معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 126

المقدمة
الحمد لله على نعمة التوحيد وإنقطاع الخلائق لعبادته والتسبيح له المقرون بالتسليم بربوبيته المطلقة، فتفضل وجعل بداية القرآن بعد البسملة قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، للبيان والتحدي وتهذيب الألسنة وإصلاح النفوس، وتوالي النعم على المؤمنين وأهل الأرض ، وهو من فيوضات القرآن , وصيرورة إمامته مدخلاً وسبيلاً للرزق الكريم .
ومن أسرار جعل قراءة هذه الآية واجبة وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم.
ومع كثرة تلاوتها فان المسلمين يتلونها بشوق وخضوع وخشوع، ويتخذونها زاداً ومتاعاً في النشأتين.
وتلاوة هذه الآية من مصاديق قوله تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( )، ولا يختص الزاد في المقام بذات التلاوة بل تترشح عنها المنافع الظاهرة والباطنة , ومنها إكتناز الحسنات، والشهادة بالتقوى ، والوقاية من الإصرار على المعصية، لأن هذه التلاوة تجديد إعلان العبودية لله عز وجل.
الحمد لله الذي أنزل القرآن على خاتم الأنبياء والمرسلين ليكون ضياء سماوياً ينير دروب الهداية للناس، وتعجز الخلائق عن حجب هذا الضياء عن أي إنسان لذا تفضل الله وجعل التوبة ودخول الإسلام من غير واسطة أو مدة , فليس بين الإنسان والتوبة إلا الإستغفار، ولا يفصل بينه وبين الإسلام إلا النطق بالشهادتين، ليرتقي في سلم الكمالات .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , قال: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم( ).
الحمد لله الذي جعل القرآن كتاب البشارة والإنذار، والوعد والوعيد منطوقاً ومفهوماً ومصداقاً متجدداً في كل زمان ومكان، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
الحمد لله الذي أنعم علينا بهذا السفر المبارك(معالم الإيمان في تفسير القرآن) الذي لم يشهد له التأريخ مثيلاً في مضامينه وجاء الجزء السابق وهو الخامس والعشرون بعد المائة خاصاً بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها في تأويل وإستنباط وعلوم من ذخائر علم الصلات تجلت شذرات ولآلئ منها في هذا التفسير , ليكون تأسيساً لعلوم غير متناهية في باب التفسير والتأويل تبين لأجيال الناس جميعاً صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل ولزوم التصديق به.
وقد تفضل الله عز وجل علينا بافراد باب في تفسير كل آية إسمه (إعجاز الآية) بعد أن كانت كتب الإعجاز معدودة في تأريخ الإسلام، وكل كتاب منها يتناول إعجاز القرآن على نحو الإجمال وسور الموجبة الكلية ثم أنعم الله علينا في الجزء قبل السابق , وهو الرابع والعشرون بعد المائة شطر إعجاز الآية إلى قسمين :
الأول : إعجاز الآية الذاتي : وذات كل شيء ما يخصه ويتعلق به موضوعاً وحكماً، ويطلق لفظ الذات على نفس وعين الشيء لذا أضفنا كلمة الإعجاز لبيان ألفاظ , وكلمات الآية من الأمور الخارقة للعادة المقرونة بالتحدي السالمة عن المعارضة ، لتتجلى إشراقات صبغة القرآنية السارية في جميع حروف وكلمات القرآن.
الثاني : إعجاز الآية الغيري : تتبين وتستنبط من علوم التفسير والتأويل قواعد وقوانين من الإعجاز الغيري للآية القرآنية تكون نبراساً للعلماء، وتفتح آفاقاً من العلوم، وتصبح أمارة ودليلاً في أحاديث العرض، أي عرض الأحاديث على القرآن، والأخذ بما وافق القرآن، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقيصة إلى يوم القيامة لحاجة الناس لعلومه والإقتباس منه، والصدور عنه، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وللشيء معان:
الأول : الموجود الثابت المتحقق.
الثاني : ما يتصور في الوجود الذهني.
الثالث : ما يخبر عنه حسياً كان أو معنوياً، ويقال: الشيء بالشيء يذكر، أي أن الأمر والفعل يكون سبباً للتذكير بآخر شبيه له.
ولما كانت الأشياء غير متناهية , ويتعذر على الخلائق إحصاؤها لبيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه، وعجز العقول حتى في التصور الذهني عن درك كنهها فان التبيان يتصف بذات الخصوصية والتجدد والسعة من جهات:
الأولى : بيان الأشياء مرآة لها، وإيضاح لموضوعها وسنخيتها، ومنع للبس فيها.
الثانية : البيان إقامة للحجة، وإحضار للبرهان وأسباب الإستنارة , والتفقه في الأمور.
الثالثة : إرادة قاعدة نفي الجهالة والغرر عن الناس في أمور الدين والدنيا.
الرابعة : التفصيل في البشارة والإنذار في القرآن.
الخامسة : إستقراء العلوم بالبيان لآيات القرآن.
السادسة : تأسيس قواعد وقوانين مستقرأة من آيات القرآن، تكون دستوراً للناس، ومادة لإشتقاق الأحكام منه.
السابعة : إيضاح السنن الواردة في القرآن بالثناء على الحسن منها ، وترغيب الناس بالعمل به، قال تعالى في الدعوة إلى إتباع سنن الأنبياء [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الثامنة : منع اللبس والجدال وأسباب الشك والريب في آيات القرآن.
التاسعة : نفي التزاحم والتعارض بين آيات القرآن.
العاشرة : معرفة علوم الناسخ والمنسوخ ، والمجمل والمبين ، والمحكم والمتشابه، والمطلق والمقيد في القرآن.
وكل علم من هذه العلوم كنز من درر القرآن، وجامعة لإستقراء سبل الهداية.
الحادية عشرة : تثبيت مصاديق الإيمان عند المسلمين ، وترسيخ مفاهيم الهدى في نفوسهم.
الثانية عشرة : بعث النفرة في النفوس من الكفر والضلالة، قال تعالى[وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ]( ).

قانون الإعجاز في وقت وزمان النبوة الخاتمة
من تجليات آية البحث( ) والسياق( ) تنمية ملكة الصبر عند المسلمين ، ومن أسبابها آية البحث التي تبين جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وما لاقوه من الأذى بسبب إصرار الذين كفروا على محاربة النبوة , وقتال الذين آمنوا بالسيف والرماح والنبال التي هي أشد أسلحة ذلك الزمان فتكاً.
فان قلت تكون هذه الوسائل سبباً لرجحان كفة الحق وتجلي معجزات النبوة ، وميل القلوب إليها , والجواب نعم ، ولكن الذين كفروا أسرع إنقضاضاً ، ويبادرون إلى الغزو والهجوم ومحاولة طمس الحقائق قبل أن ينجذب إليها الناس ، ويمنعون من تدبرهم في أسرارها خاصة , وأن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقلية وهي آيات القرآن .
وتجلت هذه الحقائق بصدود قريش من النبوة وشدة فتكهم بالمؤمنين الأوائل وقيام كبار رجالات قريش بكتابة وثيقة بحصار بني هاشم وبني عبد المطلب في شعب أبي طالب وعلقت الوثيقة بالكعبة والذي كتبها هو بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار فشلت يده .
وقد لا يتصور الإنسان في الوجود الذهني أنه تكتب آنذاك وثيقة وعهد بحصار إقتصادي سياسي إجتماعي من جهات :
الأولى : عدم جواز البيع لأهل البيت أو الشراء منهم .
الثانية : عدم الإختلاط معهم .
الثالث : ألا تنكح قريش من أهل البيت ولا يزوجوهم .
وأخذ أهل مكة يسمعون صراخ صبيان بني هاشم من ألم الجوع ، ولم تكتف قريش بما في الوثيقة والتقيد بها ، بل تعدوا فقاموا بشد وثاق وإيذاء من أسلم من بني هاشم وغيرهم.
ولم تأت العلوم والتقنيات الحديثة وتسخيرها في الحروب إلا وقد إنتشر الإسلام في أقطار الأرض , وتجلت معجزات النبوة للناس , وصاروا يتدبرون بمعجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية المتكثرة والمتعددة وإقتباس المسائل منها ، ويتفكرون بآيات القرآن وأسرارها وذخائرها غير المتناهية بما يفوت على الذين كفروا طمس حقائق التنزيل.
وعدد آيات القرآن هو ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية , ولابد لهذا العدد من أسرار وإفادته بذاته لعلوم مقتبسة من ذات العدد الملكوتي وإن نسب في علم الأصول إلى المشهور عدم المفهوم للعدد إذ أن مفاهيم المخالفة ليس بحجة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من بنى مسجدا يراه الله بنى الله له بيتا في الجنة ، فإن مات من يومه غفر له ، ومن حفر قبرا يراه الله بنى الله له بيتا في الجنة ، وإن مات من يومه غفر له( ).
لا يدل على أن من بني أكثر من مسجد ليس له ذات الأجر والثواب وزيادة من فضل الله لعمومات قوله تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ).
لقد تفضل الله عز وجل بتقسيم القرآن إلى سور وعدد سوره مائة وأربع عشرة سورة .
وقد يلغز فيقال أي شيء إذا عددته زاد على المائة وإذا عددت نصفه كان دون العشرين ، لأن نصف القرآن عند سورة الكهف وهي السورة الثامنة عشرة في ترتيب القرآن ، ونصف القرآن بالحروف عند حرف الفاء في قوله تعالى [وَلْيَتَلَطَّفْ] ( ) .
أما نصفه في الآيات فعند قوله تعالى [وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ] ( )، من سورة الشعراء وهي في الجزء التاسع عشر من مجموع أجزاء القرآن الثلاثين .
أما نصف القرآن بلحاظ السور فعند سورة [المجادلة ] التي تبدأ بقوله تعالى[قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ]( ).
وكان سبب نزولها أن امرأة من الأنصار إسمها خولة بنت ثعلبة متزوجة ابن عم لها هو أوس بن الصامت ، فظاهرها ، وقال (أنت علي كظهر أمي ) وكان الظهار في الجاهلية كالطلاق البائن بل هو أشد إذ تحرم على المظاهر على نحو التأبيد ، ويجوز أن ترجع البائن إلى زوجها بعد أن ينكحها ثم يفارقها غيره فأصاب خولة الكدر والحزن .
فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلم الأنصار رجالاً ونساءً بأن الله عز وجل ينزل قرآناً عليه في الوقائع والأحداث وأن السنة النبوية حكم يفيد القطع.
فقالت (إن زوجي كان تزوجني وأنا أحب الناس إليه حتى إذا كبرت ودخلت في السن , قال : أنت عليّ كظهر أمي وتركني إلى غير أحد ، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني وإياه بها فحدثني بها.
قال : والله ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن ، ولكن ارجعي إلى بيتك فإن أومر بشيء لا أعميه عليك إن شاء الله ، فرجعت إلى بيتها.
فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب رخصتها ورخصة زوجها , فقال : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } إلى قوله : { عذاب مهين }( )( ).
فأرسل إلى زوجها ، فقال : هل تستطيع أن تعتق رقبة ؟ قال : إذن يذهب مالي كله ، الرقبة غالية وأنا قليل المال.
قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين.
قال : والله لولا أني آكل كل يوم ثلاث مرات لكلّ بصري ، قال : هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً ؟ قال : لا والله إلا أن تعينني ، قال : إني معينك بخمسة عشر صاعاً) ( ).
وأطول آية في القرآن هي آية الدين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ) ( ).
وأطول كلمة في القرآن رسماً هي [فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ]( ).
وقد أنعم الله عز وجل علينا بهذا السفِر ( معالم الإيمان في تفسير القرآن ) ليكون ويبقى آية في العلوم , وكأن علم التفسير أشرق على الأرض من جديد للفارق الكبير بينه وبين غيره في التأويل والإستنباط والمسائل , مع أن كل واحد من تفاسير العلماء علم قائم بذاته يتضمن مباحث وتأويلاً ونكات لا يمكن الإستغناء عنها أو التفريط فيها .
وجاءت آية السياق لتبين أن أطول رعب في تأريخ الإنسانية هو الرعب المترشح عن الشرك ، ومعاداة النبوة والتنزيل لبيان نكتة علمية ، وهي أن كل آية من القرآن تنفر وبأمر مخصوص وسر مستودع في مضامينها إن لم يكتشف في هذه الأجيال يستقرأ بعد حين .
وقد إبتدأتُ بكتابة هذا الجزء وهو السادس والعشرون بعد المائة ليكون خاصاً بتفسير وتأويل الآية [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] ( ).
وأنا منشغل بالشكر لله عز وجل على نعمته العظيمة باصدار الجزء الخامس والعشرين بعد المائة في الصلة بين آيتين من القرآن , هما الآية (151 -152 ) من سورة آل عمران الذي هو ثورة في علوم أهل الأرض وأمر أبهر العقول وتلقاه أهل العلم والمؤمنون بالشكر لله والتضرع والدعاء لإكمال ، وتجلت بركات الإلحاح بالدعاء والمتعدد في زمانه ومكانه بالتوفيق بفضل من الله عز وجل لصيرورة هذا الجزء خاصاً بالصلة بين الآية (151 – 153) من سورة آل عمران نفسها ليكون تأكيداً لعلم الصلات , وتأسيساً لعلوم قرآنية غير متناهية .
ويتقوم علم سياق الآيات الذي أسسناه بهذا التفسير بأبهى صورة لم تطرأ على بال أحد إلا على نحو الإجمال المتسالم عليه عند المسلمين والمسلمات وهو أن علوم القرآن خزائن تمتنع عن النضوب ، ولما ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه يأتي بحمل حمل بعير في تفسير سورة الفاتحة .
وهذا زمان التداخل بين الأمم والتضارب بين الشعوب وإنتشار الجامعات العلمية في أغلب مدن العالم في زمان الإتصالات السريعة ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة وأوان العولمة ، وصيرورة العالم كالمصر الواحد المترامي الأطراف , ليأخذ علم التفسير مكانه الريادي بين العلوم بأن توالت أجزاء كتابنا هذا الموسوم (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) .
وصدرت منه مائة وإثنان وعشرون جزءّ ، ولا زلنا في بدايات القرآن ، وقد آذانا أهل الحسد والجهالة مع صدور كل جزء ومنه قولهم كيف تكون أجزاء التفسير بالملايين ثم أين هي المكتبة التي تستوعب وتضم الآلاف أو أكثر من التفسير ومن يقرأه , ولماذا يكتب أحسن تفسير.
ومن مظاهر التقنية في هذا الزمان صناعة الأقراص الليزرية ليستوعب القرص الواحد ملايين الكتب ، وليكون الكتاب الأول الذي تختص به هذه الأقراص في كل زمان هو علم تفسير القرآن من وجوه :
الأول : كثرة أجزاء التفسير الواحد .
الثاني : تتابع صدور أجزاء التفسير إلى اللامتناهي بجهود العلماء في الأجيال اللاحقة في الأزمنة والأحقاب المتعاقبة .
الثالث : إجتماع العلماء من مختلف العلوم على تفسير وتأويل كل آية من القرآن بذات المنهجية في التفسير التي تتجلى في هذا الجزء , والجزء الخامس والعشرين بعد المائة بأن يكون كل جزء في صلة آية بآية أخرى لكان مجموع أجزاء التفسير حسب (المتتابعة الهندسية والحسابية هو :
730 ,446، 19
تسعة عشر مليوناً وأربعمائة وستة وأربعين الفاً وسبعمائة وثلاثين علماً) والتفسير الذي نقترحه قد بيناه في مقدمة الجزء السابق, وقد جاء هذا الجزء بالصلة بين شطر من آية بشطر من آية أخرى والحمد لله , وفيه حجة وبرهان ودعوة لإستقراء ذخائر القرآن .
لقد أراد الله عز وجل لعلم القرآن التثوير والبيان التفصيلي في زمن العولمة وما بعده ، وليكون هذا التفسير تأسيساً لعلوم مستحدثة يأتي بها العلماء في الأجيال القادمة مما لم يخطر على التصور الذهني للناس.
وفي قصة الرسول موسى عليه السلام والخضر أنه جاء عصفور فوقع على حرف السفينة (ثُمَّ نَقَرَ فِي الْبَحْرِ ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ : مَا عِلْمِي وَعِلْمُك فِي عِلْمِ اللَّهِ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ الْبَحْرِ ) ( ).
ونقله الزركشي بمعنى النقص بقوله (وكما قال الخضر عليه السلام ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من ماء البحر حين غمس منقاره فيها) ( ).
وليس من نقص في علم الله إنما يتفضل الله عز وجل فيؤتي من يشاء علمه ، وكذا بالنسبة لعلوم التفسير ودلائل التأويل المستنبطة من القرآن فأنها إغتراف شذرات من بحور العلم وذخائر البيان وأسرار الخلق والتكوين التي في ثنايا آيات القرآن ، ليستمر قانون الإغتراف هذا إلى يوم القيامة من غير أن تنفد عجائب ومعجزات القرآن الذاتية والغيرية والتي تتعلق بالدنيا والآخرة وبالعبادات والمعاملات ،ولتتبين قبسات من الإرادة التكوينية والتشريعية رحمة من عند الله .
ليكون من أسرار إختتام النبوة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم وجود أسلحة الدمار الشامل والطائرات والدبابات أيام البعثة ، فلم يستطع كفار قريش ونحوهم الإجهاز عليه , إذ بدأ الإسلام غريباً على نحو الأفراد ثم نشأت دولته في بلدة واحدة من أمصار الأرض وهي المدينة المنورة لمدة عشر سنوات خاض خلالها المسلمون معارك متعددة , وقاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه نحو تسع عشرة كتيبة .
وعن زيد بن أرقم (أنه سئل: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: تسع عشرة، شهد منها سبع عشرة أولهن العسيرة، أو العشيرة)( ).والمشهور والمختار أن أول كتيبة خرج بها صلى الله عليه وآله وسلم هي كتيبة الأبواء .
ولم يجر قتال إلا في تسع كتائب منها وتحققت الغايات الحميدة، وما فيه تعظيم شعائر الله من الكتائب الأخرى من غير قتال ، وهو من عمومات قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
إذ تبين هذه الأعداد أن القتال لم يحصل إلا في أقل من نصف هذه الكتائب للتخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وليلتفتوا إلى أداء الفرائض والعبادات فلإن لم يكن قتال في أغلب الكتائب فان الصلاة واجبة خمس مرات على كل مسلم ومسلمة وليس المجاهدين وحدهم، وكذا بالنسبة للصيام لمن لم يكن مريضاً أو على سفر، وكذا وجوب الحج لمن يملك الزاد والراحلة، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، لتكون الآية أعلاه بشارة فتح مكة، وعصمتها من غزو وطغيان الكفر وأسباب الشرك والضلالة.
وقلة عدد الكتائب التي حصل فيها قتال من مصاديق آية السياق[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، وصيرورة الكفار عاجزين عن المواجهة والقتال ، ومن مصاديق الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إدراك الناس لصدق نبوته والعلم بأن محاربته لا تجلب إلا الخيبة والخسارة، لذا فان قوله بخصوص حال كفار قريش عند عودتهم من معركة أحد[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) إنذار متجدد للذين كفروا للزوم إجتناب محاربة النبوة والإسلام، وأولى كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي كتيبة الأبواء وتسمى ودان في الشهر الأخير من السنة الأولى لهجرته إلى المدينة ، خرج يطلب قريشاً وبني ضمرة .
قال ابن إسحاق (فوادعته فيها بنو ضمرة , وكان الذى وادعه منهم عليهم مخشى بن عمرو الضمرى , وكان سيدهم في زمانه ذلك ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة , ولم يلق كيدا) ( ).
وكما أنه لم تكن في زمان النبوة أسلحة دمار شامل وكذا لم تكن هناك إتصالات سريعة ووسائل إعلام مرئية ومسموعة , لتكون أحكام الشريعة واقية من البطش النوعي والفتك العام .
وتنقسم الجملة تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين :
الأول : الجملة الخبرية التي تفيد معنى الإخبار عن شيء أو واقعة وتحتمل الصدق والكذب وما في معناه ، ويلحق الظن المعتبر بالصدق لأنه من وجوه التصديق ومن أمثلة الجملة الخبرية لوقال شخص : هل هلال رمضان .
الثاني : الجملة الإنشائية وهي التي لا يحكم عليها بالصدق أو الكذب لامتناعه بالذات عن مثل هذا الحكم ، كما في الجملة الإنشائية الطلبية التي تستلزم مطلوباً غير منجز أوان الطلب كما لو قال الأب لإبنه : صًل جماعة .
وتتصف الجملة الخبرية في الكتاب والسنة بأنها حق وصدق ، وهو من إعجاز القرآن ومصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
وجاءت كل من آية البحث والسياق بصيغة الجملة الخيرية التي تفيد القطع والجزم , ومن الآيات ورود كل من إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وإمتناع المسلمين من الحزن بصيغة المستقبل القريب لبيان فضل الله بخصوص أحوال المسلمين بعد المعركة .
وتعاني الحكومات والجيوش إلى الآن من مسألة وهي حال الضياع والفقر والنقص والأمراض العضوية والنفسية عند الجنود بعد المعركة والعجز عن إحاطتهم بنظام وقانون يصلح أحوالهم الخاصة والعامة ، ويهذب نفوسهم ويثيبهم على عملهم وجهدهم رغم إنفاق الأموال الطائلة وإنشاء دوائر ومؤسسات لهذا الغرض .
ولكن القرآن تضمن القوانين التي تجعل المجاهدين في أمن وحرز وسكينة قبل وأثناء وبعد المعركة ، وهو الذي يتجلى في آية السياق والبحث بإعجاز ذاتي وغيري لم ولن يشهد له التأريخ مثيلاً ، وكأن القرآن يخاطب المسلم من وجوه :
الأول : إمامك معك ، فالقرآن إمام هدى وسبيل نجاة يجعل المسلم يرتدي سرابيل السلامة في رياض ناضرة ويأخذ بيده لمشاهدات بلا عيان بربيع الغبطة والسعادة في الدارين ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثاني : طبيبك معك فكل آية من القرآن طبيب وصفحة شفاء مشرقة تطل على القلوب المنكسرة فتبعث فيها الأمل ، وورد حكاية عن إبراهيم عليه السلام في التنزيل [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
لتفيد لغة الشرط في الآية أعلاه أن الله عز وجل يقي المؤمن المرض ويدفعه عنه ، وإن أصابه فهو سبحانه القادر على شفائه والذي يتفضل به ، ولا يختص موضوع الآية أعلاه بقدرة الله على شفاء المريض بل هو سبحانه يشفيه من المرض بما يجعل العبد يدرك أن هذا الشفاء معجزة ورحمة من عند الله , وإن جاءت بالأسباب وتناول الدواء .
وتؤسس الآية لقانون في الإرادة التكوينية وهو كل مرض له دواء وأسباب للشفاء ، ليكون هذا الشفاء جزاء عاجلاً من عند الله سبحانه ، ولطفاً بذات المؤمن وغيره ، لما في سلامته من إستدامة قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وترغيب الناس بدخول الإسلام .
الثالث : تثبيت أركان الدين وقواعد الشريعة بآيات القرآن التي إتخذها المؤمنون الأوائل نبراساً وعضداً ودليل رشاد فإخبار آية السياق عن إلقاء الله عز وجل الرعب في قلوب الذين كفروا وعد للمؤمنين بهزيمة الذين كفروا , وبشارة إزاحة مفاهيم الضلالة والشرك ، ولما إختار الذين كفروا عبادة الأوثان من غير سلطان وعلم جاء الرعب لينفذ إلى قلوبهم ويكون سلطاناً وبرهاناً لجذبهم إلى منازل التوبة .
ولما ذمهم الله عز وجل بقوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ] ( )تفضل وبعث الرعب في قلوبهم لتدب الحياة فيها بما يدفع الإنسان للسعي للأمن من أسباب هذا الفزع بالإنابة والتنزه عن الكفر ومحاربة المؤمنين ، فلذا جاءت آية السياق بالبيان والإخبار عن علته وهو الشرك بالله كما ذكرت سوء عاقبة الذين يصرون على الكفر والجحود بالنبوة والكتاب .
الرابع : اللجوء إلى القرآن من أفضل سبل التدارك وإصلاح الذات إذ جاءت آية البحث بالمواساة عند إصابة المسلمين بالخسارة في الأرواح وقتل سبعين شهيداً , والمختار أن كفار قريش وغطفان ومن والاهم لم ينتصروا في معركة أحد , وقد ثبت تأريخياً فشلهم في تحقيق أي غاية من الغايات الخبيثة التي جاءوا من أجلها , إذ كانوا يتناجون وهم في مكة بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإعادة المهاجرين أسرى , ولكنهم إنهزموا في بدايات المعركة وخسروا إثنين وعشرين من رجالاتهم ، منهم حملة لواء قريش من بني عبد الدار الذين حملوه بالتعاقب ، كلما قتل أحدهم أخذه أخوه أو ابن أخيه .
الخامس : لما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة الآخرة تفضل وجعل القرآن مادة الحياة فيها يعمر القلوب بالإيمان , ويبعث الجوارح والأركان على أداء العبادات ، وهو البلغة للنجاة من أهوال يوم القيامة.
وقال ذو النون رأيت شيخاً في الركب أي المتوجه إلى حج بيت الله الحرام وبيده مصحف , وهو يقرأ ويهتز ويرقص في مشيته فقلت : يا شيخ ما هذا الرقص .
فرد علي : قلت في نفسي عبد من أنا ، وكلام من أنا أتلو ، وبيت من أنا قاصد ، فهزني حال الفرح وأطربني ذلك من غير قصد مني ).
وأخبرت آية السياق[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( )، عن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، وفيه وجوه:
أولاً : الرعب مرض مستقر في قلوب الذين كفروا .
ثانياً : الرعب كيفية نفسانية تفيد الكدورة وتمنع من الجرأة والتحدي الفعلي ، ولا ترقى إلى مرتبة المرض .
ثالثاً : الرعب مرض عرضي طارئ .
والصحيح هو الأخير ، ويزداد الرعب ويزول الرعب بزوال أسبابه ، لذا قيدت آية السياق علته وإستدامته بالتلبس بالشرك بالله وإن كان هذا التلبس عن جهالة وعدم التمييز بين الحجة والسلطان والبرهان وبين عدمها .
ويدل على هذا الإطلاق قوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ) أي سواء إتخذ الإنسان الإرتداد عن علم أو جهالة ، أو عن إختيار أو إتباع للطواغيت فحكمه واحد وفيه غلق لباب النفاق .
وهل يضاف لها الإكراه ، أي قد يشرك الإنسان بالإكراه ، الجواب لا ، لأن الإيمان أو ضده إعتقاد بالقلب ومن مصاديق الربوبية المطلقة لله عز وجل إنحصار السلطان على القلوب به سبحانه , وتفضل وجعل الخلائق عاجزة عن ملامسة شغاف القلوب .
ولما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسامة بن زيد في سرية إلى الحُرقة من جُهينة ، هجموا على القوم وجرى قتال بينهم وتعقب أسامة رجلاً منهم يقال له مِرواس بن نهيك فلما إقترب منه أسامة قال الرجل لا إله إلا الله فقتله أسامة ، وحينما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر فكبر عليه .
وقال لأسامة (أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ؟ فَقَالَ إنّمَا قَالَهَا مُتَعَوّذًا قَالَ فَهَلّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ) ( ).
ونزلت آية السياق لتخبر المسلمين عن حال قلوب الذين كفروا وكأنها تشق قلوبهم وتكشف ما فيها لأجيال المسلمين إذ نزلت آية البحث وهي[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]، بخصوص معركة أحد.
وإنقضت تلك المعركة بساعات من اليوم الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة , ومن الكفار من قتل في المعركة وعددهم إثنان وعشرون ، ومنهم من رجع خائباً إلى مكة ليقتل في معركة أخرى أو يموت بأجله على السرير أو ببلاء يحل به ، كما في ابن قمئة الحارثي , وإسمه عبد الله الذي رمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجارة فكسر أسنانه الأمامية وشجه في وجنته ( وكسر أنفه) ( ) .
وقال الواقدي (ثبت عندي أن الذى رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن قمئة، والذى رمى في شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبى وقاص)( ) .
وقال ابن جابر (انصرف ابن قمئة من ذلك اليوم إلى أهله فخرج إلى غنمه فوافاها على ذروة جبل فأخذ فيها يعترض عليها , ويشد عليه تيسها فنطحه نطحة ارداه من شاهقة الجبل فتقطع)( ).
ندعو إلى تثوير علوم القرآن , فحتى إذا قام العلماء في الأحقاب اللاحقة باصدار كل جزء بالصلة بين ست أو سبع آيات بآية واحدة, لكان المجموع أكثر من ثلاثة ملايين جزء عدا أجزاء التفسير لآيات القرآن .
ثم يبدأ العلماء بالصلة بين كل ثلاث آيات متجاورة وبعدها تفسير آيتين متجاورتين مع آيات القرآن كلها وهكذا .
ويتولى تفسير كل آية من ذوي الإختصاصات العلمية والإنسانية واللغوية والفقهية والكلامية , كل واحد منهم يتناول مضامين الآية من إختصاصه , ويبين شذرات العلوم والفيوضات والدلالات المستنبطة منها .
في وقت أقوم أنا والحمد لله بكتابة أجزاء التفسير ومراجعتها وتصحيحها بمفردي ليس من عون إلا من عند الله عز وجل ويتولى ولدي التنضيد , قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
وأطبع هذه الأجزاء على نفقتنا الخاصة بمشقة وبأجهزة مستعملة بالية تأخذ متابعة أمر تصليح عطلها المستمر جزءً من وقتي فتطل علينا إشراقة إصدار الجزء فيضاً ونعمة عظمى , ووسيلة تقرب إلى الله عز وجل بأنوار كلامه التي ملأت الآفاق , وصارت حصانة للنفوس وطهارة للقلوب , وتهذيباً للأخلاق , وعصمة للجوارح ووشاحاً لأهل الإيمان ، وقائداً في الخيرات بإستحضار آيات البر والمعروف , ومنها قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).

حرر في الأول من ذي القعدة 1436
17 / 8 / 2015

قوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]الآية 153.
الإعراب واللغة
إِذْ : ظرف للزمن الماضي مبني على السكون الظاهر في آخره في محل نصب مفعول به ، وهو مضاف , والجملة الفعلية [تُصْعِدُونَ] في محل جر مضاف إليه للظرف [إِذْ] ، وقد يأتي ظرفاً لما يستقبل من أفراد الزمان الطولية بلحاظ القرينة كما في قوله تعالى [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذْ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ] ( ).
تصعدون : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة .
الواو : فاعل .
ولا تلوون على أحد : الواو : حرف عطف .
لا : نافية للجنس ، ونفي الجنس أعم ضروب النهي .
تلوون : فعل مضارع من الأفعال الخمسة مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون .
على أحد : جار ومجرور متعلق بـ [تَلْوُونَ].
والرسول يدعوكم : الواو حالية ، الرسول : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعة الضمة الظاهرة على آخره، ويمكن أن تكون إستئنافية وعاطفة , وسيأتي مزيد بيان في باب التفسير الآية.
يدعوكم : فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الواو لأنه فعل معتل الآخر .
والضمير (كم) مفعول به .
والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو ) يعود للرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، مما يدل على إفادة الألف واللام في الرسول العهد .
في أخراكم : (في أخرى ) جار ومجرور متعلق بمحذوف حال فاعل يدعو ، وعلامة الجر الكسرة المقدرة على الألف ، والضمير (الكاف ) مضاف إليه , والميم ميم الذكور .
فأثابكم : الفاء حرف عطف لربط السبب والمسبب .
أثابكم : فعل ماض مبني على الفتح (والكاف) ضمير مفعول به، والميم ميم الذكور ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) أي الله عز وجل .
غماً : مفعول به ثان منصوب وعلامة نصبه الفتحة .
بغم : جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة (غماً) أي غماً مضافاً إلى غم .
لكيلا : اللام للتعليل .
كي : مصدرية ناصبة للفعل الماضي ، لا : نافية .
وتوصل (كي ) بـ (لا ) النافية إذا سبقها اللام ، كما في قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ] ( ).
وتنفصل (كي ) عن (لا ) النافية إذا لم تسبقها اللام كما في قوله تعالى [كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ]( ).
وإختصت الآية أعلاه من بين آيات القرآن بكلمات :
الأولى : دولة .
الثانية : الأغنياء بالتعريف بالألف واللام.
الثالثة : نهاكم .
الرابعة : انتهوا.
وهو من إعجاز رسم القرآن ، وإسرار إنفراد بعض الآيات بالفاظ مخصوصة .
تحزنوا : فعل مضارع منصوب , وعلامة نصبة حذف النون .
الواو : فاعل .
على ما فاتكم : على : حرف جر .
ما : اسم موصول مبني في محل جر متعلق بـ (تحزنوا) .
فات : فعل ماض ، والضمير الكاف مفعول به ، والميم ميم الذكور، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو .
والمصدر المؤول ( كيلا تحزنوا ) في محل جر باللام متعلق بـ (غماً) .
ولا ما أصابكم : الواو : حرف عطف .
لا : زائدة لتأكيد النفي .
ما : اسم موصول مبني في محل جر معطوف على الموصول الأول .
أصابكم : مثل إعراب فاتكم .
والله خبير بما تعملون : الواو حرف إستئناف .
الله : لفظ الجلالة مبتدأ مرفوع .
خبير : خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
بما : الباء حرف جر ، ما : اسم موصول في محل جر متعلق بـ (خبير ) .
تعملون : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة.
الواو : فاعل .
وترد الإثابة في الجزاء الحسن والمكافأة , ومعناها ثواب الأعمال كما في قوله تعالى [فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ] ( )وقد ترد في المكروه على نحو الإستعارة , والإثابة من عند الله فضل ونعمة.
والغم : الكرب والحزن يعتري القلب .
وتحتمل النسبة بين الغم والهم وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق ، فمادة الإلتقاء الغم أذى يصيب القلب، أما مادة الإفتراق فيحصل الغم بسبب أمر وكرب قد حصل , وأما الهم فان علته على وجوه :
أولاً : أمر قد حصل، وأذى قد وقع.
ثانياً : يأتي الهم لفوات مصلحة.
ثالثاً : الهم أذى وكيفية نفسانية من غير سبب أو علة.
رابعاً : الخشية من حدوث أذى وأمر ضار.
خامساً : رجحان فوات نفع ومصلحة، أو الظن المعتبر أو غير المعتبر بوقوعها أو أنها ستقع.
ولم يرد (الهم) في القرآن بهذا المعنى إلا مرة واحدة في القرآن في الآية التالية التي يرد تفسيرها في الجزء التالي إن شاء الله، وهو قوله تعالى[وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ … ]( )، ليكون من إعجاز نظم القرآن مجئ آية بلفظ(الغم) وتليها آية بلفظ (الهم) وفي ذات موضوع معركة أحد وما إختصت به من المعاني والمواعظ والدلالات.
وورد مادة (هّم) ثمان مرات في القرآن بمعنى القصد وأول الفعل منه قوله تعالى[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]( )، والآية أعلاه هي الوحيدة التي ورد فيها الهم بهذا المعنى مرتين.
ومن الإعجاز أنها أشهر آية بين المسلمين في كل زمان ومكان من بين الآيات التي ورد فيها لفظ(الهّم).
الثاني : نسبة التساوي ، أي إتحاد معنى الغم والهم .
الثالث :إنهما مما إذا إجتمعا إفترقا ، وإذا إفترقا إجتمعا .
ولا تعارض بين هذه الوجوه في المعنى اللغوي .
وورد عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه (يا بني إياك والدَيْن فإنه ذُلُّ النهارِ هَمُّ الليلِ) ( ).
وقال الجرجاني (الهم هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل، من خير أو شر)( ).
ويقصد النية وأول الفعل , والهم في موضوعه لا يختص بالنية والعزم على فعل شيء فقد يترتب على العجز عن فعل شيء أو تلقي فعل.
وفي موسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ]( )، وبين الغم والخوف الذي هو ظن حلول مكروه وأذى أو فوات مصلحة وأمر محبوب عموم وخصوص مطلق ، فالغم أعم وكذا ذات النسبة بين الهم والحزن الذي هو إنقباض في النفس بسبب فوات محبوب .
وقد وردت مادة همّ بهذا المعنى في القرآن في الآية التالية [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] ( ) أي يفكرون بخلاصهم ونجاتهم بأنفسهم فغلب عليهم الخوف والفزع , وتتعلق الآية أعلاه بواقعة أحد أيضاً، وورد بخصوصها قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( ).
سياق الآيات
صلة شطر من آية البحث بشطرمن قوله تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب إذ تصعدون ) . وفيه وجوه :
الوجه الأول : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين، وهم في حال إنسحاب وتقهقر بأن يقذف الله الرعب والفزع في قلوب أعدائهم في ساحة المعركة , وفيه مسائل :
الأولى : بعث السكينة في قلوب المسلمين حتى في حال الهزيمة .
الثانية : إخبار المسلمين بحقيقة وهي ضعف ووهن عدوهم لأن غزو الرعب للقلب سبب للضعف .
الثالثة : دعوة المسلمين للرجوع إلى ميدان المعركة لإنتفاء المانع .
وقد يقال كيف إنتفى المانع ، والجواب من وجوه :
أولاً : دلالة آية السياق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] فالرعب والفزع سبب لعجز الذين كفروا عن مواصلة القتال .
ثانياً : عدم مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان إلى إنتهاء المعركة , وقد تقدم أنه من أسباب بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ( ).
ثالثاً : صدق وعد الله عز وجل للمسلمين ، وتعدد مصاديقه ، ومنها إنعدام المانع من عودة المسلمين إلى ساحة المعركة .
رابعاً : بيان آية البحث لحقيقة تأريخية وهي دعوة ونداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالرجوع إلى المعركة .
خامساً : من مصاديق ولاية الله للمسلمين ، وقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]إنعدام المانع من رجوعهم إلى ميادين القتال ، وهل هذا الإنعدام مطلق أم أنه خاص بمعركة أحد.
الجواب هو الأول , ومن الإعجاز أن إنعدام المانع أمر وجودي لأنه من رشحات ولاية الله للمؤمنين ، وهو الذي تجلى في معركة الخندق ، وظهر المائز بين المؤمنين وبين المنافقين الذين ورد ذكرهم في القرآن بقوله تعالى [وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ).
وقال رجل لحذيفة بن اليمان (لو أدركتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قاتلتُ معه وأبليتُ. فقال له حذيفة: أنت كنتَ تفعل ذلك؟ لقد رَأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقُرّ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ألا رجل يأتي بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة؟”. فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله. ثم قال: “يا حذيفة، قم فأتنا بخبر من القوم”. فلم أجد بدَّا إذ دعاني باسمي أن أقوم.
فقال: “ائتني بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهم عَلَيّ”. قال: فمضيت كأنما أمشي في حَمام حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يَصْلَى ظهره بالنار، فوضعت سهما في كَبِِد قوسي، وأردت أن أرميَه، ثم ذكرتُ قولَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تَذْعَرْهم عَلَيَّ”، ولو رَمَيْته لأصبته.
قال: فرجعت كأنما أمشي في حَمّام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أصابني البرد حين فَرَغتُ وقُررْتُ.
فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وألبسني من فضل عَبَاءَة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “قم يا نومان) ( ).
الثاني : إقامة الحجة من عند الله ، فهو سبحانه تفضل على المسلمين بأن ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب والفزع والخوف وهو من وجوه المدد والعون للمسلمين من جهات :
الأولى : حال المسلم ، لما فيه من بعث التراخي وأسباب الكدورة في نفوس الذين كفروا من القتال والحرب ، ليكون مناسبة لتفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة أحكام الحلال والحرام .
الثانية : أيام الحرب والقتال ، لأن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مقدمة لإنكسارهم وهزيمتهم .
الثالثة : زمان ومدة المهادنة ، وما يسبقها من الإستعداد للمعركة إذ تتجلى للناس معالم خوف المشركين في لقاء المسلمين فيكون مناسبة لزجر ووعظ المشركين ومنعهم من محاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ودعوة للناس لدخول الإسلام بلحاظ كبرى كلية وهي إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الثالث : الإخبار عن إستدامة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا سواء عند إقبال المسلمين على القتال أو عند الإدبار والإنسحاب .
ويمكن تسميته ( قانون إلقاء الرعب) وإختصاصه بالذين كفروا، وكما صدق الله عز وجل وعده للمؤمنين فانه سبحانه يبتلي الذين كفروا بالرعب على نحو الإستدامة ، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الملازمة بين الكفر والرعب .
الصغرى : الذين حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كفار.
النتيجة : الملازمة بين الذين حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وبين الرعب.
ومن إعجاز آية البحث مجيؤها بصيغة الخطاب والعطف على نداء التشريف والإكرام ، وهو من أسباب بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين للقادم من الأيام ، والمعارك التي يخوضونها في الدفاع وصدّ جيوش الذين كفروا .
الرابع : من معاني الجمع بين الآيتين إخبار آية البحث عن إنسحاب أكثر المسلمين ، صعدت طائفة منهم الجبل ليكون هذا الصعود نوع إحتماء وبدل عن ترك الرماة لمواضعهم على جبل الرماة .
وورد قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] بصيغة الإستقبال لتتجلى موضوعية نظم آيات القرآن وان الرعب ملأ قلوب الذين كفروا قبل أن يفر شطر من المسلمين وهم في حال إرباك وأذى.
وتبين آية السياق علة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وهو الشرك بالله ، وظلمهم لأنفسهم بالإستكبار عن طاعة الله عز وجل وإذا كانت علة إلقاء الرعب في قلوب الذين أشركوا هو الشرك ، فلماذا وردت الآية بصيغة الإستقبال [سَنُلْقِي] الجواب من وجوه :
الأول : قيام الحجة على الذين كفروا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي المعجزات العقلية والحسية التي تدل على صدق نبوته , وكل معجزة من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثاني : جمع الذين كفروا بين الشرك والكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتقدير الآية : سنلقي في قلوب الذين كفروا بنبوة محمد ونزول القرآن الرعب بما أشركوا بالله ) .
الثالث : وردت صيغة الإستقبال للإخبار عن قذف الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا عند بدأ القتال، ويكون من معاني الإستقبال فيه إستدراج الذين كفروا ، قال تعالى[سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وهذا المعنى من أسرار مجئ الإستقبال في الآية بحرف السين الذي يفيد المستقبل القريب .
ليكون من دلالات صيغة الإستقبال أمور :
أولاً : إخبار المسلمين عن معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال الحرب والقتال.
ثانياً : ظهور حال فزع ورعب إضافي على الكفار مجتمعين ومتفرقين عند حدوث القتال بين المسلمين والذين كفروا .
ثالثاً : صيغة الإستقبال في (سنلقي) بشارة نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
رابعاً : إرادة تحدي الذين كفروا , وبيان عجزهم عن دفع الرعب عن نفوسهم , وفيه إنذار من عذاب الآخرة .
الوجه الثاني : وفيه مسائل :
الأولى : يحتمل الجمع بين الآيتين وجوهاً :
أولاً : صعود وفرار أكثر المؤمنين يوم أحد قبل أن يلقي الله الرعب في قلوب الذين كفروا .
ثانياً : لم يكن الرعب الذي ألقاء الله في قلوب الذين كفروا مانعاً من مطاردتهم للذين آمنوا في الميدان لكثرة الذين كفروا وكثرة خيلهم ورواحلهم وأسلحتهم .
ثالثاً : لولا إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا لأكثروا من قتل المؤمنين ليكون منع كثرة القتلى بينهم من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )في إحتجاج الله على الملائكة عندما إحتجوا على خلافة الإنسان في الأرض بافساده فيها وإشاعته القتل وسفك الدماء .
فمن علم الله عز وجل إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ليكون على وجوه :
الأول : منع الذين كفروا من الفساد في الأرض لإنشغالهم بأنفسهم وإعداد الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : توالي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي تبعث الخوف والرعب في قلوب الذين كفروا .
الثالث : نزول آيات الإنذار والوعيد في القرآن وإرادة الذين كفروا منها على نحو التعيين ، وبأستثناء (أولاً ) أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق الجمع بين الآيتين .
الثانية : بيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه ولطفه بالمؤمنين فلما تفضل سبحانه وقال قبل ثلاث آيات [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] ( ).
تجلت مصاديق من هذه الولاية بأن يأتي رعب إضافي لينفذ إلى قلوب الذين كفروا عندما يصعد الذين أمنوا فارين ، وتبين هذا المعنى بعدم قيام الذين كفروا بمطاردة الذين آمنوا أثناء إنسحابهم من جهتين :
الأولى : عجز الذين كفروا عن المغادرة والملاحقة بسبب إمتلاء قلوبهم بالرعب .
الثانية : وقاية الذين آمنوا من مطاردة العدو لهم لولاية الله لهم.
الثالثة : إقامة الحجة من عند الله سبحانه ، وبيان أن إنهزام وفرار المؤمنين وسط المعركة ليس له سبب شرعي وجيه ، وفيه مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين ، ولقد صدقكم الله وعده حتى وأنتم تصعدون ولا تلوون على أحد ) بلحاظ كبرى كلية وهي تتابع مصاديق تنجز وعد الله للمؤمنين في ميدان المعركة وخارجه ، وعدم إنقطاعه أو إنحصاره بقوله تعالى[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ]وحتى على فرض هذا الإنحصار فان إبتدأت معركة أحد بالريح والجولة لمؤمنين عز وشأن يصاحب المؤمنين الذين فروا من وسط الميدان أثناء القتال.
الثانية : إذا كان الرسول يدعو المؤمنين يوم أحد في أخراهم ، فهل تتضمن آية البحث أو السياق دعوة الله عز وجل لهم للرجوع إلى ميدان المعركة .
الجواب نعم ، فكل آية من القرآن تدعوهم للصبر والجهاد والذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها نزلت على صدره بواسطة الملك جبرئيل ، ولا يختص الأمر بالآيات والسور التي نزلت قبل يوم أحد ، بل يشمل السور والآيات التي نزلت بعده ، وهو من الدلائل على أن قتال المسلمين يوم بدر وأحد ضرورة ومقدمة لإتمام التنزيل بلحاظ أن الذين كفروا هم الذين زحفوا على المدينة لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقطع توالي التنزيل .
ليكون من معاني آية البحث : لقد صدقكم الله وعده بتنزيل القرآن كاملاً والرسول يدعوكم في أخراكم ليتم تنزيل القرآن بسلامته من القتل .
الثالثة : كان بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين القتل خطوات لولا فضل الله ، ومن مصاديق المدد من عند الله بنزول الملائكة دفعهم عنه وحفظه ، وهو من مصاديق قوله تعالى في موضوع نزول الملائكة يوم أحد [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ] ( ) .
ومن وجوه تقدير الآية : وما جعل الله حفظ الملائكة للنبي يوم أحد إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم ببقائه سالماً .
وكان مصعب بن عمير يقاتل دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وبيده لواء (فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول له في آخر النهار تقدم يا مصعب فالتفت إليه الملك فقال لست بمصعب فعرف رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه ملك أُيد به) ( ).
ولم يكن إنتشار إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن فراغ فقد إنهزم أكثر أصحابه وتفقدوا أنفسهم عند الصعود على الجبل وأدركوا أنه ليس معهم ، وأن الدولة للكفار وضرب ابن قمئة مصعب بن عمير وهو يظنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة مع صلة القربى بينهما .
ومن مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] عجزهم عن الوصول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتله ، فان قلت قد كثرت الجراحات في رأس ووجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فهذا صحيح فهل هو بسبب ما ورد في الآية السابقة من فشل وجبن وتنازع المسلمين ، الجواب لا ،إنما هو بسبب عتو وغرور وتعدي الذين كفروا .
الرابعة : إرادة إتعاظ المسلمين وإحترازهم لقادم الأيام والمعارك اللاحقة , ليفيد الجمع بين الآيتين في مفهومه الإخبار عن وقوع معارك في المستقبل أشد من معركة أحد إلا أن يشاء الله ,.وتحتمل معركة الخندق وجوهاً :
الأول :إنها أشد واشق من معركة أحد ، وعن الأمام علي عليه السلام (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم الأحزاب ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ، ولم يكن صلى يومئذ الظهر والعصر حتى غابت الشمس) ( ).
الثاني : التساوي في الشدة والأذى بين معركة أحد ومعركة الخندق .
الثالث : معركة أحد هي الأشد لحدوث القتال الشديد فيها ، ولكثرة الشهداء من المسلمين إذ إنتقل إلى الرفيق الأعلى سبعون شهيداً ، ووقعت الهزيمة من قبل أكثر المؤمنين .
والصحيح هو الأول ، قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ] ( )نعم لم يحصل قتال شديد في معركة الخندق بفضل من الله , ومنه إتعاظ المسلمين من دروس معركة أحد، والآيات التي نزلت بخصوصها , ومنها آية السياق والبحث .
وأخرج ابن إسحاق أنه (قال معتب بن قشير : كان محمداً يرى أن يأكل من كنز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط ، وقال أوس بن قيظي في ملأ من قومه من بني حارثة { إن بيوتنا عورة }( )، وهي خارجة من المدينة : إئذن لنا فنرجع إلى نسائنا وأبنائنا وذرارينا ، فأنزل الله على رسوله حين فرغ منهم ما كانوا فيه من البلاء يذكر نعمته عليهم ، وكفايته إياهم بعد سوء الظن منهم ، ومقالة من قال من أهل النفاق ، { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها } فكانت الجنود : قريشاً ، وغطفان ، وبني قريظة . وكانت الجنود التي أرسل عليهم مع الريح الملائكة { إذ جاءُوكم من فوقكم } بنو قريظة { ومن أسفل منكم } قريش ، وغطفان . إلى قوله { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } يقول : معتب بن قشير وأصحابه { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب}( ) يقول : أوس بن قيظي ومن كان معه على ذلك من قومه) ( ).
وبينما جاء المشركون في معركة أحد بثلاثة آلاف رجل عادوا وزحفوا في معركة الخندق بعشرة آلاف ، وهو جيش لم تعهد قوامه وعدده الجزيرة من قبل ، نعم كان عدد جيش أبرهة مثلاً عشرة آلاف جاء من اليمن.
الوجه الثالث : الأصل هو مقابلة المؤمنين لصدق وعد الله وتنجز مصداقه هو الثبات في الميدان والتأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر في ملاقاة الذين كفروا، ولكن أغلب المهاجرين إنهزموا بعد الخطأ الذي إرتكبه الرماة ، ومجئ المشركين لهم من خلفهم لذا لم يفصل بين آية الوعد الكريم من عند الله وآية عدم الإلتفات من قبل المؤمنين عند الإنسحاب آية أخرى ،وفيه زيادة في التنبيه والتحذير .
وهل يفيد الجمع بين الآيتين ذم الذين إنسحبوا من المهاجرين والأنصار ، الجواب لا دليل عليه ، لأن آية البحث معطوفة على آية النداء بصيغة الإيمان بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُم ] ( ) , وفيه وجوه :
أولاً : خروج المؤمنين إلى معركة أحد دليل على عدم إطاعتهم للذين كفروا , وفيه مسائل :
الأولى : إستجابة الصحابة من المهاجرين والأنصار لأمر الله عز وجل وأمر رسوله بالخروج لقتال الذين كفروا .
الثانية : بعث اليأس في قلوب الذين كفروا من طاعة المؤمنين لهم ، إذ يدل الخروج لقتالهم بالأولوية القطعية على العصمة من طاعتهم .
الثالثة : لقد علم المؤمنون أن خروجهم إلى أحد لأمر القتال وليس للصلح والمهادنة بدليل قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الرابعة : علة مسارعة المهاجرين والأنصار للقتال دفع أذى الذين كفروا ، وبذل الوسع لجذبهم إلى الإيمان .
ثانياً : تأكد آية البحث سلامة المؤمنين من الإرتداد مطلقاً سواء إجتهد الذين كفروا وأنفقوا الأموال لحمل شطر من المسلمين عليه أم الذي يأتي من أسباب أخرى , ومنها إرادة الذين كفروا بهجومهم المتكرر على المدينة المنورة فتنة الذين آمنوا ، وجعلهم يعزفون عن سنن الإيمان ، ولكن المسلمين لاقوهم بالسيوف والنبال والرماح .
وليس من رد شديد في تأريخ الإنسانية على الدعوة للطاعة مثل الذي قام به المؤمنون يوم أحد خاصة وأن الذين جاءوا من مكة من عشائرهم وعلية القوم ورؤساء بيوتات مكة.
وقد إتصلوا ببعض المهاجرين وطلبوا منهم العودة ، وبذلوا لهم الأمان ، فكان ردهم الخروج تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد .
ثالثاً : إنسحاب الصحابة من وسط الميدان يوم أحد ليس هزيمة ووهناً ولم يكن عن قنوط ونفرة من الإيمان لأن فيه قتالاً ، بل كان عن زلل من الرماة , وسرعان ما تم التدارك منهم فقام أكثرهم بالعودة إلى الميدان .
رابعاً : حينما علم الصحابة أن النبي محمداً حي ولم يقتل وسمعوا نداءه وهو يدعوهم إلى القتال بادروا إلى طاعته ونصرته ، وإشتد القتال من جديد ، وأيقن المشركون وإلى الأبد أن المسلمين لا يطيعونهم ولا يستمعون لهم .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ولا تلوون أحد ) .
لقد أراد الله عز وجل لسلطان النبوة الإستدامة بالمعجزة والبرهان العقلي والحسي ، وليس من إنفكاك وتباعد بين النبوة والمعجزة ، وكانت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تترى في حال السلم والحرب لجذب الناس إلى الإيمان وزجر الكافرين عن التعدي والتصدي للرسالة السماوية وإن لم ينزجروا فان العجز يصاحبهم ، والخزي يلاحقهم ، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأكيد إقامة دولة الإسلام [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجئ المدد والنصرة له من وجوه :
الأول : المدد بنزول القرآن ، وكل آية منه مدد وعون وتعضيد .
الثاني : دخول عدد من أهل البيت وقريش عامة والمستضعفين في مكة في الإسلام ، وصدق إيمانهم بتحملهم الأذى والتعذيب من رجالات قريش مع الثبات على الإيمان كما في عمار بن ياسر وأبيه وأمه ،فكان كل مسلم حجة على الذين كفروا ومقدمة وإنذار لقذف الرعب في قلوبهم .
أي أن قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]لم يأت إبتداء من غير إنذار بل توالت الإنذارات وأسباب التحذير منه من الأيام الأولى للإسلام .
وأخرج ابن أسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم عن الإمام علي عليه السلام قال (لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال
يا علي ان الله أمرني أن أنذر عشيرتي الاقربين فضقت ذرعاً ، وعرفت أني مهما أبادؤهم بهذا الامر أرى منهم ما أكره .
فصمت عليها حتى جاء جبريل فقال : يا محمد إنك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك ، فاصنع لي صاعاً من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واجعل لنا عسا من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغ ما أمرت به ، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب .
فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به ، فلما وضعته تناول النبي صلى الله عليه وسلم بضعة من اللحم فشقها باسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال : كلوا بسم الله . فأكل القوم حتى تهلوا عنه ما ترى إلا آثار أصابعهم . والله إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم . ثم قال : اسق القوم يا علي ، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً . وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله . فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم . فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم .
فلما كان الغد قال : يا علي ان هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ثم اجمعهم لي . ففعلت ، ثم جمعتهم ، ثم دعاني بالطعام فقربته ، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا حتى نهلوا ، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحداً في العرب جاء قومه بافضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله ان أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري هذا فقلت وأنا احدثهم سناً : إنه أنا . فقام القوم يضحكون) ( ).
الثالث : نصرة أهل المدينة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيواؤهم له في معجزة حسية جلية ترشحت عن المعجزات العقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويمكن تأسيس قانون وهو أن كل معجزة عقلية توليدية تتفرع عنها معجزات حسية كثيرة تأتي بالنصرة والنصر بلحاظ كبرى كلية وهي أن نصرة الأوس والخزرج للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نوع طريق لتحقيق النصر للإسلام في معركة بدر وأحد والخندق ، ترى ماذا حصل لو بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة لم يهاجر إلى المدينة ، وإكتفى بارسال عدد من أصحابه إلى الحبشة .
يتجلى الجواب بعزم قريش على قتله في فراشه ليلة الهجرة فكانت بيعة العقبة الأولى والثانية معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقدمة لنجاته من محاولات قريش المتكررة لقتله وبداية لتأسيس دولة الإسلام .
الرابع : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام لأن قريشاً تزحف للقتال ظلماً وعتواً وإصراراً على الشرك ومحاولة لمنع الناس من ترك مستنقع الكفر والضلالة .
الخامس : فضل الله في قذف الرعب في قلوب الذين كفروا ويحتمل موضوع آية السياق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]وجوهاً :
الأول : إرادة إلقاء الرعب والفزع رؤساء جيش قريش وغطفان في معركة أحد .
الثاني : يقذف الله الرعب والفزع في قلوب أفراد جيش قريش في معركة أحد .
الثالث : الرعب الذي يقذفه الله عز وجل في قلوب الذين كفروا مقيد بحال الحرب والقتال ، فلو لم تأت كفار قريش من مكة إلى المدينة لقتال النبي وأهل بيته وأصحابه لما حلّ وأستقر الرعب في قلوبهم .
الرابع : توجه الرعب إلى قلوب عموم الذين كفروا .
والصحيح هو الأخير لأصالة الإطلاق المستقرأ من الآية أعلاه ولبيانها لعلة قذف الرعب في قلوبهم وهو إختيارهم الشرك بالله ، وفيه بعث للنفرة في النفوس من الذين كفروا وبيان لإستحالة شفائهم من داء الرعب والفزع إلا بالتوبة والإيمان .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب والرسول يدعوكم في أخراكم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : تأكيد قانون إستدامة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا في كل الأحوال , وجاءت آية السياق بصيغة المستقبل القريب [سَنُلْقِي] .
ليرتقب المسلمون أثر الرعب على الذين كفروا بشل أيديهم وإصابتهم بالفزع حتى يخوف بعضهم بعضاً من جهات , فيصدر منهم الأذى حتى قبل خروجهم للمعركة , كما في قيام كفار قريش باكراه عدد من المسلمين من أهل مكة بالخروج معهم إلى معركة أحد، وفيه مقاصد خبيثة منها:
أولاً : الخشية من دعوة المسلمين الناس في مكة إلى الإسلام وبيانهم لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند غياب كبار رجالات قريش.
ثانياً : إخبار مسلمي مكة الناس عن قبح خروج قريش إلى قتال النبي والمؤمنين.
ثالثاً : كسر المسلمين الأصنام التي في الكعبة , وعددها ثلاثمائة وستون صنماً، فقد ورد عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلثمائة وستون صنما قد شد لهم إبليس أقدامها برصاص فجاء ومعه قضيب فجعل يهوى به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول[جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( )، حتى مر عليها كلها( ).
وكانت بيوت مكة ملأى بالأصنام، فخافت قريش من كسر المسلمين لها، كما فعل إبراهيم عليه السلام بالأصنام في زمانه كما ورد في التنزيل حكاية عنه[وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ]( ).
فحينما تخرج قريش للهجوم على المدينة وهم يريدون قتل النبي محمد صلى الله وآله وسلم وأصحابه، يقوم شباب الرسالة في مكة بالإنقضاض على الأصنام التي في الكعبة والتي في البيوت فيكسرونها .
ولم تمر الأيام حتى دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة، وكسر الأصنام التي في الكعبة ( ثُمّ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ فَلَا يَدَعَن فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إلّا كَسَرَهُ. قَالَ: فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَكْسِرُونَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ ( ).
رابعاً : كسر المسلمين الذين يتخلفون في مكة الأصنام سبب لترك النساء والصبيان عبادتها والتزلف إليها، وإتخاذها واسطة للتقرب إلى الله بزعمهم.
خامساً : خاف أقطاب الكفر في مكة أن يرجعوا من معركة أحد وقد دخل أهل مكة كلهم في الإسلام، فلا يكون لهم مأوى فيها.
سادساً : تعريض المسلمين من أهل مكة للضرر والقتل لدخولهم المعركة.
سابعاً : إرسال رسالة عملية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الذين يظن المهاجرون والأنصار بأنهم مسلمون في مكة جاءوا لقتالهم في معركة أحد.
ثامناً : مجئ المسلمين مع الذين كفروا سبب لبعث الخوف والفزع في قلوبهم من إنقلاب المسلمين الذين معهم عليهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
وكانت دعوة ونداء الرسول للمؤمنين أثناء المعركة ووسط الميدان ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية ، وصدق إمامته وأنها فرع رسالته ، فلم ينسحب مع أصحابه ثم يدعوهم للتجمع بل بقي في موضعه في المعركة .
وهل من تباين بين الأمرين ، الجواب نعم ، ففي البقاء وسط ساحة المعركة مسائل :
الأولى : إقامة الحجة بلزوم الجهاد في سبيل الله .
الثانية : تأكيد حقيقة وهي أن العدو من كفار قريش لم يهزم المسلمين .
الثالثة : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان مع ثلة من أهل بيته وأصحابه شاهد على ان العدو لم يحقق نصراً في المعركة , وليس من ملازمة بين خسارة طرف وإنتصار للطرف الآخر .
الرابعة : بعث الحماس في نفوس المؤمنين للعودة للقتال .
الخامسة : الإخبار العملي بأن حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل في خطر ، وأن العدو صار قريباً منه ، ليتجلى صدق الإيمان وحب التضحية والتفاني في سبيل الله .
السادسة : طرد الخوف والفزع وأسباب الفشل عن قلوب المسلمين ليكون من الإعجاز في اللقاء بين المؤمنين والذين كفروا في ميدان القتال التباين برمي الذين كفروا بالرعب ونفاذه إلى قلوبهم ، وبعث السكينة في نفوس المؤمنين وتعاهدهم حتى في حال تلبسهم بالإنهزام والإنكسار .
السابعة : تأكيد سنخية دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي دعوة للمؤمنين بصفة الرسالة والنبوة ، مما يدل على أن هذه الدعوة من الوحي ، وفيه ترغيب بالعودة والرجوع وحجة بنيل الثواب .
الثامنة : كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إليّ عباد الله إليّ عباد الله ، أنا رسول الله ، من يكرّ فله الجنة) ( ).
وتنمي الآية ملكة الإيمان في قلوب المسلمين، والتفقه في الدين بالعلم بالحاجة إلى التوقي من الذين كفروا وأسباب الجدال والشك والريب التي يحاربون فيها الإسلام.
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه واقية للمسلمين مما تحذر منه آية آية (إن تطيعوا) من وجوه :
الأول : الآية القرآنية واقية من مفاهيم الكفر والضلالة.
الثاني : تلاوة السلم للآية القرآنية حصانة من الكفر وأهله.
الثالث : من خصائص الإيمان بعث النفرة في النفس من معاني الكفر , واليقظة والحيطة من طاعة الذين كفروا.
الرابع : تبين الآية أن طاعة الذين كفروا تؤدي إلى الإرتداد والرجوع إلى الضلالة والجهالة.
ومن الإعجاز في الآية أنها لا تدعوا إلى الحرب والقتال، إنما تبين كفاية إجتناب طاعة الذين كفروا ، وهو من الشواهد على أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تنتشر بالسيف، قال تعالى[خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( )، وهذا لا يتعارض مع ورود آيات تأمر بالقتال كما في قوله تعالى[وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ]( ).
ليفيد الجمع بين الآيتين، تقييد قتال الذين كفروا بحال الدفاع والزجر عن التعدي، والكف عن إرادة الضرر بدليل تقييد القتال في الآية أعلاه من جهات:
الأولى : مجئ الآية بصيغة الجملة الشرطية بقيام الذين كفروا بحنث القسم والإيمان الغليظة التي جعلوها نوع عهد وميثاق على أنفسهم.
الثانية : دلالة الآية أعلاه على عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العهود والمواثيق مع رؤساء وقادة وأئمة الكفر والشرك ولم يمنعه من الميثاق تحزبهم على الباطل، وظلمهم بهجومهم على المدينة مرات متعددة , وقد بيتوا النية على عدم الرجوع إلا بالمبارزة والقتال.
وهل تفيد آية[إِنْ تُطِيعُوا]( )، التحذير والإنذار من عقد المواثيق التي تتضمن طاعتهم والإنقياد لهم، الجواب نعم، لذا فان صلح الحديبية الذي عقده النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السادسة من الهجرة مع كفار قريش خال من طاعتهم والإستجابة لهم، مع أنهم جاءوا بجيوش أحاطت بالمسلمين الذين كانوا نازعي الأسلحة، وكان خروجهم لأداء العمرة.
الثالثة : قيام الذين كفروا بالإنتقاص من الإسلام، والطعن بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإثارة المغالطة من أجل صد الناس عن دخول الإسلام .
وهل يجوز أن يطعن المسلمون مدة العهد بمفاهيم الكفر والضلالة , الجواب نعم , وكل آية من القرآن تتضمن هذا المعنى وهو من أسرار تلاوة المسلمين القرآن في كل فرض من الصلوات اليومية الخمسة.
الرابعة : تقييد قتال المسلمين عند إجتماع شرائطه بمحاربة ومسايفة رؤساء الكفر، وأئمة الضلالة لتكون الآية إعجازاً وشهادة على نزول القرآن من عند الله، وحصر القتال بحال الحاجة وخصوص رؤساء الكفر وحدهم، وفيه دعوة الناس للتخلي عن إتباعهم في الحياة الدنيا، وحث لهم على دخول الإسلام.
الخامسة : بيان قانون وهو أن رؤساء الكفر لا يتقيدون بعهد ووعد ويمين , وإستشهد بعض العلماء بالآية أعلاه بان يمين الكافر ليس يمينا .
لكن بداية الآية تؤكد أن لهم يميناً وقسماً، وأضافت الآية العهد مع اليمين لإرادة التغليظ على الذين كفروا، والتأكيد والتشديد في العهود التي تؤخذ عليهم , وفيه شاهد على عز المؤمنين بأنهم يعقدون العهود والمواثيق ويشترطون الشروط على عدوهم.
السادسة : في الآية أعلاه دعوة للمسلمين لعدم الركون إلى عهد الذين كفروا، وحث لهم للتهيئ لفتح مكة.
السابعة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا من نقض الأيمان وجعلهم يدركون صدق نزول القرآن بالإخبار عما في نفوسهم من المكر والكيد وإرادة حنث اليمين ونقض العهد وهو من مصاديق العموم الإستغراقي في قوله تعالى[بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
فجاءت الآية أعلاه بلفظ الإنسان لإقامة الحجة على رؤساء الكفر في سوء نواياهم , وزجرهم عن إرادة نقض العهود والمواثيق.
الثامنة : من معاني (لا أيمان لهم) وجوب إحتراز المسلمين من الذين كفروا وعدم الإغترار بهم حتى مع إبرام الميثاق معهم.
وهذا الإحتراز زاجر لهم عن نقض إيمانهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، بامتناع الذين كفروا عن التعدي والهجوم لأن القرآن جعل المسلمين على أهبة الإستعداد في كل الأحوال , ليكون تقدير قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، وإن ابرموا معكم العهود وقطعوا على أنفسهم المواثيق وأقسموا بالأيمان.
التاسعة : تفيد واو العطف الجمع في[ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ] ويحتمل الإذن بالقتال وجهين:
أولاً : لا يكون القتال إلا بعد أن نكثوا أيمانهم وبعد تعديهم على الإسلام، وإنكار المعجزات مع تجلي الشواهد والمصاديق التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً : يكفي تحقق إحدى مسألتين وهما:
الأولى : نكث الذين كفروا أيمانهم.
الثانية : طعن الذين كفروا في الإسلام.
والمختار هو الأول للإحتراز والإحتياط بالدماء، ولم يعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القتال بعد صلح الحديبية إلا بعد نقض كفار قريش العهد وإشتراكهم مع بني بكر في الهجوم على خزاعة التي دخلت في عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد صلح الحديبية , إذ دخلت بنو بكر في عهد قريش، فاراد بنو الديل بن بكر من كنانة الثأر من خزاعة على دم وقتل وقع قبل صلح الحديبية.
وقامت قريش بامداد بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش ليلاً متخفين .
وقال ابن سعد : منهم صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الاخيف حتى جاوزوا خزاعة إلى الحرم( ).
والتجأت خزاعة الى بعض البيوت التي تعود لهم في مكة، وقتلوا رجلاً من خزاعة إسمه منبه ( فخرج عمرو بن بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ ثُمّ أَحَدُ بَنِي كَعْبٍ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمّا هَاجَ فَتْحَ مَكّةَ ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النّاسِ فَقَالَ :
يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا … حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا … ثُمّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا … وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا … إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا … إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا … وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا … وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا … وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا( ).
العاشرة : تقييد القتال برجاء إنتهاء الذين كفروا، وفي الآية إعجاز بورود لفظ (لعلهم) فلم تقل الآية (فقاتلوا ائمة الكفر….حتى ينتهون) بل وردت الآية بحرف الرجاء للدلالة على كفاية الموجبة الجزئية مع الإمهال في صرف الذين كفروا عن موارد الكفر والظلم، ومن مصاديق الآية وجوه :
أولاً : إرادة إنتهاء رؤساء الكفر عن جمع الجيوش لحرب النبوة والإسلام.
ثانياً : توبة الذين كفروا.
ثالثاً : منع التواطئ بين الذين كفروا والمنافقين.
رابعاً : زجر الذين كفروا عن الطعن في الإسلام.
خامساً : رجاء إنتهاء الذين كفروا عن إيذاء المسلمين والمظاهرة عليهم.
سادساً : إرادة إستئصال الكفر من النفوس.
سابعاً : لما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض بأنه[يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، رد الله عليهم بأنه سبحانه يعلم ما لا يعلم الملائكة، ومنه في المقام أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المواثيق على الذين كفروا أن يفسدوا في الأرض ولا يقتلوا النفس التي حرم الله وهو من العهود في صلح الحديبية، فلما أفسدوا ونقضوا العهود والأيمان وقتلوا النفس التي حرم الله توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون لفتح مكة.
ثامناً : من معاني (لعلهم ينتهون) رمي الذين كفروا بالضعف والوهن، وصيرورة هذا الضعف سبباً لعجزهم عن أمور بلحاظ الآية:
الأول : نكث الأيمان، فمن ضعف الذين كفروا يميلون إلى نكث الإيمان ونقض العهود.
الثاني : الطعن في دين الإسلام، إذ ينشغل رؤساء الكفر بأنفسهم وقلة الأموال التي في أيديهم، وتفرق الأتباع عنهم، فيجتنبون التعدي والإفتراء على الإسلام.
الثالث : إنقطاع رئاسة أقطاب الكفر، لإنتفاء الموضوع، فلا يبقى عندهم أعوان وأتباع.
تاسعاً: إنتهاء أئمة الكفر عن منع الناس عن دخول الإسلام، لخشيتهم صيرورة هذا المنع علة للقتال والهجوم عليهم.
عاشراً : لعلهم ينتهون عن إمامة الكفر والضلالة، وإختيارهم دخول الإسلام فيتساوون بالحقوق والواجبات مع عموم المسلمين، وفيه ترغيب للناس بالإسلام .
وعن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله في وسط أيام التشريق خطبة الوداع , فقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، ألا إن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي , ولا لعجمي على عربي , ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ألا هل بلغت؟ .
قالوا : بلى يا رسول الله . قال : فليبلغ الشاهد الغائب( )، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المقداد بن الاسود ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ثم قال : إنما زوجتها المقداد لتتضع المناكح، ولتتأسوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ولتعلموا أن أكرمكم عند الله أتقاكم( ).
حادي عشر : دعوة أئمة الكفر إلى الإنابة والصلاح لقوله تعالى[فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وليدل تقييد الآية بخصوص أئمة الكفر على وجوه :
الأول : توبة أئمة الكفر ورؤساء القبائل سبب لتوبة أتباعهم.
الثاني : إنتهاء الذين كفروا عن المكر والقتال سبب لأداء المسلمين فرائضهم وإصلاح أحوالهم المعاشية.
الثالث : إنقطاع أئمة الكفر عن القتال دعوة لمن خلفهم بالكف عن إعانة أعداء الإسلام.
ثاني عشر : كف الذين كفروا عن الإشاعات المغرضة وإرادة تثبيط همم المؤمنين.
ثالث عشر : يحتمل إرادة المعنى الأعم من الضمير (هم) وواو الجماعة في (لعلهم ينتهون) وأن المقصود على وجوه:
الأول : إرادة عموم الذين كفروا، وليس أئمة الكفر وحدهم.
الثاني : إنتهاء أبناء وذراري أئمة الكفر عن إتباعهم بالباطل.
الثالث : إنتهاء المنافقين عن بث سمومهم , وإظهار الشك والريب.
الرابع : كف الذين كفروا عن السعي لإرتداد الذين آمنوا .
وهذا المعنى من وجوه ذكرنا لمعاني الآية أعلاه من سورة التوبة [وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ] لبيان أن العهد والميثاق مع الذين كفروا مقيد بعدم سعي الذين كفروا لإغواء المسلمين ، وإغرائهم أيام المهادنة والصلح.
ولا يختص رجاء إنتهاء الذين كفروا عن الجحود بالربوبية والنبوة بالقتال عند نقض الإيمان.
فمن مصاديقه بلحاظ آية السياق , وتقديرها على وجوه:
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لعلهم ينتهون) لبيان النفع العظيم من إلقاء الرعب في قلوبهم بمنعهم من التمادي في الكفر والصدود والبطش.
الثاني : ومأواهم النار لعلهم ينتهون) أي أن إخبار آية السياق عن سوء عاقبة الذين كفروا ولبثهم الدائم في النار دعوة لهم للإنتهاء من التعدي على الإسلام، والتنزه عن الكفر.
الثالث : لعلهم ينتهون ومأواهم النار) أي أنهم يقيمون في النار يوم القيامة إن بقوا في منازل الكفر والجحود ولم ينتهوا عن الكفر، قال تعالى[وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ]( ).
الرابع : لعلهم ينتهون عن الشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً) وبيان آية السياق لقانون إنتفاء سلطان وبرهان الند والشريك دعوة سماوية للذين كفروا تتجدد كل يوم ليكفوا عن الكفر، ويتركوا الضلالة.
الخامس : لعلهم ينتهون وبئس مثوى الظالمين) إذ أن عدم الإنتهاء عن الكفر ظلم للنفس والغير، لذا فان عقاب الكفر أليم ودائم ومتجدد , ويتجلى التجدد بقوله تعالى[كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا]( ).
وتقدير قوله تعالى (لعلهم ينتهون) بآية البحث على وجوه:
الأول : لعل الذين كفروا ينتهون عن محاربة المؤمنين وقتالهم .
الثاني : يصعد ويفر المؤمنون أمام الذين كفروا لعلهم ينتهون ، ويكتفون بجولة من معركة أحد قبل أن يفتك بهم الملائكة .
الثالث : إذ تصعدون أيها المؤمنون لعل الذين كفروا ينتهون عن السعي لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : لعلهم ينتهون وتسلمون من كثرة القتال والنفير ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) .
وقال عكرمة بنسخ الآية أعلاه بقوله تعالى وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ولا دليل على النسخ بين الآيتين موضوعاً وحكماً .
الخامس : والرسول يدعوكم في أخراكم لعلهم ينتهون ) من جهات :
الأولى : يبعث علم الذين كفروا بسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم أحد ، وكذب إشاعة قتله اليأس والقنوط في نفوسهم .
الثانية : وردت آية البحث بتسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصفة الرسول ، وفيه شاهد على أن دعوته للمسلمين للعودة للقتال من الوحي , وليس طلباً لنجاته وإرادة إستمرار القتال أو حمية .
وهل هذه الدعوة من مصاديق قوله تعالى أعلاه [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( )، الجواب نعم لتجعل دعوة الرسول لأصحابه بالعودة لميدان المعركة واجباً عينياً عليهم ، وتقدير الآية حينئذ : والرسول يدعوكم في أخراكم فلا يصح الإمتناع عن الإجابة عنها ، وهو من مصاديق الآية أعلاه [وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا] ( ).
الثالثة : لعلهم ينتهون , لما في دعوة الرسول للمؤمنين من بعث الحماس في نفوسهم ، وتجديد الشوق للدفاع وحب الشهادة في سبيل الله ، ولما فيها من بعث الخوف والرعب في قلوب الذين كفروا .
لقد أخبرت آية البحث عن قانون ( إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا) ليكون من اللامتناهي من جهات :
الأولى : صيغة المضارع في الفعل [سنلقي] التي تتضمن الإستمرار والتجدد.
الثانية : الملازمة بين الكفر والرعب ، فاذا زاغت القلوب عن جادة الحق توجه لها الرعب ، ليكون زاجراً ومانعاً عن الإقامة على الكفر والجحود .
الثالثة : نسبة إلقاء الرعب إلى الله عز وجل ، وهو سبحانه العالم بما في القلوب من الأوهام ، قال تعالى [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
الرابعة : أسباب هذا القانون من أفراد ومصاديق أمور :
أولاً : مصاديق الكفر التي تظهر على أقوال وأفعال الكفار متفرقين ومجتمعين ، لذا جاء القرآن بذم خصالهم وأفعالهم لبيان حقيقة , وهي أن الخصال المذمومة سبب لإستحقاقهم بعث الرعب في قلوبهم من جهات :
الأولى : مجي ذات الرعب وإختراقه لقلوب الذين كفروا الجوفاء خلقة وخلقاً .
الثانية : مقدمات الرعب .
الثالثة : ما يترشح عن الرعب من الأذى .
الرابعة : نزول البلاء بالذين كفروا بما يبعث الرعب في نفوسهم، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ] ( ).
وعن ابن عباس في الآية أعلاه , قال : القارعة : سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم ( حتى يأتي وعد الله ) قال : فتح مكة ( ).
ثانياً : مصاديق الشرك والضلالة التي تلبس ويتلبس بها الذين كفروا .
ثالثاً : إصرار الذين كفروا على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنكار التنزيل والصدود عن الفرائض والعبادات تسليماً وأداءً ، والإمتناع عن التدبر في المعجزات التي تترى ببركة نبوته , ومنها قانون إلقاء الرعب في قلوبهم ، وهل هذا القانون معجزة قائمة بذاتها أم كل فرد من الرعب معجزة ، الجواب هو الثاني من جهات :
الأول : الرعب الذي يصيب الكافر معجزة .
الثاني : ما يصيب رؤساء الكفر من الرعب معجزة تتجلى على أفعالهم .
الثالث : كل مرة يلقي الله الرعب في قلب الكافر معجزة ، فان قلت الأصل هو بقاء ذات الرعب في قلبه لملازمته للشرك والكفر والجواب المراد من قولنا (كل مرة ) أي ما يأتي من مراتب الرعب الإضافية لإصراره على الكفر ، وهذا الإصرار يتجلى من وجوه :
أولاً : البقاء على الكفر والجحود ، فكل ساعة تمر على الكافر هي من مصاديق الإصرار والعناد .
ثانياً : الصدود عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا فمن معجزات القرآن الغيرية في المقام نزول القرآن نجوماً وعلى نحو تدريجي , لتكون كل آية تصل إلى الأسماع وتدركها العقول حجة على الناس .
ثالثاً : قيام الذين كفروا بالغزو محاربة للنبوة والتنزيل ، ولإرادة هدم معالم الدين ، ومن مصاديق الإصرار القبيح أنهم يجعلون من مكة التي شرفها الله بأن رفع فيها [أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ] ( ) مكاناً لمكرههم وتحشيد الجيوش وإعداد الخطط لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , ولم يعلموا أن سهام الرعب تنبعث من الكعبة الشريفة لتتوجه إلى قلوبهم وتصبح إنذاراً لهم .
رابعاً : إيذاء الذين كفروا للمؤمنين , لتكشف آية السياق عن حقيقة وهي أن الذين كفروا يصابون بالرعب حتى عند تعديهم على المسلمين والبطش بهم .
فيقتل أو يجرح المسلمُ الكافر في المعركة فيصاب الذين كفروا بالرعب .
ويقتل الكافر المسلم فيأتي الرعب إلى الذين كفروا ، وهو من أسرار تولي الله عز وجل بنفسه إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، ليكون الرعب سبباً لتألم ويأس الذين كفروا الوارد بقوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ] ( ).
ولم يأت لفظ تألمون في القرآن إلا في الآية أعلاه , وورد فيها مكرراً مرتين مع التباين الموضوعي في كل واحدة منهما , ولم يرد لفظ [تَأْلَمُونَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان تألم الذين كفروا بسبب إمتلاء قلوبهم بالرعب , وفيه إحباط وتثبيط لهم ، أما تألم المسلمين فانه باب للثواب .
وإبتدأت وأختتمت الآية أعلاه بما يبعثهم على الصبر والجهاد وأسباب بعث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا .
وهل دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين يوم أحد بالرجوع إلى المعركة من مصاديق إلقاء الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا , الجواب نعم من جهات :
الأولى : نفي إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ سمعها المسلمون وأصابهم الحزن وتغشاهم الأسى فدعوة الرسول لهم بالعودة إلى المعركة كشف وإزاحة لهذا الحزن والأسى .
الثانية : التباين الرتبي بين دعوة الرسول ودعوة غيره من الناس وإن كان من أمراء السرايا , وحملة الأولوية من وجوه :
أولاً : تصل دعوة الرسول إلى جميع المؤمنين وهو من معاني لفظ [فِي أُخْرَاكُمْ].
ثانيا : تلقي المؤمنين دعوة الرسول بالقبول والرضا ، لأنها فرع طاعته التي أمر الله عز وجل بها (عن الشعبي : أن رجلاً من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فقال : يا رسول الله والله لأنت أحب إليَّ من نفسي وولدي وأهلي ومالي ، ولولا أني آتيك فأراك لظننت أني سأموت .
وبكى الأنصاري فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما أبكاك ؟ فقال : ذكرت أنك ستموت ونموت فترفع مع النبيين ، ونحن إذا دخلنا الجنة كنا دونك . فلم يخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيء ، فأنزل الله على رسوله { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم }( ) إلى قوله { عليماً } فقال : أبشر يا أبا فلان) ( ).
ثالثاً : حث المؤمنين على المناجاة بينهم للرجوع إلى المعركة .
رابعاً : التلاوم فيما بين المؤمنين على الهزيمة والإنسحاب مع بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان .
خامساً : في الآية درس وموعظة لأمراء المسلمين بالصبر وسط الميدان , وحث الأفراد على الدفاع والمرابطة لدفع الذين كفروا .
الثالثة : تدل الآية على إنتفاء المانع والبرزخ بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فحينما يدعوهم يسمعونه ، وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
الرابعة : إرادة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الخامسة : تأكيد بطلان وزيف دعوى قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : بيان قانون وهو عدم إنقطاع دعوة النبي لأصحابه في حال السراء والضراء ، والرخاء والشدة .
السابعة : الثناء على صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار ، فلم ييأس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم ، ولم يظهر سخطه عليهم ، إنما كان يدعوهم للتدارك والعودة إلى القتال ، وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أدبني ربي فأحسن تأديبي) ( ).
الوجه الثاني : بيان التخفيف عن المسلمين باقتران دعوة النبي لهم للرجوع إلى ميدان المعركة بإصابة الذين كفروا بالفزع والخوف والرعب ، لتكون علة هذا الرجوع تامة من جهتين :
الأولى : وجود المقتضي , وهو من وجوه :
أولاً : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان وضرورة دفاع المسلمين عنه .
ثانياً : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بالعودة للقتال .
ثالثاً : حرمة الفرار من الزحف والدفاع .
رابعاً : شوق المؤمنين إلى الشهادة وسط الميدان .
خامساً : تسليم المؤمنين بلزوم الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو باق في الميدان .
الثانية : إنعدام المانع الذي يحول دون رجوع المؤمنين إلى ساحة المعركة من وجوه :
الأول : عجز الكفار عن مواصلة القتال ، لإصابتهم بالضعف والوهن ، إذ أن نفاذ الرعب إلى قلوبهم سبب لظهور أماراته على جوارحهم .
الثاني : عدم خشية أهل البيت والصحابة من الموت في ساحة المعركة , وقد جاءت الآيات بشوقهم للشهادة ، قال تعالى بخصوص معركة أحد [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] .
وورد عن ابن عباس (وَلَمّا أَخْبَرَهُمْ اللّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيّهِ بِمَا فَعَلَ بِشُهَدَاءِ بَدْرٍ مِنْ الْكَرَامَةِ رَغِبُوا فِي الشّهَادَةِ فَتَمَنّوْا قِتَالًا يَسْتَشْهِدُونَ فِيهِ , فَيَلْحَقُونَ إخْوَانَهُمْ فَأَرَاهُمْ اللّهُ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ وَسَبّبَهُ لَهُمْ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ انْهَزَمُوا إلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ مِنْهُمْ , فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ })( ).
ولم تكن هزيمة أغلب الذين تركوا ساحة المعركة من الصحابة على نحو السالبة الكلية إذ صعد أكثرهم على الصخرة وتناجوا بالرجوع إلى ساحة المعركة خاصة بعد أن علموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي ، لم يغادر موضعه بالميدان .
ومن أسرار النبوة والإمامة أن النبي أمر الرماة بعدم مغادرة مواضعهم وهم في مأمن وحرز من المبارزة والمسايفة ، أما هو ففي مواجهة أزاء العدو بعد الخطأ والمعصية منهم , ومع هذا لم يغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضعه في المعركة .
ومن الآيات إقتران علمهم بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوته لهم بالرجوع إلى الميدان .
الثالث : مجئ الأخبار بحماسة فريق من الصحابة للقتال يوم أحد ، خاصة أولئك الذين فاتتهم المشاركة في معركة بدر .
الرابع : من إعجاز آيات القرآن أنها تمنع المؤمنين من الهزيمة والفرار , قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) ليكون من أسرار تلاوة المسلمين والمسلمات آيات القرآن في الصلاة حضورها في أذهانهم ومناجاتهم في ساحة المعركة ، وصيرورتها برزخاً دون الهزيمة أو إستدامتها إن حدثت.
لقد إنهزم المشركون في معركة بدر فلم يقفوا إلا في مكة أي أنهم قطعوا مسافة خمسمائة كيلو متر حتى إستقر بهم النوى ، وهو من الشواهد على أن الرعب الذي تذكره آية السياق في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) مصاحب للذين كفروا حتى في حال الهزيمة والإنسحاب ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : ملازمة ذات الرعب الذي قذفه الله في قلوب الذين كفروا من كفار قريش يوم بدر لهم حتى أوان دخولهم مكة .
الثاني : بقاء شطر من ذات الرعب الذي أصاب الذين كفروا يوم بدر في قلوبهم عند الهزيمة وقطع المسافة إلى مكة , للقيد الموضوعي كعلة لإلقاء الرعب وهو نشوب القتال بينهم وبين المسلمين ، وإبتعادهم عن ميدان المعركة وشبح القتل بسيوف المسلمين .
الثالث : نفاذ ضروب وأفراد جديدة من الرعب إلى قلوب الذين كفروا , وهم في طريق الهزيمة والعودة إلى مكة المكرمة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية السياق ليتجلى التباين بين المؤمنين والذين كفروا ، فلم ينعت الله عز وجل المؤمنين بأنهم إنهزموا بل قال [تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]( )، وأخبر عن دعوة ونداء النبي لهم والذي يتضمن الحث على التدارك .
وذكر هذه الآية بين آيتين تدلان مجتمعتين ومتفرقتين على سلامة المسلمين من الرعب والفزع والإنكسار , وفيه مسألتان :
الأولى : إختتام الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ].
الثانية : مجئ الآية التالية ببيان مصداق لفضل الله على المؤمنين وسط الميدان بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] ( ).
وتضمنت الآية التي وردت قبل آية السياق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( )ومن مصاديق هذا القانون في المقام وجوه :
الأول : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مقدمة لنصر المؤمنين لفقدان التكافؤ في القتال ، وإصابة طرف الذين كفروا بنقص وضعف ووهن لا تسده كثرة عددهم وأسلحتهم .
الثاني : من مصاديق قوله تعالى[وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] أن دعوة الرسول لأصحابه بالرجوع [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] واقية من هزيمة المسلمين ، وبرزخ دون نصر الذين كفروا وهو من الشواهد بأنهم لم ينتصروا يوم أحد وإن أصيب المسلمون بخسائر في النفوس ومغادرة سبعين شهيداً إلى الرفيق الأعلى .
وإن قلت لم قلت أعلاه بخسائر ولم تقل بخسارة ، وإرادة اسم الجنس ، والجواب كلاهما صحيح , ولكن أردت البيان فكل شهيد في معركة أحد خسارة عظيمة ، وحجة على الذين كفروا إلى يوم القيامة , وتضحيته برزخ دون شيوع الغفلة والجهالة عند الناس ، فقد يحارب الذين كفروا النبوة ويقتلون المؤمنين بها عناداً وإستكباراً مع تعرضهم أنفسهم للقتل ، وتتجلي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : إستعمال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه السيف عن ضرورة وحاجة .
الثانية : وجوب قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدفاع عن أنفسهم وعن الدين .
الثالثة : تلقي المسلمين الأذى والقتل وإصابتهم بالجراحات والكلوم مع أنهم على الحق ، قال تعالى [ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ) لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزواته يؤكد على كلمة التوحيد وقول لا إله إلا الله .
الثالث : دعوة الرسول لأصحابه مقدمة للنصر والغلبة على الذين كفروا وهو الأمر الذي فطن إليه رؤساء الضلالة من قريش ، فعندما علموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُقتل وأن أصحابه يحيطون به وأخذوا يرجعون إلى الميدان صعد أبو سفيان على صخرة وأشرف على المسلمين , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الارض.
ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم.
فقال أبو سفيان يومئذ: أعل هبل، حنظلة بحنظلة، ويوم أحد بيوم بدر) ( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى فيها نصرة الله للمسلمين وأنه تعالى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ]إذ يجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيد الدعاء والإستغاثة بالله عز وجل وبين السعي والجهاد ولو بالحجارة فنزل أبو سفيان وهو يقول (يوم أحد بيوم بدر ).
وقد تقدم أن كلامه هذا مغالطة للتباين بين الأمرين , ولا عبرة بكلام الكافر الحربي والحق أن (يوم أحد كيوم بدر ) من جهة نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في كل منهما ، وإتحاد السنخية بينهما من مصاديق قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ).
وهل يصح القول بلحاظ آية السياق : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب حتى يقولوا كذباً ووهماً : يوم أحد بيوم بدر الجواب نعم فقد ولى وإنسحب الذين كفروا من معركة أحد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مقيمون فيها .
نعم في معركة بدر طارد المسلمون الذين كفروا في هزيمتهم أما في معركة أحد فأكتفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتركهم ينهزمون مع مراقبة جهة مسيرهم ، والتأكد من عدم إرادتهم المدينة، وفيه حجة ورحمة لجعل الذين كفروا يتدبرون بعجزهم عن تحقيق النصر , والإعجاز الغيري للقرآن في إدراكهم لإمتلاء قلوبهم بالرعب والفزع والخوف ليتوب فريق منهم ويصيب الباقين على الكفر والضلالة الوهن والضعف ، ويكون من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] تهيئة مقدمات فتح مكة من يوم هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ونصره العظيم في معركة بدر وسلامته والمسلمين من الهزيمة يوم أحد ، وخذلان وخيبة الذين كفروا في حصار معركة الخندق وقتل الإمام علي عليه السلام يومئذ لبطل قريش عمرو بن ود العامري الذي يتضمن نكتة قتالية وهي زجر الذين كفروا مع كثرتهم عن إقتحام الخندق، لذا (أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( )، بعلي بن أبي طالب)( ).
وشاء الله أن يبعث الرعب في قلوب الذين كفروا على ألسنة المؤمنين وبأشعارهم ، وفي معركة الخندق , ورد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (من يحمي أعراض المؤمنين , قال كعب أنا يا رسول الله , وقال ابن رواحة أنا يا رسول الله فقال إنك تحسن الشعر , فقال حسان بن ثابت : أنا يا رسول الله قال نعم اهجهم أنت فسيعينك عليهم روح القدس) ( ).
وقد ورد (عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ « إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً »)( ).
لبيان أن الشعر وعموم الحكمة يبعث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا بينما يكون شعر وفخر الذين كفروا لغوا وسبباً للإثم ، وهل يكون مادة لإلقاء الرعب في قلوبهم الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ] ( ).
الوجه الثالث : بيان الإتصال والتداخل والجمع في زمان وذات الفعل بين نفاذ الرعب إلى قلوب الذين كفروا وبين دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين للرجوع إلى وسط المعركة ، ومزاولة القتال والدفاع عن بيضة الإسلام ، ليكون هذا الجمع من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً :
الأول : إلقاء الرعب في قلوب الكفار سبب ومقدمة لدعوة الرسول للمؤمنين بالرجوع للميدان , وإن لم يستوحش النبي من قلة الناصر , ففي قصة الغار عند هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد في التنزيل [إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا]( ).
إذ إختبئا في غار ثور ثلاث ليال , وفي الآية أعلاه بشارة بأن الله عز وجل معه ومع المؤمنين يوم بدر ويوم أحد لذا جاءت الآية أعلاه بالنهي عن الحزن , وتضمنت آية البحث الإخبار عن طرو الحزن على المؤمنين بقوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا].
الثاني : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه سبب ومقدمة لإلقاء الرعب في قلوب الكفار .
الثالث : ليس من سببية في المقام , فكل واحد منها نعمة من عند الله على المؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى في خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الرابع : دلالة التباين في صيغة الفعل على إنحصار السببية في دعوة الرسول لمجيئها بصيغة الحاضر المستديم بلحاظ العطف على [إِذْ تُصْعِدُونَ] بينما جاء قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] بصيغة المضارع .
والمختار هو الأول والثاني من غير أن يلزم الدور بينهما ، وكل فرد منهما ردف للآخر، ليجتمعا في جذب المؤمنين للرجوع إلى ميدان المعركة وترك نية الفرار والإنهزام ، ليكون تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إستجيبوا لدعوة الرسول سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب.
لقد طمع الكفار بجعل المسلمين يطيعونهم في المعصية وهجران معالم الإيمان ، فتفضل الله وأمر المسلمين بالعودة إلى قتالهم وتشريدهم وأنه سبحانه تكفل برمي الذين كفروا بالرعب والفزع والخوف عند اللقاء ، وهل هو عقوبة عاجلة لهم على سعيهم لحمل المسلمين على ترك دينهم ، الجواب نعم ، وفيها مسائل :
الأولى : زجر الذين كفروا عن فتنة ومحاولات إغواء وإغراء المسلمين بترك الإسلام .
الثانية : تأكيد إخلاص المؤمنين في دينهم وحرصهم على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : بيان شوق المسلمين لإستدامة تتابع التنزيل ، وهو من أسرار نزول القرآن نجوماً على مدى ثلاث وعشرين سنة .
الرابعة : حصانة وعصمة المسلمين من طاعة الذين كفروا .
الخامسة : فضح وهن وضعف دعوة الكفار لطاعتهم .
السادسة : هذه العقوبة سبب لنفرة الناس جميعاً من طاعة الذين كفروا ، ومن الشواهد إبتعاد الناس عن طاعة رؤساء الكفر من قريش .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إستجيبوا للرسول إذ يدعوكم للنصر والأمن من الهزيمة ، بلحاظ أنها من الوحي ، وهو خير محض يجب الإمتثال له ، ويكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الإستجابة للوحي واجب .
الصغرى : دعوة الرسول وحي .
النتيجة : الإستجابة لدعوة الرسول واجب .
الثالث: يا أيها الذين آمنوا إستجيبوا لدعوة الرسول ، إذ يقتضي الواجب الإيماني الإستجابة لدعوة الرسول في حال السلم والحرب وعند الهجوم أو التراجع لذا يتضمن قوله تعالى بخصوص مقدمات معركة أحد [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) الثناء على المجاهدين من المهاجرين والأنصار من جهات :
الأولى : المبادرة إلى النفير .
الثانية : تلقي أخبار زحف الذين كفروا بالعزم على ملاقاتهم بالسيوف , لقد جاء الذين أشركوا يوم أحد بثلاثة آلاف رجل مع الإصرار على القتال والإستعداد له وتهيئة مقدماته، وفيه أمور :
الأول : هل أراد المشركون بكثرة جيشهم بعث الفزع والخوف في قلوب المؤمنين .
الثاني : هل نوى الذين كفروا من كثرةعددهم , والمبالغة في عدتهم وخيلهم جعل المسلمين يطيعونهم ، ويدركون أن لا طاقة لهم بمحاربة هذا الجيش العرمرم .
الثالث : هل من موضوعية لكثرة جيش المشركين في هزيمة وإنكسار جيش الإسلام في جولة من معركة أحد .
أما الأول فالجواب نعم ، وهو من صيغ الحرب النفسية ، وكان رؤساء قريش يحسنون هذه الصيغ من وجوه :
أولاً : معرفة قريش بأيام العرب ، وحوادث الأيام والحروب والمعارك التي جرت بينهم وفنون القتال والمكر والدهاء، وتوارثهم لأخبارها .
ثانياً : حضور القبائل العربية موسم الحج , فيتبادلون الخبرات والمعارف .
ثالثاً : وجود أشهر حرم يأمن فيها الناس , فيفدون على مكة ويتصلون برجالات قريش ويتدارسون معهم أحوال الناس ، والخصومات بين القبائل والأفراد وطلب الثأر والإنتقام بينهم ، قال تعالى [ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ]( ).
رابعاً : حفظ قريش وغيرهم لقصائد الشعر العربي، وأظهرها التي توثق المعارك والتفاخر بالآباء، وهذا الحفظ مقدمة للتحدي ببلاغة القرآن.
خامساً : قيام رجالات قريش بالتجارة العظمى آنذاك بين مكة والشام واليمن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
إذ تترشح المعرفة بأحوال الناس عن التنقل والسياحة بين البلدين بالإضافة إلى حاجة التجار لمعرفة أحوال البلدان وإستقرارها لموضوعيته في إزدهار التجارة وقبض ثمن العوض للبيع أو الإجارة ، ويمكن معرفة كبر وسعة تجارة قريش آنذاك ، أن قافلة أبي سفيان التي لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في طلبها أيام معركة بدر طلباً لمال المهاجرين الذي إستحوذت عليه قريش في مكة كانت تتكون من ألف بعير وعليها من ثلاثين إلى أربعين رجلاً .
واما الثاني , فالجواب بالإيجاب أيضاً ، فعندما عجز الكفار عن إعادة الذين هاجروا من مكة إلى سلطانهم وسطوتهم ، وفشلوا في منع الأوس والخزرج عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورأوا بسالتهم وتفانيهم يوم بدر ظنوا بأن السلاح والقوة هما السبيل الوحيد لإعادتهم إلى طاعتهم ،وأنهم بهجومهم يوم أحد يمنعون الناس عن دخول الإسلام ، قال تعالى [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ) .
لتتجلى منافع قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )في يوم أحد بلزوم صبر المسلمين في القتال وترك الإنهزام والفرار .
لقد فتح الله عز وجل للمسلمين بقوله تعالى في آية البحث [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] باب التدارك في ميادين القتال بما يجلب لهم النصر وينجيهم من الهزيمة .
وإذا كان الذل والهوان مصاحبين للهزيمة فان إنسحاب المسلمين حجة لهم وليس فيه حرمان من الثواب والآجر ، لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ليكون قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]سلامة من الإنقلاب بخسران , ومناسبة للتدارك.
وأما الثالث , فالجواب نعم ، إذ إستطاع المشركون تقسيم جيشهم بوفرة من الرجال ، وجعل كتيبتين من الخيالة خلف جيش المسلمين لم ينسحبوا لنصرة جيشهم عند تعرضه للإنكسار والهزيمة في بدايات المعركة ، فتقيدوا مع كفرهم وجحودهم بما أمرهم به رؤساؤهم من البقاء خلف جيش المسلمين حتى في حال الإنكسار ، بينما لم يتقيد الرماة من المسلمين بما أمرهم به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من البقاء في مواضعهم ، ليتفضل الله بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بالرجوع إلى المعركة.
ولتكون هذه الدعوة كقوة وسطوة جيش كامل في الأثر والتأثير، وتمحو أثر كثرة جيش المشركين إذ إستجاب المؤمنون لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجتهدوا في الذب عنه وأخلصوا في القتال ، وهذه الدعوة من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
الثالثة : من مصاديق الثناء على المؤمنين المقاتلين بشارة الله عز وجل لهم بالنصر التي تجلت بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
الرابعة : إخبار الآية السابقة عن قيام المسلمين بقتل وقهر الذين كفروا وحملهم على ترك مواضعهم وسط المعركة , وفي قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] شكر من الله عز وجل للمؤمنين على قيامهم بقتل وجرح وطرد الذين كفروا.
فان قلت تبين الآية أن هذا الحس بفضل الله ، ومن صدق وعده تعالى لهم فكيف يكون فيه شكر من الله لهم ، الجواب من مصاديق الإرادة التكوينية أن الله عز وجل يهدي العباد إلى فعل الصالحات ويشكرهم عليه , وقد أنزل الله الملائكة لنصرة المؤمنين يوم أحد ، ومع هذا نسب الحس والقتل للمؤمنين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] ( )فعطف المؤمنين على نفسه سبحانه مع أنه الكافي في كل الأمور ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) ولكنه سبحانه أراد الثناء على المؤمنين وشكرهم على نعمة الهداية والصبر في مرضاته، وفي الدفاع عن بيضة الإسلام.
الوجه الرابع : من معاني الواو في [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] المعية أي أثناء ما يدعوكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعودة إلى الميدان وطلب الجنة من تحت لمعان الأسنة يبعث الله الرعب في قلوب الذين كفروا , وفيه مسائل :
الأولى : ترغيب المؤمنين بالعودة إلى القتال وإزاحة الخوف من نفوسهم .
الثانية : لقد باغت الذين كفروا المؤمنين من خلفهم بعد ترك أغلب الرماة لمواضعهم ، ففوجئوا بالسيوف والرماح تأتيهم من خلف ظهورهم ، ففر أكثرهم من الميدان ، فأخبرت آية السياق بأن أيدي الذين كفروا عاجزة عن مواصلة الضرب والدفع والقتل من وجوه :
أولاً : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب ، وترشح أثره على الأيدي والجوارح والأركان .
ثانياً : عودة المهاجرين والأنصار إلى القتال ودفعهم الذين كفروا عن مواضعهم .
ثالثاً : نزول الملائكة مدداً لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وقد إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )فرد الله عز وجل عليهم بالقول [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فخروا لله سبحانه ساجدين مذعنين.
وقد سفك الذين كفروا الدماء ظلماًَ في معركة أحد ، إذ إلتفوا على جيش المسلمين من الخلف فأشاعوا فيه القتل , وسقط سبعون قتيلاً منهم شهداء , وإن كان بعضهم قتلوا بالمبارزة ولقاء الأسنة أو الغدر كما في قتل حمزة عليه السلام إذ رماه وحشي بالحربة .
فتطلع الملائكة إلى مصداق وإحتجاج الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) بلحاظ أنه أقرب للوعد والعهد بمنع إشاعة الفساد وسفك الدماء في الأرض فصدقهم الله وعده بأن أنزلهم لنصرة المؤمنين ودفع المشركين عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيقاف نزيف الدم بين المؤمنين ، فكما ذكرت الآية السابقة صدق وعد الله للمؤمنين بقوله [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]فان الله عز وجل صدق وعده للملائكة يوم أحد فبعث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا ، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يثبت في مكانه , ويدعو أصحابه للرجوع إلى القتال , وقطع دابر الفساد في الأرض ، وهل في رجوعهم منع من سفك الدماء أم أنه سبب لإشتداد القتال وجريان الدماء من الطرفين.
الجواب هو الأول خاصة وأن موضوع إحتجاج الملائكة هو سفك الدماء بالباطل وبغير حق ، ومنه تعدي وظلم وقتل الذين كفروا للمؤمنين في ساحة المعركة وخارجها ، لذا كانت دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى المعركة من رشحات قول الله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) بأنه سبحانه يبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس جميعاً ويحاربه الكفار، فينزل الملائكة لنصرته ، ويعود أصحابه له يوم معركة أحد ، فتكون مناسبة لإستئصال الفساد والشرك ومفاهيم الضلالة من الأرض ، ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم في أخراكم لمحاربة الفساد في الأرض.
الثاني : والرسول يدعوكم في أخراكم لمنع سفك الدماء في الأرض .
الثالث : والرسول يدعوكم في أخراكم شكراً لله على نعمة نزول الملائكة للنصرة .
الرابع : والرسول يدعوكم في أخراكم لإبطال إشاعة قتله .
الثالثة : لا ينوي الذين يفرون من المعركة في العادة الرجوع إليها إلا الفرد القليل وعند زوال الأسباب التي جعلتهم يفرون منها ، وبعد تفكر وتدبر وتأكد من زوالها.
وجاءت آية البحث لبيان حال جديدة طرأت على الأرض وهي مبادرة المؤمنين الذين فروا من المعركة بالعودة إليها ، وكأنه ليس من فرار وإنسحاب ، إذ تنفي الآية في دلالتها وجود الزينب( ) الجبان بين المؤمنين .
الرابعة : يفيد الجمع بين الآيتين الإستفهام الإنكاري الموجه للمؤمنين الذين تركوا الميدان وصعدوا الجبل أو إنسحبوا في الأرض المنبسطة السهلة فاذا كان الله عز وجل قد ألقى الرعب في قلوب الذين كفروا فلماذا تركتم الميدان وخلفتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وراءكم وهذا الإستفام ليس مجرداً بذاته بل يتضمن في دلالته حث المؤمنين على الرجوع إلى المعركة ، وقتال العدو وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ].
لتكون هذه الدعوة من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فأثابكم غماً بغم ).
وفيها وجوه :
الوجه الأول : تأكيد شدة القتال , وتجهز وإعداد كفار قريش لمعركة أحد إعداداً دقيقاً وقيامهم بتهيئة شرائط المطاولة في القتال وأسباب النصر وتحضيرهم الخطط القتالية، وكيفية الفتك بالمؤمنين ، وهل منها قيامهم باشاعة نبأ قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كذباً وزراً , ولغرض إرباك الصحابة وإصابتهم بالإنكسار والخيبة . الجواب الأقرب نعم , ولابد من دليل عليه ، وإن كان حديث أبي سفيان وهو رئيس جيش كفار قريش مع ابن قمئة لا يدل على الإتفاق على هذا المكر , لكنه من الخدعة في الحرب , وتمنية من الكفار لأنفسهم بالباطل.
وعن الأَعْرَجِ ، قَالَ لَمّا صَاحَ الشّيْطَانُ « إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، أَيّكُمْ قَتَلَ مُحَمّدًا ؟ قَالَ ابن قَمِيئَةَ أَنَا قَتَلْته . قَالَ نُسَوّرُك كَمَا تَفْعَلُ الْأَعَاجِمُ بِأَبْطَالِهَا.
وَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَطُوفُ بِأَبِي عَامِرٍ الْفَاسِقِ فِي الْمَعْرَكِ هَلْ يَرَى مُحَمّدًا [ بَيْنَ الْقَتْلَى ] ، فَمَرّ بِخَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ فَقَالَ يَا أَبَا سُفْيَانَ هَلْ تَدْرِي مَنْ هَذَا الْقَتِيلُ ؟ قَالَ لَا.
قَالَ هَذَا خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ الْخَزْرَجِيّ ، هَذَا سَيّدُ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ .
وَمَرّ بِعَبّاسِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ إلَى جَنْبِهِ فَقَالَ هَذَا ابن قَوْقَلٍ هَذَا الشّرِيفُ فِي بَيْتِ الشّرَفِ . قَالَ ثُمّ مَرّ بِذَكْوَانَ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ ، فَقَالَ هَذَا مِنْ سَادَاتِهِمْ . وَمَرّ بِابْنِهِ حَنْظَلَةَ فَقَالَ مَنْ هَذَا يَا ابن عَامِرٍ ؟ قَالَ هَذّ أَعَزّ مَنْ هَاهُنَا عَلَيّ هَذَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ .
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ مَا نَرَى مَصْرَعَ مُحَمّدٍ وَلَوْ كَانَ قَتَلَهُ لَرَأَيْنَاهُ كَذَبَ ابن قَمِيئَةَ وَلَقِيَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَالَ هَلْ تَبَيّنَ عِنْدَك قَتْلُ مُحَمّدٍ ؟ قَالَ خَالِدٌ رَأَيْته أَقْبَلَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مُصْعِدِينَ فِي الْجَبَلِ . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ هَذَا حَقّ كَذَبَ ابن قَمِيئَةَ زَعَمَ أَنّهُ قَتَلَهُ) ( ).
الوجه الثاني : توجيه التنبيه واللوم إلى المؤمنين الذين تركوا مواضعهم يوم أحد , مع أن الله عز وجل صدقهم وعده ، ويسر لهم أسباب الفتح , ومن مصاديق الوعد في المقام وجوه :
أولاً : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، وهو الذي تدل الآية قبل السابقة إذ جاء الوعد فيها بصيغة الإستقبال [سنلقي ] ليكون من معاني الإستقبال في الآية أعلاه الوعد الإلهي.
وتكون بداية الآية السابقة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]إخباراً عن نفاذ الرعب إلى قلوب الذين كفروا ، فليس ثمة مدة أو فترة بين الوعد من الله بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وبين تنجزه في الواقع ، كما أنه ليس من فصل بين نظم القرآن ودلالات الإعجاز فيه ومنه أيضاً تعقب آية البحث لصدق وعد الله لتكون فيه حجة على المنافقين الذين إنخزلوا وسط الطريق إلى أحد ، وهم نحو ثلث جيش المسلمين , وتنبيه للذين إنهزموا في المعركة ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( )
ثانياً : إذا كان الذين إنهزموا يسمعون دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالرجوع , فإنه يدل بالدلالة التضمنية على قربهم من وسط الميدان بلحاظ أنه ينادي من وسط الميدان , ولم يغادره .
ثالثاً : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان بأمر من عند الله ، لقد أخبر القرآن بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيّن للمهاجرين والأنصار الذين خرجوا معه إلى معركة أحد مواضعهم في القتال في المقدمة أو الميمنة أوالميسرة أو القلب أو المؤخرة، وسلم الرايات والألوية إلى أصحابها ، وإختار خمسين من الرماة على الجبل , وجعل عليهم أميراً هو عبد الله بن جبير بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
ولم تبين الآية أعلاه مقعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القتال وهل هو ثابت في القلب أم يتنقل بين الأطراف الخمسة لجيش المسلمين فلما وقت معركة أحد ونشبت الحرب وتلاقت الأسنة تجلى مقام وموقع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يتميز عن أي موقع في تأريخ الإنسانية من جهات :
الأولى : لم يغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضعه في القتال مع تقدم العدو .
الثانية : إصابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات الشديدة , وهو في موضعه ولبسه الدرع والمغفر وغطاء الرأس .
الثالثة : دنو الذين كفروا منه ورميه بالحجارة وسيلان الدماء بسببها أي أن الحجارة لا تسقط أمامه بل تصيبه مباشرة .
الرابعة : أغلب الذين وضعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقاماتهم في المعركة قتلوا أو إنهزموا ، وبقي مع ثلة من أهل بيته واصحابه ، وفزعت إحدى المؤمنات وهي أم عمارة لنصرته ، وكان يثني عليها ويشد على يدها عندما تباشر الرمي .
الخامسة : رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم النبل بقوسه حتى فنى نبله , وكسرت قوسه .
السادسة : إجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء والذكر .
السابعة : حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه على الرجوع إلى المعركة ، وهو الذي وثقته آية البحث وإلى يوم القيامة، ليكفيهم فخراً وعزاً أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه يدعوهم وهو من مصاديق قوله تعالى[ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الوجه الثالث : بيان قانون وهو أن الله عز وجل مع المؤمنين في حال الرخاء والشدة لذا يجب عليهم شكره سبحانه في كل حال , إذ يدل الجمع بين الآيتين على تفضل الله عز وجل بالتخفيف عنهم وهم بأشق الأحوال بأن رمى عدوهم بالرعب والخوف الذي يملأ قلوب أفراده , فتترشح عنه غشاوة على أبصارهم وعقدة في ألسنتهم، فعندما ينهزم المؤمنون لا ينوي الذين كفروا اللحاق بهم ، لذا إجتمع المؤمنون من جديد وعاودوا الكرة والقتال.
وفي هذه العودة مسائل :
الأولى : عودة المهاجرين والأنصار إلى القتال شاهد على صدق الإيمان .
الثانية : بيان التباين بين المؤمنين والكفار ، فعندما إنهزم المشركون في معركة بدر لم تقف رواحلهم إلا في مكة ، وكذا عندما إنسحبوا يوم أحد لذا قال تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ليفيد قوله تعالى أعلاه إنتفاء القدرة عند المشركين على مزاولة القتال من جديد لأن قلوبهم مملوءة بالرعب والفزع كما تدل عليه آية السياق بينما تتجدد المقدرة عند المسلمين على القتال ، وهذا التجدد في أسبابه على وجوه :
أولاً :تجلي المدد الملكوتي للمسلمين .
ثانياً : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان .
ثالثاً : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ومزاولته القتال وبطلان إشاعة قتله .
رابعاً : المناجاة بين المهاجرين والأنصار للدفاع عن بيضة الإسلام .
خامساً : تجدد القدرة عند المسلمين من أسرار مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار، ودفاع الأخ في الإيمان عن أخيه ، وندبه له للصبر والدفاع .
سادساً : مجئ آية السياق بالإخبار عن صدق وعد الله للمسلمين.
سابعاً : إخبار آية البحث عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بالعودة إلى القتال ، فلابد أن يكون أثر وإستجابة لهذه الدعوة النبوية ، وهو من أسرار ورود الآية بلفظ الرسول [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] .
وفيه نكتة وهي أن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله لكم بالعودة إلى القتال جزء من رسالته وتبليغه الرسالة فلا بد من الإستجابة له ، قال تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ).
الثالثة : من المتسالم عليه أن حال القتال أشد الأحوال على الفرد والجماعة، وعلى الجندي والقائد، لتبين عودة الصحابة إلى ميدان المعركة، وإحاطتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جديد شاهداً على تضحيتهم في سبيل الله.
الرابعة : دعوة المسلمين للإقتداء بالمهاجرين والأنصار.
الخامسة : بيان المنافع العظيمة لوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين وبناء صرح الإسلام لقيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجيش الإسلام، وثباته في المعركة من غير خوف أو خشية من العدو .
ترى ماذا يحصل لجيش المسلمين لو لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم ويدعوهم في أخراهم، الجواب هو حدوث مصيبة وإنكسار ومضاعفة عدد قتلى المسلمين، وإحتمال زحف المشركين على المدينة لإستباحتها.
الوجه الرابع : لقد دبّ الغم إلى نفوس المؤمنين بسبب فرارهم وإنهزامهم ، فتفضل الله وأخبرهم أنه سبحانه قد رمى الذين كفروا بما هو أشد , وهو الرعب مع التباين من جهات :
الأولى : مجئ الأجر والثواب للمؤمنين على الغم الذي أصابهم.
الثانية : ترتب الإثم والوزر على الذين كفروا بسبب ما يترشح عن الرعب الذي يغزو قلوبهم .
الثالثة : الغم الذي نزل بساحة المؤمنين تخفيف عنهم .
الرابعة : بيان فضل الله سبحانه على المؤمنين , وإلقاء السكينة في صدورهم من وجوه :
أولاً : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
ثانياً : قتل إثنين وعشرين من الذين كفروا في معركة أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
وهذا القطع وموضوعه أعم من قتل هؤلاء الكفار , ومنه إصابتهم بالوهن والضعف , والنقص في الأنفس والأموال , والجاه والشأن بين القبائل , وقلة الرزق للإنشغال بالقتال عن التجارة والمكاسب التي دأبوا عليها.
ثالثاً : توالي نزول آيات القرآن التي تخص معركة أحد , ومنها آية البحث والآية السابقة ، ومن تجليات المواعظ والعبر في آيات القرآن ونظمها .
لقد نالت معركة أحد النصيب الأوفر بعدد الآيات من بين معارك الإسلام ، وفيه مسائل :
الأولى : كل آية تخص معركة أحد موعظة ودرس للمسلمين .
الثانية : دلالات الآية أعم من سبب نزولها وموضوعها.
الثالثة : إقتباس المواعظ من الجمع بين كل آيتين من الآيات التي نزلت في موضوع ومسائل معركة أحد .
الرابعة : لزوم الإقرار العام من المسلمين بأن آيات معركة أحد سبب لنصرهم في معارك الإسلام اللاحقة , فاذا كان لشطر من آيات القرآن سبب لنزولها ، فان كل آية قرآنية موعظة ومادة للهداية والصلاح.
وهل يكون نزول آية قرآنية سبباً لنزول شطر منها , أو سبباً لنزول آية أخرى , الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن ، وتوالي الكشف والبيان فيه ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ولابد من أمثلة على هذا العلم المستحدث بتتبع أسباب نزول آيات القرآن ، ورفع الحرج عن المسلمين .
(عن أنس بن مالك يقول : قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) ( )فنزل [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ]( ).
وعن ابن عباس (لما أنزل الله تعالى[اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ]( )، قال الكفار بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نرى شيئاً ، فأنزل الله تعالى[اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ]( )، فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به ، فأنزل الله تعالى (أَتَى أَمرُ اللهِ) ( ) فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رءوسهم، فنزل (فَلا تَستَعجِلوهُ) فاطمأنوا) ( ).
وحين قال النضر بن الحارث كما ورد في التنزيل[اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ]( )، فدعا على نفسه وسأل العذاب، فنزل به ما سأل يوم بدر فقتل صبراً، ونزل فيه (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) الآية.) ( ).
(وعن عبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : ” مَنْ حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امرىء مُسْلِمٍ ، لَقِيَ اللَّهَ ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ” ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ : { إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلاً . . . } الآية) ( ).
رابعاً : إستقراء الرعب في قلوب الذين كفروا وعدم مغادرته لهم فيتركون أرض المعركة ويعودون إلى بلادهم ولكن الرعب لن يفارقهم من جهات :
الأولى : نزول الملائكة يوم بدر وأحد لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثانية : بقاء دولة الإسلام في المدينة المنورة، وعجز الكفار ومن والاهم عن هدم صرح الإيمان .
الثالثة : عندما رجع الذين كفروا إلى مكة فوجئوا بكثرة عدد المسلمين فيها ، ودخول أبنائهم وبناتهم الإسلام ، ، ومواجهتهم للذين كفروا ، ورفضهم التعذيب والإضطهاد بعد أن كانوا يصبرون عليه.
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ).
وفيه وجوه :
الأول : تأكيد توالي مصاديق فضل الله عز وجل على المسلمين بالذات والغير ، فقد يتبادر إلى الأذهان أن فضله تعالى على المسلمين ينحصر بهم بالخصوص وتتغشاهم أفراده مجتمعين ومتفرقين ، فجاءت هذه الآيات للتأكيد بأن من ضروب فضل الله ما يأتي للمسلمين بالواسطة ، ويتعلق بغيرهم لترجع الفائدة والأثر عليهم كأمة وأفراد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ومن معاني الأثر والنتيجة ما يترشح عن وجود الشئ أو الفعل .
فيحل الرعب بساحة الذين كفروا بأن يملأ قلوبهم فيتجلى في أقوالهم وأفعالهم ، ويكون صبغة عامة في منتدياتهم ويصبح باب أمن وسكينة للمسلمين ، ودعوة لهم لأداء الفرائض والعبادات مع السلامة من أمور :
أولاً : التخويف والتهديد من الذين كفروا إذ صار المسلمون بمأمن منه.
ثانياً : الأخبار التي تنبأ عن إستعداد المشركين للهجوم على الثغور .
ثالثاً :إنشغال المشركين بأنفسهم، فتكون مناسبة فيتهيئ المسلمون للدفاع عن الدين والنفوس والأعراض .
مع قسوة أعراف القتال آنذاك ، وقيام العدو بالسبي والهتك ، فيكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية عدم وقوع المسلمات سبايا بيد المشركين، بينما وقعت المئات بل الآلاف من نساء الكفار أسيرات وسبايا في يد المسلمين ومعركة حنين خير شاهد، فاكرموا جانبهم , وكان سبباً في دخولهن وذويهن الإسلام .
الثاني : يدل الجمع بين الآيتين على رأفة الله عز وجل بالمسلمين ، وإعانتهم في مسالك طاعته ونصرتهم [بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا] ( ) إذ أن قذف الرعب في قلوب الذين كفروا سلاح من وجوه :
أولاً : الرعب سلاح يطبق على النفوس فيمنع الذين كفروا من البطش وأسباب الضرر كالحصار ، فقد ضرب المشركون حصاراً على بني هاشم في مكة وكتبوا وثيقة منعوا فيها التعامل معهم ( ).
وإستمر هذا الحصار أكثر من سنتين , وكانت بدايته في السنة السابعة من البعثة النبوية الشريفة ( ).
ووقعت معركة بدر وأحد , فعجز المشركون عن فرض حصار على المسلمين باستثناء حصار معركة الخندق الذي إستمر أقل من شهر ، ولم يكن حصاراً من كل جهات المدينة المنورة لوجود البيوت والبساتين في أطراف منها، يشق على الذين كفروا إقتحامها.
ولم تمر الأيام حتى فرض المسلمون الحصار على مكة وكفار قريش أولئك الذين كانت تقطع قوافلهم وعيرهم الصحراء محملة بالبضائع .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية أن شخصاً واحداً من المسلمين حديث عهد بالإسلام وهو ثمامة بن أثال اليمامي فرض الحصار على الذين كفروا وأهل مكة ، إذ أسلم ورجع إلى قبيلته في اليمامة , وكان سيدهم فمنع الميرة من أهل مكة وأخذهم الله بالسنين وأكلوا العلهز( ).
وجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : نسألك بالله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين.
فقال : بلى ، فقال : قتلت الأباء بالسيف والأبناء بالجوع .
وفي كلامه وجداله مع الرسول مغالطة من جهات:
الأولى : لم يقتل فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً منهم بالسيف ولكن الذين كفروا هم الذين زحفوا للإعتداء والقتل وكانوا ينوون البطش ، فصدق الله عز وجل وعده للمسلمين كما في الآية السابقة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
الثانية : من البراهين والحجج الدامغة في المقام أن معركة أحد التي وردت آية البحث بخصوصها وقعت في أطراف المدينة وموضع لا يبعد عنها آنذاك إلا نحو خمسة كيلو متر , ووصل إليها العمران في هذا الزمان.
الثالثة : الذي أجاع الكبار والصغار هم كفار قريش بحصار شعب أبي طالب لأهل البيت ، إن ثمامة قطع الميرة عن قريش بمبادرة شخصية لما رآه من عتوهم وكفرهم وعنادهم ، وتعييره بأنه صبا وترك دين الأباء (قَالَ ابن هِشَامٍ : فَبَلَغَنِي أَنّهُ خَرَجَ مُعْتَمِرًا ، حَتّى إذَا كَانَ بِبَطْنِ مَكّةَ لَبّى ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ دَخَلَ مَكّةَ يُلَبّي ، فَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ ، فَقَالُوا : لَقَدْ اخْتَرْت عَلَيْنَا ، فَلَمّا قَدّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ .
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ دَعُوهُ فَإِنّكُمْ تَحْتَاجُونَ إلَى الْيَمَامَةِ لِطَعَامِكُمْ فَخَلّوهُ فَقَالَ الْحَنَفِيّ فِي ذَلِكَ وَمِنّا الّذِي لَبّى بِمَكّةَ مُعْلِنًا بِرَغْمِ أَبِي سُفْيَانَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمْ وَحُدّثْت أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَسْلَمَ ، لَقَدْ كَانَ وَجْهُك أَبْغَضَ الْوُجُوهِ إلَيّ وَلَقَدْ أَصْبَحَ وَهُوَ أَحَبّ الْوُجُوهِ إلَيّ .
وَقَالَ فِي الدّينِ وَالْبِلَادِ مِثْلَ ذَلِكَ . ثُمّ خَرَجَ مُعْتَمِرًا ، فَلَمّا قَدِمَ مَكّةَ ، قَالُوا : أَصَبَوْت يَا ثُمَامُ ؟ فَقَالَ لَا ، وَلَكِنّي اتّبَعْت خَيْرَ الدّينِ دِينَ مُحَمّدٍ وَلَا وَاَللّهِ لَا تَصِلُ إلَيْكُمْ حَبّةٌ مِنْ الْيَمَامَةِ حَتّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
ثُمّ خَرَجَ إلَى الْيَمَامَةِ ، فَمَنَعَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا إلَى مَكّةَ شَيْئًا ، فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّك تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرّحِمِ وَإِنّك قَدْ قَطَعْت أَرْحَامَنَا ، وَقَدْ قَتَلْت الْآبَاءَ بِالسّيْفِ وَالْأَبْنَاءَ بِالْجَوْعِ فَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِ أَنْ يُخَلّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَمْلِ) ( ).
ولا دليل على أن حصار ثمامة سبب موت أطفال أهل مكة جوعاً ولكنه الرعب والفزع الذي ألقاء الله في قلوب المشركين وفي الحديث دلالة بأن قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا] متصل وملازم للذين كفروا في أمور حياتهم كلها .
وحالما وصل كتاب قريش إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى ثمامة أن يرفع الحصار عنهم ، ترى أين صارت تجارة قريش التي خلدها الله عز وجل في القرآن بقوله تعالى [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) .
وفي الشام زراعة وافرة للحنطة والشعير ، ولم تستطع قريش إبدال حنطة اليمامة بالحنطة والحبوب من الشام ، فقد أهلكوا الرواحل والعير في حربهم ضد النبوة والإسلام , وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ] ( ).
وفي رواية ابن هشام أن قريشاً كتبوا إلى النبي وهو الأصح والجمع ممكن كما لو جاء أبو سفيان بكتاب قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم كانوا في سني هدنة وصلح الحديبية . وسبب الحصار حينما أسلم ثمامة ودخل مكة معتمراً عيّره أهل مكة باسلامه (وقالوا: أصبوت ؟ فتوعدهم بأنه لا يفد إليهم من اليمامة حبة حنطة ميرة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
فاصابهم القحط وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجونه الإذن لثمامة بالسماح بوصول الحنطة إليهم .
ثانياً : يؤدي إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى طرو تغيير في أقوالهم وأفعالهم، وضيق وحسرة تطغى عليهم ، مما يحجبهم عن المكر والدهاء والخدعة في الحرب.
ثالثاً : إصابة الكفار بالرعب من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( )ليكون هذا الرعب دعوة لهم لدخول الإسلام.
ومن الإعجاز في الآية أن لفظ [الآفَاقِ] لم يرد في القرآن إلا في الآية أعلاه و(آفاق السَّمَاءِ: نَوَاحِيها وأطرافُها) ( ) والمفرد أفق .
المسالة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لكيلا تحزنوا على ما أصابكم ) وفيه وجوه :
الأول : لقد بيّن القرآن في آيات عديدة بأن [َلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ]( ) وهو ملك إنشاء وتصرف ومشيئة مطلقة فليس لأحد غير الله عز وجل سلطان في السموات والأرض، لذا تضمنت آية السياق ذم الذين كفروا لأنهم جعلوا له نداً [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا].
ويتجلى قبح الشرك بالله بظلم وتعدي الذين كفروا من قريش وإصرارهم على محاربة النبوة بالسيف , ولم تمر هذه المحاربة من دون أضرار جسيمة إذ قتل من الصحابة سبعون ، وطالت الجراحات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ، وكثرت الكلوم بالأحياء منهم .
ترى ماذا كانت النتيجة لولا أن يلقي الله عز وجل الرعب في قلوب الذين كفروا ، الجواب من وجوه :
الأول : إزدياد عدد قتلى المسلمين .
الثاني : كثرة الجراحات بالمسلمين .
الثالث : إستمرار معركة أحد وإطالة وقتها ومدتها .
الرابع : النقص والقلة في قتلى الذين كفروا ، فقد قتل منهم في معركة أحد إثنان وعشرون مع ما أصاب قلوبهم من الرعب ونزول الملائكة لهزيمتهم ، ولولاه لكان عدد قتلاهم أقل .
ومن منافع إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا منعهم من التفاخر بقتالهم بمعركة أحد، ليس من باب الصرفة وصرفهم عن التفاخر بل لإنتفاء موضوعه، وللحوق الخزي بهم، فقد جاءوا للثأر ليرجعوا بفقد طائفة من رجالاتهم دون أن يحققوا أية غاية من هجومهم.
الخامس : كثرة ومضاعفة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو لم يملأ قلوب الذين كفروا الرعب ولم ينزل الملائكة يوم أحد هل يمكن أن يقتل الذين كفروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وانهم صاروا قريبين منه ، وتصله حجارتهم.
الجواب لا ، فقد أبى الله إلا أن يتم تنزيل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ حدثت معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة بينما غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى في السنة العاشرة للهجرة ، وكان مدتها يتلقى التنزيل ويبين للمسلمين أحكام دينهم ،.
وعن ابن عباس بخصوص نزول سورة النصر قال (لما نزلت[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( )، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيت إلى نفسي وقرب أجلي) ( ).
وهو من أسرار نزول آيات القرآن على نحو تدريجي وليس دفعياً ومعاني الرحمة فيه ، ومنها حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل سواء في معركة أحد أو غيلة .
كما حدث وتكررت إرادة إغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن جابر قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة بنخل ، فرأوا من المسلمين غرة ، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث ، قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال : من يمنعك ؟ .
قال : الله فوقع السيف من يده ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : من يمنعك ؟ قال : كن خير آخذ .
قال : تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ قال : أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى سبيله ، فجاء إلى قومه فقال : جئتكم من عند خير الناس .
فلما حضرت الصلاة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فكان الناس طائفتين : طائفة بإزاء العدو ، وطائفة تصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانصرفوا( ).
فكانوا موضع أولئك الذين بأزاء عدوهم ، وجاء أولئك فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، فكان للناس ركعتين ركعتين وللنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات) ( ).
الثالث : من مصاديق سلامة المسلمين من الحزن يوم معركة أحد سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل , وتلك آية تتجدد دلالاتها في كل زمان وتستلزم الدراسة وإستقراء وجوه الإعجاز فيها
ثانياً : قذف الرعب في قلوب الذين كفروا مقدمة لتدبرهم بمعجزات النبوة ودلائل التنزيل ، بلحاظ أنه يزاحم رداء الإستكبار ويمنع من إستدامة الإصرار على الجحود والعناد ، ويجعل الإنسان يسعى إلى البديل الذي ينجيه من الرعب الذي إستولى على قلبه .
ثالثاً : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مدد وعون للمسلمين في حال السلم والحرب ، لما فيه من زجر الذين كفروا عن التعدي والظلم , فيكون مناسبة لتفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم أحكام الحلال والحرام ، وأدائهم الصلاة والعبادات الأخرى وإتقانهم لها بأخذها من السنة القولية والفعلية من غير واسطة كي يتوارثها المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة .
رابعاً : من منافع إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا منع وزجر الناس عن نصرتهم وإعانتهم من جهات :
الأولى : إستقراء الرعب في قلوب الذين كفروا ضعف ووهن لهم .
الثانية : رؤية الناس لمعجزة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، ليكون من إعجاز آية السياق إقامة الحجة على الناس بما يرونه من تغشي الفزع والرعب للذين كفروا .
وتقدير الآية: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليتعظ الناس) فيكون هذا الرعب من مصاديق[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، من جهات:
الأولى : ليس من سلاح ينفذ الى قلوب الذين كفروا متفرقين ومجتمعين مثل الرعب.
الثانية : يتوجه الرعب إلى الذين كفروا فيكون سلاحاً لزجر الناس عن محاربة الإسلام، وإن حاربوه يرون ذات الرعب ومن الحكمة والمروءة أن يتعظ الإنسان من غير وليس من البلاء الذي يصيبه.
الثالثة : تجعل آية السياق المسلمين يعلمون بوجود سلاح سماوي يؤازرهم , وهو من مصاديق خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابعة : بشارة قلة الضرر على المسلمين من صعودهم وإنسحابهم الذي تدل عليه آية البحث، وهو من الشواهد على قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، بتقريب أن الذين كفروا أرادوا الإضرار بالمؤمنين وإفشاء القتل فيهم، فجعله الله بمرتبة الأذى الذي هي أدنى من الضرر.
الثالثة : نفرة النفوس من الذين يملأ الله عز وجل قلوبهم بالرعب .
الرابعة : ظهور الإرباك والخوف والفزع على ألسنة وأفعال الذين كفروا بما يجعل الناس يجتنبون إعانتهم ونصرتهم ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ] ( ).
وفيه تحذير من الإصرار على الكفر , وإعانة الظالمين والصدود عن النبوة والتنزيل .
الخامسة :بيان قانون وهو أن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء , ولكن الناس ليسوا بعرض واحد في هذا الإبتلاء من جهات :
الأولى : مجئ المدد والعون للمسلمين، لتثبيتهم في منازل الهداية والإيمان .
الثانية : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب والخوف ليكون الشقاء والعناد ملازمين لحال الكفر والجحود .
الثالثة : إطلاع الناس على آيات الإكرام والتشريف التي رزقها الله للمؤمنين، ومنها ما ورد في الآية السابقة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ]( ) ومعرفتهم بالأذى ووطأة وثقل الرعب الذي يتجلى في حياة الذين كفروا ليكون حجة على الناس جميعاً .
وهذه المعاني من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )لما فيه من حث الناس على الإبتعاد عن الكفر وذم الذين كفروا .
الرابع : بيان إكرام الله للمسلمين بسبق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا قبل أن يصل الحزن إلى نفوس المسلمين بسبب الخسارة يوم أحد,وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) وفيه بيان للتمايز بين المؤمنين والذين كفروا.
فعندما خسر وإنهزم المشركون في واقعة بدر أصابهم الحزن وأصدروا الأوامر إلى أهل مكة رجالاً ونساءً بعدم البكاء على قتلاهم لأمور :
أولاً : لقد خشي رؤساء قريش إستحواذ الإحباط والحزن على النفوس .
ثانياً : من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]خوف قريش حتى من البكاء على قتلاهم مع إدراكهم بأن منع هذا البكاء نوع جفاء معهم , وفي ذم آل فرعون وبيان سوء عاقبتهم قال تعالى [كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ] ( ).
ثالثاً : خوف رؤساء قريش من قيام النساء بتثبيط الرجال عن الخروج لقتال النبي صلى لله عليه وآله وسلم , فمن معجزات النبي محمد صلى لله عليه وآله وسلم أن النساء تدرك وتتدبر بالآيات التي جاء بها بعرض واحد مع الرجال .
رابعاً : إصابة الذين كفروا في مكة بالرعب حتى من شماتة المسلمين بهم عندما يبلغهم كثرة البكاء على قتلاهم .
خامساً : الخوف من دخول الأبناء ذكوراً وأناثاً في الإسلام بلحاظ أن أدنى تدبر في معركة بدر إبتداء وإنتهاء ونتيجة يدل على أن نصر المسلمين تم بمعجزة من عند الله عز وجل لذا لم يخاطب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وحده بالنصر بل خاطب المسلمين وبصيغة النداء وإرادة العموم الإستغراقي والمجموعي [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
سادساً : إرادة قريش التهيئ والإستعداد للقتال , وخوض معركة جديدة ضد الإسلام , فجعلوا المنع من البكاء على قتلى بدر مقدمة لها .
وعندما خسر المسلمون في معركة أحد ولم ينهزموا تفضل الله وخفف عنهم وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب لبيان أنه دفع الحزن عنهم لمنع اليأس والقنوط من الدبيب إلى نفوسهم، فقد يظن بعضهم بالعجز عن قهر قريش لكثرة الرجال والعدة والخيل عندهم، فرفع الله الحزن عن المؤمنين , وفيه دعوة لهم لأداء الفرائض وإستدامة الجهاد والتحلي بالصبر .
الخامس : لقد عاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من معركة أحد عودة ورجوعاً يختلف عن رجوعه في معركة بدر التي بعث في طريق عودته منها بشيرين إلى أهل المدينة بالظفر والنصر إذ بعث عبد الله بن رواحة بشيراً إلى أهل العالية ، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة .
وفي طريق العودة وعند مضيق الصفراء قسّم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النحل والغنائم بين المسلمين بالعدل والتساوي بينهم , وفيه مسائل :
الأولى : التنزه عن غبن الذين إنشغلوا بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجمعوا الغنائم والسلب .
الثانية : بيان العدل في سنن النبوة .
الثالثة : تنمية ملكة الحكم بالعدل عند الصحابة وعموم المسلمين, وفيه بالدلالة التضمنية البشارة بسيادة الإسلام .
الرابعة : النهي عن جعل الغنيمة وجمع المكاسب هو الغاية عند المؤمنين.
الخامسة : ترغيب المسلمين بالذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان وفي ساعة النصر أو الإنسحاب كيلا يطمع العدو , ويقوم بالمباغتة والداهمة , والسعي لقتله صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : حث الصحابة على طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأمرهم به قبل وأثناء المعركة .
السابعة : في توزيع غنائم بدر بين الصحابة بالسوية مقدمة ودعوة للرماة في معركة أحد ألا يتركوا مواضعهم ، فان قلت قد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) ( ) والجواب الأقوى صدور هذا القول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين (وقد روى ارباب المغازى والسير ان سعد بن ابي وقاص قتل يوم بدر سعيد بن العاص واخذ سيفه فنفله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اياه حتى نزلت سورة الانفال وان الزبير بن العوام بارز يومئذ رجلا فنفله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلبه وان ابن مسعود نفله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ سلب أبى جهل) ( ).
وهل هذا النفل من حصصهم من الغنائم التي وزعت بالتساوي أم خارجها وإضافة لها , الجواب هو الثاني ، وهل كان أسرى قريش يرون تقسيم الغنائم , الجواب نعم ، وينظرون إلى هيبة وجلالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه , وفيه مسائل :
الأولى : بعث الحسرة في نفوس الذين كفروا على حربهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : جعل الندامة تستولي على نفوس الذين كفروا لأنهم عادوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينصروه .
الثالثة : إنه من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
الرابعة : إقامة الحجة على قريش، فهم أهل وعشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأولى الناس بنصرته فناصبوه العداء فصاروا على ثلاثة أقسام :
الأول : القتيل .
الثاني : الأسير :
الثالث : الطريد .
وفي ذات الموضع الذي قسّم فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم على أصحابه من المهاجرين والأنصار قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم النضر بن الحارث وأمر علياً عليه السلام فقتله .
وحينما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضعاً يسمى عرق الظبية أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، فقال عقبة فمن للصبية يا محمد.
أي من لأولادي الصغار إذا قتلتني لإرادة إستعطاف النبي وتذكيره بصلة الرحم ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم النار ، ولعل فيه إنذاراً بسوء عاقبة أولاده ،ثم نادى عقبة يا معشر قريش : علام أقتل من بين من ها هنا ) وظاهر كلامه أنه يخاطب طرفين :
الأول : المهاجرون من بني هاشم وقريش ليشفعوا له عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الأسرى من قريش ليتناجوا بينهم ، كما لو يقول أحدهم : إن تقتلوه أقتلوني معه .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجابه حينما قال له (أتقتلني يا محمد من بين قريش ؟ قال: نعم أتدرون ما صنع هذا بي ؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام، فوضع رجله على عنقي وغمزها فما رفعها حتى ظننت أن عينى ستندران، وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي) ( ).
فان قلت قد ورد الأمر من عند الله بالرفق والعناية بالأسرى بقوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ) والذي يدل في مفهومه على عدم تعذيب أو قتل الأسير ، فكيف قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسيرين في الطريق ، والجواب من جهات :
الأولى : لم يقتل النبي إثنين من الذين كفروا في الطريق إلى المدينة إلى بأمر من عند الله .
الثانية : بيان عقوبة من يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذى شديداً .
الثالثة : سورة الدهر مدنية ، وقيل نزلت في مكة إلا آية واحدة [وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا] ( ).
والمشهور والمختار هو الأول وأنها مدنية ، والأقرب نزول قوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ) بعد معركة بدر بلحاظ كثرة الأسرى وطوافهم على بيوت المدينة يسألون أهلها إطعامهم والتصدق عليهم، ويدل عليه سبب النزول .
وعطاء ( عن ابن عباس: وذلك أن علي بن أبي طالب نوبة أجر نفسه يسقي نخلاً بشيء من شعير ليلة حتى أصبح وقبض الشعير وطحن ثلثه، فجعلوا منه شيئاً ليأكلوا يقال له الخزيرة، فلما تم إنضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام، ثم عمل الثلث الثاني، فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه ثم عمل الثلث الباقي، فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين فأطعموه وطووا يومهم ذلك، فأنزلت فيه هذه الآية ( ).
الرابعة : قد أوصى النبي بالأسرى خيراً عندما فرقهم على أصحابه ( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا] محكم في أهل القبلة ، وقيل قوله تعالى [وَأَسِيرًا]منسوخ بآية السيف ، وهو خاص بغير المسلمين من الذين كفروا، ولا دليل على الإطلاق في نسخ أحكام الأسر والعناية بالأسرى .
وفي الإطعام ثواب ( لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : في كل كبد حرى أجر).
وتلقى أهل المدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قدومه من بدر مستبشرين , ويعتذرون عن التخلف عنه ، وقال بعضهم أنه ظن الخروج طلباً للعير وقافلة قريش فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عذره .
وعّم الفرح أرجاء المدينة ، وتأكد لأهلها من المسلمين واليهود أن التجارة ستزدهر فيها ، للغنائم الكثيرة ولما سيأتي من الفداء المتعدد للأسرى من قريش , فمثلاً كان من الأسرى أبو عزيز فمر به أخوه الصحابي الجليل مصعب بن عمير لأمه وأبيه فقال للأنصاري الذي أسره وهو أبو اليسر شد يديك به فان أمه ذات متاع لعلها تفديه منك .
( قال أبو عزيز: فكنت في رهط من الانصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها فأستحي فأردها فيردها على ما يمسها) ( ).
وسألت أمه وهي في مكة عن أغلى ما فدى به قرشي ، فقيل لها: أربعة آلاف درهم ، فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها , أرادت أن لا يطول أسره بسبب نقص الفداء , وعودة الذين بعثتهم إلى مكة لجلب مال إضافي لفك أسر ولدها أبي عزيز , ولم تتكل على وجود أخيه مصعب لفكه من الأسر .
وساهم إستلام الصحابة الذين قاموا بأسرهم مبالغ الفداء مباشرة ومن غير أن يدفعوا منها سهماً لبيت المال أو زكاة في تحسين مستوى المعيشة لأهل المدينة عامة والمسلمين خاصة ، وإذ فك أسر أبي عزيز وعاد إلى مكة فان أخاه مصعب بن عمير قتل يوم أحد شهيداً ولم يكن عنده ثوب يكفي لتغطيته .
وتبين آية السياق إستجابة الرعب لمشيئة الله عز وجل ، وتحتمل أفراد الرعب هذه وجوهاً :
أولاً : إنها مخلوقة منذ أن خلق الله عز وجل آدم عليه السلام , فحينما إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض بسبب إفساده في الأرض وإشاعته القتل بغير حق تفضل الله عز وجل ورد عليهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ليكون من علمه تعالى أنه يخلق جنوداً من الرعب يقذفها في قلوب الذين كفروا من قريش عندما يفسدون في الأرض ويصرون عن عبادة الأوثان ، ويقودون الجيوش لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومحاولة طمس معالم الإيمان .
ثانياً : إيجاد أفراد من الرعب ساعة الإلقاء بالكاف والنون أي بقوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
ثالثاً : تحتمل الألف واللام في الرعب شعبتين :
الأولى : إفادة العهد , وأنه رعب معلوم .
الثانية : إرادة الجنس .
والصحيح هو الثانية .
رابعاً : وجود أفراد من الرعب خاصة بالذين كفروا لمن يحارب الأنبياء , جاهزة للإلقاء في قلوب الذين كفروا فتكون الألف واللام للعهد .
وكل من هذه الوجوه من بديع صنع الله وعظيم سلطانه[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وأن مقدار وكم الرعب متباين بالنسبة للكفار ، بما يزجرهم عن الغرور والتعدي والإسراف في تجاوز الحدود .
وأختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] وهو سبحانه خبير بما يعمل الذين كفروا أيضاً فيأتي الرعب من عنده ليجعل كفة الرجحان في القتال لصالح المسلمين ، فما أن صارت جولة للذين كفروا وإنهزم أكثر المسلمين حتى إستولى الرعب على الذين كفروا فعجزوا عن مواصلة القتال .
ويحتمل هذا الرعب اللاحق وجوهاً :
الأول : إنه بذات المرتبة والدرجة للرعب الذي أصابهم في أول المعركة حيث أشاع فيهم المسلمون القتل .
الثاني : الرعب اللاحق الذي أصاب الذين كفروا عند هزيمة المسلمين ادنى مرتبة من الرعب الأول .
الثالث :النسبة التصاعدية في الرعب أثناء المعركة , ويحتمل جهتين :
الأولى : مجئ رعب إضافي للذين كفروا في كل آن من المعركة.
الثانية : يأتي الرعب على نحو دفعي ومستحدث في كل مرة ، ويكون في كل مرة أكثر من سابقتها , فيصبح سبيلاً لإنهاء المعركة ومقدمة ومصداقاً لقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
والمختار هو الجهة الأولى من الوجه الثالث ، فمن فضل الله عز وجل على المسلمين أنه سبحانه يأخذ عدوهم أخذاً شديداً بما يجعله عاجزاً عن تحقيق النصر والغلبة في جولات متعددة ومتكررة من المعركة .
ومن معاني الجمع بين آية البحث والسياق أن الله سبحانه يعلم ما يعمل المسلمون من جهات :
الأولى : قبل أن يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثانية : أثناء إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثالثة : آثار ورشحات إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
ويبعث قانون الرعب وتوجهه للكافرين على نحو الحصر المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لإدراكهم والناس جميعاً أن هذا الإلقاء من الأسباب واللطف الإلهي من وجوه :
أولاً : نصر المسلمين في معركة بدر ، وتقدير آية ببدر (ولقد نصركم الله ببدر بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وأنتم أذلة ) .
وفيه آية وهي أن القلة من الأذلة والضعفاء لا يستطيعون إلقاء الرعب في قلوب الطواغيت وأصحاب الشأن والجاه والجيوش، ولكن الرعب والفزع جاء من عند الله .
ولم يقف على أبواب قلوب الذين كفروا ينتظر إذنهم أو يلاقي صعوبة في النفاذ إليها بل ليس من مسافة أو فترة ولو دقيقة واحدة بين أمور :
الأول : الأمر الإلهي للرعب بالتوجه إلى قلوب الذين كفروا .
الثاني : إستقرار الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثالث : ترشح الرعب والفزع والخوف على ألسنة وأفعال الذين كفروا .
ثانياً : تأخر مجئ قريش للثأر لمدة نحو أحد عشر شهراً بعد معركة بدر للثأر والإنتقام، وفيه مسائل :
الأولى : أدراك قريش لضرورة التهيئ وإعداد المقدمات ولوازم قتال شرس وطويل .
الثانية : تسليم كفار قريش بأن المسلمين خصم قوي لا يقهر بسهولة .
الثالثة : مجئ الأنباء من المدينة ومن القرى المحيطة بمكة بدخول أفواج من الناس في الإسلام ، فان قلت يجعل هذا الأمر قريشاً يعجلون بالهجوم .
والجواب صار الرعب برزخاً دون هذا التعجيل وإنشغلوا باعداد مستلزمات القتال حذراً من نزول مصيبة القتل والأسر التي تعرضوا لها في معركة بدر .
الرابعة : مصاحبة مرارة وذل هزيمة يوم بدر لكفار قريش أيام وجودهم في مكة .
الخامسة : ورود الأخبار عن إزدياد قوة المسلمين يوماً بعد يوم .
السادسة : توالي نزول آيات القرآن التي تتضمن التخويف والوعيد للذين كفروا والوعد الكريم للذين آمنوا .
السابعة : إصابة كفار قريش بنقص الأموال بعد معركة بدر من جهات :
الأولى : تعطل وقلة سير قوافل التجارة .
الثانية : دفع قريش لمبالغ الفداء عن عشرات الأسرى .
الثالثة : كثرة الغنائم التي تركتها قريش في ساحة معركة بدر .
الرابعة : ركود الأعمال بسبب الإنشغال بالمعارك والحروب .
ثالثاً : خشية قريش من غزو الرعب والفزع إلى قلوبهم عند الوصول إلى ميدان المعركة ، بل وقبله.
وفي حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( أعطيت ما لم يعط أحد من أنبياء الله : قلنا يا رسول الله ما هو، قال : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل لي تراب الأرض طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم) ( ).
ومصداق هذا الحديث هو آية السياق ، وهو بيان وتفسير وشاهد صدق على مضامينها القدسية ، وتتضمن إرادة المعنى الأعم لآية السياق وأن هذا الرعب لا يختص بحال الحرب والقتال .
وهل من موضوعية للحديث في آية البحث أم أنها خارجة بالتخصيص لتضمنها هزيمة وفرار أكثر المسلمين في جولة من المعركة.
الجواب هو الأول وان قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : نصرت بالرعب ) مطلق في كل الأحوال ليكون نفعه للمسلمين في حال الفرار من جهات :
الأولى : بعث الفزع والرعب في قلوب المشركين من إتباع المسلمين في فرارهم .
الثانية : خشية الكفار من كمائن للمسلمين وان فرارهم نوع إستدراج ، وهذه الخشية من مصاديق الرعب الذي ألقاه الله في قلوب الذين كفروا بلحاظ أن هذا الرعب على أقسام:
أولاً : الرعب الذي يأتي إبتداء من عند الله، وهو المستقرأ من آية السياق.
ثانياً : الرعب الذي يأتي بواسطة الملائكة ونصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بما يدركه العقل أو الحواس وفي بيان فضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ]( ).
ثالثاً : ترشح مصاديق من الرعب في قلوب الذين كفروا بتجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وعجزهم عن إخفائها.
رابعاً : جهاد المؤمنين، وإخلاصهم في الدفاع عن النبوة والتنزيل سبب لبعث الرعب في قلوب الذين كفروا.
الثالثة : قوة شكيمة المسلمين بالمناجاة للعودة للقتال سواء في معركة أحد أو غيرها .
الرابعة : سلامة قلوب المسلمين من الرعب والفزع حتى في حال الفرار ، فان قلت ظاهر آية البحث بخلافه , والجواب لا دليل عليه إنما يدل ظاهر الآية على محو معاني الخوف والفزع من قلوب المؤمنين من وجوه :
الأول : وعد رسول الله لهم في أخراهم ، وهو من أسرار تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآية باسم الرسول لبيان أن دعوته لهم فرع الرسالة ، كما صدقوا برسالته فانهم يستجيبون لدعوته لإلحاق الفرع بالأصل , وفي التنزيل[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ]( ).
الثاني : فضل الله عز وجل على المسلمين بأنه أثابهم بالغم المركب الذي يجعلهم يعزمون على دفع أسباب الهزيمة .
الثالث : مجئ آية البحث بصيغة الخطاب بلغة الإيمان ، ولا يجتمع معها الرعب للتنافي بين الإيمان والرعب.
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : إذ تصعدون ولا تلوون على أحد في لقاء الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ) وفيه وجوه :
الأول : بيان الأصل في قواعد قتال المؤمنين وهو الصبر والإقدام ومزاولة القتال وعدم الفرار، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ).
الثاني : تنبيه المسلمين إلى الخطأ والزلل بالتقهقر والإنسحاب أمام جيش الذين أشركوا .
الثالث : الإخبار عن إنتفاء علة وسبب إنسحاب المؤمنين أمام جيش المشركين .
الرابع : توثيق خسارة وإنكسار المسلمين أمام الذين كفروا, وتذكير آية السياق بأنهم أشركوا بالله من غير سلطان أو برهان أو علة دعوة للمسلمين للتدارك والمناجاة بينهم للتوقي والإحتراز من الفرار أمام الذين أشركوا بالله .
الخامس : لما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض بأنه يشيع الفساد والقتل في الأرض، قال تعالى جواباً على إستفهامهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
لتتجلى مصاديق من علم الله عز وجل بدعوة آية البحث المسلمين للصبر في ملاقاة الذين أشركوا وفيه حصن من إشاعة الفساد والقتل في الأرض بلحاظ أنهما من فروع الكفر والشرك بالله، لذا فان قتال المسلمين يوم أحد حاجة لتنزيه الأرض من الفساد والقتل بغير حق ، فلا غرابة أن ينزل الملائكة مدداً لنصرتهم فهو يوم عيد عند الملائكة بالبطش بالذين أشركوا.
ويكون تقدير آية السياق : وأضربوا منهم كل بنان بما أشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً ) .
السادس : بيان حقيقة وهي أن صعود وفرار المؤمنين على وجوههم من القتال مناسبة لطغيان وغرور الذين أشركوا ، وإمعانهم في الظلم والتعدي وقيامهم بفتنة الناس بانتصارهم , وثأرهم لما لحقهم يوم بدر , فأخبرت آية السياق بإنعدام العلم والبرهان عند الذين كفروا ، بإتخاذهم الشريك وتلبسهم بالضلالة مما يجعل بينهم وبين النصر تناف وتضاد .
ومن مصاديق رحمة الله بالناس كافة حث كل من آية البحث والسياق المؤمنين على الرجوع إلى المعركة , وقتال الذين أشركوا وقطع الطريق عليهم في صد الناس عن الإسلام وسنن الإيمان .
السابع : من أسرار آيات القتال في القرآن شحذها همم المسلمين وبعثهم للتفاني في سبيل الله ، والإخلاص في طاعته وطاعة رسوله، فبينت آية السياق أن أعداءهم الذين يلاقونهم في الميدان إختاروا الشرك والضلالة ، وعبدوا الأوثان وواجهوا النبوة والتنزيل والحق بالسيف وإرادة القهر .
فيجب أن يجتنب المسلمون الهزيمة والفرار في مواجهتهم , وإن كانوا هم الأكثر عدداً وعدة ، فكأن آية البحث تتضمن الإستفهام التقريري والإنكاري من وجوه :
أولاً : كيف تصعدون وتفرون وعدوكم مشرك بالله بما لم ينزل به سلطاناً .
ثانياً : كيف تصعدون والرسول يدعوكم في أخراكم ، وقد وجبت طاعته ونصرته وإتباعه ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ]( ).
وهل الآية أعلاه خاصة بطريق الهجرة إلى المدينة ، وقصة الغار أم أنها أعم ، الجواب هو الثاني ومنه واقعة أحد إذ تجلت آيات نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالملائكة , والمدد وآيات القرآن ، ومنها آية البحث والسياق .
ثالثاً : كيف تصعدون بعد أن رأيتم ما تحبون من النصر والغلبة على الذين أشركوا .
رابعاً : كيف تصعدون والرسول يقاتل وسط الميدان .
خامساً : كيف تصعدون والملائكة نزلوا لنصرتكم .
والأصل أن الذين يكون الملائكة مدداً لهم لا يغادرون الميدان.
الثامن : من مصاديق قوله تعالى [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( )في آية السياق أمور:
أولاً : إصرار الذين كفروا على الجحود وإنكار النبوة ومعجزات الرسالة .
ثانياً : إرادة الذين كفروا الثأر لقتلاهم الذين سقطوا في معركة بدر إذ أنها كانت درساً وعبرة وزجراً لهم عن الهجوم والتعدي وتحتمل معركة بدر في المقام وجوهاً :
الأول : إنها معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : معركة بدر مرآة ومصداق لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية .
الثالث : وقائع وأحداث معركة بدر معجزة مستقلة ، وفرع معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم العقلية .
الرابع : وقائع معركة بدر ليست معجزة إنما هي رشحة لمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : ترشح معجزات متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن معركة بدر .
وباستثناء الوجه الرابع فان الوجوه الأخرى كلها من البراهين والدلائل الباهرات على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحتى الوجه الرابع أعلاه فان الشطر الثاني منه صحيح، ولا تعارض بين كون واقعة بدر معجزة ورشحة لمعجزات أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً : إنشغال الذين كفروا لمدة أحد عشر شهراً بتحريض أهل مكة وما حولها من القبائل بقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإستعانة بالشعراء لبعث الهمم في نفوسهم للقتال أما المؤمنون فأنهم يتخذون من آيات القرآن شعاراً ومنهاجاً ليبطل سحر هذا الشعر وأثره في النفوس ، وهذا الإنشغال مما لم ينزل الله به سلطاناً ، وهو ظلم صريح وبغي على الذات والغير ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
رابعاً : إنفاق كفار قريش الأموال الطائلة في محاربة النبوة والتنزيل , وهل هذا الإنفاق إسراف , الجواب إنه أشد من الإسراف ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
لقد فتح الله عز وجل باب التجارة لقريش بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) ليعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً ولكنهم جحدوا من جهات :
الأولى : جحدت قريش بنعمة جوار البيت الحرام التي تملي على الفرد والجماعة المجاورين التحلي بالورع والتقوى ، ويدل قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) بالدلالة التضمنية والمفهوم على لزوم حفظ مجاوري البيت لقدسيته ومعالم العبادة فيه .
الثانية : صدود قريش عن النبوة والتنزيل , وما الشأن الذي نالته قريش إلا بنبوة إبراهيم وبشارة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : عدم شكر كفار قريش لنعمة الجاه بين العرب وعند الملوك ، وإفراد شأن خاص له ، ويتجلى بقطع قوافلهم الصحراء بأمن وسلام خلافاً للمتعارف في جزيرة العرب من النهب والغزو .
وفي قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ] ( ) أي العير التي جاء بها أبو سفيان من الشام متوجهاً إلى مكة وكان عددها نحو ألف بعير محملة بالبضائع وعليها أربعون رجلاً من قريش منهم عمرو بن العاص وعمرو بن هشام ومخرمة بن نوفل الزهري.
فبلغ نبأ القافلة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , وأنها قريبة من بدر فأخبر أصحابه , وذكر لهم كثرة المال وقلة الجنود (هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلّ الله عزّ وجلّ ينفلكموها) ( ) .
لقد خرج النبي في ثلاثمائة وثلاثة عشر من المهاجرين والأنصار ومنهم من خرج خفيفاً ليس معه سلاح إلا العصا لإرادتهم الركب وظنوا عدم وقوع حرب وقتال طويل , وكان أبو سفيان يتحسس الأخبار ويخشى إنقضاض جيش الإسلام , عليه لأمور :
الأول : شدة تعذيب قريش للمؤمنين في مكة وموت عدد منهم رجالاً ونساء تحت التعذيب ، فمثلاً كان أمية بن خلف يخرج بلال ابن رباح في حر الظهيرة , ويطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بوضع صخرة عظيمة على صدره ، ويطلب منه الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدعوه لعبادة اللات والعزى فلا يقول وهو مثلك الحال إلا أحد، أحد .
ويدل على شدة إيذاء أمية لبلال، أنه لما وقع أمية بالأسر ورآه بلال وهو في الميدان أبى إلا قتله، إذ بقي أمية في ميدان معركة أحد، يسأل من يأخذه أسيراً , ويفوز بفدائه , فأخذه عبد الرحمن بن عوف الذي قال :
(قال لي أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذا بأيديهما: يا عبد الاله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره ؟ قلت: حمزة قال: ذاك الذى فعل بنا الافاعيل.
قال عبدالرحمن: فو الله إنى لاقودهما إذ رآه بلال معي، وكان هو الذى يعذب بلالا بمكة على الاسلام، فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا.
قال قلت: أي بلال، أسيرى، قال: لا نجوت إن نجا.
ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا.
فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة فأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط.
قال: قلت: انج بنفسك ولا نجاء، فو الله ما أغنى عنك شيئا.
قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما.
قال: فكان عبدالرحمن يقول: يرحم الله بلالا، فجعني بأدراعي وبأسيري ( ).
الثاني : إستحواذ قريش على أموال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة .
الثالث : إيذاء قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته على نحو الخصوص ، ومنه حصارهم في شعب أبي طالب .
الرابع : تحريض قريش القبائل والناس على الصد عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين إذ تصعدون ومأواهم النار ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : جاءت آية البحث بصيغة الخطاب الموجه للمؤمنين بلحاظ أمرين :
أولاً : العطف على قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
ثانياً : إرادة المؤمنين الذين حضروا معركة أحد وجاهدوا تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوضع القواعد الأولى لصرح الإسلام الباقي إلى يوم القيامة .
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا إذ تصعدون ومأوى الذين كفروا النار ) .
فان قلت يراد من الخطاب في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] صيغة العموم الإستغراقي وشمول المسلمين والمسلمات جميعاً ، أما آية البحث فيختص الخطاب فيها بالمؤمنين في معركة أحد , وبالذات الذين إنهزموا يومئذ .
والجواب هذا صحيح , وهو ظاهر بالقرائن وموضوع كل من الآيتين إلا انه لا يعني البرزخية والفصل التام بين الآيتين إذ أن الجامع المشترك هو أن هزيمة أغلب المؤمنين في معركة أحد كالهزيمة العامة لأنها صبغة وحال يتصف بها الجيش مع بقاء ثلة من أهل البيت والصحابة يقاتلون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ .
وعطف هذه الآية على قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا]من عطف الخاص على العام ، وهذا الخاص زماني ومكاني وشخصي ، إذ أن المخاطبين بآية البحث معروفون بعددهم وصحبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما المخاطبون في الآية أعلاه فهم من اللامتناهي بأطرافه الثلاثة:
الأول : الطرف الذي تنهى الآية عن طاعته وهم الذين كفروا .
الثاني : موضوع ومسائل الطاعة .
الثالث : الطرف المأمور بعدم طاعة الذين كفروا ، ولا يعلم عددهم إلا الله ، وهل يشمل موضوع النهي طاعة الذين آمنوا لمن مات من الذين كفروا ومحاكاته بقوله وقلمه وفعله ، الجواب نعم وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا أحياء أو أمواتاً يردوكم عن دينكم .
ويكون تقدير العموم في آية البحث , وتجدد الخطاب فيها إلى يوم القيامة : يا أيها الذين آمنوا لا تصعدون والرسول يدعوكم في أخراكم ).
فان قلت إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إنتقل إلى الرفيق الأعلى وإن ما جرى في معركة أحد وحنين من دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للرجوع إلى القتال لن يتكرر مرة أخرى إلى يوم القيامة , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) .
والجواب هذا صحيح , ولكن دعوة الرسول للذين ينهزمون من المسلمين باقية ومتجددة بآية البحث فاذا تجدد فعل الإنهزام من المسلمين في أجيالهم المتعاقبة فان آية البحث تدعوهم للرجوع وتذكرهم بقانون إسمه [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ].
وهو من أسرار تلاوة المسلمين والمسلمات آيات وسور القرآن في الصلاة اليومية الواجبة وجوباً عينياً على كل مكلف ومكلفة ، فان قلت هذا حال الرجال من المسلمين فما حال المسلمات وقد أسقط عنهن فرض الجهاد ، والجواب من جهات :
الأولى : تفقه المسلمات في الدين وإحاطتهن علماً بلزوم عدم الفرار .
الثانية : إدراك المسلمات لقبح الإنهزام في المعركة , وقد أخبر الله عز وجل عن سوء عاقبة الذين كفروا .
الثالثة : حث المؤمنات المسلمين على إجتناب الهزيمة في القتال, وقيام الأم والزوجة والأولاد بالوصية بالثبات وعدم الفرار.
الرابعة : لقد إشترك عدد من النساء في معركة بدر وأحد في سقي وإطعام المقاتلين ، وفي مداواة الجرحى ، وإشتراك أم عمارة في المعركة فتكون المرأة حاضرة في المعركة ، وتصبح هزيمة الرجال سبباً لإنكشافها , وقتلها أو وقوعها في السبي .
الخامسة : تحلي النسوة المؤمنات بالصبر عند شهادة الابن أو الأخ أو الزوج أو إصابته بالجراحات والكلوم لأن الغاية هي الإمتناع والتنزه عن الهزيمة .
السادسة : المناجاة بين المؤمنات في لزوم إجتناب الفرار وإدراك قبحه الذاتي والعرضي .
السابعة : عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , قال تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
الثامنة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا عندما يرون قيام المؤمنات بالدعوة إلى صبر المؤمنين في الميدان وإجتناب الفرار والهزيمة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ).
الوجه الثاني : بيان قانون في الحياة الدنيا والآخرة ، وهو أن إنهزام وفرار المسلمين سبب لتعلق الإثم والوزر بالذين كفروا من جهات :
الأولى : مجئ الذين كفروا إلى أحد من أجل الحرب والقتال .
الثانية : غاية الذين كفروا من القتال المنع من علو كلمة التوحيد وصد الناس عن الإسلام ، قال تعالى [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
الثالثة : دلالة فرار شطر من المسلمين على ضرورة القتال دفاعاً عن الإسلام وإصرار الذين كفروا على محاربة الإسلام .
الرابعة : لقد إنكشف المسلمون عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، وتركوا بضعة رجال من أهل بيته وأصحابه يذبون عنه ويدافعون عنه ويقاتلون بين يديه إذ سقط عدد منهم شهداء مضرجين بدمائهم ليؤثم الذين كفروا أشد الإثم من جهات :
الأولى : قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : تعريض حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للخطر ، وصيرورة الموت قريباً منه لولا فضل الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
الثالثة : لجوء أغلب المؤمنين إلى الفرار من المعركة ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] البطش والإنتقام من عند الله بالذين كفروا لحملهم المسلمين على الفرار والتراجع .
الرابعة : سقوط سبعين صحابياً قتلوا بسيوف الذين كفروا ظلماً وفي التنزيل [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ] ( ).
الخامسة : إصرار الذين كفروا على القتال , وقطعهم مسافة نحو خمسمائة كيلو متراً للقتال والبغي .
ولم تمر خمس سنوات حتى صار المسلمون يتوجهون من المدينة إلى مكة لحج بيت الله الحرام الخالي من الأصنام وأسباب الشرك إلى يوم القيامة .
السادسة : سقوط عدد من المشركين قتلى في الميدان ليكون من مصاديق الآية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) أن عاقبتهم ومأواهم النار مع هذا القطع والهلاك .
السابعة : من مصاديق الآية قوله تعالى في ذم الذين كفروا يوم أحد [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]وجوه :
أولاً : عودة المؤمنين إلى ساحة المعركة , وإشتداد القتال من جديد ، ليستحضر الطرفان والناس حقيقة تأريخية وهي ان الذين كفروا إنهزموا يوم بدر فلم يعودوا ولم يرجعوا إلى ميدان المعركة بينما فرّ وإنسحب المسلمون كما في قوله تعالى في آية البحث [إِذْ تُصْعِدُونَ] ليعودوا إلى القتال لأمور :
الأول : بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل وسط الميدان.
الثاني : قتال المسلمين بقصد القربة , وطاعة الله ورسوله .
الثالث : عشق المؤمنين للشهادة والسفر إلى بخير زاد [جَنَّاتِ النَّعِيمِ] ( ).
الرابع : دعوة ونداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بالعودة بقوله تعالى في آية البحث [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ].
ثانياً : لقد إنتشرت إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم تستمر طويلاً فقد علم الفريقان أنه يواصل القتال في ذات موضعه في بداية المعركة .
ثالثاً : بقاء طائفة من المؤمنين تقاتل وسط الميدان مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن المنافع العظيمة لقتالهم صيرورتهم برزخاً ومانعاً من مطاردة الذين كفروا المؤمنين , وهم يفرون من الوادي أو يصعدون الجبل ، لذا لم يقع أسرى من المؤمنين بيد الذين كفروا ، وتلك آية من وجوه :
الأول : بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب السنة الدفاعية .
الثاني : كانت علة مجئ الذين كفروا لمعركة أحد الثأر لقتلاهم يوم بدر ، ويعدون ويتوعدون , وهم في مكة بالإتيان بالمهاجرين أسرى .
الثالث : تقدير آية السياق بلحاظ سلامة المؤمنين من الأسر في معركة أحد على وجوه :
أولاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فلا يؤسرون من المؤمنين .
ثانياً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب , ليصبحوا منشغلين بأنفسهم .
ثالثاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فيهابون المؤمنين مجتمعين ومتفرقين .
رابعاً : لما بينت آية السياق بأن علة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا هو إشراكهم بالله ، فأن سبحانه أبى أن يقع المؤمنون في أول معارك الإسلام أسرى بيد كفار قريش .
وعن الإمام علي عليه السلام أنه (قيل له : أرأيت هذه الآية[وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً]( )، وهم يقاتلونا فيظهرون ويقتلون؟ فقال : ادنه ادنه ، ثم قال : فالله يحكم بينكم يوم القيامة{ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً})( ).
وعن ابن عباس : المراد من السبيل في الآية أعلاه يعني الحجة ( ).
الرابع : تقدير آية البحث بلحاظ نجاة المؤمنين من الأسر في معركة أحد على وجوه :
أولاً : إذ تصعدون فلا تقعون في الأسر ) فالنسبة بين الفرار من المعركة وبين الوقوع بالأسر عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء مغادرة وسط المعركة ، أما مادة الإفتراق فهي من جهات :
الأولى : الفرار نجاة بالنفس , أما الأسر فهو قيد ووقوع في قبضة العدو .
الثانية : إمكان عودة الفار والمنسحب إلى ميدان المعركة , وعجز الأسير عن العودة إلى ميدان القتال .
الثالثة : الذي يفر من المعركة يعود إلى فئته وبلده في الغالب ، أما الذي يؤسر فهو عرضة للقتل أو يدفع عنه الفداء والبدل .
وتناجى الصحابة بالرجوع إلى ميدان المعركة خاصة بعد أن علموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان يقاتل ومعه نحو عشرة من أهل بيته وأصحابه .
ليتجلى مائز بين فرار الذين كفروا يوم بدر ووقوع سبعين منهم في الأسر ، وعمل سيوف المسلمين بهم من خلفهم وتركهم مؤونتهم في خلفهم ، أما المؤمنون فلم يقعوا في الأسر لأمور :
الأول : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثلة من اصحابه يقاتلون وسط المعركة فتعذر على الذين كفروا ملاحقة الذين فروا من المسلمين ، وبلحاظ ساحة المعركة كأنه لم تفر طائفة من المسلمين .
الثاني : إبتداء المعركة بعلو كفة المؤمنين ، وقتلهم للذين كفروا ومطارتهم لهم في الميدان .
الثالث : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب والفزع .
الرابع : قد ورد قبل ثلاث آيات قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( )، ليكون من ولاية الله عز وجل للمسلمين سلامتهم من وقوع أعداد منهم في أسر وقيود الذين كفروا .
وهذا الأسر إن حدث فهو مختلف عن غيره من الأسر، لأنه وسيلة لقهر المؤمنين وإرادة حملهم على ترك دينهم، وقد ورد قبل أربع آيات تحذير المسلمين من طاعة الذين كفروا لذا تفضل الله وجعل المسلمين في حرز من هذا الضرر والإبتلاء .
الوجه الثالث : قد تكون الجولة للذين كفروا، ويتعرض المسلمون للهزيمة والفرار ، ولكنهم أثناء الفرار يدركون أن مصير الذين كفروا إلى النار ، وأن الدنيا زائلة والمدار فيها على الإيمان والعمل الصالح ، والفرار مع الإيمان أفضل وأسمى وأحسن من الغلبة مع الكفر لأن هذه الغلبة زيادة في الإثم على أهلها ليكون من معاني قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] أنه حجة على الذين كفروا ، وهو مناسبة لإنتقام الله عز وجل منهم ، ومن مصاديق هذا الإنتقام عجزهم عن تكرار الهجوم على المدينة المنورة ، وفشلهم في تحقيق أية غاية من غاياتهم الخبيثة ، وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول :إذ تصعدون وأنتم متمسكون بالإيمان تأبون التخلي عنه، فقد كان الذين كفروا يرضون من المسلمين الإرتداد ويكتفون بتركهم نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ودونه خرط القتاد.
ليكون من معاني قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )وجوه :
أولاً :إن تطيعوا الذين كفروا في حال السلم .
ثانياً : إن تطيعوا الذين كفروا في حال الحرب .
ثالثاً : إن تطيعوا الذين كفروا في حال هزيمتكم يردوكم على أعقابكم ) وفيه شاهد بأن الهزيمة والفرار ليس من الإرتداد على الإعقاب، إنما الإرتداد في الدين .
الثاني : إذ تصعدون والذين كفروا يعجزون عن اللحاق بكم .
الثالث : إذ تصعدون وفيه خزي للذين كفروا .
الرابع : إذ تصعدون وسيدخل الذين كفروا الإسلام) فالذين يقاتلونكم اليوم في معركة أحد سيدخلون الإسلام كما حدث في فتح مكة .
وهذا الدخول من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) وإرادة فتح مكة بالآية أعلاه لأن الذين هزموا المسلمين في جولة من معركة أحد وقتلوا حمزة بن عبد المطلب وغيره من الصحابة دخلوا الإسلام، ومنهم رؤساء الخيالة الذين جاءوا للمسلمين من خلف المسلمين وقتلوا الذين ثبتوا في مواضعهم من الرماة ، وليصبحوا قادة وأمراء في السرايا التي يبعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيوفاً على أهل الردة، فينجو هؤلاء من سوء العاقبة التي تخص الكفار في قوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ]لأن الإسلام يجب ما قبله.
وفيه إعجاز لآية السياق بالتفكيك بين أولها وآخرها في الموضوع والحكم والمصاديق , فمن الناس من يلقى الرعب في قلبه، ولكن عاقبته تكون بالتوبة إلى الجنة، قال تعالى[وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ]( )، ومنه قصة إسلام وحشي إذ أنه إرتكب جريمة بقتله حمزة الذي هو عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحد أبرز أبطال الإسلام في الميدان , ووحشي من الحبشة وهو مولى لطعيمة بن عدي، وعلى دين قريش من الكفر والجحود ، وكيفية قتل حمزة أن شخصاً من الذين كفروا إسمه سباع خرج وقال : هل من مبارز.
فخرج له من بين الصفين حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله فشد عليه ، وكان وحشي مختفياً خلف صخرة , فلما صار حمزة قريباً منه رمى حمزة بحربة كانت معه رمي الحبشة , فخرجت من بين وركيه.
ولما نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمه حمزة قتيلاً بكى ، ثم رأى تمثيل النسوة المشركات به فشهق من شدة الألم , ووقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه ورثاه بكلمات من السنة والوحي .
(وعن عبد الله بن مسعود قال ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب لما قتل وقتل إلى جنبه رجل من الانصار يقال له سهيل.
قال فجئ بحمزة وقد مثل به فجاءت صفية بنت عبد المطلب بثوبين لكفنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دونك المرأة فردها فأتاها الزبير بن العوام فقال يا أمه ارجعي فقالت إليك عنى لا أم لك.
قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى أن أردك قال فانصرفت ودفعت إلي الثوبين.
قال فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سهيل فأصاب سهيلا أكبر الثوبين فكفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم بالصغير فكان إذا مده على وجهه خرجت قدماه وإذا مده على قدميه خرج وجهه فغطى النبي صلى الله عليه وسلم وجهه ولف على قدميه ليفا واذخرا ووضعه في القبلة ثم وقف صلى الله عليه وسلم على جنازته وانتحب حتى نشغ من البكاء.
يقول يا حمزة يا عم رسول الله وأسد الله وأسد رسوله.
يا حمزة يا فاعل الخيرات.
يا حمزة يا كاشف الكربات.
يا حمزة يا ذاب عن وجه رسول الله.
قال وطال بكاؤه فدعا برجل رجل حتى صلى عليه سبعين صلاة وحمزة على حالته) ( ).
وأخذت هند تنشد الأشعار شماتة ، وقد تقدم ذكر شطر منها، ولم تمر الأيام والشهور حتى فتحت مكة , وأسلمت هند مع باقي النسوة , فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنت هند .
فان قلت لم لم يصبح وحشي من الأمراء , والجواب من جهات :
الأولى : أسلم وحشي بعد فتح الطائف الذي وقع بعد فتح مكة وعندما قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعلن إسلامه ، قال له :أنت وحشي قال : نعم ، قال : أنت قتلت حمزة .
قال : قد كان الأمر الذي بلغك يا رسول الله .
قال : أما تستطيع أن تغيب وجهك عني ، فلم ينتقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه لأنه جاء مسلماً ، ولم يطرده أو ينهره ولم يأمره بأن يغيب وجهه عن النبي بصيغة الزجر والوجوب ، ولكن سأله على نحو الرجاء وقيد بالإستطاعة ليعود الأمر إلى وحشي ولعل مثل هذا السؤال والطلب لم يوجهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غير وحشي من وجوه :
الأول : وحشي عبد حبشي , والمستضعفون أقرب للإيمان .
الثاني : الأولى أن يبادر لدخول الإسلام خاصة وأن أهل الحبشة آنذاك على دين النصارى .
الثالث : لم يقتل حمزة مبارزة ومواجهة بل غدراً وغيلة .
الرابع : إستجابة وحشي لوعود المشركين وتحريض امرأة .
الخامس : حمزة عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وله منزلة عظيمة في الدفاع عنه والإجهار بالإسلام في مكة .
السادس : تفاني حمزة في القتال في سبيل الله وصرعه لأبطال قريش ، وخيفتهم منه .
السابع : حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمه حمزة , وكان يكبره بـأربع سنوات , وهو آخر من بقي من أعمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : لم يقتل حمزة كفؤ له ، وحينما قتل الإمامُ علي عليه السلام عمرو بن ود العامري .
رثته أخته وقالت:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله … ما زلت أبكي عليه دائم الأبد
لكن قاتلــــه من لا يقاد بـــه … من كان يدعى أبوه بيضة البلد( ).
التاسع : إن كيفية قتل حمزة وإستغاثة كفار قريش بعبد حبشي شاهد على إمتلاء قلوبهم بالرعب قبل أن يخرجوا إلى معركة أحد وإدراكهم العجز عن ملاقاة أبطال الإسلام .
وقد تكون فيه أمارة على أن الذي نزل فيه [عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى] ( ) هو غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من باب الأولوية لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعبس أو يتولى عندما جاءه قاتل حمزة مسلماً ، وقد تزكى وحشي فيما بعد إذ قتل مسيلمة الكذاب بذات الحربة التي قتل بها حمزة عليها السلام.
لقد خرج وحشي أيام الردة طوعاً إلى قتال مسيلمة ، وقال (لاُخرجن إلى مسيلمة لعلى أقتله ، وأكافئ به حمزة فخرجت مع الناس فكان من أمرهم ما كان قال وإذا رجل قائم في ثلمة جدار ، كأنه جمل أورق ثائر الرأس قال فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه .
قال ودب إليه رجل من الأنصار حتى ضربه بالسيف على هامته قال عبد الله بن الفضل أخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول فقالت جارية على ظهر بيت يا أمير المؤمنين قتله العبد الاسود) ( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر ، وكلاهما يدخل الجنة : يقاتل في سبيل الله فيقتل ، ثم يتوب الله على القاتل ، فيقاتل في سبيل الله فيستشهد) ( ) .
والله عز وجل منزه عن التغيير والضحك ، ولكن الحديث يبين سعة فضل الله قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ).
ويكون تقدير آية البحث : إذ تصعدون بعد النصر والعز الذي جاءكم فلا يضركم هذا الصعود والفرار لأنه من مواقع العز والظفر، ولو تم فرار المسلمين من أول المعركة فهل من فرق في المقام.
الجواب نعم ، لأن مثل هذا الفرار نكسة وذل ، وقد دفعه الله عز وجل عن المسلمين ، ليكون من مصاديق قوله تعالى بخصوص معركة بدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )سلامتهم من الهزيمة والصعود والفرار في أول معركة أحد ، بل كان النصر لهم في بدايات المعركة ، وهو من مصاديق نجاتهم من الذل ودليل على أن معاني الآية أعلاه لا تختص بواقعة بدر بل تشمل الأزمنة والمعارك اللاحقة لها .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : إذ تصعدون ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ) وفيه وجوه :
الأول : الجمع بين الآيتين مما يلحق بالإلتفات وفق الإصطلاح البلاغي ، بأن يتوجه الكلام إلى المخاطب , ثم ينتقل إلى الغائب أو العكس .
وفيه جذب للأسماع ودعوة للإلتفات وطرد الغفلة ، أما في لغة القرآن فان دلالات الإلتفات أكثر من أن تحصى , منها في المقام :
أولاً : بيان التباين والتضاد بين المسلمين والذين كفروا فيأتي الثناء على المسلمين مع ذم الذين كفروا في ذات الوقت والموضوع .
ثانياً : تزيين الإيمان وبعث النفرة من الكفر وأهله في النفوس .
ثالثاً : توجه خطاب الإكرام من الله للمسلمين حتى في حال هزيمتهم وإنكسارهم ، ومجئ الذم والإثم للذين كفروا .
رابعاً : التذكير بعالم الآخرة في ساعة القتال والضيق لبيان مسائل :
الأولى : قتال المسلمين في سبيل الله طريق إلى اللبث الدائم في النعيم .
الثانية : إقرار المسلمين باليوم الآخر سبب لعزهم , وتفانيهم في القتال ،لأن هذا الإقرار رشحة من رشحات الإيمان ، وباب لإدراكهم عدم الخسارة عند التضحية والفداء ، قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( ).
الثالثة : المواساة والإخبار عن عدم خسارة أو ضياع الذي يقتل من المؤمنين ، إنما موت الشهيد إنتقال من دار الإبتلاء والإمتحان ذات الأجل المحدود إلى السعادة الدائمة والحياة الأبدية .
وعن جابر بن عبد الله قال (لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا جابر ما لي أراك منكسراً؟ قلت : يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالاً وديناً , فقال : ألا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قلت : بلى .
قال : ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب ، وأحيا أباك فكلمه كفاحاً , وقال : يا عبدي تمن عليّ أعطك قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية , قال الرب تعالى : قد سبق مني أنهم لا يرجعون . قال : أي رب فأبلغ من ورائي .
فأنزل الله هذه الآية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً . .}( ).
وأبو جابر هو عبد الله بن عمرو بن حرام وهو من النقباء وشهد العقبة وحضر معركة بدر , وهو أول قتيل في معركة أحد ، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهزيمة وموضوع قوله تعالى في آية البحث [إِذْ تُصْعِدُونَ].
وعن جابر بن عبد الله أن أباه قال ( إني أرجو أن أكون في أول من يصاب غدا فأوصيك ببنات عبد الله خيرا فأصيب فجعلنا الإثنين في قبر واحد فدفنته مع آخر في قبر فلبثنا ستة أشهر ثم إن نفسي لم تدعني حتى أدفنه وحده فاستخرجته من القبر فإذا الأرض لم تأكل شيئا منه إلا قليلا من شحمة أذنه) ( ).
وكان المنافقون قد رجعوا في الطريق إلى أحد وإنخرموا عن جيش المسلمين وكشفوا عن المؤمنين ، والأصل أن يتقيدوا بأمور :
أولاً : الحياء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه معهم وقائدهم .
ثانياً : تلمس البشارات بالظفر بالعدو لأن خروجهم من المدينة للقتال فرع الوحي ورشحة من التنزيل .
ثالثاً : إستصحاب نصر المسلمين يوم بدر , وعلى فرض أن هؤلاء المنافقين حضروا المعركة وإجتهدوا في القتال فهل تتغير النتيجة , الجواب الأرجح الإيجاب ولو على نحو الموجبة الجزئية , لبيان إستحقاق المنافقين العقاب.
رابعاً : تعاهد أعراف القبيلة سواء بالنسبة للذين هم من الخزرج أو الذين من الأوس منهم ، وكان رأس النفاق الذي أغراهم بالرجوع قبل الوصول إلى أحد هو عبد الله بن أبي سلول سيد الخزرج .
وكان قد مرّ في يوم من الأيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم وهو في بيت (فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يدعوه إلى المنزل، وهو يومئذ سيد الخزرج في أنفسهم، فقال عبد الله : انظر الذين دعوك فانزل عليهم.
فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من الأنصار، فقال سعد بن عبادة يعتذر عنه ( لقد منّ الله علينا بك يا رسول الله، وإنا نريد أن نعقد على رأسه التاج ونملكه علينا) ( ).
خامساً : الدفاع عن يثرب وأهلها وعن النساء والأولاد وعند عزم هؤلاء المنافقون على العودة والنكوص تقدم إليهم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو والد جابر بن عبد الله وأخذ يعظهم ويؤكد لهم حرمة الإسلام ووجوب الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبح الخذلان والتخاذل .
ولكنهم إدعوا بأنه لا يحصل قتال وهم يعلمون بأن ثلاثة آلاف من المشركين قطعوا أكثر من خمسمائة كيلو متراً مدججين بالسلاح ويطلبون ثاراً وإمارة وشأناً مفقوداً ، ولكن المنافقين لم يستجيبوا له فقال لهم : (أبعدكم الله أعداء الله، فسيغنى الله عنكم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
سادساً : الحسن الذاتي والغيري للدفاع والجهاد في سبيل الله .
وتبين آية البحث نعمة عظمى تفضل الله عز وجل بها على المسلمين بأن صرف عنهم الحزن بعد حدوث متعلقه وموضوعه . إذ يأتي الحزن متعقباً لفوات نفع وخير ، وكأنه من ترتب المعلول على علته ، ويكون المعلول مغايراً في جنسه للعلة وسبب الفوات، فالحزن حسرة في النفس على أمر وفائدة فاتت عن إرادة وقصد وفعل أو عن أمر خارج عن الإرادة ، فجاءت آية البحث لتبين المائز الذي يتصف به المسلمون في السلامة والوقاية من الحزن مع إجتماع شرائطه وأسبابه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )من جهات :
الأولى : أمن الفرد والجماعة من الحزن لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، وقد أنعم على المسلمين بأن رزقهم إياه .
الثانية : صيرورة المسلمين الأمة التي لا يستولي عليها الحزن كأمة مجتمعة , وفيه نجاة للأفراد والجماعة من الكآبة والحسرة .
الثالثة : تقدير الآية أعلاه : كنتم خير أمة لكيلا تحزنوا ) أي أن عدم الحزن رشحة ومعلول لكون المسلمين خير أمة ، وهو لا يتعارض مع نيل المسلمين هذه المرتبة بين الأمم لسلامتهم من الحزن.
الرابعة : يخرج المسلمون للناس بالسلامة من الحزن ، وفيه وجوه:
أولاً : ترغيب الناس بدخول الإسلام لما فيه من الأمن والوقاية من الحزن .
ثانياً : بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرة في صلاح أمته والكمال الإنساني الذي يتصفون به ، وهل هو من إعجاز القرآن الغيري .
الجواب نعم ، وسلامة المسلمين من الحزن من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
ثالثاً : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا وزجرهم عن ظلم المسلمين .
رابعاً : إصابة الذين كفروا باليأس من الإضرار بالمسلمين فاذا سعى الذين كفروا في ظلم المسلمين فان الحزن لا يظهر عليهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )فحصل الأذى للمسلمين من قبح وسوء فعل الكفار، ولكن الضرر النفسي لا يصيب المسلمين , وتتجلى هذه الحقيقة بأن المسلم يرجو رحمة الله والثواب في الدنيا والآخرة.
وتدل الشواهد التأريخية على التباين بين المسلمين والذين كفروا في المقام، فعندما وقعت معركة بدر ولحقت الهزيمة والذل والخزي الذين كفروا دفعة واحدة , وفي ساعة من نهار اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، ليبقى الذل والخزي يلاحقهم [مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] ( )وأصابهم الحزن رجالاً ونساءً وغشيتهم الحسرة والندامة ، ومنعوا البكاء والنوح على قتلاهم في معركة بدر وكان عددهم سبعين قتيلاً .
ولم تعرف قريش آنذاك خسارة عشرات من رجالها في معركة فاصلة وفي يوم واحد , فقد يقتل منهم شخص ويتناجون ويثورون وتدخل الشفاعات للقبول بالدية , أما في معركة بدر فمع كثرة قتلى قريش فقد دفعوا الفداء والعوض والأموال الطائلة عن أسراهم صاغرين .
وهل في الآية بشارة الخلف والعوض للمسلمين من عند الله عز وجل ، الجواب نعم، وإن كان ما فاتهم أعم من أن يكون رزقاً لهم وحرموا منه .
وفيه نكتة بأن من معاني قوله تعالى (لكيلا تحزنوا على مافاتكم) الوعد الكريم من عند الله بالبدل والخلف الكريم.
وعن الضحاك أنه سأل عن قوله { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } النفقة في سبيل الله قال : لا . ولكن نفقة الرجل على نفسه ، وأهله فالله يخلفه( ).
ولكن تدخل في الآية النفقة في سبيل الله من باب الأولوية القطعية وبدلالة الآيات التي تمت على الإنفاق في سبيل الله، وان ورد لفظ (انفقتم) أربع مرات في القرآن , أكثرها في ذات موضوع نفقة العيال والأهل، ولكن الأصل هو الإطلاق، وأولوية الإنفاق في سبيل الله خاصة , وأن الآية أعلاه وردت في موضوع العوض والبدل .
نعم ورد في مرسلة الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنفقتم على أهليكم في غير إسراف ولا إقتار فهو في سبيل الله( )، لبيان فضل الله في ترتب الثواب العظيم على الإنفاق على العيال، وإلحاقه بالإنفاق في سبيل الله، والجهاد بالأموال، قال تعالى[وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
وتحتمل آية البحث وموضوع الحزن الذي يمحى وينصرف عن المسلمين وجوهاً :
أولاً : ما فات المسلمين قبل معركة أحد من المنافع .
ثانياً : المكاسب التي فاتت المسلمين يوم معركة أحد .
ثالثاً : ما يفوت المسلمين بعد معركة أحد .
وقد يقال أن ظاهر الآية الكريمة هو الثاني، وعليه دأب المفسرون، والمختار هو المعنى الأعم للوجوه أعلاه فآية البحث نعمة وهبة من عند الله لأجيال المسلمين نالوها بسبب صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار يوم أحد , ودماء الشهداء السبعين الذين سقطوا في تلك المعركة .
رابعاً : عدم إحضار المسلمين للأسرى من كفار قريش عند العودة من معركة أحد , فمن الأصول العقلية الإستصحاب وقد إستصحب المقاتلون وأهل المدينة مجئ الأسرى يوم أحد مثلما جاءوا بسبعين منهم عند العودة من معركة بدر .
وكان المسلمون يتطلعون إلى دخول الناس في الإسلام أفواجاً بعد تحقق النصر في معركة أحد للتسليم العام بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية , وأسرار آيات القرآن فهل أثّر سلباً إنكسارهم في معركة أحد ، ومنع الناس من دخول الإسلام ، الجواب لا ، فقد إجتمعت في معركة أحد أمور تدعو الناس إلى دخول الإسلام منها :
الأول : تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني :خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه وأهل بيته إلى معركة أحد .
وكان إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته معه في مباهلة نصارى نجران آية تدل على صدق نبوته , وعن سعد بن أبي وقاص قال (لما نزلت هذه الآية[فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ]( )، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً ، وفاطمة ، وحسناً ، وحسيناً ، فقال اللهم هؤلاء أهلي) ( ).
ونزلت الآية أعلاه في السنة العاشرة للهجرة بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً إلى أبي حارثة أسقف نجران دعا فيه أهل نجران إلى الإسلام فجاءوا نحو ستين من كبار رجالاتهم.
بينما وقعت معركة أحد في السنة الثالثة ، فأخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه علياً وحمزة وفاطمة ، وقتل حمزة يومئذ شهيداً وقبره يزار من قبل وفد الحاج والمعتمرين أمس واليوم وغداً في آية أخرى للنبوة والتصديق بها من قبل أهل البيت وإقتداء الناس من التابعين وتابعي التابعين بهم.
ويشهد المسلمون في أجيالهم المتعاقبة لعلي عليه السلام بالقتال والتفاني في سبيل الله والدفاع بإخلاص عن رسول الله والذب عنه والسلامة من الإنهزام كما يشهد لفاطمة حضورها ومداواتها لجراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان لكل فرد من الصحابة في معركة أحد صفحة من الجهاد والبسالة حتى أولئك الرماة الذين تركوا مواضعهم والذين إنهزموا من المعركة وذات المشاركة والخروج إلى أحد بحد ذاته جهاد خاصة بلحاظ رجوع المنافقين وسط الطريق ، وإمتناع المؤمنين عن محاكاتهم كما حصل في قوم طالوت ملك بني إسرائيل .
وعن السدي قال (خرجوا مع طالوت وهم ثمانون ألفاً ، وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأساً ، فخرج يسير بين يدي الجند فلا تجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي ، فلما خرجوا قال لهم طالوت[إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي]( )، فشربوا منه هيبة من جالوت ، فعبر منهم أربعة آلاف ورجع ستة وسبعون ألفاً ، فمن شرب منه عطش ، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضاً و[قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ]( )، فرجع عنه ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، وجلس في ثلثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر) ( ).
وكان رجوع المنافقين في معركة أحد أشد ضرراً من رجوع الكثير من بني إسرائيل عن طالوت ، خاصة وأن المنافقين رجعوا عن سيد الأنبياء والمرسلين , وقد جاء الذين كفروا من قريش وغطفان والأحابيش معتدين ظالمين .
الثالث : كان مدد المؤمنين في معركة بدر التي وقعت في السنة الثانية للهجرة ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وكان عددهم في معركة أحد التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة نحو سبعمائة ، أما في معركة الخندق التي وقعت في السنة الرابعة وقيل الخامسة فكان عددهم ثلاثة آلاف مما يدل على أن الإنكسار والخسارة في معركة أحد لم يمنع من دخول الناس .
لقد فطر الله الناس على النفرة من الظلم وأن حجبت أسباب السلطان والجاه والأموال والإعلام أفراد الظلم أو صبغة الظلم لبعض الأفعال القبيحة وتزيينها وإيجاد الحجة والعذر لإتيانها فان قادم الأيام والتأريخ يذكرها مجردة عن اللبس والتظليل والتعتيم ، وهو من مصاديق [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )بما يكشف الحقائق ويبين الأسرار ويجلي المستور ، ومنه توثيق آية السياق لحقيقة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا التي تدعو المسلمين والباحثين وأصحاب الرسائل العلمية كل يوم إلى تأكيد مصاديقها العملية في واقعة أحد ومطلقاً وذكر الشواهد التي تدل على إصابة الذين كفروا بالخوف والفزع في المعركة وخارجها , ويمكن أن تكون الرسائل في المقام من جهات :
الأولى : الفزع عند الذين كفروا , أيام كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال في مكة ، خاصة وأن السور المكية كانت تتضمن الإنذار والوعيد والتخويف مثل قوله تعالى [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ]( )و[إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا]( ).
الثانية : شواهد فزع المشركين في معركة بدر .
الثالثة : ما ترشح عن خسارة المشركين يوم بدر من أسباب الفزع .
الرابعة : الأخبار التي نقلها أسرى المشركين عن حال المسلمين في المدينة المنورة من الإتحاد والألفة ، وهو من أسرار قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )بأن يبعث الله عز وجل الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا لما يرونه من معاني الأخوة بين المسلمين والأخلاق الحميدة التي يتحلون بها .
الخامسة : فزع الذين كفروا من دخول الناس بالتتابع في الإسلام .
السادسة : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية أن الذين يدخلون الإسلام لا يخرجون منه ، وهو شاهد على صدق نبوته وسبب لإصابة الذين كفروا بالرعب لما فيه من تنامي قوة المسلمين ، وترغيب الناس بالإسلام وفقدان رؤساء الكفر لأتباعهم ، لذا جاءوا في معركة أحد بثلاثة آلاف وقاتلوا قتالاً شديداً ، وزحفوا بعد أكثر من سنة بعشرة آلاف مقاتل في معركة الخندق ولكنهم لم يقاتلوا وحاصروا المدينة أكثر من عشرين ليلة تعطلت فيها أعمال وتجارة قريش ، ودب الخلاف بين صفوفهم، وفيه مسائل :
الأولى : صلح الحديبية سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا سواء الذين قاموا بابرامه من طرف المشركين كسهيل بن عمرو أو كفار مكة أو غيرهم .
الثانية : صلح الحديبية من رشحات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] لما فيه من إقرار قريش بدولة الإسلام .
الثالثة : صلح الحديبية مدخل ومقدمة لأداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمرة الحديبية سنة سبع للهجرة ، إذ أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة ثلاثاً .
الرابعة : تأكيد قيام دولة الإسلام بعقد صلح الحديبية لأن الصلح يتقوم بأطراف :
الأول والثاني : طرفا الصلح .
الثالث : موضوع الصلح .
الرابع : مادة ومضامين الصلح .
الخامسة : التخفيف عن المسلمين ، وندبهم للتفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام .
السادسة : تعاهد المسلمين لآيات القرآن ، وحفظها وتدارسها ومعرفة تفسيرها ، وفيه سلامة للقرآن من التحريف والتغيير والتبديل .
السابعة : نزع السلاح وترك القتال محبوب ذاتاً وأثراً ، وصلح الحديبية من الشواهد على قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وكانت بدايات الإسلام بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وبعد معارك قليلة إبتدأها الذين كفروا عاد الأمر إلى الصلح وتستمر الدعوة بالحكمة والبراهين الساطعة .
الثامنة : عودة المسلمين إلى مزاولة الزراعة والتجارة وأسباب الكسب .
التاسعة : إصابة الذين كفروا باليأس والقنوط بعد صلح الحديبية ، فقد وعدوا الأتباع بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإعادة المهاجرين أسرى مكبلين بالقيود .
العاشرة : دخول الأفراد والقبائل في الإسلام، فحالما تم الصلح دخلت قبيلة خزاعة في حلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب والرسول يدعوكم في أخراكم ) وفيه وجوه :
الأول : بيان التباين بين المؤمنين والذين كفروا في الحياة الدنيا وحال الحرب والقتال ، ليكون تذكيراً بالتباين والتضاد بينهم في الآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) من جهات :
الأولى : غبطة وسعادة المؤمنين باختيارهم الإيمان .
الثانية : ثبات المؤمنين في منازل الهداية والتقوى وإن جاء الذين كفروا بالآلاف لقتالهم ، وهذا الثبات من خصال التقوى .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العفيف وكان من أصحاب معاذ بن جبل قال : يدخل أهل الجنة على أربعة أصناف : المتقين ، ثم الشاكرين ، ثم الخائفين ، ثم أصحاب اليمين) ( ).
ولا دليل على هذا التقسيم والترتيب وبين المتقين وكل من الشاكرين والخائفين عموم وخصوص مطلق ، فالمتقون أعم وأكثر ، وكل شاكر وخائف من عند الله هو متق.
الثالثة : بؤس وشقاء الذين كفروا , وصيرورة إلقاء الرعب في قلوبهم مناسبة لتذكيرهم بعذاب النار الذي ينتظر الذين كفروا لأنهم [أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا].
الرابعة : تذكير الكافرين بحقيقة وهي أن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أخراهم مقدمة لشفاعته لهم في الآخرة، وكأن الآية وعد للمؤمنين .
وصحيح أن الناس يعيشون في الدنيا برحمة الله , وأن الخير والرزق يصيب الجميع ولكنه يكون سبباً لزيادة إيمان المؤمنين , وحجة على الذين كفروا ودعوة للناس جميعاً للإسلام والإنزجار عن الكفر ومفاهيم الضلالة .
الثاني : الرعب الذي يصيب الذين كفروا كيفية نفسانية تنعكس على الجوارح والأركان , ويأتي من عند الله , أما بالنسبة لدعوة الرسول للذين آمنوا فهي علنية تتجلى بالنداء والصوت ، وتفيد معاني الرحمة والرأفة وفي النسبة بينهما وجوه :
أولاً : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا سبب ومقدمة لدعوة الرسول للذين آمنوا.
ثانياً : دعوة الرسول للذين آمنوا من مصاديق وأسباب إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
ثالثاً : لا صلة وتداخل بين الأمرين ، خاصة وأن الرعب يتوجه إلى قلوب الذين كفروا ، أما دعوة الرسول فتتوجه إلى أسماع الذين آمنوا , وتخترق شغاف قلوبهم ، وهو من أسرار دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنداء الذي يطلقه لصبغة الوحي التي يتصف بها .
والصحيح هو الأول والثاني من غير أن يلزم الدور بينهما .
وإذا كان الرعب الذي يغزو قلوب الذين كفروا عقاباً وبلاء من عند الله , فهل دعوة الرسول للذين آمنوا وسط معركة أحد رحمة من عند الله أم هي مبادرة شخصية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب هو الأول ، بلحاظ أنها فرع الوحي ، ليكون من معاني الشرف الذي يترشح على المؤمنين الذين إنهزموا في معركة أحد أن تلاحقهم وتجذبهم دعوة الرسول لهم بصيغة الوحي ، بينما لم ينه ويمنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين حينما انخزلوا وسط الطريق إلى معركة أحد ومع أن عددهم نحو ثلاثمائة فالرسول لم يدعهم ، ولم ينهاهم عن الرجوع بل إتبعهم بعض كبار الأنصار يعظونهم مثل عبد الله بن عمرو بن حرام الذي قال حينما أصروا على الرجوع إلى المدينة (أَبْعَدَكُمْ اللّهُ أَعْدَاءَ اللّهِ فَسَيُغْنِي اللّهُ عَنْكُمْ نَبِيّهُ) ( ).
وكانت اليهود في المدينة حلفاء الأنصار ، فبنو قريظة والنضير حلفاء الأوس ، وبنو قينقاع حلفاء الخزرج ، وكانوا أيام الجاهلية إذا نشبت حرب بين الأوس والخزرج يخرج كل فريق من اليهود مع حلفائهم ويسقط منهم قتلى ، ويقع منهم أسرى في أيدي الطرف الأخر , وفيهم نزل قوله تعالى [وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ] ( ).
وعندما رأى الأنصار في الطريق إلى أحد قلة عدد المسلمين أزاء كثرة جيش كفار قريش (قَالُوا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا نَسْتَعِينُ بِحُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ ؟ فَقَالَ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ )( ).
لبيان أن دعوة النبي لأصحابه بالرجوع إلى المعركة على وجوه :
الأول : هذه الدعوة رحمة من عند الله.
الثاني : في هذه الدعوة تزكية للمسلمين.
الثالث : في نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذين فروا من وسط الميدان من المسلمين حث لهم على التدارك.
الرابع : الإخبار بأن النصر يأتيهم من عند الله , وأن العدو الكافر لن يستطيع هزيمتهم ودحرهم .
الخامس : قد يظن بعض المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنداء والدعوة بنفسه، ولم ينيب غيره بالنداء، بينما طلب من عمه العباس في معركة حنين أن ينادي على الذي إنهزم أمام العدو.
وسأل رجل البراء بن عازب : أفررتم يوم حنين، فقال : كانت هوازن رماة وإنّا لمّا حملنا عليهم وانكشفوا وأقبلنا على الغنائم، فاستقبلوا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال الكلبي : كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس عنهم.
وقال آخرون : لم يبق يومئذ مع النبي صلى الله عليه وسلم غير العباس بن عبد المطلب وعلي وأيمن بن أم أيمن، وقُتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفق رسول الله يُركض بغلته نحو الكفار لا يألوا، وكانت بغلة شهباء أهداها له فروة الجدامي.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا العمري، حدّثنا أحمد بن محمد، حدّثنا الحمامي، حدّثنا شريك عن أبي إسحاق، قيل للبراء : كان النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ولى دبره يوم حنين قال : والذي لا إله إلاّ هو ماولّى رسول الله دبره قط، لقد رأيناه وأبو سفيان بن الحرث آخذ بالركاب والعباس آخذ لجام الدابة، وهو يقول : أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب،
قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : ناد يامعشر المهاجرين ويامعشر الأنصار , وكان العباس رجلاً صويّتاً، ويروى من شدة صوت العباس أنه أُغير يوماً على مكة فنادى : واصباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها. فجعل ينادي: يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، وعطف المسلمون حين سمعوا صوته عطفة البقر على أولادها فقالوا : يا لبيك يا لبيك يا لبيك وجاؤوا عنقاً واحداً .
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصابة من الأنصار, فقال : هل معكم غيركم؟ فقالوا : يا نبي الله لو عمدت إلى برك العماد من ذي يمن لكنّا معك، ثم أقبل المشركون فالتقوا هم والمسلمون .
وتنادى الأنصار : يا معشر الأنصار أم قصرت الدعوة على بني الحرث والخزرج، فتنادوا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم فقال هذا حين حمي الوطيس، فأخذ بيده كفّاً من (الحبِّ) فرماهم وقال : شاهت الوجوه، ثم قال : انهزموا ورب الكعبة، انهزموا ورب الكعبة.
قال : فوالله ما زال أمرهم مدبراً وجدّهم كليلا حتى هزمهم الله تعالى( ).
وهل يصح القول أن الله عز وجل هو الذي أمر نبيه بدعوة المؤمنين للعودة للقتال , الجواب نعم ، وهو سبحانه الذي ثبتّه وسط الميدان ، ليكون هذا الثبات علة وسبب إنتهاء المعركة بيوم واحد ليعود كفار قريش بأعباء الخيبة والخزي .
الثالث : لقد كانت كفة القتال مائلة برجحان إلى طرف كفار قريش من حيث كثرة عددهم فهم ثلاثة أضعاف عدد جيش المسلمين , وكانت قريش تستعد لمعركة أحد نحو سنة كاملة وتحدثهم أنفسهم بأنهم جاءوا إلى معركة بدر على عجل ولنصرة قافلة أبي سفيان , ومن غير التجهز تجهزاً تاماً للقتال ، أما في معركة أحد فقد أنفقوا الأموال الطائلة لجمع الرجال والسلاح .
وعن سعيد بن جبير في قوله[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( )، قال : نزلت في أبي سفيان ، أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب ، وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالاً من ذهب) ( ).
وعندما بلغ الذين كفروا موضع المعركة عند جبل أحد تغيرت الكفة وصار الرجحان لطرف المسلمين بسلاح سماوي وهو إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، ولم ينفق المسلمون ديناراً واحداً من أجل هذا التغيير ، وليس عندهم ما ينفقون ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلتجأوا إلى الدعاء وسؤال النصر والغلبة على الذين كفروا، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
ووردت آية السياق بصيغة الإستقبال القريب [سنلقي ] ولا يعني حصر أسباب صد ودفع وإضعاف العدو بما سيأتي من مصاديق الخوف والرعب ، ولكن هذا الرعب واحد من سبل إصابة الذين كفروا بالوهن والضعف ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) ومن هؤلاء الجنود دعوة الرسول لأصحابه وهو في وسط المعركة بالعودة للقتال.
والأصل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعيداً عن قلب المعركة وأسباب الخطر والضرر ، ليتوقى من الأذى تعاهداً للنبوة وإستدامة للتنزيل وكفاية المؤمنين في الجهاد ، وإذا إنهزم أصحابه فأنهم يرجعون إلى فئة وهو فئتهم ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل أمراً لم يحدث في التأريخ بأن بقي في قلب المعركة يدعو أصحابه المنهزمين للرجوع إليه، وفيه مسائل :
الأولى : بيان حسن توكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الله عز وجل.
الثانية : إظهار مصداق وشاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : إمامة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ميدان المعركة من وجوه :
أولاً : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتقدم الصفوف، ويواجه العدو بشخصه الكريم.
ثانياً : رفع اللواء بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون اللواء دالاً عليه، وهو نوع تحد للذين كفروا.
ثالثاً : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه في ميدان القتال.
رابعاً : تدل آية البحث وقوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ) , على تعدد جهاد النبي في ساحة المعركة.
خامساً : حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على عودة أصحابه لميدان القتال، وتنزه المسلمين عن الهزيمة، وهو من مصاديق الثناء عليه بقول الله تعالى[حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ]( )، ولم يرد لفظ حريص في القرآن إلا في الآية أعلاه.
الرابعة : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حقيقة نزول الرعب في قلوب الذين كفروا .
وتقدير آية البحث : والرسول يدعوكم في أخراكم بأن الله ألقى الرعب في قلوب الذين كفروا ) .
وتلك آية بأن تخبر آية السياق عن قرب إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ليجري على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آية البحث نبأ تحقق هذا الإلقاء ، فان قلت ما هو الدليل على هذا التقدير ، الجواب من وجوه :
أولاً : من معاني قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]عجز الكفار عن إزاحة المسلمين عن وسط الميدان .
ثانياً : دعوة الرسول شاهد على عجز الذين كفروا عن مواصلة القتال .
ثالثاً : دعوة الرسول لأصحابه وسط الميدان سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، وتقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بأن الرسول يدعوكم في أخراكم ).
رابعاً : بيان سر من أسرار سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان ، وهو أن العدو مشغول بنفسه للرعب الذي غزا قلوبهم ، وبدد آمالهم وسفه عقولهم ، وجعل الخزي مصاحباً لهم، والرغبة بترك ميدان المعركة مستحوذة على نفوسهم، فيأتي الرعب لجيش الكفار من وجوه :
الأول : مصاديق وأفراد الرعب التي يلقيها الله عز وجل في قلوب الذين كفروا إبتداء من عنده تعالى .
الثاني : دعوة الرسول لأصحابه بالعودة للقتال سبب لإلقاء الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا.
الثالث : توافد المؤمنين إلى ميدان المعركة، قال تعالى[الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ]( ).
وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم ( ).
الرابع : المناجاة بين المؤمنين بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حي يرزق وأنه لم يقتل.
الخامس : سقوط القتلى من أبطال الكفار يوم أحد , فقد يظن رجالات قريش أن كثرتهم وإحترازهم وشدة تدريبهم وبسالتهم وحسن تنظيمهم أمور تحول دون وقوع الخسارة في الأفراد بينهم ، فخيب الله آمالهم وإبتدأ القتل في حملة اللواء منهم بما يصيبهم بالرعب والفزع .
وقد إلتفت أبو سفيان إلى موضوعية حفظ اللواء والمنع من تركه فتوجه قبل إلتحام الصفين إلى بني عبد الدار حملة اللواء يحرضهم بحنكة ودهاء ويقصد حثهم على القتال بالباطل كما ورد عن ابن أسحاق أن أبا سفيان قال (لِأَصْحَابِ اللّوَاءِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ يُحَرّضُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ يَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ إنّكُمْ قَدْ وَلّيْتُمْ لِوَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ فَأَصَابَنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ وَإِنّمَا يُؤْتَى النّاسُ مِنْ قِبَلِ رَايَاتِهِمْ إذَا زَالَتْ زَالُوا ، فَإِمّا أَنْ تَكْفُونَا لِوَاءَنَا ، وَإِمّا أَنْ تُخَلّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَنَكْفِيكُمُوهُ .
فَهَمّوا بِهِ وَتُوَاعَدُوهُ وَقَالُوا : نَحْنُ نُسْلِمُ إلَيْك لِوَاءَنَا ، سَتَعْلَمُ غَدًا إذَا الْتَقَيْنَا كَيْفَ نَصْنَع وَذَلِكَ أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ)( ).
وكانت هذه المناجاة بالعناد والإستكبار سبباً لفنائهم واحداً بعد آخر يتعاقبون على حمل اللواء كلما قتل واحد أخذه الآخر ، وهو من الدلائل على لزوم عدم طاعة رؤساء الضلالة في الحرب على الإسلام وأنها لا تجلب إلا الضرر والخزي في النشأتين (وقتل من كفار قريش يومئذ اثنا وعشرون رجلاً:
فيهم من بني عبد الدار:
طلحة، وأبو سعيد ، وعثمان، بنو أبي طلحة واسم أبي طلحة: عبد الله ابن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار.
ومسافع، وجلاس، والحارث، وكلاب، بنو طلحة بن أبي طلحة المذكور.
وأرطاة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
وابن عمه: أبو يزيد [بن] عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
وابن عمهما: القاسط بن شريح بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
وصؤاب مولى أبي طلحة.
الخامس : سقوط حملة لواء المشركين قتلى في بداية المعركة من أسباب بعث الرعب في قلوب الذين كفروا، وفيه دلالة على تعدد ضروب أسباب الرعب الذي يهاجم الكفار، فيأتيهم من السماء والأرض، ومن عند أنفسهم , ومن المسلمين , وفي التنزيل[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
السادس : الرعب الذي جاء للذين كفروا توليدي بأن يترشح عن كل رعب وموضوعه رعب إضافي آخر من جهات :
الأول : يأتي الرعب الإضافي في ذات موضوع الرعب الأصلي.
الثانية : مجئ رعب آخر بعد الرعب الأول .
الثالثة : إقتران الرعب الفرعي بالأصلي .
الرابع : مجئ رعب إضافي لآخرين من الكفار بسبب سوء الولاية بينهم .
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فأثابكم غماً بغم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : تأكيد المائز بين المؤمنين والذين كفروا بأن رمى الله عز وجل الذين كذبوا بالرعب والفزع وجعلهما مصاحبين لهم في ميدان المعركة ، وتفضل وجعل الغم والأسى يتغشى المؤمنين على ما أصابهم من أسباب الخسارة والفشل والجبن ، لبيان قانون وهو أن فضل الله حاضر في المقام للعناية بالمؤمنين وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
وهل الرماة الذين تركوا مواضعهم والصحابة الذين فروا من وسط الميدان من المحسنين , أم أن القدر المتيقن من الإحسان في المقام هو الخروج إلى المعركة وبذل الوسع في القتال والدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيضة الإسلام ، فلما تركوا مواضعهم غادرتهم صفة الإحسان.
الجواب هو الأول وتدل عليه لغة الخطاب في أول هذه الآيات المعطوفة بعضها على بعض بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا ..] ( ).
وتقدير آية البحث والسياق على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لقد صدقكم الله وعده وأنتم محسنون) لقد صدق وعد الله للمسلمين وهو من فضله وشكره تعالى لهم على إيمانهم وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويتجلى هذا المعنى بوضوح في المقام بأمور :
الأول : كثرة الذين كفروا وقلة عدد المسلمين آنذاك .
الثاني : إصرار كبار قريش وأكثر عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الجحود بنبوته مع أن الله عز وجل ذكرهم بالذات وجعل لهم موضوعية بالدعوة الإسلامية ، قال تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ).
فقام النبي صلى بالإنذار أحسن قيام ودعاهم إلى وليمة وحثهم على الإيمان بالله ونبذ عبادة الأصنام لتكون نتيجة الإنذار المتكرر من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا على قسمين :
الأول : الذين بادروا إلى دخول الإسلام وأولهم الأمام علي عليه السلام ، وهل أم المؤمنين خديجة التي بادرت إلى دخول الإسلام من عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين تشملهم الآية أعلاه .
الجواب نعم، فتدخل خديجة في مصاديق الآية لأنها من ذات عشيرة النبي وترتبط معه بالنسب فهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشية الأسدية، وكان أبوها خويلد من سادات قريش وأغنياء مكة .
وتلتقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجد الرابع فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: نقلت من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة نكاحاً لا سفاحاً وفي خطبة للإمام علي عليه السلام: وأشهد أن محمدا عبده وسيد عباده، كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما، لم يسهم فيه عاهر، ولا ضرب فيه فاجر( ).
الثاني :يا أيها الذين آمنوا إذ تحسونهم وأنتم محسنون ) لأن حس وقتل المؤمنين للذين كفروا يوم أحد من الإحسان من جهات :
الأولى : الإحسان بالذات بتجلي معاني الإيمان وأبهى مصاديق الفداء والتضحية من قبل المهاجرين والأنصار.
والإحسان لعوائل وأسر المدينة وأهلها كافة ومنهم المنافقون واليهود والكفار لأن في خروج النبي للقتال في جبل أحد صد ودفع للذين كفروا ومنع من إستباحتهم للمدينة ، ولا يفرق الغازي الكافر بين أهل المدينة ، قال تعالى [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] ( ) .
ويفيد اسم الإشارة أعلاه التشبيه أي هذه صفتهم وفعلهم في كل زمان.
الثالثة : حس وقتل المؤمنين للذين كفروا في معركة أحد من الإحسان لذات الكفار، وتلك آية يختص بها أهل الإيمان بأن يكون قتالهم دعوة للعدو لدخولهم الإسلام وترك عبادة الأوثان ، وتمتاز هذه الدعوة بأنها بالسيف والدم وبذل المهج ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابعة : ملاقاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للذين كفروا إحسان للمؤمنين من الأمم السابقة بأحياء نهجهم والبقاء على سنتهم ، وإعلاء شأنهم والذب عنهم ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبشارة الأنبياء السابقين بنبوته ودعوة الناس لنصرته عند بعثته ، أي أن هؤلاء الأنبياء يدعون إلى نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يحيي سنتهم الشريفة ، ويدعو إلى إكرامهم والتصديق بهم وبمعجزاتهم، وذم الذين حاربوهم وناصبوهم العداء , قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ] ( ).
ترى هل يعلم المهاجرون والأنصار بهذه الحقيقة والمنزلة التأريخية التي إنفردوا بتحمل أعبائها، الجواب نعم ، لذا بادروا بالخروج إلى معركة أحد وأرواحهم على أكفهم، وهم يتمنون الموت للحاق بالأنبياء أو يحققون النصر المبين على الذين كفروا , ويرفعون لواء التوحيد في الأرض وإلى يوم القيامة .
لقد جاهد الأنبياء السابقون وأممهم لذات الغايات الحميدة ، فكانت أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي خاتمة الأمم لا تأتي من بعدها أمة لتبين معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذا ورد في آية البحث [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]لذا فان حس المؤمنين للذين كفروا إحسان لهم لحملهم على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبرزخ دون تجدد طغيان وإستحواذ الذين كفروا.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه في آخر ساعات المعركة بعد إستجابتهم لدعوته , وكان أبو سفيان ينوي الرحيل والإنسحاب من معركة أحد ، فعلى الجبل وصرخ بأعلى صوته : أنعمت فعال … إن الحرب سجال
يوم بيوم بدر … أعل هبل ( )
وهبل صنم في جوف الكعبة وهو أكبر الأصنام في مكة وتضرب عنده الأقداح ومعنى أعلى هبل : أي ظهر دينك وعلا شأن الأصنام وأتباعهم بادعائه النصر في معركة أحد ، وأنهم ثأروا فيها لما لحقهم في معركة بدر.
وفي هذا الكلام ومخالفته لواقع القتال شاهد على إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب , وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجيبوه قالوا: ما نقول ؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أجيبوه.
قالوا: ما نقول ؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم( ).
الوجه الثاني : بيان عظيم فضل الله عز وجل على المؤمنين ، إذ نجاهم من الذين كفروا , فقد ألقى الله الرعب في قلوب الذين كفروا، وأثر هذا الرعب على كيفية قتالهم ، وأصاب أيديهم بالشلل وجعلهم عاجزين عن العمل بما خططوا له من المكر وفنون القتال خاصة وأن قريشاً أصحاب خبرة ودهاء وكانوا يستحضرون في دار الندوة وغيرها أيام العرب وأسباب النصر أو الهزيمة في كل واقعة للإعتبار والإتعاظ منها .
وكان أفراد القبائل يأتون إلى مكة في موسم الحج ويبيتون فيها وفي منى ، ويحضرون الأسواق، ويتبادلون ويتقارضون الأشعار ويطلبون الآثار، ويوردون غرائب الأخبار، ويحكون المعارك والوقائع ويتفاخرون في الأنساب ويذكرون سيرة أبطالهم خاصة في أشهر حرم لا يعتدي فيها بعضهم على بعض ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ]( ) .
ومع إصابة الذين كفروا بالرعب فان الغم والحزن دبّ إلى نفوس المسلمين والمسلمين لشهادة سبعين قتيلاً منهم ، بحيث دخل الحزن وتجلى الصبر في بيوت آل الرسول والمهاجرين والأنصار من الأوس والخزرج لأمور :
أولاً : التداخل النسبي وصلات القربى .
ثانياً : الصلات السببية والمصاهرة ، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا)( ).
ثالثاً : مؤاخاة الرسول بين المهاجرين والأنصار ، فجاءت آية السياق للتخفيف عن المسلمين بذكر فضل الله عليهم بأنه أصاب الذين كفروا بالرعب وجعلهم عاجزين عن إلحاق خسارة أخرى بالمسلمين .
الوجه الثالث : بيان قانون وهو أن الرعب الذي أصاب الذين كفروا وملأ قلوبهم ليس بسبب حس وقتل المسلمين وحده لهم بل بآية من عند الله من وجوه :
الأول : الرعب عقوبة عاجلة للذين كفروا لزحفهم لقتال المسلمين ، لبيان قانون دائم في الحياة الدنيا وإلى يوم القيامة وهو إذا زحف الكفار لقتال الذين آمنوا فان الرعب سيملأ قلوب الكفار وفيه دعوة للناس للتدبر والإتعاظ لإجتناب التعدي والهجوم على المسلمين في ديارهم وأمصارهم ز
فقد يظن بعض المسلمين والناس أن الرعب الذي ملأ قلوب الذين كفروا بسبب قتل المسلمين لحملة لواء المشركين بالتعاقب واحداً بعد آخر ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
أو يظن بأن علة إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب هو هزيمتهم بيوم بدر وصيرورتهم على ثلاثة أقسام إما شريد أو أسير أو قتيل في القليب ، وهذا صحيح ولكنه ليس علة تامة لغزو الرعب إلى قلوب الذين كفروا بل أنه من الأسباب والمقدمات والحجة على الذين كفروا، وقاعدة السبب والمسبب .
فبينت الآية أن الرعب أمر وجودي يستجيب لأمر الله في ذات الرعب وكمه وكيفيته وأوانه , وبينت الآية إستدامته لأنه مصاحب للكفر وملازم للشرك، وهل هو مستقر في نفوس الذين كفروا.
الجواب لا ، لأنه فرع الكفر ، وذات الكفر أمر عرضي غير مستقر لأن الأصل في الإنسان هو الإيمان , وهو دين الفطرة .
عن عوف بن عبد الله قال (خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من المدينة فسمع منادياً ينادي للصلاة , فقال : الله أكبر الله أكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على الفطرة فقال : أشهد أن لا إله إلا الله فقال : خلع الأنداد) ( ).
وفيه دعوة للذين كفروا للتوبة والإنابة، وتقدير آية السياق على وجوه:
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليعلموا قبح الكفر.
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليدرك أن الشرك سبب للضرر والأذى النفسي .
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب رحمة بهم ليتوبوا.
وهو من مصاديق كون الدنيا [دار الرحمة ] للناس جميعاً، ومن وجوه الرحمة بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وجوه :
أولاً : إرادة التنزه عن الكفر .
ثانياً : دعوة الذين كفروا للإنشغال بأنفسهم والكف عن التعدي والظلم .
ثالثاً :التسليم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الرعب لازم أعداءه .
وهل يستجيب الرعب لغير الله , الجواب لا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] ( )وبيان أن ملك الله للأشياء ملك تسخير وسلطان ومشيئة مطلقة.
ولو ترشح الرعب عن أفعال الناس، فانه لا ينفذ إلى القلوب إلا بأمر الله عز وجل، لبيان قانون وهو لا سلطان على القلوب إلا لله عز وجل.
وفيه حث للمسلمين للشكر لله عز وجل على إصابة عدوهم بجنود وأسلحة لا يقدر عليها إلا الله عز وجل ، ولا يقدر على ردها الناس مجتمعين ومتفرقين.
المسألة الحادية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) وفيه وجوه:
الوجه الأول : قد ورد في مقدمة هذا الجزء المبارك أن كلاً من آيتي البحث والسياق وردتا بصيغة الجملة الخبرية التي تفيد القطع والجزم , وكذا بالنسبة للغة الخبر في القرآن , وحتى الجملة الإنشائية في القرآن فلابد لها من مصداق في الواقع العملي ، وليس من حصر لافراد ودلالات مدرسة ( المصداق في القرآن )
وتقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا سنلقي في قلوب الذين كفروا لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ) .
وبين الرعب والحزن عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : كل من الرعب والحزن كيفية نفسانية .
الثاني : في كل من الرعب والحزن أذى على النفس .
الثالث : طرو أسباب يترشح عنها الرعب أو الحزن .
الرابع : قد يتغلب الإنسان على ما يجلب الرعب والحزن فترى أشخاصاً يتعرضون لذات الأسباب والمقدمات جنساً وموضوعاً وكماً وكيفاً للرعب والحزن ليكونوا على وجوه :
أولاً : الذي يصاب بالرعب والحزن.
ثانياً : الذي يفزع من أسباب الرعب , ولا يحزن للمصيبة ونحوها .
ثالثاً : من يصاب بالحزن والأسى، ولكنه في مأمن من الرعب .
رابعاً : الذي يستطيع الإمتناع عن الرعب والحزن ، أما بالنسبة لآية البحث فلا ينجو أحد من الكفار ، قال تعالى [وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ] ( )فلا يخطئهم هذا الرعب ولا يذهب لغيرهم .
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : التباين الموضوعي بين الرعب والحزن .
الثاني : الرعب خوف حاضر، أما الحزن فهو الأسى على فوات محبوب.
الثالث : إنقضاء زمان علة الحزن ، أما الرعب فان سببه مستمر، ووفق البرهان الإني وهو الإستدلال من المعلول على علته .
كما لو قلت السماء ممطرة فالسحاب موجود , فما دام الإنسان متلبساً بالكفر فإن الرعب يأبى أن يغادره .
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالأمن من الرعب لملازمته للشرك وبالسلامة من الحزن والأسى .
الوجه الثاني : تبين آية السياق قانوناً وهو أن الإنذار القرآني على وجوه:
الأول : الإنذار رحمة بالناس جميعاً في منطوقه ومفهومه ولا يعني أنه يتوجه بمنطوقه للذين كفروا خاصة وينتفع المؤمنون منه مفهوماً ودلالة ، بل كل إنسان ينتفع من إنذارات القرآن في منطوقها ومفهومها .
لذا ورد النداء [ يَا أَيُّهَا الناس]في القرآن عشرين مرة ليشمل الموجود من أهل الأرض على نحو العموم الإستغراقي الذي لا يستثنى منه أحد , ومنها آيتان في سورة البقرة( )، وثلاثة في سورة النساء( ) .
وليس في سورة آل عمران التي يقع هذا الجزء في الصلة بين آيتين من آياتها لفظ (يا أيها الناس ) وورد لفظ (يابني آدم) في القرآن خمس مرات، أربعة منها في سورة الأعراف وحدها، ومرة واحدة في سورة يس , قال تعالى[أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ]( ) .
وبين الناس وبني آدم عموم وخصوص مطلق , فالناس أعم لأن منهم آدم وحواء , ويحتمل هذا النداء العام في القرآن وجوهاً :
الأول : إرادة الناس أيام النبوة والتنزيل .
الثاني : المقصود الناس جميعاً أوان نزول القرآن وما بعده إلى يوم القيامة .
الثالث : المقصود جميع الناس من أيام أبينا آدم إلى يوم القيامة إلا ما خرج بالدليل والمخصص الذي لا يشمل الأجيال السابقة لنزول القرآن .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق النداء القرآني.
الوجه الثالث : بيان تعدد أسباب الحزن التي تصيب الفرد والجماعة، وأشهرها ما يترشح عن مصيبة القتل ظلماً وعتواً، كما في ظلم قريش بقتلهم سبعين شهيداً من المسلمين، فكان المدد من عند الله حاضراً بالمواساة , وبعث الرضا والطمأنينة في نفوس المسلمين .
فمع المدد بالملائكة لنصرة المسلمين تفضل الله بالمدد بأن غادر الذين كفروا ساحة المعركة إلى مكة بالرعب والفزع والخوف وفيه دلالة على أن الفتح قادم، وأن المصر والبلد الذين يخترق فيه الرعب قلوب الذين كفروا سيدخله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاتحاً.
وتبين الآية حقيقة وهي أن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا أعظم نفعاً للمسلمين من الغنائم التي يكسبونها ويجمعونها في المعركة.
فصحيح أن كفار قريش رجعوا بمؤونهم وخيلهم ولكن الرعب إخترق شغاف قلوبهم.
ولو دار الأمر بين تسليم ما جلبوه من الرواحل والمؤون وما يملكون من الأموال للمسلمين , وبين خلاصهم من الرعب والفزع لاختاروا الثاني[وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ]( ).
لماذا القاء الرعب من عند الله
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يجعل قلوب الناس بيده في سلامتها من الدرن أو رميها بالمرض والرعب ، وروى عن أنس قال (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك .
قالوا : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا؟ قال : نعم . قال : إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها) ( ).
ومن منافع حصر حال وهيئة قلوب الناس بيد الله عز وجل تثبيت أركان عقيدة التوحيد في الأرض , ليكون إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
فان قلت أخبرت آية البحث عن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وهو حمل وعبأ ثقيل ، فكيف يكون سبيلاً لعبادة الله , الجواب من وجوه.
أولاً : إرادة إشغال الذين كفروا بأنفسهم وعناية الكافر بقلبه وما طرأ عليه، والزائر المخيف الذي دخله , وحل فيه من غير إستئذان ولا سلطان له على إخراجه ، وهو الذي تدل عليه آية البحث ، فلا يخرج الرعب من الكافر إلا الله عز وجل , وفيه ترغيب بالتوبة والإنابة.
وتفضل الله وبيّن في آية السياق كيفية خروجه والتخلص منه بطريق واحد وهو التنزه عن الشرك والسلامة من الكفر وإنكار التوحيد والنبوة والتنزيل أو الإصرار على الجحود وبالفرائض العبادية وعدم أدائها كالصلاة والصيام والزكاة والحج .
ثانياً :بيان قانون في الإرادة التكوينية , وهو الملازمة بين الكفر والرعب , فصحيح أن آية السياق نزلت أيام معركة أحد إلا أن موضوعها أعم لذا فمن إعجاز آية السياق أنها ذكرت الشرك كعلة لغزو الرعب لقلوب الذين كفروا .
ثالثاً : بعث النفرة في نفوس الناس من الكفر والضلالة ، وجعلهم يدركون لزوم أخذ الحائطة من مفاهيم الشرك .
لما تجلبه من الفزع والرعب ، وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب في ساحة المعركة .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب في الحياة الدنيا .
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب في الآخرة .
الرابع : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب في الدنيا والآخرة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية السياق .
ومن أسرار جعل إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بيد الله ومشيئته أمور :
الأول : لا يعلم ما في قلوب الناس إلا الله عز وجل ، وفي ثناء الله على نفسه ورد في التنزيل [ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ] ( ).
الثاني : ليس للخلائق سلطان على القلوب، فالله وحده هو الخالق , وهو الذي يملك القلوب .
الثالث : لا يعلم مقدار وكم الرعب الذي يلزم إلقاؤه في قلب كل كافر إلا الله عز وجل .
الرابع : الرعب الذي يلقى في قلب الكافر من الكلي المشكك في ذاته وأثره أي أنه على مراتب متفاوتة لا يعلم مقدارها وكمها إلا الله عز وجل.
الخامس : إذا ما تاب الكافر يزيل الله عز وجل عنه وعن قلبه الرعب والفزع في الحال .
السادس : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
المسألة الثانية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لكيلا تحزنوا على ما أصابكم ) وفيه وجوه:
الوجه الأول : بيان قانون من الإرادة التكوينية شاء الله أن يتجلى في حياة وأحوال الناس بلحاظ الإعتقاد وسنخية العمل خيراً أو شراً .
ومن مضامين هذا القانون مواساة المؤمنين مما يصيبهم من الخسارة بإلقاء الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، ويتقوم هذا القانون بأمرين متلازمين :
الأول : إلقاء الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا.
الثاني : اللطف والتخفيف عن المؤمنين، وفيه وجوه:
أولاً : إنه رحمة بالمؤمنين من جهات :
الأولى : التخفيف عن المؤمنين .
الثانية : حجب الذين كفروا عن مواصلة الهجوم على المؤمنين .
الثالثة : وقف القتل في الصحابة، ويحتمل هذا الوقف مسائل:
الأولى : بعد أن سقط من المهاجرين والأنصار سبعون شهيداً .
الثانية : بعد نزول القرآن بالثناء على الشهداء , والإخبار عن مقامهم الكريم عند الله ، إذ أصاب المسلمين الحزن والغم بفقد الشهداء فنزل قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الثالثة :إلقاء الله عز وجل الرعب في قلوب الذين كفروا لمنعهم من مواصلة القتال ، لذا فان التدبر بمجريات معركة أحد يبين أن إمتناع كفار قريش عن الإستمرار بالهجوم والقتال معجزة وآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولا تعارض بين هذه المسائل التي تبين زجر الذين كفروا وصدهم عن الإضرار المتعدد والمتكرر بالمسلمين ، ولا زال بناء صرح الإسلام في بدايته سواء في تهذيب النفوس أو إصلاح المجتمعات.
الرابعة : إصابة أعداء الإسلام بالضعف والوهن المترشح إنطباقاً وقهراً عن إمتلاء قلوبهم بالرعب والفزع.
ثانياً : قانون الملازمة بين إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وبين مواساة المسلمين من اللطف الإلهي بالناس ودعوة لهم لدخول الإسلام، وهو من بديع صنع الله عز وجل بأن يأتي الأذى لطرف وهم الكفار بمصاحبة الخوف لهم .
ويترشح عنه النفع والتخفيف عن طرف آخر وهم المؤمنون، فتكون مندوحة وسعة لعامة الناس للتفكر بآيات التوحيد، ومعجزات النبوة والتنزيل.
ثالثاً : لما تفضل الله عز وجل وبشر بنبوة محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بتغشي رحمة الله للناس جميعاً ببركة نبوته بقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، تجلت الرحمة من جهات:
الأولى : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا دعوة لأبنائهم وأزواجهم بترك الإنقياد لهم في الكفر والضلالة.
الثانية : إمتلاء قلوب الذين آمنوا بالغبطة والسعادة للمدد من عند الله بجعل الذي كفروا فزعين على نحو مستديم.
الثالثة : من اللطف الإلهي بالناس وأسباب الرحمة إزاحة البرزخ الذي يفصل بينهم وبين دخول الإسلام.
لقد كان شطر من المسلمين في معركة أحد في حال إرباك من جهات:
الأولى : فشل وخور وجبن طائفة من المسلمين بقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] فان قلت إذا كان المراد حصول الفشل والجبن عند طائفة من المسلمين وليس كلهم , فلماذا جاء الخطاب في الآية عاماً للمسلمين، بينما ورد التبعيض بقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ).
والجواب من وجوه :
الأول : بيان أثر الفشل والتنازع على سير المعركة، وعموم المسلمين.
الثاني : الهّم بالفعل الذي تذكره الآية أعلاه ليس له أثر واقعي في مجريات الوقائع لأنه لم يتعد مرتبة العزم والقصد والنية.
الثالث : من لغة العرب في الخطاب أن يتوجه الى العام مع قصد الخاص.
إذ تدل الآية أعلاه بأن أفراد الطائفتين لم يفشلوا ولم يجبنوا ولكن الفشل وقع في معسكر المسلمين في معركة أحد على نحو السالبة الجزئية .
الثانية : حصول التنازع بين المجاهدين أثناء المعركة وأشد ما يكون على الجيش هو التنازع والإختلاف لأنه سبب للإنشغال والضعف وصيرورة ثغرة ينفذ منها العدو .
وقد تقدم في الجزء السابق تقييد الآية بأن بوقوع التنازع بأمر مخصوص تدل عليه لام العهد في قوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ]( )، لبيان أن التنازع وإن كان سبباً للتراجع إلا أنه محصور في أمر غير مستديم ليدل بالدلالة التضمنية على عدم إستدامة التنازع لإنتفاء موضوعه.
ومن الإعجاز في آية البحث أنها تمنع من تجدد التنازع في ذات الأمر أو غيره ، وهو من الأسرار بجعل لفظ الأمر مجملاً غير مبين لأن الملاك هو بيان فضل الله على المسلمين وإصلاحهم للقاء العدو الكافر من غير تنازع .
الثالثة : حدوث المعصية من طائفة وفريق من المسلمين لبيان حقيقة في حال القتال وفنون الحرب وإلتقاء الصفين ، وهي صيرورة المعصية بين أفراد الجيش سبباً للتراجع والأذى ، وطمع العدو وإثارة الهمة بين أفراده بالزحف والهجوم والمناجاة بإستمرار القتال فتفضل الله عز وجل ومنع من هذا الطمع ، وحال دون زحف الذين كفروا بأن ألقى الرعب في قلوبهم.
وهل تحث الآية المؤمنين على الحرب النفسية , الجواب نعم ، وهذه الحرب من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الحرب خدعة) .
وحينما أصاب المسلمين الخوف في معركة الخندق لكثرة جيوش العدو إذ كان عددهم عشرة آلاف بخطة محكمة وتخطيط دقيق كما بينه قوله تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ]( ) (قالوا : وأقام رسول الله صلّى الله عليه وأصحابه في ما وصف الله عزّ وجلّ من الخوف والشدّة لتظاهر عدوّهم عليهم وإتيانهم مِنْ فَوْقِهم ومن أسفل منهم،
ثمّ إنّ نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن حلاوة بن أشجع بن زيد بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنَّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت،
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : إنّما أنت فينا رجل واحد،
فخَذِّل عنّا إنْ استطعت فإنّ الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة .
وكان لهم نديماً في الجاهلية .
فقال لهم : يا بني قريظة .
قد عرفتم ودّي إيّاكم وخاصّة ما بيني وبينكم،
قالوا : صدقت لست عندنا بمتّهم،
فقال لهم : إنّ قريشاً وغطفان جاءوا لحرب محمّد،
وقد ظاهرتموهم عليه،
وإنّ قريشاً وغطفان ليسوا (كهيئتكم)،
البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أنْ تحولوا عنه إلى غيره،
وإنّ قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره،
وإنْ رأوا نهزة وغنيمة أصابوها،
وإنْ كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل،
والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إنْ خلا بكم،
فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أنْ يقاتلوا معكم محمّداً حتى تناجزوه،
فقالوا : لقد أشرتَ برأي ونصح. ثمّ خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : يا معشر قريش قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّداً،
وقد بلغني أمر رأيت أنَّ حقّاً عليَّ أنْ أبلّغكموه نصحاً لكم فاكتموا عليَّ. قالوا : نفعل. قال : تعلمُون أنَّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد،
وقد أرسلوا إليه،
أنْ قد ندِمنا على ما فعلنا،
فهل يرضيك عنّا أنْ نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم (فنعطيكم) فتضرب أعناقهم،
ثمّ نكون معك على من بقي منهم؟
فأرسل إليهم أنْ نَعَم،
فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً،
ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليَّ ولا أراكم تتّهموني،
قالوا : صدقت،
قال : فاكتموا عليَّ قالوا : نفعل،
ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم،
فلمّا كانت ليلة السبت في شوّال سنة خمس،
وكان ممّا صنع الله برسوله،
أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان،
فقالوا لهم : إنّا لسنا بدار مقام،
قد هلك الخف والحافر،
فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمّداً ونفرغ ممّا بيننا وبينه.
فأرسلوا إليهم : إنّ اليوم السبت،
وهو يوم لا يُعمل فيه شيئاً،
وكان قد أحدث بعضنا فيه حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّداً،
فإنّا نخشى إنْ (ضرستكم) الحرب واشتدّ عليكم القتال تسيروا إلى بلادكم،
وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمّد.
فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة،
قالت قريش وغطفان : تعلمون والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ،
فأرسلوا إلى بني قريظة،
إنّا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا،
فإن كنتم تريدون القتال،
فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ،
ما يريد القوم إلاّ أنْ تقاتلوا،
فإنْ وجدوا فرصة انتهزوها،
وإنْ كان غير ذلك إنشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم،
فأرسلوا إلى قريش وإلى غطفان : إنّا والله لا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً،
فأبوا عليهم وخذل الله بينهم،
وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد،
حتّى انصرفوا راجعين والحمد لله ربّ العالمين) ( ).
الرابعة : إرادة طائفة من المسلمين الدنيا ، وجعلهم الغنائم غاية في قتالهم ، وهل يمكن القول : وجعلهم الغنائم الغاية في قتالهم الجواب لا ، لأن هذه الآيات تنفي عنهم إنحصار غايتهم من القتال بالغنائم وجمعها من وجوه :
أولاً : توجه الخطاب إلى المسلمين بصيغة الإيمان بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] ( )وعطف مضامين هذه الآية عليها , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا منكم من يريد الدنيا .
الثاني : يا أيها الطائفة من المسلمين لم تريدون الدنيا .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا منكم من يريد الدنيا .
الرابع : يا أيها المجاهدون الذين تريدون الدنيا إتبعوا الرسول وإخوانكم في إرادة الآخرة .
ثانياً : إخبار هذه الآيات عن ولاية الله عز وجل للمسلمين لقوله تعالى قبل ثلاث آيات[بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ].
ويكون من مصاديق الآية أعلاه بلحاظ آية البحث :
أولاً : بل الله مولاكم إذ تصعدون، وهو من جهات :
الأولى : يتفضل الله عز وجل ويحول بين المؤمنين وبين الإبتعاد عن المعركة كثيراً .
الجهة الثانية : من ولاية الله للمسلمين عودتهم عند الفرار وهو من أسباب بعث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا ، فلا يدخل الفرح إلى قلوبهم بسبب فرار طائفة من المسلمين لأنهم سيعودون إلى المعركة بولاية الله , وتقدير آية السياق على وجوه :
أولاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لتعودوا إلى المعركة أن فررتم .
ثانياً : حتى وأنتم تصعدون ولا تلوون على أحد نلقي في قلوب الذين كفروا الرعب.
ثالثاً : كيف تصعدون وقد ألقينا في قلوب الذين كفروا الرعب.
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا إجتنبوا الفرار سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) ليكون الرعب على جهات :
الأولى : الرعب سبب لمنع الذين كفروا من مواصلة الهجوم .
الثانية : فضل الله بزيادة إيمان المسلمين بالوهن والرعب الذي يظهر على أعدائهم في حال الحرب والسلم .
الثالثة : إنشغال الذين كفروا بالرعب فهو عدو لهم يملأ قلوبهم، وينتقل إلى أعضائهم.
إذ يدخل الدم بالدورة الدموية إلى القلب وهو عضو عضلي مجوف نحو أربعة آلاف دورة في اليوم والليلة ليضخ الدم المزود بالأوكسجين وعنصر الحياة إلى أعضاء البدن في آية تتجدد في كل يوم , لتدل على بديع خلق وحياة الإنسان , فيجب عليه شكر الله عز وجل على هذه النعمة .
ولكن الكافر إختار الشرك بالله [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( )، فيبتليه الله ويجعل الدم الذي يخرج من القلب إلى الأعضاء ممتزجاً بالرعب والفزع والخوف , وإن كانت الرئتان تقومان بتنقية الدم من ثاني أوكسيد الكاربون فإنهما يعجزان عن تخليص الدم من الرعب .
وليس من أمة مثل المسلمين يجعل الله عز وجل لها مدداً في داخل نفوس أعدائهم , وعلى نحو العموم الإستغراقي والمجموعي ، وهو من مصاديق قوله تعالى في خطاب لهم [ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ ] ( ) فيدل العموم الإستغراقي على عدم إستثناء وسلامة أحد من الذين كفروا من مصاحبة عدوه من الرعب ودخوله إلى قلبه ، وأما العموم المجموعي فيعني في المقام ظهور الرعب في السلوك العام للذين كفروا.
فقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يدعو المؤمنين في أخراهم للعودة إلى مواضعهم في القتال ، أما المشركون فلا يدعو بعضهم بعضاً لمواصلة القتال والإستبسال فيه ، وتجلت هذه الحقيقة بمعركة بدر ، فقد أصر الذين كفروا على القتال.
وفي طريق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية مرّ على قوم (من مزينة وجهينة وبني بكر، واستنفرهم إلى الحديبية فاعتلوا وتشاغلوا بأهليهم وأموالهم: يقول: عليهم ما تمنوا وظنوا، وذلك أنهم قالوا: إنما خرج محمدٌ في أكلة رأس ، يقدم على قومٍ موتورين، فأبوا أن ينفروا معه) ( )، وفيه مسائل :
الأولى : تسليم قريش بأنهم لم ينتصروا في معركة أحد أو الخندق .
الثانية : معرفة القبائل والناس بالضرر والخسارة الكبيرة التي لحقت كفار قريش بقتلاهم في بدر وأحد والخندق .
الثالثة : قيام رجالات قريش بالوعيد بالإنتقام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإشاعة قتله والذين معه من المهاجرين والأنصار أو أسرهم .
ولم يلتفت الناس إلى حقيقة السلاح الذي يحارب بذاته , وهو الرعب إذ جعله الله ملازماً لقلوب الذين كفروا يتصارع معهم ، ويثبطهم ، ويخيفهم ويصرفهم عن القتال، وهو من مصاديق قوله تعالى[ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ ]( ).
فالأصل في السلاح أن يكون آلة بيد المحارب، أما سلاح الرعب فلا يصل إلى أيدي المسلمين , ولا يستطيع الذين كفروا دفعه , ومن أسرار هذه السلامة أنه يأتي من عند الله إلى قلوب الذين كفروا من غير واسطة ملك أو نبي .
فكما أنزل الله الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، فانه سبحانه بعث الرعب في قلوب الذين كفروا بنفسه من وجوه :
الأول : لو دار الأمر بين إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا بنفسه أم بواسطة الملائكة , فالأصل هو الأول .
الثاني : الرعب مدد للمسلمين من عند الله سبحانه يقذفه في قلوب أعدائه .
الثالث : دلالة ظاهر الآية على إنعدام الواسطة الملكوتية في إلقاء الرعب , وهذا لا يتعارض مع مجئ الرعب بواسطة الأسباب منها :
أولاً : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان مع دنو العدو منه .
ثانياً : نزول الملائكة لنصرة المؤمنين ، ورؤية عدد من الذين كفروا الملائكة في نزولهم للحجة والبيان والتوثيق .
ثالثاً : عشق الذين آمنوا للشهادة والقتل في سبيل الله .
رابعاً : مؤازرة عوائل أهل المدينة للمجاهدين، وتهيئة النساء والصبيان لمقدمات الخروج للقاء العدو الكافر .
خامساً : عدم وقوع الإرتداد بين المسلمين ، فمع هجوم الذين كفروا وإصرارهم على القتال في معركة بدر وأحد والخندق لم يترك أي فرد من المسلمين الإسلام ، ليكون من إعجاز نظم آيات القرآن إبتداء هذه الآيات بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ) .
وجاءت كل من آية السياق والبحث معطوفتين على الآية أعلاه ليكون من معانيها بلحاظ مضامينها القدسية مسائل :
الأولى : لا ترتدوا عن دينكم لأن الله يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب .
الثانية : يجلب الإرتداد عن الدين الرعب إلى القلب ، وهو من الخسران الذي أختتمت به الآية السابقة بقوله تعالى [فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ].
الثالثة : قد أنجاكم الله من الإرتداد والرعب في القلب فاشكروه على هذه النعمة .
الرابعة : تدل لغة الخطاب في قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا]على التباين والتضاد بين المؤمنين والذين كفروا في الإعتقاد والفعل والعاقبة .
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا إن الذين كفروا حرموا من النعم المصاحبة للإيمان .
ثانياً : الذين كفروا أشد ضلالة من الذين يرتدون على أعقابهم لأنهم مقيمون في الكفر والضلالة .
ثالثاً : الذين كفروا خاسرون .
سادساً : تجلي كذب وزور إدعاء المشركين قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشيوع وثبوت نبأ بقائه حياً أفزع الذين كفروا ، وهو من أسباب تعجيلهم الذهاب إلى مكة من معركة أحد , وإنتفاء العزم عندهم على الزحف نحو المدينة خاصة مع كثرة قتلى المسلمين وتفشي الجراحات والكلوم بين الأحياء منهم .
الجهة الثالثة : ولاية الله عز وجل للمسلمين بثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه في ميدان المعركة ، فصار فئتهم وسط المعركة فلا يرجعون إلى المدينة ليعودوا بمن بقي منهم ممن لم يخرج إلى معركة احد ، بل يرجعون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه نكتة وهي أنهم يرجعون إلى المعركة ليدافعوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويذبوا عنه .
ليكون من الإعجاز في السنة الدفاعية أنه ليس من فئة وسط الميدان إلا بثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه .
لقد جعل الله عز وجل المسلمين في مأمن من الرعب والفزع على نحو الإطلاق أي حتى في حال الهزيمة والفرار , وهو مقدمة لعودتهم إلى القتال , لأنهم لا يخشون من العدو , ولا يخافون منه .
الوجه الثاني : ما تدل عليه آية البحث من أسباب التراجع من جهات :
الأولى : إنسحاب شطر من الصحابة عند تحول الريح , وصيرورة الجولة للذين كفروا ، ومن معاني لفظ [ تصعدون ] في المقام الظن بأن الفرار نجاة من العدو , وصعود من وادي القتال وحد السيوف وملامستها للرقاب والأجساد .
وهل يصدق عليه أنه فرار من الزحف الذي يترتب عليه الإثم وذكر أنه من الكبائر ، الجواب لا ، لقوله تعالى في نفس آية البحث [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]مما يعني سماع المسلمين لصوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو فئتهم .
(وأخرج أحمد والطبراني عن معاذ بن جبل قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات . قال : لا تشرك بالله شيئاً وإن قتلت وحرقت ، ولا تعقن والديك وان أمراك أن تخرج من أهلك ومالك .
ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً فإنه من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله .
ولا تشربن الخمر فإنه رأس كل فاحشة ، وإياك والمعصية فإن بالمعصية جل سخط الله ، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس وان أصاب الناس موت فاثبت .
وأنفق على أهلك من طولك .
ولا ترفع عنهم عصاك أدباً وأخفهم في الله) ( ).
الثانية : عدم إلتفات المؤمنين عند الإنسحاب , والفرار إلى جهة المعركة ، وبقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وسط الميدان , وقد عاهدوه على الإتباع والنصرة .
لتكون آية السياق تذكيراً لهم بضعف عدوهم ، وتقدير الجمع بينهما على وجوه :
أولاً : كيف لا تلوون على أحد في فراركم ، وقد ألقى الله الرعب في قلوب عدوكم .
ثانياً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب كيلا تصعدون وتفرون .
ثالثاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لتلووا وتسمعوا نداء الثبات في المعركة والرجوع إلى الميدان .
رابعاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لتستجيبوا لدعوة الرسول في أخراكم .
خامساً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لتزيحوهم عن مواضعهم في معركة أحد .
سادساً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب، لتعلم الأجيال المتعاقبة في الأرض بأن الرعب عقوبة عاجلة مصاحبة للشرك والجحود ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بأن يتعظ الناس في كل زمان وإلى يوم القيامة مما يصيب الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب نعم ، ومن معاني الرحمة في الآية أعلاه دفع النقم وصرف البلاء والضراء ، لذا جاءت كل من آية السياق والبحث لحصانة المسلمين من جهات:
الأولى : توقي المسلمين من ذات الأخطاء التي حصلت لهم في معركة أحد ، مثل ترك الرماة لمواضعهم مع وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بعدم تركها خاصة مع رؤيتهم لخيالة الكفار في السفح يرومون الهجوم عليهم بين الفينة والأخرى، فيردونهم بالنبال والسهام .
ومن الحجج ومصاديق التحذير في المقام أن خيالة الكفار كانوا على فرقتين ، فرقة برئاسة عكرمة بن أبي جهل ، وأخرى برئاسة خالد بن الوليد قبل إسلامهما ، وكل منهما معروف بالإصرار، ولكن شهادة آية السياق بإلقاء الرعب في قلوبهم جعلهما ومن معهما يتراجعون أمام نبال خمسين من رماة المسلمين على الجبل مع إنكسار الذين كفروا في ميدان المعركة.
الثانية : السلامة من التنازع وأسباب الشقاق والخلاف لما فيه من الوهن وتشتت القوة .
ولما تفضل الله عز وجل وخاطب المسلمين بالقول[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، فانه سبحانه أنزل آية السياق التي تحكي تنازع الرماة ونسبه الله للمجاهدين في معركة أحد لإرادة التدارك وإجتناب النزاع , ليكون من الإعجاز في قوله تعالى[وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] أنه من مصاديق أسباب الرعب الذي يلقيه في قلوب الذين كفروا.
فيقصر المسلمون ويتنازعون فيما بينهم فتنزل آية السياق لأمور :
أولاً : إصلاح حال المسلمين.
ثانياً : معرفة المسلمين لقبح التنازع بينهم.
ثالثاً : تأديب المسلمين بأدراكهم لزوم طاعة الرسول فيما يأمرهم به في حال السلم والحرب.
رابعاً : حث المسلمين على التقيد بالفرائض والعبادات.
خامساً : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا، فيصلهم خبر التنازع بين المسلمين , ويظنون أنه سبب لضعفهم، فتأتي آية السياق لتقطع أثر لهذا التنازع، وتمنع من تجدده أو حدوث مثله، فيصاب الذين كفروا بالرعب والفزع واليأس.
الثالثة : نزلت آية السياق لحصانة المسلمين من المعصية بعد بيانها وذكر أضرارها، ومن وجوه هذه الحصانة إستحضار المسلمين لنعم الله عليهم، وتقدير آية السياق على وجوه:
أولاً : لم تعصون بعد أن أراكم الله ما تحبون.
ثانياً : من شكر الله على نعمة رؤية ما تحبون التقيد بآداب طاعة الله ورسوله.
ثالثاً : في إجتناب الفشل والتنازع والمعصية ظفر بالأعداء , ونصر مبين ، قال تعالى[وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ]( ).
الثالثة : تكرار دعوة ونداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في فرارهم ليرجعوا إليه وإلى الجنة إذ تجلت الملازمة بين دعوة النبي ودخول الجنة في معركة أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
ويكون تقدير آية البحث: والرسول يدعوكم في أخراكم إلى النعيم الدائم , وهو من معاني وتفسير قوله تعالى [أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ] ( ).
الوجه الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين أن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا عقوبة عاجلة من عند الله، وأن ما كسبوه في معركة أحد يكون على وجوه:
أولاً : إنه وبال عليهم من جهة سعيهم للإضرار بالمؤمنين.
ثانياً : إصابة الذين كفروا بالندم والحسرة على خيبتهم , وعجزهم عن تحقيق غاياتهم الخبيثة، ليجتمع عندهم الرعب والندم.
ثالثاً : بعث الحسرة في نفوس الذين كفروا لتلقي المسلمين أذاهم بالصبر وزيادة هدى .
رابعاً : ما أصاب المسلمين من الحزن حجة على الذين كفروا وباب لكتابة الذنوب عليه، وحتى لو إفتتن بعض الكافرين بهم فانه سبب إضافي لحملهم أوزار الإثم، وهو من مصاديق قوله تعالى[لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ]( ).
ومن أسرار الجمع بين الآيتين تعدد وظائف الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا، ومنه تخفيف وطأة الخسارة عن المؤمنين، وتسليمهم بأن الذين كفروا خرجوا من معركة أحد أكثر ضعفاً ووهناً.
ومنه تجلي الفضل الإلهي على المسلمين بأمر الله والتنزيل والسنة النبوية وهم في حال صعود وإنسحاب وهذا الفضل من جهات:
الأولى : إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا.
الثانية : دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بالعودة إلى القتال.
الثالثة : نزول آية البحث والسياق ببعث المسلمين على إصلاح أنفسهم للقادم من الأيام، وهو من إعجاز القرآن فان كان العرب ينشغلون بالتفاخر بالآباء، جاء القرآن ليبعثهم على العمل وبناء صرح الإسلام، وقد أدركت الأمم الآن أن سر الإرتقاء بالجد والسعي للمستقبل .
وليس من مستقبل أعم وأعظم من تذكير القرآن بعالم الآخرة والجزاء لأنه تنقية للنفوس وتحلية للأعمال، وهو من مصاديق إحتجاج الله على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، عندما سألوا عن جعل خليفة في الأرض مع إتصاف الإنسان بالفساد، وسفك الدماء، إذ بعث المسلمين للسعي إلى الآخرة واقية من الفساد، وإستئصال له من الأرض، فسقط الشهداء من المسلمين لتنزيه الأرض منه.
المسألة الثالثة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب والله خبير بما تعملون ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : يحتمل موضوع إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وجوهاً :
أولاً : إرادة التخفيف عن المؤمنين بصد الذين كفروا عن الهجوم وإن هجموا فان الرعب الذي يلازمهم يمنعهم من البطش ، وإظهار الشجاعة في المعركة .
ثانياً : في آية السياق بيان لعلة إصابة الذين كفروا بالرعب والفزع وهو الشرك بالله , ليكون من منافع إستيلاء الرعب على قلوبهم بعث النفرة في نفوسهم من الشرك ، وترك المناجاة بالبقاء عليه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بتقريب أن الذي يبتعد عن عبادة الله عز وجل يلطف به الله ، ويحمله على معرفة قانون وجوب عبادة الله من جهات :
الأولى : بعث الأنبياء بالبشارة للمؤمنين والإنذار للمشركين وعن عبد الله بن مسعود قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين) ( ).
الثانية : تفضل الله عز وجل بالآيات الكونية , وكل آية تدعو إلى عبادة الله، وتلح على الناس في كل ساعة بهجران ونبذ الشرك، وهل تدعو الآيات كالشمس والقمر والسموات والجبال وبديع صنعها وإستدامتها المسلم إلى محاربة الشرك والضلالة بذاتها بحيث إذا رآها تناجى مع أخوته المؤمنين لدعوة الناس ومحاربة المشركين لجحودهم بهذه الآيات التي هي نوع طريق للآية أعلاه من سورة الذاريات بوجوب عبادة الله .
الجواب لا دليل عليه، وهو من أسرار وذخائر العلوم , وجواهر العلل في تفضل الله ببعثة الأنبياء وإنزال الكتب السماوية من السماء ومصاحبة المعجزة الشخصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون مرآة للآيات الكونية وحجة للمؤمنين في القتال وإذناً لهم بالجهاد , لذا قالت الآية السابقة [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]
فقيدت الآية قتل الكافرين بأمور :
الأول : صبغة الإيمان لعطف آية السياق على الخطاب التشريفي[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا]( ).
الثاني : وعد الله عز وجل نبيه والمؤمنين بالنصر.
الثالث : تنجز الوعد الإلهي أي تحققه وصيرورته واقعاً بالمصداق العملي للوعد، وهو الذي يدل عليه لفظ (صدقكم) في قوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
الرابع : نزول الإذن من عند الله بحس الذين كفروا.
وأدعي الإجماع على أن المراد من لفظ(تحسونهم) هو القتل , قال الماوردي: [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] أي تقتلونهم في قول الجميع ، يقال حَسه حَسّاً إذا قتله ( ).
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق , قال له : أخبرني عن قول الله { إذ تحسونهم بإذنه} قال : تقتلونهم قال : وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم أما سعمت قول عتبة الليثي :
نحسهم بالبيض حتى كأننا … نفلق منهم بالجماجم حنظلا ( ).
والحَس بالفتح غير الحِس، بكسر الحاء.
يقال: حَسِسْتُ بالخبر وأَحْسَسْتُ به، أي أَيْقَنْتُ به. وأَحْسَسْتُ الشيءَ: وجدت حِسَّهُ. قال الأخفش: أَحْسَسْتُ، معناه ظننت ووجدت، ومنه قوله تعالى[فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ] ( ).
والمختار أن النسبة بين الحَس والقتل هي العموم والخصوص المطلق، فالحس أعم، ومنه إصابة الأعداء بالجراحات , ومنه رجحان الكفة وعلو سيوف المسلمين على رقاب الذين كفروا في معركة أحد، وهذا الحس من مصاديق العلو في قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الثالثة : نزول الكتب السماوية على الأنبياء إماماً ودليلاً وسبيل هداية وتفضل الله عز وجل بنزول كلامه وهو القرآن على صدر نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )ومنه قانون إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لأنهم لم يستجيبوا للآيات والبراهين التي تدل على صدق نبوته , ونزول القرآن من عند الله، ليكون من معاني آية السياق جهات :
الأولى : سنلقي في قلوب الذين كفروا بالله الرعب .
الثانية : سنلقي في قلوب الذين كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرعب .
الثالثة : سنلقي في قلوب الذين كفروا بنزول القرآن الرعب .
الرابعة : سنلقي في قلوب الذين كفروا باليوم الآخر الرعب .
الخامسة : سنلقي في قلوب الذين كفروا بولاية الله للمؤمنين الرعب .
السادسة : سنلقي في قلوب الذين كفروا بنصرة الله للمؤمنين الرعب .
السابعة : سنلقي في قلوب الذين كفروا بقدرة الله المطلقة الرعب .
الثامنة : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بسبب كفرهم وجحودهم .
التاسعة : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لهجومهم في معركة بدر.
وهو من الإعجاز في نزول آية السياق بصيغة الإستقبال القريب [سنلقي] فقد خرجت قريش في معركة بدر لنجدة عير أبي سفيان القادمة من الشام ووقعت المعركة، ثم زحفوا من مكة إلى المدينة بثلاثة آلاف رجل أكثر من خمسمائة كيلو متراً على الرواحل ومشياً على الأقدام لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ليكون حجة بالغة عليهم، بلحاظ أن قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، يتضمن معاني إقامة البرهان ونزول البلاء عند الإمتناع عن الإتعاظ، وحلول العقاب عند الإصرار فأقترن به قذف الرعب في قلوبهم ، ليشهد الناس في كل زمان على إستحقاقهم لهذه العقوبة .
ثالثاً : صيرورة الرعب برزخاً دون إنقياد الناس لرؤساء الكفر في عبادة الأوثان ومحاربة النبوة , فقد يكون الأتباع أكثر أذى وضرراً للمؤمنين إذ أن الطواغيت يطغون في سلطانهم بسبب ولاء الأتباع والأنصار وسعيهم في تحقيق رغائبهم ، فجاءت آية البحث والسياق لمنع الناس من التفاني والتضحية في إتباع رؤساء الكفر من قريش، وهو من معاني الرحمة المترشحة عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتبرأ رؤساء الضلالة من أتباعهم يوم القيامة، قال تعالى[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ]( ).
رابعاً : يحتمل إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من جهة زمانه وجوهاً :
الأول :مصاحبة الرعب للذين كفروا قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الملازمة بين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغزو الرعب للذين كفروا، لتكون آية لنبوته تتجلى في القلوب.
الثالث :تبين آية البحث إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لاحقاً وعلى نحو الإستقبال بدليل قوله تعالى [سنلقي].
الرابع : تبين آية السياق إلقاء رعب إضافي في قلوب الذين كفروا منه خروجهم إلى معركة أحد بدليل أن الرعب ملازم للشرك وتقدير الآية : سنلقي رعباً إضافياً في قلوب الذين كفروا مع الرعب الذي جاءهم بسبب إختيارهم الشرك بالله .
وهذا المعنى مستحدث في علم التفسير والتأويل، ولكنه مستقرأ من آية السياق من جهتين :
الأولى : الملازمة بين الرعب والشرك , وقد يأتي إلقاء الرعب في قلوبهم بلغة الماضي كما في قوله تعالى [وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ]( ).
الثانية : مجئ آية البحث بصيغة الإستقبال [ سنلقي ] ومن الإعجاز أن هذا المعنى جاء في آية واحدة وهي آية السياق ليستقرأ العلماء الإعجاز والذخائر الكامنة في الآية القرآنية ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : ألقى الله الرعب في قلوب الذين كفروا بما أشركوا بالله .
ثانياً : يلقي الله الرعب في قلوب الذين كفروا عند زحفهم للقتال في معركة أحد .
ثالثاً : يلقي الله الرعب في قلوب الذين كفروا في ميدان المعركة .
رابعاً : يلقي الله الرعب في قلوب الذين كفروا عند علمهم بحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذب إشاعة قتله في معركة أحد ، ومن الآيات أن حياته وسلامته لم تكن عن إختفاء أو فرار عن المعركة ، بل كان وسط الميدان مع إشتداد هجوم الذين كفروا ، وتخلي أصحابه عنه إلا نفراً قليلاً منهم .
خامساً : يلقي الله الرعب في قلوب الذين كفروا، لأن الرعب جندي من جنود الله عز وجل ، وعندما أخبر الله الملائكة بخلافة الإنسان في الأرض إحتجوا بشاهد متجدد في كل زمان ، كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )فأقام الله عز وجل الحجة عليهم ووعدهم وعداً كريماً بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
فلم تعلم الملائكة آنذاك أن الله عز وجل يجعل الرعب سلاحاً يقذفه بنفسه في قلوب الذين كفروا فيصدهم عن إشاعة الفساد ويشغلهم بأنفسهم عن سفك الدماء , فمن خصائص الرعب أمور :
الأول : إنشغال الكافر بنفسه .
الثاني : سعي الذين كفروا لشفاء الفرد منهم من الدرن الذي يترشح عن الرعب سواء كان هذا الدرن عضوياً أو نفسياً .
الثالث : تفكير الذين كفروا بأنفسهم وما حلّ بهم من أسباب الفزع والخوف لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أمراء السرايا أن لا يبدأوا القتال، وأمرهم بالموعظة ودعوة العدو إلى كلمة التوحيد ليعصم الإنسان في دمه وماله.
ترى لماذا تفضل الله عز وجل فالقى الرعب بنفسه في قلوب الذين أشركوا، فيه وجوه :
الأول : إختار الذين كفروا الشرك بالله وعبادة الأنداد والتقرب إلى الأوثان ، فحاربوا الله عز وجل في عرشه وسلطانه الذي يتغشى السموات والأرض، ومحل الشرك عند الإنسان هو القلب لأنه أمير الجوارح , فجاء الرعب إلى القلب ليتغشى الأعضاء .
الثاني : حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى نصرة الله عز وجل بنفسه برمي الذين كفروا بالوهن والضعف قبل تشابك الأسنة وتداخل الصفين .
الثالث : تفضل الله عز وجل بإعانة ونصرة الملائكة الذين نزلوا مدداً للمسلمين لبيان قانون ملازمة الحاجة للخلائق ، فما من مخلوق إلا وهو يحتاج ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل مخلوق محتاج .
الصغرى : الملائكة مخلوقون .
النتيجة : الملائكة محتاجون .
ويكشف خطاب الله والملائكة يوم بدر [أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( )مسائل :
الأولى : تأييد ونصرة الله للملائكة .
الثانية : إخبار الله للملائكة بأنه حاضر معهم ، وهل قوله تعالى [أَنِّي مَعَكُمْ] يفيد الحضور على نحو الحصر ، الجواب لا، إنما تتضمن المعية في الآية وجوهاً :
الأول : نصرة الله للملائكة .
الثاني : تفضل الله عز وجل بالأمر لكل ملك بما يفعله في المعركة ، وتقدير الخطاب الإلهي لكل ملك : أني معك فثبت الذين آمنوا .
الثالث : إني معكم أمدكم بأسباب النصر ، وهو من مصاديق [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ليكون إنفراد الله بالعلم في المقام من وجوه :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإقامة حكم الله في الأرض الذي يفيد إنحسار الفساد , وإمتناع الناس عن القتل بالتلبس بالإيمان أو الخشية من العقاب العاجل أو الأجل ، أما العاجل فكما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، وأما في الآخرة فالخلود بالنار لمن يقتل المؤمن ظلماً وجوراً وتعدياً .
الثاني : لقد أراد الذين كفروا من أهل مكة وما حولها من القرى قتل سيد الأنبياء وصاحب الكمالات الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فجاء لهم الرعب من عند الله سريعاً ليس من ثمة مسافة بين السماء السابعة وبين موضع جبل أحد من الأرض.
الثالث : إخبار الله عز وجل للملائكة أن نصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عبادة لله عز وجل وإخلاص طاعته .
لقد أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم يوم خلقه , ونفخ فيه من روحه فاستجابوا لأمر الله عز وجل إلا إبليس فانه إستكبر وعصى ، فأخرجه الله من الجنة عقوبة له مذموماً مدحورا .
وهل نعت إبليس[مَذْءُومًا مَدْحُورًا]( )، من ضمن عقوبة الإخراج من الجنة أم أن كلاً منهما عقوبة أخرى , الجواب هو الثاني , وفي التنزيل [قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ]( ).
ليتحقق مصداق جلي من تصاغر ووهن وضعف إبليس يوم أحد ، إذ عادت الوقائع فاجتمع الملائكة وإبليس , ولكن ليس في الجنة أو في السماء ، بل في الأرض وفي موضع مخصوص منها هو جبل أحد .
وإذ أبى إبليس السجود لآدم في الجنة ، فانه في الأرض حضر لتحريض الذين كفروا وتزيين عملهم لهم ، وحين رأى جبرئيل والملائكة ولى منهزماً .
وعن ابن عباس قال (جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم}( ).
وأقبل جبريل عليه السلام على إبليس , وكانت يده في يد رجل من المشركين فلما رأى جبريل انتزع يده ، وولى مدبراً هو وشيعته ، فقال الرجل:يا سراقة انك جار لنا، فقال { إني أرى ما لا ترون}( ) وذلك حين رأى الملائكة { إني أخاف الله والله شديد العقاب } قال: ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين .
فقال المشركون : وما هؤلاء { غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم })( ).
لقد رأى الملائكة كيف أن إبليس يبعث الحمية في نفوس الذين كفروا ، وأن إلقاء الرعب في قلوبهم حاجة لهم وللمؤمنين وبرزخ دون إنصاتهم لتحريف إبليس وضلالته ، وهو وسيلة ومناسبة لتدبر أفراد جيش الذين كفروا بعداوة إبليس لهم وللناس جميعاً، بتحريضه لهم يوم بدر , وأحد , فتنفر نفوسهم منه , ويتركون مستنقع الكفر.
الثالثة : من معاني قوله تعالى للملائكة [إِنِّي مَعَكُمْ] أي أمد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل حتى في ساعة المعركة .
الرابعة : إني معكم أثبت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه من المعركة ، إذ يحتمل قوله تعالى [فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا]( )، وجوهاً :
أولاً : إرادة الإطلاق وشمول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآية، وتقديرها على وجوه :
أولاً :فثبتوا النبي والذين آمنوا .
ثانياً : فثبتوا الذين آمنوا ومعهم النبي .
ثالثاً : فثبتوا النبي والذي آمنوا به , وخرجوا تحت لوائه .
رابعاً : قد ثبت النبي في موضعه فثبتوا الذين آمنوا .
خامساً : قد ألقى الله الرعب في قلوب الذين كفروا فثبتوا الذين آمنوا .
سادساً : إن الله عز وجل هو الذي يثبت النبي في موضعه ويقوم الملائكة بتثبيت الذين آمنوا , ولم يرد لفظ [فَثَبِّتُوا]في القرآن إلا في الآية أعلاه.
سابعاً : يتفضل الله عز وجل ويجعل المؤمنين في مأمن من سخرية وشكوك المنافقين، خاصة وأنهم مع المؤمنين في المصر والسوق، وفي التنزيل[إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ] ( ).
ثامناً : من فضل الله على المؤمنين أنه أمرهم بالثبات في كل معركة من معارك الإسلام ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) ليأتي تثبيت الملائكة للمؤمنين على وجوه :
الأول : تفسير الآية أعلاه .
الثاني : بيان المدد الملكوتي وأنه من عند الله للمسلمين لإرادة إمتثال المسلمين لأمر الله عز وجل بالثبات في مواضعهم .
الثالث : تثبيت الملائكة للذين آمنوا نافلة وزيادة من فضل الله في باب التثبيت.
الرابع : قيام الملائكة بتثبيت الذين آمنوا في مواضعهم من أسباب ومصاديق إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا .
ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )أن الملائكة رأوا نصرة الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم أحد , وكيف أن سجودهم لآدم كان حاضراً في دفاعهم عنه ، ورأوا الخزي الذي لحق إبليس هو وأولياءه يوم بدر وهو من مصاديق خاتمة الآية المتقدمة من سورة الأعراف في ذم وتوبيخ إبليس[إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ]( )بلحاظ تغشي الصغار والذل للذين كفروا يوم بدر وأحد .
ويتجلى صغارهم وخزيهم يوم القيامة , لذا تضمنت آية السياق التأكيد على سوء عاقبتهم بقوله [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ] لبيان حقيقة وهي أن إلقاء الرعب مقدمة دنيوية للعذاب الأخروي , وإنذار وتحذير منه.
وعن ابن عباس قال (كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث ، فكان خازناً من خزان الجنة ، وخلقت الملائكة كلهم من نور غير ذلك الحي ، وخلقت الجن من مارج من نار . وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت ، فأول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها ، وسفكوا الدماء وقتلوا بعضهم بعضاً ، فبعث الله اليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم حتى ألحقهم بجزائر البحور واطراف الجبال ، فلما فعل إبليس ذلك اغتر بنفسه وقال : قد صنعت شيئاً لم يصنعه أحد ، فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة .
فقال الله للملائكة { إني جاعل في الأرض خليفة } فقالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }( )، كما أفسدت الجن قال { إني أعلم ما لا تعلمون }( )، يقول : إني قد أطلعت من قلب ابليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره .
ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم عليه السلام[مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ]( )، واللازب اللزج الطيب من {حمإ مسنون}( )، منتن ، وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التراب ، فخلق منه آدم بيده ، فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى ، فكان ابليس يأتيه يضربه برجله ، فيصلصل فيصوت ثم يدخل من فيه، ويخرج من دبره ، ويدخل من دبره ويخرج من فمه ، ثم يقول : لست شيئاً ، ولشيء ما خلقت! ولئن سلطت عليك لأهلكنك ، ولئن سلطت علي لأعصينك .
فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه ، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحماً ودماً ، فلما انتهت النفخة إلى سرَّته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده ، فذهب لينهض فلم يقدر . فهو قول الله[خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ]( ).
فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال { الحمد لله رب العالمين}( )، بإلهام من الله فقال الله له « يرحمك الله يا آدم ، ثم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات[اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ]( )، لما حدث في نفسه من الكبر , فقال : لا أسجد له ، وأنا خير منه ، وأكبر سناً ، وأقوى خلقاً ، فأبلسه الله وآيسه من الخير كله ، وجعله شيطاناً رجيماً) ( ).
ومن خصائص القرآن أنه يبعث السكينة في نفوس المسلمين ، وتحتمل السكينة في أوانها وجوهاً :
أولاً : ساعة الأمن والسلم والدعة .
ثانياً : عند القتال في ميدان المعركة .
ثالثاً : عند إعداد مقدمات القتال والتهيئ لملاقاة الذين كفروا .
رابعا : بعد إنقضاء المعركة والإنسحاب من الميدان .
وفيه آية من عند الله ، فلا يقدر على بعث السكينة في النفوس في ميدان المعركة إلا الله عز وجل , وكذا في بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا كما في قوله سبحانه في الآية قبل السابقة وهي آية السياق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) .
ليتجلى التضاد بين إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وبين دلالة الآية السابقة على إلقاء السكينة في قلوب المؤمنين في ساعة الشدة والضيق والبأساء , وفيه مسائل :
الأولى : بيان رجحان كفة المسلمين على الذين كفروا في ميدان المعركة بسلاح السكينة.
الثانية : خذلان الذين كفروا بابتلائهم بالفزع والخوف , وتترشح السكينة بلحاظ أمور هي :
الأول : قذف الرعب في قلوب الذين كفروا ، وما فيه من أسباب الوهن والضعف التي تصيبهم .
الثاني : ذم الذين كفروا بأنهم أشركوا بالله , للقبح الذاتي للشرك والضلالة .
الثالث : بيان العقاب الأليم للذين كفروا .
الرابع : تذكير الذين كفروا بسوء عاقبتهم ، قال تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
الخامس : إعلان المسلمين لإيمانهم باليوم الآخر ، ودعوة الناس للتصديق به .
السادس : تفقه المسلمين في الدين، والمعرفة الإجمالية لأهوال يوم القيامة , وما فيه من العذاب الأليم بالنار للذين كفروا .
الثالثة : صيرورة الحياة الدنيا مرآة لعالم الآخرة وما فيها من التباين بين النعيم الذي يقيم فيه المؤمنون وبين العذاب الأليم الذي يلبث فيه الذين كفروا، وفيه أمران :
الأول : حث الذين آمنوا بالثبات على الإيمان ، خاصة وأن بدايات الإسلام شهدت معارك وقتالاً متكرراً بين المسلمين والذين كفروا.
فيتفضل الله عز وجل بإعانة المسلمين لبقائهم في منازل الهداية والإيمان (عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قلت : يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب ؟! قال : نعم . ما من خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله ، فإن شاء الله أقامه ، وإن شاء أزاغه .
فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب .
قلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي . قال : بلى . قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني) ( ).
الثاني : ذم وتوبيخ الذين كفروا , وبيان القبح الذاتي للكفر ومفاهيم الشرك بالله ، ودعوتهم للتوبة والإنابة والصلاح .
وهل يدل ذم الذين كفروا بالدلالة التضمنية أو بالأولوية على ذم المنافقين ، أم لابد من ذكر المنافقين على نحو التعيين وتبكيتهم لإخفائهم الكفر في ذات الوقت الذي يعلنون فيه إنتسابهم للإسلام، الجواب هو الأول ، فصحيح أن آيات القرآن وردت بذم المنافقين بالعطف على الكافرين إلا أنه لا يمنع من التداخل بينهما في باب الذم والإنذار لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الرابعة : من الإعجاز في المقام مجئ السكينة من عند الله واقية وتتغشى المسلمين ما قبل إندلاع القتال وأثناءه وبعده .
الخامسة : يدرك الكفار مضامين ودلالات الوعد للمسلمين على نحو الموجبة الجزئية , وكيف أن السكينة تلازم المسلمين مما يستلزم جهداً وقوة وعدة إضافية يعجزون عنها ، ليكون من معاني السكينة التي تترشح عن هذه الآيات , وتغشيها للمسلمين والمسلمات سلاحاً ماضياً يبعث اليأس والفزع في قلوب الذين كفروا .
ويكون تقدير الآية قبل السابقة : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بإلقاء السكينة في قلوب المسلمين بتلاوة هذه الآيات).
وهو من الذخائر في تلاوة المسلمين لسور وآيات القرآن فيتلو المسلمون هذه الآيات في الصلاة اليومية الواجبة فتبعث أضواء السكينة لتدخل إلى قلوب المسلمين ، وتكون سبباً لإمتلاء قلوب الذين كفروا باليأس والقنوط .
ومن إعجاز نظم القرآن تقدم آية صدق الوعد وقتل المسلمين للذين كفروا دفاعاً عن النفس لآية [إِذْ تُصْعِدُونَ] لبيان لزوم تعاهد المسلمين للنعمة بطاعة الله ورسوله، وعدم ترك الرماة لمواقعهم على الجبل، وفيه مسائل :
الأولى : منع اللبس والإختلاف بين المسلمين سواء في حال النصر أم الإنسحاب .
الثانية : تذكير أجيال المسلمين بعظيم فضل الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه بالنصر والغلبة في بداية معركة أحد .
الثالثة : إقتباس الدروس والمواعظ من تبدل الريح , وتغير سير المعركة .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه إرادة الدول وأيام الحكم خاصة ، وأن معركة أحد جرت في يوم واحد هو النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة.
المختار هو الثاني من وجوه :
أولاً : تدل الآية أعلاه على أن تداول الأيام بمشيئة وإذن من الله، أما إنسحاب وتراجع المسلمين ، فقد كان سببه قصور وخطأ من الرماة .
ثانياً :أبى الله عز وجل أن يجعل الرياسة والغلبة والنصر للذين كفروا ، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الأولى : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بترتيب مواضع الجنود ، كما في قوله [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الثانية : تعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أميراً للرماة هو عبد الله بن جبير (وَهُوَ مُعَلّمٌ يَوْمئِذٍ بِثِيَابِ بِيضٍ)( ).
الثالثة : وصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للرماة ، وكانت على قسمين :
الأول : الوصية الخاصة لأمير الرماة ، إذ قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم (انْضَحْ الْخَيْلَ عَنّا بِالنّبْلِ ، لَا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا ، إنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا ، فَأَثْبُت مَكَانَك لَا نُؤْتَيَنّ مِنْ قِبَلِك) ( ).
وتحتمل وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم له جهات :
الأولى : عدم إطلاع أحد على الوصية ، ولم يسمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا عبد الله بن جبير نفسه .
الثانية : أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جبير أمام الرماة وكان عددهم خمسين .
الثالثة : صدرت الوصية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمام شطر وعدد من الرماة .
الرابعة : صدور وصية النبي أمام الرماة وعدد من اهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار ، وتدل عليه الآية أعلاه وكيف أن النبي كان يبين للمؤمنين مواقف ومواضع القتال بكيفية مخصوصة بلحاظ أمور :
الأول : الإنتساب إلى الهجرة أو النصرة .
الثاني : تقسيم الأنصار إلى الأوس والخزرج .
الثالث : خصوص التآخي بين المسلمين .
الرابع : ما يراه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحال المناسب .
ولا تعارض بين هذه الأمور لأن المدار على الوحي ومصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) .
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشى يومئذ على رجليه يسوي الصفوف، ويعين المواقع،، مما يدل على تفاني الصحابة في الدفاع عن الإسلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : جمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمراء ، وأوصاهم على نحو الخصوص كي يطلع كل واحد منهم على عمله ووظيفته ، وعمل غيره من الأمراء والجنود .
والمختار هو الجهة الثانية وعن مجاهد قال (مشى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ على رجليه يبوّئ المؤمنين) ( ).
لتكون هذه الوصية تنبيهاً وحجة على الرماة ، ودعوة لهم للصبر، ومعرفة أن قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) أعم من الطاعة في الأحكام الشرعية ، فيشمل حال الحرب والسلم , والرضا والشدة .
الثاني : الوصية العامة للرماة بأن لا يغادروا موضعهم بأي حال من الأحوال (عن البراء قال جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير ووضعهم موضعا وقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا , حتى أرسل إليكم فهزموهم , قال فأنا والله رأيت النساء يشددن على الجبل وقد بدت أسوقهن وخلاخيلهن رافعات ثيابهن.
فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون , وقال عبد الله بن جبير فنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين , فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم) ( ).
وهل يحتمل إتحاد الوصية وحصول التباين بالنقل والرواية , الجواب إذا دار الأمر بين إتحاد أو تعدد الوصية فالأصل هو الثاني لورود الأخبار بالتعدد ولحرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على معرفة أصحابه بواجباتهم وللإطلاق في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) الذي يدل على بلوغ تعيين مواضع المقاتلين كل الصحابة .
الثالث : والرسول يدعو لهم ) .
ليكون تقدير آية البحث بلحاظ آية السياق على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم في آخراكم أن الله ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب .
الثاني : والرسول يدعوكم في آخراكم ، لقتال الذين أشركوا بالله .
الثالث : والرسول يدعوكم في آخراكم بالذين كفروا أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً .
الرابع : والرسول يدعوكم في آخراكم بأن مأوى الذين كفروا النار .
الخامس : والرسول يدعوكم في أخراكم أن النصر على الذين يلقي الله في قلوبهم الرعب قريب .
السادس : الرسول يدعوكم في أخراكم بهزيمة الذين كفروا للتضاد بين النصر ورعب القلوب.
لقد تفضل الله عز وجل بالوعد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالنصر ، ليكون من معاني الجمع بين الآيتين وجوه:
الأول : والرسول يدعوكم لوعد الله .
الثاني : والرسول يدعوكم لتنجز وعد الله وصيرورته أمراً واقعاً , فنصر المؤمنين حاضر وقريب ، وفي التنزيل [حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ]( ).
الثالث : والرسول يدعوكم فلا تصعدون وتفرون .
الرابع : والرسول يدعوكم كيلا تحزنوا على ما فاتكم .
الخامس : والرسول يدعوكم لما فيه خير الدنيا والآخرة .
السادس : والرسول يدعوكم لليقين بالنصر والغلبة على الذين كفروا .
السابع : جاء وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية السياق بلفظ الرسول ، لبيان أن دعوته من مصاديق الرسالة , وأنه لم يدعهم بصفته الشخصية ، أو لأنه باق في الميدان ، أو بسبب الخشية على نفسه ، بل دعاهم بالوحي ، ليترتب على هذه الدعوة الأثر الحميد والإستجابة من الصحابة ، وهو فرع قوله تعالى في الثناء على نفسه [لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ]( ).
لذا فمن معاني ودلالات الجمع بين الآيتين وجوه :
أولاً : دعوة الذين إنهزموا إلى العودة إلى ساحة القتال خاصة وان مدداً وأسلحة غيرية حاضرة إلى جانبهم ، كنزول الملائكة لنصرتهم ، وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ز
ومن الآيات أن الله عز وجل نسب إلقاء الرعب إلى نفسه وأنه هو الذي يتولاه ويقوم به ، وفيه مسائل :
الأولى : لن يخطئ الرعب الذين كفروا .
الثانية : لن يذهب الرعب لغير قلوب الذين كفروا من أبدانهم كالجوارح والحواس والأركان ، ولبيان تجلي أثره، فما يدخل القلب من الرعب يؤثر على الأعضاء والجوارح، وليشل حركتها، أما إذا أصاب الرعب أحد الأعضاء أو الحواس فقد لا ينتقل أثره إلى الأعضاء والحواس الأخرى .
وهو من الإعجاز في آية السياق وذكر القلوب على نحو التعيين كمحل للرعب.
الثالثة : تجلي أثر وموضوعية الرعب في الحال على الذين كفروا فان إنهزم أكثر المؤمنين فان الذين كفروا جميعاً يهمون بالإنهزام والتقهقر .
ثانياً : تقدير الجمع بين الآيتين والرسول يدعوكم في أخراكم كي تهجروا الهزيمة.
ويكون قوله تعالى [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] خاصاً بمعركة أحد , فيثبت المؤمنون في مواضعهم في القتال بعدها ، وهو من إعجاز آيات القرآن بأنها تذكر خطأ أو زللاً أو قصوراً , ليكون عبرة وموعظة ، ومناسبة للتدارك وعدم تكراره من قبل ذات الذين إرتكبوه , ومن قبل الأجيال اللاحقة من المسلمين والمسلمات .
وهو من أسرار قراءة كل مسلم ومسلمة للقرآن في الصلاة على نحو الوجوب العيني خمس مرات في اليوم جهراً وإخفاتاً، وصيرورة القراءة على قسمين :
1- القراءة الثابتة في كل ركعة من الصلاة , وهي سورة الفاتحة ، ومنها قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
ومن معاني الهداية في المقام التوقي من تكرار الخطأ والزلل ، ويكون تقديرها بخصوص آية البحث على وجوه :
الأول : إهدنا الثبات في مواضع قتال الذين كفروا [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ).
الثاني : إهدنا الذب والدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم التخلية بينه وبين المشركين .
الثالث : إهدنا الصراط المستقيم الذي تجلى بثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط المعركة .
الرابع : إهدنا الصراط المستقيم بالصبر في السراء والضراء من جهات :
الأولى : ترشح الصبر عن الصراط المستقيم .
الثانية : ذات الصبر صراط مستقيم .
الثالثة : الصبر سبيل هدى إلى الصراط المستقيم .
الخامس : إهدنا الصراط المستقيم عندما يصيبنا غم بغم ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] ( ).
السادس : إهدنا الصراط المستقيم بالأمن والسلامة من الحزن على ما فات المؤمنين من الغنائم يوم أحد، وما أصابهم من القتل والجراحات .
السابع: اللهم إهدنا الصراط المستقيم وأنت الخبير العليم .
2- القراءة الإختيارية من سور القرآن كلها.
ليكون هذا التقسيم من الإعجاز في الصلاة من جهات:
الأولى : تعاهد قراءة سورة الفاتحة من قبل كل مسلم ومسلمة.
الثانية : تنمية ملكة حفظ القرآن بحفظ وتلاوة سورة الفاتحة.
الثالثة : تجلي وحدة المسلمين , والتآخي ونبذ الفرقة بينهم بقراءتهم جيعاً لسورة الفاتحة كل يوم.
الرابعة : بيان العلقة القرآنية بين أجيال المسلمين، بقراءة الأجيال كلها سورة الفاتحة عدة مرات كل يوم .
الخامسة : ترك الخيار للمسلم والمسلمة في قراءة السورة , والآيات التي يريد بعد سورة الفاتحة.
ثالثاً : والرسول يدعوكم في آخراكم لنجدته ونصرته ، ودفع المشركين عنه ، فان قيل إذا كان هناك ملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يدعو المؤمنين لنصرته ، الجواب من جهات :
الأولى : تقييد آيات القرآن نزول الملائكة بتحلي المؤمنين بالصبر ، قال تعالى [بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ] ( ).
الثانية : إرادة الأجر والثواب للمهاجرين والأنصار ، وأدائهم وظائفهم الجهادية .
الثالثة : لم يكن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه إلا بأمر الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الرابعة : بيان قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يؤسس لعمل المسلمين في المعارك اللاحقة .
الخامسة : وجود وقتال الملائكة لا يمنع من قتال ودفاع المسلمين لأن الآية إعلاه بينت أنهم مدد ، والمدد الذي يأتي للنصرة، وليس بديلاً عن الجيش .
الثالث : نداء ودعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في ساعة الضيق والشدة .
لقد رجع المنافقون وسط الطريق إلى معركة أحد ، وكان عددهم نحو ثلاثمائة ، فلم يكلمهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدعوهم ، بل كلمهم وعاتبهم بعض الأنصار إذ تبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبد الله , وقال لهم (يَا قَوْمِ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ أَلّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيّكُمْ) ( ) ولكنهم أصروا على الرجوع والخذلان .
وعندما قال الأنصار يوم أحد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا نَسْتَعِينُ بِحُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ ؟ فَقَالَ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ) ( ).
بينما قام بدعوة الذين إنهزموا من المسلمين في ساحة المعركة وحثهم على الرجوع والإلتفات إلى حالهم وذل الهزيمة ، لقد دعاهم إلى سلامة دينهم وثباتهم في مقامات الإيمان ونصرة النبوة والتنزيل، وكانت دعوته يوم أحد ليعبد الناس الله عز وجل في الأرض إلى يوم القيامة .
الرابع : تحتمل دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى ميدان المعركة وجوهاً :
أولاً : إنها من مصاديق وعد الله للمسلمين بأن الرسول يدعوهم للرجوع إلى المعركة بلحاظ كبرى كلية ، وهي أن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي .
ثانياً : دعوة النبي للمسلمين من تنجز الوعد الإلهي للمسلمين.
ثالثاً : ليس من صلة موضوعية بين دعوة النبي لإصحابه بالرجوع وبين الوعد الإلهي.
رابعاً : إرادة الإنتفاع الأمثل من وعد الله.
وباستثناء ثالثاً أعلاه فان الوجوه الأخرى من خصائص دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من البركة.
لقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين لرجاء فضل الله وهم يصعدون في الجبل، ويحتمل هذا الصعود وجوهاً :
أولاً : إنه من فضل الله .
ثانياً : رجاء فضل الله عند الإستقرار على الجبل .
ثالثاً : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من فضل الله عز وجل على كل من :
الأول : النفر من أهل البيت والصحابة الذين بقوا يقاتلون مع النبي وسط الميدان .
الثاني : الصحابة الذين أستشهدوا وعددهم سبعون ، فقد غادروا إلى الرفيق الأعلى ليبقى لواء النبوة ودرر التنزيل تترى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى نزول قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
الثالث : نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعمة على المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، لذا جاءت الآية السابقة بصيغة الخطاب العام للمسلمين والمسلمات.
وتقديره بلحاظ العطف على النداء بصبغة الإيمان في الآية التاسعة والأربعين بعد المائة: يا أيها الذين آمنوا لقد صدقكم الله وعده إذ نجى رسوله من القتل.
فهل من مصاديق النعمة والإسلام في الآية أعلاه صعود المؤمنين الجبل، الجواب نعم ، وإن كان المتبادر بخلافه ، ولكنه شبهة بدوية ، إذ جعل الله عز وجل هذا الصعود برزخاً دون فتك جيش الذين كفروا بهم .
ويكون الغم على وجوه :
أولاً : إستقرار الغم في نفوس المسلمين .
ثانياً : صيرورة الغم كآبة على الوجوه , وحزناً في القلوب .
ثالثاً : إنصراف فرد من الغم وبقاء الفرد الثاني لما ورد في الآية [غَمًّا بِغَمٍّ].
رابعاً : صدور أفعال من المسلمين بسبب الغم وآثاره .
خامساً : زوال الغم مطلقاً بفرديه الأول والثاني .
والصحيح هو الأخير ، فبعد أن إبتدأ إلتقاء الصفين مع الذين كفروا يوم معركة أحد بصدق وعد الله بقيام جيش المهاجرين والأنصار مع قلتهم بازاحة الذين كفروا عن وسط المعركة وإيقاع القتل والكلوم فيهم إنتهت المعركة بغم وكدورة تتغشى المسلمين لما أصابهم ثم تفضل الله عز وجل بإزالة هذا الغم بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] ( ).
سادساً : قد يتبادر إلى الأذهان أن الغم هنا نوع عقوبة، والحق بخلافه لذا وردت الآية بقوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ] لبيان الغم المتعدد رحمة من عند الله وباب للأجر ، وفيه تأكيد لقانون وهو أن الدنيا مزرعة وروضة للمؤمنين يعملون فيها الصالحات , ويكتنزون الحسنات فان أخطأت طائفة منهم وعصت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بترك مواضعهم في الجبل , فان الإثم كل الإثم على الذين كفروا من جهات :
الأولى : جاءت خيل المشركين الى الرماة من الخلف , وقتلوا أمير الرماة عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري ، وهو ممن شهد العقبة ومعركة بدر فقتل هو والذين بقوا معه , ولا يتجاوز عددهم العشرة .
الثانية : الكفار الذين أعدوا لمعركة أحد , والذين شاركوا فيها , ومن الدلائل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد القتل وسفك الدماء أن المشركين زحفوا بالآلاف فاشرفوا يومئذ على المدينة للقتال ، وإن لم يخرج لهم لغزوا المدينة وإستباحوها .
وقد تجلى هذا المعنى بمعركة الخندق التي تلت معركة أحد إذ تقدموا حتى أحاطوا بالمدينة , فلاقاهم النبي وأهل بيته وأصحابه بالصبر والمرابطة خلف الخندق الذي حفروه لهذا الغرض .
ومن إعجاز نظم آيات القرآن أن هذه السورة سورة آل عمران تختتم بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثالثة : الذي أمد جيش المشركين بالمال والسلاح والعارية , وهو يعلم أنهم يريدون الخروج من مكة , والتوجه إلى المدينة المنورة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا لشئ إلا لأنهم [قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] ( ).
الرابعة : الشعراء من المشركين والمشركات الذين بعثوا بقصائدهم الهمة على القتال في نفوس الذين كفروا .
الخامسة : جيش المشركين يوم أحد ، وأتباعهم وعبيدهم الذين آزروهم وإشتركوا في مقدمات القتال أو في ذات القتال .
السادسة : النساء اللاتي جئن مع جيش الكفار من مكة من جهات :
الأولى : تريد نسوة المشركين الأشعار .
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ
نَمْشِي عَلَى النّمَارِقْ
إنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ
فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ( )
وفي معنى بنات طارق جهتين :
أولاً : إرادة الإستعارة ، ويراد أن هنداً تندب أباها بأنه كالنجم الطارق في شرفه وشأنه , وأنهما رفيعات كالنجوم ، ولكن أباها عتبة بن ربيعة أو من قتل كافراً يوم بدر هو وإبنه الوليد ، وأخوه شيبة .
ثانياً : هذا الشطر لهند بنت بياضة بن رباح بن طارق ، قالته حينما إلتقت إياد بجيش كسرى بجزيرة الموصل ، وكان رئيس إياد أباها بياضة بن رباح بن طارق ، وعلى هذا يكون حقيقة في تلك الواقعة لأنه اسم جد هند، وإستعارة في أحد .
والمختار هو الثاني .
الثانية : ذكر نساء المشركين لقتلاهم يوم بدر بالاسم والصفة مع التفخيم والرثاء بالباطل .
الثالثة : الضرب بالدفوف والإكبار ( ).
الرابعة : تحريض الرجال بصيغة اللوم ، وإرادة المزيد من البذل والفداء، وعندما صف المشركون صفوفهم أقاموا النساء خلفهم بين أكتافهم أي ليس بعيدات عنهم .
وقد حضرت مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام وصفية بنت عبد المطلب وأم عمارة وعدد من النسوة المؤمنات وإنقطعن إلى الدعاء , وخلفهن جميع المؤمنات في المدينة ومكة يلهجن بالدعاء ويسألن الله عز وجل إنجاز وعده ، فنزل قوله تعالى في آية السياق [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
ومن الإعجاز في المقام أن المؤمنات شاركن في القتال بخلاف المشركات اللائي هرولن في بدايات المعركة لركوب الإبل والعودة إلى مكة ، إذ قاتلت أم عمارة دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصيبت بالجراحات فكانت حجة على المؤمنين الذين تركوا مواضعهم , وإنسحبوا إلى الجبل .
وهل قتال أم عمارة من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية إرادة الأمور العامة للمسلمين وليس القضايا الشخصية.
الجواب هو الأول فمن وجوه تفضيل المسلمين أن المؤمنات يذبن دون رسول الله ، ويدفعن الرجال عنه وسط المعركة , وهو من معاني قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] بأن يرى الذين كفروا بالله ورسوله والتنزيل بأم أعينهم أن النساء بلغ بهن الإيمان أن ينزلن إلى ساحة المعركة ، وملاقاه صناديد العرب .
فتناقل الركبان خبر قتال النسوة دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصاب الذين كفروا بالرعب ، وتميل النفوس إلى الهدى والإيمان ويدرك النساء من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن سراً عظيماً ، وإعجازاً جلياً ظاهراً يقود الرجال والناس إلى الصبر والجهاد والتقيد بالفرائض العبادية ، وهو من أسرار قوله تعالى [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] ( ).
لتتجلى منافع هذا النفع بالتصديق بالمعجزات وتضاؤل وإنحسار مفاهيم الشرك , والسرعة في تناقص أهله.
ومن خصائص الإنسان في الغالب أنه يولي ما فقده وخسره عناية وهماً أكثر مما عنده من النعم وما ناله من المكاسب ، وأحرزه من الفوائد ، فيقع في الخطأ والزلل وأسباب الجحود ، وإن قلت من الناس من تكون حياته كلها مصائب.
والجواب ليس من مصداق لهذا القول لأن الله عز وجل جعل الدنيا دار الرحمة والفضل منه تعالى فلابد أن تنكشف المصيبة وتزول أسباب الحزن على ما مضى أو الخوف مما يأتي ، وفاز المسلمون بالنصيب الأوفر في صرف أسباب الوقاية من الحزن والخوف بذكر الله وحسن التوكل عليه، والتسليم بقضائه , وتأتي المصيبة على نحو عرضي , قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ) .
ومن سبل التوقي من المصيبة آية البحث والسياق , ودعوة كل واحدة منها المسلمين إلى التحلي بالصبر والتقوى.
وفي كل من الآيتين تنمية ملكة الإنتفاع الأمثل من فضل الله وإحسانه في ميدان القتال ، ولزوم تعاهد النعمة بالتقيد والتمسك بها وعدم التفريط بها فالأصل هو إستدامة الحس وإزاحة الذين كفروا عن مواضعهم وقد جعل الله عز وجل الله معركة بدر فرقاناً وفيصلاً، قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
وصحيح أن الآية أعلاه نزلت بخصوص معركة بدر إلا أنها أشارت إلى موضوعية إلتقاء الجمعين أي جيش المسلمين وجيش الكفار لبيان أن كل معركة من معارك المسلمين فرقان وفيصل , ومنها معركة أحد التي تترشح عنها أمور منها :
الأول : بعث اليأس والقنوط في قلوب الذين كفروا من قهر الإسلام والمسلمين.
الثاني : زيادة عدد المسلمين، ورسوخ الإيمان في نفوسهم.
الثالث : النقص في عدد المنافقين وأذاهم.
الرابع : إقرار القبائل العربية وغيرها بأن المسلمين صاروا أعزة في حال الحرب والسلم، وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام وإزاحة لأسباب الخوف عن نفوسهم من الكفار.
وجاءت معركة بدر مباغتة للناس ، وقد يعتذر كفار قريش بأنهم لم يكونوا مستعدين للمعركة , فقد أرسل لهم أبو سفيان بأن العير والقافلة التي جاءت من الشام عرضة لإستيلاء المسلمين عليها ، فهبت قريش دفعة واحدة ، فكان فيها خسارتهم وخزيهم .
وهل الخزي الذي لحق كفار قريش يوم بدر من مصاديق قوله تعالى[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو ما كان بعد إنشاء المسلمين للمساجد .
الجواب هو الأول، خاصة وأن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة عند المسجد الحرام.
بينما تتصف معركة أحد من طرف المشركين بأمور :
أولاً : إستعداد وتهيئ قريش للمعركة نحو أحد عشر شهراً .
ثانياً : خروج رجالات قريش إلى القرى حول مكة لتحريض الناس لنصرتهم .
ثالثاً : تعهد كبار كفار قريش بإعانة عوائل الذين قد يقتلون في المعركة.
رابعاً : تأليف القصائد وإنشاء الشعر والزجر مدة التجهز للمعركة لبعث الحماسة في نفوس المشركين لقتال المسلمين .
خامساً : تهيئة السلاح والعدة والمؤون ، لذا سار كفار قريش إلى معركة أحد ومعهم مائتا فرس تقاد قوداً، ولم يركب عليها أحد لتكون جاهزة في ساحة المعركة .
ويفيد الجمع بين الآيتين حقيقة وهي عدم وجود فترة ومدة بين قتل ودفع المسلمين الذين كفروا عن مواقعهم في الميدان ، وبين صيرورة الريح للذين كفروا وتغير الحال وإنتقال المسلمين إلى حال الهزيمة والإنكسار ، وإذا كان حس المسلمين للذين كفروا بإذن الله فهل صعودهم وهزيمتهم بإذن الله .
وهل يصح تقدير آية البحث : إذ تصعدون بإذن الله , الجواب نعم، ولا خلاف بأن الأفعال تجري بإذن الله , ولكن المقصود منه في آية السياق هو الفضل الإلهي , وحصول الغلبة للمسلمين ليكون المقصود إذن الله في آية السياق أمور :
الأول : المشيئة الإلهية .
الثاني : فضل الله .
الثالث : المدد والعون الإلهي .
الرابع : جعل سير الأحداث ووقائع المعركة تأسيساً لبناء صرح الإسلام, وأداء الفرائض والسنن.
الخامس : بيان حقيقة تأريخية وهي ما كانت غلبة المسلمين في بداية معركة احد إلا بعون وفضل الله مما يدل على أن الذين كفروا من قريش جاءوا بخطط وفنون في القتال يشق على المسلمين الصبر أزاءها ، ومنها مرابطة كتيبتين خلف جيش المسلمين بانتظار فرصة للإنقضاض عليهم ، وهو الذي حصل فعلاً , ليكون وبالاً على الذين كفروا بنزول آية البحث والسياق في إصلاح المسلمين للصبر والجهاد , ونزول فضل الله عليهم بالعفو الذي يدل بالدلالة التضمنية على ترتب الثواب للمؤمنين على القتال يوم معركة أحد .
السادس : إذن الله عز وجل يوم أحد فوق حساب وتدبير الذين كفروا، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الوجه الثاني : دعوة المسلمين لتنمية ملكة الشكر لله وملكة الصبر عندهم , وفي هذا الجمع مسائل :
الأولى : إنه من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثانية : زيادة قوة شوكة ومنعة المسلمين .
الثالثة : بعث الفزع في نفوس الذين كفروا، ليكون تقدير الآية قبل السابقة : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بشكر المسلمين لله وحسن صبرهم .
الرابعة : تذكير الذين كفروا بقبح الشرك والإصرار على الجحود، وجلب الويلات لهم.
الخامسة : قيام المسلمين بالشكر لله على نعمة التمكن من الذين كفروا مدد وعون للصبر في حال الإنكسار والوهن , وكذا فان تحلي المسلمين بالصبر في حال الضراء والشدة والتراجع في المعركة مناسبة وسبيل لشكرهم لله عز وجل على النعم وهناك مسألتان :
الأولى : هل الصبر من مصاديق الشكر لله عز وجل .
الثانية : هل الشكر لله من مصاديق الصبر , ويكون من معاني قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( )، إستعينوا بالشكر لله وإقامة الصلاة .
الجواب نعم ، تصح المسألتان ليكون من الإعجاز في سنن القرآن أن النسبة بين الصبر والشكر لله عموم وخصوص مطلق من الطرفين , فيمكن أن يكون كل فرد منهما هو الأعم .
السادسة : يتخذ المسلمون سلاحاً في المعركة يتعذر على الذين كفروا محاكاتهم فيه ، وهو من وجوه :
أولاً : سلاح الشكر لله .
ثانياً : سلاح الصبر .
ثالثاً : سلاح إجتماع الشكر لله والصبر ، وترشح منافع كل فرد منها على الآخر ، قال تعالى [وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
الثالث : على فرض الجمع بين الآيتين فان الواو في [وَالرَّسُولُ] للإستئناف لبيان الفاصل الزماني والموضوعي بين الأمرين ، وهل يصح أن الرسول يدعو المسلمين في تقدمهم وهجومهم في بداية المعركة ، الجواب نعم ، فانه يدعوهم من وجوه :
أولاً : يدعوهم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى طاعة الله عز وجل , ولبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمة الحرب ذاته دعوة وإثارة للحماسة في نفوس المسلمين والمسلمات.
وعن معاذ بن حبل [عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الغزو غزوان فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الامام وأنفق الكريمة واجتنب الفساد فإن نومه ونبهته أجر كله، وأما من غزا رياء وسمعة وعصى الامام وأفسد في الارض فإنه لا يرجع بالكفاف] ( ).
ثانياً : يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طاعته، والتقيد بأوامره في المعركة ، ومنها قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
وفي الآية أعلاه شاهد بأن مواضع الرماة كانت للقتال , ويجب عليهم القتال فيها من جهات :
الأولى : البقاء في ذات الموضع وعدم تركه حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ويدعوهم إلى النزول .
الثانية : مزاولة الرمي من على جبل أحد قبالة المشركين الذين يتربصون بهم .
الثالثة : القتال بالسيف عند صعود المشركين لهم أو عند نزولهم إلى الميدان .
ومن الأسرار في الآية أعلاه أن موضع الرماة ليس للمرابطة بل للقتال ، وكأن الآية تخبر بأن جميع المؤمنين سيقاتلون ويزاولون القتال في مواضعهم.
ثالثاً : يدعو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته وأصحابه لإستمرار الزحف والتقدم والإيغال في صفوف جيش المشركين وتفريقهم .
رابعاً : يدعو الرسول الرماة في كل آن من المعركة إلى عدم ترك مواضعهم التي جعلهم فيها .
الرابع : بيان المدد للمسلمين باجتماع أمرين :
الأول : إذن الله بقتل الذين كفروا .
الثاني : دعوة الرسول للمؤمنين .
الخامس : يفيد الجمع بين الآيتين حضور فضل الله، وأسباب النصر للمؤمنين في حال الهجوم وفي حال الإنكسار ، فعندما يهجم المسلمون يأذن الله عز وجل لهم بقتل الذين كفروا ، وعندما ينكسر المسلمون تجذبهم دعوة الرسول إلى ميدان المعركة .
السادس : بيان المدد العقلي والحسي للمسلمين ، فأذن الله لهم لقهر الذين كفروا أمر عقلي أخبرت آية السياق عنه وتجلى مصداقه الواقعي بشواهد تفوق الحساب والقدرات الشخصية للجماعة والإفراد ، أما دعوة الرسول فهي معجزة حسية للنبي محمد صلى عليه وآله وسلم تصاحب المسلمين في قتالهم , ووسيلة للتدارك والإنجذاب إلى ميدان المعركة .
الثاني : الأصل هو ترشح الغبطة والسعادة عل المؤمنين لنصرهم وحسهم الذين كفروا في بداية المعركة ، وكما أخبرت عنة آية السياق ، ولكن آية البحث أخبرت عن إبتلاء المسلمين بالغم ، وهذا الغم من عند الله لبيان حقيقة وهي أنه نعمة ورحمة وفضل من عند الله عز وجل .
ولم يأت الغم للمؤمنين وهم في حال نصر وظفر وغلبة بل جاءهم وهم في حال فشل وجبن وتنازع في الأمر .
الثالث : لقد بينت الآية قبل السابقة قانوناً وهو إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، أما هذه الآية فذكرت زيارة الغم إلى قلوب المؤمنين وبصيغة الإثابة , مما يدل على التباين في الجزاء بين المؤمنين والذين كفروا ، وأن الغم ليس عقوبة بل هو رحمة ومادة للتخفيف عن المؤمنين .
الرابع : لقد إبتدأت معركة أحد بنصر المؤمنين نصراً مبيناً وسريعاً , وهو معجزة مستقلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فحينما تذكر معجزاته الحسية يجب تدوين معجزة قائمة بذاتها وهي نصر المسلمين في بداية معركة أحد بآية من عند عز وجل .
فان قلت قد إنقطعت أيام النبوة فهل إنقطعت معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا ، من جهات :
الأولى : ترشح معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن آيات القرآن .
الثانية : إستقراء معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السنة القولية والفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تجدد الوقائع والأحداث التي تتضمن معنى المعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : إقتداء المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته وسيرته .
الخامسة : إستنباط مسائل الإعجاز، ودلائل النبوة من مضامين آيات القرآن بما يفيد التسليم بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قسمنا السنة النبوية إلى أقسام وهي :
الأول : السنة القولية .
الثاني : السنة الفعلية .
الثالث : السنة التقريرية .
الرابع : السنة الدفاعية وأقسامها( ).
وهذا التقسيم إستقرائي مستحدث ، وهو عون على إستنتاج الدروس والمواعظ من السنة النبوية , وتجلي ضروب الإعجاز فيها .
مقارنة بين معركة بدر وأحد
تتجلى بالدراسة المقارنة بين معركة بدر ومعركة أحد معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : لقد خرج النبي ص وأصحابه في كتيبة , وكانت قافلة أبي سفيان قادمة من الشام ومعها ثلاثون أو أربعون من رجالات قريش، والمختار أنهم لم يطلبوها وسيأتي التفصيل والإستدلال في الجزء السادس والعشرين بعد المائتين من هذا السفر المبارك
لقد خفّ بعض المسلمين , ولم يحمل سلاحاً ودرعاً وواقية بينما عزم المسلمون على الخروج إلى معركة أحد للدفاع والقتال وهم لا زالوا في المدينة كما يدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) وفي هذا التباين أمور منها :
أولاً : قاعدة نفي الجهالة والغرر في الطريق إلى أحد .
ثانياً : لزوم تهيئ المسلمين لمعركة أحد بالنفوس والسلاح والحيطة والتفاني .
ثالثاً : إنخزام وإنسحاب المنافقين وسط الطريق إلى معركة أحد لليقين بوقوع القتال ولإرادة خذلان المؤمنين في ساعة الشدة .
الثانية : ترددت قريش بالقتال , وصدرت دعوات بينهم بإجتنابه بعد ورود سلامة قافلة أبي سفيان وإجتيازها في الطريق إلى مكة , أما في معركة أحد فقد جاءت قريش بخيلها وخيلائها للقتال والعدوان .
الثالثة : إبتدأت معركة بدر بالمبارزة الفردية , وأختتمت بهجوم المسلمين هجمة رجل واحد ، أما في معركة أحد فقد إبتدأت بالمبارزة الشخصية.
ومن الآيات أن أول مبارز من المسلمين في كلا المعركتين وكذا في معركة الخندق هو الأمام علي بن أبي طالب عليه السلام مع تغير الطرف الآخر لأن الذي يبارزه من الكفار في معركة يكون مصيره القتل وزهوق الروح ، وهل هذه الحقيقة من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( )بلحاظ أن المقاتل من طرف المسلمين نفسه في كل معركة وأن التغيير والقطع يحصل في طرف المشركين في كل معركة، الجواب نعم .
الرابعة : بين معركة بدر ومعركة أحد عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء نصر وغلبة المسلمين في بداية كل من المعركتين , وإستمر هذا النصر في معركة بدر حتى نهاية المعركة ، بينما أصابت المسلمين في معركة أحد نكسة وفشل وتنازع .
الخامسة : لقد نعت القرآن الظفر يوم بدر بأنه نصر من عند الله بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) والذي يتغشى المعركة إبتداء وإستدامة وإنتهاء, أما في معركة أحد فقد وصف القرآن ظفر المسلمين فيها بأنه حس بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
السادسة :معركة بدر هي أول معارك الإسلام ، وتعلق على النصر فيها عز الإسلام ، وجذب الناس إلى الهدى والإيمان , وسلامة قلوب المؤمنين من اليأس والقنوط ، فتفضل الله عز وجل بالنصر والغلبة التامة للمسلمين.
أما معركة أحد فقد وقعت والإسلام في عز ورفعة مع كثرة عدد المسلمين , وإنبساط دار حكمه في المدينة .
السابعة : عدد جيش المسلمين في معركة أحد أكثر من ضعفي يوم بدر ، مع أن المدة بينهما نحو أحد عشر شهراً .
وكثرة ونسبة التصاعد في عدد المسلمين في كل معركة لاحقة عن السابقة شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقبال الناس على الإسلام ، فان قل وكذا الحال بالنسبة لجيش المشركين فانه في يتضاعف في معركة ، ففي معركة بدر كان عددهم نحو ألف، وفي معركة أحد ثلاثة آلاف.
وفي معركة الخندق عشرة آلاف , لذا ولتعدد قبائلهم سماهم الله الأحزاب بقوله تعالى[وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( ).
والجواب إنه قياس مع الفارق إذ أن المشركين يأتون بمن جبلوا على الكفر وتلقوه تركة، أما المسلمون فانهم يدخلون الإسلام حديثاً، فيخرجون للقتال , وليس ثمة فترة بين الدخول والقتال في سبيل الله، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثامنة : في معركة بدر خرج المسلمون كتيبة استطلاع ، أما في معركة أحد فقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون للدفاع والقتال وإرادة سلامة بيضة الإسلام .
التاسعة : رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من معركة بدر سالماً ليس فيه جراحات ، أما في معركة أحد فقد أصيب بالجراحات والكلوم من وجوه :
أولاً : كسر الأسنان الأمامية السفلى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : جرح شفته السفلى .
ثالثاً : شج وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : كسر أنف النبي .
خامساً : جرح وجنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والوجنة صفحة الخد وما ارتفع منه , فشق على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أصابه من الأذى والجراحات , وإصرار كفار قريش على القتال فقال أصحابه.
(لو دعوت عليهم فقال انى لم أبعث لعانا ولكني بعثت داعيا ورحمة اللهم إهد قومي فانهم لا يعلمون) ( ).
العاشرة : رجع المسلمون يوم بدر , ومعهم سبعون أسيراً , ولم يعودوا بالأسرى يوم أحد ، ولو كان عندهم أسرى لربما إنقض عليهم المشركون وأبوا الرجوع إلى مكة إلا ومعهم الذين أسروا منهم , فتفضل الله عز وجل بسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، وعدم وقوع أعداد من المسلمين أسرى بيد المشركين ، وهو نصر للمسلمين وشاهد بأن الذين كفروا لم ينتصروا في معركة أحد .
الحادية عشرة : أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق من معركة بدر بشيرين إلى المدينة يخبران أهلها بالنصر المبين مع بعد المسافة بين موضوع بدر والمدينة ، أما في معركة أحد فكان الناس رجالاً ونساءً يتطلعون إلى عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً ودحض إشاعة قتله التي وصلت إلى أطراف المدينة .
الثانية عشرة : كثرة قتلى المسلمين في معركة أحد ، إذ سقط سبعون شهيداً , وقد تقدمت ترجمة كل واحد منهم( ) أما شهداء معركة بدر فهم:
الأول : عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف.
بارز عبيدة عتبة بن ربيعة فقطع عتبة رجله فمات بالصفراء ، أما عتبة فقتل في نفس الساعة , وفي هذا التباين عز للمؤمنين وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ الله ببدر ]( ).
الثاني : عمير بن أبي وقاص ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد إستصغره يوم بدر ، فرده عن الخروج , ولكنه بكى فأذن له ليخلده بكاؤه ساعتئذ في صفحات الإيمان والشهادة , ويذكره المسلمون بالثناء ، وهو مستقر في النعيم، قال تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( )، وكان عمره ست عشرة سنة ، قتله العاص بن سعيد.
الثالث : ذو الشمالين عبد عمرو بن فضلة ، إنما سمي ذا الشمالين لأنه أعسر، وقيل لطول إحدى يديه أو طولهما معاً.
الرابع : عامر بن البكير .
الخامس : مهجع مولى عمر بن الخطاب .
السادس : صفوان بن بيضاء ، وهؤلاء من المهاجرين .
والشهداء من الأنصار.
السابع : سعد بن خيثمة .
الثامن : مبشر بن عبد المنذر بن دينار .
التاسع : يزيد بن الحارث الخزرجي , ويقال له فسحم .
العاشر : عمير بن الحمام .
الحادي عشر : رافع بن المعلى( ) .
الثاني عشر :حارثة بن سراق بن الحارثة.
وهو أول قتيل من المسلمين قتل غيلة إذ كان يشرب الماء في الحوض كرعاً ، فجاءه السهم فوقع في نحره , فأخزى الله عز وجل كفار قريش بالقتل والهزيمة والذل والأسر.
(فبلغ أمه وأخته وهما بالمدينة مقتله، فقالت أمه: والله، لا أبكي عليه حتى يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسأله، فأن كان ابني في الجنة لم أبك عليه، وإن كان ابني في النار بكيته لعمر الله فأعولته.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بدر جاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
فقالت: يا رسول الله، قد عرفت موقع حارثة من قلبي، فأردت أن أبكي عليه فقلت: لا أفعل حتى أسأل رسول الله، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإن كان في النار بكيته فأعولته.
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: هبلت، أجنةٌ واحدة؟ إنها جنان كثيرة، والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى.
قالت: فلا أبكي عليه أبداً.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإناءٍ من ماءٍ فغمس يده فيه ومضمض فاه، ثم ناول أم حارثة فشربت، ثم ناولت ابنتها فشربت، ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما، ففعلتا.
فرجعتا من عند النبي صلى الله عليه وسلّم، وما بالمدينة امرأتان أقر أعيناً منهما ولا أسر) ( ).
الثالث والرابع عشر : عوف ومعوذ إبنا الحارث بن سواد .
ويكون عدد الشهداء من الأنصار ثمانية ، ومجموع الشهداء هم أربعة عشر شهيد.
وقد خفف عن مصيبة الشهداء في معركة بدر النصر الحاسم للمسلمين وجلب سبعين أسيراً وغنائم من المشركين مع قتل سبعين من أبطالهم , أما في معركة أحد فقد كثر عدد قتلى المسلمين ، وتعرضوا للفشل والإنكسار ، وحصل التنازع بينهم , ولم يأتوا بالأسرى معهم إلى المدينة ، ومع هذا فقد كانت معركة أحد نصراً للمسلمين أيضاً , ولكن بمرتبة أدنى من معركة بدر ، وهي مناسبة لإقتباس الدروس والمواعظ , وهو الذي يتجلى في آية البحث والسياق.
وتبين واقعة أحد حقيقة مغايرة لقواعد القتال وحال المتحاربين في الميدان.
أن فئة المسلمين هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخاتم النبيين ، وليس من فئة قبله أو بعده مثله , بلحاظ شخصه الكريم , وأنه كان متقدماً الصفوف , بينما تكون الفئة متأخرة وفي الخطوط الخلفية , لتكون فئته من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
إنها فئة حدثت مرة في التأريخ , ولم تحدث من قبل ولا من بعد نعم تفضل الله عز وجل وجعل آية البحث وقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] فئة وإمامة لكل المسلمين وإلى يوم القيامة يفتخرون بها ويستدلون بها على المدد الخاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حاله ونفسه وصبره وجهاده ، وفي خطاب موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( ).
ليكون بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل في ميدان معركة أحد لبنة في بناء صرح الإسلام ، ويكون صبره في المعركة من الوحي ومن رشحات هذا الوحي وهو بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجراحات والكلوم وسط المعركة .
الثاني : سماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإشاعة قتله ، وهو في الميدان وصبره عليها وعلى المقاصد الخبيثة منها .
الثالث : سقوط شهداء من أهل البيت والصحابة بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن حوله.
الرابع : إقتراب أفراد العدو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورميهم له بالسهام والنبال والحجارة، وسيلان الدم من رأسه ووجهه الشريف .
الخامس : قيام بعض المؤمنات بالدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو أمر يؤذيه , ولكنه تحمله بصبر وكان يحث أم عمارة على الرمي والدفاع .
السادس : رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأكثر أصحابه وهم يفرون أمام العدو الظالم الذي جاء للثأر والبطش والفتك ، ليكون فرار صحابة النبي حجة على الذين كفروا ، وسبباً لنزول النعمة من عند الله عز وجل بهم ، ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
أولاً : والرسول يدعوكم في أخراكم بأن الملائكة نزلت لنصرتكم ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
ثانياً : والرسول يدعوكم في أخراكم ، وهذه الدعوة من خصائص الرسالة والنبوة .
ثالثاً : والرسول يدعوكم في أخراكم , ويذكركم بما أكرمكم به من إلقاء الفزع في قلوب أعدائكم .
رابعاً : والرسول يدعوكم في أخراكم لقطع الفشل والجبن والتنازع .
خامساً : والرسول يدعوكم في أخراكم بأن لا تخلوا بينه وبين العدو ، فمن صفات المؤمنين نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع والذب عنه .
سادساً : والرسول يدعوكم في أخراكم من فرّ وصعد في الأرض عليه أن يرجع إلى ميدان المعركة .
سابعاً : حتى إذا فشلتم إذ تصعدون والرسول يدعوكم في أخراكم لدفع الفشل وترك الفرار والصعود .
لقد كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوحيد وعبادة الله ونبذ الشرك , وفي التنزيل [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي] ( ) .
وتتقوم دعوة الرسول بأطراف :
الأول : قيام الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة والنداء .
الثاني : ذات الدعوة .
الثالث : موضوع الدعوة .
الرابع : المؤمنون الذين تتوجه إليهم الدعوة .
وتقدم موضوع الفشل والجبن بقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] وجاء في الآية السابقة وهي آية السياق، وورد قوله تعالى بعدها ومتعقباً لها في آية البحث ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : حصول الفشل والجبن قبل الصعود والفرار الذي ظهر على فريق من المؤمنين .
الثاني : الإقتران بين الفشل والصعود .
الثالث : تقدم الصعود والفرار على حال الفشل الذي أصاب الذين آمنوا .
الرابع : التباين الزماني بين الفشل والصعود ، وهو على شعبتين :
الأولى : حصول الفشل وإنقضائه ثم حصل الفرار .
الثانية : وقوع الفرار من المؤمنين أولاً ثم حصل الفشل والجبن .
الخامس : التباين الموضوعي بين الفشل والفرار .
والصحيح هو الأول ليكون الفشل والجبن مقدمة للفرار والصعود في الأرض وعلى الجبل .
ثامناً : والرسول يدعوكم في أخراكم إلى الجنة والمغفرة بالخروج إلى معركة أحد ، ليفوز المهاجرون والأنصار بنعمة عظمى وهي إحراز الثواب الأخروي بالخروج للجهاد ضد كفار قريش، ليفيد قوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ]بيان حقيقة وهي أن الصحابة وإن أعرضوا وفروا فان النبي يتبعهم في أخراهم يدعوهم إلى الجنة، ويحثهم على عدم التفريط بالسبيل إليها بملاقاة الذين كفروا .
وقد يسر الله لهم هذه الطريق المبارك بأن بعث في قلوب الذين كفروا الرعب والفزع لبيان أن الرعب الذي يقذفه الله في قلوب الذين كفروا أذى لهم في ذاته، وهو مقدمة لمصاديق متعددة من الأذى والضرر الذي يلحقهم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا يجتمعان في النار مسلم قتل كافرا ثم سدد وقارب , ولا يجتمع في جوف مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم، ولا يجتمعان في قلب عبد الايمان والحسد) ( ).
تاسعاً : والرسول يدعوكم إلى الصراط القويم، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
عاشراً : والرسول يدعوكم في أخراكم إلى إقامة الصلاة وأداء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج بيت الله .
الوجه الثالث : الجمع بين الآيتين من الشواهد على قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، بلحاظ قانون وهو حتى إذا تعدد الخطأ من المؤمنين في موضع وموضوع واحد فإن الله عز وجل ينجيهم ويدفع عنهم ويصلح حالهم، وهو من مصاديق قوله تعالى قبل ثلاث آيات [وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ]( )، وبيان بأن ولاية الله للمسلمين في ساعة الضيق والخطأ سبب لنصرهم وغلبتهم على العدو، وفيه بعث لليأس والفزع في قلوب الذين كفروا بأن لا يفرحوا بما ينالونه من المؤمنين وما يحدثونه من أبواب الأذى ، فإن الله عز وجل يكشف عن المسلمين ويفتح لهم أبواب الظفر والفتح ، وهو من الدلائل بأن آية البحث والسياق ليستا للذم والتوبيخ.
ومن الغايات الحميدة إخبار هذه الآيات عما صدر من المسلمين من الخطأ ، وما تعرضوا له من الأذى من وجوه :
الأول : البيان والإخبار عن حقائق تأريخية في بناء صرح الإسلام، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : تحدي الذين كفروا ، وأن المسلمين قادرون وفي حال السراء أو الضراء على قهرهم.
الثالث : لما أخبرت الآية قبل السابقة عن بعث الرعب والخوف في قلوب الذين كفروا [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، جاءت آية السياق والبحث متعقبتين لها لبيان مصاديق متعددة منها:
الأولى : ذات الإخبار عن إلقاء الرعب سبب وموضوع لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا.
الثانية : قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] إنذار وإشعار بالقطع بالقاء الرعب في قلوبهم، وهو من الأسرار بمجيء الآية بصيغة الإستقبال , وتقدير الآية على وجوه:
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بنزول آية (سنلقي).
الثاني : من الذخائر العقائدية في تلاوة المسلمين والمسلمات لآيات القرآن في كل ركعة من ركعات الصلوات اليومية الخمسة الواجبة على كل فرد منهم إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بتلاوة هذه الآية وغيرها، إذ يأتي الوعيد للذين كفروا على لسان المسلمين والمسلمات في الليل والنهار.
وهو من مصاديق ما ورد في حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أعطيت خمسا لم يعطها نبي قبلي :
بعثت إلى الأحمر والأسود ، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه .
ونصرت بالرعب مسيرة شهر .
وأطعمت المغنم ، ولم يطعمه أحد كان قبلي .
وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا .
وليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة فتعجلها ، وإني أخرت دعوتي شفاعة لأمتي ، وهي بالغة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا)( ).
لتكون بقاع الأرض كلها محلاً لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بتلاوة المسلمين فيها لآية البحث والسياق.
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بنزول آية إلقاء الرعب هذه , وكان المنافقون الذين أظهروا الإنتماء للإسلام وأبطنوا الكفر يخشون نزول آية تذمهم وتفضحهم، فجاءت هذه الآية بأذى متعدد لهم يتضمن إصابتهم بالخوف والفزع مع صيرورته موضوعاً لذمهم، وسبباً لإبتلائهم وأذاهم .
الرابع : يا أيها الناس سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب وفيه وجوه:
أولاً : دعوة الناس للنفرة من الكفر والضلالة.
ثانياً : إجتناب إعانة الذين كفروا.
ثالثاً : حث الناس لمعرفة مصاديق الرعب والفزع التي تظهر على الذين كفروا، ليكون من إعجاز آية إلقاء الرعب، منع زيادة عدد وقوة الذين كفروا، وقطع المدد عنهم، وهو سبب لإلقاء الرعب في قلوبهم.
ويكون تقدير الآية على وجوه:
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ببغض الناس للكفر، ويأتي هذا البغض من وجوه:
أولاً: فضل الله في جعل الناس مجبولين على النفرة من الكفر والصدود، وهو من أسرار نفخ الروح في آدم من عند الله عز وجل لتبقى الروح والجسد متعلقين بالذات المقدسة والإنقياد لأوامر الله.
ثانياً : إشراقة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على القلوب، تنير مسالك الهداية وتجذب معجزاته الناس إلى الإيمان، وتبعدهم عن الكفر ومفاهيمه لإستحالة إجتماع الضدين، قال تعالى[يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
ثالثاً : بغض الناس للذين يستحوذ الرعب على قلوبهم، ويظهر على أفعالهم.
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بترك الناس للكفر، وبدخولهم الإسلام.
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لصيرورتهم قلة ضعفاء.
الرابع : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بإلقاء الرعب في قلوبهم) فعندما يغزو الرعب قلوب الذين كفروا دفعة أو تدريجياً يصيبهم الفزع والرعب من أمور:
أولاً : دخول الرعب إلى قلوب الذين كفروا، وهل تسبب الرعب بحصول رعب إضافي من تحصيل ما هو حاصل , الجواب لا، للتباين بين افراد الرعب الأصلية والإضافية.
ثانياً : إستحواذ الرعب على أقوال وأفعال الذين كفروا.
ثالثاً : عجز الذين كفروا عن إخراج الرعب من قلوبهم كلاً أو جزءً، وهو من أسرار قيام الله عز وجل نفسه يإلقاء الرعب.
الثالثة : من مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إخبار الآية بأن علته إشراكهم بالله، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الرعب ملازم للشرك.
الصغرى : الذين كفروا مشركون.
النتيجة : الرعب ملازم للذين كفروا.
وهل يدرك الذين كفروا هذه الملازمة، الجواب نعم، وجاءت آية إلقاء الرعب لتأكيد هذا القانون، وتذكيرهم والناس جميعاً به وبموضوعيته في إصلاح النفوس , لذا تستحب تلاوة القرآن لأن فيها تنقية للأسماع وإزاحة للشرك من النفوس , قال تعالى[لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ]( ).
لبيان التدبر وخشوع القلوب عند سماع آيات القرآن من باب الأولوية القطعية.
فان قلت هناك تباين بين نزول القرآن وبين سماعه، والجواب إن التفاوت بين السماع والتنزيل أدنى وأقل من التفاوت بين الإنسان العاقل وبين الجماد , ثم أن لفظ التنزيل جاء خطاباً للمسلمين بقوله تعالى[اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ]( ).
الرابعة : تتضمن آية (سنلقي) الإحتجاج المتعدد على الذين أشركوا بما يفضح مغالطتهم، ويفند جدالهم، من وجوه:
الأول : قدرة الله عز وجل على إلقاء الرعب في قلوبهم على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، وإذ كان الذين كفروا على مراتب وتابع ومتبوع، فإن الرعب يأتيهم وقلوبهم من غير أن يستطيع المتبوع والرئيس حجبه عن نفسه أو عن أتباعه، وفي ذم المنافقين ورد قوله تعالى[قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]( ).
فهل الرعب الذي يهجم على قلوب الكفار كالموت في الآية أعلاه.
الجواب بينها عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء أن كلاً من الموت والرعب من أمر الله عز وجل , وليس له راد ، أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
أولاً : الموت أجل وإنتقال من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ، بينما الرعب كيفية نفسانية وفزع يملأ القلب ويستولي على الجوانح.
ثانياً: حتمية طرو الموت على الإنسان مطلقاً براً كان أو فاجراً، مؤمناً أو كافراً ، وليس من إستثناء في الناس بخصوص الموت، وموضوع آية البحث هو واقعة أحد، وفيها نزل قوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، بلحاظ أن القتل صار قريباً منه لولا فضل الله عليه وعلى المسلمين والناس جميعاً إلى يوم القيامة ، أي أن نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم أحد رحمة بالأجيال المتعاقبة من الناس , لذا كان إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا حاجة للناس , فيكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب جزاء وعقاباً عاجلاً على كفرهم وجحودهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليرى الناس معجزة حسية وعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : سنلقي في قلوب الذين كفروا رجالاً ونساءً الرعب ، من غير إستثناء منهم , لأن المدار على إختيارهم الشرك والضلالة ولتقوم النساء منهم بمنع الرجال من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليتعظ الناس .
السادس : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليتوبوا إلى الله لأن التوبة قارب نجاة، وسبيل قريب ومبارك للخلاص، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا]( ).
السابع : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليجتنب أبناؤهم محاكاة الآباء في الكفر وإختيار الشرك .
الثامن : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليكون واقية من العتو وإشاعة الفساد والقتل بغير حق ، ومن مصاديقه هجوم الذين كفروا في معركة أحد ، والتجاهر والإعلان عن عزمهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولم يكتف ولم يتعظ كفار قريش من حصارهم لأهل البيت بشعب أبي طالب , إذ تعاقدت قريش على بني هاشم وبني عبد المطلب حاش أبا لهب وولده بأمور :
أولاً : عدم مناكحتهم ، فلا تتزوج قريش منهم , ولا يزوجونهم .
ثانياً : عدم مجالستهم أو مخالطتهم .
ثالثاً : الإمتناع عن مبايعتهم ، إذ أن البيع يتقوم بأطراف :
الأول : البائع .
الثاني : العين المباعة .
الثالث : المشتري .
الرابع : العوض والثمن .
وإمتنعت قريش عن البيع أو الشراء من بني هاشم وبني عبد المطلب .
رابعاً : إجتناب قريش الكلام والحديث مع بني هاشم وبني عبد المطلب.
خامساً : شعب أبي طالب نوع حبس وتضييق وعزل لأهل البيت إذ رأت قريش إقبال القبائل على الإسلام ودخول الأبناء من أهل مكة عامة في الإسلام، وهجرة طائفة من المسلمين إلى الحبشة وإستقبالهم هناك ، وإحرازهم الأمن والسلامة في الدين وأغاظ قريشاً بقاؤهم على الإسلام وسط بلد للنصارى إذ يدل هذا البقاء على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وثبات مبادئ الإسلام في نفوسهم .
وبدأ الحصار بوثيقة كتبها رجالات قريش ليلة هلال شهر محرم سنة سبع من البعثة , وإستمر الحصار إلى السنة العاشرة .
ويخرج بنو هاشم من الشعب ويدخلون أسواق مكة لشراء قوت لعيالهم الذين يتضورون جوعاً وعطشاً , فيقوم أبو لهب وشبهه ويطلب من التجار مضاعفة الثمن على أهل البيت , ويتعهد لهم بالوفاء ودفع الفارق إن امتنعوا عن الشراء فيرضى التجار ويزيدون قيمة السلعة على بني هاشم أضعافاً مضاعفة فيعجزون عن الشراء ويرجعون إلى الصبية والعيال في الشعب من غير طعام ، ويذهب ذات التجار إلى أبي لهب ليدفع لهم بالثمن والسعر الذي حثهم عليه فلا يفي لهم ولا يشتري منهم .
وكانت التمرة الواحدة تقع بين إثنين من صبيان بني هاشم فيقسمانها ، ويفوز الذي تكون النواة من نصيبه ليلوك بها بقية النهار ، ويأتي حكيم بن حزام بن خويلد ابن أخ خديجة بنت خويلد إلى عمته بقمح يحمله معه غلام له ، فيتعلق به أبو جهل ويمنعه من الذهاب إلى الشعب بالطعام وهو يقول له: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة , أي يفضحه بأنه نقض الوثيقة والحلف الذي تعاقدت عليه قريش.
ويتصدى أبو البحتري لأبي جهل قائلاً له : إنه طعام عمته عنده ، طلبت منه الإتيان به.
بمعنى ليس في الأمر نقض للوثيقة إنما هو مالها وطعامها ، خاصة وأن قريشاً يعلمون بأن حكيماً هذا كان يتاجر بمال عمته خديجة ، وكانت ترسله للأسواق للشراء والبيع , فضرب أبو البحتري أبا جهل بلحي بعير فشج رأسه لتبدأ المناجاة بين رجالات قريش لنقض الوثيقة .
وهل هذا الحصار من الرعب الذي قذفه الله في قلوب الذين كفروا أم أن القدر المتيقن من آية البحث هو إلقاء الرعب في قلوبهم يوم معركة أحد بلحاظ مسألتين .
الأولى : نزول آية (سنلقي) أبان معركة أحد .
الثانية : مجي الآية بصيغة المضارع (سنلقي).
والجواب هو الأول ، وأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فان إخبار آية البحث عن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بصيغة الإستقبال لا يعني خلو قلوبهم منه قبلها بدليل ذكر الآية لعلة إلقاء الرعب وهو الشرك بالله لذم الذين كفروا قبل آيتين [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ].
التاسع : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لينهزموا في معركة أحد ويمتنعوا عن غزو وإستباحة المدينة خاصة وأن المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحد وقد أنهكتهم الجراحات والكلوم ، وليس هناك من علة لإنسحاب أبي سفيان وجيش قريش من معركة أحد إلا الرعب الذي ملأ قلوبهم .
(ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ اُخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَا يُرِيدُونَ فَإِنْ كَانُوا قَدْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ مَكّةَ ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ فِيهَا ، ثُمّ لَأُنَاجِزَنّهُمْ قَالَ عَلِيّ : فَخَرَجْت فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ فَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ) ( ).
ومع كثرة جراحات علي عليه السلام فقد أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتبع الذين كفروا ورصد جهة سيرهم ليكون هذا الأمر مقدمة لبعثه بتبليغ سورة براءة بقوله تعالى [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] ( ).
العاشر : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ومأواهم النار )وهذا المعنى جمع بين مضامين آية (سنلقي ) ليكون من معانيه مسائل :
الأولى : الرعب الذي يأتي للذين كفروا مقدمة ومرآة لعذاب الآخرة الذي أعده الله للذين كفروا .
الثانية : الرعب في الدنيا عقوبة عاجلة للذين كفروا , ومادة لتذكيرهم بالعذاب الأليم في الآخرة .
الثالثة : يحتمل الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا وجوهاً :
أولاً : إنه سبب لتخفيف العذاب عن الذين كفروا في الآخرة ، بلحاظ أنه عذاب إبتدائي .
ثانياً : كما أن هناك تبايناً بين الدنيا والآخرة , فكذا بالنسبة للرعب فليس من صلة بينه وبين عذاب الذين كفروا في النار .
ثالثاً : الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا سبب لزيادة عذابهم في النار .
رابعاً : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا علة لدخول الذين كفروا النار ، ويكون تقدير الآية : ومأواهم النار لأن الله يلقي الرعب في قلوبهم .
والمختار هو الثالث , ويكون هذا الرعب موضوعاً للحسرة في نفوسهم وسبيلاً للتلاوم والتبرء بينهم يوم القيامة وحجة عليهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ).
ومن الإعجاز في آية السياق [سنلقي ] أن علة التلبس بالكفر ونزول الرعب هو الشرك بالله عز وجل , ليكون ذمه وسوء عاقبته مصاحباً له في قرارة نفوس الذين كفروا وإقامتهم الدائمة في النار.
الحادي عشر : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لعلهم يتوبون ، لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومن دلالات الآية أعلاه فتح باب التوبة ودخول الإسلام للناس جميعاً من غير قيد أو شرط.
ومن مصاديق الرحمة نجاة الناس من الكفر ومن دخول النار ولا يحصي عدد الذين نجوا وينجون من نار ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه ونصرته إلى الله , لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة) ( ).
ولا يتعارض هذا المعنى مع تقدير الآية ( سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب إذ تحسونهم ) وصيرورة الرعب مقدمة لغلبة المسلمين عليهم ، وتمكنهم منهم لتتوجه الدعوة إلى التوبة إلى الذين بقوا من الذين كفروا أحياء بعد المعركة .
الثاني عشر : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب وبئس مثوى الظالمين) لبيان حقيقة من جهات :
الأولى : إختيار الكفر والضلالة ظلم للنفس والغير .
الثانية : تذكير الذين كفروا والناس جميعاً بعالم الآخرة .
الثالثة : بيان قانون وهو أن الآخرة دار الجزاء الدائم فلا موت ولا فناء فيها ، قال تعالى [َّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( ).
الرابعة : بيان التمايز والفصل بين المؤمنين والكفار وسلامة المؤمنين من العذاب لإختيارهم الإيمان .
الخامسة : إختتام آية [سنلقي ] بالمعنى الأعم الشامل للشرك والكفر وركوب المنكرات , والإصرار على المعاصي , إذ أن النسبة بين الظلم والكفر هي العموم والخصوص المطلق , فالظلم أعم ، والكفر ظلم ، وليس كل ظلم كفر.
ليكون من إعجاز القرآن تأديب وتهذيب أقوال وأفعال المسلمين بذم الكافرين ومع أن الآية جاءت بخصوص معركة أحد، وكيف أن الله عز وجل ألقى الرعب في قلوب الذين كفروا , فانها تضمنت أموراً :
الأول : بيان علة إلقاء الرعب , وهو الشرك بالله ليدل بالدلالة التضمنية على قبح الشرك ، وما يجلبه على صاحبه من الضرر والأذى الشديد ، لذا وردت آيات القرآن بالإنذار والوعيد على الشرك ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
الثاني : تمادي الذين كفروا بالغي والضلالة , وإقامة الحجة عليهم بأن الذي يتخذونه شريكاً ونداًَ لله عز وجل لم ينزل به الله سلطاناً ولا حجة أو براهناً لبيان صدق نزول القرآن من عند الله , وأن كل آية منه سيف على الذين برهاناً كفروا ترد أسماعهم عندما يتلوها المسلمون وكأنها تلامس رقابهم بصيغة التخويف والإنذار , وتنفذ سيوف الآيات في إعجازها ودلالاتها إلى شغاف القلوب .
الثالث : تضمن آية السياق [سنلقي ] قانوناً ، وهو أن المدار في الإعتقاد على السلطان والعلم والبرهان الذي ينزله الله , وقد نزلت الكتب السماوية بكلمة التوحيد بأن البرهان الذي ينزل من عند الله هو الملاك والفيصل بين الإيمان والكفر ، وفيه دعوة للناس لإقتباس الدروس والمسائل من التنزيل .
الرابع : دلالة آية [سنلقي ] وآيات القرآن الأخرى على إنتفاء الشريك والند لله عز وجل، وفي التنزيل[إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ]( )، ومنهم من قسم الشرك إلى شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية، وشرك في الأسماء والصفات، وهو تقسيم إستقرائي يحتاج إلى دليل والأصل في الشرك الإعتقاد بوجود متصرف في الكون بالخلق والتدبير ندً وشريك لله عز وجل .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وصف الشرك , قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك( )، ويتجلى في المقام قانون وهو كل من نطق بالشهادتين ليس بمشرك وكذا الذي آمن وقال كلمة التوحيد.
الخامس : إرادة المعنى الأعم من قوله تعالى [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]فلا يختص بالشرك ، بل يتضمن معنى الطاعة والإمتثال للغير , ومنه عبادة الأصنام وإتخاذ العرب لها وسيلة للتقرب إلى الله , ومنه طاعة الطواغيت بالزحف إلى المدينة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون زحفهم هذا من مصاديق قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ من يتخذ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا] ( ).
والأنداد الشركاء والأشباه والأمثال , قال لبيد :
أحمد الله فلا ندّ له بيديه الخير ما شاء فعل ( )
عند إنتهاء معركة بدر
فلم يقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند هذه الكلمة وإدعاء بعض رؤساء الذين كفروا النصر بأحد ولكنه أمر اصحابه بالرد عليه بخصوص نبذ الشرك والضلالة , ولم يدخل مع الذين كفروا في سجال حول من المنتصر ، بل توجه إلى أصحابه وأمرهم : قولوا الله أعلى وأجل ، فقالوها بصوت عال يُسمعون كفار قريش ، وفيه آية في نبوة محمد صلى الله وآله وسلم من جهات :
الأولى : تأكيد حقيقة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى التوحيد ونبذ الشرك .
الثانية : إجابة وإحتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع كثرة جراحاته ، وفقد عمه حمزة وأصحابه التسعة والستين .
الثالثة : في جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأديب لأصحابه ومواساة لهم , وجعل همهّم هو حفظ بيضة الإسلام .
الرابعة : ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بحال العز والمنعة والقوة .
الخامسة :في رد النبي صلى الله وآله وسلم وأصحابه بالدعوة إلى التوحيد ونبذ الكفر والضلالة شاهد على أن الذين كفروا لم ينتصروا في معركة أحد ، فذات الدعوة توجهت لهم في معركة بدر وتتوجه لهم في معركة أحد .
السادسة : بعث اليأس في نفوس ورؤساء الكفر بعصمة المسلمين من الإرتداد , فقد تكبد المسلمون الخسائر في الأرواح والأبدان وكانت النتيجة
هي الحقيقة الدائمة التي لا يحجبها أحد : الله أعلى وأجل .
السابعة : لما قال أبو سفيان (أعل هبل ) رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن العلو لله وحده , وأضاف بأن الجلالة القدسية لله عز وجل ، وكأن قوله تعالى [سَبِّحْ اسم رَبِّكَ الأَعْلَى] ( )رد على قول الذين كفروا بعلو الأصنام .
الثامنة : إشراك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالرد على المشركين رسالة تبين صدق إيمانهم وإمتثالهم لأوامره في طاعة الله.
التاسعة : بيان قانون وهو إستدامة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا أثناء المعركة وبعدها .
ومن مصاديق هذا الرعب أن المشركين رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه لم يقتل ولم يتخلوا عنه .
وشعر رؤساء الكفر بالذل والعجز عن الرد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فقال أبو سفيان : ( لنا عزى ولا عزى لكم ) وفيه إصرار على الكفر ، وإرتباك في المنطق ،والعزى مؤنث الأعز ، مثل الكبرى تأنيث الأكبر مما كان العرب يعبدونه دون الله عز وجل , وكانت قريش يزورونها ويهدون لها، ويتزلفون لها بالذبائح , وفيها وجوه :
الأول : العزى هي شجرات ثلاث متقاربات يقدسها العرب .
الثاني : العزى حجر أبيض، وبه قال سعيد بن جبير .
الثالث : إنه بيت بالطائف تعبده ثقيف .
الرابع : بيت ببطن نخلة .
الخامس : شجرة لقبيلة غطفان يعبدونها، وبعث لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد فقطعها .
السادس :هو صنم لغطفان وصفها لهم سعد بن ظالم الغطفاني.
السابع : سمرَة أي شجرة لغطفان بنو لها بيتاً , وأقاموا لها سدتة .
الثامن : وثن تعبده غطفان عند شجرة بنخلة ، وكان سدنتها من بني صرمة بن مرّة .
والمختار أنها صنم بنوا له بيتاً ولا مانع من التعدد، بحيث يكون أكثر من عزى واحدة إذ ورد أن أبا سفيان جاء في معركة أحد وهو يحمل اللات والعزى كما في الخبر .
عن ابن عباس في آية السياق { ولقد صدقكم الله وعده . . . } الآية . قال « إن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوال حتى نزل أحداً ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأذن في الناس ، فاجتمعوا وأمر على الخيل الزبير بن العوّام ، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي، إلى أن قال: وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى ، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الزبير أن يحمل ، فحمل خالد بن الوليد فهزمه ومن معه) ( ).
وهل يحتمل من حمله اللات والعزى المجاز والإنقياد الباطل , الجواب لا , فالأصل الحقيقة , وكان فتح مكة مناسبة لهدم الأصنام التي في البيت والتي خارج مكة (عن أبي الطفيل قال : « لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ، وكان بها العزى فأتاها خالد , وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : ارجع فإنك لم تصنع شيئاً ، فرجع خالد ، فلما أبصرته السدنة ، وهم حجبتها ، امعنوا في الجبل وهم يقولون يا عزى يا عزى ، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها ، فعممها بالسيف حتى قتلها ، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأخبره فقال : تلك العزى .
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس : أن العزى كانت ببطن نخلة وأن اللات كانت بالطائف ، وأن مناة كانت بقديد) ( ).
ومن الإعجاز في هذه الآيات أنها تتضمن وجوهاً :
الأول : مقدمات معركة احد .
الثاني : وقائع معركة أحد .
الثالث : ما بعد معركة أحد .
الرابع : الأمور والمسائل الجامعة للوجوه أعلاه ، ومن هذا المعنى قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] بلحاظ أن إحاطة الرعب بالذين كفروا مطلقة قبل وأثناء وبعد معركة أحد ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
ومن إعجاز نظم القرآن أن الآية أعلاه لم ترد إلا في سورة الفتح وعلى نحو متكرر إذ وردت في الآية الرابعة والآية السابعة منها ، لبيان أن الله عز وجل سخّر جنود السموات والأرض للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ليتم النصر والظفر والفتح، وهل الرعب من هذه النوع ، الجواب نعم ، ويكون سلاحاً من جهتين :
الأولى : قذف الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثانية : سلامة قلوب المؤمنين من الرعب والفزع , وخلو قلوبهم من الرعب أمر وجودي وليس عدمياً، لأنه فضل من عند الله ولعدم إجتماعه مع السكينة التي تملأ قلوبهم برحمة من عند الله لإمتناع إجتماع الضدين قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ]( )، ومن الإعجاز في المقام مسألتان :
الأولى : الرعب الذي يملأ قلوب الذين كفروا مقدمة ووسيلة لتغشي السكينة لنفوس المسلمين .
الثانية : السكينة التي تملأ قلوب المسلمين نوع طريق ووسيلة لبعث الرعب في قلوب الذين كفروا .
ويكون الجمع بن الآية أعلاه وآية [سنلقي ] على وجوه :
الأول : الله هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليلقى الرعب في قلوب الذين كفروا ) فاذا ظهرت أمارات السكينة على الذين آمنوا أصاب الذين كفروا الرعب .
الثاني : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً فيلقي الرعب في قلوب الذين كفروا ) فتتجلى معاني الإيمان في أقوال وأفعال المسلمين ويظهرون التفاني في طاعة الله ورسوله فيملأ قلوب الذين كفروا الرعب والفزع والخوف.
الثالث : بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن قلوب الناس بيد الله عز وجل.
الرابع : حال قلب الإنسان جزاء عاجل من عند الله، وتثبيت للمؤمن في منازل الهدى، وإنذار ووعيد للكافر.
حديث أم عمارة
(وعن أُمّ سَعْدِ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ كَانَتْ تَقُولُ دَخَلْتُ عَلَى أُمّ عُمَارَةَ فَقُلْت لَهَا : يَا خَالَةُ أَخْبِرِينِي خَبَرَك ؛ فَقَالَتْ خَرَجْتُ أَوّلَ النّهَارِ وَأَنَا أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النّاسُ وَمَعِي سِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ فَانْتَهَيْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ وَالدّوْلَةُ وَالرّيحُ لِلْمُسْلِمِينَ . فَلَمّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ انْحَزْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقُمْت أُبَاشِرُ الْقِتَالَ وَأَذُبّ عَنْهُ بِالسّيْفِ وَأَرْمِي عَنْ الْقَوْسِ حَتّى خَلَصَتْ الْجِرَاحُ إلَيّ . قَالَتْ فَرَأَيْتُ عَلَى عَاتِقِهَا جُرْحًا أَجْوَفَ لَهُ غَوْرٌ ، فَقُلْت : مَنْ أَصَابَك بِهَذَا ؟ قَالَتْ ابن قَمِئَةَ أَقْمَأَهُ اللّهُ لَمّا وَلّى النّاسُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَقْبَلَ يَقُولُ دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ ، فَلَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا ، فَاعْتَرَضْتُ لَهُ أَنَا وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَأُنَاسٌ مِمّنْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضّرْبَةَ وَلَكِنْ فَلَقَدْ ضَرَبْته عَلَى ذَلِكَ ضَرْبَاتٍ وَلَكِنّ عَدُوّ اللّهِ كَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ) ( ).
وفي الحديث أعلاه مسائل :
الأولى : بيان شهادة تأريخية على أحداث واقعة أحد ، وهل تقبل شهادة المرأة المؤمنة في المقام أم لابد من شاهدين عدلين ، الجواب هو الأول من وجوه :
الأول: لم تقع الشهادة في الخصومة والنزاع بين طرفين .
الثاني : مجئ آيات القرآن بما يفيد صدق قول أم عمارة ، ليكون كلامها من تفسير وتأويل آية البحث ،وقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ].
الثالث : كان زوج وأبناء أم عمارة في المعركة ، فخرجت لتحسس الأخبار وترجو النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الرابع : مع أم عمارة سقاء ماء لسقاية المؤمنين ، وللإحتراز ودفع العطش عنهم ، والسقاء وعاء من الجلد يملأ ماءً أو لبناً لذا قيدت كلامها بأنه فيه ماء .
الخامس : إخبار أم عمارة عن وصولها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في وسط الميدان مما يدل على صيرورة القتال في معسكر المشركين، مع أنه يضم النساء والمؤون والأموال .
السادس : عدم نهي أو زجر المقاتلين لأم عمارة فلم يمنعها أحد من الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على معرفتهم لها وأن المسلمين في حال من السكينة والأمن في أول النهار .
السابع : إخبار أم عمارة بأن الدولة في أول ساعات النهار , وبدأت المعركة بنصر المسلمين .
والدولة في الحرب الغلبة في جولة (الدَوْلَةُ في الحرب: أن تُدالَ إحدى الفئتين على الأخرى. يقال: كانت لنا عليهم الدَوْلَةُ) ( ) والربح : النصر والغلبة .
وجمعت أم عمارة بين الدولة والريح وهو مما إذا إجتمعا إفترقا ، وإذا إفترقا إجتمعا ، لبيان تجلي ظهور المسلمين على الكفار في المعركة وان النصر منهم ليس ببعيد .
الثامن : عدم وجود تكذيب لهذا الإخبار , أو معارض له .
التاسع : بيان وثيقة تأريخية تتضمن الإخبار بأن النساء المؤمنات يدافعن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الحاجة والضرورة ، فعندما إنهزم أغلب المسلمين يوم أحد , كان الأولى أن تنهزم أم عمارة فليس على النساء جهاد أو تقف بعيداً عن ساحة المعركة ، ولكنها أبت إلا الإشتراك في القتال مع قلة من أهل البيت والصحابة الذين كانوا حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقامت أم عمارة بأمور مجتمعة في آن واحد , وهي :
الأول : مباشرة أم عمارة القتال بنفسها .
الثاني : تلقت أم عمارة الجراحات الشديدة بصبر ومواصلة للقتال .
الثالث : حمل أم عمارة السيف والقيام بالدفاع عن النبي ، مما يدل على قربها منه صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه مسائل :
الأولى : رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم عمارة وهي تقاتل ، فلم يمنعها النبي بل كان يثني عليها .
الثانية : تهيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للترس والسلاح لأم عمارة وإن لم تكن المقصودة به بالذات (قالت أم عمارة: قد رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فما بقي إلا نفير ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني لا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال: يا صاحب الترس( )، ألق ترسك إلى من يقاتل! فألقى ترسه فأخذته فجعلت أترس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم، إن شاء الله) ( ).
ويدل الحديث أعلاه على حقيقة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يوبخ الذين ينهزمون من المسلمين فاكتفى بسؤال المنهزم أن يعطي ترسه لمن يقاتل ، لتأخذه امرأة فلا يخلو الأمر من توبيخ عملي لذا قال الله في آية البحث ( ولقد عفا عنكم ) .
وإكتفاء النبي بسؤال الترس من دلائل النبوة وحسن التوكل على الله ، فليس من قائد وسط الميدان أو حتى خلفه يرضى بأن يجتازه الجنود منهزمين بأسلحتهم .
وهل يدل على الحديث على أن ترس هذا المسلم من بيت المال فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإلقائه فاستجاب له ، الجواب لا دليل عليه , خاصة وأن النبي نسبه إليه وأنه صاحب الترس , ولا يمنع من الإستدلال به إرادة النبي التعريف وتعيين المخاطب .
الثالثة : نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم عمارة ، مما يدل على أنه يتولى ويتعاهد أصحابه في الميدان ويمدهم بما يستطيع فكما أخبرت الآية التالية عن دعوته للمنهزمين بقوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] فانه صلى الله عليه وآله وسلم يتابع أصحابه الذين يقاتلون دونه , وعن يمينه وشماله .
قالت أم عمارة (فيقبل رجلٌ على فرسٍ فضربني، وترست له فلم يصنع سيفه شيئاً وولى، وأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره. فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يصيح : يا ابن أم عمارة، أمك، أمك ! قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب( )) ( ).
الرابعة : تعرض أم عمارة للضرب وإصابتها بالجراحات الكثيرة , وتفقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها وسؤاله عنها عند إنتهاء المعركة .
وعن حفيدها يحدث عنها قال (فلما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى بدر خرج خبيب بن يساق هو وقيس بن محرث، وهما على دين قومهما، فأدركا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بالعقيق، وخبيب مقنعٌ بالحديد، فعرفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من تحت المغفر، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلى سعد بن معاذ، وهو يسير إلى جنبه، فقال: أليس بخبيب بن يساف؟ قال: بلى! قال: فأقبل خبيب حتى أخذ ببطان ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ولقيس بن محرث يقال قيس بن المحرث، وقيس بن الحارث، ما أخرجكما معنا ؟ قالا : كنت ابن أختنا وجارنا، وخرجنا مع قومنا للغنيمة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: لا يخرجن معنا رجلٌ ليس على ديننا.
قال خبيب: قد علم قومي أني عظيم الغناء في الحرب، شديد النكاية، فأقاتل معك للغنيمة ولن أسلم ! قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: لا، ولكن أسلم ثم قاتل. ثم أدركه بالروحاء , فقال: أسلمت لله رب العالمين، وشهدت أنك رسول الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بذلك) ( ).
وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحداً تسقي الماء ، قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يقول : لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان ! وكان يراها تقاتل يومئذٍ أشد القتال ، وإنها لحاجزةٌ ثوبها على وسطها ، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً)( ).
ولعله لم يرد هذا الخبر , وما فيه من المقارنة عن غيرها ، ولم يروه عنها إلا حفيدها .
وهل كانت أم عمارة وغيرها من المؤمنات يتطلعن إلى وعد الله عز جل بالنصر وقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] الجواب نعم ، فقد تفضل الله عز وجل وجعل نوع ملازمة بين الآية القرآنية وتحقق مصداقها في الواقع العملي ، وهو من أمارات النبوة وأسباب جذب الناس للإسلام , وفضح المنافقين ودحر الكافرين ، ويدل الحديث على إرادة المعنى الأعم من آية البحث .
ويكون تقديرها على وجوه :
الأول : ولقد صدقكم الله وعده رجالاً ونساءً) ، فلم يختص الوعد من عند الله بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو المقاتلين من المسلمين ، أو خصوص الرجال ، بل يشمل المسلمين والمسلمات ، وهو من فضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إذ تحسونهم بقتالكم رجالاً ونساءً في سبيل الله , فحينما إشتركت بعض النساء في القتال تفضل الله بالنصر .
الثالث : دلالة قتال أم عمارة وصفية بنت عبد المطلب وغيرهما على بلوغ إيمان المسلمين والمسلمات مرتبة التضحية بالنفس دفاعاً عن النبوة والتنزيل , وشوقاً إلى الجنة .
وقامت لمة من المسلمات بحمل الماء بالقرب والطعام إلى المقاتلين في ساحة المعركة يوم أحد مثل رفيدة بنت سعد الأسلمية والتي كانت مع قومها من الأنصار في إستقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند هجرته إليها قادماً من مكة .
وحينما وقعت معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة الموافق الثامن عشر من شهر آذار سنة 624 ميلادية، خرجت مع عدد من النساء لسقي المجاهدين بالماء والطعام وحثهم على القتال ومداواة جراحهم.
وعندما أصيب سعد بن معاذ وهو سيد الأوس , قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب)( ).
وكانت تداويه وهو غير محرم لها، وكان سعد بن أبي وقاص يتحدث عن الفتى المزني , قال: لقد رأيتنا وقد أحدق المشركون بنا من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم وسطنا , والكتائب تطلع من كل ناحية، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليرمي ببصره في الناس يتوسمهم يقول: من لهذه الكتيبة ؟ كل ذلك يقول المازني: أنا يا رسول الله! كل ذلك يردها، فما أنسى آخر مرة قالها , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قم وأبشر بالجنة! قال سعد: وقمت على أثره، يعلم الله أني أطلب مثل ما يطلب يومئذٍ من الشهادة، فخضنا حومتهم حتى رجعنا فيهم الثانية، وأصابوه رحمه الله، ووددت والله إني كنت أصبت يومئذٍ معه، ولكن أجلي استأخر.
ثم دعا سعد من ساعته بسهمه فأعطاه وفضله وقال: اختر في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك. فقال بلال: إنه يستحب الرجوع. فرجعنا.
وقال سعد: أشهد لرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم واقفاً عليه وهو مقتول، وهو يقول: رضي الله عنه فإني عنك راضٍ.
ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قام على قدميه وقد نال النبي صلى الله عليه وسلّم من الجراح ما ناله، وإني لأعلم أن القيام ليشق عليه على قبره حتى وضع في لحده ، وعليه بردة لها أعلام خضر، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم البردة على رأسه فخمره، وأدرجه فيها طولاً وبلغت نصف ساقيه، وأمرنا فجمعنا الحرمل فجعلناه على رجليه وهو في لحده، ثم انصرف. فما حالٌ أموت عليها أحب إلي من أن ألقى الله تعالى على حال المزني.
قالوا: ولما صاح إبليس، إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل تفرق الناس، فمنهم من ورد المدينة، فكان أول من دخل المدينة يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد قتل سعد بن عثمان أبو عبادة. ثم ورد بعده رجالٌ حتى دخلوا على نسائهم، حتى جعل النساء يقلن: أعن رسول الله تفرون ؟ .
قال : يقول ابن أم مكتوم: أعن رسول الله تفرون ؟ ثم جعل يؤفف بهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم خلّفه بالمدينة، يصلي بالناس، ثم قال: اعدلوني على الطريق يعني طريق أحد فعدلوه على الطريق، فجعل يستخبر كل من لقي عن طريق أحد حتى لحق القوم، فعلم بسلامة النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم رجع.
وكان ممن ولى فلان، والحارث بن حاطب، وثعلبة بن حاطب، وسواد بن غزية، وسعد بن عثمان، وعقبة بن عثمان، وخارجة بن عامر، بلغ ملل، وأوس بن قيظي في نفرٍ من بني حارثة، بلغوا الشقرة ولقيتهم أم أيمن تحثى في وجوههم التراب، وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك! فوجهت إلى أحد مع نسياتٍ معها)( ).
وعن سعد بن أبي وقاص أن( رَمَى حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ ذَيْلَ أُمّ أَيْمَنَ – وَجَاءَتْ يَوْمَئِذٍ تَسْقِي الْجَرْحَى – فَعَقَلَهَا وَانْكَشَفَ عَنْهَا، فَاسْتَغْرَبَ فِي الضّحِكِ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ سَهْمًا لَا نَصْلَ لَهُ , فَقَالَ: ” ارْمِ ” فَوَقَعَ السّهْمُ فِي ثُغْرَةِ نَحْرِ حِبّانَ فَوَقَعَ مُسْتَلْقِيًا وَبَدَتْ عَوْرَتُهُ.
قَالَ سَعْدٌ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ يَوْمَئِذٍ حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ)( ).
وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء النسوة من الغنائم.
الرابع : يبعث قتال أم عمارة ومن مثلها من المؤمنات الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا ، وهو زاجر لهم من التعدي على بلاد المسلمين ، ولعله من أسباب تردد الأحزاب في مداهمة المدينة عند رؤية الخندق .
ولم يكن الخندق محيطاً بالمدينة كلها , فقد كانت بعض جهاتها تتشابك فيها النخيل ووسط البيوت , وخشي المشركون مقاتلة النساء والصبيان لهم من سطوح البيوت وما يسمى بحرب الشوارع ، وهو الذي أشار إليه عبد الله بن أبي سلول عند التهيئة لمعركة أحد والتي وقعت قبل معركة الأحزاب بأكثر من سنة .
قال : يَا رَسُولَ اللّهِ أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ لَا تَخْرُجْ إلَيْهِمْ فَوَاَللّهِ مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إلَى عَدُوّ لَنَا قَطّ إلّا أَصَابَ مِنّا ، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إلّا أَصَبْنَا مِنْهُ فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرّ مَحْبِسٍ وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمْ الرّجَالُ فِي وَجْهِهِمْ وَرَمَاهُمْ النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ كَمَا جَاءُوا)( ).
والثابت أن عبد الله بن أبي سلول هو رأس النفاق ، ولكن هل كان صادقاً في نصيحته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء أم كان يريد المكيدة والمكر ، خاصة وأن الأوس والخزرج كانوا ينسجون له تاجاً لتنصيبه ملكاً قبل دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة مهاجراً.
والمختار هو الأول ، ويدل كلامه ( وإن دَخَلُوا قَاتَلَهُمْ الرّجَالُ فِي وَجْهِهِمْ وَرَمَاهُمْ النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ) على التسليم باستقرار الإيمان في قلوب أهل المدينة رجالاً ونساءً وصبياناً ، ولكن نفاقه تجلى عند خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد إلحاح عدد من الصحابة خاصة أولئك الذين فاتهم نيل شرف الإشتراك بمعركة بدر , وفي التنزيل [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
فقام ابن أبي سلول في الطريق إلى أحد بتحريض الناس على الرجوع إلى المدينة وإعتزال القتال (وَقَالَ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ , فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ) ( ).
أراد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أطاع الذين أصروا على الخروج من المدينة ، ولم يستمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم النصيحة عبد الله بن أبي سلول فكانت موعظة وعبرة للمسلمين للزوم طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند أمره بشئ بعد المشورة أو بدونها، لأن قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] ( ) .
وأيهما أولى وأكثر أهمية النصر في جولة من المعركة أم طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب هو الثاني لأن في هذه الطاعة خير الدنيا والآخرة ، وهي التي تأتي بالنصر في المعارك والكتائب .
وتتضمن الآية الثناء على المسلمين من جهات:
الأولى : حفظ المسلمين لوعد الله عز وجل.
الثانية : تطلع المسلمين لتنجز وعد الله، وصيرورته حقاً وصدقاً، وفيه شاهد على حسن إيمان المسلمين، وتسليمهم بأن الله عز وجل ينجز وعده.
الثالثة : إستحضار المسلمين لوعد الله عز وجل في كل يوم ، ورجاؤهم تنجزه، وهو من أسرار تلاوة المسلمين لآيات القرآن كل يوم خمس مرات على نحو الوجوب العيني، ليكون من معاني التلاوة في الصلاة أمور:
الأول : تحقق إمتثال المسلم للأوامر بخصوص الصلاة.
الثاني : أداء المسلمين الصلاة بذات الكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي قال : صلوا كما رأيتموني أصلي( ).
الثالث : قصد القرآنية في التلاوة.
الرابع : تجديد المسلم العهد بالقرآن خمس مرات في اليوم ، وفيه مسائل:
الأولى : إعلان كل مسلم ومسلمة في كل يوم إيمانه بالله ورسله وكتبه.
الثانية : تجديد الإيمان خمس مرات في اليوم.
الثالثة : صبر المسلمين والمسلمات على العبادة ، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن أنه لم يصف الصلاة بأنها كبيرة إلا بعد الإستعانة بالصبر ، فقدم الصبر على الصلاة , ولا يختص الأمر بالصيام ، لأصالة الإطلاق.
ومع أن الآية أعلاه في نظم وسياق آيات تخاطب بني إسرائيل، إلا أنها تتضمن الخطاب للمسلمين وحثهم على الصلاة، ومن أسرار التداخل في الخطاب بين المسلمين وأهل الكتاب أن الصلاة سور الموجبة الكلية لعموم المسلمين وأهل الكتاب ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الشواهد على تصديقه النبوات السابقة بالمصداق العبادي العملي اليومي .
فلم يختص هذا التصديق بالآية القرآنية والسنة النبوية القولية، بل يكون بفعل المسلمين والمسلمات اليومي المتجدد الذي يأتي على نحو الطاعة لله، والإستجابة لأوامره ، ومحاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فعله العبادي ، وتقدم مزيد بيان في تفسير الآية أعلاه( ).
ومن الإعجاز في نظم كلمات القرآن أن لفظ (لكبيرة) لم يرد في القرآن إلا مرتين ، وكلاهما بخصوص الصلاة، قال تعالى[وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ]( )، لتأكيد أن المسلمين هم المخاطبون في الآيتين, وبيان موضوعية الصلاة .
الرابعة : ليس من أمة تتعاهد كتابها المنزل خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني على كل ذكر وأنثى منها إلا المسلمين.
الخامسة : يستحضر المسلم اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خمس مرات في اليوم من جهات:
الأولى : نزول القرآن وفرض الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : إقرار المسلمين بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أول من صلى من المسلمين.
الثالثة : محاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء السابقين في الصلاة ، وقد صلى بهم ليلة الإسراء بمعجزة حسية له صلى الله عليه وآله وسلم، وسئل الإمام الباقر عليه السلام عن قوله تعالى[فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ] ( )، من هؤلاء ؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لما أسري بي إلى السماء الرابعة أذن جبرئيل عليه السلام وأقام وجمع النبيين والصديقين والشهداء والملائكة، وتقدمت وصليت بهم( ).
وقد ورد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لما أسري بي إلى السماء أذن جبرئيل فظنت الملائكة انه يصلي بهم فقدمني فصليت بالملائكة ( ).
الرابعة : إستحضار ذكر اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم باقتران الشهادة له بالرسالة بالشهادة لله عز وجل بالتوحيد.
الخامسة : حفظ القرآن، والمنع من ضياع أي آية من آياته.
السادسة : ضبط كيفية القراءة , بما يمنع من الإختلاف فيها بين المسلمين، وهي على قسمين :
الأول : القراءة المتكررة الثابتة ، وتختص بسورة الفاتحة ، وليس من كلام يكرر بين أهل الأرض كل يوم أكثر من كلمات سورة الفاتحة وتكرارها في ركعات الصلاة ، وهي فاتحة من جهة ترتيب السور في القرآن، وفاتحة في أداء الصلاة بعد تكبيرة الإحرام ، ولن يختلف المسلمون في قراءتها ووجوبها في الصلاة ، وليس للمسلم أن يغير أو يبدل هذه السورة بغيرها .
الثاني : القراءة المتعددة وهي التي تتعلق بقراءة السور والآيات التي بعد سورة الفاتحة ، وقد تقدم البيان .
ومن الإعجاز أن المسلم مخير في القراءة بين سور القرآن كلها والتدبر في معانيها ودلالاتها .
الخامس : من معاني التلاوة في الصلاة شهادة كل مسلم ومسلمة بأن القرآن كلام الله الذي أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون أكبر شهادة في الحياة الدنيا وهي في مضاعفة متجددة كل يوم فلا يحصي عددها إلا الله عز وجل ، وهو من عمومات قوله تعالى [رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ]( ).
السادس : تلاوة آيات القرآن في الصلاة من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي كل آية من القرآن أمر أو نهي أو هما معاً سواء في منطوقها أو مفهومها ، وتلك آية في تحقق إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية، ليكون في قوله تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ] ( ) إرادة التعدد والتداخل في الفعل العبادي وضروب الطاعة .
فيقيم المسلمون الصلاة , ويتلون آيات القرآن فيها على نحو الوجوب لتكون الصلاة عملاً عبادياً بلحاظ الآية السابقة من جهات :
الأولى : ولاية وأخوة ونصرة المسلمين والمسلمات بعضهم لبعض، ويتجلى من وجوه :
الأولى : أداء المسلمين الصلاة جماعة .
الثانية : إشتراك المسلمات بأداء صلاة الجماعة .
الثالثة : دعاء المسلمين في الصلاة بصيغة الجمع ورجاء النفع العام ، وهو من لغة القرآن ، وفي التنزيل [رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( )وعن عطاء قال (لما نزلت هذه الآيات { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } فكلما قالها جبريل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : آمين رب العالمين) ( ).
الرابعة : تضمن الصلاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجوه :
الأول : أداء الصلاة من الأمر بالمعروف والزجر عن المنكر.
الثاني : أداء المسلمين والمسلمات الصلاة مصداق يومي لطاعتهم لله ورسوله ومحاكاة الرسول في طاعته لله عز وجل .
الثالث : تضمن آيات القرآن معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابع : في أداء الصلاة إنزجار عن فعل السيئات ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
الخامسة : أداء الصلاة مقدمة لإخراج الزكاة ودفعها لمستحقيها لإدراك المسلم الملازمة بينهما ، وإتصاف كل منهما بالوجوب .
السادسة : أداء الصلاة طاعة لله عز وجل .
السابعة : تعاهد الصلاة في أوقاتها طاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومحاكاة لفعله العبادي، وبرزخ دون الغلو بشخصه الكريم، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وهل الآية أعلاه من أسباب النهي عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء , الجواب نعم , فهو سيد الأنبياء، ويقتدى به بالعبادات.
الخامس : تلاوة المسلم القرآن في الصلاة من مصاديق الخطاب التشريفي في آية السياق [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وفيه وجوه :
أولاً : بيان صدق إيمان المسلمين بتعاهدهم للصلاة أداءً وكيفية ووقتاً , وتلاوة القرآن فيها .
ثانياً : تقدير آية السياق بلحاظ التلاوة في الصلاة على وجوه منها :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا إقرأوا ما تيسر من القرآن .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا [ِ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى] ( ) بتلاوة القرآن في الصلاة .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا الصلاة بتلاوة القرآن .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا حافظوا على القرآن بتلاوته في الصلاة .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا إن حافظتم على التلاوة في الصلاة , فلن تطيعوا الذين كفروا .
سادساً : يا أيها الذين آمنوا لقد صدقكم الله وعده , فأقرأوا القرآن في الصلاة ، فانه من الثناء على نعمة صدق الوعد من عند الله , وتجدده وعظيم نفعه ، ومن الإقرار بالنعم من الله , قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
سابعاً : يا أيها الذين آمنوا إذ تحسونهم باذنه , فتعاهدوا قراءة القرآن في الصلاة شكراً له سبحانه .
ثالثاً : لما نهى الله عز وجل المسلمين عن طاعة الذين كفروا كما في آية السياق ، وأخبر بأن طاعتهم تؤدي إلى المهالك ، تفضل وهدى المسلمين إلى تلاوة القرآن في الصلاة على نحو الوجوب لتكون التلاوة الواجبة واقية من طاعة الذين كفروا ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ، ومصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ( )بأن يكون الواجب حرزاً من المعصية وتعدي حدود الله .
رابعاً : دعوة المسلمين للصدور عن القرآن ، واللجوء إلى التلاوة عند الهم بالفشل والتنازع في الأمر والخلاف بينهم ، مع بيان موضوعية أداء المسلمين الصلاة وتلاوتهم القرآن في صرف الفشل وآثار الخصومة .
خامساً : بينت آية البحث أن المسلمين على قسمين بخصوص الطلب والإرادة , فمنهم من يريد الدنيا ، ومنهم من يريد الآخرة، وتأتي تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة لتنزه المسلمين عن حب الدنيا ، وتجعلهم يتخذونها بلغة إلى النعيم في الآخرة .
الثامنة : الصلاة عمل عبادي وهي عمود الدين , وكما أنها طاعة لله ورسوله فان إقامتها مدخل لمصاديق متكثرة من طاعة الله ورسوله ، وعن الإمام الباقر عليه السلام قال (الصلاة عمود الدين، مثلها كمثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود ثبتت الاوتاد والاطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب) ( ).
التاسعة : التوفيق لأداء الصلاة رحمة من عند الله عز وجل ، وتقدير قوله تعالى [سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ] على وجوه :
الأول : سيرحمهم الله بآيات وجوب الصلاة.
الثاني : سيرحمهم الله بأداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة .
الثالث : إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في الصلاة في الفرائض اليومية الخمسة رحمة من عند الله بالمسلمين بلحاظ أن هذه الإمامة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الرابع : مع أداء المسلمين لكل فرد من فرائض الصلاة تنزل شآبيب الرحمة .
الخامس : من الإعجاز في الصلاة , وصيرورتها سبباً للرحمة من عند الله تشريع صلاة النافلة ، وهي كثيرة منها , وعلى أقسام منها النوافل المصاحبة للفرائض اليومية ، ومنها المقرونة بحالات مخصوصة ، ومنها ما تكون سنة غير واجبة وهي التي واظب عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كصلاة الضحى ، والمستحبات وهي التي وردت فيها نصوص مخصوصة ، ولم يرد الخبر بمواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها، ومنها صلاة التطوع التي لم يرد نص بخصوصها على نحو التعيين .
وتدل الآيات القرآنية والسنة النبوية على أن الصلاة خير محض ، مرغوب فيها بالذات والنفع والأثر.
وعن أنس بن مالك قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا واكل ذبيحتنا فذلك المسلم له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته) ( ).
العاشرة : لو دار الأمر في معنى قوله تعالى [سيرحمهم ] وهل يخص الحياة الدنيا أم يشمل الآخرة .
الجواب هو الثاني , ومن الإعجاز في المقام أن هذا اللفظ [سيرحمهم] لم يرد في القرآن إلا في آية البحث لبيان أن مضامين هذه الآية سبب للرحمة بالمسلمين في الدنيا والآخرة .
وإجماع علماء الإسلام على عدم وجوب الجهاد على المرأة ، وعليه النص، لأن من شروطه:
الأول : الإسلام لأنه تكليف، وقد ورد معنى الإيمان بلغة الخطاب للمسلمين في قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، كما أن الكافر لا يؤتمن.
الثاني : العقل، فلا يجب على المجنون سواء كان جنونه مطبقاً أو إدوارياً.
الثالث : البلوغ، فلا يجب على الصبي والذي لم يبلغ سن البلوغ، والجهاد واجب كفائي ، وهو المشهور والمختار وأن لا يكون شيخاً مسناً عماً، ولا مقعداً ولا أعمى أو مريضاَ.
الرابع : توفر النفقة للعيال مدة غيبته، قال تعالى[لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ]( ).
الخامس : الذكورية ، إذ يختص الجهاد بالرجال، فلا يجب على النساء, وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل على النساء جهاد ، قال: نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة( ).
وعن الربيع بنت معوذ قالت : كنا نغزوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنسقي القوم ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة , وفيه دليل على جواز لمس المرأة للأجنبي لأغراض العلاج , ونحوه وإن لم يصل الأمر إلى حد الضرورة والضرورات تقدر بقدرها.
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو بام سليم ونسوة من الانصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى)( )، من غير أن يتعارض هذا الخبر مع عدم جواز سفر المرأة من غير محرم.
والجهاد دفاع عن الإسلام، فلا يصح أن يسمى القتال ضد المسلمين الجهاد وبطلان القتال والتعدي بسبب الطائفة والمذهب والقبيلة والعشيرة، قال تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
وعن أنس بن مالك قال: من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم له ذمة الله وذمة رسوله ، فلا تخفروا الله في ذمته( ).
وفي معركة حنين ورد عن أم عمارة : أنها ثبتت مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيدها سيف صارم ، ومعها أم سليم وعندها خنجر شدته على وسطها وهي حامل بولدها عبد الله بن أبي طلحة، وأم سليط، وأم الحارث .
ولقاها زوجها أبو طلحة فسألها عن الخنجر , ( فقالت : إن دنا مني بعض المشركين أبعج في بطنه ، فقال أبو طلحة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما تسمع ما تقول أم سليم ؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله سلم .
فقالت : يا رسول الله أقتل من بعدنا من الطلقاء إنهزموا بك، فقال: ” إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم ( ).
في دلالة على نصرة الله عز وجل لنبيه الكريم يوم حنين، وكفايته.
وأن أم سليم هذه هي التي أنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها مارية القبطية، التي أهداها وأختها مع بغلة أمير القبط للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان أمير القبط يعلم أن من صفات نبي آخر زمان عدم الجمع بين الأختين.
فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعاها للإسلام وبادرت أولاً مارية القبطية فوطئها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالملك وكانت بيضاء جميلة جعراء، ونقلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مال له بالعالية تسكن هناك صيفاً، وفي النخل المجتنى في الشتاء، ووهب أختها وأسمها شيرين لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن.
قانون علم التقدير
ولا يختص التقدير في الآية بخصوص جواب إذا أو إذ ، بل يدخل التقدير في مواطن كثيرة من التفسير ، وتم في هذا السفر تأسيس علم جديد يسمى (علم التقدير ) وهو فرع علم التفسير , ويتعلق بتقدير وقراءة المحذوف بلحاظ القرآن والسنة ، وسيكون هذا العلم متعدداً في مضامينه من وجوه :
الأول : علم التقدير مدخل ومقدمة لعلم التفسير .
الثاني : علم التقدير جزء من علم التفسير .
الثالث : علم التقدير فرع علم التفسير، وتكون النسبة بينهما , هي العموم والخصوص المطلق ، فعلم التقدير من التفسير ، وليس علم التفسير من التقدير .
الرابع : علم التقدير كاشف وضابط لعلم التفسير , ومانع من الزلل فيه، وكذا العكس فان علة التفسير برزخ دون التقدير غير المناسب .
وهل يكون التقدير في الآية القرآنية سواء للجواب المحذوف أو مطلقاً حجة ، الجواب لا ، ، إنما هو نوع إجتهاد وإستنباط وإقتباس ، والمدار على آيات القرآن , فقد جعله عز وجل [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى] ( ).
فالعالم الذي يقوم بتقدير محذوف للآية ليس له أن يأمر بالحكم وفق تقدير الآية وإن كان صائباً .
الخامس : يدخل علم التقدير في سياق ونظم الآيات.
السادس : علم التقدير بيان وتفسير لمضامين الآية القرآنية.
السابع : يفتح علم التفسير آفاقاً من العلم , ويكشف عن درر وأسرار في ذات الآية القرآنية.
الثامن : إنه مناسبة لبيان ذخائر القرآن، ودليل على قابلية آيات القرآن للتقدير، وإستنباط الدروس منه.
ويكون علم التقدير على وجوه :
الأول : الجمع بين آيتين من القرآن.
الثاني : بيان الإتصال والتداخل بين الآيتين من القرآن.
الثالث : الجمع بين شطر من آية قرآنية وشطر آخر منها.
الرابع : الجمع بين أكثر من آيتين.
الخامس : النسبة بين كلمتين من آيتين , والجمع بينهما.
السادس : البيان الذي يتجلى من الجمع بين آيتين من القرآن , ليكون على وجوه:
أولاً : تفسير إحدى الآيتين.
ثانياً : تأكيد مضمون الآيتين.
ثالثاً : إستنباط الأحكام من الآيتين.
قانون القرآن برزخ دون القتال
قد يظن بعض الناس حتمية وقوع الحرب بين المؤمنين والكافرين، أو أن التضاد بينهم مقدمة للحرب والقتال ، والصحيح هو إنتفاء أسباب وجوب هذه الحرب لفقدان العلة التامة , وهي وجود المقتضي للحرب , وفقد المانع عنها .
لذا إبتدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوته في مكة بالموعظة والحكمة وبيان المعجزة ، وتحمل الأذى من الكفار من غير أن يرد عليهم ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ).
ومن الشواهد على عدم حتمية وقوع القتال بين المؤمنين والكافرين آية البحث، والآيات الثلاث التي قبلها من جهات :
الأولى : الخطاب التشريفي للمسلمين [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] زاجر للذين كفروا عن التعدي عليهم .
الثانية : يدل الخطاب بصيغة الإيمان للمسلمين على إتصافهم بصبغة الرحمة والرأفة بالناس في جذبهم الناس إلى منازل الهداية ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الثالثة : إيمان المسلمين دليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه دعوة للناس للتدبر في معجزاته ، ومنها في المقام :
الأول : كل آية قرآنية معجزة .
الثاني : كثرة آيات القرآن ، وعددها ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية .
الثالثة : قابلية الآية القرآنية للإنتشار السريع بين الناس ، وميلهم للإستماع لها والتدبر في معانيها طوعاً وقهراً.
الرابع : الإعجاز الذاتي للآية القرآنية بما يجعل الناس يرددونها بتدبر وتأمل .
الخامس : إمكان تلاوة أناس متعددين لذات الآية القرآنية في زمان واحد وإن تباينت أماكنهم وأمصارهم .
السادس : من خصائص الآية القرآنية كمعجزة إستماع الناس لها ، وتوظيف حاسة السمع في التدبر في مضامينها ، لإفادة إنتفاع الناس جميعاً منها سواء الذكر أو الأنثى والذي يقرأ ويكتب أو الأمي ، والكبير والصغير.
السابع : كل آية قرآنية دعوة مستقلة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قائمة بذاتها، وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى سور، والسور إلى آيات وبين كل إثنتين منها فاصل.
الثامن : سلامة الآية القرآنية من التحريف والتبديل والتغيير ، وفي الحرب والسلم.
ويدل التضاد وبين الإيمان والكفر على حاجة الناس لهذه السلامة ، ولأن هذه الحاجة عامة للمسلم وغير المسلم وإلى يوم القيامة تفضل الله عز وجل وتولى بنفسه حفظ القرآن مع التأكيد ولغة التنظيم والتعظيم بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]ليتخذ المسلم الآية القرآنية إماماً وضياءً وهدىً وتكون حجة على الكافر تدعوه إلى التوبة والصلاح.
وكم من إنسان أسلم لإستماعه لآيات القرآن ، ولا يعلم أحد إلا الله اثر آيات القرآن في خذلان قريش وعجزهم عن محاربة الإسلام، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
ولفظ الوعد في الآية أعلاه اسم الجنس بما يفيد المسلمين وينتفعون منه ، ويمكن تسمية آية البحث ( آية الوعد ) بلحاظ تعدد وجوه ومصاديق الوعد الإلهي للمسلمين يوم أحد وما قبله منذ الأيام الأولى للبعثة النبوية ، بل من حين ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من محاولات القتل.
ومن تلك المحاولات ما كانت بعد ولادته وفي أيام صباه ومنها بعد بعثته وإعلان النبوة وإستمرت حتى المجئ من تبوك في السنة التاسعة للهجرة كما في قصة المنافقين أصحاب العقبة (عن عروة بن الزبير قال جلس عمير بن وهب الجمحى مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش في الحجر بيسير وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه ويلقون منه عناء وهو بمكة وكان ابنه وهب بن عمير في اسارى بدر فذكر اصحاب القليب ومصابهم.
فقال صفوان إن في العيش والله خير بعدهم قال له عمير صدقت اما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء وعيال اخشى عليهم الضيعة بعدى لركبت إلى محمد حتى اقتله فان لي فيهم علة، ابني اسير في ايديهم قال.
فاغتنمها صفوان فقال علي دينك انا اقضيه عنك وعيالك مع عيالي اواسيهم ما بقوا لا يسعنى شئ ويعجز عنهم.
قال عمير فاكتم عنى شأني وشأنك قال افعل قال ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم ثم انطلق حتى قدم المدينة) ( ).
وخشي أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه ، وظنوا أنه قادم بشر ويريد التعدي والعدوان ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أظهر معجزة حسية له إذ أمر أصحابه بارساله وطلب منه أن يدنو منه ، فقال عمير(أنعموا صباحاً) ( ).
وهذه التحية كافية لفضحه وزجره وأنه لا زال على دين الجاهلية ،لأن الله عز وجل أبدل التحية بالسلام وأن المسلمين يتبادلون تحية الملائكة وهي السلام ، ولم يوبخه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يتركه وشأنه بل ذكره بهذه النعمة.
فقال له : قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير بالسلام تحية أهل الجنة.
فلجأ عمير إلى التورية وقال كلاماً مجملاً : والله إن كنت يا محمد لحديث عهد وكأنه جاء مسلماً ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فما جاء بك يا عمير هل جئت لتعلن إسلامك ، أم جئت لمكر ومكروه، قال : جئت لهذا الأسير الذي فيكم فاحسنوا فيه .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما بال السيف الذي في عنقك، أي أن الذي يأتي شفيعاً لفك أسير لا يثير الشبهات ، وتحدى بحمل السيف في عنقه الذي هو أمارة على التحدي وإرادة القتال .
فقال عمير : قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئاً .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصدقني ما الذي جئت له ؟ أي أنني نبي رزقني الله عز وجل الوحي وأخبرني عن الغاية الخبيثة لمجيئك ، ولكنني أكرمتك وقربت مجلسك ولم أرض لأصحابي إيذاءك ونزع سلاحك والله سبحانه هو الذي يعصمني منك ، ولكن عميراً ولكفره أصر على الإنكار والجحود.
قال : ما جئت إلا لذلك( ) .
فأظهر النبي أمامه وبحضرة أصحابه المعجزة فقال مخاطباً عميراً (قَالَ بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فِي الْحِجْرِ ، فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ ، ثُمّ قُلْت : لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْتُ حَتّى أَقْتُلَ مُحَمّدًا ، فَتَحَمّلَ لَك صَفْوَانُ بِدَيْنِك وَعِيَالِك ، عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ وَاَللّهُ حَائِلٌ بَيْنَك وَبَيْنَ ذَلِكَ.
قَالَ عُمَيْرٌ أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ قَدْ كُنّا يَا رَسُولَ اللّهِ نُكَذّبُك بِمَا كُنْت تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السّمَاءِ وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْك مِنْ الْوَحْيِ وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَحْضُرْهُ إلّا أَنَا وَصَفْوَانُ فَوَاَللّهِ إنّي لَأَعْلَمُ مَا أَتَاك بِهِ إلّا اللّهُ فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ وَسَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ ثُمّ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ . وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ فَفَعَلُوا ) ( ).
وتمنع آية السياق من القتال بين المسلمين والذين كفروا من جهات :
الأولى : تنهى الآية المسلمين عن طاعة الذين كفروا، لتدل بالدلالة التضمنية على إجتناب المواجهة وأسباب النفرة والخلاف، فمن معاني عدم طاعتهم الإعراض عنهم ، قال تعالى [وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ).
الثانية : عدم طاعة الذين كفروا مناسبة لتوجه المسلمين لهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالثة : تنزه المسلمين عن طاعة الذين كفروا تبكيت لهم ، وإخبار بالقبح الذاتي للكفر ولزوم التخلص منه بالتوبة والإنابة.
ومن أسرار آية السياق عدم إنحصار موضوعها بعدم طاعة الذين كفروا بل تتضمن قانوناً كلياً من وجوه :
أولاً : سعي الذين كفروا لطاعة المسلمين لهم .
ثانياً : قبح طاعة المسلم للذين كفروا ، وهل يختص هذا الأمر بالمسلم ، أم يشمل الناس جميعاً ، الجواب هو الثاني لأن هذا القبح ذاتي .
ثالثاً : وجود أمة مؤمنة تتلقى الأمر الإلهي بالقبول والإمتثال ، فمن قوانين الإرادة التكوينية وجود أمة مؤمنة في كل زمان تعمل بالأوامر الإلهية ، وتجتنب ما نهى الله عنه .
رابعاً : تؤدي طاعة الناس للذين كفروا إلى إنقطاع الحياة على الأرض لإنتفاء المعلول بانتفاء علته ، إذ أن الغاية في خلق الناس هي عبادة الله الذي خلقهم وتولى رزقهم وحفظهم ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )وفيه مسائل بلحاظ آية السياق والبحث منها :
الأولى : خطاب [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] الذي إبتدأت به آية السياق بشارة إستدامة الحياة الدنيا لأنه شاهد على عبادة أمة من أهل الأرض الله عز وجل وقد تكون هذه الأمة هي الأكثر من بين الأمم ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة) ( ).
وليس ملازمة بين عدد أتباع كل نبي في الدنيا، وبين أتباع المؤمنين له في الجنة.
الثانية : تفضل الله بتعاهد عبادة الناس له .
الثالثة : بعث الطمأنينة في قلوب الناس بأستدامة الحياة الدنيا لوجود أمة مؤمنة في الأرض .
الرابعة : ترغيب الناس بالإسلام وجعل النفوس تميل إلى الهدى وسننه.
الخامسة : رحمة الله بالمسلمين بأداء الفرائض والعبادات من غير حرب وعداء من الذين كفروا لأن من عمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) تهيئة مقدمات وأسباب العبادة ، وإزاحة الموانع دونها.
ومن الإعجاز في المقام تعيين أوان العبادات بالظواهر والعلامات الكونية التي تطل على أهل الأرض جميعاً ، ففي الصلاة قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ] ( ) والمراد صلاة الظهر عند زوال الشمس عن كبد السماء وإبتداء ميلها إلى الغروب [إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ] أي صلاة المغرب [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]أي صلاة الصبح .
لقد أراد الله عز وجل بيان علة قتل المؤمنين للذين كفروا والظهور عليهم مع كثرة عددهم ومؤونهم ، وهذه العلة هي الإيمان وما يترشح بسببه من المدد الملكوتي وسبل العناية الإلهية ، وكأن الآية تقول للمسلمين ( إذ تحسونهم بايمانكم فتعاهدوه) إذ ان الإيمان خير موضوع ، ولا يختص بالإنتساب والإعتقاد بل هو متجدد ومستديم وهو أفعال وواجبات ونواهي بقصد القربة والطاعة إلى الله.
ومن الإعجاز في الفرائض في الإسلام تضمن ذات الواجب تقيداً بنهي ، فالصيام مثلاً أمر وجودي لأنه إمتناع عن الأكل والشرب عن نية وقصد ، والحج ترك لحياة الدعة والمكاسب والإستقرار في البيت والبلد والقرية ، ولا يختص تعاهد الإيمان بفعل عبادي دون آخر .
ومن دلالات الجمع بين الآيتين دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على كل من :
الأولى : نعمة الهداية والإيمان بفضل الله، وفي التنزيل[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
الثانية : حس وتشريد ومغادرة وقتل الذين كفروا .
لقد تغير الزمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تخبر آية البحث بنحو متصل عن حس المؤمنين لأهل الكفر والجحود ، وفيه دعوة للناس بنبذ الشرك وترك الأصنام.
(عن ابن عباس في قوله { لها سبعة أبواب } قال : جهنم ، والسعير ، ولظى ، والحطمة ، وسقر ، والجحيم ، والهاوية ، وهي أسفلها) ( ).
لقد قيدت آية البحث حس ودفع وطرد وهزيمة المشركين بإذن الله ، فهل تصديق المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإذن الله، أم أنه باختيار محض منهم ، الجواب هو الأول.
وتقدير آية السياق : يا أيها الذين آمنوا باذنه ) لبيان عظيم فضل الله على المؤمنين وحثهم على الدعاء لهداية الناس جميعاً ، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدعو على الكافرين بقدر ما كان يسأل لهم الهداية والصلاح.
وعن مصعب بن شيبة عن إبيه قال (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين ، والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به ، ولكن أنفت أن تظهر هوازن على قريش ، فقلت وأنا واقف معه : يا رسول الله ، إني أرى خيلا بلقا ، قال : يا شيبة ، إنه لا يراها إلا كافر « ، فضرب يده على صدري ، ثم قال : اللهم اهد شيبة « ، ثم ضربها الثانية ، ثم قال : اللهم اهد شيبة « ، ثم ضربها الثالثة ، فقال : اللهم اهد شيبة « ، فو الله ما رفع يده من صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلي منه) ( ).
ولا يعني هذا أن رؤية الملائكة وخيلها لايراها إلا كافر على نحو الإطلاق، ولكن تلك خصوصية في حال وساعة معينة.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعائه للهداية يؤدب أجيال المسلمين بالتطلع إلى فضل الله في إصلاح وهداية الناس ، ونبذ البطش والقسوة .
وعن محمد بن إسحاق بن يسار قال (كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها فمشى إليه رجال قريش ، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا.
فقالوا له : إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وبين أبيه ، وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته ، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنه ولا تسمعن منه.
قال : فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله.
قال : فغدوت إلى المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي عند الكعبة ، فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله ، فسمعت كلاما حسنا ، فقلت في نفسي : واثكل أماه ، والله إني لرجل لبيب شاعر ، ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلت، وإن كان قبيحا تركت .
قال : فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته ، فتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت : يا محمد ، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا ، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ، ثم أبى الله عز وجل إلا أن يسمعنيه ، فسمعت قولا حسنا فاعرض علي أمرك.
قال : فعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي الإسلام وتلا علي القرآن فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ، ولا أمرا أعدل منه ، فأسلمت وشهدت شهادة الحق ، وقلت : يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام ، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه .
فقال : اللهم اجعل له آية. قال : فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية يقال لها كذا وكذا تطلعني على الحاضر ، وقع نور بين عيني مثل المصباح.
قلت : اللهم في غير وجهي إني أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي لفراق دينهم ، قال : فتحول فوقع في رأس سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم فأصبحت فيهم.
فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا ، فقلت : إليك عني يا أبت ، فلست منك ولست مني ، قال : لم يا بني ؟ قلت : أسلمت وتابعت دين محمد ، قال : يا بني ، فديني دينك ، قال : قلت : فاذهب يا أبت فاغتسل وطهر ثيابك ، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت ، قال : فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم) ( ).
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا باذني إذ تحسونهم باذني ) إذ كانت الغلبة في أول النهار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ثم تبدلت الريح بسبب معصية الرماة والنزاع والخصومة وحب الغنائم لإقامة الحجة على المسلمين ، وأن البلاء والخسارة جاءت من فعل أيديهم، لتكون موعظة ودرساً.
جراحات النبي صلى الله عليه وآله يوم أحد
لقد تفضل الله وأعاد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من معركة أحد لم يغادر الدنيا، وفي الجراحات التي أصيب بها في وجهه ورأسه ، وإستمرار جريان الدم منهما مسائل :
الأولى : توثيق جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان ، وصيرورة هذا البقاء برزخاً دون هزيمة المسلمين في المعركة ..
الثالثة : إشتراك أهل البيت في إيقاف نزيف الدم من وجه رسول الله بعد إنتهاء المعركة وكانت إصابة النبي صلى الله عليه وآله على وجوه :
أولاً : كسر أسنان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمامية.
ثانياً : جرح شفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم السفلى ، رماه عتبة بن أبي وقاص .
ثالثاً : جرح وجنة ( )النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخول حلقتين من المغفر( ) فيها .
رابعاً : شج وشق جبهة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل عبد الله بن شهاب الزهري .
خامساً : وقوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر الفاسق غيلة ومكراً ليقع فيها المسلمون أثناء القتال ، فأخذ الإمام علي عليه السلام بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان عمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبعاً يومئذ سبعاً وخمسين سنة .
سادساً : سقوط ثنايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند نزع حلقات المغفر , والثنايا : الأسنان الأربعة في مقدمة الفم ثنتان من فوق وثنتان من أسفل.
سابعاً : إصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رأسه ، وعجز الصحابة عن إيقاف نزيف الدم ، فلما رأت فاطمة عليه السلام أن الماء لا يزيد الدم إلا سيلانا أتت بحصيرة وأحرقتها وألصقتها على الجرح فانقطع نزف الدم .
ثامناً : إشاعة خبر قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معسكر المشركين ، ووصول هذه الإشاعة إلى معسكر المسلمين ، وفيه مسائل :
الأولى : فشل وجبن فريق من المسلمين , وهو من مصاديق آية البحث [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ].
الثانية : حصول النزاع بين المسلمين في أمر بقائهم في المعركة أو إنسحابهم .
وَمَرّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَتَشَحّطُ فِي دَمِهِ فَقَالَ يَا فُلَانُ أَشَعَرْت أَنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ ؟ فَقَالَ الْأَنْصَارِيّ إنْ كَانَ مُحَمّدٌ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلّغَ فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ فَنَزَلَ { وَمَا مُحَمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ }( )( ).
الثالثة : دعوة بعض الصحابة الذين إنطلقوا إلى الجبل وصاروا فوق الصخرة للجوء إلى عبد الله بن أبي رأس النفاق ليأخذ لهم عهد أمان من أبي سفيان ، ولم يعلموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا زال وسط المعركة لم يقتل ولم ينسحب.
(يدعو الناس: إلي عباد الله، إلي عباد الله)( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمسح الدم عن وجهه ويقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله , وكأن النبي يعلم أنه لا يقتل في المعركة ، وأن هذه الجراحات أمر عظيم يأتي بالويل والبلاء على قريش ، وفعلاً لم تر قريش الخير بعده ، نعم جاءوا في معركة الخندق بعشرة آلاف مقاتل ولكنهم لم يحققوا أي شئ ، ولم يحدث قتال يذكر ، ليكون هؤلاء الجنود شهوداً على معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه دعوة لهم للإسلام ، فلا غرابة من عجز الكفار عن جمع الجيوش مرة أخرى للهجوم على المدينة ، كما أنهم عجزوا عن الدفاع عن مكة ، وإنشغلوا بكيفية التسليم وطلب الأمان من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويمكن تقسيم آثار إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قسمين :
الأول : الآثار التي تترشح على معسكر المؤمنين .
الثاني : تلقي المشركين في الميدان خبر إشاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشماتة , ونادى (قال أبو سفيان بن حرب: يا معشر قريش، أيكم قتل محمداً ؟ قال ابن قميئة: أنا قتلته. قال: نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها)( ).
ونسورك له معنيان :
الأول: أي يلبسونه سواراً بيده كالوسام دلالة على الشجاعة .
الثاني : جعله سيداً وقائداً.
والأنسب في المقام هو الأول .
ولم يستمر نبأ وإشاعة قتل النبي ساعة من النهار ، فقد إنكشف للمسلمين أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حي وإن همّ بعض منهم أن يرميه بسهم ، أما بالنسبة للمشركين فقد أخذوا يتحرون الأمر ، فأخذ أبو سفيان أبا عامر الفاسق ليطوفا في المعركة هل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القتلى ، لأن أبا سفيان لا يعلم أشخاص الأنصار وقتلاهم ، فلا يستطيع الفصل والتمييز.
(فمر بخارجة بن زيد بن أبي زهير، فقال: يا أبا سفيان، هل تدري من هذا القتيل؟ قال: لا. قال: هذا خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي، هذا سيد بلحارث بن الخزرج. ومر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى جنبه فقال: هذا ابن قوقل، هذا الشريف في بيت الشرف. قال: ثم مر بذكوان بن عبد قيس، فقال: هذا من ساداتهم. ومر بابنه حنظلة فقال: من هذا يا ابا عامر؟ قال: هذا أعز من ها هنا علي، هذا حنظلة بن أبي عامر.
قال أبو سفيان: ما نرى مصرع محمد، ولو كان قتله لرأيناه، كذب ابن قميئة! ولقي خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندكم قتل محمد؟ قال خالد: رأيته أقبل في نفرٍ من أصحابه مصعدين في الجبل. قال أبو سفيان: هذا حقٌّ! كذب ابن قميئة، زعم أنه قتله)( ).
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ) فهل خبر وإشاعة قتله من هذا الأذى ، الجواب نعم ، فصحيح أنه ليس بأذى جسدي إلا أنه أذى معنوي له وللإسلام وللمسلمين إذ تدل هذه الإشاعة على مكر ودهاء المشركين وأنهم يزاولون الحرب النفسية ، ويستعملون الخدعة والمكر , ولكن الله عز وجل صرف كيدهم [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
أما صدق وتحقق وعد الله عز وجل للمسلمين فان الكفار وغيرهم لا يستطيعون رده ومنعه ، وهو من المائز في الإبتلاء في الحياة الدنيا بين المؤمنين والذين كفروا ، ومن مصاديق قوله تعالى في آية البحث [لِيَبْتَلِيَكُمْ]إذ تقترن بالإبتلاء النعم والفضل من عند الله على المؤمنين ، وهو من مصاديق[بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ].
وما أصاب المسلمين يوم أحد جرح بليغ في تأريخ الإسلام وصار مدرسة تقتبس منها المواعظ ، وكذا الجراحات التي أصابت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد صاحبته طيلة أيام حياته ككسر أسنانه والشج في جبهته والشق في شفته السفلى، وفيه دعوة للمسلمين للجهاد والصبر في ميدان المعركة ، ورد متقدم زماناً على أهل الشك والريب وزجرهم عن القول بأن النبي يقف في الخطوط الخلفية أو يبقى في المدينة ويدفع المسلمين للقتال ، فقد كان هو الإمام والقائد والذي يسير تحت اللواء والراية المتقدمة لقهر الأعداء.
وهذه الخصال من أسباب التعجيل بهزيمة الكفار , وفتح مكة وبناء دولة الإسلام، وقد تقدم أن النبي يُركض بغلته الى الإمام في صفوف العدو يوم حنين مع أن أصحابه يمرون عليه فارين.
تاسعاً : إندفاع أبي بن خلف الجمحي إلى وسط المعركة بعد أن رمى عبد الله بن قمئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد حلف أبي ليقتلن النبي (وأقبل أبي بن خلف الجمحى وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بل أنا أقتله.
فقال: يا كذاب أين تفر، فحمل عليه فطعنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جيب الدرع فجرح جرحا خفيفا , فوقع يخور خوار الثور فاحتملوه، وقالوا: ليس بك جراحة فما يجزعك ؟ قال: أليس قال: لاقتلنك ! لو كانت تجتمع ربيعة ومضر لقتلهم.
فلم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح) ( ).
الرابعة : مواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجراحاته وفقد حمزة وجهاد علي عليه السلام وسط الميدان للأنصار وأسرهم وذويهم إذ قتل منهم يوم أحد خمسة وستون على قول ابن إسحاق ، وقتل من المهاجرين أربعة هم حمزة عم النبي ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش ، وشماس بن عثمان( )، والمشهور أن مجموع الشهداء يومئذ سبعون.
ومن أسرار تسمية ( الأمر ) في ( تنازعتم في الأمر ) الدلالة على أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يرد لفظ الأمر على وجوه :
الأول : الحال والشأن .
الثاني : القضاء والمشيئة، قال تعالى [لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ] ( ).
الثالث : الشئ، ويجمع على أمور .
الرابع : إرادة معنى الطلب سواء مع لحاظ العلو أو الإستعلاء من الآمر أو بدونهما ، ويجمع على أوامر .
كما يفيد وبلحاظ القرينة معنى الغرض والحادثة والفعل والأمر العجيب كما في قوله تعالى [لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا] ( ).
والمراد في آية البحث هو الوجه الثالث أعلاه ومتعلق الأمر طلباً كان أو شيئاً هو الأمر الموجود ، والقطعة والفرد منه ، سواء كان مجملاً أو معيناً ، فتشير آية البحث إلى موضوع تنازع فيه المسلمون .
وهل يمكن إرادة معنى الطلب من لفظ الأمر الوارد في الآية السابقة , الجواب نعم ، إذ اختلف الرماة وأميرهم على البقاء في مواضعهم على الجبل أو تركهم له ، وقد سألهم عبد الله بن جبير طاعة الرسول بالبقاء (عن البراء قال جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا أميرهم عبد الله بن جبير ووضعهم موضعا، وقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم.
قال فأنا والله رأيت النساء يشددن على الجبل وقد بدت أسوقهن وخلاخيلهن رافعات ثيابهن , فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوموا للغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون.
وقال عبد الله بن جبير فنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير إثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا) ( ) .
ويحتمل إختلافهم في الأمر بمعنى الطلب وجوهاً :
الأول : إرادة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يبرحوا مواضعهم .
الثاني : المقصود أمر عبد الله بن جبير حين ذكّرهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : المراد من الأمر المناجاة بين الرماة والتناهي بينهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، ولذا نعتت الآية فعلهم بقوله تعالى [وَعَصَيْتُمْ] وفيه مسألة , وهي توثيق القرآن لحال خصومة بين فريق من المسلمين ترشحت عنها معصيتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما أمر به لبيان لزوم إجتناب مثل هذه المعصية .
فقد يتبادر إلى أذهان المسلمين إنحصار المعصية بخصوص العبادات والفرائض وسنن المعاملات ، فجاءت آية البحث لبيان قانون ، وهو مخالفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المعركة معصية أيضاً، ويكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : مخالفة أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معصية، يجب إجتنابها.
الصغرى : خالف الرماة يوم أحد أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
النتيجة : مخالفة الرماة أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم معصية .
وظاهر صيغة الخطاب في آية البحث هو إرادة العموم في لفظ [تَنَازَعْتُمْ].
وتقدير الآية بلحاظ العطف على ما قبلها (يا أيها الذين آمنوا تنازعتم في الأمر) .
ليكون من أسرار العطف في المقام حصول التنازع بصبغة الإيمان , فتنازع الرماة وغيرهم بينهم بما هم مؤمنون، فلذا أختتمت الآية بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]( ).
ولتبين آية البحث الأذى المترشح عن معصية طائفة من المسلمين لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال , وفيه زجر عن تجدد مثل هذه المعصية .
عجز المنافقين عن تعليم الأبناء النفاق
يدل إتحاد موضوع وزمان نزول آية البحث والسياق على الصلة والتداخل بينهما فقد نزلت الآيتان في موقعة أحد التي غيرّت وجه التأريخ لتترجح كفة الإيمان وتعلو راية الإسلام .
فان قلت قذ ذكرت في الجزء السابق أن معركة بدر غيرت وجه التأريخ، فقد يكون من تحصيل الحاصل أو أن المائز جلي بين معركة بدر وأحد إذ كان يوم بدر إنتصاراً مبيناً .
إذ إستيقظت المدينة المنورة على دخول الغنائم وسبعين أسيراً من كبراء قريش ، تعلو وجوههم الذلة والهوان ، وينادي عليهم صبيان المدينة من غير أن يعتدوا عليهم بالحجارة والحصى لبيان أن ملكة الأخلاق الحميدة مصاحبة للإيمان وتتغشى حتى صبيان وأطفال المسلمين .
ولم يتسرب النفاق إلى أطفال المنافقين مثلاً فيعبثوا لتشويه هذه القيم الحميدة في مسألة قدوم الأسرى أو غيرها مما يدل على أن النفاق ينقطع بأشخاصه وأفراده ، ولا يصل إلى الأبناء والذرية وقد جاءت آيات القرآن في ذم المنافقين وبيان خصالهم وسوء فعالهم وكانوا يثيرون يثيرون الشكوك ويشمتون بالمؤمنين ، ويصدونهم عن الجهاد ويؤازرون أسباب الكفر ، وفي التنزيل [أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ] ( ).
ولكنه لم يرد أنهم علّموا أبناءهم النفاق، وإظهار الإيمان وإخفاء الكفر لوجوه :
الأول : إخفاء المنافقين ما يبطنون من الكفر عن أبنائهم من جهات :
الأولى : خشية الفضيحة .
الثانية : إنكار الأبناء لنفاق آبائهم .
الثالثة : إمتناع الأبناء عن طاعة المنافقين .
الرابعة : تجلي معاني الإيمان عند جيل الأبناء وشباب المدينة .
الثاني : بشارة إنقطاع النفاق وأهله أو لا أقل ضعفه، وإصابة رجاله بالوهن والذل .
الثالث : توالي نزول الآيات التي تفضح المنافقين، وعلم وتلاوة أبنائهم للآيات ، وتناقلهم لأنباء التنزيل وتبادلهم التفسير وتأويل آيات القرآن، فصحيح أن تلك الآيات لم تذكر المنافقين بالاسم وعلى نحو التعيين، ولكن أبناء المنافقين يعلمون بان المراد هم آباؤهم لإنطباق صفات النفاق والخداع التي تذكر آيات القرآن في ذمهم عليهم، فيمتلأ قلب المنافق غيظاً مما يرى في المسجد والسوق والمنتديات من معالم الإيمان ، ويدخل إلى بيته ويظن أنه يستريح فيفاجئ بجريان معاني الهداية والتقوى على لسان أبنائه ، وهو من مصاديق آية السياق .
وتقدير الآية سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب حتى في بيوتهم .
الرابع : إدراك الذين نافقوا للقبح الذاتي للنفاق , والتباين والتضاد بين ما يظهرون من الإيمان وما يبطنون من الكفر , فلابد أن أحدهما هو الصحيح .
وتتوالى معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لينجذب الناس إلى الإيمان ويدرك المنافق أن الإيمان والهدى هو الصحيح، لذا يمتنع المنافق عن إرادة حمل إبنه على النفاق .
الخامس : من مصاديق آية السياق ، جعل المنافق والكافر عاجزين عن حمل أبنائهم على النفاق والكفر من جهات :
الأولى : عجز المنافق عن جعل إبنه منافقاً .
الثانية : لا يستطيع المنافق حمل إبنه على الكفر .
الثالثة : تخلف وتصور الكافر أو المنافق عن جعل الكفر إرثاً وتركة لأبنائه في مكة وما حولها لتوالي معجزات النبوة من وجوه :
أولاً : كل معجزة دعوة إلى الهدى , وإزاحة لمفاهيم الكفر والضلالة .
ثانياً : إجتماع وتعدد المعجزات جذب للإيمان ، وإصلاح لمسار التفكير ومقدمة للتدبر ، قال تعالى [أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ]( ).
ثالثاً : بتوالي نزول الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجريان المعجزة على يديه معجزة مستقلة قائمة بذاتها تطرد الوهم والزيغ عن النفوس، وتأتي على النفاق فتطرده من القلوب والمجتمعات .
السادس : جهاد المسلمين وإخلاصهم في أداء العبادات إمامة للصبيان ، وطريق عملي لهدايتهم وإصلاحهم ، وحث لهم لإجتناب الأصغاء إلى المنافقين , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
السابع : تجلي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتنمية ملكة التدبر والفطنة عند الصبيان .
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال [مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ] ( ).
الثامن : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشموله للأبناء والنساء والصبيان ، فيتلقى ابن المنافق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المسجد والشارع ومحل الدرس والتعليم .
التاسع : من أسباب منع دبيب النفاق إلى الأبناء ، قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحث على التعليم وتلاوة القرآن , ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم أنه جعل فداء الأسرى من المشركين في معركة بدر تعليم أولاد الأنصار الكتابة لتكون واقية لجيل الأبناء ضد النفاق، وسلاحاً لمحاربة المنافقين سواء كان أباً أو أخاً أو أماً أو من ذوي القربى أو أجنبي ، وتلك آية بأن يحارب الصبي المنافقين مجتمعين ومتفرقين بما تعلم من قراءة وكتابة الآيات وتفسيرها .
وعن ابن عباس قال (كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الانصار الكتابة، قال: فجاء غلام يوما يبكى إلى أمه فقالت: ما شأنك ؟ فقال: ضربني معلمي فقالت: الخببث يطلب بذحل( ) بدر ! والله لا تأتيه أبدا) ( ).
العاشر : تعدد وكثرة سبل الهداية التي تترشح من النبوة والتنزيل بالتلاوة والتزكية والإصلاح والتعليم ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ).
وهل عجز المنافقين عن تعليم أبنائهم النفاق معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم ، وهو من مصاديق آية السياق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] من جهات :
الأولى : صيرورة الرعب مانعاً عن إلتفات المنافقين لتعليم الأبناء النفاق.
الثانية : إصابة المنافقين بالرعب من الأبناء وتعليمهم ، وخشية صدودهم عنهم وفضحهم لهم .
الثالثة : من معاني وغايات الرعب معرفة المنافق للقبح , وإدراكه عدم قبول الناس له .
الرابعة : توبة أغلب المنافقين وهجرانهم النفاق ، وهل عجزهم عن تلقين وتعليم الأبناء النفاق سبب لتوبتهم , الجواب نعم ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
أولاً : تعلم الصغير من الكبير سبل الإيمان .
ثانياً : إتعاظ الكبير من الصغير الذي يتصف بالإيمان .
ثالثاً : تعلم المرأة من الرجل أسباب الهداية , وأحكام العبادات والفرائض .
رابعاً : تعلم الرجل سنن الإيمان من المرأة أماً أو أختاً أو بنتاً أو غيرهن.
وهذا التعدد معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا تفضل الله عز وجل وجعل نزول آيات القرآن نجوماً وعلى نحو التوالي والتعاقب لمدة ثلاث وعشرين سنة بلحاظ الوقائع والأحداث كأسباب لنزول شطر من آيات القرآن .
أقسام جديدة من العطف
من الإعجاز في الآية أعلاه أنها قدمت الفساد في الأرض بلحاظ أن النسبة بينه وبين سفك الدماء هي العموم والخصوص المطلق ، فالفساد أعم وأكبر , فيكون حرف العطف الواو في [وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] على وجوه :
الأول : إنه من عطف الخاص على العام ، بلحاظ أن الفساد هو الأعم.
الثاني : إنه من عطف الأشد على الأخف ، فسفك الدماء هو الأشد .
الثالث : الدلالة على عطف المسُبب على السبب ، بلحاظ أن التمادي في الفساد سبب للتجرأ على القتل , وسفك الدماء بغير حق .
الرابع : إنه من العطف بين المتساويين بلحاظ جهة القبح الذاتي لكل من الفساد وسفك الدماء .
الخامس : إنه من العطف بين المتشابه من الأفعال , مع إتحاد الفاعل .
السادس : العطف في الآية قسمان :
أولاً : إفادة الواو الجمع ، فمن الناس من يجمع بين الفساد وسفك الدماء.
ثانياً : إرادة التفريق , فمن الناس من يفسد في الأرض , ولكنه يتجنب سفك الدماء لأنه أمر عظيم ، ومنهم من يقدم على القتل وسفك الدماء , ولكنه يتجنب الفساد.
السابع : عطف القتل بغير حق على الفساد من عطف ذي المقدمة على المقدمة.
الثامن : إنه من عطف المقدمة على ذي المقدمة، بلحاظ أن القتل يكون أحياناً مقدمة وسبباً للفساد في الأرض والتمادي فيه.
التاسع : إفادة واو العطف الترتيب , فيفسد الكافر في الأرض ثم يقدم على القتل وسفك الدماء ، وهو الذي تجلى بقبح فعل كفار قريش إذ أفشوا عبادة الأصنام ، وهو من أشد الفساد , ووأدوا البنات ، وأحلوا المحارم ، وحينما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قتلوا المؤمنين , وجرى هذا القتل على وجوه :
الأول : قتل كفار قريش بعض الصحابة تحت التعذيب كما في قتل سمية أم عمار ، قال ابن إسحاق (وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة.
فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول – فيما بلغني -: ” صبرا آل ياسر موعدكم الجنة “.
وقد روى البيهقي عن الحاكم، عن إبراهيم بن عصمة العدل، حدثنا السرى بن خزيمة، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام بن أبى عبيد الله، عن أبى الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال : أبشروا آل عمار وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة ” فأما أمه فيقتلوها فتأبى إلا الاسلام) ( ).
الثاني : القتل غيلة وغدراً .
الثالث : قتل المجاهدين في سوح القتال ، كما في معركة أحد، إذ قتل سبعون شهيداً من المسلمين لتكون ساحة المعركة مرآة لأحوال الآخرة وكأنها عرصة من عرصاتها ، ومثالاً لحال الناس يوم القيامة، فالذي يقتل من المؤمنين يذهب إلى الجنة ، والذي يقُتل من الذين كفروا يساق إلى النار، وإذا كان الذين قتلوا من الصحابة مشمولين بالنداء [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]( )، فهل هم مشمولون بالخطاب : حتى إذا عصيتم .
الجواب لا ، لانهم بذلوا مهجهم في سبيل الله ، وأجادوا بنفوسهم دفاعاً عن النبوة والإسلام ، ولأن الآية نزلت بعد إستشهادهم فهم خارجون عن لغة الخطاب في [فَشِلْتُمْ][تَنَازَعْتُمْ][ عَصَيْتُمْ], وتنزه آية البحث رسول الله عن عمومات قوله تعالى ( وعصيتم ) ( إذ تصعدون ) لأنهم عصوا أمره , ولأنه يدعوهم.
لتتجلى حقيقة وهي أن النسبة بين أفراد جهة الخطاب في آية البحث هي العموم والخصوص المطلق ، فقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ] يفيد وجوهاً:
أولاً : وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر والغلبة على الذين كفروا , وفي معركة بدر (طَلَعَ الْمُشْرِكُونَ وَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ جَاءَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، جَاءَتْ تُحَادّك ، وَتُكَذّبُ رَسُولَكَ ” ، وَقَامَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَاسْتَنْصَرَ رَبّهُ , وَقَالَ اللّهُمّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللّهُمّ إنّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ ( ).
ثانياً : يشمل الخطاب والوعد في تنجزه الشهداء في معركة أحد من جهات:
الأولى : إشتراك الشهداء بقتل الذين كفروا .
الثانية : الإخبار بأن سقوط الشهداء لم يمنع من إستمرار وتعدد القتل بالذين كفروا .
الثالثة : إخبار القرآن عن حياة الشهداء عند الله بعد قتلهم ، فصحيح أنهم يفارقون الحياة الدنيا , ولكنهم يفدون على الله عز وجل فيبعث فيهم الحياة ويعيد لهم أرواحهم ، وفي نزول قوله تعالى ({وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتُ}.
قيل: نزلت في قتلى بدر مع المسلمين، وكانوا أربعة عشر رجلاً منهم ثمانية من الأنصار وستّة من المهاجرين ؛ وذلك إنّ النّاس كانوا يقولون : الرّجل يقتل في سبيل الله : مات فلان ، وذهب منه نعيم الدُّنيا ولذّتها، فأنزل الله تعالى {وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتُ} أي هم أموات بل إنهم أحياء( ).
والمختار أن الآية أعم بدليل صيغة المضارع المتعدد الذي جاءت به ، فلم تقل الآية : ولا تقولوا لمن قتل في سبيل الله أموات.
فلا تصل النوبة إلى قاعدة أن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول، بل ذات الآية تتضمن معنى العموم والتجدد , وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
ثالثاً : وعد الله عز جل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة، والمسلمين بالإلحاق والتبعية.
رابعاً : وعد الله عز وجل للمسلمين بالذات.
ومن الإعجاز في الصلة بين الآيتين , ورود قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] بصيغة الجملة الإسمية التي تفيد الثبات والدوام وإخبار آية البحث عن حدوث الفشل والجبن والنزاع والمعصية من قبل المسلمين بصيغة الفعل المضارع ، وفيه نكتة وهي حضور وتعضيد ونصرة ولاية الله للمسلمين في كل الأحوال , ومن دلالاته : البشارة والسكينة للمسلمين إن عصيتم مرة أخرى فان الله مولاكم.
قانون ترتب الأثر على إلقاء الرعب
من الإعجاز في آية السياق وهي الآية السابقة ( ) أنها تبين الأذى الشديد الذي يلقاه الذين كفروا بالله والنبوة والتنزيل , وهو على قسمين :
الأول : الأذى في الحياة الدنيا ، وهو غزو الرعب قلوب الذين كفروا، بما لا سبيل الى رده ودفعه أو رفعه إلا بالتوبة وتبدل الموضوع.
الثاني : الأذى والضرر في الآخرة بإقامة الذين كفروا الدائمة في النار .
وكما أن حلول الرعب في قلوب الذين كفروا حق وصدق لأنه من عند الله وتجلت الشواهد العديدة عليه في معركة بدر وأحد والخندق وصلح الحديبية وفتح مكة ، فكذا بالنسبة لعذابهم الأشد في الآخرة فانه حق وصدق ، قال تعالى[وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ]( ) .
ويترتب الأثر على إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من وجوه:
الأول : الأثر الذاتي ، وهو الذي يتجلى وتظهر أماراته على ذات الذين كفروا , وليس من حصر لأوان وحال الذين كفروا الذين يظهر عليهم فيه الرعب والفزع .
الثاني: الأثر الغيري الذي تتبين معالمه على غير الذي كفروا، وفيه وجوه:
أولاً : الأثر الغيري على أنصار الذين كفروا بلحوق الرعب والفزع بهم .
ثانياً : الأثر الغيري على عوائل الذين كفروا , ويتجلى من جهات :
الأولى : ذم الكفر وأسبابه .
الثانية : دعوة الأم والزوجة والبنت الكافر من الأسرة إلى التوبة والإنابة ، لا أقل الكف عن التعدي على المسلمين .
الثالثة : دخول بعض عوائل الذين كفروا في الإسلام ، وهو من أسرار توجه خطابات القرآن إلى الناس جميعاً رجالاً ونساءً بلحاظ العقل والبلوغ والتكليف.
الرابعة : المناجاة بالشكوى والأذى من الرعب .
حديث الملائكة
لقد جعل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، وخصه بالمعجزة الفعلية إلى جانب مشاركته للأنبياء السابقين بالمعجزة الحسية وإن تباينت مصاديق هذه المعجزات.
فنبي الله نوح عليه السلام رزقه الله سبحانه السفينة.
ورزق الله عز وجل النبي صالحاً الناقة، قال تعالى[إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ]( ).
ورزق الله عز وجل موسى عليه السلام العصا آية متجددة، وكذا يتجلى التجدد والتكرار في معجزات عيسى عليه السلام، لذا ورد في التنزيل بصيغة المضارع حكاية عنه في خطابه لبني إسرائيل[قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ]( ).
ومن الإعجاز الذاتي للقرآن تسمية كل واحدة من الآيات القرآنية، بالآية قال تعالى[وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ]( ).
ومما رزقه الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نزول الملائكة لنصرته والمؤمنين، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وروى أن السائب بن أبي حبيش الأسدي
كان يحدث فيقول: والله ما أسرني يوم بدر أحد من الناس، ولما انهزمت قريش انهزمت معها فأدركني رجل أبيض طويل على فرس أبلق بين السماء والارض، فأوثقني رباطا، وجاء
عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا، وكان عبد الرحمن ينادي في العسكر: من أسر هذا ؟
فليس أحد يزعم أنه أسرني حتى انتهى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: يابن أبي حبيش من أسرك ؟ قلت: لا أعرفه، وكرهت أن أخبره بالذي رأيت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أسره ملك من الملائكة كريم،
إذهب يا بن عوف بأسيرك، فذهب بي عبد الرحمن) ( ).
لبيان أن قوله تعالى للملائكة يوم أحد [وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ) لا يعني حصر نصرة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه بالقتل بل يشمل الأسر والتخويف وإلقاء الرعب في قلوب المشركين.
ومن إعجاز القرآن أن لفظ [اضْرِبُوا] لم يرد في القرآن إلا في الآية أعلاه وعلى نحو التكرار مرتين ، وفيه نكتة من جهات :
الأولى : يعلم الملائكة من يستحق القتل يوم أحد .
الثانية : إرادة تحقيق النصر والغلبة للمسلمين .
الثالثة : بعث الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا من الملائكة حتى في حال السلم .
الرابعة : بيان حاجة الملائكة في نصرتهم إلى إلقاء الرعب من عند الله في قلوب الذين كفروا , ويكون من مصاديق آية السياق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] أموراً :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بنزول الملائكة ) لذا جاءت الآية بحرف الإستقبال [السين] أي سينزل الملائكة ويبعث الله الرعب في صفوف المشركين، وبين إلقاء الرعب في قلوبهم ونزول الملائكة كعلة لإلقاء الرعب في قلوبهم عموم وخصوص مطلق بلحاظ تعدد أسباب الرعب .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بقيام الملائكة بقتل طائفة من الذين كفروا , وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) فهذه الخيبة بسبب قتل طائفة من الكفار , وبث الرعب في قلوبهم .
الثالث : قيام الملائكة ببعث الأصوات المفزعة وحركة الأشياء من حول المشركين بما يخيفهم , ولا يسمعها المؤمنون , أو يسمعونها , ولكن بمرتبة وكيفية خالية من الرعب , ليكونوا شهداء شاكرين لأنعم الله سبحانه .
(وعن حكيم بن حزام قال: التقينا فاقتتلنا , فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الأرض) ( ).
وعن (نوفل بن معاوية الديلي يقول : انهزمنا يوم بدر , ونحن نسمع صوتا كوقع الحصى في الطاس في أفئدتنا ومن خلفنا، وكان ذلك من أشد الرعب علينا) ( ).
الرابع : تفضل الله عز وجل وعيّن للملائكة المواضع من البدن التي يضربونها ويقصد, وهذا التعيين من مصاديق إكرام الإنسان بخلافته في الأرض , وطرو الإستثناء لبعضهم بإختيا.
وهل يختص مجي الرعب لقلوب الذين كفروا بالإلقاء من عند الله أم يأتي بالأسباب والوسائط أيضاً.
الجواب هو الثاني لبيان تعدد سبل الأمر الإلهي وتجليات مصاديق سخط الله على الذين كفروا ، فيكون تقدير الآية على وجوه كثيرة ومتعددة , ويمكن تقسيمها إلى أقسام منها :
الأول : الرعب الذي يأتي للذين كفروا في مواطن القتال , وهو على شعب :
الأولى : معركة بدر .
الثانية : معركة أحد وهي موضوع نزول آية السياق والبحث .
الثالثة : معركة الخندق .
الرابعة : معركة حنين، وورد في معركة حنين قوله تعالى[وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : في يوم حنين أمد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، ويومئذ سمى الله تعالى الأنصار مؤمنين قال { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين( ).
الخامسة : كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسرايا التي بعثها في أطراف المدينة .
الثاني : آيات القرآن ، ويكون الرعب فيها على شعب :
الأولى : نزول آيات الإنذار , وما فيها من الوعيد .
الثانية : آيات المشيئة والملكية المطلقة لله عز وجل .
الثالثة : نزول آيات البشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة , ومنها آية البحث , وهل الرعب الذي يأتي للذين كفروا بسبب آية البحث متحد أم متعدد , الجواب هو الثاني من وجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل بخطاب المسلمين بصيغة الإكرام وإنعدام الواسطة .
الثاني : بقاء الخطاب القرآني [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]متجدداً ومتوجهاً إلى كل المسلمين والمسلمات وفي كل زمان ، وهل يدرك الكفار هذه الحقيقة ، الجواب نعم ، وهو من أسباب إصابتهم بالرعب لما فيه من بعث لليأس في نفوسهم والعجز عن منع إنتشار الإسلام .
الثالث : كما صدق الله عز وجل وعده مع المسلمين بالنصر ، فانه سبحانه يصدق وعيده بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
ويمكن إستقراء قانون من الجمع بين آية البحث والسياق من مسألتين :
الأولى : الوعد للمؤمنين وعيد للذين كفروا .
الثانية : الوعيد للذين كفروا وعد وأمن للذين آمنوا.
ومن إعجاز نظم آيات القرآن مجئ الآية السابقة بالوعيد للذين كفروا، بينما وردت آية البحث بالوعد للذين آمنوا ، فاذا لم يلتفت الذين كفروا للتخويف وزحف الرعب إلى قلوبهم وإنعدام البرزخ والحاجز دونه، فان البلاء والهزيمة تحل بهم لمصاديق قوله تعالى [وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ] ( ).
الثالث : ما يحل بالذين كفروا من الرعب والفزع بعد إنتهاء المعركة ، وفقدان الأحبة والأبطال وسقوطهم قتلى .
وكان يشار إلى شجعان وفرسان من قريش مثل عمرو بن ود العامري فأرداه الإمام علي عليه السلام قتيلاً في معركة الخندق ، وكأن كثرة الأحزاب التي جاءت معه لم تنفعه ، وهو من الشواهد بأن الرعب يدخل قلوب الذين كفروا وإن كثر عددهم وعدتهم ، ليكون إلقاء الرعب في قلوبهم مقدمة لخورهم وجبنهم.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn