المقدمة
الحمد لله الذي ملأت الآفاق آياته، ومنها ذات الآفاق , وذلتها وخشوعها له سبحانه , وكلها تؤكد وحدانيته، وتدعو إلى طاعته وعبادته، واشهد أن لا إله الا الله خضوعاً وتسليماً، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله إصطفاه من بين خلقه فاختاره لرسالته الناسخة وشريعته الدائمة , ذات صبغة الكمال في كل زمان .
الحمد لله الذي جعل الأنبياء وسائط وحيه، وأمناء علمه، تترى على أيديهم المعجزات، وتكون ذكرى للأجيال المتعاقبة.
الحمد لله الذي أنزل الكتب السماوية، وجعل القرآن حافظاً لمواثيق الأنبياء، وكاشفاً عن معجزاتهم، ومانعاً من ضياعها أو نسيانها، فهو كنز الله في الأرض، وخزينة السماء وذخيرة الملائكة , وعندما إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض بسبب إقدام الإنسان على الفساد والقتل بغير حق، رد الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ولأن الرد جاء من سلطان العزة والرفعة والجبروت، ورشحات ملكية الله المطلقة للسموات والأرض، وعبودية الخلائق كلها له، وحاجتها إليه إبتداءً وإستدامة في الوجود أو العدم , أدرك الملائكة أن الله هو [الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ] ( )، فخروا له سجداً ولاذوا بالعرش مسبحين مستغفرين.
فيأتي أوان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فينزل ذات الملائكة لبعث الرعب في قلوب الذين يفسدون في الأرض , ويسفكون الدماء ظلماً وجوراً، ويقوم الملائكة بالبطش بهم , وفي التنزيل[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
وعن أبي داود المازني قال: بينا أنا أتبع رجلاً من المشركين يوم بدر ، فاهويت إليه بسيفي فوقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه ، فعرفت أن قد قتله غيري( ).
وهناك آيات ونصوص وقرائن تؤكد أن الملائكة قاتلوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، وتقدير الآية: ولقد نصركم الله بالملائكة) .
لبيان موضوعية نزول الملائكة وقتالهم في صيرورة يوم بدر من بين أيام الدنيا[يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( ).
ومن علم الله عز وجل أن جعل القرآن سالماً من الزيادة أو النقيصة، ولا يطرأ عليه التحريف أو الحذف أو الإختصار، إذ أن كل كلمة منه فريدة وجوهرة تشع بضياء المعاني وأنوار المواعظ، من جهات:
الأولى : ذات الكلمة واللفظ القرآني، فان قلت وإن كان حرفاً واحداً مثل الألف واللام , الجواب نعم، من وجوه :
أولاً : لحاظ الثواب العظيم في تلاوة الحرف القرآني .
ثانياً : دلالة الحرف القرآني بجمعه مع غيره من حروف وكلمات القرآن،
ثالثاً : صبغة القرآنية للحرف القرآني , لذا هناك أحكام خاصة للورق البالي للمصحف .
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن حبل الله عز وجل، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عِصْمَة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، لا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم الم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر( ).
الثانية : سنخية التنزيل التي تتصف بها كل كلمة من القرآن مع إدراك الخلائق أنه ليس من تنزيل بعده لا قليل ولا كثير، لذا جعله الله عز وجل كافياً للناس في أمور الدين والدنيا، ولا يؤدي الصدور عنه والعمل بأحكامه إلا إلى الغبطة والسعادة الأبدية.
الثالثة : الأسرار الملكوتية في تقسيم القرآن إلى سور، والسور إلى آيات، وصيرورة كل آية خزينة في العلم وذخيرة ليوم المعاد، وفيه ترغيب للعلماء والمسلمين عامة لإستقراء المسائل والمواعظ من كل آية على نحو مستقل، والإجتهاد في حفظها وتلاوتها، والتدبر في معانيها.
وتقسيم القرآن إلى آيات توقيفي تم بأمر جبرئيل ، وكان ينزل فيقول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضع هذه الآية بين الآية الفلانية والآية الفلانية.
وعن مسروق عن عائشة عن فاطمة عليها السلام (أسر النبى صلى الله عليه وآله و سلم إلى أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضور أجلي( ).
ومعنى يعارضه أي يتدارس ويتذاكر معه لتشمل هذه المذاكرة وجوهاً:
الأول : تلاوة آيات القرآن.
الثاني : ضبط كلمات القرآن.
الثالث : تأكيد ترتيب آيات كل سورة قرآنية.
الرابع : ذكر أسماء السور، والترتيب بينها.
الخامس : معاني الكلمات وبيان أسرار الآيات.
السادس : المنع من حصول الزيادة أو النقيصة في القرآن .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتكف في كل عام في شهر رمضان عشرة أيام، فاعتكف عشرين يوماً في العام الذي قبض فيه.
وعن عبد الله بن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس بالخير وأجود ما يكون فى رمضان لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله القرآن , فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة ( ).
وأكتب هذه المقدمة في اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة السادسة والثلاثين وأربعمائة بعد الألف للهجرة النبوية المباركة إلتماساً لفيوضات الشهر الذي شرّفه الله بأن ذكره بالاسم من بين الشهور في القرآن مع بيان قدسيته وفضله بنزول القرآن ، وصيرورته وعاء زمانياً لفريضة الصيام ورشحاته المباركة في النشأتين , قال تعالى[شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
لتكون معارضة وتدارس جبرئيل القرآن مع النبي في شهر رمضان خاصة إتصالاً لنزوله في ذات الشهر، وإكراماً متجدداً له، لذا تستحب تلاوة وختم القرآن في شهر رمضان، وإشاعة تلاوته في أيامه ولياليه.
من قانون اللامتناهي جمع أهل البيت والصحابة المصحف وفق العرضة الأخيرة أي الثانية من السنة الأخيرة من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذا كانت الآية القرآنية لا تقبل القسمة في رسمها والفاصلة بينها وبين الآيات المجاورة لها، فهل تقبل القسمة في التفسير والتأويل.
الجواب نعم ، وكل شطر من الآية القرآنية يتضمن معاني , ودلالات عديدة من وجوه :
أولاً : شطر وجزء الآية القرآنية علم وذخيرة.
ثانياً : العلوم المستنبطة من الجمع بين كلمات شطر الآية القرآنية.
ثالثاً : لشطر الآية القرآنية خصوصية بحسب الموضوع أو الحكم والدلالة .
رابعاً : موضوعية الوقف الواجب واللازم في المعنى , من جهات:
الأولى : المعنى المستقرأ من الكلمات والشطر السابق للوقف واجباً كان أو جائزاً.
الثانية : دلالة ومعنى ذات الوقف.
الثالثة : معنى الكلمات والشطر الذي يأتي بعد الوقف , فان قلت : علامات الوقف في الرسم القرآني أمر مستحدث من علماء التجويد، الجواب نعم، ولكن له أصول في علم القراءة والتلاوة، كما أنه مستقرأ من معنى ودلالة الآية، وهذا لا يمنع من الإنتفاع منه كعلم قرآني .
خامساً : موضوعية سبب النزول للآية الكريمة , وهل يتعلق بشطر منها أو بالآية كلها.
سادساً : مفاتيح العلوم التي تترشح عن الجمع بين كلمات وجمل وأجزاء الآية القرآنية الواحدة ، وقد خصصنا له في تفسير كل آية باباً إسمه (الصلة بين أول وآخر الآية).
وهذا الجزء هو الخامس العشرون بعد المائـــة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) وجاء خاصاً بصلة الآية [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ…] الآية( ) بالآية السابقة لها , وهو قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) .
وهو من علم سياق الآيات الذي أسسناه في هذا السفر الخالد لبيان مصداق لإحاطة كلمات القرآن المتناهية باللامتناهي من الوقائع والأحداث وعدد كلمات القرآن هو سبعة وسبعون ألف كلمة وتسعمائة وأربع وثلاثون كلمة ، لتتجلى معجزة عقلية ذاتية وغيرية للقرآن فيه وهي الإستنباط المتجدد للعلوم من آيات القرآن من جهات :
الأولى : دلالة الآية القرآنية ومضامينها القدسية .
الثانية : إستقلال الجزء من الآية بعلوم متعددة .
الثالثة : إستقراء العلوم والأحكام من الجمع بين الآية القرآنية والآية التي قبلها، ويحتمل الجمع وجوهاً :
الأول : إنه فرع تفسير ذات الآية ورشحة منه .
الثاني : إرادة إتصال وإمتداد ذات التفسير، فيكون الجمع بعرض واحد مع تفسير كل من الآيتين .
الثالث : المسائل المستقرأة والمستخرجة من الجمع بين كل آيتين علوم إضافية مستقلة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من ذخائر القرآن .
الرابعة : الصلة الموضوعية بين كل آيتين متجاورتين من القرآن .
الخامسة : الأحكام المستنبطة من الجمع بين كل آيتين من مجموع آيات القرآن .
السادسة : علم التفسير والتأويل بلحاظ الجمع بين كل آيتين من آيات القرآن ، كما لو أخذت آية من أول القرآن وأخرى من آخره.
ليتقوم علم سياق الآيات بصلة الآية القرآنية مع كل آية مما بين الدفتين ، فلا تكون هناك أسوار السور فاصلاً بين الآيات ، فيجمع بين أول آية من القرآن مع آخر آية منه .
ويجمع بين بسم الله الرحمن الرحيم مع كل آية من القرآن في التفسير والتأويل , ثم يجمع بين آية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )وبين كل آية من آيات القرآن , إلى آية[مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ]( ).
ويكون مجموع أفراد هذا العلم وفق المتتابعة الهندسية والحسابية
730 ,446، 19
تسعة عشر مليوناً وأربعمائة وستة وأربعين الفاً وسبعمائة وثلاثين علماً.
ولو كان كل جزء من التفسير يتضمن صلة آية من القرآن مع ست آيات منه لصار المجموع أكثر من ثلاثة ملايين جزء في آية إعجازية تدل على صدق نزول القرآن من عند الله , ولزوم صدور الناس عنه والإقتباس من علومه.
فكيف وقد جاء هذا الجزء بفضل الله في صلة آية واحدة من القرآن بالآية السابقة لها .
فحتى لو جاءت بعض أجزاء التفسير بصلة آية مع إثنتي عشرة آية لبقي ذات العدد لسفر التفسير هذا وهو أكثر من ثلاثة ملايين جزء بالتداخل والجبر بين الأجزاء , ليقوم العلماء في الأجيال اللاحقة المتعاقبة بأكماله ، وإن إستمر هذا التأليف مئات السنين وباتمام لتفسيرنا هذا أو بتفسير مبتدأ آخر واسم جديد فالمدار على المسمى وليس الاسم ، والمراد تثوير علوم القرآن وإستخراج درر من ذخائره , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
فقد جاء الجزء الثاني والعشرون بعد المائة بتفسير أقصر آية من سورة آل عمران وسورة البقرة عدا الحروف المتقطعة ، وهو قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ).
وقد أطلعت على بعض كتب التفسير بعد صدور الجزء أعلاه إتفاقاً فرأيت أنها تضمنت تفسير الآية أعلاه بسطر واحد ونحوه ففي تفسير الكشاف مثلاً قال ({ بَلِ الله مولاكم } أي ناصركم ، لا تحتاجون معه إلى نصرة أحد وولايته . وقرىء بالنصب على : بل أطيعوا الله مولاكم) ( ).
ومنهم من إكتفى بتفسير الشطر الأول من الآية ببضع كلمات وفي الوجيز ({ بل الله مولاكم } أَيْ : فاستغنوا عن موالاة الكفَّار ، فأنا ناصركم فلا تستنصروهم ، ولمَّا انصرف المشركون من أحدٍ همُّوا بالرُّجوع لاستئصال المسلمين ، وخاف المسلمون ذلك فوعدهم الله تعالى خذلان أعدائهم) ( ).
لقد جاء الجزء أعلاه بالبيان والتفصيل والتأويل للآية قبل السابقة بلحاظ أسباب النزول والدروس المستقرأة من الآية فجاء الجزء جامعاً للعلوم المستنبطة من الآية من جهات :
الأولى : أسباب نزول الآية والواقعة التي جاءت الآية بخصوصها .
الثانية : المواعظ الذاتية المستنبطة من الآية.
الثالثة : موضوعية وشأن آية [بل الله مولاكم] في حياة الناس .
الرابعة : الوقائع التأريخية والشواهد التي تؤكد ولاية الله للمسلمين .
الخامسة : القوانين المستقرأة من ذات الآية مثل قانون مصاديق الولاية ، وقانون التلاوة من الولاية ، وقانون البطانة المنهي عنها بلحاظ أن هذا النهي من الولاية .
السادسة : تخصيص باب لكل من البحث الأصولي والبحث البلاغي ، وعلم المناسبة ،التي تتعلق بموضوع آية الولاية .
وهكذا بالنسبة للجزء التاسع عشر بعد المائة الذي جاء خاصاً بتفسير قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ….] ( ).
وذكرنا أمر تفسير الآية السابقة لصلته بهذا الجزء لأنه خاص بصلة آية البحث بها.
وهل يصح القول بأن الجزء خاص بالصلة بين الآيات الثلاث مثلاً (150-151 -152 )من سورة آل عمران ، الجواب لا ، لأن هذا الجمع علم مستقل تستقرأ منه مسائل وعلوم أخرى ، إنما يتضمن هذا الجزء صلة آية البحث [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ) مع الآية التي قبلها.
وقد تقدم عدد من الأجزاء من هذا التفسير خاصة بعلم سياق الآيات وتتعلق بصلة الآية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بآيات سابقة لها وترتيب هذه الأجزاء ضمن هذا السفر المبارك كالآتي :
الأول : الجزء السابع والسبعون ، ويقع في صلة الآية (110) بالآيات (70 -77 ) من سورة آل عمران .
الثاني : الجزء الثامن والسبعون , ويقع في صلة الآية (110) بالآيات (78 -84 ) من سورة آل عمران.
الثالث : الجزء التاسع والسبعون , ويقع في صلة الآية (110) بالآيات (85 -93 ) من سورة آل عمران .
الرابع : الجزء الثمانون , ويقع في صلة الآية (110) بالآيات (94 – 102 ) من آل عمران .
الخامس : الجزء الواحد والثمانون , ويقع في صلة الآية (110) بالآيات (101 -109 )من آل عمران .
لقد تفضل الله عز وجل علينا بفتح خزائن من علوم القرآن ليس لها حد أو منتهى فقد أسسنا لهذا العلم دون أن تسبر أغواره ، وهذا التأسيس إبتدائي , أما ذات العلم فستكتمل معالمه بجهود العلماء وأهل الإختصاص في الأجيال اللاحقة .
ويصدر هذا الجزء بالصلة بين الآية الثانية والخمسين وبين الآية السابقة وهو نصر علمي وفيض ولطف من عند الله علينا وعلى الناس ، فان علم السياق الذي نقترحه في مستقبل الأيام يتضمن إجتماع العلماء من ذوي الإيمان والإختصاصات المتعددة لتفسير كل آية قرآنية وصلتها مع الآيات الأخرى , ومنهم :
الأول :عالم اللغة العربية ومفرداتها .
الثاني : العالم بقواعد النحو والصرف .
الثالث : عالم التلاوة والقراءات والرسم القرآني .
الرابع : العالم بالسنة النبوية الشريفة .
الخامس : العالم بكتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه وحروب الردة.
السادس : المؤمن العالم بالكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل .
السابع : العالم بعلم الكلام وأحوال الآخرة , وما فيها من أسباب الخلود في النعيم أو الشقاء، ولما سأل رجل إبراهيم بن أدهم النصيحة، زجره عن فعل المعصية وقال له: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذونك إلى النار فلا تذهب معهم، قال: لا تدعونني ولا يقبلون مني، قال: فكيف ترجو النجاة إذا ( ).
وجاءت كل من آية البحث والسياق بذكر عالم الآخرة , والتحذير من الغفلة .
الثامن : الإختصاص بعلم الرجال ، وسند الحديث وطرقه ، وعلم الدراية في ذات مضمون وكلمات الحديث بلحاظ أن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع وهي بيان وتفسير للقرآن، وبها يتقوم منهاج التفسير بالمأثور.
التاسع : صاحب الإختصاص بالقانون الوضعي والدولي .
العاشر : العالم بالفلك وعلم الهيئة لبيان الآيات الكونية، ودلائل الإعجاز فيها.
الحادي عشر : العالم بالطب والأبدان ، قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ).
وهل يحضر هيئة تفسير الآية القرآنية طبيب واحد , الجواب لا ، لتعدد وكثرة معاني اللفظ القرآني ، وإنشطار علوم وإختصاصات الطب والتباين في المدارك , فينظر في تفسير الآية كل من :
1 – إختصاص الباطنية .
2 – طبيب القلب .
3 – العالم بطب العيون .
4 – العالم بطب الأنف والإذن والحنجرة، ويتناولون كل من إختصاصه أهمية الحاسة للإنسان , وأيهما أهم في خلقه وحاسة البصر أم السمع والمختار هو الأول .
5 – إختصاص النسائية والولادة .
6 – طبيب الأطفال .
7 – طبيب الأجنة .
8 – طبيب الجملة العصبية .
9 – الطب النفسي .
ليقف أطباء القلبية والنفسية والأعصاب وغيرهم عند كل من آية السياق والبحث [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] وقوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]وبيان الأثر والتأثير الموضوعي لكل من الآيتين .
10 – طبيب الجراحة العامة .
11 – الإختصاص بالصحة العامة وطب العائلة .
12 – طبيب الأسنان .
وغيرها من العلوم مثل علم الأنسجة ، علم الخلايا ، علم التغذية ، علم المناعة أي قدرة الجسم على مقاومة أسباب ومقدمات الأمراض والمواد الضارة مثل البكتريا ، علم الجراثيم والوقاية منها ، علم تخدير المرضى ، علم التشريح ، علم الأورام ، علم الفيروسات ، وأسرار العدوى ، وعلم الوراثة، وعلم الجينوم وهو الذي يتعلق بالمادة الوراثية للكائنات الحية والحامض النووي .
(عن سعد بن مالك وخزيمة بن ثابت واسامة بن زيد قالوا :قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عذب به قوم فإذا وقع بارض وانتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه وإذا وقع بارض ولستم بها فلا تدخلوها) ( ) .
وفيه آية لإرادة منع إنتشار الوباء في الأمصار وإصابة المسلمين بالوهن , وحصول ثغرة في الثغور , ولم يكن آنذاك لقاح, وعلاج كاف للشفاء , وقد ينقل الإنسان الوباء والداء مع سلامته منه , ونجاته من فتكه.
الثاني عشر : علم تشريح الحيوان والطب البيطري .
الثالث عشر : عالم الإجتماع والإختصاص في علم النفس .
وعلى سبيل المثال أراد العلماء تفسير قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( )بيّن عالم اللغة والنحو والصرف العلوم الخاصة بالآية.
وذكر العالم بالسنة صيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله في الحث على الصيام.
وبين العالم بالمغازي ، كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان ، ومنها معركة بدر التي وقعت في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة وهي ذات السنة التي فرض فيها الصوم ، نعم لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينوي القتال عند الخروج إلى بدر , إنما خرج لطلب عير قريش , لأن المهاجرين لهم أموال تركوها في مكة وأكرههم على تركها كبار الكفار من قريش ، كما سيأتي بيانه في التفسير في هذا الجزء .
ويبين العالم بالكتب والنبوات السابقة كيفية فرض الصيام على الأمم السابقة لقوله تعالى [كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] مع بيان لماذا تكرر لفظ [كُتِبَ] في هذه الآية ، وهي الوحيدة التي تكرر فيها هذا اللفظ الذي يدل على الوجوب، والثبات.
ويتناول الأطباء وفق الإختصاصات المتعددة منافع الصوم وما أكده العلم الحديث من صيرورته سبباً للوقاية، وسبيلاً للشفاء من أمراض عديدة ويذكرونه في ذات تفسير الآية أعلاه مع الإستدلال بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صوموا تصحوا) ( ).
وعلى فرض ضعف سند الحديث فهل تدل الشواهد الطبية الحديثة على صحة سنده وهل تدخل في مدح ووثاقة رجال السند، أو تكون قرينة وأمارة مستحدثة على صحة الحديث .
الجواب لا دليل عليه، وإن لم يكن من الإستصحاب القهقري الذي لا موضوعية له في علم الأصول.
ويبين الفقيه الرخصة في الإفطار بالنسبة للمريض والمسافر والشيخ الهرم الذي لا يقدر على الصيام ، ليكون من إعجاز الآية القرآنية أنها عون للعلماء في عملهم وإختصاصهم ، إذ يستنبطون منها سبل الوقاية والشفاء ، ويدعون المرضى إلى التحلي بالإيمان ، كما في قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( )ليبين الطبيب أنه لا يصل القلب إلى مرتبة الطمأنينة إلا بذكر الله.
وتنعكس الطمأنينة على أعضاء البدن والصحة العامة ، وتتجلى أيضاً بمكارم الأخلاق.
ويأتي عالم الفلك ليبين أسرار إرتباط الصيام ببداية شهر رمضان لقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) وولادة الهلال ونظام سيره في ليالي الشهر ، وكيف أنه يبدأ هلالاً , ثم يصير بدراً , ثم يأخذ بالنقصان إلى أن يصل إلى حال المحاق , ليبين الفقيه تحقق الرؤيا الشرعية , وانها لا تتم بأحد طرق :
الأول : رؤية المكلف نفسه لهلال رمضان فيصوم الشهر أو يرى هلال شوال فيفطر.
الثاني : شهادة شاهدين عدلين بأنهما رأيا الهلال مجتمعين أو متفرقين.
الثالث : إكمال عدة شهر شعبان ، فيكون اليوم التالي من شهر رمضان بلحاظ أن الشهر القمري لا يقل عن تسعة وعشرين يوماً ، ولا يزيد عن ثلاثين ، وتلك آية في بديع صنع الله ودقة الأنظمة الكونية، يشترك في بيانها الفقيه وعالم الأصول ، وعالم الفلك وعالم الكلام والفلسفة .
الثالث عشر : العالم بالإقتصاد , وضروب التجارة والتخطيط وبيان آيات التجارة وأحكامها في القرآن ، وأسرار المنهاج العام للدولة , فقد ورد في سورة يوسف أمران :
الأول : منهاج إقتصادي لخمس عشرة سنة ، كما في قوله تعالى [قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ]( ).
الثاني : خطة إقتصادية لمدة سنة واحدة، كما في قوله تعالى [ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ]( ) .
وفي الآية أعلاه إشارة إلى أن كل سنة من السنوات الخمسة عشرة لها خطة ومنهاج خاص بها , وليعتاد نظام الحكم في مصر على التخطيط والإدخار .
الرابع عشر : عالم الأرض والجيولوجيا ، لبيان كنوز الأرض ، وكيفية تعاهدها ، وإجتناب الخسف الذي قد يترتب على سحب وإستخراج ملايين الأطنان من النفط والغاز والماء من تحت الأرض ، ولعل هذا الأمر أشد ضرراً في المستقبل من الإحتباس الحراري , إذا لم توضع له الحلول المناسبة، لأن هذا الإستخراج مستمر , وفي تزايد وتسابق.
الخامس عشر : العالم بأصول الفقه والقواعد الفقهية ليستقرأ ويؤكد القاعدة من القرآن .
السادس عشر : الذي يحيط علماً بفنون القتال والعلوم العسكرية ، ومن الإعجاز في المقام أن كلاً من آية البحث تتعلق بالعلوم العسكرية واللقاء مع العدو والحرب النفسية ففي قوله تعالى [سَُنلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]حث على إتباع طرق ومناهج الخوف والفزع في قلوب الأعداء في المعركة وقبلها وبعدها وهل الموعظة والإنذار في بداية المعركة منه الجواب نعم، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أمراء السرايا بالإبتداء بالوعظ، وعدم إبتداء القتال.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث سرية قال: ” إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحدا( ).
السابع عشر : إشتراك أهل العلوم العقلية : علم الكلام ، المنطق ، الفلسفة في تفسير الآية القرآنية بما يفيد تجلي إعجاز القرآن وزيادة الإيمان .
الثامن عشر : العالم بالرياضيات والحساب ، والمفاهيم المجردة كالأعداد والأشكال الهندسية ، وإستنباط القواعد الرياضية من آيات القرآن ، وإتخاذها دليلاً وبيان الإعجاز في الأرقام والأعداد الواردة أو المستقرأ من آيات القرآن .
التاسع عشر : علم الفيزياء ويسمى بالعربية (علم الطبيعة) وهو الذي يدرس أمور الطاقة والجاذبية وحركة المادة , والقوى المؤثرة في جريانها وأسرار نظامها ودلالاتها على وجود الخالق , وأنه الله عز وجل الذي أبدع الكون ووجوب عبادته ، وكثير من الصناعات في هذا الزمان تتقوم بعلم الفيزياء مثل الرادار والهاتف والفضائيات والحاسوب وعلوم الكهرومغناطيسية لتسخر في خدمة الإنسان وعلاج الأمراض مثل أجهزة الأشعة وتشخيص الأمراض .
وهناك نظريات ليس لها حل إلى الآن ، وقد يجد العلماء مفاتيحها في القرآن ، قال تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
فلا يخضع هذا الأمر إلى أنظمة وقواعد سابقة مع أن الأنظمة هي الأخرى من عند الله ، وفيه دعوة للعلماء والناس جميعاً إلى التسليم بعظيم سلطان الله ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
ومنهم من جعل الفيزياء فرع الرياضيات , ولكنها علم مستقل قائم بذاته ، وقد تعددت آيات خلق السموات والأرض وبيان أسرارها في القرآن ، فان قلت علوم السموات تتعلق بعلم الفلك ، وتتعلق علوم الأرض بعلم الجيولوجيا.
والجواب ليس من حصر للعلوم التي تتعلق بها أسرار وأنظمة السموات والأرض .
العشرون : العالم بالكيمياء وخواص وتركيب المادة ، وتفاعلاتها وتداخلها وتسمى الكيمياء أحياناً ( العلم المركزي ) لأنه الرابط بين الفيزياء والعلوم الطبيعية مثل علم الفلك والأحياء والجغرافية وليس بتام، إنما العلم المركزي هو علوم القرآن والأحكام الشرعية الواردة فيه ، وهو سبيل الهداية والرزق الكريم للناس جميعاً ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ) .
ومن المتسالم عليه أن العلوم الإلهية أقدم وأشرف العلوم، ويأتي مشروع التفسير هذا لتسخير أنواع العلم لإستقراء كنوز التنزيل.
الحادي والعشرون : علم الصيدلة وأثر الدواء لدى المرضى، وإستجابتهم له ، قال تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] ( ) فيدل الفاء في [فَهُوَ يَشْفِينِ] على وجود الدواء وأسباب الشفاء للمرض حال الإصابة به ، ويستلزم من الإنسان الدعاء والسعي والكسب .
الثاني والعشرون : علم تشريح الحيوان والطب البيطري .
الثالث والعشرون : العالم بالأدب وتهذيب الأخلاق ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ( ) , مما يدل على أن كل آية بلغة ومرآة للأخلاق الحميدة .
الرابع والعشرون : علم السياسة وشؤون الحكم وأحكام مجالس الشورى والنواب، قال تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] ( ).
الخامس والعشرون : العالم بالفلسفة اليونانية والصينية ونحوها لبيان الفارق بين العلم المدني الذي جاء في القرآن والسنة والعلوم التي توصل إليها الناس بالكسب والتحصيل .
السادس والعشرون : علم النبات وأسرار نموها، وقد جاء القرآن بذكرها بالذات وإتخاذها مثالاً كما في قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ] ( ) .
وفي الآية بيان للبركة والرزق الكريم ، ومع ان هذه الأضعاف توجد في نبتة الدخن وهو نبات عشبي حولي ذو حبات صغيرة ويسمى البشنة ، فان الآية أعلاه تدل على الزراعة بالإستنساخ .
وهي بشارة لطرد الخوف والجوع ونقص الغذاء مع إزدياد أعداد أهل الأرض ، وهو من مصاديق إجتماع مضامين آية البحث والسياق في الموضوع المتحد , فكثرة الأضعاف إلى سبعمائة ضعف للحبة الواحدة من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]سواء في ذات الرزق الكريم، أو الإنفاق وإخراج المسلمين الزكاة , وما في أموالهم من الحقوق.
وقسمت العلوم إلى قسمين :
الأول : العلم الضروري والذي لا يستلزم النظر والإستدلال والوسائط كما في قولك الماء سائل ، النار حارة .
الثاني : العلم النظري ، وهو الذي يحتاج إلى نظرة وإستدلال ويحتمل قوله تعالى في آية السياق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] وقوله في آية البحث [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] وجوهاً :
الأول : إنه من العلم الضروري الذي لا يحتاج إلى نظر وتدبر وإستحضار الوسائط.
الثاني : إنه من العلم النظري الذي يستلزم الإستدلال , ويحتاج إلى شواهد والدلائل .
الثالث : إنه علم آخر مستقل بذاته .
الرابع : إرادة التفصيل فاحدى الآيتين من العلم الضروري والأخرى من العلم النظري .
والصحيح هو الأول مما يستلزم التصديق بأمور :
الأول : نزول الآية القرآنية من السماء .
الثاني : سلامة القرآن من التحريف أو التبديل ، قال تعالى في وصف القرآن والثناء عليه[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( ).
الثالث : كل كلمة في القرآن حق وصدق .
فكل آية قرآنية قانون من الإرادة التكوينية , تكون مضامينه وأحكامه حاضرة بين الناس إلى يوم القيامة إنما يكون النظر والإستدلال بالمصاديق والشواهد التي تدل على مضامين الآية القرآنية .
وليس من حصر لهذه المصاديق من جهات :
الأولى : ذات المصاديق والشواهد التي تدل على صدق الآية الكريمة .
الثانية : زمان مصاديق الآية القرآنية ، فهناك تتجدد ومصاديق للآية القرآنية في كل زمان وإلى يوم القيامة ، وتكون تعضيداً وإضافة لأسباب النزول والمصاديق السابقة.
الثالثة : ملك الله عز وجل للآيات الكونية فإنها وعاء ومحل لمصداق الآية القرآنية ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ] ( ).
وهل يكتفى باشتراك عالم واحد من كل إختصاص في تفسير الآية القرآنية الجواب لا ، كما أن هذا التفسير عند صدوره يفتح آفاق التحقيق والزيادة والتنقيح منه وتتجلى فيه ملكة الإبداع عند المسلمين ، وينتفع الناس جميعاً من العلوم المترشحة والمستقرأة عن القرآن وفق الإختصاصات متفرقة ومجتمعة ، وهو من مصاديق الدوام والزيادة المتصلة في النفع العام في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
السابع والعشرون : العالم بالتفسير بالمأثور , وما فيه من الكشف والبيان .
الثامن والعشرون : الذي يحيط علماً بالشعر وأوزانه وقوافيه , فالشعر باب للتفسير، ومعرفة معنى الكلمة , وعن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن قوله[يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ]( )، قال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب , أما سمعتم قول الشاعر :
أصبر عناق أنه شر باق … قد سن لي قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق
قال ابن عباس : هذا يوم كرب وشدة( ).
التاسع والعشرون : العلماء في العلوم المستحدثة , وكذا التي تنشطر عن العلوم في هذا الزمان ، قسمت العلوم إلى قسمين :
الأول : العلوم الشرعية ، وهي المستقرأة من القرآن والسنة , وما جاء به الأنبياء السابقون وأصول وفروع الدين وهو أشرف وأسمى العلوم .
الثاني : العلوم غير الشرعية ، وهو مطلق العلوم الأخرى .
الثلاثون : علم الرؤيا وتعبيرها ، خاصة وأن الرؤيا وردت في القرآن نحو سبع مرات ، كما ورد تأويلها وتحقق مصداقها وكيفية صرف رؤيا الإنذار بالدعاء والصدقة، كما في ابراهيم وإبنه إسماعيل عليهما السلام إذ ورد في التنزيل ، [قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ).
(وقال محمد بن إسحاق بن يسار : كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حُمل على البراق فيغدو من الشام فيصلي بمكة،
ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام. حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته،
أُري في المنام أن يذبحه،
فلما أُمر بذلك قال لابنه : «يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب. فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب (ثبير)،
أخبره بما أُمر،
كما ذكر الله تعالى،
قالوا : فقال له ابنه الذي أراد أن يذبحه : «يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب،
وأكفف عنّي ثيابك حتى لا ينضح عليها من دمي شيء،
فينقص أجري وتراه أُمّي فتحزن،
واشحذ شفريك،
وأسرع مرّ السكين على حلقي ليكون أهون للموت عليّ،
فإنّ الموت شديد،
وإذا أتيت أُمي فاقرأ عليها السلام مني،
وإن رأيت أن ترد قميصي على أُمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عنّي. فقال له إبراهيم (عليه السلام) : «نعم العون أنت يا بُني على أمر الله.
ففعل إبراهيم ما أوصاه به ابنه،
ثم أقبل عليه يقبّله،
وقد ربطه وهو يبكي والابن يبكي حتى استنقع الدموع تحت خده،
ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تنحر السكين. قال السدي : ضرب الله صفحة من النحاس على حلقه. قالوا : فقال الابن عند ذلك : «يا أبتِ كبّني لوجهي على جبيني،
فإنّك إذا نظرت في وجهي رحمتني،
وأدركتك رقّة تحول بينك وبين أمر الله وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع. ففعل ذلك إبراهيم،
ووضع السكين على قفاه فانقلب السكين،
ونُودي : «يا إبراهيم مه،
قد صدّقت الرّؤيا،
هذه ذبيحتك فداءً لابنك فاذبحها دونه،
فنظر إبراهيم فإذا هو بجبرائيل ومعه كبش أقرن أملح فكبّر جبرائيل فكبّر الكبش فكبّر إبراهيم فكبّر ابنه، وأخذ إبراهيم الكبش وأتى به المنحر من منى فذبحه.
قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده، لقد كان أوّل الإسلام،
وإنّ رأس الكبش لمعلّق بقرنيه في ميزاب الكعبة) ( ).
الحادي الثلاثون : علم الفراسة والقيافة والسحر , ولما مانع من حضور المؤمن العالم بالقيافة والسحر مع حرمته وعدم جوازه لبيان دلالات إبطاله في القرآن .
لقد ذكر القرآن السحر كما في قصة فرعون، وهو مسألة إبتلائية، ففي كل زمان يفتتن عدد من الناس بخداع الساحر، فلابد من الإختصاص في تفسير الآيات التي ذكرت السحر وتحذير الناس منه ، وبيان حرمته , لتلاحق الآية القرآنية وتفسيرها هذا الداء ، ويتجلى إعجاز القرآن في إستئصال السحر ونحوه من صيغ الخداع من المجتمعات ، قال تعالى[وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى]( ) , وهو من وجوه الرحمة للناس في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز في علم سياق الآيات أنه لا يختص بالإتحاد الموضوعي بين الآيتين، بل يتضمن إستنباط المسائل والأحكام من الجمع بين كل آيتين من القرآن، وكذا بين كل ثلاث وأربع آيات، والدروس التي تتجلى من الجمع من جهات :
الأولى : الجمع بين آيتين محكمتين.
الثانية : الجمع بين آيتين متشابهتين.
الثالثة : الجمع بين آية محكمة وأخرى من المتشابهات.
وأقوم بتأليف أجزاء التفسير ومراجعتها وتصحيحها بمفردي والحمد لله وكذا كتبي الفقهية والأصولية , بلطف وفيض من الله سبحانه, فصدر هذا الجزء بصلة آية من القرآن بأخرى مجاورة لها , فكيف إذا إجتمع ذوو الإختصاصات العلمية , وإجتهدوا في تفسير الآية القرآنية , وصلتها مع كل آية من آيات القرآن , ولم نمر بمرتبة ومرحلة النظرية في هذا العلم , وأثبتنا للأجيال المتعاقبة صدق وإمكان بلوغ أجزاء تفسير القرآن أكثر من ثلاثة ملايين جزءً بشواهد ناضرة ذات بهاء منها هذا الجزء المبارك , كما يستقرأ من المنهجية التي تتجلى في كل جزء من هذا التفسير .
وقد ظهرت في هذا الزمان صناعة الطباعة الرقمية والأقراص الليزرية التي تحمل آلاف وملايين الكتب في القرص الواحد، وكأن هذا التفسير المبارك على موعد مع الإرتقاء العلمي، وهو كذلك في كل زمان ويبقى حاضراً وإماماً عند رشحات العلوم ، قال تعالى في الثناء على نفسه ودعوة الناس لشكره سبحانه [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ).
حرر في السابع عشر من شهر رمضان المبارك 1436هـ
قوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] الآية 152.
الإعراب واللغة
ولقد : الواو : حرف عطف وإستئناف , على ما أذهب إليه بأن الأصل معنى حرف الواو في المقام هو المعنى الأعم إلا مع القرينة على التقييد أو الحصر بالعطف أو الإستئناف , وهو مبحث مستحدث في علوم اللغة , قال تعالى[إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
اللام : قيل واقعة في جواب قسم مقدر ، ولا دليل عليه ، وقد تصل معاني اللام إلى خمسة عشر معنى منها :
الأولى : الملك والإختصاص أو الإستحقاق وهي التي تدخل بين معنى وذات مثل قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، ومنه الفصاحة لقريش والصباحة لبني هاشم .
الثاني التبيين أو اللام المبينة ، كما في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لقد أنزلت علي ّ آية هي أحب إلي من الدنيا كلها ) ( ).
الثالث : التعليل كما في قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ] ( )ولم يرد لفظ (لتحكم) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، وفيها مسائل:
الأولى : الآية من الشواهد على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً , وإنتفاعهم من الوحي في حل الخصومات بينهم , بما يكون قانوناً للأجيال المتعاقبة من الناس.
الثانية : بعث السكينة في نفوس المسلمين بأن ما يحكم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو من عند الله.
الثالثة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نزول الأحكام من عنده سبحانه.
الرابعة : تأديب المسلمين ودعوتهم لطاعة الله ورسوله، ومنعهم من رد حكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا]( ).
الخامسة : حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس من مصاديق إمامته الكبرى، ووراثته لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى[قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]( )، مع بيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
أولاً : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحكم بين الناس، وفك الخصومات والنزاعات.
ثانياً : لجوء الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحكم بينهم مع الإقرار بنبوته.
ثالثا : إدراك الناس أن حكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينزل من فوق سبع سموات، وهو من مصاديق قوله تعالى[ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]( ) .
ويحتمل حكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً:
الأول : إقتباس الحكم من ظاهر الكتاب.
الثاني : الحكم بالجمع بين الآيات , وأخذ وإقتباس الحكم من سياقها والتداخل بينها.
الثالث : إرادة المعنى الأعم لمدرك الحكم وشموله للكتاب وعموم الوحي الذي ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه وحي بخصوص ذات الخصومة، وتعيين عين معلومة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية أعلاه، ليكون كل فرد من أفراد حكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مادة لإحتجاج المسلمين من وجوه :
أولاً : دلالة حكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صدق نبوته.
ثانياً : إستقراء وجوه الإعجاز بحكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لا يتعارض مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن أم سلمة أنها قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم جلبة خصام عند بابه فخرج إليهم فقال انما انا بشر وانه يأتيني الخصم , ولعل بعضهم ان يكون ابلغ من بعض فأقضى له بذلك واحسب انه صادق , فمن قضيت له بحق مسلم فانما هو قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها( ).
ثالثاً : مجئ قوله تعالى[لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ] خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الإطلاق , بينما قيد الأمر الإلهي إلى النبي داود بلزوم العدل بين الناس في الحكم.
الرابع : من معاني اللام إنتهاء الغاية ، كما في قوله تعالى [وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا]( ).
الخامس : التوكيد : وهي التي تأتي لتأكيد الكلام ، وتكون في الصناعة النحوية زائدة .
السادس : التعجب وتأتي بعد (يا) في نداء التعجب منه , وتكون في غير النداء مكسورة مثل : لله ما تكسب التقوى لصاحبها .
السابع : لام العاقبة ، وتسمى لام المآل ولام الصيرورة , وهي التي تدل على أن ما بعدها عاقبة ونتيجة لما قبلها .
الثامن : الإستعلاء إي بمعنى على .
التاسع : الإستغاثة .
العاشر : التعجب .
ولم يرد في معاني اللام أنها جواب لقسم مقدر , ولكنه شائع في الإعراب.
والمختار أن اللام في قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ] للتأكيد .
قد : حرف تحقيق .
صدقكم الله : صدق : فعل ماض .
والكاف ضمير مفعول به , والميم ميم جمع الذكور .
الله : اسم الجلالة فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره .
وعده : مفعول به ثان منصوب بالفتحة ، والضمير الهاء مضاف إليه .
إذ تحسونهم : إذ : ظرف للزمن الماضي مبني على السكون في محل نصب على الظرفية متعلق بـ [صَدَقَكُمْ].
وتكون [إذ] أحياناً تعليلية أو فجائية , كما في قوله تعالى[فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
تحسونهم : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون .
الواو : فاعل ، لأنه من الأسماء الخمسة .
والضمير [هم] : مفعول به .
باذنه : جار ومجرور متعلق بـ (تحسون).
حتى إذا فشلتم : حتى : حرف إبتداء .
إذا : ظرف للزمان المستقبل مبني على السكون ، يتضمن معنى الشرط ، وتختص بالدخول على الجملة الفعلية ، ويكون الفعل الذي بعدها في الغالب ماضياً كما في آية البحث .
فشلتم : فعل ماض مبني على السكون ، والتاء ضمير فاعل .
والميم : ميم جمع الذكور.
وتنازعتم : الواو : حرف عطف .
تنازعتم : مثل فشلتم .
في الأمر : جار ومجرور متعلق بـ [تَنَازَعْتُمْ] .
وعصيتم : الواو : حرف عطف .
عصيتم : مثل فشلتم .
من بعد : جار ومجرور متعلق بـ [عَصَيْتُمْ].
ما أراكم : ما : حرف مصدري .
أرى فعل ماض مبني على الفتح المقدر .
الضمير (كم) مفعول به أول , والفاعل ضمير مستتر تقديره هو ، والمصدر المؤول (ما أراكم) في محل جر مضاف إليه .
ما تحبون : ما : اسم موصول مبني في محل نصب مفعول به ثان .
تحبون : فعل مضارع مرفوع , وعلامة رفعة ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة .
منكم من يريد الدنيا :
مِن : حرف جر : كم : ضمير في محل جر متعلق بمحذوف خبر مقدم .
مَن : اسم موصول مبني في محل رفع مبتدأ مؤخر .
يريد : فعل مضارع مرفوع , وعلامة رفعة الضمة الظاهرة على آخره والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) .
الدنيا : مفعول به منصوب , وعلامة نصبة الفتحة المقدرة على الألف .
ومنكم يريد الآخرة :
الواو حرف عطف , وإعراب الجملة ذات إعراب (منكم من يريد الدنيا).
ثم صرفكم : ثم : حرف عطف يتضمن معنى الترتيب والتراخي، ويفيد إشتراك المعطوف مع المعطوف عليه في الحكم والإعراب , كما في قوله تعالى[ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ) .
صرفكم : صرف فعل ماض ، والضمير الكاف مفعول به , والميم ميم جمع الذكور .
عنهم : جار ومجرور .
ليبتليكم : اللام للتعليل .
يبتلي : فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والضمير الكاف مفعول به , والميم : ميم الذكور ، والفاعل ضمير مستتر يعود لله عز وجل تقديره (هو).
والمصدر المؤول , وتقديره ( إبتلاء ) في محل جر باللام متعلق [بصرفكم ] .
ولقد عفا : الواو : إستئنافية.
قد : حرف تحقيق .
عفا : فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) .
عنكم : حرف جر ، والضمير الكاف، اسم مجرور ، والميم : ميم جمع الذكور.
والجار والمجرور متعلق بـ (عفا) .
والله : الواو حرف إستئناف .
اسم الجلالة : مبتدأ مرفوع .
ذو فضل : خبر مرفوع وعلامة رفعه الواو .
فضل : مضاف إليه مجرور.
على المؤمنين : جار ومجرور متعلق بفضل , وعلامة جره الياء .
وظاهر علماء التفسير ان المراد من [تَحُسُّونَهُمْ] أي تقتلونهم .
و(الحَسُّ : القَتلُ الذَّريعُ والاسْتِئصالُ حَسَّهُم يَحُسُّهم حَسَّاً : قَتَلَهم قَتْلاً ذَريعاً مُستَأْصِلاً وقولُه تعالى : ” إذْ تَحُسُّونَهم بإذْنِه ” أي تَقْتُلونَهم قَتلاً شديداً والاسم الحُسَاس عن ابن الأَعْرابِيّ وقال أبو إسحاق : معناه : تَسْتَأصِلونَهم قَتلاً( ).
وقال الفراء الحَسُّ القتل والإِفناء ههنا) ( ).
والمختار أن معنى الحس في الآية أعم لغة وإصطلاحاً , ويأتي الحس ، بمعنى التمكن من العدو، والإشراف على قتله. وبمعنى الرقة والعطف والإمهال
(وفلان يَحِسُّ لفلان حَسًّا، أي يرقّ له، إذا عطفتْه عليه الرحِمُ. ومنه قولهم: ” إن العامري لَيَحِسُّ للسعديّ ” لما بينهما من الرَّحِم) ( ).
وله حسا أي تألم لما أصابه ورق له وعطف عليه.
ويأتي الحس بمعنى الصوت الخفي , كما في قوله تعالى [لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا] ( ).
ويأتي بمعنى صوت المشي والدبيب , ومنه حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان في مسجد الخيف فسمع حس حية , فقال : أقتلوها.
ويأتي الحس بمعنى نفض التراب (ومنه قولُ زَيْدِ بنِ صُوحانَ يومَ الجمَل: ادْفِنوني في ثِيابي ولا تَحُسُّوا عنِّي تُراباً أي لا تَنْفُضوه) ( ).
وأحس بالشئ أي أدركه باحدى حواسه ، وقد وردت مادة (حس) ست مرات في القرآن ، خمسة منها بمعنى الإدراك بالحواس .
أما ما ورد في هذه الآية , فحمله المفسرون على القتل ، وفيه إشكال لإتحاد اللفظ والمعنى إلا مع الدليل على الخلاف.
وسيأتي مزيد كلام في علم المناسبة إن شاء الله ، وفي التنزيل حكاية عن يعقوب عليه السلام [يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ] ( ).
يقال : سُئل ابن عباس عن الفرق بين التجسّس والتحسّس فقال : لا يبعد أحدهما عن الآخر إلاّ أنّ التحسّس في الخير ( ).
ولكن إذا كان التجسس لكشف سعي كفار قريش ونحوهم وإرادتهم الإجهاز على المؤمنين فهو حسن , وفيه شواهد في بدر والخندق وغيرهما .
والحس غير التحسس وإن كان أصل الكلمتين واحداً.
وقال ابن عطية (والحس القتل الذريع ، يقال حسهم إذا استأصلهم قتلاً، وحس البرد النبات، وقال رؤبة( ):
إذا تَشَكَّوْا سُنَّةً حَسُوسا … تَأْكُلُ بَعْدَ الأَخْضَرِ الْيَبِيسا
قال بعض الناس : هو مأخوذ من الحاسة ، والمعنى في حس : أفسد الحواس، قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف( ).
ولا دليل على ضعفه , إذ هو مستقرأ من ظاهر اللفظ وإرادة المعنى الأعم للآية.
الإذن: الإمضاء والتمكين مع العلم.
ويقال صرفته صرفاً فانصرف أي حولته، وغيرت وجهته .
ويأتي الصرف بمعاني متعددة مثل :
1- صرف المال أي أنفقه.
2- وصرف وقته أي قضاه.
3- وصرف الأسير أي خلى سبيله.
4- وصرف العامل أي سرحه.
5- وصرف السائل أي رده .
6- وصرف همه إلى موضوع أي إنقطع إليه وإنشغل به.
7- وصرفه إليه أي جعله يقصده ويطلبه، وفي التنزيل[وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ]( ).
والوعد : إعطاء الأمل بتحقق أمر , والوعد نوع عهد , وهو من المفاعلة, وفيه أطراف :
الأول : الواعد الذي يقوم بالواعد .
الثاني : موضوع الوعد .
الثالث : الموعود فرداً كان أو أكثر .
وتواعد القوم أي وعد بعضهم بعضاً , ويقال (يومٌ واعِدٌ، إذا وَعَدَ أوَّله بحرٍّ أو برد. وأرضٌ واعِدَةٌ، إذا رُجيَ خيرُها من النبت) ( ).
ويستعمل الوعد في الخير والشر ، قال الشاعر :
أَلا عَلِّلاني كلُّ حيٍّ مُعلَّلِ … ولا تَعِداني الشَرَّ والخيرُ مُقْبِلُ( )
وغلب إستعماله في الخير ، أما في الشر فيسمى الوعيد .
وقال صاحب العين ( نجز الوعد ينجُز نجْزاً ونجِز – حضر. ابن السكيت: نجِز – فني ونجَز – قضى حاجته. ابن دريد: وعْد ناجِز ونجيز وقد أنجزته ونجّزْته واستنجزْته العِدَة وتنجّزته إياها وقد نجزْت الحاجة وأنجزْتها – قضيتها) ( ).
في سياق الآية السابقة
صلة هذه الآية بالآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) , وفيه مسائل :
المسألة الأولى : جاءت الآية السابقة بلغة الغائب , ووردت آية البحث بصيغة الخطاب مع التباين بين الذين ذكرتهم الآية السابقة ، والذين ذكرتهم آية البحث ، فموضوع الآية السابقة هم مشركوا قريش ، أما موضوع آية البحث فهم المؤمنون .
المسألة الثانية : إبتدأت الآية السابقة بحرف الإستقبال السين [ سنلقي ] أما آية البحث فابتدأت بحرف العطف الواو ، وهل يعني هذا الفصل الموضوعي بين هاتين الآيتين وما تقدمهما من الآيات , لأن الآية السابقة لم تبدأ بحرف عطف ، الجواب لا .
إذ يفيد موضوع الآية السابقة العطف الموضوعي أيضاً ، لأن سين الإستقبال تحمل في ثناياها معنى العطف في الجملة إذا كان نظم الجملة يحتمله ، وفيه نكتة من وجوه :
أولاً : ندب المسلمين إلى التدبر بمضامين الآية السابقة .
ثانياً : بيان الإتصال والتداخل بين آيات القرآن ، وعدم إمكان التفكيك بينها ، وإن لم يربط بينها حرف عطف ونحوه .
ثالثاً : دعوة النحاة وعلماء البلاغة والقراءة إلى التوسع في قواعد الصناعة النحوية ، ونحوها بلحاظ الوجوه المتعددة لمفهوم الآية القرآنية , وقد بيّنا في أجزاء من هذا السفر المبارك أن اللفظ القرآني , وموضعه في الآية أعم وأوسع من أن تحيط به قواعد اللغة العربية والتي لم تسن وتكتب إلا بعد نزوله بسنوات عديدة .
رابعاً : حث علماء التفسير على عدم الوقوف عند القواعد النحوية , فلابد من السياحة في مضامين اللفظ القرآني , والغايات الحميدة المستقرأة من تعدد معناه .
خامساً : إستنباط المعاني والعلوم الإضافية من التفسير , بلحاظ الجمع بين الآيات المجاورة , وإن لم يأت بينها حرف عطف .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين هذه الآية والآية السابقة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ َ]
لبيان حقيقة وهي أن مضامين الآية السابقة من وعد الله للمؤمنين , وفيه وجوه :
الأول : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من وعد الله للمؤمنين .
الثاني : لحاظ الإستقبال في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثالث : المراد من الوعد بخصوص الآية السابقة هو النتيجة والغاية من إلقاء الرعب في قلوب الكفار ، وهي على وجوه :
أولاً : هزيمة الكفار يوم أحد ، قال تعالى في الإخبار عن حالهم يوم أحد [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ثانياً : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم أحد ، وكانت نجاته صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ معجزة حسية له ، إذ أصبح الكفار على بعد بضعة أمتار منه ، وأخذوا يرمونه بالحجارة وكسرت رباعيته , وسال الدم من وجهه , وبعد أن تفرق عنه أكثر أصحابه .
ثالثاً : تخويف الذين يقفون خلف كفار قريش , ويمدونهم بالمال والسلاح ، قال تعالى [فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ] ( ).
الرابع : يدل ظاهر الجمع بين الآيتين : بلحاظ العلقة الزمانية بين صدق الوعد وإلقاء الرعب على وجوه :
أولاً : تحقق الوعد حال ومنجز , وإلقاء الرعب على نحو الإستقبال .
ثانياً : الإتحاد الزماني بين إلقاء الرعب في قلوب الكفار ، وصدق الوعد من عند الله للمسلمين .
ثالثاً : تقدم إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا على إنجاز الوعد .
وتتداخل هذه الوجوه , وهو الذي يدل عليه نظم الآيات إذ ورد موضوع النصر بصيغة الماضي [صَدَقَكُمْ] .
وجاء إلقاء الرعب بصيغة المضارع ، وتحقق النصر للمسلمين في معركة بدر ، ولا تتعارض هذه الوجوه أعلاه , لتعدد وكثرة مصاديق وأفراد كل منها ,وذات الوعد إلقاء للرعب في قلوب الذين كفروا .
ونزلت آية البحث أوان معركة أحد ، وتجلى القول بالتداخل بين الأمرين بلحاظ تعدد أفراد الرعب التي يلقيها الله في قلوب الذين كفروا ، مع إستدامة مصاديق كل منها , إذ جاءت كل من آية البحث والآية السابقة لمواساة المسلمين مما أصابهم يوم أحد .
الخامس : بيان مصداق لقانون نفاذ المشيئة الإلهية ، وتجلي التباين بين حب الله للمؤمنين ، وبغضه للكافرين .
السادس : من إعجاز القرآن أن موضوع الآية لا يختص بزمانها , وحال موضوع الفعل ، بل يتجدد في مضامينها ، إذ تبعث كل من آية البحث والسياق المسلمين على بذل الوسع في الدعوة إلى الله , وإقامة الفرائض .
السابع : ذات إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من جهات :
الأولى : البشارة من عند الله للمؤمنين ببعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ).
الثانية : صيرورة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا نوع طريق للأمن والسلامة للمؤمنين ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) لبيان قانون وهو ترشح منافع هذه العزة بإلقاء الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا .
الثالثة : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين ، وتعدد مصاديق الوعد الإلهي لهم ، وتعلقه بأسباب النصر التي تخصهم ، وما يضعف عدوهم ويبث الرعب والفزع في صفوفهم .
الثامن : يفيد الجمع بين الآيتين البشارة العظمى للمسلمين بعدم رجوع الذين كفروا للهجوم على المدينة وقتالهم .
لقد إجتهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة ويوم بدر بالدعاء والمسألة لله عز وجل .
وعن الإمام علي عليه السلام (قال: لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال، ثم جئت مسرعا لانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما فعل، قال: فجئت فإذا هو ساجد يقول ” يا حي يا قيوم يا حي يا قيوم ” لا يزيد عليها.
فرجعت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضا، فذهبت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضا، حتى فتح الله على يده) ( ).
وقد رواه النسائي في اليوم والليلة، عن بندار، عن عبيد الله بن عبد المجيد أبى علي الحنفي.
وقال الاعمش: عن أبى إسحاق، عن أبى عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: ما سمعت مناشدا ينشد أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر، جعل يقول: ” اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ” ثم التفت وكأن شق وجهه القمر , وقال: كأني أنظر إلى مصارع القوم عشية) ( ).
فقد سأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الله عز وجل في الدعاء عهده ووعده بالنصر والغلبة ، ولا يختص هذا الدعاء بمعركة بدر إذ أنه متجدد في كل زمان .
ويبين الخبر أعلاه معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآية في العالمين لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، فقد كان النبي والإمام والقائد في المعركة منقطعاً إلى السجود والدعاء ساعة المعركة مع حاجة أهل البيت والصحابة إلى توجيهه لهم في المعركة , وفيه مسائل :
الأولى : بيان صدق النبوة برجاء النصر من عند الله سبحانه .
الثانية : تذكير المسلمين في كل زمان بقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) , فهو نعمة ورحمة.
الثالثة : ندب المسلمين والمسلمات للجوء إلى الدعاء ساعة الشدة والضيق والضراء .
الرابعة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا بأن المؤمنين ينتصرون بالدعاء , وتخلف مكر وأسلحة وأموال المشركين عن تحقيق النصر, فهي لا تجلب لهم إلا الفزع .
وقد تولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعداد الجيش وتهيئة مواضعهم ، وقام بتعيين الذين يتقدمون للمبارزة ، وندبهم بالأسماء.
وبرز عتبة بن ربيعة من جيش المشركين يوم بدر ، وطلب المبارزة للدلالة على الإيذان بالقتال وغلق باب المهادنة والصلح .
قال ابن إسحاق ( ثُمّ خَرَجَ بَعْدَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ، حَتّى إذَا فَصَلَ مِنْ الصّفّ دَعَا إلَى الْمُبَارَزَةِ فَخَرَجَ إلَيْهِ فِتْيَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ثَلَاثَةٌ وَهُمْ عَوْفٌ وَمُعَوّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ – وَأُمّهُمَا عَفْرَاءُ – وَرَجُلٌ آخَرُ يُقَالُ هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فَقَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟ فَقَالُوا : رَهْطٌ مِنْ الْأَنْصَارِ .
قَالُوا : مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ ثُمّ نَادَى مُنَادِيهِمْ يَا مُحَمّدُ أَخْرِجْ إلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ وَقُمْ يَا عَلِيّ فَلَمّا قَامُوا دَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالَ عُبَيْدَةُ عُبَيْدَةُ وَقَالَ حَمْزَةُ حَمْزَةُ وَقَالَ عَلِيّ : عَلِيّ .
قَالُوا : نَعَمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ .
فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنّ الْقَوْمِ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَبَارَزَ عَلِيّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ . فَأَمّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ ؟ وَأَمّا عَلِيّ فَلَمْ يُمْهِلْ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ , وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ وَكَرّ حَمْزَةُ وَعَلِيّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ فَذَفّفَا( ) عَلَيْهِ وَاحْتَمَلَا صَاحِبَهُمَا فَحَازَاهُ إلَى أَصْحَابِهِ) ( ).
وعبيدة بن الحارث ابن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي، وأمه سخيلة بنت خزاعي بن الحويرث بن حبيب بن مالك بن الحارث بن حطيط بن جشم بن قسي، وهو ثقيف، وكان لعبيدة من الولد معاوية وعون ومنقذ والحارث ومحمد وإبراهيم وريطة وخديجة وسخيلة وصفية لأمهات أولاد شتى، وكان عبيدة أسن من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعشر سنين، وكان يكنى أبا الحارث، أيضا وكان مربوعا أسمر حسن الوجه) ( ).
وتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرملة عبيدة وهي زينب بنت خزيمة في السنة الثالثة للهجرة وهي رابعة أمهات المؤمنين ولم تعمر مع النبي إلا بضعة شهور ، لذا قبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوجها شفقة عليها ، وكانت تسمى أم المساكين ، آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين عبيدة وبين بلاد بن رباح الحبشي وقيل (قد آخى بينه وبين عبيدة بن الحارث فقتلا يوم بدر جميعاً) ( ).
وفي هذه المبارزة ونتيجتها حجة على الذين كفروا في النشأتين من جهات :
الأولى : إصرار كفار قريش على الجحود بالنبوة .
الثانية : خروج قريش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، والأصل أن يمتنعوا عن القتال عندما أرسل إليهم أبو سفيان بأن القافلة والتجارة قد إجتازت إلى مكة بأمان ، ليكون من أسرار صيغة المضارع في قوله [سنلقي ] أمور :
الأول : تأكيد خيبة وخسارة كفار قريش .
الثاني : صدق تخويف ووعيد الكفار .
الثالث : المندوحة والسعة للكفار ، ليكفوا عن القتال ،ويصرفوا همهم عن التعدي والهجوم على المسلمين وهذه السعة من مصاديق العموم في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
لتشمل الرحمة الكفار بإنذارهم ودعوتهم للتدبر وإدراك لزوم الإنزجار عن محاربة النبوة والتنزيل .
الرابع : حرمان كفار قريش من الغبطة , والسعادة بالتجارة والمكاسب, لأن الرعب الذي يملأ قلوبهم ينغص حياتهم , ويبعث الكدورة في نفوسهم .
الثالثة : إصرار كفار قريش على القتال .
الرابعة :إستخفاف كفار قريش بجيش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة العدد فهم نحو ثلث عدد جيش الكفار ، ومن جهة العدة فليس عندهم سلاح كاف ولا مؤونة ، وفي الوقت الذي كان عند الكفار مائة من الخيل ، وهي غير مجهدة لأنهم لا يستعملونها في الركوب ، فليس مع المسلمين إلا فرسان .
فان قلت تفضل الله عز وجل وأمر المسلمين بتهيئة الخيل لقتال الكفار كما في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ) .
والجواب كان المسلمون يوم بدر في حال فقر وقلة مؤن فلذا تفضل بنصرهم بالرعب والفزع في قلوب الأعداء ، ليكون تقدير آية بدر : ولقد نصركم الله ببدر بالرعب وأنتم أذلة ) .
وللبشارة بأن خيل وأموال ومؤن المسلمين ستزداد .
ويحتمل وجوهاً :
الأول : إجتماع صفة الذل عند المسلمين وحال الرعب عند الذين كفروا , لترتفع حال الذل بمنطوق الآية أعلاه , ويبقى الرعب متغشياً للذين كفروا.
الثاني : بقاء المسلمين في حال ذل في أول اللقاء , وتأخر إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، إذ تدل الآية أعلاه على دخول المسلمين معركة بدر وهم في حال ضعف وفقر ،وهو المقصود من معنى الذل في الآية ، بينما ذكرت الآية السابقة نزول الرعب ونخره لقلوب الذين كفروا على نحو الإستقبال [ سنلقي ] .
الثالث : مجئ الرعب للذين كفروا قبل أن تزول حال الذل من عند المسلمين .
الرابع : إرتفاع حال الذل عن المسلمين أمر تدريجي ، وكذا بخصوص نزول الرعب على الذين كفروا مما يعني الاتحاد الزماني في الموضوع .
والمختار هو الثالث , ويكون الرابع في طوله ، إذ أخبرت آية (ببدر) على تحقق تمام النصر يوم بدر , والمسلمون في حال ذل وفقر وفاقة , فتغير الحال من رأس وهو من مصاديق تسمية القرآن لمعركة ويوم بدر بأنه [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) وهو يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة .
ولقد كسب المسلمون الغنائم يوم بدر , وأسروا سبعين من الكفار ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : إن الغنائم والأسرى الذين دخلوا المدينة من النصر الذي تذكره الآية أعلاه .
الثاني : إنه من رشحات ونتائج النصر .
الثالث : وقوع سبعين من الكفار أسرى من النصر ، أما الغنائم فهي من ثمرات النصر ، وقد يغنم طرف في القتال من غير ان يحقق النصر والغلبة .
الرابع : الغنائم التي حصل عليها المسلمون يوم بدر من النصر , أما وقوع سبعين أسيراً من الكفار في أيديهم فهو من نتائج النصر والغلبة .
والصحيح هو الأول ، وتكون الوجوه الثلاثة أعلاه في طوله , ولا مانع من صدق إنطباق صيغة النصر على الغنائم وجلب الأسرى ، وصدق جعلهما مجتمعين ومتفرقين من نتائج وثمرات النصر .
ومع ضعف وذلة المؤمنين كما في يوم بدر، فهل تعمل آية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ]( )، الجواب نعم , وفيه مسائل :
الأولى : بعث المسلمين للإجتهاد في تهيئة مقدمات القتال.
الثانية : بيان ضرورة عدم الإستهانة أو الإستخفاف بالعدو.
الثالثة : ترغيب المسلمين والمسلمات بالإنفاق في سبيل الله .
وعن أبي عبيدة ( قال اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول من انفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبع مائة ومن انفق نفقة على اهله أو ماز اذى عن طريق فالحسنة عشر امثالها , والصوم جنة ما لم يخرقها ومن ابتلاه الله ببلاء في جسده فله به حطة خطيئة ) ( ).
الرابعة : تأكيد موضوعية السلاح والمؤون والخيل والمركبات في القتال.
الخامسة : لقد نصر الله عز وجل المسلمين يوم بدر ، وجاء قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُم] ليكون نصراً إضافياً متجدداً للمسلمين، ووسيلة ومقدمة للنصر.
السادسة : تهيئة أذهان المسلمين والمسلمات إلى وقوع معارك أخرى مع المشركين .
السابعة : طرد أسباب الملل والضجر عن نفوس المسلمين .
الثامنة : إغاظة المنافقين وبعث اليأس في نفوسهم , وتجديد الدعوة لهم بالتوبة والإنابة وفي التنزيل [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
لقد نزلت آية البحث في معركة أحد ، ليكون من مصاديق تحقق الوعد الإلهي الذي تذكره وقوع الأسرى من الكفار بأيدي المسلمين ، ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : ولقد صدقكم الله وعده بوقوع سبعين من المشركين أسرى بأيديكم يوم بدر .
الثاني : ولقد صدقكم الله وعده بجلب الغنائم من الإبل والخيل والسيوف والمؤون يوم بدر .
الثالث : ولقد صدقكم الله وعده بالفدية التي دفعها المشركون لفك أسراهم .
وفي طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر أرسل إثنين من أصحابه يتجسسان الأخبار، ويسألان عن أبي سفيان وعيره، فأخبراه بخبر العير فاستنفر الناس إليها( ).
وقال موسى بن عقبة : بعثهما قبل أن يخرج من المدينة، قال ابن إسحاق: ثم إرتحل صلى الله عليه وآله وسلم .
(فلما استقبل الصفراء، وهى قرية بين جبلين، سأل عن جبليها ما اسماهما، فقالوا : يقال لاحدهما مسلح وللآخر مخرئ، وسأل عن أهلهما فقيل: بنو النار، وبنو حراق، بطنان من غفار.
فكرههما رسول الله صلى عليه وآله وسلم والمرور بينهما وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما، فتركهما والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران، فجزع فيه( ) ثم نزل.
وبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر قدوم قريش ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الصحابة فتكلموا وأحسنوا.
وقام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله إمض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا ودعا له.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” أشيروا على أيها الناس” وإنما يريد الانصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله
إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخوف ألا تكون الانصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.
قال: فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد ونشطه، ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم( ).
ليكون قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إعلان وحجة بلحاظ آية البحث والآية السابقة من وجوه :
الأول : إصابة كفار قريش بالرعب , وخروجهم للذب عن قافلة أبي سفيان مع أنها مرت بسلام، وأرسل إليهم أبو سفيان أن إرجعوا إلى مكة.
الثاني : قذف الله الرعب في قلوب الذين كفروا بخصوص طرق سير قوافلهم، وأنها صارت عرضة للنهب والسلب .
ومن الرعب في المقام ظن كفار قريش بأنه إذا سلمت عير أبي سفيان هذه، فقد لا تسلم غيرها ليكون إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا نوع إستدراج لهم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الثالث : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن هزيمة قريش باعث للحماسة في نفوس المؤمنين، وهو سبب لغزو الرعب قلوب الذين كفروا وظنوا أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أكلة رأس وقد أخرجوا معهم الدفوف والقيان( )، معهم من مكة وكأنهم في نزهة .
وحينما بعثت قريش عيونها حول جيش المسلمين يوم بدر فوجئوا بأمر غير معهود، فليس من قوة وخيل وكثرة سواد، ولكن هي الإرادة والعزيمة وصدق الإيمان يفوح عطره من معسكر المسلمين , وهو سبب لملأ قلوب الكفار بالرعب ولزجرهم عن القتال.
قال الواقدي : فلما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي ، وكان صاحب قداح فقالوا : احزر لنا محمداً وأصحابه. فاستجال بفرسه حول المعسكر فصوب في الوادي وصعد، يقول: عسى أن يكون لهم مددٌ أو كمين.
ثم رجع فقال: لا مدد ولا كمين، القوم ثلثمائة إن زادوا قليلاً، ومعهم سبعون بعيراً، ومعهم فرسان، ثم قال: يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قومٌ ليست لهم منعةٌ ولا ملجأ إلا سيوفهم! ألا ترونهم خرساً لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ، الأفاعي!
والله، ما أرى أن يقتل منهم رجلٌ حتى يقتل منا رجلاً، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فما خيرٌ في العيش بعد ذلك! فارتأوا رأيكم!
ولما قال لهم عمير بن وهب هذه المقالة، أرسلوا أبا أسامة الجشمي وكان فارساً فأطاف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، ثم رجع إليهم فقالوا له : ما رأيت؟ .
قال: والله، ما رأيت جلداً، ولا عدداً، ولا حلقة، ولا كراعاً. ولكني والله رأيت قوماً لا يريدون أن يئوبوا إلى أهليهم، قوماً مستميتين، ليست لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، زرق العيون كأنهم الحصى تحت الحجف، ثم قال: أخشى أن يكون لهم كمين أو مدد .
فصوب في الوادي ثم صعد، ثم رجع إليهم، ثم قال: لا كمين ولا مدد، فروا رأيكم( ).
لقد كثر عدد المهاجرين في المدينة ،ولم تعد تكفي الموارد فيها لإطعام أهلها ، وكان المهاجرون قد تركوا أموالهم في مكة واستحوذ عليها كبار الكفار بالقوة، فأراد المهاجرون إسترداد أموالهم.
وبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أبا سفيان قدم من الشام ومعه عير وتجارة عظيمة من أموال قريش، ومعه ثلاثون أو أربعون رجلاً منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص، ومجموع العير ألف بعير، ولم يكن المسلمون يقصدون القافلة لولا إستحواذ قريش على أموالهم، وإلا فقد كانت تجارات في المدينة، وكانت فيها أسواق خاصة لليهود، لم يتعد عليها المسلمون.
قال ابن إسحاق : محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله ابن ابى بكر ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن ابن عباس كل قد حدثني بعض الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر .
قالوا لما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم , وقال هذه عير قريش فيها اموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم , وذلك انهم لم يظنوا ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلقى حربا.
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقى من الركبان تخوفا من أمر الناس حتى أصاب خبراً من بعض الركبان ان محمدا قد استنفر اصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره ان يأتي قريشا فيستنفرهم إلى اموالهم ويخبرهم ان محمداً قد عرض لها في اصحابه فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
وقال ابن سعد فخرج المشركون من اهل مكة سراعا ومعهم القيان والدفوف واقبل أبو سفيان بن حرب بالعير وقد خافوا خوفا شديدا حين دنوا من المدينة واستبطئوا ضمضما والنفير حتى وردوا بدرا وهو خائف فقال لمجدي بن عمرو هل احسست احدا من عيون محمد ( ).
ليكون من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، وجوه:
الأول : خوف قريش على أموالهم وتجارتهم.
الثاني : تجلي حال جديدة وهي أن رجالات قريش الذين يرافقون القوافل لا يستطيعون الدفاع عنها وحفظها.
الثالث : إصابة قريش بالرعب بسبب إستحواذهم على أموال المهاجرين.
الرابع : فزع وخوف قريش من فقدان ثقة تجار الشام واليمن بهم.
الخامس : خشية قريش من إستيلاء المسلمين على العير والإبل الكثيرة التي في قافلة أبي سفيان، إذ أن عددها ألف بعير، مما يدل على حصول النقص الكبير في تجارة[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ) اذا تم إستيلاء المسلمين عليها.
ولم يقصد المسلمون في خروجهم إلى بدر القتال، فكان أكثرهم يمشي على الأقدام، ويتناوبون الركوب على الدواب، وكان بعضهم يحمل العصي ليس معهم سلاح , لأنهم كانوا يطلبون قافلة أبي سفيان التي يحرسها ثلاثون إلى أربعون رجلاً .
مما يدل على سلامة قلوب المسلمين من الرعب، ولم يظنوا أن قريشاً تخرج عليهم فجأة لقتالهم.
فتفضل الله عز وجل بقوله تعالى في آية البحث [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] أي بالنصر والغلبة مع الضعف والقلة، فلم يدركوا القافلة ، ولكنهم نالوا خير الدنيا والآخرة بالنصر يوم بدر الذي أسماه الله عز وجل من بين أيام الدنيا كلها باسم يوم الفرقان , قال تعالى[وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب إذ تحسونهم بإذنه).
ويتعلق موضوع آية البحث بأحوال القلوب ، وسلطان الله المطلق عليها، وليس من سلطان وأثر لغير الله عليها ، وتتضمن الآية إلقاء الرعب والفزع في قلوب الكفار ليكون مدداً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من وجوه :
الأول : توالي نزول آيات القرآن مع إنشغال الكفار بأنفسهم ، ومن إعجاز القرآن الغيري أن كل آية منه تزيد في رعب الذين كفروا كماً وكيفاً ، وهو من أسرار وفلسفة نزولها نجوماً وبالتدريج ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( ) .
فتطل الآية القرآنية على أهل الأرض فيزداد المؤمنون إيماناً ، وتظهر الخيبة والحسرة على الكفار كمرآة للرعب الذي يملأ قلوبهم وحال خاصة مترشحة عن توالي نزول القرآن ، وكل آية منه معجزة .
الثاني : تعدد البشارة للمؤمنين والإنذار للذين كفروا ، ويأتي هذا التعدد في المنطوق والمفهوم ، وبالأمور العقلية والحسية ، فإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا أمر وجودي عقلي يتجلى على الجوارح ، ويرى المسلمون وغيرهم أثره على الكفار ، ويحتمل بالنسبة للكفار وجوهاً :
الأول : يعلم الكافر بدخول الرعب والفزع إلى قلبه على نحو القهر والإستيلاء ، قال تعالى [وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ] ( ) .
الثاني : يدرك الكفار مجتمعين مجئ الرعب لهم وغزوه قلوبهم , وعجزهم عن دفعه .
الثالث : يعلم الكفار بدخول الرعب إلى قلب الفرد الواحد منهم .
الرابع : كل كافر يعلم بأن الرعب دخل قلبه قهراً ، ونفذ إلى قلب غيره من أصحابه .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق المدد للمسلمين في جهادهم ودفعهم الكفار عن المدينة .
الثالث : المراد من الحس في الآية هو القتل وما هو أعم منه ، ليكون الرعب إنذاراً من للقتل ، وهو رحمة من عند الله ، ومن مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) من وجوه :
الأول : الجمع بين الآيتين رحمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتخفيف عنه بوهن وضعف الكفار ، ليكون من دلالات الآية أعلاه أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة به بالذات أيضاً مثلما هي رحمة بالناس جميعاً ، وصيرورة الرعب مقدمة لقتل الكفار حجة عليهم ، ومن معاني في قوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ) .
ومن مصاديق الإنذار بلحاظ آية البحث والآية السابقة مسائل :
الأولى : قذف الرعب والخوف في قلوب الذين كفروا .
الثانية : كما أن كل آية من القرآن إنذار للكفار ، فان الرعب الذي يقذفه الله في قلوب الذين كفروا إنذار آخر قام بذاته ليظهر أثره على نفس الكافر وحواسه وجوارحه ، قال تعالى [أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً] ( ).
الثالثة: الوعيد الصريح للكفار بدخولهم النار ، وورد في الآية السابقة [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ].
الرابعة : الإخبار عن قتل الكفار في آية البحث بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] ويقع القتل على أفراد منهم .
الثاني : إلقاء الرعب في قلوب الكفار رحمة بالمسلمين والمسلمات وتخفيف عنهم ،ولا يعلم منافع هذا الإلقاء إلا الله عز جل إذ بادر الكفار إلى محاولة الإجهاز على المهاجرين والأنصار في بداية الإسلام ، وهذه المبادرة من الفطنة والمكر الخبيث والإحاطة بالأمور الظاهرة على نحو السالبة الجزئية .
إذ أدرك رؤساء الشرك من قريش وغيرهم أن ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وشأنهم يأتي على سلطان المشركين ، ويهدم عروشهم ويسقط إماراتهم الإجتماعية والسياسية ، وهل لمضامين آيات القرآن موضوعية في إدراكهم هذا , وما إستقرأوه من العواقب .
الجواب نعم ، إذ تبين آيات القرآن عدم إجتماع الضدين , وهما الإيمان والكفر ، قال تعالى [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ] ( ) وهو شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فلم تتضمن آيات القرآن التقية والحيطة والخشية من الكفار ، وهو من الإعجاز في إلقاء الله الرعب في قلوبهم .
ومنعت آيات القرآن من مقاتلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ونحوهم لسور الموجبة الكلية الجامع للملل السماوية وهو التوحيد ، وهذا لا يتعارض مع الجدال والإحتجاج وإقامة البرهان لتأكيد التوحيد .
عن ابن عباس قال ( أن رهطاً من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان فيهم السيد والعاقب فقالوا له : ما شأنك تذكر صاحبنا ؟ قال : من هو ؟ قالوا : عيسى تزعم أنه عبد الله! قال : أجل إنه عبد الله . قالوا : فهل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به ؟ ثم خرجوا من عنده فجاءه جبريل فقال : قل لهم إذا أتوك { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } إلى آخر الآية) ( ).
من خصوصيات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلقاء الرعب في قلوب أعدائه ، وهو من الشواهد على تفضيله على الأنبياء السابقين ، لإرادة تثبيت نبواتهم والإيمان بهم إلى يوم القيامة بآية من عند الله من وجوه :
أولاً : فيوضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : مجئ آيات القرآن بالشهادة للأنبياء بالنبوة .
ثالثاً : سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير , وتسليم المسلمين بامتناعه عن الزيادة والنقصان ، قال تعالى [وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ] ( ).
رابعاً : توارث المسلمين التصديق بالنبوات , والشهادة للأنبياء بالبعثة من عند الله , وتلقي الوحي بواسطة الملائكة ، قال تعالى [ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ] ( ).
الثالث : يدل قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]على أن إلقاء الرعب في قلوب الكفار رحمة بهم ، وإزاحة لهم عن مواطن القتل والإستئصال وهذا الحس نفسه من أسباب إلقاء الرعب في قلوبهم من غير أن يلزم الدور بينهما , وفيه شاهد بأن إصابة الكفار بالفزع والخوف تأتي من وجوه :
أولاً : سلطان الله عز وجل على قلوب بني آدم (عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . قالوا : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا؟ قال : نعم , إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها) ( ).
ثانياً : نزول آيات القرآن، فكل آية من القرآن تبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا، وتجعلهم في حال إرباك.
ومن الإعجاز الغيري للقرآن أن آياته تتلى بالليل والنهار، يقرأها المسلمون في صلاتهم بقصد الوجوب العيني بلحاظ أن القراءة جزء واجب من الصلاة، ولكن الكافر يسمعها عرضاً فيمتلأ قلبه بالرعب، وتقدير آية البحث: إذ تحسونهم بتلاوة آيات القرآن) لإفادة المعنى الأعم للحس الوارد في آية البحث.
ثالثاً : كثرة الداخلين في الإسلام كل يوم، وإزدياد عدد المسلمين.
رابعاً : عصمة المسلمين من طاعة الذين كفروا.
خامساً : عجز الكفار عن حمل بعض المسلمين على الإرتداد، قال تعالىيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ.
فينفق الكفار الأموال، ويبذلون الوسع في الجدال ،وإثارة أسباب الشك والريب، ويتناجون بالباطل والتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، ولكن سعيهم يذهب أدراج الرياح.
وهل من صلة بين الخيبة والرعب عند الكفار ، الجواب نعم، فان كلاً منهما نوع طريق للآخر من غير أن يلزم الدور بينهما، وهو من مصاديق صدق الوعد من عند الله عز وجل، ومقدمات الحس في قوله تعالى[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين آية البحث والسياق : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون , سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب .
وفيه وجوه :
الأول : بيان قانون الإطلاق في نصرة الله للنبي محمد صلى الله عليه وأله وسلم والمؤمنين في كل الأحوال ، فينصرهم الله عند إتحادهم ووحدتهم وفي حال حصول الخلاف بينهم على فرض حصوله , ليكون هذا الإطلاق من أسباب ومصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، ومن نصرتهم في حال الخلاف عودتهم إلى الوحدة والألفة والإتحاد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] ( ) لبيان أن النهي عن النزاع بين المسلمين إبتداءً وإستدامة .
الثاني : توثيق حال الخلاف الذي حدث عند المسلمين بما يبعث الطمأنينة في نفوسهم ، ويبشرهم بالأمن والسلامة من أضرار هذا الخلاف ، فحتى إذا إختلف المسلمون وحصل النزاع والخصومة بينهم فان عدوهم من الكفار في حال من الوهن والضعف بسبب الخوف والفزع الذي يلقيه الله في قلوبهم .
الثالث : حث المسلمين على الإتحاد والتآزر , والصدود عن الكتاب والسنة ، فمن فضل الله عليهم وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنته بين ظهرانيهم مما ينفي وقوع الخلاف بينهم ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
الرابع : من دلالات الجمع بين الآيتين إبطال المغالطة والشك والجدال ، فقد يقول بعضهم إن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لا يقع إلا بإخلاص المسلمين في الجهاد ، وإجتنابهم الخلاف والتنازع فجاءت الآية بصيغة الإطلاق .
الخامس : من معاني إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا في المقام منع إزدياد الخلاف بين المسلمين وظهور الجبن والخور عليهم ، فاذا علم العدو بهذا الخلاف بين صفوف الطرف الآخر فانه يشتد ويسعى للهجوم ، فجاء إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا فضلاً من عند الله على المسلمين لسلامتهم في حال ضعفهم ووهنهم .
السادس : يفيد الجمع بين الآيتين سلامة المسلمين في قادم الأيام من الفشل والجبن والتنازع لأن الله عز وجل يخفف عنهم بأن يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا ، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ).
ويحتمل موضوع الآية أعلاه بلحاظ آية البحث وإبتدائها بتنجز الوعد الإلهي للمسلمين وجوهاً :
الأول : آية البحث من مصاديق نصرة الله للرسل والأنبياء من جهات :
الأولى : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً , وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين .
الثانية : تأتي النصرة للنبي , فتكون نصرة للأنبياء والرسل جميعاً ، فقد جحدت ثمود بنبوة صالح ، فجاء القرآن بتوبيخهم وذمهم , ونعتهم بأنهم كذبوا المرسلين ، قال تعالى [كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ] ( ).
الثالثة : في نصرة وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفظ لأرث الأنبياء والرسل جميعاً لأن الله حفظ بنبوته أموراً :
أولاً: الإخبار السماوي عن بعث الأنبياء .
ثانياً : الشهادة للأنبياء بالنبوة والجهاد في سبيل الله وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( لا تفضلوا بين أنبياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدرى أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي , ولا أقول إن أحدًا أفضل من يونس بن متى) ( ).
ثالثاً : تأكيد ملازمة المعجزة للنبوة .
رابعاً : توثيق أسماء الأنبياء في الكتاب الباقي إلى يوم القيامة ، وهو القرآن .
الثاني : في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا نصر للمسلمين ، وهو على جهات :
الأولى : إرادة نصر المهاجرين والأنصار ، قال تعالى [ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] ( ).
الثانية : خصوص الذين إشتركوا في معارك الإسلام الأولى ، وبين الجهة الأولى والثانية أعلاه عموم وخصوص مطلق .
الثالثة : إلقاء الرعب في قلوب الكفار نصر لأهل الكتاب ، إذ جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن بالشهادة السماوية على صدق نبوة موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام .
الرابعة : إنه مدد ونصر للمسلمين والمسلمات أيام البعثة النبوية ، إذ كانوا في خشية من سطوة وبطش الكفار ، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار .
الخامسة : إرادة نصر المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
وبإستثناء الجهة الثالثة أعلاه فان الجهات الأخرى كلها من مصاديق الآية وأسباب وترشح النفع العام على المسلمين من القاء الرعب في قلوب الذين كفروا وهو من مصاديق قوله تعالى [فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( )
ومن الإعجاز أن الآية أعلاه جاءت بسين الإستقبال , وكذا قوله تعالى [سنلقي ] في آية السياق لبيان أن من وجوه الكفاية التي يتفضل بها الله عز وجل إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا.
الثالث : في إلقاء الرعب في قلوب كفار قريش ونحوهم نصر للمؤمنين وأتباع الأنبياء من الأمم السابقة .
الرابع : إرادة نصر المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ، وفيه مسائل :
الأولى : تأكيد الإعجاز في صيغة العموم للنعم الإلهية ، وإن الله عز وجل يعطي بالأعم الشامل ، فاذا جاءت نعمة بصيغة الإيمان إنتفع منها المؤمنون جميعاً ، وإذا نزلت نعمة لبني آدم تغشتهم كلهم برهم وفاجرهم .
الثانية : بيان إنتفاع مؤمني الأمم السابقة من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يلقي الله عز وجل الرعب في قلوب مشركي قريش , فيكون نصراً لأصحاب إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام , وغيرهم من الأنبياء .
الثالثة : بيان تجدد حاجة الناس جميعاً لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : الجمع بين آية البحث [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] وبين الآية أعلاه من سورة غافر مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ودليل على أن المراد من العالمين في الآية أعلاه الناس جميعاً من الأمم المتعاقبة ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء جميعاً ، وبيان لعلة نصر المسلمين من جهات :
الأولى : حفظ النبوة والتنزيل .
الثانية : شهادة المسلمين والمسلمات على صدق المعجزات العقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : جهاد المسلمين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، قال تعالى [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] ( ) .
الرابعة : صبر المسلمين وتلقيهم الأذى في مرضاة الله .
الخامسة : قتال المسلمين من أجل جذب الناس إلى سبل الإيمان ، وإزاحة المانع الذي يحول دون هدايتهم كالطاغوت والعادة الطبيعية كما ورد في التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا] ( ).
لأن هذا النصر رأفة ورحمة من عند الله بالناس جميعاً بلحاظ أنه مقدمة لتثبيت أركان الإيمان في الأرض وإلى يوم القيامة ، وإذ أثنى الله عز وجل على إبراهيم وإسماعيل مجتمعين بسعيهم في بناء البيت الحرام ورفع قواعده كما في قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ] ( )فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رفع قواعد الإيمان ، وصارت نبوته علة لتعاهد الناس للبيت الحرام وإستدامة فريضة الحج إلى يوم القيامة .
وهو من أسرار إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من قريش وإزاحتهم عن سدانة البيت ورفض البيت لجوارهم له إلا بشرط الإيمان ، لذا فان قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة (يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب ” ثم تلا هذه الآية: ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى “( ) الآية كلها.
ثم قال: ” يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل فيكم ؟ ” قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: ” اذهبوا فأنتم الطلقاء) ( ).
ويكون من مصاديق [فأنتم الطلقاء ] والعفو عن قريش في الحديث أعلاه يوم فتح مكة وجوه :
الأول : إيذاء قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في بداية الدعوة الإسلامية .
الثاني : حصار قريش لبني هاشم في شعب أبي طالب ومقاطعتهم والتضييق عليهم في المأكل والمشرب( ).
الثالث : قيام قريش بتعذيب عدد من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وقتل بعضهم تحت التعذيب ، ومن عادة العرب التنزه عن التعرض للمرأة بسبب منطقها ، ولكن قريشاً بالغوا في تعذيب سمية أم عمار بن ياسر وهي من بين أول سبعة الذين أول من أسلموا ، وكانت هي وزوجها وإبنها عمار من بين الذين أخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم إنسان إلا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد) ( ) .
ولا دليل على إختصاص الإمتناع عن إعطاء قريش ما يريدون ببلال لأن سمية قتلت تحت التعذيب .
الرابع : قتال المشركين يوم بدر ، ومن الإعجاز والحجة عليهم أنهم هم الذين أصروا على القتال ، وبدأوه وطلبوا المبارزة ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ القتال ويأمر أمراء السرايا أن يقوموا بالنصح والموعظة والدعوة إلى الله قبل اللقاء , وكان النبي يوم بدر يتطلع برجاء لما يجري في معسكر الذين كفروا من مناجاة ورأي لإجتناب القتال .
(وأخرج البيهقي عن علي قال لما دنا القوم منا وصاففناهم إذا برجل منهم يسير في القوم على جمل أحمر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صاحب الجمل الأحمر ثم قال إن يك في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الاحمر فجاء حمزة فقال هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال ويأمر بالرجوع ويقول يا قوم أعصبوها اليوم برأسي وقالوا جبن عتبة وأبو جهل يأبى ذلك) ( ).
الخامس : تجهيز قريش الجيوش لمعركة أحد ، وتحملهم نفقات الجيش ، وعهدهم لعدد من الأشخاص بتولي الإنفاق على عيالهم إذا ما قتلوا في المعركة .
السادس : زحف المشركين إلى المدينة يوم أحد بثلاثة آلاف مقاتل .
السابع : قتال المشركين يوم أحد .
الثامن : قتل المشركين لعدد من أهل البيت والصحابة ومنهم حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله( ) ، فان قلت إن وحشياً هو الذي قتل حمزة ، ووحشي ليس من قريش ، والجواب لقد قتله بأمر من قريش ووعد بعتقه من الرق .
ومن حديث محمود بن مسلم الزهري وغيره بخصوص يوم أحد (قالوا: فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ، ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة.
وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحى قد منّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، وكان فقيرا ذا عيال وحاجة، وكان في الأسارى، فقال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة، إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك وأخرج معنا.
فقال: إن محمدا قد منّ علي فلا أريد أن أظاهر عليه.
قال: بلى، فأعنا بنفسك، فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن قتلت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر.
فخرج أبو عزة يسير في تهامة ، ويدعو بني كنانة ويقول:
أيا بنى عبد مناة الرزام * أنتم حماة وأبوكم حام
لا يعدونى نصركم بعد العام * لا تسلموني لا يحل إسلام
قال: وخرج نافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويقول:
يا مال مال الحسب المقدم * أنشد ذا القربى وذا التذمم
مَنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ وَمَنْ لَمْ يَرْحَمْ … الْحِلْفَ وَسْطَ الْبَلَدِ الْمُحَرّمْ
عِنْدَ حَطِيمِ الْكَعْبَةِ الْمُعَظّمْ( )
ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيا يقال له وحشي يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطئ بها، فقال له: أخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق.
فخرجت قريش بحدها وحديدها وجدها وأحابيشها، ومن تابعها من بنى كنانة وأهل تهامة ، وخرجوا معهم بالظعن , التماس الحفيظة وألا يفروا) ( ).
التاسع : تكذيب قريش لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع توالي معجزاته وهو بين ظهرانيهم .
العاشر : إقامة قريش على الكفر وعبادة الأوثان قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها ، فجاهد المسلمون لدحض الكفر، وهدم صروح الشرك بالحكمة والموعظة وإقامة الحجة والبرهان والدفاع بالسيف ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( ).
السابع : يفيد الجمع بين الآيتين منع طرو اليأس والقنوط على قلوب المسلمين ، لبيان التباين والتضاد في الأمن الحال في قلوب المسلمين والرعب الحال في قلوب الكفار، لأن الطمأنينة وما يترشح عنها مصاحبة للإيمان ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب من بعد ما أراكم ما تحبون ) .
وفيه وجوه :
الأول : بيان توالي النعم على المسلمين ، فمع النصر في المعركة يأتي الرعب والفزع ليملأ قلوب المشركين ، ليكون على وجوه :
أولاً : هذا الرعب تمام نصر المسلمين .
ثانياً : إنه نصر جديد للمسلمين .
ثالثاً : قذف الرعب في قلوب الذين كفروا مقدمة للنصر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ،وكلها من مصاديق فضل الله في بعث الخوف والفزع في قلوب الكافرين.
ولو دار الأمر في إلقاء الرعب في قلوب الكافرين بين وجوه :
أولاً : إنقطاع الرعب بزوال موضوعه، كما لو جاء الرعب بخصوص معركة أحد ، وعند إنقضاء المعركة إرتفع هذا الرعب , وغادر قلوب الذين كفروا ، وهو لا يمنع من وجود أفراد أخرى من الرعب في قلوبهم قبل مجئ هذا الرعب وبقاءها بعده .
ثانيا : إستدامة الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا في طريق العودة من المعركة.
ثالثاً : إستقرار الخوف والرعب (في قلوب الذين كفروا، وعدم مغادرته لهم، لقد بينت آيات القرآن عجز آلهة المشركين عن دفع الذباب أو إسترداد ما يأخذه منهم، لبعث النفرة في نفوس الناس من الشرك وعبادة الأوثان.
ومن لم يتعظ يأتيه الرعب فيملأ قلبه لزجر الناس عن الغفلة والتفريط ، لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال أنه قال(يا أيها الناس لا تغتروا بالله ، فإن الله لو كان مغفلاً شيئاً لأغفل البعوضة ، والذرة، والخردلة) ( ).
رابعاً : تجدد الرعب عند أمارات حدوث معركة مع المسلمين.
وباستثناء الوجه الأول أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية السابقة , وهو من الشواهد على صدق الله عز وجل وعده للمسلمين.
وهل قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، من الوعد الإلهي الذي تذكره آية البحث.
الجواب نعم، ليكون من الإعجاز في نظم هذه الآيات أن الآية السابقة بيان ومصداق لهذه الآية، وما فيها من الإخبار عن تنجز الوعد الإلهي .
وهذه الآية مصداق للآية السابقة وإخبارها عن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، وأن الله عز وجل هو الذي يتولى إلقاء هذا الرعب، فمع رحمته بالناس سبحانه فانه يبتلي الذين كفروا بما يمنع من تماديهم في الظلم ويشغلهم عن الإضرار بالمسلمين، وصد الناس عن الإسلام، وهو من نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, قال تعالى[وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا]( ).
الثاني : الترغيب بالإسلام والدعوة إلى الهدى لتوالي النعم على المسلمين بأن رزقهم الله ما يحبون يوم بدر من النصر والغنيمة والأموال التي تدفقت على المدينة فداء لأسرى قريش .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يأخذ فداء الأسرى ، ولم يأمر بإخراج الخمس منه ، بل تركه كله للذين أسروا المشركين ، نعم أوصاهم بعدم التفريط والتساهل في مقدار الفدية ليس من باب التشديد ولكن لأن قريشاً أصحاب تجارة وعندهم أموال ، ويتجلى بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ] ( ).
وأخبرت الآية السابقة عن نعمة عظمى على المسلمين ، وهي إلقاء الرعب في قلوب المشركين .
ومن الإعجاز فيه تهيئة أسباب إنفاق المسلمين الأموال التي جاءتهم في سبيل الله وإصلاح أحوالهم المعاشية ، إذ كانوا في ضائقة، خاصة بعد أن توافد المسلمون من القرى والأمصار إلى المدينة ، والمشقة في إطعامهم مع قلة فرص العمل والمكاسب .
ومن منافع إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا عدم حصول الضرورة في إنفاق الغنائم والفداء في تجهيز الجيش وشراء الأسلحة والخيل ، لأن العدو الكافر في حال وهن وضعف ، ويمنعه الرعب من التحالف مع القبائل والدول لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : مجي البشارة من عند الله للمؤمنين ،مرة عقلية وأخرى حسية، فإلقاء الرعب في قلوب الكفار أمر عقلي لا يدرك بالحواس ، نعم تنبأ عنه سيرة وفعل الكفار وأمارات الخوف التي تجري على ألسنتهم , ليكون من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دلالة الآثار على معجزته .
ومن الآيات الحسية نصر المسلمين المتكرر على الكفار ، وجلب الغنائم مع رجحان كفة المشركين في العدة والعدد ، ليكون من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن معجزاته على وجوه :
الأول : المعجزة العقلية ، وكل آية قرآنية معجزة قائمة بذاتها .
الثاني : المعجزة الحسية التي تدرك بالحواس , وما ذكره العلماء من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية إنما هو معشار معجزاته .
ففي كل معركة للإسلام ومقدماتها ونتائجها معجزات حسية لإتصافها بصفات المعجزة , وهي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم من المعارضة ، فحينما يتكرر نصر المسلمين على الكفار في معركة بدر وأحد والخندق مع أن عدد المسلمين نحو ثلث عدد الكفار في كل معركة منها فانه معجزة جلية ، قال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
وهذا الإذن الإلهي دليل على الإعجاز بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجئ الفرد الواحد من الآيات ليكون بذاته إلقاء للرعب في قلوب الكفار, وباعثاً للغبطة والسعادة في قلوب المؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] ( ).
فان قلت هناك تباين زماني بتقدم أوان ما يحب المسلمون وإرجاء إلقاء الرعب في قلوب الكافرين ، فهل يدل على الإختلاف الموضوعي بينهما من جهة العلة والسبب.
الجواب نعم، وهو ظاهر الآية الكريمة إلا أن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره .
ورؤية المسلمين لما يحبون إلقاء للرعب في قلوب الذين كفروا ، قال تعالى [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ) وفيه دلالة على أن الله عز وجل يلقي الرعب في قلوب الكافرين, ويعلم به من جهات :
الأولى : مقدار الرعب في قلب كل كافر .
الثانية : أسباب الرعب .
الثالثة : نتائج وآثار الرعب الذي يملأ قلب الكافر .
الرابعة : عدم نجاة المنافقين من إلقاء الرعب في قلوبهم لأنهم يخفون الكفر والجحود .
الخامسة : إقامة الحجة على الذين كفروا ، لأن إلقاء الرعب في قلوبهم بسبب جحودهم وإستكبارهم وصدودهم عن الآيات، والمعجزات الكونية والنبوية والتنزيلية ، فتفضل الله عز وجل بآية في قلوبهم كالجاثوم لدفع شرهم ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآية السابقة وهذه الآية : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ).
وفيه وجوه :
الأول : يمنع الرعب من الرغائب والأماني ، ويجعل الإنسان مشغولاً بدفع الأذى عن نفسه ، والخوف من المستقبل وما يخفيه له من الضرر والخسارة بينما تتعدد رغائب المسلمين لتشمل خير الدنيا والآخرة بفضل من عند الله ، ولو بقي الإنسان في مواضع الجحود ولم يعتنق الإسلام ديناً ولباساً وحلية ، يتعذر عليه إرادة الدنيا أو الآخرة أو هما معاً ، فمن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) السعة والمندوحة في غايات المسلمين ، والنعم التي يرجون نيلها والمراتب العالية التي يسعون إليها .
ليكون التخلف عن الإيمان سبباً لأمور :
الأول : إمتلاء القلب بالرعب .
الثاني : مصاحبة الحسرة للكافر لرؤيته المسلمين، وهم يريدون الدنيا ويسعون إلى الآخرة .
الثالث : ترشح الخوف من المجهول عن الرعب الذي يملأ قلوب الكافرين, وتجليه على الرأي والقول والفعل ، فحتى لو نوى الكفار الإقدام على فعل فيه تحد وجرأة فان أصواتاً منهم تعلو بأسباب الشك والريب والتردد والزجر ، ليكون قعود الكافرين عن القتال عن رأي ومشورة منهم صادرة عن الرعب الذي يملأ قلوبهم .
فان قلت قد زحف المشركون بالجيوش العظيمة من مكة وما حولها, يوم بدر وأحد والخندق.
والجواب من وجوه :
أولاً : أخبرت الآية السابقة عن مجئ رعب القلوب بصيغة الإستقبال (سنلقي).
ثانياً : الإستقبال الوارد في الآية أعلاه أعم من إرادة أفراد الزمان التالية، فقد يشمل الفعل اللاحق والأثر المترتب على عمل سواء على نحو الجملة الشرطية أو مطلقاً ، وتقدير الشرطية في خطاب للمسلمين :
الأول : إن هجم عليكم الكفار سنلقي في قلوبهم الرعب .
الثاني : وإن أرادوا بكم سوءً سنلقي في قلوبهم الرعب .
الثالث : وإذا قاتلتم الكفار سنلقي الرعب في قلوبهم .
الرابع : إذا إجتهدتم في طاعة الله سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب.
الخامس : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليدركوا عجزهم عن جلب طاعتكم .
ثالثاً : المدار على عواقب الأمور ، فيجتمع الكفار على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من المهاجرين والأنصار ، ويتناجى رؤساء الكفر بالعدوان والإستئصال ، ويستجيرون بالأوثان والأصنام ، فيخرجون من مكة متوجهين إلى المدينة ، وفي الطريق إلى المدينة , وفي البيداء ينزل عليهم الرعب فيخترق شغاف قلوبهم ، كما أنزل الله عز وجل في تلك البقاع العذاب على إبرهة وجيشه ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ] ( ) والسجيل أي الشديد الصلب .
قال ابن هشام ( وزعم بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة، وأنها سنج وجل فالسنج: الحجر، والجل: الطين.
يقول الحجارة من هذين الجنسين الحجر والطين)( ).
رابعاً : إذا كان الرعب يأتي الكفار على نحو تدريجي في حال السلم وعند إنصرافهم لأعمالهم اليومية ، فانه يأتي دفعة عند عزمهم على القتال والمواجهة ، وعند تحقق القتال بالفعل ، لذا تراهم يفرون من غير علة وسبب ظاهر .
لبيان أن إلقاء الرعب في قلوب المشركين غاية بذاته، وهو بلغة ووسيلة وسلاح لرمي الذين كفروا بالبلاء، فتأكيد آية السياق لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لا يعني الحصر به، وتحتمل الصلة بين ما يغزو قلوب المشركين من الرعب وبين إصابتها بالمرض الذين ورد في قوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا]( )، وجوهاً:
الأول : التباين بين الرعب وبين المرض المذكور في الآية أعلاه.
الثاني : مجئ الرعب مقدمة لخصول المرض، إذ أنه داء مستقر يحصل بالأسباب.
الثالث : الرعب من مصاديق الزيادة في قوله أعلاه (فزادهم مرضاً).
الرابع : من مصاديق المرض الذي في قلوب الذين كفروا والمنافقين الرعب، فيأتيهم رعب إضافي بقوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
الخامس : المراد من الذين (في قلوبهم مرض) هم المنافقون.
وباستثناء الوجه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الآية الكريمة.
ولا يختص مرض القلوب بالمنافقين فيراد منه وجوه:
أولاً : الذين كفروا.
ثانياً : المنافقون.
ثالثاً : فئة ثالثة.
يظهر عندهم الشك والريب ساعة الشدة والحرج، قال تعالى[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ]( )، إذ تفيد الواو أعلاه في(والذين) التعدد والغيرية بين المعطوف والمعطوف عليه.
الثاني : تنبيه المسلمين إلى لزوم الإمتثال الأمثل للأوامر والنواهي الإلهية شكراً لله على نعمة إلقاء الرعب في قلوب الكفار بأن يجتهد المسلمون في أداء الفرائض وتلاوة آيات القرآن ، والأخذ عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأداء الصلاة باتقان ، ويكون تقدير حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) على وجوه :
أولاً : صلوا كما رأيتموني أصلي فقد ألقى الله في قلوب الذين كفروا الرعب بلحاظ إزالة المانع عن أداء المؤمنين العبادات .
ثانياً : صلوا كما رأيتموني أصلي لقد صدقكم الله وعده بتحقيق النصر والأمن والسلامة من تكرار هجوم الكفار .
ثالثاً : صلوا كما رأيتموني أصلي فان صلاتكم سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
رابعاً : صلوا كما رأيتموني أصلي ففي أدائكم للصلاة دعوة للذين كفروا والناس جميعاً لدخول الإسلام .
خامساً : صلوا كما رأيتموني أصلي فان الصلاة لا تترك بحال, وقد كفاكم الله عز وجل شر الكافرين ، وفي التنزيل [وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا] ( ).
فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان كفار قريش لم يهجموا على المدينة المنورة في ذات الشهر أو السنة التي هاجر فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والأصل هو إتباع أثره إذ أنهم أرادوا قتله فأخبره جبرئيل عليه السلام فخرج في ذات الليلة ، وعندما علموا في الصباح بمغادرته مكة لحقوه وإتبعوا أثره ، لولا أن جعل الله عز وجل بيت العنكبوت حجاباً على الغار الذي دخله، ولكنهم لم يجهزوا الجيوش لقتاله إلا في السنة الثامنة من الهجرة ليزداد المسلمون في هذه الفترة تفقهاً في الدين ويروا كيف تنزل آيات القرآن ، وما يعتري النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وطأة الوحي فيتصبب عرقاً في الصيف وشدة الحر .
فزحفت قريش بخيلها وخيلائها في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة , فكانت معركة بدر فيصلاً وفرقاناً بين الحق والباطل ،قال تعالى[وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) ليكون الصيام في شهر رمضان من كل سنة فرقاناً بين الإيمان والكفر .
وهل يكتب للمسلم والمسلمة بصيامهما لشهر رمضان أجر الصحابة الذين قاتلوا في معركة بدر لوحدة الزمان في العمل الجهادي وهو شهر رمضان .
الجواب لا دليل عليه ، وقد جمع أهل بدر بين أمور :
أولاً : المبادرة إلى دخول الإسلام في بدايات البعثة النبوية، فلم يتلقوا الإسلام إرثاً وتركة عن آبائهم، قال تعالى[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ]( ).
ثانياً : التصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : دعوة الناس إلى الإسلام .
رابعاً : التحلي بالصبر وتجلي الأذى في جنب الله ولحوق الخسارة بهم في الأموال وتعطيل التجارات والمكاسب ، قال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ] ( ).
ثالثاً : الخروج إلى أول معركة في تأريخ الإسلام للقتال .
رابعاً : الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم وعدم التخلية بينه وبين كفار قريش .
خامساً : الألفة والأخوة الإيمانية بين المهاجرين والأنصار ونبذ الخصومات القبلية والثأر والأحقاد .
سادساً : الشهادة على نزول الملائكة للقتال يوم بدر نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
سابعاً : تلقي الأوامر من عند الله بالقبول والتصديق ومنها الصلاة والصيام الذي شرع في ذات السنة التي وقعت فيها معركة بدر .
وفي الحديث المشهور عند كل المسلمين والوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( كل عمل ابن آدم له الا الصيام فانه لي وانا أجزي به , الصوم جنة) ( ).
فيرزق الله عز وجل المسلمين والمسلمات الأجر العظيم على صيام كل يوم من أيام العمر، ويضاعف لهم الأجر في الدنيا مع تعاقب الأيام والليالي ، قال تعالى [وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا] ( ).
الثالث : يدل قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] على أن المسلمين لا يعملون إلا بإذن من عند الله ، وأن صدورهم وصرفهم يكون بالوحي والتنزيل ، وفي الآية ثناء على المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) , فمن وجوه التفضيل في المقام مسائل :
الأولى : لا يكون صرف المسلمين إلا من عند الله عز وجل .
الثانية : حينما صرف الله المسلمين عن الكفار فانه سبحانه ضمن للمسلمين السلامة والوقاية من كيدهم ومكرهم ، وإذا كان الرعب مستقراً في قلوب الذين كفروا ، فهل صرف المؤمنين عن ملاقاة الذين كفروا دائم أم مؤقت غير دائم .
الجواب هو الثاني , مع تغير الموضوع , إذ صار المسلمون في حال منعة وقوة لذا نزلت سورة التوبة [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ] ( ).
فمن كانت مدة عهده أربعة أشهر بقيت على حالها , وأمهل لتمام مدته ، ومن لم يكن له عهد أو أن عهده أقل من أربعة أشهر أو لم يمدد لعهده أجل فيكون مطلوباً أينما أدركه المسلمون إلا أن يدخل الإسلام .
ولقد عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلح الحديبية مع كفار قريش في السنة السادسة للهجرة ، وعندما نقضوه سار لهم فكان الفتح العظيم بإقامة حكم الله في مكة , وتنزيه البيت الحرام من أصابع وآثار الشرك .
الثالثة : سلامة نفوس المسلمين من الحسرة والندامة على ترك ميدان المعركة لأن الله عز وجل هو الذي جعلهم يغادرونه .
الرابعة : تنزه المسلمين من الخلاف والخصومة بخصوص الإقامة في المعركة والمرابطة أو تركها والإنصراف عن العدو ، لإدراكهم ان أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شعبة من الوحي .
الرابع : بيان رحمة الله بالناس جميعاً ، فان إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لا يعني إجهاز المسلمين عليهم وإبادتهم كما في فرعون وبطشه بقوم موسى عليه السلام من بني إسرائيل .
إذ يبين القرآن كيف أن الوزراء والوجهاء من قوم فرعون يحرضونه على موسى وبني إسرائيل ، لأنهم يدعون إلى نبذ عبادة الأوثان [وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ] ( ) .
ليكون من معاني [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] أن الكفار هم أيضاً عبيد الله وخلقه فظلموا أنفسهم بالكفر والجحود فقذف الله الرعب في قلوبهم ، فوهنت قواهم وصاروا بحال ضعف إلى جانب ضعف آخر طرأ عليهم من وجوه :
الأول : دخول الشباب والأبناء منهم الإسلام .
الثاني : النقص الفادح في ثروات وأموال قريش ، لكثرة تكاليف ومؤونة الحرب .
الثالث : تعطيل تجارات قريش وإنشغالهم بتجهيز الجيوش , ويحتمل هذا البلاء الذي أصاب قريش وجوهاً :
أولاً : إنه من مصاديق خطاب الله للمسلمين [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] .
ثانياً : هذا البلاء مقدمة لتحقيق مصداق الوعد الإلهي لما فيه من إصابة المشركين بالوهن والخوف والفزع .
ثالثاً : بيان الملازمة بين الكفر والإبتلاء بأسباب الضرر وتغير حال السراء إلى ضراء وشدة وعسر .
رابعاً : فقد قريش لعدد من رجالاتها وفرسانها في معارك القتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) ليكون هذا القطع من جهات :
الأولى : إنه آية من عند الله بهلاك بعض المشركين بداء عاجل أو موت الفجأة أو آفة من الأرض أو السماء ، وفي قوله تعالى [وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ) .
وورد عن ابن عباس لما قصّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شأن القرون الماضية قال النضر بن الحارث من بني عبد الدار ( لو شئت لقلت مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين أي : ما هذا إلا ما سطره الأولون في كتبهم -فقال له عثمان بن مظعون : اتق الله فإن محمدا يقول الحق، قال: فأنا أقول الحق .
قال عثمان: فإن محمدا يقول لا إله إلا الله .
قال وأنا أقول لا إله إلا الله، ولكن هذه بنات الله، يعني الأصنام .
ثم قال : اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق من عندك { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ } كما أمطرتها على قوم لوط( ) .
الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ثم صرفكم عنهم ، وفيه وجوه :
الأول : بيان كفاية الله للمسلمين من جهة التخفيف عنهم في مواجهة وملاقاة الكافرين ، ويدل قوله تعالى [صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] على دفع أذى الكفار عن المسلمين .
وتقدير الآية : صرفهم بالرعب ليصرفكم عنهم ) ليتوجه المسلمون إلى بناء صرح دولة الإسلام بعيداً عن كيد ومكر الذين كفروا ، إذ إبتلاهم الله بالرعب والفزع .
وفيه نكتة وهي أن الرعب يشغل صاحبه بنفسه، ويمنعه عن المكر، لأن المكر يستلزم الحيلة والتفكر بخبث، ومن الشواهد أن قريشاً معروفة بين العرب بالوقار والدهاء، وترجع لها القبائل لفك الخصومات، ودار الندوة شاهد عليه، ولكن الحكمة والفطنة غابت عنهم كأشخاص وجماعة وقبيلة في محاربتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من مصاديق إلقاء الرعب في قلوبهم.
الثاني : بيان قانون إستدامة إستقرار الرعب في قلوب الذين كفروا حتى بعد إنتهاء المعركة.
فيترك كل من المؤمنين والكفار ساحة المعركة، ويعودون إلى بلادهم، ولكن الرعب لا يفارق الكفار بل يبقى مصاحباً لهم.
الثالث : تفقه المسلمين في الدين بمعرفة عدم الملازمة بين الرعب والقتال، فقد لا يقاتل الكفار , ولكن الرعب يلازمهم ويملأ قلوبهم ، ليكون على وجوه:
أولاً : إنه مقدمة للإمتناع عن القتال.
ثانياً : الرعب سبب لتثبيط الذين كفروا.
ثالثاً : بيان قانون علم الله عز وجل بحال الذين كفروا، وعدم تركهم وشأنهم، قال تعالى[مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ]( ).
الرابع : كفاية الله للمسلمين في موضوع المرابطة في بدايات الإسلام، وعدم تركهم للمدينة وزراعاتهم ومكاسبهم والإنشغال بالمرابطة، فعندما جاء كفار قريش وغطفان في معركة أحد , ليس من رصد وعيون ومرابطين من المسلمين كي يخبروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بقدومهم، وهو من أسرار النبوة، وحضور علوم الوحي والإخبار الملكوتي، وأن من منافع الوحي التخفيف عن المسلمين في باب المرابطة مع بيان القرآن لأجرها وثوابها ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
فان قلت جاءت الأخبار بقدوم جيش قريش، والجواب ليس من تعارض بين نزول الوحي ومجئ الناس بخبر قدوم قريش، وفيه نوع تأكيد وحث للمسلمين للإستعداد للقاء وعدم التهاون والتكاسل في لقاء العدو، وفي التأريخ شواهد كثيرة باستخفاف الجيش أو أهل البلد بأخبار قدوم العدو، وعدم أخذ الحيطة إلى أن يبيتهم ليلاً، ويفتك بهم قتلاً وسبياً.
الخامس : دعوة المسلمين لعدم البطش بالكفار، وتستقرأ هذه الدعوة من قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] ، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما في الآية من إرشاد للمسلمين إلى التفقه في الدين والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والعناية بالمكاسب والزراعات، وتأمين معيشة العيال ، كيلا تكون هناك نفرة عندهم من خروج المؤمنين لساحات المعارك.
ومن مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) في المقام مسائل :
الأولى : يأتي الكفار للهجوم في كل مرة .
الثانية : يبدأ الكفار القتال فلا موضوعية للنفرة عند عوائل المؤمنين في المدينة من خروج الآباء والأبناء للقتال لأنه دفاع محض، بل قاتلت نسوة الأنصار في يوم أحد وأمضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا القتال.
الثالثة : يقاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ، وتلك حجة في صدق نبوته .
ومن الإعجاز أن أهل المدينة كلهم يعلمون بتفاني النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته في القتال، ومن الآيات في المقام أن نفراً من كبار كفار قريش وهم عتبة بن ربيعة وإبنه وأخوه حين تقدموا في أول مبارزة بين المسلمين والكفار خرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار ، فأبوا مبارزتهم وردوهم وسألوا الأكفاء من قريش ، فأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي وعمه حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث للقائهم ومبارزتهم.
والفتية الذين خرجوا من الأنصار هم :
الأول : عوف بن الحارث .
الثاني : معوذ بن الحارث وأمهما عفراء .
الثالث : عبد الله بن رواحة.
وقيل أن ثالثهم أخ لعوف ومعوذ , ومال إليه الواقدي في الخبر أدناه ( ).
لقد سأل المبارزون من كفار قريش الإكفاء من المهاجرين ، وبين المهاجرين وبين بني هاشم منهم عموم وخصوص مطلق , فلم يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخيار للمهاجرين أنفسهم ، ولم يسألهم من يرغب بالمبارزة ، ولم يندب من غير بني هاشم، وتلك آية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن أهل بيته لم يتبعوه طلباً للدنيا وزينتها ولا هم ممن يريد حطامها.
ولم يتردد الإمام علي وحمزة وعبيدة في الخروج للمبارزة ، وكأنهم على موعد معها ، وفيه حجة على كفار قريش , وسبب لإبقاء الرعب في قلوبهم لأن النبي قدّم إلى المعركة أحب أهل بيته إليه .
قال الواقدي باسناده : والمشركون ينظرون على صفوفهم وهم يرون أنهم ظاهرون، فدنا الناس بعضهم من بعض، فخرج عتبة وشيبة والوليد حتى فصلوا من الصف، ثم دعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم فتيانٌ ثلاثةٌ من الأنصار، وهم بنو عفراء: معاذ ومعوذ وعوف، بنو الحارث، ويقال ثالثهم عبد الله بن رواحة، والثبت عندنا أنهم بنو عفراء .
فاستحيي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من ذلك، وكره أن يكون أول قتال لقي المسلمون فيه المشركين في الأنصار، وأحب أن تكون الشوكة لبني عمه وقومه ( )، فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم، وقال لهم خيراً.
ثم نادى منادي المشركين: يا محمد، أخرج لنا الأكفاء من قومنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: يا بني هاشم، قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم، إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله. فقام حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد المناف، فمشوا إليهم .
فقال عتبة: تكلموا نعرفكم وكان عليهم البيض( )، فأنكروهم فإن كنتم أكفاء قاتلناكم. فقال حمزة: أنا حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله. قال عتبة: كفءٌ كريمٌ. ثم قال عتبة: وأنا أسد الحلفاء، ومن هذان معك؟ قال: علي ابن أبي طالب وعبيدة بن الحارث. قال: كفآن كريمان.
قال ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: لم أسمع لعتبة كلمة قط. أوهن من قوله أنا أسد الحلفاء، يعني بالحلفاء الأجمة. ثم قال عتبة لابنه: قم يا وليد. فقام الوليد، وقام إليه علي، وكان أصغر النفر، فقتله علي عليه السلام.
ثم قام عتبة، وقام إليه حمزة، فاختلفا ضربتين فقتله حمزة رضي الله عنه.
ثم قام شيبة ، وقام إليه عبيدة بن الحارث وهو يومئذٍ أسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضرب شيبة رجل عبيدة بذباب السيف، فأصاب عضلة ساقه فقطعها. وكر حمزة وعلي على شيبة فقتلاه، واحتملا عبيدة فحازاه إلى الصف، ومخ ساقه يسيل، فقال عبيدة: يا رسول الله، ألست شهيداً؟ قال: بلى. قال: أما والله، لو كان أبو طالب حياً لعلم أنا أحق بما قال منه حين يقول:
كذبتم وبيت الله نخلى محمداً … ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله … ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ونزلت هذه الآية[هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ]( ).
وحمزة أسن من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بأربع سنين. والعباس أسن من النبي صلى الله عليه وسلّم بثلاث سنين.
قالوا: وكان عتبة بن ربيعة حين دعا إلى البراز قام إليه ابنه أبو حذيفة يبارزه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : اجلس!
فلما قام إليه النفر أعان أبو حذيفة بن عتبة على أبيه بضربة) ( ).
وعن ابن إسحاق أن عتبة وإبنه الوليد وأخاه شيبة سألوه من أنتم .
قالوا : رهط من الأنصار( ).
أي أنهم لم يعرفوا أنفسهم بأنهم من الخزرج بل باسم الأنصار ، وهو من مصاديق التغير الموضوعي في مجتمع المدينة ونزع الخلاف والخصومة بين الأوس والخزرج، وصيرورة لفظ الأنصار إسما وسبباً لملأ قلوب الكفار بالرعب ، وقد قتل عوف في معركة بدر (قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن عوف بن الحارث، وهو ابن عفراء، قال : يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده ؟ قال: ” غمسه يده في العدو حاسرا “.
فنزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل) ( ) (وهو عوف بن الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري شهد بدرا مع أخويه معاذ ومعوذ . وأمهم عفراء بنت عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار وقتل عوف ومعوذ أخوه يوم بدر شهيدين
ويقال عوذ بن عفراء والأول أكثر وقيل : إن عوف بن عفراء ممن شهد العقبتين
وقيل : إنه أحد الستة ليلة العقبة الأولى) ( ).
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولقد صدقكم الله وعده ومأواهم النار ) وفيه وجوه :
الأول : تأكيد التضاد بين مقامات المؤمنين وما نالوه من أسباب الغبطة والسعادة في النشأتين وبين سوء عاقبة الذين كفروا , فصحيح أن الآخرة لم يأت زمانها بعد إلا أن أمارات السعادة للمؤمنين جلية في القرآن .
ومن الشواهد على إعجاز القرآن أن المؤمنين يرون قصور وأنهار الجنة وهم في الحياة الدنيا فيشتاقون إليها ، ويبذلون الوسع في طاعة الله وأداء الفرائض شوقاً إليها ، وهل هو من عبادة الله طمعاً .
الجواب لا ، إنما هو من الثناء العاجل على إيمانهم وأسباب الترغيب في الإيمان التي ليس لها حصر ، ومنها مجئ آية البحث بذم الذين كفروا وإخبارها عن الخاتمة السيئة والعذاب الأليم الذي ينتظرهم ، قال تعالى [لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
وهل يصح تقدير الآية : ولقد صدقكم الله وعده بأن مأوى الذين كفروا النار ) أي من مصاديق الوعد الإلهي في المقام أن النار مثوى الذين كفروا.
الجواب نعم ، فان قلت قد لا يحتمل نظم آية البحث هذا المعنى لأن المراد من صدق الوعد صيغة الزمن الماضي ، والقدر المتيقن من قوله تعالى [ومأواهم النار] هو عالم الجزاء الذي لم يحن أوانه إلا بعد إنقطاع الدنيا، قال تعالى [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( ).
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : السجل ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له ، فأبصر فيها خلق آدم وما فيه من الأمور فأسّر ذلك إلى هاروت وماروت ، فلما قال تعالى [إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها]( ) قال : ذلك استطالة على الملائكة) ( ).
وعن ابن عباس قال : السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذا ورد عن نافع عن ابن عمر ) ( ).
الثاني : بيان التباين بين وعد الله عز وجل للمؤمنين بالنصر في الدنيا، والإقامة في النعيم في الآخرة، والوعيد الذي خصت به آية السياق الذين كفروا وإخبارها عن لبثهم الدائم في النار، وفي التنزيل [قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ]( ).
الثالث : في الآية حذف وتقديره على وجوه :
أولاً : ولقد صدقكم الله وعده إذ ألقينا في قلوب الذين كفروا الرعب ومأواهم النار ) بلحاظ أن صيغة الإستقبال في إلقاء الرعب خاصة بالآية السابقة .
أما هذه الآية فتتضمن تحقق المصداق الواقعي لإلقاء الرعب ، إذ لا يستمر الإستقبال طويلاً فيرد في آية قرآنية ثم تأتي آية بعدها تبين تحقق مصداق هذا الوعد ، فقوله تعالى [سَنلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] عهد ووعد من عند الله عز وجل للمسلمين والمسلمات .
ثانياً : ولقد صدقكم الله وعده، بالنصر والفوز وصدق الذين كفروا وعيده باقامتهم في العذاب الأليم.
ثالثاً : ولقد صدقكم الله وعده بالإخبار بأن مأوى الذين كفروا النار ، إذ تتضمن آية البحث قانوناً يفيد إعلانه والإخبار عنه من عند الله إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
وهو من مصاديق قانون أن كل آية قرآنية تلقي الرعب في قلوب الذين كفروا بالمنطوق أو المفهوم ، وهل هذا الإلقاء وذات الرعب متحد أم متعدد الجواب هو الثاني ، ويتجلى في آية البحث على سبيل المثال من جهات :
الأولى : عطف آية البحث على آية إلقاء الرعب السابقة بحرف العطف (الواو) الذي إبتدأت به آية البحث ، لبيان عدم وجود فترة بين مضامين الآية السابقة وهذه الآية ، فلم تقل آية البحث ( ثم صدقكم الله وعده ).
الثانية : يمكن تأسيس قانون , وهو إذا دار الأمر بين إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مرة واحدة أو مرات متعددة , فالصحيح هو الثاني .
الثالثة : التأكيد بقوله تعالى [وَلَقَدْ ] وإفادته التحقيق , وذهب المفسرون إلى إعراب اللام في قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ] بأنها واقعة في جواب قسم مقدر ، وقد تقدم بيانه وأنه لا دليل عليه( ) .
وهل يمكن القول بالجمع بين الآيتين يوم القيامة ، فيطل المؤمنون من الجنة فيرون الذين كفروا يقيمون في النار ، فيتلون الآيتين عليهم أو يسمعون الملائكة وهم يتلونهما، الجواب نعم من وجوه :
أولاً : من إعجاز سياق الآيات , وتجدد ذخائره في الدنيا والآخرة , تعدد المعاني المترشحة عنه.
ثانياً : تلاوة آيات القرآن بالجمع بين آياته في الآخرة ليكون من اللامتناهي في ذاته ( ) وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي] ( ).
ثالثاً : تأكيد صدق وعد الله عز وجل للمسلمين بدخولهم الجنة .
رابعاً : الجمع بين آية البحث والآية السابقة مصداق من عالم الآخرة .
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآية السابقة وهذه الآية: لقد صدقكم الله وعده وبئس مثوى الظالمين، وفيها وجوه :
الأول : بيان سلامة المسلمين من عذاب النار، بلحاظ إجتماع الثناء عليهم في آية البحث، وإخبار الآية السابقة عن إقامة الظالمين في النار.
الثاني : بيان قانون وهو أن التخلف عن الإيمان ظلم للنفس يقود إلى اللبث في النار.
الثالث : ترغيب الناس بالإسلام، وتلقي أمور:
أولاً : الخطاب من عند الله عز وجل بصبغة التشريف والإكرام.
ثانياً : الوعد الكريم من عند الله عز وجل .
ثالثاً : تنجز الوعد الإلهي إكراماً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كما في قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، أي يتحقق الوعد الإلهي في كل الأحوال، ومع تخلف الأسباب والمقدمات، فلا يخضع الوعد لقانون العلة والمعلول، ولك أن تقول أن ذات الوعد علة وهي أقوى وأظهر العلل.
الحادية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله إذ تحسونهم باذنه) وفيه وجوه:
الأول : تأكيد حقيقة وهي أن الآية السابقة معطوفة على الآية التي قبلها، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب، بلحاظ أن النداء التشريفي أعلاه ورد قبل ثلاث آيات بقوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
لقد كان عدد المسلمين قليلاً في بدايات الدعوة الإسلامية ، وليس عندهم من السلاح والمؤون ما يعتد به لملاقاة الكفار، فقد يحرص المسلمون على إرجاء اللقاء والقتال ، ويكتفون بالدعوة إلى الله بالحكمة والإحتجاج والسلم .
وفي ذات معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة بها وإليها كفاية وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( )ولكن الذين كفروا أدركوا تنامي قوة الإسلام وإزدياد عدد المسلمين، ولحوق الضرر بشأن ومقامات قريش بين القبائل، وشيوع سخرية المسلمين من عبادة الأوثان والعزم على هدمها.
وخشيت قريش تعرض قوافلها للنهب والسلب من قبل المسلمين، ومن قبل القبائل العربية المنتشرة بين اليمن والشام وحول مكة لأنها كانت تكرم قريشاً لجوارها للبيت الحرام , فأشرقت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتؤكد أن الكفار أعداء البيت الحرام.
فبادرت قريش إلى تجهيز الجيوش العظيمة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فلم يكن بمقدور المسلمين إلا الدفاع لذا رضيت الأنصار بالقتال يوم بدر مع أن موضوع بيعة العقبة هو حماية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه في يثرب وهو اسم المدينة المنورة قبل الهجرة.
الثاني : بيان قانون وهو ملازمة الرعب للكافرين من جهات :
الأولى : إدراك الكفار القبح الذاتي للكفر.
الثانية : نفرة الناس بالفطرة من الكفر والكافرين وهل تحدث هذه النفرة فيما بين المشركين أنفسهم , الجواب نعم , وهو من مصاديق مصاحبة الرعب لهم في منتدياتهم .
الثالثة : إستحضار الإنسان للمعاد وعالم الآخرة، فما من إنسان إلا ويطرأ على باله أمر الآخرة، ويتدارسها مع غيره طرداً أو عكساً، وهو من أسرار نفخ الروح من عند الله في آدم، وحضور القرآن وتركة الأنبياء بين الناس وتلاوة المسلمين لآيات القرآن خمس مرات في اليوم وإجهارهم بها شطر من آيات القرآن.
الرابعة : عند مقدمات اللقاء في سوح المعارك مع المؤمنين ، ليكون هذا الرعب زاجراً عن القتال ، ولقد إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض ونادت الله عز وجل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فاحتج الله عز وجل بالقول [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ليكون من علمه تعالى بلحاظ الآية أعلاه وجوه :
أولاً : الرعب مانع من تمادي الكفار في سفك الدماء .
ثانياً : إشغال الكفار بأنفسهم .
ثالثاً : تذكير الكفار بعالم الآخرة والحساب قهراً وطوعاً بالرعب الذي يلقيه الله في قلوبهم ، وهو من الغايات الأخروية لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] وهل الموعظة التي تأتي في الآية القرآنية والسنة النبوية وعلى ألسنة المؤمنين من هذا الرعب , الجواب نعم من جهات :
الأولى : إنه من مقدمات الرعب الذي تذكره الآية السابقة .
الثانية : إنه مصاحب للرعب الذي يقذفه الله في قلوب الذين كفروا .
الثالثة : لقد شاء الله أن يترشح شطر من الرعب الذي ينفذ إلى قلوب الذين كفروا عن آيات القرآن والسنة ، وبخصوص يوم الخندق ورد عن البراء بن عازب قال (قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحسان : اهجهم أو هاجهم وجبريل معك) ( ).
الرابعة : هذه الموعظة من مصاديق آية البحث ، إذ أن أفراد الرعب التي يدل عليها قوله تعالى (سنلقي) من اللامتناهي بالذات والسنخية والأثر ، وهي متجددة في كل زمان , وحاضرة في كل موضع ومكان , وهو من مصاديق صيغة الإستقبال في الآية.
فان قلت إن السين حرف للمستقبل القريب , والجواب من جهات :
الأولى : صحيح أن السين للمستقبل القريب , ولكنه ليس قاعدة كلية ، فقد يراد منها عالم الآخرة , وتسمى السين حرف تنفيس لأنها تنفس في الزمان فتحصر موضوع الفعل المضارع , وتجعله للمستقبل بعد أن كان يحتمل الحال والمستقبل .
الثانية : قد تأتي السين لإفادة المستقبل البعيد بلحاظ القرينة كما في قوله تعالى [كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ] ( ) وفيه تخويف ووعيد للذين كفروا ، وإخبار عما يلاقونه يوم القيامة من العذاب الأليم .
الثالثة : إفادة السين إستدامة الفعل والأمر الذي تخبر عنه ليتصل الحاضر بالمستقبل القريب والبعيد ، وهو من مصاديق أن الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ، وأنها نوع طريق إلى الآخرة .
الثالث : من إعجاز القرآن أن ذكر على إلقاء الرعب بيان ودعوة للسلامة منه ، ليكون من مصاديق الآية السابقة أمور :
أولاً : بيان قانون ترشح الكفر عن الشرك بالله ، فانه سبب للجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنكار التنزيل والإمتناع عن أداء الفرائض ، فلا يكون الكفر عن إتباع للهوى وحده ، بل بالميل إلى الشركاء الذين ليس لهم سلطان على الإنسان .
ثانياً : الشرك بالله مجلبة للضرر في الدنيا والآخرة ، وليس من حصر لوجوه هذا الضرر وجهة صدوره ، فيأتي في آيات التنزيل بالوعيد وإلقاء الرعب والبلاء والعقاب العاجل والآجل ، ويأتي على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسنة الفعلية ، وبسيوف المؤمنين بدليل قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
ثالثاً : تأكيد مصداق للبيان في قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى]( )، بلحاظ مسائل :
الأولى : الإخبار عن حال وأمر .
الثانية : ذكر العلة وقانون السببية من البيان الذي تذكره الآية أعلاه ، لدفع الجهالة والغرر عن الناس .
الثالثة : من خصائص البيان القرآني أنه هدى من وجوه :
أولاً : البيان القرآني هدىً للمسلمين والمسلمات .
ثانياً : إنه هدى لأهل الكتاب , وبيان لوجوب تعاهد السلامة من الشرك .
ثالثاً : فيه هدى للمسلمين وأهل الكتاب بإجتناب الركون والميل إلى المشركين .
رابعاً : من خصائص القرآن مجئ آياته باستئصال الشرك من الأرض ، فليس من سلاح ومدد مثل الآية القرآنية في قهر الظالمين .
وهل إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من هذا الإستئصال , الجواب نعم لإفادة بيان قبح الشرك للإستدلال عليه بوجوب التنزه عن العلة الإختيارية التي تجلب هذا المعلول ، ومن الآيات أن الرعب لم يأت مباشرة على ذات الشرك ، لبيان معجزة في المقام وهي إفادة ترجل مصاديق الكفر في قول وفعل المشركين ، وعدم إختصاصها بالحال في القلوب من مفاهيم الضلالة والجحود ، قال تعالى [كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ]( ).
الرابع : بيان علة حس وقتل الذين كفروا والإجهاز عليهم ، وهو من الشرك بالله عز وجل , لتكون الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] من الإنذار الذاتي الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، ويمكن تقسيم الإنذار بلحاظ هذه الآية إلى أقسام :
الأول : الإنذار بالآية القرآنية ، وهو على شعب :
الأولى : مجئ الإنذار بالنص الصريح كما في قوله تعالى [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ] ( ) وعن ابن عباس قال (لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل الله {ويل للمطففين} فأحسنوا الكيل بعد ذلك) ( ).
الثانية : الإنذار بالمفهوم والدلالة التضمنية أو الإلتزامية .
الثالثة : توجيه الإنذار للذين كفروا بالنبوة بذكر قصص الأمم السابقة وسوء عاقبة الذين كفروا ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
الرابعة : الإنذار بالكناية والتعريض .
الثاني : تلقي الكفار الإنذار بلسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق العموم وإرادة الناس جميعاً في قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الثالث : مضامين الآية السابقة من الإنذار للكفار والناس من جهات :
أولاً : ذات إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إنذار .
ثانياً : لزوم ترك الكفر ومفاهيم الضلالة .
ثالثاً : تأكيد قبح الشرك بالله .
رابعاً : عجز الشركاء عن الفعل والتأثير .
خامساً : بيان علة إلقاء الرعب . وهو الكفر المترشح عن الشرك بالله .
ليكون من معاني ودلالات الآية السابقة الإحتجاج على الذين كفروا من جهات :
الأولى : إنتفاء البرزخ بين الإيمان والكفر .
الثانية : علة الكفر من الكلي المتواطئ , فلا يأتي بعض الكفار ويدعي أنه ليس بمشرك وأنه على مسافة واحدة وبرزخ بين الإيمان والكفر .
الثالثة : سبق الشرك على الكفر بالنسبة لبني آدم .
الرابعة : نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة دامغة في كشف التداخل بين الكفر والشرك .
الخامسة : عدم تخلف الكفر عن الشرك ، فحينما يشرك الإنسان يجحد بالتوحيد والنبوة والتنزيل .
السادسة : دعوة المسلمين لمحاربة الشرك ، وفضح مفاهيمه ، وحث الناس على التنزه عنه فهو مجلبة للشرك والأذى في الدنيا والآخرة .
سادساً : تلاوة المسلمين للآية السابقة ذم للذين كفروا من جهات :
الأولى : تبكيت الذين إختاروا الكفر ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ] ( ).
الثانية : تحدي الذين كفروا بتلمس مصداق الآية الكريمة في قلوبهم ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فليتحسسوا قلوبهم ، قبل أن تحسونه بأذنه .
ثانياً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فليترقبوا وليميزوا بين حالهم وهيئة قلوبهم ومزاجهم قبل إلقاء الرعب وبعده ، وفي التنزيل [قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ] ( ).
ثالثاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب من جهات :
الأولى : توالي نزول آيات القرآن ، وكل آية تحمل الرعب والفزع للكفار ، وتقدير الآية سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بكل آية تنزل من السماء على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بأزدياد عدد المسلمين .
الثالثة : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بعصمة المسلمين من الإرتداد ، وعن السدي قال (أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فدعاه فقال : إلام تدعو ؟ فأخبره .
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان ، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : انظروا لعلي أسلم ولي من أشاوره ، فخرج من عنده.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر ، فمر بسرح من سرح المدينة ، فساقه ثم أقبل من عام قابل حاجاً قد قلد وأهدى .
فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليه ، فنزلت هذه الآية حتى بلغ { ولا آمين البيت الحرام } فقال ناس من أصحابه : يا رسول الله خلِّ بيننا وبينه فإنه صاحبنا . قال : أنه قد قلد! قالوا : إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية ، فأبى عليهم) ( ).
الرابعة :سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بتلاوة المسلمين لآيات القرآن من وجوه :
أولاً : قراءة المسلمين والمسلمات القرآن في الصلاة على نحو الوجوب العيني .
ثانياً : تلاوة المسلمين آيات القرآن خارج الصلاة .
ثالثاً : إستحضار وتلاوة المسلمين الآية القرآنية في الجدال والإحتجاج ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) فليس من دليل وبرهان أحسن من الآية القرآنية ، وعن الإمام علي عليه السلام قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول « ستكون فتن قلت : وما المخرج منها؟ قال : كتاب الله . فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل وليس بالهزل ، وهو حبل الله المتين ، وهو ذكره الحكيم ، وهو الصراط المستقيم)( ).
الخامسة : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بأداء المسلمين الفرائض والعبادات ، فيدخل شهر رمضان ويمتنع المسلمون عن الأكل والشرب أيامه ، قال تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ( ).
فيصيب الذين كفروا الرعب مع أن أداء المسلمين الفرائض العبادية خاص بهم ليس فيه أذى أو تهديد لغيرهم ، والعبادات على أقسام :
الأول : العبادات البدنية وهي الصلاة والصيام .
الثاني : العبادات المالية وهي الزكاة والخمس .
الثالث : العبادات البدنية المالية , ويتجلى في فريضة الحج بقطع المسافة والإنفاق وأداء المناسك لذا قيد أداؤه بالإستطاعة والمقدرة [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الثالثة : تلاوة المسلمين للآية السابقة ذم للشرك وأهله وإبطال لمفاهيمه ، وهو من إشراقات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسمية القرآن بالفرقان ، قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ( ).
الرابعة : عجز الكفار عن دفع الرعب عن قلوبهم , وظهوره على جوارحهم .
الخامسة : سلامة المسلمين والمسلمات من الرعب وأسبابه ، قال تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( )وقد لا تجد العزيمة والإقدام على الفعل عند الكفار بسبب الرعب الذي يملأ قلوبهم .
السادسة : زيادة إيمان المسلمين بتلاوة الآية السابقة ، وما فيها من الإخبار عن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
السابعة : مبادرة المسلمين للخروج إلى سوح القتال لوجود ضعف ووهن عند العدو , وهو إصابته برعب القلوب والخشية من الموجود والمعدوم ، وقد ورد الثناء على المسلمين بقوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ].
وعن الربيع وقتادة قالا : أن أناساً من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل ، فكانوا يتمنون أن يروا قتالاً فيقاتلوا ، فسيق إليهم القتال حتى إذا كان بناحية المدينة يوم أحد , فأنزل الله { ولقد كنتم تمنون الموت . . . } الآية) ( ).
الثامنة : تلاوة الآية السابقة إحتجاج على الذين كفروا ،وتحد لهم وهو من إعجاز القرآن ، وأسرار تلاوة آياته في الصلاة على نحو الوجوب العيني.
الثانية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليبتليكم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : جاءت اللام في [لِيَبْتَلِيَكُمْ] للتعليل بلحاظ ذات نظم آية البحث ليترشح الإبتلاء عن جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل بصدق وعده للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فان قلت صدق الوعد الإلهي نعمة عظمى فكيف يترشح عنها الإبتلاء .
الجواب إن وجوه الإبتلاء المناسبة للنعمة ذات صبغة حسنة .
الثانية : إصرار الذين كفروا على الهجوم على المدينة , وصيرورة المسلمين في حال نفير شبه دائم .
الثالثة : مجئ الغنائم وأموال فداء الأسرى إلى المدينة , وصيرورتها في أيدي المسلمين وتحسن الحال المعيشية لهم .
الرابعة : بيان الآية الكريمة لعلة الإبتلاء , وهو إنسحاب الكفار من معركة أحد وعزوفهم عن قتال المسلمين .
ومن مصاديق اللطف الإلهي :
أولاً : لزوم الشكر لله عز وجل على نعمة صدق الوعد ، وفي نبي الله داود ورد في التنزيل [وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ] ( ).
ثانياً : التسليم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ودعوة الناس للإيمان بها .
ثالثاً : مجئ آية البحث بقانون في الإرادة التكوينية ، وهو الملازمة بين الإيمان وصدق وعد الله للمؤمنين ، وهو من البشارة ، مثلما جاءت الآية السابقة بالملازمة بين الكفر ونفاذ الرعب إلى قلب الكافر .
ولو أخفى الكافر كفره وصدوده , فهل يأتيه الرعب , الجواب , من وجوه :
الأول : نعم يأتيه الرعب لإخبار الآية بترشح قذف الرعب في قلب الكافر عن إختياره الكفر وإستقراره في نفسه .
الثاني : من فضل الله عز وجل إمهال العبد حتى يترجل الكفر ومفاهيمه على لسانه أو في عالم الأفعال .
الثالث : التفصيل والتعدد في الحكم وفق المشيئة الإلهية من جهات :
الأولى : من الناس من يأتيه الرعب لإتخاذه الكفر ومفاهيمه ملة , وإن لم يصرح به , أو كان بعيداً في مسكنه , لذا جاءت الآية بصيغة الإطلاق , وفيه دليل على علم الله عز وجل بما في الصدور , قال تعالى [لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ] ( ).
الثانية : تفضل الله بإمهال شطر من الناس حتى يستقر الكفر في قلوبهم وهو من مصاديق قوله تعالى (سنلقي) أي سنلقي الرعب في قلوب الذين كفروا حين يستقر الكفر في قلوبهم وبعد إقامة الحجة عليهم ، وجعلهم موضوعية له في أقوالهم وأفعالهم وإن لم يصرحوا به .
ولم تكشف عنه تلك الأقوال والأفعال ، وفي الثناء على الله عز وجل والإخبار عن إنفراده بخفايا النفوس ، قال تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ] ( )وقال تعالى [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ).
ولو لم تخبر الآية أعلاه عما هو أخفى من السر لما علم الناس به ، لأن القدر المتيقن أن السر أدنى مراتب الخفاء ، لذا تعددت أقوال المفسرين بمعنى (اخفى) في الآية أعلاه .
ومن الإعجاز فيها أنه جاء بصيغة التفضيل والمبالغة .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه وجوه :
أولاً : جاءت الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وتمام الآية [وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ) .
ثانياً : الآية ثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنزيه له وإخبار بأنه لا ينطق عن الهوى وأن سره موافق لعلانيته ، وأن الله عز وجل أصلح سريرته ونواياه وما تحدثه به نفسه ، وهو من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ).
ثالثاً : إرادة المعنى الأعم من السر ، وعدم إختصاصه بخفايا النفوس ، ومنه أثر قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتقدير الآية على منها وجوه ( وأن تجهر بالقول فان الله يعلم السر باستجابة المؤمنين وشك المنافقين وصدود الكافرين ، أما ما هو أخفى فما يترتب على قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأثر إلى يوم القيامة ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
ويعلم الله عز وجل إستجابة أو صدود الإنسان عن الآية القرآنية والحديث النبوي قبل أن يولد ، وهو من أسرار إحاطة علم الله بالموجود والمعدود ، وحضور جميع الأشياء والحوادث عنده سبحانه ، وما هو كائن في النشأتين .
الثالثة : الرعب الذي يقذفه الله في قلوب الكافرين سلاح للزجر والنهي ، فيأتي للكافر حالما يهم بالتعدي على المؤمنين ، ويهمل الذي لم ينو الهجوم والتعدي .
الرابع : من وجوه مجئ الرعب للكافر إذا أخفى كفره هو تحقق الإجتماع على الكفر والجحود ، وهو من مصاديق لغة الجمع في الآية السابقة ، إذ جاءت بصيغة الجمع في ذم الكفار [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
الخامس : إختصاص الرعب بمن قامت عليه الحجة بالدعوة إلى الإيمان وتبليغه بوجوب الإسلام وإحاطته علماً بمعجزات النبوة .
السادس : إرادة خصوص الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بلحاظ الآية السابقة وإختتامها بقوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( )فمن نصرة الله للمؤمنين وولايته لهم إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا.
والصحيح هو الوجه الأول والجهة الأولى والثالثة من الوجه الثالث والوجه الرابع أعلاه ، وهو الذي يدل عليه الإطلاق في الآية السابقة إذ أنها لم تقيد إلقاء الرعب بحال دون أخرى بخصوص الذين كفروا ، وهو من مصاديق قبح الكفر مطلقاً مفهوماً وملة ، فحالما يتلبس الإنسان بالكفر والصد عن سبيل الله بآية الرعب .
أما بالنسبة للوجه الخامس أعلاه [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) وعدم علم الإنسان بمعجزات النبوة ليس علة تامة لإختيار الكفر لأنها تتعارض وتنخرم مع علة خلق الناس ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، فليس من عذر لمن تخلف عن الإيمان خاصة وأن الآيات الكونية تدعو أهل المشرق والمغرب إلى الإسلام .
وفي قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ]( )أخرج عن ابن عباس (أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيأتي السهم يرمي به ، فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يضرب فيقتل) ( ).
أما بالنسبة للوجه السادس أعلاه فان الآية أعم في موضوعها ودلالاتها ، فحتى لو أرجئ الله إلقاء الرعب في قلب الكافر الذي يمتنع عن نصرة رؤساء الضلالة من قريش الذين أعادوا الكرة في الهجوم على المدينة المنورة ، فعندما لحقتهم الهزيمة والخسارة الفادحة في الأرواح والأموال يوم بدر لم يتعظوا ولم يكفوا بل أخذوا يبذلون الأموال ويعدون الذين يقاتلون معهم بوعود عديدة من أجل الخروج معهم إلى قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين , وبعثوا الوفود إلى القبائل المحيطة بمكة يدعونهم للتجهيز لقتاله .
وهل من نفع في المقام من قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة بالإتصال مع القبائل التي تقدم إلى مكة المكرمة في موسم الحج وغيره ، الجواب نعم , وهو من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في زجر الناس عن التعدي على المسلمين ، وهذا الزجر من وجوه :
الأول : إحاطة القبائل علماً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته إلى عبادة الله وحده ، وفي التنزيل [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ] ( ).
الثاني : إلتقاء الوفود مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأشهر الحرم والإستماع منه وعدم تضمن دعوته ما فيه النفرة وأسباب الغضاضة .
الثالث : إدراك القبائل لقبح وبطلان عدوان قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وظلمهم بالتلبس بالشرك وعبادة الأوثان , وهو جيران البيت الحرام , وقد بعث النبي من بينهم , ومن خاصتهم.
(عن ابن عباس، عن العباس قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة، فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا حتى نقر في منازل قبائل الناس ” وكانت مجمع العرب.
قال: فقلت: هذه كندة ولفها، وهى أفضل من يحج البيت من اليمن، وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بنى عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك.
قال: فبدأ بكندة فأتاهم فقال : ممن القوم ؟ قالوا : من أهل اليمن.
قال: من أي اليمن ؟ قالوا: من كندة , قال : من أي كندة ؟ قالوا: من بني عمرو بن معاوية.
قال : فهل لكم إلى خير ؟ قالوا: وما هو ؟ قال: ” تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله “.
قال عبد الله بن الاجلح : وحدثني أبى عن أشياخ قومه، أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ” إن الملك لله يجعله حيث يشاء “.
فقالوا : لا حاجة لنا فيما جئتنا به.
وقال الكلبى: فقالوا: أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب، الحق بقومك فلا حاجة لنا بك.
فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل , فقال: ممن القوم ؟ قالوا: من بكر بن وائل.
فقال: من أي بكر بن وائل ؟ قالوا: من بنى قيس بن ثعلبة.
قال: كيف العدد ؟ قالوا: كثير مثل الثرى.
قال: فكيف المنعة ؟ قالوا: لا منعة، جاورنا فارس، فنحن لا نمتنع منهم , ولا نجير عليهم.
قال: ” فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين ؟ “.
قالوا: ومن أنت ؟ قال: أنا رسول الله.
ثم انطلق.
فلما ولى عنهم، قال الكلبى: وكان عمه أبو لهب يتبعه، فيقول للناس لا تقبلوا قوله.
ثم مرّ أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل ؟ قال: نعم، هذا في الذروة منا، فعن أي شأنه تسألون ؟ فأخبروه بما دعاهم إليه , وقالوا : زعم أنه رسول الله.
قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولا، فإنه مجنون يهذي من أم رأسه.
قالوا: قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر) ( ).
الرابع : إعتماد القبائل أصل الإستصحاب ، وهو دليل عقلي قبل أن يكون مبحثاً أصولياً .
فلما إنكسرت قريش في معركة بدر مع قلة عدد المسلمين والنقص الظاهر في مؤونتهم والظهر الذي يركبون , فمن باب الأولوية القطعية أن ينتصر المسلمون في معركة أحد ، أو لا أقل تتجنب القبائل خوض غمار هذا النزال .
الخامس : مغادرة أعداد كثيرة من أبناء القبائل العربية قراهم متوجهين إلى المدينة المنورة , ومنهم من أسلم في قريته , ومهم من أسلم حين وصل المدينة وسمع من رسول الله وأهل البيت والصحابة.
السادس : قذف الله الفزع والخوف في قلوب حلفاء قريش ، وأنصارهم ومواليهم بعد هزيمتهم في معركة بدر ، وهو من إسرار العموم في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]لذا ترى قريشاً وغطفان والأحابيش بادروا إلى الإنسحاب من معركة أحد بسرعة ومن غير سبب ظاهر ، خاصة بعد إنكسار المسلمين بسبب نزول أغلب الرماة وسعيهم لجمع الغنائم ، وفي هذا الإنسحاب مسائل :
الأولى : ترك المشركين لساحة المعركة دليل على إستقرار الرعب والفزع في قلوبهم ، فمن خصائص الرعب وما يميزه أنه يتضمن الخوف من أمور:
الأول : ما يرجح وقوعه من أسباب الأذى.
الثاني : الوهم في مجئ الأذى والضرر، مما لم يكن له أصل واقعي.
الثالث : صيرورة غشاوة على البصر بخصوص أسباب السلامة والنجاة ، فالذي يصاب بالرعب لا يرى باب الفرج والمخرج ، وان كان قريباً منه.
الرابع : شدة الخوف وملازمة الهلع .
قال ابن المظفر : الرُعْب : الخوف. وتقول رَعَبت فلانا ” رَعْبا ورُعبا ” لغتان فهو مرعوب ورعيب. ورعبَّته فهو مُرَعَّب، وهو مُرْتَعِب أي فزع( ).
قال رؤبة: ولا أُجِيبُ الرَّعْبَ إِن دُعِيتُ ، ويُرْوى إِنْ رُقِيتُ أَراد بالرَّعْب الوعيد( ).
والمختار أن النسبة بين الرعب والخوف هي العموم والخصوص المطلق، فالرعب من أشد ضروب الخوف، وكل رعب هو خوف ، وليس كل خوف هو رعب.
لذا حينما خاطب الله المسلمين وأخبرهم عن نزول الإبتلاء بهم لم يقل( ليبتليكم بالرعب) بل قال سبحانه[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( ).
الثانية : بيان قانون وهو أن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مقدمة لنصر المؤمنين , وليس من حصر لوجوه وسبل نصرهم ومنها صيرورة الرعب سبباً لإمتناع الذين كفروا عن القتال، وإن قاتلوا فانه برزخ دون إستمرارهم في القتال .
فلا يستطيع الذي يملأ قلبه الرعب المطاولة في القتال والثبات في المعركة.
الثالثة : حصول الخلاف والنزاع بين الذين كفروا قبل وأثناء وبعد المعركة كما حدث يوم بدر بين أبي جهل وعتبة بن ربيعة ، قال تعالى [بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] ( ).
الرابعة : صيرورة إنسحاب الذين كفروا قانوناً كلياً يتغشى معارك الإسلام مع الذين كفروا ، فان قلت وإن فرط بعض المؤمنين ولم يبذلوا الوسع في القتال، وإن ظهر المشركون في ساعة من المعركة ، الجواب نعم لأصالة الإطلاق من جهتين:
الأولى : إلقاء الله الرعب في قلوب المشركين كما تؤكده الآية السابقة.
الثانية : صدق الله عز وجل وعده للمسلمين، وتنجز مصداق الوعد في الواقع الخارجي.
لقد إنهزم أكثر المسلمين في جولة من المعركة ، ودارت عليهم الدائرة يوم أحد عندما ترك الرماة مواضعهم التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمرهم أن لا يتركوها بكل الأحوال، مع ضمان سهامهم من الغنائم.
قال ابن إسحاق: وَتَعَبّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِلْقِتَالِ وَهُوَ فِي سَبْعِ مِائَةِ رَجُلٍ وَأَمّرَ عَلَى الرّمَاةِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جُبَيْرٍ ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ مُعَلّمٌ يَوْمئِذٍ بِثِيَابِ بِيضٍ وَالرّمَاةُ خَمْسُونَ رَجُلًا ، فَقَالَ انْضَحْ الْخَيْلَ عَنّا بِالنّبْلِ ، لَا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا ، إنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا ، فَأَثْبُت مَكَانَك لَا نُؤْتَيَنّ مِنْ قِبَلِك ( ).
الوجه الثاني : إرادة نصر المسلمين وتحقق الفتح والظفر فتنبسط الدنيا للمسلمين ويدخل الناس في الإسلام جماعات وأفواجاً ، وينال المسلمون مراتب الإمارة والحكم .
(وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ارقبوني وقريشاً فإن ينصرني الله عليهم فالناس لهم تبع) ( ).
وهل قذف الرعب في قلوب كفار قريش سبب لدخول الناس الإسلام الجواب نعم ، فلم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه ( إن دخلت قريش الإسلام الناس لهم تبع ) بل قال (إن ينصرني الله عليهم) وهو من جوامع الكلم وفيه مسائل :
الأولى : بيان أن النصر على العدو سبب لتفرق أتباعه عنه .
الثانية : تأكيد عظيم منزلة وشأن قريش بين القبائل ، ليكون في النصر عليهم معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تهيئة أذهان المسلمين لأمور :
أولاً : الإخبار عن شدة القتال مع قريش عند نشوبه.
ثانياً : كثرة القبائل والأفراد الذين يخرجون مع قريش .
ثالثاً : التهيئة والإستعداد للقاء قريش في ساحة المعركة .
رابعاً : عدم التهاون أو التفريط أو الإستخفاف بمقدرات العدو، وهناك نظرية عسكرية جديدة أعتمدت في بعض حروب في هذا الزمان وهي المبالغة بقوة وجيش العدو وذكر الحد الأعلى للأرقام التي يذكرها بخصوص أفراد جيشه وسلاحه ، من أجل أخذ الحيطة والتجهز التام لملاقاته وقد سبقهم القرآن بألف وأربعمائة سنة بقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ).
(رَهِبَ كَعَلِمَ رَهْبَةً ورُهْباً بالضم وبالفتحِ وبالتحريكِ ورُهْباناً بالضم ويُحَرَّكُ : خافَ والاسم : الرَّهْبَى ويُضَمُّ ويُمَدَّانِ والرَّهَبُوتَى و رَهَبُوتٌ مُحَرَّكَتَيْنِ خيرٌ منْ رَحَمُوتٍ أي : لأَنْ تُرْهَبَ خَيْرٌ منْ أن تُرْحَمَ . وأرْهَبَهُ واسْتَرْهَبَهُ : أخافَهُ . وتَرَهَّبَهُ : تَوَعَّدَهُ . والمَرْهُوبُ : الأَسَدُ) ( ).
(عن عكرمة في قوله { ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم } قال : تخزون به عدو الله وعدوكم) ( ).
وحكاه الثعلبي عن ابن عباس ترهبون : تخزون( ).
والمختار أن ترهبون أي تخوفون ، وليصيب الكفار الَفَرق والرهبة والتخويف ، وبين الرعب والرهب عموم وخصوص مطلق فالرعب أشد ، قال تعالى في خطاب تشريفي إلى موسى [وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ] ( ) لذا لم يرد لفظ الرعب في القرآن إلا بخصوص الكفار ، وهو لغة في ذمهم وإنذار للناس من الكفر وما يلازمه من الرعب والأذى .
الرابعة : تقدير حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : إن ينصرني الله بصفة النبوة والنبي من خاصة قريش وأشرف بطونها, وجاء الإسلام ليكون الملاك في السلم والحرب هو الإيمان والهدى .
المسألة الثالثة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ولقد عفا عنكم ، وفيه وجوه :
الأول : بيان عظيم قدرة الله عز وجل في توجيه الرعب لينفذ إلى قلوب الذين كفروا مجتمعين ومتفرقين ، أي يأتيهم دفعة بخصوص موضوع معين كالقيام بالهجوم على المسلمين أو تدارس الإنسحاب من المعركة فتراهم جميعاً يختارون ما يدل على إمتلاء قلوبهم بالرعب ، ولا ينظرون إلى أسباب الضعف والوهن عندهم .
وفي معركة بدر قال تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ] ( ) إذ نظر المسلمون إلى المشركين فرأوهم أضعاف عددهم إذ أن عدد جيش المشركين نحو ألف رجل فتوكلوا على الله وعزموا على اللقاء فنظروا إليهم مرة أخرى , وكأنهم بذات عدد المسلمين للإتعاظ وتأكيد فضل الله .
وهل هذا التباين في النظر لعدد المشركين من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( )أم أن القدر المتيقن من المحو هو إزالة الموجود والمحسوس ، والحقيقة وإن كانت إعتبارية .
الجواب هو الأول , فصيرورة المشركين في عيون المؤمنين قلة مع أنهم كثرة من المحو حقيقة وليس مجازاً.
وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، ، قال: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا. فعندما عاين كل الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم، أي: أكثر منهم بالضعف، ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم، عز وجل.
ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع، ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلّل الله هؤلاء في أعين هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء، ليقدم كل منهما على الآخر) ( ).
ومن معاني قوله تعالى [وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ] ( ) إغراء الكفار بالمؤمنين حتى ظنوا أنهم قلة وفيه إستدراج للذين كفروا , ويحتمل وجوهاً :
أولاً : تقليل عدد المسلمين في أعين المشركين من مصاديق إلقاء الرعب في قلوبهم ، وكان عدد المسلمين يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، فيراهم المشركون وكأنهم ستون أو سبعون حتى قالوا إنهم أكلة رأس ، وإن كان موضوع هذا القول لا يختص بعددهم فيشمل قلة عدتهم وأسلحتهم والنقص فيما عندهم من الخيل .
ثانياً : التباين الموضوعي بين ظن المشركين قلة عدد المسلمين الذي هو من الإستدراج والإملاء ، وبين إلقاء الرعب في قلوب المشركين الذي من آثاره ظن المشركين كثرة عدد المسلمين .
ثالثاً : قلة عدد المسلمين في نظر المشركين من مقدمات إلقاء الرعب في قلوبهم ، إذ يفاجئون عند القتال بكثرتهم وإقدامهم وتفانيهم في القتال ونصرة الملائكة لهم ، فكما أن معاني كلمات وآيات القرآن من اللامتناهي فكذا بالنسبة لعدد المؤمنين ، وفيه زجر وإنذار للكافرين من قتالهم .
والصحيح هو الثاني والثالث ، لذا وردت الآية السابقة بصيغة الإستقبال (سنلقي) أي الإستدراج ثم إلقاء الرعب ، وهو من العقوبة العاجلة على الشرك والإصرار على الكفر وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فتأكيد الآية إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لا يعني حصر الإبتلاء الذي يصيبهم بهذا الرعب , لذا جاءت آية السياق بذمهم على أمور :
أولاً : التلبس بالكفر والإصرار على الجحود .
ثانياً : صدور الكفار في أقوالهم وأفعالهم عن الشرك بالله وميلهم للأوثان ، وطاعة الطواغيت في غير مرضاة الله .
ثالثاً : إدراك الناس جميعاً أن الأوثان جماد وحجارة لا تضر ولا تنفع ، ولم يأمر الله عز وجل بعبادتها وتقديسها .
الثاني : دعوة الناس للنفرة من الكفر ومفاهيمه والإعراض عن رؤساء الكفر وأسباب الضلالة للملازمة بينه وبين الرعب وأثر سطوته على القلب وما يترشح عنه من جلب النحاسة والكدورة والسأم ، ليبغض الكفار بعضهم بعضاً .
الثالث : ترغيب الناس بالإسلام لما فيه من العفو وأسباب المغفرة والغبطة والسعادة بالفوز بمرضاة الله لقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] .
الرابع : مجئ الفضل الإلهي على المسلمين بصيغة الماضي [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] ليبدأ المسلمون صفحة جديدة من العمل ويؤتون ضروب الطاعة بصبر ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( )ويكون ما يلاقيه الكفار من الرعب عوناً ومدداً للمسلمين في قابل أيامهم .
الخامس : أخبرت آية البحث عن عفو الله عز وجل عن المسلمين الذين إنهزموا يوم أحد وصعدوا الجبل , وإبتعدوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلوا بينه وبين العدو ، ليلقي الله الرعب في قلوب العدو فيعود المسلمون إلى وسط المعركة , ويشتد القتال ويقومون بدفع مشركي قريش عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويأتي هذا الدفع من جهات :
الأولى : الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا .
الثانية : نزول الملائكة من السماء ، لنصرة النبي وأصحابه ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
الثالثة : عفو الله عن المؤمنين وعدم إبتلائهم بمغادرة ساحة المعركة ، والتفريط بتعريض النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأذى.
السادس : الجمع بين الآيتين من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) سواء قاتلتم دونه أو تخلفتم عن الذب عنه فالله عز وجل هو حافظه وناصره ليكون هذا الحفظ من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
السابع : ظاهر الجمع بين الآيتين تفضل الله عز وجل بالعفو عن المسلمين قبل نزول الرعب على قلوب الذين كفروا ، وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل بالمسلمين وفوزهم بتقدم الأهم والأعم ، وهو العفو إذ أنهم يحتاجونه في أمور الدين والدنيا ، وحالهم في الدنيا والآخرة , وليكون إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من رشحات العفو عن المسلمين .
المسألة الرابعة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب والله ذو فضل على المؤمنين ) وفيه وجوه:
الأول : بيان قانون دائم من فضل الله على المسلمين وهو إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، لبيان تعدد جهات الفضل الإلهي على المسلمين منها :
الأولى : مجئ الفضل الإلهي للمسلمين ، ونزوله عليهم بالذات كأمة وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثانية : تلقي المسلمين والمسلمات أفراد النعم الإلهية , وتجليها على كل واحد منهم بالسكينة والإقبال على أداء الفرائض والعبادات .
الثالثة : تفضل الله عز وجل على المسلمين بما يلقيه في قلوب أعدائهم من الرعب والخوف الذي تكون له تارة أسباباً ظاهرة , وتارة ليس له أسباب إنما هو من فضل الله عز وجل على المسلمين .
ومن معاني الفضل النافلة ، وفي قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا] ( ) (قال أبو سعيد الخدري : فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله.
وقال ابن عمر : فضل الله الإسلام وبرحمته تزيينه في القلب)( ).
وليس من حصر لوجوه فضل الله ورحمته موضوعاً وأفراداً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] ( ).
الثاني : يدل الجمع بين الآيتين على حقيقة وهي لولا إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لما إنهزموا في معركة بدر ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يلح بالدعاء يومئذ للنصر والغلبة على المشركين , ويتضرع إلى الله بأن تعرض المسلمين للهزيمة يوم بدر خسارة وإنتكاسة ومانع دون إنشاء صرح الإيمان فأخبره الله عز وجل بأنه [ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] وأن هذا الفضل حاضر في حال الشدة والرخاء ، والسلم والحرب .
الثالث : البشارة للمسلمين بأنه مع إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا فان الله عز وجل ينعم على المسلمين بفيوضات أخرى تتعلق بتهيئة أسباب نصرهم وهزيمة عدوهم ، وتلك آية في الإرادة التكوينية بتوالي النعم ،
ولفظ (فضل) اسم جنس ليس لإفراده التي تأتي من عند الله منتهى ، قال تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا] ( ).
الرابع : من فضل الله عز وجل على المسلمين إخبارهم بتوالي فضله عليهم ، وأن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا فرد من أفراد فضل الله عليهم ، فهذا الرعب ليس آخر الأسباب التي تجعل الذين كفروا في حال وهن وضعف دائمين ، ليكون من معاني خاتمة آية البحث وإخبارها عن فضل الله أمور :
اولاً : إنذار الذين كفروا وإصابتهم بمرتبة أخرى من الرعب بالواسطة غير الرعب الذي يأتيهم مباشرة والذي تذكره آية البحث، فيكون تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب وسيأتيهم رعب آخر بفضل الله على المؤمنين .
ثانياً : دعوة الناس للإسلام ، فلو خيّر الإنسان بين الفضل والرعب من عند الله فلا يختار إلا الفضل الإلهي ، لتكون كل آية قرآنية زجراً عن الكفر, وتقبيحاً للمشركين .
ثالثاً : إقامة الحجة على الذين كفروا بأن فضل الله سلاح حاضر لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في حال السلم والحرب .
الخامس : بعث اليأس في قلوب الذين كفروا من إرتداد المسلمين لأن فضل الله واقية لهم ، قال سبحانه [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) .
وقد ورد لفظ فضل الله في آيات كثيرة من القرآن فهل معناه متحد أم متعدد , الجواب هو الثاني ، إذ يستقرأ معناه من موضوع وسياق الآية ، وهو من أسرار الفضل الإلهي حتى في ذات لفظ [الفضل] .
وفي الآية أعلاه تعريض بالمنافقين وإخبار بأنهم لن يستطيعوا إعانة الذين كفروا فيما يبثونه من الأخبار وأسباب تثبيط الهمم إذ أن فضل الله يأتي عليها .
السادس : بيان قانون وهو عدم إنقطاع فضل الله عن المؤمنين ، وفيه دعوة لهم للتدبر في مصاديقه ، ويمكن تأليف مجلدات خاصة من جهات :
الأولى : فضل الله على المؤمنين يوم بدر .
الثانية : فضل الله على المؤمنين يوم أحد .
الثالثة : فضل الله على المؤمنين يوم الخندق .
الرابعة : المعجزة في سلامة المسلمين من الهزيمة في المعارك .
الخامسة : صيرورة معارك الإسلام الأولى دعوة لأهل مكة والقبائل المحيطة بها لدخول الإسلام لأنها دفاعية محضة، وهو من أسرار تسمية مكة أم القرى ، وبلوغ الإنذار إلى أهلها بالرعب الذي يلقيه الله في قلوبهم.
وعن ابن عباس قال في الآية أعلاه (مكة ومن حولها . قال : يعني ما حولها من القرى إلى المشرق والمغرب) ( ).
السابع : حث المسلمين للإرتقاء إلى منازل الشكر لله عز وجل على نعمة الفضل الإلهي ، وهذا الشكر والهداية إليه من فضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات .
الثامن : دعوة المسلمين إلى عدم حصر عنايتهم بالكفار ، وكيفية ملاقاتهم في سوح المعارك ، فلابد من إستحضار فضل الله عز وجل في القول والفعل وكل آية قرآنية من فضل الله .
التاسع : التأكيد على لزوم الإنتفاع الأمثل من وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين ، فمن فضل الله عز وجل في المقام أمور :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكل فرض من الصلوات اليومية الخمسة ، وتلك آية من جهات :
الأولى : حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة وإمامته لها من وجوه الوحي .
الثانية : بيان قانون وهو تقوم الإسلام بأداء الصلاة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
الثالثة : تأديب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمة والحكام والعلماء بتعاهد صلاة الجماعة وإن كانت ذات الجماعة مندوبة على نحو الإستحباب المؤكد .
الرابعة : منع الخلاف والخصومة بين المسلمين بخصوص كيفية أداء الصلاة ، وهل يختص هذا المنع المستقرأ من أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته جماعة بعهد الصحابة , الجواب لا ، بل هو قانون متصل وإلى يوم القيامة ، ولا يعلم ماذا يحدث لو ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم إمامة الصلاة .
الخامسة : إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في الصلاة تعاهد لوحدتهم وأخوتهم الإيمانية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
السادسة : دعوة المسلمين والمسلمات لنبذ الفرقة والخلاف بينهم بلحاظ أن إجتماعهم خمس مرات في اليوم لذكر الله وبحضرة النبي وإمامته سبب للألفة والمودة بينهم .
ومن الآيات حضور المسلمات الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وكان يعجل ويخفف الصلاة إذا سمع بكاء طفل تحمله أمه أو أحضرته معها إلى الصلاة .
(عن عثمان بن أبي العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثني إلى ثقيف : « تجوز في الصلاة يا عثمان ، وأم الناس بأضعفهم ، فإن فيهم الضعيف ، وذا الحاجة ، والحامل ، والمرضع ، وإني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز) ( ).
السابعة : إبقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إمامة الصلاة أمانة في أعناق الأئمة وعلماء الإسلام ، ومن الإعجاز في هذه الأمانة أنها ليست خاصة بين النبي وبين الأئمة بل يعلم بها كل المسلمين والمسلمات ، وكل فرد منهم رقيب على حفظ هذه الأمانة, وهي دعوة لهم للإرتقاء في مراتب العلم ونيل مرتبة الإمامة في الصلاة ، وهو من مصاديق قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُم أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( ).
الثامنة : بيان عشق وحب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة وانها الأولى والأهم في أعمال اليوم والليلة ( عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة) ( ).
التاسعة : التأكيد العملي اليومي المتجدد لعبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل وخشيته منه ، وعنه قال (إتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا) ( ).
وقيل أن مرتبة العبودية أعلى وأسمى من مرتبة النبوة والمختار بخلافه ، فالنبوة درجة رفيعة نالها أفضل البشر ، فمن الوحي قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يدي الله خمس مرات في اليوم.
العاشرة : تأسيس صرح إيماني يتقوم بتنزه المسلمين عن الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وسلامة المسلمين مما أصاب طائفة من أتباع الأنبياء السابقين بالغلو بأنبيائهم ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
ويحتمل أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته جماعة خمس مرات في اليوم بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
أولاً : القدر المتيقن من الآية هو القول باللسان .
ثانياً : أداء المسلمين للصلاة جماعة من مصاديق الآية أعلاه .
ثالثاً : حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الصلاة اليومية جماعة مرآة وترجمة عملية للقول [إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ].
رابعاً : أداء المسلمين للصلاة جماعة في المسجد النبوي أمر آخر غير موضوع الآية أعلاه .
والصحيح هو الثاني والثالث , ويكون الأول في طولهما , وليس من تعارض أو تزاحم بينها بالإضافة إلى تضمن الصلاة القول وقراءة آيات القرآن .
الحادية عشرة : من وجوه إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الصلاة جماعة من وجوه :
الأول : رؤية الكفار لوحدة المسلمين في أداء الصلاة باعث للرعب في قلوبهم .
الثاني : تقوم وحدة المسلمين بالخضوع والخشوع لله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] فلم تقل الآية أعلاه (إنما المسلمون أخوة ) بل ذكرتهم بصبغة الإيمان لبيان أن الجامع المشترك بينهم هو العمل العبادي .
الثالث : الضبط والنظام في كيفية أداء المسلمين الصلاة .
الرابع : إدراك الناس لقانون , وهو أن صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين توقيفية من عند الله . ومن الآيات في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أداها ليلة الإسراء , وصلى خلفه الأنبياء على أقوال :
الأول : أدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في بيت المقدس قبل عروجه إلى السماء .
الثاني : أمّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء في السماء الدنيا .
الثالث : تعدد صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل سماء.
وعن ابن عباس ( لما عرج بي إلى السماء فلما وصلت إلى السماء الدنيا قال لي جبرئيل عليه السلام : يا محمد صل بملائكة السماء الدنيا فقد امرت بذلك، فصليت بهم.
وكذلك في السماء الثانية والثالثة.
فلما صرت في السماء الرابعة رأيت بها مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي، فقال جبرئيل عليه السلام، تقدم وصل بهم( ).
الرابع : كانت صلاة وإمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء في بيت المقدس بعد هبوطه من السماء (وعن أنس بن مالك قال رسول الله : الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)( ).
ولا تعارض بين هذه الروايات دلالة , ويمكن الجمع بينها على فرض صحة السند والصدور بتعدد صلاة النبي ليلتئذ ، وهل التقى النبي بالأنبياء فيه وجوه :
الأول : إلتقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء بأجسادهم وأرواحهم تشريفاً له وبشارة للأنبياء ببعثته ، وشكراً لهم على دعوتهم الناس إلى التصديق بها ، عندما كانوا في الحياة الدنيا .
الثاني : إلتقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء بأرواحهم دون أجسادهم .
الثالث :كان لقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء بذات أرواحهم متشكلة بأجساد مثالية تشبه أجسادهم التي كانوا على هيئتها في الحياة الدنيا .
والمختار هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى] ( ) فالصلاة لا تكون بالأرواح وحدها إنما تكون بالأرواح والأجساد , ولأصالة التبادر , فيفهم من الخبر أن الأنبياء صلوا بهيئاتهم كما كانوا يصلون في الدنيا.
وأراد الله عز وجل إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برؤية الأنبياء في تلك الرؤيا على هيئتهم في الحياة الدنيا كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرى جبرئيل أحياناً بصورته الحقيقية (عن ابن مسعود قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت) ( ) .
ولم تنحصر رؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجبرئيل بليلة الإسراء , وفي السماء بل كان يراه بهيئته الحقيقية , وهو على الأرض .
(عن ابن عباس قال: سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبريل أن يراه في صورته، فقال: ادع ربك. فدعا ربه، عز وجل، فطلع عليه سواد من قبل المشرق، فجعل يرتفع وينتشر، فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم صعِق، فأتاه فَنَعَشَه ومسح البزاق عن شِدْقه)( ).
من فضل الله على المؤمنين ملازمة الرعب للكفار منذ سني الدعوة الأولى، وقد حلت المصائب والنكبات برؤساء الشرك الذين كانوا يؤذونه في مكة، لتكون موعظة لهم .
وعن هبار بن الأسود قال: كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام، فتجهزت معهما، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه، سبحانه، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد، هو يكفر بالذي دنى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “اللهم ابعث إليه كلبا من كلابك”. ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال: يا بني، ما قلت له؟ فذكر له ما قال له، قال: فما قال لك؟ قال: قال: “اللهم سلط عليه كلبا من كلابك” قال: يا بني، والله ما آمنُ عليك دُعاءه.
فسرنا حتى نزلنا الشراة، وهي مأْسَدَة، ونزلنا إلى صَوْمَعة راهب، فقال الراهب: يا معشر العرب، ما أنزلكم هذه البلاد فإنها تسرح الأسْدُ فيها كما تسرح الغنم؟ فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً -والله-ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا حولها. ففعلنا .
فجاء الأسد فَشَمّ وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد تَقَبّض، فوثب، فإذا هو فوق المتاع، فشم وجهه ثم هزمه هَزْمة( ) فَفَضخ رأسه. فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد( ).
ويبين الحديث مصداقاً لآية السياق في ذم الذين كفروا لإشراكهم بالله عز وجل، فحينما قال عتبة لأبيه أبي لهب لأوذين محمداً في ربه) لم يحتج عليه، ويقول له إجتنب الإساءة للذات المقدسة، أو أجعل كلامك خاصاً بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو إتركه فانه ابن عمك، أو إننا متجهزون في سفر وتجارة ومكاسب، فدع التعدي .
فجاء عتبة ليكفر في كلمات معدودات بالله والنبي والتنزيل دفعة واحدة ومن غير سبب عتواً وغروراً.
وفي رواية أخرى أن عتبة تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى إليه الأسد فشم وجهه ثم ضغم رأسه أي أكله من جهة رأسه وليس من يديه أو رجليه.
وفيه بعث للرعب في قلوب الكفار، وحث لهم للتوبة والإنابة، وهل السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من مصاديق قوله تعالى[سَُنلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
الجواب نعم، وكل سورة منها جاءت بالإنذار والتخويف والوعيد , منها قوله تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( )، ومن الإعجاز أن يجتمع التنزيل والسنة النبوية في الإنذار بالموضوع المتحد، فتأتي السنة بياناً للقرآن ، أو تكون سبباً لنزول آيات القرآن .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أنزل الله سبحانه : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين}( ) أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفا ، فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه، فإجتمع إليه الناس بين رجل يجيء وبين رجل يبعث رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني عدي أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذ الجبل يريد أن تغير عليكم صّدقتموني، قالوا : نعم.
قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد , فقال أبو لهب : تباً لكم سائر هذا اليوم، وما دعوتموني إلا لهذا، فأنزل {تَبَّتْ} أي خابت وخسرت( ).
الخامسة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : ومأواهم النار إذ تحسونهم بأذنه ) وفيه وجوه :
الأول : بيان عز الإسلام ونصر المؤمنين ، وظهورهم على المشركين في ميدان القتال , وسوء عاقبة الذين كفروا في الآخرة وعالم الجزاء ، وفيه وجوه :
أولاً : حس وقتل الكافرين سبب لدخولهم النار لأنهم لم يقتلوا إلا وهم في حال تعد وإشهار للسيوف ضد النبوة وأهل الإيمان .
ثانياً : بيان حكم الله على الكافرين بأنهم أهل النار قبل أن يقتلهم المسلمون في ميدان المعركة ، قال تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] ( ).
ثالثاً : الملازمة بين قتل الكفار وإستحقاقهم دخول النار .
رابعاً : المراد من قوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ] بيان سوء عاقبة الذين كفروا في الآخرة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه الأربعة , وكلها من مصاديق الجمع بين الآيتين ، ومن مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
ومن خصائص القرآن أن آياته تبعث على النفرة من الكفر ، وتدعو الناس إلى نبذ الشرك وعبادة الأوثان ، فجاءت آياته بالقطع بالمعاد , وأنه حق وحتم ، وأخبرت آية السياق عن حقيقة وهي أن إقامة الذين يصرون على الكفر في النار دائمة .
الثاني : دعوة المسلمين والناس للتعوذ من النار ، ومن طرق الضلالة التي تقود إليها ، وهذه الدعوة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في السنة النبوية وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإجهار بالتعوذ من النار في الصباح والمساء ليكون هذا التعوذ إرثاً عقائدياً للمسلمين .
(عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه كان يقول إذا أمسى أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له اللهم إني أعوذ بك من الجبن والبخل وسوء الكبر وفتنة في الدنيا وعذاب في النار وإذا أصبح قال مثل ذلك)( ).
الثالث : قد يتساءل جماعة وطائفة من الناس لماذا حدثت معركة بدر وأحد والخندق وشاع القتل بين المسلمين والكفار ، والجواب أن الذين كفروا هم الذين يبدأون في كل مرة القتال ، حتى في معركة حنين وبعد تحقق فتح مكة وإعطاء النبي عفواً عاماً ، وبيّن سبل الأمان ساعة الفتح بوجوه :
الأول : الأمن للذين يدخلون المسجد الحرام .
الثاني : السلامة والأمن للذي يغلق عليه باب داره .
الثالث : الذي يدخل بيت أبي سفيان على قول .
ولم يستثن من الأمان إلا ستة نفر ، وقد عفى عن بعضهم أيضاً (قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: ” اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ” وهم: عكرمة بن أبى جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح.
فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله.
وأما مقيس فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم قاصف، فقال أهل السفينة لاهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئا ها هنا.
فقال عكرمة: والله لئن لم ينج في البحر إلا الاخلاص فإنه لا ينجى في البر غيره ! اللهم إن لك علي
عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما فجاء فأسلم.
وأما عبد الله بن سعد بن أبى سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله بايع عبد الله.
فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: ” أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدى عن بيعته فيقتله ؟ “
فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك ؟ فقال: ” إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة أعين) ( ).
السادسة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ومأواهم النار ) وفيه وجوه :
الأول : تجلي التباين بسنخية الخطاب والموضوع بين المؤمنين والكافرين , فيأتي الخطاب القرآني للمؤمنين بالتنبيه والتأديب والتعليم في ثنايا المدح والثناء بينما يقترن ذكر الكافرين بالتخويف والوعيد .
ومن الإعجاز في آية البحث مجئ هذا الوعيد بذات الآية التي تبدأ بذكر تفضل الله عز وجل بصدق وعده للمؤمنين ، ويحتمل أثر وموضوعية إخبار آية السياق عن إقامة الذين كفروا في الآخرة في النار وجوهاً .
الأول : توجه المسلمين والمسلمات جميعاً لإرادة الآخرة والنجاة من سوء العاقبة .
الثاني : إزدياد عدد وكفة الذين يريدون الآخرة من المسلمين على نحو متجدد ومطرد بلحاظ قانون أثر الآية .
الثالث : بقاء عدد وذات نسبة الذين يريدون الدنيا والذين يريدون الآخرة .
الرابع : الأصل هو موضوعية قوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ] في ذم الذين كفروا حينما تفضل الله وأخبر المسلمين بأن فريقاً منكم يريد الدنيا ، وفريقاً يريد الآخرة .
الخامس : ليس في إختيار أفراد المسلمين للدنيا أو الآخرة موضوعية لسوء عاقبة الذين كفروا .
السادس : إستحضار أسباب نزول آية البحث ، وأن المقصود بالذين يريدون الدنيا هم الرماة من المسلمين يوم أحد الذين تركوا مواضعهم طلباً للغنيمة ، كما يأتي بيانه في أسباب النزول، في الجزء التالي.
وورد في حديث عن ابن عباس قال (وأن الله وعد المؤمنين أن ينصرهم وأنه معهم ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث بعضاً من الناس فكانوا من ورائهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كونوا ههنا ، فَرُدّوا وجهه من نَدَّ مِنَّّا ، وكونوا حرساً لنا قبل ظهورنا . وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه الذين كانوا ، جعلوا من ورائهم .
فقال بعضهم لبعض لما رأوا النساء مصعدات في الجبل ، ورأوا الغنائم انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأدركوا الغنيمة قبل أن تستبقوا إليها .
وقالت طائفة أخرى : بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنثبت مكاننا ، فذلك قوله { منكم من يريد الدنيا } للذين أرادوا الغنيمة { ومنكم من يريد الآخرة } للذين قالوا : نطيع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونثبت مكاننا . فاتوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان فشلاً حين تنازعوا بينهم يقول { وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } كانوا قد رأوا الفتح والغنيمة) ( ).
والمختار هو الثاني والسادس ، إذ يفيد الجمع بين الآيتين التذكير بوقائع الإسلام الأولى ، وتأديب المسلمين بالسعي إلى الآخرة ، وحتى الذي يريد الدنيا فانه يجعلها بلغة إلى الآخرة ، فكما تزيد آية البحث إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا فأنها تأخذ بأيدي المسلمين إلى إرادة الآخرة والسعي إليها.
ويفيد الجمع بين الآيتين السعة والمندوحة للمسلمين لإختيار أمور :
أولاً : طلب المنافع الدنيوية والمصالح الآنية .
ثانياً : السعي للآخرة والإجتهاد في طلب نعيمها .
ثالثاً : إتخاذ الدنيا ومنافعها ومصالحها بلغة للآخرة .
والمراد من آية البحث هو الثاني والثالث أعلاه ، فان المسلمين لا يطلبون الدنيا لذاتها وزينتها ، بدليل ذات الآية نفسها التي تثني عليهم إذ تبدأ بفضل الله على المسلمين , وتختتم بفضله عليهم كما سيأتي في باب ( الصلة بين أول وآخر الآية ).
الثاني : بعث السكينة في نفوس المسلمين بأن طلب الدنيا مباح , وليس محرماً وأن الذين كفروا لم يكتب عليهم اللبث الدائم في النار بسبب طلب وإرادة الدنيا إنما بسبب إصرارهم على الشرك والضلالة بدليل ما ورد في آية السياق بقوله تعالى [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ].
الثالث : ترغيب الناس بالإسلام لما فيه من الإباحة وفضل الله في طلب الدنيا والآخرة.
وعن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غادر رجلاً من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل كنت تدعو الله بشيء؟ قال : نعم ، كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله . ! إذن لا تطيق ذلك ولا تستطيعه ، فهلا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ودعا له فشفاه الله( ).
الرابع : لما أخبرت آية السياق بارادة فريق من المسلمين الدنيا فانه سبحانه يرزقهم الدنيا ونعيمها، ويلطف بهم ليجعلوها بلغة إلى الآخرة.
الخامس : بلحاظ أسباب نزول الآية وأن بعض المسلمين أرادوا أخذ الغنائم بعد أن رأوا هزيمة الكفار , فان الآية تتضمن الوعد الكريم بفتح خزائن الدنيا للمسلمين، وهو الذي تجلى في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فمع قصر المدة بين هجرته إلى المدينة وإلى حين إنتقاله إلى الرفيق الأعلى إحدى عشرة سنة، فقد إنتشر الإسلام، وجاءت الغنائم والمكاسب والزكوات إلى المدينة، وصار المسلمون في أحسن حال .
وهل قوله تعالى[مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا] يفسر بقوله تعالى[وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ]( )، الجواب لا، من جهات:
الأولى : وردت آية السياق بالخطاب للمسلمين بصيغة الثناء والمدح، وصيغة العبودية التي يتصفون بها إذ وعدهم الله وصدق في وعده.
الثانية : تضمنت الآية أعلاه الإنذار لمن يريد حرث وزينة الدنيا بالحرمان من الآخرة، لذا قيل نزلت الآية أعلاه في طائفة من غير المسلمين، ولكنها أعم.
الثالثة : تعلق موضوع آية البحث بمعركة أحد، وإرادة أغلب الرماة الغنائم.
الرابعة : لم تخبر آية البحث بأن الذي يريد الدنيا من المؤمنين يؤته الله منها، نعم أكدت الآية بأن [ َاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ]( )، ليكون من مصاديق فضله تعالى أنه يؤتي المؤمنين من الدنيا ومن الآخرة، ويجعلهم يسخرون الدنيا وعملها للآخرة ونعيمها.
الخامسة : آية البحث معطوفة على قوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، ليكون من معاني لغة الخطاب فيها : منكم أيها المؤمنون من يريد الدنيا) أي أن إرادة المسلمين الدنيا بما هم مؤمنون، مما يدل بأنهم لا يطلبونها لذاتها ومباهجها.
السادسة : تقدير آية البحث منكم من يريد الدنيا مع السلامة من النار لإخبار آية السياق بأنها مأوى الذين كفروا) أما المؤمنون فان إقامتهم في جنة النعيم.
السابعة : من مصاديق قوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] صرف المسلمين عن الدنيا، ومنعهم من الميل إليها واللهث وراء زخرفها، وعن عبد الله بن مسعود: أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أشرب حب الدنيا التاط منها بثلاث: شقاء لا ينفد عناؤه ، وحرص لا يبلغ غناه ، وأمل لا يبلغ منتهاه ( ).
السابعة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين ( ولقد عفا عنكم سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) وفيه وجوه :
الأول : تعدد لغة الكلام في الآيتين مع عائديته إلى الله عز وجل ، فجاء قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]وفي آية البحث بصيغة الغائب والفاعل هو الله , وجاء قوله تعالى [سَنُلْقِي]بصيغة المتكلم والفاعل هو الله أيضاً ، فهو سبحانه قادر على كل شئ بيده مقاليد الأمور ،والقرآن كلامه أنزله من فوق سبع سماوات بآية إعجازية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليستقر في الأرض إلى يوم القيامة من غير أن يطرأ عليه التحريف والتغيير والتبديل ، وهذا الإستقراء من مصاديق الجمع في قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] إذ تكون مصاديق الآية أعلاه على وجوه :
الأول : الخلائق والكائنات التي في السموات ومنها الملائكة .
الثاني : الخلائق والكائنات التي في الأرض ، ومنها الإنس والجن .
الثالث : الخلائق الموجودات والأمور التي تكون في السماء والأرض ، ومنها القرآن الكريم والملائكة الذين ينزلون إلى الأرض بأمر من عند الله , ولقد جعل الله عز وجل الإنسان خليفة بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) .
فهل تشمل خلافة الإنسان القرآن سواء كانت الخلافة خاصة لآدم أو للأنبياء وعلى المعنى المتعدد للخلافة من خلافة الإنسان في الإمتثال للأمر الإلهي ، أو خلافة الناس بعضهم لبعض ، الجواب لا، فالقرآن كلام الله ، فلا خلافة أو سلطان لأحد عليه , ونزل بعد أن غادر آدم والأنبياء السابقين الأرض إلى الرفيق الأعلى ، فالقرآن إمام للناس وسبيل هداية ورشاد ، وكل آية منه حرز لأهل الأرض وصراط مستقيم يقود إلى الإقامة في النعيم الدائم .
نعم يمكن القول بأن الإنسان خليفة في الأرض بالقرآن والوحي والتنزيل .
ومن أسرار القرآن أن الناس عاجزون عن التغيير والتبديل فيما يخبر عنه من الوقائع والأحوال ، فقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] يفيد القطع والحتم بحلول الرعب والفزع والخوف في قلوبهم ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( ).
وتحتمل الصلة بين الآيتين وجوهاً :
الأول : العفو عن المؤمنين سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثاني : ليس من صلة بين موضوع العفو المذكور في آية البحث وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، لإخبار الآية عن تحقق العفو عن المؤمنين فعلاً ، بينما أخبرت آية السياق عن إلقاء الرعب في المستقبل .
الثالث : الملازمة بين الأمرين ، فاذا نال المسلمون العفو فان الله عز وجل يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، وكذا العكس فاذا ألقى الله الرعب في قلوب الذين كفروا فان المسلمين يفوزون بالعفو من عند الله .
الرابع : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا سبب لفوز المؤمنين بالعفو من عند الله .
والمختار هو الأول والرابع إذ يفتح العفو عن المسلمين أسباب الرزق وسبل الفلاح أمامهم ، وفي التنزيل [وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ] ( ) فيكون باباً للألفة ونمو ملكة الأخوة بينهم ، وهو مقدمة وأمارة ودعوة للناس لدخول الإسلام , وترغيب للذين كفروا بالتوبة والإنابة ، ولكن إصرارهم على الكفر ، وبقائهم في مستنقع الشرك يجعلهم في حال فزع وخوف وحسد وغيظ مما أصاب المسلمين من نعمة العفو ، قال تعالى في ذم المنافقين [فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا]( ).
ولقد جعل الله الرعب فتنة للذين حاربوا الإسلام قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ]( )، ويعلم الله مقدار وكم وكيف وأثر الرعب الذي في قلوب الكفار مجتمعين ومتفرقين ، وهل جنس وموضوع الرعب الذي يدخل قلوب الكفار متحد ومتشابه أم أنه مختلف ومتباين كل بحسبه .
الجواب هو الثاني بلحاظ مراتب الكفر والعناد والظلم والتعدي على الإسلام ، والمختار أن الرعب على أقسام :
الأول : الرعب الشخصي الذي يأتي لكل كافر , على نحو مستقل .
الثاني : الرعب النوعي العام الذي يأتي للمشركين مجتمعين .
الثالث : المعنى العام للرعب ، وإجتماع القسمين أعلاه , وبه أصيب وإنهزم المشركون يوم أحد .
الرابع : أنواع وأقسام من الرعب لا يعلمها إلى الله ، فكلما إستحدث الكفار صنفاً من الجحود والكفر إبتلاهم الله بضرب من الرعب .
الخامس : ما يأتي للذين كفروا من الرعب عند مجئ نعمة للمسلمين ، ومنه النصر في المعركة فانه سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا في قادم الإيام .
الثامنة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولقد عفا عنكم ومأواهم النار , وفيه وجوه :
الأول : دعوة المسلمين للإنقطاع إلى الله عز وجل بطلب العفو منه وفيه تنمية لملكة العبودية لله عند المسلمين والمسلمات وجعلهم لا يرجون إلا فضله وعفوه .
الثاني : تأكيد حب الله عز وجل للمسلمين بنيلهم العفو منه سبحانه , ومن رحمة الله عز وجل بالناس في الأرض الإخبار عن تحقق العفو ، وورود آية البحث بصيغة الماضي [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] وليأتي هذا الشطر بذات صيغة التأكيد والماضوية التي إبتدأت بها الآية الكريمة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ].
الثالث : حث المسلمين للعفو والصفح فيما بينهم رجاء الفوز بعفوه سبحانه ، والترغيب بالتجاوز عن الأذى والخطيئة ، وهذا العفو والتجاوز دعوة للناس لدخول الإسلام .
الرابع : يرجو المؤمنون عفو الله ، ويغادرون الدنيا , وهم منقطعون إلى الصلاة ، ودائبون على الإستغفار رجاء أن ينالهم العفو من عند الله عز وجل ، فتفضل وأخبر المسلمين في آية البحث بفوزهم بالعفو من عنده تعالى , ويحتمل وجوهاً :
أولاً : إرادة نيل أهل بدر مرتبة العفو من عند الله عز وجل .
ثانياً : المقصود في الآية الرماة الذي تركوا مواقعهم يوم أحد ، وكانوا سبباً في خسارة المسلمين جولة في المعركة , والحيلولة دون نصرهم النصر المبين .
ثالثاً : إرادة المسلمين الذين إنهزموا يوم أحد ، وصعدوا الجبل وتركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وهو يناديهم بالرجوع إلى المعركة ، ليكون نداؤه هذا حجة إلى يوم القيامة بأنه لم يفر ولم ينهزم من وسط المعركة ، وعدم الفرار هذا من خصال الأنبياء, ويحتمل حال المسلمين في المعركة وجوهاً :
الأول : إنهزام أغلب المسلمين من المعركة , وإن ثبت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه مع عدد قليل من أهل بيته وأصحابه .
الثاني : يدل ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه وسط المعركة على حقيقة , وهي أن المسلمين لم ينهزموا فيها ،لأن الملاك على شخصه الكريم .
الثالث : التفصيل بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلة من أصحابه صبروا في الميدان وأكثرهم إنهزموا .
الرابع : المدار في الأمور على خواتيمها ، وقد رجع المسلمون إلى مواضعهم في الميدان , وإستأنفوا القتال وأزاحوا كفار قريش مع كثرتهم .
والمختار هو الوجه الثاني أعلاه فلم تتحقق هزيمة للمسلمين ، ولم يطاردهم الكفار في ميدان المعركة وخارجه .
ولقد أكرم الله عز وجل الذين خرجوا إلى أحد إذ سماهم المؤمنين وهم يتهيأون للقتال ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) فمن علمه تعالى أن الرماة سيتركون مواضعهم وأن كثيراً من الصحابة سيتركون مواضعهم ، وهو السميع الذي يسمع دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونداءاته , لتبقى تسمية المؤمنين في الآية أعلاه ذات دلالات كريمة منها :
الأولى : تزكية المسلمين الذين شاركوا بمعركة أحد إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهل تشمل التزكية الذين التحقوا بهم فيما بعد , والمؤمنات اللائي شاركن بالقتال ومقدماته مع أنهم ليسوا ممن حضر أول المعركة وبيّن لهم النبي منازلهم الجواب نعم، بلحاظ السنة التقريرية، وإمضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتالهم وكيفيته.
الثانية : تفضل الله عز وجل باصلاح أهل البيت وأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار إلى القتال، والصبر عند المماصعة( )، أي المجالدة بالسيوف: قال الشاعر :
سلي عنّي إذا أختلف العوالي … وجرّدت اللّوامع للمِصاع( ).
الثالثة : إقالة عثرات بعض أصحاب النبي، ومنه آية البحث التي تتضمن فضل الله بالوعد الكريم بالنصر والتجاوز عن التقصير والقصور في المعركة.
الرابعة : إعانة المسلمين بالمدد والعون من وجوه:
أولاً : المدد السماوي، ونزول الملائكة من السماء.
ثانياً : نزول آيات القرآن التي تحث المؤمنين على الصبر والجهاد، وتبشرهم بالنصر، ومنها آية البحث.
ثالثاً : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، وهو مدد غيري للمؤمنين، ومقدمة لمدد آخر.
الخامسة : تفضل الله بتدارك حال الخوف والجبن عند المسلمين، ومنه ظهوره من مراتب النية والهم النفسي إلى عالم الفعل بدليل قوله تعالى بخصوص يوم أحد[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ).
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد يوم الجمعة بعد الصلاة , وجعل المؤمنين ميمنة وميسرة وقلباً، ورماة يوم السبت أول النهار فان قلت ظاهر معنى الآية أعلاه عدم وجود فترة بين خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيته وبين جعلهم في مواضعهم.
والجواب من وجوه:
الأول : ليس من فترة بين خروج النبي من بيته وبين توجهه إلى أحد وتعيين مواضع الجيش، كما يقال: رأى الهلال فصام، إنما الصيام بعد طلوع الفجر، ولكن لأنه ليس في الليل صيام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم الوصال، وهو صيام يومين والليلة التي بينهما، أو صيام ثلاثة أيام والليلتين اللتين بينها، كما يقال تزوج فولد له لإرادة أنه ليس بين الزواج والولادة إلا تسعة أشهر ونحوها مدة الحمل.
الثاني : بيان قبول وإمتثال الصحابة من المهاجرين والأنصار للخروج إلى أحد بقصد القتال والذب عن الإسلام , وهم لم يزالوا في المدينة وبين أهليهم، ولم يستأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء، ولم تأت نساؤهم لدعوتهم للعودة للبيوت والإمتناع عن الخروج.
الثالث : في الآية حجة على رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول والذين رجعوا وإنخزلوا وسط الطريق، قال ابن إسحاق: حَتّى إذَا كَانُوا بِالشّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ ، انْخَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابن سَلُولَ بِثُلُثِ النّاسِ .
وَقَالَ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ وَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ يَا قَوْمِ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ أَلّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيّكُمْ عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ عَدُوّهِمْ فَقَالُوا : لَوْ نَعْلَمُ أَنّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ وَلَكِنّا لَا نَرَى أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ .
فَلَمّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ , قَالَ أَبْعَدَكُمْ اللّهُ أَعْدَاءَ اللّهِ فَسَيُغْنِي اللّهُ عَنْكُمْ نَبِيّهُ ( ).
الرابع : شكر الله عز وجل للمسلمين على إستجابتهم لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخروج للقتال من غير تردد أو إمهال.
الخامس : كشف الآية لحقيقة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ بتهيئة أصحابه لمواضعهم وهم في المسجد النبوي , ولم يخرجوا من المدينة بعد كما لو عين الأمراء وسلم الرايات، ليستمر جعل وتعيين مواضعهم إلى حين ما قبل إبتداء المعركة.
السادس : إرادة بعث والفزع في قلوب الذين كفروا بانتشار المسلمين في مواضعهم ومنازلهم حال وصولهم إلى أحد من غير إرباك أو إبطاء أو إختلاف، ليكون تعيين مواضع قتال المسلمين وهم في المدينة وفي الطريق إلى أحد من مصاديق آية السياق[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
السابع : تقريب النصر، والتطلع إلى فضل الله بانجاز وعده، وثقة المسلمين بوعد الله وحسن توكلهم عليه، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
الثامن : تأهيل المسلمين للقتال ساعة وصولهم إلى أحد، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ القتال، إنما يعظ القوم ويدعوهم إلى التوحيد.
وفيه دروس في الإمامة والقيادة في المعركة من وجوه:
الأول : تهيئة أذهان المسلمين للقتال.
الثاني : إلقاء السكينة في نفوس المسلمين.
الثالث : منع مباغتة العدو للمسلمين، والإجهاز عليهم.
الرابع : إكتشاف الثغرات والنقص الذي قد يحدث , وتداركه قبل وقوع المعركة.
الخامس : منع الجدل والإحتجاج بين المؤمنين، فلا تحتج طائفة أو جماعة على موضعها في المعركة.
السادس : معرفة الجنود والمقاتلين لمواضعهم، ومن يكون قريباً منهم ويجاورهم في القتال، للتعاون بينهم، ومنع مكر وحيلة العدو بالإندساس بين المؤمنين.
فيمن عليه وعليهم بالعودة إلى ساحة القتال لتشتد المعركة ويتناجى كفار قريش بالإنسحاب خائبين .
رابعاً : إرادة جميع الذي إشتركوا في معركة أحد من المسلمين وعددهم نحو سبعمائة .
خامساً : المقصود عموم الذين لبوا نداء النبوة أول الأمر وخرجوا إلى أحد , ومنهم الذين إنخزلوا وإنسحبوا وسط الطريق مع رأس النفاق عبد بن أبي سلول , بلحاظ خروجهم بصبغة الإيمان , وإلحاقهم بالمؤمنين في الاسم والتبعية , كما في إلحاق إبليس وهو من الجن بالملائكة في قوله تعالى[وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ]( ).
سادساً : المراد جميع المهاجرين والأنصار , ومنهم القاعدون من ذوي الأعذار والذين غابوا عن المدينة ساعة الخروج إلى المعركة، وإذن الله عز وجل لذوي الأعذار بالقعود ، قال تعالى [لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ] ( ).
سابعاً : إرادة جميع المسلمين والمسلمات أيام معركة بدر وأحد لتكون الخسارة الكبيرة التي تعرض لها المسلمون يوم أحد ووقوع سبعين شهيداً منهم سبباً لمواساتهم بالعفو عنهم جميعاً .
ثامناً : المقصود عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة الموجود منهم والمعدوم أوان نزول آية البحث .
والمختار هو السادس أعلاه ويلحق بهم جميع المسلمين والمسلمات بلحاظ خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]إذ تدل هذه الخاتمة المباركة على رزق الله المسلمين العفو وزيادة ، فليس من حصر لفضل الله في موضوعه ومصاديقه وأوانه ومكانه وهو شامل للدنيا والآخرة .
وبالإسناد عن ابن ماجد الحنفي قال (جاء رجل بابن أخ له إلى عبد الله أي ابن مسعود فقال : إني وجدت هذا سكران قال عبد الله ترتروه ومزمزوه واستنكهوه قال : فترتر ومزمز واستنكه فوجد منه ريح الشراب فأمر به عبد الله إلى السجن ثم أخرجه من الغد ثم أمر بسوط فدقت ثمرته حتى أحنت له مخففة ثم قال للجلاد : اجلد وارجع يدك واعط كل ذي عضو حقه فضربه ضربا غير مبرح وجعله في قباء وسراويل أو قميص وسراويل ثم قال : بئس لعمر الله والي التيم ما أدبت فأحسنت الأدب ولا سترت الخزية .
فقال : يا أبا عبد الرحمن إنه ابن أخي أجد له من اللوعة ما أجد لولدي فقال عبد الله :
إن الله عز و جل يحب العفو ولا ينبغي لوال أن يؤتي بحد إلا أقامه , ثم أنشأ يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , قال : إن أول رجل من المسلمين قطع من الأنصار أو في الأنصار فقيل : يا رسول الله هذا سرق : فكأنما سف في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرماد , فقال بعضهم : يا رسول الله شق عليك ؟ قال : وما يسعني وأنتم أعوان الشيطان على صاحبكم , فقال إن الله عز وجل عفو يحب العفو ولا ينبغي لوال أن يؤتى بحد إلا أقامه ثم قرأ { وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم })( ) .
فلم تقل الآية ( ويعفو عنكم )بلحاظ أن الآية ذكرت تنازع المسلمين في الأمر ومعصية الرسول وإرادة شطر منهم الدنيا ، فمع كل هذا أختتمت آية البحث بأمرين وهما :
الأول : العفو العام من عند الله عن المؤمنين .
الثاني : بيان عظيم فضل الله على المسلمين ، فلا تقف أفراد الفضل عند العفو ، وليكون من معاني الآية أن العفو عن المسلمين مقدمة لتوالي النعم الإلهية عليهم .
ومن رحمة الله عز وجل إخبار آية السياق عن قذف الرعب في قلوب الذين كفروا بصيغة الإستقبال [ سنلقي ] والسين أعلاه وإن كانت تفيد المستقبل القريب ولكن بعض مصاديق الفعل المضارع المجرد أقرب منه ، كما لو قالت الآية ( نلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) وفيه رحمة بالكفار بامهالهم وتهيئة أذهانهم لهذا الرعب فقد يأتيهم ويملأ قلوبهم على العناد والتكبر ، فجاءت آية السياق [سنلقي ] لتحذيرهم وزجرهم من جهات :
الأولى : الحتم والقطع بأن الرعب سيدخل قلوبهم .
الثانية : تحدي الذين كفروا بعجزهم عن دفع الرعب عن نفوسهم أو المنع من ظهوره في أقوالهم وأفعالهم .
الثالثة : دعوة المسلمين لترقب تجلي معنى الرعب والفزع على سلوك الذين كفروا , وهذا الرعب من مصاديق خاتمة آية البحث ، لما فيه من التخفيف عن المؤمنين بارباك العدو ، وكف أيديهم ، ويكون تقدير قوله تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ] ( ) أي بإلقاء الرعب في قلوبهم ، وإصابتهم بالخور والجبن .
التاسعة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولقد عفا عنكم وبئس مثوى الظالمين .
لقد أخبرت آية البحث عن صدق الله عز وجل الوعد للمسلمين بالنصر والغلبة والتمكين ، وصيرورة كفتهم هي الإرجح في القتال ، لذا قال الله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) .
ولكن شطراً من المسلمين أصابهم الخور والجبن وإنهزموا من وسط الميدان ، مع بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيه ليكون حجة ودعوة لهم للصبر والمصابرة .
وجعل بعضهم هّمه في الغنائم فانكسر المسلمون ، فكان الجزاء من عند الله حاضراً وهو العفو عنهم وإبتداء صفحة مشرقة من جديد من تأريخ الإسلام وسط الميدان ، ويبين تأريخ الدول والملل أن أغلب صفحات التأريخ ترتسم وسط ميدان المعركة ويحدد الميدان سنخية الدولة وشخص الحاكم لسنوات قد تمتد إلى مئات السنين, وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ]( ).
ليكون صدق وعد للمؤمنين عزاً لهم , وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ذلاً لهم .
فكان نصر المسلمين يوم أحد من نوع آخر لم تشهد له الإنسانية مثيلاً وهو العفو من عند الله عن المؤمنين ، وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، ومن الشواهد على قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وفي هذا العفو دعوة للمسلمين للإستعداد للمعارك القادمة مع المشركين بالسلامة والتنزيه من أدران حب الدنيا وجعل الغنائم غاية بذاتها .
وجاء العفو للمسلمين حالاً وبصيغة الماضي [عَفَا عَنْكُمْ] التي تدل على الوقوع والثبات والقطع ، بينما ذكرت آية السياق الذين كفروا بالوعيد والتخويف والإخبار عن سوء عاقبتهم يوم القيامة لبيان التضاد بين المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فان المؤمنين فازوا بالعفو من عند الله , بينما يتولى الله بنفسه إلقاء الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا .
وأما في الآخرة فان المسلمين في النعيم ويتلقون فضل الله عز وجل بينما جاءت خاتمة آية السياق لذم الذين كفروا وتبكيتهم لسوء عاقبتهم ، وظلمهم لأنفسهم بالبقاء على الكفر والجحود مع توالي معجزات النبوة ونزول آيات القرآن ، وكل آية منها معجزة إذ تبين وجوب عبادة الله وحرمة الشرك والإصرار على الكفر ، وعن قتادة قال (وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : إن الله أمرني أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله) ( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين البشارة للمؤمنين بالأمن من الوعيد والعذاب في الآخرة , لأن العفو من عند الله بشارة ، وهل قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]من عهد الله للمؤمنين , الجوا ب المراد من العهد الوعد في المستقبل , وفي التنزيل [وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ] ( ).
ولكن آية البحث أخبرت عن تحقق العفو وحصول محو الذنوب وهو يختص العفو بالقصور والتقصير في معركة أحد مما ذكرته آية البحث من الغش والجبن والتنازع والمعصية , الجواب لا ، فمتعلق العفو أعم موضوعاً وحكماً , ليكون حسرة في نفوس الظالمين .
والمختار أن المسلمين لم ينهزموا يوم أحد ، ولكنهم لم ينتصروا مثلما إنتصروا يوم بدر ، وسيأتي في باب أسباب النزول قول ابن عباس (ما نصر الله نبيه في موطن كما نصر يوم أحد فانكروا) ( ).
العشرون : تقدير الجمع بين الآيتين (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ومأواهم النار ) ، وفيه وجوه :
الأول : إرادة المسلمين في لغة الخطاب في آية البحث ، وما تدل عليه من معاني القرب ، وذكر آية السياق الذين كفروا بلغة الغائب [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ] ودلالته على بعد الكافرين عن منهاج الصراط ، وفي هذا التباين دعوة للناس للإيمان وبعث للنفرة في نفوسهم من مفاهيم الكفر .
الثاني : من فضل الله عز وجل على المسلمين مصاحبة السكينة لهم , وعدم مغادرتها لهم في أي حال من الأحوال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) لتكون هذه السكينة زينة وسلاحاً عند المسلمين , وليتصف خروجهم للناس بصبغة التقوى وسنن الهداية , ومنها الإخبار بالملازمة بين الكفر واللبث الدائم في النار .
وهل يحتاج الذين كفروا وجود السكينة عند المسلمين وتغشيها لهم في المساجد والأسواق والبيوت أم أنها وبال على الذين كفروا وسبب لإلقاء الرعب في قلوبهم .
الجواب لا تعارض بين الأمرين أعلاه ، وتلك معجزة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن تكون الرحمة التي تنزل على المؤمنين إنذاراً للذين كفروا ودعوة لهم للتوبة والإنابة .
الثالث : لقد ترك أغلب الرماة مواقعهم حينما رأوا نصر المسلمين وأمارات إنهزام الذين كفروا ، كما إستصحب المؤمنون النصر يوم بدر وحضور الملائكة يومئذ فتعجل الرماة في ترك مواضعهم وتنادوا : الغنيمة .. الغنيمة .
مما سبب مجئ الكفار من وراء جيش المسلمين ، فحدث الفشل والجبن والإنكسار , ولا يزيد ما لاقاه المسلمون من الفشل والخسارة ونحوها الذين كفروا إلا إثماً تكون عاقبته إقامتهم في النار ، وفيه نكتة وهي منع الذين كفروا يوم أحد وما بعده من الفرح والغبطة مما قد يحققون من النصر والغلبة في جولة أو معركة لأن الأمور بخواتيمها .
معنى [وَبِئْسَ مَثْوَى]
وبئس في قوله تعالى [وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] فعل ماض جامد يفيد معنى الذم والتبكيت , وقد يليه فاعل معرف بأل الجنسية أو تدخل عليها اللام كما في قوله تعالى [وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( )وقد تلحق بها (ما) كما في قوله تعالى [وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ] ( ).
ويلحق ببئس في الذم (لا حبذا )تقول : لا حبذا الغيبة , مركب من (لا) النافية التي تتقدم الفعل (حب) وهو فعل ماض جامد و(ذا) اسم إشارة في محل رفع فاعله ، والغيبة مخصوص بالذم ويقابله في المدح (حبذا) وجمعهما الشاعر :
أَلاَ حَبَّذَا عَاذِرِى فِي الَهَوى … وَلاَ حَبَّذَا الْجَاهِلُ العَاذِلُ( )
ويرد ضد بئس لإنشاء المدح والثناء (نعم ) وقد أثنى الله عز وجل على المتقين وحسن ثوابه لهم وإقامتهم في الجنة بقوله تعالى [فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]( ) .
ويفيد الجمع بين الآيتين أعلاه وقوله تعالى [وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) أموراً :
الأول : الحتم والقطع بقيام عالم الحساب .
الثاني : يكون الملاك وتعيين المقامات يوم القيامة على سنخية العمل في الحياة الدنيا .
الثالث : الجمع أعلاه مصداق لآية البحث التي تتضمن الإطلاق في صدق وعد الله للمؤمنين بنجاتهم .
الرابع : قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]ثناء على المسلمين ، إذ أن موارد ومعاني الثناء أعم من أن تختص بها بعض الألفاظ ويأتي بفضل الله عز وجل ، ومنه إخبار القرآن عن عفو الله عن المسلمين وقد أثنى الله عز وجل على موسى وأمره أن يظهر معجزته بقوله تعالى [وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِي] ( ) قيل خرجت كأنها مصباح .
الخامس : يتلاقى المؤمنون والكافرون في ميدان المعركة وتقع القتلى من الطرفين ، وتتغشى الجراحات شطراً من كل فريق منهم ،
ويحسون بحرارة السيف ومرارة القتال في الحياة الدنيا , وكأنهم في حال واحدة من الأذى والضرر ، فجاءت كل من آية البحث والسياق لنسخ ونقض حال التساوي هذه ، وبيان المائز والتضاد بين المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة .
المسألة العشرون : من الإعجاز في الجمع بين الآيتين تقديم آية السياق لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا والإخبار بأن الله عز وجل هو الذي يلقيه في قلوبهم ، مما يدل عدم وقوع الخطأ أو الإشتباه في تعيين مواضع الرعب ، فلا يدخل الرعب في قلب مؤمن وإن كان يخفي إيمانه ، وقد خرج بعض الشباب المسلم مع أهل مكة إلى المعركة على نحو الإكراه من قبل آبائهم فهل يشملهم إلقاء الرعب هذا , فيه وجوه :
الأول : إرادة العموم وشمول هؤلاء المسلمين الذين يخفون إيمانهم ، لأن الرعب يأتي للكفار على نحو العموم المجموعي في ساحة المعركة , ويكون على جهات :
الأولى : يأتي هؤلاء الشباب رعب بذات مرتبة ودرجة الذين كفروا ، قال تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] ( ).
الثانية : الرعب الذي قذفه الله في قلوب هؤلاء الشباب أقل درجة ومرتبة من الرعب الذي يأتي للكفار ، لبيان قبح خروجهم مع الكفار، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا] ( ) قال ابن إسحاق (فيمن قتل يوم بدر مع المشركين، ممن كان مسلما ولكنه خرج معهم تقية منهم، لأنه كان فيهم مضطهدا قد فتنوه عن إسلامه، جماعة منهم: الحارث بن زمعة بن الاسود، وأبو قيس بن الفاكه، [ وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ] وعلى بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج.
قال: وفيهم نزل قوله تعالى: ” إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم.
قالوا: كنا مستضعفين في الارض.
قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها.
فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) ( ) .
وفيه تحذير وموعظة لمن بقى من المؤمنين في مكة ، إذ أنهم خرجوا بعدها ، وسعت قريش في فتنتهم وإيذائهم .
الثالثة : يقذف الله عز وجل مسمى الرعب وصرف الطبيعة منه في قلوب المسلمين الذين خرجوا مع الذين كفروا ليكون هذا الرعب خالياً من الفزع والهلع .
الثاني : لا يقذف الله عز وجل الرعب في قلوب المسلمين الذين كانوا مع الكفار .
الثالث : يترشح الرعب على هؤلاء المسلمين مما يصيب الذين كفروا من الرعب الشديد .
والمختار هو الثاني لأن الآية وردت بخصوص الذين كفروا وهناك فرق بين سوء العاقبة الذي تحذر منه الآية أعلاه من سورة البقرة وبين موضوع آية السياق لأن الرعب فيها يختص بالذين كفروا ، بل يشمت المسلم الذي يكون مع الذين كفروا بما يلاقونه ويذكرهم بآيات الله .
وقد نزلت آية السياق أوان معركة أحد , وقد قام المهاجرون بمكاتبة المسلمين الذين تخلفوا في مكة وحثوهم على الخروج وواجهوا أذى قريش وأصروا على الخروج وإقتتلوا مع المشركين ، وقتل بعضهم .
والقدر المتيقن من الآية هو إختصاص الرعب بالذين كفروا ، ليكون المؤمن الذي بين ظهرانيهم بذاته دعوة لهم للتوبة والإنابة وإدراك المائز بين الإيمان والكفر , وأن الكفر لا يجلب إلا الرعب والفزع والخوف ويجعل حياة الإنسان بؤساً وشقاءً مكتسباً ، قال تعالى [ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] ( ).
لقد ترك الذين كفروا علة خلقهم وأعرضوا عما يجب عليهم من طاعة الله فاشتروا الرعب بدل الأمن ، وحل الخوف في قلوبهم محل السكينة , وقد يستحب الكافر الضلالة والجحود ، كما في قوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ] ( ).
فهل يهوى ويحب الذين كفروا إستقرار الرعب في قلوبهم الجواب لا ، فليس من إنسان يهوى ملازمة الرعب له ، لذا فمن معاني آية السياق أمور :
الأول : إخبار آية السياق عن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بعث للنفرة في نفوسهم من الكفر والضلالة , وإذا كان الشرك يفتقر إلى البرهان والدليل لقوله تعالى [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] فان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برهان للتصديق بنبوته ، وكذا معجزات سائر الأنبياء السابقين وهو من أسباب إصابة الذين كفروا بالرعب والفزع .
الثاني : بيان علة إلقاء الرعب ، وهو إصرار الكفار على الشرك بالله من غير سبب أو دليل ، ترى هل تنحصر علة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا باشراكهم بالله عز وجل , الجواب إنها أعم وذكرت آية السياق الشرك كأصل وسبب بلحاظ باء السببية في [بِمَا أَشْرَكُوا] لأن الشرك أم الكبائر , وفيه وجهان :
أولاً : صيرورة الشرك سبباً لإلقاء الرعب في قلب الكافر ، لا يمنع من أسباب أخرى لقذفه وإلقائه في قلبه .
ثانياً : هناك أسباب أخرى لإلقاء الرعب في قلب الكافر وإكتفت الآية بذكر السبب الأهم وهو الشرك .
الثالث : حدوث أسباب وأمور طارئة غير الشرك تكون سبباً وأمراً أضافياً في مجئ الرعب ، وفيه قذف لأفراد مستحدثة من الرعب في قلوب الذين كفروا .
وفي الآية دعوة لأهل السموات والأرض لمعرفة الذين كفروا بلحاظ ما يملأ نفوسهم من الرعب والفزع والذي يظهر في حال الحرب والسلم والمعاملات وحال اليقظة والمنام ، وهل من الرعب أن يرى الكافر رؤيا تفزعه وتجعله يدرك أنه في خسران مبين الجواب نعم ، وهو من رؤيا الإنذارات , لذا ذكرت الآية أن محل الرعب هي قلوب الذين كفروا .
يوم حنين يوم رعب للكفار
لم يبق النبي بعد الفتح في مكة حيث البيت الحرام ومحل ولادته وأهله ودار الندوة التي أنشاها جده قصي بن كلاب ومجئ القبائل في موسم الحج إلى مكة ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ) بل عاد مع الأنصار إلى دار الهجرة والنصرة في فريدة من فرائد النبوة ، ومعاني الإخلاص والوفاء والشكر للأنصار .
وكان المسلمون عند خروجهم من مكة شاكرين لله عز وجل لآية الفتح والنصر المبين، مع التهيئ للقاء هوازن التي أجمعت أمرها على القتال والجور، وهو من مصاديق خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] وكان الأصل أن تكف القبائل عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : توالي معجزات النبوة .
الثانية : دخول أفراد من كل قبيلة في الإسلام وإختيارهم الهجرة إلى المدينة .
الثالثة : شيوع آيات القرآن , وتلاوة المسلمين لها في كل منتدى وتتضمن إنذار ووعيد الكفار كما في آية السياق , ويتجلى هذا الإنذار بلحاظ الجمع بين الآيتين في هذا المسألة من وجهين :
الأول : الإنذار بقتل الذين كفروا بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
الثاني : الوعيد للذين كفروا باللبث الدائم في النار , بقوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ].
الرابعة : مجئ آية البحث بالوعد الكريم لنصرة المسلمين لقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] ( ).
ولكن هوازن أصرت على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين خلافاً لموازين العقل والتدبر في مجريات الأمور وتوالي المعجزات ، قال ابن إسحاق (وَلَمّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكّةَ ، جَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النّصْرِيّ ، وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلّهَا ، وَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ مُضَرُ وَجُشَمُ كُلّهَا ، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ ، وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ ، وَهُمْ قَلِيلٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ إلّا هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلَا دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ إلّا رَأْيُهُ وَمُعْرِفَتُهُ بِالْحَرْبِ وَكَانَ شُجَاعًا مُجَرّبًا ، وَفِي ثَقِيفٍ سَيّدَانِ لَهُمْ وَفِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَفِي بَنِي مَالِكٍ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ .
وَجِمَاعُ أَمْرِ النّاسِ إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ ، فَلَمّا أَجْمَعَ السّيْرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ سَاقَ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فَلَمّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ اجْتَمَعَ إلَيْهِ النّاسُ وَفِيهِمْ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ .
فَلَمّا نَزَلَ قَالَ بِأَيّ وَادٍ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : بِأَوْطَاسٍ .
قَالَ نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ لَا حَزْنٌ ضِرْسٌ وَلَا سَهْلٌ دَهْسٌ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّبِيّ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟
قَالُوا : سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النّاسِ نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ . قَالَ أَيْنَ مَالِكٌ ؟ قِيلَ هَذَا مَالِكٌ وَدُعِيَ لَهُ .
قَالَ يَا مَالِكُ إنّك قَدْ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِك ، وَإِنّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ قَالَ سُقْتُ مَعَ النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ .
قَالَ وَلِمَ ؟ قَالَ أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وَمَالَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ.
فَقَالَ رَاعِي ضَأْنٍ وَاَللّهِ وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ إنّهَا إنْ كَانَتْ لَك لَمْ يَنْفَعْك إلّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ فُضِحْتَ فِي أَهْلِك وَمَالِك)( ).
وهل جلب رئيس هوازن النساء والأطفال وأحضاره الأموال معهم في المعركة من رشحات الرعب الذي بعثه الله في قلوب الذين كفروا أم أن الرعب أمر لاحق يأتيهم بعد إبتداء المعركة .
الجواب لا تعارض بين الأمرين , وكلاهما من مصاديق آية السياق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) بلحاظ طرو أفراد إضافية من الرعب في قلوب الذين كفروا ساعة المعركة وبعدها ، لذا حاصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الطائف بعد المعركة .
ومن الإعجاز أن يأتي الرعب للذين كفروا بواسطة الملائكة ونزولهم إلى موضع اللقاء , ليكون من بركات فتح البيت الخرام توجه الإنذار السماوي إلى الذين كفروا لعلهم يرجعون إلى رشدهم.
لقد نصر الله عز وجل المسلمين يوم بدر عن قلة وضعف ، وذلة وجاء نصرهم يوم حنين عن كثرة في عدد المسلمين ، إذ كان عددهم أثنى عشر ألفاً ، عشرة آلاف من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين جاءوا معه من المدينة لفتح مكة وألفين من أهل مكة خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقاء هوازن , بينما كان عدد المسلمين يوم معركة بدر ثلاثمائة عشر .
ولم تكن المعركة مفاجئة للمسلمين ، وقد إستعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعث عيناً إلى هوازن هو ابن أبي حدرد فأقام فيهم وسمع منهم عزمهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاء وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبرهم ، قال ابن إسحاق (فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّيْرَ إلَى هَوَازِنَ لِيَلْقَاهُمْ ذُكِرَ لَهُ أَنّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا فَأَرْسَلَ إلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ . فَقَالَ يأ أَبَا أُمَيّةَ أَعِرْنَا سِلَاحَك هَذَا نَلْقَ فِيهِ عَدُوّنَا غَدًا .
فَقَالَ صَفْوَانُ أَغَصْبًا يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ بَلْ عَارِيَةٌ وَمَضْمُونَةٌ حَتّى نُؤَدّيَهَا إلَيْك ، قَالَ لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ فَأَعْطَاهُ مِئَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنْ السّلَاحِ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا ، فَفَعَلَ) ( ).
وإختارت هوازن وقتاً وموضعاً مناسباً للهجوم المباغت وكان رئيسهم مالك بن عوف قد أمرهم أن يهجموا هجمة رجل واحد ، قال ابن إسحاق (ثُمّ قَالَ مَالِكٌ لِلنّاسِ إذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ ثُمّ شُدّوا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ) ( ).
وكما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيناً ، فان رئيس هوازن بعث عيوناً من رجاله ليأتوه بخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجيش المسلمين ، فجاءوه بما يبعث الرعب في قلبه وقلوب هوازن إذ رأوا الملائكة في إنذار ووعيد للكافرين ومصداق لآية السياق ليكون ما يأتي به العين الذي يبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصداقاً لآية البحث , وقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
إذ يتلقى النبي والمؤمنون الأنباء التي تذكرها العين والمخبر بالسكينة وحسن التوكل على الله .
قال ابن أسحاق ( فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ فَقَالَ وَيْلَكُمْ مَا شَأْنُكُمْ ؟ فَقَالُوا رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ , فَوَاَللّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى ، فَوَاَللّهِ مَا رَدّهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيد) ( ) .
وتستنبط منه بلحاظ آية البحث والسياق مسائل :
الأولى : تعدد وكثرة طرق وأسباب ووسائط إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثانية : إشتراك الملائكة بالقاء الرعب في قلوب الذين كفروا.
الثالثة : رأفة الملائكة بالناس جميعاً، إذ أن تجلي رؤيتهم للذين كفروا دعوة لهم لترك قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتحتمل رؤية الذين كفروا لهم وجوهاً :
أولاً : إمكان رؤية الملائكة ساعة نزولهم إلى الأرض من قبل أي إنسان.
ثانياً : الإذن لعيون وجواسيس ثقيف برؤية الملائكة لينقلوا الخبر لهم، ويكون حجة عليهم، وسبباً لإلقاء الرعب في قلوبهم.
ثالثاً : لم ير الذين كفروا الملائكة وهم نازلون بهيئة رجال على خيل بيض إلا باذن الله عز وجل.
والصحيح هو الأخير، فيكون الأول والثاني في طوله , وليس معارضين له , وهو من مصاديق نسبة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى الله بقوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
الرابعة : يأتي الرعب للذين كفروا على نحو حسي ملموس , فلم يتعظوا من المعجزات العقلية وآيات القرآن ، وأسرار الكون ، فيلامس الرعب شغاف قلوبهم في اليقظة والمنام وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ).
إشتراك الجن ببعث الرعب في قلوب الذين كفروا
قد يأتي الرعب عن طريق الجن ، وما يخبرون به ، وكان الركبان أحياناً يسمعون الجن في الفلوات (قالوا: ولما توجه المشركون إلى بدر كان فتيان ممن تخلف عنهم سماراً، يسمرون بذي طوًى في القمر حتى يذهب الليل، يتناشدون الأشعار ويتحدثون، فبينا هم كذلك ليلةً إلى أن سمعوا صوتاً قريباً منهم، ولا يرون القائل، رافعاً صوته يتغنى :
أزار الحنيفيون بدراً مصيبةً … سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أرنت لها صم الجبال وأفزعت … قبائل ما بين الوتير وخيبرا
أجازت جبال الأخشبين وجردت . حرائر يضربن الترائب حسرا
فاستمعوا للصوت فلا يرون أحداً، فخرجوا في طلبه فلا يرون أحداً، فخرجوا فزعين حتى جازوا الحجر فوجدوا مشيخة منهم جبلةً سماراً، فأخبروهم الخبر فقالوا لهم : إن كان ما تقولون حقاً، إن محمداً وأصحابه يسمون الحنيفية وما يعرفون اسم الحنيفية يومئذ.
فما بقي أحدٌ من الفتيان الذين كانوا بذي طوًى إلا وعك، فما مكثوا إلا ليلتين أو ثلاثاً حتى قدم الحيسمان بن حابس الخزاعي بخبر أهل بدر ومن قتل منهم) ( ) .
وهل هؤلاء الجن من المؤمنين أم من الكفار , الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : نقل الجن الخبر نصر المسلمين يوم بدر ، فالمؤمن يظهر الحسنة وما فيه عز الإسلام ، والكافر يخفى الحسنة .
الثانية : إرادة الجن تخويف وإنذار الذين كفروا ، وهو من مصاديق آية السياق ، ويكون تقديرها : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بالجن وإيمانهم للبشر .
الثالثة : يدل هذا الخبر على تفضل الله عز وجل على الجن من وجوه :
أولاً : الإذن للجن بإسماع البشر كلامهم .
ثانياً : قيام الجن بالإخبار عن وقائع بدر ونصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فيها .
ثالثاً : إطلاع الجن على المنافع القطعية كمعركة بدر وأنها بداية وقاعدة الفتوحات .
رابعاً : إشتراك الجن في المصاديق العملية لآية السياق ، بأن يقوموا بالقاء الرعب في قلوب المشركين بعد معركة بدر .
الرابعة : لقد ذكر القرآن إستماع الجن للقرآن ودخولهم الإسلام، قال تعالى [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا] ( ).
وسورة الجن مكية , أي أنها نزلت قبل معركة بدر , وليس فيها ناسخ أو منسوخ .
ويبين هذا الخبر أن الجن أعلنوا اسم الحنيفية للناس , وشهدوا بأن اسم المسلمين الحنيفيون , كصفة ودلالة على التوحيد وتلقيهم الوعد بالنصر من عند الله عز وجل .
الخامسة : شكر الله عز وجل للجن على دخولهم الإسلام ، وجعلهم يقومون بالتخويف والإنذار للمشركين رجاء دخولهم الإسلام .
السادسة : إنه من الشواهد على أن معركة بدر [يوم الفرقان] فقد إشترك في تحقيق النصر فيها .
الأول : الملائكة الذين قاتلوا يوم بدر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( )وهو من مصاديق آية البحث [قَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]وزيادة من فضله ، فلم يكن أكثر المسلمين يعلمون أن الملائكة ينزلون ويقاتلون معهم ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ]( ).
الثاني : دعاء وقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد ولد آدم .
الثالث : إجتهاد المهاجرين والأنصار في القتال وبذلهم الوسع في الإجهاز على الكفار .
الرابع : قيام الجن بالإعلام عن نصر المؤمنين يوم بدر ، بما يكون حجة على الذين كفروا لأنه نوع من علم الغيب بلحاظ سبق الخبر وقبل مجئ الناعية بليلتين أو أكثر وفيه وجوه :
الأول : دعوة قريش للتصديق بنزول القرآن من عند الله عز وجل .
الثاني : إخبار الجن عن مصاديق إلقاء الرعب في قلوب عموم الذين كفروا من جهات :
الأولى : الكفار الذين إشتركوا في القتال في معركة بدر .
الثانية : الذين بقوا في مكة من أبناء وآباء وأصحاب المشركين الذين إشتركوا في القتال .
الثالثة : النساء المشركات من أهل مكة .
الثالث : رأفة الجن الصالحين ببني آدم ودعوتهم للإسلام .
الرابع : بعث اليأس في نفوس الكفار من أصحابهم من الجن والإخبار بأنهم لم يغنوا عن أهلهم يوم بدر شيئاً ، ولم يدفعوا عنهم ولم ينصروهم ، وفي التنزيل حكاية عن الجن الذين إستمعوا إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ القرآن [وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا] ( ).
(عن كردم بن أبي السائب الأنصاري،
قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكّة فآوانا المبيت إلى راعي غنم،
فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي،
فقال : يا عامر الوادي جارك،
فنادى مناد لا نراه يقول : يا سرحان أرسله،
فأتانا الحمل يشتدّ حتّى دخل الغنم،
ولم يصبه كدمة،
قال،
وأنزل الله سبحانه على رسوله بمكة : {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ انسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ})( ) .
ولا دليل على هذا المعنى , إنما ذكرت الآية أعلاه إستعاذة بعضهم بالجن وليس إستجابة الجن لهم .
لقد أشرقت الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصار القرآن هو الحرز والمصاحب للمسلم في حله وترحاله .
(عن معاذ بن جبل قال : ضم إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمر الصدقة ، جعلته في غرفة لي ، فكنت أجد فيه كل يوم نقصاناً ، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال لي : هو عمل الشيطان فأرصده ، فرصدته ليلاً ، فلما ذهب هوى من الليل أقبل على صورة الفيل ، فلما انتهى إلى الباب دخل من خلل الباب على غير صورته ، فدنا من التمر فجعل يلتقمه ، فشددت على ثيابي فتوسطته .
فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، يا عدو الله وثبت إلى تمر الصدقة فأخذته وكانوا أحق به منك ، لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيفضحك – فعاهدني أن لا يعود .
فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فقال : ما فعل أسيرك؟ فقلت : عاهدني أن لا يعود . فقال : إنه عائد فأرصده، فرصدته الليلة الثانية ، فصنع مثل ذلك ، وصنعت مثل ذلك ، فعاهدني أن لا يعود ، فخليت سبيله ، ثم غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته .
فقال : إنه عائد فأرصده ، فَرَصَدْتُهُ الليلة الثالثة فصنع مثل ذلك ، وصنعت مثل ذلك ، فقلت : يا عدو الله عاهدتني مرتين وهذه الثالثة .
فقال : إني ذو عيال وما أتيتك إلا من نصيبين ، ولو أصبت شيئاً دونه ما أتيتك ، ولقد كنا في مدينتكم هذه حتى بعث صاحبكم ، فلما نزلت عليه آيتان انفرتنا منها فوقعنا بنصيبين ، ولا تقرآن في بيت إلا لم يلج فيه الشيطان ثلاثاً ، فإن خليت سبيلي علمتكهما . قلت : نعم . قال : آية الكرسي ، وآخر سورة البقرة { آمن الرسول } إلى آخرها . فخليت سبيله ، ثم غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بما قال . فقال : صدق الخبيث وهو كذوب . قال : فكنت أقرأهما بعد ذلك فلا أجد فيه نقصاناً ) ( ).
الرابع : مجئ الرعب من قبل المشركين أنفسهم وظهور أمارات الفزع والخوف عليهم.
الخامسة : تورية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مقدمات القتال، فاذا أراد غزوة ورّى بغيرها ليعمي الأخبار عن العدو (فيقول مثلا إذا أراد غزوة حنين : كيف طريق نجد ومياهها ومن بها من العدو ونحو ذلك) ( ).
السادسة : الوسائط والآيات الكونية التي يأتي بها الخوف للذين كفروا، قال تعالى [وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا] ( ).
السابعة : إشتراك الملائكة والأرواح القدسية بإلقاء الرعب، وتمثلهم على هيئة البشر لصرف الذين كفروا عن القتال.
وفي معنى مسومين في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
أخرج الطبراني بسند ضعيف قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (مسوّمين) قال : معلمين ، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائمَ سوداً ، ويوم أحد عمائمَ حمراً)( ).
لقد حضر الملائكة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عندما كانوا قلة في العدد والعدة يوم بدر وأحد وحيث كانوا حديثي عهد على القتال وأسلم أكثرهم وهم لا يعلمون أن أمامهم معارك قاسية ، فتفضل الله عز وجل عليهم بالمدد الذي هو سبب لبعث الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا .
وتقدير آية السياق : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بأن [يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
الرابعة : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا رحمة بهم وزجر عن قتالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، إذ رأى رجال هوازن الملائكة وعادوا إلى رئيسهم وقومهم , وعلامات الفزع وشدة الخوف ظاهرة عليهم بما يجعلهم يدركون أن الأمر خارق للعادة ، وأن في البين معجزة ليترائى لهم إنكسارهم وهزيمتهم في المعركة ، ولكن الشرك الذي يتلبسون به ,وحب الدنيا جعل رئيسهم يصر على القتال .
ورؤية عيون هوازن للملائكة شاهد على أن أوان نزولهم يكون على وجوه:
الأول : ينزل الملائكة عند إبتداء المعركة بين المسلمين والكفار .
الثاني : ينزل الملائكة قبل بدء المعركة لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، وإقامة الحجة عليهم (وقد قال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الايام، وكانوا يكونون فيما سواه من الايام عددا ومددا لا يضربون) ( ).
وإذ أختلف في قتال الملائكة في معارك الإسلام التي وقعت بعد معركة أحد، فليس من إختلاف بأنهم يلقون في كل معركة الرعب في قلوب الذين كفروا.
الثالث : نزول الملائكة أثناء المعركة .
الرابع : الأمر الجامع بأن يكون نزولهم على وجوه :
أولاً : ينزل عدد من الملائكة قبل المعركة .
ثانياً : ينزل ملائكة عند إبتداء القتال .
ثالثاً : عند إشتداد القتال يتفضل الله عز وجل ويأذن لطائفة من الملائكة بالنزول كما في نداءات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحثه المسلمين على القتال يوم حنين بعد أن إنهزمت الكتائب الأولى من جيش المسلمين.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثبت في مكانه كما ثبت يوم أحد , فرجع إليه المسلمون كما رجع شطر منهم إليه يوم أحد ، ليكون ثبات وصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان على وجوه :
الأول : بيان قانون وهو أن ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجلبة للنصر.
الثاني : من الوحي ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان، أي أن الله عز وجل لم يأذن له بالإنسحاب.
الثالث : عدم ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضعه في المعركة مع شدة هجوم الذين كفروا مصداق لقذف الرعب في قلوبهم .
وهل يختص الرعب المترشح عن هذه الحال بالذين يشاركون في الهجوم أو في المعركة مطلقاً أم يشمل جميع الذين كفروا، الجواب هو الثاني .
الرابع : لما أخبرت آية البحث عن فشل وخور فريق من المسلمين يوم أحد وتنازعهم في الأمر، تفضل الله سبحانه بثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان، ليكون من مصاديق قوله تعالى في آية البحث[وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] وهو أيضاً مقدمة لهذا العفو.
قال ابن أسحاق (وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبّاسِ عَنْ أَبِيهِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَالَ إنّي لَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ آخِذٌ بِحَكَمَةِ( )، قَالَ وَكُنْتُ امْرَأً جَسِيمًا شَدِيدَ الصّوْتِ.
قَالَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَقُولُ حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنْ النّاسِ أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ فَلَمْ أَرَ النّاسَ يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ.
فَقَالَ يَا عَبّاسُ اُصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَةِ( ).
قَالَ فَأَجَابُوا : لَبّيْكَ لَبّيْكَ قَالَ فَيَذْهَبُ الرّجُلُ لِيُثْنِيَ بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ وَيُخَلّي سَبِيلَهُ فَيَؤُمّ الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حَتّى إذَا اجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ مِئَةٌ اسْتَقْبَلُوا النّاسَ فَاقْتَتَلُوا.
وَكَانَتْ الدّعْوَى أَوّلَ مَا كَانَتْ يَا لَلْأَنْصَارِ . ثُمّ خَلَصَتْ أَخَيْرًا : يَا لَلْخَزْرَجِ . وَكَانُوا صُبْرًا عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَكَائِبِهِ . فَنَظَرَ إلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ فَقَالَ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ) ( ).
ومع أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة بعد الفتح كان للقاء هوازن دفاعاً بعد أن بلغه إصرارهم على القتال والهجوم , فقد تفاجئ المسلمون وهم يسيرون بالهجوم المباغت لهوازن.
كما بينه جابر بن عبد الله في حديثه إذ قال : لَمّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إنّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا ، قَالَ وَفِي عَمَايَةِ الصّبْحِ وَكَانَ الْقَوْمُ . قَدْ سَبَقُونَا إلَى الْوَادِي ، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ وَمَضَايِقِهِ وَقَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيّئُوا وَأَعَدّوا .
فَوَاَللّهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطّونَ إلّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدّوا عَلَيْنَا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَانْشَمَرَ النّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ.
وَانْحَازَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمّ قَالَ أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ هَلُمّوا إلَيّ ، أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ .
قَالَ فَلَا شَيْءَ حَمَلَتْ الْإِبِلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَانْطَلَقَ النّاسُ إلّا أَنّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ)( ).
السادسة عشرة : ولقد صدقكم الله وعده بإلقاء الرعب في قلوب الذين أشركوا بالله.
ليس من حصر لوجوه طاعة الله عز وجل ، فالدنيا مزرعة للآخرة ، ومن فضله أن طاعته لا تختص بالعبادات وقصد القربة فيها ، بل تشمل الإيمان والإحسان وسبل الصلاح وإجتناب المعاصي بلحاظ أن هذا الإجتناب أمر وجودي قائم على العصمة وإرادة الإمتناع والتنزه عن المعصية طاعة لله عز وجل , وكذا ليس من حصر لوجوه المعاصي والسيئات التي يمكن أن يرتكبها الإنسان في الدنيا ، مع أن أيامه ولياليه مملوءة بأسباب الزجر والردع عنها ، نعم أفراد ومصاديق الطاعات أقرب للإنسان من جهات :
الأولى : كثرة عدد الطاعات , وهي أضعاف أفراد المعاصي .
الثانية : قرب الطاعات إلى الإنسان , وإمكان جريانها على اللسان .
الثالثة : تجلي أفراد الطاعات وإتضاح سنن الهداية .
الرابعة : لقد خلق الله عز وجل الإنسان، وجعل عنده العقل فيصلاً للتمييز بين الأمور .
الخامسة : نزول القرآن والكتب السماوية السابقة بالندب إلى فعل الطاعات ، والترغيب فيها ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
السادسة : تفضل الله بتزيين الإيمان , وجعل الإنسان يأنس بفعل الطاعات ، ولعل هذا الأنس من مصاديق تسميته بالإنسان، ومن إسرار نفخ الروح فيه من عند الله عز وجل أنك ترى أي إنسان يميل بفطرته إلى فعل الإحسان وأنه يشعر بالغبطة عند التوفيق لفعله، كما أن هذا الفعل يلقى الرضا والقبول من عند الناس .
وفي تراث وتأريخ كل أمة وشعب شواهد عديدة على الإحسان والإكثار منه ، يتوارثون الثناء على أصحابه ، من غير أن يرموا بالتفريط أو الإسراف.
ولا زال العرب والمسلمون يذكرون كرم حاتم الطائي ويستشهدون به ويكون مشبهاً به في التشبيه والمجاز مع أنه رجل جاهلي ،وأخباره في الكرم كثيرة تدل على السخاء والبذل والسلامة من الشح والبخل , كما أن أبناءه لاقوا الإكرام من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحسنوا إسلامهم .
ولم ينحصر هذا الإكرام بالذكور من أولاده , بل شمل بناته أيضاً ، إذ جلبت خيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفانة بنت حاتم الطائي ضمن سبايا طي ، فجعلت في حظيرة في باب المسجد أي أنها لم تسجن، ولم تقيد ، وكانت ترى الداخل والخارج إلى المسجد ، وتخرج من الحظيرة لتتنقل في المدينة وتعود إليها ، وكان الصحابة من أهل الصفة في مكان مجاور للمسجد .
فمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فقامت إليه وكانت امرأة جزلة فقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد. فقال: ” ومن وافدك ” قالت: عدي بن حاتم. قال: ” الفار من الله ورسوله” ومضى حتى مر ثلاثاً.
قالت: فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه. قالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك.
قال: قد فعلت فلا تعجلي حتى تجدي ثقةً يبلغك بلادك ثم آذنيني. فسألت عن الرجل الذي أشار إلي فقيل : علي بن أبي طالب.
وقدم ركب من بلى فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت : قدم رهطٌ من قومي قالت : وكساني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحملني وأعطاني نفقةً , فخرجت حتى قدمت على أخي، فقال: ” ما ترين في هذا الرجل؟ ” فقلت: أرى أن نلحق به] ( ).
وهل المدار على الكرم الطاغي أم على الإيمان ، الجواب هو الثاني , ويدل الإيمان على سلامة النفس من الشح ، وهو الذي جاءت به آية البحث والسنة النبوية ، أما آية البحث فقد خاطبت المسلمين والمسلمات إذ شكر الله إيمانهم ، وتفضل عليهم بأمرين :
الأول : الوعد الكريم .
الثاني : صدق الوعد , وتنجز موضوعه .
أما من السنة فقد قال النبي لسفانة بعد أن سمع ثناءها على أبيها : لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه .
وهو من جوامع الكلم التي آتاها الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد جرى حوار بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسفانة يبين إنتفاء الحواجز بين الأسرى وبين النبي والإمام والقائد، وهو أمر لم يحدث في التأريخ بالإضافة إلى أن النبي لم يمنع الأسير والسبي من الكلام ، ولم يطلب أصحابه منه الإختصار والإيعاز .
(قال جميل بن زياد النخعي : قال علي بن أبي طالب عليه السلام : يا سبحان الله، ما أزهد كثيراً من الناس في خير! عجباً لرجل يجيئه أخوه المسلم في الحاجة، فلا يرى نفسه للخير أهلاً، فلو كان لا يرجو ثواباً، ولا يخشى عذاباً لكان ينبغي أن يسارع في مكارم الأخلاق، فإنها تدل على سبيل النجاح.
فقام إليه رجل , وقال : فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين، أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : نعم، وما هو خير منه، لما أتي بسبايا طيىء، وقعت جارية حمراء لعساء ذلفاء عيطاء شمّاء الأنف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين، خدلّجة الساقين، لفّاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين، قال: فلما رأيتها أعجبت بها وقلت: لأطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجعلها في قبتي فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها .
فقالت: يا محمد، إن رأيت أن تخلي عنا , ولا تشمت بي أحياء العرب، فإني ابنة سيّد قومي، وإن أبي كان يحمي الذّمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام ويفشي السلام، ولم يردّ طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيىء.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا جارية، هذه صفة المؤمنين حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خلّوا عنها، فإن أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق.
فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول الله، والله يحب مكارم الأخلاق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده لا يدخلن الجنة أحد إلا بحسن الخلق.
وعن عدي بن حاتم قال : قلت: يا رسول الله، إن أبي كان يقري الضيف، ويحب الضيافة وذكر أشياء من مكارم الأخلاق. قال إن أباك أراد أمراً فأدركه. قال سماك: يقول الذكر) ( ).
إن وقوع كبار المشركين وعوائلهم أسرى بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من صدق الوعد الذي ذكرته آية البحث ، ويحتمل صدق الوعد في الآية وجوهاً :
الأول : تعلق موضوع الآية بما تقدم زماناً على نزولها مثل إنتصار المسلمين في معركة بدر .
الثاني : المقصود صدق الوعد من عند الله أوان نزول الآية الكريمة، وهو يوم أحد ، إذ كانت الريح في بداية المعركة للمسلمين ، فأكثر المسلمون في المشركين القتل ، وهو من مصداق قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ].
الثالث : إرادة الكثرة والتعدد في صدق وعد الله عز جل للمسلمين ، وفيه دعوة للعلماء في تعاقبهم وتوارثهم إلى إستقراء أمور :
الأول : تحري مصاديق وعد الله عز وجل للمسلمين , من جهتين :
الأولى : وعد الله عز وجل الذي يتجلى في آيات القرآن على نحو النص أو الظاهر .
الثانية : ما يخبر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عز وجل بالسنة والحديث القدسي.
وهل تدخل رؤيا المؤمنين التي تتضمن معنى الوعد الإلهي للمسلمين فيه وجوه :
أولاً : الرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن في معاني وعد الله خاصة وأن المدار على تحقيق مصداق الرؤيا .
ثانياً : لا تدخل رؤيا المؤمن في معاني وعد الله الذي تذكره آية البحث .
ثالثاً : تدخل هذه الرؤيا بصدق وعد الله، إذا قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتأويلها ، بمعنى أن ذات التأويل من وعد الله والمختار هو الثاني ، خاصة وان آية البحث جاءت بصيغة الخطاب العام للمسلمين[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]مما يدل على أن وعده نازل من عند الله للمسلمين جميعاً. وانهم على معرفة بهذا العلم نعم تأويل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للرؤيا يكون تصديقاً وتأكيداً للوعد وبشارة لتحقق مصداقه .
الثانية : ذكروا إحصاء وعد الله عز وجل للمسلمين بالكتاب والسنة .
الثالثة : بيان قانون من وجوه :
أولاً : تعدد الوعد الإلهي، وهو من مصاديق خاتمة آية البحث[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ].
ثانياً : كثرة المصاديق المنجزة للوعد الإلهي ، فان الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم والمتعدد ، ولا يأتي المصداق منفرداً، وحتى المتحد منه فانه يتصف بالنضارة والتجدد في ذاته وأفراده ومنه آية البحث التي هي بذاتها من صدق وعد الله عز وجل للمسلمين بنزول القرآن وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل، وفي التنزيل[فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ]( ) .
ثالثاً : عدم تأخر مصداق الوعد الإلهي ، فحينما يتفضل الله عز وجل بالوعد يأتي المصداق بعده من غير فترة ، مما يستلزم الشكر لله عز وجل .
رابعاً : تنجز الوعد الإلهي بأحسن وأبهى حلة وكيفية .
الثاني : تنمية ملكة الشكر لله عند المسلمين على نعمة صدق الوعد.
الثالث : بيان آية البحث لموضوع صدق الوعد وهو قوله[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] فهذا الحس وقتل المشركين هو المراد من وعد الله عز وجل في الآيتين، إلا أنه لا يمنع من الإطلاق في صدق الوعد في مواضيع ومسائل أخرى، سواء بذات لفظ آية البحث، أو لأن موضوعها ورد من باب المثال، والشاهد الحاضر.
الرابع : بيان قانون تلقي المسلمين المصداق الفعلي المنجز للوعد الإلهي ساعة الشدة، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، فمن مصاديق الوعد ما يمنع من لحوق الضرر الفادح بالمسلمين، وكذا إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مانع وبرزخ دون الضرر بالمسلمين.
بحث كلامي
من فيوضات النبوة تجلي دلالاتها في شتى العلوم، وظهور التحدي في مضامينها في الميادين المختلفة، وجاءت بلاغة القرآن معجزة ذاتية أبهرت أساطين اللغة، وكان كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحياً وبرزخاً بين كلام الخالق والمخلوق، فلا ترقى إليه بلاغة العرب .
وإستمغ رجالات قريش من المسلمين وغيرهم لكلمات من النبي لم يعهدوها من قبل، وهو بين ظهرانيهم، ولغات ولهجات القبائل العربية كلها عند قريش لأن مكة محل إجتماعهم في موسم الحج وفي غيره، كما في أيام العمرة , وشهر رجب بلحاظ أنه من الأشهر الحرم ومنفرد عن الأشهر الثلاثة الأخرى المتعاقبة، قال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ]( ).
وفي الكلمات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موعظة وعبرة وصارت إرثاً لأجيال المسلمين لتكون صلة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم، ويستنبطون منها المسائل .
فنطق روح القدس بكلمات من جوامع الكلم على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون علماً ومناراً في اللغة والكلام، وشاهداً على إمامته للأمة، ومن الآيات عدم إنحصار الإنتفاع من هذه الكلمات بأهل الجزيرة أو العرب عموماً، فهي ثروة عقائدية للمسلمين والمسلمات الى يوم القيامة، ومنها:
الأول : حمي الوطيس : أي دارت رحى الحرب وإشتد الضّراب، قالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما ثاب المسلمون وعادوا للقتال يوم حنين.
والوطيس : التنور ، والوطيس (أي الضِّرَابُ، من قَوْلهم: وَطَسْته أيْ ضَرَبْتَه. وكُلُ شَيْءٍ وَطَسْتَه فقد كَسَرْتَه) ( ) (قال ابن دريد: ومن الألفاظ التي لم تُسْمع من عربيٍّ قبله قوله: لا يَنْتَطح فيها عَنْزَان، وقوله: الآن حَمي الوَطيس) ( ).
لقد إنتصر المسلمون إنتصاراً عظيماً في معركة بدر، وسيبقى في كل زمان شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مصداق لقوله تعالى في آية البحث[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]( ).
وبعد إنقضاء معركة بدر جاء البشير إلى المدينة بعثه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر والغلبة، ودخل الناعية إلى مكة يرثي ساداتها الذين خروا صرعى في معركة بدر.
وكانت واقعة بدر يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة النبوية، أي لم تمض مدة سنتين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة فقد خرج الأنصار والمهاجرون معه للقتال مع أن بيعة العقبة لم تتضمن خروج الأنصار للقتال، ولكنها معجزات النبوة التي تبعث على التفاني في سبيل الله.
ومن الآيات أن جميع المهاجرين والأنصار رأوا إصرار المشركين على القتال، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينو قتالهم، وليس من سبب للقتال.
وموضوع معركة بدر هو قافلة أبي سفيان، إذ بلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمجئ العير محملة بالبضائع فاراد المهاجرون أخذ أموالهم التي تركوها في مكة وإستحوذ عليها المشركون أو بدلها.
وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسرعاً مع من حضر من أصحابه بعد أن استنهضهم وندبهم، وليس معهم إلا فرسان، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يتناوبون على ركب بعير واحد وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأبى أن يستمر في الركوب حينما يسأله الإمام علي ومرثد.
وقلة عدد وعدة المسلمين شاهد أن النصر يأتي من عند الله وإن لم تجتمع أسبابه، وتنزل الهزيمة، والذل بالذين كفروا لظلمهم.
لقد أراد الله عز وجل أن يري أجيال المسلمين المتعاقبة مصداقاً جلياً لقوله في آية البحث [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( بَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيّ ، وَعَدِيّ بْنَ أَبِي الزّغْبَاءِ إلَى بَدْرٍ يَتَجَسّسَانِ أَخْبَارَ الْعِيرِ . وَأَمّا أَبُو سُفْيَانَ ، فَإِنّهُ بَلَغَهُ مَخْرَجَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَصْدَهُ إيّاهُ فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيّ إلَى مَكّةَ ، مُسْتَصْرِخًا لِقُرَيْشٍ بِالنّفِيرِ إلَى عِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوهُ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَبَلَغَ الصّرِيخُ أَهْلَ مَكّةَ ، فَنَهَضُوا مُسْرِعِينَ وَأَوْعَبُوا فِي الْخُرُوجِ( ).
وكان مجتمع قريش ذا تنظيم وإنضباط، فبادروا الى الخروج (على الصعب والذلول في تسعمائة وخمسين مقاتلا معهم مائتا فرس يقودونها، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين ( ).
ومن أسباب قيادة الخيل وعدم ركوبها هو تهيئتها للقتال , وعدم إجهادها بالركوب، مما يدل على عزم قريش على القتال على أي حال، وغيّر أبو سفيان طريق القافلة وسار بساحل البحر، وعندما أدرك أنه نجى وإجتاز موضع الخطر، وإطمأن لسلامة العير( )، كتب إلى قريش مرة أخرى: أن أرجعوا فانكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم) .
فحصل خلاف شديد في معسكر قريش وأصر أبو جهل على الزحف وإرادة القتال، فلقى مصرعه يوم بدر، وفيه درس وموعظة للناس بان لا يكونوا رأساً في الكفر ومحاربة النبوة والتنزيل لنزول الرعب على صدور الذين كفروا فلا يستطيعون المطاولة في مزاولة القتال .
ويحتمل موضوع إلقاء الرعب في قلوب المشركين , وهم في الجحفة التي تبعد عن مكة (204 )كم .
ويبدوا أن أبا جهل بعث إلى قبائل العرب يندبهم للحوق بهم ، إذ أنهم همّوا بالرجوع بعد أن إطمأنوا لنجاة القافلة (فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : وَاَللّهِ لَا نَرْجِعُ حَتّى نَقْدَمَ بَدْرًا ، فَنُقِيمَ بِهَا ، وَنُطْعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِنْ الْعَرَبِ ، وَتَخَافُنَا الْعَرَبُ بَعْدَ ذَلِكَ , فَأَشَارَ الْأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْقٍ عَلَيْهِمْ بِالرّجُوعِ فَعَصَوْهُ فَرَجَعَ هُوَ وَبَنُو زُهْرَةَ ، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا زُهْرِيّ فَاغْتَبَطَتْ بَنُو زُهْرَةَ بَعْدُ بِرَأْيِ الْأَخْنَسِ فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مُطَاعًا مُعَظّمًا .
وَأَرَادَتْ بَنُو هَاشِمٍ الرّجُوعَ فَاشْتَدّ عَلَيْهِمْ أَبُو جَهْلٍ وَقَالَ لَا تُفَارِقُنَا هَذِهِ الْعِصَابَةُ حَتّى نَرْجِعَ فَسَارُوا) ( ) وكانوا ينحرون الإبل لإطعام الجيش من حين خرجوا من مكة ، يتولى الإنفاق كبراء قريش ، كل واحد منهم يتكفل يوماً أو أكثر ويذبح وينحر باسمه ، وكان الإطعام :
الأول : حين خرج جيش المشركين من مكة نحر لهم أبو جهل عشراً من الإبل ، فلم يتقدم عليه أحد في النحر والكرم والإطعام في الطريق إلى بدر مما يدل على منزلته في قريش , أو لأنه أكثرهم حماسة للخروج , والثاني هو الأرجح .
الثاني : عندما وصل جيش المشركين إلى عسفان نحر لهم أمية بن خلف تسعاً من الأبل ( ).
الثالث : عندما وصلوا الابواء نحر لهم الأخوان نبيه ومنبه إبنا الحجاج عشراً .
الرابع : نحر العباس بن عبد المطلب عشراً .
الخامس : حينما وصل المشركون إلى ماء بدر نحر أبو البختري العاص بن هشام بن الحارث عشراً , ثم أكلوا من أزوادهم أي مما معهم من المتاع ، ولعله إستعداداً للمعركة , وللتخفيف من الأثقال الشخصية التي معهم , وللحث على القتال , وتحقيق الغلبة والإستحواذ على الغنائم , ولم يعلموا أن سيف الرعب مسلط على قلوبهم وجوارحهم .
وباستثناء العباس بن عبد المطلب فقد قتل يوم بدر الخمسة الآخرين الذين أطعموا الجيش , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ) وكان لقتل كل واحد منهم قصة تحكي الإصرار على الكفر والجحود .
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر بعدم قتل إثنين :
الأول : العباس بن عبد المطلب .
الثاني : أبو البختري العاص( ) (وقال : من لقي أبا البختري فلا يقتله)( ).
وكان أبو البختري ممن نقض الصحيفة التي كتبتها قريش في مقاطعة وحصار بني هاشم , ولم يبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أبا البختري يذكره بما يكرهه.
ولقاه المجذر بن زياد حليف الأنصاري ومعنى المجذر الغليظ ، وكان غليظ الخلق وأسمه عبد الله بن زياد ، فقال المجذر لأبي البختري : يا أبا البختري قد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتلك , أي أننا لا نطلب مبارزتك ولا نريد قتلك.
وفيه آية تدل على تقيد عموم الصحابة بأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في حال الحرب والقتال ، فقد يصعب ضبط حركة أيدي الجنود على السيف وزناد البندقية ، كما في قتل محمد بن طلحة يوم الجمل ، فقد كان كارهاً للخروج مع أبيه عازفاً عن القتال.
وكان يتصف بالتقوى والصلاح فاذا هجم عليه أحد يوم الجمل يقرأ [قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] ( ) .
وقد نهى الإمام علي عليه السلام عن قتله (وقال أبو راشد بن حفص الزهري : أدركت أربعة من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يسمى محمدا، محمد بن علي , ومحمد بن أبي بكر , ومحمد بن طلحة , ومحمد بن سعد بن أبي وقاص .
وقتل محمد بن طلحة يوم الجمل مع أبيه , وكان ميله فيما ذكروا مع الإمام علي بن أبي طالب , وكان قد نهى عن قتله في ذلك اليوم وقال : إياكم وصاحب البرنس.
وروى أن علياً مّر به وهو قتيل يوم الجمل , فقال : هذا السجاد ورب الكعبة هذا الذي قتله بره بأبيه يعني أن أباه أكرهه على الخروج في ذلك اليوم . وكان طلحة قد أمره أن يتقدم للقتال فتقدم ونثل درعه بين رجليه وقام عليها وجعل كلما حمل عليه رجل، قال: نشدتك بحاميم حتى شد عليه رجل فقتله وأنشد يقول :
وأشعث قوام بآيات ربه … قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
ضممت إليه بالقناة قميصه … فخر صريعا لليدين وللفم
على غير ذنب غير أن ليس تابعا .. عليا ومن لا يتبع الحق يظلم
يذكرني حاميم والرمح شاجر . فهلا تلا حاميم قبل التقدم)( ).
لم يسأل صحابة النبي يوم بدر عن سبب إستثناء أبي البختري من القتل , وإن كان سبب إستثناء العباس ظاهراً لأنه عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وحينما سمع أبو البختري خبر إستثنائه من القتل لم يضع سلاحه ويتجنب القتال خاصة وأن الجولة كانت للمسلمين من بداية المعركة وحتى نهايتها ، ولم تكن فيها ريح لقريش كما في يوم أحد ، وكان مع أبي البختري زميل له ، فأصر على سلامة زميله معه ، ولم يطلب إيصالهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليحكم في الأمر , ولم يتخل عن زميله وهو جبارة بن مليحة رجل من بني ليث .
إذ رد أبو البختري على المجذر الذي أخبره بنهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتله (قال : وزميلي , فقال المجذر : لا والله ما نحن بتاركي زميلك ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا بك وحدك، فقال أبو البختري : لا والله إذا لأموتن أنا وهو جميعا لا يتحدث عني قريش بمكة أني تركت زميلي حرصاً على الحياة . فقال له المجذر : إن لم تسلمه قاتلتك , فأبى إلا القتال فلما نازله جعل أبو البختري يرتجز :
لن يسلم ابن حرة زميله … ولا يفارق جزعا أكيله
حتى يموت أو يرى سبيله
وارتجز المجذر “
أنا المجذر وأصلي من بلي … أطعن بالحربة حتى تنثني
ولا يرى مجذرا يفري الفري
فاقتتلا فقتله المجذر ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا القتال فقاتلته فقتلته) ( ).
إن قتل كبار رجالات قريش الذي أطعموا جيش المشركين في مسيرهم إلى معركة بدر سبب لإلقاء الرعب في قلوب أصحاب الأموال من المشركين أن يمتنعوا عن الإنفاق في معصية الله، والإعانة في الحرب على الإسلام .
وجاء قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب , عندما تعرض المسلمون يوم حنين لمحنة عظيمة فقد فاجأهم العدو وهم يسيرون في الوادي فهجمت هجمة رجل واحد على وعلى نحو دفعي ، فانهزمت الكتائب الأولى من المسلمين ومروّا على رسول الله ولم يقفوا .
ولما إجتمع مائة من الأنصار حول النبي إستطاعوا وقف هجوم الآلاف من هوازن وهم مندفعون قد أغراهم إنسحاب مقدمة جيش المسلمين ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صبر وبسالة المسلمين , قال :الأن حمى الوطيس أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب .
ولم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا القول بل أخذ حصيات ورمى بها وجوه الكفار .
ثم قال : إنهزموا ورب محمد ، فملأ التراب عيونهم .
(عن جبير بن مطعم، قال: رأيت قبل هزيمة القوم، والناس يقتتلون، مثل البجاد الاسود قد نزل من السماء مثل النمل الأسود، فلم أشك أنها الملائكة فلم يكن إلا هزيمة القوم) ( ).
ليكون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أنا النبي لا كذب) على وجوه :
الأول : بيان أن هزيمة الكفار يوم حنين بسلاح النبوة .
الثاني : تأكيد المعجزة الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سوح المعارك .
الثالث : إنه من مصاديق آية السياق في إلقاء الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا .
الرابع : تأكيد مصداق لقوله تعالى في آية البحث [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]فمن وعد الله عز وجل نصرته للنبي محمد على كفار هوازن بآية جلية ظاهرة .
الخامس : تبكيت المنافقين والشامتين يوم حنين كما وردت بعض الأخبار بتوثيق ما قالوا مع أنهم في جيش المسلمين.
السادس : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقانون ، وهو سلامة النبي من الهزيمة والإنكسار ، فكما ينزل الوحي على النبي فان النصر يأتيه من عند الله ، قال تعالى في إكرامه وحفظه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ] ( ).
السابع : تأكيد تجدد وإستدامة موضوع قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) .
فصحيح أن الآية أعلاه نزلت يوم بدر ولكن مصاديقها متجددة ، فهي نعمة وباب للنصر والظفر فتحه الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه مثل عصا موسى التي كانت معه فكلما ضرب بها الحجر إنفجر الماء منه ، فكذا بالنسبة للآية أعلاه ورمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل معركة مع المشركين ، فانه رمي من عند الله .
(عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الحصباء وقال : شاهت الوجوه . فانهزمنا ، فذلك قول الله تعالى { وما رميت إذ رميت })( ).
وجاءت بعض الأخبار بأن الآية أعلاه نزلت يوم أحد كما ورد (عن سعيد بن المسيب قال : لما كان يوم أحد أخذ أبي بن خلف يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واعترض رجال من المسلمين لأبي بن خلف ليقتلوه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استأخروا فاستأخروا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حربته في يده ، فرمى بها أبي بن خلف وكسر ضلعاً من أضلاعه ، فرجع أبي بن خلف إلى أصحابه ثقيلاً فاحتملوه حين ولوا قافلين ، فطفقوا يقولون : لا بأس ، فقال أبي حين قالوا له ذلك : والله لو كانت بالناس لقتلتهم ، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله؟ فانطلق به أصحابه ينعشونه حتى مات ببعض الطريق فدفنوه ، قال ابن المسيب : وفي ذلك أنزل الله تعالى { وما رميت إذ رميت . . . } ) ( ).
والمشهور والمختار أن الآية أعلاه نزلت يوم بدر ، ويكون فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر في طوله بلحاظ أن قانون (ولكن الله رمى ) باق عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنتفع منه يوم أحد ويوم حنين ، وفي الوقائع الخاصة واللقاء العام .
الثاني : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين .
من الإعجاز في السنة النبوية أن كل قول من هذه الأقوال له مناسبة ليكون مدرسة وقاعدة كلية ولقد وقع يوم بدر سبعون من المشركين أسرى بيد المسلمين ، وفيه إلقاء للرعب في قلوب الذين كفروا من وجوه :
أولاً : وقوع الأسرى بيد المسلمين نتيجة , وثمرة لإلقاء الله عز وجل الرعب في قلوبهم .
ثانياً : إصابة الكفار بالرعب لكثرة الذين وقعوا منهم أسرى بيد المسلمين .
ثالثاً : رؤية الأسرى لدقة النظم العقائدية والسياسية والإجتماعية في المدينة المنورة مع تأسيس وضع القوانين الكلية التي تحكمها والتي تتجلى بالكتاب والسنة .
ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أظهر الرحمة والرأفة بالأسرى وأطلقهم في أسواق وأزقة المدينة ليكونوا رسلاً للإسلام طوعاً وقهراً .
رابعاً : إعطاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمان لعدد من الأسرى رأفة بهم فعاد بعضهم مع جيش المشركين في معركة أحد فلقى جزاءه .
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ : أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنَ الأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ أَبَا عَزَّةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الْجُمَحِىَّ وَكَانَ شَاعِرًا وَكَانَ قَالَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لي خَمْسَ بَنَاتٍ لَيْسَ لَهُنَّ شَىْءٌ فَتَصَدَّقْ بيى عَلَيْهِنَّ فَفَعَلَ.
وَقَالَ أَبُو عَزَّةَ : أُعْطِيكَ مَوْثِقًا أَنْ لاَ أُقَاتِلَكَ وَلاَ أُكَثِّرَ عَلَيْكَ أَبَدًا فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَلَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أُحُدٍ جَاءَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَقَالَ : اخْرُجْ مَعَنَا.
فَقَالَ : إِنِّى قَدْ أَعْطَيْتُ مُحَمَّدًا مَوْثِقًا أَنْ لاَ أُقَاتِلَهُ. فَضَمِنَ صَفْوَانُ أَنْ يَجْعَلَ بَنَاتِهِ مَعَ بَنَاتِهِ إِنْ قُتِلَ وَإِنْ عَاشَ أَعْطَاهُ مَالاً كَثِيرًا فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى خَرَجَ مَعَ قُرَيْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَأُسِرَ، وَلَمْ يُؤْسَرْ غَيْرُهُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا أُخْرِجْتُ كَرْهًا , وَلِي بَنَاتٌ فَامْنُنْ عَلَي .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : أَيْنَ مَا أَعْطَيْتَنِى مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ , لاَ وَاللَّهِ لاَ تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنَ .
فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم : إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنَ , يَا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ قَدِّمْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ . فَقَدَّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ) ( ).
وعن ابن عمر قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين) ( ) وفسر الحديث على وجوه :
أولاً : لا يعاقب الله المؤمن على ذنبه في الدنيا فيعاقبه في الآخرة، قاله أبو داود.
ثانياً : عدم تثنية العقوبة على المؤمن في ذنب أتاه) ( ).
ثالثاً : إرادة معنى قوله تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( )، واللدغ لغة هو اللسع ، ومنه لدغة الحية .
ومعنى الحديث أن المؤمن يتجنب الأسباب والمقدمات التي جلبت له الأذى والمصيبة ، وهو من الإستعارة لبيان بركات ومنافع الإيمان ، وهو الإحتراز والسلامة من تكرار الأذى , وبيان قانون وهو مصاحبة الإتعاظ للمؤمن فيعتبر مما يصيبه .
وفي الحديث تحذير من السيئات، ودعوة نبوية للمسلمين لعدم العودة إلى الذنب والخطيئة التي يستغفرون منها .
وهل في الحديث بعث للرعب في قلوب الذين كفروا ، الجواب نعم لأنهم يدركون أن المؤمنين في حيطة وحذر من مكرهم وخبثهم، ويبين الحديث أن اللدغ والأذى الذي يأتي للمؤمن يؤجر ويثاب عليه.
وجاء الحديث في معركة أحد ، ليدل في مفهومه على أن الذين كفروا لم يتعظوا مما أصابهم من الضرر، ومن الرعب وهو يملأ قلوبهم، فأصروا على الكفر مع إحساسهم بالرعب والخوف كما في آية السياق، فجاءت آية البحث متعقبة لها لتخبر عن حس وقتل المؤمنين لهم، ليكون الإحساس بالرعب دعوة للكفار للإنزجار.
الثالث : الحرب خدعة .
كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من مشورة أصحابه بخصوص القتال وأوانه والإقامة أو الرحيل، ومع هذا كان إذا أراد غزوة إتخذ التورية , وسأل عن وجهة أخرى ، وكان يبعث العيون على العدو ويقدم الطلائع فان قلت لقد رزق الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الوحي وإنكشاف أحوال العدو فرع منه ، فلماذا يبث العيون ويتابع أخبار عدوه ويبيت الحرس ، ويلبس لأمة الحرب ، وربما ظاهر بين درعين , الجواب من جهات :
الأولى : بيان صفحة الجهاد في تأريخ النبوة .
الثانية : بعث الرعب والخوف في قلوب الذين كفروا .
الثالثة : حث أهل البيت والصحابة على أخذ الحائطة للقتال لعمومات قوله تعالى [ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الرابعة : تنمية ملكة الإستعداد التام والحذر عند المواجهة، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] ( )بلحاظ أن منعة وقوة المقاتل وهو بلبس درعه ويتجهز بلوازم القتال أقوى منه لو جاء أعزلاً أو إكتفى بالسيف وحده.
الخامسة : الشكوى العملية إلى الله عز وجل على القوم الكافرين الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بدل الإستجابة لدعوته .
السادسة : بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين عموماً ممن لم يحضر المعركة لزجره عن التعدي والهجوم ، قال تعالى [فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ] ( ) .
ولفظ الحرب خدعة قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في معركة الخندق ، لما إشتد الأذى على المؤمنين بسبب كثرة الأحزاب وطول مدة الحصار ، قال تعالى في وصف الأحزاب [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ] ( ).
وكان معهم ألف من غطفان عليهم عينية بن حصن الفزاري فجاء نعيم بن مسعود وهو من غطفان (فقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ أَسْلَمْت ، وَإِنّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي ، فَمُرْنِي بِمَا شِئْت ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إنّمَا أَنْت فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، فَخَذّلْ عَنّا إنْ اسْتَطَعْت ، فَإِنّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ , فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا فِي الْجَاهِلِيّةِ .
فَقَالَ يَا بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ عَرَفْتُمْ وُدّي إيّاكُمْ وَخَاصّةً مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالُوا : صَدَقْت ، لَسْت عِنْدَنَا بِمُتّهَمٍ .
فَقَالَ لَهُمْ إنّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ لَيْسُوا كَأَنْتُمْ , الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ فِيهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَحَوّلُوا مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَإِنّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ قَدْ جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَقَدْ ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ وَبَلَدُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ بِغَيْرِهِ فَلَيْسُوا كَأَنْتُمْ فَإِنْ رَأَوْا نُهْزَةً أَصَابُوهَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَحِقُوا بِبِلَادِهِمْ وَخَلّوْا بَيْنَكُمْ خَلَا بِكُمْ , فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ حَتّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ ثِقَةً لَكُمْ عَلَى أَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ مُحَمّدًا حَتّى تُنَاجِزُوهُ فَقَالُوا لَهُ لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ .
ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى قُرَيْشًا ، فَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ : قَدْ عَرَفْتُمْ وُدّي لَكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمّدًا ، وَإِنّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ قَدْ رَأَيْت عَلَيّ حَقّا أَنْ أُبْلِغَكُمُوهُ نُصْحًا لَكُمْ فَاكْتُمُوا عَنّي ؛ فَقَالُوا : نَفْعَلُ قَالَ تَعْلَمُوا أَنّ مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمّدٍ , وَقَدْ أَرْسَلُوا إلَيْهِ إنّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا ، ، فَهَلْ يُرْضِيك أَنْ نَأْخُذَ لَك مِنْ الْقَبِيلَتَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَنُعْطِيكَهُمْ فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ثُمّ نَكُونُ مَعَك عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتّى نَسْتَأْصِلَهُمْ ؟ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ أَنْ نَعَمْ . فَإِنْ بَعَثَتْ إلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ فَلَا تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ مِنْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا .
ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى غَطَفَانَ ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ ، إنّكُمْ أَصْلِي وَعَشِيرَتِي ، وَأَحَبّ النّاسِ إلَيّ وَلَا أَرَاكُمْ تَتّهِمُونِي ؛ قَالُوا : صَدَقْت، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتّهَمٍ , قَالَ فَاكْتُمُوا عَنّي ؛ قَالُوا : نَفْعَلُ فَمَا أَمْرُك، ثُمّ قَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشِ وَحَذّرَهُمْ مَا حَذّرَهُمْ ) ( ).
فدبّ الشك وأسباب الخلاف بين الأحزاب ودخلوا في مناجاة ومباحثات بذات رداء الشك والريب ، وطلب بعضهم من بعض رهناً من أجل الإشتراك بقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضل الله وبعث ريحاً شاتية سريعة شديدة البرد طرحت أبنية قريش وغطفان من حول المدينة ، لتكون هذه الريح من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
ليكون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( الحرب خدعة ) وثيقة سماوية في الأرض تبين إنتصار المسلمين في معركة هي أشد ما واجه المسلمين في تأريخهم ، ومن غير أن يخوض المسلمون القتال والمبارزة أو أن تستباح المدينة المنورة .
ويحتمل مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باصطلاح (الحرب خدعة ) وجوهاً :
أولاً : إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أخذه من الكتب السماوية السابقة .
ثانياً : سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه المقولة من الشعر العربي .
ثالثاً : ولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة حيث تفد القبائل العربية وتتطارح الشعر والنثر في منى ومكة .
رابعاً : نطق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقول (الحرب خدعة) نتيجة التجربة في الميدان .
خامساً : إصطلاح ( الحرب خدعة ) جزء من الوحي .
والصحيح هو الأخير لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : إتخاذ المسلمين كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانوناً في حال الحرب والسلم .
الثانية : إنه من مصاديق تأديب الله عز وجل للمسلمين بالتبعية والواسطة ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ) فيؤدب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بما أدبه الله عز وجل .
الثالثة : إستدامة بعث الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا حتى بعد مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
الرابعة : تلقي المسلمين قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( الحرب خدعة ) كقانون يتغشى ما يخوضونه من المعارك .
الخامسة : إستحضار المسلمين لقول النبي (الحرب خدعة ) عند الدفاع والغزو ، وعند تهيئة مقدمات القتال .
السادسة : بيان مائز يتصف به المسلمون وهو إتخاذهم قانوناً في الحروب والتهيئة لها ، وهو إتصاف الحرب بأنها خدعة .
السابعة : من منافع هذا القول إجتناب المسلمين للقتال ببعث الخوف في قلوب الذين كفروا .
الثامنة : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحرب خدعة من تفسير ومصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
لقد أراد الله عز وجل للسنة النبوية أن تبقى ثروة وكنزاً وبياناً للقرآن وضياء هداية عند المسلمين إلى يوم القيامة لذا جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأبواب مستحدثة من العلوم وألفاظ ليست بالأمثال ولا الحكاية ، إنما هي قوانين تستقرأ منها في كل زمان المسائل والعبر ز
وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم (الحرب خدعة ) تنمية لملكة المباغتة والتقدير وحسن التدبير والمكر الحسن في القتال بما يصيب العدو بالفزع والرعب ، لقد كان عدد جيش المشركين يوم الخندق عشرة آلاف مقاتل من قريش والأحابيش ومن تابعهم من كنانة وأهل تهامة وغطفان وثقيف ، فاراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلامة المؤمنين ، ووقاية المدينة وإرشاد المسلمين في الأجيال اللاحقة بعدم الفزع من كثرة جيش العدو لفقدان علة رجحان الكثرة في القتال بسبب الرعب الذي يلقيه الله عز وجل في قلوبهم ، فيكون الخمسة والستة من الذين كفروا كالفرد الواحد لأن من آثار الرعب الإصابة بالوهن والجبن والخوف ز
وجاءت آية البحث [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]لبيان أن المؤمن يكون أكثر قوة ومنعة بتنجز وعد الله ، وتعدد مصاديق فضله سبحانه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في ساحة المعركة ، ليكون الجمع بين حال الهلع والإرباك عند الذين كفروا ، وحال العز والمنعة عند المسلمين من مصاديق قوله تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) .
ومن مصاديق الضياء والهداية وأسرار الوحي في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (الحرب خدعة ) أمور :
الأول : قلة عدد القتلى والجراحات في صفوف المسلمين .
الثاني : سرعة كسب المسلمين للمعركة .
الثالث : بث اليأس والقنوط في نفوس الذين كفروا .
الرابع : دخول المسلمين المعركة بالخدعة والمكر سبب لزيادة إيمانهم وإيمان الذين من خلفهم من القاعدين والنساء والصبيان ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] ( ).
الخامس : دعوة الناس لدخول الإسلام بالتدبر بخذلان وهزيمة الذين كفروا في معركة بدر وأحد والخندق مع كثرتهم .
السادس : بيان صفحات الإعجاز في الحديث النبوي وفضل الله عز وجل على المسلمين بالسنة القولية .
السابع :دعوة أمراء السرايا لجعل موضوعية للخدعة في القتال إبتداء وإستدامة وخاتمة ، ولا يختص الأمر بالأمراء والقادة بل يشمل عموم المؤمنين في الرأي والمشورة .
وفي معركة بدر حينما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى موضع المعركة نزل على أدنى وأقرب ماء من مياه بدر إلى المدينة، فأشار ( عليه الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح بغير ذلك، وقال يا رسول الله : أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلك الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة فقال عليه السلام : بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
فقال :يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ونغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه، ونشرب ولا يشربون. فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الرأي وفعله؛ وبنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيه، ومشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على موضع الوقعة، فعرض على أصحابه مصارع رؤوس الكفر من قريش مصرعاً مصرعاً، يقول: هذا مصرع فلان، ومصرع فلان، فما عدا واحد منهم مضجعه الذي حده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ).
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما نزل عشياً أدنى ماء من مياه بدر قال: أَشِيرُوا عَلَيّ فِي الْمَنْزِلِ فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا عَالِمٌ بِهَا وَبِقُلُبِهَا ، إنْ رَأَيْتَ أَنْ نَسِيرَ إلَى قُلُبٍ قَدْ عَرَفْنَاهَا ، فَهِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ عَذْبَةٌ فَنَنْزِلَ عَلَيْهَا وَنَسْبِقَ الْقَوْمَ إلَيْهَا وَنُغَوّرَ مَا سِوَاهَا مِنْ الْمِيَاهِ . وَسَارَ الْمُشْرِكُونَ سِرَاعًا يُرِيدُونَ الْمَاءَ ( ).
وقال ابن أسحاق: فحدثت عن رجال من بنى سلمة، أنهم ذكروا أن الحباب ابن منذر بن الجموح قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة ؟
قال: بل هو الرأى والحرب والمكيدة.
قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبنى عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لقد أشرت بالرأى “.
وعن ابن عباس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الاقباص، وجبريل عن يمينه إذا أتاه ملك من الملائكة فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” هو السلام , ومنه السلام وإليه السلام ” فقال الملك: إن الله يقول لك: إن الامر الذى أمرك به الحباب بن المنذر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل هل تعرف هذا، فقال: ما كل أهل السماء أعرف، وإنه لصادق وما هو بشيطان.
فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية. ( ).
وفي معركة الخندق أشار سلمان على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحفر خندق , وقال أنهم كانوا في فارس يحفرونه للدفاع ضد العدو ، فقبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المشورة ، وهذا القبول من الوحي بلحاظ أن أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحفر الخندق من السنة النبوية القولية والفعلية قال الزهري (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سلمان منا أهل البيت) ( ).
ويدل قبول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المشورة من أصحابه على عدم التعارض بينها وبين الوحي، وأن ما وافق الوحي أخذ به، ويؤكد الفارق والمائز بين المؤمنين وبين الذين كفروا الذين يصرون على القتال وعدم قبول المشورة باجتنابه.
ويبعث قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشورة أصحابه الرعب في قلوب الذين كفروا لتسخير الخبرة والتجربة في خدمة الإسلام، ولإظهار أهل البيت والصحابة الإخلاص في الدفاع عن الإسلام.
الرابع : قول النبي صلى الله عليه وآله إياكم وخضراء الدمن) .
وهي المرأة الحسناء في منبت السوء .
وفي بعض وصايا الحكماء في إختيار الزوجة (يا بني، لا تتَّخذها حنانة، ولا مَنَّانة، ولا عُشْبَة الدار، ولا كَيَّةَ القَفا ) ( ) .
وعشبة الدار التي تنبت في دمنتها والهجينة ، وكيّة القفا أي التي يحضر عند زوجها أو إبنها القوم فاذا إنصرفوا عنه , قال أحد (خُبَثاء القوم لأصحابه قد والله كان بَيْني وبيْنَ زوجة هذا المُوَلِيّ أو أُمِّه أمرٌ فتِلْك كَيَّة القَفَا من أجْل أنه يقال في ظَهْر زوْجِها أو إبنها القَبِيحُ حِينَ يُولِّي) ( ) .
نعم قوله هذا ليس بحجة شرعاً ، وهو يلزم إقامة الحد عليه إن كان في الكلام ذكر لفاحشة تستلزم الحد شرعاً ، كما أنه من الغيبة المحرمة ، ويجب على الآخرين زجره , وهذا الزجر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو لا يتعارض مع الوصية أعلاه وقد وردت النصوص بخصال المرأة التي يتم إختيارها للزواج .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يرضى بمثل هذا الكلام ولم يرد عنه لفظ (كَيَّةَ القَفا) إنما حذر من الزواج من منبت السوء .
فقد ورد عن أبي سعيد الخدري (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إياكم وخضراء الدمن ، فقيل : يا رسول الله ، وما خضراء الدمن ؟ قال : المرأة الحسناء في المنبت السوء) ( ).
ليكون الحديث تأديباً وإصلاحاً للمجتمعات، فمن كان يحرص على حسن ذكره وزواج أبنائه وبناته الزواج اللائق والمناسب فليصلح نفسه وبيته ويقيم الفرائض، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إستئصال منبت السوء والبيئة الفاسدة ليكون حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق (بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ( )، لذا جاء الخطاب فيه بصيغة الجمع فلم يقل إياك وخضراء الدمن، بلحاظ الفردية في الزواج، بل لبيان ضرر المجتمع من منبت السوء بالذات والعرض، وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم شكر الناس لله عز وجل على حسن الهيئة وجمال المنظر بالصلاح والعفة فلا غرابة أن يأتي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقله أحد قبله، لأنه تأسيس لمدرسة أخلاقية ودعوة لإصلاح الأسرة التي هي قوام المجتمع والأمة.
وروي في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأصل الدمن ما تلقيه الإبل والغنم من أبعارها وأبوالها ) ( ) تلبوه في مرابضها ، فتنبت زهرة ونبتة ذات منظر أنيق ، فتكون جميلة النظر , ولكنها قبيحة النسب والمخبر.
وفي الحديث زجر للحسناء عن الميل إلى أخلاق البيئة التي نشأت فيها إذا كانت قبيحة، وهو مبحث في علم الإجتماع , إذ يرتكز هذا الزجر على مفهوم الحديث النبوي أعلاه , فصحيح أنه خطاب للأزواج إلا أنه تنبيه وتأديب للمرأة .
وليبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أثر البيئة في أخلاق وسيرة الإنسان .
وهل يدل الحديث على حرمة نكاح خضراء الدمن , الجواب لا ، لأن التكافؤ بالإسلام والنطق بالشهادتين ، إنما ورد الحديث للتنزيه ويحمل على الكراهة , وفيه تأديب وإصلاح للمجتمعات ، وجعل الناس يحرصون على إصلاح بيوتهم وإحاطتها بالعفة والوقار لتفوز بناتهم بالزواج المبارك ، وتحصل لهم الصلات السببية التي تبعث على الفخر.
وقال أبو عبيد: أراه أراد فساد النسب إذا خيف أن تكون لغير رشدة، وهذا مثل حديثه الآخر: تخيروا لنطفكم) ( ).
والحديث أعم من موضوع النسب، وقد تزوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مختلف قبائل العرب وتزوج صفية بنت حي بن أخطب.
لقد إبتدأت آية البحث بقوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] ليكون من معاني هذا الحديث النبوي بيان اللطف الإلهي في السعة في إختيار المسلم لزوجته من جهة الصفة والشرف والصلاح، بلحاظ أن من صدق الوعد الإلهي النصر والغلبة وإزاحة الضعف والإستضعاف عن المسلمين، ويدل عليه قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، فمن التقوى ومن الشكر لله تحصين النفوس والبيوت من السوء والفحشاء بعد تفضل الله عز وجل بنصر المسلمين بمدد ملكوتي من السماء، وإختيار الزوجة الصالحة التي تنمي ملكة التقوى في نفوس الأبناء، وتحارب نشأة الشطط والخطأ في أفعالهم.
ليكون من معاني قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، الذي يتلوه كل مسلم ومسلمة في كل ركعة من الصلوات اليومية الخمسة تهيئة مقدمات الهداية باختيار الزوجة الصالحة لإعداد , وتربية ونشأة الأبناء .
وتجلت موضوعية إيمان وصلاح الزوجة في بدايات الإسلام، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون يخرجون للدفاع والغزو والفتح لتتولى النساء مسؤولية الأسرة، ولم يذكر تأريخ الإسلام لوماً أو مللاً أو ضجراً منهن في هذا الباب، فقد كنّ خير عون في الجهاد .
وقد شاركت بعضهن في الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، عندما إنسحب أكثر أصحابه كما في أم عمارة وهي نسيبة بنت كعب من بني مازن بن النجار الأنصارية، وكانت قد شهدت بيعة العقبة، ثم حضرت معركة أحد وزوجها زيد بن عاصم، وإبناها: حبيب بن زيد، وعبد الله بن زيد وأختها، لتدافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتذب عنه .
ثم قتل مسيلمة الكذاب الحنفي إبنها حبيب صبراً إذ كان يقول له : أتشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فيقول: نعم، فيقول مسيلمة : أفتشهد أني رسول الله : فيجيبه حبيب: لا أسمع ما تقول، فقام بتقطيعه عضواً عضواً، وهو لا يزيد على ما قال له .
وحينما خرج المسلمون لقتال مسيلمة بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى خرجت أم عمارة معهم ( فَبَاشَرَتْ الْحَرْبَ بِنَفْسِهَا . حَتّى قَتَلَ اللّهُ مُسَيْلِمَةَ وَرَجَعَتْ وَبِهَا إثْنَا عَشَرَ جُرْحًا ، مِنْ بَيْنِ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ ( ).
الخامس : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لاينتطح فيها عنزان .
والمناطحة نوع مفاعلة , فيقال: ناطح فلان فلاناً، أي نازله، وتضاربا بالرأس.
وأول من تكلم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبه قال الجاحظ وغيره، وذهب الحديث مثلاً بين الناس , وفيه وجوه :
الأول : المراد من يتحير في الأمر الهين الذي لا يختلف فيه إثنان، لأنه لا يقبل التعدد والنكير.
الثاني : إرادة الأمور ذات الموضوعية والشأن التي لا يجتمع فيها ضعيفان، لأن النطاح خاص بالتيوس والكباش.
الثالث : إرادة الأمور البديهية مع شدتها وغرابتها.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وللحديث سبب وموضوع , وهو غزوة عمير بن عدي الخطمي الذي قصد عصماء بنت مروان لقتلها (وَهِيَ مِنْ بَنِي أُمَيّة بْنِ زَيْدٍ فَلَمّا قُتِلَ أَبُو عَفَكٍ نَافَقَتْ فَذَكَرَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي خَطْمَةَ وَيُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَتْ تَعِيبُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ
بِاسْتِ بَنِي مَالِكٍ وَالنّبِيتِ … وَعَوْفٍ وَبِاسْتِ بَنِي الْخَزْرَجِ
أَطَعْتُمْ أَتَاوِيّ مِنْ غَيْرِكُمْ … فَلَا مِنْ مُرَادٍ وَلَا مَذْحِجِ
تَرْجُونَهُ بَعْدَ قَتْلِ الرّءُوس … كَمَا يُرْتَجَى مَرِقَ الْمُنْضِجِ
أَلَا أَنِفٌ يَبْتَغِي غِرّةً … فَيَقْطَعَ مِنْ أَمَلِ الْمُرْتَجِي
قَالَ فَأَجَابَهَا حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ ، فَقَالَ
بَنُو وَائِلٍ وَبَنُو وَاقِفٍ … وَخَطْمَةَ دُونَ بَنِي الْخَزْرَجِ
مَتَى مَا دَعَتْ سَفَهًا وَيْحَهَا … بِعَوْلَتِهَا وَالْمَنَايَا تَجِي
فَهَزّتْ فَتًى مَاجِدًا عِرْقُهُ … كَرِيمَ الْمُدَاخِلِ وَالْمَخْرَجِ
فَضَرّجَهَا مِنْ نَجُعْ الْدِمَا … ءِ بَعْدَ الْهُدُوّ فَلَمْ يَحْرَجْ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حِين بَلَغَهُ ذَلِكَ أَلَا آخِذٌ لِي مِنْ ابْنَةِ مَرْوَانَ ؟ فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ الْخَطْمِيّ ، وَهُوَ عِنْدَهُ ؟ فَلَمّا أَمْسَى مِنْ تِلْكَ اللّيْلَةَ سَرَى عَلَيْهَا فِي بَيْتِهَا فَقَتَلَهَا ز
ثُمّ أَصْبَحَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ قَتَلْتهَا . فَقَالَ نَصَرْت اللّهَ وَرَسُولَهُ يَا عُمَيْرُ ، فَقَالَ هَلْ عَلَيّ شَيْءٌ مِنْ شَأْنِهَا يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَقَالَ لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ
فَرَجَعَ عُمَيْرٌ إلَى قَوْمِهِ وَبَنُو خَطْمَةَ يَوْمئِذٍ كَثِيرٌ مَوْجُهُمْ فِي شَأْنِ بِنْتِ مَرْوَانَ , وَلَهَا يَوْمئِذٍ بَنُونَ خَمْسَةُ رِجَالٍ فَلَمّا جَاءَهُمْ عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
قَالَ يَا بَنِي خَطْمَةَ أَنَا قَتَلْت ابْنَةَ مَرْوَانَ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمّ لَا تُنْظِرُونَ . فَذَلِكَ الْيَوْمُ أَوّلُ مَا عَزّ الْإِسْلَامُ فِي دَارِ بَنِي خَطْمَةَ وَكَانَ يَسْتَخْفِي بِإِسْلَامِهِمْ فِيهِمْ مَنْ أَسْلَمَ ، وَكَانَ أَوّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي خَطْمَةَ عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ وَهُوَ الّذِي يُدْعَى الْقَارِئَ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ أَوْسِ ، بْنِ ثَابِتٍ ، وَأَسْلَمَ ، يَوْمَ قُتِلَتْ ابْنَةُ مَرْوَانَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي خَطْمَةَ لِمَا رَأَوْا وَخُزَيْمَةُ مِنْ عِزّ الْإِسْلَامِ( ).
وقيل أن عميراً كان ضريراً حين قتلها وإذ دخل عليها في جوف الليل(بيتها وحولها نفر من ولدها نيام منهم من ترضعه في صدرها فجسها بيده , وكان ضرير البصر , ونحى الصبى عنها , ووضع سيفه على صدرها حتى انفذه من ظهرها , ثم صلى الصبح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقتلت ابنة مروان .
قال نعم فهل علي في ذلك من شيء , فقال ” لا ينتطح فيها عنزان ” فكانت هذه الكلمة اول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمّى عميرا اليعمير( ).
والظاهر أن إصابته بالعمى على فرض حصوله إنما هو بعد هذه الواقعة.
لقد أسس النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة في باب إقامة الحجة ومنع الجدال والخصومة والخلاف بين الناس في الأمور العقائدية والعامة.
بحث منطقي
قسم العلم إلى قسمين:
الأول : التصور: وهو حضور الشيء والشكل والصورة في الذهن وهو نوع علم وإدراك للحال الحاصلة للشيء عند العقل.
الثاني : التصديق، وهو حكم الذهن في النسبة بين الأشياء، وصدق الحال أو عدمه.
ومن التصورات ما هو بديهي وواضح لايحتاج إلى إستدلال ونظر وتدبر، كما في الأربعة أكثر من الإثنين , والتباين بين الذكر والأنثى.
وجاءت آية البحث ببيان أمر جلي , وهو نصر المسلمين، وأن هذا النصر مصداق لوعد من عند الله عز وجل.
مما يحكم به الذهن الأحكام البديهية وهي التي يقطع بها العقل من غير حاجة للإستدلال وإستحضار حد وسط والرابط والنسبة كالحكم بالتباين بين الليل والنهار ، وعدم إمكان إجتماعهما في آن واحد ، ومنهم من قسم البديهيات إلى قسمين :
أولاً : البديهي الأولي : وهو الذي يستلزم النظر والإستدلال وتصور صغرى وكبرى ، فيكفي تبين الموضوع والمحمول في الذهن .
ثانياً : البديهي الثانوي : وهو يحتاج إلى إستحضار التجربة وعمل الحواس لمعرفة العلقة بين الموضوع والمحمول وإن يكن محتاجاً إلى بحث عن حد أوسط .
ولكن مثل هذه البديهية تلحق بالإحكام التجريبية التي ترتكز وتستند على البديهيات العقلية الأولية , تلك التي هي مرآة لقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) ليكون من مصاديق الآية أعلاه وقوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( )حضور البديهيات عند الإنسان لإصلاحه للحكم بين الأشياء والتمييز في الأمور وإعانته لبلوغ سبل الهداية وجلب المصلحة ودفع المفسدة ، ومن خصائص البديهية أنها مقدمة لإستنتاج قواعد ونتائج عديدة لذا فان منطوق آية البحث وكل آية قرآنية بديهية من العلوم .
وأصل خلق الإنسان وتعليمه يتقوم على البديهية لأن تعليم الله عز وجل لآدم يتصف بالكمال والتمام والإتقان ، لذا تجلى في الحال عندما قام آدم بتعليم الملائكة الأسماء ، ومن معاني الكمال في هذا التعليم البديهيات وصيرورتها أصلاً للعلوم ووراثة بني آدم التصور الذهني وحضور معنى اللفظ والحال في الذهن كشدة حرارة النار ، وبرودة الثلج مع أن الذهن لا يتأثر بهذه الأحوال ، وما فيها من التضاد ويقابل الأحكام البديهية الأحكام النظرية وهي التي تحتاج إلى غيرها في إستحضارها وإكتساب صورتها ، وقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] من البديهيات من جهات :
الأولى : القرآن حق وصدق , وكل كلمة فيه تنبأ عن بديهية وقانون تترشح عنه علوم ونظريات متعددة , ومنه آية البحث وفيها من معاني البديهي أمور :
الأول : يكرم الله المؤمنين ويعدهم وعداً حسناً .
الثاني : يتفضل الله وينجز الوعد الذي وعد به المؤمنين .
الثالث : توالي النعم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا برسالته وإمتثلوا لما جاء به من عند الله .
وتبين الآية أن كل وعد في القرآن لا بد وأن ينجزه الله للمؤمنين ويدعو قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] إلى أمور :
الأول : إستقراء ما في آيات القرآن من الوعد والعهد , وهو على شعبتين :
الأولى : الوعد الجلي , والذي يأتي بالنص المبين كما في آية البحث .
الثانية : الوعد بالمفهوم والدلالة .
الثاني : التحقيق في بشارات القرآن ومواضيعها .
الثالث : تحقق مصداق الوعد الإلهي للمسلمين ولا يشترط أن يأتي الوعد ومصداقه بذات لفظ الوعد , فقد يأتي بكلمات وصيغ أخرى ، كما في قوله تعالى [سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ] ( )التي نزلت يوم بدر بعد أن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في الدعاء وهو يقول (اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ” ثم التفت وكأن شق وجهه القمر وقال : كأنى أنظر إلى مصارع القوم عشية) ( ).
السادس : من جوامع الكلم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) .
وهو شطر من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (ان هذا الدين متين فاوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا ارضا قطع ولا ظهرا ابقى) ( ).
ويقال للرجل إذا إنقطع به سفره وعطبت راحلته صار مُنبتاً .
وجاء الحديث بخصوص الذي يبالغ في طلب الشيء، ويصر على بلوغ غايته مع قلة وتخلف الأسباب، فالذي يجهد في السفر ويواصل السير في الليل والنهار يتعب نفسه ويهلك راحلته ، فلا يصل إلى غايته ولا يحافظ على راحلته وما يتخذه بلغة.
وهذا الحديث مدرسة للسلامة من الغلو في العبادة والإنقطاع إلى النوافل فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار ويجتهد الإنسان لكسب المعيشة ، وطلب الرزق مع أداء الواجب العبادي .
وبلحاظ آية البحث والسياق يتضمن الحديث مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين إلى الشكر لله عز وجل على نعمة وعده للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولهم وتنجز مصداق الوعد، فقد ينسي السعي المتصل نحو الغايات مع قلة الأسباب الإنسان واجب الشكر.
الثانية : بيان فضل الله عز وجل بالتخفيف عنهم، بالرزق الكريم، ودفع العدو وشروره، وتحقيق النصر والغلبة من غير تهيئة الأسباب اللازمة، كما في معركة بدر إذ نسب الله عز وجل النصر إلى نفسه بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( ).
الثالثة : ليس في الحديث حث على القعود، أو التراخي والفتور، إنما هو يحذر من المبالغة في طلب الشئ سواء كان قضية شخصية أو نوعية.
الرابعة : تأكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن قوانين المشيئة الإلهية تحكم الحياة الدنيا، وما يصيب الأفراد والجماعات.
الخامسة : بيان أن صلاح النفوس يستلزم مواصلة بذل الجهود بصبر وتدبر وحكمة.
السادسة : يتضمن الحديث معنى النهي عن الإفراط والتفريط.
السابعة : تنمية ملكة ذكر الله عند المسلمين وترغيبهم بالدعاء، وجعل موضوعية له في طلب الحاجات، لأنه بلغة لتحصيل الأماني، والغايات الحميدة، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أُلْهِمَ خمسة لم يحرم خمسة ، من ألهم الدعاء لم يحرم الاجابة؛ لأن الله يقول { ادعوني استجب لكم } ومن ألهم التوبة لم يحرم القبول؛ لأن الله يقول { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة؛ لأن الله تعالى يقول { لئن شكرتم لأزيدنكم } ومن ألهم الاستغفار لم يحرم المغفرة؛ لأن الله تعالى يقول { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً } ومن ألهم النفقة لم يحرم الخلف لأن الله تعالى يقول[وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ] ( ) ( ).
الثامنة : بعث الرعب والخوف في قلوب الذين كفروا بما يرون من حسن سمت المسلمين، والتغيير الذي حصل في حياتهم مجتمعين ومتفرقين، وإعتمادهم البصيرة في الإختبار، وعالم القول والفعل، وترك الإلحاح المبغوض.
التاسعة : يبعث سعي المسلمين لنشر الإسلام وثباتهم في أداء الفرائض يبعث الرعب في قلوب الذين كفروا ويرغبّهم في ذات الوقت بدخول الإسلام.
السابع : قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أعطيت جوامع الكلم .
فقد ورد عنه أنه قال (فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون) ( ).
ويمكن إستقراء معنى جوامع الكلم من جهات :
الأولى : إرادة القرآن الكريم ، لان الله عز وجل جعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وفيه دلالة بأن المسلمين والمسلمات ينتفعون الإنتفاع الأمثل من القرآن وآياته .
الثانية : بيان الفرائض العبادية من الصلاة والزكاة والصيام والحج ، لأنها الجامع المشترك لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثالثة : نسخ الشريعة الإسلامية للشرائع السابقة بحيث صارت شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جامعة للأحكام والسنن .
الرابعة : الإخبار عن فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمور :
أولاً : آيات القرآن .
ثانياً : الحديث القدسي .
ثالثاً : السنة القولية المترشحة عن الوحي .
الخامسة : شكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل ، لأن كل كلمة ينطق بها إنما هي وحي وتنزيل .
السادسة : إخبار المسلمين والناس جميعاً بأن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوانين سواء الذي يتعلق بأمور الدنيا , أو يخص الآخرة .
السابعة : إرادة تعدد معاني اللفظ الذي يصدر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه دعوة لعلماء المسلمين للتحقيق في العلوم المستنبطة من القرآن والسنة ، لبيان أن كل جيل من المسلمين يستقرأ علوماً من السنة النبوية تتضمن بيان المسائل المستحدثة وتكون فيها إجابة على الأسئلة المتعلقة بزمانهم من غير نسخ لما أستقرأ منها في الأجيال السابقة.
الثامنة : إستدامة التحدي بالفاظ وكلمات القرآن والسنة الى يوم القيامة، فصحيح أن ألفاظ السنة النبوية القولية لا ترقى إلى مرتبة القرآن الإعجازية إلا أنها فوق كلام البشر، فتتحدى الشعر والنثر، وهو من أسرار عدم مجئ هذا اللفظ قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من معاني قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) أن التعليم على أقسام :
الأول : ما ورد في تعليم آدم الأسماء وتلقيها من عند الله قبلاً ، وعن أبي ذر ( قلت : يا رسول الله أي الأنبياء كان أول ؟ قال : آدم قلت : يا رسول الله ونبي كان؟ قال : نعم . نبي مكلم . قلت : كم كان المرسلون يا رسول الله ؟ قال : ثلثمائة وخمسة عشر . جماً غفيراً ) ( ).
الثاني : التعليم الذي تفضل الله به على الأنبياء في معجزاتهم وما يترشح عنها ، مثل تعليم نوح صنع السفينة وإعانة جبرئيل له , وبناء إبراهيم للبيت الحرام , قال تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ]( ).
الثالث : التعليم الذي رزق الله عز وجل النبي محمداً , ومنه ما جرى على لسانه من السنة القولية ، لتكون هذه الألفاظ التي لم ينطق بها غيره من الشواهد على هذا التعليم .
الرابع : تعليم الناس آيات القرآن ، وكل آية خزينة تفتح أبواباً من العلم ، وضياءً ينير دروب الناس في أمور الدين والدنيا .
الخامس : صيرورة الحياة الدنيا مدرسة لإكتساب العلوم والتزود من التجربة وإتعاظ الإنسان من فعله , وفعل غيره والوجوه أعلاه ليست منفصلة بعضها عن بعض ، إذ أن علوم الأنبياء ثروة للناس ، وكذا آيات القرآن والكتب السماوية السابقة ، لذا فان قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] زجر وموعظة للناس جميعاً , وينتفع منها المسلم من وجوه :
الأول : إتخاذ الآية أعلاه مادة للجدال والإحتجاج .
الثاني : إصابة الكفار بالخوف المتصل مادة لدعوة الناس للإسلام .
الثالث : تلاوة آية السياق سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الرابع : شكر المسلم لله عز وجل على نعمة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الخامس : بيان قانون وهو لو إجتمع عدد من المشركين على المسلم الواحد في الجدال والإحتجاج والخصومة فانهم لا يستطيعون قهره أو إفحامه.
وهل يصح تقدير الآية : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ) الجواب نعم ، إذ ينعدم التكافؤ عند اللقاء بين المؤمنين الذين تتغشاهم السكينة وبين الذين يملأ قلوبهم الرعب ، لذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم) ( ).
التاسعة : بعث السكينة في قلوب المسلمين من جهة إستدامة إعجاز القرآن، ولا تختص هذه السكينة بأيام حياة المؤمن، بل إنه يطمئن إلى تجلي إعجاز القرآن بالمنطوق والمفهوم أيام حياة أبنائه وذريته، ليكون من التركة السماوية في الأرض.
العاشرة : إظهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعبوديته لله عز وجل، وإخباره بأن جوامع الكلم ليست علماً كسبياً، إنما هي علم هبة تفضل الله عز وجل به عليه وعلى الناس.
الحادية عشرة : إخبار النبي بأن جوامع الكلم من مصاديق تفضيله على الأنبياء السابقين، وإبتدأ بها حديثه من بين ستة وجوه للتفضيل بقوله: فضلت على الأنبياء بست :
أعطيت جوامع الكلم ،
ونصرت بالرعب ،
وأحلت لي الغنائم ،
وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ،
وأرسلت إلى الخلق كافة ،
وختم بي النبيون ( ) وفي الحديث مسائل :
الأولى : ترغيب المسلمين بالسنة النبوية ومضامينها .
الثانية : الصدور عن السنة النبوية ، وفيه خير الدنيا والآخرة .
الثالثة : إتخاذ السنة النبوية تفسيراً وبياناً للقرآن .
الرابعة : رجوع المسلمين للقرآن والسنة النبوية لمنع الإختلاف بينهم ، قال تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] ( ).
الخامسة : التحدي بالسنة النبوية ، وبيان شواهد وسبل الهداية فيها , وتلك آية فاذا كانت السنة النبوية موضوعاً للتحدي البلاغي والكلامي .
فمن باب الأولوية القطعية جعل التحدي بالقرآن لأنه أرقى مرتبة من السنة في بلاغته وأسراره وكنوزه ، ولا يتعارض مع هذا المعنى كون القرآن من جوامع الكلم ، لبيان أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، كل فرد منها من خزائن الوحي والعلم اللدني .
وفي الحديث بلحاظ آية البحث والسياق مسائل :
الأولى : تجلي المعجزة على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التجدد والإستمرار ففي كل مرة يتكلم فيها، يذهب كلامه قانوناً وقاعدة، وينفذ إلى القلوب المنكسرة ويبعث على السكينة، وهو من أسباب إصابة الذين كفروا بالفزع والرعب لأنهم يرون ميل الناس إلى حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقيه بالقبول والتدبر.
الثانية : الإخبار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بأن ما يقوله من الكلام، يتدبر فيه الناس، أما المسلمون فيشهدون بأنه وحي وإلهام، وأما غيرهم من الناس فيتدبرون في معاني الحكمة وأسرار النبوة فيه، وأما الذين كفروا فيزدادون غيظاً وحنقاً.
الثالثة : تخويف وإنذار الذين كفروا من جهة أنه إذا أبطئ نزول جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن فان السنة النبوية بيان يومي متصل، ولعله من عمومات قوله تعالى[كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]( )، بأن يصلح الله عز وجل الناس بآيات القرآن وأسباب نزولها، وبالسنة النبوية وملائمتها للوقائع وإجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أسئلة الناس.
الرابعة : لقد تجلت معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانصات المسلمين لكلامه، وتلقيهم له بالعناية والتقديس وإدراك حقيقة أنه وحي نبوي وكنز أنعم الله عز وجل بها على أجيال الناس المتعاقبة مما يجعل الذين كفروا في حال رعب وفزع وخوف من أمور:
الأول : نزول آيات القرآن، والعلوم المترشحة عنها.
الثاني : السنة النبوية وكشفها لأسرار القرآن وإنارتها لدروب الهداية.
الثالث : إستقبال المسلمين والمسلمات جوامع الكلم في السنة النبوية بالقبول والرضا وجعلها مناراً.
الرابع : تعاهد وحفظ المسلمين لآيات القرآن والتدبر في معانيها.
الثانية عشرة : دلالة إطلاق الحديث على عدم حصر موضوع جوامع الكلم باللغة العربية، إذ أنها تشمل الإمامة والفرائض واللغة والفقه والكلام والأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة عشرة : إرادة العموم في كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن معاني جوامع الكلم أن يجيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سائلاً عن مسألة فيكون جوابه حكماً للمسلمين إلى يوم القيامة، أو يخاطب شخصاً فلا يحمل كلامه على قضية عين إلا مع الدليل على التعيين.
لقد حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصعد المنبر في مناسبة وفي غير مناسبة وتلك نعمة عظمى على المسلمين ، وتأتي الوفود من خارج المدينة وتستمع له في مواعظه ونصائحه وصرح المناهج الذي أسسه ليكون مناراً للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، ينطق بالكلمة فتكون حكمة ومثلاً وتجري على ألسنة الركبان , وتكون دعوة لدخول الإسلام , وسبباً لبعث الرعب في قلوب الذين كفروا من جهات :
الأول : تجلي القدسية في مضامين الحديث النبوي .
الثاني : إتصاف الحديث النبوي بالشمول والإستغراق .
الثالث : مناسبة الحديث النبوي للحالة العامة وإنطباقه على الأفراد .
الرابع : إصابة الذين كفروا بالفزع والخوف من عناية الناس بالحديث النبوي وتناقلهم له بالإكرام والإجلال .
الخامس : من معاني جوامع الكلم التي آتاها الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم تغشيها وشمولها للمواضيع المختلفة والأحكام المتعددة ، فهي شاملة لأمور الدين والدنيا , ومصاديق العلم والحكم وتدبير أمور الناس والأخلاق والحلال والحرام .
السادس : جريان كلمات قليلة على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإفادة معاني عديدة ، ومنها ما يتجلى في قادم الزمان .
السابع : من أسرار جوامع الكلم إنقطاع المسلمين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم لجوئهم وأخذهم من غيره ، فهو النبي والإمام ، قال صلى الله عليه وآله وسلم (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ( ).
الثامن : من أسرار جوامع الكلم أنها تبعث الناس للعمل الصالح وترغبهم في أداء الفرائض ، فيبادرون لأدائها بشوق مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم(الصَّوْمُ جُنَّةٌ) ( ) والجنة بضم الجيم الواقية والحصن لبيان أمور :
أولاً : يستر الصوم العبد ، لأنه شاهد على صلاحه .
ثانياً : يقي الصوم الإنسان من فعل المعاصي ، وإرتكاب السيئات يوم الصيام .
ثالثاً : في الصيام تنمية لملكة التقوى ، وإستصحاب الصلاح لما بعد شهر رمضان وهو من معاني جوامع الكلم في أقوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعدد معاني وأفراد الجنة موضوعاً وأفراداً وزماناً .
رابعاً : الصيام واقية وجنة من النار ، وتلك آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن جوامع الكلم في المقام قوله صلى الله عليه وآله وسلم للصائم (للصائم فرحتان يفرح بهما : إذا أفطر فرح ، وإذا لقي ربه فرح بصومه) ( ).
وتدل جوامع الكلم التي آتاها الله رسوله الكريم بلحاظ آية البحث والسياق على وجوه :
الأول : جوامع الكلم من وعد الله للمسلمين بلحاظ أن السنة من الوحي ، وفيه دعوة للمسلمين للتدبر في السنة النبوية وإقتباس المواعظ , وما يدل على الوعد الإلهي فيها ، والإلحاح بالدعاء لصيرورة مسألته واقعاً منجزاً .
الثاني : جوامع الكلم من مصاديق وأفراد تنجز وعد الله للمسلمين ، فتأتي آية قرآنية بالوعد من عند الله ، ويأتي حديث نبوي يكون شاهداً على تحقق هذا الوعد .
الثالث : من أسباب قوله تعالى [تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] جوامع الكلم التي قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : في جوامع الكلم زجر عن إرادة الدنيا ، وبعث للرغبة في الآخرة والسعي إليها إذ قسمت آية البحث المسلمين من جهة القصد والإرادة إلى قسمين :
الأول : الذين يريدون الدنيا .
الثاني : الذين يريدون الآخرة .
ولم تبين الآية الكفة والشطر الأكبر , هل هم الذين يريدون الدنيا أم الذين يريدون الآخرة , ولكن الآية أشارت إليه في خاتمتها بما يرجح ويزيد عدد الذين يريدون الآخرة من جهتين :
الأولى : عفو الله عن المسلمين .
الثانية : بيان فضل الله على المؤمنين .
ويأتي توالي نزول آيات القرآن من عند الله , وصدور جوامع الكلم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليجعل كفة الذين يريدون الآخرة هم الأكثر والأعم الأغلب من المسلمين ، وذات آية البحث [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] ( )زاجر عن حب الدنيا ، ودعوة سماوية للتنزه عن الشهوات واللذات وجعل الغنائم وجمعها هي الغاية .
الخامس : جوامع الكلم من مصاديق خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ].
التاسع : لفظ الزّمارة والمراد الزانية و(عن أبى هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ثمن الكلب ومهر الزمارة)( ) (قال أبو عبيد: ولم أسْمع هذا الحرفَ إلا في الحديث، ولا أدري من أي شيء أُخذ)( ) لبيان حقيقة وهي عجز علماء اللغة عن إدراك أصل اللفظ النبوي مع ظهور معناه وإفادته التبكيت والتوبيخ للزانية وتقبيح شخصها , وليس فعلها وحده .
وقيل بأن من شأن البغي أن ترمز بعينها وحاجبيها بتقديم الراء على الزاي ويأتي بمعنى المغنية( ) وقال ثعلب : الزَّمَّارة هي البَغِىُّ الحسْنَاء والزَّمير : الغلام الجميل( ) .
وكما ورد الحديث بالنهي عن مهر الزمارة فانه ورد بالمعنى الأعم وإرادة الكسب كما ورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم (نهى عن ثمن الكلب وكسب الزمارة) ( ) للتنزه عن الباطل ولعدم معرفة طريق كسبها وتحريم البغاء وتسخير الأمراء في المنكرات (وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بجهد إلا قليل منهم ، والمدينة غالية السعر ، شديدة الجهد ، وفي السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب ، وأما الأنصار منهن أمية وليدة عبد الله بن أبي ، ونسيكة بنت أمية لرجل من الأنصار ، في بغايا من ولائد الأنصار قد رفعت كل امرأة منهن علامة على بابها ليعرف أنها زانية ، وكن من أخصب أهل المدينة وأكثره خيراً ، فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي هم فيه من الجهد ، فاشار بعضهم على بعض لو تزوّجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من فضول أطعامهنَّ .
فقال بعضهم : نستأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتوه , فقالوا : يا رسول الله قد شق علينا الجهد ولا نجد ما نأكل ، وفي السوق بغايا نساء أهل الكتاب وولائدهن وولائد الأنصار يكتسبن لأنفسهن فيصلح لنا أن نتزوّج منهن ، فنصيب من فضول ما يكتسبن ، فإذا وجدنا عنهن غنى تركناهن؟ فأنزل الله[الزَّانِي لاَ يَنكِحُ]( )، فحرم على المؤمنين أن يتزوّجوا الزواني المسافحات العالنات زناهن) ( ).
ويأتي لفظ الزمارة لغة بمعنى الصفارة وما ينفخ فيه ، ومنه المزمار .
وورد عن الإمام علي عليه السلام (قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ضرب الدف , وهب الصنج وصوت الزمارة ) ( ) .
وجاء لفظ الزمارة عن لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من جوامع الكلم ويتضمن الزجر عن إتخاذ الخبائث للكسب .
ومن جوامع الكلم في نهي النبي عن كسب الزمارة دعوة للناس جميعاً للتنزه عن الكسب بواسطة الزنا وإفشائه بين الناس ، فلم يختص حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين والمسلمات بل يشمل الناس جميعاً ليكون إجتناب الزنا مقدمة لدخول الإسلام.
وفي الحديث حجة بأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس جميعاً مما يملي عليهم إقتباس المواعظ وسبل الهداية منها , وهل يلقي هذا الحديث الرعب في قلوب الذين كفروا , الجواب نعم ، لما فيه من نشر لمفاهيم الصلاح في المجتمعات ، وزيادة الناس بصيرة وإدراك قبح الكفر من باب الأولوية , ومن جوامع الكلم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الحلال بين والحرام بين) ( ).
ويبعث الحديث النفرة في نفوس النساء من الزنا ومن الزانية ، وقد تناقص ثم تلاشى عدد الزواني المعلنات وغيرهن في المدينة وفي الأمصار التي فتحها المسلمون ليكون حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عن كسب الزمارة منهاجاً لعمل الأمراء والحكام وتشريعاً وإصلاحاً للنفوس .
لتجتنب ذات الزانية الزنا وتمتنع ، وتدرك قبح المقتضي له, ووجود المانع دونه , والذين يطمعون بالكسب الحرام عن إغواء بعض النساء للزنا ، وجاء الحديث بالإطلاق ليشمل الحرة والأمة ، خصوصاً وانه كانت تكثر الإماء ، وقد يفرط ويتهاون بعضهم في عملها وكسبها ويرضى بأن تفك نفسها من الرق بالكسب الحرام ، فجاء قول النبي من جوامع الكلم لمنع المسلمين من قبول الكسب الحرام عوضاً عن الرق وبدلاً من أجل العتق .
ويبين الحديث مسؤولية الولي والسيد بحسن تربية الإماء ، ووظائف الأب والأم في إصلاح الأولاد ذكرواً وأناثاً والتعفف عن الزنا والمال الذي يأتي منه .
وفي قوله تعالى [وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ] ( ) ذكر أنها (نزلت في معاذة ومُسيكة جاريتي عبد الله بن أُبي المنافق،
كان يكرههما على الزنا بضريبة يأخذ منهما وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية،
يؤاجرون إماءهم،
فلمّا جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه،
وإن يك شرّاً فقد آن لنا أن ندعه،
فأنزل الله سبحانه هذه الآية) ( ).
ونهى النبي عن ثمن الكلب وكسب الزمارة بعث للرعب في قلوب الذين كفروا بغلق باب من أبواب الكسب الحرام عنهم ، ورؤيتهم للناس وهم يتلمسون سبل الصلاح ، ويعزفون عن الحرام وإن كان فيه كسب إذ أن الكافرين يستضعفون الناس ويغرونهم بالأموال ويجعلونهم يغرقون بالحرام وأسباب الضلالة ، فجاء الحديث لحث الناس على إختيار الكسب الحلال وترك الحرام والباطل ، ليكون من باب الأولوية وجوب إختيار الإيمان وترك الكفر والضلالة .
العاشر : لا ترفع عصاك عن أهلك.
ورد عن جبير بن نفير قال: دخلت على أميمة مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , قالت : كنت يوما أفرغ على يديه وهو يتوضأ إذ دخل عليه رجل , فقال : يا رسول الله إني أريد الرجوع إلى أهلي فأوصني بوصية احفظها .
فقال : لا تشركن بالله شيئا وإن قطعت وحرقت بالنار .
ولا تعصين والديك , وإن أمراك أن تخلي من أهلك ودنياك فتخل .
ولا تترك صلاة متعمداً فمن تركها متعمدا برئت منه ذمة الله عز وجل وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
ولا تشربن الخمر فإنها رأس كل خطيئة ولا تزداد في تخوم فإنك تأتي يوم القيامة وعلى عنقك مقدار سبع أرضين ولا تفرن يوم الزحف فإنه من فر يوم الزحف فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير وانفق على أهلك من طولك ولا ترفع عصاك عنهم واخفهم في الله عز وجل ( ).
ويحتمل هذا الحديث وجوهاً:
الأول : إرادة تخويف العيال باشهار العصا.
الثاني : تعليق رب الأسرة السوط ليدرك أفراد الأسرة أنه يضرب المسئ والمقصر منهم.
الثالث : بيان قانون وهو أن الأسرة وحدة قضائية، وفيها شبه محكمة جنائية فيها قاض وهو الأب إذ أنه يحكم ويفصل في أمورها، ويعاقب أحياناً وفق الشريعة لإصلاح أفراد الأسرة، ويتوعد به ويحملهم على أداء الفرائض والخلق الحميد، وإجتناب فعل السيئات والملاك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : مروا الصبيان بالصلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها في عشر سنين ، وفرقوا بينهم في المضاجع( ).
الرابع : التذكير بالعقاب والجزاء .
الخامس : طرد الغفلة عن العيال وجعلهم يستحضرون عالم الحساب والعقاب الأليم لأهل المعاصي والجحود ، لذا أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]فمن خصائصه التذكير بالعقاب الدنيوي والأخروي تأديب العيال للتنزه عن الظلم.
وهو لا يتعارض مع كون الحال لا يحتمل الضرب، أو أن الضرب فيه مشقة، وعسر، أو هناك قوانين وضعية تمنع ضرب الأب لإبنه وتحاسب عليه).
وحتى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم واضربوهم عليها في عشر سنين) لا يكون الضرب إلا بعد النصح والموعظة والترغيب والإنذار من العذاب الأخروي.
وهل يمكن حمل حديث النبي (ولا ترفع عصاك عن أهلك) على نحو القضية الشخصية، أو خصوص زوجة السائل ,الذي سأله وهو يهم بالرجوع إلى أهله في الأعراب، كما لو كانت ناشزاً .
ولأن أهله ليسوا في مجتمع إسلامي يتعاهد الصلاة خمس مرات في اليوم، فيحتاج إلى تخويفهم، الجواب نعم، ليكون الحديث خاصاً بحالات يلائمها التخويف والغلظة.
وقد ورد في القرآن حصر الضرب بالخشية من النشوز، قال تعالى[وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ]( )، وفيه مسائل :
الأولى : إختصاص الضرب بالزوجة الناشز دون الأولاد، نعم إذا وردت السنة بضرب الأولاد مثلاً فتكون لها الحكومة أي التوسعة والتضييق في ذات الحكم، كما في قوله تعالى[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا]( )، فجاءت السنة لتقيد القطع بربع دينار أو أكثر، والمراد من الدينار مثقال ذهب عيار ثماني عشرة حبة.
والمراد من الأهل الزوجة يقال (أَهَل الرجلُ يَأْهِل ويَأْهُلُ أَهْلا وأُهُولا – تَزوَج) ( ) وذكر بعضهم بأنه لا يقال للمرأة (الأهل) وإستدل عليه بقوله تعالى في لوط [فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ] ( )ولكن قد يكون من الإستثناء المتصل، وهو الأرجح وإذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال، بلحاظ أن العذاب نزل بأهل القرية، فذكرت إمرأته دونهم ليكون قرينة على أنها من الأهل .
ويأتي الأهل بمعنى الآل وألف آل منقلبة عن الهاء في أهل .
الثاني : المقصود من الحديث هم العيال والأسرة ، ويكون جامعاً للأولاد والأزواج , ولكنه لا يدل على ضربهم وإيذائهم إنما هو حضور العصا في الصلة بين رب الأسرة وأولاده لبيان المائز الذي يفصله عنهم بما يصلحهم ، ومصداق القيمومة عليهم .
الثالث : موضوع العصا هو الإصلاح وحسن الأخلاق والقدر المتيقن من الحديث إرادة التأديب بالتخويف بالعصا أو ضرب الأولاد عند الضرورة بخصوص الذي يكون في منأى عن جماعة المسلمين ، ويصر على عدم التقيد بالأحكام الشرعية ، وأن يكون الضرب بالمسمى .
وتأتي العصا كناية عن الألفة والإتفاق كما يقال : شق عصا المسلمين أو خرج على الجماعة فيقال خالف عصاهم.
ويقال ألقى فلان عصاه إذا إستقر بموضعه .
قال الشاعر
فألقت عَصاها واستقرّتْ بها النَوى … كما قَرَّ عيناً بالإياب المُسافرُ( )
أما قوله تعالى [وَاضْرِبُوهُنَّ] ففيه وجوه :
أولاً :إختصاص الأمر بالضرب بالزوجة التي يخشى خروجها عن الطاعة وإمتناعها عن واجباتها الزوجية.
ثانياً : لم يأت جواز الضرب إلا بعد مرتبتين .
الأولى : الموعظة لقوله تعالى [فَعِظُوهُنَّ] ( ) وليس من حصر لكيفية وزمان الموعظة، وجهة صدورها ، فمن أسرار صيغة الجمع في الآية أن الموعظة لا تختص بالزوج وحده بل الخطاب موجه للمؤمنين والمؤمنات .
وهل يشمل أبناء ذات الزوجة , الجواب نعم، كما لو كانوا يرغبونها بأداء الوظائف الزوجية، ويبينون ضرر طلاقها إذا تم عليهم.
الثانية : الإعراض عن الزوجية في الفراش بأن يبيت معها الزوج في ذات فراش الزوجية ، ولكنه يدير ظهره عنها ، وهو أمر شاق على الزوج، وفيه درس للزوج من جهات :
الأولى : إنه لا يطيق الصبر عنها مع ما فيها من تقصير ، رجاء الصلاح في قادم الأيام ، فاذا كان لا يطيق إستدامة هجرها في ذات فراش الزوجية فمن باب الأولوية القطعية أنه لا يتحمل مفارقتها بالطلاق .
الثانية : تذكير الزوج بفضل الله عز وجل عليه بالزوجة , وما فيه من أسباب العز والسكينة .
الثالثة : إشعار الزوجة بعدم الرضا عنها بسبب تقصير في النهار وجعلها تتدبر في أمر الفراق ومشقته ، وما فيه من الأذى والضرر .
الرابعة : التقيد بالأمر الإلهي حتى في الفراش .
الخامسة : إرادة طرد النفرة والكدورة، وإيجاد نشر المودة في ساعة الخلوة بين الزوجين ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً] ( )
ثالثاً : يكون الضرب ضرباً خفيفاً غير مبرح ، ولا يترك أثراً وورد في الخبر انها تضرب بالسواك.
والسواك عود من شجر الأراك بطول الإصبع من اليد , فحينما يمسك الزوج يستولي بيده على نصفه , وما يبقى منه ليس له أثر وتأثير .
لقد أراد الله عز وجل أن تكون الأسرة متكاملة في الإصلاح وحسن الأدب لتتغشاهم السعادة، فيخرج أفراد الأسرة إلى المسجد والسوق والمدرسة وقد أصلحوا أنفسهم .
لقد جاء القرآن بالنهي عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات , قال تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] ( ).
ووردت بعض النصوص , وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ينهى عن ضرب الزوجة ، ويبغض الذي يخيف أهله ولا يلقي عصاه .
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لاهلي) ( ) ومن الثابت أن النبي صلى الله عليه وآله وآله وسلم لم يحمل العصا على أهله ولم يضرب أزواجه ، مما يدل على أن الحديث ورد للتأديب كما أنه ينفع رب الآسرة المؤمن من وجوه :
أولاً : تفقه المسلم في أمور الدين , ومعرفته الحلال والحرام .
ثانياً : قيام المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بيته ، ومع أسرته ، ليكون الحديث من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان) ( ).
ثالثاً : طرد الغفلة والتفريط بخصوص الأسرة فقد يقضي المسلم نهاره في العمل فيخرج من الصباح الباكر ولا يعود إلا في الليل فتكون العصا عنوان لحضوره بهيبته بين أفراد الأسرة .
رابعاً : قد يتنزه المسلم عن ضرب أحد أبنائه تأديباً فجاء الحديث للتخويف بالعصا والإذن بالضرب إذا إنحصر الإصلاح به .
خامساً : طلب المسلم الرزق الكريم وإستجابة الدعاء بالعناية بأسرته وحثهم على التقوى وتخويفهم (عن حذيفة بن اليمان، أن النبي صلى الله عليه وآله وآله وسلم قال : “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ) ( ).
وفي حديث لا ترفع عصاك إلقاء للرعب في قلوب الذين كفروا فربما كانوا يأملون إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وإصابة المسلمين بالضعف والوهن والفتور في أداء الفرائض والواجبات والإمتناع عن مواجهة الردة وخوض غمار حروبها ، فتفضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوجه بالخطاب إلى كل مسلم وإلى يوم القيامة بلزوم إصلاح أبنائه وأسرته ، ما داموا صغاراً وبالإمكان تخويفهم بالعصا والضرب ، وهو لا يتعارض مع تخويفهم بعذاب الآخرة , الذي أخبرت عنه آية السياق بالوعيد للذين كفروا وأن [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ].
وهل الحديث من مصاديق آية البحث , الجواب نعم ، وهو من الشكر لله عز وجل وأسباب تعاهد الوعد الإلهي للمسلمين وتنجزه بفضل الله ، وتقدير الآية : ولقد صدقكم الله وعده فاصلحوا بيوتكم وأبناءكم ) وهو من الشواهد بأن الحديث النبوي بيان وتفسير للقرآن .
وهل يصح القول بأن السنة القولية تعضيد للقرآن , الجواب نعم، وهو من أسرار كونها شعبة من الوحي، وذات البيان النبوي للآية القرآنية تعضيد لها في تفسيرها ووضوحها , وعدم الإختلاف في معناها ودلالتها ، وهو من إطلاقات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ومضامين السنة النبوية ترغيب بالقرآن، ودعوة للتمسك به والصدور عنه، ولقد كانت أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رشحة من القرآن، فكلامه وسيرته يذكران بالقرآن ويحث كل منهما المسلمين والناس على العمل بأحكامه وسننه، وهو من أسرار دعوة القرآن للأخذ بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
(عن فاطمة بنت قيس : أن أبا حفص طلقها البتة , وهو غائب فأرسل
إليها وكيله بشعير فسخطته , فقال : والله ما لك علينا( )، من شيء فجاءت رسول الله فذكرت ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أليس لك عليه نفقة،وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال :تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده فإذا حللت فآذنيني قالت : فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له،انكحي أسامة بن زيد فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به)( ).
الثانية : يتضمن الحديث التوسعة في الضرب ، فاذا جاءت الآية بضرب الزوجة عند نشوزها ، فان الحديث يتضمن الإخبار عن جواز ضرب الأبناء عند الإخلال بالواجبات العبادية .
الثالثة : التباين الموضوعي بين الآية القرآنية , والحديث النبوي أعلاه إذ تختص الآية بالمرأة التي تقصد في وظائفها الزوجية ، وتظهر عليها أمارات التخلف عن طاعة الزوج التي جعلها الله عز وجل له، وتستخف بحقه .
الرابعة : تبين الآية القرآنية أعلاه أن المرأة إذا إستجابت للمواعظ كقول الزوج إتقِ الله فلا سبيل له عليها , ولا تصل النوبة إلى الهجران في الفراش وإلى الضرب .
الخامسة : بيان مصداق لقوله تعالى [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] ( ).
السادسة :التخفيف عن السلطات القضائية , وحسم أمور الأسرة في داخلها بما يفيد الإصلاح .
الرؤيا سلاح وبيان
ما من إنسان إلا ويرى في أيام حياته ولياليه رؤيا بشارة وأخرى فيها خوف وحزن، وقد لا يلتفت إلى معناها، ودلالاتها .
وتفضل الله وأنعم على المسلمين بفتح باب الدعاء وصيرورته مقدمة لتثبيت وتنجز مصداق رؤيا البشارة، وسلاحاً لمحو مصداق رؤيا الإنذار والخوف والحزن، فمثلاً يرى الإنسان سقوط أحد أو بعض أسنانه وتأويلها بموت قريب له، ولكن الدعاء يدفع الإنذار ويمحو أو يؤجل المقصود من الرؤيا ويبقى أمره لا يعلمه إلا الله عز وجل لأن الرؤيا جاءت على نحو الإجمال والإبهام، وقابلها الدعاء كالرمية المباركة لقصد موضوع الرؤيا , وهو من مصاديق[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن رحمة الله عز وجل بالناس أن رؤيا البشارات والإنذارات لم تختص بأهل الإيمان بل تأتي للناس جميعاً، وتكون من مصاديق القاء الرعب في قلوب الذين كفروا( )، من جهات :
الأولى : رؤيا الإنذار التي يراها الذين كفروا أنفسهم.
الثانية : الرؤيا التي تراها عوائل ونساء الذين كفروا، فيذكرن الرؤيا وهن لا يعلمن بالمكر الذي يدبرون وسوء العاقبة التي ينتظرون لتكون سبباً لبعث الفزع في نفوسهم , لأن هذه الرؤيا كالمرآة لعلم الغيب.
الثالثة : رؤيا البشارة التي يراها المؤمنون، وهي في مفهومها إنذار للكافرين.
الرابعة : ما يراه الناس ممن ليسوا طرفاً في القتال، ولا غاية لهم فيه , ويقومون بقص رؤياهم , ليكونوا حجة على الذين كفروا, وباعثاً للرعب في قلوبهم , وتكون ذات الرؤيا حجة على أصحابها لما فيها من الدعوة للإسلام .
ورأت عاتكة عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في مكة رؤيا ها لها أمرها قبل وقوع معركة بدر بأيام، لتكون زاجراً لهم ومانعاً من القتال .
قال ابن إسحاق : فأخبرني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قالا وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب فقالت له يا اخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد افظعتني وتخوفت
ان يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم عنى ما احدثك فقال لها وما رأيت قالت رأيت راكبا اقبل على بعير له حتى وقف بالابطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث.
فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينا هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس ابى قبيس فصرخ بمثلها ثم اخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقى بيت من بيوت مكة ولا دار الا دخلتها منه فلقة.
قال العباس والله ان هذا لرؤيا( ), وأنت فاكتميها ولا تذكريها.
ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبة ابن ربيعة وكان صديقا له فذكرها له واستكتمه اياها فذكرها الوليد لابيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش.
قال العباس فغدوت لاطوف بالبيت وابو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة فلما رأني أبو جهل قال يا ابا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل الينا فلما فرغت اقبلت حتى جلست معهم .
فقال لى أبو جهل يا بنى عبدالمطلب متى حدثت فيكم هذه النبية قال .
قلت وما ذاك قال ذاك الرؤيا التى رأت عاتكة قال فقلت وما رأت قال يا بنى عبدالمطلب .
اما رضيتم ان تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم قد زعمت عاتكة في رؤياها انه قال انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فان يك حقا ما تقول فسيكون وان تقضى الثلاث ولم يكن من ذلك شئ نكتب عليكم كتابا انكم اكذب اهل بيت في العرب.
قال العباس فوالله ما كان مني إليه كبير الا اني جحدت ذلك وانكرت ان تكون رأت شيئا.
وعند ابن عقبة في هذا الخبر ان العباس قال لابي جهل هل انت منته فان الكذب فيك وفى اهل بيتك , فقال من حضرهما ما كنت يا ابا الفضل جهولا ولا خرفا.
وكذلك قال ابن عائذ وزاد فقال له العباس مهلا يا مصفر أسته، ولقى العباس من عاتكة اذى شديدا حين افشى من حديثها( ).
رجع إلى خبر ابن اسحق: قال ثم تفرقنا فلما امسيت لم تبق امرأة من بنى عبد المطلب الا اتتنى فقالت اقررتم لهذا الفاسق الخبيث ان يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء , وانت تسمع ثم لم تكن عندك غير لشئ مما سمعت قال فقلت قد والله فعلت ما كان منى إليه من كبير وايم الله لا تعرضن له فان عاد لاكفيكنه.
قال فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وانا حديد مغضب أرى انى قد فاتني منه امر احب ان ادركه منه قال فدخلت المسجد فرأيته فوالله انى لامشى نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأوقع به وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر قال إذ خرج نحو باب المسجد يشتد قال قلت في نفسي ماله لعنه الله أ كل هذا فرق منى ان أشاتمه .
قال فإذا هو قد سمع ما لم اسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه.
وهو يقول يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة اموالكم مع ابى سفيان قد عرض لها محمد في اصحابه لا أرى ان تدركوها الغوث الغوث.
قال فشغلني عنه وشغله عنى ما جاء من الامر فتجهز الناس سراعا وقالوا يظن محمد واصحابه ان تكون كعير ابن الحضرمي كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين اما خارج واما باعث مكانه رجلا وأوعبت قريش , فلم يتخلف من اشرافها احد الا ان ابا لهب ابن عبدالمطلب قد تخلف وبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلس بها فاستأجره بها على ان يجزي عنه بعثه فخرج عنه وتخلف أبو لهب.
قال ابن عقبة وابن عائذ خرجوا في خمسين وتسعمائة مقاتل وساقوا مائة فرس( ).
ترى لماذا جاءت رؤيا الإنذار لعاتكة بنت عبد المطلب، الجواب من وجوه:
الأول : دعوة نساء قريش للحيلولة دون خروج رجال قريش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إقامة الحجة على النساء بأن سكوتهن من بين أسباب سقوط رجالات قريش بين قتيل وأسير يوم بدر.
الثالث : بيان منزلة المرأة في مجتمعات قريش، ويدل عليه أن خديجة زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت تعمل بالتجارة والمضاربة.
الرابع : حث نساء قريش على دخول الإسلام، والتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله وآله وسلم.
الخامس : صيرورة رؤيا عاتكة وتحقق مصداقها يوم بدر سبباً لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا.
السادس : في هذه الرؤيا رد على كفار قريش الذين قاطعوا بني هاشم وحاصروهم في شعب ابي طالب .
السابع : بعث الرعب في قلوب نساء الكافرين ليصبحن سببا وآلة لنهيهم عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن : لقد بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً الى الناس جميعاً، ومنهم النساء، فرؤيا عاتكة دعوة للنساء لدخول الإسلام.
التاسع : ملأ قلوب اللائي كفرن بالرعب والفزع، لأن قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( )، عام وشامل للرجال والنساء من الكفار، إنما وردت الآية أعلاه بلغة التذكير، لتغليب المذكر على المؤنث.
العاشر : بعث السكينة في نفوس المؤمنين، وأهل البيت خاصة رجالاً ونساءً لما لاقوه من أذى قريش .
من تأريخ النبوة بلحاظ آية البحث
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا ( دار الوحي والتنزيل) فلا يفارق التنزيل الوجود الإنساني فيها ، فقد كان آدم عليه السلام نبياً كلمه الله من غير واسطة إذ خاطب الله عز وجل آدم [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
ومن فضل الله أنه إذا أنعم على عبد نعمة فانه أكرم من أن يرفعها ، فحينما هبط آدم إلى الأرض إستمر الوحي إليه , ومنه أحاديث الحج وبناء البيت الحرام من قبل جبرئيل وآدم وحواء بآية من الوحي .
ومن أسرار الخلافة والإمامة في خلق آدم عليه السلام أن الله خلقه من قبضة من مجموع الأرض لينفخ فيه الروح في الجنة , ويكون آية للبشر والملائكة والخلائق كلها ، ثم إنتقلت النبوة بعده لإبنه شيث , ومعناه هبة الله وأنزلت عليه الصحف .
وفي حديث أبي ذر (قلت : يا رسول الله ، كم الأنبياء ؟ .
قال : مائة ألف وعشرون ألفا قلت : يا رسول الله ، كم الرسل من ذلك ؟ ، قال : ثلاث مائة وثلاثة عشر جما غفيرا ، قال : قلت : يا رسول الله ، من كان أولهم ؟ ، قال : آدم .
قلت : يا رسول الله ، أنبي مرسل ؟ ، قال : نعم ، خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وكلمه قبلا ثم ، قال : يا أبا ذر أربعة سريانيون : آدم ، وشيث ، وأخنوخ وهو إدريس ، وهو أول من خط بالقلم ، ونوح وأربعة من العرب : هود ، وشعيب ، وصالح ، ونبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قلت : يا رسول الله ، كم كتابا أنزله الله ؟
قال : مائة كتاب ، وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسون صحيفة ، وأنزل على أخنوخ ثلاثون صحيفة ، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف.
وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف ، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والقرآن ) ( ).
(عن الكلبي قال : أوّل نبي بعثه الله في الأرض ادريس ، وهو اخنوخ بن يرد ، وهو يارد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم ، ثم انقطعت الرسل حتى بعث نوح بن لمك بن متوشلخ بن اخنوخ بن يارد ، وقد كان سام بن نوح نبياً .
ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبياً ، وهو إبراهيم بن تارح، وتارح هو آزر بن ناحور بن شاروخ بن ارغو بن فالغ .
وفالغ هو فالخ وهو الذي قسم الأرض ابن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح .
ثم إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة ودفن بها ، ثم إسحاق بن إبراهيم مات بالشام ، ولوط بن هاران بن تاريح وإبراهيم عمه هو ابن أخي إبراهيم ، ثم إسرائيل ، وهو يعقوب بن إسحاق ، ثم يوسف بن يعقوب ، ثم شعيب بن بوبب ابن عنقاء بن مدين بن إبراهيم ، ثم هود بن عبد الله بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح .
ثم صالح بن آسف بن كماشج بن اروم بن ثمود بن جابر بن ارم بن سام بن نوح ، ثم موسى وهارون ابنا عمران بن فاهت ابن لاوي بن يعقوب ، ثم أيوب بن رازخ بن أمور بن ليغزر بن العيص ، ثم داود بن ايشا بن عويد بن ناخر بن سلمون بن بخشون بن عنادب بن رام ابن خصرون بن يهود بن يعقوب ، ثم سليمان بن داود .
ثم يونس بن متى من سبط بنيامين بن يعقوب ، ثم اليسع من سبط روبيل بن يعقوب ، والياس بن بشير بن العاذر بن هارون بن عمران ، وذا الكفل اسمه عويدياً من سبط يهود بن يعقوب .
وبين موسى بن عمران وبين مريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة ، وليسا من سبط ، ثم محمد صلى الله عليه وسلم ، وكل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ، ونوح ، ولوط ، وهود ، وصالح .
ولم يكن من العرب أنبياء إلا خمسة : هود ، وصالح ، وإسماعيل ، وشعيب ، ومحمد ، وإنما سموا عرباً لأنه لم يتكلم أحد من الأنبياء بالعربية غيرهم ، فلذلك سموا عرباً) ( ).
وتدل الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن آدم نبي وأن النبوة إنتقلت بعده إلى إبنه شيث لبيان حرمان قابيل لنفسه ولأخيه هابيل منها ، أما فهو فلأنه قاتل النفس التي حرم الله وأما هابيل فلزهوق روحه ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )عندما قال الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
لترى الملائكة أن الذي يسفك الدم بغير حق يحرم من النبوة وينتظره العقاب الأليم ، وهو من علم الله عز وجل في موضوع الخلافة ،ومنه في المقام آية [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ) التي تفضل بها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى يوم القيامة ، فالذي يهّم بالقتل يعلم أن القصاص وراءه فيجتنبه مع غلبة النفس الغضبية , وتمكنه منه فيكون القصاص سبباً لنجاة الإثنين معاً الذي يهم بالقتل والذي يقع عليه القتل ليتلقى كل منهما الرزق الكريم من عند الله ، وتشرق صفحة جديدة من الحياة لكل منهما لابد أن يدونان فيها عمل الصالحات بلحاظ أن الآية جاءت بصيغة الخطاب للمؤمنين [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ] ( ).
وذكر أن إدريس وُلد ببابل في العراق ، وهو أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب .
(وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن مقاتل وجويبر . أن آدم حين كبر ورقَّ عظمه قال : يا رب إلى متى أكد وأسعى؟ قال : يا آدم حتى يولد لك ولد مختون . فولد له نوح بعد عشرة أبطن ، وهو يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاماً ، فكان نوح بن لامك بن متوشلخ بن إدريس ، وهو اخنوخ بن يرد بن مهلايبل ابن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم ، وكان اسم نوح السكن ، وإنما سمي نوح السكن لأن الناس بعد آدم سكنوا إليه فهو أبوهم ، وإنما سمي نوحاً لأنه ناح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ، فإذا كفروا بكى وناح عليهم) ( ).
(عن ابن عباس قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق)( ).
وأولاد نوح هم :
الأول : سام ، وقيل كان نبياً ، (وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : كان من شأن إبراهيم عليه السلام أن أول ملك في الأرض شرقها وغربها نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ، وكانت الملوك الذين ملكوا الأرض كلها أربعة : نمرود بن كنعان وسليمان بن داود ، وذو القرنين ، وبختنصر . مسلمين وكافرين ، وإنه طلع كوكب على نمرود ، ذهب بضوء الشمس والقمر ففزع من ذلك ، فدعا السحرة والكهنة والقافة والحازة فسألهم عن ذلك! فقالوا : يخرج من ملكك رجل يكون على وجهه هلاكك وهلاك ملكك ، وكان مسكنه ببابل الكوفة فخرج من قريته إلى قرية أخرى، وأخرج الرجال وترك النساء ، وأمر أن لا يولد مولود ذكر إلا ذبحه فذبح أولادهم .
ثم إنه بدت له حاجة في المدينة لم يأمن عليها إلا آزر أبا إبراهيم، فدعاه فأرسله فقال له : أنظر لا تواقع أهلك ، فقال له آزر أنا أضُنُّ بديني من ذلك ، فلما دخل القرية نظر إلى أهله فلم يملك نفسه إن وقع عليها ، ففر بها إلى قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها أدر فجعلها في سرب ، فكان يتعهدها بالطعام وما يصلحها) ( ).
الثاني : حام .
الثالث : يافث .
وفي الخبر عن أبي هريرة (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ولد نوح ثلاثة : سام ، وحام ، ويافث . فولد سام العرب ، وفارس ، والروم ، والخير فيهم . وولد يافث يأجوج ومأجوج ، والترك ، والصقالبة، ولا خير فيهم . وأما ولد حام القبط ، والبربر ، والسودان) ( ).
الصقالبة : جيل من الناس يسكنون شمال بلاد البلغار ، وعلى فرض صحة الحديث سنداً فان الواو في (ولا خير فيهم) للإستئناف فلا يشمل ما بعده أي الأتراك .
وهذا الحديث خلاف ما قيل بأن سام أبو العرب خاصة وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم ، أما الذي أبى ركوب السفينة من ولد نوح وقال [سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ] ( )فهو كنعان .
ولم تكن عبادة الأوثان طارئة على العرب قبل البعثة النبوية ، إذ أفتتن الناس في الأحقاب الأولى بالأولياء والصالحين بعد موتهم ، ونصبوا لهم الأوثان , وقدّسوهم ونسوا ذكر الله.
وعن محمد بن كعب القرظي (قال : كان لآدم خمسة بنين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، فكانوا عبّاداً فمات رجل منهم ، فحزنوا عليه حزناً شديداً ، فجاءهم الشيطان ، فقال : حزنتم على صاحبكم هذا ؟ قالوا : نعم ، قال : هل لكم أن أصوّر لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا : لا نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئاً نصلي إليه .
قال : فأجعله في مؤخر المسجد . قالوا : نعم فصوّره لهم حتى مات خمستهم فصوّر صورهم في مؤخر المسجد وأخرج الأشياء حتى تركوا عبادة الله وعبدوا هؤلاء ، فبعث الله نوحاً فقالوا : { لا تذرن وداً } إلى آخر الآية)( ).
فتفضل الله ببعثة الأنبياء للزجر عن عبادة الأوثان ، والإنذار عليها بالنار ، وكان الأنبياء من بين قومهم كما في قوله تعالى [وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا] ( ) أي أنه أخوهم في النسب ، وفيه مسائل:
الأولى : إرادة حفظ النبي من قومه أنفسهم كما قام أبو طالب وبنو هاشم بحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهيبة قريش لهم عندما كان يدعو الناس إلى عبادة الله ، ونبذ الأصنام ومفاهيم الشرك.
الثانية : عدم وصول الضرر إلى النبي من غير قومه فمع جفاء وإعراض أكثر قومه عن دعوته إلى الكفر والهدى ، فانهم لا يرضون بتعدي غيرهم عليه ، وهو من الحمية والعصبية ولإقرارهم في داخل نفوسهم أن النبي لا يدعو إلا للحق ،قال تعالى[وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا] ( ).
الثالثة : معرفة النبي بلسان قومه ، وعاداتهم وتقاليدهم وأنسابهم ومنازل القوم والأفراد , وكيفية جذبهم إلى الإيمان ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] ( ) .
ويدل لفظ [قَوْمِهِ] في الآية أعلاه على أن العلقة والصلة بين النبي المبعوث والأمة المبعوث لها ليس اللسان وحده بل يشمل النسب الإحاطة بأحوال الناس .
الرابعة : جعل القوم يتدبرون في حالهم ، فالنبي وأصحابه أدركوا من بينهم بطلان عبادة الأوثان .
الخامسة : بعث الأنبياء من بين قومهم من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ] ( ) فان قلت إن القوم كفار فكيف يكرمون ، والجواب من وجوه :
أولاً : يتعلق الإكرام بذات النبي ويترشح منه على قومه .
ثانياً : إرادة إكرام أصحاب النبي الذين آمنوا بنبوته .
ثالثاً : التخفيف عن الناس بتيسير دخولهم الإسلام ، وترك عبادة الأوثان .
رابعاً : إقامة الحجة على الذين كفروا بأن النبي من أوسطهم، ومن بين ظهرانيهم .
خامساً : تحقق البيان والوضوح في الدعوة ولغة البشارة والإنذار وموضوعية قاعدة نفي الجهالة والغرر .
سادساً : إنه مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قومه فلا يقول أحد من رؤساء الشرك مغالطة بأن الأنبياء يأتون من بلاد أخرى كأمصار أهل الكتاب وليس من بيننا .
وبعث الله هوداً في أرض حضرموت , وكان قومه يسكنون الخيام ذات الأعمدة العالية.
وعن ابن عباس : إن عاداً كانوا أصحاب أوثان يعبدونها ، اتخذوا أصناماً على مثال ودَّ ، وسواع ، ويغوث ، ونسر ، فاتخذوا صنماً يقال له : صمود ، وصنماً له : الهتار .
فبعث الله إليهم هوداً ، وكان هود من قبيلة يقال لها الخلود ، وكان أوسطهم نسباً وأصبحهم وجهاً ، وكان في مثل أجسادهم أبيض بعد بادي العنفقة ( )، طويل اللحية ، فدعاهم إلى الله ، وأمرهم أن يوحدوه وأن يكفوا عن ظلم الناس ، ولم يأمرهم بغير ذلك ، ولم يدعهم إلى شريعة ولا إلى صلاة ، فأبوا ذلك وكذبوه ، وقالوا : من أشد قوّة؟ فذلك قوله تعالى { وإلى عاد أخاهم هوداً}( ) كان من قومهم ولم يكن أخاهم في الدين { قال يا قوم اعبدوا الله } يعني وحدوا الله { ولا تشركوا به شيئاً ما لكم } يقول : لكم { من إله غيره أفلا تتقون }( ) يعني فكيف لا تتقون { واذكروا إذ جعلكم خلفاء } يعني سكاناً { في الأرض من بعد قوم نوح } فكيف لا تعتبرون فتؤمنوا وقد علمتم ما نزل بقوم نوح من النقمة حين عصوه؟! { واذكروا آلاء الله } يعني هذه النعم { لعلكم تفلحون } أي كي تفلحوا ، وكانت منازلهم بالأحقاف ، والأحقاف : الرمل . فيما بين عمان حضرموت باليمن ، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها ، وقهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله) ( ).
وأهلك الله عز وجل عاداً قوم هود بريح صرصر إذ جمعوا بين أمور تتصف بالقبح :
الأول : الكفر بالله .
الثاني : والجحود بالنبوة .
الثالث : الإصرار على عبادة الأوثان.
الرابع : الإنغماس في الملاهي والفجور .
الخامس : الإعراض عن الإنذارات ، ليكون من مصاديق الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المشركين لم ينزل بهم العذاب المهلك لهم جميعاً ، بل ألقى الله عز وجل الرعب في قلوبهم , كما تدل عليه آية السياق ليتوبوا إلى الله .
وفي الخبر : أنّه أُرسل على عاد قوم هود من الريح قدر ما تجري في خاتم.
قال السدي : بعث الله إلى عاد الريح العقيم , فلمّا دنت منهم نظروا إلى (الإبل) والرجال تطير بهم الريح من السماء والأرض فلمّا رأوها (بادروا) إلى البيوت فلمّا دخلوا البيوت دخلت عليهم وأهلكتهم فيها ثمّ أخرجتهم من البيوت .
فلمّا أهلكهم الله أرسل عليهم طيراً سوداً فلقطتهم إلى البحر وألقتهم فيه ولم تخرج ريح قط إلاّ مكيال إلاّ يومئذ فإنّها عتت على الخزنة فقلبتهم فلم يعلموا كم مكيالها) ( ) .
عن أبي أُمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يبيت قوم من هذه الأُمّة على طعام وشراب ولهو فيصبحون قردةً وخنازير وليصيبنّهم خسف وقذف , فيقولون : لقد خسف الليلة (ببنيّ) فلان وخسف الليلة بدار فلان وليرسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عاداً بشربهم الخمور وأكلهم الربا وإتخاذهم القينات ولبسهم الحرير وقطعهم الأرحام.
ومن إعجاز آية السياق أنها تقيد إلقاء الرعب بقيدين :
الأول : الكفر .
الثاني : الشرك بالله عز وجل .
فيخرج بالتخصيص من موضوع الآية الكفر بالنعمة , والتخلف عن واجب الشكر لله , وفيه بيان لقانون كلي وهو ملازمة الرعب للشرك بالله ، فلا يشمل موضوع الآية أهل الكتاب من اليهود والنصارى ونحوهم لأنهم ليسوا من المشركين بالله ما لم ينزل به سلطاناً .
ويتجلى مصداق هذا المعنى في قوله تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا] ( ).
وتجلى في مباهلة نصارى نجران ، وعقد الصلح بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين كبرائهم الذين حضروا المدينة المنورة واللقاء والجدال معه والتدبر في معجزاته بلحاظ البشارات الموجودة عندهم بخصوص نبي آخر الزمان .
(عن ابن عباس: أن ثمانية من أساقف العرب من أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم العاقب ، والسيد ، فأنزل الله { قل تعالوا ندع أبناءنا }( ) إلى قوله { ثم نبتهل } يريد ندع الله باللعنة على الكاذب . فقالوا : أخرنا ثلاثة أيام ، فذهبوا إلى بني قريظة ، والنضير ، وبني قينقاع ، فاستشارهم . فاشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه ، وهو النبي الذي نجده في التوراة .
فصالحوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ألف حلة في صفر، وألف في رجب ودراهم) ( ).
الثالث : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا رحمة بهم أنفسهم من جهات :
الأولى : إنه زجر عن مواصلة الهجوم على المسلمين .
الثانية : رؤية الكفار مصاديق الآيات القرآنية في أبدانهم، وبين صفوفهم , ومنها الخوف والإرباك والإفتقار إلى القرار السليم، وهو من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ).
الثالثة : دعوة الناس للإتعاظ من الذين كفروا وإجتناب التعدي على المسلمين.
الرابعة : ندب الذين كفروا إلى التوبة والإنابة، فالكفر ليس أصلاً وأمراً مستقراً عند الإنسان، بل هو عرض متزلزل تفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإستئصاله من النفوس، فالقى الله سبحانه الرعب في قلوب الكفار لإختيارهم الشرك والضلالة.
الخامسة : منع الكفار من المناجاة بينهم بمحاربة الإسلام ، ودق طبول الحرب .
وبعد معركة بدر قام عدد من رؤساء الكفر من قريش ومن والاهم بالطواف على القبائل لتحريضهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
وتتجلى معاني النظام السياسي والإنضباط الإجتماعي في مجتمعات قريش في محاربتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على أنهم ليسوا مجتمعاً جاهلياً , إلا بخصوص الوثنية والشرك .
وروى ابن إسحاق بالإسناد عن عبد الله بن الزبير (قَالَ نَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهُمْ ، ثُمّ قَالُوا : لَا تَفْعَلُوا فَيَبْلُغُ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِكُمْ وَلَا تَبْعَثُوا فِي أَسْرَاكُمْ حَتّى تَسْتَأْنُوا بِهِمْ لَا يَأْرَبُ عَلَيْكُمْ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الْفِدَاءِ.
قَالَ وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ قَدْ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ زَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَعَقِيلُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالْحَارِثُ بْنُ زَمَعَةَ وَكَانَ يُحِبّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى بَنِيهِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ سَمِعَ نَائِحَةً مِنْ اللّيْلِ فَقَالَ لِغُلَامِ لَهُ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ اُنْظُرْ هَلْ أُحِلّ النّحْبُ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا ؟ لَعَلّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حَكِيمَةَ يَعْنِي زَمَعَةَ فَإِنّ جَوْفِي قَدْ احْتَرَقَ.
فَلَمّا رَجَعَ إلَيْهِ الْغُلَامُ قَالَ إنّمَا هِيَ امرأة تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلّتْهُ .
فَذَاكَ حِينَ يَقُولُ الْأَسْوَدُ:
أَتَبْكِي أَنْ يَضِلّ لَهَا بَعِيرٌ … وَيَمْنَعُهَا مِنْ النّوْمِ السّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ … عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتْ الْجُدُودُ
عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ … وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْوَلِيدِ
وَبَكّي إنْ بَكّيْتِ عَلَى عَقِيلٍ … وَبَكّي حَارِثًا أَسَدَ الْأُسُودِ
وَبَكّيهِمْ وَلَا تَسَمِي جَمِيعًا … وَمَا لِأَبِي حَكِيمَةَ مِنْ نَدِيدِ
أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمْ رِجَالٌ … وَلَوْلَا يَوْمُ بَدْرٍ لَمْ يَسُودُوا) ( ).
وفيه دلالة على إقتران الأذى وإستقرار الغيظ مع الرعب في قلوب الذين كفروا، وظهور أسباب الخلاف والفرقة بينهم بأن الذين سادوا لم يكن لهم شأن من قبل معركة بدر التي ذهبت بسادتهم وكبرائهم.
وفيه مسائل :
الأولى : لم يصل نظام وحكم إلى الآن يقوم بضبط الناس ومنعهم من البكاء بعد المعركة حتى في بيوتهم ومنازلهم , مثلما هو الحال في أنظمة قريش , والغيظ الذي تجلى بالقسوة في الأوامر العامة .
الثانية : ليس من مجتمع وشعب يتقيد بمثل هذه الأوامر , والأصل أن تكون لمن يفقد ثلاثة من أولاده في المعركة شأنية عند الرؤساء , وأن يعطفوا عليه , ولكن قريشاً منعوه من البكاء إستعداداً للمعركة القادمة ، وهو من الرعب الذي أصابهم وآثاره ، قال تعالى [فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا] ( ).
الثالثة : تخشى قريش شماتة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والإنصار مع أن المدينة تبعد عن مكة نحو خمسمائة كيلوا متراً , وليس من وسائل إتصال بين البلدين إلا ما ينقله الركبان ، أما بخصوص موضوع بكاء قريش على قتلاهم ومطلق حالهم , فمراد قريش أعم من الشماتة، لأنها تحصل بتحقق مصداق القتل يوم معركة بدر ، والبكاء على الميت أمر مترشح عنه، ولكن قريشاً أرادت بمنع البكاء غايات منها منع إنتشار الإسلام في مكة المكرمة ، بلحاظ أن هزيمة قريش يوم بدر معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من مصاديق الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
وهل منع قريش أهل الذين قتلوا يوم بدر من البكاء عليهم من الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : خشية الكفار من قيام المسلمين الذين يخفون إسلامهم في مكة بالخروج على رؤساء الشرك خاصة وأن هؤلاء المسلمين يتصفون بالفتوة والشباب .
الثاني : إستهزاء الأبناء والعبيد بالمشركين لهزيمتهم أمام قلة من المؤمنين.
الثالث : إطلاع وفود القبائل التي تأتي للحج والعمرة على الخسارة الكبيرة لقريش , وغياب الأكابر من رجالها بين قتيل وأسير ليكون من دلالات عرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه على وفود القبائل في موسم الحج تدبرها في نصره يوم بدر, ويحتمل هذا النصر وجوهاً:
الأول : إنه معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإدراك الناس لها بالحواس.
الثاني : النصر يوم بدر معجزة عقلية بلحاظ عدم إجتماع شرائط النصر، وتخلف أسبابه، وإفتقار المسلمين إلى مقوماته لولا فضل الله , وفي التنزيل[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
الثالث : النصر يوم بدر معجزة حسية، وجاء القرآن ليجعلها معجزة عقلية.
الرابع : النصر يوم بدر ليس بمعجزة، إذ يشترط بالمعجزة أن تكون على وجوه:
أولاً : لا يقدر على المعجزة إلا الله عز وجل، وان جرت على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو بيان وتأكيد لنبوته، ولزوم التصديق به.
ثانياً : المعجزة أمر خارق للعادة، لم يعرف الناس مثلها، فلو قال يخرج القمر ليلة النصف من الشهر بدراً فليس بآية، وكذا لو ذكر أمراً محتملاً كماً لو قال تلد فلانة ولداً ذكراً .
وكل نبي جاء بمعجزة قاهرة , ومن فضل الله على الناس أن معجزة النبي تلائم الأمر الأهم عندهم كالطب في زمان عيسى عليه السلام، ومن قبله ميل قوم فرعون للسحر، وإستحواذ السحرة وصيرورة منزلة لهم عند فرعون وملئه، فجاء موسى بآية العصا، لتأكل عصي السحرة, قال تعالى[وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ]( ).
لقد إمتلأ قلب فرعون بالرعب من عصا موسى عليه السلام بعد أن كان يقول[أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( ).
وقال وَهْب بن مُنَبِّه : لما دخل موسى على فرعون، قال له فرعون : أعرفك ؟ قال : نعم، قال[أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا] قال : فرد إليه موسى الذي ردّ، فقال فرعون : خذوه، فبادره موسى [فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ] فحملت على الناس فانهزموا منها، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، قتل بعضهم بعضا، وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت ( ).
ولا دليل على قتل هذا العدد، ولم يكونوا في مكان يجتمع أكثر من هذا العدد بلحاظ أن القتل وقع على شطر من الحاضرين بدليل قوله(فمات منهم) لأن حرف الجر (من) يفيد التبعيض، وقد جاء موسى منذراً وداعياً إلى الله.
ووهب بن منبه يأخذ أحياناً من كتب غير المسلمين، وعن ابن عباس في حديث قال موسى لفرعون : أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل . فأبى عليه ذلك . وقال : إئت بآية إن كنت من الصادقين فألقى عصاه ، فتحوّلت حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون ، – فلما رأى فرعون أنها قاصدة إليه – خافها فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى : ( أن يكفها عنه ففعل ، وأخرج يده من جيبه بيضاء من غير سوء ) يعني برص ، ثم أعادها إلى كمه فصارت إلى لونها الأول .
فاستشار الملأ فيما رأى، فقالوا له [هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى] ( )، يعنون ملكهم الذي هم فيه ، والعيش ، فأبوا على موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب ( ).
لقد كان موسى عليه السلام في مجلس إحتجاج وكل الأنبياء إحتجوا على قومهم، وأقاموا الحجة على الناس بوجوب التوحيد وطاعة الله، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثرهم في الإحتجاج ومدته ، وتحمله الأذى بسببه حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت ( ).
لقد ألقى الله عز وجل الرعب في قلب فرعون من آية موسى عليه السلام.
وقد فضّل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في المقام من جهات:
الأولى : ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب الذين كفروا جميعاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : مجئ آية السياق بصيغة المضارع (سنلقي).
الثالثة : الرعب الذي صاحب نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاص بالذين كفروا وعلته إشراكهم بالله عز وجل.
الرابعة : إذا جاء الرعب لفرعون من عصا موسى فان الله عز وجل هو الذي يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا.
الخامسة : بقاء الرعب في قلوب الأجيال المتعاقبة من الكفار إلى يوم القيامة، وهو من الشواهد على أن شريعة الإسلام وكذا آية البحث ناسخة غير منسوخة.
السادسة : إخبار آية السياق عن سوء عاقبة الذين كفروا وأن مثواهم النار خالدين فيها , قال تعالى[إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا * لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا]( ).
الرابع : حدوث الفتن والكدورات في مجتمعات قريش وتبادل التهم وإلقاء اللوم فيما بينهم .
لقد أدرك رجالات قريش خطأئهم وظلمهم لأنفسهم فمنعوا البكاء لأنه مقدمة لفضحهم .
الخامس : إرادة قريش الإستعداد لمعركة قادمة وهي معركة أحد لأن البكاء على القتلى نوع برزخ دون تهيئة مقدمات القتال من جهات :
الأولى : البكاء على القتلى تذكير بهم مقرون بالأسى والحزن .
الثانية : بعث القنوط وأسباب الخيبة في نفوس الكفار ، وتجلى مصداقه في معركة أحد بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الثالثة : إنعكاس حال البكاء على عوائل قريش ، وقيام النسوة بصد الرجال على الخروج خاصة , وإن الإسلام دخل بيوتهم ويعود الوجيه من قريش إلى بيته في المساء ليجد إبنه أو إبنته تقرأ القرآن ، أو يخرج في الصباح إلى دار الندوة ليفاجئه صاحبه ويخبره بأن الإسلام دخل بيته ، فامرأة تنوح على قتلاها ، وأخرى تخشى على زوجها أو إبنها فالقاء ذات المصير إذا خرج للقتال , من معاني الإستصحاب وهو إستقراء ذهني قبل أن يكون أصلاً عملياً .
ومن الخطأ أن يرتكب الرؤساء وعلى نحو العناد والإصرار ما يخالف إتجاه الوقائع والأحداث، وليس لإصرارهم إلا المزيد من الخسائر ، ويتجلى هذا في تأريخ النبوة فيتفضل الله عز وجل بنصر النبي ونصر المؤمنين .
الصلة بين خاتمتي الآيتين
لقد أختتمت آية السياق بالوعيد والقطع بسوء عاقبة الذين كفروا والوعيد خاص بهم ، أما القطع بسوء عاقبتهم فهو إخبار وبيان من وجوه :
الأول : إخبار المسلمين بما أعدّ الله عز وجل للذين كفروا من أنواع العذاب , وأشده الإقامة الأبدية في ذات العذاب .
الثاني : البلاغ لأهل الكتاب من اليهود والنصارى بما ينتظر الذين كفروا من قريش من العقاب الأليم ، ليكون ما لاقوه يوم بدر وأحد مقدمة لهذا العذاب ، وفيه زجر لأهل الكتاب عن نصرة الذين كفروا ومدهم بالأموال والسلاح ، وعقد العهود معهم .
وفي قوله تعالى [فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ] ( )ورد عن زيد بن وهب (قال : كنا عند حذيفة فقال : ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة ولا من المنافقين إلا أربعة . فقال اعرابي : إنكم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم تخبروننا بأمور لا ندري ما هي ، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون اعلافنا؟! قال : أولئك الفساق ، أجل لم يبق منهم إلا أربعة ، أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده) ( ).
الثالث : إنذار الناس من مؤازرة أقطاب الشرك في هجومهم على المدينة وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل تجلت منافع هذا البلاغ والإنذار .
الجواب نعم وبسرعة تؤكد الإعجاز العقلي والحسي لآيات القرآن وأثرها إذ تخلى الناس عن رؤساء الشرك الذين عجزوا بعد معركة الخندق عن جمع الجيوش الكبيرة وضعف إقتصادهم ، وقلة مواردهم المالية ، وصار الطريق إلى فتح مكة خالياً من الموانع ، وكأن جبالها وأوديتها تدعو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لنصرة البيت الحرام وتنزيهه من درن الشرك وأشباح الأصنام ، وبادر الناس إلى دخول الإسلام .
ونزلت البشارة والوثيقة الخالدة بعالمية الإسلام وثبات مبادئه إلى يوم القيامة وإنتفاء الحواجز المكانية والوضعية دونه ، فقال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ] ( ) ليبين إقبال الناس على دخول الإسلام صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأثره وموضوعية إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، ويكون تقدير آية السياق على وجوه منها :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب , ليتعظوا ويتدبروا في لزوم النجاة من النار .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب , ليتجنب أهل الكتاب نصرتهم ومؤازرتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ] ( ).
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب , بشرى للمؤمنين .
الرابع : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب , نصرة للمؤمنين) والرعب من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]( ).
الخامس : سنلقي في قلوب الذين كفروا من عبادنا الرعب لجحودهم بالنبوة والتنزيل .
السادس : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب إذ تخسونه باذنه) لإفادة الملازمة بين دخول الرعب لقلوب الذين كفروا ومجئ الموت والقتل لهم ، فلا يستطيعون التوصية وندب أصحابهم ، وهو من مصاديق إنعدام الناصر لهم ، أي يكون زميله وصاحبه إلى جواره لتخلفه عن ندبه ، وعجز صاحبه عن نصرته ، وهو من دلائل الإعجاز في صيغة الجمع في قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
السابع : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب , حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) بلحاظ أن الرعب يشل أيدي الذين كفروا ويحبط أعمالهم ، ويرجع كيدهم إلى نحورهم .
مع أن آية السياق والبحث متجاورتان فان التباين والتضاد يتجلى بين خاتمتيهما ، إذ تتضمن خاتمة آية السياق الوعيد للذين كفروا .
ويفيد الجمع بين خاتمتي الآيتين منع المسلمين والمسلمات عن الإرتداد , ولم يأت هذا المنع بصيغة الوعيد والتخويف بل باللطف والترغيب بالإيمان والنفرة من الكفر , إذ أختتمت آية السياق بالإخبار عن سوء عاقبة الظالمين مطلقاً , ليدخل المرتد عن دينه فيهم، قال تعالى [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا] ( ).
وتضمنت خاتمة آية البحث الحث على الثبات على الإيمان والتطلع إلى فضل الله عز وجل الذي ليس من فترة فيه ، ولا إنقطاع له , ففي كل يوم ينهل المسلم من فضل الله , ويستحضر في الوجود الذهني شدة عذاب الظالمين من الذين كفروا وركبوا المعاصي ، ومن معاني فضل الله على المؤمنين تنزه فريق من الكافرين عن الجحود والكفر ودخولهم في الإسلام وهو من التخفيف عن المؤمنين .
لقد جعل الله عز وجل كل آية من القرآن حرباً على الظلم سواء الظلم للنفس أو الغير , وأشد الظلم محاربة أهل الإيمان بالذات والواسطة ، فجاءت آية السياق بالوعيد والتخويف من الظلم , ولم يترك الإنسان في حال برزخ بين الظلم والصلاح ، والكفر والإيمان ، بل جاءت آية البحث لتدعوه إلى الإيمان ، وتبين أن الله عز وجل يغفر للعبد مع إيمانه وتقصيره ومعصيته إذا كان مؤمناً بدليل قوله تعالى [وَعَصَيْتُمْ]بصيغة الخطاب أي عصيتم بما أنتم مؤمنون .
ويتضمن موضوعها أطرافاً :
الأولى : الإخبار عن عالم الآخرة وأهوال يوم القيامة .
الثانية : ذم الذين كفروا والمقام الذين يلبثون فيه في الآخرة إذ يتعلق الذم في قوله تعالى [وَبِئْسَ مَثْوَى] بدار إقامة الذين كفروا وهو النار .
ومن الإعجاز في خاتمة آية السياق البيان والنص فيها إذ أخبرت بأن مأوى الذين كفروا النار , ثم بينت بأنه مقام بئيس لا يحسد الذي يأوى إليه .
الثالثة : أن الدار دار إقامة الظالمين ، وقد تقدم أن بينهم وبين الذين كفروا عموماً وخصوصاً مطلقاً ، وأن الظالمين أعم ، وفيه إعجاز بأن تأتي الآية في ذم قوم , ولكنها تتضمن الإنذار للأعم ممن يجتمع معهم في ذات السنخية والعقاب الإليم , وهو من دلائل ومعاني الرحمة في آيات القرآن , فتتضمن خاتمة آية السياق أموراً :
أولاً : إنذار الظالمين عموماً , وبيان أن العقاب لا يختص بالذين كفروا .
ثانياً : تأكيد قانون وهو أن الشرك بالله ظلم للنفس والغير كما ورد في التنزيل في وصية لقمان لإبنه [يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] ( ) ليكون من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين وأمته على الأمم قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
نزول آيات القرآن بالتحذير من الشرك وأسباب الظلم , وتلاوة المسلمين لآية البحث كل يوم وهي تحذير من الظلم بأشد معاني التحذير إذ تخبر بأن الظالمين جميعاً يحشرون في النار ، ليكون من إعجاز آية البحث أنها تبعث الرعب في قلوب الظالمين جميعاً حتى أولئك الذين لم يحاربوا الإسلام , ولم يقاتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فلقد وصى لقمان إبنه بالصلاح , وأخبره بأن الشرك ظلم عظيم .
وجاءت آية البحث لتوصي المسلمين والمسلمات والناس جميعاً بلزوم إجتناب الظلم مطلقاً سواء الظلم للذات أو الغير ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ويحتمل إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وجهين :
الأول : إنه أمر خارج بالتخصيص عن ظلم الذين كفروا لأنفسهم ، لأنه ليس من فعلهم إنما هو من أمر الله عز جل .
الثاني : الرعب الذي ينفذ إلى قلوب الذين كفروا من ظلمهم لأنفسهم .
والمختار هو الثاني لأنهم إختاروا الجحود ومحاربة النبوة والتنزيل, والأذى الذي يأتي بالإختيار لا يمنع من الإختيار ، ليكون من إعجاز آية البحث أن خاتمتها تدعو إلى الإتعاظ من مضمون أولها والعكس صحيح , وأن أولها دعوة جلية للإتعاظ والإعتبار من آخرها ، وهو من أسرار تأديب الناس بعلوم القرآن ، ومضامين آياته لذا تفضل الله عز وجل وجعل قراءة القرآن واجباً عينياً على المسلمين والمسلمات خمس مرات باليوم لإقتباس الدروس والعبر من آياته وصيرورة التلاوة حرباً على الكفر والنفاق ، وقراءة المسلم للآية القرآنية ، ووقوفه بين يدي الله خاشعاً دعوة للناس لنبذ الكفر والتنزه عن الظلم.
قانون الملازمة بين الوعد الإلهي ومصداقه
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ليتضمن الوعد في الحياة الدنيا ، وهو على أقسام :
الأول : وعد الله عز وجل ، وليس له حصر ، ومنه وجوه :
أولاً : وعد الله عز وجل للملائكة كما في قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) لتتجلى معاني خلافة الأنبياء في الأرض ، وحفظ [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) معاني التوحيد ، وقيامها بتعاهد الفرائض والعبادات .
ثانياً : وعد الله عز وجل للأنبياء في نجاتهم ، والمؤمنين من أصحابهم ، ومنه ما يكون وعداً في إرتقاء مرتبة للنبي ، قال تعالى [وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ] ( ).
ثالثاً : الوعد الإلهي للمؤمنين بالنصر والغلبة ، ومنه آية البحث بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
رابعاً : إستقراء الوعد الإلهي للمسلمين من مفاهيم الآيات ، كما في آية البشارة والإنذار ، بلحاظ أن الوعد أعم من أن ينحصر بذات اللفظ ومعاني الموعدة .
ليتجلى الوعد للمسلمين في آية السياق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] لأن فيه وهناً وضعفاً للكافرين ، ونجاة من أذاههم وكيدهم , وهو من مصاديق قوله تعالى [ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
فمن مكر الله عز وجل إبتلاء الذين كفروا بالخوف والرعب لتشل أيديهم عن الإيغال في الظلم والتعدي , ولتهيئة مقدمات دخول الناس الإسلام بعيداً عن بطش رؤساء الكفر والظلالة ، لقد قست قريش في تعذيب المسلمين الأوائل في مكة بقصد زجر غيرهم عن دخول الإسلام , ولإلقاء الرعب في قلوب الذين يخفون إسلامهم أو يهمون بدخول الإسلام خاصة وأنه صار حديث الركبان وربات الحجال ، فقابل الله عز وجل مكر قريش هذا بمكر مثله ولكنه خير محض ، وهو أن ألقى الرعب في قلوب الذين كفروا أنفسهم .
وهل هو بذات الماهية من الرعب الذي أراد كفار قريش إلقاءه في نفوس المسلمين والذين رأوا لزوم إختيار الإيمان , الجواب لا ، فان الرعب الذي يأتي من عند الله أمر مستحدث في الحياة الدنيا كما لو كان ينزل من باب من السماء وخزينة لم يكن غادرها من قبل ، فكما ينزل الملائكة للقتال لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فكذا ينزل الرعب من السماء لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهذا الفرد من الرعب لا يتعارض مع الوجوه الأخرى من الرعب مثل :
الأول : ما يصاحب نزول الملائكة من الرعب الذي يختص بالكافرين .
الثاني : ما يبعثه الملائكة من الرعب في قلوب الذين كفروا ، أي هناك فرق بين الرعب المصاحب لنزول الملائكة ، وبين أفراد الرعب التي يقصد الملائكة بها إصابة الذين كفروا بالرعب .
الثالث : الرعب الذي يأتي من نزول آيات القرآن ، وتوالي نزولها .
الرابع : إخلاص المسلمين في الجهاد وثباتهم في سوح القتال مع قلة العدة والعدد ، وتفانيهم في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبث الخوف والجزع في قلوب المشركين .
خامساً : وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كما في قوله تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ] ( ) ليقترن الوعد الإلهي بالبشارة بتنجزه والقطع بتحققه وفيه بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , ويتجلى هذا التنجز في آية البحث بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] ( ).
سادساً : وعد الله عز وجل للأنبياء مجتمعين ومتفرقين بالنصر والغلبة .
سابعاً : وعد الله المسلمين بالنصر والغلبة كما في قوله تعالى بخصوص يوم بدر [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ] ( ) إما العير المحملة بالبضائع أو لقاء القوم المشركين في ميدان المعركة والغلبة عليهم .
وعن ابن عباس في قوله (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } قال: أقبلت عير أهل مكة من الشام فبلغ أهل المدينة ذلك ، فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد العير ، فبلغ أهل مكة ذلك , فخرجوا فأسرعوا السير إليها لكي لا يغلب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الله عز وجل وعدهم إحدى الطائفتين .
وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم وأيسر شوكة وأخصر نفراً ، فلما سبقت العير وفاتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين يريد القوم ، فكره القوم مسيرهم لشوكة القوم ، فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة ، فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ فوسوس بينهم ، يوسوسهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين ، وأمطر الله عليهم مطراً شديداً فشرب المسلمون وتطهروا ، فأذهب الله عنهم رجز الشيطان واشف الرمل من إصابة المطر ، ومشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم .
وأمد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة عليهم السلام ، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وجاء إبليس في جند معه راية في صورة رجال من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان للمشركين { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم }( ).
فلما إصطف القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره . ورفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً .
فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين ، وأقبل جبريل عليه السلام فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته .
فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال : إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله والله شديد العقاب ، فذلك حين رأى الملائكة) ( ).
ثامناً : الوعد من عند الله بيوم القيامة , وأنه يوم الجزاء وفيه بشارة وسعادة للمؤمنين ، وحزن وكآبة للكافرين .
وأخبر القرآن عن وعد الشيطان للقوم الكافرين بما يجعلهم يتمادون في الغي ويصدون على الجحود ، فيتخلى عنهم ويتبرء منهم ، ويعلن عجزه عن نصرتهم ، ويتركهم يلاقون العذاب والخزي , وفي التنزيل [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ]( ).
كما جاء القرآن بالوعد والمواعدة بين الناس , لبيان أحكام المعاملات ومنع الجهالة والغرر والغبن ، قال تعالى [لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا] ( ) .
ويمكن تسمية الدنيا (دار الوعد ) فكلها وعد وفضل عند الله عز وجل إبتداء من ولادة الطفل ليكون قرة عين لوالديه والوعد بالرزق الكريم وبالأمن والنجاة وجني الصالحات , وأسمى وجوه الوعد في الدنيا هو التوفيق لبلوغ مراتب الإيمان ، وتحقيق النصر على الكافرين , ويمكن تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : ولقد صدقكم الله وعده بأن يعدكم ) .
وهذا الوعد على وجوه :
أولاً : يعدكم الله بتوالي نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : يعدكم الله بحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن كيد الذين كفروا ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( )
ثالثاً : ولقد صدقكم الله وعده بأن يعدكم النصر على الذين كفروا ، وقد يقال إنه من تحصيل الحاصل بأن ولكن هناك تباين بين الوعدين .
فالوعد الأول متقدم على الوعد الثاني وهو أعم منه ويكون مصداق الوعد الأول وتحقق الصدق فيه بأن ينزل الوعد من الله بتحقق النصر على الذين كفروا ودخول أهل الأمصار البعيدة في الإسلام كبلاد فارس والشام .
وقد يأتي الوعد من عند الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن قوله فرع الوحي , ويمكن تأسيس علم جديد من جهات :
الأولى : الوعد في القرآن .
الثانية : الوعيد من القرآن .
الثالثة : البوعيد في السنة النبوية .
الرابعة : الوعيد في السنة النبوية مع بيان كيفية تلقي المسلمين الوعد الإلهي بالتصديق والرضا وتلقي الكفار والمنافقين له بالريب والإستهزاء وبخصوص يوم الخندق وإحاطة الأحزاب بالمدينة .
( قال ابن إسحاق وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق، حتى قال معتب بن قشير أخو بنى عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر،
وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط ! وحتى قال أوس بن قيظى : يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك عن ملا من رجال قومه، فأذن لنا أن نرجع إلى دارنا فإنها خارج من المدينة.
قلت : هؤلاء وأمثالهم المرادون بقوله تعالى: ” وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا) ( ).
الثاني : ولقد صدقكم الله وعده ) بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، وهو من الإعجاز من جهات :
الأولى : مجئ الآية السابقة بالإنذار والوعد بإلقاء الرعب في قلوب الكفار .
الثانية : إبتداء الآية السابقة وهي آية السياق بسين الإستقبال [سَنُلْقِي]مما يدل على أنه حتم ووعد قريب .
الثالثة : مجئ الوعد الإلهي في آية قرآنية ومجي مصداقه وتنجزه في الآية التي بعدها .
الثالث : ولقد صدقكم الله وعده بأن تحسون الذين كفروا وتتمكنوا من قتلهم وإزاحتهم عن مواضعهم في معركة أحد .
ومن أسرار الجمع بين آية البحث والسياق ، ورود اسم الجلالة في الآيتين مع التباين الموضوعي ، فقد ذكرت آية السياق اسم الجلالة في موضوع إشراك وكفر الذين كفروا , بينما ذكرته آية البحث في صدق الله وعده للذين آمنوا لبعث الحسرة في قلوب الذين كفروا لتجتمع مع الرعب والخوف , وفيه زيادة في أذى وألم الذين كفروا.
بحث منطقي
يكون الإحتجاج في الحياة الدنيا نوع مفاعلة يصدر من الطرفين من المؤمنين تجاه الكفار وبالعكس وإن إتخذ الكفار الجدال والمغالطة مادة لدفع البرهان ،إما في الآخرة فلا يصدر الإحتجاج إلا من طرف الملائكة والمؤمنين ، ويمكن تأسيس باب في علم المنطق في هذا التباين الموضوعي وإيجاد وجوه الصلة بين علم الكلام وعلم المنطق ويدل عليه قوله تعالى [وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] ( ).
أي أن أصحاب الجنة يشكرون الله عز وجل على صدق وعده بخصوص اللبث الدائم في النعيم ، وتحقق الثواب الذي وعدهم ، ويسألون أهل النار هل وجدتم ما وعدكم الله من العذاب الأليم .
(قال الأصمعي: كنت عند أبي عمرو بن العلاء، فجاء عمرو بن عبيد، فقال: يا أبا عمرو، وهل يخلف الله الميعاد؟ فقال: لا. فذكر آية وعيد، فقال له: أمن العجم أنت؟ إن العرب تَعدُ الرجوع عن الوعد لؤما، وعن الإيعاد كرما، أومَا سمعتَ قول الشاعر :
لا يُرْهِبُ ابن العم منى سَطْوَتي … ولا أخْتَتِي من سَطْوة المُتَهَدّد
فإنّي وَإن أوْعَدْتُه أوْ وَعَدْتُه … لَمُخْلِفُ إيعَادي ومُنْجزُ مَوْعدي ( )
فان قلت لم ينحصر صدور النداء يوم القيامة بأهل الجنة فانه يصدر من أصحاب النار كما في قوله تعالى [وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ] ( ).
والجواب نعم , والنسبة بين النداء والإحتجاج هي العموم والخصوص المطلق فقد يكون النداء إحتجاجاً كما في كلام أهل الجنة وخطابهم لأهل النار , ويكون النداء رجاءً وتوسلاً ، كما في الآية أعلاه ، لقصور أهل النار عن الإحتجاج من جهات :
الأولى : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب والفزع.
الثانية : شدة عذاب النار برزخ دون الإحتجاج ، نعم لم يمنع العذاب من تلاوم أهل النار فيما بينهم وتبرأ بعضهم من بعض، في التنزيل[وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا]( )، أي تمنوا العودة إلى الدنيا.
الثالثة : قيام الحجة والبينة على الكفار , قال تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
الرابعة : إدراك الكفار لعدم نفع الجدال والمغالطة، وصيرورتهما زيادة في عذابهم.
الخامسة : إحتجاج ملائكة النار على الكفار، وبيان الحجج التي كانت تدعوهم في الليل والنهار الى الإيمان، وهل يذكرهم الملائكة بالرعب الذي كان يغزو قلوبهم وأنه من جنود الله، الجواب نعم، إذ يراها الكفار والناس جميعاً على نحو جسم مادي وكيف يتجه الى قلب الكافر كما يحس به في الآخرة ، وترى الخلائق الأثر الذي يترتب على هذا الرعب، وماذا يفعل الذين كفروا مجتمعين ومتفرقين من مصاديق الإجهاز على الإسلام والبطش بالمسلمين لو لا هذا الرعب.
قال ابو الجوزاء: سألت ابن عباس : أي الصدقة أفضل , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل الصدقة الماء ألا رأيت أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنّة , قالوا أفيضوا علينا من الماء( ).
وهل قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا]من الوعد الإلهي , الجواب نعم , وهو من الإعجاز في نظم آيات القرآن وأسرار تعقب آية البحث لآية السياق .
وتقدير الجمع بينهما : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ولقد صدقكم الله وعده فالقى في قلوبهم الرعب ) .
بأن إنهزموا في المعركة ووقعوا بين أسير وقتيل وأصابهم الخزي إلى يوم القيامة بين أهل الأرض , إذ توثق هذه الآية وأخبار واقعة بدر ذل ووهن كفار قريش وما لحقهم من الضرر والعار حتى إذا جاء يوم القيامة فان آية البحث ذاتها تخبر عن عاقبتهم بقوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ]
وفيه شاهد بأن الرعب الذي أصاب الكافرين يوم بدر ممن إشترك في القتال ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وممن لم يحاربه يلازمهم إلى يوم القيامة ، فقد أخبرت آية السياق عن نفاذه إلى قلوب الذين كفروا .
والأصل هو إستصحاب بقائه إلا مع ورود آية أو دليل على مغادرته لقلوبهم أو دفعهم له , وينحصر دفعه بالتوبة ودخول الإسلام ، فمن فضل الله على الناس ورحمته بهم في الأرض أن الإنسان ينتقل بشهادة التوحيد إلى نقيض الذل والخزي الذي كان فيه , فبعد أن كان الرعب يملأ قلبه ، يصبح من الذين يتلقون نداء الإكرام والبشارة : ولقد صدقكم الله وعده .
إستقراء الدروس من هجرة الحبشة بلحاظ آيتي البحث والسياق
لقد إشتد أذى الكفار لأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقام بتوجيه وأمر عدد من أهل البيت والصحابة بالهجرة إلى الحبشة ، في قصة ومعجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تستلزم الدراسة والتحقيق من وجوه :
الأول : علم الكلام وثبات الإيمان في قلوب الصحابة بحيث يبادرون إلى ترك الأهل والأوطان , ويغادرون إلى جهة الحبشة طلباً لسلامة الدين .
الثاني : علم الإجتماع , وكيف أن الإيمان يبعث على ترك الأهل والأوطان رجاء الفوز بالإقامة في الجنان .
الثالث : علم السياسة والرجال , وإرادة سلامة الأنصار والأتباع بالهجرة والإبتعاد عن الظالمين .
ويدل عدم الخشية على المهاجرين إلى الحبشة في دينهم على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الآيات والمعجزات التي تجلت لمهاجري الحبشة قبل مغادرتهم مكة كافية لسلامتهم من الإرتداد خاصة وأنهم يفدون على أمة من أهل الكتاب ، إذ كان النجاشي وقومه على دين النصرانية فاذ هربوا من عبادة الأوثان في مكة وتركوها وطلبوا النجاة من بطش قريش ، فان الإفتتان في الحبشة أشد وأكبر ، ولم يرتد عن دينه من مائة مهاجر ومهاجرة إلا واحد منهم هو (عبيد الله بن جحش تنصر بأرض الحبشة ومات بها نصرانيا وبانت منه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان , فتزوجها النبي صلى الله عليه وآله و سلم) ( ).
كما تزوج النبي أخته زينب بنت جحش في السنة الخامسة للهجرة التي خصها الله بالذكر في قوله تعالى [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا] ( ).
ولما طلقها زيد وانقضت عدتها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأطعم عليها خبزاً ولحماً : وحينما دخل عليها قال لها ما أسمك ، قالت : برة فسماها زينب (عن أنسٍ قال: كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقول: زوجني الله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس الناس، وأولم عليّ خبزاً ولحماً، وفيّ أنزلت آية الحجاب) ( ).
الرابع : دلائل النبوة بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة ، ولو تعرض هؤلاء للخطر والقتل لقتلت قريش به بذريعة الثأر لأبنائهم فهم يكرهونه على الهجرة ثم يبكون عليهم ويطالبون بدمهم أن أصابهم أذى .
ومن الآيات أن المهاجرين الذين خرجوا إلى الحبشة بلغهم دخول أهل مكة في الإسلام ، فأدركوا رجحان المقتضي للعودة إلى مكة ، وإنتفاء المانع دونها .
وقالوا (عشائرنا أحب الينا فخرجوا راجعين حتى إذا كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركبانا من كنانة فسألوهم عن قريش , فقال الركب ذكر محمد آلهتهم بخير فتابعه الملا ثم ارتد عنها فعاد لشتم آلهتهم وعادوا له بالشر فتركناهم على ذلك فائتمر القوم في الرجوع إلى أرض الحبشة , ثم قالوا قد بلغنا مكة فندخل فننظر ما فيه قريش ويحدث عهدا من أراد بأهله , ثم يرجع فدخلوا مكة , ولم يدخل أحد فيهم إلا بجوار إلا ابن مسعود فانه مكث يسيرا ثم رجع إلى أرض الحبشة) ( ).
ولا دليل على ذكر النبي لآلهتهم بخير , وكان مهاجروا الحبشة حين عودتهم , وظهور بقاء قريش على الكفر , على وجوه , ومنهم من عاد إلى الحبشة , كما سيأتي بيانه .
وذكر ابن سعد وجماعة : أن من الذين عادوا إلى الحبشة عبد الله بن مسعود( ) ولكن الأخبار تؤكد أن ابن مسعود شهد بدراً وأحداً , وإشترك بقتل أبي جهل يوم بدر، وأستدل على كون ابن مسعود عاد إلى المدينة بعد الهجرة مع الذين عادوا من الحبشة بحديث زيد بن أرقم ( كُنّا نَتَكَلّمُ فِي الصّلَاةِ يُكَلّمُ الرّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ فِي الصّلَاةِ حَتّى نَزَلَتْ { وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ }( ) فَأُمِرْنَا بِالسّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَالسّورَةُ مَدَنِيّةٌ وَحِينَئِذٍ فَابن مَسْعُودٍ سَلّمَ عَلَيْهِ لَمّا قَدِمَ وَهُوَ فِي الصّلَاةِ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ حَتّى سَلّمَ وَأَعْلَمَهُ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فَاتّفَقَ حَدِيثُهُ وَحَدِيثُ ابن أَرْقَمَ . قِيلَ يُبْطِلُ هَذَا شُهُودُ ابن مَسْعُودٍ بَدْرًا) ( ).
ولكن النصوص وردت مستقلة مرة عن عبد الله بن مسعود قال ( كنا نقوم في الصلاة فنتكلم ويسار الرجل صاحبه ويخبره ، ويردون عليه إذا سلم حتى أتيت أنا ، فسلمت فلم يردوا علي السلام ، فاشتد ذلك عليّ ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة ، والقنوت السكوت .
وأخرج ابن جرير من طريق زر عن ابن مسعود قال : كنا نتكلم في الصلاة فسلمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرد عليّ ، فلما انصرف قال : قد أحدث الله أن لا تتكلموا في الصلاة ، ونزلت هذه الآية { وقوموا لله قانتين })( ) .
ومرة أخرى ورد عن زيد ابن أرقم ، ولا يدل على إتحاد الزمان والمكان لذات الموضوع ، وإن إتحدت علة الحكم , وهي نزول قوله تعالى [وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] ( ).
وكان خروجهم إلى الحبشة في شهر رجب سنة خمس من البعثة النبوية وأقاموا شعبان ورمضان فبلغهم في رمضان أن قريشاً دخلوا الإسلام , فعاد المهاجرون في شوال في السنة الخامسة ، وهذا في الهجرة الأولى .
وكان أمر الجوار شائعاً عند العرب وأمم أخرى بأن يحمي المجير الذي يستجير به ، ويذب عنه ويتجنب الغريم إيذاءه إكراماً للمجير فقد يعترضون على أصل الإجارة ، ولكن المستجير يبقى بأمان.
فمثلاً كان الصحابي عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة وهو من كبار رجالات قريش , ووالد خالد بن الوليد (لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من البلاء , وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال : والله إن غدوي ورواحي في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل دينى يلقون من البلاء والاذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي ! .
فمشى إلى الوليد بن المغيرة , فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك.
قال: لم يا ابن أخي ؟ لعله آذاك أحد من قومي ؟ قال : لا)( ).
الخامس : موضوعية الوحي في هجرة الحبشة من جهات :
الأولى : لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بما يأتيه من عند الله قال سبحانه [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الثانية : تلقي الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والتصديق لإدراكهم أنه وحي .
الثالثة : أثر الوحي والتنزيل بين الناس وعجز الكفار من قبائل وأهل الصحابة الذين هاجروا عن الإحتجاج وتوجيه اللوم في موضوع الهجرة، وهو من الإعجاز في سلطان الوحي بلحاظ الآية السابقة التي ذمت الذين كفروا بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ) بينما الأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأتي معه السلطان والبرهان والأثر على النفوس ، فمن سلطان الأمر بالهجرة إلى الحبشة أمور:
الأول : إستجابة الصحابة وقيامهم بالهجرة التي هي أشق ما يكون على النفس والبدن خاصة وأنها فراق للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإبتعاد عن الوحي إلى جانب رشحات الغربة .
الثاني : تلقي أهل مكة الأمر بالهجرة بالسكوت وعدم الإحتجاج ، ومن الآيات أن قريشاً أهل تجارة ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) لبيان أنهم إعتادوا على مغادرة أهليهم ولكن في الكسب والتجارة ، أما هذه المغادرة فهي للعقيدة وحفظها.
الثالث : لعل قريشاً وجدوا مناسبة للإستراحة من الذين هاجروا لأنهم يدعون أبناء مكة إلى الإسلام علناً وخفية ، وفي البيت الحرام وخارجه ، وليس من حصر لوجوه هذه الدعوة ، وهل منها الصبر على تحمل أذى وتعذيب قريش، الجواب نعم .
ومع هذا سعت قريش لإعادة المهاجرين، لإدراك أن ذات الهجرة ترغيب للمسلمين وفتيان قريش بالهجرة، وإحراز سلامة الدين، وفي تأريخ النبوة أن بعض الأنبياء هاجروا من غير قصد القتال، كما في هجرة لوط عليه السلام , قال تعالى[يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
وقد هاجر عدد من أهل البيت والصحابة إلى الحبشة( ) وكان عدد الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة إثنين وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة ، ومنهم من أضاف عمار بن ياسر بعد إزدياد أذى كفار قريش .
وهل يدل إجتماع كبراء قريش على قتل النبي على إمتلاء قلوبهم بالرعب , أم يدل على العكس , الجواب هو الأول ، فلم يكن عند النبي وأصحابه سلاح وخيل ، ولم ينووا القتال وحتى الدفاع ، ومع هذا تجتهد قريش في صيغ وكيفية تعذيبهم , وتجعل هذا التعذيب مقدمة للقتل .
وقد بلغ المهاجرون في الحبشة أن أهل مكة دخلوا الإسلام فرجعوا من الحبشة . حتى إذا صاروا على مشارفها علموا بأن أكثرهم لا زال على الكفر.
فكانوا حين عودتهم وظهور بقاء قريش على الكفر على وجوه :
الأول : من عاد ولم يدخل مكة .
الثاني : الذي دخل بجوار وحماية أحد أكابر قريش .
الثالث : الذي بقى في مكة مستخفياً .
الرابع : من هاجر إلى المدينة وشهد بدراً ، مثل أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة.
الخامس : من حبس في مكة , وتعذر عليه الخروج إلى معركة بدر .
السادس : الذين عادوا إلى الحبشة مهاجرين من جديد بعد أن إشتد عليهم أذى قريش.
ومن مصاديق قوله تعالى [سنلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] أن كل وجه من الوجوه الستة أعلاه سبب لإلقاء الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا , وحصول الإرباك والخذلان في أفعالهم .
لتكون هجرتهم الثانية من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] من جهات :
الأولى : لم تكن الهجرة الثانية إلى الحبشة إلا بأمر من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : تلقي قريش لأنباء حسن جوار ومعاملة النجاشي للمهاجرين.
الثالثة : خيبة قريش عندما أرسلت وفداً إلى النجاشي لتسليم المهاجرين، وعودة الوفد خائباً ذليلاً.
الرابعة : خشية قريش من تشديد الأذى على أبنائهم الذين أسلموا في مكة من إلتحاقهم بمهاجري الحبشة .
الخامسة : إنتشار الإسلام وعدم إنحصار الدعوة بمكة المكرمة, ومن الآيات في هذا الباب أن نصارى نجران بلغهم خبر بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحبشة , مع أن نجران أقرب كثيرا إلى المدينة من الحبشة .
قال ابن إسحاق (ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة , فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة , فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن , فلما سمعوه فاضت عيونهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوا وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.
فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقال لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال ما نعلم راكبا أحمق منكم أو كما قالوا فقال لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه لم نأل من أنفسنا خيرا.
ويقال نزل في النفر من النصارى من أهل نجران قوله تعالى[الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ]( )، إلى قوله (لا نبتغى الجاهلين) وقال الزهري ما زلت أسمع من علمائنا انهن نزلن في النجاشي وأصحابه) ( ).
السادسة : هجرة عدد من المؤمنين إلى الحبشة مقدمة لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة , وكل من الهجرتين سبب لإلقاء الرعب في قلوب المشركين , ومصداق لتنجز الوعد للمؤمنين .
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يهاجر إلى الحبشة، بل هاجر إلى يثرب، ومنها كانت بداية حكم دولة الإسلام ليعود إلى مكة فاتحاً .
لقد جعل الله عز وجل عمل المؤمنين في سبيله سكينة لهم وفزعاً وخوفاً عند الذين كفروا ، وتحتمل هجرة نحو مائة من المؤمنين والمؤمنات إلى الحبشة وجوهاً :
الأول : هذه الهجرة سكينة لذات المهاجرين .
الثاني : إنها سكينة لكل المسلمين والمسلمات آنذاك .
الثالث : في موضوع وحكم الهجرة إلى الحبشة طمأنينة للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، خاصة أنها تبين منزلة المرأة في الجهاد .
فمن الإعجاز في هجرة الحبشة أنها جاءت في بدايات الدعوة الإسلامية , وقبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة لبيان سعة سلطان، الله وتعدد أسباب النصر والغلبة وسلامة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ] ( ) بلحاظ أن سلامتهم نعمة على شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن معجزات رسالته الحسية المتجددة في كل زمان .
الرابع : في هجرة الحبشة رعب وفزع للكافرين , فيجتمعون في دار الندوة أو في البيت الحرام فيتلقون أنباء هجرة عدد من شباب وفتية قريش لتكون شاهداً على هدم عقيدة الآباء الفاسدة التي لم ينزل الله بها سلطاناً، وتأكيداً لإشراقة شمس الإيمان فيستشيطون غضباً على دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويهمون بالإنتقام منه .
فيتجلى النفع العظيم والبركة الحاضرة لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، أي حينما يريدون البطش بالنبي يأتيهم الرعب دفعة , وهو من أسرار مجئ آية البحث بحرف الإستقبال [السين].
فان قلت ذكرت الآية السياق علة إلقاء الرعب في قلوب الكفار ، وهو الشرك بالله بقوله تعالى [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]والجواب نعم ، وإرادتهم البطش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسبب نبوته ورشحاتها وفيوضاتها على الصحابة ومحاربتهم للمشركين بالله ، وتقدير الآية : بما أشركوا بالله ، وما يفعلونه من مصاديق الشرك ).
ليكون من الإعجاز في آية السياق , وصيغة الإستقبال فيها ( سنلقي ) الملازمة بين الرعب وبين إستحداث الكفار لضروب من الشرك ، فكلما صدر منهم قول أو فعل يدل على الكفر وإرادة الشرك يتوجه لهم الرعب فيملأ قلوبهم ، ويبطل سحر فعلهم ، ويكون تقدير الآية بلحاظ التقديم والتأخير فيها كلما أظهر الذين كفروا الشرك نلقي في قلوبهم الرعب , وفيه زجر لهم عن الإضرار بالمؤمنين .
ولتكون هذه الآية مانعاً لهم من الهجوم على المدينة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، لأن الرعب الذي يقذفه الله في قلوب الذين كفروا له سلطان على قلوبهم وجوارحهم بما يجعلهم يتخلفون عن تحقيق النصر .
وتحتمل هجرة فريق من المؤمنين إلى الحبشة في أثرها على كفار قريش وجوهاً :
الأول : رأت قريش في هذه الهجرة هزيمة وفراراً من قبل الذين هاجروا .
الثاني : أظهرت قريش الشماتة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأنهم تركوا مكة وديارهم وهاجروا إلى البلاد البعيدة .
الثالث : أخذت قريش تتطلع إلى ما ينزل من البلاء بالمهاجرين أو تركهم الإسلام ودخولهم النصرانية لأنهم بين ظهراني النصارى وفي بلادهم وحكمهم .
الرابع : أظهرت قريش الفرح بالنقص الحاصل في عدد المسلمين في مكة وما يدل عليه من الضعف في التبليغ والدعوة إلى الإسلام بين الناس عامة والفتوة والشباب خاصة .
الخامس : إصابة قريش بالرعب الشديد من مسألة الهجرة لأنها دليل على إسقرار الإيمان في نفوسهم وإستعدادهم لتحمل الأخطار من أجله .
السادس : إدراك أهل مكة ومن حولها نجاة المهاجرين من ظلم وبطش قريش ، وهو من أسباب مودة المؤمنين في قلوب الناس ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ).
السابع : إنذار قريش وخوفهم من إنتشار الإسلام , وعودة المهاجرين بجيوش لقتالهم .
والصحيح هو الخامس والسادس والسابع أعلاه إلا أن الوجوه الأخرى لا تتعارض معه ، بل تكون في طوله ، ويبين الواقع بطلان شماتة قريش .
لقد كان الكفار في حال رعب وفزع من ميل الناس الفطري إلى الإسلام ودخولهم أفواجاً فيه ، أي أن الدخول في الإسلام على نحو الأفراد والجماعات لا يتعارض مع ميل أغلب الناس له ، ليكون معنى الإستقبال في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]أي أنه رعب مستحدث وشديد خاص بالإشراك بالله ، وتقدير الآية : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب وسنلقي في قلوبهم بما أشركوا ) .
ولتكون الألف واللام في لفظ [الرُّعْبَ]الوارد في آية السياق للعهد وليس للجنس .
لقد إمتلأت نفوس كبار الكفار من قريش بالرعب من هجرة المؤمنين إلى الحبشة , وخشوا على أبنائهم بالخروج تباعاً إليها وهجران الآباء ودينهم ، وصيرورة مكة خالية من شباب قريش ، مما يعرض تجارتهم في [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) إلى الإندثار ، وطمع القبائل العربية بالإستحواذ على أموالهم وديارهم والإستخفاف بهم ، فلذا قامت قريش بارسال وفد من المشركين إلى النجاشي لتسليم وجلب المهاجرين فرجع الوفد خائباً .
دار الندوة
كانت قريش تدخل البيت نهاراً وتخرج منه ليلاً وأنهم كانوا يسكنون بيوتاً من شعر ، وأن أول بيت أنشىء في مكة هو دار الندوة، ولكنه بعيد
فلابد من وجود بيوت حول البيت الحرام قبلها ، خاصة مع وفادة القبائل للحج والعمرة والتجارة ولأن قريش أهل أموال وتجارات وضيافة وأنشئت دار الندوة قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنحو مائة وخمسين سنة .
ويقال ندا فلان الناس يندوهم :أي دعاهم (وقيل: دارُ الندْوَةِ: دارُ الدعْوَةِ إلى الطعَامِ) ( ) (والنَّدْو: مصدر ندا يندو نَدْواً، وهو الاجتماع في النادي. وندا القوم يندون نَدْواً، إذا اجتمعوا في النَّدِيّ، وهو المجلس للقوم؛ والنادي والنَّدِيّ واحد، ومنه اشتقاق دار النَّدوة. قال الراجز :
لكنه يندو كما يندو النَّدي
كأنه في العِزِّ قيسُ بن عَدي) ( ).
وقيل أن اسم الندوة مأخوذ من المناداة والمفاخرة ، وأول من أنشأ دار الندوة هو قصي بن كلاب، وهو الجد الرابع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسمي قصياً لأنه قصي وبعد عن أهله وقومه إذ مات أبوه كلاب بن مرة وتركه وأخوه زهرة وأمهما فاطمة بنت عمرو بن سعد بن سيل وإتفق أن جاء وفد حاج قضاعة وفيهم كبير بني عذرة ربيعة بن حرام بن حنبة فتزوج من فاطمة بنت عمرو ، فأخذت قصياً معها وكان فطيماً أو في سن الفطيم إلى ديار بني عذرة في أطراف الشام وتركت زهرة في مكة لأنه بالغ.
(فولدت فاطمة ابنة عمرو بن سعد لربيعة رزاح بن ربيعة ، فكان أخا قصي بن كلاب لأمه ، ولربيعة بن حرام من امرأة أخرى ثلاثة نفر : حن ، ومحمود ، وجلهمة بنو ربيعة ، فبينا قصي بن كلاب في أرض قضاعة ، لا ينتمي إلا إلى ربيعة بن حرام ، إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء ، وقصي قد بلغ .
فقال له القضاعي : ألا تلحق بنسبك وقومك ، فإنك لست منا. فرجع قصي إلى أمه ، وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي ، فسألها عما قال له.
فقالت : والله أنت يا بني خير منه وأكرم ، أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقومك عند البيت الحرام وما حوله . فأجمع قصي للخروج إلى قومه واللحاق بهم ، وكره الغربة في أرض قضاعة .
فقالت له أمه : يا بني ، لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام ، فتخرج في حاج العرب ؛ فإني أخشى عليك . فأقام قصي حتى دخل الشهر الحرام ، وخرج في حاج قضاعة حتى قدم مكة ، فلما فرغ من الحج أقام بها .
وكان قصي رجلا جليدا حازما بارعا ، فخطب إلى حليل بن حبشية بن سلول الخزاعي ابنته حبى ابنة حليل ، فعرف حليل نسبه ، ورغب في الرجل ، فزوجه ، وحليل يومئذ يلي الكعبة وأمر مكة ، فأقام قصي معه حتى ولدت حبى لقصي عبد الدار ، وهو أكبر ولده ، وعبد مناف ، وعبد العزى ، وعبدا بني قصي ، فكان حليل يفتح البيت ، فإذا اعتل أعطى ابنته حبى المفتاح ففتحته ، فإذا اعتلت أعطت المفتاح زوجها قصيا أو بعض ولدها فيفتحه ، وكان قصي يعمل في حيازته إليه ، وقطع ذكر خزاعة عنه.
فلما حضرت حليلا الوفاة نظر إلى قصي ، وإلى ما انتشر له من الولد من ابنته ، فرأى أن يجعلها في ولد ابنته ، فدعا قصيا ، فجعل له ولاية البيت ، وأسلم إليه المفتاح ، وكان يكون عند حبى ، فلما هلك حليل أبت خزاعة أن تدعه وذاك ، وأخذوا المفتاح من حبى .
فمشى قصي إلى رجال من قومه من قريش وبني كنانة ، ودعاهم إلى أن يقوموا معه في ذلك وأن ينصروه ويعضدوه ، فأجابوه إلى نصره.
وأرسل قصي إلى أخيه لأمه رزاح بن ربيعة وهو ببلاد قومه من قضاعة ، يدعوه إلى نصره ، ويعلمه ما حالت خزاعة بينه وبين ولاية البيت ، ويسأله الخروج إليه بمن أجابه من قومه ، فقام رزاح في قومه ، فأجابوه إلى ذلك ، فخرج رزاح بن ربيعة ومعه إخوته من أبيه حن ومحمود وجلهمة بنو ربيعة بن حرام فيمن تبعهم من قضاعة في حاج العرب ، مجتمعين لنصر قصي والقيام معه .
فلما اجتمع الناس بمكة خرجوا إلى الحج ، فوقفوا بعرفة وبجمع ، ونزلوا منى ، وقصي مجمع على ما أجمع من قتالهم بمن معه من قريش وبني كنانة ومن قدم عليه مع أخيه رزاح من قضاعة .
فلما كان آخر أيام منى أرسلت قضاعة إلى خزاعة يسألونهم أن يسلموا إلى قصي ما جعل له حليل ، وعظموا عليهم القتال في الحرم ، وحذروهم الظلم والبغي بمكة ، وذكروهم ما كانت فيه جرهم وما صارت إليه حين ألحدوا فيه بالظلم والبغي ، فأبت خزاعة أن تسلم ذلك ، فاقتتلوا بمفضى مأزمي منى . قال : فسمي ذلك المكان المفجر لما فجر فيه وسفك فيه من الدماء ، وانتهك من حرمته ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا ، وفشت فيهم الجراحات .
وحاج العرب جميعا من مضر واليمن مستكفون ينظرون إلى قتالهم ، ثم تداعوا إلى الصلح ، ودخلت قبائل العرب بينهم ، وعظموا على الفريقين سفك الدماء والفجور في الحرم ، فاصطلحوا على أن يحكموا بينهم رجلا من العرب فيما اختلفوا فيه.
فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن الليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وكان رجلا شريفا ، فقال لهم : موعدكم فناء الكعبة غدا . فاجتمع إليه الناس ، وعدوا القتلى ، فكانت في خزاعة أكثر منها في قريش وقضاعة وكنانة ، وليس كل بني كنانة قاتل مع قصي ، إنما كانت مع قريش من بني كنانة قبائل يسيرة ، واعتزلت عنها بكر بن عبد مناة قاطبة ، فلما اجتمع الناس بفناء الكعبة قام يعمر بن عوف ، فقال : ألا إني قد شدخت( ) ما كان بينكم من دم تحت قدمي هاتين ، فلا تباعة لأحد على أحد في دم.
وإني قد حكمت لقصي بحجابة الكعبة وولاية أمر مكة دون خزاعة ؛ لما جعل له حليل ، وأن يخلى بينه وبين ذلك ، وأن لا تخرج خزاعة عن مساكنها من مكة . قال : فسمي يعمر من ذلك اليوم الشداخ ، فسلمت ذلك خزاعة لقصي ، وعظموا سفك الدماء في الحرم ، وافترق الناس.
فولي قصي بن كلاب حجابة الكعبة وأمر مكة ، وجمع قومه من قريش من منازلهم إلى مكة يستعز بهم ، وتملك على قومه فملكوه ، وخزاعة مقيمة بمكة على رباعهم وسكناتهم لم يحركوا ولم يخرجوا منها ، فلم يزالوا على ذلك حتى الآن . وقال قصي في ذلك وهو يتشكر لأخيه رزاح بن ربيعة :
أنا ابن العاصمين بني لؤي … بمكة مولدي وبها ربيت
لي البطحاء قد علمت معد … ومروتها رضيت بها رضيت
وفيها كانت الآباء قبلي … فما سويت أخي ولا سويت
فلست لغالب إن لم تأثل … بها أولاد قيدر والنبيت
رزاح ناصري وبه أسامي … فلست أخاف ضيما ما حييت( ).
وقيل أوصى حليل بمفتاح الكعبة لابنته حبى ، فقالت لا أقدر على السدانة ، فجعل ذلك إلى ابن غبشان رجل من خزاعة ، وكان سكيراً وكانت العرب تجعل له رسماً في كل موسم ،فقصروا معه في أحد المواسم فاحتاج يوماً ما يبتاع به خمراً فباع المفتاح بزق خمر( )، فاشتراه قصي فصار في المثل : أخسر من صفقة أبي غبشان( )، وقال الشعراء فيه .
فكان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا ، وأطاعه به قومه ، فكانت إليه الحجابة ، والرفادة والسقاية ، والندوة ، واللواء ، والقيادة ، فلما جمع قصي قريشا بمكة سمي مجمعا ، وفي ذلك يقول حذافة بن غانم الجمحي يمدحه :
أبوهم قصي كان يدعى مجمعا … به جمع الله القبايل من فهر
هم نزلوها والمياه قليلة … وليس بها إلا كهول بني عمر
(يعني خزاعة) ( ).
وقام قصي ببناء دار الندوة ، لتكون محلاً للإجتماع والتباحث واللقاء وإطعام الطعام .
لقد أدرك قصي أن خزاعة لن تسكت على ما أصابها ، وأنها قد تثب عليه وهو يعلم باحاطة الدول العظمى دولة الروم وحكومة الفرس ، وحكومة الحبشة ، بمكة والجزيرة فأسس دار الندوة لتكون مجلس شورى ودار حكم ومقر قيادة ، وصارت محلاً لفك الخصومات ، ودفع المظالم ، وكان لا يدخلها إلا من كان عمره أربعين سنة أو أكثر بأستثناء ولد قصي فيشتركون في التشاور والنظر في الأمور وإن كان عمرهم أقل من أربعين سنة ،وهو من سعي قصي لتكون الرئاسة وراثة في ولده فجمع بين توليهم شؤون الإدارة والسياسة ووفد الحاج وبين المنع من ظهور الخلافات والفتن والإقتتال بينهم ، خاصة وأنه إستلم المفتاح والرياسة بالسيف وسيلان الدماء مع إنه أخذها بالوصية من عمه والد زوجته على قول فقام بتوزيع شؤون الملك والوفادة والرئاسة على أولاده على وجهين :
الأول : دار الندوة والسدانة واللواء لعبد الدار .
الثاني : السقاية والرفادة والقيادة لعبد مناف .
ومع هذا كادت أن تحدث خصومات وإقتتال بعد وفاة قصي لولا التدارك والإحتكام وإستحضار وصيته والعمل بما أمضاه في حياته ، وبقي شأن وهيبة دار الندوة والصدور من قراراتها إلى بدايات الدعوة الإسلامية .
ثم إجتمعت قريش فيها ، وإتفقوا على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله في فراشه فأوحى الله عز وجل إليه فخرج مهاجراً إلى المدينة وبعد ثمان سنوات من الهجرة المباركة ، وفي العشرين من شهر رمضان دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة فاتحاً.
(ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد بها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها .
ثم وقف على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده إلا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ألا وقتيل الخطأ شبيه العمد السوط والعصى ففيه الدية مغلظة مائة من الابل أربعون منها في بطونها أولادها .
يا معشر قريش إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها( ) بالآباء ،الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) ( ) الآية.
ثم قال يا معشر قريش ما ترون أنى فاعل فيكم قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم ثم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء ثم جلس في المسجد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أين عثمان بن طلحة فدعى له فقال هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر ووفاء) ( ).
وفي شهر صفر من السنة الرابعة عشرة للبعثة النبوية الموافق شهر أيلول سنة 622 ميلادية وبعد شهرين من بيعة العقبة وإنقضاء الأشهر الحرام باطلالة شهر صفر إجتمع كفار قريش، للإنقضاض على النبوة وإرادة قطع أنهار الوحي وهم :
الأول : عمرو بن هشام بن المغيرة عن بني مخزوم وكان يكنى أبا الحكم فكناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل فذهبت كنية وإسماً له إلى يوم القيامة .
الثاني : جبير بن مطعم ، وطعيمة بن عدي ، والحارث بن عامر عن بني نوفل بن عبد مناف .
الثالث : النضر بن الحارث عن بني عبد الدار .
الرابع : أبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وكليم بن حزام ، عن بني أسد بن عبد العزى .
الخامس : نبيه ومنبه إبنا الحجاج عن بني سليم .
السادس : أمية بن خلف عن بني جمح .
السابع :حضر معهم (ممن لا يعد من قريش ) ( ).
(فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإننا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً.
قال: فتشاوروا، ثم قال قائل منهم، قيل إنه أبوالبخترى بن هشام: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم) ( ).
وحضر معهم إبليس بهيئة شيخ نجدي ليفتنهم وإقترح عليهم أبو جهل إقتراحاً فقبلوه وأجمعوا أمرهم عليه إذ قال (وَاَللّهِ إنّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ ، قَالُوا : وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا ، ثُمّ نُعْطِي كُلّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا ، ثُمّ يَعْمِدُوا إلَيْهِ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُوهُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ . فَإِنّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعًا ، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا ، فَرَضُوا مِنّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ)( ).
(فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَا تَبِتْ هَذِهِ اللّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِك الّذِي كُنْت تَبِيتُ عَلَيْهِ . قَالَ فَلَمّا كَانَتْ عَتَمَةٌ مِنْ اللّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكَانَهُمْ قَالَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَمْ عَلَى فِرَاشِي وَتَسَجّ بِبُرْدِي هَذَا الْأَخْضَرِ) ( ).
وتولى كبراء قريش بأنفسهم الهجوم على دار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله ولم يبعثوا شباباً من أولادهم أو غلماناً لهم لأنهم أدركوا أن الإسلام دخل بيوتهم وأن تكليف الأبناء بقتل النبي يعني شيوع الأمر وفضحهم وإحتراز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتولى جبرئيل إخباره [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
لتكون دار الندوة شاهداً على مكر وخبث قريش ، وأن هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت ضرورة وواقية وسبيلاً للنجاة والسلامة ومن يومها تداعى أمر دار الندوة أخذ شأن دار الندوة يخفت بسرعة ،قال تعالى [يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ]( ) ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخلها عام الفتح أو في حجة الوداع .
و(عن أسامة بن زيد، قال: قلت يا رسول الله أين تنزل غدا – في حجته – ؟ قال: وهل ترك لنا عقيل منزلا ! ثم قال: نحن نازلون غدا إن شاء الله بخيف بنى كنانة – يعني المحصب) ( ).
ويدل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وهل ترك لنا عقيل) على مسائل :
الأولى : إرادة اللوم لعقيل على بيع دور بني هاشم .
الثانية : من الدور التي باعها عقيل بن أبي طالب ما هو عائد في ملكيته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذات ، فلو كانت الدور عائدة لأبي طالب كما ذكر بعضهم ،لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ترك لنا) فالنبي لا ينزل بدار عمه أبي طالب كمنزل ملك ، وموجود يومئذ العباس بن عبد المطلب وداره ، وهو عم النبي محمد أيضاً .
الثالثة : كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيت أو بيوت في مكة قبل أن يغادرها مهاجراً , منها بيته الذي أرادت قريش قتله فيه ، ولعله الذي أنشئت مكانه في هذا الزمان مكتبة مكة العامة .
الرابعة : لقد ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيوت التي باعها عقيل في أيدي أهلها مع أن ظاهر كلام النبي أن بيعه لها فضولي .
الخامسة : ترى هل من ضغوط من قريش على عقيل كي يبيع دور النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين من أهل البيت ،الجواب لا دليل عليه .
وأشترى معاوية دار الندوة معاوية بمائة ألف درهم ،وقام بترميمها وإعترض شيبة بن عثمان وطلب الشفعة وأنه أحق بالشراء وأخذ أمراء بني أمية ينزلون بها عند مجيئهم إلى مكة إلى أن جرت توسعة البيت الحرام ، كما أخذ ملوك بني العباس ينزلون بها ، وكانت مقر أمراء مكة إلى أن تولى بريد مكة رجل من أهلها سنة 281 هـجرية ، فكتب إلى بغداد أيام المعتضد العباسي يرغب بتوسعة البيت الحرام ويبين الحاجة إلى ضم دار الندوة إلى البيت خاصة وأنها لا تبعد عن الكعبة الشريفة إلا أمتاراً معدودات ، وطلب من أمير مكة وقاضيها أن يكتبا بمثل ما كتب رفعاً للحرج عند شدة الزحام.
لقد كان الرعب يتغشى إجتماع قريش في دار الندوة من الإسلام وبدل أن يتدبروا بمعجزات النبوة ، بذلوا الوسع في المكر وأصروا على العناد ،وما نهى الله عنه قال تعال [وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
علم المناسبة
وردت مادة(لقى) في مواطن كثيرة من القرآن، وبصيخ الفعل المتباينة الماضي والحاضر والمستقبل، والمصدر والإسم، وبهيئة الفاعل، وبخصوص عالم الدنيا والآخرة.
ويقال لقيته لقاءً ولقياً أي قابلته وتلقاه أي إستقبله (وألقيته: أي طرحته)( )، وألقيت إليه المودة وبالمودة، واللقاء مصدر وكذا التلقاء.
ويمكن تأسيس(مدرسة اللقاء) في القرآن لبيان ما فيه من البشارة والإنذار , وتتبع آيات الإلقاء واللقاء والتلقي في القرآن، وجاء لفظ سنلقي في آية السياق بصيغة الإنذار والوعيد للذين كفروا، وجاء مرة أخرى في خطاب اكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً]( )، لبيان بركة وعظيم نفع وأثر التنزيل، فاذا كان الذين كفروا أشركوا بما لم ينزل به الله سلطاناً، فان كل آية من القرآن ذات سلطان وهي حجة على الذين كفروا، ودعوة لهم لترك عبادة الأوثان , وما ليس فيه وبرهان إلى سلطان التنزيل الذي إقترن بالوعد والوعيد، وهناك مسألتان بلحاظ الآية أعلاه :
الأولى : يكون تقدير آية السياق : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب إذ سنلقي عليك قولاً ثقيلاً)، وفيه وجوه:
أولاً : من معاني ثقل التنزيل هو كونه ثقيلاً على الكافرين والمنافقين.
ثابتاً : من خصائص الوعيد أنه ثقيل لما فيه من التهديد والوعيد.
ثالثاً : جاء القرآن لدعوة الناس للإيمان، وهو ثقيل على الذين كفروا في ذاته، وفي الإستجابة لدعوته، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
رابعاً : في الآية أعلاه حذف، وتقديرها: سنلقي عليك قولاً كريماً، يكون على الذين كفروا ثقيلاً.
خامساً : إرادة ثقل المصداق الخارجي والفعلي لهذا القول على القوم الذين كفروا.
سادساً : من معاني القول الثقيل أي الشديد وتضمنه الوعيد، وجاءت آية السياق بما هو أقرب من الوعيد، إذ تتضمن العقاب والجزاء العاجل للذين كفروا.
سابعاً : إرادة إنذار الذين كفروا، وبيان قانون، وهو أن كلام الله أمر منجز، وهو واقع قطعاً، وفيه عبرة وموعظة ، لتكون آية السياق حجة على الكافرين.
وهذه المعاني لا تتعارض مع ثقل ذات كلمات التنزيل ساعة الوحي إذ كانت ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقف في مكانها عند نزول الوحي عليه إذا كان راكباً ، فلا تغادر موضعها وتستأنف السير إلا بعد أن يسري عنه، ليبدأ بنطق وتلاوة الآيات التي أنزلت عليه.
الثانية : يكون تقدير آية البحث : لقد صدقكم الله وعده سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) وفيه وجوه:
الأول : من القول الثقيل بلحاظ آية البحث أمور منها:
أولاً : الوعد الإلهي للمسلمين.
ثانياً : مجئ القول الثقيل بواسطة الملك جبرئيل.
ثالثاً : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من القول الثقيل.
رابعاً : صفة الثقل لذات التنزيل وإن كان الثقل للأحسام، وعن زيد بن ثابت : أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فكادت تُرض فَخذي ( ).
الثاني : وجوب الدعوة إلى الله عز وجل، والصبر على الأذى.
الثالث : مجئ الأمر بالقتال، ومحاربة الذين كفروا.
الرابع : إرادة الفرائض والتكاليف وإقامة الحدود، كما في قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
الخامس : ثقل ثواب العمل بالتنزيل في الميزان يوم القيامة.
السادس : ثقل تلاوة القرآن على القوم الكافرين.
لم يرد في القرآن لفظ (نلقي ) من غير حرف إستقبال ، ولم يرد فيه لفظ (سوف نلقي ) للمستقبل البعيد , بينما ورد لفظ [سنلقي] في القرآن مرتين ، وكلاهما تعودان لله عز وجل .
وإذ ورد هذا اللفظ في آية السياق بصيغة الإنذار والتخويف , فقد ورد مرة أخرى بصيغة المنّ والنعم في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] ( )، وفيه إخبار عن نزول آيات القرآن بلغة الإستعارة لأن الثقل يكون للأجسام والأوزان لبيان أن كلام الله عز وجل ثقيل من جهة صدوره من حضرة القدس , وسلطان الكبرياء , وهو ثقيل من وجوه :
الأول : نزول الآية القرآنية بواسطة جبرئيل عليه السلام ،وهو من سادات الملائكة ، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ] ( ).
(عن ابن عباس { نزل به الروح الأمين } قال : الروح الأمين : جبريل له ستمائة جناح من لؤلؤ قد نشرها , فهم مثل ريش الطواويس) ( ).
الثاني : القرآن ثقيل لما فيه من الفرائض والأحكام والحدود ، كما في قوله تعالى في لفظ [كَتب ] الذي هو بمعنى فرض وأوجب ، والذي ورد في القرآن إثنتي عشرة مرة ، كلها في العبادات والأحكام والسنن إلا واحدة بخصوص مهر المرأة في قوله تعالى [وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ]( ).
وكان العرب في الجاهلية يغزو بعضهم بعضاً ويحدث والقتل والثأر بينهم ، وتكثر اليتامى والأرامل حتى مع الوأد , فاذا كانت يتيمة في حجر وكنف رجل يحل له تزوجها وتزويجها فيلقي عليها ثوبه ، فلا يقدر أحد من زواجها ، فاذا كانت جميلة تزوجها وأكل مالها ، وإن كانت دميمة إمتنع عن نكاحها ونهى عن تزويجها ، فنهاهم الله عنه .
الثالث : القرآن قول وكلام ، ولكن له ثقل الأجسام التي تفوق المنقول منها بين الناس لبيان سنخية كلام الله وحضوره في كل زمان ونفاذه إلى شغاف القلوب ، وهل من مصاديق آية السياق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] حدوث هذا الرعب بثقل كلام الله , الجواب نعم ، لذا ترى الفزع يملأ قلوب الكفار عند نزول القرآن ، كما كانوا والمنافقين يخشون نزول آيات تفضحهم وتخزيهم إلى يوم القيامة ، بدليل قوله تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ] ( ).
الرابع : إرادة تهيئة النبي في نفسه وبدنه وهيئته صلى الله عليه وآله وسلم لإستقبال نزول آيات القرآن .
وعن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوحي إليه ، وهو على ناقته ، وضعت جرانها فما تستطيع أن تتحوّل حتى يسري عنه ، وتلت { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً })( ).
الخامس : بيان صفة من صفات القرآن وشاهد إعجازي ودعوة للناس لتلقيه بالتدبر .
السادس : ذكر القرآن من جهة العمل به ، والتقيد بمضامينه، وما فيه من الأوامر والنواهي .
السابع : ثقل القرآن في رجحان كفة الميزان لمن يعمل به .
الثامن : ثقل وطأة التنزيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : فما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقبض) ( ) .
ومن الإعجاز القرآني ورود قوله تعالى[إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] ( ) خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الإستقبال ، وفيه وجوه :
الأول : إرادة ما يأتي من آيات خاصة وأن الآية أعلاه من سورة المزمل وهي سورة مكية , وجاءت أغلب الأحكام والفرائض في السور المدنية بعد دخول الناس في الإسلام ، نعم جاءت ذات سورة المزمل بوجوب الصلاة والزكاة , بقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ).
الثاني : كل آية من آيات القرآن قول ثقيل وسورة المزمل من أوائل سور القرآن نزولاً .
الثالث : إرادة سور القرآن مع مجموع الوحي , والحديث القدسي .
الرابع : المراد آيات وسور القرآن التي تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار هو الرابع , وأن المراد مجموع آيات القرآن ولبيان حقيقة وهي أن ما نزل قبل المزمل فيه تخفيف عن النبي سواء كانت سورة العلق أو المدثر ، ومعنى المزمل أي الملتف في ثيابه .
وعن جابر (قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسمًا تصدر الناس عنه. فقالوا: كاهن. قالوا: ليس بكاهن. قالوا: مجنون قالوا: ليس بمجنون. قالوا: ساحر. قالوا: ليس بساحر. فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها. فأتاه جبريل، عليه السلام، فقال: ” يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ” ” يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ “)( ).
وقال جابر عبد الله وعدد من التابعين أن سورة المدثر مكية , وقال ابن عباس باستثناء آيتين منها مدنيتين [ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً] ( ).