
ويدل هذا التعدد في إطلاق اسم الفرقان على القرآن وأحد الكتب السماوية السابقة وما آتاه موسى عليه السلام على حقيقة وهي أن الكتب السماوية التي نزلت من عند الله فرقان بين الحق والباطل ، وبين الهدى والكفر .
ليكون من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونيل المسلمين مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وقوع الفرقان على نحو عملي ومصداق خارجي في معركة بدر بجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فدحر الله الباطل وأخزى الذين كفروا .
وسيبقى قوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )،حجة على الذين كفروا من الأجيال المتعاقبة من الناس .
فتوالت بعثة الأنبياء من عند الله , وتعاقبت الكتب السماوية وكل نبي وكتاب يشهدان بصدق ما قبلهما من النبوات والكتب وجاء القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ولكن المشركين أصروا على الكفر والجحود وشهروا السيوف لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه يوم بدر وطمعوا بهم وقالوا أنهم أكلة رأس من جهات :
الأولى : قلة عدد المسلمين ، إذ كانوا أقل من ثلث عدد جيش المشركين.
الثانية : النقص الظاهر في ظهور ودواب وأسلحة المسلمين ، فلم يكن معهم يوم معركة أحد إلا فرسان ، وكان مع المشركين مائة فرس وقيل مائتين.
الثالثة : كان معسكر المسلمين مكشوفاً ، ويبدو بعضهم وليس معهم إلا العصي .
الرابعة : قلة تدريب وتأهيل الصحابة على القتال .
الخامسة : فضل الله عز وجل في صيرورة عدد المسلمين قليلاً في أعين الذين كفروا إستدراجاً لهم [وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ] ( ).
إن نزول قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] عيد عظيم للمسلمين من جهات :
الأولى : إنه فضل ونعمة من عند الله .
الثانية : وعد من عند الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
وتلك آية بأن يأتي الوعد بصيغة الولاية من الله مما يدل على أنه فضل عظيم ، وفيه خير الدنيا والآخرة وأن هذا الوعد لا عين رأت ولا أذن سمعت وهو الذي تدل عليه الوقائع والأحداث إبتداءً من بدايات الدعوة الإسلامية .
الثالثة : ولاية الله بشارة النصر والأمن من الهزيمة والذل , وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الذين وليهم الله في أمن من الخسران.
الصغرى : المسلمون وليهم الله.
النتيجة : المسلمون في أمن من الخسران.
فان قلت هل تدل تسمية القرآن ليوم معركة بدر بأنه [يوم الفرقان] بأنه بداية تحقق مصاديق الوعد الإلهي الجواب لا ، فإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فكل آية تنزل من السماء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فيها أمور :
الأول : ذات الآية القرآنية من الوعد الإلهي ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا] ( ).
الثاني : كل آية قرآنية تتضمن وعداً من عند الله في منطوقها أو في مفهومها ، وبخصوص الحياة الدنيا أو الآخرة أو هما معاً .
الثالث : الآية القرآنية بشارة الوعد الإلهي في ذات موضوعها وحكمها أو في موضوع ومسألة أخرى .
ثالثاً : كل وعد من عند الله للمسلمين هو من مصاديق ولاية الله عز وجل للمسلمين والمسلمات وفيه مسائل :
الأولى : مجئ الوعد من عند الله جلياً وواضحاً وظاهراً للعقول والحواس لقوله تعالى [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ).
الثانية : تبرء الله عز وجل من الذين كفروا فليس من ولاية أو عهد او وعد لهم، وفي التنزيل [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
الثالثة : إتصاف الوعد من الله بالتمام والكمال ، والخلو من الضرر بالذات أو العرض ، وهل منه قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) أي من مصاديق الوعد الإلهي دفع ضرر وبطش المشركين ، وصيرورته بمرتبة أدنى وأخف فيكون أذى فيبقى المسلمون في مأمن وسلامة في دينهم ، الجواب إن عدم مجئ الضرر من المشركين من صدق الوعد من عند الله، وفيه دعوة للمسلمين لدفع أذاهم ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
الرابعة : حضور ولاية الله عز وجل في مسألة الوعد من عند الله، وفي غيره .
الخامسة : من وعد الله عز وجل للمسلمين ولايته ونزول قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]بصيغة الإضراب والقطع .
رابعاً : من معاني التخويف والوعيد للذين كفروا في قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]مسائل :
الأولى : ذات التخويف مطلوب بذاته من وجوه :
الأول : إنذار الذين كفروا .
الثاني : بعث النفرة في نفوس الناس من الكفر والظلالة .
الثالث :لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الإنذار ) وليس من حصر لأسباب وجهات وزمان الإنذار، وتشترك فيه الآيات الكونية وضروب الإبتلاء في الدنيا ، وهو من عمومات قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ) .
وأيهما أكثر في التخويف والوعيد للكفار الآية الكونية أو الآية القرآنية كما في آيات السور المكية مثل قوله تعالى [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ]( )، [زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا] ( ) .
الرابع : مفاهيم آيات الثناء والبشارة للمسلمين ، ومنه كل من آية السياق والبحث .
الثانية : بيان القبح الذاتي للكفر والجحود لأنه برزخ دون ولاية الله.
الثالثة : دلالة ولاية الله للمؤمنين على خيبة وخسران الذين كفروا.
الرابعة : تخويف الكفار موعظة وعبرة للناس جميعاً ، وتلك آية في دلالات الآية القرآنية ، وعموم المقاصد الشريفة فيها ، فتنزل الآية بخصوص موضوع لتشمل مواضيع أخرى ، وتأتي بشأن قوم وإنذارهم لتكون زاجراً لغيرهم في ذات موضوع الإنذار ، وأيهما أكثر الكفار الذين يتلقون الإنذار والتبكيت كما في قوله تعالى في الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] أم عموم الناس الذين يتعظون من الآية القرآنية ، الجواب هو الثاني .
ليكون من إعجاز الآية القرآنية حضور غاياتها معها في كل مكان وزمان، وعدم إستثناء أحد من الناس من الإنتفاع منها ، ولا توجد موضوعية للقاعدة الفلسفية (ما من عام إلا وقد خص) في آيات القرآن ومضامينها القدسية لصيغة العموم , والإطلاق فيها وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) , وحضور الأشياء كلها عند الله عز وجل .
وإذا كان الرعب ينفذ إلى شغاف قلوب الذين كفروا ببديع قدرة الله وسلطانه فهل ينفذ ذات الرعب إلى قلوب غيرهم ممن يتعظ بالآية القرآنية ، الجواب لا ، للتباين الموضوعي بين الكفر والسلامة منه ، فالقدر المتيقن من قوله تعالى في الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]الملازمة بين الكفر وهجوم الرعب على القلب وعدم إختصاصه بأوان المعركة أو أوانها وما بعدها ، ويحتمل الرعب في المقام وجوهاً :
الأول : إنه من مرض القلوب .
الثاني : هذا الرعب سبب لمرض القلوب ، وصيرورتها معتلة .
الثالث : يأتي الرعب للقلب بسبب إختيار صاحبه الكفر ، فهو من رشحات ونتائج الكفر ، وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية أعلاه .
الرابع : نسبة العموم والخصوص من وجه بين الرعب ومرض القلوب.
الخامس : إرادة نسبة التساوي بين مرض القلوب والرعب وأن مرض القلوب هو ذاته الرعب الذي يتغشاها.
السادس : مرض القلب فرع الرعب الذي ينفذ إليه , ويكون أمارة وعلامة عليه .
وتدل آيات القرآن على التباين بين مرض القلوب والرعب بدليل قوله تعالى [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ] ( )على المغايرة بين الذين في قلوبهم مرض وبين الكافرين ، نعم ذات الكفر مرض في القلوب كما يكون الرعب سبباً لمرض إضافي في القلب ، وهو لا يتعارض مع إرادة المنافقين من الذين في قلوبهم مرض ، وتقدم أن موضوع هذه المسألة وهي الثانية تقدير الجمع بين الآيتين (بل الله مولاكم إذ تحسونهم )ويحتمل وجوهاً :
الأول : ترتب حس وقتل المؤمنين الذين كفروا يوم معركة أحد على ولاية الله للمسلمين.
الثاني : جاء التمكن من الذين كفروا ، ووقوع القتل فيهم من مصاديق صدق وعد الله عز وجل للمسلمين ، والجمع أعلاه ليس بحجة لأنه نوع تقدير .
الثالث : ولاية الله أصل لصدق الوعد من عند الله ، ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وفيها شاهد على تعدد ضروب وأفراد فضل الله عز وجل على المسلمين في أحوالهم الخاصة وأخوتهم الإيمانية ، وإعانتهم لفعل الصالحات , ورمي عدوهم بالوهن والضعف والقتل ، ليكون من مصاديق الجمع بين الآيتين بعث اليأس في قلوب الذين كفروا من التعدي على الإسلام .
فان قلت لم ينقطع هذا التعدي، والجواب ليس من ملازمة بين حال اليأس في القلوب وبين تجدد التعدي .
ليكون من منافع وآثار هذا اليأس وجوه :
الأول : التباعد في فترات تعدي الكافرين .
الثاني : المنع من إستدامة تعدي الكافرين .
الثالث :عجز الذين كفروا عن المناجاة بالهجوم على المسلمين .
الرابع : فضح زيف وكذب وقصور التهديد الذي يطلقه الذين كفروا، فبعد معركة بدر أخذت الأخبار تترى إلى المدينة تفيد أن قريشاً يعدون جيشاً عرمراً للهجوم على المدينة ، وإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ومن ولاية الله عز وجل حسن توكل المؤمنين عليه سبحانه (عن ابن عباس قال : استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيراً واردة المدينة ببضاعة لهم ، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبال , فقال : إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمداً ومن معه ، إن أنتم وجدتموه في طلبي أخبرتموه أني قد جمعت له جموعاً كثيرة ، فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعاً كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل . فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقيناً [وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( )، فأنزل الله { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }( ) الآية) ( ).
وهل يصح تقدير الجمع بين الآيتين (بل الله مولاكم إذ تحسونهم)من غير تقييد بأذنه , الجواب لا تعارض بين الولاية والإذن الإلهي ، لأنه فرع الولاية في المقام ، وفيه دليل بأن الله عز وجل لا يأذن للذين كفروا أن يحسوا ويقتلوا المؤمنين لأنه ليس من ولاية للذين كفروا إلا ولاية الشيطان وغرور أنفسهم التي ليس لها أثر في الواقع العملي ، وفي التنزيل [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ]( ) لبيان أن وعد الله حق ووعد أعدائه باطل ومتخلف عن التنجز والتحقق ، ومن الإعجاز أن لفظ [وَعَدْتُكُمْ] لم يرد في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وجاء مع تبرء الشيطان من الذين كفروا وإتخاذه عدم سلطانه حجة عليهم وبرهاناً لإستحقاقهم العقاب الأليم ومنه نزول الحس والقتل بهم بأيدي المؤمنين .
إن تمكين المؤمنين من الكفار يوم بدر ويوم أحد من الدلائل والشواهد على ولاية الله لهم , ومنها النصرة والمدد والعون والإذن بالتشريد والقتل للقوم الكافرين .
لقد سبقت ولاية الله الإذن بقتل الكافرين ، ليكون في هذا السبق أمور:
الأول: بعث السكينة في نفوس المسلمين والمسلمات.
الثاني : إنذار وزجر الذين كفروا عن الهجوم على المدينة , وإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فان قلت آية الولاية خاصة بالمسلمين فهل يعلم بها الذين كفروا , الجواب نعم ، من وجوه :
أولاً : كان كفار مكة يستمعون لآيات القرآن ويقرون بدلائل الإعجاز التي تتضمنها .
وعن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قول بعضكم بعضا، فقيل: يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقوم به فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع فقالوا: نقول كاهن.
فقال: ما هو بكاهن: رأيت الكهان، فما هو بزمزمة الكهان.
فقالوا: نقول مجنون.
فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
فقالوا: نقول شاعر.
فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول هو ساحر.
قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجني ، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لان تقولوا: هذا ساحر، فتقولوا هو ساحر يفرق بين المرء ودينه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته.
فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره.
وأنزل الله في الوليد ” ذرنى ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ” الآيات، وفى أولئك النفر الذين جعلوا القرآن عضين: ” فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون( ).
ثانياً : من إعجاز القرآن الغيري قيام الركبان قبل وبعد الهجرة النبوية بنقل آيات القرآن، وتبادل الأخبار عنها نزولاً ومضموناً، فتصل الى أسماع الذين كفروا طوعاً وقهراً.
ثالثاً : من ولاية الله للمسلمين في المقام تلاوتهم لآيات وسور القرآن في الصلاة على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة.
رابعاً : تجلي الآيات بدخول أفواج من الناس الإسلام بسبب شيوع وتلاوة آيات القرآن.
الثالث : إقتران الولاية بالإيمان والصلاح .
فمن فضل الله عز وجل على المؤمنين أمور:
أولاً : قلة أيام الحروب والقتال بالنسبة لعموم أيام السلم والمهادنة ، ومن الإعجاز أن معركة بدر التي غيرت مجرى التأريخ لم تستغرق إلا بضع ساعات , وأسمى الله عز وجل يومها [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
وصحيح أن اليوم مقدار من الزمان من طلوع الشمس إلى غروبها ، ولكنه قد يطلق على الوقائع والأحداث التي تستمر لسنوات كما في يوم داحس والغبراء التي وقعت بين قبيلة عبس وذبيان , وقيل إستمرت أربعين سنة , وحرب البسوس بين تغلب وقبائل بكر .
ومن هذه الحروب والمعارك ما تنتهي من غير نصر لأحد الطرفين مع طول مدتها ، وكثرة الخسائر والنهب والسلب وفقدان الأمن فيها.
وحتى في الأشهر الحرم التي يمتنع فيها العرب عن القتال فان هؤلاء يلبسون البرقع والقناع كيلا يعرفوا فينتقم منهم بعد إنتهاء مدة الأشهر الحرم فان الله عز وجل تفضل على المسلمين في معركة بدر بإصرار الذين كفروا على القتال ، وفيه حجة عليهم.
وهل هذا الإصرار من مصاديق قوله تعالى [زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا] ( )الجواب نعم ، فقد ظنوا النصر على المسلمين ، لقلتهم والنقص الظاهر في أسلحتهم وضعف خبرتهم في القتال .
لقد أراد كفار قريش إستمرار بسط نفوذهم على قبائل الجزيرة العربية بالقوة والبطش مع ما لهم من الشأن والجاه بجوار البيت الحرام فأبى الله ان يجمعها لهم , لبيان قانون وهو أن العز والرفعة لا يجتمعان مع الكفر وإن جاء شأن بالوراثة والأسباب الموضوعية والمال والشأن كما في قريش ووراثتهم سدانة البيت الحرام ، وقيامهم بتولي شؤون التجارة بين الغرب والشرق كما في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )، فان الكفر يأتي على هذا الشأن.
ترى لو رجعت قريش إلى مكة ولم تقاتل ماذا يحدث ، الجواب يرجع المسلمون إلى المدينة ، ويستمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإرسال السرايا والإستطلاع ودعوة الناس إلى الإسلام، وكل يوم يطل على أهل الأرض تتجلى معجزات إضافية ، وتنزل آيات من القرآن تتضمن العز للمؤمنين , والخزي للذين كفروا.
وهل هذا الخزي من ولاية الله للمسلمين , الجواب نعم ، فمن مصاديق ولاية الله رمي عدو أوليائه بالإنكسار والخزي والهوان ، قال تعالى بخصوص معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ليكون الذين كفروا على قسمين :
الأول : الذين يقعون قتلى وأسرى ، وجاءت نسبة القطع أعلاه إلى الله عز وجل لبيان أمور :
أولاً : تجلي معاني النصر الإلهي .
ثانياً : إتصاف النصر الإلهي بالتمام والخلو من النقصان .
ثالثاً : صيرورة النصر الإلهي سبباً لعجز الذين كفروا عن مواصلة القتال .
رابعاً : يزداد المسلمون بالنصر الإلهي إيماناً ، ويصبح الإمتناع عن طاعة الذين كفروا ملكة عندهم وإلى يوم القيامة ، فينال النبي محمد والصحابة النصر في معركة بدر وأحد لينجو بسببه المسلمون في كل زمان من طاعة الذين كفروا .
الثاني : الكفار الذين يعودون من المعركة ولم يقتلوا أو يقعوا أسرى ، ومن إعجاز الآية أعلاه أنها رمتهم بالخيبة والخسران في عودتهم ، وفيه مسائل :
الأولى : دخول الجراحات في الخيبة ، فكل جريح من الكفار هو خائب، أما الجريح من المؤمنين فان العز لا يفارقه , ويدرك أن في هذه الجراحات ثواباً عظيماً وأجراً .
الثانية : فشل الذين كفروا وعجزهم عن تحقيق النصر أو الغلبة في معركة أحد .
الثالثة : رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة سالماً خيبة عظمى للذين كفروا ، وقد أدرك المؤمنون والمؤمنات هذه المعجزة فقد تلقت بعض النسوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعاني الغبطة والرضا على سلامته.
الرابعة : إقتران الخيبة بالكبت والحسرة ، والكبت الذل والهوان (الكَبْتُ: الصرف والإذلال. يقال: كَبَتَ الله العدوَّ، أي صَرَفَهُ وأذلَّه. وكَبَتَه لوجهه، أي صرعه) ( )وأيهما يتقدم زماناً.
الأول : والكبت والصرف .
الثاني : الإنقلاب .
الثالث : الخيبة .
وظاهر الآية أن الكبت هو يتقدم زمانه ، وأنه يصاحب الذين كفروا في ميدان المعركة إذ ينزل الملائكة نصرة للمسلمين، ويقعون قتلاً وتخويفاً بالذين كفروا كما أنه من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
ولقد إنتصر المشركون في كبَّه ( ) من معركة أحد، ولكنهم في هذه الحال لم يغادرهم الكبت والذل إذ لا ملازمة بين الإنتصار في فصل من المعركة وبين العز أو الذل ، لذا فان قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) مطلق ويشمل حال النصر والهزيمة ، وحال الربح والخسارة.
فان قلت لو سقط قتلى من المؤمنين فهل يختص العز بالأحياء منهم أم يشمل الذين قتلوا ، الجواب هو الثاني لذا ورد قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ) ليكون من عزهم حسن ذكرهم بين الناس وإفتخار ذويهم بهم .
وبعد الكبت يأتي الإنقلاب ، ومن الإعجاز أن الآية لم تقل (وينقلبوا) بل جاءت بالفاء( ) ليكون إنقلابهم مسبباً لأمور :
الأول : قتل عدد من كبرائهم بقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
الثاني : تجلي صدق وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالنصر والغلبة ، ومنه بلحاظ الآية أعلاه جهات :
الأولى : وعد الله بقطع طرف من الذين كفروا وسقوط عدد من كبرائهم قتلى في معركة بدر وأحد .
الثانية : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثالثة : كبت وذل وهوان الذين كفروا .
الرابعة : تجلي معاني الكبت على الذين كفروا .
الخامسة : إفادة معنى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] رجحان كفة المسلمين في المعارك اللاحقة والملاقاة بينهم وبين الذين كفروا، وفيه مسائل :
الأولى : البشارة للمسلمين بالنصر والغلبة .
الثانية : بعث السكينة في نفوس المسلمين ، وعدم الخشية من الإنكسار والهزيمة في المعارك اللاحقة ، فعندما خسر كفار قريش معركة بدر رجعوا إلى مكة وباشروا الإستعداد لمعركة أحد ، ولكن المسلمين في المدينة ليس لهم مصر ينسحبون إليه.
وقد ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبلها إلى الطائف فحاربوه وآذوه أشد الأذى.
وهاجر رهط من المسلمين إلى الحبشة في ظل دولة وحكم للنصارى، فليس من سبيل أمام المسلمين إلا فضل الله بسلامتهم في المدينة فكفاهم الله شر رؤساء الشرك الذين أرادوا إستئصالهم في معركة بدر وأحد والخندق ، [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
الثالثة : الكفار الذين يقعون أسرى بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إذ أن وقوع سبعين أسيراً بيد المسلمين يوم بدر سبب لبعث الرعب والفزع في قلوب المشركين , وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
وقد أصاب المسلمون أسيرين في سرية نخلة التي وقعت في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة النبوية أي قبل معركة بدر بشهرين وهما (الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله ) وأسلم الأول لما أبصر وأدرك من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسن معاملته له ، وأما الثاني فلحق بمكة ومات فيها كافراً ، ليكون هذا الأمر إنذاراً للذين كفروا بالإنزجار عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ووقع أسرى من الذين كفروا بيد المسلمين في أكثر معاركهم مع المشركين فكانت مدرسة الأسر شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الإحسان للأسير وإكرامه وتركه طليقاً في الغالب في المدينة والعفو عن أكثرهم بما لم يكن موجوداً في تلك الأزمنة ولا في أي زمان .
وأكثر عدد للأسرى والسبايا وقع بيد المسلمين كان في معركة حنين والتي وقعت في العاشر من شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة ، وبعد أن تحقق فتح مكة ، حتى قيل أنهم ستة آلاف من الرجال والنساء والصبيان، والمتبادر إلى الأذهان دخول القبائل في الإسلام بعد فتح مكة وقهر رؤساء الكفر من قريش .
ولكن رؤساء هوازن وثقيف أصروا على القتال وحينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يريدون مكة ، ظنت هوازن وثقيف أن النبي والمسلمين يريدونهم ، فاستصرخوا غطفان معهم ، ولكن بعد أن تبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة وأنه لم يقصدهم لم يكفوا ويرجعوا إلى الطائف بل أصروا على القتال ، تماماً مثل حال أبي جهل وأصحابه من كفار قريش في معركة بدر ، الذين خرجوا لنجدة قافلة أبي سفيان ، وعندما بلغهم نجاة القافلة ، وأنها توجهت بسلام إلى مكة ، لم يرجعوا إلى مكة ولم يجتنبوا القتال ، بل أصروا عليه ، فكانت هزيمتهم المنكرة في معركة بدر وسقوطهم بين قتيل وأسير وشريد وهو من مصاديق عز وجل [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ) .
لقد ساق رئيس هوازن مالك بن عوف النصري معه النساء والأولاد وأحضر الأموال والإبل لغرض قتال أصحابه عنهم , ولم يتعظوا من إنتصارات الإسلام وتوالي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال السنوات السابقة ، فكانت أكبر خسارة تعرض لها المشركون لتصبح نهاية لقوى الشرك وبداية انحساره في الجزيرة ، فمع كثرة الأسرى إستولى المسلمون على أموال الجيش المحارب .
ورد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هوازن سباياها (وكانت ستة آلاف وأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العباس من الذهب ما لم يطق حمله وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها فقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منها وجاءه رجل فسأله فقال ما عندي شئ ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شئ قضيناه فقال له عمر ما كلفك الله مالا تقدر عليه فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك فقال رجل من الأنصار
يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذى العرش إقلالا فتبسم صلى الله عليه وآله وسلم وعرف البشر في وجهه وقال بهذا أمرت) ( ).
وهل يشمل قوله تعالى (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) معركة حنين أم أنه خاص بمعركة أحد , الجواب هو الأول ، وقد تجلى بأبهى مصاديقه يوم حنين بهزيمة هوازن وثقيف مع أنهم باغتوا المسلمين بهجوم سريع وشديد مع عزم على تحقيق النصر والغلبة لأن نساءهم وأولادهم وأموالهم معهم ولكن قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] حاضر في المعركة فلما إنهزمت الكتائب الأولى من المسلمين ثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه ، وهذا الثبوت من مصاديق الوحي وتعضيد الملائكة له.
ومن الحكمة الإلهية في إرسال الرسل دعوة الناس بالمعجزة والبرهان إلى عبادة الله وإقامة الحجة عليهم ، وبشارتهم بإقامة الصالحين في الجنة ، ولبث الكافرين في النار ، قال تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ]( ) .
وجاءت رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآية في المقام , وهي تحقيق النبي وأصحابه النصر على الذين كفروا وان كانوا أكثر عدداً وعدة كما في معركة بدر ، أو باغتوا المسلمين وهجموا هجمة رجل واحد كما في يوم حنين ليتجدد مصداق قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] وليكون من معاني قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب) ( ) ثم قال لعمه العباس: ناد يا معشر المهاجرين ويا معشر الأنصار ، فرجعوا في الحال , وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو على بغلته : الأن حمي الوطيس (ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم حصيات فرمى بها وجوه الكفار , ثم قال : انهزموا ورب محمد ثم قال : فما هو إلا أن رماهم فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا) ( ).
(قال ابن إسحاق : و لما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف في بني مالك فقتل منهم سبعون رجلا) ( ). ومعنى إستحر أي إشتد وكثر .
وقال جبير بن مطعم (رأيت قبل هزيمة القوم – والناس يقتتلون – مثل البجاد الأسود أقبل من السماء) ( ) .
والبجاد هو الكساء الغليظ وظاهره أن أسراباً وجيوشاً على هيئة النمل سقطت من الأرض، وقوله(لم أشك أنها الملائكة) هو تأويل منه.
والمختار أن النمل المبثوث الذي ملأ الوادي ليس ملائكة من جهات :
الأولى : تلبس الملائكة بهيئات صالحة .
الثانية : قد ذكر الله الملائكة وأمره لهم بالقتل بقوله تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ) فهيئة النمل لا تساعد على القيام بهذا الفعل العظيم .
الثالثة : ورود الأخبار برؤية الملائكة على هيئة بشر وراكبين الخيل.
لقد كان البجاد والنمل من جند الله ومصاديق قوله تعالى في آية البحث[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] بتقدير وجوه:
أولاً : ولقد صدقكم الله وعده بجنود من عنده تعالى[إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا]( ).
ثانياً : جاء ذكر الجنود على نحو الإجمال ولا يعلم سنخيتهم إلا الله عز وجل , وتقدير الآية : ولقد صدقكم الله وعده بمدكم بمدد لا يعلم عدده إلا هو سبحانه.
ثالثاً : ولقد صدقكم وعده بجنود من البجاد والنمل.
وحينما طال حصار الأحزاب للمدينة , واستمر أكثر من عشرين ليلة بعث الله عز وجل جنوداً من الريح فزحزحت خيام الذين كفروا عن مواضعها واسقطت أعمدتها، ولم تدع لهم قدراً إلا كفأتها، ونزل جند من الملائكة يزلزلونهم، وكل من الريح والملائكة من مصاديق الآية السابقة[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
وهو من الإعجاز في مجئ الآية أعلاه بصيغة الإستقبال، والشواهد على أن المدار في الآية القرآنية على عموم اللفظ وليس سبب النزول وكما جاءت الريح مع الملائكة في معركة الأحزاب، جاء النمل وشبهه كالبجاد والكساء الغليظ النازل من السماء في معركة حنين، وأيهما أشد خطراً على الإسلام والمسلمين معركة الأحزاب أم معركة حنين، الجواب هو الأول، لبيان معجزة من جهات:
الأولى : ترتيب التنازل في قدرة الذين كفروا على الهجوم والقتال.
الثانية : بيان تأريخي لصبر المسلمين على الحصار مع حال الفداء التي هم عليها ولم يخش النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمرداً وإثارة للفتنة من قبل المنافقين وأهل الجدال.
الثالثة : بيان قانون يتعلق بقوله تعالى في آية البحث[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] من وجوه:
الأول : حضور وعد الله عز وجل في كل لقاء وقتال مع الذين كفروا، وبين اللقاء والقتال عموم وخصوص مطلق، فكل قتال هو لقاء , وليس العكس.
الثاني : كل مرة يتحقق فيها وعد الله تكون سبباً لعز الإسلام، وقوة شوكة المسلمين.
الثالث : في كل لقاء مع العدو إضعاف وتوهين له، وهو من مصاديق قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ]( ).
ومن أسرار مجيئ الآية أعلاه بصيغة المضارع بيان تجدد هذا القطع وفي كل معركة، ويكون على وجوه:
الأول : قتل بعض أبطال الذين كفروا.
الثاني : دخول طائفة من الذين كفروا في الإسلام.
الثالث : وقوع عدد من جنود المشركين أسرى عند المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه وردت في أهل البيت إلا أنه لا يمنع من إستقراء الدروس والمواعظ منها، وعن مجاهد عن ابن عباس في قوله الله سبحانه وتعالى[يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا] قال : مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر ذ وعادهما عامّة العرب فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذراً وكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء. فقال علي عليه السلام : إن برأ ولداي مما بهما صمتُ ثلاثة أيام شكراً،
وقالت فاطمة : إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام شكراً ما لبس الغلامان العافية،
وليس عند آل محمد قليل ولا كثير،
فانطلق علي ح إلى شمعون بن جابا الخيبري،
وكان يهودياً فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير،
وفي حديث المزني عن ابن مهران الباهلي فانطلق إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له : شمعون بن جابا،
فقال : هل لك أن تعطيني جزّة من الصوف تغزلها لك بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أصوع من الشعير قال : نعم،
فأعطاه فجاء بالسوق والشعير فأخبر فاطمة بذلك فقبلت وأطاعت قالوا : فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته وأختبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصاً وصلى علي مع النبي (عليه السلام) المغرب، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه اذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم من موائد الجنة، فسمعه علي عليه السلام فأنشأ يقول :
فاطم ذات المجد واليقين
يا ابنة خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين
قد قام بالباب له حنين
يشكوا إلى الله ويستكين
يشكوا إلينا جائع حزين
كل امرء بكسبه رهين
وفاعل الخيرات يستبين
موعدنا جنة عليين
حرمها الله على الضنين
وللبخيل موقف مهين
تهوى به النار إلى سجين
شرابه الحميم والغسلين
من يفعل الخير يقم سمين
ويدخل الجنة أي حين
فأنشأت فاطمة :
أمرك عندي يا ابن عمّ طاعه
ما بي من لؤم ولا وضاعه
غذيت من خبز له صناعة
أطعمه ولا أبالي الساعة
أرجو إذ أشبعت ذا المجاعة
أن ألحق الأخيار والجماعة
وأدخل الخلد ولي شفاعة
قال : فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح، فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع فطحنته فاختبزته وصلّى علي مع النبي عليه السلام، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فأتاهم يتيم فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، يتيم من أولاد المهاجرين، استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله على موائد الجنة فسمعه علي عليه السلام فأخذ يقول :
فاطم بنت السيد الكريم
بنت نبي ليس بالزنيم
لقد أتى الله بذي اليتيم
من يرحم اليوم يكن رحيم
موعده في جنّة النعيم
قد حرّم الخلد على اللئيم
ألا يجوز الصراط المستقيم
يزل في النار إلى الجحيم
فأنشأت فاطمة :
أطعمه اليوم ولا أبالي
وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعاً وهم أشبالي
أصغرهم يقتل في القتال
بكربلا يقتل باغتيال
للقاتل الويل مع الوبال
تهوى به النار إلى سفال
وفي يديه الغل والأغلال
كبوله زادت على الأكبال. قال : فأعطوه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح،
فلمّا كان في اليوم الثالث قامت فاطمة عليها السلام إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته وصلى علي مع النبي (عليه السلام) ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد،
تأسرونا (وتشدوننا) ولا تطعمونا،
أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله على موائد الجنة،
فسمعه علي فأنشأ يقول :
فاطم يابنة النبي أحمد
بنت نبي سيد مسوّد
هذا أسير للنبي المهتد
مكبّلٌ في غلّه مقيّد
يشكو إلينا الجوع قد تمدد
من يطعم اليوم يجده من غد
عند العلي الواحد الموحّد
ما يزرع الزارع سوف يحصد
فأنشأت فاطمة تقول :
لم يبق مما جاء غير صاع
قد ذهبت كفي مع الذراع
ابناي والله من الجياع
يا رب لا تتركهما ضياع
أبوهما للخير ذو اصطناع
يصطنع المعروف بابتداع
عبل الذراعين طويل الباع
وما على رأسي من قناع
إلاّ قناعاً نسجه انساع
قال : فاعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح فلما أن كان في اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم أخذ علي عليه السلام بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع فلمّا نضر به النبي عليه السلام قال : يا أبا الحسن ما أشدّ ما يسؤني ما أرى بكم،
إنطلق إلى ابنتي فاطمة فانطلقوا إليها وهي في محرابها وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها،
فلما رأها النبي(عليه السلام) قال : «واغوثاه بالله،
أهل بيت محمد يموتون جوعاً فهبط جبرائيل(عليه السلام) فقال : يا محمد خذها، هنّأك الله في أهل بيتك قال : وما أخذنا يا جبرائيل فاقرأه {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان} إلى قوله {وَلا شُكُورًا} إلى آخر السورة.
وعن قتادة بن مهران الباهلي في هذا الحديث : فوثب النبي عليه السلام حتى دخل على فاطمة فلما رأى مابهم انكب عليهم يبكي،
ثم قال : أنتم من منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم، فهبط جبرائيل عليه السلام بهذه الآيات {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عيناً يشرب بها عباد الله يفجّرونها تفجيرا} قال : هي عين في دار النبي عليه السلام تفجر إلى دور الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين( ).
الثالثة : بيان النفع العظيم لدخول الناس في الإسلام ليكون من دلالات قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ] ( ) التأثير المتبادل بين أمور :
الأول : نصر المسلمين في المعارك .
الثاني : تحقق فتح مكة وزوال عبادة الأصنام إلى يوم القيامة .
(عن جابر بن عبد الله قال : دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة , ولكل قوم صنم يعبدونه ، فجعل يأتيها صنماً صنماً , ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره ، كلما صرع صنماً أتبعه الناس ضرباً بالفؤوس حتى يكسرونه ويطرحونه خارجاً من المسجد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم })( ).
الثالث : دخول الناس في الإسلام جماعات ، ومجئ وفود القبائل للمدينة ومكة لتعلن إسلامها .
ولا يلزم الدور بين هذه الأمور للتباين الجهتي في الأثر والتأثير , وهل يختص (وعد الله بطائفة من المسلمين) ، الجواب لا ، إنما يتغشاهم جميعاً وتقدير آية البحث بلحاظ الآيتين أعلاه من سورة النصر على وجوه :
أولاً : ولقد صدقكم الله وعده فجاء نصر الله لبيان رحمة الله بالمؤمنين وأنه سبحانه يعد المسلمين ثم يمن عليهم بالنصر من عنده ليكون المصداق العملي لتنجز هذا الوعد.
ثانياً : ولقد صدقكم الله وفتحت مكة من دون قتال يذكر .
ثالثاً : ولقد صدقكم الله وعده ودخل الناس في الإسلام أفواجاً وجماعات على نحو دفعي ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( )إستجابة الناس لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : صيرورة المعارك اللاحقة في الإسلام أخف وطأة من المعارك الأولى كبدر وأحد من مصاديق قوله تعالى [ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ]( ) (عن سعيد بن جبير في قوله { إن يكن منكم عشرون . . . } الآية . قال : كان يوم بدر ، جعل الله على المسلمين أن يقاتل الرجل الواحد منهم عشرة من المشركين لقطع دابرهم ، فلما هزم الله المشركين وقطع دابرهم خفف على المسلمين بعد ذلك ، فنزلت { الآن خفف الله عنكم } يعني بعد قتال بدر) ( ).
الخامسة : بيان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم تذكر في باب معجزاته وهي مع إزدياد مناجاة أعداء الإسلام بعد معركة بدر وتعاونهم وإنفاقهم الأموال الكثيرة في تجهيز الجيوش وتحريض القبائل والشعراء فان القتال صار أخف من جهات :
الأولى : التباعد بين زمن معركة وأخرى ، فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المدة بين معركة بدر وأحد هي أحد عشر شهراً ، فان المدة بين معركة أحد ومعركة الخندق نحو سنتين وبين الخندق ومعركة حنين أكثر من ثلاث سنوات .
الثانية : إزدياد ومضاعفة جيوش الكفار مع تقادم المعارك وتعدد القبائل التي تشارك في قتال المسلمين وإتساع مواقع إقامتهم .
الثالثة : تكرار هزيمة المشركين في كل معركة يخوضونها مع تقدم التخويف والوعيد منهم ، وكثرة إستعدادهم وإتقانهم لمقدمات القتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ] ( ).
الرابعة : دخول رؤساء الكفر وأبطال المشركين في الإسلام ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن بعضهم يعلن إسلامه أثناء المعركة ، وبعد إنتهائها مباشرة ، ولا يلقى عند النبي صلى الله عليه آله وسلم وأصحابه إلا القبول والرضا , فقد تفضل الله عز وجل بقانون وسنة إلى يوم القيامة وهو أن البرزخ والفيصل بين الإيمان والكفر هو النطق بكلمة التوحيد ، وكأنها كفارة لما إرتكب العبد قبلها من السيئات ، لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : الإسلام يجب ما قبله) ( ).
أي يمحو ويقطع ما قبله لذا لا يجب على من يدخل الإسلام قضاء ما فاته من العبادات .
المسألة الثالثة ( ): تقدير الجمع بين الآيتين بل الله مولاكم حتى إذا فشلتم ) وفيه وجوه :
الأول : لو تردد الأمر في ولاية الله للمسلمين ، وهل هي خاصة بسلامتهم من طاعة الذين كفروا أم مطلقة وشاملة لحال الحرب والسلم الجواب هو الثاني لأصالة الإطلاق ، وليس من حصر لمصاديق ولاية الله للمسلمين وأثرها ونفعها العظيم , ومنها في المقام أمور :
أولاً : تعدد أفراد الوعد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
ثانياً : إزاحة الموانع التي قد تحول دون نشر الإسلام ومبادئ القرآن .
ثالثاً : صد وقهر جيوش الذين كفروا التي تهاجم مصر الإسلام الوحيد وهو المدينة المنورة .
رابعاً : إعانة المسلمين لأداء الفرائض والواجبات العبادية ، وهذه الإعانة وأسباب اللطف على وجهين :
أولاً : الإعانة الذاتية , وهي التي تخص المسلمين ذاتهم , وتتصف بالتعدد من جهات :
الأولى : تفقه المسلمين في الدين .
الثانية : إقتباس وتعلم المسلمين افراد العبادات والمناسك من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي تلقى الوحي من عند الله بواسطة الملائكة ، إذ كان جبرئيل ينزل بآيات القرآن ، وقد أخذ المسلمون العبادات وأنصتوا للآيات من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير واسطة بينهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
الثالثة : تآزر وتعاون المسلمين في أداء الفرائض ، وليس من حصر لمصاديق وأفراد هذا التعاون , وهو من عمومات قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( )بلحاظ أنه دليل على الأخوة الربانية التي تربط بين المسلمين ، في موضوعها وأحكامها .
الرابعة : إجتهاد المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جلب المنافع ودفع المفاسد .
ثانياً : الإعانة الغيرية ، وهي التي ترد بالنفع على المسلمين بما يلحق غيرهم ، وهو على شعبتين :
الأولى : ما ينال الذين عاهدوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من الأمن والبركة .
الثانية : ما يلحق الذين كفروا والذين عاهدوهم من الأذى وضروب البلاء ، فان قلت في كل مرة يهجم بها المشركون على المسلمين يزداد ويتضاعف عددهم , وهو كالآتي :
الأول : عدد جيش المشركين في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة نحو ألف مقاتل .
الثاني : زحف كفار قريش وغطفان بثلاثة آلاف رجل في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة .
الثالث : مجي المشركين بعشرة آلاف رجل في معركة الخندق في السنة الرابعة للهجرة وقيل السنة الخامسة ، قال ابن إسحاق (ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الاسيال من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فجعلوا فوق الآطام) ( )
والقول بمضاعفة عدد جيش الكفار صحيح إلا أنه لا يدل على سلامتهم من البلاء بل يؤكد عز الإسلام ورمي الذين كفروا باليأس والقنوط إلى يوم القيامة .
وورد في الثناء على المسلمين في التنزيل [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا]( ) ولم تمر ثلاث سنوات أو أكثر قليلاً حتى ( شهد فتح مكة عشرة آلاف من المسلمين( ) .
ويفيد تقسيم ولاية وإعانة الله للمسلمين إلى ذاتية وغيرية معنى الإطلاق في قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] فهو سبحانه يعطي بالأوفى والأتم .
الثاني : قد يتبادر إلى الأذهان أن ولاية الله للمسلمين في حال الثبات والزحف ولمعان السيوف دون الإختلاف والجبن ، فيفيد الجمع بين الآيتين الإطلاق في ولاية الله للمسلمين وأن المدار فيها على الإيمان ، لتكون حاضرة في حالات متباينة :
الأولى : السراء والضراء .
الثانية : حال الزحف وعند التخلف عنه .
الثالثة : عند المناجاة بالجهاد والتفاني والتضحية في سبيل الله ، وحال الإختلاف والشقاق .
الرابعة : طلب المسلمين للآخرة وسعيهم لها أو إختلاف فريق منهم بإرادة الدنيا والفوز بالغنائم ، للتنبيه الوارد في الآية السابقة .
ليكون معنى [حَتَّى] في آية البحث إنتهاء الغاية عند الجمع بين الآيتين ، أي حتى في حال تنازعهم وإختلافهم في ميدان القتال ومعصيتهم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء على جبل الرماة بكل الأحوال وتحتمل الولاية في المقام وجوهاً :
الأول : إرادة بقاء ولاية الله للذين يريدون الآخرة ، وأخلصوا في جهادهم ، ليلحق بهم الذين أرادوا الدنيا والإستحواذ على الغنائم .
الثاني : مجئ الآية من عند الله للمسلمين على نحو العموم المجموعي فيدخل فيهم الذي يذنب ويقصر .
الثالث : إرادة شمول الولاية للمؤمنين الذين إختلفوا وتنازعوا وأرادوا الغنائم وأحبوا الحياة الدنيا .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الإطلاق لولاية الله وحبه للذين آمنوا وإكرامه لهم ، لذا ورد في الآية قبل السابقة [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ومن خصائص هذه الولاية تنزيه المسلمين من درن النفاق والشك والريب .
الوجه الثاني : يكون حرف (حتى ) لإنتهاء الغاية كما في قوله تعالى [سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ] ( )كما تكون حرف إبتداء ،وقد تفيد الدفع والقطع كما في قوله تعالى [وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا]( ) كما لو قلت : إنتصر المسلمون حتى يوم أحد .
وصحيح أن تقدير الجمع بين الآيتين ( بل الله مولاكم حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ) لا يكون حجة بذاته , وقد تجتمع فيه شرائطها من وجود المقتضي وفقد المانع أو لا تجتمع بحسب الدليل والقرينة الذي يتجلى في آية السياق من جهات :
الأولى : إبتدأت آية البحث بحرف الإضراب (بل) الذي يفيد الإضراب والإبطال لما سبقه ، وبيان تثبيت ولاية الله للمسلمين .
الثانية : الوعد الإلهي الكريم للمسلمين بأنه سبحانه مولاهم .
الثالثة : الإخبار عن نصرة الله للمسلمين وأنه [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار صراع بين الحق والباطل , والخير والشر ، وتفضل وأمد أهل الحق والصالحين بالنصرة والمدد والعون لتكون كفتهم الأرجح ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) ليكون من معاني آية البحث بلحاظ الآية أعلاه على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تهنوا إذا فشلتم ) وظهرت معاني الجبن على فريق منكم ، ومن الإعجاز في المقام أن آية البحث لم تأت بصيغة الماضي والظرف (إذ) ، فلم تقل الآية إذ فشلتم وإن كان الحرف (حتى) يتضمن هذا المعنى لإفادة إجتماع أفراد الزمان في الآية ، وهو من معاني الإطلاق في ولاية الله عز وجل للمسلمين .
الثاني : ولا تهنوا إذا تنازعتم في الأمر .
الثالث : ولا تهنوا ولا تضعفوا إذا عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون .
الرابع : ولا تهنوا ولا تضعفوا إذا كان منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة .
الخامس : ولا تهنوا إذ صرفكم عنهم .
السادس : ولا تهنوا ليبتليكم بلحاظ أن الإبتلاء إمتحان وإختبار , ولكنه بالنسبة للمسلمين يتضمن العون والمدد والهداية إلى البلغة والغاية الحميدة ، فيكون من معاني النهي عن الوهن والضعف البشارة والرجاء ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] بتقريب أن من الوعد الإلهي تنجز أمرين :
الأول : سلامة المسلمين من الوهن والضعف .
الثاني : الإبتلاء وهو على شعبتين :
الأولى : الأذى وظلم وتعدي الذين كفروا وحدوث الخسارة عند المسلمين إذ قتل سبعون من أهل البيت والصحابة( ) .
الثانية : الإبتلاء بالنعم والغنائم ، ويفيد الجمع بين الآيتين ( ولا تهنوا ليبتليكم )معنى لزوم الإستعداد إلى الإبتلاء بعدم الوهن والضعف من جهتين :
الأولى : ندب المسلمين إلى اليقظة وأخذ الحيطة والحذر من الذين كفروا لإحتمال مباغتتهم للمسلمين في كل آن ، ومن مصاديق [وَلاَ تَهِنُوا] في المقام قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ).
الثانية : إصلاح المسلمين لتلقي النعم والغنائم ، وعدم صيرورتها سبباً للوهن والضعف والإنشغال بالدنيا , وهو من دلالات ومعاني التحذير في قوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا].
السابع : ولا تهنوا ولا تضعفوا لقد عفا الله عنكم .
الثامن : ولا تهنوا والله ذو فضل على المؤمنين ) أي أن الله عز وجل يفتح أبواباً من الخير ، وأسباب النصر على المؤمنين مع عدم الوهن والفتور، وهذه الأسباب من مصاديق آية السياق [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ].
ليكون من معاني الولاية فتح أبواب العز والنصر والغلبة للمسلمين وحضور الولاية في حال التنازع والخلاف ، وفي حال عدم الوهن وهل الولاية من عند الله أمن وسلامة من الوهن والجبن والضعف ، الجواب نعم، لذا أخبرت ذات آية البحث عن نصرة الله عز وجل للمسلمين وأنه سبحانه [خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
وقد يظن المؤمنون تخلف شرائط القوة والمنعة والصبر والإقدام وقلة المؤن والأفراد , فاختتمت آية البحث بالإخبار بأن الله عز وجل (ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ( ) فيرزقهم بغير حساب ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
التاسع : يا أيها الذين آمنوا لا تحزنوا إذا فشلتم ) وفيه دعوة للمسلمين للتحلي بالصبر عند نزول المصيبة والخسارة بهم ، ترى لماذا لا يحزن المسلمون مع الفشل .
الجواب لأن الله عز وجل مولاهم وتحضر ولاية الله في حال العز والضعف ، والفقر والغنى والهجوم والإنكسار ، وقد أخبرت الآية السابقة عن نفاذ الرعب إلى قلوب الذين كفروا بأمر ومشيئة من عند الله لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
فهل يلقي الله عز وجل السكينة في قلوب المؤمنين عند وقوع أسباب الحزن والأسى على ما مضى وما حصل لهم .
الجواب نعم ، ومنه دعوتهم إلى الإسترجاع بقوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
وبين موضوع الولاية للمسلمين وفشلهم عموم وخصوص مطلق ، فالولاية عامة وتتغشى أحوال المسلمين في العبادات والمعاملات وشؤونهم الخاصة .
ليكون من مصاديق تقدير الجمع بين الآيتين : حتى إذا فشلتم فان الله مولاكم في أموركم كلها ) فيحدث الفشل والجبن والخور ولكن لا تترتب عليه نتائج وآثار ضارة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) أي حتى مع حدوث الجبن والتراجع والإنكسار عند المسلمين فلن يستطيع الذين كفروا قهرهم وهزيمتهم ، وفيه بعث للخوف في نفوس الذين كفروا وزجرهم عن التعدي على المسلمين .
ويفيد الجمع بين الآيتين إستدامة وعد الله عز وجل للمؤمنين على كل حال ، وفيه حث للمسلمين على إجتناب الفشل والجبن والخوف والإمتناع عن إستدامته في نفوسهم وظهوره في عالم الأقوال والأفعال للمسلمين ،
ولقد تقدم ذكر همّ فريق من المسلمين بالفشل والجبن بقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( )ومن الإعجاز في الجمع بين الآية أعلاه وآية السياق والبحث أمور :
الأول : ذكر ولاية الله الخاصة والعامة .
الثاني : الإخبار عن الفشل مع التباين في موضوعه .
فهو في الآية أعلاه خاص وبصيغة الهّم والنية ، أما في آية البحث فورد بصيغة الوقوع ، لبيان حقيقة وكشف للواقع القتالي ، ولمنع دبيب اليأس والقنوط في نفوس المسلمين عند حدوث الفشل والجبن أو الهّم بهما .
الثالث : بين آية البحث والآية أعلاه عموم وخصوص مطلق من جهتين:
الأولى : مرتبة الفشل والهّم به ، لبيان أن ولاية الله عز وجل مطلقة وعامة سواء في الهم والعزم على الجبن والخور أو عند حدوث الجبن والخور والإنكسار ، وهو من مصاديق خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] .
الثانية : جهة الفشل والجبن بانحصار موضوعها في الآية أعلاه بخصوص طائفتين من المسلمين ، بينما وردت آية البحث بصيغة الجمع وتوجه الخطاب لجميع المؤمنين يوم أحد بقوله تعالى [إِذَا فَشِلْتُمْ]ويحتمل وجوهاً :
الأول : الجمع بين الآيتين من المطلق والمقيد ، وتقدير آية البحث : إذ فشلت طائفتان منكم ) ويشكل عليه أن موضوع آية [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ]يتعلق بالهم والنية وأول الفعل ، وليس ذات الفشل .
الثاني : النسبة بين الآيتين هي العموم والخصوص المطلق فيتعلق موضوع الآية أعلاه بفرقتين من المسلمين وهم (بَنُو سَلَمَةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَبَنُو حَارِثَةَ بْنِ النّبِيت مِنْ الْأَوْسِ ، وَهُمَا الْجَنَاحَانِ يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى{ وَاللّهُ وَلِيّهُمَا }( ) أَيْ الْمُدَافِعُ عَنْهُمَا مَا هَمّتَا بِهِ مِنْ فَشَلِهِمَا ، وَذَلِك أَنّهُ إنّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا عَنْ ضَعْفٍ وَوَهَنٍ أَصَابَهُمَا غَيْرَ شَكّ فِي دِينِهِمَا ، فَتَوَلّى دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِرَحْمَتِهِ وَعَائِدَتِهِ حَتّى سَلِمَتَا مِنْ وُهُونِهِمَا وَضَعْفِهِمَا، وَلَحِقَتَا بِنَبِيّهِمَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ . قَالَ ابن هِشَامٍ : حَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ الْأَسْدِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ قَالَتْ الطّائِفَتَانِ مَا نُحِبّ أَنّا لَمْ نَهُمّ بِمَا هَمَمْنَا بِهِ ، لَتَوَلّى اللّهُ إيّانَا فِي ذَلِكَ) ( ).
الثالث : المقصود في آية البحث معنى أعم ، وإرادة أمور :
أولاً : ترك أغلب الرماة لمواضعهم على الجبل .
ثانياً : هّم طائفتين من المسلمين بالجبن والخور .
ثالثاً : إنكسار المسلمين في جولة من معركة أحد ، ووقوع القتل فيهم .
رابعاً : هم المنافقين بأنفسهم لقوله تعالى في الآية التالية [قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ] ( ).
خامساً : إنخزال ثلث جيش المسلمين , وتخليهم عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في الطريق إلى معركة أحد ، وهو خلاف سجايا العرب وسنن القتال ومبادئ الإسلام ، لذا أطلق عليهم نعت (المنافقين ) وهو وصف ظهر في المدينة المنورة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها لإجتماع أمور :
الأول : إزدياد عدد المسلمين وظهور معاني القوة والصبر عندهم .
الثاني : تلقي المسلمين الأذى ، وحاجتهم إلى الصبر .
(قال الأمام علي بن أبي طالب عليه السلام ( احفظوا عني خمسا فلو ركبتم الإبل في طلبهن لأنضيتموهن قبل أن تدركوهن لا يرجو عبد إلا ربه ولا يخاف إلا ذنبه , ولا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم , ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم , والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له) ( ).
إذ يبين الحديث الملازمة بين الصبر والإيمان ، وليس عند المنافقين إيمان لذا لم يصبروا حتى على قطع المسافة بين المدينة وجبل أحد مع أنه لا يبعد عنها سوى خمسة كيلو مترات آنذاك , وقبل أن يصله العمران الآن ليكون ذات العمران علامة خزي وفضح ونوع تبكيت لهؤلاء المنافقين لأنه تم بصبر وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من المهاجرين والأنصار ، وبناء صرح دولة الإسلام .
ومن الأسرار في تسمية معركة أحد أن ذات جبل أحد سمي للدلالة على الوحدانية والعبودية لله عز وجل.
وعن إنس بن مالك قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي طلحة : “التمس لي غلامًا من غلمانكم يخدمني” فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما نزل.
وقال في الحديث: ثم أقْبَلَ حتى إذا بدا له أُحد قال: “هذا جبل يُحبُّنا ونحبه”. فلما أشرف على المدينة قال :”اللهم إني أحرم ما بين جبليها، مثلما حرم به إبراهيم مكة ، اللهم بارك لهم في مُدِّهم وصاعهم”. وفي لفظ لهما : “اللهم بارك لهم في مكيالهم ، وبارك لهم في صاعهم ، وبارك لهم في مدهم) ( ).
وقيل أنه سمي جبل أحد لتوحده عن الجبال وأحاطة الأودية والسهول به ، وهذا القول لا يتعارض مع المعنى الأول أعلاه ، وقيل أنه سمي أحد نسبة إلى رجل يدعى بذات الاسم من العماليق الذين سكنوا المدينة القديمة وهو قول منقطع لا دليل عليه .
الثالث : شدة عداء الذين كفروا للإسلام وإجهارهم بالتكذيب بالنبوة وإصرارهم على القتال ، ومن الناس من يدخل الإسلام وهو لا يريد دخول معركة وتلقي الأذى ، وفي قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ] ( )وجوه :
أولاً : عن ابن عباس (كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال : هذا دين صالح , وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله ، قال : هذا دين سوء) ( ).
ثانياً : عن ابن عباس (كَانَ ناس مِنَ الأعراب يأتون النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فيسلمون، فإذا رجعوا إِلَى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، قالوا: إِنَّ ديننا هَذَا صالح فتمسكوا به، وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط، قالوا: مَا في ديننا هَذَا خير، فأنزل الله ” وَمِنَ النَّاسِ مِنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) ( ).
ثالثاً : عن ابن عباس (كان أحدهم إذا قدم المدينة – وهي أرض وبيئة – فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً ، رضي به واطمأن اليه , وقال : ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً؛ وإن رجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شراً . وذلك الفتنة) ( ).
لبيان لزوم الصبر مع الإيمان ، والإنقطاع إلى الدعاء وأداء الفرائض رجاء رحمة الله ،وكشف الغمة وإزاحة الهم وقد تجلى الصبر بثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد مع كثرة وشدة الجراحات التي ألمت به حتى رجع أصحابه إلى القتال بصبر وتفان ويتضمن قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]أمرين :
الأول : الثناء على المسلمين لصبرهم .
الثاني : دعوة المسلمين للصبر شكراً لله عز وجل , وتنعماً بتنجز وعده وسعة فضله عليهم .
رابعاً : على حرف : أي على شك ، عن قتادة .
خامساً : ورد عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى [وَمِنَ النَّاسِ مِنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ] (في قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من دون الله، وخرجوا من الشرك، ولم يعرفوا أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله سلم ، فهم يعبدون الله على شك في محمد وما جاء به، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: ننظر فإن كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا
وأولادنا علمنا أنه صادق وأنه رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن كان غير ذلك نظرنا.
فأنزل الله: ” فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين * يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه
” انقلب مشركا يدعو غير الله ويعبد غيره) ( ).
لقد أراد المنافقون أخذ سهامهم من الغنائم والإنتفاع من الإسلام مع إجتناب القتال فهم ممن أراد أن يعبد الله على حرف مع الشك , وعلة هذا الإجتناب ليس الخوف ، إنما هو الشك والريب بالنبوة , وغلبة حب الدنيا، فأظهروا الفشل والجبن ، فذكرتهم آية البحث بهذا الفشل .
ومن إعجاز القرآن أن [الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وتكون موعظة وضياء لهم وتجعلهم يحبون الدفاع ويجتهدون في مرضاة الله فيبعث قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] المؤمنين على المناجاة لتدارك الفشل وطرو الخوف ، أما الشك فلم يكن حاضراً في قلوبهم ، لذا فان قوله تعالى أعلاه لا يؤدي إلى شماتة الذين كفروا , ولم يحتجوا به على المؤمنين ، ولم يتخذوه وسيلة لجمع الأعوان للإجهاز على مصر الإسلام المدينة المنورة لوجوه :
أولاً : إدراك الذين كفروا لحقيقة وهي إتعاظ المسلمين من مواعظ وذكرى القرآن .
ثانياً : إتخاذ المسلمين آيات القرآن إماماً ومؤدباً وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) فمنه في المقام الهداية إلى مقامات الأمن من الفشل، والسلامة من الخور والجبن .
ثالثاً : صرف الله عز وجل الذين كفروا عن الإنتفاع من قوله تعالى [إِذَا فَشِلْتُمْ]فلم يؤلفوا قصائد الهجاء بخصوصه ولم يعيروا المسلمين .
وجاء ذكره وسط الثناء على المسلمين ، فان ذكره المنافقون فهو حجة عليهم .
رابعاً : إحتجاج الكفار بآيات القرآن حجة عليهم لأنه يدل بالدلالة التضمنية على أقرارهم بنزوله من عند الله .
خامساً : إختتام آية البحث بالمدد للمسلمين وإعانتهم بفضل الله عز وجل وتواليه عليهم.
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : بل الله مولاكم حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم ) وفيه وجوه :
الأول : إخبار آية السياق عن حضور ولاية الله عز وجل عند المسلمين ليترشح عنها تنجز الوعد من الله ، وحضورها عند تنازع وإختلاف المسلمين ، وهو من مصاديق خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ليكون هذا الحضور من مصاديق الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]عندما يرون توالي مصاديق الرحمة من عند الله على المسلمين والمسلمات حتى في حال الفشل والجبن ، وهو من الشواهد على صدق قصد القربة في قتال المسلمين فلأن قتالهم كان في سبيل الله تفضل الله عز وجل بولايته لهم في حال الفشل والخذلان والوهن والضعف وهل هو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة بأنه يعلم ما لا يعلمون حينما قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
الجواب نعم ، بأن الله عز وجل يزيح أسباب الفساد بولايته للمسلمين في حال الفشل والجبن والخور والتنازع لتكون علة الولاية في المقام هي إستدامة الحرب على الفساد والكفر ومفاهيم الضلالة .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : بل الله مولاكم من بعد ما أراكم ما تحبون ) وفيه وجوه :
الأول : من ولاية الله عز وجل للمسلمين رؤيتهم لما يحبون ، وتحقق الأماني والمقاصد الحميدة التي يجاهدون من أجلها ، وبلحاظ عطف آية البحث على النداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] فان المسلمين لا يحبون إلا من منازل الإيمان ، وما يكون فيه إقامة شعائر الله .
والمراد في الآية هو الظفر والغنيمة لبيان أن الفشل والجبن لم يحدث إبتداء عند المسلمين إنما كان متعقباً للظفر، وفيه حجز عليهم بأن الله عز وجل صدقهم وعده ، وحقق لهم النصر ومنع اليأس والقنوط عنهم ، فالذي يتعرض للهزيمة قد يصاب باليأس والقنوط ، ولكن ولاية الله عز وجل تنفع المسلمين في حال النصر أو الإنكسار ، في المقام من جهات :
الأولى : تحقق النصر للمسلمين في بداية المعركة .
الثانية : الإخبار عن إدخال الغبطة والسرور لقلوب المسلمين بقوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ] في الوقت الذي تمتلأ فيه قلوب الذين كفروا بالرعب كما في الآية السابقة .
الثالثة : بيان حقيقة , وهي أن الأصل أن لا يتعقب نصر المسلمين حصولُ الفشل والتنازع ومعصية الرسول في أوامر القتال .
الثاني : من ولاية الله للمسلمين أنه سبحانه أراهم ما يحبون , وفيه دلالة على أن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزات حسية , وتتجلى هذه المعجزات في حال الحرب والسلم , بأن يرى ويلمس المسلمون ما يحبون من جهات :
الأولى : وقوع طائفة من الذين كفروا قتلى، إذ قتل منهم يوم بدر سبعون , ويوم أحد إثنان وعشرون.
الثانية : إنسحاب وتقهقر المشركين في ساحة المعركة في بدايات القتال .
الثالثة : صيرورة النصر أمراً قريباً وجلياً .
الرابعة : إمكان إستيلاء المسلمين على الغنائم من المشركين ، ويدل عليه نزول الرماة من على الجبل للمشاركة في أخذ الغنائم ، وهل إستصحب هؤلاء الرماة هزيمة المشركين يوم بدر ، الجواب نعم ، والإستصحاب أصل عقلائي يعتمده الناس قبل أن يكون مبحثاً أصولياً .
ولكن لو تعارض هذا الأصل مع الأوامر والنواهي من عند الله ورسوله ، فهل يجوز العمل به , الجواب لا ، من وجوه :
أولاً : وجوب العمل بمضامين قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرماة بألا يتركوا مواضعهم على كل حال ، فقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبل أحد خلف ظهره وإستقبل المدينة وجعل جبل عينين عن يساره .
وأفادت الآية الإطلاق , أي سواء توافق معه أصل الإستصحاب أو تعارض معه .
ثانياً : قاعدة الأولوية القطعية ، وأن الأصل هو العمل بمضامين آيات القرآن ، فاذا ورد الدليل من القرآن أو السنة النبوية فلا تصل النوبة إلى العمل بالأصول .
ثالثاً : قاعدة تقديم الأهم على المهم .
الثالث : ترى هل الذي أراه الله للمسلمين مما يحبون من الولاية، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )من جهات :
الأولى : ما يحبه المسلمون طاعة لله عز وجل .
الثانية : يحب المسلمون إعلاء كلمة التوحيد ، ودحر الباطل والشرك .
الثالثة : مما يحب المسلمون ظهور علامات الفزع والخوف على الذين كفروا في ميدان المعركة وخارجه ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] .
الرابع : أراكم الله ما تحبون لولايته لكم ، وهو سبحانه بيده مقاليد الأمور ، وفيه ترغيب للناس بالإسلام فقد جعل الله عز وجل الإنسان ضعيفاً محتاجاً ، وتأتي الولاية لتغطي هذه الحاجة وتحقق الرغائب في الدنيا والآخرة ، ولا يمكن إحرازها إلا بالإيمان ، ليكون من معاني قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] أقسام :
الأول : يا أيها الذين آمنوا سارعوا إلى ولاية الله.
الثاني : [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لكم الأمن بولاية الله.
وفي الآية ذم وتبكيت للكفار من جهات :
الأولى : تخلف الكفار عن ولاية الله بإصرارهم على الكفر والجحود .
الثانية : بيان خسارة الكفار وتفريطهم , وغلق باب المنفعة عليهم وحرمان أنفسهم من ولاية الله، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الثالثة : توبيخ الكفار لإصرارهم على محاربة الإسلام، ليكون من معاني تقدير آية البحث وجوه :
أولاً : حتى إذا فشلتم بسبب شدة بأس الذين كفروا ومحاربتهم لله ورسوله , فيكون من معاني آية البحث تحمل الذين كفروا أوزاراً ثقيلة بسبب ما لاقاه المسلمون من أسباب الفشل والجبن , لأنهم السبب المباشر والجلي فيه .
ثانياً : حتى إذا فشلتم وظهرت عليكم علامات الجبن والخور في معركة أحد التي إندلعت بسبب مجئ المشركين للقتال .
ثالثاً : حتى إذا فشلتم أيها المؤمنون مع إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا ، أي كيف هي حالهم لو لم يلق الله الرعب والفزع في قلوبهم ، أي يظهر عليهم ما هو أشد من الفشل والجبن أو صار تدارك الفشل أشق وأشد صعوبة , ولكن الله عز وجل أنعم على المؤمنين فخفف عنهم بأن ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فلم تطل مدة ظهور الفشل والجبن على المسلمين في معركة أحد , وهذا الفشل أصاب المسلمين من وجوه :
الأول : ترك أغلب الرماة لمواقعهم ومجئ خيل المشركين من خلف جيش المسلمين .
الثاني : سماع المسلمين نبأ مقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أشاعه المشركون عن كيد ومكر وبغض .
الثالث : مجئ خيل المشركين من خلف جيش المسلمين على نحو مباغت .
رابعاً : حتى إذا تنازعتم في الأمر لإصرار الذين كفروا على الحرب وعنادهم وقتالهم ، وتجلي بشارات النصر عليهم في أول المعركة ، ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يخرجوا للمعركة إلا بعد أن بلغهم نبأ وصول جيش المشركين إلى مشارف المدينة ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
خامساً : معنى التنازع في المقام الإختلاف ، إذ إختلف الرماة فيما بينهم عندما رأوا تقهقر وإنكشاف المشركين , وتنازع الرماة في مسألة البقاء في مواضعهم أو تركها والنزول إلى ساحة المعركة .
سادساً : لقد كان المسلمون يؤدون الفرائض في المدينة ، ويتلقون التنزيل بالقبول والرضا والغبطة , فجاء المشركون لقصد قتل النبي وأصحابه أو أسرهم ، فخرجوا للدفاع عن النبوة والتنزيل والأنفس والعرض ، فوقعت عندهم معصية في طول طاعتهم في المدينة , وفي الطريق إلى أحد وفي القتال ، إذ عصى الرماة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن تركوا مواضعهم على الجبل وهذه المعصية بسبب تعدي وظلم المشركين ، فلذا تفضل الله عز وجل وأخبر عن معصية المسلمين وفق خطاب الإيمان والإكرام لهم, وبعد أن أخبر عن صدق وعده لهم , ثم تفضل وأخبر عن عفوه عن المسلمين .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : بل الله مولاكم منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) .
يدل الجمع بين الآيتين على قانون , وهو إستدامة ولاية الله للمسلمين في كل الأحوال , وفيه مسائل :
الأولى : بعث السكينة في نفوس المسلمين , وسلامتهم من الفزع والخوف ليكون من إعجاز نظم هذه الآيات سلامة المسلمين من الخوف والرعب .
الثانية : مجئ الآية السابقة بالقطع ببعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا .
الثالثة : التداخل في مضامين هذه الآيات بحيث يكون كل شطر من آية سبباً لشطر وموضوع آخر من آية مجاورة لها ، فيتجلى التداخل والعلة والمعلول بين هذه الآية والآية السابقة( ) من جهات :
الأولى : وعد الله عز وجل للمسلمين سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بالوعد للمسلمين.
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بصدق الوعد للمسلمين .
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب إذ تحسونهم) فمن الملازمات العقلية أن تفشي القتل والفتك والجراحات في الجيش يؤدي إلى الرعب والفزع لتكون هذه الآية بياناً وتفسيراً للآية السابقة ، وهو من الشواهد على أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية ، وأن صبغة العقل هذه لا تختص بلفظ الآية القرآنية وموضوع ذات الآية بل تشمل معاني ودلالات الآية القرآنية.
الثانية : بيان كيفية إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا والسبب المادي الظاهر ، ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جمع الموضوع المتحد بين المعجزة العقلية والمعجزة الحسية فإخبار آية البحث عن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا معجزة عقلية في نفاذه إلى قلوب الذين كفروا ، أما كيفيته الظاهرة فهي معجزة حسية , لتكون كل من المعجزة العقلية والحسية وإجتماعهما على وجوه :
الأول : دعوة الناس لدخول الإسلام .
الثاني : زجر المشركين عن التعدي على الإسلام .
الثالث : حث الناس للتدبر بآيات القرآن .
الرابع : ندب المسلمين إلى الشكر لله على النعم ، ومنها نعمة الآية السابقة وما فيها من البشارة ببعث الخوف في قلوب الذين كفروا وما يترتب عليه من إصابتهم بالوهن والضعف ، ونعمة آية البحث وما فيها من بيان لفضل الله على المسلمين بذكر الوعد الإلهي لهم وتنجزه .
الثالثة : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مقدمة غيرية لتنجز وعد الله للمسلمين.
الرابعة : تضمنت الآية السابقة ذم الذين كفروا لإشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وتعقبتها آية البحث بذكر صدق وعد الله للمسلمين، ويتجلى السلطان النازل من عند الله عز وجل في آية البحث من وجوه:
أولاً : إخبار الآية عن حقيقة وهي أن الله عز وجل يعد عباده المؤمنين، وهذه الموعدة خير محض، ونعمة عظمى.
ثانياً : عموم وسعة الوعد الإلهي , فلا يقدر على وعد يتغشى المسلمين جميعاً إلا الله عز وجل ، ويمكن تقسيم وعد الله عز وجل لعباده إلى وجوه :
الأول : وعد الله عز وجل إلى الناس بتغشي رحمته لهم جميعاً، قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] ( ).
الثاني : فضل الله ووعده الكريم للموحدين من أهل الأرض .
الثالث : وعد الله عز وجل للأنبياء والمرسلين .
الرابع : الوعد الإلهي الجامع للأنبياء والمؤمنين ، كما في قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
الخامس : وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : وعد الله عز جل للمسلمين .
وجاء قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]ليشمل الوجه الخامس والسادس أعلاه ، وفيه تزكية للمسلمين , وشاهد سماوي على صحة عملهم .
ثالثاً : تحقق مصداق الوعد الإلهي وتنجزه في ميدان المعركة من السلطان الذي أنزل الله، وإذا تدبرت بوقائع معركة بدر وأحد والخندق وحنين وفق أي نظرية عسكرية وإن كانت مستحدثة أو تستحدث في قادم الزمان تجد أن نصر المسلمين لا يمكن أن يقع إلا بمعجزة من عند الله، وهو من أسرار الربوبية المطلقة لله عز وجل وعمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )، فمن ضمن ملكية الله عز وجل أمور :
الأول : نزول سلطان وحجة وبرهان من عند الله.
الثاني : تجلي السلطان بلحاظ آية البحث بأمور :
أولاً : نزول القرآن وهو كلام الله على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة جبرئيل.
ثانياً : إخبار آية البحث عن تفضل الله بالوعد للمسلمين، وكل وعد منه تعالى سلطان بذاته، ويترشح عنه السلطان والعلم والدلالات الباهرات.
ثالثاً : تنجز الوعد الإلهي سلطان، لأن هذا التنجز لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
الثالث : إنتفاء البرزخ والمانع دون وعد الله ودون تحققه في الواقع، قال تعالى[وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا]( )، أي ماضياً وواقعاً لا راد له.
الرابع : نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلطان عظيم في الأرض، فلذا تفضل الله عز وجل وجعل معجزاته عقلية، تتصف بكونها غضة طرية في كل زمان.
الخامسة : يفيد الجمع بين الآيتين تعدد الحجة والبرهان على الذين كفروا بخصوص موضوع السلطان من جهات:
الأولى : إتخاذ الذين كفروا الشرك منهاجاً.
الثانية : إنتفاء الدليل العقلي والحسي على الشرك ومفاهيمه.
الثالثة : القبح الذاتي والعرضي للشرك.
الرابعة : مجئ الوعد الإلهي للمسلمين حجة لهم , وإنذار للذين كفروا.
الخامسة : تحقق مصداق الوعد الإلهي للمسلمين خزي للذين كفروا.
وهل يقترن به دعوتهم إلى الإسلام الجواب نعم، فاذا كان الإيمان مستقراً في نفوس الذين يختارونه، فان الكفر أمر عرضي متزلزل، ليس له أصل أو موضوع، فلذا تضمنت آية السياق زجر الذين كفروا خاصة والناس عامة عن الشرك.
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات أن آية البحث لم تذكر تقسيم المسلمين إلى قسمين، قسم يريد الدنيا، وقسم يريد الآخرة إلا بعد بعث السكينة في نفوسهم جميعاً من جهات:
الأولى : مجئ هذه الآيات بصيغة النداء ذي صبغة اللطف وإبتداؤها بالنداء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الشامل لعموم المسلمين والمسلمات والذي تترشح السكينة عنه بلحاظ معاني التشريف للمسلمين التي يتضمنها بلحاظ أنه خطاب إكرام وشهادة لهم بالإيمان، وهل يحق للمسلمين في الدنيا والآخرة أن يتضرعوا إلى الله عز وجل ويسألوه بحق شهادته لهم بالإيمان أن يزرقهم وأن يعفو عنهم وينجيهم من العذاب، الجواب نعم، وهو من مصاديق[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، من وجوه جلية ومتعددة، منها على سبيل البيان:
الأول : تقدير الآية أعلاه بلحاظ هذه الآيات: يا أيها الذين آمنوا أدعوني استجب لكم.
الثاني : أدعوني استجب لكم بل الله مولاكم، فمن خصائص الولاية استجابة الدعاء.
الثالث : أدعوني أستجب لكم من مصاديق (خير الناصرين) بلحاظ الآية أعلاه من وجوه :
أولاً : إخبار الآية عن إستجابة الله للدعاء.
ثانياً : ندب المسلمين للدعاء والإجتهاد فيه، ووردت الآية بصيغة (افعل) التي تحمل على الوجوب إلا مع القرينة على الإستحباب , على المشهور والمختار.
فيفيد الأمر بالدعاء معنى الوجوب، ليكون من شرائط الإيمان الدعاء، وهل أداء المسلم الصلاة وقراءته القرآن فيها من الدعاء الجواب نعم فان قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، مسألة ودعاء، وهو من مصاديق قوله تعالى في خاتمة آية البحث[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وعن الإمام الرضا عن آبائه عن الإمام علي عليهم السلام ، قال: ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :
قال الله عز وجل: قسمت الحمد بيني وبين عبدي: فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: (بسم الله الرحمن الرحيم) قال الله عز وجل: بدأ عبدي باسمي حق علي أن اتمم له اموره، وابارك له في أحواله. فإذا قال: (الحمد لله رب العالمين) ( ).
قال الله عز وجل: حمد لي عبدي، وعلم أن النعم التي له من عندي، والبلايا التي اندفعت عنه بتطولي، اشهدكم أني اضيف له نعم الدنيا إلى نعيم الاخرة، وأدفع عنه بلايا الآخرة، كما دفعت عنه بلايا الدنيا، فإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله عز وجل: شهد لي بأني الرحمن الرحيم اشهدكم لاوفرن من رحمتي حظه، ولاجزلن من عطائي نصيبه، فإذا قال: (مالك يوم الدين) ( )، قال الله عز وجل: اشهدكم كما اعترف بأني أنا المالك ليوم الدين، لاسهلن يوم الحساب حسابه، ولا تقبلن حسناته، ولا تجاوزن عن سيئاته.
فإذا قال العبد: (إياك نعبد) ( ).
قال الله عز وجل: صدق عبدي إياي يعبد، لاثيبنه عن عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي.
فإذا قال: (وإياك نستعين) قال الله عز وجل بي استعان وإلى التجأ، اشهدكم لاعيننه على أمره ولاغيثنه في شدايده، ولاخذن بيده يوم القيامة عند نوائبه. وإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم) إلى آخرها، قال الله عز وجل: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، قد استجبت لعبدي، وأعطيته ما أمل، وآمنته مما منه وجل( ).
ثالثاً : بيان طريق مبارك للنصرة ، وهو الدعاء , والهداية إليه .
وعندما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض بسبب إفساده وسفكه الدماء أجابهم الله عز وجل بالقول [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ليكون من علمه تعالى أمره للمسلمين بالدعاء وصيرورته سلاحاً لإستئصال الفساد من الأرض ، ومن الآيات أن المفسدين والذين كفروا محرومون من هذا السلاح ، قال تعالى [وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
الرابع : أدعوني أستجب لكم سنلقي في قلوب الذين كفروا ) ويحتمل إلقاء الرعب في المقام وجوهاً :
الأول : دعوة المسلمين للدعاء يملأ قلوب الذين كفروا الرعب .
الثاني : من منافع دعاء المسلمين في أمور الدين والدنيا تفضل الله بملأ قلوب الذين كفروا بالرعب .
الثالث : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مقدمة لإنقطاع المسلمين إلى الدعاء .
الرابع : من أفراد دعاء المسلمين سؤالهم إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الخامس : من وجوه شكر المسلمين لله عز وجل تقيدهم بالدعاء، وسؤالهم الحاجات منه سبحانه إستجابته لدعائهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ، وهل تلاوة المسلمين لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]من الدعاء لذات الموضوع أم أن القدر المتيقن من الدعاء هو السؤال كما لو قال المسلم ( اللهم ألق في قلوب الذين كفروا الرعب ).
والمختار هو الأول ، وهو من منافع تلاوة القرآن في الصلاة ، وتعدد الحسنات والثواب بل قراءة كل حرف من القرآن .
ومن مصاديق بعث السكينة في نفوس المسلمين زجرهم عن طاعة الذين كفروا بصيغة الجملة الشرطية لأن السكينة واقية من الركون إلى الذين كفروا والإنصات لهم .
فان قلت يدل قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ) على التخويف والوعيد ، الجواب إنما وردت الآية بصيغة الإكرام والتنبيه للمسلمين والثناء عليهم من وجوه :
أولاً : إبتداء الآية بالنداء يا أيها الذين آمنوا .
ثانياً : مجئ الآية بصيغة المضارع ولغة الشرط [إِنْ تُطِيعُوا] وتدل بالدلالة التضمنية على سلامة المسلمين من طاعتهم ، ومن خصائص الآية القرآنية الطراوة وكأنها نازلة في يوم التلاوة ، ففي كل زمان وإلى يوم القيامة تطل على المسلمين الآية أعلاه [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) مما يدل على بقاء شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وسلامة القرآن من التحريف إلى يوم القيامة .
ثالثاً : فوز المسلمين وسلامتهم من الخسارة في كل زمان بالنجاة من طاعة الذين كفروا .
وأخبرت آية السياق عن ولاية الله للمسلمين مجتمعين ومتفرقين ، وتقدير الآية بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : منكم من يريد الدنيا بل الله مولاكم .
وهل يدل حرف الإضراب أعلاه على أن الله ينجي المسلمين من إرادة وطلب الدنيا ، ويجعلهم يتنزهون عن جعل الغنائم هي الغاية في القتال.
الجواب نعم ، وكذا بالنسبة لآية البحث , فمن دلالات تقسيم المسلمين فيها إلى فريقين ، فريق يريد الدنيا وفريق يريد الآخرة هو بعث النفرة في نفوسهم من حب الدنيا ، لتكون هذه النفرة واقية إضافية من طاعة الذين كفروا .
الثاني : بل الله مولاكم منكم من يريد الآخرة ، لبيان حقيقة وهي أن ولاية الله عز وجل سبب لهداية المسلمين لإرادة الآخرة ، وبذل الوسع في المعركة للدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، وعدم جعل الغنائم هي المقصد والغاية .
الثالث : نيل المسلمين مرتبة ولاية الله لهم من الإصطفاء والإجتباء ، فجاءت آية البحث لإرتقائهم لهذه المنزلة وتقريبهم من رحمة الله ، قال سبحانه [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( )، وقرب رحمة الله لطف من عند الله تترشح منافعه بدفع العبد عن حب الدنيا والإنقطاع إليها .
الرابع : يفيد الجمع بين الآيتين على أن ولاية الله مطلقة للمسلمين في كل أحوالهم ، وهذه الولاية سبب لبيان قبح إرادة الدنيا بذاتها ولذاتها واللهث وراء المنافع الشخصية في القتال ، إذ تصاحب ولاية الله المسلم ، ومن منافعها وجوه :
الأول : تعضيد المسلم في حبه للآخرة .
الثاني: منع المسلم من ذم إخوته الذين يسعون للآخرة ، ويجتهدون في إكتناز الحسنات .
الثالث : ولاية الله إحسان حتى على ذات العدو على الناس ، فمن اللطف الإلهي عدم إنحصار منافع ولاية الله للمسلمين بهم بالذات بل تتغشى الناس جميعاً بالإقتباس من المسلمين وإقامة الحجة والبرهان ، وبيان قبح الكفر والضلالة لأنها مجلبة للخوف والرعب .
الرابع : ولاية الله باب لقضاء الحوائج الخاصة والعامة , وفي أمور الدنيا والآخرة ، إن التنبيه والنهي عن حب الدنيا وإرادتها لا يتعارض مع فضل الله عز وجل بجعل الدنيا .
إن قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] تخويف ووعيد للذين يحاربون الإسلام , وهو زجر لكفار قريش عن مواصلة تجهيز الجيوش لقتال المسلمين.
وعن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( يقول الله عز و جل : من عادى لي وليا فقد ناصبني بالمحاربة وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن موت المؤمن يكره الموت وأكره مساءته وربما سألني وليي المؤمن الغنى فأصرفه من الغنى إلى الفقر ، ولو صرفته إلى الغنى لكان شرا له وربما سألني وليي المؤمن الفقر فأصرفه إلى الغنى ، ولو صرفته إلى الفقر لكان شرا له.
إن الله عز و جل قال : وعزتي وجلالي وعلوي وبهائي وجمالي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هوى نفسه إلا أثبتت أجله عند بصره وضمنت السماء والأرض رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر) ( ) .
وهذا التخويف من أسرار آية الولاية هذه بعد نهي المسلمين عن طاعة الذين كفروا ، لأن هذه الطاعة تزين للذين كفروا سوء عملهم وتجعلهم يقيمون على المعصية , وما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلا مبشراً ونذيراً للناس جميعاً ، ليكون من مصاديق إنذار الذين كفروا بلحاظ آية البحث والسياق أمور :
الأول : ولاية الله للمسلمين إنذار وتخويف للذين كفروا .
الثاني : نهي المسلمين عن طاعة الذين كفروا إنذار ووعيد لهم .
الثالث : مجئ النداء من الله للمسلمين [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]تبكيت للكفار لتخلفهم عن الإيمان وإصرارهم على الإقامة على ما لم ينزل به الله سلطاناً .
الرابع : ولاية الله للمسلمين سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من جهات :
الأولى : إنه مقدمة لإلقاء الخوف والرعب في قلوب الذين كفروا.
الثانية : ولاية الله ذاتها إلقاء للرعب والفزع في قلوب الذين كفروا .
الثالثة : بقاء ولاية الله للمسلمين متجددة في موضوعها ومنافعها حتى بعد إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
وهل تنحصر الآثار المترتبة على ولاية الله للمسلمين بالإضرار بالذين كفروا بإلقاء الرعب في قلوبهم .
الجواب لا، ومن هذه الآثار بلحاظ آية البحث والسياق أمور :
الأول : القطع بأن الله عز وجل هو خير الناصرين ، وهو الذي ينصر المسلمين ويدفع عنهم شرور الكافرين .
الثاني : ولاية الله عز وجل للمسلمين من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
الثالث : إقامة الحجة على الذين كفروا .
الرابع : لحوق الخزي بالذين كفروا في الدنيا والآخرة
فمن مصاديق ولاية الله عز وجل أمور :
الأمر الأول : تجدد الوعد الإلهي للمسلمين ، ويحتمل وجوهاً :
أولاً : توالي أفراد من ذات مصداق الوعد الإلهي .
ثانياً : حدوث أفراد ومصاديق جديدة للوعد الكريم من عند الله عز وجل .
ثالثاً : يمكن تقسيم الوعد من عند الله للمسلمين إلى أقسام :
الأول : الوعد الذي تنجز في الواقع ، وهو الذي تدل عليه آية البحث .
الثاني : الوعد الذي في طريقه إلى التنجز والتحقق في الواقع .
الثالث : أفراد من الوعد الإلهي لم تأت بعد ، وفيه دعوة للمسلمين للشكر على الوعد من عند الله , وتنجزه الذي لا يقدر عليه إلا هو سبحانه , وفيه ندب لهم للتطلع إلى أفراد جديدة منه .
الأمر الثاني : نصرة الله عز وجل للمؤمنين يوم بدر وأحد من مصاديق ولاية الله عز وجل للمسلمين .
الثالث : مجئ نصرته للمؤمنين بأفضل وأحسن كيفية ، وليس من حصر لمصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]من جهتين :
الأولى : اسم التفضيل [خَيْرُ] ومصاديقه المتكثرة ، وكل فرد منها هو الأفضل والأحسن ، ليكون من الإعجاز في المقام أمران :
الأول : نصر الله للمؤمنين .
الثاني : نصرة الله عز وجل للمسلمين أفضل مصاديق النصرة .
الثانية : تفضيل ورجحان نصر الله بذكر صفة حسن من صفاته وهي [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] وفيه ترغيب للناس بالإيمان وإخبار عن قهر الذين كفروا , وإزاحتهم عن مراتب الشأن والسلطان في الأرض .
الرابع : وعد الله عز جل للمسلمين ومجئ هذا الوعد بآيات القرآن , وهل يحمل صبغة العهد من عند الله كما في قوله تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ] ( ) .
الجواب من لطف الله عز وجل بالمسلمين ، أنه يكرمهم بالوعد وقد يكون أقرب من العهد ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس : من ولاية الله عز وجل للمسلمين نصرهم وتمكينهم من عدوهم من دون أسباب ظاهرة بالعدة والعدد .
السادس : بيان قانون كلي وهو عدم التعارض بين ولاية الله وبين إذنه ، وأيهما أعم وأوسع , الجواب على قسمين :
الأول : خصوص المعنى المتعلق بالمسلمين ، فان ولاية الله لهم أعم من إذنه تعالى بحسهم وقتلهم الذي كفروا .
الثاني : إذن الله عز وجل المطلق في أمور الدين والمعاملات وعالم الدنيا والآخرة أعم من ولايته تعالى للمسلمين ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
السابع : إخبار آية البحث عن فشل وتنازع ومعصية الرماة من المسلمين ونحوها من ولاية الله عز وجل للمسلمين لتتفرع عن هذا الإخبار مسائل في ذات الولاية منها :
الأولى : كشف وبيان حال المسلمين يوم أحد .
الثانية : الإخبار عن قانون , وهو عدم التعارض بين قانون نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين وقوع الخسارة والفشل والخذلان في جولة من المعركة .
الثالثة : من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] كشف الخلل والخطأ والنقص الذي صار عند المسلمين في ساحة المعركة يوم أحد , وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين قبله في يوم بدر بنصرهم من دون أسباب ظاهرة في القوة والخيل والسلاح ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )فيجب ألا يغتر المسلمون في المعارك ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ).
ترى ماذا يحدث لو لم يخبر الله عز وجل في القرآن عن فشل وجبن وتنازع المسلمين ، الجواب لا يعلم العواقب والأضرار إلا الله عز وجل , ويمكن إستقراء شطر منها بلحاظ إنتفاع المسلمين في معارك الإسلام اللاحقة من هذا الإخبار ، كمعركة الخندق وحنين .
وهل ولآية البحث موضوعية في رجوع كتائب المسلمين يوم حنين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد إنهزامها ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : إنه من الإعجاز الغيري لآية البحث وقد أسسنا في هذا السِفر مبحث إعجاز الآية ، ويمكن أن ينشطر إلى قسمين وهما :
الأول : الإعجاز الذاتي .
الثاني : الإعجاز الغيري .
الثانية : إتخاذ المسلمين آية البحث موعظة وعبرة .
الثالثة : إنه من أسرار تلاوة المسلمين آية البحث في الصلاة ليكون درساً يومياً يتلقاه المسلمون يتضمن التحذير وبيان أمور :
الأول : لزوم عدم جعل المؤمنين موضوعية للغنائم في قتالهم المشركين .
الثاني : تتضمن آية البحث في مفهومها حقيقة وهي أن الذين كفروا ومع كثرة عددهم وعدتهم ليسوا ضعفاء فعندهم شجعان وأبطال وخبرة في ميادين القتال ، وفيه دعوة للمسلمين من جهات :
الأولى : أخذ المسلمين الحيطة والحذر ، والتسلح بطرد الغفلة .
الثانية : تحلي المسلمين باليقظة وبذل الوسع في ميادين القتال .
الثالثة : حث المسلمين على تجلي معاني الأخوة والتآخي بينهم والتمسك بالقرآن والسنة ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ).
الرابعة : إستحضار المسلمين لفضل الله عليهم ، في رمي الذين كفروا بالوهن والضعف.
وتحتمل النسبة بين إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وبين إصابتهم بالوهن والضعف وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي , وان ذات إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا هو الوهن والضعف .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وبين الوهن والضعف .
الثالث : النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، وهي على شعبتين :
الأولى : الوهن والضعف الذي أصاب الذين كفروا يوم أحد أعم وأشد من إلقاء الرعب في قلوبهم .
الثانية : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب أعم وأشد من الوهن والضعف .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثالث أعلاه ، وإن كان إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا يوم معركة أحد من عند الله عز وجل بنص الآية السابقة ، فهل إصابتهم بالوهن والضعف من عند الله , الجواب نعم ، وإن كان بالأسباب والمقدمات .
الثالث : إستحضار المسلم لحقيقة , وهي لحوق الذم والتوبيخ لمن ينهزم من المسلمين من المعركة .
الرابع : حرمة الفرار من الزحف ، قال تعالى [وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
ومعنى توليه الدبر الإنهزام ، ومعنى [مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ] أي لإرادة إعادة الكرة على الذين كفروا ، والمتحيز إلى فئة أي الذي يعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأمور :
الأول : الإمتناع بالفئة .
الثاني : تقوية الفئة .
الثالث : تأكيد مواصلة القتال وعدم ترك ميدان المعركة .
وعن سعيد بن جبير أن الآية أعلاه خاصة بيوم بدر ( كأن الله شدد على المسلمين يومئذ ليقطع دابر الكافرين ، وهو أول قتال قاتل فيه المشركين من أهل مكة) ( ) .
وورد ( عن عطاء بن أبي رباح في قوله { ومن يولهم يومئذ دبره} قال : هذه منسوخة بالآية التي في الأنفال { الآن خفف الله عنكم}( ) ( ).
ويمكن التحقيق بمصاديق التخفيف المذكورة في الآية أعلاه , ومنها في باب قتال المشركين في بدايات الإسلام مضامين الآية السابقة وهذه الآية ، إذ أن إلقاء الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا من التخفيف عن المسلمين ، وهو برزخ دون هزيمتهم وإنكسارهم وفرار بعض الأفراد منهم ، وكذا بالنسبة لصدق وعد الله عز وجل للمسلمين بحسهم وقتلهم للكافرين وإثقالهم بالجراحات ، لذا يمكن القول أن من إعجاز آية البحث هو التخفيف عن المسلمين ، ولا يختص هذا التخفيف بميدان المعركة بل يشمل مقدمات القتال ، وحال المسلمين بعد إنتهاء المعركة وإجتناب التلاوم والتعيير بينهم .
ولا يتعارض هذا التخفيف مع التنبيه واللوم من عند الله عز وجل على الفشل والجبن والتنازع في الأمر لدلالة هذه الآيات على التخفيف عن المسلمين .
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا لقد صدقكم الله وعده ) وفيه وجوه :
الأول : تشريف المسلمين في كل من الآيتين ، إذ إبتدأت آية السياق بالخطاب الذي يفيد بدلالته التضمنية الشهادة للمسلمين بالإيمان .
ليكون نزول هذا الخطاب من عند الله نصراً وعوناً للمسلمين في ملاقاة أذى قريش ومحاربة الذين كفروا لهم , فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وصراع بين الإيمان والكفر ، وبين الصلاح والفساد ، مع رجحان كفة الإيمان والصلاح بلحاظ هذه الآيات من جهات :
الأولى : شهادة ودلالة الخطاب من عند الله للمسلمين [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الوارد في آية السياق .
الثانية : تنبيه وتحذير المسلمين من طاعة الذين كفروا , وبيان أضرار طاعتهم والإنصات لهم ، قال تعالى [فَلاَ تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] ( ).
الثالثة : إخبار الآية قبل السابقة عن ولاية الله عز وجل للمسلمين بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ].
الرابعة : البشارة والوعد الكريم من الله عز وجل بأنه [ َهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] فلا يترك الله الكفار يعيثون في الأرض ظلماً وفساداً, ويستمرون بإيذاء المؤمنين , بل يتفضل ويزيح الذين كفروا عن منازل السيادة والرياسة , ويبتليهم بإمتلاء قلوبهم بالرعب والخوف .
الخامسة : إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا ومصاحبته لهم ، فلا يغادر الرعب الذين كفروا بعد إنتهاء المعركة بل يبقى مستقراً في قلوبهم , ظاهرة علاماته على جوارحهم وأفعالهم ، لبيان قانون من وجهين :
الأول : رجحان كفة المؤمنين في السلم والحرب بالخطاب التشريفي والعز وولاية الله لهم .
الثاني : وهن وضعف الذين كفروا , وإبتلاؤهم ورميهم بالرعب يغزو قلوبهم .
ولا يخطئهم فينصرف إلى غيرهم ، ولا يخطئ قلوبهم فيذهب إلى غيرها من الجوارح والأركان لبيان نكتة في ذكر القلوب بالذات بلحاظ أن القلب أمير الجوارح , فتظهر علامات الرعب والفزع على الجوارح والأركان عند نفاذه إلى القلب .
السادسة : إنذار الذين كفروا بقوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ] وفيه ذل وهوان وخزي لهم في الدنيا ، وتنعكس آثاره على أفعالهم بالإرباك والخذلان والفرقة والشقاق .
السابعة : خاتمة الآية السابقة [وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] قانون مصاحب للدنيا والآخرة .
أما في الدنيا فمن وجوه :
الأول : تعلق موضوع خاتمة الآية بالذين إختاروا الظلم لأنفسهم والغير بالكفر والفجور والفسوق .
الثاني : نزول الآية السابقة .
الثالث : تلاوة المسلمين للآية السابقة وإتخاذهم لها سلاحاً وواقية وآلة للحرب مع الذين كفروا , وهل يشترط البيان والتفسير لهذه الآية لتذكير الذين كفروا أم تكفي تلاوة الآية السابقة .
الجواب هو الثاني وهو من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) فيكفي إستماع أو سماع الإنسان للآية ليعتبر من موضوعها ويتعظ مما فيها وينصرف ذهنه طوعاً أو كرهاً لعالم الآخرة وعذاب الظالمين بالنار يومئذ .
الرابع : تذكير الذين كفروا بالآخرة ذاته من القوانين المصاحبة لهم في الدنيا ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين والمسلمات القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني خمس مرات في اليوم .
الخامس : من مفاهيم خاتمة الآية السابقة دعوة المسلمين للتنزه عن الظلم , ولبيان حقيقة وهي أن الظلم لا يختص بمصاحبة الكفر والجحود .
وأما في الآخرة فأن أهل الجنة وأهل النار والخلائق كلها يشهدون بقبح دار إقامة الظالمين ، ويقومون بذمه وذم أهلها ، وليس لهم من ناصر أو شفيع .
(روى قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟
فيقول : نعم،
فيقال لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك،
قال الله{أُولَاكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ})( ).
ويمكن تأسيس قانون وهو عدم إنقطاع كلمات وآيات القرآن بانقطاع وإنطواء الحياة الدنيا .
الثامنة : بيان قانون وهو أن كل آية من هذه الآيات المتجاورة تدعو إلى الإسلام ، وتحث على نبذ الكفر والضلالة ، وتزجر عن الظلم .
وهو مما يرجح كفة أهل الإيمان ، ويصيب الذين كفروا بالضعف والوهن ، ليأتيهم الرعب من عند الله ، وهم فاقدون للقدرة على تحمله أو الصبر على الأذى الذي يصاحبه .
التاسعة : دعوة المسلمين لشكر الله عز وجل على نعمة قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] فلم يترك الله عز وجل الذين كفروا إلى يوم القيامة وعالم الجزاء ليواجهوا أسوء العذاب ، ولم يوجه الإنذار وحده لهم ، بل تفضل بتوجيه التبكيت واللوم والوعيد إلى الذين كفروا من جهات :
الأولى : نزول آيات القرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : أخبار السنة النبوية التي تبين شدة عذاب أهل النار ، لتكون بياناً لآيات القرآن وتفسيراً لها .
وفي المرسل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ينشئ الله سحابة لأهل النار سوداء مظلمة ، فيقال : يا أهل النار ، أي شيء تطلبون ؟ فيذكرون بها سحابة الدنيا ، فيقولون : يا ربنا الشراب ، فيمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم ، وسلاسل تزيد في سلاسلهم ، وجمرا تلتهب عليهم( ) .
وجاءت السنة النبوية بلزوم الإستعداد لعالم البرزخ والتحذير منه مع أنه سابق ليوم القيامة في أوانه وعذابه وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران) ( ).
الثالثة : تلاوة المسلمين للآية السابقة ، وما فيها من الإنذار .
الرابعة : تفقه المسلمين بالدين بلحاظ تلاوة آيات القرآن كل يوم وكشفها لأهوال يوم القيامة .
ومن إعجاز القرآن أن كل آية فيه تدل في منطوقها أو مفهومها أو هما معاً على سوء إقامة الظالمين في الآخرة وشدة عذابهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] وتقديره بلحاظ هذا المعنى على وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بمنطوق كل آية من القرآن .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بلحاظ مفهوم كل آية من القرآن.
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بتلقي المسلمين آيات القرآن بالقبول والتصديق .
الرابع : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بتلاوة المسلمين لهذه الآيات .
وهل يشترط في حصول وقذف الرعب في قلوب الذين كفروا عند تلاوة المسلمين للقرآن أن تكون ذات الآية التي يتلونها من الآيات التي تتضمن التخويف والوعيد للذين كفروا .
الجواب لا ، بلحاظ أن قيام المسلم بتلاوة القرآن وحده تخويف وسبب لبعث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا , وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد تلاوة القرآن ، ونكتة كلامية وهي أن المسلم يتلو الآية القرآنية في الصلاة ، فيأتيه الثواب من وجوه :
الأول : تلاوة الآية القرآنية .
الثاني : قراءة القرآن في الصلاة وبقصد القرآنية ونية القربة إلى الله , وانصات المسلمين لها ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثالث : قراءة المسلم لآيات القرآن بهيئة الخشوع والخضوع لله عز وجل .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا إذ تحسونهم بإذنه ) : وفيه وجوه :
الأول : بيان الثواب العظيم من عند الله للمسلمين لتحليهم بالإيمان وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل وإخلاصهم في طاعة الله فحينما وصفت آية السياق المسلمين بأنهم مؤمنون فانه نوع ثناء عليهم ، ومن فضل الله عز وجل تعقب الجزاء للثناء إذ أخبرت آية البحث عن رجحان كفة المسلمين في القتال بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
الثاني : من أسرار نظم آيات القرآن تقدم نداء الإكرام [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] على آية البحث ، فذات الخطاب مقدمة ونوع طريق لتلقي الوعد الكريم من عند الله وبشارة تنجز هذا الوعد ، وفيه تأديب للناس بالإخبار عن قانون كلي في الإرادة التكوينية وهو أن الإيمان سبيل الفوز بالوعد الكريم من عند الله عز وجل .
الثالث : يتضمن الجمع بين الآيتين معنى إنذار الذين كفروا من وجوه :
أولاً : بيان قبح الإقامة على الكفر والضلالة ، بلحاظ مفهوم إكرام المسلمين بالنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]والذي يدل على بغض نقيض الإيمان ، ولزوم التنزه عن الكفر .
ثانياً : ينصر الله الذي[لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) الذين آمنوا به وصدقوا بالنبوة والتنزيل .
ثالثاً : الوعيد للذين كفروا على إقامتهم على الجحود ومفاهيم الضلالة بلحاظ كبرى كلية ، وهي أن وجود أمة من المؤمنين حجة عليهم ، ودعوة لهم للهداية والإيمان .
وهو من الإعجاز في ثنايا الخطاب القرآني [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بأن يكون على جهات :
الأولى : الشهادة للمسلمين بالإيمان ، وفي التنزيل [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ] ( ).
الثانية : تطلع الناس جميعاً لنزول الفضل الإلهي على المؤمنين ، ومنه ما ورد في آية البحث من الوعد الإلهي وتنجزه ، وهل يحق للناس التطلع إلى فضل الله عليهم ببركة الذين آمنوا ، الجواب نعم ، وهذا التطلع برزخ دون محاربتهم للمؤمنين ، فمن يرجو شيئاً لا يصده ويدفعه بالحرب والجور ، ليكون من مفاهيم النداء بصيغة الإيمان نزول السكينة من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ] ( ).
ليكون من أفراد السكينة التي ينزلها الله عز وجل بلحاظ آية البحث والسياق وجوه منها :
أولاً : ثناء الله عز وجل على المسلمين لإيمانهم .
ثانياً : شهادة الله عز وجل على إيمان المسلمين ، وهو سبحانه [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى].
ثالثاً : تصديق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الذين آمنوا برسالته نالوا مرتبة المؤمنين عند الله .
رابعاً : الوعد من عند الله للمسلمين .
خامساً : تنجز الوعد الإلهي للمسلمين بالظهور على المشركين في معركة بدر وأحد .
الثالثة : حث المسلمين على العمل بأحكام التنزيل ، فمن خصال المؤمنين متابعة نزول الآيات القرآنية ، والعمل بأحكامها .
الرابعة : بشارة شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض .
الخامسة : دعوة المسلمين للإجتهاد في الدعوة والمسألة ، لقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
الرابع : من معاني الجمع بين الآيتين أن ظهور المسلمين على الذين كفروا من قريش يوم بدر وأحد كان سبب الإيمان ، بدليل النداء في آية السياق لبيان قانون ، وهو وفق القياس الإقتراني .
الكبرى : الملازمة بين الإيمان والنصر .
الصغرى : المسلمون أهل الإيمان .
النتيجة : الملازمة بين المسلمين والنصر .
وهذه الملازمة من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما سألوا إستفهاماً وتعجباً عن خلافة الإنسان في الأرض مع أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء ،فاذا كان النصر مصاحباً للإيمان ، وهناك أمة مؤمنة تتلقى أجيالها وإلى يوم القيامة خطاب [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ليكون من معاني الخطاب في المقام مسائل :
الأولى : لقد آمن المسلمون بلزوم عبادة الله وأيقنوا بانعدام الشريك .
الثانية : اقرار المسلمين بحرمة طاعة الذين كفروا ، وأن هذه الطاعة تقود إلى إشاعة الفساد .
ومن أسرار ذكر الله عز وجل لقول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) دعوة المؤمنين لإستئصال الفساد ومنع القتل وسفك الدماء بغير حق ، وهو من أسباب تفضل الله عز وجل بنصرهم على القوم الكافرين ، وهو من الإعجاز بتجلي الصلة بين إستفهام الملائكة ، ورد الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الثالثة : إدراك المسلمين والناس جميعاً التضاد والتناقض بين الإيمان والكفر.
المسألة الثانية ( ) : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا إذ تحسونهم باذنه ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : يتضمن الجمع بين الآيتين بلحاظ لغة الخطاب وجوهاً :
أولاً : مجئ النداء والخطاب من عند الله عز وجل .
ثانياً : توجه النداء إلى المسلمين .
ثالثاً : وقوع الحس والقتل على غير المسلمين لدلالة صيغة الغائب عليه بقوله تعالى [تَحُسُّونَهُمْ] وهذا التفصيل والوضوح في إجتماع النداء والخطاب القرآني، وعطف أحدهما على الثاني من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) وفيه نكتة من جهات :
الأولى : يتفقه المسلمون والمسلمات في الدين ويعلمون معنى وتفسير آيات القرآن ولو على نحو الإجمال بتلاوتهم لآيات القرآن وهو من أسرار فرض القراءة في الصلاة ، وجعل الصلاة واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة في سن التكليف ، وليس من مانع يحول دون تلقي الخطاب التكليفي كالجنون .
الثانية : إستقراء كنوز من العلوم والمسائل الكلامية من الجمع بين آيات القرآن ، وهل هذه المسائل من المتناهي , الجواب لا ، فهي متجددة .
لقد أراد الله عز وجل للقرآن أن يكون دستوراً للناس إلى يوم القيامة تتضمن أحكام العبادات ومسائل المعاملات وضروب الأحكام والسنن .
الثالثة : تأكيد حقيقة قرآنية وهي أن الفصل بين آيات القرآن لا يعني الفصل التام بينها في المعنى والدلالة ، فالقتال أمر مكروه , ويجلب الويلات ، وقد إشتهر كثير من المصلحين بتفاديهم الحرب والقتال ، وإختيارهم وتحملهم وزر وشرائط الصلح ، بينما قاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والله عز وجل يقول [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : إبتدأت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام من غير قتال .
الثانية : تلقى النبي أشد الأذى من قريش ، وهو صابر محتسب .
الثالثة : تحمل أهل البيت وطأة الحصار في شعب أبي طالب لثلاث سنوات.
الرابعة : رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكفار قريش وعبيدهم كيف يؤذون أصحابه كعمار وأمه وأبيه وبلال وخباب وهو صابر لا يرد .
الخامسة : مع الأخطار التي كانت تحيط بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يحمل سيفاً ، وسلاحاً لمواجهة أعدائه ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ) .
فان قلت الآية أعلاه مدنية ، وحوادث مكة سابقة لنزولها , والجواب صحيح أنا لا نقول في علم الأصول بالإستصحاب القهقري ، ولكن هذا القول يتخلف عن أحكام القرآن ، وهو من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن بأن تنزل آية منه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتكون مصاديقها على أقسام :
الأول : أسباب النزول والموضوع الذي نزلت الآية بصدده، وعن عبد الله بن مسعود قال (إنى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حرث بالمدينة وهو متكئ على عسيب، فمر بنا ناس من اليهود فقالوا: سلوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه فيستقبلكم بما تكرهون، فأتاه نفر منهم فقالوا: يا أبا القاسم ما تقول في الروح ؟ فسكت ثم ماج، فأمسكت بيدي على جبهته، فعرفت أنه ينزل عليه، فأنزل الله عليه – ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ( ).
الثاني : تعلق موضوع الآية بوقائع واحداث مضت وإنقطعت في أيام وحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته إلى الله ، وهو غير أخبار الأنبياء وحياتهم .
الثالث : لا تختص مضامين الآية القرآنية بأسباب النزول فتشمل الزمن المستقبل من حين نزولها إلى يوم القيامة .
الوجه الثاني : من معاني الجمع بين الآيتين بيان منافع الإيمان ، وما يترشح عنه من أسباب النصر من العز والرفعة .
وجاءت آية البحث بصيغة الجمع والخطاب [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ]ويمكن تقسيم الوعد الإلهي إلى وجوه :
الأول : الوعد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص.
الثاني : الوعد من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
الثالث : الوعد من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمجاهدين في سوح القتال .
الرابع : الوعد من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الخامس : ما يتفضل به الله عز وجل من الوعد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة .
السادس : الوعد من الله عز وجل للمسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة .
السابع : تداخل وإجتماع هذه الوجوه ، فيأتي الوعد المتحد من عند الله لتجتمع فيه هذه الوجوه كلها .
كما يمكن تقسيم وعد الله عز وجل بلحاظ أفراد الزمان والعوالم المختلفة إلى قسمين :
الأول : الوعد في الدنيا كما في قوله تعالى في آية البحث[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] وعن أبي كعب قال (لما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم } قال: بشر هذه الأمة بالسنا ، والرفعة ، والدين ، والنصر ، والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب) ( ).
الثاني : الوعد الإلهي في الآخرة والبشارة بالجنان وما تحتها من الأنهار الجارية .
ويبدأ زمان الآخرة من ساعة الدخول إلى القبر، وحضور منكر ونكير الأقوال والأعمال ورومان فتان القبور وضغطة القبر والمسألة والعذاب الإبتدائي في القبر ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] الأمن والسلامة من العذاب في الآخرة , وإذ كانت الحياة الدنيا لها بداية ونهاية على نحو خاص بالنسبة للفرد الواحد أو الجماعة والأمة والناس جميعاً .
فان الدار الآخرة لها بداية وليس لها نهاية بالنسبة للفرد والأمة والناس جميعاً فاذ يعمر الناس الأرض على نحو الأجيال المتعاقبة والولادة والنشأة والكهولة والشيخوخة ثم الموت بالنسبة للإنسان ذكراً أو أنثى إن كتب الله عز وجل له أن يصل إلى سن الكهولة والشيخوخة فان الناس جميعاً يجتمعون ويلتقون في الدار الآخرة مع تعدد مواطنها، وطول الحساب فيها قبل أن يفترقوا إلى فريقين.
وبالإسناد عن عبد الله بن عمرو (وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يفضّل عبد الله على أبيه أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، حدثني أبي، حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا ليث، حدثني أبو قبيل حيّ بن هانئ المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو،
قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم،
قابضاً على كفيه ومعه كتابان،
فقال : «أتدرون ما هذان الكتابان،
قلنا : لا يا رسول الله.
فقال للّذي في يده اليمنى : هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل الجنّة وأسماء آباءهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب،
وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزايد فيهم، ولا ناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة، ثمّ قال للّذي في يساره : «هذا كتاب من ربّ العالمين، بأسماء أهل النار وأسماء آباءهم وعشائرهم وعدتهم، قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب وقبل أن يستقروا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزايد فيهم ولا ناقص منهم، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة. فقال عبد الله بن عمرو : ففيم العمل .
إذ قال : «إعملوا وسددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنّة يختم له بعمل أهل الجنّة وأن عَمِلَ أي عَمَل، وإنّ صاحب النّار يختم له بعمل أهل النّار وإن عَمِلَ، أي عَمَل .ثمّ قال : {فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ} عدل من الله تعالى) ( ).
وفي هذا التباين بين مدة الحياة الدنيا وعالم الآخرة وأن الدنيا دار عمل وإبتلاء والآخرة دار حساب وجزاء دعوة للمسلمين إلى إرادة الآخرة.
وتقدير آية البحث : ومنكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) يا أيها الذين آمنوا أطلبوا الآخرة واجعلوا غايتكم وهمكم الفوز بنعيمها ولا تنشغلوا بالغنائم , فقد بشر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باقبال الدنيا على المسلمين في نصوص عديدة ، وهو الذي أكده تقادم الزمان والوقائع والفتوحات .
فان قلت جاءت آية البحث بصيغة الماضي , والجواب إنما يتعلق الماضي بخصوص إنجاز الوعد وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره .
وتقدير الآية بخصوص ما بعد نزول الآية وقادم الأيام على وجوه :
الأول: ويصدقكم الله وعده إذ تحسونهم باذنه .
الثاني : ويصدقكم الله وعده إذ تحسونهم باذنه .
الثالث : كما صدقكم الله وعده في معركة بدر وأحد فانه يصدقكم وعده في المعارك اللاحقة .
الرابع : إفادة تجدد وإستمرار أفراد ومصاديق ذات الوعد , والتنجز في قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]ففي كل مرة هناك أفراد من ذات الوعد الإلهي ، وأفراد ومصاديق من تنجزه تطل على المسلمين في كل يوم من أيام حياتهم.
لتكون الحياة الدنيا بالنسبة للمؤمنين على قسمين , وهما:
الأول : الدنيا دار الوعد من الله.
الثاني : الدنيا دار تنجز الوعد منه سبحانه، وهل يختص الوعد من الله بالحياة الدنيا، وأن الآخرة ليس فيها إلا تنجز الوعد والثواب للمؤمنين أم تغشي الوعد وتنجزه للدنيا والآخرة الجواب هو الثاني فلا ملازمة زمانية بين الوعد والعمل والإبتلاء.
الوجه الثالث : بيان قانون كلي وهو مجئ النعم والفضل الإلهي مع الإيمان ومع الشهادة من عند الله عز جل للمسلمين بالإيمان , وليس من حصر للنعم التي تأتي مع الهداية والإيمان ، ويمكن إستقراؤها من الآيات التي وردت للمسلمين بخطاب وصيغة الإيمان .
الوجه الرابع : قد يدل الخطاب [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] في مفهومه على وجود أمة غير مؤمنة , ولكنه لا يدل على القتال بين المؤمنين وبين غيرهم، وتبين آية البحث [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ]وقوع القتال والإقتتال بين المؤمنين وغيرهم ويدل هذا القتال على العداوة بين الطرفين ، إذ تتجلى في القتال أشد معاني العداوة والبغضاء .
لقد تضمنت آية السياق التحذير والإنذار من طاعة الذين كفروا مع بيان أضرار هذه الطاعة , وكيف أنها تؤدي بالذي يطيعهم إلى الخسران المبين في النشأتين ، وجاءت آية البحث لتبين أمراً أشد وأعظم وهو القتال ومحاربة الذين كفروا أنفسهم ، وأن النصر يكون فيه للمؤمنين لأنهم لم يطيعوا الذين كفروا.
الوجه الخامس : يفيد الجمع بين الآيتين زجر الذين كفروا ولزوم إتعاظهم من عدم طاعة المسلمين لهم ، وأن يكفوا أيديهم فان إظهار المسلمين الثبات على الإيمان مع الأذى والإغراء والترغيب بهجران الإيمان عبرة للناس جميعاً بأن المسلمين لا يفارقون مقامات الهدى والإيمان ، ولكن الكافرين على أبصارهم غشاوة ، وفي قلوبهم مرض ، قال تعالى في ذم الذين كفروا[خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ]( ).
فعندما عجزوا عن إكراه المسلمين على ترك إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحق وعندما رأوا المهاجرين يتوافدون إلى المدينة المنورة من كل قرية وصوب إختاروا السيف وجعلوه الفيصل بينهم وبين المسلمين فتفضل الله عز وجل بحضور خطاب [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]وسلامة المسلمين من طاعة الذين كفروا ،كما تدل عليه آية السياق ، فجاء المدد من عند الله بأن جعل الله عز وجل المسلمين هم الأعلون في القتال وبعده ، قال سبحانه [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
السادس : لقد إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض لأنه يفسد فيها فبشرهم الله عز وجل ببشرى عظيمة تجلت بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فإطمأنت الملائكة لأمر الخلافة وأدركت أنه من عمومات ورشحات قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) فجاءت الآيات تترى في الأرض ، فلم ينزل آدم إلا وهو نبي يأتيه الوحي من عند الله , ويتجدد الوحي مع بعثة كل نبي ليتصف بخصوصية البقاء في الأرض بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتتجلى مصاديق علم الله عز وجل بالوقائع والأحداث بما يفيد إستئصال الفساد من الأرض.
وتقدير الآية أعلاه بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : والله يعلم بتفضله بالوعد بالنصر للمسلمين .
الثاني : والله يعلم بصدق وعده للمسلمين .
الثالث : والله يعلم أن المؤمنين يحسون ويقتلون الذين كفروا ، وفيه إعدام للفساد بلحاظ زوال السبب وإنتفاء المعلول لإنتفاء علته .
الرابع : والله يعلم بإلقاء الحجة على الذين كفروا بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
الخامس : والله يعلم أن نصر المؤمنين لم يتم إلا بإذنه ومشيئته ، وهو الذي تتباهى الملائكة به فإنقطعت إلى الله بالتسبيح والدعاء، ومنه قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ) .
السادس : إن الله عز وجل يعلم بالتقصير الذي يكون عند المؤمنين من جهات :
الأولى : حال الفشل والجبن عند طائفة من المسلمين كما في قوله تعالى بخصوص يوم أحد [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ).
الثانية : حدوث الخلاف بين المسلمين ، فصحيح أن الآية نزلت بخصوص معركة أحد وترك أكثر الرماة لمواضعهم رغبة بالغنيمة بعد أن رأوا إنكشاف جيش المشركين ، وظهور أمارات الهزيمة عليهم ، والتعجيل بركوب النساء على الرواحل للعودة منهزمين ، ولكن الآية أعم ، إذ أنها تخبر عن قانون كلي وهو أن النصر يأتي للمسلمين حتى في حال وقوع الخصومة والخلاف بينهم ، وفيه زجر للذين كفروا عن الطمع بالمسلمين عند حدوث الخلافات بينهم.
فمن قواعد الحروب أن القوم إذا حصلت عندهم الخصومات والشقاق تسهل السيطرة عليهم ، والتمكن منهم ، ولكن هذه القاعدة تنخرم بخصوص المسلمين ، فأنهم مع هذه الخصومات يبقون في حال منعة لأن الله عز وجل هو مولاهم وفيه ترغيب بالإسلام ويدل عليه إتحاد صيغة الخطاب للمسلمين في آية البحث، ومنه قوله تعالى[وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ].
الثالثة : حدوث النزاع والخلاف بين المسلمين إذ أن إنسحاب أغلب الرماة لم يقع إلا بعد الجدال والخلاف بينهم وبين أميرهم عبد الله بن جبير أزاء خيل المشركين (وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن ابزى في قوله { حتى إذا فشلتم } قال : كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وضع خمسين رجلاً من أصحابه عليهم عبيد الله بن خوات ، فجعلهم بإزاء خالد بن الوليد على خيل المشركين .
فلما هزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس قال نصف أولئك : نذهب حتى نلحق بالناس ولا تفوتنا الغنائم ، وقال بعضهم : قد عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا نريم حتى يحدث إلينا . فلما رأى خالد بن الوليد رقتهم حمل عليهم ، فقاتلوا خالداً حتى ماتوا ربضة ، فأنزل الله فيهم { ولقد صدقكم الله وعده} إلى قوله { وعصيتم } فجعل أولئك الذين انصرفوا عصاة) ( ).
والمختار عدم ثبوت صفة العصاة للمؤمنين من الرماة يوم أحد ، فان قوله تعالى [وقد عصيتم] لا يدل على إتصافهم بصفة العصاة من وجوه :
أولاً : بين فعل المعصية وصفة العاصي عموم وخصوص مطلق فكل عاص يفعل المعصية وليس كل معصية تدل على أن صاحبها عاص .
ثانياً : تبين الآية أن المعصية قضية في واقعة وفي ساعة من المعركة ، صدرت من مؤمنين مجاهدين .
ثالثاً : قد تفضل الله عز وجل ووصف الذين وقفوا وقاتلوا وإتخذوا مواضعهم في معركة أحد بالمؤمنين بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
رابعاً : رجحان شمول الرماة الذين تركوا مواضعهم بحديث الرفع.
خامساً : جاءت النعت بالمعصية بنداء الإكرام والعطف على ( يا أيها الذين آمنوا )
فتلك شهادة لهم من عند الله وتزكية ثابتة ودائمة لا تنخرم بالخطأ في ترك المواضع .
نعم لقد كان فعلهم وإنسحابهم من جبل الرماة معصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويقول الله عز وجل [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] ( ) ولكن هذه المعصية في طول طاعتهم لله ورسوله قبل وبعد يوم أحد .
الرابعة : تفضل الله بالعفو عن المؤمنين وبقاء باب التوبة مفتوحاً .
الخامسة : صدق اسم المجاهدين على أهل معركة أحد وإن تركوا مواضعهم على الجبل معصية وقصوراً ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] ( ).
السادسة : لقد نزل الرماة لجمع الغنائم ، ولكن حينما إشتد القتال رجعوا إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يزال وسط الميدان وقاتلوا وبذلوا الوسع في الدفاع ، وهو من أسرار عدم توجيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم اللوم , ولم يذكرهم بالأسماء ، بينما ذكر أسماء بعض المنافقين في بعض الأحيان ، حتى وهو على المنبر ، لذا حينما يذكر الرماة لم يعرفوا إلا بأميرهم وهو عبد الله بن جبير الذي ذكرهم بما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم طاعته .
وثبت في موضعه على الجبل وهو وعدد من أصحابه فقتلهم خيالة المشركين.
السابعة : من خصائص المعصية ترتب الإثم والعقوبة عليه ، وليس من إثم ومعصية في قصور الذين إنسحبوا من الجبل .
الثامنة : ليس من قصد للمعصية في إنسحاب الرماة , إذ أنهم ظنوا أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالبقاء مرهون ببدايات المعركة وتحقيق النصر , وليس في حال هزيمة الذين كفروا .
نعم جاءت آية البحث لتنفي العذر في هذا الظن ، وأنه لم يغير من صدق إتصاف فعلهم بالمعصية بلحاظ أنهم تركوا الواجب وهو البقاء على الجبل ، وفعلوا المنهي عنه ، ولكن هذا الفعل في مسألة عرضية تفضل الله بالمدد للمؤمنين للتدارك .
ولا يعني هذا ما يذهب إليه بعضهم بأنه لا يضر مع الإيمان معصية ، بل تضر المعصية مع الإيمان ويترتب عليها الإثم ، ولكن معصية المؤمنين في معركة ذكرتها آية البحث وأخبرت عن عفو الله عز جل عنها , وهو من إعجاز نظم الآية القرآنية الواحدة ، وهو علم مستقل غير علم نظم وسياق الآيات ( ) فقد وردت في آية البحث مسائل :
الأولى : إكرام عموم المسلمين بصدق الوعد للمؤمنين يوم أحد .
الثانية : قيام المسلمين بقتل الذين كفروا بإذن الله.
الثالثة : دلالة آية البحث في مفهومها على حسن سمت المسلمين، ورضا الله عز وجل عنهم في إيمانهم وصبرهم وطاعتهم لله ورسوله.
الرابعة : تأكيد لطف وحفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وعنايته بهم.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا الحفظ مصاحب له في نبوته منذ ولادته ونشأته وبدايات دعوته في مكة وعند هجرته هو وأهل بيته وأصحابه، وجاءت معركة بدر وأحد لتتجلى مصاديق قوله تعالى[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ]( ) بابهى معانيها من وجوه:
أولاً : يتفضل الله عز وجل بحفظ وسلامة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد البشر، وأفضل الأنبياء.
ثانياً : بيان قانون وهو أن الله عز وجل يحفظ تأريخ النبوة وجهاد الأنبياء بشخصه الكريم يوم بدر وأحد، ليكون هذا الحفظ من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
ومن مقدمات معركة أحد وإقامة الحجة فيها على كفار قريش أنه لما رجعت قافلة أبي سفيان التي سلمت في الطريق إلى مكة، وعدد العير التي تتألف منها نحو آلف بعير محملة بالبضائع لم يتم توزيع الأموال والبضائع وتعط إلى أهلها قيل بسبب أن أكثرهم غائبون عن مكة لخروجهم إلى معركة أحد ، ولكن القصد أكبر وإلا فإن أبا سفيان نفسه خرج الى معركة أحد , وكان بين عودة قافلة العير ومعركة أحد نحو سنة , ولكن رؤساء قريش أرادوا إنفاق أموال وأرباح القافلة في معركة أحد .
فعندما عاد رجالات قريش من معركة بدر يجرون أذيال الخزي وذلّ الهزيمة ( قال أبناء من قُتل، ورؤساء من بقي لأبي سفيان: ارصد هذه الأموال لقتال محمد( ).
ولعله من أسباب رئاسة أبي سفيان في معركة أحد لأنه تولى الإنفاق وصرف المال في جمع الرجال وشراء السلاح والخيل وتهيئة المؤون، إذ جاء بثلاثة آلاف رجل.
ثالثاً : نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من بطش كفار قريش مع أن عدد أفراد جيشهم ثلاثة أضعاف جيش المسلمين.
رابعاً : إرادة حفظ الإسلام ومبادئه في الأجيال اللاحقة، لذا كان دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة معركة بدر: (اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ( ).
مما يدل على أن قوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] لا يختص بمعركة أحد بل أن موضوع الدعاء وتنجزه سابقان لزمان معركة أحد، وأيهما كان المسلمون فيه أكثر حاجة للوعد الإلهي وتنجزه يوم معركة بدر أو معركة أحد، الجواب هو الأول، لذا تفضل الله وسّمى يوم بدر[يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، وكأنه اللقاء الفيصل.
ومع صدق اسم اللقاء وأن كل فريق من المسلمين والمشركين يصدق عليه أنه جمع، فهل ذات المعنى يصدق في المعارك التي وقعت بعد معركة أحد، أو إنه من تبدل الحكم بلحاظ تبدل الموضوع، بتحقق نصر المسلمين يوم بدر، الجواب هو الأول بدليل قوله تعالى بخصوص معركة أحد[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وفيه نكتة وهي أن إنجاز الوعد وتحقق الغلبة للمسلمين وسلامتهم من الخسارة والهزيمة يوم أحد لا يتعارض مع ما لحق المسلمين من الخسارة في القتل والجراحات , وتقييدها بإذن الله دليل على إحتسابها وعظيم ثوابها وإتعاظ المسلمين منها.
ولم تقع بعدها خسارة للمسلمين مثلها، والدعاء الذي سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عز وجل يوم بدر بتفضله بانجاز الوعد سأله يوم معركة أحد، وعند إشتداد المعركة، وكثرة الجراحات التي أصابت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن السدي قال : انطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه فقال : أنا رسول الله . ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حياً ، وفرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع .
فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم ، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه ، وهمهم أبو سفيان .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد . ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم( ).
خامساً : بيان قانون كلي وهو أن الذي لا يريد الله عز وجل حفظه لا يقدر على البقاء ، ولا يملك مقومات الوجود ، فهو إلى زوال وإندثار ، وأن أفعل التفضيل في [خير حافظاً ] لا يعني تعدد مراتب وأفراد الحافظين ، فلا يستطيع الحفظ وتعاهد الخلائق بالسلامة إلا الله عز وجل .
وهو لا يتعارض مع الحفظ بالملائكة والوسائط القدسية ، قال تعالى [إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ] ( ) أي ملائكة يحفظون ذات الإنسان وعمله ورزقه ويتعاهدونه إلى حين أجله ولا تكون تفاصيل حفظ الملائكة إلا بأمر وإذن من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الثناء عليهم [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ) وقد يأتي الحفظ من عند الله بالأسباب كما في حفظ الله عز وجل لنبيه نوح ومن معه من المؤمنين.
وروى عن ابن عباس قال (إن نوحاً عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته ، يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم ، حتى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال : يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنك . قال : يا أبت أمكني من العصا ، ثم أخذ العصا ثم قال : ضعني في الأرض . فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه وسالت الدماء ، قال نوح عليه السلام : رب قد ترى ما يفعل بي عبادك ، فإن يكن لك في عبادك حاجة فاهدهم ، وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين . فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه ، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن قال { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون }( ) يعني لا تحزن عليهم { واصنع الفلك } قال : يا رب وما الفلك؟ قال : بيت من خشب يجري على وجه الماء ، فأغرق أهل معصيتي وأطهر أرضي منهم . قال : يا رب وأين الماء؟ قال : إني على ما أشاء قدير)( ).
سادساً : ترغيب الناس بالتوجه إلى الله للفوز بحفظه ولطفه وإحسانه ، وهل هناك ملازمة بين الحفظ من عند الله وبين إتصاف المحفوظ من الناس بالتقوى والصلاح ، الجواب لا ، وهو من مصاديق الرحمة الإلهية للناس كافة في الحياة الدنيا ، لذا ورد تمام الآية أعلاه بالإخبار عن سعة رحمة الله بقوله تعالى [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين]( ) ومع أن الذين كفروا يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويريدون قتله فقد تضمنت الآية السابقة إلقاء الرعب في قلوبهم وعلى نحو الإستقبال [سنلقي]، والذي يدل بالدلالة التضمنية على سلامتهم من القتل والهلاك لا أقل الى حين، ليكون إنذاراً ومقدمة لآية البحث التي تفيد حس وقتل الذين كفروا، ولكنها مقدمة للتدارك والإنابة والنجاة من الحس والقتل.
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ) .
وفيه وجوه :
الأول : يفيد الجمع بين الآيتين معنيين بينهما تباين على نحو الموجبة الجزئية ، وهما :
الأول : الثناء على المسلمين بنداء الإيمان وما فيه من الإكرام .
الثاني : تذكير المسلمين بزلل وخطأ عام إرتكبه أكثرهم يوم أحد.
ومن خصائص الإيمان تلقي المؤمنين لفضل الله حتى في حال التقصير والخطأ , وفيه ترغيب للناس بالإسلام ، فمثلاً مع حرمة لبس الحرير فقد ورد جواز لبس المسلم له في الحرب ليظهر المسلمون في حال عز ومنعة .
وجاءت آية البحث بمعجزة عامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي مخاطبة الله للمسلمين بصبغة الإيمان مع الفشل والجبن الذي ظهر على فريق منهم وحصول التنازع بينهم في التسابق إلى الغنائم ، أي أنهم لم يستولوا على تلك الغنائم ، ولو إستولوا عليها لم يكن هناك تنازع لسلامة المسلمين من الغل , وتلك آية في الضبط والعدل في الإسلام حتى في ميادين القتال , وهو لا يتعارض مع أخذ القاتل مثلاً لسلاح ومؤونة المقتول من الكفار .
قد بينت آيات القرآن أن الله عز وجل شديد العقاب وأنه سبحانه يغضب ويلعن ويطرد من رحمته الكفار , قال سبحانه [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على أن المنافقين والمشركين يعذبون في الدنيا لعطف إعداد جهنم للكافرين عليه ، بينما أخبر سبحانه بإعداد الجنة للمؤمنين ، قال الله سبحانه وتعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) .
ليدل الجمع بين الآيتين أعلاه على سلامة المؤمنين من غضب وسخط الله .
لتخبر كل من آية البحث والسياق عن مسارعة المؤمنين للجنة بالإيمان وبذل الوسع في سبيل الله ، والإحتراز من طاعة الذين كفروا ، هذا الإحتراز الذي تؤكد عليه آية السياق ، فجاءت آية البحث بالثناء على المسلمين للعصمة من طاعة الذين كفروا ، ومجئ الثواب عليها بتنجز الوعد الإلهي للمؤمنين بالنصر والغلبة .
الثاني : بيان قانون , وهو عدم ترتب الضرر على المؤمنين بسبب الفشل والتنازع والمعصية لصيغة الإيمان ودعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ].
الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين قانوناً , وهو أن الأصل مع الإيمان السلامة من الفشل والجبن والتنازع ومعصية الرسول ، لذا بادر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سن التآخي بين المؤمنين ليكون واقية من الجبن والفشل والمعصية بلحاظ أنه باب لزيادة الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وطرد للوهن والضعف والخوف عند لمعان السيوف ليكون هذا التآخي مرآة لحضور قوله تعالى في ساحة المعركة .
ومن منافعه التعاون والتآزر والإيثار بما يدفع شر الذين كفروا ويكون من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن مصاديق مضامين الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] فان تآخي وتعاون المؤمنين في حال الحرب والقتال يبعث الفزع في قلوب أعدائهم .
الرابع : معرفة أجيال المسلمين بحال طائفة من المؤمنين يوم أحد وأنهم جعلوا الغنيمة غاية ، وتركوا مواضعهم سعياً لجمعها بعد تجلي مقدمات النصر والظفر بالذين كفروا ، وهي من مصاديق صدق وعد الله الذي إبتدأت به آية البحث فصارت سبباً للفشل والجبن والخصومة .
ولولا آية البحث لأنكر أو تردد كثير من الباحثين في مسألة وقوع خلاف وخصومة ومعصية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ، بلحاظ القول بتنزيه الصحابة أو المتبادر إلى الأذهان في إخلاص المجاهدين أو لما يمليه الواجب من الثناء على المؤمنين المقاتلين في بدايات الإسلام والشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام .
فجاءت آية البحث والتوثيق مع الإخبار عن عفو الله عز وجل عن المؤمنين ، ليكون هذا البيان مقدمة ونوع سلاح في مواجهة المسلمين للكفار في واقعة الأحزاب فلقد زحف الكفار بثلاثة آلاف رجل في السنة الثالثة للهجرة في معركة أحد وحصل الفشل والخصومة والمعصية بين المسلمين يومئذ .
فمن باب الأولوية القطعية أن تحدث ذات الأمور عندما جاء عشرة آلاف من الكفار لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة الخندق .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا أراكم ما تحبون ) وفيه وجوه :
الأول : بيان قانون مصاحب للمؤمنين في الحياة الدنيا ، وهو أن الله عز وجل يريهم ما يحبون , ويجعلهم يحسون بما يرغبون ، ويقرب لهم البعيد ، ويحقق لهم الأماني لإختيارهم الإيمان .
الثاني : تنزه المؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الكفر والريب والشك , قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ] ( )
الثالث : جهاد المؤمنين في سبيل الله .
الرابع : تفضل الله بالوعد الكريم للمسلمين وتحقق مصداق هذا الوعد ، وهل هو من نيل الرغائب , الجواب نعم ،لأن نصر المسلمين في معركة بدر وأحد بناء لصرح الإسلام وأمن وسلامة في الدين والأبدان.
فان قلت يدل الجمع بين آية البحث والسياق على كفاية الإيمان في تحقق الرغائب للمؤمنين , والجواب هذا الجمع ليس بحجة تامة إنما هو وسيلة مباركة لإستقراء الدروس والمواعظ , أما الحجة فتكون بذات نظم الآية الكريمة , وقد نزلت آية البحث بخصوص معركة أحد لبيان أن المراد مما يحب المؤمنون هو النصر في المعركة ودحر كتائب الذين كفروا ورؤيتهم كيف يفرون ، ويُركبون النساء على الأبل هماً بالفرار وإستعداداً للهزيمة ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) لتكون الزيادة في المقام من جهات :
الأولى : تحقق النصر التام على الذين كفروا .
الثانية : رؤية المسلمين لما يحبون في حال السلم .
الثالثة : جعل الذين كفروا يرون ما يسيئهم , ويحزنهم في أنفسهم .
الرابعة : دخول الناس الإسلام جماعات وأفواجاً .
الخامسة : كثرة أيام السلم والأمن بالنسبة لأيام القتال والحرب مع المشركين .
السادسة : سرعة إنتهاء المعركة مع المشركين , وهذه السرعة من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد إنتهت معركة بدر بساعة من نهار وبانهزام المشركين .
أما معركة أحد فالأصل أن تطول المعركة من جهات :
الأولى : مجئ الذين كفروا طلباً للثأر , والإنتقام لقتلاهم يوم بدر .
الثانية : قطع الذين كفروا نحو خمسمائة كيلوا متراً من مكة إلى المدينة لإرادة القتال .
الثالثة : تهيئ الذين كفروا وإستعدادهم للمعركة .
الرابعة : كثرة مؤون وأسلحة الذين كفروا , فمثلاً جاءوا بمائتي فرس لأغراض القتال ، أي أنهم لم يركبوا ظهورها في الطريق إلى مكة كيلا ينالها التعب والإجهاد .
الخامسة : إتيان الذين كفروا بثلة من نسائهم معهم لإثارة الحماسة في نفوس الرجال منهم مع طلبهن الثأر لقتلاهن يوم بدر ، فهند زوجة أبي سفيان وإسمه صخر بن حرب بن أمية قُتل أبوها عتبة بن ربيعة وأخوها الوليد وعمها شيبة يوم بدر ، لذا بالغت بالثناء على وحشي حين قتل حمزة , وأكثرت من الشعر يومئذ .
(لما كان يوم أحد جعلت هند بنت عتبة النساء معها يجدعن أنوف المسلمين ويبقرن بطونهم ويقطعن الآذان إلا حنظلة فان أباه كان من المشركين وبقرت هند عن بطن حمزة فأخرجت كبده وجعلت تلوك كبده ثم لفظته .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ” لو دخل بطنها لم تدخل النار ” .
قيل لم يمثل بأحد ما مثل بحمزة قطعت هند كبده و جدعت أنفه و قطعت أذنيه و بقرت بطنه فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما صنع بحمزة , قال : ” لئن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم فأنزل الله عز و جل : ” وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله “( ) ) ( ).
السادسة : تهيئ المسلمين للبطش بالمشركين وتلقينهم درساً جديداً ، وهل هو من أصل الإستصحاب الذي هو دليل عقلي قبل أن يكون أصلاً , وإستحضار المسلمين لمعركة بدر وخسارة المشركين فيها ، الجواب نعم ، ولكن هذا الأصل ليس علة تامة لطلب المسلمين النصر والغلبة يوم أحد مثلما حدث يوم بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
السابعة : تحقق الغلبة للمسلمين في الجولة الأولى من القتال وتبدل الكرة وصيرورة الريح للمشركين ساعة من نهار , وسقوط القتلى من المسلمين ، والأصل فيه أن يطمع الذين كفروا بالقتال خاصة وانه قتل سبعون من المسلمين وهم عُشر الجيش وأصابت الجراحات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وتجلي فضل الله الوارد في الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]فلم يستحضروا إستعداداتهم للقتال وزحفهم وقطعهم هذه المسافة ومسألة الثأر ولم يفكروا بالخزي الذي يلحقهم عند الرجوع إلى مكة من غير تحقيق أية غاية من الغايات الخبيثة التي سيروا من أجلها ثلاثة آلاف مقاتل وأنفقوا الذهب والفضة لتسليحهم , وإطعامهم مع تعطيل التجارات والأعمال .
الثاني : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الهداية والإيمان والتوفيق للتسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من تقدير آية السياق على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أشكروا الله على نعمة الإيمان .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بالله أطيعوا الله ورسوله ، وفيها واقية من طاعة الذين كفروا .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا إياكم والإرتداد فقد أخبرت آية السياق عن كون طاعة الذين كفروا علة للإرتداد ، وهل هي علة محصورة ، يختص الإرتداد بها .
الجواب لا ، إنما ذكرت طاعة الذين كفروا والتحذير منها ، لأنها مسألة إبتلائية ، ولا يختص هذا الإبتلاء بأيام الإسلام الأولى ، وإختلاط المهاجرين والأنصار مع اليهود في المدينة بل هو دائم ومتجدد وإن كان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً فقد يكون في زمان أو مكان أشد وأخر أخف وطأة وإلحاحاً .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا والله ذو فضل على المؤمنين) وفيه وجوه :
الأول : تحتمل الصلة بين النداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] في أول آية السياق ، وبين نعت [الْمُؤْمِنِينَ] في خاتمة آية البحث وجوهاً :
أولاً : نسبة العموم والخصوص المطلق , وهو على شعبتين بينهما تباين :
الأولى : الذين آمنوا أعم وأكثر من المؤمنين .
الثانية : المؤمنون هم الأكثر والأعم من الذين آمنوا .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين لفظ الذين آمنوا ولفظ المؤمنين .
ثالثاً : نسبة التساوي , وأن الذين آمنوا هم أنفسهم المؤمنون ، ليس من فرق وتباين بينهم في العدد والموضوع .
والمختار هو الشعبة الأولى من أولاً أعلاه، وهو من إعجاز القرآن ببيان أن الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونطقوا بالشهادتين هم مسلمون .
وبين الإسلام والإيمان ذات النسبة , وهي العموم والخصوص المطلق ، وكل مؤمن هو مسلم وليس العكس ، وقد تقدم البيان .
وفي هذه النسبة نكتة وهي تغشي فضل الله على المؤمنين جميع المسلمين والمسلمات ، بما فيه صلاحهم ودفع الضرر عنهم ، لذا جاء الخطاب في قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )عاماً للمسلمين في السلم والحرب إذ أن تتمة الآية أعلاه هي [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] ( )ويدل العطف في الآية أعلاه على شمول الآية الكريمة لحال المسلمين في السلم والحرب ، وفيه بيان لموضوعية ولاية الله لهم ، ومضامين الآية السابقة بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من قريش ونحوهم .
الثاني : من فضل الله عز وجل على المسلمين وإكرامهم بالنداء التشريفي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وما فيه من معاني الشهادة لهم من عند الله ، وفيه ترغيب للناس بالإيمان وحث على نبذ مفاهيم الكفر والضلالة .
الثالث : من معاني الجمع بين الآيتين إخبار الله للمسلمين عن قانون يتغشى المؤمنين .
وهذا الإخبار وإن كان خاصاً بالمسلمين إلا أن الناس فيه شرع سواء ، وهو من اسرار بلوغ آيات القرآن للناس جميعاً ، ومن دلالات قراءة المسلمين لسور وآيات القرآن في الصلاة الواجبة والمندوبة وعلى نحو عدة مرات في اليوم من قبل كل مسلم ومسلمة .
الصلة بين [يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] وهذه الآية
وفيها مسائل :
الأولى : من إعجاز القرآن ومعاني الرحمة والرأفة فيه بالمسلمين مجئ آية البحث بصيغة الماضي الجامع لأمرين , وهما :
الأول : الوعد الإلهي .
الثاني : إمضاء وتنجز الوعد الإلهي .
فلم تقل آية البحث : يصدقكم الله وعده ، أو سيعدكم الله ويصدقكم وعده ، إنما جاءت الآية بتحقق مصداق الوعد بذات القتل والحس للذين كفروا وما يترشح عنه ، بينما وردت آية السياق بالتخويف من الإرتداد بصيغة المضارع , ولغة الشرط [يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ].
فهل من مصاديق هذا الرد الإنكسار والهزيمة في المعركة والفشل والتنازع والمعصية التي تذكرها آية البحث ، الجواب لا ، لأن القدر المتيقن في الإرتداد في الآية أعلاه هو تسرب الشك إلى النفوس ونقصان الإيمان والنكوص عن أداء الواجبات العبادية ، ويفسر القرآن بعضه بعضاً , قال سبحانه [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ) لبيان أن النسبة بين الإرتداد على الأعقاب في الآية أعلاه وآية البحث هو العموم والخصوص المطلق , فلم تقيده الآية اعلاه بطاعة الذين كفروا .
ومن إعجاز القرآن إجتماع موضوعية الإيمان والنهي عن أسباب الإرتداد في الزمان والمكان المتحدين ، وإستدامة هذا النهي وبقائه إلى يوم القيامة مع تجلي معانيه ومنافعه في أيام التنزيل , وفي سبب نزول قوله تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ]( ) (عن ابن عباس قال : لما أمر الله عزّ وجل المؤمنين بالهجرة وكانت قبل فتح مكة،
من آمن ولم يكتمل إيمانه إلاّ بمجانبة الآباء والأقرباء إنْ كانوا كفاراً،
فقال المسلمون : يا نبي الله إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وخُربت دارنا، فأنزل الله هذه الآية) ( ).
وهل يمكن تقدير الجمع بين الآيتين : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون يردوكم على أعقابكم ) الجواب لا ، من وجوه :
الأول : عجز الذين كفروا عن السلطان والأثر ، لقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
الثاني : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب والفزع ، فلا قدرة لهم على رد المسلمين على أعقابهم .
الثالث : بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين بإلقاء الرعب في نفوس الذين كفروا .
الرابع : زيادة إيمان المسلمين بلحاظ آية البحث من جهات :
الأولى : تفضل الله بالوعد للمسلمين تقريب إلى منازل التقوى وسبب للصلاح .
الثانية : تنجز الوعد الإلهي من عند الله للمسلمين في ساعة الضنك وشدة بأس العدو الكافر آية تدعو إلى اليقين وحسن التوكل على الله ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ).
الثالثة : تفضل الله عز وجل بمخاطبة المسلمين بصيغة العموم المجموعي في التنزيل , وهو من مصاديق الهداية وسبل الرشاد.
الرابعة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار اللطف والتقريب إلى الهدى والإيمان ، ويتجلى بتنزه المسلمين عن النفاق وعدم وقوفهم عند مراتب الإسلام ، بل إختاروا الإيمان وأتبعوا سننه فتفضل الله عز وجل وجعلهم يحسون الذين كفروا ويكثرون فيهم القتل والجراحات ، مع أن رجحان الكفة والحساب للذين كفروا من وجوه :
الأول : إختيار الذين كفروا القتال وإعدادهم له ، والمناجاة بينهم بالنصر وإرادة الغلبة .
الثاني : كثرة أسلحة وخيل ومؤونة الذين كفروا ، إذ كانت قريش بحال غنى وثراء .
الثالث : عدم دخول قريش معارك وقتالاً , وما يسبب الإنهاك وخسارة الرجال وكثرة الجراحات قبل معركة بدر ، إذ كانت العرب تهابهم وتكرمهم لجوارهم البيت الحرام ، فان قلت إن إشتغالهم بالتجارة سبب لترفهم وعدم قدرتهم على القتال .
الجواب هذا صحيح ، وهو من فضل الله عز جل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لإقامة دولة الإسلام ، ولكن كفار قريش إلتفتوا إلى هذا الأمر وتداركوه في معركة أحد فندبوا القبائل والأحابيش للخروج معهم للقتال إلى جانب العبيد والغلمان ، كما في واقعة وحشي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي بقذفه بحربه وكيفية لم يعهدها العرب ، وكان وحشي غلاماً لجبير بن مطعم الذي هو من حلماء قريش وعالم بأنساب قريش وقبائل العرب ويتصل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجد الثالث فهو جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي .
وقد أتى النبي بعد معركة بدر فكلمه في أسارى بدر ، وروى عنه إبنه محمد أنه قال (أتيت النبي صلى الله عليه وآله و سلم لأكلمه في أسارى بدر فوافقته وهو يصلي بأصحابه المغرب أو العشاء فسمعته وهو يقرأ وقد خرج صوته من المسجد ” إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع “( ) .
وبعض أصحاب الزهري يقول عنه في هذا الخبر فسمعته يقرأ : ” أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون، فكاد قلبي يطير فلما فرغ من صلاته كلمته في أسارى بدر , فقال : لو كان الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم شفعناه “
وقال بعضهم فيه : ” لو أن أباك كان حيا أو لو أن المطعم بن عدي كان حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له) ( ) .
ولكن لو كاد قلبه يطير عندما سمع القرآن فلماذا إجتهد في الإنتقام من النبي وأهل بيته وأغرى وحشي بقتلهم , ولم يسلم إلا يوم فتح مكة وولاه عمر على الكوفة ثم عزله قبل أن يخرج إليها ، وتوفي جبير بن مطعم سنة ثمان وخمسين للهجرة ، وقد تقدمت كيفية قتل وحشي لحمزة بن عبد المطلب ( ).
أما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو أن أباك حياً..) لأن أباه أجار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من الطائف، وكان ممن شارك في تمزيق صحيفة حصار بني هاشم.
الرابع : كانت أمور المسلمين مكشوفة وظاهرة من جهة عددهم في المدينة وقلة أسلحتهم وما عندهم من الخيل أو الإبل وحتى عدد السيوف إذ كان الطريق مفتوحاً بين المدينة ومكة والناس تتنقل بينهما ، وكان أهل المدينة على أقسام :
أولاً : المؤمنون .
ثانياً : اليهود .
ثالثاً : المنافقون .
رابعاً: الكفار .
فما يحصل لقريش من أنباء عن المسلمين يغري رؤساء الكفار بهم ولم يعلموا أن الله عز وجل مولى المسلمين وأنه [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ).
وحتى أمر الولاية أيضاً مكشوف للناس جميعاً بلحاظ تناقل الركبان لآيات القرآن ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ، ونظم آياته ، فبعد آية الولاية أعلاه جاء قوله تعالى [ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] لبيان أن تلاوة آية الولاية وسماع الذين كفروا لها سبب في قذف الرعب والفزع في قلوبهم .
وهل هذا الكشف إستدراج للذين كفروا الجواب نعم ، وفيه أيضاً دعوة لهم للإسلام ، وإنذار لهم من الزحف على المدينة للقتال ، ولكنهم أصروا على الكفر ولجوا في المناجاة بالقتال وغاب عنهم الحلم وأسباب الحكمة .
فجاءت آية البحث بعدد من المعجزات والدروس والمواعظ للمسلمين لتنهل منها أجيالهم المتعاقبة وتتدبر في مضامينها ودلالاتها ، وتبقى معاني الحجة قائمة على الذين كفروا وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ] ( ) بتقريب إنعدام الناصر لهم في الدنيا في حياتهم وبعد موتهم ، وفي كل زمان ، فاذا تحقق العلماء من الإختصاصات المختلفة كعلم الكلام وعلم التأريخ والأديان يتضح لهم أن كفار قريش كانوا على خطأ وضلال وإصرار على الظلم والتعدي .
إعجاز الآية الذاتي
إبتدأت الآية السابقة بصيغة المضارع والإستقبال (سنلقي) في إنذار للذين كفروا لا يخلو من معاني الرحمة بهم في الدنيا التي جعلها الله عز وجل(دار الرحمة) أما آية البحث فابتدأت فتوجهت بالخطاب إلى الذين آمنوا وبصيغة المدح والثناء , وتنجز الوعد بقوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] وهو من أسمى معاني الرحمة في الحياة الدنيا من جهات:
الأولى : توجه الخطاب للذين آمنوا بالبشارة وتحقق الوعد بدليل عطف الآية على قوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفيه نكتة وهي أن النسبة بين الذين آمنوا وبين الذين حضروا معركة أحد منهم عموم وخصوص مطلق، ولم يخرج كل المسلمين إلى معركة أحد، فقد تخلف أولوا الأعذار وغيرهم وورد البيان في قوله تعالى[لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
وفيه بلحاظ آية البحث وجوه:
أولاً : إختصاص المجاهدين بالبشارة وتنجز الوعد بالنصر.
ثانياً : لا يختص المجاهدون إلا بتنجز الوعد، أما البشارة بأن الله قد وعد المسلمين بالنصر، فهو عام شامل للمجاهدين وغيرهم من المسلمين.
ثالثاً : شمول البشارة والوعد وتنجزه بالنصر في الميدان لعموم المسلمين، والمختار هو الأخير، فيشمل الوعد وتنجزه المسلمين والمسلمات عموماً، بدليل عطف آية البحث على لفظ[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
وتقدير الجمع بين الآيتين ودلالات العطف بينهما يا أيها الذين آمنوا لقد صدقكم الله وعده) ولا دليل على التفكيك بين الوعد وتحققه بخصوص جهة الخطاب ويكون العموم فيها من مصاديق[وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى]( )، وهو لا يتعارض مع التفضيل في الآية، وعظيم ثواب المجاهدين، وإذا كان خطاب (الذين آمنوا) في القرآن يشمل المنافقين والمنافقات فهل يشملهم الوعد بالنصر أم أنهم خارجون بالتخصيص .
المختار هو الثاني، فصحيح أنه مشمولون بالخطاب في التكاليف كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، ولكنه لايشملهم الوعد الخاص بخصال الإيمان.
وقد رجع المنافقون وسط الطريق إلى أحد، ومجموع الذين رجعوا نحو ثلث جيش المسلمين إذ حرضهم على عدم مواصلة السير إلى معركة أحد عبد الله بن أبي سلول.
قال ابن إسحاق: حَتّى إذَا كَانُوا بِالشّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ ، انْخَزَلَ عَنْهُ( ) عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابن سَلُولَ بِثُلُثِ النّاسِ وَقَالَ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ وَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ يَا قَوْمِ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ أَلّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيّكُمْ عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ عَدُوّهِمْ فَقَالُوا : لَوْ نَعْلَمُ أَنّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ وَلَكِنّا لَا نَرَى أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ . قَالَ فَلَمّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ قَالَ أَبْعَدَكُمْ اللّهُ أَعْدَاءَ اللّهِ فَسَيُغْنِي اللّهُ عَنْكُمْ نَبِيّهُ( ).
وقال الزجاج : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أُحد وقت القتال ثلاثة آلاف، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أُحد وقد وعد أصحابه الفتح إن صبروا، فلما بلغوا الشوط انخزل عبد الله بن أُبيّ الخزرجي ثلث الناس فرجع في ثلاثمائة ، وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال : أُنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم.
فقال عبد الله بن أُبي : لو نعلم قتالا لاتّبعناكم. وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( ).
ويدل في معناه على أن عددهم أربعة آلاف، وأن رأس النفاق عبد الله بن أبي رجع بألف من المسلمين وهو أمر بعيد، كما يفيد أن عدد المقاتلين المسلمين بقدر عدد المشركين، بينما كان المسلمون نحو ثلث أفراد جيش الذين كفروا.
والقول بأن جيش المسلمين يوم أحد ثلاثة آلاف خلاف المشهور والمستفيض الوارد بخصوص مجموع عدد المسلمين وما ذهب اليه الثعلبي أعلاه من همّ بني سلمة وبني حارثة بالإنصراف خلاف الظاهر، إذ أن المراد أنهم همّوا بالفشل والجبن أثناء القتال.
الثانية : تتضمن آية البحث أموراً:
الأول : تأكيد الوعد الإلهي للمسلمين.
الثاني : البشارة بتنجز الوعد الإلهي.
الثالث : تنجز وتحقق الوعد الإلهي.
الرابع : التذكير والتوثيق للأمور الثلاثة أعلاه، وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على تعدد وتوالي وإجتماع النعم، فمن فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً أن النعمة اللاحقة لاتنسخ النعمة السابقة، بل تجتمع معها وتكون في طولها، ولا تغادر بعض النعم إن جاءت نعمة أخرى وإن كانت في ذات الموضوع فان قلت تنسخ الآية آية أخرى والجواب إنه قياس مع الفارق لأن المراد من عدم نسخ النعم هو النعم
المادية المحسوسة والتي تخص الحياة الدنيا والآخرة، وحتى نسخ القرآن فانه يشمل آيات معدودات كما أن الآية المنسوخة باقية بين الدفتين حتى يوم القيامة، ولم تغادر المسلمين، ويقومون بتلاوتها في الليل والنهار.
الثالثة : تفضل الله بتنجز وتحقق وعده للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين رحمة بالناس جميعاً لأنه تثبيت لمعالم الهداية في الأرض، وإصلاح للناس، ودفع لأسباب الفساد في الأرض، فعندما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض، أجابهم الله عز وجل بقوله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فمن علمه تعالى تفضله بالوعد للأنبياء وإنجاز هذا الوعد، ويتصف الوعد الذي تذكره آية البحث بالتجدد والدوام في موضوعه ومصداقه بما يجذب الناس إلى مقامات الرشاد، ويبعث في نفوسهم الشوق لأداء الفرائض والعبادات.
ويمكن تسمية آية البحث آية (ولقد صدقكم الله وعده) ولم يرد لفظ صدقكم في القرآن إلا في آية البحث.
إعجاز الآية الغيري
يمكن تقسيم الوعد الإلهي للمسلمين إلى قسمين:
الأول : الوعد الإلهي بخصوص الدنيا، كالأمن والنصر على الذين كفروا، والنجاة من كيدهم.
الثاني : الوعد الإلهي بخصوص الآخرة، ويبدأ من عالم البرزخ ويشمل مواطن يوم القيامة، كالنشور، والحوض والحساب، والميزان والصراط.
وكل قسم من هذين القسمين علم مستقل بذاته، تستقرأ أبوابه ومسائله من الكتاب والسنة.
وأيهما أكثر وأعظم وعداً في القرآن، الجواب هو الثاني، إذ جاءت البشارات بالجنة لأن الآخرة دار القرار، وليس للحياة فيها منتهى، قال سبحانه[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( )، وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عجباً كل العجب للمصدق بدار الحيوان ، وهو يسعى لدار الغرور( ).
ومن الإعجاز في القرآن دلالة الوعد في الدنيا على الوعد في لآخرة، ولقد إبتدأت آية البحث بالوعد في الدنيا لتختتم بما يشمل المعنى الأعم الشامل للوعد في الدنيا والآخرة، بقوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] وفيه نكتة بلحاظ التقسيم أعلاه من جهات:
الأولى : الوعد في الدنيا مقدمة للوعد في الآخرة.
الثانية : مجئ الوعد من الله عز وجل للمسلمين في الدنيا تزكية لهم ، وشهادة لهم في الآخرة.
الثالثة : من رشحات الوعد من الله بخصوص الدنيا التهيئ والإستعداد للآخرة.
الرابعة : عمل المسلمين للآخرة سبب لفوزهم بالوعد من الله بخصوص الدنيا، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وليس من حصر لإعجاز الآية الغيري من جهة:
الأول : موضوع الآية: وهو وعد الله، وتجدد مصاديقه في كل زمان.
الثاني : صلاح نفوس المسلمين، وتنزه فريق من المنافقين من النفاق بالتوبة والإنابة لرؤية البينات الباهرات.
الثالث : حرص المؤمنين على إجتناب الفشل والجبن والتنازع.
الرابع : إدراك المسلمين لقانون دائم وهو أن معصية الرسول تجلب الأذى والضرر والذم، ليكون من إعجاز الآية تأديب ورشاد المسلمين.
الخامس : بعث المسلمين للمناجاة بينهم بجعل غايتهم هي الآخرة، وحسن الإقامة فيها، والتنزه عن إرادة الدنيا.
السادس : من إعجاز الآية الغيري بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين لإخبار الآية بأن الله عفا عنهم، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن لأهل ذكر الله أربعاً . ينزل عليهم السكينة ، وتغشاهم الرحمة ، وتحف بهم الملائكة ، ويذكرهم الرب في ملأ عنده ( ).
السابع : حث المسلمين على الدعاء والمسألة للنهل من فضل الله لإختتام آية البحث بقوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ].
ولا يعلم طول الزمان والإحقاب التي تحتاج فيها المسلمون إذن الله عز وجل يوم أحد للمؤمنين بحس وقتل الذين كفروا لما فيه من التوثيق السماوي بأن الذي أصاب الكفار بأيدي المسلمين كان بأذن وأمر من عند الله عز وجل ليكون فيه بناء لصرح الإسلام ، لقد أسس هذا الإذن لقانون التوقي والأمن من تعدي وهجوم جيوش الذين كفروا ، فلا يستطيعون منع إقامة الشعائر والفرائض ، ولا تلاوة القرآن والعمل بأحكامه لحضور الوعد الإلهي وتنجزه بدفع أذاهم ، وصرفهم عند إشتداد الأذى على المسلمين .
ومن إعجاز الآية إصلاح نفوس المسلمين بالتنزه عن جعل الغنائم وجمع الأموال هي الغاية في العمل الإيماني ، وبيان قانون وهو أن حب الدنيا وزينتها سبب لجلب الخسارة والضرر ، لذا فمن معاني قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( )بيان أن الرزق من عند الله وأنه سبحانه يؤتي المسلمين الدنيا بسعيهم إلى الأخرة ، وأن الإخلاص في القتال في معركة أحد ولتحقيق النصر وجلب الغنائم ووقوع الأسرى من الكفار بأيدي المسلمين ليكون من معاني خاتمة آية البحث أنها من مصاديق بدايتها وأولها وأن قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( )وعد من عند الله للمسلمين كما أن أول آية البحث من مصاديق خاتمتها بلحاظ أن كلاً من الوعد الإلهي وتنجزه مصداق لفضل الله عز وجل .
الآية سلاح
لم تشهد دعوة نبوة العداوة التي لاقتها نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت هذه العداوة بالسيف والجدال وإثارة أسباب الريب والكراهية والحصار الإقتصادي وقبيح القول لذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ) .
وهل يختص هذا الأذى بشخص النبي وأيام التنزيل أم يشمل أهل بيته وأصحابه والمؤمنين في الأزمنة اللاحقة , الجواب هو الثاني.
وتجلى هذا الأذى بزحف جيوش قريش وحلفائها إلى المدينة المنورة لإرادة قتل النبي ، ولم تقف هذه الإرادة عند النية والعزم والهم بالفعل بل زاولوا القتال والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط المعركة ، وعلى فرض أنه لم يخرج للقتال وقام بأرسال الجيش وتعيين الأمراء عليه ، فهل يكتفي كفار قريش بما يحققون في المعركة أم يطلبون شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم , إذ يتمثل فيه أمور :
الأول : الرسالة ، فهو الرسول من عند الله إلى الناس جميعاً .
الثاني : النبوة والوحي .
الثالث : التنزيل ، قال تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ] ( ) .
فجمعت الآية أعلاه معاني النبوة والرسالة والتنزيل ولزوم التصديق بها مجتمعة ومتفرقة .
الرابع : إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وحال الحرب والسلم .
الخامس : أراد الكفار منع توالي شذرات ودرر السنة النبوية التي يشع ضياؤها على الأجيال المتعاقبة ، فاذا كانت الشمس تطل على البلدان المختلفة في ساعات النهار دون الليل ، فان القرآن والسنة يطلان على أهل الأرض وعلى القلوب المنكسرة في الليل والنهار .
السادس : جاء الكفار لمحاربة الصلاة والصوم وأداء الفرائض [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( )فنزلت آية البحث لإبطال سحر قريش ورد كيدهم إلى نحورهم .
إذ لا تتعارض إرادة الخلائق مع مشيئة وإرادة الله عز وجل، ووقع الكفار في مهلكة بعدم إدراكهم لهذا القانون ، وعدم التسليم به إستكباراً فقال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] فخاب كيد الكفار وبطل سعيهم ليزيد الله في قوة الإسلام ، ويكتب لكل فرد من المؤمنين في معركة أحد عمراً جديداً يتجلى فيه عمل الصالحات وإدخار الحسنات .
مفهوم الآية
إبتدأت آية البحث ببيان فضل الله عز وجل على المسلمين وصدق وعده لهم ، وهل فيه ثناء على الله الجواب نعم ، إذ تدل الآية في مفهومها على مدح الله عز وجل لنفسه وثنائه عليها ، فلا يستطيع أحد صدق الوعد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلا الله من جهات :
الأولى : الأمن والسلامة من بطش قريش مع كثرة عددهم يوم أحد وطلبهم الثأر لقتلاهم وإذلالهم في معركة بدر ولم يتعظوا من قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) إذ يدل بالدلالة الإلتزامية على نصر المسلمين أو لا أقل عدم هزيمتهم يوم أحد ، وكان حال المسلمين يوم أحد أحسن مما كانوا عليه يوم بدر لتخلصهم من حال الذل التي كانت تصاحبهم ساعة القتال يوم بدر , ليكون وفق القياس الإقتراني هو :
الكبرى : إنتصر المسلمون يوم بدر وهم أذلة .
الصغرى : يدخل المسلمون معركة أحد وهم أعزة .
النتيجة : ينتصر المسلمون في معركة أحد بالأولوية القطعية .
الثانية : رجوع قريش خائبين عاجزين عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الأمر الذي كانوا يتوعدون به ، ويمنون به أنفسهم ويتخذونه بلغة خبيثة لتحريض أهل مكة وما حولها معهم في قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا غرابة أن يشيع قول (قُتل محمد ) في معسكر الذين كفروا يوم أحد ليحققوا به غايات منها :
الثالث : عدم ترتب الضرر الشديد على الفشل الذي أصاب المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ]
وفي قوله تعالى { وَمَا مُحَمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ } ورد أَيْ لِقَوْلِ النّاسِ قُتِلَ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَانْهِزَامُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَانْصِرَافُهُمْ عَنْ عَدُوّهِمْ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ رَجَعْتُمْ عَنْ دِينِكُمْ كُفّارًا كَمَا كُنْتُمْ وَتَرَكْتُمْ جِهَادَ عَدُوّكُمْ وَكِتَابَ اللّهِ . وَمَا خَلّفَ نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ دِينِهِ مَعَكُمْ وَعِنْدَكُمْ وَقَدْ بَيّنَ لَكُمْ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ عَنّي أَنّهُ مَيّتٌ وَمُفَارِقُكُمْ)( ).
ولكن معنى الآية أعلاه أعم إذ أنها تتعلق بحال ما بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى , وجاءت بصيغة الجملة الشرطية ، أما في واقعة أحد فقد حصل فشل وليس هزيمة وعلى نحو الحدوث ووقوع الفشل والجبن .
وهل أراد المشركون بإشاعة ونداء (قتل محمد) إمضاء وتقرير إنخزال ثلث جيش المسلمين في الطريق إلى أحد بأمر وتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول ، الجواب لا دليل على الملازمة بين الأمرين ، وليس من أمارة أو قرينة تشير إلى الإتفاق بين رؤوس النفاق في المدينة وبين مشركي قريش ومن والاهم بعودة ثلث الجيش وسط الطريق ، وإن كانت هذه العودة والرجوع أشد ما واجه جيش في التأريخ ، لأنه سبب لإلقاء اليأس والحسرة والخوف في قلوب الذين ذهبوا إلى القتال ولم يرجعوا ودبيب الشك والريب في قلوب بعضهم لوجود برزخ وطائفة متذبذبة مع الذين أصروا على الذهاب إلى القتال ، فجاء المدد الإلهي للمسلمين بلحاظ هذه الآيات من وجوه :
الأول : ولاية الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، قال تعالى [نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] ( ).
الثاني : نصرة الله عز وجل للنبي محمد والمسلمين .
الثالث : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا برؤيتهم لجيش المسلمين وكأنه أضعاف عددهم ، وهو من مصاديق الآية السابقة ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
لتفيد الآية أعلاه الإطلاق , ومن الإعجاز فيها أنها نزلت في ذات معركة أحد إذ إنسحب المنافقون في الطريق إلى المعركة ولم يعلموا أن الله يصدق وعده لرسوله بالأمن والسلامة والنصر، ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب وإن إنخزل ثلث الجيش من المعركة .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب تبكيتاً للمنافقين .
الثالث : بعث الحسرة في قلوب المنافقين بأن نلقي في قلوب الذين كفروا الرعب.
الرابع : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب رجاء توبة الذين نافقوا، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف , وإذا اؤتمن خان) ( ).
لتتجلى هذه الخصال المذمومة بفعل رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول يوم أحد إذ إدعى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أطاعهم وعصاه أي أطاع الذين سألوا الخروج لقتال العدو ، والحق أن النبي لم يطعهم إنما إستمع لقولهم وقوله ، ثم قرر الخروج بأمر ومشيئة من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ).
وأخرج الحاكم عن الحباب بن المنذر قال « أشرت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر بخصلتين فقبلهما مني . خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعسكر خلف الماء ، فقلت يا رسول الله أبوحي فعلت أو برأي ؟ قال : برأي يا حباب . قلت : فإن الرأي أن تجعل الماء خلفك ، فإن لجأت لجأت إليه ، فقبل ذلك مني . قال : ونزل جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أي الأمرين أحب إليك تكون في دنياك مع أصحابك ، أو ترد على ربك فيما وعدك من جنات النعيم؟ فاستشار أصحابه .
فقالوا : يا رسول الله تكون معنا أحب إلينا ، وتخبرنا بعورات عدونا ، وتدعو الله لينصرنا عليهم وتخبرنا من خبر السماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما لك لا تتكلم يا حباب! فقلت : يا رسول الله اختر حيث اختار لك ربك . فقبل ذلك مني) ( ).
فقول رأس النفاق (أطاعهم وعصاني ) لا أصل له وكذب , لذا لم ينصت له المؤمنون ثم أصر على الكذب حتى قام بعض الصحابة بتحذير وزجر المنافقين عن العودة إذ (اتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضرهم عدوهم . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكن لا نرى أن يكون قتال) ( ).
ولم ينحصر كذب المنافقين بالقول خلاف الواقع ونقيض الصدق بل إتخذوا من الوهم والزيف والباطل عذراً واهياً ، إذ إدعوا بأنه لن يكون هناك قتال كما في ورد في التنزيل [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ).
وأيهما أكثر نفعاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام بقاء ثلث الجيش المنخزل معهم ودخوله المعركة ، أم قوله تعالى في الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] .
الجواب هو الثاني فهذا الرعب أعظم وأشد من الجيش العرمرم ، وهو آية في العالمين ، يبقى نفعه وأثره إلى ما بعد المعركة، وقد يكون نفعه بعد المعركة أكثر وأعظم من نفعه أثناء المعركة.
ويحتمل الرعب الذي ألقاه الله في قلوب الذين كفروا من جهة إستدامته أو إنقطاعه وجوهاً:
الأول : إنقطاع الرعب بموت الكفار الذين إشتركوا في معركة أحد لأن الآية تذكر القلوب على نحو الخصوص.
الثاني : توقف الرعب بانتهاء المعركة , فحالما يغادر الذين كفروا المعركة حتى يشعروا بزوال هذا الخوف والرعب لتحل بدله الخيبة كما في قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الثالث : إستدامة الرعب وتوارث الذين كفروا له .
والمختار هو الثالث وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على أن القرآن يبقى إلى يوم القيامة برسمه ولفظه ومصاديقه في الخارج والشواهد التي تدل عليه ، وهل ذات الرعب الذي غزا قلوب الذين كفروا يوم أحد هو نفسه الذي يتوارثه الكفار أم إنها مصاديق جديدة منه .
الجواب لا تعارض بين الأمرين ، وكل منهما من مصاديق آية البحث ويحتمل الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا وجوهاً :
الأول : إنه من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة في قلوب الذين كفروا .
الثاني : إنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة بين الكفار ، بلحاظ كفرهم وشدة عدائهم للنبوة والإسلام.
الثالث : التباين في مراتب الرعب عند إجتماع الذين كفروا أو تفرقهم وفي ساحة المعركة وخارجها , وحتى في ساحة المعركة فان الرعب متباين في درجته من جهات :
الأولى : عند بدأ القتال .
الثانية : عند إشتداد القتال لذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الآن حمي الوطيس ) ليكون من معانيه بلحاظ آية البحث التطلع إلى وعد الله بالنصر بلحاظ آية السياق رجاء إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب .
الثالثة : عندما يكون النصر للمسلمين .
الرابعة : عندما تكون الجولة والريح للذين كفروا .
فجاءت آية البحث مطلقة في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مع بيانها لعلة هذا الإلقاء وهو إشراكهم بالله مما يدل على أن موضوعية وأثر الرعب أعم من ساحة المعركة وحال القتال ، نعم في المعركة يكون أبين وأجلى وأوضح وهو من أسرار قوله تعالى في الآية السابقة [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] لبيان الملازمة بين الشرك والرعب، ويحتمل لفظ [وَعْدَهُ]في آية البحث وجوهاً:
الأول : المراد العهد وفرد مخصوص من وعد الله .
الثاني : إرادة الجنس ، والمقصود أفراد وعد الله عز وجل على نحو الإطلاق والكثرة .
الثالث : المراد الوعد الإلهي بخصوص موضوع وفرد معين .
وليس من تعارض بين هذه الوجوه لقانون صدق كلام الله وحبه للمؤمنين وتوالي فضله عليهم ، قال تعالى [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً] ( ) فحتى لو كان الوعد في آية البحث خاصاً وقضية شخصية فان الآية تشير إلى كثرة وتعدد أفراد وعد الله عز وجل للمؤمنين وحبه لهم ، وفيها ترغيب باتيان أوامره وإجتناب نواهيه للفوز بالنصر والغلبة على القوم الكافرين .
إن إضافة الوعد إلى الله عز وجل وذكره في سياق تنجزه وتحقق مصداقه شاهد على علم المسلمين به ، وإذا كان الخطاب في الآية موجهاً للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة بلحاظ أنها معطوفة على قول [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] فلابد أن أجيال المسلمين يعلمون بهذا الوعد نصاً ومضموناً , ويحتمل مصدر وجهة هذا العلم وجوهاً :
الأول : ورود الوعد في القرآن الكريم .
الثاني : مجيء هذا الوعد في السنة النبوية ، وهو على شعبتين :
الأولى : السنة القولية وإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الوعد الإلهي .
الثانية : رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام .
الثالث : مجئ الوعد الإلهي في القرآن والسنة النبوية القولية .
الرابع : مجئ الوعد في رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار هو الثالث ، وأن الله عز وجل وعد رسوله بالنصر والغلبة ، وجاءت السنة النبوية مرآة وتفسيراً للقرآن وصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رؤيا بخصوص معركة أحد , ويمكن إحتسابها من أفراد الوعد الإلهي المذكور في آية البحث ،لأن رؤيا النبي وحي.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى رؤيا ليلة جمعة أي قبل معركة أحد بليلتين رؤيا فأخبر بها المسلمين قال (إنّي قَدْ رَأَيْت وَاَللّهِ خَيْرًا ، رَأَيْت بَقَرًا ، وَرَأَيْت فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثُلْمًا ، وَرَأَيْت أَنّي أَدْخَلْت يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوّلْتهَا , الْمَدِينَةَ قَالَ ابن هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : قَالَ رَأَيْت بَقَرًا لِي تُذْبَحُ ، قَالَ فَأَمّا الْبَقَرُ فَهِيَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي يُقْتَلُونَ وَأَمّا الثّلْمُ الّذِي رَأَيْت فِي ذُبَابِ سَيْفِي ، فَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُقْتَلُ) ( ).
ترى لماذا لم تقل الآية (ولقد صدقكم ربكم وعده) الجواب جاء نظم الآيات بذكر لفظ الجلالة (الله) إذ ورد في الآية السابقة[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( )، وورد في الآية التي قبلها [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]، كما ورد لفظ الجلالة مرتين في آية البحث، وورد مرة واحدة في الآية التالية، وأربع مرات في الآية التي بعدها.
ومن أسرار ورود لفظ الجلالة في آية البحث أن وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين من ربوبية المطلقة للسموات والأرض.
الآية لطف
تبين الآية سنخية الصلة بين الخالق وعباده المؤمنين، بين الله الذي له القوة جميعاً والقدرة المطلقة في الموجودات والمعدومات لقوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) لتدل الآية أعلاه على أنه ليس من مانع أو برزخ دون أمر الله عز وجل ، وبينها وبين آية البحث عموم وخصوص مطلق , فمن أمر الله عز وجل في آية البحث وجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل بالوعد الكريم للمسلمين وهذا الوعد نعمة وفضل من عند الله ، وشاهد على الملازمة بين الإيمان والوعد من عند الله .
الثاني : تحقق مصداق الوعد الإلهي ، من غير مانع أو حاجز دون تحقيقه .
الثالث : ليس من لوم أو ذم إو إحتجاج على تنجز الوعد الإلهي للمؤمنين ، فلا تقول طائفة أو فرقة من الناس لماذا لم يأتنا مثل هذا الوعد .
الرابع : بيان فضل الله في الإذن والأمر من عنده تعالى بحس وقتل الذين كفروا، لبيان حقيقة لأجيال الناس بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بالسيف، ولم ينتشر دين الإسلام بالسيف وإن قام المؤمنون بقتل الذين كفروا لأن هذا القتل بإذن الله ومشيئته وأن الذين كفروا هم الذين إعتدوا وزحفوا إلى المدينة وأرادوا بزحفهم أموراً:
أولاً : القتال وتلاقي الصفوف.
ثانياً : إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً : قتل الأنصار.
رابعاً : إستباحة المدينة.
خامساً : قتل أو أسر أهل البيت وعموم المهاجرين، وسوقهم أذلة إلى مكة.
ولم يعلم الكفار أن آية بدر نفت عن المسلمين الذلة إلى يوم القيامة بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ). وهل من الذلة التي تنفيها الآية أعلاه إشاعة القتل بالصحابة أو إستباحة المدينة ليكون من وجوه تقدير آية البحث : إذ تحسونهم بإذنه لدفع الذل عنكم ) الجواب نعم .
إفاضات الآية
آية البحث نعمة عظمى على المسلمين يوم وأوان نزولها إذ أنها نصر للمسلمين من جهات :
الأولى : في الآية أمن من شدة وطأة معركة أحد وهول خسارة سبعين من أهل البيت والصحابة ، ولو كان معنى آية البحث مردداً بين المدد والمواساة ، فالآية مدد وعون للمسلمين , وتكون المواساة في طوله ومترشحه عنه، وهو من فيوضات الآية القرآنية ، فتنزل بياناً وإخباراً ولكن دلالاتها أكثر من أن تحصى ، وكل فرد منها خير محض ونفع للمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثانية : آية البحث دعوة للمسلمين للمضي في دروب الجهاد وعدم الخوف والخشية من الذين كفروا ، فليس أمام المسلمين إلا إقامة دولة الحق والهدى ، وتعاهد أداء الفرائض والعبادات ، ولكن المشركين لا يريدون سيادة مفاهيم تقوى الله في الأرض جهلاً وضلالة , وحباً للبقاء على عبادة الأوثان .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً، وهذه الحاجة ملازمة لعالم الإمكان الذي تتصف به الخلائق كلها ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل ممكن محتاج .
الصغرى : الإنسان ممكن .
النتيجة : الإنسان محتاج .
ولا تختص هذه الحاجة بجنس وطائفة من البشر كما أن تشريف وإكرام الله عز وجل للمسلمين بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) لم يخرجهم من هذه الحاجة , ولكنه بشارة قضاء الله لحاجاتهم وحضور ولايته ونصرته لهم ، وهو الذي تدل عليه آية البحث ، فقد علم الله ضعف المسلمين في ملاقاة العدو مع إخلاصهم في مسالك الإيمان ، فأخبرهم في آية البحث بالنصر المبين .
فان قلت ليس في الآية ما يدل على هذا النصر بوضوح ، الجواب إن إخبار الآية عن صدق وعد الله ، وتنجز مصداقه في الواقع الخارجي ، فمن فيوضات آية البحث تقديم أمرين :
الأول : التذكير بوعد الله للمسلمين .
الثاني : بيان تحقق مصداق الوعد الإلهي .
وقد يعد الملك والسلطان والأمير الناس ولكن نفسه تنفر من فعل فيحجب مصداق هذا الوعد ولا يفي به ، أو أنه يعد بعضهم ثم يبدو له أن هذا الوعد كبير , وفيه أذى أو حرج أو أن الذي توجه له الوعد ليس أهلاً لهذه النعمة , وقد يفي به على نحو الموجبة الجزئية ، ولكن الله عز وجل يعد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , ويتفضل ويذكرهم بوعده لتوثيق أجيالهم المتعاقبة تنجزه وتجدد مصاديقه ، ويخبر بأنه سبحانه أصدقهم الوعد في حال الشدة والقتال ، وأن خلافهم وتنازعهم لم يمنع من تنجز الوعد كاملاً مع أن الأصل ألا يحصل خلاف وتنازع عند المسلمين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم ، قال تعالى [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] ( ).
الثالثة : يجتهد الإنسان والجماعة والجيش لتدارك الأخطاء إن وقعت ويسعون للتغلب عليها وعلى النقص الحاصل عندهم ، ومن فيوضات آية البحث أن الله عز وجل هو الذي يصلح أحوال المسلمين ، ويمنع من ترتب الضرر على الخطأ والزلل ، فعندما يفشل ويجبن ويتنازع المسلمون يأتي فضل الله عز وجل لنجاتهم وأمنهم وسلامتهم، ومنه آية البحث ، فصحيح أنها أخبرت عن فشل وتنازع المسلمين ولكنها سلاح وصراط هداية وبرزخ دون الغواية والضلالة .
وتبين الآية معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو أنها مصداق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما أُكرهوا عليه) ( ) إذ ورد الحديث أعلاه بصيغة المبني للمجهول ليكون من وجوه تقديره : يرفع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه .
بتقريب أن هذا الرفع لا يختص بمحو الإثم والذنب في حال الخطأ ونحوه, إنما يدفع الله عز وجل آثار ذات الخطأ والنسيان , وما فعله المسلمون وإلتجأوا إليه في حال الإكراه والإضطرار إذ تخبر خاتمة الآية عن إجتماع أمرين :
الأول : عفو الله عز وجل عن المسلمين مع تلبسهم بالفشل والتنازع والمعصية .
الثاني : بيان عظيم فضل الله عز وجل على المسلمين، ومنه محو آثار هذا الفشل والتنازع .
وليس في آية البحث ترغيب بالفشل والتنازع والمعصية بل إنها تتضمن الزجر عنها ، وتلك آية تختص بها [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بأن يأتي التنبيه والتحذير من عند الله عز وجل للمسلمين , فيكون نبراساً وضياءً لهم ، قال تعالى [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]( ).
فالمناجاة وتوصية المسلمين بعضهم لبعض بالحق والصبر في ملاقاة العدو ونبذ الفرقة والخلاف واقية من تجدد الفشل والتنازع ، وهو الذي يدل عليه تأريخ النبوة ووقائع معارك الإسلام الأولى ، إذ نزلت آية البحث بخصوص معركة أحد , ولقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأذى الشديد بسبب التنازع بين الرماة ومعصيتهم في ترك مواضعهم ليكون موعظة وعبرة لهم ، وقد حدث ذات الفشل في معركة حنين وبحال أشد وأكثر وأسرع مما وقع في معركة أحد , ولكن المسلمين إتعظوا من تجربة معركة أحد فتداركوا أنفسهم، وإستداروا مسرعين إلى الميدان , فكان مجموع الرماة على الجبل يوم معركة أحد خمسين , وفيه مسائل :
الأولى : العدد خمسون على جبل الرماة لحماية ظهر المسلمين ليس قليلاً بلحاظ مجموع عدد جيش المسلمين وهم سبعمائة .
الثانية : دلالة الوقائع على كفاية عدد الرماة الخمسين بدفع ضرر خيل المشركين , فكما هموا بالتقدم رشقهم الرماة بالنبل والسهام خرجوا إلى مواضعهم .
الثالثة : تأكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يترك الرماة مواضعهم على كل حال , فقد أمر (عَبْدَ اللّهِ بْنَ جُبَيْرٍ وَأَمَرَهُ وَأَصْحَابَهُ أَنْ يَلْزَمُوا مَرْكَزَهُمْ وَأَلّا يُفَارِقُوهُ وَلَوْ رَأَى الطّيْرَ تَتَخَطّفُ الْعَسْكَرَ وَكَانُوا خَلْفَ الْجَيْشِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْضَحُوا الْمُشْرِكِينَ بِالنّبْلِ لِئَلّا يَأْتُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ) ( ).
وفيه نكتة بلحاظ قوله تعالى (تبوء للمؤمنين) بلزوم تقيد الرماة بما أمرهم به رسول الله.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو ، للدلالة على أن مضامينها معطوفة على الآية أو الآيات التي قبلها ، وتدل صيغة الخطاب في الآية وتوجهها للمسلمين على عطفها على قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( )وإذ جاء موضوع الآية أعلاه بصيغة الجملة الشرطية السالبة أي التي تتضمن الإنذار والتحذير ولزوم السلامة من الركون للذين كفروا كيلا يكون هذا الركون مقدمة للإرتداد.
وتضمنت الآية التي بعدها ذات لغة الخطاب الموجه للمسلمين والمسلمات , ولكن على نحو البشارة والموجبة الكلية بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] ( ) لإفادة سلامة المسلمين مما قبل الآية من صيغة الشرط للزوم إجتناب طاعة الذين كفروا ، وما بعدها بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، وهو من إعجاز الآية القرآنية بأن يتغشى نفعها ذات الآية ومضامين الآية التي بعدها ، كما تتجلى منافع آية الولاية بمضامين آية البحث إبتداءً من حرف العطف الواو الذي تبدأ به ، لتكون أسراره ودلالاته أعم من أن تختص بالعطف .
فمن أسراره أنه يحمل البشارة والأمن للمؤمنين من جهات :
الأولى : سلامة المسلمين من طاعة الذين كفروا .
الثانية : توالي الأيام والمسلمون في مأمن من الإنقلاب والخسران .
الثالثة : ولاية الله للمسلمين في حال الرخاء والشدة .
الرابعة : نصرة الله عز وجل للمسلمين .
الخامسة : إلقاء الله عز وجل الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا بالله، ترى لماذا لم تقل الآية ( سنلقي في قلوب الذين أشركوا بالله الرعب) ولم تقل (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما كفروا بالله ) فلم يكن لفظ الشرك هو الجامع والمتكرر في الآية , ولا لفظ الكفر ، والجواب تحتمل النسبة بين الكفر والشرك وجوهاً :
الأول : التساوي فالكفر هو ذات الشرك .
الثاني : إنه مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا .
الثالث : نسبة العموم والخصوص وأن الكفر أعم ، وكل شرك هو كفر وليس العكس ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه , ويصدق الكفر على الجحود بالنبوة والتنزيل والفرائض العبادية كما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر) ( ) والشرك صرف العبادة كلاً أو بعضاً عبادتهم لغير الله والذين ينطقون بالشهادتين في مأمن منه ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإعجاز في القرآن والسنة أن الذين أبطنوا الكفر ممن نطقوا بالشهادتين لم يسمهم الله بالكفار والمشركين ، ولم يستحل النبي دماءهم وكان يرجو صلاحهم وهدايتهم حتى تضاءل عدد المنافقين بالإيمان او الموت .
ويدل التفصيل الوارد في الآية السابقة على إلقاء الرعب في قلوب فريق من المشركين في الأرض وإرادة خصوص الذين حاربوا ويحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ومن يناصرهم ويمدهم ليكون من دلالات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] وجوه:
الأول : زجر عامة المشركين عن نصرة كفار قريش .
الثاني : إخبار قريش بأن قولهم أنهم يؤمنون بالله وجوارهم للبيت الحرام لم ينجهم من صفة الكفر لأنهم يعبدون الأصنام ويتقربون بها زلفى إلى الله وينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الدلائل على كفرهم وجحودهم بالله ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كفر .
الصغرى : تجحد قريش بنبوة محمد .
النتيجة : جحود قريش بنبوة محمد كفر .
الثالث : إخبار عامة المشركين بمجئ وزحف الرعب إلى قلوبهم لأن مجيئه من عند الله علة تامة لتنجزه.
الرابع : بيان قانون , وهو عدم مغادرة الرعب قلوب المشركين ، ليكون مقدمة للفتوحات الإسلامية .
وبعد حرف العطف الواو جاء قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ] وذكر أن اللام هنا جواب قسم فمثلاً قوله تعالى [َقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ] ( ) أي والله ثبت ولزم العقاب , والمختار أن اللام في المقام ليست جواباً لقسم محذوف ، إنما هي للتوكيد والقطع والتحدي والبرهان ، فيتفضل الله عز وجل بالنعمة ثم يثني على نفسه , ويبين النعمة وينزل بها قرآناً لوجوه :
الأول : عدم ضياع النعمة .
الثاني : المنع من نسيان المسلمين للنعمة التي تأتي من عند الله .
الثالث : ذكر المسلمين للنعمة بصيغة القرآنية ، ليكون في هذا الذكر ثواب عظيم لهم .
الرابع : تلاوة ذكر المسلمين للنعمة الإلهية في الصلاة على نحو الوجوب، فيذكرها المسلمون بهالة من الخضوع والخشوع لله عز وجل .
الخامس : بيان قانون وهو إستحقاق النعمة الإلهية لأمور :
أولاً : صيرورة النعمة من كلام الله عز وجل .
ثانياً : تثبيت مضامين النعمة الإلهية بين دفتي الكتاب الباقي إلى يوم القيامة .
ثالثاً : تلاوة المسلمين لمضامين النعمة الإلهية كل يوم خمس مرات .
رابعاً : تدبر المسلمين في الكلمات القرآنية التي تدل على نعمة الله عليهم ، وهذه النعم من صيغة البركة التي يتصف بها القرآن في قوله تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ] ( ).
السادس : دعوة المسلمين لشكر الله على النعمة الإلهية التي تفضل بها عليهم.
ومن النعم في آية البحث أمور :
أولاً : عطف الآية على ما قبلها في الخطاب لعموم المسلمين والمسلمات مع أن موضوعها خاص وهو واقعة أحد .
ثانياً : إبتدأت الآية بالقطع والجزم بتحقق وعد الله ، أما على القول المشهور بأن اللام في [ولقد ]جواب قسم محذوف , فان القطع والجزم أبين وأظهر .
ثالثاً : إن الله عز وجل صادق في قوله وفعله ، وإخباره في أمور الدنيا والآخرة ، وجاءت آية البحث نعمة على المسلمين ببعث السكينة في نفوسهم في صدق الله وعده .
رابعاً : تغشي صدق الوعد الإلهي للمسلمين والمسلمات في الخطاب ، وهل يشملهم جميعاً نفعه وأثره وبركته , أم أن القدر المتيقن هو إنتفاع المؤمنين الذين حضروا معركة أحد منه .
الجواب هو الأول ، فلو دار الأمر بين الجمع بين جهة الخطاب ومتعلقه وموضوعه ، وبين الفصل بينهما , فالأصل هو الأول إلا أن يدل دليل أو قرينة على الخلاف وهو مفقود في المقام .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها قدمت صدق وعد الله عز وجل ثم ذكرت فشل ووهن وجبن طائفة من المسلمين , ثم أختتمت الآية بالثناء على الله وبيان عظيم فضله على المسلمين ، وجاء ترتيب مواضيع الآية على وجوه :
الوجه الأول : تفضل الله بتذكير المسلمين بأنه قد وعدهم إذ يتقوم الوعد بأطراف :
الأول : الذي يعد ويعطي الوعد .
الثاني : ذات الوعد وموضوعه .
الثالث : الذي يتلقى الوعد .
والأصل أن المؤمل بالوعد يتطلع إليه , فتفضل الله عز وجل وذكر المسلمين بوعده وصدقه وتنجزه ليشكروا الله عز وجل على هذه النعمة ، فتكون الحياة الدنيا بالنسبة لهم روضة ناضرة بفعل منهم , يتألف من مراتب :
الأولى : توجه المسلمين بالدعاء والمسألة إلى الله عز وجل للفوز بوعد كريم منه .
الثانية : تلقي المسلمين الوعد من عند الله بفضل منه ، قال سبحانه [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )وقد إجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة ويوم بدر .
الثالثة : تحقق وتنجز وعد الله ، فهو سبحانه له [مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )وحينما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء , ورد الله عز جل عليهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فخر الملائكة ساجدين مذعنين لله عز وجل لأن من علمه تعالى نصرة الخليفة وإستجابة دعائه وتنزيه الأرض من الفساد وسفك الدماء بغير حق ، فتفضل وجعل دعاء الأنبياء والصالحين واقية من الفساد ، وبرزخاً دون شيوعه ، والنسبة بين الفساد والكفر هي العموم والخصوص المطلق فالكفر فساد ، وليس كل فساد هو الكفر .
لذا لما أشاعت قريش عبادة الأصنام ، وجعلتها حول الكعبة ، وأذنت للقبائل ، أن تأتي بأصنامها وتضعها في البيت الحرام ، بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتنزيه الأرض من عبادة الأوثان وعن ابن عباس (قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلثمائة وستون صنما قد شد لهم إبليس أقدامها برصاص، فجاء ومعه قضيب فجعل يهوى به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) ( ) حتى مر عليها كلها) ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم حصول غنائم أو سبي أو قسمة لأموال يوم فتح مكة لوجوه :
الأول : بيان حقيقة , وهي أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإصلاح وهداية الناس .
الثاني : إنقياد وطاعة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج إلى الفتح والرضا بعدم حصول الغنائم .
الثالث : تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حرمة مكة ، وجاء هذا التأكيد بخطبته يوم الفتح (عن صفية بنت شيبة قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب عام الفتح فقال : يا أيها الناس إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وهي حرام إلى يوم القيامة ، لا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يأخذ لقطتها إلا منشد ، فقال العباس : إلا الإِذخر فإنه للبيوت والقبور . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلا الإِذخر( ) .
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والأزرقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر ، ووضع هذين الاخشبين فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها . قال العباس : إلا إلإِذخر فإنه لقينهم وبيوتهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلا الإِذخر) ( ).
ومن أسرار ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحرمة مكة في خطبته يوم الفتح إخبار المسلمين بعدم جواز النهب أو السلب أو الغنائم في مكة لحرمتها وعظيم شأنها عند الله ،لذا لم تحتج طائفة من المسلمين وتقول لم نغنم شيئاً في فتح مكة.
ومن الإعجاز في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من مكة للقاء هوازن وثقيف إذ عزموا على محاربة الإسلام وجهزوا الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتقع في يده أكبر واكثر غنائم في تأريخ النبوة دفعة واحدة ، ثم يقول بإعادتها لهم ، ومن لم يقبل من المسلمين بإعادة ما غنم يعيده ليكون ديناً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقضيه له .
الوجه الثاني : إخبار آية البحث عن تنجز الوعد الإلهي للمسلمين لتكون هذه الآية عيداً للمسلمين ، فان قلت لا نعلم أوان نزول الآية كي نتخذه عيداً ، والجواب موضوع العيد أعم من الحصر والتعيين الزماني وأن كان أوان نزول الآية معلوماً , وهو أيام معركة أحد التي وقعت في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية ، وقال قتادة لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال( ).
وتتجلى معاني العيد عند قراءة المسلم لهذه الآية ، ففي كل مرة يقرأها يدرك أنها عيد , ليكون في حالة غبطة وسعادة عند تلاوة الآية , وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
وبلحاظ أن لفظ (الوعد) الوارد في آية البحث اسم جنس يدل على المتعدد من موضوعه ، فهل صدق الوعد اسم جنس ومتعدد أيضاً أم المراد فرد متحد من الوعد الإلهي .
وتبين الجواب ذات آية البحث إذ تذكر مصداق صدق الوعد وهو قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ]ويحتمل وجهين :
الأول : إرادة مصداق واحد لتنجز الوعد , وهو حس وقتل الذين كفروا.
الثاني : المقصود تعدد مصاديق الوعد الإلهي وهو على شعبتين :
الأولى : تعدد مصاديق الوعد في الموضوع المتحد .
الثانية : تعدد مصاديق الوعد في المواضيع المتعددة.
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني لأن قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ]لا يعني التقييد والحصر ولو دار الأمر بين الإتحاد والتعدد في الوعد الإلهي وتنجزه وبين إتحاده ، فالأصل هو الأول ، وسيأتي مزيد بيان في التفسير .
لقد ذكرت آية البحث وعد الله ، وذكرت إذنه سبحانه ، ترى ما هي الصلة بينهما ، فيه وجوه :
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وأن وعد الله فرع الإذن الإلهي .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الوعد والإذن الإلهي .
الثالث : نسبة التساوي وأن الوعد من الله هو نفسه الإذن منه سبحانه .
الرابع : التباين الموضوعي , وان الوعد غير الإذن .
والمختار هو الأخير لبيان فضل الله على المؤمنين والناس جميعاً ، فهو سبحانه يشاء ويأذن ، ويعد ويفي بالوعد ويأمر ،ويهب ، وينهى ، ويثيب ويعاقب , وفي التنزيل [بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا] ( ) .
ولتجتمع في الآية نعمة الوعد من الله للمؤمنين , وتنجزه ونعمة الإذن من عند الله بحس الذين كفروا , وتحقق هذا الحس والقتل واقعاً في بداية المعركة .
وتضمنت آية البحث أمرين :
الأول : حس وقتل المؤمنين للذين كفروا بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
الثاني : تفضل الله بإرادة المؤمنين ما يحبون بقوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] فهل النسبة بينهما هي التساوي ، الجواب لا ، إنما هي العموم والخصوص المطلق ، فالذي رآه المسلمون مما يحبون أعم من الحس وقتلهم للمشركين ، وسيأتي مزيد كلام في تفسير [مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ].
وقيدت الآية حس وقتل الذين كفروا بإذن الله عز وجل لبيان ان المشيئة لله عز وجل , وأن هذا الحس والقتل بالذين كفروا ليس من مصاديق إحتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) لأن السفك المذموم إنما هو بغير الحق ومنه قتل الذين كفروا للمؤمنين .
الوجه الثالث : أخبرت آية البحث عن مصداق الوعد الإلهي وموضوعه [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] وهو من إعجاز القرآن من جهات :
الأولى : إقامة الحجة بذكر عظيم فضل الله على المسلمين ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثانية : البيان والتفصيل لذكر سنخية الوعد الإلهي .
الثالثة : قاعدة نفي الجهالة والغرر، ومنع الإختلاف بين المسلمين في تعيين أمور :
أولاً : الوعد الإلهي .
ثانياً : زمان الوعد الإلهي .
ثالثاً : مصداق تحقق الوعد الإلهي .
الرابعة : دعوة المسلمين للشكر لله تعالى على النعم من وجوه :
أولاً : الوعد الإلهي .
ثانياً : تحقق وتنجز الوعد الإلهي .
ثالثاً : ذكر آية البحث للوعد الإلهي وتنجزه .
رابعاً : مجئ هذا التنجز , والمسلمون بحال عز ومنعة.
الوجه الرابع : مع أن علو المسلمين على الكفار عن وعد من عند الله عز وجل فانه سبحانه قيد هذا العلو والتمكن بإذنه سبحانه ، لبيان التفصيل والفصل بين الوعد ومصداقه الواقعي ، فيأتي الوعد عن أمر الله عز وجل ولا يتنجز مصداقه إلا بأذن الله عز وجل وهو من رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً .
وفيه نكتة وهي إمهال الكفار عسى أن يتوبوا ويكفوا عن قتال المسلمين ، ويرجعوا من حيث أتوا وقد بينت آيات القرآن بأنهم يعودون بعد المعركة خائبين لقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) فاذا رجع الذين كفروا عن القتال وإنقلبوا إلى أهليهم بإجتناب أو إعتزال القتال , ففيه وجوه :
الأول : مصاحبة الخيبة للكفار لصدق اسم الإنقلاب على عودتهم .
الثاني : أثر التباين الموضوعي بين العودة من القتال، والعودة عن القتال فقد تنتفي الخيبة في الثاني .
الثالث : تترشح خيبة الذين كفروا في الآية أعلاه عن أمور مجتمعة ومتفرقة :
أولاً : الكفر والجحود .
ثانياً : الإنقلاب عن القتال , وبعد أن خسر المشركون عدداً وطائفة من أبطالهم .
ثالثاً : عجز الذين كفروا عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وبيان زيف وبطلان إشاعة قتله .
فعندما ينعدم الأمر الثاني يبقى الأول , لتترتب عليه الخيبة على نحو أقل لموضوعيته , والمختار هو الثالث .
ومن الإعجاز في نظم الآية أنها إبتدأت بالثناء المتعدد على الله عز وجل، وما فيه تغيير معالم الحياة في الأرض للأحسن والأنفع , لتبدأ حياة الإيمان والأمن، ولكن بالجهاد والصبر، وهذا الثناء من وجوه :
الأول : الإخبار عن وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , وكل من الإخبار والوعد مكرمة وتشريف للمسلمين.
الثاني : صدق وتنجز وعد الله للنبي محمد صلى الله عليه والمسلمين، بلحاظ أن هذا التنجز فضل ونافلة وهبة من عند الله وليس عن إستحقاق من المسلمين.
الثالث : حس وقتل ومطاردة المسلمين لجيوش الذين كفروا حالما بدأت معركة أحد.
الرابع : لم يكن قتل المسلمين للذين كفروا إلا عن إذن من عند الله، وفيه مسائل:
الأولى : الشهادة من عند الله على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهل هذا الإذن من مصاديق قوله تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( )، الجواب نعم، وكذا من معاني الهدى وظهور الدين ما ورد في الآية التالية[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( )، ويأتي مزيد تفصيل في الجزء وهو السادس والعشرون بعد المائة.
الثانية : تزكية فعل المسلمين في حربهم ودفاعهم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : منع مغالطة المنافقين، والإحتراز من جدال أهل الريب.
الرابعة : تطلع المسلمين إلى إذن الله بحس وقتل الذين كفروا في معارك الإسلام التالية.
الخامسة : زجر الذين كفروا عن مواصلة القتال، في ذات المعركة، وعن تجدد هجومهم.
وبعد بيان فضل الله وتوالي النعم على المسلمين في سوح القتال وهو أشد المواضع التي تحتاج فيه الجماعة والطائفة والأمة إلى فضل الله والمدد منه سبحانه أخبرت الآية عن حدوث قصور عند المسلمين من جهات:
الأولى : إصابة المسلمين بالفشل والجبن والخور.
الثانية : الخلاف والخصومة بين المسلمين.
الثالثة : المعصية لأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومع التسليم بأن هذه الأمور صدرت من طائفة محدودة وهم الرماة وما ترشح عن تركهم لمواضعهم إلا أن الخطاب في الآية جاء عاماً للمسلمين، لبيان العموم في ضرر هذه المعصية وشموله لحال المسلمين في المعركة.
ومن مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، إخبار آية البحث عن حدوث القصور والتقصير بعد أن رأى المسلمون ما يحبون من مقدمات النصر بفضل الله.
وقسمت آية البحث المسلمين من جهة الرغائب والمقاصد إلى قسمين:
الأول : الذين يريدون الدنيا.
الثاني : الذين يسعون للآخرة , وحسن الإقامة فيها.
وورد بعده حرف العطف (ثم) بقوله تعالى[ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] لبيان أن حال الفشل والتنازع والمعصية لم ينته بسرعة، لبيان الأذى الذي لحق المسلمين بسبب خطأ نزول الرماة وقيام خيالة المشركين بالهجوم من خلف المسلمين.
وبينت الآية كيفية إنتهاء معركة أحد بأنها بفضل من عند الله وآية منه سبحانه بأن صرف المسلمين عن المشركين , وكذا أبعد المشركين عن المسلمين ، لتكون هذه النهاية نوع إختبار وإمتحان للمسلمين في صبرهم وصدق إيمانهم ، والإتعاظ من هذه المعركة ، ثم أخبرت الآية عن عفو الله عز وجل عن المؤمنين مع حدوث الفشل والتنازع بينهم وصدور المعصية لأوامر الرسول منهم ، وصيرورتها سبباً للخسارة وفوات النصر المبين كالذي حدث في معركة بدر .
وأختتمت الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وليس من حصر لمصاديق فضل الله عز وجل على المسلمين في معركة أحد ونتائجها , ويأتي مزيد بيان في باب التفسير .
وتتصف هذه الآية بكثرة ضمير المخاطب فيها , وتوجهها للمسلمين على نحو التعيين من جهات:
الأولى : ولقد صدقكم) وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول : القدر المتيقن من الآية هو إنجاز وعد الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد.
الثاني : إلحاق المسلمين ممن تخلف عن القتال يوم أحد بالمخاطبين لأن متلقي الوعد أعم من المشارك بالقتال.
الثالث : إرادة شمول المسلمين والمسلمات أيام التنزيل حتى المستضعفين الذين بقوا في مكة وإنقطعت بهم أسباب اللحاق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذار الهجرة.
الرابع : شمول المسلمين والمسلمات جميعاً بلغة الخطاب .
والمختار هو الأخير، إذ أن الوعد من الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنجازه أمر تترشح منافعه على المسلمين إلى يوم القيامة , ويصح للمسلم والمسلمة في كل زمان ومكان وإلى يوم القيامة أن يتدبر في الآية بتقدير:
الأول : ولقد صدق الله رسوله وعده، وفيه وجوه:
أولاً : إرادة نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وظفره بأعدائه.
ثانياً : بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال.
ثالثاً : تأكيد قانون وهو أن الله عز وجل ينجز للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما وعده ويأتي هذا الوعد من وجوه :
أولاً : الوحي مطلقاً، وهل تدخل فيه الرؤيا، الجواب نعم، فرؤيا النبي وحي.
ثانياً : الحديث القدسي ، وهو أقل رتبة من القرآن، وأعلى من السنة.
ثالثاً : نزول آيات القرآن بالوعد من عند الله لنبيه الكريم , قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ).
رابعاً : نزول ملائكة من عند الله بالبشرى بالنصر , وبيان مقدماته.
الثاني : ولقد صدق الله المهاجرين والأنصار وعده , ويأتي الوعد لهم من جهات:
الأولى : بشارات القرآن الكريم العامة والخاصة، ومن الخاصه آية البحث وصيغة الجمع في الخطاب فيها (ولقد صدقكم الله وعده) ومن الإعجاز الغيري للقرآن أن البشارة العامة تصلح للأمر الخاص وكذا العكس، فقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
الثانية : السنة النبوية، وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نصر المسلمين كما في رؤياه قبل الخروج إلى معركة أحد , وتأويله لتلك الرؤيا بنفسه.
الثالثة : إستصحاب المسلمين لنصرهم في معركة بدر ، وترجيح نصرهم في معركة أحد من باب الأولوية القطعية.
الثالث : ولقد صدق الله المسلمين والمسلمات وعده بالنصر، فقد جعل الله عز وجل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة النبوات، وأنزل القرآن جامعاً للأحكام الشرعية، كافياً للمسلمين في صدورهم عنه في أمور الدين والدنيا، ويدعو الناس كل يوم للإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ) .
وجاءت تلاوة المسلمين للقرآن على نجو الوجوب العيني في الصلاة اليومية بياناً لبيان القرآن، وهداية لأنفسهم ولغيرهم، وهو من مصاديق سور الموجبة الكلية الذي ورد في الآية أعلاه بلفظ(الناس) ولتكون الآية زاجراً للذين كفروا من الهجوم ومحاربة النبوة والتنزيل، ليكون ذات إختتام النبوات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشارة النصر وقهر قوى الكفر والضلالة لأن الله عز وجل جعل عبادة الناس له علة خلقهم، وتتقوم العبادة باستدامة أحكام التنزيل السالمة من التحريف والتبديل والتغيير لذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي ( )، وقال (خذوا مناسككم عني ).
الثانية : من وجوه توجه ضمير الخطاب في آية البحث للمسلمين قوله تعالى[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] وهو آية في تأديب المسلمين في التسليم بفضل الله عليهم، وأن الذي أحرزوه من أسباب الظفر ومقدمات النصر هو من عند الله جل وعلا.
فيدل قوله تعالى[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] على تناقل الركبان والقبائل وأهل الكتاب نبأ قتل المسلمين لأبطال قريش في بدايات معركة أحد، ودلالاته على المدد الإلهي للمسلمين من جهات:
الأولى : من إعجاز آية البحث أن إذن الله للمسلمين بحس وقهر الذين كفروا مدد وعون.
الثانية : المدد الذاتي بقوة شوكة المسلمين , وبعث السكينة في نفوسهم في ميدان المعركة وإقدامهم على القتال طاعة لله ورسوله، وهذا الإقدام من مصاديق رفع الذلة والفقر عن المسلمين بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الثالثة : المدد الغيري , ومنه:
الأول : نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الثاني : قذف الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا كما تدل عليه الآية السابقة.
وقد يسأل بعضهم كيف يكون الإذن مدداً , والجواب من وجوه:
أولاً : من معاني الإذن من الله الأمر والمشيئة , قال تعالى[فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ]( ).
ثانياً : بيان قانون وهو أن تغشي القتل بالجيش لا يتم إلا بإذن الله، وقد أذن الله للمؤمنين بقتل الذين كفروا في الميدان بعد قيام الحجة المتعددة عليهم , كما تبينه آية السياق من جهات :
الأولى : صدود الذين كفروا عن النبوة والتنزيل .
الثانية : قيام الذين كفروا بتجهيز الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : إنفاق الذين كفروا الأموال , وتحريف الحقائق والإفتراء لصد الناس عن دخول الإسلام .
الرابعة : وقوع المعارك بين المسلمين والكفار .
الخامسة : إختيار الذين كفروا الشرك بالله ، وعبادة الأوثان .
السادسة : ومن مصاديق إقامة الحجة على الذين كفروا إنتفاء السلطان والعلم والبرهان لإتخاذهم الشريك والند ، ليكون من مصاديق الربوبية المطلقة لله عز وجل قانون إدراك الناس جميعاً لإنعدام الدليل على الشريك والند لله عز وجل .
ثالثاً : إستثناء قتل المؤمنين للمعتدين من الذين كفروا من مصاديق إحتجاج الملائكة , كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) .
أما قتل الذين كفروا لحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وقتل المؤمنين الآخرين يوم أحد، فهو من مصاديق إحتجاج الملائكة يوم خلق آدم، فجاء إذن الله عز وجل لمنع إستمرار وتكرار هذا القتل.
وهل من معاني الإذن الإلهي للمؤمنين بقتل الذين كفروا في معركة أحد منع إستمرار وتكرار القتل , الجواب نعم، وهو من رحمة الله بالناس، وتتجلى شواهده جلية في معارك الإسلام اللاحقة، إذ جاء الذين كفروا بعشرة آلاف رجل للقتال في معركة الخندق، فرجعوا خائبين ثم تم صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، ثم فتحت مكة في السنة الثامنة، ومن الإعجاز أنه تم من غير قتال يذكر، ليكون من مصاديق الإذن في المقام وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا إذ تحسونهم بإذنه في معركة أحد.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إذ صرف الله عنكم المشركين.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا إذ تم صلح الحديبية من غير قتال بإذن الله ليدخل الناس في الإسلام.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إذ تم فتح مكة بإذنه، ويدل عليه نسبة الفتح إلى الله عز وجل بقوله تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
الثالثة : قوله تعالى[حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] فبعد تفضل الله عز وجل بالإذن للمؤمنين بالغلبة على الذين كفروا، وإزاحتهم عن مواضعهم، وبعث الفزع والخوف في قلوبهم، وصيرورة سيوف المسلمين قريبة من رقابهم وأعضائهم ثم تغيرت الريح والجولة بسبب خطأ متعدد من المسلمين .
ومن إعجاز آية البحث عدم إختتامها إلا بذكر عفو الله عز وجل عن المؤمنين يوم أحد ، والتجاوز عن فشلهم , وتنازعهم , ومعصية من ترك موضعه منهم , لبيان فضله على المؤمنين جميعاً ، ولتكون معركة بدر مقدمة ومفتاحاً لخزائن من فضل الله تتوالى على المسلمين وإلى يوم القيامة .
الرابعة : قوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] لبيان أن حدوث التنازع بين المؤمنين أنفسهم وفي ميدان المعركة وليس قبلها أو في مقدمتها ، ومن إعجاز الآية ولغة العطف فيها أنها قدمت حس وقتل المؤمنين للذين كفروا لكيلا يقال أن المراد من الفشل والتنازع هو رجوع عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش في المعركة ، وإن ورد هذا القول من بعضهم فان نظم الآية ينفيه .
الخامسة : وعصيتم ) لبيان إنتفاء العصمة عند الصحابة , وهل فيه تأديب للمسلمين بعدم المغالاة بهم ، الجواب لا تصل المسألة إلى هذا المعنى ، إنما جاءت الآيات بنفي الغلو بالأنبياء ليدل بالدلالة التضمنية على عدم الغلو بغيرهم .
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ( إتخذني الله عبدا قبل أن يتخذني رسولا) ( ).
وجاء الإخبار في آية البحث عن فريقين من الصحابة بلغة الخطاب بصيغة الإيمان لبيان أن المراد التنبيه والتحذير والتأديب ، وبيان فضل الله عز وجل ومنه قوله تعالى [وَعَصَيْتُمْ].
السادسة : من بعد ما أراكم ) وإبتدأت الآية بنسبة الفعل إلى الله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ]وكذا هذا الشطر من الآية لتأكيد أن نصر المسلمين في أول المعركة بفضل من عند الله وهو من لطفه وصدق وعده للمسلمين ، وهذا المعنى من أسرار إنتقال الخطاب إلى بيان فضل الله وإحسانه المباشر على المسلمين ، وأنهم لم يروا ما يحبون من مقدمات النصر إلا بفضل من عند الله .
ولبيان حقيقة وهي من معاني ومقاصد تفضل الله عز وجل بنصر وحس المسلمين للذين كفروا أن يرى المسلمون بأم أعينهم هزيمة الذين كفروا في بدايات معركة أحد .
وهذه الرؤية تتجدد في كل زمان بالتصور الذهني , وتقريب آية البحث لوقائع وأحداث معركة أحد , وكأنها حاضرة للعيان في كل زمان .
السابعة : ما تحبون ) بيان فضل الله عز وجل على المؤمنين من جهات :
الأولى : نيل المسلمين ما يحبون في معركة أحد بالنصر في بداية المعركة .
الثاني : بيان قانون وهو أن تحقيق رغائب المؤمنين في ميدان المعركة بفضل من عند الله ، جزاء وشكراً منه تعالى لأنهم خرجوا للقتال .
الثالثة : هناك فرق في الخسارة إذا جاءت بعد نصر وفوز وربح أو أنها جاءت إبتداء ومن رأس .
وتبين آية البحث أن الخسارة التي لحقت المسلمين لم تأت إلا بعد أن رزق الله عز وجل المؤمنين ما يحبون من النصر ، وبعد حصول الخور والجبن والتنازع والمعصية منهم , وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] ( ).
الجواب لا , للتباين الموضوعي ، فليس من تغيير أو إنقلاب في السنخية والعمل ، إنما تضمنت الآية وجوه الفضل الإلهي على المؤمنين ، وهو من أسرار إختتام آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ليكون من معانيه أن كل كلمة وموضوع في آية البحث هو من فضل الله .
الثامنة : من وجوه توجه ضمير الخطاب في آية البحث للمسلمين في أيام البحث ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) .
وفي هذا التقسيم بيان لأحوال المسلمين في المعركة لإرادة تنزيههم عن حب الدنيا وزينتها .
فقد يحب المسلم الفوز بالغنيمة وسلب المقاتل الكافر ، فجاءت آية البحث لتقطع الطريق , بأن تمنعه من جعل الدنيا وزينتها همّه وغاية سعيه , ولتجعل قصد المسلمين مجتمعين ومتفرقين قصد القربة إلى الله عز وجل.
وهل في الآية بشارة إقبال نعم ومباهج الدنيا والأموال على المسلمين ، الجواب نعم ، وهو من إعجاز الآية ومصاديق التأديب فيها لأجيال المسلمين .
وفي الآية ترغيب بالعبادات وسنن التقوى , وقسمت الآية المسلمين إلى قسمين :
الأول : الذين يحبون الدنيا .
الثاني : الذين يحبون الآخرة .
ولكن كل مسلم تميل نفسه إلى القسم الثاني , ويرجو أن يكون ممن يحب الآخرة ويسعى لها ، لذا جاءت الآية مجملة من غير تعيين أسماء أو صفات الذين يحبون الدنيا ، إنما تستقرأ الآية البواطن , وقد تدل أفعال الإنسان على ما يحب ، ليكون هذا الإجمال سبيلاً إلى صلاح المسلمين وتجلي مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بينهم والمناجاة بحب الآخرة وإجتناب حب الدنيا .
ومن رشحات حب الآخرة الإخلاص في الدفاع عن بيضة الإسلام, وصدّ الذين كفروا في معارك الإسلام الأولى ، وإرادة تهذيب قول وعمل المسلمين ، وإصلاحهم للدعاء وسنخية المسألة ، وفي التنزيل [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
التاسعة :ثم صرفكم عنهم ) ولغة الخطاب في هذه الآية من تجليات الإعجاز فيها بلحاظ مناسبة الموضوع والوقائع ، فأبى الله عز وجل أن يخاطب الذين كفروا في هذه الآية أو أن يجعلهم بعرض واحد مع المؤمنين في الخطاب والوصف .
وتفيد (ثم) العطف والتراخي , وفيه مسائل :
الأولى : الإنصراف من المعركة عنوان الإنسحاب والقدرة عليه فجعله الله عز وجل خاصاً بالمؤمنين .
الثانية : لم ينصرف المؤمنون من المعركة حال المواجهة أو عند الهزيمة فحينما فرّ أكثرهم من المعركة , وهو الذي تشير إليه الآية التالية في أولها [إِذْ تُصْعِدُونَ] فلم يستمروا بفرارهم وصولاً إلى المدينة ولم يذهبوا بعيداً عن المعركة بل كان فرارهم بالإبتعاد قليلاً عن وسط المعركة وإلتقاء الأسنة ومدى النبال والرماح ، وهذا المعنى هو الذي يدل عليه إجتماع أمور :
الأول : حرف العطف والتراخي (ثم) .
الثاني : نسبة الصرف إلى الله عز وجل .
الثالث : مبادرة المسلمين إلا الإنصراف عن الذين كفروا , لبيان حقيقة وهي لو تجدد القتال في ذات اليوم والمكان , لكان النصر حليف المسلمين ، وهو الذي أدركه كبار رجالات قريش في المعركة فبادروا إلى الإنسحاب ، ولم يظهر التلاوم والخصومة بينهم , وإن أظهر بعض الكفار الندم في الطريق فهو من التورية ومحاولة رد الإعتبار بعد فضحهم بالإنسحاب بخيبة وخسران .
الثالثة : بيان عناية ورحمة الله بالمؤمنين حال إبتداء وإستدامة وكيفية نهاية المعركة .
العاشرة : الخطاب الإلهي للمسلمين [لِيَبْتَلِيَكُمْ]وفيه دعوة للمسلمين للإستعداد لما بعد معركة أحد .
إن من أسرار إرتقاء الأمم هو سعيها للمستقبل وإنقطاعها للبقاء وعدم الإنشغال بالإلتفات إلى الوراء مدحاً أو ذماً ، ثناءً أو لوماً وعتاباً ، وهو الذي يدركونه بالتجربة والمشاهدات , ولكن الله عز وجل تفضل وهدى المسلمين إلى ما فيه خيرهم ورفعتهم بكلمة واحدة من القرآن , وهي [لِيَبْتَلِيَكُمْ] لتكون مدرسة جامعة في الفقه والإجتماع والإقتصاد .
ليكون قوله تعالى [لِيَبْتَلِيَكُمْ] آية إعجازية في إصلاح المسلمين للبناء والعمل وتثبيت أركان الشريعة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الحادية عشرة :قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]وفيه غاية الإكرام بأن تجتمع لغة الخطاب من عند الله بصدور العفو منه للمؤمنين ، ولو دار الأمر بين إرادة العفو عن الذين إنهزموا وإنسحبوا من المعركة من الصحابة أم المعنى الأعم والإستغراقي , فالجواب هو الثاني ،لأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى .
وليس من تعارض بين أن يأتي الخطاب في بداية الآية بصيغة العموم المجموعي ويراد منه طائفة من الصحابة كما في قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] إذ ينخرم معنى العموم ببقاء طائفة من أهل البيت والصحابة يقاتلون مع ودون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم امرأة هي أم عمارة كما سيأتي بيانه في الجزء التالي .
وقد أختتمت آية البحث بذات مضامين إكرام المسلمين بذات لغة الخطاب وحسن المواساة , وبيان أن كل كلمة وجملة من آية البحث هي من فضل الله عز وجل على المجاهدين في معركة أحد ، أثناء القتال وبعد إنقضائه .
وعندما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كتيبة تبوك في السنة التاسعة للهجرة وأشرف على المدينة من ثنيات الوداع قال : هذه طابة .فلما رأى أحدا قال: هذا أحد يحبنا ونحبه( )، وخرج الناس رجالاً ونساءً لإستقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وهم ينشدون :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا الله داع
وقيل أن هذا الشعر أنشد عند بداية هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبمجيئه من مكة , ولكن ثنيات الوداع عن طريق الشام دخولاً إلى المدينة إلا أن يقال بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير طريقه عن الجادة العظمى أول الهجرة إحترازاً، ولكنه بعيد .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : يتجلى الجمع بين هذه الآية والآيات السابقة بابتداء الآية بحرف العطف الواو ، ويحتمل هذا الجمع والعطف وجوهاً :
الأول : العطف والإتحاد في الموضوع .
الثاني : إرادة العطف والصلة بين هذه الآية والآيات السابقة في الحكم .
الثالث : العطف والصلة بين هذه الآية والآيات السابقة في الموضوع والحكم .
الرابع : العطف والصلة على نحو جهتي سواء في الموضوع أو الحكم .
الخامس : التباين في مراتب العطف بين الآيات ، فيكون العطف على الآية السابقة مثلاً على نحو الموجبة الكلية ، ويكون على الآيتين اللتين قبلها على نحو الموجبة الجزئية .
والمختار هو الثالث ، وهو من إعجاز القرآن ، وتعدد منافع العطف فيه ، وإتخاذه وسيلة مباركة لإقتباس المواعظ من نظم آيات القرآن .
الثانية : إرادة بعث السكينة في نفوس المسلمين بالعطف بين آية البحث والآيات الثلاثة السابقة التي يمكن تسميتها :
الأولى : آية الإيمان( ) .
الثانية : آية الولاية ( ).
الثالثة : آية إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ( ).
الثالثة : من غايات الآية بيان الإعجاز الغيري للقرآن من وجوه :
الأول : الشواهد والمصاديق الخارجية المتعددة لوعد الله عز وجل للمسلمين ، وقد ذكرت آية البحث شاهداً ومصداقاً لهذا الوعد وهو قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ]وتفشي القتل والجراحات بالكفار .
الثاني : من خصائص الشاهد القرآني أنه توليدي تتفرع عنه عدة شواهد ومصاديق وتؤسس منه بالذات والعرض قواعد قرآنية .
الثالث : في الآية دعوة للمسلمين عامة والعلماء خاصة بتحري مصاديق الوعد الإلهي وتنجزه ، ودلالات كل فرد من الوعد الإلهي على مضامين الآيات السابقة كولاية الله للمسلمين , وبعث الخوف والفزع والرعب في قلوب الذين كفروا .
الرابعة : من غايات آية البحث تنزيه المسلمين عن الغرور والزهو ، فتفيد الآية نصر المسلمين في بداية المعركة وصيرورة الريح لهم ، وإضطرار الذين كفروا لإخلاء مركز القتال , ورأت النساء تقهقرهم إلى الوراء والذي لم يتم إلا بأذن الله، أي أنه ليس بالقوة المحضة للمسلمين، ويدل على هذه الرؤية هرولة نساء المشركين خائفات مذعورات .
وتحتمل هذه الهرولة وجوهاً :
الأول : فيها تقوية لشوكة المسلمين وزحفهم على معسكر العدو ، وزحزحة ميمنته وميسرته عن مواقعهم .
الثاني : تصاعد الحمية بين صفوف جيش الذين كفروا .
الثالث : لا موضوعية لهرولة وفزع نساء المشركين في سير وقائع المعركة بدليل أن الريح تغيرت وصارت الجولة على المسلمين بسبب زلل وخطأ الرماة .
الرابع : الوجه الجامع للتباين بأن تكون هرولة النساء تقوية لشوكة المسلمين ، وسببا في إزدياد حمية المشركين في القتال.
والصحيح هو الأول ، وهو من الشواهد على أمور بلحاظ هذه الآيات:
أولاً : فزع وهرولة نساء المشركين من نصرة الله للمسلمين ورشحاتها.
ثانياً : تأكيد قانون وهو سلامة المسلمين من طاعة الذين كفروا لدلالة الحرب والقتال بين الفريقين على التباين والتضاد والنفرة بينهما , وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي] ( ).
ثالثاً : بيان مصداق لولاية الله للمؤمنين .
رابعاً : بعث الخيبة في نفوس الذين كفروا فقد جاءوا بالنساء لبعث الهمة في نفوسهم فصرن عبئاً عليهم وسبباً للخزي ، وهل كان لهرولة وفرار نساء المشركين موضوعية بانتهاء معركة أحد بسرعة , الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] لتعدد أسباب صرف المؤمنين ، والفصل بينهم وبين الذين كفروا .
الخامسة : تعدد مصاديق المدد الإلهي للمسلمين ، ومنه آية البحث لما تبعثه في نفوس المسلمين من ضروب الصبر والشكر لله على تفضله بإقالة عثرتهم .
السادسة : مواساة المسلمين بالإخبار بأن معركة أحد وما جرى فيها من الوقائع ، وتكبدهم خسائر فادحة في الأرواح وإصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بالجراحات إنما هو للإختبار والإمتحان ، وهذا الإختبار على وجوه :
الأول : إرادة فوز المسلمين بالأجر والثواب .
الثاني : إتخاذ المسلمين حوادث معركة أحد موعظة وعبرة .
الثالث : بيان قبح فعل الذين كفروا ، وبعث النفرة في نفوس المسلمين من سوء فعلهم وتعديهم ، فلما جاء قبل ثلاث آيات [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )حدثت معركة أحد لتبين وجوب إجتناب المسلمين طاعة الذين كفروا .
السابعة : لقد أختتمت معركة أحد بحصول التباعد بين الفريقين مع وعيد الذين كفروا بأن لهم عودة ، وتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه في أخر ساعة من معركة أحد (حتى انتهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه يرميه فقال: أنا رسول الله.
ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا.
فقال الله عز وجل في الذين قالوا: إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم[ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( ).
فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذى كانوا عليه وهمهم أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الارض “.
ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم.
فقال أبو سفيان يومئذ : أعل هبل، حنظلة بحنظلة ، ويوم أحد بيوم بدر) ( ).
وقول أبي سفيان أعلاه (ويوم أحد بيوم بدر) على فرض صحته وأن تسمية يوم أحد من ذات يوم المعركة فيه نوع مغالطة من جهة التشبيه بين معركة بدر وأحد ، إذ إنتصر المسلمون في كلا المعركتين ، ولكن إنتصارهم في معركة بدر أعظم وأكبر وأبين .
الثامنة : كما إبتدأت آية البحث بحضور وعد الله ومصداقه وتنجزه فأنها أخبرت عن حضور عفو الله عن المسلمين في حال الجبن والتنازع والمعصية في ميدان المعركة ليدل بالأولوية القطعية عفوه تعالى عنهم في حال المنعة والإتحاد وطاعة الله ورسوله .
ليكون من معاني وتقدير الآية : ولقد عفا عنكم فاعتصموا بحبل الله جميعاً .
التاسعة : من الجزاء العاجل للمؤمنين يوم أحد إزاحة الحزن والأسى عن صدورهم بالإخبار عن فضل الله عز وجل عليهم قبل وأثناء وبعد إنتهاء معركة أحد .
أسباب النزول
في سبب نزول الآية وجوه :
الأول : (عن ابن عباس في قوله { ولقد صدقكم الله وعده . . . } الآية . قال : إن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوال حتى نزل أحداً ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأذن في الناس ، فاجتمعوا وأمر على الخيل الزبير بن العوّام ، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللواء رجلاً من قريش يقال له مصعب بن عمير ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجيش ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمزة بين يديه ، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزبير , وقال : استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك ، وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر فقال : لا تبرحوا حتى أوذنكم ، وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى ، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الزبير أن يحمل ، فحمل خالد بن الوليد فهزمه ومن معه فقال { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه })( ).
الثاني : (كان الله وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين وكان قد فعل ، فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم ، وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم وأرادوا الدنيا ، رفع عنهم مدد الملائكة ، وأنزل الله { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } فصدق الله وعده وأراهم الفتح ، فلما عصوا أعقبهم البلاء) ( ).
الثالث : قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة، وقد أصابهم ما أصابهم بأُحد، فقال ناس من أصحابه: من أين أصابنا وقد وعدنا بالنصر، فأنزل الله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ] الذي وعد بالنصر والظفر( ).
نزلت الآية في قصة معركة أحد ، مما يدل على موضوعيتها في تأريخ الإسلام ، وحاجة المسلمين في كل زمان إلى التدبر في دروسها وإقتباس المواعظ منها .
وفي قوله تعالى في آية البحث [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا] ( ) ورد أنهم الرماة التي تركوا مواقعهم عندما رأوا الهزيمة تحل بكفار قريش وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال (إن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر يوم أحد طائفة من المسلمين فقال: كونوا مسلحة للناس بمنزلة أمرهم أن يثبتوا بها ، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يأذن لهم . فلما لقي نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد أبا سفيان ومن معه من المشركين ، هزمهم نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فلما رأى المسلحة أن الله هزم المشركين انطلق بعضهم يتنادون الغنيمة الغنيمة . . . لا تفتكم .
وثبت بعضهم مكانهم وقالوا لا نريم موضعنا حتى يأذن لنا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ففي ذلك نزل { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة }.
فكان ابن مسعود يقول : ما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد) ( ).
وفي اسباب النزول قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( )، وجوه:
الأول : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما وقع في يده غنائم هوازن يوم حنين غلّ رجل بإبرة ( ) عن الضحاك.
ورواه الواحدي عن ابن عباس( )، وقال أنه الرجل غلّ بمخيط وهو أكبر حجماً من الأبرة.
الثاني : نزلت الآية في قطيفة ( حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس : أخذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( )، ورواه عكرمة ومقسم عن ابن عباس.
الثالث : نزلت الآية في طلائع كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجههم في وجه ، ثم غنم الرسول فلم يقسم للطلائع فأنزل الله تعالى [وَمَا كَانَ لنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ] أي يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القسم ، وهذا قول ابن عباس ، والضحاك( ).
الرابع : وقال الكلبي ومقاتل أن الآية (نزلت حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلباً للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أخذ شيئاً فهو له، وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ).
وفي قوله تعالى [وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] (قَالَ ابن عَبّاسٍ : هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جُبَيْرٍ الّذِي كَانَ أَمِيرًا عَلَى الرّمَاةِ وَكَانَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَلْزَمُوا مَكَانَهُمْ وَأَلّا يُخَالِفُوا أَمْرَ نَبِيّهِمْ فَثَبَتَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ فَاسْتُشْهِدَ وَاسْتُشْهِدُوا ، وَهُمْ الّذِينَ أَرَادُوا الْآخِرَةَ ، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْمَغْنَمِ وَأَخْذِ السّلَبِ ،فَكَرّ عَلَيْهِمْ الْعَدُوّ)( ).
وهل إستصحب الرماة الذين نزلوا من الجبل النصر بمعجزة من عند الله فبادروا إلى النزول ، الجواب نعم ، وكان قول الله عز وجل [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] حاضراً عندهم ، لتكون وقائع يوم أحد موعظة وعبرة وآية من عند الله لبيان قانون إن إلقاء الرعب في قلوب الكفار لا يعني قعود المسلمين وإلقاءهم السلاح وتركهم القتال.
وكان رسول الله يومئذ وسط الميدان لم يترك موضعه مع أن العدو أصبح على بعد بضعة أمتار منه بحيث تصله الحجارة منهم.
وإستطاع المشركون أن يضربوا وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسيلوا الدم منه مما يدل على شدة قربهم بحيث يصيبون بالحجارة ما يريدون على نحو التعيين ، وعن عائشة عن أبي بكر (ان أبا عبيدة بن الجراح نزع احدى الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسقطت ثنيته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى فكان ساقط الثنيتين.
وعن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أن الذي رمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأحد فجرحه في وجهه ابن قمئة , قال لما رماه فأصابه خذها وأنا ابن قمئة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقماك الله عز وجل، قال ابن جابر انصرف ابن قمئة من ذلك اليوم إلى أهله فخرج إلى غنمه فوافاها على ذروة جبل فأخذ فيها يعترض عليها ويشد عليه تيسها فنطحه نطحة ارداه من شاهقة الجبل فتقطع) ( ).
ومن الرعب الذي ملأ قلوبهم أنهم أشاعوا قتل النبي ، وتناجى المشركون بقتله , وسرت هذه الإشاعة .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يباشر الرماية بنفسه , وقال قتادة بن النعمان ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمى عن قوسه، حتى اندقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده)( ).
وكان ابن عباس يقول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إنتصروا في معركة أحد ، بفضل الله عز وجل , ومن الناس من يقف عند هذا القول بلحاظ أن الوقائع وأخبار المعركة تبين خلافه، خاصة وأنهم معاصرون للمعركة .
وأخرج أحمد والطبراني والبيهقي عن ابن عباس قال (ما نصر الله نبيه في موطن كما نصر يوم أحد فانكروا.
وقال : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله ، إن الله يقول في يوم أحد { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } يقول ابن عباس : والحس . القتل .
{ حتى إذا فشلتم } إلى قوله { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } وإنما عنى هذا الرماة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقامهم في موضع.
ثم قال : احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا . فلما غنم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأبا عسكر المشركين انكفأت الرماة جميعاً فدخلوا في العسكر ينتهيون ، والتفت صفوف المسلمين فهم هكذا وشبك بين يديه والتبسوا.
فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخل الخيل من ذلك الموضع على الصحابة ، فضرب بعضهم بعضاً والتبسوا ، وقتل من المسلمين ناس كثير وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة ، وجال المسلمون جولة نحو الجبل ولم يبلغوا حيث يقول الناس : الغاب . إنما كانوا تحت المهراس ، وصاح الشيطان قتل محمد فلم يشك فيه أنه حق .
فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع بين السعدين نعرفه بتكفؤه إذا مشى ، ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصبنا فَرَقِيَ نحونا وهو يقول : اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم ، ويقول مرة أخرى . اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا حتى انتهى) ( ).
وجاء الحديث أعلاه بصيغة المتكلم عن ابن عباس، ولكنه لم يكن حاضراً معركة أحد ، إذ كان صغيراً مع أبيه في مكة فقد ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وكان عمره يوم إنتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ثلاث عشرة سنة , وفي رواية سعيد بن المسيب عنه كان عمره آنذاك عشر سنين ( ).
نزلت الآية جواباً للمؤمنين الذين رجعوا إلى المدينة وقالوا لقد أخبرنا الله عز وجل بنزول الملائكة مدداً ووعدنا بالنصر والغلبة على الذين كفروا، فكيف تعرضنا إلى الهزيمة أثناء المعركة وسقط منّا سبعون شهيداً، فنزلت الآية بأن المدد الملكوتي مشروط بالصبر والتقوى، وفيه رد على المنافقين وأهل الريب , ومنع من شماتة الأعداء .
ومن أسرار البيان القرآني في المقام منع تجدد الخصومة والتنازع بين المسلمين، وتقدير الآية جهات:
الأولى : حتى إذا فشلتم فنزلت هذه الآية كيلا تفشلوا.
الثانية : حتى إذا تنازعتم في الأمر فنزلت هذه الآية كيلا تتنازعوا في هذا الأمر أو غيره.
الثالثة : حتى اذا عصيتم فنزلت هذه الآية كيلا تعصوا الرسول ولتدركوا الحاجة العامة والخاصة لطاعة الله ورسوله، قال تعالى[أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ]( ).
التفسير
قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]
تحتمل جهة الخطاب في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومخاطبته بصيغة الجمع [صَدَقَكُمْ] لإكرامه وتشريفه .
الثاني : المقصود المؤمنون يوم أحد .
الثالث : خصوص المؤمنين الذين قاتلوا يوم أحد .
الرابع : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت وخصوص الصحابة من المهاجرين والأنصار أوان معركة أحد أي يشمل الخطاب الصحابيات والقاعدين وذوي الأعذار منهم.
وورد لفظ [القاعدين] بالرفع والجر بخصوص المسلمين خمس مرات ثلاث منها في آية واحدة في الثناء على المؤمنين الذين قعدوا عن القتال عن عذر.
وجاء ذكرهم في طول الثناء على المجاهدين من المؤمنين وبيان الثواب العظيم الذي يناله كل منهم ، مع المائز والفضل في ثواب المجاهدين.
ويمكن تسمية الآية الخامسة والتسعين من سورة النساء آية القاعدين من المؤمنين لأن لفظ القاعدين ورد فيها ثلاث مرات منها واحدة بالرفع بالواو لأنه جمع مذكر سالم ، قال تعالى [ لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
وجاء ذات اللفظ [الْقَاعِدُونَ] في ذم وتبكيت المنافقين وهو من إعجاز القرآن بأن يتضمن اللفظ المتحد مدحاً لطائفة وذماً لأخرى بالنص والبيان الصريح , وليس بالقرائن والأمارات ، قال تعالى في ذم المنافقين الذين إستاذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الخروج في كتيبة تبوك [وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ] ( ).
وأختلف في لفظ القاعدين في الآية أعلاه :
الأول : مع القاعدين بغير عذر ، قاله الكعبي .
الثاني : مع القاعدين من النساء والصبيان ( ).
والمختار المعنى الأعم فيشمل :
أولاً : القاعدون من أصحاب الأعذار .
ثانياً : العاجزون عن الخروج .
ثالثاً : والمتخلفون عن عمد , ليكون القعود لأصحاب الأعذار عزاً وقعود المنافقين ذلاً لهم .
الخامس : إرادة أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
والصحيح هو الوجه الثاني بالأصالة ، ويشمل الوجوه التي بعده بالتبعية والإلحاق ، أما بالنسبة للوجه الأول فالأصل بخلافه ، إذ وردت الخطابات في القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء بصيغة المفرد ، إنما وردت لغة التفخيم فيه خاصة بالله عز وجل كما في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
فمع قلة كلمات الآية أعلاه فقد وردت صيغة الجمع فيها خمس مرات كلها لله عز وجل , وفيه مسائل :
الأولى : إرادة الثناء على الله سبحانه .
الثانية : بيان رفعة شأن الذكر والتنزيل .
الثالثة : لا يقدر على التنزيل إلا الله عز وجل .
الرابعة : مع بديع خلق جبرئيل والملائكة وهيبتهم والقوة التي أودعها الله فيهم فانهم وسائط للذكر ,ولم يستطيعوا تنزيل آية واحدة من مثل القرآن أو كلمة من الكتب السماوية السابقة .
الخامسة : الإخبار عن حفظ الله للقرآن من الشياطين وأسباب الباطل ، وطرو الزيادة أو النقيصة فيه , وفي رسمه ولفظه.
ولم تبدأ آية البحث من غير عطف , فلم تقل الآية (لقد صدقكم الله وعده) وما في هذه البداية من إحتمال الإستئناف الموضوعي أو بداية أمر جديد بل جاء العطف بالواو ، وهو لا يتعارض مع إعرابه حرف إستئناف ، كما تقدم الجمع بينهما في باب الإعراب واللغة ، لأن تقسيم هذه الحروف إلى حروف عطف وإستئناف تقسيم إستقرائي جاء متاخراً على التنزيل ، وبحسب الصناعة النحوية ، وتابع علماء التفسير رجال النحو بل وذات علماء التفسير كانوا أنفسهم علماء في النحو أيضاً ، وإن لم يكن تفاسير شطر منهم ذات صبغة نحوية .
ولا يشترط في المجتهد الإجتهاد في علم النحو ، فتكفي الإحاطة العامة بقواعد النحو والصرف ، وإمكان فهم معنى الكلمة وموضعها في الجملة ، ومعنى الجملة عند تغير الحالة الإعرابية للفظ أو التقدم والتأخر في كلماتها ، ويكون حرف الواو في المقام على وجوه :
الأول : حرف العطف يعطف آية البحث على الآية السابقة .
الثاني : حرف إستئناف لبيان موضوع مستقل قائم بذاته .
الثالث : حرف عطف وإستئناف جامع للأمرين معاً .
والمدار على معاني ومنطوق الآية ، والمختار في آية البحث أنه من الوجه الثالث أعلاه ، ويحتمل وعد الله للمسلمين الذي تذكره آية البحث بلحاظ أثره وموضوعه بخصوص الذين كفروا وجوهاً :
أولاً : إنه وعد خاص للمسلمين ولا سلطان له على الذين كفروا .
ثانياً : الوعد الذي تذكره آية البحث تخويف ووعيد للكافرين، ليس من باب الأمر بالشئ نهي عن ضده، ولكن لدلالة مفهوم الآية .
ثالثاً : تنجز مصداق الوعد الإلهي في الواقع الخارجي وعيد للكافرين ، فعندما يتحقق الوعد بالنصر للمسلمين مثلاً يكون هذا النصر في ذاته ومفهومه وما يترشح عنه وعيداً وتخويفاً للذين كفروا .
رابعاً : نزول آية البحث وعيد للذين كفروا .
خامساً : كل مرة يتلو فيها المسلمون آية البحث وعيد وتخويف للكفار .
سادساً : خشية الكفار والمنافقين من نزول آيات تتضمن فضحهم والوعيد لهم ، وهو من أسرار نزول القرآن نجوماً وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة .
وبإستثناء الوجه الأول أعلاه ، فان الوجوه الخمسة الأخرى كلها من مصاديق آية البحث ليكون الوعيد للكافرين والمنافقين متصلاً في الليل والنهار ويلاحقهم في منتدياتهم وبيوتهم وفي الأسواق ، وفيه جذب إلى منازل الإيمان بلحاظ أن كلاً من الوعد والوعيد يخاطبان العقل ، ويميل الإنسان بفطرته إلى الوعد بالخير والبشارة بالفوز والنجاة، وتنفر نفسه من الأمور التي تجلب الأذى والضرر، وفيه وجوه:
الأول : قانون لكل آية مفهوم وهو الذي يقابل المنطوق، كما لو قلت فلان صائم أي أنه ممسك عن المفطرات، فاذا جاءت الآية القرآنية بالوعد للمسلمين فإنها تتضمن أموراً :
أولاً : حرمان الكفار مما في الوعد من الفضل الإلهي، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
ثانياً : دعوة الكفار والناس جميعاً لدخول الإسلام.
ثالثاً : زجر الذين كفروا عن الإقامة على الكفر.
الثاني : يمكن تأسيس قانون وهو كل وعد في القرآن سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، ليكون تقدير الجمع بين آية البحث وآية السياق : ولقد صدقكم الله وعده وفيه إلقاء للرعب في قلوب الذين كفروا.
الثالث : إنذار الذين كفروا بتحقق مصاديق الوعد الإلهي برفعة وعز ونصر المسلمين.
الرابع : بعث الحسرة في نفوس الذين كفروا لحرمانهم أنفسهم من النعم المترشحة عن قوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] ومنها:
الأولى : نعمة الخطاب التشريفي في الآية أعلاه.
الثانية : إنحلال وتعدد الخطاب الإلهي أعلاه بعدد المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، من وجوه :
أولاً : النصر يوم بدر وأحد إرتقاء وعز ورفعة لأجيال المسلمين المتعاقبة.
ثانياً : إفتخار طبقات وأجيال المسلمين بالنصر الذي تحقق في معارك الإسلام الأولى لأنه من عند الله، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ثالثاً : تطلع المسلمين في كل زمان إلى مصاديق من وعد الله.
الثالثة : تدبر المسلمين بالشواهد التي تأتيهم التي تدل على تنجز الوعد الإلهي.
الرابعة : تجدد مصاديق وفروع كل وعد من عند الله، وهو من مصاديق قوله تعالى[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، بتقريب أنه تعالى يأتي بالوعد من عنده ثم يبتدع مصاديق تدل عليه، وأفراد متصلة ومتجددة منه، لتكون وقائع وإنتصارات الإسلام الأولى حاضرة في الوجود الذهني للمسلمين، وتصير سبباً لبعث الحسرة والفزع في قلوب الذين كفروا.
وتبين الآية السابقة وهذه الآية قانوناً وهو أن الكفر يجلب أشد الضرر على صاحبه في النشأتين .
وتحتمل جهة الخطاب في آية البحث وجوهاً :
الأول : توجه الخطاب في بداية آية البحث إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتقدير الآية : ولقد صدقك الله وعده.
الثاني : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة وأصحابه وأهل بيته بالتبعية .
الثالث : المراد المجاهدون في معركة بدر وأحد , ليكون إكرامهم بقصدهم بالخطاب من مصاديق قوله تعالى [لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً] ( ) فمن الدرجة التي تذكرها الآية أعلاه تشريف المجاهدين بالخطاب، وتذكيرهم بأن الله صدقهم وعده ، خاصة وأن الوعد يتعلق بالنصر في سوح القتال .
الرابع : إرادة المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث لتبقى آية البحث غضة طرية , يقتبس منها المسلمون المواعظ والعبر ومنها :
الأولى : تلاوة آية البحث في الصلاة اليومية، وصلاة النافلة.
الثانية : شكر الله عز وجل على نزول آية البحث .
الثالثة : التدبر بمصاديق الوعد الإلهي عند تلاوة أو سماع آية البحث .
الرابعة : ذكر المسلمين للشواهد التي تدل على تنجز الوعد الإلهي لهم.
الخامسة : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة التباين والتضاد في موضوع الوعد لهم ، والوعيد والتخويف للكافرين والمنافقين ، قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا]( ).
ومن الإعجاز في نظم آيات القرآن ، ذكر آية البحث خصوص وحس وقتل الذين كفروا ، أما المنافقون فلم يقتلوا على نفاقهم ، ولكن الآيات أخبرت بأن مقامهم في الآخرة هو النار ، وهو من أسرار العموم في خاتمة الآية السابقة بقوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) ليكون بين الظالمين والكفار من أهل النار عموم وخصوص مطلق ، فالظالمون أعم ومنهم المنافقون .
وهل يتساوى العذاب الذي يتوجه لهم , فيه وجوه :
الأول : عذاب المنافقين أشد لقوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ).
الثاني : الذين كفروا أشد عذاباً من المنافقين .
الثالثة : إرادة التساوي في العذاب بين الكفار والمنافقين .
الرابع : التناوب في شدة العذاب بين الذين كفروا والمنافقين .
وآية البحث من مصاديق قوله تعالى[ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، من جهات:
الأولى : تلقي المسلمين الخطاب من عند الله بصيغة الجمع [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ].
الثانية : مجئ الخطاب بصيغة الوحي والقرآنية.
الثالثة : بقاء وتجدد الخطاب لأجيال المسلمين المتعاقبة، إذ يرثون التنزيل، وهو كنز السماء في الأرض، وليس من مراتب للإرث فيه، كالمرتبة الأولى وهم الأبوان والأولاد وإن نزلوا، أو المرتبة الثانية وهم الإخوان والأجداد.
فما أن يصل المسلم سن البلوغ حتى يرث الخطاب الخاص بالمسلمين في الآيات القرآنية ليشترك مع أبيه وأمه وجده من الأحياء، وقد ورد الخطاب التشريفي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة في القرآن، وكل خطاب منها موعظة ومدرسة في التكاليف وأسباب النجاة في الدنيا والآخرة، ليكون من معاني خاتمة الآية السابقة[وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، أنهم منعوا أنفسهم من تلقي هذا الخطاب، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
الرابعة : إختصاص المسلمين بالفوز بالوعد من عند الله عز وجل بالفلاح والنصر والرشاد.
الخامسة : تحقق مصداق الوعد الإلهي للمسلمين، وإدراك المسلمين للوعد ومصداقه.
السادسة : شكر المسلمين لله عز وجل على الوعد الكريم.
السابعة : بعث الفزع والخوف في قلوب الكافرين من المسلمين لأن الله عز وجل صدقهم وعده بالنصر في معركة بدر وسوق الأسرى وجلب الغنائم الى المدينة، ثم تحقق النصر وهزيمة الكفار في بدايات معركة أحد لولا ثغرة جبل أحد .
ويحتمل الوعد الإلهي في المقام وجوهاً :
أولاً : إتحاد الوعد وموضوعه.
ثانياً : تعدد الوعد في الموضوع المتحد.
ثالثاً : تعدد الوعد وإتحاد تنجزه الذي يدل عليه الفعل (صدقكم).
رابعاً : تعدد الوعد والموضوع وتجدد مصداق التنجز.
والصحيح هو الرابع أعلاه، ليكون لفظ (وعده) في الآية اسم جنس، وتقدير الآية : ولقد صدقكم الله وعوده.
لقد وردت الآية بصيغة الماضي ، فلابد من تحقق أمرين :
الأول : الوعد من عند الله عز وجل , ويأتي هذا الوعد عن طريقين :
أولاً : آيات القرآن الكريم .
ثانياً : السنة النبوية وإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن تحقيق المسلمين للنصر والغلبة على الذين كفروا ، وهل يلحق بالسنة رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتأويله لرؤيا المؤمنين , فيه وجوه :
الأول : الرؤيا ليست من السنة النبوية لأنها من عالم المنام وليس اليقظة.
الثاني : الرؤيا مقدمة للسنة النبوية ، بلحاظ أن جريانها على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السنة القولية والإمضاء لها بأنها رؤيا نبوة فقد تأتي الرؤيا بمعنى القضية الشخصية .
الثالث : رؤيا النبي من السنة النبوية لأنها حق وصدق.
والمختار هو الثالث فيما يخبر عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الرؤيا الصادقة التي يراها كنبي , وكذا في إمضائه لرؤيا بعض المسلمين وإخباره عن تفاصيلها ، ولكن مع الفارق وهو أن الرؤيا وتأويلها قابل للمحو والتغيير لقوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( )، فمحو رؤيا الإنذارات لصاحبها بالصدقة والدعاء ، وصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أخبر عن رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح .
كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام كان (إذا قام آخر الليل رفع صوته حتى يسمع أهل الدار يقول: ” اللهم أعني على هول المطلع،
ووسع علي المضطجع، وارزقني خير ما قبل الموت، وارزقني خير ما بعد الموت، وعنه عليه السلام: ما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله من نوم إلا خرّ لله عز وجل ساجدا وكان صلى الله عليه وآله إذا نام تنام عيناه ولا ينام قلبه, ويقول: إن قلبي ينتظر الوحي، وكان صلى الله عليه وآله إذا راعه شئ في منامه قال: ” هو الله لا شريك له “
وكان صلى الله عليه وآله كثير الرؤيا ولا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. وكان صلى الله عليه وآله إذا استيقظ من نومه يقول: ” سبحان الذي يحيى الموتى وهو على كل شئ قدير.
وإذا قام للصلاة قال: الحمد لله نور السماوات والارض والحمد لله قيوم السماوات والارض، والحمد لله رب السماوات والارض ومن فيهن، أنت الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت)( ) .
لتتجلى مقامات العبودية والخضوع لله عز وجل ، وفيه بيان لموضوعية الرؤيا وكثرتها في الوحي وتحقق مصداقها، ولزجر المسلمين والناس عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وذات موضوع الحديث بخصوص الرؤيا ورد أن (أوّل ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم،
فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح،
ثم حبّب (الله) إليه الخلاء،
فكان يأتي حراء فيتحنث فيه،
وهو التعبد (في) الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده بمثلها،
حتى فجأه الحق،
وهو في غار حراء.
قال : فجاءه الملك وقال : اقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «فقلت له : ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد،
ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ،
فأخذني فغطني الثانية،
حتى بلغ مني الجهد،
ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقاري،
فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد،
ثم أرسلني فقال : اقرأ باسم ربّك الذي خلق،
حتى بلغ،
ما لم يعلم.
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زمّلوني زمّلوني،
فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال : يا خديجة مالي؟
وأخبرها الخبر وقال : قد خشيت عليّ؟
قالت له : كلاّ ابشر،
فوالله لا يحزنك الله،
إنك لتصل الرحم،
وتصدق الحديث،
وتحمل الكَلّ،
وتُقري الضيف،
وتعين على نوائب الحق) ( ).
ليكون من إعجاز آية البحث مجئ مصاديق وتنجز الوعد الإلهي بالرؤيا وتحقق مصداقها في الخارج بأذن الله عز وجل وسعة فضله على المسلمين ، ولبيان قانون وهو أن الرؤيا حبل ممدود بين الله عز وجل وروح العبد ، وهي من رشحات نفخ الروح فيه.
عن أبي الدرداء أنه سئل عن هذه الآية {لَهُمُ الْبُشْرَى} قال : لقد سألت عن (شيء) ما سمعت أحداً سأل عنه بعد أن سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «ما سألني عنها أحد قبلك منذ نزل الوحي،
هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له وفي الآخرة الجنة.
وعن يمان بن عبيد الراسبي قال : حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «لا نبوة بعدي إلاّ المبشرات.
قيل : يا رسول الله وما المبشرات؟
. قال : الرؤيا الصالحة) ( ).
وقد تقدم الجمع بين الآيتين ( بل الله مولاكم ولقد صدقكم وعده ) ليفيد معنى إتصال وعدم إنقطاع وعد الله وصدقه ،ويحتمل وجوهاً :
الأول : إنقطاع الوعد بلحاظ معركة أحد لمجئ الآية بصيغة الفعل الماضي [صَدَقَكُمْ].
الثاني : تجدد الوعد الإلهي من عند الله .
الثالث : إنقطاع الوعد الإلهي مع إستمرار مصاديقه بلحاظ أن كل وعد من عند الله أمر متجدد .
الرابع : تجدد كل من الوعد الإلهي ومصداقه في كل مرة.
الخامس : تجدد وتعدد الوعد الإلهي، ولكن آية البحث خاصة بالوعد بخصوص النصر يوم أحد.
والصحيح هو الرابع ويكون الخامس في طوله فكل من الوعد الإلهي ومصاديقه أمور غير متناهية.
قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ]
في الآية إنذار إذ أن الخطاب موجه للمسلمين ويقع القتل على طائفة من الكفار ،إلا أنه إنذار للأحياء من الكفار جميعاً ، وكما جاءت الآية السابقة بصيغة الإستقبال [سَنُلْقِي] فكذا هذه الآية فان من معانيها ( تحسونهم وستحسونهم بإذنه ).
والحس هو القتل الذريع , وأعم منه قال عتبة الليثي :
نحسهم بالبيض حتى كأننا … نفلق منهم بالجماجم حنظلا( )
ويدل لفظ [تَحُسُّونَهُمْ] على حقيقة تأريخية وهي أن معركة أحد بدأت بالمبارزة الشخصية وإلتحمت الصفوف وهجم المسلمون هجمة رجل واحد مستصحبين النصر يوم بدر بفضل من الله عز وجل .
والمختار أن معنى الحس أعم من القتل ومن الغلبة والسيطرة على الميدان وقد قتل المسلمون الذين حملوا لواء المشركين واحداً بعد آخر إلى سبعة نفر مما يدل على إختراقهم لصفوف الكفار ، وتمكنهم من الوصول إلى مقر القيادة والقلب ، ليكون هذا الوصول من مصاديق [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] بلحاظ أن الفزع والخوف دخل قلوب المشركين مع بدايات المعركة ، ومن مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
وكان حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة ويسمى كبش الكتيبة وهو الذي تقدم وطلب المبارزة ، فتقدم له علي عليه السلام فقتله واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العُزى بن عثمان بن عبد الدار , ثم حمل أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله علي (عن ابن هشام ) ( ) وقيل قتله سعد بن أبي وقاص .
ثم عثمان بن أبي طلحة قتله حمزة بن عبد المطلب ، ومسافح بن طلحة ، والخلاص بن طلحة ، وكلاب بن طلحة ، والحارث بن طلحة ، وكان قتل أصحاب لواء المشركين سبباً لإنكشافهم وهزيمتهم .
قال ابن سعد (فلما قتل أصحاب اللواء انكشف المشركون منهزمين لا يلوون على شئ ونساؤهم يدعون بالويل وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاؤوا حتى أجهضوهم عن العسكر ووقعوا ينتهبون العسكر ويأخذون ما فيه من الغنائم وتكلم الرماة الذين على عينين واختلفوا بينهم وثبت أميرهم عبدالله بن جبير في نفر يسير دون العشرة مكانه , وقال لا أجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغنى ووعظ اصحابه وذكرهم أمر رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا لم يرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا قد انهزم المشركون فما مقامنا ههنا فانطلقوا يتبعون العسكر وينتهبون معهم وخلوا الجبل.
ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل , وقلة أهله فكر بالخيل وتبعه عكرمة بن أبى جهل فحملوا على من بقى من الرماة فقتلوهم وقتل أميرهم عبدالله بن جبير وانتقضت صفوف المسلمين واستدارت رحاهم وجالت الريح فصارت دبورا وكانت قبل ذلك صبا) ( ).
وذكر أن المراد من الحس في الآية هو القتل ، والمختار أنه أعم فيشمل وجوهاً :
الأول : تمكن المسلمين من الذين كفروا .
الثاني : غلبة المبارزين من المسلمين للذين سألوا المبارزة من الذين كفروا .
الثالث : قتل المسلمين لحملة لواء المشركين بالتتابع ، وفيه غاية الخزي والذل للذين كفروا في ساحة المعركة , وبين القبائل والناس وإلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
الرابع : هيمنة المسلمين على ساحة المعركة .
الخامس : صيرورة الذين كفروا في متناول سيوف المسلمين ورماحهم وسهامهم .
السادس : كما يكون معنى الحس هو القتل , فيكون من معناه أنه مقدمة للقتل .
السابع : المراد من المسلمين يحسون الذين كفروا بسيوفهم سواء تم قتله أو لا ، خاصة وأن الآية جاءت على نحو العموم الإستغراقي من الطرفين : الحاس وهم المسلمون ، والمحسوس وهم الذين كفروا .
قوله تعالى[بِإِذْنِهِ]
يعود الضمير الهاء لله عز وجل لوجوه:
الأول : تقدم ذكر الله عز وجل، والأصل في الضمير عودته إلى الاسم المتقدم إلا مع القرينة على الخلاف.
الثاني : بيان قانون كلي وأن القتل لا يكون الا بإذن الله.
الثالث : إخبار الأجيال المتعاقبة من المسلمين والناس جميعاً بأن قتل المسلمين للكفار إنما كان بإذن وعلم من عند الله، فلا تأتي طائفة وتقول لماذا هذا القتل وأن الإسلام يقبل الإنتشار من دون السيف، وأن ضرر الكفار يدفع عن المسلمين وعوائلهم من غير قتال، ولكن الوقائع تبطل هذه المغالطة، من جهات:
الأولى : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هارباً ومهاجراً من مكة بعد أن أجمع الكفار على قتله، وقرروا في دار الندوة التي بناها جده قصي بن كلاب أن يشتركوا في دمه كي يصعب على بني هاشم الطلب بثأره , وتتوزع ديته على القبائل، وكان عمه أبو لهب من المشاركين في إرادة قتله غيلة.
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَدْ صَارَتْ لَهُ شِيعَةٌ وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِمْ عَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَنَعَةً فَحَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ وَعَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ أَجَمَعَ لِحَرْبِهِمْ . فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النّدْوَةِ – وَهِيَ دَارُ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ الّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقْضِي أَمْرًا إلّا فِيهَا – يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حَيْنَ خَافُوهُ .
وعَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ قَالَ لَمّا أَجَمَعُوا لِذَلِكَ وَاتّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دَارِ النّدْوَةِ لِيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ غَدَوْا فِي الْيَوْمِ الّذِي اتّعَدُوا لَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمّى يَوْمَ الزّحْمَةِ فَاعْتَرَضَهُمْ إبْلِيسُ فِي هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ ، بَتْلَةٌ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الدّارِ فَلَمّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا ، قَالُوا : مَنْ الشّيْخُ ؟ قَالَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعَ بِاَلّذِي اتّعَدْتُمْ لَهُ فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ وَعَسَى أَنْ لَا يُعْدِمَكُمْ مِنْهُ رَأْيًا وَنُصْحًا ، قَالُوا : أَجَلْ فَادْخُلْ فَدَخَلَ مَعَهُمْ.
وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ ، مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ : عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب ٍ .
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف : طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ .
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ . وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ : أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَام . وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ : نُبَيْهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ : أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِمّنْ لَا يُعَدّ مِنْ قُرَيْشٍ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إنّ هَذَا الرّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ فَإِنّا وَاَللّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا فِيمَنْ قَدْ اتّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا ، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا . قَالَ فَتَشَاوَرُوا . ثُمّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا ، ثُمّ تَرَبّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنْ الشّعَرَاءِ الّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ زُهَيْرًا وَالنّابِغَةَ وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْمَوْتِ حَتّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ.
فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : لَا وَاَللّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ . وَاَللّهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ كَمَا تَقُولُونَ لَيَخْرُجَنّ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الّذِي أَغْلَقْتُمْ يُكَاثِرُوكُمْ بِهِ حَتّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ فَانْظُرُوا فِي غَيْرِهِ فَتَشَاوَرُوا . ثُمّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا ، فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا ، فَإِذَا أُخْرِجَ عَنّا فَوَاَللّهِ مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ وَلَا حَيْثُ وَقَعَ إذَا غَابَ عَنّا وَفَرَغْنَا مِنْهُ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأَلْفَتْنَا كَمَا كَانَتْ .
فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : لَا وَاَللّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ وَغَلَبَتِهِ عَلَى قُلُوبِ الرّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ وَاَللّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا أَمِنْتُمْ أَنْ يَحِلّ عَلَى حَيّ مِنْ الْعَرَبِ ، فَيَغْلِبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ ثُمّ يَسِيرُ بِهِمْ إلَيْكُمْ حَتّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ فِي بِلَادِكُمْ فَيَأْخُذَ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ ثُمّ يَفْعَلَ بِكَمْ مَا أَرَادَ دَبّرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا .
قَالَ فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَاَللّهِ إنّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ قَالُوا : وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا ، ثُمّ نُعْطِي كُلّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا ، ثُمّ يَعْمِدُوا إلَيْهِ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُوهُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ . فَإِنّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعًا .
فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا ، فَرَضُوا مِنّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ . قَالَ فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : الْقَوْلُ مَا قَالَ الرّجُلُ هَذَا الرّأْيُ الّذِي لَا رَأْيَ غَيْرُهُ فَتَفَرّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ .
فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ لَا تَبِتْ هَذِهِ اللّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِك الّذِي كُنْت تَبِيتُ عَلَيْهِ . قَالَ فَلَمّا كَانَتْ عَتَمَةٌ مِنْ اللّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ .
فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَكَانَهُمْ قَالَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَمْ عَلَى فِرَاشِي وَتَسَجّ بِبُرْدِي هَذَا الْأَخْضَرِ ، فَنَمْ فِيهِ فَإِنّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إذَا نَامَ( ).
الثانية : قد كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام بالحكمة والحجة والبرهان من غير إستعمال للسلاح والسيف ، وكان يتحمل الأذى الشديد من قومه في دعوته هذه ، ويشاركه في تلقي الأذى أهل البيت والصحابة الذين دخلوا الإسلام وهم صابرون ينتظرون قول الله تعالى في آية البحث [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] بإزاحة هذا الأذى وبدخول الناس الإسلام .
الثالثة : لقد إنحصر دفع الذين كفروا بالسيف والقتال , إذ هجموا على المدينة المنورة في السنة الثانية من الهجرة النبوية ، فوقعت معركة بدر , وكان من مصاديق إلقاء الرعب في قلوبهم وجوه :
الأول : قبل خروج قريش إلى بدر , وهم لا يزالون في مكة .
الثاني : عند النزول في ماء بدر , وقبل بدء المعركة .
الثالث : أثناء وقوع معركة بدر .
الرابع : بعد معركة بدر .
ليكون كل فرد من أفراد الرعب هذه موعظة لقريش وغيرهم ، ودعوة لهم وللناس للتوبة والكف عن محاربة الإسلام .
الرابعة : نزول آيات القرآن بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بقتال المشركين بعد إصرارهم على الكفر والظلم والتعدي ، قال تعالى [أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ] ( ).
ومن معاني تقييد نصر المسلمين بإذن الله عز وجل وجوه :
الأول : بيان حقيقة، فكما صدق الله وعده للمسلمين فانه أخبر عن كون غلبة المسلمين لم تتم إلا بإذن الله .
الثاني : ثناء الله عز وجل على نفسه من جهات :
الأولى : تعلق حسم المعارك ، ورجحان كفة أحد الطرفين بإذن الله .
الثانية : لا يأتي إذن الله بالنصر إلا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا .
الثالثة : حضور المشيئة الإلهية في ساعة الضعف والشدة .
الرابعة : بيان عظيم قدرة وسلطان الله ، وأنه إذا أراد نصر المسلمين فلا تستطيع الخلائق منعه ، قال تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ]( ) .
الثالث : حث المسلمين على الدعاء والمسألة رجاء فضل الله والفوز بإذنه في النصر ، وهل يمكن أن يدعو المسلمون الله عز وجل بتحقيق النصر والغلبة من غير قتال.
الجواب نعم ، والله واسع كريم ، وإثبات شيء لشيء في المشيئة الإلهية لا يمنع من غيره سواء كان مساوياً أو أعلى أو أدنى منه، وفي التنزيل[فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ]( ) .
الرابع : تنمية ملكة التطلع إلى إذن الله عند المسلمين في ميدان المعركة وفي حال السلم والمكاسب وبلوغ الغايات الحميدة ، فاذا حضر الإذن الإلهي في نصر المسلمين في ميدان المعركة فان الله يتفضل عليهم بالتوفيق في مقدمات القتال وحسن نتائجه وتدارك الأخطاء ، وهو الذي يتضمنه معنى آية البحث التي من إعجازها أنها بدأت ببيان فضل الله عز وجل وتحقيق نصرهم وغلبتهم على الذين كفروا وأنه تم بلطف من الله وإذنه ، ثم ذكرت الآية ما وقع فيه المسلمون من الأخطاء ، وهي بلحاظ آية البحث قليلة ، لبيان أنها لم تمنع نزول الإذن الإلهي بقتلهم المشركين .
وفي قوله تعالى ( تحسونهم ) ثلاث كلمات :
الأولى : الفعل المضارع تحسون, والذي يفيد معنى الماضي لتقدم إذ عليه.
الثاني : الفاعل وهو واو الجماعة .
الثالث : المفعول به ، وهو الضمير (هم) .ويوجه الخطاب في آية البحث إلى المسلمين بدليل عطفها على قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وهل يمكن القول بأن العطف بين الآيتين على نحو الموجبة الجزئية فالنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] عام وشامل للمسلمين والمسلمات , أما قوله تعالى [تَحُسُّونَهُمْ] فهو خاص بالمجاهدين في معركة بدر وأحد والخندق , الجواب نعم ، ولكنه لا يتعارض مع القول بالإطلاق في العطف , وأنه على نحو الموجبة الكلية ، فاذا أصاب أو قتل فريق من أهل البيت والصحابة الكافرين فكأن المسلمين جميعاً قاموا بهذا الحس.
وتدل على هذا المعنى أصالة الإطلاق وعموم اللفظ في هذه الآيات ، ومن منافعه :
الأول : مجئ الثواب للمسلمين والمسلمات عموماً فتجاهد طائفة من المؤمنين , ويأتي الثواب لجميع المسلمين والمسلمات .
الثاني : الوعيد والتخويف للذين كفروا وإنذارهم من حس وقتل المسلمين لهم إذا أصروا على العدوان.
الثالث : البشارة للمؤمنين بأن وعد الله بالنصر قريب منهم .
الرابع : بيان أن [َلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وهو ملك إيجاد وتعاهد وعناية ولطف ، فحينما خلق الله السموات والأرض فانه يتعاهدها في كل لحظة من ساعات الوجود , وفيه حث للناس للدعاء والمسألة .
وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : حس المؤمنين للذين كفروا هو الوعد الإلهي الذي ذكرته آية البحث بقوله تعالى (وعده) .
الثاني : هذا الحس والقتل من مصاديق إنجاز وتحقق الوعد الإلهي ، بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ].
الثالث : الحس وقتل الذين كفروا من رشحات الوعد الإلهي وفروع تنجزه .
الرابع : حس وقتل المسلمين للذين كفروا يوم بدر واحد وعاء وأصل لتحقق مصاديق الوعد الإلهي وتنجزها .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث والشواهد على عموم اللفظ ، وتعدد دلالاته خاصة وأن المعنى لا يختص بذات الكلمة القرآنية , إنما يستقرأ من الجمع بينها وبين التي تجمعها معها جملة مفيدة أو الكلمات المجاورة لها.
ليكون قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] علماً مستقلاً ، تستقرأ منه مسائل تتعلق بالوعد الإلهي وتنجزه ، والدلالات التي يستحدث منه .
وورد لفظ [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] بصيغة الماضي فهل يعني الإنحسار والتوقف في حس وقتل الذين كفروا، الجواب لا ، فجاءت الآية من باب الشاهد الحاضر , والإخبار عن بدايات نصر الإسلام وتوالي مصاديق هذا النصر ويدل على هذا التعدد أول آية البحث بتنجز وعد الله عز جل وخاتمتها بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
فمن معاني الفضل والزيادة والنافلة تجدد الحس والقتل في الذين كفروا إذا كرروا هجومهم وإعتداءهم على المدينة المنورة وزحفوا بالجيوش الكبيرة لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وحينما خسر كفار قريش معركة بدر, أعادوا الكرة والهجوم في معركة أحد , فكان الحس والقتل ينتظرانهم.
ومن الإعجاز في آية البحث تحقق الوعد الإلهي في أشد الأحوال التي تعرض لها المسلمون ، وهو ساحة المعركة وملاقاة جيش هو ثلاثة أضعاف جيش المسلمين .
وهل موضوع حس وقتل الذين كفروا أمر سهل وممكن وفق قاعدة الأسباب والمسببات والعدة والمؤون عند جيش المسلمين وجيش الذين كفروا , الجواب لا بلحاظ أن عدد جيش الكفار ثلاثة أضعاف جيش المسلمين وزحفوا متهيئين للقتال وأخذ الثأر لما لحقهم بمعركة بدر ، وفاتهم تبدل حال المسلمين بفضل الله عز وجل لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
فحال العز المستحدث الذي صار عليها المسلمون عون لهم في لقاء العدو وبشارة حس وقتل الذين كفروا .
ولم تذكر آية البحث حس وقتل الملائكة للذين كفروا فهل فيه مصداق للقول بأن الملائكة لم يقاتلوا يوم أحد.
وعن ابن عباس (لم تقاتل الملائكة إلاّ يوم بدر , وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عدداً ومدداً. وقال عمر بن أبي إسحاق : لما كان يوم أُحد انجلى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،
وبقي سعد بن مالك يرمي،
وفتىً شاب ينبل له فلمّا فني النبل أتاه به فنثره فقال : ارمِ أبا إسحاق،
ارمِ أبا اسحاق كرتين فلما انجلت المعركة سئل عن الرجل فلم يعرف)( ).
والجواب من وجوه :
الأول : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فإصابة المسلمين للذين كفروا بالجراحات والقتل لا يعني عدم قيام الملائكة بقتلهم .
الثاني : دلالة قول الله تعالى [فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ] ( ) على قيام الملائكة بقتل الكفار .
الثالث : جاءت آية البحث لبيان نعمة الله عز وجل على المسلمين وتنجز وعد الله عز وجل لهم .
وفي الآية نكتة وهي أن ذات الوعد من عند الله نعمة عظمى، ولا يقدر على تنجزه إلا هو سبحانه .
والنسبة بين صدق وعد الله وبين إبتداء معركة أحد بغلبة ونصر المسلمين هي العموم والخصوص المطلق , وكأن موضوع الآية من ملحقات العلة والمعلول , ويأتي لفظ (إذ) على وجوه :
الأول : ظرف زمان ، كما في قوله تعالى [إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى] ( ).
الثاني : حرف تعليل ، ومنه قوله تعالى [وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ] ( ) وورد في التنزيل في لوم الكفار لأنفسهم يوم القيامة وصحبة السوء التي ساقتهم إلى الجحيم [لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي]( ) والفاعل في ( جاءني )ضمير مستتر تقديره (هو) يعود إلى الذكر أي جاءني من الله ببعثة الرسول ونزول الكتاب من عند الله .
الثالث : حرف مفاجئة وهو الذي يأتي بعد (بينا )(بينما) وتسمى (اذ) الحرفية ولم ترد في القرآن كلمة (بينا ) (بينما) .
الرابع : التوكيد كما في قوله تعالى [وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ] ( ).
ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : لما دخلتم معركة أحد بإخلاص وتفان صدقكم الله وعده .
الثاني : لما بذلتم الوسع بمسايفة الذين كفروا صدقكم الله وعده ).
وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] ( ).
الثالث : لقد مكّنكم الله من الذين كفروا وجعلكم تحسونهم وتقتلونهم في بداية معركة أحد فصدقكم وعده بالنصر والغلبة .
وتكون النسبة بين صدق الوعد من الله وبين حس وقتل الذين كفروا على وجوه :
أولاً : صدق وعد الله للمسلمين علة لحسهم للذين كفروا .
ثانياً : حس وقتل المسلمين للذين كفروا هو ذاته صدق الوعد .
ثالثاً : حس وعمل سيوف المسلمين بالذين كفروا علة لصدق وعد الله للمسلمين .
قانون آيات الإذن
تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا بإذنه ) يعود الضمير في بإذنه إلى لله عز وجل، فليس من سلطان لأحد من الخلائق على القلوب إلا لله عز وجل , وعندما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً [كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، صار الناس في مكة وما حولها من القرى والمدن على قسمين :
الأول: مؤمنون بالنبوة والتنزيل .
الثاني : جاحدون بالنبوة والتنزيل .
وجاء إيمان المسلمين على نحو تدريجي وليس دفعياً، إبتدأ بأهل البيت والصحابة رجالاً ونساءً في مكة ثم جاءت بيعة العقبة الأولى, والثانية التي غيرت مجرى التأريخ وكتب الله عز وجل بها للإسلام الدوام إلى يوم القيامة.
ولو لم تكن بيعة العقبة فهل تكون هناك بيعة لقوم غير الأوس والخزرج أو سبب لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونشر الإسلام ، الجواب نعم , وهو من فضل الله عز وجل ومصاديق قوله تعالى [بِإِذْنِ اللَّهِ] في آية البحث ، قال تعالى [وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
وتحتمل النسبة بين المشيئة والإذن الإلهي وجوهاً :
الأول : المشيئة أعم وأكبر من الإذن .
الثاني : نسبة التساوي بين المشيئة والإذن الإلهي كما في باب الإستثناء , قال تعالى [وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
الثالث : الإذن الإلهي هو الأكبر والأعم .
والمختار هو الأول، وأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق , والإذن أخص من المشيئة ، لبيان إكرام الله عز وجل للمسلمين بهدايتهم إلى الإيمان وسبل الهداية ، وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل إذ خصهم الله بالإيمان من بين أهل الأرض ، ورزقهم الله الصبر والدفاع عنه ، ولا يختص إذن الله في المقام بدخول المسلمين الإسلام، بل يشمل أموراً :
الأول : بناء إبراهيم وإسماعيل البيت الحرام على القواعد التي أنشأها آدم وحواء بتوجيه وإعانة من جبرئيل ، ودعوة إبراهيم الناس لحج البيت لتكون إستجابتهم بإذن الله كما في قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ).
(عن أنس بن مالك قال : كنت قاعداً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد الخيف أتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف ، فسلما عليه ثم قالا : يا رسول الله جئنا نسألك . قال : إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه ، وإن شئتما سألتماني . قال : أخبرنا يا رسول الله نزداد إيماناً ويقيناً.
قال للأنصاري : جئت تسأل عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام وما لك فيه ، وعن طوافك وما لك فيه ، وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما ، وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك بعرفة وما لك فيه ، وعن رميك الجمار وما لك فيه ، وعن طوافك بالبيت وما لك فيه ، يعني الإِفاضة . قال : والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأسألك عن ذلك .
وقال : أما مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن ناقتك لا ترفع خفاً ولا تضعه إلا كتب الله لك به حسنة ومحا به عنك خطيئة ، وأما طوافك بالبيت فإنك لا ترفع قدماً ولا تضعها إلا كتب الله لك بها حسنة ومحا عنك بها خطيئه ورفع لك بها درجة ، وأما ركعتاك بعد طوافك فكعتق رقبة من بني إسمعيل ، وأما طوافك بين الصفا والمروة فكعتق سبعين رقبة ، وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله تعالى يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة ، ويقول : انظروا إلى عبادي جاؤوني من كل فج عميق شعثاً غبراً يرجون رحمتي ومغفرتي ، فلو كانت ذنوبهم مثل الرمل ، وعدد القطر ، ومثل زبد البحر ، ومثل نجوم السماء ، لغفرتها لهم ويقول : أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم فيه ، وأما رميك الجمار فإن الله يغفر لك بكل حصاة رميتها كبيرة من الكبائر الموبقات الموجبات ، وأما نحرك فمدخور لك عند ربك ، وأما طوافك بالبيت – يعني الافاضة – فإنك تطوف ولا ذنب عليك ، ويأتيك ملك فيضع يده بين كتفيك ويقول : اعمل لما بقي فقد كفيت ما مضى) ( ).
الثاني : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنجاة الناس جميعاً من براثن الشرك والضلالة .
الثالث : إذن الله بذم قريش , وتبكيتهم على تركهم التوحيد وإتخاذهم الأصنام زلفى تقربهم إلى الله , ورجائهم لها وطلب الحاجات منها وهم بجوار البيت الحرام .
الرابع : نزول جبرئيل بآيات القرآن فليس لجبرئيل أن يهبط إلى الأرض إلا بإذن من عند الله .
وهل الإذن الإلهي بنزول جبرئيل مرة واحدة لكل آيات القرآن أم يأتي الإذن من عند الله في كل مرة ينزل فيها جبرئيل ، الجواب هو الثاني سواء كان نزوله بآية أو آيات من القرآن أو لأمر آخر غير آيات القرآن .
وعن أنس قال : سئل النبي صلى الله عليه آله وسلم : أي البقاع أحب إلى الله وأيها أبغض إلى الله ؟ قال : ما أدري حتى أسأل جبريل ، وكان قد أبطأ عليه فقال : لقد أبطأت عليّ حتى ظننت أن بربي عليّ موجدة، فقال : { وما نتنزل إلا بأمر ربك}( ).
ويمكن تأسيس علم مستقل هو ( علم آيات الإذن الإلهي ) ومن الإعجاز في المقام أن لفظ الإذن ورد أربع مرات في آية واحدة في قصة عيسى عليه السلام ، قال تعالى [وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي] ( ).
وجاء الخطاب بالإذن للمؤمنين يوم أحد , وهو تشريف وتزكية وشكر من عند الله سبحانه لهم , ومن معاني الإذن في آية البحث أنه مدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين . ليكون عوضاً وبديلاً سماوياً عن الذين إنخزلوا مع رأس النفاق في الطريق إلى أحد .
وقد يأتي الأذن بمعنى الإستماع ، ومنه آلة السمع عند الإنسان ، وعلى هذا المعنى حمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مَا أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ) ( ) .
(قال ابن سيده وأَذِنَ إليه أَذَناً استمع , وفي الحديث ما أَذِنَ اللهُ لشيءٍ كأَذَنِهِ لِنَبيٍّ يَتَغَنَّى بالقرآن , قال أَبو عبيد يعني ما استمَعَ اللهُ لشيء كاستِماعِهِ لِنَبيٍّ يتغنَّى بالقرآن أَي يتْلوه يَجْهَرُ به) ( ).
ولكن ورد في ذات الصفحة أعلاه من لسان العرب (أَذِنَ بالشيء إذْناً وأَذَناً وأَذانةً عَلِم , وفي التنزيل العزيز فأْذَنوا بحَرْبٍ من الله ورسوله أَي كونوا على عِلْمٍ) ( ).
والمختار أن معنى الأذن في الحديث أعلاه هو أعم من الإستماع ومنه توارث الأنبياء لآيات من التنزيل والدعوة إليه .
ويمكن تقسيم الإذن الإلهي بلحاظ الزمان والموضوع والحكم إلى أقسام :
الأول : الإذن الإلهي في الخلق والتكوين ، وهو إذن متجدد ، قال سبحانه [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( ).
الثاني : الإذن من الله في الحياة الدنيا ، فحينما تفضل الله عز وجل ، وقال [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )فانه سبحانه جعل أفراد الإذن أكثر من أن تحصى ، وزاد من فضله بالإذن للملائكة بتعضيد هذه الخلافة وتقويمها للمؤمنين وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
وإحتجاج الله عز وجل على الملائكة بالإذن لها لتعضيد الخليفة ونصرة الإيمان .
وكل مرة ينزل فيها جبرئيل بالوحي هو من علم الله المذكور في الآية أعلاه ليكون حجة على ذات الملائكة ، ومن الإعجاز أنه ينزل بآيات القرآن بإذن الله والتي تبقى في الأرض سالمة من التحريف والتبديل بإذن الله .
الثالث : إذن الله بإستدامة الموجودات ونظام سيرها وعملها ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ]( ).
الرابع : إذن الله ببعثة الأنبياء ، وتعاهد رسالاتهم ، وتفضله بتهيئة مقدمات التبليغ ، وهداية أمة من الناس للتصديق بكل نبي بالمعجزة والحجة والبرهان .
لذا تضمنت الآية السابقة ذم الذين كفروا لإشراكهم بالله بـ [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ).
الخامس : غلبة ونصر المسلمين وإزاحة الكافرين عن مقامات الرياسة والسلطة والشأن الرفيع بين الناس ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ].
وهل يصح تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا لقد صدقكم الله وعده بأن هداكم للإيمان .
الجواب صحيح أن الله عز وجل هو الذي هدى المسلمين للإيمان به وبرسله وبكتبه وملائكته وتدل عليه آيات عديدة منها قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ] ( ) [وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ]( )ولكنه ليس من الوعد الشخصي بل إن الوعد نعمة عظمى إضافية ترتبت على الهداية ، وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله على تفضله بالنعم من وجوه :
الأول : نعمة الهداية والرشاد.
الثاني : اللطف والنعمة بالوعد من عند الله .
الثالث : نعمة تقريب الوعد ومصداقه بالدعاء والعمل الصالح .
الرابع : تفضل الله بتنجز الوعد .
ولو دار الأمر بين إتحاد أو تعدد الوعد الإلهي , فالصحيح هو الثاني لأن الله عز وجل يعطي بالأعم والأوسع ، ولتعلق الوعد الإلهي بالدنيا وبشارات الآخرة ، وقد يأتي الوعد من عند الله على لسان الأنبياء كما ورد عن نوح بندبه قومه إلى الإستغفار والتوبة وبيان منافع الإستغفار فورد في التنزيل [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا] ( ) .
وعن سلمان (قال : رأى نوح عليه السلام قوماً تجزعت أعناقهم حرصاً على الدنيا ، فقال : هلموا إلى طاعة الله فإن فيها درك الدنيا والآخرة) ( ).
وتتضمن الآية أعلاه الإخبار عن كفر وجحود قوم نوح ، وأنه كان يدعوهم إلى التوبة والإنابة والإستغفار فلا ينحصر لوم نوح على حبهم للدنيا وحرصهم عليها ، بل تحمل الأذى الشديد منهم لجهاده في دعوتهم إلى الله , وتحكي هذه الآيات إصرار قومه على الجحود مع طول اقامته بين ظهرانيهم يدعوهم إلى الإيمان وكانوا يقابلونه بالإستهزاء والإيذاء .
(عن ابن عباس : أن نوحاً بعث في الألف الثاني ، وأن آدم لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الألف الأول ، وكان قد فشت فيهم المعاصي ، وكثرت الجبابرة ، وعتوا عتوّاً كبيراً ، وكان نوح يدعوهم ليلاً ونهاراً ، سراً وعلانية ، صبوراً حليماً ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح ، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه ويضرب في المجالس ويطرد .
وكان لا يدع على ما يصنع به أن يدعوهم ، ويقول : يا رب اغفر لقومي فانهم لا يعلمون ، فكان لا يزيدهم ذلك إلا فراراً منه ، حتى إنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه ويجعل أصابعه في أذنيه لكيلا يسمع شيئاً من كلامه ، فذلك قوله الله { جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم }( ) ثم قاموا من المجلس فاسرعوا المشي ، وقالوا : امضوا فإنه كذاب . واشتد عليه البلاء ، وكان ينتظر القرن بعد القرن ، والجيل بعد الجيل ، فلا يأتي قرن إلا وهو أخبث من الأول , وأعتى من الأول ، ويقول الرجل منهم : قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا ، فلم يزل هكذا مجنوناً .
وكان الرجل منهم إذا أوصى عند الوفاة يقول لأولاده : احذروا هذا المجنون فإنه قد حدثني آبائي : إن هلاك الناس على يدي هذا . فكانوا كذلك يتوارثون الوصية بينهم .
حتى إن كان الرجل ليحمل ولده على عاتقه ، ثم يقف به وعليه فيقول : يا بني ان عشت ومت أنا فاحذروا هذا الشيخ ، فلما طال ذلك به وبهم { قالوا : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين }( )) ( ).
ليكون قولهم هذا حجة عليهم في نزول عذاب الطوفان بهم .
وتدل قصة قوم نوح على أفضلية المسلمين ، فلم يعمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينهم طويلاً ، وحالما أعلن دعوته آمن به في اليوم الأول والثاني الإمام علي وخديجة بنت خويلد ليتوالى بعده دخول الصحابة في الإسلام .
وصحيح أنهم تلقوا الأذى من كفار قريش ، ولكن هذا الأذى لم يمنع من إستمرار وتعاقب دخول الناس في الإسلام ،فمثلاً يقوم أحد كبار قريش بإيذاء النبي وتعذيب بعض أصحابه في النهار , ويدخل إلى بيته في المساء ليفاجئ بدخول إبنه أو بنته في الإسلام .
ولم يبق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع القوم الظالمين مع أن مكة مولده وفيها نشأته وشرفها الله بالبيت الحرام ، وقد يقال إذا كان قومه وأهله ومجاوروا البيت الحرام ناصبوه العداء , فقد يظن من باب الأولوية القطعية أن يقابله أهل المصر الذي يهاجر إليه بالجفاء والصدود والدعوة إلى الرجوع من حيث أتى كما حصل في هجرته إلى الطائف .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توكل على الله عز وجل وأخذ يلتقي بوفود القبائل في موسم الحج لتكون بهذه اللقاءات مباركة وضياء مدد من البيت الحرام إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله وهو من عمومات قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ويحتمل موضوع الفرقان في قوله تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( )وجوهاً :
الأول : إرادة معركة بدر وأوانها على نحو التعيين ، وإنتصار المسلمين فيها , وتناقل الركبان ما أصاب كفار قريش من الخزي والذل وعار الهزيمة.
الثاني : المقصود معركة بدر ودخول الأسرى والغنائم إلى المدينة , لتجلي مصاديق الفرقان في المدينة المنورة وبين أهلها والتمايز والفيصل بين المسلمين والمنافقين والكفار .
ومن الآيات في المقام أن بعض الناس لم يصدق بما نقله البشير إلى المدينة يوم بدر من خبر نصر المسلمين إذ بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيرين إلى أهل المدينة أحدهما عبد الله بن رواحة بشيراً إلى أهل العالية ، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة .
قال الواقدي (قالوا : وقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة من الاثيل فجاءا يوم الاحد حين اشتد الضحى، وفارق عبد الله بن رواحة زيد بن حارثة من العقيق، فجعل عبدالله بن رواحة ينادى على راحلته : يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتل المشركين وأسرهم، قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وقتل زمعة ابن الاسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو.
قال عاصم بن عدى : فقمت إليه فنحوته فقلت: أحقا يا بن رواحة ؟ فقال: إي والله، وغدا يقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأسرى مقرنين.
ثم تتبع دور الانصار بالعالية يبشرهم دارا دارا، والصبيان ينشدون معه يقولون: قتل أبو جهل الفاسق، حتى إذا انتهى إلى دار بنى أمية وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القصواء يبشر أهل المدينة، فلما جاء المصلى صاح على راحلته : قتل عتية وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وقتل أمية بن خلف وأبو جهل وأبو البختري وزمعة بن الاسود، وأسر سهيل ابن عمرو ذو الانياب، في أسرى كثير.
فجعل بعض الناس لا يصدقون زيدا ويقولون: ما جاء زيد بن حارثة إلا فلا ( ) حتى غاظ المسلمين( ) ذلك وخافوا.
وقدم زيد حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبقيع، وقال رجل من المنافقين لاسامة : قتل صاحبكم ومن معه.
وقال آخر لابي لبابة : قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون فيه أبدا، وقد قتل عليه أصحابه، قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ماذا يقول من الرعب، وجاء فلا.
فقال أبو لبابة: يكذب الله قولك.
وقالت اليهود: ما جاء زيد إلا فلا.
قال أسامة : فجئت حتى خلوت بأبي فقلت: أحق ما تقول ؟ فقال: إي والله حق ما أقول يا بني.
فقويت نفسي، ورجعت إلى ذلك المنافق فقلت: أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين لنقدمنك إلى رسول الله إذا قدم فليضربن عنقك.
فقال: إنما هو شئ سمعته من الناس يقولونه.
قال: فجئ بالاسرى وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان قد شهد معهم بدرا، وهم تسعة وأربعون رجلا الذين أحصوا.
قال الواقدي : وهم سبعون في الاصل مجتمع عليه لا شك فيه.
قال: ولقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الروحاء رءوس الناس يهنئون بما فتح الله عليه) ( ).
الثالث : إرادة نزول آيات القرآن يوم بدر , وتجلي حقيقة تأريخية , وهي ثبوت النصر بالتوثيق السماوي ، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف والتبديل إلى يوم القيامة لأن آياته شاهد على نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمدد من عند الله عز وجل .
الرابع: المقصود حال الخزي والهوان التي أصابت المشركين ، وهو من معاني ودلالات قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
فمع أن موضوع الذلة في الآية أعلاه يتعلق بقلة عدد المسلمين ، والنقص الظاهر في أسلحتهم ومؤنهم , وقد قيل : تزحف الجيوش على بطونها ) أي لا تستطيع مواصلة القتال إلا باتصال حبل المؤون والزاد وتوفير المياه ، فان المسلمين كانوا يقاتلون بسلاح الإيمان والوعد من الله عز وجل بالنصر ، لذا يصدق الجمع بين آية البحث وآية السياق [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
الخامس : إرادة يوم بدر وما بعده إلى يوم القيامة ، ويكون معنى يوم الفرقان على وجوه :
الأول : ثبوت الفصل والفرقان بين المؤمنين والكفار ما قبل يوم بدر ، وتجليه يوم معركة بدر .
الثاني : صدق الفرقان على معركة بدر ، ووقائعها.
الثالث : صيرورة معركة بدر فيصلاً بين الإيمان والكفر .
الرابع : كل واقعة بين المسلمين والكفار فرقان ، فيصح تقدير الآية على وجوه :
الأول : ولقد نصركم الله بمعركة أحد .
الثاني : ولقد نصركم الله بمعركة الأحزاب في السنة الرابعة للهجرة ، وقيل في السنة الخامسة .
ولما حاصر الأحزاب من قريش وغطفان وبني سليم وغيرهم المدينة , قال المؤمنون [قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] ( ).
الثالث : ولقد نصركم الله بصلح الحديبية وأنتم أذلة ، وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية يريد العمرة ، وساق هو وأصحابه سبعين بدنة (قال الزهري : وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا ويح قريش ! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الاسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فو الله لا أزال أجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السالفة) ( ).
الرابع : ولقد نصركم الله بمضامين العمل مع المشركين يوم صلح الحديبية لذا سمّاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه فتح .
الخامس : ولقد نصركم الله عز وجل يوم فتح مكة ، وهو عيد للمسلمين وأهل الأرض جميعاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
السادس : من مصاديق تقدير قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ولقد نصركم الله بكل يوم من أيام الإسلام ، فان قلت الأصل في النصر أنه في ميادين المعارك ، والجواب معنى النصر أعم ، قال الصاحب بن عباد (النَّصْر: عَوْنُ المَظْلُوْمِ. والأنْصَارُ: جَماعَة الناصِرِ. وانْتَصَرَ: انْتَقَمَ من ظالِمِه) ( ) ويأتي النصر بمعنى التأييد والإجادة , ويقال (نَصَرَ الغيثُ أرضَ بني فلان، إذا جادها. قال الشاعر:
إذا أدبَرَ الشهرُ الحرامُ فودِّعي … بلادَ تميم وانصري أرضَ عامرِ
وُيروى: إذا ودَّعَ، أي أمطريها. وقد سمّت العرب نَصْراً ومنصوراً ونُصَيْراً وناصراً.
وبنو نَصر: بطن من العرب. قال الأصمعي أو أبو زيد: وقفَ علينا أعرابي فقال: انصروني نصركم الله، أي أعطوني، ونصرتُ الرجل : إذا أعطيته. قال الشاعر:
أبوكَ الذي أجدَى عليّ بنَصْرِهِ … فأسكتَ عنّي بعَده كلُّ قائل) ( ).
ففي كل يوم يتفضل الله ويمد المسلمين بالنصر والعون والتأييد والبركة ويؤدون الفرائض الخمسة .
ويطل عليهم هلال شهر رمضان( ) فيصومون أيامه ويحيون لياليه بالذكر والإستغفار وكل فرد منها نصر من عند الله ، ويأتي موسم الحج ليزحفوا نحو البيت الحرام ، ويقولون بصوت واحد ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك) وتكون من معاني آية البحث وجوه :
الأول : ولقد صدقكم الله وعده فناديتم جميعاً (لبيك اللهم لبيك ) .
الثاني : ولقد صدقكم الله وعده فأزاح سلطان الذين اشركوا عن البيت الحرام .
الثالث : ولقد صدقكم الله وعده فهدمتم الأصنام التي حول البيت الحرام .
(عَنْ ابن عَبّاسٍ ، قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَكّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ . فَطَافَ عَلَيْهَا وَحَوْلَ الْبَيْتِ أَصْنَامٌ مَشْدُودَةٌ بِالرّصَاصِ فَجَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يُشِيرُ بِقَضِيبِ فِي يَدِهِ إلَى الْأَصْنَامِ وَيَقُولُ ( جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) .
فَمَا أَشَارَ إلَى صَنَمٍ مِنْهَا فِي وَجْهِهِ إلّا وَقَعَ لِقَفَاهُ . وَلَا أَشَارَ إلَى قَفَاهُ إلّا وَقَعَ لِوَجْهِهِ حَتّى مَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ إلّا وَقَعَ , فَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ الْخُزَاعِيّ فِي ذَلِكَ
وَفِي الْأَصْنَامِ مُعْتَبَرٌ وَعِلْمٌ … لِمَنْ يَرْجُو الثّوَابَ أَوْ الْعِقَابَا) ( )
وفي رواية عن عبد الله بن مسعود وعن ابن عباس (لما إفتتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين صنماً،
صنم كل قوم بحيالهم ومعه مخصرة , فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}( ) بجعل الصنم ينكب لوجهه وجعل أهل مكة يتعجبون،
ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلاً أسحر من محمّد) ( ).
وبلحاظ آية [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] هل إزاحة وتكسير الأصنام حول البيت خاص بيوم الفتح أم أن تنزه البيت منها دائم إلى يوم القيامة .
الجواب هو الثاني وهو من مصاديق دوام مصداق الوعد الإلهي وتجدده في كل زمان بلحاظ أن الآية القرآنية غضة طرية في موضوعها وحكمها , ويمكن تأسيس قانون من جهات :
الأولى : بقاء رسم ولفظ الآية القرآنية إلى يوم القيامة .
الثانية : إنتفاء الخصومة بين المسلمين في رسم وآيات القرآن .
الثالثة : تلاوة المسلمين والمسلمات كل يوم للآية القرآنية , وهو من أسرار وجوب القراءة في الصلاة اليومية على كل مسلم ومسلمة ، وهل يمكن القول بأنه لا يمر يوم من الأيام إلا وكل آية من القرآن تقرأ من قبل واحد أو أكثر من المسلمين ، فعدد آيات القرآن هو ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية , بينما يعد المسلمون بالملايين .
الجواب نعم ،إذ تأتي تلاوة المسلمين لآيات القرآن من وجوه :
أولاً : التلاوة في الصلاة الواجبة .
ثانياً : القراءة في صلاة النافلة .
ثالثاً : تلاوة المسلم لآيات من القرآن بوقت مخصوص من كل يوم فاذا قسّم المسلم آيات القرآن في قراءته وورده ثلاثين جزء , وكل يوم يقرأ جزء من غير ترتيب بينهم فقد تترشح قراءة كل القرآن في يوم واحد من الذين يتعاهدون ختمه في كل شهر أو أكثر وأن هذا الختم أمر توارثه المسلمون وتعاهده الصالحون وعشاق القرآن في مشارق الأرض ومغاربها وهو من السنة النبوية .
وعن أوس بن حذيفة (قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وفد ثقيف.
قال: فنزلت الاحلاف على المغيرة بن شعبة ؟ وأنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنى مالك في قبة له، كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام، فأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش، ثم يقول: ” لا آسى ، وكنا مستضعفين مستذلين بمكة، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ندال عليهم ويدالون علينا.
فلما كانت ليلة أبطأ عنا الوقت الذى كان يأتينا فيه، فقلنا: لقد أبطأت علينا الليلة.
فقال: ” إنه طرأ علي حزبي من القرآن , فكرهت أن أجئ حتى أتمه “.
قال أوس: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف تحزبون القرآن ؟ فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده) ( ).
وتعاهد المسلمين لختم القرآن ورجاء ثوابه من أسرار هدم الأصنام في البيت الحرام ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ] ( ) أي جاء ختم القرآن كل يوم من قبل المسلمين ، ولا يعلم عدد ختمات القرآن والآيات التي يقرأها المسلمون والمسلمات كل يوم إلا الله عز وجل وهي على وجوه :
الأول : ما يقرأه المسلمون في الصلاة اليومية الخمسة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
الثاني : قراءة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة النافلة اليومية وغيرها.
الثالث : قراءة المسلمين لآيات القرآن في الدعاء , وعند البيان والجدال والإحتجاج وإقامة البرهان , فقد ورد عن الحارث الأعور (قال : مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت علَى علِيّ فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث ؟ قال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم.
قال : أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : “إنها ستكون فتنة” فقلت: ما المَخْرج منها يا رسول الله؟ قال: “كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحُكْم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهَزْل، من تركه من جبار قَصَمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تَلْتَبِس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذْ سمعته حتى قالوا[ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ] ( )، من قال به صَدق، ومن عمل به أجِر، ومن حكم به عَدَل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم)( ).
الرابع : تدارس المسلمين آيات القرآن وتلاوتها وتفسيرها وأسباب النزول , والناسخ والمنسوخ ، والمجمل والمبين ، ونحوه من علوم القرآن .
الخامس : قراءة القرآن في مجالس الفاتحة ، وإرادة الثواب بها للأحياء والموتى .
السادس : مواظبة أعداد من المسلمين على ختم القرآن خلال أيام ومدة معينة ولو تخلف الناس عن ضبط ورد لختم القرآن بمدة معلومة ، فهل يلزم الحاكم إجبارهم ، أو إيجار من يقوم بختم القرآن كل أسبوع أو كل شهر مثلاً ، كما في لزوم تعاهد حج البيت الحرام , الجواب لا دليل عليه ، وهو قياس مع الفارق ، فحج البيت الحرام فريضة وركن من أركان الإسلام .
السابع : قد تؤسس منتديات ومؤسسات ومدارس يتضمن منهاجها ختم القرآن مرة أو مرات بتقسيم قراءة السور على الطلبة , ولا يضر فيه عدم الدقة في الترتيب الزماني , كما لو إتفق قراءة سورة قبل أخرى تسبقها في ترتيب المصحف , والترتيب أولى وأبهى .
وجاءت آية السياق بالنداء العام للمسلمين والمسلمات [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] والمراد أعم من المؤمنين ، إذ يشمل النداء أعلاه الذين نطقوا بالشهادتين ، ولكنهم لم يؤمنوا بقلوبهم ، كما في قوله تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
وسئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل : ” يا ايها الذين آمنوا ” في غير مكان من مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذا المنافقون ؟ قال: نعم يدخل في هذا المنافقون والضلال , وكل من أقر بالدعوة الظاهرة ) ( ) , وفيه مسائل :
الأولى : إرادة نفع جميع المسلمين والمسلمات من النداء التشريفي للقرآن .
الثانية : بيان فضل الله وشكره على النطق بالشهادتين ، فتكون هذه الكلمات باباً لرحمة وفضل من عند الله .
الثالثة : إقامة الحجة على المنافقين من وجوه :
الأول : لزوم شكر الله على النطق بالشهادتين ، لأنه نوع تشريف وإكرام ..
الثاني : يجب التحلي بواجبات النطق بالشهادتين .
الثالث : إخبار المنافقين بأن الله عز وجل يعلم ما في قلوبهم .
الرابع : إعانة المنافقين لتنزيهم عن النفاق ، لأن إشراكهم بذات النداء مع الذين آمنوا نعمة عظيمة .
الخامس : في نداءات الإيمان واجبات عبادية ومندوبات ، وكلها خير محض ، ونفع لمن يعمل بها , وهي وسيلة للتنزه عن النفاق كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
وتفيد الآية أعلاه ترغيب المسلمين كافة بتعاهد الصلاة بأوقاتها وعدد فرائضها اليومية ، وعدد وكيفية ركعات كل صلاة منها .
وتدل على أن أداء الصلاة بقصد القربة والتحلي بالصبر سبيل للتنزه عن النفاق وأخلاقه ، لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]أي أن الذي يصر على الإقامة على النفاق لا يكون الله معه للتباين بين النفاق وإخفاء الكفر وبين الصبر وحب الله .
السادس : النفاق داء في القلب ، وتخلف عن الصدق , وموافقة ما يخفي الإنسان لما يظهره من حسن الإيمان , ولا يعلم بهذا الداء إلا الله عز وجل وقد تفضل وأخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء المنافقين وأمرهم يوماً أن يخرجوا من المسجد ، مما يدل على قلة عددهم وصيرورتهم ضعفاء .
فجاء الأمر للمسلمين كافة الذين نطقوا بالشهادتين بأداء الفرائض والعبادات ليكون حال المنافق على وجوه :
الأول : جمع المنافق بين أداء الفرائض وبين البقاء في قرارة نفسه على الكفر .
الثاني : التوبة من النفاق والرياء وصيرورة باطنه كظاهره الإيماني .
الثالث : صيرورة المنافق في حال تفكر ولوم للذات للتباين والتضاد بين إظهاره الإيمان وإخفائه الكفر ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( ) إذ أن من معانيها لوم النفس عند إرتكاب المعاصي ، وإدراك قبحها الذاتي وأنه لا يترتب عليها إلا الضرر .
ومنهم من قسم النفوس إلى أقسام :
الأول : النفس المطمئنة وورد عن أبي أمامة (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل : قل اللهم إني أسألك نفساً مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك) ( ).
الثاني : النفس اللوامة : وهي التي تتصف بالحساب الذاتي إذ يقوم الإنسان باستحضار أعماله ، ويلوم نفسه على المذموم منها ، قال تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] ( ).
الثالث : النفس الأمّارة : التي تأمر بفعل السوء وإرتكاب المعاصي .
وجاء خطاب [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] في آية السياق لإرتقاء المسلمين إلى مراتب الإيمان , وبعث الطمأنينة في نفوسهم بلحاظ كبرى كلية وهي أن الإنسان لا يبلغ مرتبة النفس المطمئنة إلا بفضل الله ،وكل آية قرآنية بلغة للفوز بهذه المرتبة، والسلامة من درن النفاق والتنزه عن مفاهيم الضلالة والكفر ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن .
وفي قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إعجاز من وجوه :
الأول : شمول المنافقين بأداء الفرائض .
الثاني : ترتب الحكم على الظاهر، إنما يكون المدار على القول والفعل.
الثالث : دعوة المنافقين لهجران النفاق .
الرابع : تفضل الله بإرادة ستر المنافقين على نحو القضية الشخصية، وإمهالهم لغرض التوبة والإنابة , وهو لا يتعارض مع فضح أقوال وأفعال النفاق ، كما في قوله تعالى [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وتبين الآية نكتة وهي تبكيت المنافقين وإخبارهم بأن مكرهم لا يضر إلا أنفسهم ، فقد جاءت الآية أعلاه بقانون من جهات :
الأولى : تأكيد التنافي بين العزة والنفاق ، فالذي يختار النفاق تحجب عنه العزة والرفعة والجاه ، وهل يختص هذا السلب بالحياة الدنيا، الجواب لا ، فهو في الآخرة أظهر وأبين ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ).
الثانية : نيل فريق من الناس العز وإختصاصه بالمؤمنين .
الثالثة : عزة الرسول والمؤمنين مشتقة عن عزة الله فهي من فضله فقد نفخ من روحه في آدم ليكون الناس فيه شرع سواء ، قال تعالى بخصوص خلق آدم [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( )، فقد تفضل الله وأنعم على رسوله والذين آمنوا بنبوته وإتبعوه ونصروه بعز وشأن وجاه من عنده تعالى لقوله تعالى [فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا]( ).
ويستقرأ هذا الإعجاز من ذات الآية , إذ أخبرت بأن العزة لله عز وجل ثم عطفت عليه رسوله والمؤمنين ، فلولا فضل الله في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبقى قانون العزة خاصاً بالله عز وجل وهو تشريف للخلائق ، ولكنه سبحانه منح من رشحات عزته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة وهي أعظم من مرتبة النبوة , ومنح منها للمؤمنين برسالته ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )في بيان أهلية الإنسان للخلافة في الأرض والرد على الملائكة الذين إحتجوا على خلافته في الأرض مع افساده وسفكه الدماء لبيان قانون كلي ، وهو أن الله عز وجل يمد رسوله الكريم والمؤمنين بالعز والنصر لإستدامة عبادته في الأرض .
ويمنح الله العز للأنبياء والمؤمنين من غير أن ينقص من عزته سبحانه شيئاً مع أنها من الأبدي غير المتناهي وما يمنحه من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) ليكون منه قوله تعالى في آية البحث [قَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] فهو من مصاديق العز الذي تفضل الله عز وجل به على المؤمنين , ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : ولقد صدقكم الله وعده فمنحكم من عزه .
الثاني : ولقد صدقكم الله وعده فجعلكم أعزة .
الثالث:ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسون الذين كفروا بالعزة التي رزقكم الله
الرابع : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه لأنكم أعزة .
ترى ما هي النسبة بين الولاية في قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]وبين العز الذي يرفل به المؤمنون ، الجواب النسبة هي العموم والخصوص المطلق فالعز من رشحات الولاية .
قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ]
ورد الخطاب للمؤمنين المقاتلين يوم أحد وقيل جواب إذا محذوف وتقدير الآية حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم وفشلتم سلبنا النصر عنكم، ولا دليل عليه .
ويمكن تأسيس قانون كلي وهو أن التقدير في جواب إذا أو التقدير مطلقاً في آيات القرآن يجب أن يكون على وجوه :
الأول : إشتقاق الجواب من مضامين آيات القرآن ، فلابد أن لا يخرج التقدير عن معاني ودلالات القرآن .
الثاني : إستقراء الجواب من السنة النبوية بلحاظ أنها بيان للقرآن.
الثالث : إستحضار أسباب نزول الآية القرآنية .
ويتعلق موضوع آية البحث بخصوص معركة احد ويكون الفشل الذي تذكره آية البحث على وجوه :
الأول : دبيب الجبن والفزع إلى نفوس شطر من المقاتلين .
الثاني : إنسحاب شطر من المسلمين من المعركة وصعودهم الجبل .
الثالث : ترك الرماة مواضعهم التي رتبهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إرتباك المسلمين وسط المعركة لأن العدو جاءهم من الخلف فاشتبكت الأسنة وشق على المسلمين التمييز بين المؤمن والعدو ، لتتجلى معاني قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المسلمين فيتعاون المسلمون بينهم في دفع العدو .
ترى ماذا بعد الفشل والجبن والتنازع في الأمر والمعصية الجواب هو الإنكسار والهزيمة ، ولكن الله عز وجل تفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ودفع عنهم الإنكسار والهزيمة ، وهو من مصاديق [صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] وقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] لتتضمن خاتمة آية البحث عصمة المسلمين من الهزيمة حتى إذا فشلوا وجبنوا.
وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بلحاظ إجتماع أسباب الإنكسار وظهور أمارات الهزيمة عند المسلمين ولكن الله يقيهم الهزيمة بأمور :
الأول : نزول الملائكة من السماء لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، قال تعالى بخصوص معركة أحد [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ) .
الثاني : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه وسط المعركة مع تفرق أكثر أصحابه .
الثالثة : بقاء الإمام علي عليه السلام وعدد من الصحابة يقاتلون حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : عودة نحو ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال وتهيئة إنسحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو الجبل، ومداواة جراحاته.
الخامسة : بيان الآية السابقة إلقاء الله الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( )، فمن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تجعل قتال المشركين هو علة إلقاء الرعب في قلوبهم فلم تقل الآية ( سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لقتالهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ) وفيه نكتة وهي إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب قبل وأثناء وبعد المعركة ليكون عوناً للمسلمين وبرزخاً دون هزيمتهم أو إنكسارهم .
وتحتمل النسبة بين هذه الآية وقوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( )، وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي، وأن أفراد الطائفتين هم الذين تخبر آية البحث عن فشلهم وجبنهم.
الثاني : العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى : أفراد الطائفتين أعم وأكثر.
الثانية : الذين تخبر آية البحث عن فشلهم هم الأكثر والأعم.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء ومادة للإفتراق بين الآيتين في الموضوع.
والمختار هو الثالث، فمادة الإلتقاء من جهات:
الأولى : متعلق موضوع الفشل في الآيتين هو خصوص معركة أحد.
الثانية : إرادة موضوع الجبن والخور والضعف.
الثالثة : إتحاد جهة الخطاب التي وردت في الآيتين.
أما مادة الإفتراق فهي من جهات:
الأولى : يدل قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ]( )، على عدم تعد الفشل والجبن درجة الهمّ بالفعل.
الثانية : الإطلاق في آية البحث(حتى اذا فشلتم) بينما وردت الآية أعلاه بصيغة التقييد (طائفتان منكم).
الثالثة : إخبار آية البحث عن تحقق الفشل والجبن فعلاً، بينما ذكرت الآية أعلاه الأمر بصيغة النية والعزم على الفشل والجبن دون التلبس فيه.
الرابعة : سلامة الطائفتين من الفشل والخور وهم بنو سلمة وبنو حارثة) بينما تفيد آية البحث تحقق وقوع الفشل والجبن.
الخامسة : ذكرت الآية أعلاه الهّم بالفشل وحده، بينما ذكرت آية البحث معه التنازع والإختلاف والمعصية.
ويدل الجمع بين الآيتين على تقسيم المؤمنين يوم أحد إلى أقسام:
الأول : الرماة الذين تركوا مواضعهم في القتال فأصابهم الجبن والفشل عندما تغيرت الريح وسير المعركة.
الثاني : فرقة تلبست بالفشل وإنسحبت من ميدان المعركة وصعد عدد منهم الجبل ومنهم من مشى في الطريق إلى المدينة، ومنهم من وصلها.
الثالث : الذين صبروا وقاتلوا في ميدان المعركة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البيت والصحابة، ومنهم امرأة وهي أم عمارة، ولم يغادروه حتى عاد لهم أغلب الصحابة وحمى الوطيس وإشتد القتال، وقد ذكّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بوقائع يوم أحد عند صلح الحديبية من باب البيان والإحتجاج، والإخبار عن فضل الله على المسلمين، ودعوتهم للشكر له سبحانه.
وأخرج البيهقي عن عروة قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية راجعاً ، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والله ما هذا بفتح ، لقد صددنا عن البيت وصدَّ هدينا ، وعكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول رجال من أصحابه : إنّ هذا ليس بفتح ، فقال : بئس الكلام ، هذا أعظم الفتح ، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإِياب ، وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم ، وردكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتح . أنسيتم يوم أحد (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد) ، وأنا أدعوكم في أخراكم ، أنسيتم يوم الأحزاب (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا . فأنزل الله سورة الفتح( ).
تأتي (حتى) على وجوه :
الأول : حرف جر بمعنى( إلى) بمعنى إنتهاء الغاية كما في قوله تعالى[وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ]( ).
الثاني : تأتي حتى بمعنى العلة والغاية كما لو قلت: دخلت المسجد حتى أصلي.
الثالث : حرف عطف، كما لو عطف الخاص على العام، كما لو قلت: أديت مناسك الحج حتى الطواف.
الرابع : حرف إبتداء.
الخامس : مجئ حتى مع إذا , كما في آية البحث , قال تعالى (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) ( ).
وفي مجئ الإعتناق في القتال قال الشاعر :
يَطْعُنُهُمْ ما ارْتَمَوا حتى إذا اطَّعَنُوا … ضَاَرَب حتى إذا ما ضَارَبُوا اعْتَنَقا( )
السادس : ظرف ويشترط سبقه بنفي كما في قوله تعالى [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ] ( ).
السابع : حرف يفيد معنى (إلا) كما ورد في التنزيل في ذم الكافرين [الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ] ( ).
الثامن : حرف يقترن بـ (إذا) الشرطية ، وهو الذي ورد في آية البحث ليفيد البيان والتأكيد والتعيين .
قوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ]
تؤكد آية البحث ولاية ونصرة الله عز وجل للمسلمين في حال وقوع الإختلاف والخصومة بينهم ، مما يدل بالأولوية القطعية على ولايته لهم في حال الوئام والوفاق ، وأيهما أكثر بالنسبة للمسلمين حال الوئام أم الإختلاف.
الجواب هو الأول، وهو الذي تدل عليه آية البحث بلحاظ إشارتها لحال التنازع على أنه أمر طارئ وخلاف حال المسلمين من الوئام .
ومن الإعجاز في الآية دلالتها على أن هذا التنازع صغروي من جهات :
الأولى : ذكر الآية لحال التنازع في ثنايا المدح والثناء على المسلمين ، إذ قدمت آية البحث قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
بلحاظ أن الخطاب إنحلالي يشمل المسلمين جميعاً على نحو العموم الإستغراقي والبدلي ، فكل فرد من المسلمين كان طرفاً في النزاع أو لم يكن يتلقى الخطاب والبشارة من عند الله بأنه سبحانه وفى لهم بوعوده ، ووفى لهم بوعده ، وأنجز ما بشرهم به.
وهل يصح القول بأن الخطاب في الآية [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاء بصيغة الجمع للإكرام والتفخيم وإرادة صفة النبوة التي يتصف بها ، الجواب لا ، لمجئ الآية بالإخبار عن وقوع الفشل والجبن والتنازع بين المسلمين بصيغة العطف على إنجاز الوعد وهذا المعنى العام لا يمنع من الخصوصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في لغة الخطاب وأن المسلمين يتلقون ذات الوعد ولغة الخطاب بالإلحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولصدق إتباعهم له، لموضوعية الرسالة، وتلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي ، ولأن الله عز وجل وعده بالنصر فلذا كان دعاء النبي يوم بدر وأحد [رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا] ( ) لذا يمكن تقسيم الوعد الإلهي إلى أقسام :
الأول : الوعد الخاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الوعد الذي يأتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثالث : الوعد الذي يأتي للمسلمين والمسلمات .
ولا تعارض بين هذه الأقسام والأصل فيها هو الثاني .
الثانية : تقييد التنازع بأنه في أمر فلم تقل الآية وتنازعتم في الأمور ، لبيان أن هذا التنازع لم يخرج المسلمين عن معاني الوحدة والإتحاد بينهم وتعاهدهم لقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
وورد لفظ الأمر بصيغة التعريف بالألف واللام مما يدل على إرادة العهد وخصوص أمر معين ، وهو الذي وردت به النصوص بخصوص نزول الرماة من الجبل لإرادة النهل من الغنائم وأخذ نصيبهم منها .
الثالثة : إخبار الآية عن حصول التنازع بصيغة الماضي [تَنَازَعْتُمْ] وفيه دلالة على إنقطاع هذا التنازع ، وهل ساهمت آية البحث في إنقطاعه وزوال آثاره، فيه وجوه :
الأول : إنقطاع النزاع في ذات الساعة من يوم أحد لانتفاء موضوعه ، إذ غادر أغلب الرماة الجبل طلباً للغنائم مع نهي أميرهم عبد الله بن جبير عن هذه المغادرة .
ولم تكن هذه المغادرة بقصد ترك المعركة بل توجهوا إلى وسط المعركة حيث رسول الله في الميدان، ولكن غايتهم لم تكن القتال والذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل كانت الطمع في الغنائم وأخذ سهام وحصة منها فاغتنمت خيل المشركين حال التنازع وإنسحاب الرماة ليزحفوا على الجبل الذي لم يبق فيه إلا عبد الله بن جبير وسبعة من أصحابه مما يدل على أن لفظ [عَصَيْتُمْ]لا يشمل كل الرماة ، ليأتوا لجيش المسلمين من الخلف ويحدث الإنكسار فيهم ، وقتل عبد الله بن جبير وأصحابه شهداء في سبيل الله.
الثاني : تدارك المسلمين للأخطاء التي وقعت في معركة أحد ، ولإتعاظ منها ، والإقرار بفضل الله عز وجل في تنجز وعده بالنصر ، ولكنهم لم يتعاهدوا هذه النعمة ، ففتح الله عليهم نعمة العفو بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] .
لقد تناجى شطر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، والحث على قتال المشركين حتى في ساعة النزع وعند إفاضة الروح ، وهو أمر لم يحدث في الأمم السابقة ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )
(وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَطْلُبُ سَعْدَ بْنَ الرّبِيعِ فَقَالَ لِي : إنْ رَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنّي السّلَامَ وَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ قَالَ فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَأَتَيْته وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ وَفِيهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ فَقُلْت : يَا سَعْدُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السّلَامَ وَيَقُولُ لَك : أَخْبِرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَقَالَ وَعَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ السّلَامُ قُلْ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَجِدُ رِيحَ الْجَنّةِ وَقُلْ لِقَوْمِيَ الْأَنْصَارِ : لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللّهِ إنْ خُلِصَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ وَفَاضَتْ نَفْسُهُ مِنْ وَقْتِه) ( ).
الثالث : تأكيد آية البحث لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى المعركة بقوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( )، الذي يدل بالدلالة التضمنية على سماعهم لهذه الدعوة.
لقد نزل قوله تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] ( ) , وقد حصل التنازع بين المسلمين كما في آية البحث فهل يؤدي إلى ذهاب الدولة ، الجواب لا من جهات :
الأولى : بين التنازع الذي تذكره الآية أعلاه والوارد في آية البحث عموم وخصوص مطلق .
الثانية : قيدت آية البحث التنازع بأمر مخصوص بقوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ].
الثالثة : إنقطاع التنازع بانقضاء موضوعه ومدته .
الرابعة : حدوث النزاع بين جماعة مخصوصة من الرماة وفي ميدان المعركة ، وليس في حال السلم وباب العبادات والمعاملات .
ومن أسرار مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار المنع من النزاع بينهم .
الخامسة : إتخاذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للحيلولة دون النزاع بين المسلمين , ولو أمر النزاع في مهده وبدايته وقطع أسبابه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
وكأن الآية تقول للمسلمين : حتى إذا تنازعتم فإياكم والتنازع في أمر أو أمور , وقيدت الآية السابقة التنازع بأنه في الأمر ، وصحيح أن الألف واللام في الأمر تدل على العهد ، وإرادة أمر مخصوص وهو إختلاف الرماة بينهم في البقاء أو النزول من جبل الرماة طلباً للغنائم بعد رؤية المؤمنين يحققون النصر ويطاردون الذين كفروا إلا أن الآية تتضمن في دلالتها نهي المسلمين عن التنازع في الميدان .
ترى هل حصل بعد معركة أحد تنازع بين المقاتلين من المسلمين وأصحاب السرايا والغزوات , الجواب لا ، وهو من الإعجاز الغيري لآية البحث ولا عبرة بالقليل النادر كما في ذم المنافقين بقوله تعالى [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( )بخصوص كتيبة المريسيع وهي كتيبة بني المصطلق ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقيم هناك فازدحم رجلان على الماء وإقتتلا , ليس في ميدان المعركة ، أحدهما جهجاه بن سعيد الغفاري , وهو أجير لعمر بن الخطاب ، وسنان بن وبر الجهني , فصرخ الجهني يا معشر الأنصار.
وصرخ الجهجاه : يا معشر المهاجرين .
فسمعها عبد الله بن أبي سلول رأس النفاق فقال (قد ثاورُونا في بلادنا. والله ما مثلُنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: “سَمن كلبك يأكلك”. والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من عنده من قومه وقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم في بلادكم إلى غيرها. فسمعها زيد ابن أرقم، فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو غُلَيّمٌ) ( ).
ومن منافع التقييد بالعهد في قوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ]أمور :
الأول : إرادة الحصر وبيان حقيقة وهي أن التنازع في موضوع واحد .
الثاني : تدل الآية في مفهومها على أن المسلمين متفقون في كل الأمور عدا أمر واحد ، ولا عبرة بالقليل النادر , ونزلت آية البحث لمنع إستدامة هذا النزاع أوتجدده .
الثالث : حث المسلمين على الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأمر المتنازع عليه ، وما يحتمل حصول التنازع منه ، قال تعالى [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] ( ).
الرابع : حصانة المسلمين من اليأس والقنوط إذ حصل بينهم تنازع في أمر أو شىء.
الخامس : كشف أحوال وشأن المسلمين في معركة أحد ، وبيان سبب من أسباب الخسارة التي لحقتهم يومئذ ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : التنازع سبب للخسارة .
الصغرى : تنازع المسلمين يوم أحد .
النتيجة : خسارة المسلمين يوم أحد ، لولا فضل الله إذ تتخلف القواعد المنطقية والفلسفية عن مصاديق المشيئة الإلهية وسعة رحمة الله عز وجل وأيهما أشد الإختلاف أم التنازع .
الجواب هو الثاني وللتنازع أطراف :
الأول والثاني : المتنازعان .
الثالث : موضوع النزاع .
وتدل الآية على عدم إنقياد أحد طرفي النزاع إلى الآخر , لذا فقد بقي بضعة رجال مع عبد الله بن جبير أمير الرماة على الجبل من أصل خمسين عيّنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواضعهم وحثهم على عدم تركها في حال من الأحوال ، بينما نزل أكثر من أربعين منهم لتعقب العدو الذي ظهرت أمارات فراره وهزيمته وإستصحابه في واقعة بدر .
ولعل المسلمين الذين تركوا مواضعهم في جبل الرماة إستحضروا نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرتهم .
فجاءت آية البحث مدداً وتعضيداً لهم وإصلاحاً وإرشاداً لهم , ومن معاني العطف في الآية السببية أي عطف السبب على المسبب وبالعكس وهو العلم الذي أسسناه في الجزء العشرون بعد المائة ( ) .
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : حتى إذا فشلتم بسبب تنازعكم في الأمر .
الثاني : حتى إذا فشلتم بسبب معصيتكم .
الثالث : حتى إذا تنازعتم في الأمر بسبب فشلكم .
الرابع : حتى إذا عصيتم بسبب معصيتكم .
الخامس : حتى إذا تنازعتم بسبب معصيتكم .
السادس : حتى إذا عصيتم إذا بسبب فشلكم .
قوله تعالى [وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ]
بيان صدق إيمان المؤمنين الذين قاتلوا يوم أحد وسلامتهم من النفاق والرياء وانهم كانوا يبغون النصر والظهور على الذين كفروا , ومن المهاجرين من كان أبوه أو أخوه مع كفار قريش ، بل حتى من الأنصار إذ أن حنظلة كان مع جيش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأبوه أبو عامر مع كفار قريش .
الرابع : من معاني الجمع بين الآيتين وجوه :
أولاً : بل الله مولاكم من قبل ما أراكم ما تحبون .
ثانياً : بل الله مولاكم حالما أراكم ما تحبون .
ثالثاً : بل الله مولاكم من بعد ما أراكم ما تحبون .
لإفادة الإطلاق في ولاية الله للمسلمين , وتغشيها لأيام حياتهم وأفعالهم، ومن الإعجاز في آية البحث ورودها بصيغة الجمع لإفادة أمور :
الأول : الإخبار عن حب المسلمين مجتمعين للنصر والغلبة .
الثاني : لغة الجمع إنحلالية ومن دلالاتها أن كل مؤمن يحب النصر للإسلام .
الثالث : بيان لطف الله بالمسلمين ، فقد كانوا يحبون الشهادة فرزقهم الله النصر وأراهم هزيمة الأعداء .
ويحتمل مصداق ما يحب المسلمون وجوهاً :
الأول : ما ينطق به المسلمون من رجاء النصر والغلبة .
الثاني : إخبار الآية عن النوايا والرغائب في سرائر نفوس المسلمين .
الثالث : المقصود الدعاء وسؤال النصر من عند الله عز وجل .
الرابع : إرادة المعنى الأعم للوجوه الثلاثة أعلاه .
والمختار هو الأخير وفيه شاهد على أن الله عز وجل يعلم ما في قلوب المسلمين وأنما ولايته لهم تحقيق الأماني والرغائب التي يحبون لأنها في سبيل مرضاته ، ولإقتران حب المسلمين لها بجهادهم وقتالهم في سبيل الله فهم لم يحبوا النصر ويقعدوا عنه بل خرجوا تحت ألوية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطلبوا النصر بسيوفهم .
لقد إبتدأت آية البحث بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]بأن تمكن المسلمون من الذين كفروا في ساحة المعركة بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] وتحتمل الصلة بينه وبين قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ]وجوهاً :
الأول : إرادة التساوي وأن صدق الوعد هو ذاته تنجز ما يحبه المؤمنون.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : صدق الله وعده أعم وأكثر من موضوع رؤية المؤمنين ما يحبون يوم أحد .
الثانية : رؤية المؤمنين لما يحبون اعم وأوسع من صدق الوعد الذي ورد في أول آية البحث .
الثالث : التباين الموضوعي بين صدق وعد الله عز وجل وبين رؤية المؤمنين لما يحبون .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني ، وأن وعد الله وتنجزه أعم مما رآه المؤمنون من النصر والغنيمة وهزيمة المشركين من جهات :
الأولى : الدلالة على الأمور الغيبية والأسرار التي لا يراها الناس من وعد الله وتنجزه، ومنها نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الثانية : يتضمن صدق الوعد الآيات العقلية والحسية ، أما رؤية ما يحبه المسلمون فيتعلق بشطر من الآيات الحسية .
الثالثة : الإخبار عن تحقق رؤية ما يحبه المسلمون , أما تنجز الوعد من عند الله فهو متصل في موضوعه ومنافعه ودلالاته .
الرابعة : رؤية ما يحب المسلمون يوم أحد فرع وعد الله لهم .
الخامسة : من فضل الله عز وجل على الناس أن يريهم مصداقاً لما يعدهم به ، ليقبلوا على شكره تعالى ويتعاهدوا سنن طاعته لأن الوعد الإلهي وصدقه ملازمان للطاعة ، وهو من أفراد ومعاني الرحمة في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
فعندما إستجاب المؤمنون لأمر الله بالتصديق بالنبوة والتنزيل وندبهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد وبادروا إلى الخروج نزلت عليهم الملائكة مدداً ورحمة من عند الله وجزاء لهم لتصديقهم بنزول آيات القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الإحتجاج على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فلا أحد يعلم أن نزول الملائكة بآيات القرآن للتفقه في الدين، وجلب الناس للإيمان، ودحر الكفر ومفاهيم الشرك وعبادة الأوثان يتعقبه نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا بنزول آيات القرآن من عند الله عز وجل وبادروا إلى العمل بمضامينها القدسية.
ومن الإعجاز في آية البحث نسبة رؤية المسلمين لما يحبون إلى الله عز وجل ، فلم تقل الآية ( من بعد ما رأيتم ما تحبون ) وفيه نكتة ، وهي أن الأصل هو لزوم شكر المسلمين على تفضل الله برؤيتهم لما يحبون .
ويتجلى هذا الشكر بلحاظ آية البحث بأمور :
الأول : التوقي من الفشل والجبن ، لأن الذي ينتصر ويرى الغنائم يحب ألا يفشل ويجبن .
الثاني : سلامة المسلمين من التنازع والإختلاف لأن تباشير النصر لاحت ، وصار الفتح قريباً محسوساً .
الثالث : التنزه عن المعصية والإختلاف في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين ظهراني المسلمين ، وأوامره فرع الوحي لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الرابع : منع المسلمين من الغرور والعتو، ونسبة النصر لسيوفهم.
الرابع : إجتناب إرادة الدنيا وصيرورة جمع الغنائم غاية .
ترى لماذا لم تقل الآية ( ومن بعد ما أراكم ما تحبون فشلتم وتنازعتم ) الجواب من وجوه :
الأول : جاءت الآية تأديباً للمسلمين، وبياناً لقبح الفشل والجبن والضعف .
الثاني : إخبار الآية عن إنتفاء أسباب الفشل والجبن بأن ورد ذكر الفشل بعد صدق الوعد من عند الله، وتحقق مصداقه وحسن وتمكن المسلمين من الذين كفروا .
الثالث : إرادة إستنباط المسلمين للمواعظ والعبر من آية البحث إذ تتساءل الأجيال كيف حصل الفشل والجبن بعد صدق وعد الله للمؤمنين .
الرابع : الإخبار بتغشي فضل الله المسلمين ونزول النصر عليهم ، وأنهم لم يفشلوا ويجبنوا بسبب علة وسبب خارجي إذ كان المشركون في حال فزع وهزيمة ولكن إرادة فريق من المسلمين الغنائم هو السبب .
وجاءت الآية التالية لبيان ماهية المعصية بقوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( )، لبيان حقيقة من جهات:
الأولى : عدم صدور المعصية من عموم المسلمين، وإن جاءت الآية بصيغة الجمع وعموم الخطاب، ليتجلى في الآية إعجاز من جهة التباين في جهة الخطاب من جهة الموضوع مع إتحادها في لغة الجمع وفي ذات الآية، فقوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] موجه للمسلمين والمسلمات جميعاً، وإن كان الموضوع خصوص معركة أحد، وكذا قوله تعالى[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] فصحيح أن الحس والقتل خاص بميدان المعركة إلا أن الخطاب عام للمسلمين بلحاظ أن منافع النصر على الذين كفروا تتغشى المسلمين جميعاً، ولكن قوله تعالى[حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] خاص بطائفة من المؤمنين يوم معركة أحد، ويمكن القول أنهم على قسمين:
الأول : الرماة الذين تركوا مواقعهم التي رتبهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : المؤمنون الذين غادروا وسط الميدان عندما جاءتهم خيول المشركين من الخلف، وحصل الإضطراب في صفوف المؤمنين، وهم غير الذين ورد ذكرهم بقوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( )، إذ لم يتحقق منهم الفشل والجبن والخور , فخرجوا بالتخصيص من منطوق آية البحث.
وموضوع آية البحث هو واقعة أحد ، ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى [أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] وبين قوله تعالى بخصوص معركة بدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) الجواب نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالنصر يوم بدر أعم ويفيد معنى حسم المعركة بتحقق الغلبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , أما الآية أعلاه فذكرت نصر المسلمين في جولة وفي بداية المعركة ، وأن هذا النصر من عند الله وبمشيئته .
وقد تقدم في باب الصلة بين أول وآخر الآية أن ما رآه المؤمنون مما يحبون أعم من الحس والقتل ، ومنه :
الأول : نصر المسلمين في بداية المعركة .
الثاني : سقوط القتلى من المشركين وقد قتل منهم يوم أحد إثنان وعشرون ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
الثالث : هزيمة وتقهقر المشركين .
الرابع : إنكشاف بطلان سحر كفار قريش وخذلانهم ووهنهم في القتال.
الخامس :ظهور علامات الرعب على أقوال وأفعال المشركين يوم أحد، وهو من الإعجاز في نظم آيات القرآن .
فحينما ورد قبل آيتين قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( )جاءت هذه الآية لبيان مصداق واقعي لهذا الرعب والفزع ، ليكون من مصاديق آية البحث من بعد ما أراكم ما تحبون من الحس والقتل بالذين كفروا بما أشركوا بالله .
السادس : تهيئ نساء المشركين للركوب على الرواحل هرباً .
وهل يشمل قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]المشركات ، فيه وجوه :
الأول : تشمل الآية خصوص المشركات اللائي حضرن معركة أحد .
الثاني : تشمل الآية جميع المشركات .
الثالث : إختصاص الرعب بالذين كفروا من الرجال .
والصحيح هو الثاني لأصالة الإطلاق في الآية ، إنما وردت صيغة التذكير في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] لتغليب المذكر وإلا فان الآية عامة وشاملة للرجال والنساء منهم .
السابع : نزول الملائكة وأسباب المدد من عند الله ، وتحتمل الرؤية في قوله تعالى [مَا أَرَاكُمْ]وجوهاً :
الأول : الرؤية البصرية .
الثاني : الرؤية القلبية .
الثالث : الرؤية البصرية والقلبية .
والمختار هو الثالث لأصالة الإطلاق ، وتعدد مصاديق فضل الله على المسلمين وتجلي الآيات والبراهين التي تدل على نصرة الله لنبيه الكريم والمسلمين ، ليكون من الرؤية القلبية التدبر بآيات المدد من عند الله .
الثامن : لقد تبدلت ريح المعركة وسير القتال فيها ، إذ إنكسر المسلمون وإنهزم أغلبهم من وسط الميدان , فتفضل الله عز وجل وصرف المشركين بآية منه ، وهذا الصرف نعمة عظمى على كل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن المشركين صاروا قريبين منه ، وتصله الحجارة التي يرمونها .
الثاني : الصحابة الذين حضروا المعركة .
الثالث : عموم المسلمين والمسلمات أيام التنزيل وأوان معركة أحد .
الرابع : أجيال المسلمين المتعاقبة وإلى يوم القيامة .
التاسع : فضل الله عز وجل في العفو عن المسلمين لذا لم يحصل لوم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة على تركهم مواقعهم ، خاصة وأن شطراً منهم قتلوا في الميدان .
العاشر : إختتام آية البحث بسعة فضل الله عز وجل على المسلمين .
وقد لا تختص أسباب الفشل والخسارة بترك الرماة مواضعهم، بل تشمل عدم ملاحقة جيش الإسلام الذين كفروا في الميدان وإزاحتهم عن مواضعهم عند الإنتصار الأول، وتركهم يجمعون صفوفهم، ويتناجون بالباطل، ويقومون بمباغتة المؤمنين، وقد خفت الهمّة على القتال لتجلي بشارات النصر والغلبة لهم على الذين كفروا.
وعن الحسن البصري : معصيتهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: لا تتبعوهم يوم أحد، فاتبعوهم( ).
ولا تدل الآية على حصر معنى التنازع بهذا الوجه , ولكنه أمر محتمل , بلحاظ أن موضوع المعصية في الآية غير التنازع في الأمر من جهات:
الأولى : التباين الموضوعي بين الفشل والتنازع .
الثانية : ورود حرف العطف (الواو).
الثالثة : الفشل والخور كيفية نفسانية، أما التنازع فهو فعل بمبرز خارجي، ونوع مفاعلة بين طرفين أو أكثر.
لبيان الحكمة بالسنة النبوية الدفاعية وإتباع نهج خاص في كل معركة بما يناسب الحال والمقام، فقد إنهزم الذين كفروا يوم بدر فاتبعهم المسلمون، أما في معركة أحد فالأمر مختلف , وكان الأهم هو ثبات المسلمين في مواضعهم وإقامة الحجة على الذين كفروا، ولحوق الخزي بهم، ليكون دعوة لهم للإتعاظ والتوبة والإنابة.
تحتمل جهة الخطاب في [مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ] وجوهاً :
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص ووردت صيغة الجمع للإكرام والتفخيم ، وتقدير الآية : من بعد ما أراك .
الثاني : المقصود أهل البيت والصحابة الذين إشتركوا في معركة أحد ، لأنهم رأوا تباشير النصر ، وهرولة نساء المشركين من قريش إلى الإبل لركوبها مقدمة للفرار .
الثالث : خصوص الرماة الذين عصوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم , لأن علة معصيتهم رؤيتهم تراجع وتقهقر الذين كفروا في معركة أحد .
الرابع : المقصود المسلمون والمسلمات أوان معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة ،لأن الذين لم يخرجوا للقتال يومئذ كانوا يتابعون سير ووقائع المعركة ويرجون من فضل الله بالنصر والغلبة على الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ] ( ).
الخامس : إرادة المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
والمختار عدم التعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق آية البحث ، وقد يسأل بعضهم بخصوص الوجه الخامس أعلاه سؤالاً إنكارياً بلحاظ أن آية البحث نزلت بخصوص موضوع وواقعة معينة في زمان إنقضى ومضى ولن يعود , وتدل عليه لغة الماضي في ذات الآية [أَرَاكُمْ].
والجواب من جهات :
الأولى : رؤية الصحابة لما يحبون هي رؤية للمسلمين جميعاً ، وكأنه من المعنى المجازي وإرادة الإلحاق .
الثانية : إرادة المعنى الحقيقي ، وهو أن كل جيل من المسلمين يرى رؤية قلبية مع تجليات البصر النصر لهم في بدايات المعركة .
الثالثة : دلالة بداية البحث ، وإمكان قبولها لغة العموم وتقديرها : ولقد صدقكم الله وعده أيها المسلمون والمسلمات .
الرابعة : تقريب آية البحث للمدركات العقلية بصيغة المحسوسات .
قوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا]
وتبين الآية قانون التباين بين الدنيا والآخرة ، والتزاحم والتعارض في إرادة أحدهما دون الآخر ، فهناك تغاير بين الدنيا والآخرة وأن كلاً منهما عالم مستقل بذاته ، وكذا النسبة في إختيار وحب أحدهما والسعي إليه ومن رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا أن الذي يريد الآخرة ينال الدنيا لتكون مزرعة للآخرة ، فيمتلأ قلبه غبطة وتتغشاه السعادة عند أداء الفرائض والواجبات العبادية بعكس الذي يريد الدنيا فانه لا يستطيع إحراز الآخرة والنعيم الدائم فيها كما في ذم الذين كفروا بقوله تعالى [الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ] ( ) إلا أن موضوع آية البحث مختلف فقوله تعالى [مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا] لا يعني إرادة المسلمين خصوص الدنيا وزينتها ومتاعها ، ويدفع الذم في آية البحث توجه الخطاب فيها للمؤمنين بصيغة الإيمان .
وبخصوص واقعة حنين ورد (عن سهل بن الحنظلية ، أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين ، فأطنبوا السير حتى كان عشية ، فحضرت الصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء رجل فارس ، فقال : يا رسول الله ، إني انطلقت بين أيديكم ، حتى طلعت جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهوازن على بكراتهم( )، بظعنهم ، ونعمهم ، وشائهم ، اجتمعوا إلى حنين .
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وقال : تلك غنائم المسلمين جميعا إن شاء الله) ( ) .
وأطنبوا أي بالغوا وأكثروا من السير دفعة واحدة ، والظعن : جمع ظعينة , وهي المرأة التي في الهودج ولا يقال للمرأة ظعينة إلا وهي في الهودج ،وقد يطلق عليها وحدها تسامحاً ، ولا يطلق على الهودج لفظ ظعينة إلا وفيه امرأة ، كما يقال جنازة ويراد الميت مع النعش ، فلا يقال للميت وحده جنازة , ولا النعش أو التابوت وحده جنازة.
وفي الحديث مسائل :
الأولى : مبادرة بعض المسلمين بصيرورتهم طلائع ورواداً يسبقون الجيش لإكتشاف الطريق .
الثانية : تقدم أحد أفراد جيش بالمسلمين على فرسه ليتفحص الطريق بمبادرة منه , وفيه وجوه:
أولاً : الظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر هذا الفارس من أفراد جيش المسلمين باستطلاع الموضوع والطريق .
الثاني : إخلاص وتفاني المسلمين في تحري مواضع العدو ورصد حركته ، إذ صعد هذا الفارس عدة جبال، وهو يرصد ويتفحص الأماكن .
الثالث : إطلاع رائد المسلمين على العدو ، ومعرفته بأحوال جيشه من غير أن يعلموا به.
الرابع : كشف الواقع لصدق أخبار هذا الفارس إذ وقعت المعركة بين المسلمين من جهة , وهوازن ومن معها القبائل والأحلاف كثقيف .
الخامس : ذكر الفارس لهوازن لأنها هي التي تقود الجيوش , والأكثر عدداً من بين جيوش المشركين بزحفهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين حينما بلغهم أن مكة فتحت , من غير مقاومة تذكر من المشركين .
الثالثة : من الإعجاز في المقام ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما بلغه زحف هوازن بادر للخروج إليهم تعاهداً لحرمة مكة , ومنع وقوع القتال فيها مع أنهم لو جاءوا وقاتلوا فانهم يبؤون بسخط من الله ورسوله ، ونفرة من القبائل العربية ومن أهل مكة ، ولم يكن إسراع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج لقتالهم إلا بوحي من عند الله ولابد أن النصر حليفه بفضله تعالى وهو من مصاديق آية البحث , وقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
الرابعة : أخبر الرائد وفارس الإستطلاع بأن هوازن جاءت بالنساء والإبل والبقر والغنم وأنهم إجتمعوا في وادي حنين ، فكان رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية وهو (تلك غنائم المسلمين جميعاً إن شاء الله) .
ويدل سور الموجبة الكلية ( جميعاً ) على الظعائن والإبل والبقر والغنم, وإرادة التحدي , وبعث السكينة والهمة في نفوس المؤمنين.
وهو الذي تجلى عند إنتهاء المعركة في يومها، فاذ كانت معارك العرب تستمر عشرات السنين، وتنتهي بالصلح ودفع الدية أو السكوت من الطرفين، فان معارك الإسلام التي غيرت مجرى التأريخ إلى يوم القيامة لم تستمر كل واحدة منها إلا ساعات من نهار، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
وقال ابن مسعود : ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد { منكم من يريد الدنيا)( ).
نعم يمكن التدبر في الآية وإستقراء إن أرادة شطر من المسلمين الدنيا ليس مطلقاً وأن الدنيا هي غايتهم إنما جعلوا الدنيا في طول غاياتهم الأخروية ، وأعطوها الأولوية يوم أحد دون باقي أيام حياتهم الإيمانية بدليل ورود لخطاب للمسلمين بصيغة الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وأن الله عز وجل أراهم ما يحبون من أسباب النصر ز
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ومنكم من يريد الدنيا بخصوص يوم أحد , ومنكم من يريد الآخرة دائماً .
الثاني : ومنكم من يريد يوم أحد , وكان قبلها يريد الآخرة ويسعى إليها بجد ومثابرة .
الثالث : ومنكم من يريد الدنيا يوم أحد , وبعده لا يريد إلا الآخرة .
الرابع : ومنكم من يريد الدنيا فليتعلم ويقتدي بمن يريد الآخرة .
قوله تعالى [وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ]
وجاءت الآية بصيغة المضارع لبيان أن حب لقاء الله والشوق إلى الجنة ملكة مستقرة في نفوس المؤمنين سواء في حال النصر والغلبة أو الإنكسار والهزيمة لتتجلى حقيقة وهي عصمة جيش المسلمين من الفرار العام والإنكسار الذي يصاحبه الخزي .
لتكون هذه الآية من مصاديق قوله تعالى تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] فما دام فريق من المسلمين يريدون الآخرة فان الرعب والفزع يملأن قلوب الذين كفروا .
وتدل الآية على علم الله عز وجل بما في نفوس المسلمين وتفضله بالإخبار عنه ليكون حجة وسبباً لصلاحهم وزيادة إيمانهم ، وفي التنزيل [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ).
ويحتمل قوله تعالى [وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] في معناه وجوهاً :
الأول : إرادة الذين ثبتوا في مواضعهم من الرماة طاعة لله ورسوله إلى أن قتلوا وذهبوا شهداء .
الثاني : مجموع الذين أستشهدوا من المسلمين يوم أحد وعددهم سبعون، وقد تقدمت ترجمتهم في الجزء الحادي عشر بعد المائة من هذا السفر .
الثالث : المقصود المخلصون من المؤمنين يوم أحد الذين بذلوا الوسع في الدفاع عن الرسول والتنزيل .
الرابع : المقصود كل الصحابة الذين إشتركوا في معركة أحد ، بلحاظ أن هذه المشاركة شاهد عملي وأمارة صدق على إرادة الآخرة وهو من مصاديق قوله تعالى [فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً] ( ) ولكن لا دليل على هذا المعنى بلحاظ أن التفضيل أعم في موضوعه .
نعم يفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث الثناء على الذين قاتلوا في معركة أحد .
قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ]
في الآية معنيان :
الأول : بيان فضل الله عز وجل على المؤمنين في معركة أحد ، فبعد أن ظهر الفشل والتنازع بينهم ، وإستشرى القتل فيهم ، لصيرورتهم بين مقاتلي ورماة المشركين , وفرّ أكثر المسلمين من المعركة وساروا في الأرض أو صعدوا على الجبل ، تفضل الله سبحانه وفصل بين الفريقين .
الثاني : يجوز أن يكون معنى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] أي بترك مواضعكم وإختياركم الهزيمة بعد الغلبة على المشركين .
ولا تعارض بين المعنيين وكلاهما من مصاديق الآية الكريمة ولبيان أن معركة أحد نوع تأجيل وإرجاء للقاء مع المشركين , وفيه دعوة للمسلمين لتدارك الأخطاء , وإجتناب الزلل في القتال ، إذ ذكرت آية البحث ثلاثة أفراد منه , وهي :
الأول : الفشل والجبن .
الثاني : التنازع والخصومة والإختلاف .
الثالث : المعصية لأوامر الرسول .
وفي قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] تزكية وإمضاء لفعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالإنسحاب من معركة أحد ، لأن هذا الإنصراف لم يحدث إلا بأمر الله عز وجل , وفيه مسائل :
الأولى : منع التلاوم بين المسلمين بسبب هذا الإنصراف والرجوع عن المعركة .
الثانية : النهي عن المناجاة بلزوم إتباع المشركين وقتالهم بعد إجتماع المؤمنين حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : دعوة المسلمين للصبر عن الثأر لقتالهم يوم أحد في الحال ، فمنهم من فقد أباه أو إبنه أو أخاه ، فلا يصرون على معاودة القتال لأن هذا الإنصراف من عند الله .
الرابعة : بيان أن عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من معركة أحد وأوان هذه العودة لم يتم إلا بأمر الله عز وجل ، مثلما هو حال الخروج إلى المعركة .
الخامسة : زجر المنافقين عن الشماتة بالمسلمين بعودتهم من القتال مع كثرة قتالهم .
السادسة : مواساة المسلمين لعدم الإستيلاء على الغنائم من المشركين يوم أحد مع أنها صارت قريبة منهم وبمتناول اليد ، قال تعالى [لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ] ( ).
السابعة : صرف المسلمين عن الكفار في معركة أحد من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لما في إيقاف القتال من الرحمة بالذين في الميدان من الطرفين ومن ورائهم .
الثامنة : بيان تحقق الغاية من الدفاع في معركة أحد ، وإيصال رسالة للمشركين أن المسلمين أمة متحدة قادرة على الصبر والتحمل ، ودفع العدو وإن كانوا ثلاثة أضعاف عددهم .
التاسعة : التوثيق السماوي لكيفية إنتهاء معركة أحد , فقد يقال أن المسلمين إنهزموا وخسروا المعركة ، فجاءت آية البحث لتقول صحيح أن المسلمين وقعوا في أخطاء وخسروا جولة في المعركة وفقدوا الشهداء إلا أنهم في نهاية المعركة لم ينهزموا , ولم تنته المعركة بخسارتهم بل أن الله عز وجل صرف المؤمنين عن المشركين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
العاشرة : بيان حقيقة وهي بإمكان المسلمين إعادة الكرة والهجوم على الذين كفروا وتحقيق النصر مثلما تم في بداية المعركة لوجود المقتضي وفقد المانع ، ولكن الله عز وجل تفضل بوقف الحرب بالأمر للمسلمين بالإنصراف عن المعركة .
الحادية عشرة : منع الإحتجاج أو الإعتراض على أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإنسحاب .
ترى لماذا لم تقل الآية (ثم صرفهم عنكم ) خاصة وأن الذين كفروا هم الذين جاءوا للهجوم ورفعوا لواء الحرب وإبتداءوا بطلب المبارزة والقتال , وأن أغلب المسلمين كانوا في حال فرار وإنهزام ، الجواب من جهات :
الأولى : إرادة الذل والهوان للذين كفروا .
الثانية : بيان أن الأصل هو إستئصال الذين كفروا باستدامة مصاديق قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] لإصرارهم على الشرك والضلالة .
الثالثة : بيان حب الله للمؤمنين والتخفيف عنهم .
الرابعة : إخبار أجيال المسلمين المتعاقبة عن قدرة المؤمنين مزاولة القتال في معركة أحد إن أذن الله عز وجل لهم .
الخامسة : تبين الآية أن الكفار هم الذين إنسحبوا من المعركة .
وعن ابن إسحاق قال (ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: أخرج في إثر القوم فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الابل فإنهم يريدون مكة، وان ركبوا الخيل وساقوا الابل فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم، قال علي رحمة الله عليه : فخرجت في إثرهم أنظر ماذا يصنعون، فلما جنبوا الخيل، وامتوا الابل، ووجهوا إلى مكة، أقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بي من الفرح إذ رأيتم انصرفوا عن المدينة) ( ).
ويبين قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] أن إيقاف القتال في معركة أحد تم بأمر من عند الله وهو أمر خاص , ولابد له من دلالات منها أن المشركين عاجزون عن مواصلة القتال سواء أعاد المسلمون الكرة عليهم أم لا ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ولقد صرفكم عنهم ليتوبوا إلى الله .
الثاني : ولقد صرفكم عنهم ليرجعوا إلى قومهم فيبينوا لهم قوة شوكة الإسلام .
الثالث : ولقد صرفكم عنهم لتتوجهوا إلى عباداتكم وأداء الفرائض .
الرابع : ولقد صرفكم عنهم لدعوتهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة .
وتحتمل الآية بخصوص الملائكة وجوهاً :
الأول : صرف الملائكة عن الذين كفروا في ذات الوقت الذي صرف فيه المؤمنين عنهم .
الثاني : كان صرف الملائكة عن الذين كفروا قبل صرف المسلمين عنهم.
الثالث : صرف ودفع الملائكة عن الذين كفروا بعد أن صرف المؤمنين عنهم .
الرابع : ليس من صرف للملائكة عن الذين كفروا بل يلاحقونهم إلى أبواب مكة المكرمة.
والمختار هو الأخير ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ].
بحث بلاغي
من ضروب البديع(حسن النسق) وهو الإتيان بكلمات متتاليات متعاقبات يتصف التتابع بينهن بالحسن الذاتي، ويكون سبباً لجذب الأسماع لها مجتمعة، ولكل كلمة وجملة مستقلة منها بلفظها ومعناها ودلالاتها , ومن الإعجاز في آية البحث أن الجمع بين حسن النسق والتضاد في مضامين الآية.
ومن الإعجاز في آية البحث أنها جاءت بلغة الخطاب للمسلمين , وتقدير الآية :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لقد صدقكم الله وعده.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إذ تحسونهم بإذنه.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا حتى إذا فشلتم.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إذا تنازعتم في الأمر.
الخامس : يا أيها الذين آمنوا إذا عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون.
السادس : يا أيها الذين آمنوا منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة.
السابع : يا أيها الذين آمنوا ثم صرفكم عنهم.
الثامن : يا أيها الذين آمنوا ليبتليكم.
التاسع : يا أيها الذين آمنوا لقد عفا عنكم.
العاشر : يا أيها الذين آمنوا والله ذو فضل على المؤمنين.
وردت في الآية كلمات لم ترد في غيرها من الآيات وهي:
الأولى : قوله تعالى[صَدَقَكُمْ] وفيه إشارة إلى أن الوعد الذي وعده الله للمسلمين ومصاديق صدقه إختص بها المسلمون من بين الأمم، وهو من معاني قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وفيه دعوة للمسلمين إلى التطلع إلى وعد الله , وتنجز أفراد متعاقبة منه، وفيه حث على شكره تعالى على ماخصهم به بهذه النعمة التوليدية التي تترشح عنها نعم كثيرة كل آن.
الثانية : قوله تعالى[تَحُسُّونَهُمْ] لبيان أن إكرام الله عز وجل للمسلمين بالتمكين من عدوهم، والإجهاز عليه من أول بدايات معركة أحد، وفيه منع من المغالطة التأريخية، وبخس أهل البيت والصحابة حقهم بجهادهم يوم أحد، إذ منع قوله تعالى[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] أهل الريب والنفاق إدعاء بأن المسلمين إنهزموا في المعركة، قال تعالى[وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ] ( )، لبيان حقيقة وهي من الأولوية إنصاف المؤمنين في جهادهم، وأثبتت الآية أن ذات النصر يوم بدر تجدد وتكرر يوم أحد , وأن الله عز وجل نصرهم وجعلهم يفتكون بالمشركين ويلقون في قلوبهم الرعب .
وجاء تقييد الحس والقتل للذين كفروا بأذن الله لتأكيد فضله تعالى على المؤمنين ولمنع القول بان الإسلام إنتشر بالسيف، بلحاظ أن قتل الذين كفروا دفاع عن الإسلام وبإذن الله عز وجل , وعندما تحولت الريح وصارت الجولة للذين كفروا قتل من المسلمين سبعون شهيداً وأصابت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وشطراً من أصحابه الجراحات، فهل هو باذن الله .
الجواب نعم، قال تعالى بخصوص واقعة أحد[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( )، أي بقضاء الله عز وجل وقدرته وحكمته ليتجلى صبر المؤمنين، وبفضح الله المنافقين، وتكون الحجة على الذين كفروا.
الثالثة : قوله تعالى[فَشِلْتُمْ] في خطاب للمسلمين، وقد ورد مرة أخرى في القرآن , ولكن بإضافة لام الصيرورة بقوله تعالى[وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ]( ).
لبيان التخفيف عن المسلمين والإخبار عن قانون وهو أن الله عز وجل يدفع عن المؤمنين حدوث الفشل مرة أخرى بفضله ولطفه.
الرابعة : قوله تعالى[عَصَيْتُمْ] إذ لم يرد في القرآن إلا في آية البحث، وفيه تزكية للمسلمين بأن الزلل والمعصية مقيدة في أمر وواقعة مخصوصة.
ومع صدور المعصية من فريق من الرماة، ومن الذين تركوا مواضعهم وإنهزموا[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( )، فان الآية جاءت بصيغة الجمع والخطاب العام للمسلمين من جهات:
الأولى : بيان مسألة وتوثيق واقعة.
الثانية : مجئ لغة الخطاب على طريقة العرب بمخاطبة الكل مع صدور الفعل من طائفة منهم.
الثالثة : الستر للذين صدرت منهم المعصية، وتقديم الأهم وهو تأديب المسلمين وبعثهم على الطاعة والإستجابة لأوامر الله ورسوله.
الرابعة : ذم المنافقين، وبيان قبح فعلهم بالإقامة على معصية الله ورسوله.
الخامسة : قوله تعالى [صَرَفَكُمْ] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث ليكون من أسرار هذا التفرد أمور:
أولاً : إنقطاع وتوقف القتال في معركة أحد بأمر الله عز وجل.
ثانياً : حينما كان المسلمون يقتلون ويحسون الذين كفروا كانت المعركة مستمرة، ولما صارت الريح للذين كفروا تفضل الله بالفصل بين الفريقين، وهو من أسرار نزول الملائكة مدداً للمسلمين، وبرزخاً دون تفشي القتل بينهم.
ثالثاً : تأكيد العز للمؤمنين بأن الإنصراف كان من طرفهم مع أن الجولة للذين كفروا، وفيه شاهد بأن الحرب لو إستمرت لكان النصر والغلبة للمسلمين، وفيه مواساة وبشارة لأجيال المسلمين المتعاقبة، ومن مصاديق البشارة في المقام صلح الحديبية , إذ عجز الكفار عن التعدي على النبي وأصحابه الذين كان عددهم ألفاً ومائتين، ثم تحققت البشارة العظمى بفتح مكة.
السادسة : قوله تعالى[لِيَبْتَلِيَكُمْ] وإختصت آية البحث بذكر هذا اللفظ لبيان أن الإبتلاء سنة الله في الناس، وهو على خلقهم، وإن الإيمان لا يمنع من توجه الإبتلاء إلى صاحب الإيمان ، ولكن موضوعه يختلف إذ يكون الإبتلاء للمؤمن سبباً لنجاته، وإكتناز الحسنات، ونيل الدرجات العالية في النشأتين.
ومع أن حال الحرب والقتال أشد الإبتلاء على الفرد والجماعة، فان آية البحث ذكرت الإبتلاء بعد الإنصراف من القتال ، لبيان قانون وهو ضرورة بناء صرح الإسلام، وتثبيت أحكام الشريعة، وحفظ النبوة والتنزيل والإتعاظ من معركة أحد، وإقتباس الدروس منها.
قوله تعالى [ لِيَبْتَلِيَكُمْ ]
أي ليختبر الله إيمانكم وصدق نواياكم وإرادتكم الجهاد في سبيله تعالى والثبات على الإيمان ، واللام في [لِيَبْتَلِيَكُمْ] للتعليل ، ويحتمل متعلقها وجوهاً :
الأول : ولقد صدقكم الله وعده ليبتليكم ويرى شكركم له ، وإنتفاعكم الأمثل من صدق وعد الله وتعاهد النصر بالبذل وطلب الآخرة ، والتفاني في مرضاة الله , ودفع المشركين عن بيضة الإسلام .
الثاني : إذ تحسونه بإذنه ليبتليكم ) إن النصر والغلبة إمتحان وإختبار ودعوة سماوية للشكر لله عز وجل , وفي سليمان عليه السلام ، حينما أحضر عرش بلقيس عنده [قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ] ( ).
الثالث : حتى إذا فشلتم ليبتليكم بالبقاء على الفشل أم بالتدارك والإنابة ) لبيان مسألة وهي أن الأهم هو تدارك الفشل وإجتنابه وليس الوقوع فيه ، وفيه تأديب للمسلمين وإرشاد للأمن والسلامة من الإحباط واليأس عند الفشل فقد يصابون بالفشل والجبن ويجعلهم الله قادرين على العودة إليه , فالحرب كر وفر , وساعة لك وساعة عليك .
الرابع : حتى إذا تنازلتم في الأمر ليبتليكم ) ليعلم المسلمون أن التنازع في الخصومة أثناء المعركة سبب للخسارة العامة ، وقد يسقط القتلى بسبب الخلاف والخصومة بين طائفتين من المسلمين , فيأتي الضرر على جيش المسلمين كله مما يلزم إجتناب التنازع , والملاك فيه هو طاعة الله ورسوله ، فليس المقصود ترك النزاع مطلقاً ، بل ترك النزاع بالتقيد بطاعة الله ورسوله لذا جاء قوله تعالى [وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] ( ).
ولو لم تكن هناك معصية هل حصل تنازع بين الرماة , الجواب لا ، ولكن آية البحث جاءت بالمعنى الأعم والنهي عن التنازع مطلقاً سواء الذي يأتي عن معصية أو يحدث إبتداءً , وهو من إعجاز القرآن وعموم اللفظ فيه ، وعدم حصره في سبب وموضوع النزول .
الخامس : وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ليبتليكم ) ليكون الإختبار والإمتحان متعدداً من جهات :
الأولى : الإختبار والإمتحان حينما يرى المسلمون ما يحبون من النصر بفضل الله بالتنزه عن حب الدنيا وجعل الغنائم هي الغاية .
الثانية : الإمتحان والإبتلاء عند حدوث المعصية ، ونزول الرماة من الجبل .
الثالثة : إختبار المسلمين بتعقب المعصية للنصر الذي جاءهم بفضل الله ، قال تعالى [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على سلامة المسلمين من الهزيمة في معركة أحد، وأنهم لم يخسروا المعركة ، وتقديرها بخصوص معركة أحد : إن ينصركم الله في أول معركة أحد فلا غالب لكم في آخرها ).
ومن مصاديق عجز الكفار عن الغلبة على المسلمين قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ].
السادس : منكم من يريد الدنيا ليبتليكم ببيان قبح اللهث وراء زينة الدنيا , ولتأكيد حقيقة وهي أن الدنيا مزرعة للآخرة , ويجب أن يتناجى المسلمون فيها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من مصاديق عدم طلب الدنيا لذاتها ، وفي التنزيل [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ) .
ومن الحسنة في الدنيا بلحاظ آية البحث الخروج تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعركة أحد ، والنصر والغلبة على الذين كفروا في بدايتها , وتفضل الله برؤية المسلمين للنصر وإيقاف القتال بأمر من عند الله تزكية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أوامره ونواهيه ، ومنع من الإحتجاج والإعتراض أو إثارة أسباب الشك والريب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
السابع : ومنكم من يريد الآخرة ليبتليكم ) بالصبر والجهاد وأداء الواجبات العبادية والتقيد بطاعة الله ورسوله ، وإجتناب أسباب المعصية والضلالة والجحود ، وهل من الإبتلاء زحف كفار قريش لقتال المسلمين الجواب نعم .
الثامن : ولقد عفا عنكم ليبتليكم ) إذ أن العفو فتح لصفحة جديدة من العمل وإزاحة لعبأ وآثار الفشل والتنازع والمعصية , فان قلت إن لفظ ( يبتليكم )متقدم على قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] , وتدل لام التعليل على تقدم العلة على المعلول .
وهذا صحيح ولكن العفو دعوة للمسلمين للإجتهاد وبذل الوسع في طاعة الله .
قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]
إبتدأت آية البحث بلفظ [لَقَدْ] والقطع بتنجز وعد الله للمسلمين وتكرر مرة أخرى في الآية أعلاه بالعفو عن المسلمين وما فيه الغبطة والسعادة , ومن النادر في القرآن أن يتكرر لفظ [ولَقَدْ] في الآية القرآنية الواحدة ، ومنه قوله تعالى [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ]( ).
ويحتمل العفو المذكور في آية البحث وجوهاً :
الأول : العفو عن حال الفشل والجبن التي ظهرت على المسلمين .
الثاني : العفو والتجاوز عن المسلمين في تنازعهم وإختلافهم .
الثالث : التجاوز عن المسلمين في معصيتهم من جهات :
الأولى : معصية الرماة في عدم البقاء على الجبل .
الثانية : معصية المسلمين بالفرار من المعركة عند إشتداد القتال .
الثالثة : المعصية في طلب الدنيا بقوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا].
الرابع : العفو عن المسلمين فيما تقدم من أفعالهم شكراً لهم على الخروج لمعركة أحد , وما لاقوه في سبيل الله من الأذى يومئذ .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث .
لقد حصل النزاع بين المسلمين في معركة أحد , ويحتمل وجوهاً :
الأول : النزاع بين الرماة فصاروا فئتين :
الأولى : تعلن وتتجاهر بلزوم البقاء على الجبل طاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : تعتذر بإنتفاء علة وموضوع البقاء على الجبل لرؤية الذين كفروا يولون الأدبار.
الثاني : الخصومة والنزاع عند مجئ المشركين من خلف المسلمين بسبب خطأ أغلب الرماة وتركهم مواضعهم .
الثالث : النزاع لكثرة قتلى المسلمين .
الرابع : الخصومة والنزاع في موضوع الرجوع إلى الميدان والقتال حتى مع إنتشار إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتفضل الله عز وجل ببعث الرعب في قلوب الذين كفروا , وتجلي مصاديقه للمسلمين في الحرب وحومة الوغى .
قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]
أختتمت آية البحث بفيض ولطف من عند الله يتغشى مضامين الآية القدسية ، مع تباين حال المسلمين فيها وبيانها لما تضمره نفوس المسلمين من حب الدنيا أو الآخرة .
وفيه آية إعجازية لإرادة تنزيه نفوس المسلمين بحبهم الجهاد في سبيل الله, وهو من وجوه ولاية الله لهم .
ويتجلى فضل الله عز وجل على المسلمين في آية البحث من وجوه :
الأول : وعد الله عز وجل للمسلمين فضل منه سبحانه , وفيه ترغيب لهم بالجهاد .
الثاني : صدق وعد الله وتنجزه فضل من عند الله سبحانه لقهر الذين كفروا ورجوعهم إلى مكة خائبين منكسرين .
الثالث : مع كثرة جيش الذين كفروا وعزمهم على القتال , فقد وقع فيهم القتل والفتك بسيوف المسلمين .
الرابع : إقالة عثرة المسلمين من التنازع ومعصية الرسول .
الخامس : سعة فضل الله عز وجل على المسلمين بأن جعلهم في مندوحة في إرادة الدنيا أو الآخرة مع بيان أن النجاة بإرادة الآخرة .
السادس : إيقاف القتال بذات اليوم الذي بدأت فيه المعركة بفضل الله, وجعل أمر وقف القتال بيد المسلمين بقوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] مع أن الكفار هم الذين زحفوا وبدأوا القتال .
السابع : من فضل الله على المؤمنين إبتلاؤهم بالخير وأسباب إكتناز الصالحات مع إعانتهم في أمور الدين والدنيا .
الثامن : لا يقدر على العفو عن المؤمنين إلا الله عز وجل , ومن الآيات أن عفوه لم يأت على نحو الموجبة الجزئية , بل جاء مطلقاً ومتعلقاً بصبغة الإيمان وإن إقترن به الفشل والتنازع والمعصية .
وكما أخبرت آية البحث عن فضل الله على المؤمنين فقد جاءت آيات القرآن بالإخبار عن فضل الله على الناس جميعاً ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ] ( )وتحتمل النسبة بين الآية أعلاه وآية البحث وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق لتغشي فضل الله في الآية أعلاه الناس جميعاً بينما يختص موضوع الفضل في آية البحث بالذين آمنوا .
الثاني : نسبة التساوي وهو على جهتين :
الأولى : المراد بالناس في الآية أعلاه هم المؤمنون .
الثانية : إرادة المعنى المتحد للفضل الإلهي المذكور في كل من الآية أعلاه وآية البحث .
الثالث : إرادة فوز المؤمنين بالفضل من عند الله على نحو متعدد .
والمختار هو الأخير، فيتغشى فضل الله المؤمنين بلحاظ أنهم من الناس بخصوص النعم العامة وذخائر الخلافة في الأرض ، وسعة رحمة الله التي تتغش الخلائق كلها ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ).
ويختص المؤمنون بفضل إضافي آخر بلطف وإحسان من عند الله ، ويحتمل الفضل الإلهي الوارد في خاتمة آية البحث وجوهاً :
الأول : إرادة الفضل الخاص بالمؤمنين .
الثاني : المقصود الفضل العام للناس جميعاً ، وتقدير الآية : والله ذو فضل على المؤمنين بما هم من الناس .
الثالث : المقصود المعنى الجامع للفضل العام والخاص .
الرابع : إرادة فضل ورحمة من عند الله خاصة بوقائع أحد .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية خاصة وأن فضل الله على الأمة من اللامتناهي .
وإذ جاءت آية البحث بخصوص واقعة أحد فان خاتمتها عامة شاملة لأجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة لبيان أن معركة أحد لطف وإحسان الله عز وجل بالمهاجرين والأنصار يومئذ من فضل الله عز وجل على جميع المسلمين في أجيالهم المتعاقبة .
وأن فضله تعالى حاضر في كل زمان ، فلا يظن أحد أن الآيات ومصاديق المدد والعفو والفضل من عند الله على المؤمنين تنقطع أو تنتهي بل هي مستمرة متتالية إلى يوم القيامة ، قال تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( ).
ولم يرد لفظ[وَدَّعَكَ] ولفظ قلى[ قَلى ]في القرآن إلا في الآية أعلاه, ولعل فيه شاهداً على تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين البشارة بالآية أعلاه بالتسليم والتصديق , ورشحات السكينة , والآية أعلاه من مصاديق الوعد الإلهي في باب الوحي والتنزيل والنصرة .