معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 127

المقدمـــة
الحمد لله الذي خلق كل شيء بسلطان قدرته، وتجليات حكمته ولطفه وواسع إحسانه، الحمد لله الذي جعل كل شيء محتاجاً إلى رحمته في وجوده وإستدامته وفنائه وصلى الله على محمد وآله وسلم .
الحمد لله الذي تواضعت الخلائق لعظمته , ويأبى ويعجز كل فرد منها عن الخروج عن ملكه بذاته أو مجتمعاً مع غيره.
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وتفضل وجعل قول[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم وبصيغة القرآنية , لا عن حاجة منه تعالى للناس، وهو[الَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( )، ولكن ليفتح لهم وللناس جميعاً أبواب فضله، وخزائن رحمته.
وقد دخل وخاض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار حومة القتال في معركة بدر ثم معركة أحد والخندق وحنين وغيرها دفاعاً ليفوز الناس جميعاً بشآبيب الرحمة، وتنزل عليهم فيوضات الرأفة، وهو من الإعجاز في ( السنة الدفاعية ) وهو مصطلح جديد وعلم مستقل أسسناه في هذا السفر بشطر أقسام السنة بما يفيد البيان , ويكون مقدمة لإستقراء العلوم وإستنباط المسائل من السنة النبوية , وكانت تقسيم السنة إستقراءً على ثلاثة أقسام , وهي:
الأول : السنة القولية
الثاني : السنة الفعلية.
الثالث : السنة التقريرية.
وأضفنا لها أقساماً وهي:
الرابع : السنة التدوينية وهي مجموع ما كتبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لملوك زمانه , وأمراء السرايا , والعمال الذين بعثهم للأمصار ولنصارى نجران وغيرهم، وكل كتاب وثيقة من كنوز الوحي.
الخامس : السنة الدفاعية : وتتضمن أقوال وأفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الدفاع، وفي ساحة المعركة، ومقدمات القتال، وما يتعقب المعركة من قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه ما يختص بآية البحث , ومنها دلالات قوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ].
السادس : السنة العبادية الخاصة بأحكام العبادات .
السابع : السنة النبوية في المعاملات والأحكام , وتنظيم شؤون الأسرة.
ومما فاز به المسلمون أمور :
الأول : توثيق الوقائع والأحداث لفترة النبوة والتنزيل من السماء ، وهو من مصاديق [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثاني : بقاء الذكر السماوي لوقائع أيام النبوة بين الناس إلى يوم القيامة سالماً بآيات القرآن من التحريف والتبديل .
الثالث : تسليم المسلمين وغيرهم بان القرآن تنزيل سماوي .
الرابع : إرادة الأجر والثواب العظيم عند تلاوة آيات الوقائع والأحداث زمن النبوة .
الخامس : إستقراء علم من علوم القرآن هو (علم أسباب النزول ) وصيرورته مدرسة فقهية وأصولية ، مع الإقرار بأن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول .
السادس : إستقراء إكرام أهل البيت والصحابة من دلالات آيات الوقائع والأحداث ومنها آية البحث وهي [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ).
فان قلت تبين هذه الآية إنسحاب وفرار شطر من الصحابة من وسط الميدان والتخصيص بالشطر بلحاظ ما ثبت من بقاء نفر منهم يقاتلون مع ودون النبي .
الجواب إن الوصف في ذات الآية وغيرها أعم من أن يختص بالفرار من جهات :
الجهة الأولى : لغة الخطاب بصيغة الإيمان لعطف هذه الآية على النداء الوارد قبل أربع آيات [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( )، وفيه وجوه:
أولاً : تقدير آية البحث إذ تصعدون يا أيها الذين آمنوا… ) وفيه نكتة وهي دلالة النداء بالإيمان على إنتفاء اللوم والذم والتوبيخ ، لبيان أن فضل الله عز وجل على الشكر على الإيمان هو الأعظم.
وهل هو من قاعدة تقديم الأهم على المهم , الجواب لا، لأن القدر المتيقن من هذه القاعدة هو عالم الأفعال والواجبات والمستحبات ، ليس من جهة تعدد الفضل الإلهي , إذ ينعدم بين أفراده مع كثرته وإتصاله وحضوره الدائم التزاحم والتعارض .
ثانياً : من معاني قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] إخبار أجيال المسلمين المتعاقبة ذكوراً وأناثاً عما لاقاه المسلمون الأوائل من الأذى وحرارة السيوف وقسوة الظالمين ، وإرادتهم إكراه وإغواء المسلمين على التخلي عن دينهم .
ثالثاً : إقامة الحجة على الذين كفروا ، وكيف كانوا يصرون على مسائل :
الأولى : بذل الذين كفروا من قريش ومن والاهم الوسع في محاربة النبوة التي تجلت معجزاتها من بين ظهرانيهم ، ومن جوار البيت الحرام ، قال تعالى [وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ).
لتكون هذه الآيات إنذاراً للكافرين ، وحجة في قهر مفاهيم الكفر والضلالة في مكة المكرمة وما حولها.
إن بعث أنوار وإعجاز التنزيل من مكة المكرمة من أسرار قوله تعالى[وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ) .
وعن ابن عباس قال: لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض، بعث الله تعالى ريحاً هفافة فصفقت الريح الماء، فأبرزت عن حشفة في موضع البيت كأنها قبة ، فدحا الله تعالى الأرض من تحتها، فمادت ثم مادت فأوتدها الله بالجبال، فكان أبو قبيس أول جبل وضع فيه , فلذلك سميت أم القرى ( ).
وأبو قبيس اسم جبل صغير مطل على البيت الحرام من جهة جبل الصفا .
وهذا المعنى لا يتعارض مع إنجذاب الناس لمكة والبيت الحرام، والدعوة إلى التوحيد التي تنطلق منها، لبيان الأذى الإضافي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في تحمل أعباء الهجرة وبناء دولة الإيمان في المدينة، وإصرار قريش على تجهيز الجيوش العظيمة لقتاله وموالاة أكثر القبائل حول مكة لقريش في بداية الأمر.
وتجلى الفتح ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم هجرته ثم النصر في معركة بدر وأحد ومعارك الإسلام إلى أن تم الفتح المبين بدخوله مكة محرراً من جاثوم الأوثان من غير قتال يذكر .
الثانية : بذل الذين كفروا الأموال الطائلة وتعطيلهم التجارة في [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) لإرادة صد الناس عن الإسلام وتجهيز الجيوش لمحاربته .
الثالثة : إرادة الكفار وقف نزول آيات القرآن , فكان نزوله نجوماً وعلى نحو التدريج إستدراجاً لهم ، فقد ظنوا أنهم يستطيعون منع تنزيله بالإجهاز على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتله غيلة أو في ميدان القتال .
فلا غرابة أن تنتشر بين صفوف الفريقين في معركة أحد إشاعة قتله صلى الله عليه وآله وسلم [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( )، بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم أحد .
وليكون إنكشاف زيف هذه الإشاعة عيداً للمسلمين إلى يوم القيامة بلحاظ بطلان وزيف ذات الإشاعة , والنفع العظيم لبقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم حياً بعدها والنعم العظيمة على المسلمين في كل يوم من حياته , على الأمة والناس .
وتبين لغة العطف في الآية أن المؤمنين إنسحبوا من وسط المعركة من غير جزع أو فزع أو يأس بدليل أنهم لم يذهبوا بعيداً ، ولم يقصدوا المدينة راجعين ، بل بقوا في أطراف ميدان المعركة.
ولو دار الأمر بين قصدهم الفرار أو التجمع وإعادة التنظيم للرجوع إلى ميدان القتال ، فالصحيح هو الثاني وهو المستقرأ من صيغة النداء بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ( ) المعطوفة عليه هذه الآية , ومفهوم الآية السابقة التي تدل على قربهم وسماعهم دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ).
وتقدير آية البحث (إذ تصعدون وأنتم مؤمنون ) ليفتح هذا التأويل والتقريب خزائن من العلم وأسرار العطف في القرآن , وأنه لا يختص بالمعنى اللغوي أو ذات الكلمتين أو الجملتين من المعطوف والمعطوف عليه ، بل له دلالات عقائدية تأتي متعقبة تستقرأ من ثنايا الآيات .
الجهة الثانية : بيان موضوع صعود وإنسحاب المسلمين ، وأنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله ، ويرفعون لواء الإسلام ويتعاهدون الفرائض، ويذبون عن كلمة التوحيد , ويبينون بالبرهان صدق النبوة، وإذ كان قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]وصفاً وبياناً خالياً من الذم واللوم فهل هو من عمومات قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] ( )، أم أن القدر المتيقن هو التكاليف والأفعال العبادية.
الجواب هو الأول لأصالة الإطلاق ، وإرادة المعنى الأعم في رحمة الله ومضامين التخفيف عن المسلمين والناس جميعاً .
ويمكن تأسيس قانون وهو إذا دار الأمر بين الأعم والأخص في متعلق وموارد التخفيف في الأحكام والتكاليف ، فالأصل هو الأعم والأكثر ، وهو من مصاديق سعة رحمة الله عز وجل وأنه يعطي بالأتم والأوفى.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم (عن حكيم بن جابر قال : لما نزلت { آمن الرسول } ( ) قال جبريل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه .
فسأل { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } حتى ختم السورة بمسألة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ).
وسيبقى إنسحاب وصعود شطر من المسلمين إلى الجبل وتركهم القتال عند إشتداده ومجئ خيالة العدو من خلفهم حجة على الذين كفروا لأنهم لم يكتفوا بتخويف المسلمين ولا إيذائهم على نحو القضية الشخصية كما في تعذيبهم لعمار بن ياسر وأمه وأبيه ولبلال وغيرهم في مكة المكرمة قبل الهجرة ، بل ساروا بالجيوش العظيمة للقتال ليكون عنوان التحدي الأكبر بتجلي المصداق العملي لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية .
ولتكون معجزاته في باب الدفاع والقتال على وجوه منها :
أولاً : نصر المسلمين في معارك الإسلام الأولى تصديق للمعجزات العقلية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : صيرورة ميدان القتال مادة وموضوعاً لتثبيت معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية، وأراد الذين كفروا تكذيب هذه المعجزات بالسيف وإبطالها بالقتال ، وإخبار الناس عن حقيقة بسيطة غير مركبة وهي السعي لقهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ليؤكدوا للناس بأنه إذا كان نبياً كيف يُقهر ويُغلب وينهزم هو وأصحابه من المعركة ويرجعون إلى المدينة فارين .
فتفضل الله عز وجل وعصم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من القتل وأصحابه من الفرار والرجوع إلى المدينة بل صعدوا إلى الجبل وأنتظروا جلاء الأمر ، والسلامة من الإرباك وتشتت الصفوف فجاءهم ما هو أسرع مما ينتظرون وهو دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم لتكون هذه الدعوة بذاتها نصراً من عند الله , ومن مصاديق قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
ثالثاً : من رشحات الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم رجوع الصحابة منهزمين إلى المدينة مع أنها لا تبعد عنهم سوى خمسة كيلو متر .
لقد جاء المهاجرون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة هاربين بدينهم ، وتلقاه الأوس والخزرج من أهل المدينة بالنصرة فنال كل فريق منهم إسماً إختص به من بين أهل الأرض وإلى يوم القيامة إذ ورد ذكرهم في القرآن مع الثناء عليهم بالسبق إلى الإيمان ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] ( ).
وهو من أسرار حفظ القرآن وسلامته من التحريف والتبديل والتغيير وحاجة الناس في كل زمان إلى هذه السلامة ، وهل ذكرهم هذا من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه خصوص الخصال التي يتصف بها المسلمون على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي ، الجواب هو الأول ، لذا وردت آية البحث للإتعاظ وبيان جهاد وصبر المسلمين الأوائل ، وإتحادهم ونبذهم أسباب الفرقة والخلاف .
وخرج المهاجرون والأنصار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر فأثابهم الله على إيمانهم فنصرهم بالمعجزة من جهات :
الأولى : ذات نصر المؤمنين يوم بدر معجزة .
الثانية : توثيق القرآن لمعركة بدر والنصر فيها معجزة بذاته .
الثالثة : إختصاص معركة بدر بالأسماء في السماء والأرض وهي :
الأول : اسم خاص بيوم واقعة بدر من بين أيام الحياة الدنيا ، وهو يوم الفرقان ، فلم ترد هذه التسمية لأي يوم آخر ، قال تعالى [إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
الثاني : اسم ( بدر ) المستقرأ من قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، وليكون هذا الإصطلاح إسماً مختاراً لكثير من أبناء المسلمين لتصاحبهم بركاته في أيام حياتهم , وهو من مصاديق الحسن في الأسماء مال إليه المسلمون , وإختاروا أن يكون مصاحباً لهم في حياتهم بدلالة الاسم على المسمى .
الثالث : اسم لذات يوم معركة بدر من القرآن [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]وهذا الاسم ورد ثلاث مرات في القرآن منها مرة خاصاً بمعركة بدر كما تبينه الآية أعلاه من سورة الأنفال ، ومرتين بخصوص معركة أحد , وكلاهما في النصف الثاني من سورة آل عمران .
فيأتي بعد آيتين قوله [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( )لقد كانت وراء كل مهاجر وأنصاري صفحة مشرقة من الصبر والجهاد وحسن الإختيار فحرصوا على أن لا يطفأ ضياء هذه الصفحات في ساعة الشدة وحين البأس ، فلم يغادر نفر وطائفة منهم هاربين إلى المدينة ، ولا عبرة بالقليل النادر الذين تذكرهم الآية أعلاه ، والتي تدل في مفهومها على عدم حدوث التولي والهروب من طائفة وفريق من المؤمنين ، كما تدل عليه آية البحث في منطوقها ببيان دعوة الرسول للمؤمنين في أخراهم، ودلالة التقييد [فِي أُخْرَاكُمْ]على قربهم من ساحة المعركة بلحاظ كبرى كلية وهي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يقاتل ولم يغادر وسط المعركة .
نعم لقد رجع الذين كفروا القهقرى إلى مكة المكرمة نحو خمسمائة كيلو متر بخيبة وخزي , قال تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ].
وهذا الرجوع شاهد على عدم نيلهم أي نصيب من النصر والظفر ، وصار حجة عليهم ومقدمة لخيبتهم يوم القيامة وحلول العذاب بهم [جَزَاءً وِفَاقًا] ( ).
رابعاً : من خصائص السلطان أن الملك والأمير يتجنب السير في أول الصفوف وملاقاة العدو بشخصه في الغالب ، فيكتفي بالجنود وأمراء السرايا ذوي التدريب وأهل الشجاعة والإقدام ، حتى إذا صار إنكسار للجيش سهل عليه الإنسحاب وجمع شمل أصحابه ، هذا إذا خرج للقتال ، وغالباً ما يبقى في بلدته وقصره يعيش حياته اليومية وكأنه ليس من حرب وقتال .
ولكن معركة أحد بينت خصلة من خصال النبوة من جهات :
الأولى : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه الأوامر العامة للجيش والخاصة للأمراء والأفراد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
إذ تدل لام الإستغراق في [الْمُؤْمِنِينَ] على توجيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأوامر للعام والخاص منهم ، وبيان أنهم متساوون في التكليف , وبعرض واحد في المسؤولية وتلقي الثواب ، وهذا العموم من إعجاز القرآن في تساوي المقاتلين في ساحة المعركة ، وما فيه من بعث الحماس في نفوسهم وحجب الغل والحسد عنهم , لذا حينما ندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب للخروج لمبارزة الذين سألوا المبارزة من الذين كفروا يوم بدر , وأصروا على كون المبارزين لهم من قريش , ناداه بإسمه , وقال له : قم يا حمزة .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسوي الصفوف بنفسه ويرجع المتقدم ، ويقدم المتأخر لإصلاح الصفوف .
وفي يوم بدر كان في يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدح( ) يعدل به أصحابه فمر بمؤمن إسمه سواد فطعن طعناً خفيفاً النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فِي بَطْنِهِ بِالْقِدْحِ وَقَالَ اسْتَوِ يَا سَوّادُ .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَوْجَعْتنِي وَقَدْ بَعَثَك اللّهُ بِالْحَقّ وَالْعَدْلِ قَالَ فَأَقِدْنِي .
فَكَشَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَنْ بَطْنِهِ وَقَالَ اسْتَقِدْ قَالَ فَاعْتَنَقَهُ فَقَبّلَ بَطْنَهُ .
فَقَالَ مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا يَا سَوّادُ ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهَ حَضَرَ مَا تَرَى ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِك أَنْ يَمَسّ جِلْدِي جِلْدَك .
فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِخَيْرِ وَقَالَهُ له( )) ( ) ويتضمن هذا الحديث سراً من أسرار السنة الدفاعية ، فمع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ملاقاه العدو في المعركة الفاصلة بين الحق والباطل ، حتى أنه توجه إلى الله بالدعاء (يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً) ( ).
فانه صلى الله عليه وآله وسلم دعا سواداً باسمه مما يدل على معرفته بأسماء الصحابة ومما يبعث الحماس في نفس الجندي أن يدعوه القائد باسمه , ويشعره بأنه يعرفه شخصياً وبخير , وفيه دلالة على إكرامه والتطلع إلى بدنه الكشف عن بطنه وأمره بالقود مع أنه لم يفعل إلا ما كان بالوحي، ومنه تسوية الصفوف وسؤاله الله عز وجل له.
وذات الدعاء أعلاه الذي دعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ودعاه يوم أحد مع فارق ، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توجه بالدعاء بنصرة المسلمين لإحياء عبادة الله في الأرض قبل إلتقاء الصفين ، أما في معركة أحد فانه دعاه بعد أن إنكسر المسلمون وبعد أن دعاء أصحابه في قوله تعالى في آية البحث [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ) إذ إجتمع المسلمون عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وأخذوا يتذاكرون ما فاتهم من الظفر والفتح , فأطل عليهم رؤساء الذين كفروا من قريش آخر النهار , ووقفوا بباب الشعب فخشى المسلمون أن يجهزوا عليهم .
ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث السكينة في نفوسهم إذ قال : ليس لهم أن يعلونا ) ( ), وفيه شاهد على موضوعية الوحي في السنة النبوية.
وليبين في ساعة الحرج قانوناً من فضل الله في أنظمة وقواعد القتال بين المسلمين والذين كفروا ثم قال (اللهم إن تُقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم فنزلوا سريعاً)( ).
وفيه دلالة على أن معركة أحد فرقان بين الحق والباطل وأنها بمرتبة معركة بدر في الشأن والأثر وإن أختتمت معركة بدر بخصوصيات النصر المبين للمسلمين ، لذا فلا غرابة أن يكون نصيب معركة أحد من آيات القرآن أكثر من أية معركة أخرى من معارك الإسلام ، بينما وردت آيات قليلة بخصوص بدر , منها قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )لبيان أن الحقيقة أمر بسيط غير مركب ، وكذا النصر التام من عند الله يوم بدر بسيط غير مركب لأنه جاء بالكاف والنون وقوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
وفيه تأكيد بأن الله عز وجل قادر على كل شيء , ومنه فورية وقوع الأمر وتنجز الوعد ، وهو الذي تجلى بقوله تعالى في أول الآية السابقة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] ( ).
الجهة الثالثة : يمكن إستقراء قانون من الإرادة التكوينية من جهتين :
الأولى : إذا دار الأمر في الخطاب الموجه للكفار والمنافقين والظالمين بين إرادة توجيه اللوم لهم أم بيان الموضوع وذكر الخبر بالذات , فالأصل هو الأول لنزول القرآن بالبشارة والوعد الكريم للمؤمنين والإنذار والوعيد للكافرين .
وتأتي ذات الآية القرآنية لتكون في منطوقها ثناءً على المسلمين وفي مفهومها ذماً وتوبيخاً للذين كفروا , وكل فرد منها من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( )لتأتي أسباب الهداية على نحو دفعي وتدريجي وبالتعدد بلحاظ المنطوق والمفهوم .
وقد ينزل بالناس أمر متحد في سخيته , فيكون رحمة للمؤمنين وعذاباً للكافرين
عن موسى بن طلحة قال : بلغ عائشة ، أن ابن عمر ، يقول : إن موت الفجأة سخطة على المؤمنين ، فقالت : يغفر الله لابن عمر، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « موت الفجأة تخفيف عن المؤمنين ، وسخطة على الكافرين) ( ) .
ويفتح هذا القانون بجهتيه على المؤمنين أبواباً من ذخائر ودلالات الآية القرآنية ، وهو واقية من الخلاف في تفسير ومعاني الآية القرآنية .
لقد ذكرت الآية السابقة التنازع بين الرماة في معركة أحد بقوله تعالى[وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] أي في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للرماة إذ كانوا على قسمين :
الأول : الذين يرون ويشاهدون هزيمة الكفار في الميدان ومعها قالوا لابد من البقاء على الجبل وعدم النزول منه إلى أن تنتهي المعركة , وهم عبد الله بن جبير رئيس فريق الرماة , ونحو ثمانية من أصحابه من مجموع خمسين من الرماة .
الثاني : الرماة الذين تركوا مواضعهم ، وهم أكثر من أربعين وقالوا أن وصية النبي خاصة بفترة المبارزة وإلتقاء الصفين , أما وقد فشي القتل في الذين كفروا وإنهزموا , فنحن في حل من الوصية لإنتفاء موضوعها .
فبينت الآية السابقة الحكم في المقام وأخبرت عن أمور :
الأول : حس وقتل المؤمنين للذين كفروا .
الثاني : إصابة المؤمنين بالفشل والجبن .
الثالث : حدوث التنازع والخصومة بين المؤمنين .
الرابع : معصية أغلب الرماة لأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , أي أن إجتهادهم بتأويل وصيته لم يشفع لهم , وينجيهم من نعت فعلهم بالمعصية , كما ورد في الآية السابقة ( وعصيتم ).
ليكون من إعجاز الآية السابقة بيان التنازع وموضوعه والحكم فيه ، وهو أن الذين تركوا مواضعهم فعلوا معصية وأن الحق مع الذين بقوا حيث أقامهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليحموا ظهور جيش المسلمين وهم عبد الله بن جبير وأصحابه إذ جاءتهم خيل الذين كفروا وصعدوا إليهم وقتلوهم جميعاً .
ليكون من مفاهيم [وَعَصَيْتُمْ] الثناء على الرماة الذين بقوا في مواضعهم والشكر لهم من الله بعد مقتلهم وشهادتهم في دعوة للمسلمين والمسلمات إلى إكرامهم وهو من الثواب الحاضر للشهيد بذكره الحسن في القرآن .
ومن الآيات أن موضعهم صار مزاراً على مدار السنة لوفد الحاج والمعتمرين , وإلى يومنا هذا .
الثانية : إذا دار الأمر في الخطاب القرآني الموجه للمسلمين بين تضمينه اللوم والذم أو خلوه منهما ، فالأصل هو الثاني وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
بتقريب وهو إجتماع إكرام وتفضيل المسلمين في الآية أعلاه ومنه فضل الله عز وجل عليهم بالسلامة من اللوم والذم والتوبيخ ،ويكون تقدير آية البحث على وجوه منها :
أولاً : إذ تصعدون رجاء فضل الله .
ثانياً : إذ تصعدون بسلامة من دينكم .
ثالثاً : إذ تصعدون لإعادة الكرة على الذين كفروا .
رابعاً : إذ تصعدون إحترازاً من إطاعة الذين كفروا بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
خامساً : إ ذ تصعدون إلى الجبل وتأبون الرجوع إلى المدينة والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا زال وسط الميدان .
سادساً : إذ تصعدون لتطمئنوا على كذب إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
سابعاً : إذ تصعدون توكلاً على الله ورجاء نصره بنزول الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكم ، وهو من الإعجاز في لغة الخطاب والإخبار عن صيرورة الملائكة مدداً للمؤمنين في قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ) .
فالمتبادر أن نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته ودعوته النبوية إلى التوحيد وتبليغه أحكام الشريعة فجاءت الآية أعلاه لتخبر على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مجئ الملائكة لنصرة المؤمنين .
وهناك مسائل :
الأولى : كيف يصعد وينسحب المؤمنون , وقد نزل الملائكة لنصرتهم .
الثانية : هل تدل الآية أعلاه على نزول الملائكة لنصرة المؤمنين بعد صعودهم وإنسحابهم .
الثالثة : هل رأى أو علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالملائكة عند نزولهم أو أخبره الله بالوحي عن عددهم ونزولهم ، بلحاظ أن النسبة بين الوحي والقرآن هي العموم والخصوص المطلق , فالوحي أعم , ومنه الحديث القدسي ، ومصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الرابعة : هل هناك ملائكة آخرون غير الثلاثة آلاف نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كما تخبر الآية التالية لها بقوله تعالى [يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
أما الأولى فلا تعارض بين نزول الملائكة وصعود المؤمنين الجبل ، وتقدير آية البحث بلحاظ الآية أعلاه على وجوه :
أولاً : إذ تصعدون ليتولى الملائكة قتال الذين كفروا ) فقد إجتهد المسلمون في الدفاع وعندما فاجأهم العدو من الخلف وعمل السيوف فيهم لجأوا إلى رجاء رحمة الله , وفوضوا الأمر إليه سبحانه فانزل ملائكة يقاتلون بدلهم ودونهم وعنهم ومن أجلهم , وهو من مصاديق الإطلاق والكفاية التامة بقوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
ثانياً : إذ تصعدون لما أخبرتم عن نزول الملائكة مدداً لكم رجاء بيان آية وبرهان في نصرة الله لنبيه الكريم .
ثالثاً : إذ تصعدون ليتجلى للناس جميعاً أن الله عز وجل هو الذي دافع عن النبوة والإسلام ، فقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر ومعه المهاجرون والأنصار ، وقاتلوا أشد قتال وفتح الله لهم بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]كما ورد بيانه في تفسير الآية السابقة .
وعندما حدث الخطأ من الرماة وجاء العدو للمسلمين من خلفهم وأخذ يفتك بهم إنسحبوا إلى الجبل ليرى الذين كفروا بطش الله بهم ، ونزول العذاب العاجل بهم بقتل الملائكة لهم .
أما الثانية فان الملائكة نزلوا في بداية المعركة ، وليس ثمة مسافة بين السماء والأرض يقطعها الملائكة في نزولهم ، إذ حضروا المعركة بالكاف والنون وقوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( )ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
أولاً : إذ تصعدون بحضور الملائكة مدداً لكم .
ثانياً : إذ تصعدون والملائكة يرون حالكم ويضجون إلى الله للبطش بالذين كفروا ، فحينما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن من ذريته من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ويحارب النبوة والتنزيل ، قال تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
فلما أنكر وطعن كفار قريش بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذبوا الآيات والدلالات والبراهين القاطعة التي جاء بها من عند الله وأفسدوا في الأرض وبجوار بيته الذي جعله أمناً ومباركاً , وساروا لقتاله أنزل الله ذات الملائكة لقتالهم ودفعهم .
وهو من مصاديق علم الله عز وجل الذي ورد في الآية أعلاه بأنه إذا أفسد الذين كفروا فإنكم تنزلون لقتالهم وقتل طائفة منهم وتشريد الباقين ، وهو من مصاديق ذم كفار قريش وتوثيق ذلهم عند رجوعهم من معركة أحد بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ثالثاً :يقاتل الملائكة الكفار في معركة أحد لينهزم الكفار إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، لبيان حقيقة وهي أن هذا الصعود سالبة بانتفاء الموضوع
رابعاً : بيان مصداق لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بأن ينزل الملائكة لنصرة المسلمين إذ يصعدون ولا يلوون على أحد .
أما المسألة الثالثة وهي هل رأى أو علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالملائكة عند نزولهم , الجواب نعم ، وفي قوله تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ]( )شاهد على علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة , ليكون من وجوه تفضيله على أمته بالنبوة أن الله عز وجل يطلعه على ما شاء سبحانه من الغيب وبشارات الظفر بالذين كفروا ، وهو من مصاديق تجليات وحضور الوحي في قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
(عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْفَضْلِ قَالَ أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ اللّوَاءَ فَقُتِلَ مُصْعَبٌ فَأَخَذَهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ مُصْعَبٍ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ لِمُصْعَبٍ فِي آخِرِ النّهَارِ تَقَدّمْ يَا مُصْعَبُ فَالْتَفَتَ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَقَالَ لَسْت بِمُصْعَبٍ فَعَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنّهُ مَلَكٌ أُيّدَ بِهِ) ( ) .
وفي الحديث شاهد على إستمرار معركة أحد إلى ما قبل غروب الشمس .
ويتجلى في الآية السابقة إعجاز من البيان القرآني في قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ].
إذ لا يختص الإخبار والقصص في القرآن بذكر الوقائع والأحداث ، بل يأتي معه الحكم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ] ( ).
فبعد أن أخبرت الآية السابقة عن وقوع التنازع بين طائفة من المسلمين في أمر مخصوص وهو البقاء على الجبل أو عدمه ، بينت الآية الحكم بقوله تعالى [وَعَصَيْتُمْ] لتكون الآية من السبر والتقسيم , وتقديرها : وتنازعتم في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء على الجبل وعصى فريق منكم ) بلحاظ كبرى كلية وهي أن أحد الطرفين في النزاع هو الذي عصى الأمر .
وفي مجئ الآية بصيغة الخطاب [وَعَصَيْتُمْ] نكتة وهي أن الذين بقوا على جبل الرماة صبروا عن إغراء الغنائم طاعة لرسول الله ولم يعصوه وقتلوا جميعاً ، وهم أمير الرماة عبد الله بن جبير وثمانية من أصحابه ، فجاء الخطاب للحي الموجود من الرماة الذين نزلوا لجمع الغنائم ، فجاءهم الذين كفروا من ثغرة جبل الرماة من خلفهم .
ليكون في الآية ذب ودفاع من الله عز وجل عن الشهداء الذين قتلوا في معركة أحد بأنهم سلموا من الفشل والجبن بتقديمهم أنفسهم فداء لكلمة التوحيد وصرح الإسلام .
قال الشاعر مسلم بن الوليد :
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها .. و الجود بالنفس أقصى غاية الجود
وقيل أنه أمدح بيت( ) وأن هذا الشاعر جاء أيضاً بأرثى بيت وأهجى بيت ، ولا دليل عليه كبرى وصغرى ، فبالنسبة للبيت أعلاه لا يرقى من جهة صناعة الشعر وأوزانه إلى كونه أمدح بيت ، نعم ذات موضوع بذل النفس هو أسمى الكرم ولكن بقيد وهو أن يكون في سبيل الله وبقصد القربة وليس بذل النفس في غير مرضاة الله ، فقد يكون من التفريط والإسراف وظلم النفس كما أنه لا ينحصر الضن بالنفس بالبخيل إنما قد يكون من العقل والحكمة والصبر ، وإتخاذ السلامة مقدمة ومناسبة لتعظيم شعائر الله .
(وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري في قوله { ثم صرفكم عنهم } قال : صرف القوم عنهم ، فقتل من المسلمين بعدة من أسروا يوم بدر ، وقتل عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكسرت رباعيته ، وشج في وجهه فقالوا : أليس كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدنا النصر؟ فأنزل الله { ولقد صدقكم الله وعده }( ) إلى قوله { ولقد عفا عنكم })( ).
أي أن الحسن فسر الآية بما يشبه الضد وأن المقصود منها أن الله صرف الذين كفروا عن المسلمين , ولعله بلحاظ التبادر وكون الجولة للذين كفروا .
ولا دليل على هذا المعنى , والقرآن منزه عن التفسير بالضد وإن كانت أخبار الواقعة مغايرة لمنطوق الآية , وقد ذكرناه مفصلاً في الجزء السابق .
نعم قد يرد التأويل بالضد في باب الأحلام والرؤيا بخلاف ما تحمله دلالاتها ورموزها كما لو تم تأويل الضحك في الرؤيا بأنه دليل على البكاء أو إنذار بوقوع مصيبة ، ولا أصل للتأويل بالضد في علوم القرآن ، وفيه تفويت لفرصة الدعاء لتقريب موضوع رؤيا البشارة وصرف موضوع رؤيا الإنذار وسيأتي مزيد بيان والمسائل المستقرأة من توجه الخطاب للمسلمين في قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ].
وبخصوص علم الرؤيا وتفسيرها فانه (يحتاج المعبر الى معرفة علوم تفسير القرآن واحكامه وتحصيل لا بأس به في معرفة اسباب نزول الآيات وربما احتاج احياناً الى الاحاطة بالناسخ والمنسوخ والحيطة من الخلط والارباك في عملية فرز مفردات الرؤيا , ووجوب حسن المطابقة مع واقع التأويل .
وتذكر كتب تفسير الاحلام باعتزاز ان احد الناس جاء الى ابن سيرين قائلاً: رأيت كأني أذّنت في قافلة. فقال لـه: تحج البيت الحرام لقولـه تعالى [ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً.. ]( ).ثم جاءه آخر فذكر لـه انه رأى ما يشبه تلك الرؤيا .
فقال: أمسكوه فأنه سارق.
ولما سأل عن سبب الاختلاف في التأويل لرؤيا واحدة. قال: وجدت هيئته – أي الأخير – ليست كهيئة ورع وتقوى فأولتها بقولـه تعالى [ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ]( ).
ولكن القيام بدراسة مقارنة ومن وجهة نظر فقهية تظهر ان المؤذن في سورة يوسف ليس هو السارق وغير متهم بسرقة انما هو أحد فتيان يوسف عليه السلام أمر بالنداء والاعلان أي الأذان بالمعنى اللغوي، في حين ان الأذان في الإصطلاح وظيفة شرعية بالفاظ مخصوصة للإعلان عن دخول وقت الصلاة.
إن حال المسلم بل الانسان عموماً وهيئته وما يظهر عليه من علامات الفقر والمسكنة والشطارة ونحو ذلك لا تحول دون التوبة او امكانية أداء فريضة حج بيت الله الحرام. وحتى ان دلت الهيئة والمظهر على سوء العمل وقبح السلوك فأن فرصة التوبة وبابها مفتوح لاسيما وان القلم مرفوع عن النائم حتى يستيقظ، وليست من بينة ولا مدع بشيء منه مسروق، وكتم أسرار الناس وحفظها من مستلزمات وظيفة تأويل الرؤيا وآداب أهل التعبير.
ولقد جعل الله الرؤيا وتأويلها باباً من أبواب رحمته، لذا فان اهل التعبير ملزمون باتقان علوم اصول الرؤيا للمساهمة الفعالة في العناية بالرؤيا والسعي للحصول على الصيغة الصحيحة والكاملة لتأويل الاحلام واتباع الاساليب التي ترسخ اعتقاد الناس بالاسراع الى رجال وعلماء التعبير , لينهلوا من علومهم وخبرتهم وربما يعزز حالة الامن والإيمان في النفوس .
ويحتم الواجب الشرعي عليهم الابتعاد عن التعسف واسباب الاحراج أو إعراض الناس عن الاعلان عن رؤاهم مخافة الظن والاستخفاف والابتلاء.
ويحتاج المعبر الى معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية , وامثاله في الاستعارة والكناية كقولـه صلى الله عليه وآله وسلم في النساء: اياك والقوارير . إذ ورد عن أنس (كان البراء بن مالك رجلا حسن الصوت ، فكان يرجز لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره ، فبينما هو يرجز إذ قارب النساء ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إياك والقوارير) ( ).
وقوله: (المرأة خلقت من ضلع الرجل) ( ).
ويحتاج المعبر الى معرفة معاني الاسماء والاشخاص لما روي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (اذا اشكل عليكم الرؤيا فخذوا بالاسماء) وبيانه ان اسم احمد محمدة، واسم سالم سلامة، وسعيد سعادة وسهل سهولة)( ) .
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (كان رسول الله صلى الله عليه وآله يغير الاسماء القبيحة في الرجال والبلدان)( ).
ولابد من موضوعية لأصالة ظاهر اللفظ العربي إلا أن يدل دليل على الخلاف , ونسبة الآية السابقة إبتداء الإنصراف من المعركة للمؤمنين عز وفخر دائم لهم .
كما أخرج ابن جرير عن الحسن في قوله[وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]( )، قال : يقول الله : قد عفوت عنكم إذ عصيتموني أن لا أكون استأصلتكم) ( ).
وفيه مسائل :
الأولى : لا ملازمة بين المعصية والإستئصال , وليس في القرآن مادة إستأصل للدلالة على رحمة الله عز وجل بالناس عامة والمسلمين خاصة ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )خلو القرآن من لفظ الإستئصال والإجتثاث ونحوه , وإن ورد معناه بهلاك القوم الكافرين والظالمين الذي أصروا على الجحود بآيات الله الكونية ومعجزات الأنبياء .
وفي فرعون وجنوده , الذين خرجوا متعقبين موسى عليه السلام وبني إسرائيل , وهم ألف ألف أي مليون , قال تعالى [فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ] ( ).
الثانية : مجئ الآيات بنداء الإيمان شاهد على سلامتهم من الإستئصال .
الثالثة : العفو ترك العقوبة , وما يترتب على الذنب والمعصية والتعدي مطلقاً من ضروب الجزاء ، ومن أسماء الله (العفو) وقد ورد خمس مرات في القرآن ، إثنتين بصيغة الرفع وثــلاثة بصــيغة النصب ، قال تعـــالى [وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا] ( ).
ويحمل العفو في الآية على معناه وإطلاقه ، ومن الآيات أنه سبحانه أوصى بالعفو , قال سبحانه [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ] ( ).
وجاء العفو من عند الله للمؤمنين ثواباً على جهادهم في سبيل الله وتفانيهم في الخروج إلى معركة أحد والإشتراك بقتال ودفع الذين كفروا عن المدينة المنورة .
وقد صدر بفضل ولطف من عند الله الجزء الخامس والعشرون بعد المائة من هذا السفر المبارك في الصلة بين الآية السابقة لآية البحث وهو قوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ…]( )، بالآية التي قبلها وهو قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ…]( ) , في آية علمية تدخل معها البهجة على قلب كل مؤمن ومؤمنة لما فيه من تجليات خزائن ودرر من كنوز القرآن .
ثم صدر الجزء الرابع والعشرون خاصاً بتفسير الآية السابقة، وبيان جزء قليل من أنوار فيوضاتها، ودلالات مضامينها القدسية , ثم أشرق الجزء السادس والعشرون بعد المائة بحلة جديدة متعقبة لرشحات الفضل الإلهي في الجزء الخامس العشرين بعد المائة .
وثورة عظمى في ميدان العلوم إذ إختص بالصلة بين شطر من آية البحث[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ…]( )، مع شطر من الآية قبل السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ…]( )، وهي ذات الآية التي ورد الجزء الخامس والعشرون بعد المائة في صلتها مع الآية التي بعدها، لبيان المندوحة والسعة في إستنباط العلوم من صلة كل آية من القرآن مع آياته الأخرى سواء المجاورة لها، أو التي في ذات السورة أو السور الأخرى.
أما علم السياق في هذا الجزء فهو بالصلة بين الآية (153-152) من سورة آل عمران , وجاء هذا الجزء وهو السابع والعشرون خاصاً بها .
ولو إتبع العلماء في الأجيال التالية ذات المنهجية بإصدار جزء خاص في الصلة بين كل آيتين من القرآن يكون مجموع أفراد هذا العلم وفق المتتابعة الهندسية والحسابية :
730 ,446، 19
تسعة عشر مليوناً وأربعمائة وستة وأربعين الفاً وسبعمائة وثلاثين علماً، ويكون مرآة لقانون علوم القرآن اللامتناهي ) .
هذا بالإضافة إلى الأجزاء التي تتضمن تفسير ذات آيات القرآن , وما تتضمنه من العلوم والذخائر , وأبواب العلوم المستقرأة منها الثابتة لكل آية والخاصة بشطر منها .
ومن فضل الله عز وجل أني أقوم بمفردي بتأليف أجزاء هذا السفر المبارك وتصحيحها ومراجعتها على الورق ثم في الجهاز , وكذا كتبي الفقهية والأصولية والكلامية إلى حين طباعتها , وهو نعمة عظمى، والحمد لله القادر على كل شيء .
وأتطلع إلى دعائكم بدوام النعم ورجاء الفضل منه سبحانه في النشأتين , وفي توالي الأجزاء التي صدرت من هذا التفسير ثورة علمية لم يشهدها التأريخ , ورحلة عقائدية وكلامية في آيات القرآن , وكل واحدة منها رياض ناضرة , وكنوز علم زاهرة تدعو الناس للنهل منها , من غير أن ينقص من خزائنها شيء , وفيها ترغيب لأهل العلم بالجد والتحصيل، وفي التنزيل[وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ] ( ).

قوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]الآية 153.
القراءة واللغة ( )
في قراءة أبي بن كعب :إذ تصعدون في الوادي ) ( ) لبيان إرادة وجه الأرض والفرار في الأرض صوب المدينة من كلمة تصعدون ، لأن الصعيد اسم لوجه الأرض .
وقرأ مجاهد وقتادة والحسن البصري [إِذْ تُصْعِدُونَ] بفتح التاء والعين لإرادة الصعود إلى أعلى , والمراد الصعود في الجبل , وعلى الصخرة .
وقرأ ابن كثير في رواية شبل (إذ يصعدون ولا يلوون)بالياء بدل التاء في كل منهما لإرادة معنى الغائب وليس لغة الخطاب ، ومنهم من قرأ (ولا تلون) بضم اللام وواو واحدة .
وقرأ بعضهم (على أُحُد ) بضم الألف والحاء ، لإرادة الجبل واسم المعركة ودلالته على ميدان القتال ، وللإشارة لوجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان .
(ومر لا يلوي على أحدٍ: لا يقيم عليه ولا ينتظره. قال الشاعر:
فلوت خيله عليه وهابوا … ليث غاب مقنّعاً في الحديد ) ( )
ويأتي الإصعاد بمعنى إبتداء السفر , ويقابله الإنحدار بمعنى الرجوع , تقول : أصعدنا من مكة بعد أداء المناسك .
ليكون من معاني [إِذْ تُصْعِدُونَ] أي أنكم بدأتم الفرار والإنسحاب بعيداً عن المعركة ولكن الله عز وجل أنعم عليكم بدعوة الرسول لكم في أخراكم ليمنع من فراركم وبلوغكم المدينة , وفيه شاهد على حاجة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الأولى وما بعدها لتحقيق النصر ودفع الهزيمة .
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآية التي قبلها( ) :
[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ) ( ).
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : ولقد صدقكم الله وعده إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ..) .
وفيه وجوه :
الوجه الأول : تبدأ الطوائف والفرق القتال بقدراتها الخاصة ورجاء المدد والمباغتة، أما المسلمون فقد دخلوا معركة أحد بلباس الإيمان , وإتباع الوحي , من وجوه :
أولاً : حسن التوكل على الله، وفي التنزيل [قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا] ( ).
ثانياً : حضور نعمة وسلاح الوعد الكريم الذي تفضل به الله بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على الذين كفروا.
ثالثاً : فيوضات الوحي التي تترى على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
رابعاً : حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه معركة أحد، دفاعاً عن الإسلام، وجهاداً لبناء لصرح الإيمان بالدم، وسنن التقوى.
لقد كان هذا الوعد أمضى سلاح، ولا يختص موضوعه وأثره بساحة المعركة، بل يتجدد نفعه في حال السلم والحرب، وهو زاجر للذين كفروا عن التعدي المسلمين، إذ أن حس وقتل المؤمنين للذين كفروا في معركة بدر وأحد باعث للفزع والخوف في قلوبهم، وسبيل لهداية الناس إلى الإسلام.
الوجه الثاني : ذكرت الآية السابقة أوان وموضوع صدق وعد الله للمؤمنين بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ]ويفيد الجمع بين الآيتين حضور الوعد الإلهي عند حال إنهزام المسلمين , فان قيل ما هو الدليل على ما يترشح عن هذا الجمع من البيان والبرهان ، والجواب من جهات :
الأولى : إستدامة الوعد الإلهي ، وعدم إنقطاع موضوعه حتى في حال الإنكسار والفشل .
الثانية : النسبة بين الوعد الإلهي للمسلمين , وحسهم وقتلهم الذين كفروا هي العموم والخصوص المطلق ، وما يلحق بالعلة والمعلول ، فالوعد أعم بلحاظ النصر وأسباب الظفر .
الثالثة : صيرورة حس وقتل المسلمين للذين كفروا علة لصدق الوعد من عند الله .
ومن مصاديق الوعد الإلهي للمسلمين حسهم ومطاردتهم للذين كفروا من غير تعارض وتزاحم أو دور بين هذه الوجوه ، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين وتعدد أفراده ومجيئها دفعة واحدة وعلى نحو التوالي ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الرابعة : تحتمل النسبة بين قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] وبين إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ) وجوهاً :
أولاً : إتحاد هيئة ومقامات المسلمين في القتال في الحالتين .
ثانياً : التباين بين حس المسلمين للذين كفروا وبين صعود المسلمين أي هربهم من ميدان القتال وعزوفهم عن تشابك الأسنة .
ثالثاً : ترتب العلة على المعلول ، وهو على جهتين :
الأولى : حس وقتل المسلمين للذين كفروا سبب لهروب المسلمين .
الثانية : هروب المسلمين وصعودهم الجبل سبب لحسهم وقتلهم الذين كفروا .
رابعاً : ليس من صلة بين الأمرين .
والصحيح هو ثانياً أعلاه ، وقد دلت الوقائع على التقدم الزماني لنصرة وغلبة وحس المسلمين للذين كفروا ، ولكن خطأ وزلل الرماة هو السبب في لحوق الخسارة للمسلمين .
الخامسة : تذكير آية السياق وهي الآية السابقة بمعصية الرماة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : صيغة الإنذار التي يتضمنها في مفهومه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )إذ يدل على لزوم تعاهد المسلمين لمواضعهم لسمو الأمر النبوي ولأنه جزء من الوحي ، ولا يترشح عنه إلا الخير والبركة ، ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه منها :
الأول : تبوء للمؤمنين مقاعد للقتال ليثبتوا في مواضعهم .
الثاني : تبوء للمؤمنين مقاعد للقتال فيها عزهم ونصرهم إلى يوم القيامة .
الثالث : تبوء للمؤمنين مقاعد للقتال بأمر الله .
الرابع : تبوء للمؤمنين مقاعد للقتال لينزل الملائكة لنصرتهم .
الخامس : تبوء للمؤمنين مقاعد للقتال ليبعث الله في قلوب الذين كفروا الرعب والفزع ، فليس من قوم أو طائفة يقهرون أمة يعين لها الرسول مقاعد للقتال ، فلم يرتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفوف المسلمين لينهزموا أو يفروا أمام العدو بل لينتصروا في المعركة لذا ورد في الآية السابقة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
الثانية : تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة بعدم ترك مواضعهم على أي حال , وعن البراء بن عازب قال (جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا عبدالله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن.
فقال أصحاب عبدالله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنظرون ؟ قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة.
فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك الذى يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير اثنى عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين رجلا، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا وسبعين قتيلا) ( ).
الثالثة : لقد جمعت الآية السابقة ثلاثة أفعال للمسلمين فيها معاني التقصير والضرر ، وليس من آية في القرآن تجمعها دفعة واحدة وهي :
الأول : الفشل أي الجبن والخور ، وهو الذي ترشح عنه صعودهم إلى الجبل الذي تذكره آية البحث .
الثاني : الإختلاف بين الرماة والتنازع بخصوص البقاء أو عدمه ، مع أن منطوق ومفهوم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم أعلاه برزخ دون التنازع , وهو نص صريح في لزوم تعاهد بقاء الرماة في مواضعهم .
الثالث : المعصية من قبل الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وآله سلم ومن إعجاز الآية أعلاه ذكرها للمعصية بعد التنازع لإقامة الحجة بأن الرماة لم يتركوا مواضعهم إلا بعد جدال وإحتجاج عبد الله بن جبير أمير الرماة معهم ، وحثه لهم على البقاء وحفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الوجه الثالث : يحتمل الوعد في آية السياق وجهين :
الأول : إفادة العهد ، وإرادة فرد واحد من وعد الله .
الثاني : المراد الجنس ، وتعدد أفراد وعد الله عز وجل , وهذا التعدد على أقسام :
أولاً : التعدد في الوعد في الموضوع المتحد .
ثانياً : تعدد الوعد مع تعدد الموضوع .
ثالثاً : إتحاد الوعد في موضوع متحد .
الرابع : تعدد الوعد في الموضوع المتعدد .
والصحيح هو ثانياً من الوجه الثاني أعلاه من جهات :
الأولى : لا يعطي الله إلا بالأوفى والأتم والأكثر والأحسن بحيث تتجلى مصاديق الربوبية المطلقة في كل فرد من عطاء الله عز وجل ، ومنه وعده للمسلمين , ومصاديق هذا الوعد , وفي التنزيل[ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
الثانية : ترشح النعم عن وعد الله ، وهل من حد وحصر لهذه النعم ، الجواب لا .
وتدل عليه آية السياق لما في نصر المسلمين من علو لواء الإسلام وتثبيت سنن الشريعة وإصابة الذين كفروا بالوهن والضعف .
الثالثة : من الإعجاز ترشح منافع الوعد الإلهي الذي ذكرته الآية السابقة من وجوه :
أولاً : ذات الآية السابقة , وتجلي مصاديق الوعد الإلهي , وتنجزه من وجوه :
الأول : حس وقتل المؤمنين للمعتدين الكفار يوم أحد .
الثاني : لطف الله بالمسلمين مع فشل وجبن وهزيمة طائفة منهم .
الثالث : تفضل الله سبحانه بأن جعل المؤمنين يرون ما يحبون من النصر والغلبة .
الرابع : كشف القرآن لحال المسلمين ، وخلجات نفوسهم , وتقسيم أهل معركة أحد إلى قسمين :
الأول : الذين يريدون الدنيا ، ويحبون الغنائم والمكاسب الشخصية في القتال .
الثاني : الذين يسعون للآخرة بالإخلاص في الجهاد ، والتقيد بطاعة الله ورسوله , لقوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ].
الخامس : تذكير المسلمين بقانون التباين بين الدنيا والآخرة , بالذات والقصد والبلغة والغاية .
السادس : من الإعجاز في ذكر التباين بين الدنيا والآخرة رجحان كفة الآخرة ومدح الذين يسعون إليها وإكتفت الآية بذكر هذا التباين في الإختبار لتكون شاهداً على إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية ، بأدراكهم الحسن الذاتي والغيري لإرادة الآخرة ، وقبح إرادة وطلب الدنيا وحصر العناية والإهتمام بها ، ولم يضر تقديم ذكر إرادة الدنيا في الآية السابقة بدلالتها على الترغيب بالآخرة والتي يعني طلبها السعي إلى اللبث في النعيم الدائم .
وتقدير قوله تعالى : ومنكم من يريد الآخرة أي ومنكم من يريد الجنة ، وتحتمل الإرادة في قوله [يُرِيدُ الآخِرَةَ] وجوهاً :
الأولى : الشوق إلى الجنة .
الثانية : عشق الشهادة ، وحب المؤمن لقاء الله مضرجاً بدمه .
الثالثة : صدق الإيمان والإخلاص في طاعة الله ورسوله .
الرابعة : من مصاديق إرادة الآخرة الثبات في مواضع القتال ، وملاقاة الذين كفروا بالصبر والمسايفة والمرابطة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( )
السابع : صيرورة وقف القتال في معركة أحد بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بقوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] لتأكيد قانون وهو لم يقف القتال في معركة أحد إلا بأمر من عند الله , بتقريب أن قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي .
الثامن : بيان علة الإنصراف عن القتال وهو إبتلاء المؤمنين بما يأتي معه الأجر والثواب كما تخبر الآية عن كون صرف المسلمين عن الكفار في معركة أحد مقدمة للإبتلاء وأن موضوع [لِيَبْتَلِيَكُمْ] هو غير واقع المعركة وفيها دعوة للمسلمين للإستعداد للإبتلاء والإمتحان والإستعداد لمعارك الإسلام القادمة ، فلم يلبث الذين كفروا حتى جاءوا بعشرة آلاف مقاتل في معركة الخندق[حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ]( )، لتترشح وجوه وعود الله عز وجل للمؤمنين , ومنها وعده لهم بالنصر والغلبة .
التاسع : فضل الله عز وجل بالعفو عن المؤمنين الذين قاتلوا يوم أحد ، وهذا العفو من جهات :
الأولى : تفضل الله بالعفو عن المسلمين من جهات الفشل والجبن الذي أصابهم يوم أحد ، بدليل إتخاذ صيغة الخطاب في الآية [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ][ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ].
الثانية : تفضل الله بالعفو عن المسلمين لتنازعهم في وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدم ترك مواضعهم عند جبل الرماة لأن الأصل هو التسليم والقبول بوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : العفو عن معصية المسلمين بترك مواضعهم في الميدان ونزول الرماة من الجبل طلباً للغنائم والأخذ منها .
العاشر : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات ليكون تقدير الجمع بين أول وآخر الآية السابقة على وجوه :
الأول : ولقد صدقكم الله وعده والله ذو فضل عظيم .
الثاني : والله ذو فضل عظيم إذ صدقكم وعده .
الثالث : صدق وعد الله للمؤمنين من فضل الله عليهم ، وفيه مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين لشكر الله على نعمة فضله العظيم عليهم .
الثانية : بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو رجحان كفة المسلمين على الكافرين في كل زمان ويتجلى هذا الرجحان بفضل الله على المؤمنين وحجبه عن الكافرين .
الثالثة : البشارة بالتخفيف عن المسلمين في قوله تعالى [لِيَبْتَلِيَكُمْ] لأن هذا الإبتلاء في طول فضل الله عليهم ، ورشحة منه , وفي طالوت وجنوده من مؤمني بني إسرائيل ورد قوله تعالى [فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي] ( ).
ثانياً ( ): ما يتفرع ويترشح عن مضامين الآية السابقة ، وتلاوة المسلمين لها ، وإتعاظهم مما فيها من المواعظ والصبر ، وهذا الإتعاظ من مصاديق قوله تعالى [لِيَبْتَلِيَكُمْ] لأنه مناسبة لإقتباس الدروس من واقعة أحد وبيان فضل الله عز وجل على المؤمنين في تلك المعركة وما بعدها ، وهل من فضل الله قصر مدة المعركة ، وقلة عدد ساعاتها ، الجواب نعم ، فلا يصدق أحد أن ثلاثة آلاف مقاتل زحفوا لنحو خمسمائة كيلو متر على الرواحل ومشياً بقصد الإنتقام والثأر وتتهيأ لهم فرصة وجولة في المعركة فينقلبوا في ذات اليوم دون أن يحققوا أي غاية من الغايات التي جاءوا من اجلها ، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخشى عند إنصرافهم من معركة أحد توجههم لغزوا المدينة المنورة فأرسل علياً عليه السلام لرصدهم .
(وَلَمّا انْقَضَتْ الْحَرْبُ انْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ فَظَنّ الْمُسْلِمُونَ أَنّهُمْ قَصَدُوا الْمَدِينَةَ لِإِحْرَازِ الذّرَارِيّ وَالْأَمْوَالِ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ اُخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَاذَا يُرِيدُونَ فَإِنْ هُمْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ مَكّةَ وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ ثُمّ لَأُنَاجِزَنّهُمْ فِيهَا قَالَ عَلِيّ : فَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ فَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ وَلَمّا عَزَمُوا عَلَى الرّجُوعِ إلَى مَكّةَ أَشْرَفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَبُو سُفْيَانَ ثُمّ نَادَاهُمْ مَوْعِدُكُمْ الْمَوْسِمُ بِبَدْرٍ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ” قُولُوا : نَعَمْ قَدْ فَعَلْنَا ” قَالَ أَبُو سُفْيَانَ ” فَذَلِكُمْ الْمَوْعِدُ ” ثُمّ انْصَرَفَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمّا كَانَ فِي بَعْضِ الطّرِيقِ تَلَاوَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا أَصَبْتُمْ شَوْكَتَهُمْ وَحْدَهُمْ ثُمّ تَرَكْتُمُوهُمْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ رُءُوسٌ يَجْمَعُونَ لَكُمْ فَارْجِعُوا حَتّى نَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَادَى فِي النّاسِ وَنَدَبَهُمْ إلَى الْمَسِيرِ إلَى لِقَاءِ عَدُوّهِمْ وَقَالَ ” لَا يَخْرُجْ مَعَنَا إلّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ ” فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ : أَرْكَبُ مَعَك ؟ قَالَ ” لَا فَاسْتَجَابَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ الْقَرْحِ الشّدِيدِ وَالْخَوْفِ وَقَالُوا : سَمْعًا وَطَاعَةً . وَاسْتَأْذَنَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُحِبّ أَلّا تَشْهَدَ مَشْهَدًا إلّا كُنْتُ مَعَك وَإِنّمَا خَلّفَنِي أَبِي عَلَى بَنَاتِهِ . فَأْذَنْ لِي أَسِيرُ مَعَك فَأَذِنَ لَهُ فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ حَتّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ ” وَأَقْبَلَ مَعْبَدُ بْنُ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِأَبِي سُفْيَانَ فَيُخَذّلُهُ فَقَالَ مَا وَرَاءَك يَا مَعْبَدُ ؟ فَقَالَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ تَحَرّقُوا عَلَيْكُمْ وَخَرَجُوا فِي جَمْعٍ لَمْ يَخْرُجُوا فِي مِثْلِهِ . وَقَدْ نَدِمَ مَنْ كَانَ تَخَلّفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ فَقَالَ مَا تَقُولُ ؟ فَقَالَ مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتّى يَطْلُعَ أَوّلُ الْجَيْشِ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الْأَكَمَةِ . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَاَللّهِ لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ . قَالَ فَلَا تَفْعَلْ فَإِنّي لَك نَاصِحٌ فَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ إلَى مَكّةَ) ( ).
ثالثا ً: مصاديق الوعد الإلهي التي تأتي للمسلمين إبتدأء من فضل الله وواسع رحمته ، وليس من حصر لهذه المصاديق ومواضيعها زماناً ومكاناً ، قال تعالى [ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى] ( ) وفي سبب نزول الآية أعلاه ورد عن أبي بن كعب أنه قال (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة كانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه ، فقالوا : « ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله) ( ).
رابعاً : تحقق مصاديق الوعد الإلهي للأنبياء والمرسلين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنجز النصر الذي وعدهم الله عز وجل بقهر الذين كفروا وإنحسار الضلالة قال تعالى [فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ] ( ) وتدل الآية أعلاه على تنجز وعد الله عز وجل لرسله بالبطش والإنتقام من يحاربونهم من الكفار ويصرون على الجحود بالمعجزات التي جاءوا بها في الأرض لذا حينما تم فتح مكة ، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكسر الصنم وهو يتلو [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ] ( ).
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : ولقد صدقكم الله وعده ولا تلوون على أحد ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : حضور وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في حالات :
الأولى : في حال السلم , وقبل بدء المعركة مع الذين كفروا .
الثانية : عند الإستعداد والتهيئ للقتال , كما في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الثالثة : عند إلتقاء الصفين وتشابك الأسنة ، وفيه بعث للطمأنينة في نفوس المؤمنين ، لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسأل الله مصداق وعده كما في معركة بدر , إذ توجه بالدعاء (اللهم هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني ) ( ) .
ويحتمل وعد الله للنبي بلحاظ الدعاء أعلاه وجوهاً :
الأول : إرادة دعاء خاص للنبي غير الذي ذكرته آية السياق لأنها جاءت بصيغة الجمع [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ].
الثاني : وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوارد في الدعاء أعلاه هو نفسه الذي ذكرته آية السياق .
الثالث : بين الوعد ودعاء النبي عموم وخصوص مطلق , فالوعد الوارد في آية البحث أعم وأكثر أفراداً .
الرابع : القدر المتيقن من دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر تحقيق النصر والغلبة على الذين كفروا في معركة بدر .
والمختار هو الثالث ، ومن الإعجاز في نظم القرآن ، تعدد أفراد الوعد الإلهي ، ليكون تقدير آية السياق :
ولقد صدقكم الله وعده وصدق رسوله وعده في معركة بدر وكذا في معركة أحد إذ تحسونهم بإذنه ).
ليكون صدق الوعد في آية السياق على وجوه :
الأول : صدق وعد الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ آية السياق .
الثاني : صدق وعد الله للمقاتلين من المهاجرين والأنصار ، قال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ] ( ).
الثالث : صدق وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يدل عليه دعاؤه يوم بدر وسؤاله الله ما وعده خاصة وأن آية السياق نزلت بعد واقعة بدر بنحو عام مما يدل على أن وعد الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متقدم زماناً ، ولكن مصاديقه متجددة في كل معركة وآن ، إنه الفضل الذي ليس له حد أو منتهى ، قال تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ) .
ومنه تعدد الوعد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وكثرة مصاديق كل فرد من الوعد ، وهل هذا التعدد من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) الجواب نعم ، ومنه مصاديق جديدة ومستحدثة من الوعد الإلهي ليكون من معاني آية السياق فتح باب الوعد للمسلمين إلى يوم القيامة .
الرابع : لقد صدقكم الله وعده وانتم لا تلوون على أحد ) ليكون حضور الوعد الإلهي وتنجزه بصدقه ، وصدقه بتنجزه وترشحه على صلاح نفوس المسلمين وبعث السكينة فيها إلى يوم القيامة ، فكما أن معركة بدر غيرت مجرى التأريخ فسمى الله عز وجل تلك المعركة [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) فكذا بالنسبة لمعركة أحد في بعث السكينة في نفوس المسلمين بإخبار الله عز وجل لهم بأنه وفى بوعده ، وأنجزه لهم بفضل من عنده سبحانه .
وقد ورد بخصوص بني إسرائيل قوله تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ] ( ) لما أمرهم الله بطاعته لينجز لهم ما وعدهم .
وقد تفضل الله عز وجل وصدق النبي محمداً والمؤمنين الوعد من غير شرط أو تعليق بلزوم الوفاء بعهده ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته .
فحتى في حال إنسحاب وتولي المؤمنين يفي الله بعهدهم لبيان سلامتهم من المؤاخذة في الآخرة على هذا الإنسحاب خاصة وأن هذه الآيات تخاطبهم بصيغة الإيمان .
الوجه الثاني :من أسماء القرآن أنه ذكرى وتذكير ، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وبينما تبين آية السياق تفضل الله بالوعد وإنجازه فضلاً من عنده تعالى فان شطراً من المؤمنين إنسحبوا من القتال يوم أحد ، وفيه وجوه محتملة :
الأول : موضوع وعد الله في حال السلم .
الثاني : تعلق وعد الله بمقدمات الحرب والقتال .
الثالث : تغشي وعد الله عز وجل لحال الحرب والسلم .
الرابع : تنجز الوعد الإلهي في معركة أحد وعند اللقاء ، وقتال الذين كفروا .
والصحيح هو الثالث والرابع .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولقد صدقكم الله وعده والرسول يدعوكم في أخراكم ) وفيه وجوه :
الأول : تنمية ملكة الإيمان عند المسلمين باستصحاب الوعد الإلهي حتى في حال الإنكسار .
الثاني : دعوة الرسول للمؤمنين مقدمة ومصداق ورشحة من رشحات وعد الله عز وجل .
الثالث : من فضل الله عز وجل على المسلمين إجتماع أمور :
الأول : الوعد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : تجلي المصداق العملي للوعد الإلهي للمسلمين .
الثالث : بيان قانون إستدامة تنجز الوعد الإلهي , وأنه ليس دفعياً ومرة واحدة ، فقد كان متصلاً في زمانه , متجدداً في مصاديقه فقد نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نجوماً وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة .
فتلقاه المسلمون بالقبول والرضا والتدبر والتسليم والتفقه في أسرار نزوله نجوماً وحسب الوقائع والأحداث , وهو من إعجازه الذاتي والغيري ، وتفضل الله عز وجل على المسلمين بمجئ مصاديق وعده على نحو التعدد والتجدد ، وتقدير الآية السابقة على وجوه :
أولاً : ولقد صدقكم الله وعده قبل تشابك الأسنة بالبشارة بالنصر .
ثانياً : ولقد صدقكم الله وعده عند اللقاء وقتال الذين كفروا .
ثالثاً : ولقد صدقكم الله وعده بأن أنزل الملائكة لنصرتكم, وتوالى نزولهم معجزة عقلية وحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : ولقد صدقكم الله عز وجل وعده إذا فشلتم لتصاحبكم الوجوه أعلاه من الوعد الإلهي ، وتأتيكم وجوه ومصاديق أخرى منه .
خامساً : من خصائص الوعد الإلهي أنه توليدي , وما يأتي من مصاديقه لا يغادر الأرض ولا المؤمنين بدليل أن قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] يتلوه المسلمون كل يوم إلى يوم القيامة .
وتقدير الجمع بين الآيتين : ولقد صدقكم الله وعده بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوكم في أخراكم .
وقد يقال ليس من صلة بين وعد الله عز وجل للمسلمين ، ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، خاصة وان وعد الله الذي تذكره آية السياق شامل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ولكن الصلة بينهما تتجلى بمضامين الآية , وهذه الدعوة والنداء فرع الوعد الإلهي .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ولقد صدقكم الله وعده لرسوله .
الثاني : ولقد صدقكم الله وعده للمهاجرين والأنصار.
الثالث : ولقد صدقكم الله وعده لرسوله وأهل البيت والصحابة .
الرابع : ولقد صدق الله وعده للمؤمنين ممن خرج إلى معركة أحد أو أقعده العذر , أو تخلف قصوراً وتقصيراً .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية السياق ، ومن أسرار مجيئها بصيغة الخطاب [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]فان قلت إنما جاءت الآية بخصوص معركة أحد وهذا صحيح ، ولكن المسلمين والمسلمات الذين حضروا المعركة والذين كانوا في المدينة وأجيالهم اللاحقة التي كانت في أصلاب الرجال وأرحام النساء يشملها هذا الخطاب والبشارة , لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الخامس : بيان مصداق لخاتمة الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] من جهات :
الجهة الأولى : ذكر آية السياق لاسم الله عز وجل , وأنه سبحانه هو الذي وعد المسلمين ، وهو بنفسه الذي يفي بوعده لهم ، ويحتمل وجوهاً :
أولاً : كل من الوعد وتنجزه بواسطة الملائكة من نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : مجئ الوعد الإلهي للمسلمين وتنجزه بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : مجئ الوعد من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من غير واسطة .
رابعاً : وهو على شعبتين :
الأولى : مجئ الوعد من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلا واسطة .
الثانية : تبليغ المؤمنين وعد الله بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والصحيح هو أولاً والشعبة الثانية من الرابع .
وذكر آية السياق لاسم الله بموضوع الوعد وتنجزه عهد ونعمة ، قال تعالى [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً] ( ) لبيان أن وعد الله ليس له راد .
ثم بينت شروع المؤمنين بقتل الذين كفروا في بداية معركة أحد نكالاً بهم وجزاءً على تعديهم وإصرارهم على الحرب على الله ورسوله والتنزيل والذين آمنوا .
الجهة الثانية : تقدير الآية : ولقد صدقكم الله وعده والله ذو فضل عظيم ) لبيان أن النسبة بين آخر وأول الآية هي العموم والخصوص المطلق ومن معاني الآية وجوه :
أولاً : ولقد صدقكم الله وعده وسيصدقكم وعده .
ثانياً : ولقد صدقكم الله وعده وسوف يصدقكم وعده .
بلحاظ التباين النسبي بين إفادة السين المستقبل القريب , وسوف للمستقبل البعيد .
ثالثاً : ولقد صدقكم الله وعده لأنه ذو فضل على المؤمنين لبيان كبرى كلية وهي أن وعد الله رحمة وفضل منه سبحانه , فكانت بداية معركة أحد وظهور المؤمنين فيها فضلاً على النبي والأمة , وتأكيداً لحقيقة وهي أن صدق وعد الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين قاتلوا تحت لوائه فضل من عند الله من جهات :
الأولى : إنه فضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو إمام المتقين وسيد المرسلين ، وقائد المؤمنين في معركة أحد .
الثانية : صدق وعد الله عز وجل يوم أحد فضل على أهل زمان النبوة ، ودعوة للناس لعدم الإنقياد لرؤساء الكفر والضلالة في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وزاجر عن مؤازرة مشركي قريش في قتالهم للمؤمنين , فلم تمر الأيام والليالي على معركة أحد والخندق حتى تجلت حقيقة وهي عجز كفار قريش عن جمع الأنصار والأعوان للهجوم على المدينة أو حتى للدفاع عن مكة كما ظهر جلياً يوم فتح مكة .
وهل هذا الفتح من مصاديق صدق الله وعده للمؤمنين ، الجواب نعم ، وهو ثمرة ونتيجة مباركة لتنجز وعد الله يوم أحد ، وإبتداء المعركة بشيوع القتل في الذين كفروا .
الثالثة : صيرورة معركة أحد شاهداً على عظيم قدرة الله وأنه سبحانه جعل الدنيا مزرعة للآخرة يمد فيها المؤمنين بأسباب النصر والغلبة نافلة منه تعالى .
الرابعة : حث المسلمين على تعاهد النعم ، وسؤال الله إستدامتها وعدم ذهابها ، وهل هذا السؤال من فضل الله ، الجواب نعم ، وكذا رجاء إستجابته ، وتحقق مصداق هذه الإستجابة في خذلان وخيبة الذين كفروا .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين ولقد صدقكم الله وعده فأثابكم غماً بغم ) .
وفيه وجوه :
الوجه الأول : لقد أراد الله عز وجل لآية السياق أن تكون عيداً للمسلمين حاضراً في ساعة الضيق والشدة لمحو الآثار المترتبة على الضيق وللعمل على تجاوز الشدة بالحكمة والعمل ، فمع صدق وعد الله عز وجل للمسلمين بالنصر وتجلي مصاديق وظهور علامات إنكسار الذين كفروا يوم أحد , تبين الآية أن خطأً من الرماة جلب الغم والكدورة للمسلمين ، وفيه دلالة على قانون وهو ضرورة الإنتفاع من وعد الله ومن صدقه وتنجزه .
وهل في الآية إخبار بأن الله عز وجل أنعم على المؤمنين يوم أحد ولكنهم لم يتعاهدوا هذه النعمة وأنه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ) .
الجواب إن الله عز وجل غني عن العالمين ويدافع عن المؤمنين ،قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) ولم يظلم المسلمون أنفسهم في واقعة أحد وأن أخطأت وفشلت طائفة منهم ، إنما وردت الآية أعلاه في ذم الكفار وظلمهم لأنفسهم , ومقام الربوبية منزه عن الدفاع عن نفسه , لأن النوبة لا تصل إليه أبداً ولكن الله سبحانه يقيم الحجة على الناس . ويأتي الإحتجاج منه تعالى لطفاً بهم .
الوجه الثاني : لا يترتب على صدق وعد الله عز وجل إلا الخير والفلاح ، لذا ففي الجمع أعلاه بين آية البحث والسياق نوع حذف ، وتقديره على وجوه :
أولاً : ولقد صدقكم الله وعده حتى إذا فشلتم أثابكم غماً بغم .
ثانياً :ولقد صدقكم الله وعده حتى إذا تنازعتم في الأمر أثابكم غماً بغم .
ثالثاً : ولقد صدقكم الله وعده حتى إذا عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون فأثابكم غماً بغم .
رابعاً : ولقد صدقكم الله وعده منكم من يريد الدنيا فأثابكم غماً بغم.
الوجه الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين الثناء على المسلمين إذ لحقهم الغم المتعدد الذي هو في سبيل الله ورجاء مرضاته، بلحاظ صيغة الخطاب في الآية بلغة الإيمان , لعطف كل من الآيتين على قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وتقدير الخطاب في الآيتين :
أولاً : ولقد صدقكم الله وعده أيها المؤمنون .
ثانياً : أثابكم الغم كمؤمنين .
ثالثاً : أثابكم غماً مرة أخرى وأنتم مؤمنون، إذ تنطبق صفات المؤمنين على أصحاب أحد الذين لاقوا الذين كفروا بسيوفهم وابدانهم، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا]( )، .
وفيه نكتة وهي أن ورود لفظ الإثابة في المقام للدلالة على الثواب , وجلب الحسنات بالغم المتعدد الذي لحق المؤمنين .
الوجه الرابع : يتجلى في مفهوم الجمع بين الآيتين تساؤل , وهو إذا كان المؤمنون قد أصابهم غم بغم مع صدق وعد الله لهم، فترى ماذا يحل بهم لو تأخر على المؤمنين صدق وتنجز وعد الله.
ليكون الجمع بين الآيتين مناسبة لشكر الله عز وجل على نعمة التدارك وأسباب الحفظ منه سبحانه وفي التنزيل [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( )، لبيان قانون أنه مع حفظ الله عز وجل للفرد والجماعة وعقيدة التوحيد فانه ينزل شآبيب رحمته، لتقترن أسمى معاني الرحمة واللطف من عند الله مع الحفظ والعناية منه تعالى , ويكون تنجز وعد الله واقية من لحوق الضرر بهم ، لأن الغم هم نفساني يزول بفضل الله ومحو أسبابه, وتقادم الأيام عليها, أما الهزيمة والإنكسار فتترتب عليهما مجتمعين ومتفرقين آثار وأذى شديد .
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
أولاً : ولقد صدقكم الله وعده لكيلا تزداد أفراد الغم عليكم .
ثانياً : ولقد صدقكم الله وعده لسلامتكم من الهزيمة بعد الزلل الذي صدر من الرماة .
ثالثاً : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم لصرف الغم عنكم .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولقد صدقكم الله وعده لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : تحتمل النسبة الزمانية بين صدق وعد الله وطرو أسباب الحزن وجوهاً :
أولاً : تقدم صدق وعد الله زماناً على أسباب الحزن .
ثانياً : الملازمة بين صدق وعد الله وأسباب الحزن .
ثالثاً : تأخر صدق وعد الله فتطرأ أسباب ومقدمات الحزن ثم يتنجز وعد الله عز وجل .
والصحيح هو الأول , وهو الذي تدل عليه الوقائع والأحداث لأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى ، وهو من الجزاء للمسلمين الذي يتجلى بلغة الخطاب في هذه الآيات وعطفها على النداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
الوجه الثاني :لقد تفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشيراً ونذيراً ، بشيراً للذين آمنوا , ونذيراً للذين كفروا ، وقد ثبت في الفلسفة عدم إجتماع الضدين فأبى الله عز وجل أن تجتمع البشارة والحزن عند المؤمنين أو السعادة مع التوبيخ من الوعيد للذين كفروا ، فان قلت موضوع آية البحث هو عدم منع إصابة المؤمنين بالحزن لما أصابهم في واقعة أحد.
الجواب هذا صحيح ولكن مضامين الآية القرآنية أعم من سبب وموضوع النزول فتدل آية البحث على دفع الحزن عن أجيال المسلمين المتعاقبة بسبب الخسارة في معركة أحد.
وهذا المعنى لا يتعارض مع أسباب النزول وإرادة حجب الحزن عن المؤمنين يوم أحد إذ كانوا يطمعون بجلب الأسرى والغنائم من الذين كفروا، من جهات :
الأولى : إستصحاب خاتمة معركة بدر، وكيف تم حشر سبعين أسيراً من الذين كفروا .
الثانية : التفاؤل بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الثالثة : إرادة معنى الأولوية ليكون رجاء المسلمين في معركة أحد باستحضار وتقدير الآية أعلاه : وسينصركم الله بأحد وأنتم أعزة.
ولم يخيب الله عز وجل ظن المؤمنين فتفضل عليهم وأنجز لهم وعده وجعلهم يحسون ويقتلون الذين كفروا، ولاحت بشارات النصر والغلبة و(ما أشبه الليلة بالبارحة) ( ).
وفي معركة بدر خرج من الصف ثلاثة من كبار كفار قريش هم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وإبنه الوليد وطلبوا المبارزة فتقدم لهم ثلاثة من شباب الأنصار، ولكنهم أبوا إلى الإكفاء من قريش فتولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه زمام المبادرة، ونادى أعز وأقرب الناس إليه في ميدان المعركة وقال: قم يا علي، قم يا عبيدة، وهو ابن الحارث بن عبد المطلب، ثم قال قم يا حمزة، ومع أنه عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد ناداه باسمه لأن الأمر بين الإمام والمأموم، بين القائد والجندي، كما أن حمزة أخو النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة ولكن ليس في سنة واحدة لأن حمزة يكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأربع سنوات أرضعتهما وأبا سلمة بن عبد الأسد ثويبة جارية أبي لهب فقتلوا الثلاثة الذين كفروا بالله ورسوله، وهو من مصاديق تسمية معركة بدر(يوم الفرقان) بتقريب أنه يوم أول مبارزة متعددة إنتصر فيها المسلمون.
ومثل هذا الأمر تقريباً حدث في معركة أحد، إذ قتل المسلمون حملة اللواء من كفار قريش واحداً بعد آخر.
وإنهزم كفار قريش مع كثرة عددهم ومؤونهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]( ).
وهل يصح القول أن هذه البداية واقية من الحزن والأسى على الخسارة التي لحقت المسلمين أثناء المعركة , وبعد أن ترك الرماة مواضعهم أم أن القدر المتيقن من آية البحث هو نزول الغم المركب والمتعدد على المسلمين بعد فرارهم إلى الجبل، وتركهم ميدان المعركة.
الجواب هو الأول، وفيه بيان فضل الله عز وجل على المسلمين في تقدم أسباب التخفيف عن الحزن والوقاية منه، قال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الوجه الثالث : بيان الإطلاق في موضوع الإنتفاع من وعد الله عز وجل، لذا ورد بعد صدق وتنجز الوعد قوله تعالى[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] لبيان فتح أبواب النصر والغلبة للمسلمين بلحاظ أن حس ودفع وتشتيت الذين كفروا نعمة وتنجز للوعد، ويفتح أبواباً من الفضل .
والمختار في معنى (تحسونهم) هو أعم من القتل، وإن ذهب مشهور المفسرين في قوله تعالى ( اذ تحسونهم ) أي تقتلونهم، ويستقرأ العموم من معنى لفظ الحس وموضعه في آية البحث وآيات القرآن الأخرى ذات الصلة والأخبار التأريخية عن واقعة أحد مما يفيد التواتر أي قام جماعة بنقله عن جماعة.
وهل يصح تقدير الجمع بين الآيتين (إذ تحسونهم بإذنه لكيلا تحزنوا عما سيفوتكم ولا ما سيصيبهم)
المسألة السادسة :ولقد صدقكم الله وعده لكيلا تحزنوا على ما أصابكم) وفيه وجوه :
الأول : بيان رحمة الله بالمسلمين وحضور رأفته في حال الشدة والضيق ، وليس من حصر لمصاديق رأفة الله بالمسلمين , ومنها أمور :
الأول : الوعد السابق من عند الله لأنه سبحانه يعلم بما يصيب المسلمين قبل وقوعه ، فتفضل ووعدهم بالغلبة والنصر فيتغشى وعده تعالى المسلمين ويعيشون في بحبوحة من الأمل والرضا .
الثاني : تنجز وعد الله للمسلمين بالنصر في بداية معركة احد ، وهل فيه إستصحاب للنصر يوم بدر ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ).
وبلحاظ معركة بدر وأحد وابتداء كل معركة منهما بالنصر للمسلمين هل يمكن تأسيس قانون وهو ابتداء المعركة بنصر المسلمين وإن جاءت فيها جولة أو جولات للذين كفروا ، الجواب لا ، وقد إبتدأت معركة حنين بهزيمة سريعة للكتائب الأولى للمسلمين ، وتحقق وعد الله عز وجل في معركة أحد في بداية المعركة بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ]بينما إنهزم أغلب المسلمين في بداية معركة حنين ثم رجعوا إلى الميدان وقاتلوا ببسالة .
وإجتمع نحو مائة حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسرعة ، يقاتلون بين يديه ليرجع غيرهم بعدهم بالتوالي بينما في معركة أحد قاتل حول النبي بعدد أصابع اليدين لساعات .
وعودة المؤمنين إلى ساحة المعركة يوم حنين بسرعة من ثمرات آية البحث وآية السياق وإتعاظ المسلمين من واقعة أحد لتكون خسارتهم جولة في معركة أحد واقية لهم من الحسرة والحزن والقنوط واليأس ، وسبيلاً للتدارك وبذل الوسع ، والصبر في ميدان المعركة .
وإذ أخبرت الآية السابقة عن حس وقتل المؤمنين للذين كفروا في بداية المعركة بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
فهل ينطبق قوله تعالى أعلاه على معركة حنين أم لا ، لأنهم إنهزموا في بداية المعركة ، الجواب هو الأول ، بل أن حس وقتل المؤمنين للذين كفروا يوم حنين أكثر ، ووقع كثير منهم في الأسر إلى جانب نسائهم وأولادهم وصارت أموالهم وإبلهم وأنعامهم غنائم .
قال ابن إسحاق (ولما انهزمت هوازن استحر القتل في ثقيف في بنى مالك فقتل منهم سبعون رجلا.
ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عمر الاشعري فأدرك من الناس بعض من انهزم فناوشوه القتال فرمى بسهم فقتل فأخذ الراية أبو موسى الاشعري وهو ابن عمه فقاتلهم ففتح الله عليه وهزمهم الله فيزعمون أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر فقتله.
وقال ابن سعد قتل أبو عامر منهم تسعة مبارزة ثم برز العاشر معلما بعمامة صفراء فضرب أبا عامر فقتله، واستخلف أبو عامر أبا موسى الاشعري فقاتلهم حتى فتح الله عليه , وقتل أبو عامر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللهم اغفر لابي عامر واجعله من أعلى أمتى في الجنة ، وقتل من المسلمين أيمن بن عبيد هو ابن أم أيمن وسراقة بن الحارث ورقيم بن ثعلبة بن زيد بن لوذان – وعند ابن اسحق يزيد بن زمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد – جمع به فرس يقال له الجماح فقتل.
واستحر القتل في بنى نصر بن معاوية ثم في بني رئاب فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فقال اللهم اجبر مصيبتهم.
ووقف مالك بن عوف على ثنية من الثنايا حتى مضى ضعفاء أصحابه وتتام آخرهم , ثم هرب , فتحصن في قصر يليه , ويقال دخل حصن ثقيف.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسبي والغنائم تجمع فجمع ذلك كله وأخذوه إلى الجعرانة فوقف بها إلى أن انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الطائف وهم في حظائر لهم يستظلون بها من الشمس.
وكان السبي ستة آلاف رأس والابل أربعة وعشرون ألفا والغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضة فاستأنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسبي أن يقدم عليه وفدهم وبدأ بالأموال فقسمها .
وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الابل .
قال ابني يزيد . قال : اعطوه أربعين أوقية ومائة من الابل .
قال إبني معاوية . قال : اعطوه أربعين أوقية ومائة من الابل . واعطى حكيم ابن حزام مائة من الأبل ثم سأله مائة أخرى فأعطاه وأعطى النضير بن الحارث ابن كلدة مائة من الابل وأعطى اسيد بن جارية الثققى مائة من الابل وأعطى العلاء بن جارية الثقفى خمسين بعيرا وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيرا .
وأعطى الحارث بن هشام مائة من الابل وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الابل .
وأعطى صفوان بن أمية مائة من الابل وأعطى قيس بن عدى مائة من الابل وأعطى عثمان بن وهب خمسين من الابل وأعطى سهيل بن عمر مائة من الابل .
واعطى حويطب بن عبد العزى مائة من الابل .
وأعطى هشام بن عمرو العامري خمسين من الابل وأعطى الاقرع بن حابس التميمي مائة من الابل .
وأعطى عيينة بن حصن مائة من الابل وأعطى مالك بن عوف مائة من الابل وأعطى العباس بن مرداس أربعين من الابل فقال في ذلك شعرا فأعطاه مائة من الابل ويقال خمسين.
وإعطاء ذلك كله من الخمس وهو أثبت الاقاويل عندنا، ثم أمر زيد بن ثابت باحصاء الناس والغنائم , ثم فضها على الناس فكانت سهمانهم لكل رجل أربعا من الابل أو أربعين شاة فان كان فارسا أخذ اثنى عشر بعيرا أو عشرين ومائة شاة وإن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له) ( ).
الثالث : بيان عظيم النفع المترشح عن فضل الله على المؤمنين في صدق وتنجز وعده لهم بأن يكون مواساة لهم من جهتين :
الأولى : صرف الحزن عنهم بسبب ما فاتهم من الغنائم وثمرات النصر .
الثانية : منع دبيب الحسرة والأسى لقلوب المسلمين التي تأتي نتيجة كثرة الشهداء والجراحات ، لقد ألح فريق من المؤمنين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج للقاء الذين كفروا في معركة أحد لتخلفهم عن المشاركة بمعركة بدر , ورأوا تباشير النصر والظفر بالذين كفروا في بداية المعركة بفضل من الله عز وجل إذ تجلت مصاديق المدد الإلهي ، وباغتهم جيش المشركين من الخلف فتفضل الله عز وجل على المؤمنين بأن أثابهم بالغم ، وجعلهم يستحضرون وعده الكريم , ويرجون إستدامته وتجدده وإستصحابه ، وفيه تخفيف من مصيبتهم وأذاهم ، وهو من مصاديق توجيه وندب المسلمين إلى الدعاء بقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
وتقدير الآية أعلاه بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : أدعوني لجعل وكتابة الثواب لكم في صعودكم على الجبل بلحاظ أنه أذى في سبيل الله .
الثاني : إدعوني لسلامتكم من الصعود والفرار من المعركة أستجب لكم .
الثالث : أدعوني لعدم إضرار صعودكم الجبل وفراركم بسير المعركة وإستدامة نصركم فيها ، ومع إنهزام أغلب المسلمين فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ثابت في موضعه كما أن الملائكة لا يعرفون الهزيمة والإنكسار لما رزقهم الله من القوة القاهرة للإنسان ، لعمومات قوله تعالى [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
الرابع : أدعوني لتلووا على دعوة الرسول وتستجيبوا له فاستجب لكم .
الخامس : أدعوني كما تستمعوا لدعوة الرجوع إلى الميدان أستجب لكم .
السادس : أدعوني كي يدعوكم الرسول من أمامكم وفي ملاقاة الذين كفروا ، وأنتم مقبلون على القتال ، وليس مدبرين.
السابع : أدعوني إستجب لكم وإن كنتم في حال فرار وهزيمة .
الثامن : أدعوني لصرف الغم عنكم وإن تعددت أسبابه .
التاسع : أدعوني لأمحو عنكم علة وأسباب الحزن والغم أستجب لكم وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( ).
العاشر : أدعوني لأدفع عنكم أضرار المصيبة أستجب لكم .
الرابع : لقد نزلت المصيبة بالمسلمين في معركة أحد , وهم يجاهدون في سبيله ، ويرجون نواله ، ويسألونه الأجر والثواب فتفضل وأثابهم بالغم لصرف الحزن وآثار فقد الأحبة ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
فكان وعد الله عز وجل مدداً إلى جانب مدد الملائكة ، ومواساة حسنة من عند الله , وبشارة الخلود في النعيم للذين قتلوا من المؤمنين في معركة أحد .
وعن الضحاك قال (لما أصيب الذين أصيبوا يوم أحد لقوا ربهم فأكرمهم ، فأصابوا الحياة والشهادة والرزق الطيب قالوا : يا ليت بيننا وبين إخواننا من يبلغهم أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا فقال الله : أنا رسولكم إلى نبيكم وإخوانكم ، فأنزل الله { ولا تحسبن الذين قتلوا } إلى قوله { ولا هم يحزنون })( ).
ولم يرفع الضحاك الحديث , وهو الضحاك بن مزاحم البلخي من التابعين حدث عن ابن عباس ولكنه لم يره ، وحدث عن إبي سعيد الخدري ، وابن عمر ، وأنس بن مالك ولقي سعيد بن جبير في بلاد الري( ) ومنه أخذ التفسير .
وثقه أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين وغيرهما , وضعفه يحيى بن سعيد ، توفي الضحاك سنة اثنتين ومائة .
ولا دليل على قول الضحاك ان الله عز وجل يقول : أنا رسولكم إلى نبيكم وإخوانكم ) وليس في السنة النبوية ما يفيد الإستعارة والتمثيل بأن الله عز وجل يكون في تنزيل آياته كالرسول, إنما يبعث الله الرسل .
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولقد صدقكم الله وعده والله خبير بما تعملون ) وفيه وجوه :
الأول : بيان تعدد فضل الله على المسلمين من وجوه :
أولاً : الوعد الكريم من عند الله من غير حاجة منه تعالى للمسلمين أو لغيرهم من الناس والخلائق [إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
ثانياً : تنجز وعد الله للمسلمين ، ويحتمل هذا التنجز وجوهاً :
الأول : إنه فرع الوعد الإلهي .
الثاني : إنه رشحة من الوعد الإلهي .
الثالث : إنه نعمة مستقلة بذاتها .
ولا تعارض بين هذه الوجوه لبيان عظيم إحسان الله للمسلمين وتوالي نعمه عليهم .
ثالثاً : النعم المترشحة عن كل نعمة من النعم أعلاه لتكون تلك النعم وما يتفرع عنها من اللامتناهي في الفضل والإحسان من عند الله عز وجل .
رابعاً : إخبار آية البحث بأن الله عز وجل خبير بما يعمل المسلمون .
وفيه تزكية لعمل المسلمين ، فهو سبحانه خبير بما يعملون ، فتفضل وخفف عنهم وأعانهم لأنه ألقى الرعب في قلوب الذين كفروا , ليكون سعي المسلمين وافعالهم العبادية وجهادهم في سبيل الله مما يحب ويرضى سبحانه .
وعن معقل بن يسار قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعملوا بالقرآن احلوا حلاله وحرموا حرامه واقتدوا به ولا تكفروا بشئ منه وما تشابه عليكم منه فردوه إلى الله والى اولى العلم من بعدى كما يخبروكم وآمنوا بالتوراة والانجيل والزبور وما اوتى النبيون من ربهم وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فانه شافع مشفع وماحل مصدق , ألا ولكل آية نور يوم القيامة وانى اعطيت سورة البقرة من الذكر الاول , واعطيت طه وطواسين والحواميم من الواح موسى , واعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش) ( ).
الثاني : قد يتبادر إلى الذهن أن الجمع بين الآيتين نوع إنذار للمسلمين ، ومع أن هذا الجمع ليس بحجة ، ولكنه مناسبة وموضوع لإستقراء المواعظ والعبر وإستنباط المسائل وهو خال من الإنذار للمسلمين ، إذ يفيد ان الله عز وجل صدق المسلمين وعده ليعملوا في مرضاته ، ويفوزوا بجني الحسنات .
وهو من اللطف الإلهي بتقريب المسلمين إلى منازل طاعته وسبل الجنان .
الثالث : بيان قانون وهو وجوب مقابلة المسلمين وعد الله وصدقه بالشكر والعمل الصالح والثبات في ساحة المعركة ، إذ ورد قوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] في آية البحث التي تذكر إنسحاب وتراجع أغلب المسلمين , فالله سبحانه يعلم مراتب المسلمين في الصبر والتحمل ، فجاء صدق الوعد منه تعالى للمسلمين لتنمية ملكة الصبر عندهم ، وتهيئة أذهانهم ونفوسهم للقادم من الأيام .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : إذ تحسونهم بأذنه إذ تصعدون ) وفيه بيان عظيم الفضل الإلهي على المسلمين يوم أحد ، وكيفية تلقيه من قبلهم , لقد أذن الله عز وجل لهم بمطاردة وقتل الذين كفروا ، وتجلت هذه الحقيقة في بداية معركة أحد ، لتكون شاهداً على فضل الله على المسلمين , وحضوره معهم في الضيق والضراء ولا يختص هذا الفضل بميدان القتال بل يتغشى الله المجاهدين بشآبيب رحمته في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى]( ).
ويفيد قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] نوع مفاعلة من وجوه :
أولاً : وجود طرف فاعل هو الذي يحس ويفتك .
ثانياً : التوثيق التأريخي للحس والقتل في معركة أحد .
وبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه دخلوا المعارك وخاضوا الحروب دفاعاً عن الإسلام ، وأن الله عز وجل أمدهم وأعانهم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
ثالثاً : وقوع الحس وأثره على طرف وهم في الآية الذين كفروا بسبب ظلمهم وزحفهم لقتال ومحاربة النبوة والتنزيل.
ليكون من معاني الآية أعلاه مخاطبة المسلمين بأن لا تهنوا ولا يستولي الأسى والحزن على نفوسكم بسبب خسارتكم في معركة ،
فقد رأيتم ورأى الناس جميعاً كيف كانت بداية المعركة إذ تحسون وتقتلون وتطاردون الذين كفروا وتقتلون حملة لوائهم واحداً بعد أخر وكانوا أخوة وأبناء أخوة , ليكون فناؤهم إنذاراً لقريش بأن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجعل ديارهم بلاقع وحمل لواء المشركين بالترتيب , وبعد كل واحد يقتل يأخذه الآخر وهم :
الأول :طلحة بن أبي طلحة وكان يسمى كبش الكتيبة لقوته وشجاعته ، فخرج بين الصفين متبختراً (فنادى انا قاصم من يبارزني مرارا فلم يخرج إليه احد , فقال : يا اصحاب محمد زعمتم ان قتلاكم إلى الجنة وان قتلانا في النار كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلي بعضكم , فخرج إليه علي بن أبى طالب عليه السلام فاختلفا ضربتين فقتله علي عليه السلام ) ( ).
(قَالَ ابن هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ لِلْحَجّاحِ بْنِ عِلَاطٍ السّلَمِيّ يَمْدَحُ ( أَبَا الْحَسَنِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ) عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَيَذْكُرُ قَتْلَهُ طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ صَاحِبِ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ :
لِلّهِ أَيّ مُذَبّبٍ عَنْ حُرْمَةٍ … أَعْنِي ابن فَاطِمَةَ الْمُعَمّ الْمُخْوِلَا
سَبَقَتْ يَدَاكَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ … تَرَكَتْ طُلَيْحَةَ لِلْجَبِينِ مُجَدّلَا
وَشَدَدْتَ شَدّةَ بَاسِلٍ فَكَشَفْتهمْ … بِالْجَرّ إذْ يَهْوُونَ أَخْوَلَ أَخْوَلَا) ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رؤيا وهو في المدينة، كما ورد عن أنس مرفوعاً قال: رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا، وكأن ضبة سيفى انكسرت، فأولت أنى أقتل كبش القوم، وأولت كسر ضبة سيفى قتل رجل من عترتي. فقتل حمزة، وقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلحة، وكان صاحب اللواء( ) .
لبيان موضوعية وأثر قتل حامل لواء الذين كفروا في بداية المعركة ، ولتكون رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشارة وشداً لعزائم وهمم المسلمين , أما رؤية قتل رجل من عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي مواساة متقدمة وسابقة في زمانها لأوان المعركة ، ولتأكيد قانون وهو أن رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي , وكان لا يرى رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح .
ولعل معنى وتأويل رؤيا النبي من عمومات تفسير لقوله تعالى[فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ]( ).
الثاني : عثمان بن أبي طلحة , حمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه ، لتتجدد معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن أهل بيته هم الذين يبدأون الفاع والقتال , وهو شاهد على صدق نبوته وتفاني أهل البيت في الدفاع عن الإسلام .
ولتكون مبارزة علي عليه السلام وحمزة في بداية القتال ثم قتل حمزة مواساة للأنصار وعوائلهم على قتلاهم في معركة أحد خاصة وأن عدد قتلى الأنصار يومئذ كان خمسة وستين شهيداً ، بينما لم يقتل من المهاجرين إلا خمسة ( ).
الثالث : حمل لواء الذين كفروا أبو سعيد بن أبي طلحة بعد قتل أخويه طلحة وعثمان فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته فقتل ، ولابد أنه لم يطلب المبارزة بسبب الرعب الذي ملأ قلبه وقلوب الذين كفروا معه .
الرابع : قام مسافع بن طلحة بحمل لواء كفار قريش فقتل .
الخامس : حمل لواء الذين كفروا الحارث بن طلحة فقتل .
السادس : حمل اللواء كلاب بن طلحة فقتل .
السابع : حمل اللواء الجلاس بن طلحة فقتل .
الثامن : حمل اللواء إرطأة بن شرحبيل فقتل ، قتله الإمام علي عليه السلام .
التاسع : حمل اللواء شريح ابن قارظ فقتل .
العاشر : حمله صواب غلام لبني طلحة فقتل ، وأختلف في قاتله من بين أهل البيت والمهاجرين والأنصار .
وبعد صواب أخذت اللواء امرأة هي عمرة بنت علقمة فرفعته لقريش فاجتمعوا حوله ، ولعل المؤمنين عزفوا عن قتلها , وكان قتل أصحاب اللواء سبباً لفرار جيش الكفار، وأخذت نساؤهم يولولن، والمسلمون يضعون فيهم السيف، وهو من مصاديق الآية السابقة [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] فازاحوهم عن العسكر وأخذوا ينهبون معسكرهم، عندها وقع التنازع بين الرماة وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة[وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ].
ثالثاً : وجود فعل وهو الحس والقتل ، وهو أمر عظيم في كل زمان ، فالقتل مغادرة الروح للجسد وسفك للدماء ، وهو أيضاً نوع مفاعلة أطراف :
الأول : القاتل .
الثاني : مادة وفعل القتل .
الثالث : آلة وكيفية القتل .
الرابع : سبب وموضوع القتل .
الخامس : المقتول الذي يقع عليه فعل الفاعل ، وقد يكون هناك طرف آخر وهو الآمر بالقتل والمحرض عليه .
وفي الفقه يقسم القتل إلى أقسام :
الأول : القتل العمد ، وحكمة القصاص إلا أن يرضى ولي المقتول بالدية أو أقل منها أو يعفو [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( )والآية أعلاه وإن وردت في باب الطلاق إلا أن العفو محبوب وحسن ذاتاً .
وقال مالك في القاتل عمداً (إِذَا عُفِي عَنْهُ : أَنَّهُ يُجْلَدُ مِئَةَ جَلْدَةٍ وَيُسْجَنُ سَنَةً) ( ).
الثاني : قتل شبه العمد , ويلحق بالخطأ كما لو ضربه بعصا صغيرة أو لكزه وهو لا ينوي قتله , فيموت بسببه فوقع الضرب عن قصد ، ولكن القتل غير مقصود وليس براجح ، ولا قصاص فيه وإن كان محرماً , وفيه الكفارة , وقيل قتل الغيلة ليس فيه عفو من أولياء الدم أو غيرهم ، وهو أن يكون القتل على نحو المكر والخداع والإستدراج كما لو أخذه إلى موضع لا يراه أو يعلم به أحد فيقتله طمعاً بماله ونحوه ، ويكون قتل القاتل هنا حداً وليس قصاصاً .
الثالث : القتل الخطأ ، وفيه الدية وهي على ستة أصناف يختار الجاني بينها مع الكفارة ، قال تعالى [وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا] ( ).
أما الآية السابقة فتقسم في منطوقها ومفهومها القتل إلى قسمين :
الأول : قتل المسلمين للذين كفروا دفاعاً وحقاً بأن وصفته الآية بأنه بإذن الله بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ].
الثاني : القتل ظلماً وجوراً ، وهو قتل الذين كفروا للمسلمين والذي قصده الذين كفروا من حين خروجهم من مكة متوجهين إلى معركة أحد ليترتب عليه إنبساط الإثم عليهم جميعاً ، وهجوم الرعب على قلوبهم .
وهل دخول الرعب إلى قلوب الذين كفروا في آن واحد وزمان واحد أم أنه متباين في وقته .
المختار هو الثاني ، وهو من معاني صيغة الإستقبال في آية السياق [سنلقي ] .
ولو جاء سهم غارب من معسكر الذين كفروا لم يقصد صاحبه شخصاً معيناً من المسلمين فأصاب أحد المؤمنين وقتله فهل هو من القتل شبه العمد , الجواب لا ، إنما هو من العمد لأنه أراد الطبيعي الكلي ، وقصد قتل أحد المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ] ( ).
وأخرج عن سعيد بن جبير في الآية أعلاه ( قال : نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني ، وذلك أنه أسلم وأخوه هشام بن ضبابة وكانا بالمدينة ، فوجد مقيس أخاه هشاماً ذات يوم قتيلاً في الأنصار في بني النجار ، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بذلك ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً من قريش من بني فهر ومعه مقيس إلى بني النجار – ومنازلهم يومئذ بقباء – أن ادفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علمتم ذلك ، وإلا فادفعوا إليه الدية . فما جاءهم الرسول قالوا : السمع والطاعة لله وللرسول ، والله ما نعلم له قاتلاً ولكن نؤدي إليه الدية ، فدفعوا إلى مقيس مائة من الإبل دية أخيه ، فلما انصرف مقيس والفهري راجعين من قباء إلى المدينة وبينهما ساعة ، عمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتله ، وارتد عن الإسلام وركب جملاً منها وساق معه البقية ، ولحق بمكة وهو يقول في شعر له :
قتلت به فهراً وحملت عقله … سراة بني النجار أرباب قارع
وأدركت ثأري واضطجعت موسداً . وكنت إلى الأوثان أول راجع
فنزلت فيه بعد قتل النفس وأخذ الدية ، وارتد عن الإسلام ولحق بمكة كافراً) ( ).
إن زحف ومسير جيوش الذين كفروا من مكة إلى معركة أحد أشد وأمر من أسباب نزول الآية أعلاه من جهات :
الأولى : سبق إصرار الذين كفروا على قتل المؤمنين .
الثانية : عزم الذين كفروا على الثأر من حين رجوعهم من معركة بدر .
الثالثة : إرادة الذين كفروا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : قصد كفار قريش الفتك العام بجيش المسلمين , وما يسمى في هذا الزمان بالإبادة الجماعية .
وهل قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( )بلحاظ أن حس وقتل المسلمين للذين كفروا في بدايات معركة أحد آية من عند الله بلحاظ جهات :
الأولى : قلة عدد المسلمين بالنسبة لعدد المشركين .
الثانية : تهيئ جيش المشركين لمعركة أحد مدة أحد عشر شهراً بالتدريب والخطط والمهارات .
الثالثة: إعداد جيش المشركين للأسلحة وعدة القتال وما يحتاجه الفارس والراجل منهم .
الرابعة : إختيار جمع وإصلاح الرواحل للمعركة ، فمثلاً جاء جيش المشركين بمائتي فرس تقاد قوداً لم تركب ظهورها في الطريق بين مكة والمدينة لإشراكها في المعركة دون أن تكون مجهدة .
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : إذ تحسونهم بإذنه ثم لا تلوون على أحد ) .
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار ، ومنه حال القتال والحرب بين المسلمين والذين كفروا , وقد يقول قائل أن الأرض والسموات ملك طلق لله عز وجل وهو سبحانه [لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ] ( ) فلماذا لم يكف أيدي الذين كفروا عن المسلمين ويمنعهم من الزحف في معركة بدر وأحد , أو لا أقل يجعل الرعب الذي يلقيه في قلوبهم سبباً لكفهم عن جمع الجيوش والسير بها لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب لقد جعل الله عز وجل النبوة باباً لإبتلاء وإمتحان الناس لتكون فيصلاً وملاكاً للفصل بين الناس ، وترتب الثواب على الهداية والإيمان وإستحقاق العقاب على الجحود بالنبوة وإشهار الحرب عليها باللسان واليد والسيف.
ومن الآيات في المقام تجلي قاعدة منع الجهالة والغرر , وإنتفاء الغفلة عن الناس من جهات :
الأولى : دعوة الأنبياء إلى التوحيد وعبادة الله , ونبذ الشرك والضلالة .
الثانية : توالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على صدق نبوته , وكل معجزة حجة على الناس بلزوم إتباعه في طاعة الله.
الثالثة : بيان القرآن للآيات الكونية والدلائل الواضحات على وجوب التوحيد ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ] ( ).
الرابعة : وجود أمة مؤمنة تجاهد في سبيل الله لجذب الناس لمقامات الإيمان ودفع الضرر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامسة : المدد من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : إنحصار المدد للمسلمين بحال الحرب والقتال .
الثاني : حضور المدد من الله عز وجل للمسلمين أوان الحاجة .
الثالث : تعلق المدد الإلهي للمسلمين بالدعاء وسؤال العون والمدد .
الرابع : مصاحبة المدد للإيمان، وملازمته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال السلم والحرب والمهادنة.
والصحيح هو الأخير ، وكل آية من القرآن تدل عليه في منطوقها أو مفهومها.
ومن المسلمات حضور المدد من عند الله للمسلمين عندما يحسون ويقتلون الذين كفروا ، ويحتمل الأمر في حال إنذار المسلمين وعدم إلتفاتهم إلى دعاء الرسول من خلفهم وجوهاً :
الأول : تعليق المدد الإلهي للمسلمين عند الهزيمة وفرار المسلمين من وسط الميدان لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] ( ).
الثاني : التباين الرتبي في المدد الإلهي للمسلمين بين حال حسهم وقتلهم للذين كفروا ، وعند إدبار المسلمين وفرارهم .
الثالث : بقاء ذات المدد من عند الله للمسلمين , لمجيئه بلحاظ الإيمان .
والمختار هو الأخير ، ومنه كل من آية البحث والسياق فقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] مدد للمسلمين من جهات :
الأولى : بعث الهمة والعزيمة في نفوس المسلمين .
الثانية : التوثيق السماوي لرجحان كفة المسلمين يوم أحد، ولحوق الفزع والخوف في نفوس الذين كفروا.
الثالثة : محو أسباب الخوف من لقاء الذين كفروا وسط الميدان.
الرابعة : إزاحة مانع عن دخول الناس في الإسلام.
الخامسة : الآية برزخ دون إدعاء كفار قريش النصر في معركة أحد.
ومن الإعجاز في هذه الآيات أنها ذكرت أحوال المسلمين، وما أصابهم من الأذى والخسارة من غير خشية من شماتة الأعداء، لأن الغاية هي إصلاح المسلمين لقادم الأيام، ولأن القرآن يبين الحقائق، وفي التنزيل[إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ]( ).
السادسة : الآية شاهد سماوي على دلائل التنزيل ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ جاءت قريش بثلاثة آلاف من الرجال ، تدربوا وتأهلوا للقتال واصلحوا أنفسهم وسيوفهم للمبارزة والمسايفة والعدوان , واعدوا له عدته مع تأريخ تليد لعدد من أبطالهم ولقريش والقبائل التي تقاتل معها بحيث يصاب الذين يتوجهون إليه بالرعب والفزع.
ولا تغفل قريش عن بعث الرجال ودس العيون وإيصال الرسائل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وأهل المدينة قاطبة بشدة بأس الجيش الزاحف لهم وتعدد الغايات الخبيثة التي يزحف من أجلها ، فكان قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] تبديداً لآثار هذه الأخبار , وواقية للمسلمين من الفزع والرعب .
وفي الجمع بين الآيتين وجهان :
الوجه الأول : تنبيه المسلمين بلزوم تعاهد نعمة الله عز وجل بالظهور على الذين كفروا والفتك بهم ، ويتجلى هذا التعاهد بلحاظ آية البحث من جهات :
الأولى : وجوب الصبر في الميدان لأنه مقرون بعناية ولطف من الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( ).
الثانية : إجتناب مقدمات الخسارة ولو في جولة من المعركة ، ومن هذه المقدمات ترك الرماة مواقعهم فلم يتركوها من أجل الهزيمة بل نزلوا من الجبل متوجهين إلى ساحة المعركة من وجوه :
الأول : هذا النزول مخالفة ومعصية لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بعدم ترك مواقعهم .
الثاني : جعل جمع الغنائم والإستحواذ الشخصي عليها هو الغاية من النزول، وليس من الندب والخروج إلى معركة أحد الذي هو بقصد القربة والجهاد في سبيل الله.
الثالث : مخالفة أوامر رئيس الرماة الذي أكد لهم وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والبقاء في مواضعهم خاصة وأنهم يرون خيالة الذين كفروا من خلفهم يتربصون بهم للإنقضاض عليهم .
الثالثة : المناجاة بترك الهزيمة والفرار من المعركة ، وقد أنعم الله على المسلمين بقانون حرمة الفرار من الزحف بقوله تعالى [وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) .
ومن النادر أن تجد آية في القرآن تنذر وتتوعد المسلم بالنار , ولعل الآية أعلاه هي الوحيدة في القرآن التي تتضمن الوعيد للمسلم بإجتماع أمور :
الأول : نزول الغضب من الله .
الثاني : اللبث في نار جهنم .
الثالث : الذم والتوبيخ بسوء العاقبة .
مما يدل على موضوعية عدم الفرار من القتال في بناء صرح الإسلام ، وهو الذي تجلى في معركة أحد بثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان مع صيرورة العدو على خطوات منه ، ومن الآيات أن لفظ [دُبُرَهُ] لم يرد في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سها في الصلاة ، وهو موضوع خلاف وتحقيق بين المسلمين , وورد موضوعه على وجوه:
الأول : أدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة المغرب أو العشاء وسلم مرة من ركعتين ، فسجد سجود السهو وورد (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِحْدَى صَلاَتَىِ الْعَشِىِّ – قَالَ ابن سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا – قَالَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِى الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا ، كَأَنَّهُ غَضْبَانُ ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى .
وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا قَصُرَتِ الصَّلاَةُ . وَفِى الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ ، وَفِى الْقَوْمِ رَجُلٌ فِى يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاَةُ قَالَ : لَمْ أَنْسَ ، وَلَمْ تُقْصَرْ .
فَقَالَ « أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ .
فَقَالُوا نَعَمْ .
فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ . فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ ثُمَّ سَلَّمَ) ( ).
الثاني : أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العصر مرة ثلاث ركعات وهو ما رواه عمران بن حصين (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم- صَلَّى الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فِى ثَلاَثِ رَكَعَاتٍ ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ , وَكَانَ فِى يَدَيْهِ طُولٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ. وَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّاسِ .
فَقَالَ « أَصَدَقَ هَذَا . قَالُوا نَعَمْ. فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ) ( ) .
أي ثم سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجود السهو.
ووقع الإختلاف هل الحديثان أعلاه في موضوع متحد , أم متعدد.
الثالث : زيادة النبي ركعة خامسة في صلاته نسياناً، وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر خمساً ، فقيل له : أزيد في الصلاة.
فقال: وما ذلك ؟ قالوا صليت خمساً ، فسجد سجدتين بعدها سلم ، ثم سجد سجود السهو .
الرابع : ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتشهد الأول ، روي عن عبد الله بن بجينة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه فلما قضى صلوته ونظرنا تسليمه ، كبر فسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ثم سلم( .
وقيل أن عبد الله بن بجينة لم يشاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكر في علة السهو لنفي الحرج عن إمام الجماعة الذي يسهو في صلاته , فلا يستحي من الخروج من البيت وأداء الصلاة إماماً أو مأموماً أو منفرداً مع حدوث السهو .
ولم ينهزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أي معركة من معارك المسلمين كي يكون أسوة لمن أضطر للهزيمة والفرار ، ولم يسهو أو ينسى في ميدان المعركة ومما يتصف به أنه يعرف أصحابه على كثرتهم بأسمائهم ويدعوهم بها.
الوجه الثاني : بيان التباين والتضاد بين قيام المؤمنين بحس وقتل الذين كفروا وبين إنسحاب وإنهزام المؤمنين ، إذ كيف يجتمع المتضادان ، الجواب إنه ليس من إجتماع الضدين الممتنع بالذات للتباين الزماني بين الأمرين .
وتقدير الجمع بين الآيتين : إذ تحسونهم بإذنه ثم صرتم لا تلوون على أحد ) ومن الإعجاز في نظم الآية القرآنية مسائل :
الأولى : تقدم ذكر القرآن لحس المؤمنين للذين كفروا على قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] لبيان حقيقة وهي إبتداء معركة أحد بنصر المؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ).
ليشمل البيان القرآني نظم الآية القرآنية الواحدة ، ودلالات التعاقب بين آيتين من القرآن .
الثانية : عدم ذكر آية البحث لصعود وفرار شطر من المؤمنين بعد إختتام الآية السابقة بقوله [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] لإقامة الحجة على المؤمنين وأن فرارهم كان قصوراً وتقصيراً .
وهل فيه تضييع لفضل الله , فيكون تقدير الآية : والله ذو فضل عليكم ولكنكم لم تنتفعوا منه إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ) الجواب لا ، فمن خصائص الفضل الإلهي على المؤمنين إنتفاعهم منه وعدم تفريطهم به ، فيتصف قانون الفضل الإلهي بأمور :
الأول : الفضل من عند الله رحمة وخير محض .
الثاني : يأتي الفضل الإلهي للمؤمن والمسلم والإنسان مطلقاً إبتداءً ونافلة من عند الله .
الثالث : تقوم الحياة الدنيا بالفضل الإلهي ، قال تعالى [ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى] ( ).
الرابع : إنتفاع المسلمين من فضل الله عز وجل ، وعدم ذهابه سدى ، ليكون هذا الإنتفاع فضلاً آخر من عند الله غير الفضل الذي يأتي إبتداء وينتفعون منه ، أي يأتي فضل من عند الله للذين آمنوا نافلة وزيادة من عند الله , ثم يأتي فضل آخر ليتلقوا هذا الفضل بالأحسن وينتفعوا منه بالأتم والأكمل .
الثالثة : أختتمت آية السياق بذكر فضل الله على المؤمنين ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة مضامين الآية السابقة بلحاظ أنه خاتمة لها .
الثاني : إستقراء وجوه الفضل الإلهي في الآية السابقة .
الثالث : المقصود خصوص عفو الله عز وجل على المؤمنين لإتصال ذكر الفضل الإلهي به ، لقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ].
الرابع : المقصود أن الفضل الإلهي غير النعم الإلهية التي تذكرها آية السياق .
الخامس : الفضل الإلهي كالوعاء للنعم التي تذكرها آية السياق .
السادس : إرادة النعم التي ذكرت في آية البحث أي بعد إختتام الآية السابقة ليكون تقديرها : والله ذو فضل عظيم ومنه إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم ) فان قلت ما هو الفضل في موضوع الآية الذي يتضمن الإخبار عن فرار المؤمنين .
والجواب يتجلى الفضل الإلهي في آية البحث من جهات :
الأولى :إخبار آية البحث عن صعود وإنسحاب المسلمين من ميدان المعركة يوم أحد .
الثانية : إكرام المسلمين بوصف فرارهم بأنه صعود ، سواء كان المقصود منه الصعود على الجبل القريب من ميدان القتال أو إرادة عموم الأرض بلحاظ أنه صعيد ، قال تعالى في الطهارة البدلية مقدمة للصلاة [فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا] ( ).
الثالثة : إعانة المسلمين بالإنسحاب من المعركة بعد تحول الريح وتبدل سير المعركة وصيرورة الجولة للمشركين , وهذا التحول حجة عليهم من وجوه :
الأول : إصرار الذين كفروا على القتال ، والإستمرار فيه ، لقد كانت معركة بدر إنذاراً لكفار مكة وغيرهم بلزوم الكف عن التعدي على الإسلام ، ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف لتجلي الإعجاز بنصر المسلمين يومئذ خلافاً لقواعد الحرب ، ونتائج فنون القتال بالحسابات الظاهرة ، وهو من مصاديق تسمية يوم بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) بتقريب أنه فرقان حتى في عقول الناس بحملهم على التمييز بين الحق والباطل وبين خذلان الأسباب المادية وكثرة العدد والمؤن عن نصرة كفار قريش ، ومجئ النصر سريعاً للمسلمين يومئذ بالمعجزة , والمدد من عند الله سبحانه.
الثاني : بيان قانون دائم مترشح عن معركة أحد ، وهو وإن إنتصر الذين كفروا في جولة من المعركة ، وصارت الغلبة لهم وأكثروا من قتل المسلمين فأنهم إلى خسران عاجل وآجل ، أما العاجل فان الله عز وجل يتفضل على المسلمين ويجعل هزيمتهم مقدمة لنصر لاحق ، ويمحو عنهم آثار الهزيمة ، وهو الذي تدل عليه آية البحث من جهات :
الأولى : تذكير المسلمين بأنسحابهم بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] وتقدير الآية بلحاظ إرادة حث المؤمنين على الصبر والمرابطة : إذ تصعدون فلا تصعدون في المعارك اللاحقة .
الثانية : إخبار آية البحث عن عفو الله عن المؤمنين ليبدأوا صفحة جديدة من العمل والبذل في سبيل الله .
الثالثة : دعوة ونداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين وقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] أعم من أن يختص بميدان معركة أحد ولا بالذين نالوا شرف الحضور فيها تحت لواء النبوة ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : والرسول يدعوكم للتدارك وترك الصعود والفرار .
ثانياً : إذ تصعدون والرسول يدعوكم للنزول إلى الميدان , وفيه خير الدنيا والآخرة .
ثالثاً : إذ تصعدون والرسول يدعوكم ليقتدي بكم التابعون وتابعوا التابعين .
الثالث : فضل الله عز وجل في إثابة المؤمنين بالغمة على ذات الصعود ليكون هذا الغم مقدمة للإلتفات لبذل الوسع في الدفاع والثبات في ميدان القتال .
الرابع : عصمة المسلمين من الحزن والأسى ، لقوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا] ولا يقدر على دفع الحزن عن النفوس إلا الله عز وجل , وهل يستطيع الفرد أو الجماعة التخلص من الحزن عند طرو أسبابه , الجواب لا .
نعم الحزن من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً ، وهل تتضمن آية البحث محو ومنع الحزن عن المسلمين مطلقاً أم أنه خاص بما فاتهم من الغنائم وأسباب النصر الحاسم والخسارة التي لحقتهم بالنفوس وكثرة الجراحات .
الجواب هو الثاني ويدل عليه التقييد الوارد في ذات آية البحث بقوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ]فمن خصائص الحياة الدنيا ترشح الحزن عن المصيبة والضرر وفوات مصلحة أو حدوث مفسدة .
إنما جاءت آيات القرآن للتخفيف عن المسلمين وإتخاذ سبب الحزن وذات الحزن وسيلة للدعاء والسعي لإجتناب حدوث موضوعه وعلته مع الإمكان ، إنما خص الله عز وجل المؤمنين في الآخرة بالسلامة من الحزن ، وفي التنزيل [وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ] ( ).
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : إذ تحسونهم بإذنه والرسول يدعوكم في أخراكم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : هناك تباين بين حس وقتل ومطاردة المسلمين للذين كفروا التي جاءت في بداية المعركة ، وبين دعوة الرسول لهم بالرجوع إلى الميدان التي حصلت عندما إنقلبت الريح وصارت الجولة للذين كفروا .
وفيه مسائل :
الأولى : حضور فضل الله عز وجل على المسلمين في بداية المعركة بالغلبة في الميدان , ومن فنون الحرب أن النصر في البداية مدد وعون ، وفيه خذلان للعدو وإرباك لصفوفه وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] للملازمة بين نصر المسلمين في بداية المعركة وإختراق الرعب لصدور الذين كفروا حتى يستقر في قلوبهم ، ويحتمل أموراً :
الأول : دخول الرعب عن طريق الدم بأن يدخل الرعب في الأوردة الصغيرة لينتقل معه إلى الأوردة الكبيرة ثم إلى الوريدين الأجوفين الأعلى والأسفل ، وحينما يخرج الدم المؤكسد إلى جميع أعضاء وأنسجة الجسم عبر الشريان الأبهر لتمتصه بواسطة الشرايين والأوعية الدموية الشعرية ، ويحتمل جهتين :
الأولى : يستقر الرعب في القلب عندما يصل إليه .
الثانية : يغادر الرعب مع الدم إلى أعضاء بدن الكافر فيشل حركة اليد , ويجعل العقل عاجز عن الحيلة والمكر والإجتهاد .
الثاني : يأتي الرعب عن طريق الحواس كالفم والأذن ، وقد جعل الله عز وجل جنوداً في الهواء والماء ، قال سبحانه [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الثالث : غزو الرعب لقلوب الكفار بقدرة الله والمعجزة من عنده سبحانه .
الوجه الثاني : دعوة المسلمين لإجتماع ملكة الشكر لله والصبر عندهم وفي هذا الجمع مسائل :
الأولى : إنه من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثانية : زيادة قوة شوكة ومنعة المسلمين .
الثالثة : بعث الفزع في نفوس الذين كفروا، ليكون تقدير الآية قبل السابقة : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بشكر المسلمين لله وحسن صبرهم .
الرابعة : تذكير الذين كفروا بقبح الشرك والإصرار على الجحود، وجلبه الويلات لهم.
الخامسة : قيام المسلمين بالشكر لله على نعمة التمكن من الذين كفروا مدد وعون للصبر في حال الإنكسار والوهن , وكذا فان تحلي المسلمين بالصبر في حال الضراء والشدة والتراجع في المعركة مناسبة وسبيل لشكرهم لله عز وجل على النعم , وهناك مسألتان :
الأولى : هل الصبر من مصاديق الشكر لله عز وجل .
الثانية : هل الشكر لله من مصاديق الصبر , ويكون من معاني قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( )، إستعينوا بالشكر لله وإقامة الصلاة .
الجواب نعم ، تصح المسألتان ليكون من الإعجاز في سنن القرآن أن النسبة بين الصبر والشكر لله عموم وخصوص مطلق من الطرفين فيمكن أن يكون كل فرد منهما هو الأعم .
السادسة : يتخذ المسلمون سلاحاً في المعركة يتعذر على الذين كفروا محاكاتهم فيه ، وهو من وجوه :
أولاً : سلاح الشكر لله .
ثانياً : سلاح الصبر .
ثالثاً : سلاح إجتماع الشكر لله والصبر ، وترشح منافع كل فرد منها على الآخر ، قال تعالى [وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
الوجه الثالث : على فرض الجمع بين الآيتين فان الواو في [وَالرَّسُولُ] للإستئناف لبيان الفاصل الزماني والموضوعي بين الأمرين ، وهل يصح أن الرسول يدعو المسلمين في تقدمهم وهجومهم في بداية المعركة ، الجواب نعم ، فانه يدعوهم من وجوه :
أولاً : يدعوهم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى طاعة الله عز وجل , وكان لبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمة الحرب ذاته دعوة وإثارة للحماسة في نفوس المسلمين والمسلمات.
وعن معاذ بن حبل [عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الغزو غزوان فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الامام وأنفق الكريمة , واجتنب الفساد فإن نومه ونبهته أجر كله، وأما من غزا رياء وسمعة وعصى الامام وأفسد في الارض فإنه لا يرجع بالكفاف] ( ).
ثانياً : يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طاعته، والتقيد بأوامره في المعركة ، ومنها قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
وفي الآية أعلاه شاهد بأن مواضع الرماة كانت للقتال ويجب عليهم القتال فيها من جهات :
الأولى : البقاء في ذات الموضع وعدم تركه حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويدعوهم إلى النزول .
الثانية : مزاولة الرمي من على جبل أحد قبالة المشركين الذين يتربصون بهم .
الثالثة : القتال بالسيف عند صعود المشركين لهم أو عند نزولهم إلى الميدان .
ومن الأسرار في الآية أعلاه أن موضع الرماة ليس للمرابطة بل للقتال ، وكأن الآية تخبر بأن جميع المؤمنين سيقاتلون ويزاولون القتال في مواضعهم.
ثالثاً : يدعو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته وأصحابه لإستمرار الزحف والتقدم والإيغال في صفوف جيش المشركين وتفريقهم .
رابعاً : يدعو الرسول الرماة في كل آن من المعركة إلى عدم ترك مواضعهم التي جعلهم فيها .
الوجه الرابع : بيان المدد للمسلمين باجتماع أمور :
الأول : إلقاء الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا .
الثاني : إذن الله بقتل الذين كفروا .
الثالث : دعوة الرسول للمؤمنين .
الوجه الخامس : يفيد الجمع بين الآيتين حضور فضل الله، وأسباب النصر للمؤمنين في حال الهجوم وفي حال الإنكسار ، فعندما يهجم المسلمون يأذن الله عز وجل لهم بقتل الذين كفروا ، وعندما ينكسر المسلمون تجذبهم دعوة الرسول إلى ميدان المعركة .
المسألة الحادية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : إذ تحسونهم بإذنه فأثابكم غماً بغم ) وفيه وجوه :
الأول : إتحاد لغة الخطاب في الآيتين إذ يتوجه إلى المؤمنين في معركة أحد وبواسطتهم إلى المسلمين والمسلمات لبيان أن تلك الواقعة كانت يوماً مشهوداً في تأريخ الإسلام له موضوعية في حياة الأجيال المتعاقبة من المسلمين .
وتعددت الضمائر في الآية , وتقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا إذ تحسون الذين كفروا بإذن الله فأثابكم الله غماً بغم ) لبيان التباين والتنافي بين الفريقين في القتال :
أولاً : فريق آمن بالله وقاتل في سبيله تحت لواء رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : وفريق أشرك بالله وحارب الرسالة والتنزيل , قال تعالى [وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل أن يغزو الرعب قلوب الذين كفروا مع بداية المعركة .
فنزل المدد والفضل من الله عز وجل للذين آمنوا في حال نصرهم وغلبتهم وفي حال هزيمتهم وإنكسارهم .
الثاني : الأصل هو ترشح الغبطة والسعادة على المؤمنين لنصرهم وحسهم الذين كفروا في بداية المعركة ، وكما أخبرت عنه آية السياق ، ولكن آية البحث أخبرت عن إبتلاء المسلمين بالغم ، وهذا الغم من عند الله لبيان حقيقة وهي أنه نعمة ورحمة وفضل من عند الله عز وجل .
ولم يأت الغم للمؤمنين وهم في حال نصر وظفر وغلبة بل جاءهم وهم في حال فشل وجبن وتنازع في الأمر .
الثالث : لقد بينت الآية قبل السابقة قانوناً وهو إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، أما هذه الآية فذكرت زيارة الغم إلى قلوب المؤمنين وبصيغة الإنابة مما يدل على التباين في الجزاء بين المؤمنين والذين كفروا ، وأن الغم ليس عقوبة , بل هو رحمة ومادة للتخفيف عن المؤمنين .
الرابع : لقد إبتدأت معركة أحد بنصر المؤمنين نصراً مبيناً وسريعاً , وهو معجزة مستقلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحينما تعددت معجزاته يومئذ , يجب تدوين معجزة قائمة بذاتها وهي نصر المسلمين في بداية معركة أحد بآية من عند عز وجل ، فان قلت قد إنقطعت أيام النبوة فهل إنقطعت معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا ، من جهات :
الأولى : ترشح معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن آيات القرآن .
الثانية : إستقراء معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من سنته القولية والفعلية .
الثالثة : تجدد الوقائع والأحداث التي تتضمن معنى المعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : إقتداء المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته وسيرته .
الخامسة : إستنباط مسائل الإعجاز ، ودلائل النبوة من مضامين آيات القرآن بما يفيد التسليم بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قسمنا السنة النبوية إلى أقسام كما ورد في المقدمة وهي :
الأول : السنة القولية .
الثاني : السنة الفعلية .
الثالث : السنة التقريرية .
الرابع : السنة التدوينية .
الخامس : السنة الدفاعية .
السادس : السنة العبادية .
السابع : السنة في المعاملات .
وهذا التقسيم إستقرائي مستحدث ، وهو عون على إستنتاج الدروس والمواعظ من السنة النبوية , وتجلي ضروب الإعجاز ومصاديق النبوة فيها .
والإعجاز في آية السياق من وجوه :
الأول : وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثاني : صدق وعد الله عز وجل .
الثالث : حس وقتل المؤمنين للذين كفروا مع بدايات معركة أحد .
الرابع : تجلي صدق الوعد في حال البأساء والضراء , وتعانق الأسنة على نحو قهري ، وفيه بيان لقانون وهو لا يستطيع النصرة والمدد والوفاء بالوعد في الشدة والعسر إلا الله عز وجل .
وقد ورد في ثناء الله على نفسه [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] ( ).
وتأتي آية السياق لتبين حقيقة إنفراد الله بمقاليد الأمور ، وأنه ليس كمثل مدده ونصره وإنجازه وعده شيء ، وليكون صدق الوعد منه تعالى يوم أحد من مصاديق قوله تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ) .
وتحتمل النسبة بين الوعد الإلهي وتنجزه وتحقق مصداقه وجوهاً:
الأول : نسبة التساوي وأن صدق الوعد بنفس ومرتبة ومضمون ذات الوعد .
الثاني : الوعد أعم وأكبر من مصداقه الحاضر بلحاظ تعدد وكثرة أفراده .
الثالث : مصداق الوعد أكبر من ذات الوعد بلحاظ مجئ النافلة والفضل مع المصداق .
الرابع : التفصيل فمرة يكون الوعد هو الأكبر ، وأخرى المصداق المنجز هو الأكبر بحسب الموضوع والحكم .
والمختار هو الثالث ، وأن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم ، ولا ينحصر مصداق الوعد بالمنفرد والمتحد منه , فتأتي مصاديق متعددة للوعد المتحد ، وفي كل مرة يظن الفرد والجماعة أن هذا المصداق مساو لذات الوعد .
وهل يختص الوعد الإلهي بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ]الجواب لا ، وهو يشمل مضامين آية البحث فمع أن صعود وإنسحاب أكثر المسلمين يوم أحد خلاف وفشل وجبن إلا أنه ختم بفضل من عند الله , ولولا وعده سبحانه لكان الصعود مناسبة لمطاردة الذين كفروا للمؤمنين ، وقتل فريق منهم عند إنسحابهم ، وصحيح أن المسلمين قُتل منهم سبعون ولكن عدد القتلى يتضاعف لو لحقهم الذين كفروا وكانت حال الإسلام لا تطيق كثرة القتلى وقد يسبب الجزع عند أهل المدينة .
ويتردد في الزمان إصطلاح أن المدينة الفلانية عاصمة هذه الدولة أو تلك ، أما في السنين الأولى للإسلام فلم تكن من مدينة للمسلمين إلا المدينة المنورة فهي العاصمة والمصر والدولة , وموضع ومصدر القرار فكان دفاع المسلمين في معركة بدر وأحد عن بيضة الإسلام ، وعن دولته التي لم يفصل الكفار عنها سوى بضع كيلومترات ، وليس بينهم وبين إستباحتها إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسبعمائة مؤمن يقاتلون تحت لوائه .
فتفضل الله عز وجل وأنزل الملائكة لنصرتهم بقيد إظهار الصبر والتحلي بتقوى الله بقوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
ويتجلى الصبر بلحاظ موضوع الآية أعلاه بثبات الصحابة في مواضع القتال التي بيّنها وعينها لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )إقامة الحجة على الصحابة الذين فروا من القتال ويكون من وجوه تفسير الآية السابقة وجوه :
الأول : بيان أن تعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في مواضعهم نوع عهد ووثيقة سماوية , وهو من مصاديق السنة القولية والفعلية والدفاعية .
الثاني : وجوب تقييد الصحابة بتحديد النبي لمواضعهم من القتال .
الثالث : من مصاديق قوله تعالى [تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) لزوم تعاهد الصحابة لها ، وعدم مغادرتها ، فان قلت قد يؤدي هذا التعاهد وعدم المغادرة إلى قتلهم أو أسرهم ، فإختاروا الفرار والصعود إلى الجبل .
والجواب تدل الآيات ووقائع معركة أحد والثابت تأريخياً منها على أن ثبات الصحابة عامة والرماة خاصة في مواضعهم لن يجلب للمسلمين إلا النصر المبين بدليل إبتداء معركة أحد بغلبة جيش المسلمين كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( )ثم نسبة الآية الضرر والخسارة التي لحقت بالمسلمين إلى أنفسهم وعلى نحو الخطأ والتقصير المتعدد من جهات مبينة في ذات الآية السابقة , وهي :
الأول : [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] والفشل الجبن والخور .
الثاني : [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] بالخلاف بين الرماة بالبقاء في مواضعهم التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو ترك تلك المواضع .
الثالث : [وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] لبيان أن المعصية مترشحة عن التنازع في الأمر , وأن كلاً من الفشل والتنازع وإجتماعهما ليس علة تامة لوقوع الخسارة ، ولكن ترتب المعصية على التنازع وإنسحاب أكثر الرماة من مواضعهم ونزولهم للميدان طلباً للغنائم التي أشار إليها قوله تعالى [ْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] وهو شامل لوجوه :
أولاً : إبتداء المعركة بقتل المؤمنين للذين كفروا ،والذي بدأ بخروج طلحة بن أبي طلحة حامل لواء المشركين بين الصفين ، واسم أبي طلحة هو عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، وكما ورد قوله تعالى [تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) فان المشركين وقفوا على الطرف الآخر وفي السبخة وتعبأوا للقتال ، وكان عددهم كثيراً إذ يبلغ ثلاثة آلاف رجل مما يسهل عليهم توزيع المواضع ، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها في الطريق إلى أحد ، فلم تركب ظهورها ، ولم توضع عليها الأحمال كي تدخل المعركة بنشاط تام ، وينتفع منها في المباغتة والإغارة والمبارزة ، ليكون من معاني أمر الله للمؤمنين [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ) مقابلة الذين كفروا بذات الأسباب والوسائل التي يحاربون بها الإسلام ، وليكون الرجحان للمسلمين ، وأعطوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة وجعلوا صفوان بن أمية على المشاة وعبد الله بن أبي ربيعة على الرماة ، وخالد بن الوليد على ميمنة الخيل ، وعكرمة بن أبي جهل على الميسرة .
ثم جاء رئيس الجيش أبو سفيان إلى حامل اللواء وهو طلحة بن أبي طلحة , فقال له ولأخوته بلحاظ أنهم حملة اللواء بقصد تحريضهم دفاعاً عن الأوثان والكفر : يا بني عبد الدار إنكم قد وليتم لواءنا ببدر فأصابنا ما قد رأيتم ، فإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا ، فاما أن تكفون لواءنا ، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه ، فهم بنو عبد الدار بأبي سفيان وتوعدوه ، مما يدل على أن رئيس جيش المشركين لا يسلم من تجاوزهم عليه ، أما جيش المسلمين فيتقيد بأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي يدل عليه مفهوم قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) .
وتقدير الآية : وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال فأظهروا الطاعة والإمتثال وبادروا إلى مواضعهم من غير تردد أو جدال فلم تقل طائفة منهم لم جعلتنا في المقعد الفلاني ، أو لماذا لم تقعدنا هناك ، وليس في واجهة العدو .
المسألة الثانية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : إذ تحسونهم بإذنه لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : لقد أكرم الله عز وجل المسلمين بالإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتترشح عنه مصاديق عديدة من الإكرام في حال السلم والحرب ، والرخاء والشدة فان قلت ما هي أفراد هذا الإكرام يوم معركة أحد ، والجواب من جهات :
الأولى : خروج المسلمين تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إعانة المسلمين لجعل قصد القربة إلى الله هو الغاية في القتال والدفاع عن الإسلام ، ومن أسباب هذا العون واللطف الإلهي ما ورد في الآية السابقة بقوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ]الذي يتضمن في دلالته بعث النفرة في نفوس المسلمين من صيرورة الدنيا هي الغاية في الجهاد ومطلقاً , بلحاظ أن جعل الغنائم وجمعها والاستيلاء الشخصي عليها هو المقصود فيكون باباً لجلب الأذى والضرر , وأيهما أكبر ضرراً في طلب الدنيا الأذى المترشح عنه في ميدان المعركة وساعة القتال ، أم ما بعد المعركة من النتائج والآثار والأضرار.
الجواب هو الثاني.
تقدير آية البحث (إذ تصعدون) على وجوه :
أولاً : إذ تصعدون فتعمل فيكم سيوف الذين كفروا لولا فضل الله .
ثانياً : إذ تصعدون فيطمع الذي في قلبه مرض .
ثالثاً : إذ تصعدون فيشمت المنافقون .
رابعاً : إذ تصعدون فيبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمفرده في الميدان .
خامساً : إذ تصعدون وقد أمركم الله ورسوله بالجهاد والصبر .
سادساً : إذ تصعدون بعد أن ترك الرماة مواضعهم خلافاً لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم تركها على أي حال .
سابعاً : إذ تصعدون فتحرمون من ثواب الإقدام والثبات في مواضع القتال.
الثالثة : ملاقاة المسلمين يوم أحد لجيش الكفار الذي يبلغ ثلاثة أضعاف عدد المسلمين ، وهو إكرام للمسلمين من وجوه :
أولاً : الشهادة التأريخية للمسلمين بصدق إيمانهم .
ثانياً : كان المسلمون أيام معركة أحد على أقسام :
الأول : المهاجرون الذين هربوا بدينهم من مكة ونحوها، ولجأوا إلى المدينة، وفي هجرة لوط ورد في التنزيل [إِنِّي مهاجر إِلَى رَبِّي] ( ) أي هجرة من غير قتال .
الثاني : القادمون إلى المدينة من القرى والأمصار ومن غير بطن مكة .
الثالث : الأنصار من الأوس والخزرج ، وهم على أقسام :
الأول : الذين حضروا بيعة العقبة الأولى، وكان عددهم إثنى عشر رجلاً وعن عبادة بن الصامت قال (كنت ممن حضر العقبة الاولى، وكنا أثنى عشر رجلا: فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف.
فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء عذبو إن شاء غفر) ( ).
الثاني : الذين حضروا ببعثة العقبة الثانية قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة، وعددهم إثنان وسبعون منهم إمرأتان , وجاء معهم إلى مكة مصعب بن عمير، والتقوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوسط أيام التشريق أي اليوم الثاني عشر من ذي الحجة .
الثالث : الأنصار من النساء والرجال الذين أسلموا بعد بيعة العقبة الثانية وقبل دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة مهاجراً .
لقد إختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم سفيراً له ومعلماً لأهل المدينة وهو مصعب بن عمير من بين أصحابه مع أنه شاب ليقوم بوظائف التبليغ أحسن قيام فأظهر التقوى والزهد والصبر وحسن الخلق وسعة الصدر والإخلاص في الدعوة إلى الله ورسوله.
فانجذب إلى الإسلام رؤساء الأوس والخزرج ، ونزل مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة ، وأخذا يغشيان مجالس ومنتديات الأنصار ، ومصعب يتلو آيات القرآن ويدعو إلى التوحيد .
ولقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الله عز وجل بنفسه ومعجزاته العقلية والحسية الجلية بين أهله من قريش ومع هذا لاقى أشد الأذى والجحود من كبرائهم، وقد يظن ومن باب الأولوية القطعية أن يلاقي مصعب الجحود والصدود في المدينة لأنه سفير ونائب خاصة وأن في المدينة أهل كتاب وهم اليهود منهم بنو قينقاع وكانوا يشتغلون في الصياغة والحدادة وهو حلفاء الخزرج ولهم سوق كبير في الحصن الخاص بهم ، وبنو النضير وزعيمهم حي بن أخطب الذي دخل مع بني قريظة في حصنهم بعد أن تعاهد مع الأحزاب من قريش وغطفان الذين إنسحبوا عن معركة الخندق ، وبنو قريظة هم حلفاء الأوس.
وحينما يدخل الأوس والخزرج الحرب , ويحصل بينهم القتال يشاركهم حلفائهم من اليهود كل مع الطرف الحليف ، قال تعالى[وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ]( )، ولم يرد كل من لفظ [أُسَارَى] و[تُفَادُوهُمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه.
وكان اليهود قد هاجروا إلى الحجاز عقب الحروب بينهم وبين الرومان وزاولوا الزراعة وفي القرن الخامس الهجري رحلوا إلى يثرب وزرعوا الحبوب والنخيل .
ثالثاً : مع أن جيش المشركين أضعاف جيش المسلمين فان المسلمين إنتصروا في بداية المعركة ، وهذا النصر بفضل ومدد من عند الله ، لذا قال سبحانه في الآية السابقة [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ].
رابعاً : سلامة المسلمين من الخوف والفزع الذي قد يترشح عن كثرة جيش الذين كفروا من قريش ومن والاهم ، ولم يأت الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدعو إلى الصلح والمهادنة وإجتناب القتال ، ويدل على عزمهم على القتال قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) .
لتدل الآية أعلاه على الإطلاق في حال تمني المسلمين هزيمة العدو والشهادة سواء كان جيش العدو كثيراً أو قليلاً ، وليكون من منافع هذا التمني الذي تذكره الآية أعلاه عدم جعل المسلمين موضوعية للتباين في العدد.
الوجه الثاني : من أشد الأهوال على الفرد والجماعة والطائفة أن يدخلوا معركة ويخوضوا غمار حرب ، ولكن مع التباين بلحاظ أمور منها العدة والعدد والغاية والمقصود لذا فمن الإعجاز في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ) هو التخفيف عن المؤمنين في أهوال وشدة القتال وآثاره ونتائجه ، وإنتفاء الندم والحزن بسبب القصور والتقصير في هذا الباب .
وتتضمن الآية أعلاه حث المسلمين على التوكل على الله وهو أمضى وأقوى سلاح في الإعداد لقتال العدو إبتداء وإستدامة وذكرت آية البحث خصوص حس المؤمنين للذين كفروا وهو من مصاديق ورشحات توكل المسلمين على الله , والذي يدل في مفهومه على قهر وخزي الذين كفروا وعجزهم عن الثبات في مواضعهم أو الرد على المؤمنين .
ومن معاني الآية أعلاه لزوم الصبر والثبات في مواضع القتال فلذا تفضل الله بذكر فشلهم وجبنهم لأنه يتعارض مع منطوق الآية أعلاه.
الوجه الثالث : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار، ومن وجوه الإبتلاء فيها إحتمال فوات أمور ومكاسب وفرص على الإنسان ، ويقطع فواتها ويحول دونه الدعاء ، ويكون تقدير قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )على وجوه :
أولاً : أدعوني لعدم فوات المنافع عليكم أستجب لكم .
ثانياً : أدعوني لكيلا تحزنوا على ما فاتكم أستجب لكم .
ثالثاً : أدعوني كيلا تفوتكم أسباب النصر والغنائم أستجب لكم .
رابعاً : أدعوني لعدم الوقوع في الأسر أستجب لكم .
خامساً : أدعوني لإستدامة حسكم ومطاردتكم للذين كفروا أستجب لكم.
سادساً : أدعوني لسماعكم وإستجابتكم للرسول وهو يدعوكم في أخراكم أستجب لكم .
الوجه الرابع : كما كان الإذن الإلهي هو السبب والعلة في حس وقتل المسلمين للذين كفروا في معركة أحد ، فان الله تعالى أذن ألا يحزن المسلمون على ما فاتهم من الغنائم , وتغشاهم بأسباب العفو يوم أحد.
وتقدير آية البحث لكيلا تحزنوا بإذنه.
ويحتمل الإذن الإلهي في المقام وجوهاً :
أولاً : الإذن الإلهي بعدم الحزن على فوات أسباب وعلة المكاسب والغنائم بلحاظ قاعدة إنتفاء المعلول لعدم تحقق علته .
ثانياً : الإذن الإلهي بعدم الحزن على التقصير والتسويف في تحقيق الغايات والآمال.
ثالثاً : السلامة من الأسى الذي يأتي بسبب عدم إختيار البلغة والواسطة المناسبة لتحقيق الغاية وجلب المنافع ودفع المفاسد .
والحزن كيفية نفسانية تأتي للإنسان على نحو عرضي ، وكما يقذف الله الرعب في قلوب الذين كفروا ، فانه تعالى يجعل قلوب المؤمنين في مأمن من الحزن , وهو من إطلاقات قوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
وتحتمل سلامة المسلمين من الحزن بسبب حسهم وقتلهم للذين كفروا وجوهاً :
الأول : إرادة الحزن على ما فات المسلمين يوم معركة بدر من ترك بقية الذين كفروا يفرون راجعين إلى مكة .
الثاني : الحزن على ما فات المسلمين قبل يوم بدر .
الثالث : المقصود فوات قافلة أبي سفيان التي كانت تتألف من ألف بعير محملة بالبضائع.
الرابع : نجاة المسلمين من الحزن على ما فات من المكاسب ، وورد في التنزيل في قصة يوسف وأخوته حينما فقد صواع الملك [وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ] ( ).
لتتوالى أحمال الإبل غنائم على المسلمين في معركة بدر وما بعدها لكيلا يصيبهم الحزن بسبب ما حرموا منه بدخولهم الإسلام ، إذ أن شطراً من المهاجرين تركوا دورهم وأموالهم في مكة ، كما تعطلت الزراعات والمكاسب بالنسبة للأنصار لإنشغالهم بالجهاد في سبيل الله .
فجاء نصر المسلمين في بداية المعركة ليدفع عنهم الحزن بسبب فوات المكاسب ، وللإخبار بأن هذا النصر في بداية المعركة رزق عظيم في أفراده ورشحاته ومنها السلامة من الحزن على تعطيل الأعمال.
وفي الآية بشارة من فوات النعم وضياع المكاسب لأن الحرب بين المسلمين والذين كفروا صارت تتقوم بنصر المسلمين وغلبتهم وحسهم للذين كفروا ، وفيه شاهد على مجئ الرزق والنعم للمسلمين من وجوه :
الأول : عجز الذين كفروا عن مواصلة القتال والهجوم .
الثاني : توجه المسلمين لأداء الفرائض والعبادات بمنأى عن تهديد وغزو الذين كفروا ، وهذا الأداء رزق عظيم في النشأتين ، وهل هو سبب لدفع الذين كفروا وزجرهم عن الهجوم على المسلمين.
الجواب نعم ، وهو من مصاديق الآية قبل السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
الثالث : عمارة المسلمين للأرض , وقيامهم بالتجارة والمكاسب وصيرورة هذه الأعمال على جهات :
الأولى : بيان أن الإسلام دين العز والكرامة ، وأن هجوم وظلم الذين كفروا لم يمنع المسلمين من الكسب والسعي ، وفي التنزيل [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ] ( )ليكون من معاني الآية أعلاه بيان فضل الله في السعة والمندوحة للمسلمين للسعي في الأرض والإنتشار والسفر طلباً للرزق والمكاسب من غير أن يخافوا الأذى والضرر ، كما في قوله تعالى [فَانتَشِرُوا] الذي يتضمن الوعد من عند الله بالسلامة والأمن ، وهل هو من مصاديق الآية السابقة[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ) .
الجواب نعم ليكون من معاني وأفراد صدق وتنجز الوعد ما يأتي لاحقاً , ويتجلى في حياة كل مسلم وإلى يوم القيامة .
المسألة الثالثة عشرة :تقدير الجمع بين الآيتين: إذ تحسونهم باذنه لكيلا تحزنوا على ما أصابكم) وفيه وجوه :
الوجه الأول :بيان القرآن لحقيقة تأريخية وهي أن سقوط سبعين شهيداً من المسلمين لم يقع إلا بعد جولة ونصر , ومكاسب عظيمة للمسلمين منها :
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق هجرته إلى المدينة مع أن الذين كفروا أرادوا قتله غيلة على فراشه ليلة الهجرة ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ] ( ).
الثاني : قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة على أنصار وأعوان له ليكون بعد دخوله المدينة إماماً وحاكماً إلى جانب النبوة ، وهل من إمامة أفضل من إمامته صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب لا ، بلحاظ أنه يحكم بالتنزيل وينطق بالوحي لتكون النعمة التي رزقها الله عز وجل لأهل المدينة مسلمين وأهل كتاب وغيرهم جلية وعامة، وهو من مصاديق الإطلاق في الرحمة بقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : إستعداد الصحابة للقتال والدفاع في معركة بدر وما بعدها .
الرابع : تحقق النصر المبين للمسلمين في معركة بدر ، وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتكامل في هذا النصر من جهات :
الأولى : نصر المسلمين في بداية وأثناء ونهاية المعركة .
الثانية : كثرة قتلى المشركين على نحو مفاجئ لهم وللناس جميعاً ، وهذه الكثرة والمفاجئة من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
الثالثة : مجئ الغنائم ودخولها والأسرى المدينة كشاهد وعنوان على النصر وفيها إثارة للهمم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا] ( ).
الرابعة : صيرورة الإسلام بعد معركة بدر دولة وأمة ذات سلطان وشأن عند المليين وبين الدول ، فبعد أن كانت الجزيرة وأطرافها متذبذبة في تبعيتها بين:
الأول : الدولة الفارسية .
الثاني :الدولة الرومانية .
الثالث : إمارة اليمن .
الرابع : ملك الإسكندرية المقوقس .
الخامس :عامل البحرين والإحساء المنذر بن ساوس .
السادس :ملكا عمان وهما جيفر وعبد إبنا الجلندي .
السابع : صاحب اليمامة هوذة بن علي .
الثامن : ملك دمشق وغوطتها الحارث بن أبي شمر الغساني الذي بعث له النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً عند عودته من الحديبية وفيه :
سلام على من اتبع الهدى وآمن به، وأدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك( ).
ومن الأسرار في بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبه للملوك بعد صلح الحديبية وجوه :
الأول : تجلي قوة ومنعة دولة الإسلام .
الثاني : صيرورة الإسلام دولة تعقد المواثيق والعهود .
الثالث : دلالة صلح الحديبية على ثقة قريش بالعهود التي يقطعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) بلحاظ أن ملك الروم وملك فارس واليمن يعرفون قريشاً وقوتها وما يتصف به رجالاتها من الفطنة والشأن وسعة المعاملة والمكاسب.
فادركت الدول أن إبرام قريش شيوخ البطحاء الصلح مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بداية نشوء ومنعة دولة النبوة الخاتمة، وهو من أسرار تسمية صلح الحديبية بالفتح، و(عن جابر قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية( ).
الرابع :عدم خشية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من أمور.
أولاً : تحريض الدول قريشاً على النبوة والإسلام .
ثانياً : السعي المتعدد والمتكرر لإغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ثالثاً : ذهاب رجالات قريش إلى ملوك الروم وفارس طلباً للمدد والمعونة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : بيان مرحلة وحال جديدة للإسلام بدعوة الملوك والدول إلى الإسلام .
السادس : التوثيق التأريخي لحقيقة العالمية في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهذه الرسائل والكتب من مصاديق لغة العموم في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ).
السابع : منع الإختلاف بين المسلمين بعد أن ينتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى بخصوص سعة الدعوة الإسلامية، فلا يقول بعضهم بالإنكفاء والإكتفاء بالجزيرة العربية .
الثامن : كانت رسائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملوك والرؤساء دعوة خالصة إلى التوحيد .
التاسع : إبلاغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقانون تجلى بعد بعثته وهو: الملازمة بين إيمانهم والبقاء في عروشهم وسلطان ملكهم، وفي خطاب موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ]( ).
العاشر : إخبار المسلمين بإتصال وإستدامة الجهاد بعد صلح الحديبية وإتساع رقعته ، فلا غرابة أن يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة إلى تبوك ، وفيه إنذار للملوك ورؤساء القبائل بأن يتدبروا في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم هدايتهم ودخولهم الإسلام.
ولتتجلى حقيقة رسالية وهي أن الكتب التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للملوك كانت مقدمة وإنذاراً سبيلاً للهداية .
الرابع : إستقلال القبائل والمدن في الجزيرة بسلطانها مثل هجر، وقريش في مكة.
وتحكي رسائل النبي محمد صلى اله عليه وآله وسلم إلى حكام زمانه خريطة وسلطان تلك الدولة ، كما تبين نشوء وقيام دولة الإسلام ، فحتى لو لم يستجيبوا لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام فان الملوك والأمراء علموا بصيرورة الإسلام دولة قائمة في الجزيرة فلا غرابة أن يقدم كسرى بجهالة على تمزيق كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولو أنه أسلم لظل في ملكه ليبقى كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرى وثيقة تدل على صدق نبوته وأنه يكتب بالوحي ومن الوحي , وفيه حجة وشاهد بأن الذي يتخلف عن التصديق برسالته يبوء بالإثم ويخسر الدنيا والآخرة , وإن كان صاحب شأن وسلطان عظيم.
وكان كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرى (بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى وَآمَنَ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ وَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللّهِ.
فَإِنّي أَنَا رَسُولُ اللّهِ إلَى النّاسِ كَافّةً لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ أَسْلِمْ تَسْلَمْ فَإِنْ أَبَيْت فَعَلَيْكَ إثْمُ الْمَجُوسِ
فَلَمّا قُرِئَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مَزّقَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ ” مَزّقَ اللّهُ مُلْكَهُ) ( ).
ولم تنقطع المعارك مع الذين كفروا بمعركة أحد ، ولم يغادر رؤساء الكفر آنذاك إلا متوعدين منذرين بالعودة إلى القتال , وصعد أبو سفيان الجبل وصرخ بأعلى صوته بالعزم على العودة إلى القتال ، قال ابن إسحاق (ثُمّ نَادَى أَبُو سُفْيَانَ إنّهُ قَدْ كَانَ فِي قَتْلَاكُمْ مُثُلٌ وَاَللّهِ مَا رَضِيت ، وَمَا سَخِطْت ، وَمَا نَهَيْت ، وَمَا أَمَرْت .
وَلَمّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ نَادَى : إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ) ( ).
وتفاخرت نساء المشركين ساعة معركة أحد كذباً ووهماً وإيهاماً إذ لم يحصل لهم نصر يومئذ , فعلت هند بنت عتبة (صَخْرَةٍ مُشْرِفَةٍ فَصَرَخَتْ بِأَعْلَى صَوْتهَا محاباة لزوجها كرئيس لجيش المشركين وبغية الثأر لإبيها عتبة بن ربيعة وأخيها الوليد وعمها شيبة إذ قتلوا يوم بدر فَقَالَتْ:
نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرٍ … وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتُ سُعْرِ
مَا كَانَ عَنْ عُتْبَةَ لِي مِنْ صَبْرِ … وَلَا أَخِي وَعَمّهِ وَبَكْرِي
شَفَيْت نَفْسِي وَقَضَيْت نَذْرِي … شَفَيْت وَحْشِيّ غَلِيلَ صَدْرِي
فَشُكْرُ وَحْشِيّ عَلَيّ عُمْرِي … حَتّى تُرَمّ أَعْظُمِي فِي قَبْرِي
فَأَجَابَتْهَا هِنْدُ بِنْتُ أُثَاثَةَ بْنِ عُبّادِ بْنِ الْمُطَلّبِ فَقَالَتْ
خَزِيت فِي بَدْرٍ وَبَعْدَ بَدْرٍ … يَا بِنْت وَقّاعٍ عَظِيمِ الْكُفْرِ
صَبّحَك اللّهُ غَدَاةَ الْفَجْرِ … مِلْهاشِمِيّينِ الطّوّالِ الزّهْرِ
بِكُلّ قُطّاعٍ حُسَامٍ يَفْرِي … حَمْزَةُ لَيْثِيٌ وَعَلِيّ صَقْرِيّ
إذَا رَامَ شَيْبٌ وَأَبُوك غَدْرِي … فَخَضْبًا مِنْهُ ضَوَاحِي النّحْرِ
وَنَذْرُك السّوءُ فَشَرّ نَذْرٍ ) ( ).
الوجه الثاني : دعوة الصحابة والتابعين وعلماء التفسير والتحقيق لمعرفة ما أصاب المسلمين من الأذى والضرر من وجوه :
الأول : ما قبل معركة أحد .
الثاني : أثناء معركة أحد ، وهو على شعب :
الأولى : ما أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجراحات .
الثانية : كثرة القتلى بين المؤمنين .
الثالثة : ترك الرماة مواضعهم على الجبل مع أن خيالة المشركين خلفهم يتربصون بهم .
ترى ماذا يحصل لهؤلاء الخيالة لو بقي الرماة في مواضعهم إلى نهاية المعركة، الجواب من وجوه :
الأول : يهجم الخيالة على الرماة بكل الأحوال , وإن أعطوا الخسائر في الأرواح.
الثاني : يبقى الخيالة في مواضعهم في سفح الجبل إلى حين إنتهاء المعركة مكراً وطلباً لفرصة مواتية.
الثالث : وقوع الخيالة أسرى بيد المؤمنين ، كما جرى في معركة بدر .
الرابع : إنسحاب الخيالة إلى وسط المعركة لنصرة أصحابهم الذين كفروا بعد اليأس من المجئ إلى جيش المسلمين من الخلف .
الخامس : عندما يعلم الخيالة بأن قريشاً إنكسرت وإنهزم الذين كفروا يفرون منهزمين إلى مكة .
والمختار هو الأخير ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )وليس عند الذين كفروا قوة شكيمة وعزيمة , لإطلاقات قوله تعالى قبل آيتين [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
الرابعة :من بركات وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المؤمنين سلامتهم من الهزيمة ، وهو من أسرار خروجه بنفسه إلى المعركة ، ثم أن ثباته وسط الميدان شاهد عملي ملموس على نجاة المسلمين من الهزيمة لتكون معجزة حسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : عصمة الجيش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الهزيمة والإنكسار.
الثاني : تسليم المسلمين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم برزخ دون هزيمتهم .
الثالث : شكر الله عز وجل للمسلمين على إيمانهم بأن أنجاهم من الهزيمة .
الرابع : فضل الله عز وجل في سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل أو الموت إلى حين إكمال رسالته وتمام نزول آيات القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( )ليكون من معاني الآية أعلاه بلحاظ واقعة أحد أمور:
الأول : سلامة شخص النبي من القتل، وتتجلى المعجزة الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام بصيرورة المشركين على بعد خطوات معدودة منه وسط الميدان , يرمونه بالنبل والحجارة .
الثاني : حضور الملائكة مدداً ومقاتلين دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ، ومنهم من يتصور بهيئة بعض أصحابه .
وكان اللواء بيد الإمام علي عليه السلام، ولواء الخزرج بيد الحباب بن المنذر ولواء الأوس بيد أسيد بن خضير .
(وقال ابن سعد قتل مصعب بن عمير فأخذ اللواء ملك في صورة مصعب وحضرت الملائكة يومئذ ولم تقاتل وحكى دنو القوم بعضهم من بعض والرماة يرشقون خيل المشركين فتولى هوارب فصاح طلحة بن أبى طلحة صاحب اللواء( ) من يبارز فبرز له علي فقتله) ( ).
الثالث : نزول قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) لبيان سلاح للرمي الدقيق بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتصف بالحسم في المعركة لا يقدر على إستعماله إلا هو, ليكون من الإعجاز المتقدم في الرمي الليزيري في الحروب الذي تولد عن العلم والمهارة والتحصيل .
وقد رزق الله عز وجل موسى عليه السلام العصا معجزة حسية وحجة على فرعون ووسيلة لنجاة بني إسرائيل من الهلاك في البيداء والتيه ، قال تعالى [فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ]( ).
وتفضل الله عز وجل وجعل رمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحصى وسيلة لهزيمة المشركين ومن غير قتل تام وإبادة لهم ، وهو من الإعجاز في مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ودعوة للمسلمين للصبر على الذين كفروا في توبتهم وهدايتهم للإسلام لذا قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الرابع : تنزيه المؤمنين من جدال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل وأثناء معركة أحد , فالمعروف أن أخلاق الجنود في المعركة تختلف عن حال السلم والتدريب وعند مقدمات القتال، إذ تزول في المعركة الفوارق وسلطان المراتب والدرجات.
ويكون الملاك على بذل الدم والتضحية والفداء ، ولكن المسلمين يتلقون ما يأمر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط المعركة بالقبول والإمتثال المقرون بالغبطة والسعادة ، مع شراء الشهادة بين يديه في صفحة مشرقة من صفحات النبوة والإيمان .
الخامس : إمتناع المنافقين من التعريض بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند رجوعهم وسط الطريق من المعركة وحال حدوث إنكسار المسلمين في معركة أحد ، ووقوع عُشر جيش المسلمين شهداء مضرجين بدمائهم في سبيل الله عز وجل .
وعن ابن شهاب قال : (حدثني عبد الله بن ثعلبة بن صعير ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « زملوهم بجراحهم ؛ فإنه ليس يكلم كلم في سبيل الله عز وجل إلا يأتي يوم القيامة لونه لون الدم وريحه ريح المسك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة ثم قام عليهم وأمر بدفنهم ، ولم يغسلهم ولم يصل عليهم كما يصلي على الأموات ، ولم يكفنهم في غير ثيابهم ، وكان يأمر بدفن الرجلين في حفرة واحدة ويقول : أي هؤلاء كان أكثر أخذا للقرآن ؟ فإذا أشاروا إلى الذي هو أكثر أخذا للقرآن قدمه في اللحد قبل صاحبه) ( ).
السادس : تكرار محاولات إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما يتجلى معه الإعجاز في نجاته صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن جابر بن عبد الله قال (لما غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني أنمار ، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه.
فقال غورث بن الحرث : لأقتلن محمداً.
فقال له أصحابه : كيف تقتله؟ قال : أقول له أعطيني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به.
فأتاه فقال : يا محمد ، اعطني سيفك أشمه ، فأعطاه إياه فرعدت يده .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حال الله بينك وبين ما تريد)( ).
السابع :كل من آية البحث والسياق معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصمة وسلامة في معركة أحد ، وهو من الشواهد على أن الآية القرآنية معجزة عقلية من جهات :
الأولى : تأكيد الآية القرآنية لعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : منع الآية القرآنية من تشويه وتحريف وقائع وأحداث معركة أحد , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
الثالثة : ذكر هذه الآيات لوقائع معركة أحد باعث للفزع والخوف في قلوب الذين كفروا في كل جيل من أجيال الناس المتعاقبة .
الرابعة :إستنباط المسائل وإقتباس الدروس من آية البحث والسياق إلى يوم القيامة .
ويكون هذا الإقتباس على وجوه:
الأول : الأخذ والنهل من كل آية على نحو مستقل.
الثاني : إستقراء المسائل من كل آيتين مجتمعتين.
الثالث : النهل من كل شطر وجملة سواء من آية البحث أو السياق.
الرابع : الإقتباس بلحاظ الجمع بين كلمتين من آية البحث والسياق.
الخامس : إستنباط المسائل من الجمع بين شطر من آية البحث وشطر من آية السياق.
السادس : إستقراء المواعظ والحكم من صلة الجوار بين آية البحث والسياق.
الخامسة : وقائع معركة أحد برزخ دون طرو التحريف والزيادة أو النقيصة على كتاب الله .
الوجه الثالث : لقد جعل الله عز وجل الأمور تجري بأسبابها وفق قاعدة العلة والمعلول ، وعدم تخلف المعلول عن علته ، أما بالنسبة للنبوة فتتجلى آيات إعجازية متتالية تكون براهين ودلالات تدعو الناس للإيمان ، وهو من مصاديق رحمة الله بالناس عموماً في الدنيا وإقامة الحجة ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
وتكون هذه الآيات في الجملة أسباباً وعللاً لوقائع وأحداث ومنها حس وقتل وتشريد المسلمين للذين كفروا في معركة أحد ، وتقدير آية السياق: إذ تحسونهم بإذنه مع كثرتهم وشدة شوكتهم) إذ جاءت قريش لمعركة أحد كزبر الحديد يطلبون الثأر والجاه المهدد بالسلب ، والشأن والسمعة التي علقت وفقدت أغلب أفرادها في معركة بدر ، فما كان لقريش من شأن عند القبائل والدول صار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وهو من أسرار بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أوسط قريش لينتزع منهم ما نالوه بالنسب ، ويضاف له ما يأتي بواسطة النبوة والرسالة والتنزيل وهو أعم وأعظم.
وسأل قيصر أبا سفيان عن نسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أخبرني عن موضعه فيكم . قال : هو أوسطنا . قال : كذلك بعث الله كل نبي من أوسط قومه( ).
ولو صار تعارض بين الأسباب المادية وبين الآيات والبراهين من عند الله فتكون الغلبة والسلطان للآيات والبراهين ، لذا ذم الله عز وجل الذين كفروا في الآية قبل السابقة التي بينت علة قذف الرعب في قلوبهم بقوله تعالى [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]وصيرورة الشرك علة لإمتلاء قلوبهم بالرعب ، ولبيان قانون وهو عدم إنحصار سلطان الآيات الإلهية بالغلبة والرجحان على الأسباب المادية والحسية ، بل تأتي على الذين ينكرونها بالرعب والفزع ، وتجعلهم أذلة في النشأتين ، ولا يعني هذا ترك المؤمنين للأسباب والوسائل العملية ، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ) لتكون رهبة الذين كفروا متعددة من وجوه :
الأول : الآيات السماوية والكونية .
الثاني : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم العقلية .
الثالث : إيمان المسلمين بما يدل على الإعجاز في نبوته لأن جذب الأتباع الكثيرين، وتفانيهم في طاعة الله من الشواهد على صدق النبوة.
الرابع : أسباب قهر وفزع الذين كفروا في القتال .
الخامس : ما أعده المسلمون من السلاح والعدة للقتال .
السادس : التفاني والإخلاص الذي عليه الذين آمنوا في ساحة المعركة .
السابع : إخلاص المسلمين في أداء الفرائض والعبادات ، وهو من مصاديق وأسرار جعل الصلاة واجباً عينياً خمس مرات في اليوم على كل مسلم ومسلمة لما فيه من بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
وتقدير الآية قبل السابقة : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب كل يوم بأدائكم الصلاة ).
وتحتمل مراتب الفزع في المقام وجوهاً :
الأول : يفزع الذين كفروا من أداء المسلمين الصلاة فرادى أكثر منه جماعة .
الثاني : صلاة المسلمين جماعة سبب لشدة فزع الذين كفروا، قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( )، ومن الإعجاز في الآية أعلاه ذكر إقامة الصلاة وبيان وجوبها، ثم ذكرت الآية وجوب الزكاة و بينت سنخية وموضوعية صلاة الجماعة للتفكيك بين وجوب الصلاة وجوباً عينياً على كل مكلف، والندب والإستحباب المؤكد في صلاة الجماعة وعن أبي سعيد (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة( ).
الثالث : صلاة المسلمين في أوقاتها سبب لإصابة الذين كفروا بالفزع أكثر منه في الصلاة عند أول الوقت ووقت الفضيلة .
الرابع : تؤدي الصلاة الجهرية وهي الصبح والمغرب والعشاء إلى إصابة الذين كفروا برعب أشد منه في الصلاة الإخفاتية .
الخامس : تخفيف المسلمين في صلاة الخوف , وأخذهم الحيطة حتى بالعبادات سبب لبعث الفزع في قلوب الذين كفروا ، وعن خالد بن الوليد قال (فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية خرجت في خيل من المشركين فلقيت رسول الله صلى الله عليه وآله في أصحابه بعسفان، فقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليهم ثم لم يعزم لنا – وكانت فيه خيرة – فأطلع على ما في أنفسنا من الهم به فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعا وقلت: الرجل ممنوع، فاعتزلنا، وعدل عن سنن خيلنا وأخذ ذات اليمين.
فلما صالح قريشا بالحديبية ودافعته قريش بالرواح قلت في نفسي: أي شئ بقى ؟ أين أذهب ؟ إلى النجاشي ؟ فقد اتبع محمدا وأصحابه عنده آمنون، فأخرج إلى هرقل فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية ؟ فأقيم في عجم ، فأقيم في داري بمن بقى ؟ فأنا في ذلك، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة في عمرة القضية [ فتغيبت ولم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة القضية ] فطلبني فلم يجدني .
فكتب إلي كتاباً فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الاسلام وعقلك عقلك ! ومثل الاسلام جهله أحد ؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك.
وقال: أين خالد ؟ فقلت: يأتي الله به، فقال: ” مثله جهل الاسلام ؟ ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين كان خيرا له، ولقد مناه على غيره ” فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة( ).
المسألة الرابعة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : إذ تحسونهم بإذنه لكيلا تحزنوا على ما أصابكم ) .
ويمكن تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : إذ تحسونهم بإذنه لكيلا تحزنوا على ما سيفوتكم ) .
الثاني : إذ تحسونهم بإذنه لكيلا تحزنوا على ما سوف يفوتكم ) بلحاظ التباين الرتبي في أفراد الزمان الطولية في المستقبل القريب في السين , والبعيد في سوف .
الثالث : ستحسونهم بإذنه لكيلا تحزنوا على ما فاتكم )
وتوجهت لغة الخطاب في الآيتين إلى المؤمنين ، والتقدير : يا أيها الذين آمنوا إذ تحسون الذين كفروا بإذن الله فلن تحزنوا بإذن الله على ما أصابكم بإذن الله .
وفيه بيان رحمة الله على المسلمين بمصاحبة فضله تعالى لهم في حال السراء والضراء والنصر والخسارة ، وهل النسبة بين النصر والهزيمة بلحاظ التضاد بينهما وحده ، الجواب لا ، من جهات :
الأولى : لا يكون المدار والملاك على التضاد .
الثانية : لم يلق المسلمون الهزيمة في معركة أحد ، وعلى فرض إرادة معنى المصيبة في قوله تعالى [لِمَا أَصَابَهُمْ] فبينهما وبين الهزيمة عموم وخصوص مطلق .
الثالثة : لقد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ومن فضله تعالى وقايتهم من الهزيمة .
المسألة الخامسة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : إذ تحسونهم بإذنه والله خبير بما تعملون ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : لقد جاءت آية السياق بقانون (الحس ) ويتقوم بأمور :
الأول : الغلبة للمؤمنين وهم الذين ينالون من الذين كفروا ويحسونهم .
الثاني : تلقي الذين كفروا الحس والقتل ، وصيرورتهم الطرف الأدنى والخاسر في القتال .
الثالث : تقييد رجحان كفة المسلمين بإذن الله ، فصحيح أن الآية ذكرت خصوص الحس كمتعلق للإذن إلا أنه أعم من جهات:
الأول : إذن الله عز وجل في خروج المسلمين إلى ميدان معركة أحد .
الثاني : إذن الله باستجابة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوتهم للقاء العدو الكافر .
الثالث : إذن الله عز وجل بدخول المسلمين الإسلام وصيرورتهم بعدد يكفي لملاقاة الذين كفروا في معارك بدر وأحد والخندق .
الرابعة : إذن الله بمجئ الذين كفروا لإقامة الحجة عليهم ، ونزول البلاء ولحوق الخزي بهم ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
وكان القرآن ينزل في مكة بالتخويف والوعيد للذين كفروا لعلهم يتوبون إلى الله أو لا أقل يكفون عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
الخامسة : تعلق الأذن الإلهي في آية السياق بمحذوف ، ويحتمل هذا التقدير وجوهاً :
الأول : إختصاص متعلق الأذى بالمحذوف وحده من غير أن يكون معه للحس نصيب .
الثاني : الجمع بين الحس والمحذوف .
الثالث :تعدد وكثرة المحذوف الذي يتعلق به الأذى ، والأصل هو أن متعلق الحكم الإذن بالحس .
وتقدير آية البحث : إنكم بإذن الله تحسونهم .
وتقدير الآية على فرض متعلق محذوف لإذن الله على وجوه:
الأول : إذ تحسونهم بإذنه لرسوله بالخروج إلى معركة أحد .
الثاني : إذ تحسونهم بإذنه بالقتال .
الثالث : إذ تحسونهم بإذنه لإقامة دولة الهدى والإيمان ، بلحاظ أن الذين كفروا يصدون عن سبيل الله , ويمنعون أنفسهم والناس عن مسالك الرشاد .
وهل أدرك الذين كفروا[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )، فأبوا إلا إقامتهم على قبيح الأفعال، الجواب نعم، وهو من الإعجاز الغيري للآية القرآنية بأن يدرك الذين كفروا مضامينها القدسية، لتبدأ نفس كل واحد منهم تنازعه بترك هذه القبائح والفواحش، وتحثه على التبصر وأداء الصلاة والإتعاظ ممن آمن وتقيد بأداء الصلاة والفرائض الأخرى.
الرابع : إذ تحسونهم بأذنه ليتوبوا إلى الله، وينطقوا بكلمة التوحيد، وعن أسامة قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية ، فصبحنا الحرقات من جهينة ، فأدركت رجلاً فقال : لا إله إلا الله فطعنته ، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال لا إله إلا الله وقتلته؟! قلت : يا رسول الله إنما قالها فرقاً من السلاح . قال : ألا شققت عن قلبه حتى تعلم قالها أم لا ..! فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يؤمئذ)( ).
الخامس : إذ تحسونهم بأذنه رحمة بكم ورجاء نجاتكم من كيدهم وسيوفهم لأن الذين كفروا جعلوا المسلمين بين أمرين إما قاتل أو مقتول، فتفضل الله بالمدد للمؤمنين[بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ]( ).
السادس : إذ تحسونهم بأذنه لأن حس وقتل الذين كفروا لا يتم إلى بإذن الله عز وجل من جهات:
الأولى : تغشي رحمة الله للناس جميعاً في الدنيا.
الثانية : لا يحل أجل إنسان إلا بإذن الله، قال تعالى[وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً]( ).
الثالثة : رجحان كفة الذين كفروا في المعركة من جهة العدد والسلاح والعدة والمؤن.
السابع : إذ تحسونهم بإذنه لموضوعية إذن الله عز وجل في الأمور كلها.
ولقد إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، أجابهم الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علمه تعالى تفضله بقانون أن الحس والقتل لا يكون إلا بإذنه سبحانه، وإن كان قتل مؤمن لكافر .
وحينما يفسد الكفار في الأرض ويهمون بسفك الدماء يأتي إذن الله للمؤمنين بقتلهم وإضعاف شوكتهم، ليكون من معاني لفظ (إذ تحسونهم) هو قتل طائفة منهم فتضعف شوكة الكفر والضلالة، وينحسر الفساد ، ويشع ضياء الإيمان على القلوب المنكسرة.
الثامن : إذ تحسونهم بإذنه ليقطع طرفاً من الذين كفروا) لبيان أن القتل لا يأتي على كل الذين كفروا ممن حضر الميدان، وهو من معاني لفظ الحس في الآية لبيان قتل طائفة منهم وجرح أخرى، وتشريد ودفع الباقين من جيشهم ليرجعوا إلى مكة وما من أحد منهم إلا وقد أصابه الحس، وأدرك معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعجز الكفار عن قهر جيش الإسلام، وهو من مصاديق لغة العموم الإستغراقي في قوله تعالى(إذ تحسونهم) من طرف الفاعل الذي تدل عليه واو الجماعة، والمفعول به الضمير(هم).
التاسع : إذ تحسونهم بإذنه ليدخل الرعب في قلوبهم وقلوب الذين من خلفهم من الرجال والنساء والأعوان والعبيد , قال تعالى[فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ]( ).
المسألة السادسة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين ( حتى إذا فشلتم إذ تصعدون ) وفيه وجوه :
الأول : من إعجاز نظم الآيات التداخل بين مضامينها وكأنها آية واحدة إذ يتحد موضوع آية البحث والسياق ولغة الخطاب فيهما , وتقدير آية السياق : حتى إذا فشلتم أيها المؤمنون .
وتقدير آية البحث : إذ تصعدون أيها المؤمنون .
وقد يتبادر إلى الذهن تضمن كل من الآيتين التوبيخ للمسلمين على الفشل والجبن والفرار ، والجواب لا دليل على هذا المعنى والتبادر المحتمل والأصل سلامة المسلمين من التوبيخ في القرآن إلا أن يدل الدليل عليه بالنص أو بالحديث النبوي صحيح السند بلحاظ أن السنة بيان وتفسير للقرآن .
وقد جاءت آية السياق بما ينفي معنى التوبيخ عن المسلمين مع القصور والزلل في الفشل والتنازع ومعصية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : صيغة الخطاب في آية البحث بلغة الإيمان بالعطف على قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]فان قلت لا يعني الخطاب والنعت بالإيجاز العصمة من التوبيخ واللوم من عند الله على المعصية خاصة وأن الإسلام عقيدة وعمل ، وجاءت معركة بدر وأحد لتضيف لهما الجهاد ، وورد لفظ [جاهدوا] بصيغة الجملة الخبرية إحدى عشرة مرة ، وبصيغة الأمر أربع مرات ومنها قوله تعالى [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ] ( ).
الثانية : لم يأت الفشل أو الصعود والفرار إلا بسبب شدة المعركة وإصرار الذين كفروا وحصول الخطأ من الرماة .
الثالثة : يتعلق موضوع الآيتين بحال المؤمنين وهم في المعركة بمطاردة ومسايفة مع العدو الكافر .
الرابعة : من رأفة الله عز وجل إقالة عثرات المؤمنين وإصلاح حالهم ، فأنعم عليهم بأن جعل الرسول يدعوهم في أخراهم ، ويناديهم للرجوع إلى المعركة ، وكأنه يضمن لهم السلامة والأمن والنجاة .
الثاني : مع أن المختار إنتفاء التوبيخ للمسلمين في آية البحث والسياق فان آية البحث تتضمن وجوهاً :
أولاً : تنبيه المسلمين .
ثانياً : التحذير من تكرار الزلل الأخطاء التي أرتكبت في معركة أحد .
ثالثاً : التوثيق السماوي لواقعة أحد بما يمنع من التحريف للأحداث والوقائع ، وفيه إعجاز غيري للقرآن بأنه يعصم نفسه من التحريف ،ويمنع من تشويه الوقائع والأحداث ، ومن الزيادة والنقيصة فيها ، وهو من إكرام الله للمسلمين أي أنه تعالى يخبر عن فشل وتنازع وفرار فريق منهم مع دعوة الرسول لهم في أخراهم لمنع رميهم بالهزيمة والإنكسار .
السابعة عشرة : الصلة بين قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ][وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]وفيه وجوه :
الأول : من الإعجاز في نظم هذه الآيات ملائمة العطف للصلة بينها ، وكأن شطري الآيتين أعلاه موضوع متصل من آية واحدة ، خاصة وأن الجامع المشترك بينهما هو لغة الخطاب ، وتوجهه إلى المؤمنين في معركة أحد.
الثاني : تحتمل النسبة بين الفشل وعدم الإلتفات إلى أحد وجوهاً :
أولاً : نسبة التساوي بين الأمرين .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأول : الفشل أعم من عدم اللوى والإلتفات .
الثانية : عدم اللوى والإلتفات هو الأعم .
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وهناك مادة للإلتقاء ومادة للإفتراق بينهما .
رابعاً : النسبة بين الفشل وعدم الإلتفات هي نسبة الأصل والفرع وهو على شعبتين :
الأولى : الفشل هو الأصل .
الثانية : ترشح الفشل عن الفرار وعدم الإلتفات .
والمختار هو ثالثاً أعلاه لأن كلاً من الفشل وعدم الإلتفات زلل وقصور ، وجاءت الآيتان للبيان والتأديب والزجر عن تكرار ذات الفعل .
الثالث : قيل من المستعار (وحرب عقام : لا يلوى فيها أحد على أحد) ( ) ومضامين آية البحث حقيقة وليس مجازاً وإستعارة وإن كان موضوع الإستعارة أعلاه يتعلق بالحرب العقام ، كما يقال (الملك عقيم ).
وتحتمل القصص التي تروى وتقرأ في تراث الأمم والشعوب وجوهاً :
الأول : الصدق وتحقق وقائع القصة حقيقة .
الثاني : الخلط والجمع بين الحقيقة والإستعارة ، خيالاً أو وهماً أو مبالغة أو رياء وزلفة لأصحابها أحياء كانوا أو أمواتاً .
الثالث : الجعل والإبتداع للقصة الكاملة مما لا أصل له .
الرابع : التفخيم والتوسعة في ذات القصة مع مرور الزمان من قبل القصاصين ونحوهم مع تعدد السبب والغاية ، منها التقديس والتأليه أو العكس إرادة الذم والتبكيت , وتصل بعضها إلى الأساطير .
أما مدرسة القصة في القرآن فتتصف بأمور :
أولاً : إنها حق وحقيقة ، قال تعالى [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً] ( ).
ثانياً :سلامة قصص القرآن من التحريف أو التبديل أو التغيير بلحاظ صيغة القرآنية .
ثالثاً: إتصاف القصة القرآنية بالتحدي من جهات :
الأولى : نزول القصة القرآنية من عند الله .
الثانية : الإعجاز الذاتي في ألفاظ القصة القرآنية .
الثالثة : تفرع العلوم من القصة القرآنية .
رابعاً : في القصة القرآنية إعجاز ذاتي وغيري ،وليس من حصر لكل منهما ، فلا يختص الإعجاز الذاتي بمضامين الآية ، بل يشمل موضوع القصة وتوثيقها وضبطها في القرآن مع التباين الزماني من جهات :
الأولى : أوان وقوع القصة القرآنية .
الثانية : زمان نزول القرآن .
الثالثة : إستدامة أيام تلاوة المسلمين لآيات القصص القرآنية فتتعاقب أيام الحياة الدنيا وذات القصة القرآنية تطل عليهم كل يوم بلباس القرآنية الذي فضلها الله عز وجل به من بين قصص الأمم والملوك .
الثامنة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : حتى إذا فشلتم والرسول يدعوكم في أخراكم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : مع ما أصاب المؤمنين من الجبن والفشل فان الله يتفضل عليهم بأمور :
أولاً : مجئ الدعوة للمؤمنين للرجوع إلى ميدان المعركة ، وما فيه من الكشف عن حقيقة وهي أن فئة قليلة من المؤمنين وسط الميدان وأن جيشهم لم ينهزم .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن العدو لم يلاحق المنهزم من المؤمنين بسيوفه ورماحه ، وفيه تباين بين هزيمة كفار قريش في معركة بدر وكيف أن المسلمين يطاردونهم قتلاً وأسراً .
أما في معركة أحد فعندما صارت الجولة للذين كفروا وإنهزم المسلمون لم يقدر الذين كفروا على مطاردتهم وملاحقتهم لأن الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم في أخراهم لتكون دعوته برزخاً وفيصلاً بين الفريقين ، وهذه البرزخية من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية عندما يلتقي الجيشان ويتقابل الصفان ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]الجواب نعم , من جهات :
الأولى : بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان .
الثانية : عجز الكفار عن حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على التراجع .
الثالثة : وجود نفر من أهل البيت والصحابة حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : قتال النبي ومن حوله من المؤمنين .
الخامسة : إشتراك المؤمنات كأم عمارة وأسمها نسيبة بالقتال بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال بخصوص قتالها يوم أحد (مَا الْتَفَتّ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا إلّا وَأَنَا أَرَاهَا تقاتل دوني) ( ).
السادسة : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع .
السابعة : سماع الصحابة المنهزمين لدعوة الرسول لهم بالرجوع .
ثانياً : تذكير الله للمسلمين بفشلهم ، وما أصابهم من الجبن والخور نعمة عظمى من جهات :
الأولى : إصابة المسلمين بالفشل في سبيل الله لذا قال الله في آية البحث [فَأَثَابَكُمْ]من الثواب والجزاء الحسن موضوعاً وأثراً .
الثانية : صيرورة قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] مدرسة في القتال وتحدي الذين كفروا ، وبعث اليأس والرعب في نفوسهم ، ليكون من إعجاز آية السياق أن الله عز وجل يبين خطأ وقصور المسلمين في ميدان المعركة فيكون سبباً لبعث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا ، أما لو ذم الله عز وجل الناس الذين كفروا فلا يكون إلا خزياً لهم ، قال تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على أن ذم الذين كفروا بعث للوهن والضعف فيهم ، وإلقاء للرعب في قلوبهم .
الثالثة : لم يأت فشل وجبن المسلمين إلا بعد أن فازوا بالنصر والغلبة في الجولة الأولى من القتال ، وسقوط حملة لواء قريش قتلى بالتتابع إلى أن حملته امرأة منهم .
الرابعة : حصانة المسلمين من الفشل والجبن في المعارك اللاحقة ،فاذ زحفت قريش بثلاثة آلاف مقاتل في معركة أحد ، فانهم جاءوا بعشرة آلاف في معركة الخندق ، ولكن المسلمين لم يفشلوا ولم يجبنوا , نعم ظهر الخور على المنافقين على نحو الخصوص ففضحهم القرآن .
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة الخندق أنه كان يأذن لهم حينما أخذوا يستأذنون تباعاً عندما إشتد الأذى والمشقة في المرابطة ، قال تعالى [وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ).
وأخرج ابن عساكر والبيهقي وغيرهما عن حذيفة قال (لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ، ونحن صافون قعود ، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا ، وقريظة اليهود أسفل نخافهم على ذرارينا ، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ، ولا أشد ريحاً منها ، أصوات ريحها أمثال الصواعق ، وهي ظلمة ما يرى أحد منا اصبعه ، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم [يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ]( )، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، يتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك ، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً رجلاً حتى مر علي ، وما علي جنة من العدو ، ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ، ما يجاوز ركبتي ، فأتاني وأنا جاث على ركبتي.
فقال : من هذا؟ قلت : حذيفة فتقاصرت إلى الأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم , فقال : قم . فقمت .
فقال : إنه كان في القوم خبر ، فأتني بخبر القوم , قال حذيفة : وأنا من أشد الناس فزعاً ، وأشدهم قراً .
فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوقه ، ومن تحته ، قال : فو الله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوف إلا خرج من جوفي ، فما أجد منه شيئاً ، فلما وليت .
قال : يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئاً حتى تأتيني ، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم ، نظرت في ضوء نار لهم توقد ، واذا برجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ، ويمسح خاصرته
ويقول : الرحيل . . . الرحيل . . . ثم دخل العسكر فإذا في الناس رجال من بني عامر يقولون : الرحيل . . . الرحيل يا آل عامر لا مقام لكم ، وإذا الرحيل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبراً فوالله أني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم ، ومن بينهم الريح يضربهم بها .
ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك ، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً متعممين .
فقالوا : اخبر صاحبك أن الله كفاه القوم ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حز به أمر صلى ، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يرتحلون . فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذا جاءتكم جنود . . . })( ) .
والظاهر أن العشرين فارساً أعلاه ملائكة ومدد لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونوع حاجز وبرزخ دون تعدي الذين كفروا على المدينة ولإيذائهم بالريح والحجارة ونحوها .
الثالثة : عدم تحقق الفشل للمسلمين في معركة أحد إلا على نحو السالبة الجزئية الطارئة والزائلة بلحاظ بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من أصحابه يقاتلون أشد القتال في الميدان .
وفيه مناسبة للتدارك وزوال أسباب الخوف والفشل والجبن إذ يكون الفشل على وجوه :
1- الفشل والجبن التام الذي يستولي على الأعضاء والجوانح ، والفرد والطائفة .
2- نزول الفشل والخور بأفراد من الطائفة وعلى نحو القضية الشخصية .
3- عدم تعدي حال الفشل والجبن حديث النفس .
4- إطباق الفشل والجبن على أفراد من جيش المسلمين وعدم الإنصات إلى دعوات ملاقاة الحتوف , ولزوم طرد الفشل والخوف .
ثالثاً : إخبار آية السياق بأن إصابة الصحابة بالفشل والخور مقدمة لتفضل الله بالعفو عنهم لذا لم تختتم آية السياق حتى قال الله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] لبيان الإطلاق في العفو من عند الله وتفضله بتجاوز الفشل والجبن وغيره من الأخطاء والتقصير في معركة أحد .
رابعاً : لما أخبر القرآن عن مرتبة التفضيل والرفعة التي فاز بها المسلمون في آيات عديدة منها قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
أخبرت كل من آية السياق والبحث عن تفضل الله عز وجل بمحو أسباب الإخفاق والفشل عند المسلمين ، وهذا الإخبار على شعب محتملة :
الأولى : إتحاد الإخبار عن فضل الله على المسلمين في تدارك الإخفاق والفشل الذي أصابهم في معركة أحد .
الثانية : إتحاد سبيل الهداية إلى التوقي من الفشل والجبن في كل آية من آيتي السياق والبحث على نحو مستقل , وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى سور وتقسيم السور القرآنية إلى آيات .
الثالثة : التعدد في مضامين الإخبار عن فضل الله على المسلمين وجذبهم إلى الإحتراز من الفشل والجبن .
والصحيح هو الثالثة أعلاه ، وهو من إعجاز القرآن وشاهد على قانون يتجلى من جهات :
الأولى : مجيء المتعدد من أسباب التوقي والنجاة والفضل الإلهي بخصوص القصور المتحد .
الثانية : عدم وجود فترة بين موضوع القصور والزلل وبين نزول ما يهدي إلى تجاوزه والعصمة منه .
الثالثة : كل آية قرآنية برزخ دون الفشل وسلاح للوقاية منه ورفعه وإزاحته من نفوس المؤمنين ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
ومن الإعجاز في المقام وجوه :
أولاً : ذات الإخبار القرآني عن القصور والخطأ هو نفسه هداية إلى تجاوزه وهجرانه ، فقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ] واقية وحرز من تكرار ذات القصور والأخطاء متحدة ومتعددة .
ثانياً : مجئ التذكير بالخطأ وأثره وضرره في ذات الآية التي تخبر عنه .
ثالثاً : مجئ الآية التالية بإصلاح حال المسلمين , وبيان المدد من عند الله لتدارك الخطأ والزلل ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) أن الله عز وجل يمد المسلمين بأسباب ومقدمات الهداية إلى النجاة والإحتراز من ذات الخطأ .
رابعاً : مجيء آيات القرآن بالمتعدد من سبل الوقاية من ذات الخطأ والزلل ، لذا فحينما قالت آية السياق [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] لم يقع الفشل من المهاجرين والأنصار في أي معركة لاحقة وحتى في معركة حنين عند مباغتة العدو وشدة هجومه فسرعان ما أفاء وعاد المسلمون ، ومن لم تطاوعه راحلته نزل عنها ورجع للقتال وسط الميدان ، وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ (الآن حمي الوطيس) ( ).
الرابعة : صدور الدعوة للصحابة بالرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخاتم النبيين ، لتكون فريدة التأريخ لم تأت قبلها ولا بعدها دعوة بلحاظ التقييد من جهات :
الأولى : إنها دعوة سيد الأنبياء والمرسلين .
الثانية : حضور الدعوة النبوية عند فرار المؤمنين من ميدان القتال .
الثالثة : مجئ الدعوة للمؤمنين من ورائهم وآخرهم .
الرابعة : ترشح النفع العظيم عن دعوة الرسول , فمن الإعجاز فيها أنها لا تذهب سدى .
الوجه الثاني : يستقرأ من الجمع بين الآيتين الإستفهام الإنكاري ، وتقديره : كيف تفشلون والرسول يدعوكم في أخراكم )لبيان وفيه قانون من جهات :
الأولى : لزوم إستحضار المسلمين لحقيقة وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان أثناء القتال ، وعند إرادة التقدم أو التقهقر .
الثانية : التقيد بأوامر النبي صلى الله عليه وآله بالثبات في المواضع التي عينهم وجعلهم فيها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تخاطب الصحابة بل خاطبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبما يفيد القطع والبيان في أوامره ، ليكون شاهداً على قانون وهو لزوم تلقي المسلمين ما يصدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأوامر بالقبول والإمتثال .
الثالثة : تهيئ وإستعداد الصحابة للمبارزة والمسايفة من حين خروجهم من المدينة ، وهو الذي يدل عليه منطوق الآية أعلاه .
الوجه الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين الأمر والوصية للمسلمين بأن لا يفشلوا ولا يجبنوا في المعركة ما دام الرسول يدعوهم في أخراهم ، ويحتمل وجوهاً :
أولاً : إختصاص الأمر بالغزوات التي يحضرها ويقودها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : القدر المتيقن من الجمع بين الآيتين لحاظ إجتماع أمرين :
الأول : فشل وجبن الصحابة .
الثاني : دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم في أخراهم فاذا لم يكن هناك جبن أو لم تكن دعوة من الرسول إليهم ، فلا يتحقق مضمون الوصية .
ثالثاً : الآية عامة في جميع المعارك والغزوات أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء تلك قادها بنفسه أو التي أمر بها وعقد لها اللواء .
رابعاً : إرادة كل معارك الإسلام .
والمختار هو الأخير لحضور دعوة الرسول في أعقاب الفارين بإستحضارهم آية البحث ، وهو من الإعجاز الغيري للآية القرآنية لذا قلنا بأن تقدير الآية (كيف تفشلون ) بصيغة المضارع .
الثالث :جاءت كل من الآيتين بصيغة العموم الإستغراقي الموجه للمسلمين في معركة أحد .
ولكن الذي تلبس بالفشل والجبن فريق منهم , وتحتمل دعوة الرسول وجوهاً :
أولاً : دعوة الرسول لمجموع الذي فشلوا وجبنوا .
ثانياً : إرادة خصوص الفارين الذي تصلهم دعوة الرسول ويسمعون صوته .
ثالثاً : المقصود الذين تصلهم دعوة الرسول وإن كانوا لا يسمعون صوته .
رابعاً : المقصود جميع الذين فروا من وسط المعركة وإن إبتعدوا عن وسط المعركة ووصلوا إلى أطراف المدينة .
خامساً : إرادة كل الصحابة الذين حضروا معركة أحد تحت لواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين : إذا فشل فريق منكم والرسول يدعوكم جميعاً .
والمختار هو رابعاً أعلاه للقيد الوارد في آية البحث بقوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] ، وهذا لا يتعارض مع ما نذهب إليه من تجدد دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في كل زمان وفي الموضوع الأعم.
الرابع : لقد خلق الله الإنسان وجعله محتاجاً إلى رحمته وعظيم قدرته وهذه الحاجة ملازمة لعالم الإمكان ، فلا تعير بعض الخلائق بعضها الأخرى بالحاجة ، ولا يقدر أحد تعيير غيره بحاجته إلى رحمة الله ، نعم تكون حاجة المؤمن رحمة له , وباباً للأجر والثواب , أما حاجة الكافر فتكون وبالاً عليه .
وهل كان خروج المسلمين لمعركة أحد عن حاجة أم أنه نافلة وطلب المزيد ، الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : إرادة الدفاع عن النبوة والتنزيل والحيلولة دون قتل قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعطيل التنزيل .
ومن أسرار صيرورة نزول القرآن نجوماً وعلى نحو التدريج إرادة البشارة والتحدي بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل إلى أن يتم نزول القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
الثانية : لقد زحفت قريش لمعركة أحد بخيلها وخيلائها يريدون قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويتبين من كثرة الجيش والعدة والعدد أنهم لا يرضون إلا بالقتال ومحاولة الثأر لقتلاهم في معركة بدر لتؤسس معركة أحد لقانون وهو عدم إمكان الثأر من المسلمين وعلى عدوهم صرف النظر عن الثأر والإقتصاص منهم للتباين الموضوعي في الموضوع والحكم والغاية .
فالمسلم يقاتل في سبيل الله , والكافر يقاتل من أجل الات والعزى ، لذا قيدت آية السياق جهاد المسلمين وقتلهم للذين كفروا بإذن الله بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ].
الثالثة : لقد تفضل الله سبحانه وأخبر عن علة خلق الناس بأنه خلقهم ونشرهم في الأرض لعبادته وطاعته وفي قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )حجة بأن ذات الخلق وحده كاف لتوجه الناس للعبادة بما رزقهم من العقل والتدبر والتفكير ، وتأتي الإكتشافات الطبية والعلمية الحديثة لتبين أن خلق الإنسان معجزة عظمى لا يقدر عليها إلا الله عز وجل ، ثم تفضل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية دلالات وبراهين قاطعة بلزوم الإقرار بالتوحيد ، وترك مفاهيم الشرك والضلالة .
ولكن الذين كفروا من قريش أصروا على الجحود , فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم أحد لدعوتهم إلى الإسلام ، وحثهم على الرجوع والكف عن التعدي والظلم لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يقاتل عندما يلتقي الصفان حتى يعظ الناس ويدعوهم لقول لا إله إلا الله أي أنه لا يأمرهم بالتصديق بنبوته مع أنها حق ، ولكنه يكتفي برفع لواء التوحيد لإسقاط ما في أيدي رؤساء الضلالة ، ومنعهم من بعث حمية الجاهلية الأولى في نفوس الأتباع .
الرابعة : من وجوه خروج النبي إلى معركة أحد جذب الناس للإسلام من جهات :
الأولى : دعوة الكفار الذي جاءوا لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعددهم ثلاثة آلاف رجل للتوبة والإنابة، وهل تشمل هذه الدعوة النسوة اللائي جئن معهم ، الجواب نعم , وهو من مصاديق الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحملوا النسوة من مكة وجوار البيت الحرام لتحريض الرجال ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، فترى كل واحدة منهن ترجع بنفرة من الكفر .
ومن الآيات أن المشركين رجعوا من معركة أحد بالخسران لقوله تعالى فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَومن وجوه خيبتهم بلحاظ آية البحث والسياق :
أولاً : حس وتمكن المؤمنين من الذين كفروا .
ثانياً: تجلي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي إدراك الكفار لحقيقة عدم إنتفاعهم من كثرة عددهم .
لقد سعت قريش نحو سنة كاملة في حشد الرجال وأنفقوا الأموال الطائلة في ترغيبهم بالخروج وقاموا بتهيئة الأسلحة المناسبة وضمنوا لكثيرين منهم نفقة عيالهم ، فزحفوا بثلاثة آلاف مقاتل وكان عدد المسلمين الذين قابلوهم يوم أحد أقل من ربع عددهم .
ولكن قريش أدركوا يوم المعركة وما بعدها أنهم لو جاءوا بضعف هذا العدد أي أحضروا ستة آلاف رجل لكانت ذات النتيجة برجوعهم مع العجز عن تحقيق غاياتهم من معركة أحد ، وهذا الإدراك من أسرار مجيئهم بعشرة آلاف رجل في معركة الخندق.
قانون إصابة نسوة المشركين بالرعب
لقد جاء المشركون بلمة من نسائهم إلى ميدان معركة أحد فتجلى أثر الرعب الذي أصابهم وأصابهن على أفعالهن عندما إبتدأت المعركة لبيان قانون وهو أن الرعب الذي يأتي للكافر يترشح أيضاً عن فعل غيره من أصحابه ، ومن الشواهد أمور :
أولاً : فزع وهرولة النساء من مصاديق قوله تعالى قبل آيتين [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]من جهات :
الأولى : هرولة المشركات هاربات مولولات تاركات الأشعار وضرب الدفوف شاهد على إمتلاء نفوسهن بالرعب والفزع .
الثانية : بعث الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا عند رؤيتهم لنسائهم هاربات .
الثالثة : فزع وهرب النساء بسبب الرعب الذي ملأ قلوب الرجال الذين كفروا ، لبيان قانون وهو أن الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا توليدي ، يترشح عنه رعب في قلوب غيرهم من المشركين والمشركات ، ولا يعني هذا أن افراد الرعب الذي يدخل قلوب النساء منهم خاص بالذي يترشح عن الذي يتولد عن الرعب الذي يدخل قلوب الرجال منهم ، بل يأتي الرعب للنساء الكافرات من جهات :
الأولى : قذف الرعب في قلوب النساء الكافرات من عند الله ، وتقدير الآية قبل السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]لم ينزل به سلطاناً .
الثانية : ترشح الرعب الذي يصيب المشركات عن الرعب والفزع الذي يصيب الرجال الذين كفروا ، وتقدير الآية : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فتفزع المشركات .
الثالثة : رؤية الكافرات لحال رجالهن وكيف غلب عليهم الرعب وتغيرت سيماؤهم وتبدلت أوصافهم وعجزوا عن المبادرة والهجوم .
الرابعة : إصابة اللائي كفرن بالرعب عند رؤية تفاني المؤمنين وهم يقاتلون ببسالة وإخلاص ، لقد رأت الجزيرة العربية ضرباً من القتال والبسالة وعشق الشهادة لم تشهده من قبل وهو من مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، فان قلت قد جاءت آية البحث بنفي هذه الحقيقة لإخبار أولها عن هزيمة المؤمنين بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ].
والجواب جاءت آية البحث للمنع من حالة الفرار هذه ، ودعوة المسلمين للإتعاظ منها ، وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام من جهة بيان حاجته إلى الرجال لنصرة الحق وإزاحة الباطل وأسباب الفساد ، وعبادة الأوثان من الأرض ، قال تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا] ( ).
ثانياً : هرولة النساء وإبتداء هروبهن شاهد من داخل معسكر الذين كفروا أنهم يهيئون مقدمات الفرار والإنسحاب وفيه دعوة لزيادة شدة الهجوم عليهم ، والشكر لله عز وجل على نعمة النصر والغلبة .
ثالثاً : إصابة الذين كفروا بمصاديق إضافية من الرعب عند رؤية نسائهم يستعدن للهروب والفرار ، وهل يحتمل أنهن إتجهن إلى الإبل للفرار بأمر منهم , الجواب نعم ، إذ يترشح الإرباك وحب الفرار بسبب الرعب , وليكون باب ذل وهوان لهم حتى عند وبعد عودتهم إلى مكة .
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة كل امرأة جلبها الذين كفروا لحثهم على القتال رسولاً إلى أهل مكة تبعث الفزع والرعب في قلوبهم من البقاء على الكفر ومحاربة الإسلام ، وقد دخلن في الإسلام يوم الفتح .
وتتجلى في السنة الدفاعية الشواهد التي تدل على إخلاص المسلمين في الدفاع عن الرسالة وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والوقائع التي تدل على تفاني المسلمين في طاعة الله ورسوله , قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
الثامنة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : حتى إذا تنازعتم في الأمر والرسول يدعوكم في أخراكم ) وفيه وجوه :
الأول : من أسرار الجمع بين آيات القرآن توثيق الوقائع والأحداث , ومن غير أن تصل النوبة إلى تقدير الجمع ودلالات هذا التقدير فمن أسرار القرآن ، ذكر أمور مجتمعة ومنفصلة منها :
الأولى : المطلق والمقيد فتأتي آية بالإطلاق ، وترد آية أخرى بالتقييد .
الثاني : أحكام الحلال والحرام للبيان وإقامة الحجة على الناس وتحقيق مصداق إمامة القرآن وقيادته للذين يعملون بأحكامه ومضامينه القدسية إلى الجنة .
الثالث : المجمل والمفصل ، فما من شئ ورد في آية مجملاً إلا وجاء في آية أخرى بضياء التفصيل والبيان , ويحتمل مصداق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( )بلحاظ هذا التقسيم الثنائي وجوهاً :
أولاً : المجمل هو البيان ، ويأتي الفضل زيادة في البيان وأسباب الهدى ، كما في قوله تعالى [وَزِدْنَاهُمْ هُدًى] ( ).
ثانياً : المبين هو المراد من البيان في الآية أعلاه ، ويدل عليه إتحاد اللفظ.
ثالثاً : المراد من البيان في الآية أعلاه الفرد الجامع للمجمل والمبين وغيره من مصاديق البيان .
والصحيح هو الثالث ، إذ أن المراد من البيان في القرآن أعم من ذات ألفاظ وكلمات القرآن ومعانيها , فيشمل دلالاتها والغايات الحميدة منها ، والمعاني التي تترشح عن الجمع بينها .
الرابع : العام والخاص : فيأتي شطر من آية قرآنية في موضوع خاص وآخر من ذات الآية أو غيرها بموضوع عام ، ومن دلالات هذا التعدد ترشح معاني من العام ، وأخرى من الخاص وترشح معاني أخرى من الجمع بينهما .
الخامس : الناسخ والمنسوخ ، و(عن أبي البختري قال : دخل علي بن أبي طالب المسجد فإذا رجل يخوّف فقال : ما هذا؟! فقالوا : رجل يذكر الناس . فقال : ليس برجل يذكر الناس ولكنه يقول أنا فلان بن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ فقال : لا . قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه) ( ).
السادس : بيان القرآن للحدود والمواريث لمنع الظلم والغبن ، ولإستدامة صلة الرحم وعدم حصول الخلاف والتنازع والمعصية بسبب الميراث وقسمته ، ومن الإعجاز في آية السياق ذكرها لحصول التنازع بين المسلمين في ساحة المعركة عند الدفاع عن بيضة الإسلام .
وليس من قصص القرآن وما يرد فيه من الوقائع ناسخ ومنسوخ ولكن فيه العفو والبشارة بالثواب للمسلمين ، فبينما تبين آية السياق الفشل والتنازع بين المسلمين يوم معركة أحد ، ذكرت العفو عنهم بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] ( ) ترى ما هو متعلق العفو في آية السياق ، الجواب من وجوه :
الأول : وجوب الإنتفاع الأمثل من وعد الله للمسلمين وتنجزه بطاعة الله ورسوله وإجتناب ترك المواضع التي نصبهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إستدامة وتعاهد حس ومطاردة المسلمين للذين كفروا بدليل أن الإذن قد نزل من عند الله بدليل قوله تعالى (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) ويحتمل الإذن إطلاقاً وتقييداً وجوهاً :
أولاً : حصر الإذن بقتل عدد من الكفار .
ثانياً : إستدامة وإطلاق الحس ، وقتل الذين كفروا ليأتي عليهم جميعاً .
ثالثاً : إنقطاع حس وقتل المسلمين للذين كفروا إذا ظهر على المسلمين الفشل ، وجرى بينهم التنازع .
رابعاً : إرادة مسمى الحس والقتل ، لأن البداية بإذن الله , فيجاهد المسلمون بذات النهج وإذا إنهزم الذين كفروا في أول معركة إستمرت هزيمتهم .
خامساً : إستمرار قتل المسلمين للذين كفروا إلى أن تختتم المعركة بصيرورة الذين كفروا على ثلاثة أقسام :
الأول : الذين يسقطون قتلى في المعركة .
الثاني : الذين يقعون أسرى بيد المسلمين ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسن معاملة المسلمين لمن وقع أسيراً بأيديهم من الكفار في معركة بدر ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ] ( ).
الثالث : الكفار الذين إنهزموا إلى مكة ليكونوا رسلاً ودعاة للإسلام من حيث لا يعلمون ، إذ دلت هزيمتهم على الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنصر المبين من غير موضوعية وأثر لرجحان في كفة العدد أو العدة أو السلاح .
سادساً : لقد أذن الله عز وجل بحس وقتل المسلمين للذين كفروا ، وهو الذي يوقف الحس والقتل أنى يشاء .
والمختار هو أولاً وخامساً وسادساً أعلاه ، قال تعالى بخصوص معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار (الهداية ) أي أن الإنسان يهتدي فيها إلى سبل الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) بتقريب أن الله لطيف بالعباد .
ومن ضروب لطف الله تقريبهم إلى البلغة والغاية التي خلقهم من أجلها ، فيهديهم إلى التصديق بالنبوة والتنزيل ليترشح عن هذا التصديق إتيان الواجبات العبادية ، وإجتناب ما حرم الله عز وجل فأبى شطر من الناس إلى الجحود ومحاربة النبوة فوقعت معركة بدر لتكون درساً وموعظة من جهات :
الأولى : النصر الحاسم للمسلمين .
الثانية : سرعة هزيمة قريش خلافاً لحسابها ، وما يعرف عن رجالاتها من قوة الشكيمة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الثالثة : رجوع جيش قريش إلى مكة , وقد فقدوا نحو سدسهم بين قتيل وأسير ، وهي خسارة فادحة في عرف القبائل آنذاك ، وفي تقييم الجيوش وقادتها للمعارك فان خسارة سدس الجيش في معركة واحدة مع إنهزام الباقين خسارة فادحة وهزيمة نكراء فعاد جيش الذين كفروا إلى مكة ليدخل معهم الحزن والمصيبة إلى كل بيت وخشي كبراء الكفر في قريش إنقلاب الناس عليهم فأصدروا أمراً بمنع البكاء على القتلى بذريعة أنهم يتهيؤون للثأر والإنتقام لقتلاهم أي أن العكوف على البكاء يثبط العزائم .
لقد هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة خائفاً بعد الأذى الذي لاقاه ، وإرادة قريش قتله في ذات الليلة التي هاجر فيها ، ليعود الذين كفروا من معركة أحد بالفزع والحزن والأسى عند تجرئهم على قتاله والذين هاجروا معه والذين آووا ونصروا.
وهل في قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] هداية للإيمان ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : زيادة إيمان وهداية المسلمين .
الثانية : دعوة المنافقين للتنزه عن النفاق والرياء .
الثالثة : حث الذين كفروا على التوبة والإنابة .
الرابعة : إستئصال ورفع برزخ يحول دون دخول الناس الإسلام ، فقد كان كفار قريش يؤذون الذين يدخلون الإسلام أشد الأذى ويستحوذون على أموالهم مع الإمكان ، ويتوعدون من يريد دخول الإسلام ، فجاء الخطاب من عند الله عز وجل للمسلمين [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( )للبشارة بمنع غرور قريش بالإضرار بالمسلمين وجعلهم الله عز وجل ينشغلون بأنفسهم وهزيمتهم وخسارتهم ليترشح عنه الكف عن الوعيد والتخويف للمسلمين .
وفيه بيان لتعدد النعم على المسلمين ، وتذكير بالخطأ والزلل بالتنازع والخصومة بينهم في معركة أحد ، وحث على تعاهد الأخوة الإيمانية , وهو من وجوه الإختلاف والتباين بينهم وبين الذين كفروا .
ومن دلائل الجمع بين الآيتين أن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في أخراهم رحمة من وجوه :
الأول :دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واقية من إستدامة التنازع في ذات الأمر الذي إختلفوا فيه ، وهو البقاء على جبل الرماة أو عدمه.
الثاني : في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منع من تجدد الخلاف والتنازع في أمر آخر لذا ورد النهي عن تنازع المسلمين وبيان أضراره ، قال تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] وقد عطفت آية البحث التنازع على الفشل ، أما الآية أعلاه فإنها جعلت الفشل والجبن نتيجة وضرراً مترشحاً عن التنازع لبيان الأذى والخسارة التي لحقت المسلمين يوم أحد وتجلي النعمة وسبل النجاة من عند الله بقوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ].
الثالث : إتعاظ المسلمين من حصول التنازع بينهم في موضوع مخصوص وإقتباس الدروس منه .
الرابع : إجتناب تنازع المسلمين في قادم الأيام .
الخامس : تنمية ملكة طاعة المسلمين لله ورسوله في حال الحرب والسلم , وهو من أبهى معاني التقوى ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] ( ).
الوجه الثاني : هناك ملازمة بين النبوة والدعوة ، فلا يعرف الأنبياء إلا بالدعوة إلى الله ، ويتحملون الأذى بأعلى مراتب الصبر وجاءت دعوة الرسول في آية السياق بحث أصحابه للرجوع إلى ميدان المعركة ، وهل هي من مصاديق قوله تعالى [فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ] ( )بلحاظ أمور :
الأول : إنها من مصاديق قوله تعالى [فَادْعُ] بلحاظ أن المراد من الآية أعلاه الدعوة إلى الإيمان بالله وأداء الفرائض والواجبات العبادية بدليل قوله تعالى [وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ] ( ).
الثاني : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الذين إنهزموا من أصحابه من الإستقامة وأداء وظائف الرسالة والتبليغ، وهو من أسرار مجئ آية البحث بلفظ الرسول وليس النبي .
الثالث : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه المنهزمين تأكيد لعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إتباع الأهواء وتصديه ومنعه لإستحواذ الأهواء على بعض المسلمين .
الرابع : هذه الدعوة من مصاديق إيمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما أنزل الله سبحانه , قال تعالى [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ] ( ).
الخامس : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه المنهزمين أمر ومعنى آخر غير الوجوه المذكورة في الآية أعلاه .
السادس : هذه الدعوة مقدمة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل وإحتراز المسلمين من إتباع الهوى .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وفيه شاهد بأن قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] لبنة في بناء صرح الإيمان ، وحرز من الإنكسار والهزيمة ، ويكون من وجوه تقدير الآية :
أولاً : دعوة النبي نداء للثبات في مقامات الإيمان ، وتذكير بمعجزات النبوة .
ثانياً : تأكيد دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل بدعوته أصحابه في أخراهم .
ثالثاً : يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل فيتلقى المسلمون الدعوة بالقبول والتصديق.
وعند القصور والزلل في حال القتال تتجدد دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فصحيح أن معنى دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الرجوع إلى القتال , ولكن مضامينها عامة بقوله (إلي عباد الله، إلي عباد الله)( ) .
ففي كل يوم يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين إلى سنته القولية والفعلية ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
ويكون تقدير دعوة الرسول للمؤمنين بلحاظ آية السياق على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم للإمتناع عن التنازع وإجتناب الخصومة ، وبين التنازع والخصومة عموم وخصوص مطلق فالتنازع أشد ، لذا ذكره الله عز وجل في آية البحث ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان حال المسلمين في معركة أحد .
الثانية : ذكر علة خسارة المسلمين يوم أحد .
الثالثة : تأديب المسلمين بلزوم ترك التنازع في حال الحرب والسلم .
الرابعة : تفقه المسلمين في فنون القتال ، ومعرفة صيرورة التنازع برزخاً دون الظفر بالعدو .
الخامسة : الإخبار عن إنتفاء سبب التنازع والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم ، قال تعالى [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ( )
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجتهد في منع التنازع بين المسلمين يوم أحد بتعيين مواضعهم ولحاظ النسب والقبيلة والأخوة الإيمانية في تقارب المواضع , والتأكيد على الرماة بعدم ترك مواضعهم في أي حال من الأحوال ، وليكون من معاني قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) منع الخلاف والخصومة بين الصحابة بخصوص مواضع القتال .
ومن غايات تعيين الصحابة منع الخصومة والتنازع بينهم ، لبيان أن هذا التعيين وزمانه وتقدمه على أوان المعركة من الوحي والمدد الإلهي للمسلمين لينالوا شرف تعيين مواضعهم في المعركة من قبل خاتم النبيين وسيد المرسلين ، وهو مرتبة عظيمة لم ينلها جماعة أو قوم قبلهم ولا بعدهم .
الثاني : والرسول يدعوكم للأخوة الإيمانية ، وبيان أن الأولوية هي أداء الفرائض وهي سبيل لترك التنازع والخصومة ، وهو من أسرار تسمية آية البحث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرسول للتذكير بأن دعوته للمسلمين بما هو رسول من عند الله .
ومن أسرار آية السياق أنها قيدت التنازع بخصوص أمر , وليس مطلقاً , وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] للدلالة على بقاء معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين في أمورهم كلها عدا أمراً واحداً ذكرت الآية الخصومة فيه بصيغة الماضي [تَنَازَعْتُمْ] للدلالة على إنقضاء الموضوع , مما يدل بالدلالة التضمنية على إنتهاء ذات النزاع ، ولكن الله عز وجل تفضل وذكره وموضوعه في آية السياق .
ليكون موعظة وعبرة لأجيال المسلمين ، ليكون من إعجاز القرآن أنه يشير إلى ترك أغلب الرماة لمواضعهم على الجبل في النصف من شوال من السنة الثالثة للهجرة ليتذكر الناس من المسلمين وغيرهم واقعة أحد وتفاصيلها وإلى يوم القيامة ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة بأن يكون مناسبة لذكر وقائع الإسلام وبقائها حية في الوجود الذهني للمسلمين وعلى ألسنتهم ، فيحرص المسلمون على إجتناب التنازع .
الثالث : والرسول يدعوكم للشكر لله عز وجل ، لأن هذا الشكر واقية من التنازع والخلاف ، لقد علم الله عز وجل ورسوله المسلمين الأحكام وآداب السنن ، فمثلاً هداهم الله إلى الإسترجاع عند وقوع المصيبة ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
وكذا تفضل وهدى المسلمين عند تنازعهم وإختلافهم باللجوء إلى القرآن والسنة , ومنها دعوة الرسول للمؤمنين التي هي نعمة بذاتها , ومن مصاديق الشكر لله من وجوه :
الأول : إنها شكر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل على وجود أصحاب له يدعوهم للرجوع إليه .
الثاني : لقد بادر المهاجرون والأنصار إلى الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وحينما أصاب فريق منهم الفشل والتنازع وصدرت منهم المعصية تفضل الله عز وجل عليهم بدعوة الرسول لهم كي يشكروا لله سبحانه .
الثالث : دعوة الرسول للمؤمنين مناسبة لشكرهم لله للسلامة والنجاة وصيرورتهم بدعوة الرسول بحال وحلة بهيجة من جهات :
الأولى : إنقطاع الفشل والجبن عن المسلمين ، بلحاظ أن بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مناسبة للمناجاة بينهم .
الثانية : إمتناع المسلمين عن الخصومة والشقاق ، إذ تتغشاهم دعوة الرسول جميعاً ، وكأنها غيث يملأ قلوبهم بالسكينة والأمل .
الثالث : إنطواء مسألة المعصية بترك الرماة مواضعهم إذ أن النسبة بينهم وبين الذين ذكروا في أول البحث [إِذْ تُصْعِدُونَ] عموم وخصوص مطلق لأن المؤمنين الذين إنهزموا وسط الميدان أكثر ولما جاءتهم دعوة الرسول وطرقت أسماعهم تناجوا للرجوع والعودة للقتال .
الوجه الثالث : أختلف في واو العطف على قولين :
الأول : إفادة مطلق الجمع وهو مشهور النحاة والفقهاء ، وعن أبي علي الفارسي : أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للجمع المطلق ، فهو كالتثنية ، فاذا قلت مررت بفلان وفلان فهو بمعنى مررت بهما .
ولكن قد يحصل الترتيب قهراً كما لو قلت : طفت طواف العمرة والحج ، فلا بد من الترتيب الزماني والفعلي بينهما ، وكما لو قلت صليت الظهر والعصر .
الثاني : إفادة الواو الترتيب ، وبه قال الفراء وثعلب وأبو عبيد وغيرهم .
والمختار قول ثالث ، وهو المعنى الأعم الجامع فقد تفيد الواو مطلق الجمع وقد تفيد الترتيب بحسب اللحاظ والنظم والقرينة والموضوع ، وقد يمتنع أحدهما كما لو قلت : تخاصم زيد وعمر .
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول : قد تستعمل الواو فيما يمتنع الترتيب فيه كقولهم زيد وعمر ) .
ولكنه ليس جملة مفيدة تامة المعنى ، فلابد من البيان والقرينة التي يتم بواسطتها معرفة وظيفة (الواو ) .
وقد تقدم في الآية السابقة الفشل على التنازع في الأمر والأصل هو حدوث التنازع بين الرماة قبل أن يكثر القتل في المؤمنين ويصيبهم الفشل ، وفي قوله تعالى في خطاب وبشارة الملائكة لمريم [يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ).
وقد لا تدل الآية أعلاه على خلاف الترتيب لتعدد التأويل ، وهل الواو في [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]تفيد مطلق الجمع أو الترتيب ، الجواب هما معاً ، وليس من تعارض بينهما وإذ تعطلت حاسة البصر عندهم في معرفة أحوال وسير المعركة جاءهم نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتعمل آلة السمع على التدارك .
المسألة التاسعة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : حتى إذا عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون والرسول يدعوكم في أخراكم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : معاني الجمع بين الآيتين بلحاظ إظهار الضمائر المضمرة : حتى إذا عصيتم أيها المؤمنون أمر الرسول محمد يوم أحد من بعد ما أراكم الله ما تحبون من الغلبة عليهم ).
ليكون من إعجاز القرآن البيان مع الإضمار ، فان تنازع المؤمنون يوم أحد فهم لا يتنازعون في الأهم من سنن الإيمان وآيات القرآن وتفسيرها وتأويلها وكيفية الإنتفاع منها ، ويحتمل أمرين :
أولاً : سلامة المسلمين من التنازع في القرآن وتأويله من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
ثانياً : القدر المتيقن من الآية أعلاه حفظ الله للقرآن رسماً وكلمات وآيات وسوراً .
المختار هو الأول ويكون الثاني في طوله ، وهو من إعجاز القرآن الذاتي بأن يمتلك الواقية من الخصومة والخلاف فيه ، وهذه الواقية مقدمة وسبيل لسلامة القرآن من التحريف والتبديل والزيادة أو النقصان .
وقد ذكر الله عز وجل التنازع بين المسلمين في القرآن في آية السياق مع أنه محدود ومقيد من جهات :
الأولى : إرادة ساعة مخصوصة من يوم معين .
الثانية : وقوع الخلاف والتنازع في حال القتال وهو أمر عرضي طارئ على حياة المسلمين.
الثالثة : وجود أمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الفيصل في النزاع، بلزوم عدم ترك الرماة لمواضعهم.
الرابعة : لغة التنازع بين طائفتين من المسلمين لا يتجاوز عددهم خمسين من الرماة.
ولكن لم يقع التنازع بين المسلمين في موضوع ودلالة قوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ] مع توجه الخطاب للمسلمين والمسلمات جميعاً .
ليكون تقدير الآية : وتنازعتم في الأمر كيلا تتنازعوا في الأمور وليس من حصر لمصاديق لفظ الأمور في هذا التقدير منه على سبيل المثال :
أولاً : عصمة المسلمين من التنازع في طاعة الله والرسول .
ثانياً : إمتناع المسلمين عن التنازع في الصلاة من جهات :
الأولى : عدد الفرائض اليومية، فإجماع المسلمين على الصلوات الخمس في اليوم ، لذا قال تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه ، إختصاصها بالكلمات التالية التي لم ترد في آية قرآنية أخرى :
الأولى : حافظوا .
الثانية : الصلوات .
الثالثة : الوسطى .
الرابعة : قوموا .
الخامسة : قانتين :
وهو من إعجاز القرآن بأن ترد خمس كلمات متعاقبات في آية واحدة لم ترد إلا في ذات الآية وليس معها إلا لفظ الجلالة والصلاة فمجموع كلمات الآية سبعة ، وعدد الكلمات التي وردت فيها وحدها من بين آيات القرآن خمسة .
ويدل ذكر اسم الجلالة والصلاة على وجوبها وأدائها طاعة وقربة إلى الله عز وجل وهذا الأداء من أسباب ومصاديق إلقاء الفزع والخوف في قلوب الكفار بقوله تعالى قبل آيتين [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
الثانية : إستحضار المسلمين في كل زمان لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلّوا كما رأيتموني أصلّي( )، برزخ دون الخلاف والخصومة.
الثالثة : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الصلاة أمور :
أولاً : بيان أوقات الصلوات في القرآن ، قال تعالى [وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ] ( ) وفي حديث جرير بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (فإن اسْتَطَعْتُم أنْ لا تُغْلَبْوا عَلى صَلاةٍ قَبلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها فافْعَلُوا” ثم تلا( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا )) ( ).
وقال الله عز وجل [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ]( )، والمراد من طرفي النهار صلاة الصبح والمغرب .
وعن ابن عباس قال إرادة صلاة الظهر والعشاء والصبح في قوله تعالى[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ] .
والمراد من دلوك الشمس زوالها عن كبد السماء باتجاهها نحو جهة الغروب ، وفيه دلالة على إنقضاء عامة النهار ، والمراد من غسق الليل ظلمته ، والمراد من قرآن الفجر هو صلاة الصبح يشهدها ملائكة الليل والنهار .
وقيل للإمام جعفر الصادق عليه السلام (أصلحك الله ما نصلي حتى يؤذن مؤذن مكة قال: فلا بأس أما إنه إذا أذن فقد زالت الشمس، ثم قال إن الله يقول ” أقم
الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ” فقد دخلت أربع صلوات فيما بين هذين الوقتين،
وأفردت صلاة الفجر في القرآن فقال تعالى : ” وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ” فمن صلى قبل أن تزول الشمس فلا صلاة له) ( ).
ومن الإعجاز أن قوله تعالى ( أقم الصلاة ) ورد في القرآن خمس مرات أي بعدد الصلوات( ) اليومية , وورد بصيغة الجمع [أَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( )إثنتي عشرة مرة ليكون المجموع 5 + 12= 17 بعدد الركعات المفروضة باليوم الواحد على كل مكلف ذكراً كان أو أنثى.
ومن الإعجاز أن مواقيت الصلاة بآيات كونية تطل على أهل الأرض جميعاً في كل زمان ليكون فيه بشارة إنتشار الإسلام وأداء الصلاة في كل مصر من أمصار الأرض ، وقيل أن الرقم سبعة أصل النظام الرقمي في القرآن , ولا دليل على هذا المعنى.
ثانياً : التفصيل في عدد ركعات كل صلاة من الصلوات اليومية الخمسة ، ببيان قولي وفعلي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) فيدخل في الأمر وإرادة المثل عدد ركعات كل صلاة ، لتكون كل من مواقيت الصلاة وعدد ركعات كل فريضة على وجوه :
أولاً : إنها سبيل لوحدة المسلمين وشيوع مفاهيم الأخوة بينهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
ثانياً : في تعيين أوان كل صلاة يومية وعدد ركعاتها برزخ دون الفرقة .
ثالثاً : إشتراك المسلمين من أيام التنزيل وإلى الأن وحتى قيام القيامة بالمقدمة الواجبة للصلاة وهي الوضوء ، ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية نزول وجوب تفاصيل الوضوء من عند الله ، قال سبحانه [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ] ( ).
رابعاً : إبتدأت الصلاة بتكبيرة الإحرام والإنقطاع للصلاة لبيان قانون وهو إظهار المسلمين العبودية المطلقة لله عز وجل وسلامتهم من آفة الشرك ودرن الرياء .
خامساً : الأفعال العبادية التي يأتي بها المسلم في كل ركعة وهي :
الأول : القيام مع الإمكان .
الثاني : القراءة من القرآن وفيه حفظ لآيات القرآن وفقاهة في الدين وتدبر في كنوز القرآن .
الثالث : الركوع وأشتق اسم الركعة منه ، لما فيه من الخضوع والخشوع لله ولأنه عنوان الصبر والجهاد والإستعداد للتضحية بالرقبة في سبيل الله .
الرابع : إتيان المسلم لسجدتين متعاقبتين ولا يهوي المسلم إلى السجود إلا بعد أن يرفع رأسه من الركوع لبيان الإنقياد والخضوع لله عز وجل في كل الأحوال .
الخامس : التسبيح عند الركوع والسجود لبيان أن أداء المسلم للعبادات عن تفقه في الدين ، وفيه تجديد للذكر ، وإدخار للحسنات .
السادس : التشهد في الصلاة , ويتكرر التشهد في الصلاة الثلاثية والرباعية .
السابع : خروج المسلم من الصلاة بالتسليم .
الجهة الرابعة : وقوع التنازع بين جماعة الرماة مع أن النبي وأهل بيته وشطراً من أصحابه يقاتلون ويزيحون عدوهم عن مواضعهم , وفيه مسائل :
الأولى : تأكيد إنتفاء سبب وموضوع التنازع .
الثانية : الأصل هو عدم وقوع النزاع والخلاف بين المسلمين .
الثالثة : حضور الأسباب والفيوضات التي تمنع وترفع النزاع والخصومة بين المسلمين.
الوجه الثاني : يكون تقدير دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الجمع بين الآيتين في هذه المسألة وهي التاسعة عشرة على وجوه :
أولاً : دعوة الرسول أصحابه جميعاً إلى ترك المعصية ، وهجران الإختلاف .
ثانياً : لقد جعل الله عز وجل النبوة مدرسة التأديب والإصلاح ، فما أن عصت طائفة من المؤمنين وتركوا مواضعهم على جبل الرماة حتى تبعتهم دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتدارك هذه المعصية .
ثالثاً : دلالة دعوة الرسول على عدم إنتهاء المعركة , وفيه نكتة وهي أن الذين جبنوا وفشلوا وتنازعوا وعصوا أمره بإمكانهم التدارك والرجوع إلى المعركة من جديد .
رابعاً : بيان توالي مصاديق الرحمة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأن الذي يدخل الإسلام يرتقي في سلم المعرفة ، ويدخر من الحسنات فحتى الذي ينهزم من المعركة بجبن وخور تأتيه دعوة الرسول وفيها إقالة للعثرة .
وهل يعلم المسلمون أن دعوة الرسول من خلفهم هي وحي ، الجواب من وجوه :
الأول : التفصيل وأن فريقاً من المسلمين يعلمون ان النبي لم يدعهم إلا عن الوحي .
الثاني : لا يعلم المسلمون أن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي إنما هي من الإستغاثة بهم ، وإرادة نصرته في حال الشدة والضيق وإقتراب العدو منه .
الثالث : لم يتوجه المؤمنون إلى معركة إلا وهم يعلمون أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالخروج من الوحي ، وما أن دعاهم حتى إستحضروا بشارات النصر لعلمهم بأن دعوته هذه من الوحي .
والصحيح هو الثالث ، ومن مصاديق لفظ [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] في آية البحث الشهادة للمسلمين بتلقي الدعوة إلى الرجوع على أنها دعوة الرسالة والوحي والتنزيل .
ويتضمن قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] الثناء على المسلمين ، وإرتقاءهم إلى مراتب التمييز بين دعوة الرسول من دعوة الأمير والقائد ودعوة بعضهم بعضاً .
فمع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوم أحد هو الإمام والقائد إلا أن دعوته لهم بالرجوع لم تصدر من منازل القيادة بل الرسالة , لتكون الإستجابة لها واجباً .
ويفيد الجمع بين الآيتين إخبار المسلمين بأن رجوعهم إلى المعركة إتباع ونصر للرسالة ، وأنه لا يخصهم بالذات بل ينتفع الناس جميعاً من رجوعهم إلى المعركة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
وتقدير الآية بلحاظ هذا المعنى على وجوه :
أولاً : والرسول يدعوكم للصبر والدفاع .
ثانياً : والرسول يدعوكم للرجوع ليهتدي بكم وبجهادكم الناس .
ثالثاً : والرسول يدعوكم لبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
رابعاً :والرسول يدعوكم لتحقيق ذات النصر في معركة بدر .
خامساً : لقد نصركم الله عز وجل ببدر بعد سلامتكم من الفشل والتنازع والمعصية ، والرسول يدعوكم لإزاحة آثار ترك الرماة مواضعهم .
سادساً : والرسول يدعوكم في أخراكم لتكونوا في كتيبة واحدة وفي موضع واحد لتواجهوا العدو .
فان ترك الرماة مواضعهم فان الرجوع إلى النبي والإحاطة به هو نوع تدارك للمعصية بترك تلك المواضع .
سابعاً : والرسول يدعوكم لما تحبون ، فقد ذكرت آية السياق أن الله عز وجل تفضل على المسلمين في معركة أحد بأن أراهم ما يحبون ولكنهم فشلوا وتنازعوا وعصوا فجاءت دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للعودة إلى ما يحبون من أسباب النصر والظفر كما يأتي بيانه في المسألة العشرين التالية .
فمن فضل الله عز وجل أنه يقيل العثرة ويرجع ذات النعمة مع نافلة وزيادة بالإنابة والمسألة والدعاء ، ومن فضل الله عز وجل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بين ظهراني المسلمين يوم أحد ، وهو الذي يدعوهم لما يحبون ، وفي التنزيل [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] ( ).
ثامناً : والرسول يدعوكم فاستجيبوا له , لأن في دعوته خير الدنيا والآخرة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ] ( ).
ومن الإعجاز في نظم القرآن إبتداء الآية أعلاه بالنداء بصيغة الإيمان وكذا بالنسبة لآية البحث فإنها معطوفة على ذات الصبغة والصفة .
تاسعاً : لقد علم الله عز وجل بالأذى الذي لحق المسلمين يوم أحد ، فخفف عنهم بدعوة الرسول لهم ، لتكون ذات الدعوة والإستجابة لها نوع رحمة وتخفيف عنهم , وسبيلاً للتدارك وتحقيق الغلبة على الذين كفروا ، قال تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ).
عاشراً : والرسول يدعوكم لما تحبون بدخول الناس الإسلام بصبركم في معركة أحد وعجز الذين كفروا عن النيل من الإسلام .
الحادي عشر : لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بسلامة النبي وهو ما يحبه المسلمون ، وفيه إستدامة النبوة بين ظهرانيهم ، وتوالي نزول آيات القرآن ، وتحقيق النصر والغلبة في قادم الأيام .
ومن إعجاز موضوع آيات القرآن نزول قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) .
ولم تختص الغبطة والسعادة بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل وتجلي كذب إشاعة قتله بالمجاهدين يوم أحد ولا عموم المسلمين من الرجال ، بل تغشت الغبطة المؤمنات وبيوتات الأنصار من غير أن تتعارض هذه الغبطة مع الحزن الشديد .
وبإسناد ابن إسحاق (قَالَ مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِامرأة مِنْ بَنِي دِينَارٍ ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِأُحُدِ فَلَمّا نُعُوا لَهَا ، قَالَتْ فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ؟ قَالُوا : خَيْرًا يَا أُمّ فُلَانٍ هُوَ بِحَمْدِ اللّهِ كَمَا تُحِبّينَ قَالَتْ أَرُونِيهِ حَتّى أَنْظُرَ إلَيْهِ قَالَ فَأُشِيرَ لَهَا إلَيْهِ.
حَتّى إذَا رَأَتْهُ قَالَتْ كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك جَلَلٌ تُرِيدُ صَغِيرَةً)( ).
الثاني عشر : والرسول يدعوكم لترك المعصية خاصة مع إنتفاء موضوعها وهو عدم التقيد بأوامره في البقاء على جبل الرماة وفيه نكتة وهي لولا نداء الرسول لهم لأتوا بمعصية أخرى وهي الهزيمة والتخلية بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين جيش المشركين .
الوجه الثالث : يعلم الله عز وجل بمعصية المسلمين في إنسحابهم من جبل الرماة قبل وقوع معركة أحد ، فهو سبحانه يعلم ما هو كائن وما يكون إلى يوم القيامة ، وتفضل عليهم بما يحبون من الإجهاز على المشركين في بدايات المعركة وفيه مسائل :
الأولى : شكر الله عز وجل للمسلمين على أمور :
أولاً : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام.
ثانياً : الخروج لمعركة أحد وإرادة قتال المشركين بقصد القربة إلى الله عز وجل .
ثالثاً : التعاون والتآزر بين المسلمين في الدفاع عن الإسلام .
رابعاً : بذل المسلمين النفوس والأموال في طاعة الله .
الثانية : بيان مصداق لوعد الله يتجلى باختصاص المسلمين بالظفر في أول المعركة لبيان أن كثرة الذين كفروا وإستعدادهم للمعركة قرابة سنة كاملة لم ينفعهم ، وذهب أدراج الرياح حالما إلتقى الصفان .
الثالثة : لقد كانت معركة بدر وأحد أول معارك الإسلام فأراد الله عز وجل بيان قانون بواسطتهما وهو أن الغلبة والنصر في بداية المعركة للمسلمين ، ولم ينخرم هذا القانون في معركة الخندق لأن الإمام علي عليه السلام قتل بطل قريش عمرو بن ود العامري الذي عبر الخندق ، وتفاصيل المبارزة بينهما والمحاورة والجدال التي قبلها مذكورة في كتب السيرة والتأريخ ، وسلّم كفار قريش بهذا القانون .
فحينما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة في السنة الثامنة للهجرة لم يكن هناك قتال يذكر ، فان قلت في معركة حنين إنهزم المسلمون في بداية المعركة ، وهذا صحيح لما فيه من الموعظة ولأن قانون النصر في بداية المعركة للمسلمين يستلزم الشكر لله عز وجل والتهيئ للقتال ، والتحلي بأسمى خصال الصبر والتقوى وعدم الإستخفاف بالعدو ، ويدل على هذه المعاني قوله تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا] ( ).
ومع هذا فأن فرار المسلمين في بداية معركة أحد لم يكن على نحو السالبة الكلية إذ بقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه مع ثلة من أهل بيته وأصحابه يدعو المسلمين للرجوع إلى المعركة كما أنهم بادروا إلى الإستجابة وعادوا بسرعة إلى المعركة .
وتكرر ذات الأمر في معركة حنين بأن ثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان مع شدة وسرعة هجوم هوازن المباغت بل زاد إذ أخذ يتقدم وسط جيوش العدو ، وعمه العباس آخذ بحكمة بغلته يكفها عن إستمرار التقدم والنبي يقول :
أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبدالمطلب) ( ).
ومع أن قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] نزل بخصوص معركة أحد ، فقد تجلت بركاته يوم حنين من جهات :
الأولى : لم يناد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بنفسه بل أمر عمه العباس ، وكان صوته جهورياً عالياً إذ ينادي : يا معشر الأنصار يا معشر أصحاب الشجرة.
والمراد من أصحاب الشجرة أي الذين بايعوا بيعة الرضوان في الحديبية تحت الشجرة ، وكانت الشجرة سَمُرًة لذا ورد في بعض الأخبار أن العباس نادى : يا معشر أصحاب السَمُرًة , وأختلف في عددهم يوم الحديبية .
قال جابر بن عبد الله (كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة) ( ) , أي ألف وأربعمائة .
وقد أصاب وفد قريش برئاسة سهيل بن عمرو ، وعيون قريش الرعب من تدافع المسلمين إلى البيعة وإخلاصهم وتفانيهم وإستعدادهم للقتال والحرب ، وهو من مصاديق ما ورد قبل آيتين [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
وما أن سمع المسلمون النداء حتى كروا راجعين وأجابوه : لبيك . لبيك ، والذي لم يستطع أن يثني بعيره نزل عنه وأخذ درعه فلبسها وشد سيفه وحمل ترسه وتوجه راجلاً إلى جهة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجتمع حوله نحو مائة ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة فيرسخ في أذهانهم قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] فيبادر المسلمون إلى تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرجوع إلى المعركة .
الثانية :كان رجوع المسلمين إلى ميدان المعركة يوم حنين سريعاً ليس ثمة فترة بين دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للفارين يوم حنين وعودتهم إلى المعركة , وكانت هذه الدعوة من أسباب تعجيل نصر المسلمين فما ان عاد نحو مائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جانب نفر من أهل البيت والصحابة لم يفارقوه حتى إشتد القتال وسرعان ما صفّ الأسرى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : ذكرت آية البحث إصابة المسلمين بالغم والهم يوم أحد وعلى نحو متعدد بقوله تعالى [َأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ]ويحتمل الحال يوم حنين وجوهاً :
أولاً : تجدد ونزول ذات الغم المتعدد لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، لأن المسلمين فروا وإنهزموا من يوم حنين مثلما فروا في معركة أحد .
ثانياً : مجئ الغم للمسلمين يوم حنين بمرتبة وأفراد أقل مما أصابهم في معركة أحد .
ثالثاً : لم يلحق المسلمين غم في معركة حنين.
والصحيح هو الثالث ، لبيان آية البحث لعلة الغم وهو منع إستيلاء الحزن على نفوس المسلمين لما فاتهم من الغنائم وأسباب النصر والظفر بالمشركين ، بلحاظ أن جمع الغنائم من رشحات النصر ، فحينما يأسف المسلمون على ما فاتهم من الغنائم ومن وقوع الأسرى في أيديهم ، وأخذ الفداء والعوض منهم فإنهم يألمون على عدم تحقيق النصر التام على الذين كفروا ، وإن كانت معركة أحد نصراً للمسلمين ، ولكنه ليس مثل الظفر والنصر يوم بدر ، لذا ذكر الله عز وجل معركة أحد وكون نصر المسلمين فيها تاماً بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
رابعاً : لقد كانت الغنائم التي وقعت في أيدي المسلمين يوم حنين كثيرة ، وقد تعادل بمقدارها جميع ما غنمه المسلمون في الغزوات التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه وتلك معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا إعادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما غنمه لأهله .
خامساً : من أسرار مجئ آية البحث بصيغة المضارع [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]الإشارة إلى تجدد هذه الدعوة بعد أوان وموضوع النزول إذ نزلت آية البحث في السنة الثالثة , وفي أيام معركة أحد، بينما وقعت معركة حنين في العاشر من شوال من السنة الثامنة للهجرة وبعد فتح مكة ليكون فتح مكة إنذاراً لهوازن وثقيف بلزوم الإمتناع عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى على فرض أنه عازم على التوجه لهم بعد فتح مكة ، وهذا الإمتناع من رشحات قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
وكذا فان آية البحث زاجر لهم عن ملاقاة المسلمين ، إذ تدل بالدلالة التضمنية على أن المسلمين حتى إذا إنهزموا في جولة من المعركة فأنهم قادرون على الإجتماع لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا في السنوات اللاحقة لمعركة أحد .
وهو من دلالات صيغة المضارع في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
أولاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب يوم حنين .
ثانياً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بدعوة الرسول لكم في أخراكم .
ثالثاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب يوم حنين لأن الرسول دعاكم يوم أحد .
وسيبقى قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] وثيقة سماوية تدل على قانون وهو فوز المسلمين بما يسرهم ويبعث الرضا والسرور في نفوسهم في بدايات لقاء العدو ، ولا عبرة بالقليل النادر .
الوجه الرابع : يفيد الجمع بين الآيتين في هذه المسألة بلحاظ الترتيب في الحدوث أموراً :
أولاً : تفضل الله بأن جعل المسلمين يرون ما يحبون وهو هبة ومنحة عظيمة .
ثانياً : صدور المعصية من المسلمين .
ثالثاً : دعوة الرسول للمسلمين من خلفهم بعد فرارهم .
ويبين هذا الترتيب أن الإحسان والفضل من عند الله عز وجل للمسلمين سابق للمعصية ومتأخر عنها ، فالأصل أن تقابل نعمة تحقق الأماني الشرعية الشكر لله عز وجل بالصبر في الميدان وملاقاة العدو ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ] ( ) .
ويأتي الإحسان للمسلمين من عند الله إبتداءً حتى إذ ظهر التقصير منهم وبانت المعصية تفضل الله بأن جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم للتدارك والصبر وملاقاة العدو.
وهل هذه الدعوة ملاقاة للحتوف , الجواب لا ، بدليل آية البحث التي تبين كيف أن الله أثاب الله المسلمين بالغم المتعدد وصرف عنهم الحزن والأسى لما لحقهم ليدل بالدلالة التضمنية على سلامة المسلمين من القتل وملاقاة الحتوف ، وفيه بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن دعوته اصحابه للقتال نجاة لهم من الموت .
وقد نجّى الله عز وجل موسى عليه السلام من بطش فرعون، وورد الخطاب لأم موسى من عند الله [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ] ( )والمراد من [الْيَمِّ] في الآية أعلاه هو نهر النيل ، لينجو موسى ويعاد لأمه .
وكذا بالنسبة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه فان خافوا من القتل وفروا من وسط المعركة فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاهم ليرجعوا إلى المعركة ، وفيه سلامة لهم من القتل ، وتلك آية في تأريخ وسنن النبوة ولتكون خصوصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة المئات من أصحابه للرجوع إلى المعركة ليكتب الله عز وجل لهم الأجر والثواب مع السلامة والأمن .
ومن الآيات أنه لم يحدث قتال شديد ومبارزة متكررة بعد دعوة النبي لأصحابه للرجوع لذا تحدثت آية البحث عن نزول الغم والهم بهم مع التخفيف بصرف الحزن عنهم وهو من الجزاء والثواب العاجل على إستجابتهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وإذ ذكرت الآية أعلاه توجه النهي لأم موسى عن الخوف والحزن فإن آية البحث تضمنت أموراً :
الأول : صرف الحزن عن المسلمين يوم أحد .
الثاني : بيان ان الله عز وجل هو الذي صرف الحزن عن المسلمين ، فهو سبحانه الذي يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا ليصاحبه الحزن طوعاً وقهراً ، وهو سبحانه الذي يصرف الحزن عن قلوب الذين آمنوا .
الثالث : لم تذكر آية البحث إصابة المسلمين بالخوف ويستقرأ منه إستجابتهم لدعوة الرسول لهم للرجوع إلى ميدان المعركة .
ويكون تقدير وبيان الجمع بين الآيتين الوارد في بداية هذه المسألة على وجوه :
الأول : الرسول يدعوكم إذا عصيتم ) .
لكشف وبيان حقيقة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يترك المسلمين وإن عصاه بعضهم فانه يدعو إلى الإنابة ، قال الله تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
وعن عكرمة (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : جاء جبريل فقال لي : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ، وهذا ملك الجبال قد أرسله الله إليك وأمره أن لا يفعل شيئاً إلا بأمرك . فقال له ملك الجبال : إن الله أمرني أن لا أفعل شيئاً إلا بأمرك ، إن شئت دمدمت عليهم الجبال ، وإن شئت رميتهم بالحصباء ، وإن شئت خسفت بهم الأرض.
قال : يا ملك الجبال فإني أستأني بهم لعله أن يخرج منهم ذرية يقولون : لا إله إلا الله . فقال ملك الجبال عليه السلام : أنت كما سمَّاك ربك رؤوف رحيم) ( ).
المسألة العشرون : والرسول يدعوكم من بعد ما أراكم ما تحبون) .
لقد فاز أهل البيت والمهاجرين والأنصار بأن خاتم النبيين وسيد المرسلين بين ظهرانيهم ، فيغترفوا من بحور النعم ، ويشيدوا قصوراً من الحسنات ويعيشوا أيامهم في مندوحة ورغد وصلاح ، فأصيب الذين كفروا بالهلع وإستحوذ الحسد على قلوبهم فزحفوا في معركة أحد بثلاثة آلاف رجل , وهو عدد كبير وجيش عرمرم، ولعل الجزيرة العربية لم تعهد هذه الأعداد في القتال إلا عند هجوم إبرهة إذ ذكر أن عدد أفراد جيشه كان عشرة آلاف ، وحينها إنهزمت قريش إلى رؤوس الجبال.
ولكن حينما زحف المشركون في شوال من السنة الثالثة للهجرة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه للقائهم مع إستعداد المؤمنين للتضحية والفداء ، كما ورد في التنزيل بخصوص معركة أحد [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
ويحتمل تعيين موضع المعركة عند جبل أحد وجوهاً :
الأول : تعيين موقع معركة أحد عن غير قصد من المسلمين أو المشركين ، إنما كان محل الإلتقاء بينهم إتفاقاً.
الثاني : تم إختيار موضع المعركة من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثالث : إختار كفار قريش موضع المعركة عند جبل أحد .
الرابع :الإتفاق من الصفين والفريقين بأن تكون المعركة عند جبل أحد.
والمختار هو الثاني فقد إختار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخروج للقاء العدو وأوان هذا الخروج ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )فتم تحديد مواضع الطوائف والأفراد من المسلمين في المعركة قبل الوصول إلى محل المعركة ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (هذا جبل يُحبُّنا ونحبه) ( ).
وهذا الحب أعم من أن يكون سبباً لتعيين موضع القتال وقد يقول قائل بترشح الحب عن معركة أحد وفيه دلالة على خزي الذين كفروا فيها ،وهو أمر ممكن , ولكن لو دار الأمر بين حب الموضع الثابت عن واقعة أم إرادة المعنى الأعم بقيد ترشح هذا الحب عن الإيمان , فالجواب هو الثاني .
ويتجلى التفصيل في تقدير الجمع بين آية البحث والآية السابقة من وجوه :
أولاً : والرسول يدعوكم لما تحبون من بعد ما أراكم الله ما تحبون ) إذ أن الفاعل في أراكم هو الله عز وجل ، وفيه بيان بأنه سبحانه يرزق المسلمين من جهات :
الأولى : يرى المسلمون ما يحبون بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
الثانية : هزيمة الذين كفروا في بدايات المعركة .
الثالثة : لقد علم الله عز وجل أن المسلمين يحبون النصر ، وفيه تزكية لهم ، ليكون حضور المسلمين في معركة أحد تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شهادة السلامة من درن النفاق .
الرابعة : مما يحب الذين آمنوا هزيمة الكفار , لأنه شاهد على بطلان البلغة والغاية التي جاءوا من أجلها .
الخامسة : لقد تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين ينظرون كيف يتساقط الذين يحملون لواء المشركين تباعاً واحداً بعد آخر، واللواء يتهاوى إلى الأرض حتى حملته امرأة منهم.
ثانياً : والرسول يدعوكم ويذكركم بما أراكم ما تحبون .
ثالثاً : المنع من الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما في الآية من الدلالة على أمور :
الأول : لا يقدر على تحقيق النصر والغلبة للمسلمين إلا الله عز وجل , وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا] ( ) .
وهل دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في أخراهم للرجوع إلى المعركة من نصر الله له ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : دعوة النبي لأصحابه مقدمة لتحقيق النصر على المشركين .
الثانية : عودة الصحابة إلى المعركة إبطال دائم لدعوى كفار قريش بالنصر والغلبة .
الثالثة : الملازمة بين دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للرجوع إلى المعركة وبين بعث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا .
الرابعة : تقدير آية البحث : والرسول يدعوكم بأمر الله في أخراكم).
ويدل عليه وصف صدور الدعوة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة ليكون من معاني الدعوة التبليغ .
الخامسة : من الآيات أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورد بصيغة الدعوة ، ولم يرد بصيغة النداء والخطاب .
الثاني : حث المسلمين على التطلع إلى فضل الله وسؤال أن يرزقهم ما يحبون مرة أخرى ، فلإن صارت جولة للذين كفروا فان الله يتفضل على المسلمين بهزيمة الكفار في معركة أو معارك لاحقة، وهو الذي حصل في معركة الخندق وصلح الحديبية وحنين وفتح مكة .
ففي معركة الخندق أقام الذين كفروا حول المدينة بسوء حال، وجزع ورعب وهو من معاني صيغة الإستقبال في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]إذ يصاحب الذين كفروا الرعب والفزع في المعارك التي وقعت بعد معركة أحد لأن علة الرعب هو إتخاذهم الند والشريك لله عز وجل .
وإن قلت لم تقع معركة عند عقد صلح الحديبية ، الجواب نعم ولكنه نصر وفتح ، ومن الآيات فيه إمتناع الخصومة والتنازع بين المسلمين وإن صار جدال حول تحقق رؤيا النبي بالفتح (قال الزهري : ما فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية،
لأنّه إنّما كان القتال حيث التقى النّاس،
فلمّا كانت الهدنة وضعت الحرب،
وأمِنَ النّاس بعضهم بعضاً،
فالتقوا فتفاوضوا في الحديث،
والمناظرة،
فلم يكلّم أحد بالإسلام بعقل شيئاً إلاّ دخل فيه في تينك السنتين في الإسلام،
مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر) ( ).
والمختار أن فتح مكة هو أعظم فتح في الإسلام ، وإن كان صلح الحديبية نصراً وفتحاً ومقدمة لفتح مكة.
الثالث : المقصود من آية السياق توثيق نعمة الله عز وجل على المسلمين وكيف أنه أراهم ما يحبون ، وما يحبه الإنسان أعم وأكبر مما يسأله إذ أنه لا يسأل ما لا يحب ولكن قد يترك السؤال عن بعض ما يحب لعدم الإلتفات له في ساعة السؤال ، أو لقصور منه أو لرضاه بتحقق السؤال أو خشية عدم الإستجابة من المسؤول .
ولأن الله عز وجل يعطي بالأولى والأتم ولأن عطاءه من شكره سبحانه فاراد أن يجازي المؤمنين في ميدان القتال وحال دفاعهم عن النبي والتنزيل بأن يهب لهم ما يحبون من الظفر بالذين كفروا وحسهم وقتلهم .
الرابع : تفضل الله عز وجل بإنزال الملائكة مدداً لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ويحتمل هذا النزول بلحاظ آية السياق جهات :
الأولى : نزول الملائكة مقدمة ونوع طريق لتحقيق ما يحب المسلمون .
الثانية : ذات نزول الملائكة هو ما يحبه المؤمنون ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
الثالثة : لقد تفضل الله عز وجل ورزق المسلمين ما يحبون قبل أن ينزل الملائكة .
الرابعة : ليس من ملازمة بين الذي رآه المسلمون من النصر وبين نزول الملائكة لأن حس وقتل المؤمنين للذين كفروا تم بإذن الله عز وجل.
والمختار أن النسبة بين الذي رآه المسلمون مما يحبون ونزول الملائكة هي العموم والخصوص المطلق ، فالذي رآه المسلمون أعم من جهات :
الأولى : ملاقاة المسلمين للذين كفروا في ميدان الحرب ، فهذا اللقاء نعمة عظيمة على المسلمين وشاهد على صيرورة المسلمين أمة قادرة على مواجهة الكفار ، لقد إختار الذين كفروا الشرك بالله وجعلوا له نداً ، فتفضل الله وجعل المؤمنين نداً وخصماً لهم .
الثانية : عجز الذين كفروا عن الوصول إلى المدينة المنورة وقتال المسلمين فيها ، فقد خرج لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأهل بيته وأصحابه ، ويحتمل هذا الخروج بلحاظ الآية قبل السابقة وجوهاً :
أولاً : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لملاقاة الذين كفروا في معركة أحد من مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا.
ثانياً : لا ملازمة بين خروج النبي لمعركة أحد صلى الله عليه وآله وسلم وبين إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لأن هذا الإلقاء حتم وبأمر الله عز وجل بدليل بيان علته وهي إختيارهم الشرك بالله , قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( ).
ثالثاً : عدم بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه في المدينة مقدمة لبعث الرعب في قلوب الذين كفروا .
ولا تعارض بين هذه الوجوه فما أن لبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمة القتال وخرج لأصحابه لإرادة ملاقاة الذين كفروا في أحد , حتى إنتشر الخبر بالمدينة بأن الرسول تهيء لقتالهم وكانت قريش تجعل العيون والرصد لتتبع أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
لذا يكون تقدير قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ليلقي الله الرعب في قلوب الذين كفروا ، بتقريب أن تهيئة وتوجيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للجيش وتوزيعه إلى مقدمة وميمنة وميسرة وقلب ومؤخرة من أسباب بعث الرعب في قلوب الذين كفروا ونشر الخوف والإرباك في صفوفهم .
ويبين تقدير الجمع بين الآيتين في هذه المسألة : والرسول يدعوكم في أخراكم من بعد ما أراكم ما تحبون ) إخبار السنة النبوية عن قدرة الله عز وجل المطلقة من جهات :
الأولى : لا يستطيع أن يجعل المسلمين يرون ما يحبون من الظفر بالعدو وحس أفراده بالقتل والجراحات والدفع عن وسط المعركة إلا الله عز وجل .
الثانية : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل بأن حسهم وقتلهم للذين كفروا بفضل الله عز وجل لإرادة المعنى الأعم من قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) فرمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو رمي من عند الله ، وقتل الذين آمنوا للذين كفروا بإذن الله وعظيم إحسانه.
الثالثة : كما أن السنة النبوية تفسير وبيان للقرآن وكذا في ساحة معركة أحد فقد تفضل الله بتمكين المؤمنين من المشركين ، ثم جاءت السنة النبوية بحثهم على الرجوع إلى المعركة ، وتحتمل دعوة الرسول في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]وجوهاً :
الأول : إنها من السنة القولية لسنخية النداء والدعوة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (إليّ عباد الله) ( ).
الثاني : دعوة الرسول من السنة الفعلية لبقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه في المعركة .
الثالث : إرادة المعنى الأعم للسنة القولية والفعلية .
والمختار هو الأخير ،إذ أن تقسيم السنة إلى قولية وفعلية تقسيم إستقرائي , وليس من مانع من الجمع بينهما في الموضوع المتحد فذات بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المعركة دعوة فعلية للمسلمين للرجوع ، وجاء النداء والإجهار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعودة إلى المعركة لوجوه :
أولاً : النداء بيان وإخبار وإشعار .
ثانياً : حاجة المسلمين للنداء بدليل تقييد آية البحث دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] لحاجة المُدبر إلى سماع النداء .
ثالثاً : تأكيد سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل، وإبطال إشاعة الذين كفروا بأنهم قتلوه .
رابعاً : إشعار المنهزم من المسلمين بأن المعركة لم تنته ، ولم ينتصر الذين كفروا، فلا زال المسلمون يقاتلون وسط الميدان .
خامساً : إخبار جميع المسلمين بأن الإمامة والقيادة وسط الميدان ، وليس من الإنصاف التخلية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعدو .
سادساً : بيان السعة والمندوحة عند المسلمين ، إذ تدل دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع على أنه يواصل وظائف القيادة ويوجه المسلمين.
سابعاً : صحيح أن إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد باطلة ، ولا أصل لها ، ولكن موضوع سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعم من بطلان الإشاعة ، فجاءت هذه الدعوة بالنداء والأمر الذي يحمل على الوجوب , وليس الندب والإستحباب .
وفيه تأكيد بلزوم إستمرار المسلمين بالقتال والدفاع عن النبوة والتنزيل , ومنع المشركين من تحقيق النصر والغلبة يوم أحد ليكون زجراً لهم وتخويفاً لمن وراءهم ليكون بين لفظ [الَّذِينَ كَفَرُوا] الوارد في قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ) وبين الكفار الذين إشتركوا في معركة أحد عموم وخصوص مطلق.
فموضوع الآية أعم أشخاصاً ومكاناً وزماناً ، لذا بينت الآية أعلاه علة إلقاء الرعب وهو الشرك بالله عز وجل , وفيه برزخ يحول دون إختلاف المسلمين في تعيين الذين حلّ بناديهم الرعب ، وتكون لغة العموم مدداً للمسلمين في كل معركة مع الذين كفروا .
المسألة الحادية والعشرون : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم ومنكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) وفيه وجوه :
الأول : بيان قانون وهو توجه دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي وبعرض واحد ، وتحتمل دعوة المسلمين لأصحابه آخر نهار معركة أحد وجوهاً :
أولاً : دعوة كل واحد من أصحابه باسمه .
ثانياً : التفصيل، فمن الصحابة من دعاه النبي بإسمه ، ومنهم من شمله النداء العام وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (إلَيّ عِبَادَ اللّهِ) ( ).
ثالثاً : نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمهاجرين والأنصار ، كما حصل في دعوته يوم حنين , وعن جابر بن عبد الله قال (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم حنين حين رأى من الناس ما رأى: ” يا عباس ناد: يا معشر الانصار يا أصحاب الشجرة ” فأجابوه: لبيك لبيك) ( ).
رابعاً : النداء العام للمسلمين ، فلم يدع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشخاصاً من الفارين والمنسحبين بأسمائهم .
والظاهر هو الأخير، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر ونادى أصحابه بالرجوع بدعوة عامة ومن غير ندبه لهم بالأسماء ، وفيه شاهد على توكل النبي على الله عز وجل في ساعة الشدة والضيق وفي السعة وحال السلم , وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) إنما تكون هذه الدعوة رحمة بالمسلمين وسبيل نجاة لهم في النشأتين .
ومن خصائص ساحات القتال التساوي بين المقاتلين وزوال الفوارق والمراتب ولو على نحو الموجبة الجزئية لإتحاد الهدف والغاية وعموم حال التهديد والخطر إذ يبغي العدو الفتك بهم جميعاً.
وقد جاء الذين كفروا من قريش لإرادة قتل أو أسر جميع المهاجرين والأنصار إلى جانب خصوصية تنفرد بها واقعة أحد وهي أن الكفار عازمون على حجب توالي نزول آيات القرآن بإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنع الناس من الصلاة والصيام وأداء الفرائض ، فلذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ (اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض) ( ).
لذا فان معركة أحد هي أكثر معارك الإسلام التي ذكرت وقائعها في القرآن ، والمعارك التي خصت بآيات قرآنية ومنها آية البحث والسياق .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )ومعاني الخيبة التي رجعت فيها قريش من معركة أحد , أم أن القدر المتيقن من الآية هو ترشح الخيبة عليهم لما لاقوه يوم أحد من الضرر، وعجزهم عن الإضرار بالمسلمين.
الجواب هو الأول ، وهو من أسرار مجئ الآية أعلاه بصيغة المضارع [فَيَنْقَلِبُوا] لبيان تعدد وتجدد الخيبة التي تلحق الذين كفروا، وأن منها مصاديق تتوالى عليهم حتى بعد وصولهم مكة ، إذ يسمعون ما يؤذيهم من علو شأن الإسلام ودخول الناس فيه أفراداً وجماعات ، لتكون دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه كافة يوم أحد لينقلب الذين كفروا خائبين من جهات :
الأولى : اليقين بحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وانه لم يقتل في المعركة .
الثانية : مصاحبة قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] للمسلمين في حياتهم اليومية وحضوره في ساعة القتال، أما المصاحبة أعلاه فلوجوب قراءة المسلمين آيات وسور القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب بالنسبة لكل مكلف من المسلمين والمسلمات .
وأما بالنسبة لحضور دعوة الرسول عند المسلمين في ميادين القتال فمن وجوه :
أولاً : إدراك المسلمين لحقيقة أن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين فرع الوحي .
ثانياً : تجلي المنافع العظيمة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين .
ثالثاً : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في أخراهم واقية من الهزيمة والقتل والأسر .
فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن نداءً يصدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغير سير المعركة ويعيد رجحان الكفة إلى المسلمين، وفيه بعث للخيبة في نفوس الذين كفروا في ساحة المعركة وبعد الإنسحاب منها .
الثالثة : لم يعلم كفار قريش أن بطلان وكذب إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون وبالاً عليهم وسبباً لعودة المسلمين إلى القتال.
ويحتمل موضوع قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] :
الأول : خصوص معركة أحد وهو سبب النزول .
الثاني : إرادة الغزوات التي قادها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه .
الثالث : المقصود جميع غزوات المسلمين أيام النبوة، ومنها السرايا التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : بقاء دعوة الرسول تتجدد في أيام الإسلام .
والمختار هو الأخير وهو من ذخائر آية البحث من جهات :
الأولى : مجئ قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] بصيغة المضارع لإفادة الحال والمستقبل ، بينما جاء قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] بصيغة الماضي.
فلم تقل آية البحث : إذ دعاكم الرسول أو بعد دعوة الرسول لكم ).
وتبين آية البحث نكتة تتجلى بالتباين بين صيغة الماضي الذي يدل عليه الظرف (إذ ) وبين صيغة المضارع (يَدْعُوكُمْ) تفيد توقف فرار وصعود المسلمين من جهات :
الأولى : وقوف المسلمين على الصخرة على الجبل عند فرارهم، وهذا الوقوف من السكينة والطمأنينة المترشحة عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدق نيلهم مرتبة الجهاد، ورد بالإسناد عن زيد بن ثابت : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغشيته السكينة ، فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فخذي فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم سري عنه : فقال : اكتب . فكتبت في كتف[لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )، إلى آخر الآية . فقال ابن أم مكتوم – وكان رجلاً أعمى – لما سمع فضل المجاهدين : يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، فوجدت ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى ، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اقرأ يا زيد . فقرأت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اكتب[غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ]( ).
الثانية : عدم قصد المسلمين المدينة , إنما إنهزموا ووقفوا عن بعد عن المعركة بحيث يرون ما يجري وسط الميدان .
الثالثة : بقاء نفر من أهل البيت والصحابة يقاتلون حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع شدة ما فيهم من جراحات ، لبيان توقف الفرار من جهة أفراد جيش المسلمين .
الرابعة : دلالة قوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] على سماع المسلمين لنداء ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد يقال المراد أن الذين كانوا في آخر الفارين يسمعون دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع ليقوموا بتبليغ إخوانهم ممن إبتعد في فراره عن حد سماع صوت الرسول .
وستبقى دعوة الرسول مرآة لسنن القرآن وتفسيراً لها , وإصلاحاً وهداية للمسلمين .
وهل يحق للذين فروا من المعركة أن يفتخروا بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم في أخراهم أم أنها حجة تدل على قبح هزيمتهم وأن هذه الهزيمة تضاف إلى صيغ التنبيه واللوم الواردة في الآية السابقة من وجوه :
الأول : الفشل والجبن بقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ].
الثاني : التنازع والخلاف بين الرماة بدليل قوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] وبيان أن التنازع علة لحصول الهزيمة .
الثالث : معصية الرماة للرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم حينما تركوا مواضعهم ، ولما بينت الآية السابقة أن المسلمين يوم أحد على قسمين :
الأول : الذين يريدون الدنيا بجمع الغنائم .
الثاني : الذين إختاروا الآخرة بقوله تعالى[وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ]( ).
ترى ما هي مصاديق إرادة الآخرة بلحاظ الآية أعلاه، الجواب من وجوه :
الأول : القدر المتيقن من الآية خصوص أهل البيت والصحابة الذين حضروا معركة أحد، ولم ينسحبوا وسط الطريق مع رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول .
الثاني : إرادة النفر الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط المعركة يقاتلون دونه ، فقد قاتل الإمام علي عليه السلام ومصعب بن عمير وأبو دجانة وطلحة ونفر غيرهم دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتل مصعب بن عمير( ) يومئذ وأصابت الجراحات الصحابة .
واسم أبي دجانة سماك بن خرشة أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج شهد بدراً وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين عتبة بن غزوان وقد قاتل أبو دجانة بسيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال ابن أسحاق (َقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السّيْفَ بِحَقّهِ ؟ فَقَامَ إلَيْهِ رِجَالٌ فَأَمْسَكَهُ عَنْهُمْ حَتّى قَامَ إلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ ، أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ فَقَالَ وَمَا حَقّهُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ أَنْ تضْرَبَ بِهِ الْعَدُوّ حَتّى يَنْحَنِيَ قَالَ أَنَا آخُذُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ بِحَقّهِ فَأَعْطَاهُ إيّاهُ.
وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ رَجُلًا شُجَاعًا يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ إذَا كَانَتْ وَكَانَ إذَا أَعُلِمَ بِعِصَابَةِ لَهُ حَمْرَاءَ ، فَاعْتَصَبَ بِهَا عَلِمَ النّاسُ أَنّهُ سَيُقَاتِلُ.
فَلَمّا أَخَذَ السّيْفَ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَخْرَجَ عِصَابَتَهُ تِلْكَ فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ وَجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصّفّيْنِ .
قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَسْلَمَ ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حِينَ رَأَى أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ إنّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللّهُ إلّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ) ( ).
الثالث : ليس من ملازمة بين الهزيمة في القتال، وإرادة الدنيا وحب زينتها.
الرابع : موضوع إرادة الدنيا في آية البحث خاص بالرماة الذين تركوا مواضعهم .
والمختار هو الأخير لبيان لزوم التنزه عن جعل الغنائم والمكاسب الشخصية هي الغاية من القتال ، وفي الثناء على المؤمنين وبيان التجارة التي تنجيهم في الدنيا والآخرة قال تعالى [تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ] ( ).
المسألة الثانية والعشرون : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم في أخراكم ثم صرفكم عنهم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : لقد أخبر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول للناس جميعاً قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ) وأشهد الملائكة والناس على عموم رسالته وبيان موضوعها بالبشارة والإنذار.
لتكون هذه الشهادة مقدمة لنزول الملائكة لنصرته يوم بدر وأحد وحنين ، وحجة على الناس في لزوم التصديق بنبوته وإتباعه ، ولكن قريشاً إستكبروا وطغوا في الأرض فلم يكتفوا بالصدود عن دعوته بل قاموا بالتحدي والعناد والغزو لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونالوا من المسلمين جولة ، ولكنها صارت وبالاً على قريش أنفسهم.
وتلك آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإصابة أعدائه بالذل والهوان إذ إنهزموا في المعركة وخسروها كما في معركة بدر ، وكذا يصاب الذين كفروا بالذل حتى عندما يظهرون في جولة في معركة ، ويقتلون طائفة من المؤمنين كما في معركة أحد .
فلم تنته المعركة إلا وقد بيّن الله عز وجل ماهية إختتامها، وحال الفريقين عند إنتهائها بأن رجع المشركون خائبين كما في قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] .
ومن معاني الخيبة أنها لا تأتي إلا بعد أمل ، وبينها واليأس عموم وخصوص مطلق ، فكل خيبة هي يأس ، وليس العكس فقد لا يتقدم الأمل على اليأس في موضوعه .
وهل نزول آية البحث والسياق من أسباب عودة الذين كفروا إلى مكة بالخيبة والخسران ودلائل عجزهم عن تحقيق أي هدف وغاية من المعركة .
الجواب نعم ، فقد بينت آية البحث والسياق حال المسلمين أثناء المعركة والأذى الذي لاقوه ثم ذكرت إنتهاء المعركة بصرف الله عز وجل للمؤمنين عن الكافرين بقوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] ترى كيف يحارب فريق من الناس النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو رسول للناس جميعاً ، الجواب أنه بشير للمؤمنين ونذير للكافرين .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعدد البشارة والإنذار في ذاتها وجهتها وموضوعها ومصاديقها مع إتحاد جهة الصدور وأنها من فضل الله، فقد ورد في القرآن بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، وورد ذات المعنى والصفة بخصوص القرآن بقوله تعالى في الثناء على القرآن[كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( ).
وكانت معركة أحد بشارة وإنذاراً لبيان قانون وهو أن قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشارة وإنذار وليس من حصر وتقييد للجهة التي تتوجه لها البشارة أو الإنذار ، فما من فرد أو جماعة إلا وتتوجه إليهم البشارة منطوقاً جزاء والإنذار مفهوماً عند الإرتداد , أو العكس بأن يتوجه لطائفة الإنذار منطوقاً على إرتكابهم المعاصي والبشارة مفهوماً عند التوبة وعمل الصالحات .
لذا فان كلاً من آية البحث والسياق بشارة للمؤمنين , وإنذار للذين كفروا .
فان قلت إن قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] جملة خبرية تذكر قضية في واقعة ، وتبين حال المسلمين المجاهدين وفرار شطر منهم ، والجواب جاءت الوقائع في القرآن موعظة وعبرة.
ومن الإعجاز أهليتها لإقتباس الدروس منها، لتكون وقائع معركة أحد رسالة للناس جميعاً ينهل منها المسلمون المواعظ ، ويستنبطون منها المسائل ، وما ينير لهم مسالك الهدى ودروب التقوى .
الوجه الثاني : الثناء على المسلمين حتى في حال هزيمتهم وفرارهم بأن نسب الله عز وجل المبادرة في الإنصراف من ميدان المعركة لهم وليس لعدوهم , فمع أن الإنصراف من المعركة من عند الله بالوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد أخبرت الآية السابقة بأن الأمر توجه إلى المؤمنين يوم أحد لبيان أن حضورهم أمراً وجودياً وأنهم مستعدون لمعاودة القتال .
لقد كانت المبادرة في معركة أحد , وفي آخر ساعات النهار من يوم النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة بيد الذين كفروا فكيف يصدر الإنصراف من المسلمين ، والجواب من جهات:
الأولى : الآية وثيقة سماوية تأكد تبدل الريح وتغير سير المعركة في آخر ساعاتها بأن صارت للمسلمين، فاصبح بيدهم زمام المبادرة ولهم أن يستمروا بالقتال أو ينتهوا عنه.
الثانية : من الثابت تأريخياً بأن المسلمين لم يبدأوا القتال، لا في معركة بدر ولا أحد ولا الخندق ولا حنين، مما يدل على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف , وإنما انتشر بقوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وإنتشر بإقامة الصلاة من أداء الفرائض الأخرى، لذا ورد قوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( )، لبيان موضوعية حج بيت الله الحرام في الآيات الكونية والإرادة التكوينية والتشريعية.
الثالثة : صحيح أن أغلب المسلمين إنسحبوا إلى الصخرة وفروا في الطريق، إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من أهل بيته وأصحابه بقوا يقاتلون معه بثبات في الميدان , فتصدق نسبة الإنصراف إليهم , قال تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
الرابعة : لقد كان أمر المسلمين في القتال أو السلم أو المهادنة بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد إستجابوا لدعوته بالرجوع، وتدل آية البحث على إختياره الإنصراف وترك الذين كفروا يولون الأدبار، وتقدير آية البحث على وجوه:
الأول : ثم صرفك الله عنهم.
الثاني : ثم صرفكم الله عنهم.
الثالث : ثم صرفكم النبي عنهم، بلحاظ أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرع الوحي، وعن أمر الله عز وجل لذا تفضل سبحانه وقرن طاعة الرسول بطاعته، قال تعالى[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ) .
الوجه الثالث : كأن آية البحث تخبر المسلمين الذين إنسحبوا من وسط المعركة يوم أحد عن حقيقة وهي ليس بينهم وبين هزيمة عدوهم إلا رجوعهم إلى ميدان المعركة ، وفيه مسائل :
الأولى : من خصائص دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها من الوحي , ولما ذكرت الآية السابقة أن المؤمنين يحسون ويقتلون الذين كفروا يوم أحد بإذن الله ، كما في قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] أخبرت آية البحث عن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى المعركة , وتقدير الآية : والرسول يدعوكم في أخراكم بإذن الله ) .
وهذا المعنى من إعجاز القرآن وبيان قانون وهو مصاحبة إذن الله للمؤمنين في بداية وأثناء ونهاية معركة أحد .
الثانية : بعث السكينة والطمأنينة في نفوس الصحابة بأن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم خير محض لأنها بإذن الله عز وجل ، وهل هذه الدعوة وسط الميدان من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
ويحتمل الجواب وجوهاً :
الأول : إنه مما جاء به الرسول للمسلمين .
الثالثة : غزو الرعب قلوب الذين كفروا , وإسقاط ما في أيديهم، فحالما يرجع المؤمنون حتى يصاب عدوهم بالفزع ويستولي عليه اليأس من تحقيق نصر على المؤمنين ، وهو الذي تجلى حقيقة بفزع ابي سفيان وأمره بالإنسحاب من أحد بعد كلمات من الوعيد لا أصل لها .
ومن الإعجاز في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد حضورها في معارك الإسلام اللاحقة ليصبح قانوناً في معارك الإسلام يتقوم بأطراف :
الأول : حرص المسلمين على الثبات في المعركة .
الثاني : إستحضار دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمجاهدين وفيوضاتها وكيف أنها صارت سبباً في نسبة الإنصراف من القتال وإيقاف طاحونته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لبيان أنه لم يرغب في القتال إبتداءً وإستدامة.
الثالث : إذا إنهزم من المسلمين فرد أو جماعة في معركة لاحقة على معركة أحد , ونزول آية البحث , فأنهم يذكرون دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالرجوع ، فيتحدون للقتال ، وهو من الإعجاز في جعل قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]آية قرآنية وتلاوة المسلمين لها كل يوم في الصلاة الواجبة ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
وتفضل الله على المسلمين في المقام من جهات :
الأولى : التوثيق السماوي لوقائع ومعارك الإسلام الأولى وذكرها في القرآن بالبيان .
الثانية : تلاوة المسلمين لأخبار معارك الإسلام وجهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الأوائل ، وهو من مصاديق [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( ).
الثالثة : تفضل الله عز وجل بهداية النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمرين متلازمين :
الأول : الثبات في الميدان .
الثاني : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى المعركة .
الرابعة : تلقي المسلمين آيات القرآن وما تذكره من الوقائع والأحداث بالتصديق والتدبر .
الخامسة : تلاوة الآيات التي تثني على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة ، لأنه ثناء على المسلمين والمسلمات جميعاً .
وهل يصح القول بأن دعوة الرسول لأصحابه المنهزمين كأنها دعوة من المسلمين والمسلمات جميعاً في أجيالهم المتعاقبة ، الجواب نعم بتقدير : والرسول يدعوكم ليصرفكم الله عنهم ) لتكون السنة طريقاً ومقدمة لفوز المسلمين بفضل الله عز وجل , وفي قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ]مسائل :
الأولى : وقف القتال أفضل وأحسن من ذات القتال ، وهل ينحصر هذا الحسن بخصوص طرف واحد ، الجواب لا ، إنما هو شامل لأطراف القتال ، لذا ورد قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) على نحو الإطلاق، وإن كان موضوع الآية أعلاه بخصوص الإصلاح بين الزوجين , ويستقرأ من صيغة الجملة الإسمية والمبتدأ والخبر أنه عام .
الثانية : عجز الكفار عن مواصلة القتال وإصابتهم بالذعر يوم أحد عندما علموا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي يرزق ورأوا أصحابه يجتمعون حوله ويعيدون تنظيم صفوفهم، ليستحضر الذين كفروا بدايات المعركة وكيف أن المسلمين أخذوا بقتلهم وتشريدهم.
الثالثة : مع أن الكفار هم الذين زحفوا للقتال في معركة أحد فقد عجزوا عن تولي زمام المبادرة في القتال.
ومن مدرسة الحجج في النبوة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج للقاء الذين كفروا إلا حين صاروا عند أطراف المدينة ، مع أن أخبار مسيرهم تصل إليه من حين خروجهم من مكة المكرمة .
كما أنه قام بجمع أصحابه وإستشارتهم بالخروج أو البقاء وقتالهم في المدينة , وتلك آية في توثيق الواقعة وتفاصيلها وتأكيد أن النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه كانوا في حال دفاع عن الرسالة والتنزيل وعن النفوس والأعراض والأموال .
وهل كانوا في حال دفاع عن اليهود الذين كانوا يسكنون معهم في المدينة من بني قينقاع والنضير وقريظة , الجواب نعم لإتصاف العرب آنذاك بالغزو والنهب ولصيغة التشبيه في قوله تعالى [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] ( )، وهو من مقدمات أحكام الذمة وصيرورتهم في ذمة الإسلام وحفظهم في أنفسهم وأموالهم.
لقد بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن المشركين أقبلوا من مكة ونزلوا بجبل مطل على المدينة إسمه (عينين).
ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا قصها على أصحابه يتعلق تأويلها بالمعركة ثم قال (إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
وكان رأي عبد الله بن أبى بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ألا يخرج إليهم.
فقال رجال من المسلمين، ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا.
فقال عبدالله بن أبي: يا رسول الله لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من بني النجار يقال له مالك ابن عمرو، فصلى عليه ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن لنا ذلك.
فلما خرج عليهم قالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد.
فقال: ما ينبغى لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه)( ).
وأخبرت آية السياق عن قيام المؤمنين بحس وقتل الذين كفروا في بدايات معركة أحد ، ولكن الرماة نزلوا من الجبل خلافاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحصل الفشل والتنازع والمعصية وعانى المسلمون من الإنكسار، وسقط منهم شهداء فتفضل الله عز وجل وصرفهم عن المشركين ليدل قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ]على حقيقة وهي أن الله عز وجل لم يترك المسلمين وشأنهم حتى في حال الجبن والخور والمعصية لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
إذ تتغشاهم رحمته , وفضله نازل إليهم بصيغ متعددة ومستمرة وأخرى متجددة .
الرابعة : لقد إبتدأت آية السياق بالخطاب العام للمسلمين [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] ولغة الخطاب شاملة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين جميعاً ، فان قلت آية السياق معطوفة على قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) بينما يشمل الخطاب في آية السياق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فهل يكون من عطف العام على الخاص ، الجواب لا تصل النوبة إليه إنما يتجلى المعنى الأعم والتشريف للمسلمين بشمول الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمجئ الوعد للمسلمين بواسطته، ونزول القرآن على صدره.
وفي النهي من طاعة الذين كفروا ورد قوله تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
ثم جاء قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] لبيان أن قيام عدد من المسلمين بقتل طائفة من الذين كفروا وكأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين حضروا تحت لوائه معركة أحد قد إشتركوا بقتل الذين كفروا .
فيأتي الثواب للرماة مثلاً مع أنهم على الجبل يمنعون مجئ خيل الذين كفروا من خلف جيش المسلمين ، وفيه حجة على الرماة بلزوم الصبر والمرابطة على الجبل ، وعدم ترك مواضعهم والنزول منه ، وهذا الثواب أعظم مرتبة ونفعاً من الغنائم التي نزلوا من أجلها ، ليكون من معاني قوله تعالى في آية السياق [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] وجوه :
أولاً : منكم من يريد الدنيا فتحصل الخسارة والإنكسار في جيش المسلمين .
ثانياً : حتى إذا فشلتم لأن منكم من يريد الدنيا .
ثالثاً : حتى إذا تنازعتم في الأمر لأن منكم من يريد الدنيا .
رابعاً : حتى إذا عصيتم لأن منكم من يريد الدنيا .
خامساً : منكم من يريد الدنيا ففشلتم .
سادساً : منكم من يريد الدنيا فتنازعتم في الأمر.
سابعاً : منكم من يريد الدنيا فعصيتم في الأمر.
لبيان أن جعل الغنائم والنفع الشخصي هو الغاية يفوت على المسلم طاعة الله والرسول في ذات الموضوع خاصة وليس مطلقاً .
لتتجلى طاعة المسلمين لله بالأهم وهو أداء الفرائض والخروج للجهاد في سبيل الله .
ثامناً :ومنكم من يريد الآخرة فيفوز بالدنيا والآخرة ) وهذا قانون عام يصاحب الناس في الحياة الدنيا ، وهو أن طلب الآخرة طريق ومقدمة لجلب المنافع في الدنيا.
عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد الخيف فحمد الله وذكره بما هو أهله ثم قال : من كانت الآخرة همه جمع الله له شمله , وجعل غناه بين عينيه وأتته الدنيا وهي راغمة , ومن كانت الدنيا همه فرق الله شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يؤته الدنيا إلا ما كتب( ).
تاسعاً : ومنكم من يريد الآخرة فلم يفشل ولم يعص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
عاشراً : ومنكم من يريد الآخرة يوم أحد فخر شهيداً في سبيل الله .
الحادي عشر : ومنكم من يريد الآخرة فيبقى يقاتل في الميدان ) ولا يعني هذا أن الذي يريد الدنيا من المسلمين الذين إشتركوا في معركة أحد غادروا الميدان ، ولا دليل على أن النسبة بين الذين يريدون الدنيا وبين الذين فروا من المعركة وذكرتهم آية البحث بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] هي التساوي .
الثاني عشر : ومنكم من يريد الآخرة فيكون حجة على الذي يريد الدنيا ومنافعها .
وأخرج ابن عساكر والديلمي عن عطية بن يسر مرفوعاً (في قوله[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، قال « علم الله في تلك الأسماء ألف حرفة من الحرف , وقال له : قل لولديك وذريتك يا آدم إن لم تصبروا عن الدنيا فاطلبوا الدنيا بهذه الحرف ، ولا تطلبوها بالدين فإن الدين لي وحدي خالصاً، ويل لمن طلب الدنيا بالدين ويل له)( ).
والحديث ضعيف سنداً ودلالة فالأسماء غير الحرف والمهن وطلب الدنيا بالدين على فرض ثبوته ذو وجوه .
وهل قوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا] أن هؤلاء المؤمنين الذين نزلوا من جبل الرماة طلباً للغنيمة وسعياً لجمعها ممن طلب الدنيا بالدين ، الجواب لا ، لأن الآية معطوفة على النداء بصيغة الإيمان ، وفيه تنزيه لهم بطلب الدنيا بالدين .
وتقدير الآية السابقة : يا أيها الذين آمنوا منكم من يريد الدنيا) أي أنه مؤمن قبل طلب الدنيا وعند طلبها وبعده ، لم تغير الدنيا من سنخية إيمانه .
وإرادة الدنيا أعم من نيل زينتها وحيازة مباهجها ، وتدل عليه الآية السابقة، وآية البحث إذ تعذر على المؤمنين يوم أحد الفوز بالغنائم .
بينما خرجوا في معركة بدر يريدون العير المحملة بالبضائع والتجارات كما في قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ]( ).
لبيان أنه إذا تعارضت إرادة طائفة من المسلمين الدنيا ، وما يريده الله عز وجل فان إرادة الله هي الغالبة , وفيها خير الدنيا والآخرة للمسلمين .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن لفظ [الشَّوْكَةِ] لم يرد في القرآن إلا فيها للدلالة على إنقطاع تجارة قريش [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) ليبدل المؤمنين منهم الله عز وجل بكنوز الأرض ، مع تجارات عامة منها الرحلة بين الشام واليمن .
الثالث عشر : ومنكم من يريد الآخرة , وفيه شهادة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقيامه بالتبليغ والإنذار ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ).
الوجه الثالث : لم تختتم آية السياق حتى بينت كيفية إنتهاء المعركة بما يقطع ببقاء العز للمسلمين ، وإمتناعهم عن الهزيمة والإنكسار ، إذ ذكرت الآية صرف الله عز جل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عن العدو، وتفضله بالعفو عنهم بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ].
وجاءت صيغة الإجمال في خاتمة الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] لتأكيد إنتفاء الحصر لوجوه وأفراد الفضل التي يتفضل بها ومنها آية البحث التي جاءت متعقبة لآية السياق في نظم وترتيب آيات القرآن , وهل هي متعقبة لها في النزول أيضاً , الجواب لا دليل عليه .
ومن الإعجاز في آية السياق نسبة إنتهاء المعركة إلى الله عز وجل بصرفه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن المشركين ، وفيه مسائل :
الأولى : إرادة الرفعة والشأن عز الدنيا والآخرة للمؤمنين وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثانية : نسبة الإنصراف للمسلمين مانع من دعوة خسارة أو هزيمة المسلمين في المعركة.
الثالثة : أهلية المسلمين لخوض معركة أخرى وإن وقعت بعد معركة أحد مباشرة، وقد أعلن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إستعداده والمؤمنين لمناجزة الذين كفروا دفاعاً عن المدينة والذراري .
قال ابن إسحاق: ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ اُخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَا يُرِيدُونَ فَإِنْ كَانُوا قَدْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ مَكّةَ ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ .
وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ فِيهَا ، ثُمّ لَأُنَاجِزَنّهُمْ .
قَالَ عَلِيّ : فَخَرَجْت فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ فَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ ( ).
فان قلت قد ثبت تأريخياً أن أبا سفيان وجيش قريش هم الذين إنسحبوا من المعركة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال في موضعه فكيف تكون نسبة الإنصراف للمسلمين , الجواب إرادة الآية بيان مصداق لخاتمتها [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]من جهات :
الأولى :أهلية المسلمين للمرابطة والمطاولة في القتال .
الثانية : لقد دخل المسلمون معركة أحد بشوق وإرادة نيل الثواب ولحقتهم الخسارة والجراحات ، ليبين بقاؤهم في موضع القتال إستدامة ذات الشوق ، وعدم دبيب اليأس إلى نفوسهم .
الثالثة : لما كان قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي فان بقاءه صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة لحين إنسحاب المشركين من مصاديق خاتمة الآية , وتقديره على وجوه :
أولاً : والله ذو فضل على المؤمنين بأن إنتهت المعركة وهم في مواضعهم وسط الميدان .
ثانياً : والله ذو فضل على المؤمنين بأن كانوا حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند إنسحاب الآلاف من جيش المشركين .
ثالثاً : والله ذو فضل على المؤمنين بأن الرسول [يدعوكم] للعودة إلى ساحة المعركة لأن العدو يهّم بالإنسحاب والهزيمة ، قال تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ] ( ).
إذ تدل الآية أعلاه على وقوع القتال , ولكنهم لا يستمرون فيه لأن الله عز وجل ملأ قلوبهم بالرعب والفزع .
رابعاً : والله ذو فضل على المؤمنين بذكر وتوثيق فضله عليهم في آية السياق لبيان دفع الخسارة عنهم ، ومنع مضاعفة القتل في صفوفهم .
الرابعة : نزول القرآن بحقيقة، وهي قدرة المسلمين على القتال في معارك لاحقة ، فقد توعدهم أبو سفيان عند مغادرته أحداً (ان موعدكم بدر للعام القابل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل من اصحابه قل نعم هو بيننا وبينكم موعد) ( ).
ليكون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا من مصاديق وتفسير قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] وفيه حث للناس على دخول الإسلام بأن يتوافق التنزيل والسنة والواقع الفعلي .
وإذ ضرب المشركون ذات الوقت من العام التالي موعداً للقاء والقتال ، فان المسلمين مستعدون لتجدد اللقاء في ذات يوم معركة أحد لقوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ].
فان قلت إذا كان المعنى هو علو ورجحان كفة المسلمين يوم أحد , فلماذا لم يستمر القتال ، والجواب من وجوه :
أولاً : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين فلم يقتل المشركين إلا لما فيه إنزجارهم .
ثانياً : علم الله عز وجل بادراك التوبة لقريش ودخولهم في الإسلام .
ثالثاً : علم الله عز وجل بفتح مكة من غير قتال ، وتقدير آية السياق : ولقد صرفكم عنهم لتفتحوا مكة من غير قتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
رابعاً : أختتمت آية البحث ببيان فضل الله على المؤمنين، وفيه جعل الذين كفروا عاجزين عن الإضرار بالإسلام , وكأنهم قد قتلوا فعلاً إلى حين توبتهم، وهذا المعنى من الإعجاز في قوله تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ] ( )أي ليس ميتاً بالكفر وحده ، بل ميتاً في شل يده عن الإسلام والمسلمين بعد أن خاض المعارك ضدهم لذا حين توعد وهدد المشركون وضربوا بدر الصغر ى موعداً للقتال في العام التالي تخلفوا عنه ولم يخرجوا للقتال .
ومن الشواهد على صدق نزول قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ]أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى بدر عند حلول الموعد في العام التالي ، ولكن أبا سفيان خرج إلى مكة وسار في الطريق ثم رجع بذريعة أنه عام جدب , ولكن القرآن يفضحهم وهو حجة عليهم ، إذ كانت أموالهم تأتيهم من التجارة ونقل البضائع بين الغرب والشرق بين الدولة الرومانية والفارسية بعد إنقطاع طريق العراق الشام.
فكانت قريش تأخذ البضائع من الشام إلى اليمن وبالعكس ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ) فجحدت قريش بعبادة الله عز وجل مع أنهم مجاوروا البيت الحرام وأنفقوا أموالهم في محاربة الله ورسوله وهي أشد ضروب المعصية فابتلاهم الله بالعوز وجعلهم قاصرين عن تمويل وميرة الجيش .
ومعنى البدر هو القمر لتمامه وقيل لأنه يبادر عند الغروب طلوع الشمس ، والبدري من المطر : ما يأتي قبل الشتاء
وفي الآية إخبار للناس جميعاً بأنه إذا إنهزم المسلمون يبتعدون عن وسط الميدان كثيراً ويتجلى هذا الإخبار بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ].
الوجه الرابع : على فرض الجمع المتقدم في أول هذه المسألة فان مجئ [ثم] في [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ]تفيد التراخي بين دعوة الرسول وصرف المسلمين عن الذين كفروا .
وحتى مع عدم فرض هذا الجمع فان سياق الآيات يدل عليه أيضاً .
ومن معاني الجمع بين الآيتين الإخبار عن عودة المسلمين لميدان المعركة لأن الصرف يأتي بعد الرجوع ، ومعنى الصرف (في اللغة: الدفع والرد) ( ) فلولا أن الله عز وجل رد الذين آمنوا عن المشركين لهزموهم كما هزموهم في معركة بدر ولكن الله عز وجل خفف عن المسلمين ورضي منهم الخروج إلى معركة أحد وصد المشركين عن غزو المدينة مع تقريب الذين كفروا من منازل الإيمان بالموعظة ،وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) .
وهناك تباين وتضاد بين صرف المؤمنين من عند الله وبين هزيمتهم ، فلابد من تحقق عودتهم إلى ميدان المعركة ، وهو من الدلائل على قانون وهو :
(لا تذهب دعوة الرسول سدى ).
فلابد لها من مستجيب ، مع التعدد في الإستجابة ، وهذا القانون من دلائل الإعجاز على تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرسول في آية البحث ، وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي وليس العكس .
وجاء قبل آيات الإخبار عن قتال الأنبياء وأصحابهم في سبيل الله بقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ( )بينما ورد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة قبله بآيات بقوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( ).
وهل يصح تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم ليصرفكم عنهم ) الجواب نعم .

المسألة الثالثة والعشرون : والرسول يدعوكم ليبتليكم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : جاءت دعوة الرسول مقيدة بقوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] ليخرج بالتخصيص أهل البيت والصحابة الذين لم يفروا ولم ينهزموا , فهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوله وليس من الذين سبقوا إلى الهزيمة أو أبطأوا وتأخروا في القتال ثم لحقوا بهم .
وهل يصح تقدير الآية وموضوعها من غير هذا القيد ، ويتم تفسير الآية على نحو الإطلاق [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] الجواب نعم ، وفيه ذخائر من العلم من جهات :
الأولى : حضور دعوة النبي للمسلمين في كل حال .
الثانية : كما يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين إنهزموا من المعركة إلى العودة إليها فانه يدعو الذين بقوا يقاتلون وسط الميدان للصبر وبذل الوسع في القتال ، وهذه الدعوة على وجوه :
الأول : الدعوة القولية كما ورد عن سعيد بن أبي وقاص (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم أحد : أنبلوا سعد ، أرم يا سعد رمى الله لك ، فداك أبي وأمي) ( ) وورد الخبر عن سعيد بن أبي وقاص نفسه .
وكان أبو طلحة الأنصاري رامياً قاهراً ، وكان يقاتل بين يدي الرسول وإذا مر أحد المسلمين ومعه الجعبة التي فيها السهام يقول له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنثرها لأبي طلحة .
الثاني : الدعوة الفعلية فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطي النبال لأصحابه وأعطى سيفاً للإمام علي عليه السلام وسيفاً لأبي دجانة .
(أَنّ رِيحًا هَبّتْ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَسَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ
لَا سَيْفَ إلّا ذُو الْفَقَارِ … وَلَا فَتَى إلّا عَلِيّ) ( ).
الثالث : الدعوة التقريرية بإمضاء النبي لضروب مشرقة من جهاد المؤمنين .
وهل كانت دعوة الرسول متحدة أم متعددة الجواب هو الثاني.
الثالثة : كما تأتي دعوة الرسول إبتداء بخصوص الموضوع أو الحكم ، فإنها تأتي تداركاً وإصلاحاً للأمور كما في آية البحث ، فقد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بداية المعركة بتعيين مواضع أصحابه ، وهيأهم للقتال والدفاع ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) وعندما إشتد القتال وحصل الخطأ من الرماة , وإنهزم أكثر جيش المسلمين تجلت معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : لم ينهزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المعركة .
الثانية : لم يسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكتفي بمن حوله من أصحابه إنما كانت رسالته إصلاح الجميع , وتعاهد إيمان أصحابه .
الثالثة : لم ينشغل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه في ساعة الشدة وإقتراب العدو منه وإصابته بالجراحات والكلوم في رأسه ووجنته مع سقوط أسنانه الأمامية بل توجه إلى أصحابه يدعوهم ، ولولا آية البحث لم يطلع المسلمون على هذه المعجزة .
الرابعة : إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار آية البحث عن دعوته للمؤمنين من المهاجرين والأنصار ، وتقدير الدعوة بأنها في أخراهم أي من وراء ظهورهم وأنه باق في الميدان .
ومن الإعجاز في لفظ [فِي أُخْرَاكُمْ]حث المؤمنين الذين فروا من المعركة للمناجاة بينهم للعودة إليها والتفاني في سبيل الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( )لبيان أن معنى البر عام يشمل الإستجابة للرسول ، والعودة إلى قتال الذين كفروا وهو من مصاديق التقوى والخشية من الله .
الخامسة : نزول القرآن تعضيداً ومدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] ليقتدي به أمراء السرايا وصارت دعوة النبي لأصحابه في معركة أحد قانوناً في السرايا والأفواج والجيش الإسلامي .
إذ يتفاخرون بهذه الدعوة وينتفعون منها ، وهل يختص نفعهم من الآية بموضوع السلامة الهزيمة يوم أحد وحده ، الجواب لا ، إنما هذه الدعوة زاجر عن الهزيمة ، ومقدمة للإمتناع عنها ، وبرزخ دون طروها في الوجود الذهني .
الوجه الثاني : تفيد اللام في [لِيَبْتَلِيَكُمْ] معنى التعليل , ويكون علة دعوة الرسول إبتلاء وإمتحان المؤمنين ، ومع أن متعلق لام التعليل هو مضمون الآية السابقة وصرف المؤمنين عن الذين كفروا ، فان الجمع بين الآيتين لا يتعارض مع المعنى الأصلي , ودلالة الآية السابقة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، ويتجلى الإبتلاء والإختبار بدعوة الرسول للمسلمين بالعودة إلى ميدان المعركة من وجوه :
الأول : الإمتحان بالإستجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأشد حالات الإستجابة التي تكون في القتال والرجوع إلى ميادين القتال نعم أشد منها الدعوة إلى مبارزة الأعداء , وفي معركة بدر وعندما إلتقى الصفان ، خرج من صف الذين كفروا ثلاثة من فرسانهم هم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وإبنه الوليد بن عتبة ، وطلبوا أن يخرج لهم من صف المسلمين من يبارزهم ، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار وهم عوف ومعاذ إبنا الحارث وعبد الله بن رواحة فسألهم الوليد وهو بين أبيه وعمه : من أنتم ؟
فقالوا : رهط من الأنصار ، وفي جوابهم ، وتسمية أنفسهم بالأنصار إظهار للإيمان وحسن التوكل على الله وإغاظة للذين كفروا وتعريض بهم لأنهم أهل وعشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع هذا طردوه ثم جاءوا ليقاتلوه ومن هاجر معه أو آواه ونصره , ولم ينتسبوا الى الأوس والخزرج بل أعلنوا غبطتهم بالإنتساب للإسلام , وشوقهم للقاء الله بهذه الصفة والنسب التشريفي .
وعن ابن عقبة وابن عائذ وكذا ابن سعد الذي قال(فاستحيي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من ذلك، وكره أن يكون أول قتال لقي المسلمون فيه المشركين في الأنصار، وأحب أن تكون الشوكة لبني عمه وقومه، فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم، وقال لهم خيراً. ثم نادى منادي المشركين: يا محمد، أخرج لنا الأكفاء من قومنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: يا بني هاشم، قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم، إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله) ( ).
ولا دليل أو خبر عن أهل البيت والصحابة على هذا الإستحياء وما ترشح عنه .
ومن الآيات أن الأنصار الثلاثة لم يذكروا إنتسابهم إلى قبائلهم وإلى مدينة يثرب بل قالوا نحن من الأنصار ، مما يدل على شيوع هذا الاسم ومعرفة قريش به وأن أخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تصل إلى مكة على نحو التفصيل ، فلم يجيبوا ما معنى الأنصار ؟ أو يطلبوا منهم الإنتساب من جديد إلى قبائلهم ، بل إكتفوا بالقول : ما لنا بكم من حاجة .
ثم نادوا : يا محمد أخرج لنا أكفاءنا من قومنا ولعلهم إستحيوا وندموا على إعادة الأنصار الثلاثة وهو شباب ولم يسألوا مبارزة أشخاص بعينهم ، إنما سألوا الإكفاء من قريش ممن هاجر إلى المدينة وفيه نوع تحد وبيان بأنهم جاءوا للإنتقام .
عندها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار الثلاثة بالعودة إلى مصافهم والرجوع إلى مواضعهم ليرى الذين كفروا تقيد وطاعة أفراد جيش الإسلام بأوامر ونواهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وليكون مقدمة لواقعة أحد فيسلم الذين كفروا بانه إذا دعى الرسول أصحابه إلى ميدان المعركة فأنهم يبادرون إلى العودة والرجوع من غير إبطاء أو تأخير ، ليكون تقدير آية البحث : والرسول يدعوكم كما دعاكم يوم بدر ، فكان في دعوته وإستجابتكم لها النصر المبين .
وهل تقدير آية ببدر : ولقد نصركم الله ببدر بدعوة الرسول وإستجابتكم لها وأنتم أذلة ) الجواب نعم وهو من مصاديق وأسباب النصر .
وتطلع الجيشان إلى أمر وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كيف سيجيب الذين كفروا ، فقال : قم يا عبيدة بن الحارث ، قم يا حمزة ، قم يا علي .
وكان علي عليه السلام (مُعْلِمًا بِصُوفَةٍ بَيْضَاءَ) ( ).
لقد كان يوماً مشهوداً أن برز من الفريقين رجال من قريش تربط بينهم أوثق أواصر القربى والنسب والتأريخ التليد ، وإذ إلتقى أبناء البلدة الواحدة في بلاد الغربة أظهروا المودة والغبطة باللقاء فكيف وهؤلاء ذوو قربى , ولكن كان بينهم السيف والمبارزة لأن الإسلام فيصل بين الناس ، ومائز بين الحق والباطل ، وهذا المعنى في لقاء ثلاثة من أهل البيت مع ثلاثة من كفار قريش يوم بدر من مصاديق الفرقان في قوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
كانت المبارزة بين ثلاثة من المسلمين وثلاثة من الكافرين , ولكن أعناق الجيشين إشرأبت وإنقطعت الأنفاس ، وأدرك كل واحد من طرفي النزاع أنها ساعة تغيير التأريخ .
فنزل المدد من عند الله سبحانه بأن نصر علياً وحمزة وعبيدة ، وهذا المدد غير مدد الملائكة الذين نزلوا يومئذ وأعظم وأسرع منه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ( ).
الثاني : من مصاديق قوله تعالى [الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]تجلي معاني الأمن والسلامة في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين جميعاً ، وهو الذي تحقق مصداقه في الواقع فلم يقتل عدد من المسلمين حين عودتهم إلى ساحة المعركة ، لتكون هذه الدعوة من مصاديق وعمومات قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( )بتقريب أن أمر الله عز وجل للنار بعدم إيذاء إبراهيم نعمة عظمى تتجدد مصاديقها حيث يشاء الله ، لعدم مغادرة النعمة التي ينزلها الله إلى الأرض فضلاً منه تعالى وإحساناً ، وجاء الأمن بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه يتغشاهم جميعاً .
الثالث : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع بلاء وحزن وفزع للذين كفروا .
لقد إنهزم الذين كفروا يوم بدر ولم يقفوا إلا عند دخول مكة ولم يهدأ روعهم أبداً لعمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]ومصاحبة الخوف والرعب لهم في الحل والترحال .
وفي علم الكلام يفصل بين الحزن والخوف , وتعلق الأول بما فات من المصلحة ، والثاني بما يخشى منه ، وتبين آية البحث إجتماعهما في موضوع متحد ، فما أن علم الذين كفروا من قريش بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ودعوته أصحابه إليه وإحاطتهم به حتى أصابهم الحزن على خسارتهم ، وعدم تحقيق أي غاية من الغايات التي أعدوا لها مدة أحد عشر شهراً وأنفقوا من أجلها الأموال الطائلة .
وأصابهم الرعب والفزع من المائز والفارق بينهم وبين المؤمنين فلم ينهزم المسلمون من الميدان , ولم يرجعوا إلى المدينة مع أنها لا تبعد عنهم إلا بضعة كيلو مترات بل عادوا إلى ميدان المعركة .
الوجه الثالث : يتضمن قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الجهة الأولى : تصديق وتسليم المسلمين , وهم في ميدان القتال برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه نبي مبعوث من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَبْتَلِيَكُمْ]بلحاظ أن الإنسان يكون أكثر جزعاً وتجرداً حال القتال ، ويطلب النجاة والسلامة ويجحد بأسباب وموضوع القتال ، وتنفر نفسه من الذين جاءوا به إلى ميدان القتال ، وإن كانوا قادته ورؤساءه إلا أهل الإيمان الذين يقاتلون في سبيل الله .
وتبين من آية البحث والسياق أن قتال المسلمين حاجة دفاع وأن قتالهم في سبيل الله وكأنهم في روضة ناضرة من رياض الجنة لذا تفضل الله وأعانهم وأمدهم بجنود من الملائكة .
ومن إعجاز القرآن أن كلاً من آية البحث والسياق مدد للمسلمين يوم أحد وما بعده ولولا هذه الآيات لما حقق المسلمون الإنتصار الساحق والسريع على هوازن وثقيف يوم حنين لذا شّرعنا قانوناً إسمه (الآية القرآنية مدد)( )، وليس من حصر لمواطن المدد والنفع الخاص والعام من الآية القرآنية .
فتأتي الآية القرآنية بخصوص القتال كما في آية البحث والسياق ولكن الإنتفاع منها شامل لحال المسلم والصلح والمعاملات والأحكام ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني على كل مكلف ومكلفة , ومنها تلاوة آية البحث والسياق وما فيهما من الدلالة على وجوب طاعة الله ورسوله حتى في أشق الأحوال.
ولا تتعارض مع هذا الوجوب أحكام الضرورة التي تقدر بقدرها .
وهل كان فرار أكثر المؤمنين يوم أحد عن ضرورة وإنقطعت بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالعودة إلى القتال ، الجواب لا ، إذ تبين آية السياق العناية الإلهية بالمؤمنين , وتفضل الله بتنجز وعده حال بداية القتال بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ]
وجاءت البشارة بصدق وعد الله بعد آية إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا والإخبار عن سوء عاقبتهم بالإقامة الدائمة في النار فهل إلقاء الرعب في قلوبهم من مصاديق تحقق وعد الله عز وجل ويكون تقدير آية السياق : ولقد صدقكم الله وعده فيلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ).
الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في نظم الآيات وليترشح الرعب الذي يصيبهم من جهات :
الأولى : مجئ الرعب من عند الله ، وليس من واسطة في نفاذه إلى قلوب الذين كفروا .
الثانية : نزول آية السياق وتكون موضوعيتها من وجوه :
أولاً : كيفية نزول الآية وحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند تلقيه الآية إذ كان يتصبب عرقاً في اليوم البارد .
ثانياً : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية وأمره بكتابتها وتدوينها.
ثالثاً : تلقي المسلمين نزول الآية القرآنية بالغبطة والسعادة والتدبر ويقومون بتلاوتها وتدارسها , ومنها آية السياق وكان بعضهم يسأل بعضاً كل يوم هل نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء هذا اليوم ، وفيه بعث للرعب والفزع في قلوب الذين كفروا لما يدل عليه من إنجذاب المسلمين للتنزيل .
رابعاً : إقتران آية السياق بأسباب لنزولها والتسالم على أن موضوعها هو معركة أحد ، ويدل إخبار الآية عن فشل المؤمنين وتنازعهم في الأمر ومعصيتهم للرسول على حاجتهم للتنزيل لأنه سكينة وحكمة وعلم ، وفيه لغة الحجة والبرهان التي تتضمنها كل آية قرآنية .
الثالثة : يبعث تجلي مصاديق ورشحات السكينة على المؤمنين قبل وأثناء وبعد القتال الرعب في قلوب الذين كفروا .
ومن خصائص وفنون القتال أن كل طرف في المعركة يرصد الطرف الآخر ويلحظ حركته وفعله ، وفي معركة بدر مثلاً جاءت قريش بتبختر وإصرار على القتال وإستخفاف بالمسلمين إذ إطلعوا عليهم ورأوا قلة عددهم ، والنقص في عدتهم وأسلحتهم .
وحينما وصلت قريش إلى موضع بئر بدر وإستقروا بعثوا شخصاً إسمه عمير بن وهب الجمحي ، وأمروه بأن يحصي أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فطاف حول معسكر المسلمين بحيث يراهم , ولم يرمه المسلمون بالنبال لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الإبتداء بالقتال .
فرجع إلى قريش وقال لهم إن عدد أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو (ثَلَاثُ مِئَةٍ رَجُلٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ) ( ).
ثم إستدار مرة أخرى وإبتعد عن المعسكرين وضرب في الوادي للتأكد هل هناك كمين أو مدد للمسلمين ثم رجع , وقال : ما وجدت شيئاً فليس من كمين أو مدد للمسلمين فأطمأنت قريش لتفوقهم بالعدد وهم ثلاثة أضعاف المسلمين ، وكانوا يعلمون بالنقص في أسلحة وخيل وعدة المسلمين ، ولم يعلموا أن مدد المسلمين لا عين رأت ولا أذن سمعت كثرة وبأساً ، إذ ينزل الملائكة لنصرتهم والقتال معهم وإلى جانبهم ، قال تعالى بخصوص معركة بدر [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ) .
ولكن عميراً هذا لم يقف عند ذكره لقلة عدد المسلمين وعدم رؤيتهم الكمين والمدد بل نادى (ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ! ؟ فرأوا رأيكم ) ( ) .
وهل قوله هذا من مصاديق ورشحات الآية قبل السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] .
الجواب نعم ، ولا يتعارض مع معناه نزول الآية أعلاه في معركة أحد مع أن معركة بدر وقعت قبل معركة أحد بأحد عشر شهراً .
لقد أراد زجر قريش عن الإستخفاف بالأنصار ، ومنهم من نعتهم بالمزارعين والنواضح وأنهم مشغولون بالسقي والحرث عن القتال ، فإن الإسلام يغير الحال نحو الأحسن والأسمى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
لقد شهد العدو للمسلمين بالصبر والجرأة والتحدي والإقدام على الحتوف ، وفيه حجة على قريش بأن يأتيها الإنذار من بينهم ولم يقل له بعضهم إنا أرسلناك عيناً لترى هل من مدد لهم ، لا أن تثني على الأنصار ، فمشى حكيم بن حزام بين رجالات قريش لصرفهم عن القتال لإنتفاء المقتضي بسلامة قافلة وعير أبي سفيان ، ووجود المانع وهو روح التحدي والصبر والعزم على القتال التي تظهر على العين الذي بعثوه .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (الرائد لا يكذب أهله) ( ) .
وفيه ثناء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه وتأكيد على صدق نبوته ودعوته لبني هاشم إلى الإسلام عندما نزل قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ).
ولكن أبو جهل أصر يوم بدر على القتال ولم يلتفت للإنذارات التي جرت على ألسنة أصحابه .
وهل كان الملائكة يعلمون بأنهم سينزلون لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيه وجوه محتملة :
الأول : علم الملائكة بنزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما خرج إلى معركة بدر .
الثاني : علم الملائكة بالنزول لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر عند بدأ القتال .
الثالث : لم يعلم الملائكة بأنهم سينزلون لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا عندما جاءهم الأمر من عند الله عز وجل بالنزول , وليس ثمة مسافة بين السماء والأرض أي أمر الله عز وجل الملائكة بالنزول فكان تلقي هذا الأمر هو أوان علمهم به فبادروا إلى النزول .
وقد سمع المؤمنون من أهل بدر أصوات الملائكة (أقدم حيزوم) ( ) وذكر أنه اسم فرس جبرئيل عليه السلام ( هذا لفظ الحديث، والصواب أَقدِمي) ( ) .
ولا دليل على حصر الصواب بلغة التأنيث , ولعل أصل الحديث ما ذكره ابن إسحاق أن رجلين من العرب خرجا في يوم بدر قال أحدهما (حتى اصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب قال فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول اقدم حيزوم فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه , واما انا فكدت اهلك ثم تماسكت) ( ).
كما رأوا رؤوساً لعدد من المشركين تهوى إلى الأرض من غير ضرب أو رمي من المسلمين .
وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى مصارع المشركين ، هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان .
الرابع : علم الملائكة بنزولهم لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ليلة الإسراء لجبرئيل , وكان جبرئيل يستفتح عند كل سماء ، فيقال من هذا ؟
يقال : ومن معك : يقول محمد ، فيقال : وبعث إليه فيؤكد جبرئيل الأمر ويقول : بعث إليه ، فيفتح باب السماء .
الخامس : يعلم الملائكة بأنهم سوف ينزلون لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من يوم خلق الله آدم فحينما إستفهموا عن كيفية خلافة الإنسان في الأرض مع أنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )رد الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )فخروا لله سجداً طائعين ، ثم أمرهم الله سبحانه بالسجود لآدم [فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ]( ).
والمختار هو الوجه الخامس أعلاه ، وأن الله عز وجل تفضل على الملائكة وأخبرهم بأنهم ينزلون لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر .
ويتجدد هذا العلم وموضوعه بالوقائع في الأحقاب التي سبقت بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعند بعثته كما في حديث الأسراء ، وهو من أسرار تسميته [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( )من جهات :
الأولى : فصل وتمييز الملائكة بين أفراد جيش الإسلام والذين كفروا .
الثانية : التمييز في القتل ، فلا يقتل الملائكة إلا الكافر الذي يصر على الكفر .
الثالثة : لقد ذمت الملائكة الإنسان لأنه يسفك الدماء ، ونزلت الملائكة يوم بدر لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل الذين كفروا ، مما يدل على أنهم لم ينكروا القتل مطلقاً ، فيصح قتل الكافر المعتدي الذي يريد طمس معالم الدين والتنزيل لذا يختص إنكارهم بالقتل المصاحب للفساد والصادر عن المفسدين لتفيد الواو في قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) العطف والجمع ، فيكون مضمون الآية على وجوه :
أولاًَ : ذم الملائكة للذي يفسد في الأرض .
ثانياً : قبح وتقبيح قتل المفسد للنفس الزكية .
ثالثاً : ذم الذي يجمع بين الفساد في الأرض والقتل بغير حق ،
رابعاً : إنذار الناس وزجرهم عن الفساد , وفيه شاهد على رحمة الملائكة بالناس .
خامساً : رجاء الملائكة تنزه أهل الأرض من الفساد .
سادساً : بيان القبح الذاتي للقتل بغير الحق , ونفرة أهل السموات من كل حادثة قتل في الأرض , فتفضل الله بحكم القصاص , قال سبحانه[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
والنسبة بين الفساد والقتل بغير حق هي العموم والخصوص المطلق ، وهو من عطف الخاص على العام بلحاظ أن هذا القتل من الفساد ، ولكنه أشده وأقبحه فلذا ذكر في الآية على نحو الخصوص ، ولبعث النفرة في النفوس منه ، وزجر كفار قريش عن الزحف لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وكان من علل تسمية يوم بدر [يوم الفرقان ] ( ) صيرورته أواناً لإجتثاث الفساد في الأرض , ومنع القتل بغير حق ، ويتجلى هذا الإجتثاث بالتنزيل والسنة النبوية وأحكام الشريعة , لذا قال الله تعالى بخصوص الجنايات [ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ) .
فان قلت القصاص موجود في الملل السابقة ، والجواب نعم هذا صحيح ، وهو من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة الناس لإتباعه وقد طالت يد التحريف حكم القصاص عند بعض أهل الملل السماوية ، بينما هو ثابت في الشريعة الإسلامية ، وهو من الشواهد على حفظ القرآن من جهات :
الأولى : سلامة القرآن من تحريف الزيادة فلا تضاف كلمات أو آيات إلى القرآن .
الثانية : عصمة القرآن من تحريف النقيصة والحذف من كلماته أو آياته .
الثالثة : إمتناع القرآن عن التبديل والتغيير , فلا يطرأ تبديل على رسم حروفه وكلماته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الجهة الثانية : بيان آية البحث لقانون وهو عدم مغادرة الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في ساحة القتال وميدان الحرب ، فقد يقال أن النبي ينشغل بنفسه في الميدان ، أو أن القتل قبيح ذاتاً وأن الملك جبرئيل لا ينزل بالوحي والدماء تسيل ، فتفضل الله ونعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته بأنه الرسول لبعث المسلمين على الإستجابة له مطلقاً في حال الحرب والسلم ولسلامة نفوسهم من الشك والريب ، ولصيرورتهم في عصمة من الإبطاء والفتور في الإستجابة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون من معناه بلحاظ آية البحث : إذ تصعدون والرسول يدعوكم كيلا تصعدوا أو تفروا بعد معركة أحد ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المسلمين تعرضوا لنكسة في معركة أحد فشكروا الله عز وجل الذي تفضل بوقايتهم من النكسة في معركة لاحقة ، أما الكفار فانهم ينهزمون في كل مرة ليجروا أذيال الخيبة والخسران .
الجهة الثالثة : من المسلمات أن حال السلم والمهادنة أعم وأكثر أياماً من حال الحرب والقتال ، وعندما يفرغ الناس من القتال يتوجهون بعزم إلى البناء والعمل ، والإنتفاع الأمثل من الوقت .
وتجلت هذه الحقيقة عند المسلمين مع إنفرادهم بخصوصة وهي إقبالهم على العبادات والتفقه في الدين قبل وأثناء وبعد المعركة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لتتجدد دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في كل يوم بتعاهد الفرائض وإذ إختص الرجال من غير ذوي الأعذار بحال القتال والحرب ، فان المسلمات يشاركن الرجال في العبادات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وتقدير الآية : والرسول يدعوكن لتعظيم شعائر الله وأداء الصلاة والصيام والزكاة والحج .
ومن مصاديق الآية : والرسول يدعوكم لأخذ الحائطة في الدين ، والتهيئ للقاء الذين كفروا في معارك لاحقة خاصة وأن المشركين لم يغادروا أحد إلا وجعلوا بدراً موعداً في عام قابل للحرب والقتال.
المسألة الرابعة والعشرون : تقدير الجمع بين آية البحث والآية السابقة : والرسول يدعوكم ولقد عفا الله عنكم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : تأكيد تعدد فضل الله عز وجل على المسلمين في أشد الأحوال وأكثرها حاجة لفضله ، ومن النعم في المقام دعوة الرسول لهم من جهات :
الأولى : مجئ دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع بصيغة الرسالة من عند الله , وهل يصح تقدير الآية : إن الله أمر رسوله محمداً أن يدعوكم ) .
الجواب نعم ، وهو من أسرار مجي الآية بلفظ الرسول وهو من مصاديق خطاب الله عز وجل للمسلمين [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
ليكون من إعجاز الآية أعلاه نسبة العموم والخصوص بين لفظ [شَيْئًا] في الآية أعلاه وبين القتال ، وتحتمل دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالعودة إلى المعركة وجوهاً :
الأول : دخول دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الأمر بالقتال إذ أن معنى قوله تعالى [كُتِبَ]أي فرض وصار واجباً.
الثاني : هذه الدعوة الرسالية المباركة من مصاديق الشيء في الآية أعلاه بلحاظ أنها عمل جهادي وسط ميدان المعركة وإستعداد للقتال , وإن لم يقع واقعاً وعدم وقوع القتال مع تجلي مقدماته ووضوح أماراته من ضروب التخفيف عن المؤمنين ومن مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( )وفيه بعث للرعب والخوف في قلوب المشركين لأن حال المسلم مناسبة لتدبر الناس بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخولهم الإسلام ، وإزدياد قوته .
الثالث : دعوة الرسول أصحابه للميدان ليست من القتال أو لفظ الشيء في الآية أعلاه لأنهم رجعوا إلى ميدان المعركة بشوق ومن غير كراهية , والمختار هو الأول إذ تدخل هذه الدعوة في عمومات القتال والحرب مع المشركين ، فقد عادوا للقتال وليس من برزخ أو فاصل بينهم وبين العدو ، أو ثمة مدة وفترة في المعركة إذ كانت أوزار الحرب قائمة فبدل أن تكون الكتابة والوجوب بعودتهم لتجدد القتال ، تفضل الله عز وجل وجعل عودة الصحابة إلى ميدان القتال سبباً لكتابة الحسنات وشهادة لهم بالسلامة من الهزيمة والفرار ، وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم لتكتب الملائكة لكم الحسنات والأجر والثواب.
الثاني : والرسول يدعوكم ليشهد لكم عند الله عز وجل بالثبات في الإيمان ، وفي التنزيل [وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا] ( ).
الثالث : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد (إلي عباد الله) ( ) من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ] ( ).
الثانية : عدم وجود فترة ومدة ساعة بين إنهزام المؤمنين ومجئ دعوة الرسول ، وهو الذي يدل عليه تقييد دعوة الرسول [فِي أُخْرَاكُمْ] بحيث يسمع الصحابة دعوته أو ان بعضهم ينادي بعضاً ويخبر بدعوة الرسول كما في قيامهم بالتبليغ بآيات القرآن وما ينزل منها على صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : دعوة الرسول لأصحابه برزخ دون فوات الأجر والثواب وشرف الثبات في ميدان المعركة عنهم .
فمن خصائص وبركات دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في معركة أحد إنتهاء المعركة بانسحاب الذين كفروا من الميدان ، نعم هناك فرق بين هزيمتهم يوم بدر ووقوع الأسرى منهم بيد المسلمين وبين إنسحابهم يوم أحد ، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول : عجز الكفار عن بلوغ الغايات التي جاءوا من أجلها سواء في معركة بدر أو أحد .
الثاني : مغادرة الذين كفروا ميدان المعركة قبل مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين له .
الثالث : وقوع الخسارة في الأرواح بين صفوف الذين كفروا .
الرابع : عودة الذين كفروا خائبين ومصاحبة الخزي لهم في مكة .
الخامس : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب والفزع سواء عند الإنسحاب من معركة بدر أو معركة أحد.
السادس : قيام الملائكة بقتل طائفة من الذين كفروا ، قال تعالى في خطاب للملائكة [سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ).
السابع : فشل الذين كفروا في مكرهم وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة بقصده بالذات بسيوفهم ورماحهم أو غيلة وغدراً .
الثامن : الإنسحاب المفاجئ والفوري للذين كفروا.
التاسع : إنعدام الإحتجاج والجدال بالبقاء في الميدان ، نعم تحتج طائفة منهم بلزوم الصبر والقتال سواء يوم بدر أو يوم أحد أو يوم الخندق .
العاشر : كان عدد جيش الذين كفروا في كل من معركة بدر وأحد نحو ثلاثة أضعاف جيش المسلمين .
أما مادة الإفتراق بين هزيمة المشركين يوم بدر ، وإنسحابهم من معركة أحد فمن وجوه :
الأول : لقد فرّ الذين كفروا يوم بدر على وجوههم باتجاه مكة فراراً تاركين مؤونهم ورواحلهم بينما إنسحبوا من معركة أحد بمؤنهم وخيلهم ، لذا ورد في آية السياق قوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا] أي طلب الغنيمة وبدل فكاك الأسرى الذين يأمل وقوعهم في أيدي المسلمين في معركة أحد ، وهذا الأمل والرجاء من الشواهد على قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، ومن رشحات نصر الله لهم في معركة بدر فمع بلوغ جيش الذين كفروا ثلاثة آلاف رجل ، وهم أكثر من ثلاثة أضعاف جيش المسلمين فان المسلمين عازمون على أسر طائفة منهم توكلاً على الله ، وتسليماً بمدده وفضله .
وورد في آية البحث قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ] ( ).
الثاني : كانت الجولة في معركة بدر إبتداء وإستدامة ونهاية للمسلمين , أما في معركة أحد فكانت الريح والغلبة للمسلمين في بداية المعركة وعندما ترك الرماة مواضعهم التي أقامهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبدلت الريح وأخذ الشهداء يتساقطون مضرجين بدمائهم .
وجاء قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] ليكون شاهداً على إنقطاع هذه الجولة، ولحوق الخيبة بالمشركين .
الثالث : كانت معركة بدر الأولى في تأريخ الإسلام التي جرى فيها قتال بين المسلمين والذين كفروا ويبعد موقعها عن المدينة المنورة (155) كم وعن مكة المكرمة (310) كم، وعن ساحل البحر الأحمر (30) كم.
أما معركة أحد فقد وقعت على بعد نحو خمسة كيلومترات عن المدينة المنورة وبدر بئر من مياه العرب , وقيل أطلق هذا الاسم لأن أول من حفرها رجل من بني غفار إسمه ( بدر بن قريش بن مخلد ) وتقع عندها سوق مشهورة من أسواق العرب وهي ملتقى الطرق بين ينبع والمدينة وجدة ومكة ولا زالت آثار معركة بدر شاخصة .
منها العدوة الدنيا ، وهو مكان مجئ جيش المسلمين من المدينة المنورة .
والعدوة القصوى ، وهو موضع المشركين عند قدومهم من مكة المكرمة ، قال تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى] ( ) .
ولم يرد لفظ [ِالْعُدْوَةِ] إلا في الآية أعلاه وعلى نحو متعدد ، وهو من الشواهد على إختصاص يوم بدر باسم [يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( ) وفي موضع بدر الآن مسجد العريش وهو الموضع الذي إجتهد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء وإتخذه مركزاً لقيادته المعركة ، وجبل الملائكة وقد لا يتبادر إلى الذهن أن موضع معركة بدر أقرب إلى البحر الأحمر من كل من مكة والمدينة محل إنطلاق الجيشين .
وكانت بدر طريقاً إلى مكة من الشام حيث جاء أبو سفيان بعير التجارة , وتقع في أشد التكوينات الجيلوجية ، فقد أثبتت الدراسات أن أكثر صخورها جرانيتية شديدة الصلابة ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ] ( ) وتبعد المدينة المنورة عن البحر الأحمر (150) كم .
خارطة موقع معركة بدر والطريق إليها

وعن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن أحدا جبل يحبنا ونحبه وهو على ترعة من ترع الجنة) ( ).
الرابع : كان عدد جيش المسلمين في معركة بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر وعددهم في معركة أحد سبعمائة ، بينما كان عدد جيش الكفار في معركة بدر نحو ألف رجل وعددهم في معركة أحد ثلاثة آلاف .
الخامس : عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من معركة بدر بسبعين أسيراً من قريش ومن والاهم مع غنائم كثيرة ولم يعودوا بالأسرى والغنائم في معركة أحد .
كثرة الآيات التي نزلت بخصوص معركة أحد بالقياس مع الآيات الخاصة بمعركة بدر .
السابع : إصابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجراحات بليغة في رأسه ووجهه في معركة أحد مع كثرة جراحات أهل البيت والصحابة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن كل جرح وكلم وأذى يصيب المسلم في سبيل الله هو باب للعفو والمغفرة من عند الله تعالى .
وأختتمت الآية السابقة ببيان فضل الله والتي تتضمن تذكير المسلمين بما أصابهم من الجبن والتنازع ومعصية الرسول ، وهل المعصية التي تذكرها آية السياق بلفظ [وَعَصَيْتُمْ]من عمومات قوله تعالى [وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ] ( ) الجواب لا , من جهات :
الأولى : تتضمن الآية أعلاه ذم المنافقين ، ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المنافقين رجعوا في الطريق إلى معركة أحد ، ولم يحضروها .
الثانية : تتضمن الآية أعلاه ذم المناجاة بالباطل والإثم .
الثالثة : توجه النهي عن النجوى بالباطل للمنافقين ، ثم بيان الآية أعلاه إصرارهم عليها .
الرابعة : التباين الموضوعي في الآيتين .
الوجه الثاني : تتضمن آية البحث التخفيف عن المؤمنين في ساحة القتال , فقد هبط الرعب على قلوب الذين كفروا وتغشاهم مجتمعين ، بمعنى أن المراد من الرعب في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] وجوه :
أولاً : ما يتوجه إلى كل فرد من أفراد جيش قريش وسط الميدان .
ثانياً : الرعب الذي يأتي للكفار الذين من خلف الجيش .
ثالثاً : ما يتغشى عموم جيش الكفار من مصاديق الرعب والفزع .
رابعاً : ضروب الرعب التي تشمل الكفار الذين في ميدان معركة أحد والذين من خلفهم ذكوراً وأناثاً مع التباعد والتباين المكاني بينهم فان الرعب متحد وينفذ إلى قلوبهم في زمان واحد ، وفي التنزيل [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] ( ).
ومن دلالات ومنافع هذا الرعب التخفيف عن المؤمنين ، إذ يقاتلون عدواً مبتلى بداء الفزع والخوف ، وتفضل الله عز وجل ورزق المؤمنين تخفيفاً آخر بدعوة الرسول لهم وهم في الميدان لتبعث هذه الدعوة العزيمة في نفوسهم وتجدد الشوق للجهاد ، وتحثهم على الصبر والتأسي ، وملاقاة العدو ببسالة ، ومن مصاديق تقدير الآية وجوه :
أولاً : والرسول يدعوكم لما عاهدتم عليه الله من الدفاع .
ثانياً : والرسول يدعوكم لما نذرتم له أنفسكم .
ثالثاً : والرسول يدعوكم لإستحضار بيعة العقبة الثانية , وما فيها من العهد للذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن جابر قال (مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، عكاظ ومجنة، في المواسم، يقول: ” من يؤويني ؟ من ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالة ربى وله الجنة ” فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر، كذا قال فيه، فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك.
ويمضى بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع.
حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الاسلام.
ثم إئتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف ؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال: ” تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر
واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة، فقمنا إليه [ فبايعناه ] وأخذ بيده أسعد بن زرارة , وهو من أصغرهم) ( ).
وإذا كان أصل البعثة يتقوم بحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة فقد كانت واقعة بدر ومقدماتها سبباً لتوسعة هذا الحفظ , وكأنه عهد جديد.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية أنه لم يكتف بخروج الأنصار معه للقتال يوم بدر، بلحاظ أن هذا الخروج مصداق للعهد العملي ، بل أخذ منهم نوع الميثاق اللفظي والعلني بمرأى ومسمع من عموم المهاجرين والأنصار ، وهو من مصاديق خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ].
فعندما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج بأصحابه إلى بدر ، قال لهم كما في رواية أبي أيوب الأنصاري (إنى أخبرت عن عير أبى سفيان أنها مقبلة، فهل لكم أن نخرج قِبَل هذه العير لعل الله يغنمناها ؟ ” فقلنا: نعم. فخرج وخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا: ” ما ترون في القوم، فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ ” فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، ولكنا أردنا العير) ( ).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (قد أخبروا بمخرجكم) أي علمت قريش بخروجكم متعقبين القافلة وأنهم سيأتون من مكة لإرادة القتال .
ويحتمل علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا وجوهاً :
الأول : إنه من الوحي وإخبار الله عز وجل له بواسطة جبرئيل.
الثاني : مجئ عيون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخبار قريش .
الثالث : معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحوال قريش ، وكيف يتصرفون وعلمه بأن أبا سفيان يبعث لقومه بنبأ خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خاصة مع كبر القافلة وكثرة البضائع والتجارات التي فيها إذ أنها تتألف من ألف بعير محملة بالبضائع وتعود لرجالات وبيوتات قريش وأهل مكة .
الرابع : الفرد الجامع للوجوه أعلاه , وإجتماع نبأ الوحي مع إخبار العيون والركبان ومعرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأحوال قريش خاصة , وأنه كان يخرج إلى الشام بتجارة خديجة قبل النبوة .
وليس من تعارض بين هذه الوجوه ، ولكن المختار هو الأول ، لا سيما وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بادر إلى إخبار أصحابه بعلم قريش بخروجهم ، ولو جاءت العيون والركبان بأمر خروج كفار قريش لعلمه الصحابة أيضاً ، ومن إعجاز النبوة أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يخبرهم بخروج قريش وأن عددهم ثلاثة أضعاف عدد المسلمين ، بل ذكر فقط بلوغ قريش خبر خروج المسلمين ، وهو أعم من مسألة زحفهم بجيش عرمرم لقتال المسلمين .
ولما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعتذار أصحابه عن القتال لأنهم لم يخرجوا له وليسوا متهيئين للقتال في العدة والعدد والمؤن أعاد عليهم السؤال ولكن بصيغة أكثر بياناً إذ قال (ما ترون في قتال القوم) ( ).
قال أبو أيوب الأنصاري : فقلنا مثل ذلك .
وجاء كلام أبي أيوب الأنصاري بصيغة الجمع لبيان أنه قول أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يفيد إتفاقهم عليه في الجملة .
وليس من عادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يلح بالسؤال ويطلب الجواب , ولكنه أراد أموراً :
الأول : المشورة وتهيئة أصحابه لمعركة بدر.
الثاني : إعادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم السؤال على أصحابه لبيان حقيقة وهي أن القتال أمر واقع طوعاً أو قهراً وأن كفار قريش لن يرغبوا بالعودة من الميدان بغير قتال ، وهو الذي وقع فعلاً .
الثالث : بيان إستحباب الإكثار من المشورة عند العزم على القتال .
الرابع : معركة بدر أول معركة في الإسلام .
عندما أعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم السؤال عن قتل القوم وأعاد الصحابة سؤالهم العافية ، فطن المقداد بن الأسود ليدخل التأريخ بكلمة ظل الصحابة يذكرونها بإعجاب ويغبطونه عليها وكأنها مقدمة من مقدمات النصر يوم بدر إذ قال في كلام إمض ونحن معك .
فاستبشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الجواب ، ثم عاد وقال (أشيروا عليّ أيها الناس ) فادرك الأنصار أنه يريد أن يسمع جوابهم صريحاً جلياً صادراً من أكثرهم ، وليس مبادرة من فرد واحد منهم خاصة وأن بيعة العقبة قيدت ذبهم ودفاعهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحال وصوله إلى ديارهم ، فخشي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول الأنصار بأن الخروج للعدو خلاف لبيعة العقبة ، وكان أكثر الجيش من الأنصار ، فقال سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله .
وكان سعد بن معاذ حامل لواء الأنصار وزعيم الأوس وممن ِشهد العقبة أي أسلم مبكراً , مما يدل على أنه يتكلم عن نفسه ونيابة عن قومه , فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أجل .
قال سعد (آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك ، وَشَهِدْنَا أَنّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقّ ، وَأَعْطَيْنَاك عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا ، عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَك ، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَك ، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا ، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ .
لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقَرّ بِهِ عَيْنُك ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ . فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشّطَهُ ذَلِكَ . ثُمّ قَالَ سِيرُوا وَأَبْشِرُوا ، فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ وَاَللّهِ لَكَأَنّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ) ( ).
وهل سؤال ومشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في الطريق إلى معركة بدر من مصاديق قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] الجواب نعم , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم لمشاورتكم في القتال ) من جهة الإستمرار فيه أو الكف عن المشركين ، ويدل عليه قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ] ونسبة فعل الصرف والكف عن القتال للمسلمين ، وفيه مسائل :
الأولى : عدم هزيمة المسلمين ، لأن الذي يكف ويوقف القتال ليس بمنهزم .
الثانية : تأكيد عجز الكفار عن مواصلة القتال ، فحينما كف المسلمون عنهم إنصرفوا إلى مكة .
الثالثة : من إعجاز الآية السابقة أنها أخبرت عن أمور :
أولاً : صدق وعد الله عز وجل للمسلمين .
ثانياً : بدأ القتال يوم أحد بين المسلمين والذين كفروا بالله ورسوله والتنزيل .
ومن الإعجاز في المقام تقديم وعد الله على خبر القتال الذي يدل عليه قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
ثالثاً : تقييد حس وقتل المؤمنين للكفار بأنه بإذن الله وإنتفاع المسلمين من إذنه تعالى في أشد الأحوال .
رابعاً : ذكر الآية للخطأ والقصور من المؤمنين .
خامساً : إنتهاء المعركة بأمر الله عز وجل للمؤمنين بترك قتال القوم ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : ثم صرفكم عنهم بالوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : ثم صرفكم عنهم لعدم وجود المقتضي للقتال .
ثالثاً : ثم صرفكم عنهم لما ورد في الآية السابقة بقوله تعالى [لِيَبْتَلِيَكُمْ].
رابعاً : ثم صرفكم عنهم بعد صعودكم وفراركم وعدم إلتفاتكم إلى الوراء ورؤية القتال ، وثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلة من أهل بيته وأصحابه يقاتلون دونه ، وتلك معجزة ورحمة من عند الله ، فمع فرار المسلمين فان الله عز وجل صرفهم عن المشركين ، وهو من الإعجاز في مجي الآية بحرف العطف [ثم] في قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ] .
فلم تقل الآية (وصرفكم عنهم) ليكون من مصاديق الإبتلاء ما كان قبل الصرف والإنصراف من جهات :
الأولى : تقدير الآية (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم بما صدر منكم من الفشل والتنازع في الأمر والمعصية ، بأن تكون موعظة وعبرة ، ومناسبة للإستغفار ، وأخذ الحائطة في الدين ).
الثانية : ثم صرفكم عنهم ليبتليكم بتعاهد سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : ثم صرفكم ليبتليكم بأداء الفرائض والعبادات .
الرابعة : ثم صرفكم عنهم ليبتليكم بالتهيء لمعركة الخندق .
الخامسة : ثم صرفكم الله عنهم ليبتليكم بلزوم الشكر له سبحانه , وفي سليمان عندما رأى عرش بلقيس محضراً عنده ، ورد في التنزيل[قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ]( ).
(قال ابن عباس : كان سليمان بن داود عليه السلام إذا أراد سفراً قعد على سريره ، ووضعت الكراسي يميناً وشمالاً ، فيؤذن للإِنس عليه ، ثم أذن للجن عليه بعد الانس ، ثم أذن للشياطين بعد الجن .
ثم أرسل إلى الطير فتظلهم، وأمر الريح فحملتهم , وهو على سريره، والناس على الكراسي، والطير تظلهم ، والريح تسير بهم . غدوها شهر ، ورواحها شهر ، رخاء حيث أراد . ليس بالعاصف ، ولا باللين ، وسطا بين ذلك . وكان سليمان يختار من كل طير طيراً ، فيجعله رأس تلك الطير . فإذا أراد أن يسئل تلك الطير عن شيء سأل رأسها .
فبينما سليمان يسير إذ نزل مفازة فقال : كم بعد الماء ههنا؟ فسأل الإِنس فقالوا : لا ندري! فسأل الشياطين فقالوا : لا ندري! فغضب سليمان وقال : لا أبرح حتى أعلم كم بعد مسافة الماء ههنا؟ فقالت له الشياطين : يا رسول الله لا تغضب ، فإن يك شيء يعلم فالهدهد يعلمه فقال سليمان : عليَّ بالهدهد . فلم يوجد ، فغضب سليمان وقال[لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ]( )، يقول : بعذر مبين غيبه عن مسيري هذا .
قال : ومر الهدهد على قصر بلقيس فرأى لها بستاناً خلف قصرها ، فمال إلى الخضرة فوقع فيه ، فإذا هو بهدهد في البستان فقال له : هدهد سليمان أين أنت عن سليمان وما تصنع ههنا؟ فقال له هدهد بلقيس : ومن سليمان ؟! فقال : بعث الله رجلاً يقال له : سليمان رسولاً وسخر له الجن والانس والريح والطير . فقال له هدهد بلقيس : أي شيء تقول ؟ قال : أقول لك ما تسمع . قال : إن هذا لعجب! وأعجب من ذلك أن كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة[وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ]( )، جعلوا الشكر لله : أن يسجدوا للشمس من دون الله .
قال : وذكر لهدهد سليمان ، فنهض عنه فلما انتهى إلى العسكر تلقته الطير فقالوا : تواعدك رسول الله ، وأخبروه بما قال . وكان عذاب سليمان للطير أن ينتفه ، ثم يشمسه ، فلا يطير أبداً ويصير مع هوام الأرض ، أو يذبحه فلا يكون له نسل أبداً . قال الهدهد : وما استثنى نبي الله؟ قالوا : بلى . قال : أو ليأتيني بعذر مبين . فلما أتى سليمان قال : وما غيبتك عن مسيري؟ قال [أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ]( )، قال : بل اعتللت { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم } .
وكتب { بسم الله الرحمن الرحيم } إلى بلقيس { ألا تعلوا علي وائتوني مسلمين } فلما ألقى الهدهد الكتاب إليها ، ألقى في روعها أنه كتاب كريم ، وإنه من سليمان و { ألا تعلوا علي وائتوني مسلمين . . . ، قالوا نحن أولوا قوة } قالت[إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ]( )، فلما جاءت الهدية سليمان قال : أتمدونني بمال ارجع إليهم . فلما رجع إليها رسلها خرجت فزعة ، فأقبل معها ألف قيل مع كل قيل مائة ألف .
قال : وكان سليمان رجلاً مهيباً لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه . فخرج يومئذ فجلس على سريره فرأى رهجاً قريباً منه قال : ما هذا ؟ قالوا : بلقيس يا رسول الله , قال : وقد نزلت منا بهذا المكان؟ .
قال ابن عباس : وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بين الكوفة والحيرة , قال : فأقبل على جنوده فقال : أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ قال : وبين سليمان وبين عرشها حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين[قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ]( ).
قال : وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس كما تجلس الأمراء ، ثم يقوم قال سليمان : أريد اعجل من ذلك , قال الذي عنده علم من الكتاب : أنا انظر في كتاب ربي ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك . فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه ، رد سليمان بصره ، فنبع عرشها من تحت قدم سليمان . من تحت كرسي كان يضع عليه رجله ، ثم يصعد إلى السرير ، فلما رأى سليمان عرشها مستقراً عنده[قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ]( )، إذ أتاني به قبل أن يرتد إليَّ طرفي { أم أكفر } إذ جعل من هو تحت يدي أقدر على المجيء مني) ( ) .
الثاني : والرسول يدعوكم ليصرفكم الله عنهم ) بلحاظ أن عودة المؤمنين إلى القتال سبب لبعثة الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا فيكفوا عن القتال .
الثالث : والرسول يدعوكم لخير الدنيا والآخرة بالعودة إلى ساحة المعركة سواء تجدد القتال أو لم يتجدد .
الرابع : والرسول يدعوكم للتحلي بالصبر وتنمية ملكة التقوى ، وتعاهد المرابطة .
الوجه الثاني : مما يتصف به المهاجرون والأنصار الفطنة وحسن تقدير الأمور بدليل مبادرتهم إلى الإيمان والتسليم بالمعجزات وعدم البقاء في مواطن الضلالة أو الإبطاء عن سبل الهداية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وليس من السهل عليهم إنسحاب أكثرهم من ميدان القتال ، وترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلة من أهل بيته وأصحابه يقاتلون دونه ، فجاءت دعوة الرسول لهم لتزيح الهم عن نفوسهم بسبب الإنسحاب والفرار ، ونزلت آية السياق بالإخبار عن عفو الله عز وجل عنهم وعن إنكسارهم , ويحتمل قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]وجوهاً :
الأول : إرادة العفو عما تقدم من الأفعال والأقوال .
الثاني : أصالة الإطلاق ، والمراد العفو عما تقدم وما تأخر من أفعال المؤمنين جزاء لهم لخروجهم إلى معركة أحد .
وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ] ( )لتأتي آية السياق فضلاً من الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أصحابه من المهاجرين والأنصار .
فان قلت إذ كان الصحابة يتصفون بالفطنة وحسن تقدير الأمور ، فلماذا ترك بعضهم مواضعهم في ميدان المعركة , الجواب لقد أنعم الله عز وجل على الصحابة بأمور :
الأول : وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم .
الثاني : نزول آيات القرآن على نحو التدريج والنجوم .
الثالث : تجلي مصاديق السنة النبوية القولية والفعلية .
الرابع : إقتداء الصحابة بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتتضمن آية البحث دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعد أصحابه للإستجابة لندائه والإمتثال لأوامره .
الوجه الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين أمرين :
الأول : دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه للرجوع إلى الميدان .
الثاني : تفضل الله بالعفو عمن ترك موضعه وإنسحب من المعركة .
وبين الذين يدعوهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أخراهم وبين الرماة الذين تركوا مواضعهم عموم وخصوص مطلق ، فبعد أن ترك أغلب الرماة مواضعهم ونزلوا إلى وسط الميدان لجمع الغنائم كما قال الله تعالى (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا) جاءت خيل المشركين من خلف جيش المسلمين فافشوا فيهم القتل فانهزم أكثر المسلمين ليكون الرماة الخمسون على أقسام :
الأول : الذين بقوا في مواضعهم فقتلوا شهداء وهم عبد الله بن جبير أمير الرماة ونحو ثمانية من أصحابه .
الثاني : الرماة الذين نزلوا لجمع الغنائم والمكاسب ظناً منهم أن العدو إنهزم فقتلوا وسط المعركة أيضاً وهم يقاتلون شهداء ، وقال تعالى [قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ] ( ).
الثالث : الرماة الذين بقوا يقاتلون وسط الميدان ، أي أنهم نزلوا لجلب المغانم ظناً منهم أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالثبات في مواضعهم مقيد بحال التكافؤ في القتال والكر والفر ، وليس مع هزيمة المشركين ، فلما إشتد القتال بعد نزولهم بذلوا الوسع في الدفاع والقتال ، وخرجوا من المعركة بسلامة من القتل , وهم على شعبتين :
الأولى : الذين أصيبوا بالجراحات .
الثانية : الذين لم يصيبهم جرح أو كلم .
الرابع : الذين نزلوا لجمع الغنائم ففوجئوا بمجئ خيالة العدو من خلفهم ، فانهزموا من الميدان وصعدوا الجبل مرة أخرى , مع تغير العنوان , ففي بداية المعركة يسوي النبي صفوفهم , ويدعوهم من أمامهم , وفي نهايتها يدعوهم من خلفهم , مع ثباته في موضعه.
وجاء قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] شاملاً للرماة ممن يشملهم الوجه الرابع أعلاه لبيان رحمة الله عز وجل بالمؤمنين وأن تركهم مواضعهم لم يحجب عنهم رحمة الله عز وجل التي تجلت بدعوة الرسول لهم بالعودة ، وهو من مصاديق صيغة الجمع يدعوكم ، ومن معاني قوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ].
وإذا تبدل الموضوع تغير الحكم ، فقد نزل هؤلاء الرماة من الجبل ليكونوا من عامة جيش المسلمين وسط الميدان ، وهل هو من مصاديق [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]الجواب نعم ليفوز الرماة بالعفو من الله على نحو متعدد من جهات :
الأول : الفوز لإرادتهم الدنيا ، والطمع بالمكاسب .
الثاني : العفو عن نزولهم وتركهم الجبل .
الثالث : إشتراك الرماة مع الذين إنهزموا من الميدان بالعفو من عند الله على فرارهم وتركهم المعركة ، لأن خروجهم إلى معركة أحد إحسان إلى الذات والغير ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الرابع : الفوز بالأجر والثواب بالإستجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان قلت ورد العفو في الآية السابقة بينما أخبرت آية البحث عن صعود وفرار المؤمنين , والمدار في المتأخر والمتقدم من الآيات على مضامين ودلالات الآيات لذا فان قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]جاء بعد ذكر وقائع المعركة .
رابعاً : والرسول يدعوكم ليعفو الله عنكم ) وقد تقدم في الآية السابقة الإخبار عن عفو الله عز وجل عن المؤمنين بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] وتأتي دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه للرجوع إلى المعركة رجاء أن يفوزوا بالعفو من عند الله عن تركهم لمواضعهم وعن إنسحابهم وعن ذنوبهم مطلقاً ، وأن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم .
وفي الجمع بين الآيتين وصيرورة دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة للعفو والمغفرة من مصاديق الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن دعوته خير محض ، ونفع في النشأتين .
ومن أسماء الله عز وجل [العفو] ولا يقدر على العفو على نحو الإطلاق إلا هو سبحانه .
عن عبد الله بن مسعود في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله عز وجل عَفو يحب العفو( ).
الصلاة حرب على النفاق
وقد يعلن بعض المنافقين كفرهم وجحودهم باليد والسيف وإعانه الذين كفروا بالمشورة والإخبار عن العورات والثغرات التي ينتفعون منها ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( )هو عدم أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باقتراح عبد الله بن أبي سلول بالبقاء في المدينة خاصة وأنه من المتسالم عند المسلمين أن عدم الأخذ هذا بالوحي لأنه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
لقد أخبر الله عز جل بأن نصر المسلمين يوم بدر من عنده تعالى بقوله [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( ).
لتأتي معركة أحد وتكون سلامة المسلمين من الهزيمة والخسارة الفادحة بفضل الله وسلاح الوحي الذي رزق الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه زجر للمنافقين ودعوة لهم للتنزه عن النفاق , وهو الذي تجلي في الواقع بتناقص عدد المنافقين من غير أن يعمل فيهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السيف ، ولم يعاقبهم بالجلد والتغريب ، بل بقوا في المدينة بين ظهراني المؤمنين مع نزول الآيات التي تتضمن ذمهم والنفاق .
فان قلت ورد قوله تعالى [جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( )والجواب قد تجلى في السنة القولية والفعلية بيان وتفسير هذه الآية وبالشواهد المتكررة والمتعددة , فقد حارب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكفار بالدفاع السيف ، أما جهاده للمنافقين فبالزجر والتبكيت والتوبيخ مع دعوة الجميع إلى التوبة والإنابة ، وهل كان عدم قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإقتراح عبد الله بن أبي سلول الجهاد في مواجهته والمنافقين .
الجواب لا ، إلا أن يدل دليل على إرادته المكر والكيد بالمسلمين وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( )خاصة وأن عبد الله بن أبي سلول كان حاضراً مع النبي والمؤمنين ، والجواب لا ، فلم يتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلب المشورة إلى عبد الله بن أبي سلول على نحو الخصوص بل كان يستشير أصحابه على نحو العموم المجموعي .
وهل يمكن إحتساب وجود عبد الله بن أبي بن سلول بين المؤمنين مثل وجود إبليس بين الملائكة حينما أمرهم الله عز وجل بالسجود لآدم بقوله تعالى [فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ] ( ).
الجواب لا ، وهو قياس مع الفارق ، لقد كان الإيمان يطرق قلوب المنافقين من جهات كثيرة منها :
الأولى : سماع المنافقين لتلاوة المسلمين لآيات القرآن .
الثانية : نطق المنافقين بالشهادتين .
الثالثة : لغة البشارة والإنذار في القرآن .
الرابعة : توالي المعجزات العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : أداء الصلاة اليومية خمس مرات في اليوم , ويحتمل هذا الطرق والدعوة وجوهاً :
أولاً : إنه دعوة متحدة في مجموع الصلوات , فتكون صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء دعوة متحدة للمنافق للتنزه عن النفاق الذي هو إبطان الكفر مع إظهار الإيمان .
ثانياً : كل صلاة من الصلوات اليومية الخمسة دعوة للمنافق للتوبة , وإخلاص النبوة ودعوة للذين كفروا للتوبة والإنابة .
ثالثاً : يتضمن كل فرد من الصلوات اليومية , وكل ركعة منها دعوات متعددة لخلائق للإنابة وإصلاح السريرة .
والصحيح هو الثالث ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) سواء كان المنافق مأموماً أو يؤدي الصلاة منفرداً ، وهو من أسرار تلاوة القرآن في كل ركعة من الصلاة لما فيها من معاني التدبر خاصة أن المصلي يتلو القرآن وهو في حال خشوع وخضوع لله عز وجل .
ليكون من الإعجاز الغيري لكل آية من آيات القرآن أنها حرب على النفاق ، ودعوة سماوية عبادية للتنزه منه ، وتفضل الله عز وجل وجعل التلاوة واجباً في الصلاة ، ويشمل هذا الوجوب المنافق أيضاً إذ أنه يؤدي الصلوات الخمسة مع المؤمنين بلحاظ أنه يظهر الإيمان , فتجب عليه الفرائض ، وهو من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )بتقريب أن الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس عامة ، ومنها جذب المنافقين للهداية إلى منازل الإيمان ، وليس من حصر لصيغ هذا الجذب ، ومنها تلاوة القرآن في الصلاة من وجوه :
الأول : تلاوة القرآن في كل ركعة من الصلاة .
الثاني : وجوب قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة على نحو التعيين .
الثالث : قراءة سورة أخرى من القرآن في كل سورة بعد قراءة سورة الفاتحة .
الرابع : موضوعية صلاة الجماعة في إصلاح النفوس .
الخامس : وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاشعاً خاضعاً بين يدي الله عز وجل تأديب للمنافقين .
السادس : أداء المسلم الصلاة منفرداً حجة على المنافق , وشهادة بأن المسلمين يواظبون على الصلاة.
السابع : إستماع المنافق لتلاوة المسلمين القرآن في الصلاة وخارجها .
الثامن : أداء المسلم صلاة النافلة , وجزئية التلاوة فيها على نحو الوجوب ، فمع أن الصلاة مستحبة مثل صلاة النوافل اليومية إلا أن قراءة القرآن في كل ركعة منها واجب .
وتلك آية لبيان قدسية القرآن وإنتفاع المسلمين جميعاً من أداء الصلاة , فمن خصائص الصلاة وقاية المسلمين من أذى المنافقين والأمن من شرهم وكيدهم وزجرهم عن التواطئ والحلف مع المشركين ، نعم كانوا يتمنون خسارة المؤمنين في القتال , ويتطلعون إلى الشماتة بهم فكبتهم وأخزاهم الله ، قال تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( ).
وتفضل الله عز وجل في معركة أحد بنزول الغم ثم النعاس أمنة ليكون واقية من الحزن والأعم بسبب شماتة المنافقين , وأظهر المؤمنون الصبر والرضا بأمر الله لما أصابهم في واقعة أحد .
وهل يشمل قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ]( ) النساء المؤمنات ، فيه وجوه :
الأول : إختصاص الآية أعلاه بالمؤمنين الذين حضروا يوم أحد سواء الذين بقوا يقاتلون بين يدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الذين فروا من وسط المعركة ، وهم الأكثر .
الثاني : فوز المجاهدين بالأمن من الحزن ودفع الحزن عنهم لما فاتهم من الغنائم , ووجوه النصر الحاسم .
وتقدير وبيان قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا] يا أيها المجاهدون فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا ) .
الثالث : شمول المسلمين من الذكور بالواقية من الحزن , خاصة وأن الآية وردت بصيغة الخطاب لجمع المذكر .
الرابع : إرادة العموم وشمول النساء المؤمنات بالخطاب .
والصحيح هو الأخير , ووردت لغة التذكير لغلبة المذكر , ولأن الذين يقاتلون يوم أحد هم الرجال , ومن الآيات أن بعض المؤمنات شاركن في القتال مثل أم عمارة .
ومن إعجاز القرآن عدم ورود نداء خاص بصفة المجاهدين أو (يا أيها المقاتلون) وفيه مسائل :
الأولى : إنه من الشواهد على أن رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تنتشر بالسيف ، إنما جعل الله عز وجل المعجزة العقلية سبيل الهداية للناس لدخول الإسلام .
الثانية : القتال حال طارئة سرعان ما كانت تزول , فقد كانت مدة كل من معركة بدر وأحد شطراً من يوم .
الثالثة : دعوة المسلمين للتفقه في الدين , وأداء الفرائض العبادية والعمل بأحكام الشرائع .
الرابعة : بيان تقدم الأهم على المهم ، وإرادة سعي المسلمين في المكاسب والعمل .
الخامسة : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
فالأصل هو إنتفاء القتال بين الناس بسبب الإسلام والدعوة بالبرهان والحجة إلى عبادة الله , وما قتال كفار قريش ومحاربتهم للإسلام إلا أمر طارئ ومتزلزل وغير مستقر ، ولم يظن أكثر الناس أن فتح مكة يتحقق في السنة الثامنة للهجرة ، فينقطع دابر القتال مع رؤساء الضلالة في مكة وما حولها ، وعندما وقعت معركة حنين بعد فتح مكة في شوال من السنة الثامنة للهجرة .
إذ باغتت هوازن وثقيف جيش المسلمين وإنهزمت الكتائب الأولى للمسلمين في بداية المعركة وأظهر بعض من المؤلفة قلوبهم وحديث العهد بالإسلام من كبار رجالات مكة الشماتة .
الفرق بين المؤلفة قلوبهم والمنافقين
لقد كان جيش المسلمين في واقعة حنين إثني عشر ألف رجل ومنهم [َالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] ( ) الذين دخلوا الإسلام ونطقوا بالشهادتين بينهم وبين المنافقين عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : النطق بالشهادتين ، فكل من المؤلفة قلوبهم والمنافقين نطقوا بالشهادتين وأعلنوا إسلامهم .
الثانية : أداء الفرائض العبادية مع المسلمين ، فلذا ورد النداء التكليفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( )ليشمل المنافقين وبه ورد النص عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، وهو يشمل النداء المؤلفة قلوبهم أم أنهم خارجون بالتخصص أو التخصيص عن النداء بلحاظ أن الآية أعلاه نزلت في السنة الثانية للهجرة ، بينما تجلت مسألة المؤلفة قلوبهم عند فتح مكة ومعركة حنين في السنة الثانية للهجرة .
الثالثة : ذكر كل من المؤلفة قلوبهم والمنافقين في القرآن .
الرابعة : تخلف وقصور كل من المؤلفة قلوبهم والمنافقين عن مراتب الإيمان .
الخامسة : تفويت كل من المؤلفة قلوبهم والمنافقين على أنفسهم نعمة الأجر والثواب في فعل الصالحات لترتب الثواب على قيد قصد القربة .
السادسة : كل من المؤلفة قلوبهم والمنافقين أقرب لسبل التوبة والإنابة من الذين كفروا .
السابعة : قلة عدد كل من المؤلفة قلوبهم والمنافقين , وذهب بعضهم إلى أن المراد من المؤلفة قلوبهم هم فريق أهل الكتاب والصحيح هم أناس حديثوا عهد بالإسلام من ذوي الشأن في الجاهلية ، وكأنهم خشوا على مواقعهم في الرياسة والمجتمع , وإستمروا بالتربص , لذا فمع إعجاز القرآن ذكرهم على نحو التعيين بسهام الزكاة ، فاعطاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غنائم هوازن وثقيف ما لم يعط أحداً من الصحابة .
أما مادة الإفتراق , فمن جهات :
الأولى : عدم إستقرار الإيمان في صدور المؤلفة قلوبهم , أما المنافقون فإنهم يبطنون الكفر .
الثانية : المؤلفة قلوبهم أقرب للإيمان لذا جعل الله عز وجل لهم سهماً في الزكاة الواجبة , قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ] ( ).
الثالثة : مجئ آيات القرآن بالتخويف والإنذار والوعيد للمنافقين منها قوله تعالى [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ]( ) [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
لم يذكر لفظ وموضوع [وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ]إلا في آية الصدقات أعلاه وليس في الآية ما يدل على إنذارهم ووعيدهم ، نعم تتضمن آية الصدقات ذمهم وتقبيح ما يضمرون بين ضلوعهم وتدعوهم إلى التوبة والإنابة .
ومن إعجاز القرآن أن يأخذ المؤلفة قلوبهم من الصدقات والزكوات سهماً خاصاً بهم لبيان السعة في الإسلام وإرادة تآلف قلوب المسلمين ونزع الضغائن والكدورات منها .
وهل يعطى المؤلفة قلوبهم من بيت المال والسهام العام , الجواب لا ، إذ أن المؤمنين وعموم المسلمين أولى بالمال العام ، وإعطاء المؤلفة قلوبهم منه يثير حفيظة عامة المسلمين ، وقد تجلى عند توزيع غنائم هوازن وثقيف.
ولكن المؤمنين تلقوا فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرضا والقبول .
ومن الآيات أن هذه الغنائم الكثيرة أعيدت إلى أهلها الذين أخذت منهم بعد رجاء وسؤال منهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولابد من غايات حميدة لأمور وردت في القرآن , وهي :
الأولى : ذكر المنافقين على نحو الخصوص .
الثاني : ذكر المؤلفة قلوبهم .
الثالث : تعيين سهم للمؤلفة قلوبهم من الزكوات .
ويستحق هذا البحث وغايات ذكر هذه الأمور الثلاثة في القرآن مجلداً مستقلاً بلحاظ ضروب الإعجاز في كل فرد منها .
وقد ذكرت مادة [نافق ] في القرآن ستاً وثلاثين مرة ، وهي مدرسة في إصلاح النفوس , ونقاء القلوب ليستقر فيها الإيمان ، قال تعالى [فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ] ( ).
لقد خاطب الله عز وجل الرسول موسى عليه السلام بقوله تعالى [سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ] ( ) وقد تفضل الله عز وجل وشد عضد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن وصالح المؤمنين ويحتمل تعضيد القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً :
الأول : كل آية من القرآن عضد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : مجموع آيات القرآن , وهي ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية , وهو عضد متحد ومتعدد للنبي .
الثالث : كل سورة من القرآن عضد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : كل كلمة وشطر من الآية القرآنية عضد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : الجمع بين كل آيتين من القرآن تعضيد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : تلاوة المسلمين للآية القرآنية تعضيد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن ابن مسعود قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اقرأ عليَّ قلت : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال : نعم . إني أحب أن أسمعه من غيري . فقرأت سورة النساء حتى أتيت على هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } فقال : حسبك الآن . . فإذا عيناه تذرفان( ).
السابع : أسباب نزول الآيات عضد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : بيان القرآن , وخلوه من اللبس والترديد عضد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ).
التاسع : ذكر القرآن المتكرر للمنافقين وذمهم وبيان خصالهم القبيحة , والإخبار الغيبي عن سوء عاقبتهم عضد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ليكون من معاني وتقدير قوله تعالى[جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ).
ومن مصاديق شد العضد بصيغة الإيمان في المقام وجوه :
الأول : يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين بالقرآن وآياته .
الثاني : أغلظ على المنافقين بالقرآن وآياته .
الثالث : لقد جاهد القرآن الكفار والمنافقين .
الرابع : لقد أغلظ القرآن على الكفار والمنافقين .
الخامس : جاهدوا الكفار والمنافقين بالقرآن والحجة والبرهان ، وأغلظوا عليهم بالقرآن .
السادس : يا أيها النبي جاهد الكفار بالسيف , والمنافقين بالإنذار والموعظة . ومن منافع وغايات ذكر وذم المنافقين في القرآن وجوه :
أولاً : إصابة المنافقين بالفزع والرعب وإدراكهم أن القرآن يفضحهم ويحذرهم والناس من ذميم الأفعال ، ويؤسس لإصلاح النفوس والمجتمعات بما يمنع من البرزخ والمانع من بناء صرح الإيمان.
ثانياً : توبة طائفة من المنافقين , ونفاذ الإيمان إلى قلوبهم وصيرورتهم ينفرون من الكفر سواء بإظهاره أو إبطانه , وهذا المعنى من أسرار عدم ذكر القرآن للمنافقين باسمائهم على نحو التعيين .
الثالث : مجئ الإيمان للمؤلفة قلوبهم والمنافقين من رشحات التنزيل والسنة ، وصدق إيمان أهل البيت والصحابة ، والهدى الذي تشرق قواعده في نفوس أسر وعوائل ذات ضعيفي الإيمان والمنافقين .
الرابع : توالي نزول آيات القرآن ليصير المؤلفة قلوبهم والمنافقون والكفار في حال خوف وفزع من نزول آيات تذمهم وتفضحهم بالاسم والتعيين ، وإن كانت بعض الآيات توثق أفعال المنافقين بما يدل على ذات الأسماء في السنة والحديث وأخبار الصحابة ، كما ورد في ذم المنافقين في التنزيل [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( ) .
إذ جاءت أخبارالسنة على إرادة عبد الله بن أبي سلول في غزوة بني المصطلق , وهم حي من هذيل , في السنة السادسة للهجرة .
ولكن لماذا صيغة الجمع في الآية أعلاه مع أن القائل متحد ، الجواب من جهات :
الأولى : بيان وجود جماعة مع جيش المسلمين يقولون بذات قول عبد الله بن أبي .
الثانية : لما كان عبد الله بن أبي رئيساً في قومه ، وهو زعيم الخزرج القحطانية ، وجاءت الآية أعلاه بصيغة الجمع لبيان أن نفراً من قومه يذهبون لما يقوله .
الثالثة : إخبار الآية أعلاه عن حال المنافقين في المدينة وكيف أنهم غير راضين على مجئ أفواج المهاجرين إلى المدينة ، فصحيح أن الذي قاله شخص واحد ولكن الذين يظنون أنهم أهل المدينة من الأوس والخزرج وأولى بها أفراد متعددون .
الرابعة : قد حدث في معركة أحد ما يبين لغة الجمع مع إتحاد المتكلم , فعندما خرج المسلمون للقاء الذين كفروا في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة وكان عددهم نحو ألف رجل ، إنخزل ثلث الجيش في الطريق بكلمة من رأس النفاق نفسه حينما قال : علام نقتل أنفسنا ها هنا) ( ).
وفي المقارنة بين ما جرى في الطريق إلى أحد وبين قولهم [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( ) في غزوة بني المصطلق في السنة السادسة مسائل:
الأولى : أظهر المنافقون ما في قلوبهم من المرض وأسباب الضرر يوم أحد عند التوجه إلى ميدان القتال ، بينما ورد قول المنافقين في معركة حنين أثناء النزول وزوال موضوع القتال .
الثانية : أظهر رأس النفاق عبد الله بن أبي في الطريق إلى أحد الرغبة في الإمتناع عن مواصلة السير إلى أحد على نحو السؤال الإنكاري [علام نقتل أنفسنا ] فلقي التأييد والموافقة من كثير من قومه وإنخزلوا وسط الطريق في أكبر إنشقاق وخلاف يتعرض المسلمون في بدايات الإسلام ليس بلحاظ عددهم وحده ، بل بلحاظ أنهم ثلث جيش المسلمين .
وأما عندما وقع الخلاف بين المهاجرين والأنصار في غزوة بني المصطلق لم يكتف رأس النفاق بنصرة الأنصاري , بل إتجه إلى إعلان الحنق بخصوص كثرة المهاجرين والحسد على ثني الوسادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ،وإنقياد المسلمين والمسلمات له في حال السلم والمهادنة والحرب .
الثالثة : لقد كان إنخزال المنافقين يوم أحد تهديداً يواجه جيش المسلمين ، ولكن الله عز وجل وقاهم شره بأن أنزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين , فان إنسحب ثلاثمائة من المسلمين في الطريق إلى أحد إتباعاً وإستجابة لدعوة رأس النفاق بالرجوع وعدم الإشتراك في القتال ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضد كفار قريش وغطفان والأحابيش وأظهروا الإمتناع عن إعانة إخوانهم من الإنصار الأوس والخزرج الذين مضوا عازمين على ملاقاة الذين كفروا بالسيوف .
فقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بنزول عشرة أضعاف عددهم ولكن من الملائكة وقوة كل واحد منهم تفوق بأضعاف مضاعفة مجموع قدرة وقوة المنافقين الذين إنخزلوا وسط الطريق ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
وهل مسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى أحد بعد إنسحاب المنافقين في الطريق من الصبر الذي تذكرة الآية أعلاه بقوله تعالى [إِنْ تَصْبِرُوا] أم أن القدر المتيقن منه هو الصبر في المبارزة والمسايفة ورمي الرماح والنبال رامين ومرميين , قال تعالى [فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ] ( ).
الجواب هو الأول ، ولو دار الأمر بين الأقل والأكثر في مصاديق صبر المؤمنين يوم أحد وشك في فرد منها , هل هو من الصبر الذي تذكره الآية أعلاه أم لا ، فالصحيح هو الأول ، وهو من مصاديق خاتمة آية السياق [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ومن مصاديق صبر المسلمين يوم أحد وجوه :
أولاً : إستجابة للمسلمين للنفير والتهيئ للخروج إلى معركة أحد .
ثانياً : صبر المسلمين تهديد وتخويف لكفار قريش , وبرزخ دون زحفها بخيلها وخيلائها .
ثالثاً : ثبات المهاجرين والأنصار في مقامات القتال , وعزمهم على ملاقاة الحتوف عندما إنخزل ثلث الجيش في الطريق إلى أحد, وهذا العزم والصبر عمل صالح وأمر وجودي متجدد في كل آن من آنات كل من :
أولاً : مقدمات دخول معركة أحد .
ثانياً : الطريق إلى معركة أحد .
ثالثاً : خوض غمار القتال في معركة أحد .
رابعاً : الصبر والعزم بعد معركة أحد وسواء في طريق العودة إلى المدينة أو عند الوصول إلى المدينة .
الرابع : وقوف المؤمنين في الصف وإتخاذهم مواضع للقتال في مواجهة الجيوش والجحافل التي جاءت بها قريش .
الخامس : طاعة المؤمنين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ترتيب الصفوف , وإختيار موضع كل طائفة وجماعة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
السادس : صبر المؤمنين في المبارزة والمسايفة ، وهو أشد وجوه الصبر والتحمل لما فيه من إحتمال القتل ومغادرة الحياة وحتى لو كان المبارز متسلحاً بسلاح الإيمان وأكفأ من خصمه فان شبح الموت قريب منه .
السابع : صبر النبي محمد وأهل بيته وأصحابه عند ترك الرماة مواضعهم ومجئ خيالة العدو من الخلف وشيوع القتل بين المؤمنين .
الثامن : صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار وعوائلهم عند سقوط سبعين شهيداً خلال يوم واحد وهو اليوم الذي وقعت فيه معركة أحد .
التاسع : صبر المؤمنين عما فاتهم من الغنائم في معركة احد ،بعد قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ] في آية البحث على أن الصبر نعمة من عند الله عز وجل على المؤمنين وأن المسلمين بلغوا أسمى مراتب الصبر بفضل ولطف ومدد من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
العاشر : صبر المسلمين عند الصعود والفرار ، فمن مصاديق خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] إتخاذ المسلمين الصبر منهاجاً وطريقاً للنصر والغلبة على الذين كفروا ، وهذا المنهاج من أسباب تغشي الرعب والفزع للذين كفروا .
وفيه نكتة وهي كتابة الأجر والثواب للمؤمنين حتى في حال فرارهم وصعودهم الجبل لأن هذا الصعود في سبيل الله لمصاحبة الإيمان لهم في صعودهم ولتلقيهم دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع بالقبول والإستجابة والسلامة من الجزع والقنوط ، ويدل عليه ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة في دعوته لهم بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] ليكون في الآية شهادة من عند الله للمهاجرين والأنصار بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى وهم في حال هروب وفرار نتيجة شدة هجوم الذين كفروا .
وهل في لفظ [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] في الآية بشارة الأمن والسلامة والظفر بالعدو ، الجواب نعم ، فكما كانت دعوة الرسول إلى الإسلام بالحكمة والموعظة فكذا دعوته في ميدان المعركة فانها أمن وحرز وحكمة وبداية لإنتهاء المعركة ، ومن عادة العرب عند وقوع قتال أو قتل الوساطة والشفاعة وبذل الديات ودفع البدل والفداء للإصلاح بين القبائل ودرء الفتن ، إلا في القتال بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين كفروا من قريش ومن غيرها فليس من شفاعة للتضاد بين الإيمان والكفر ، وإنحصار سبيل الوئام بدخول الذين كفروا الإسلام.
المسألة الخامسة والعشرون : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم والله ذو فضل على المؤمنين , وفيه وجوه :
الوجه الأول : لقد كانت دعوة الرسول لأصحابه بالعودة إلى القتال فضلاً من عند الله , والنسبة بينها وبين خاتمة آية السياق هي العموم والخصوص المطلق فدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان معركة أحد فضل من الله من جهات :
الأولى : تعدد دعوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وعدم إنحصارها بمعركة أحد ، ففي كل يوم يدعوهم إلى أمر الله بالصلاة خمس مرات , وتنزل الآية القرآنية وهي تتضمن الأحكام الشرعية فيدعوهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للعمل بالأوامر وإجتناب ما نهى الله عز وجل عنه .
وهل هو ممن مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )الجواب نعم ، إذ أن السنة النبوية بيان للقرآن سواء القولية منها أو الفعلية .
الثانية : تكرار دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه للعودة للقتال بأن يكررها بلفظ (إلي عباد الله) ( ) أو ما بمعناها ، وهذا التكرار من مصاديق صيغة الجمع من وجوه :
أولاً : واو الجماعة في يدعوكم .
ثانياً : الضمير[كُمْ] في [أُخْرَاكُمْ] وكأن الآية إنحلالية ففي آخر كل جماعة منهم يأتي النداء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع والعودة .
وهل تعيين ألفاظ النداء الرسالي ومخاطبة المسلمين بلفظ [عباد الله] من فضل الله الذي أختتمت به الآية السابقة الجواب نعم لما فيه من التذكير بأن طاعة الرسول من مصاديق العبادة ، قال تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ).
ثالثاً : إذا دار الأمر في دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالعودة إلى ميدان القتال بين المرة والتكرار ، فالصحيح هو الثاني ، وهو المستقرأ من صيغة الفعل المضارع [يَدْعُوكُمْ] لما فيها من التجدد والإستقبال .
الثالثة : بيان المنافع العظيمة من سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل إذ إبتدأت بدعوته أصحابه للعودة إلى ميدان القتال مع قرب العدو منه .
وليس من فاصل بينه وبين العدو إلا بضعة أمتار ، إذ تثير هذه الدعوة غضب وسخط الذين كفروا وتجعلهم يشتدون في هجومهم وسعيهم لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن دعوته (إلي عباد الله) ( ) مقدمة لتجدد القتال وإستبسال المؤمنين فيه ، وتجدد حسهم وقتلهم للذين كفروا , وتقدير الجمع بين الآيتين : إذ تحسونهم بإذنه في بداية المعركة والرسول يدعوكم لتحسونهم في آخراها) .
ولكن الكفار عجزوا عن إظهار غضبهم بالبطش لإخبار الآية قبل السابقة عن إلقاء الرعب في قلوبهم بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
الرابعة : مع كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلان الدم من رأسه ووجنته ومحاربته بنفسه للذين كفروا فانه لم يترك أصحابه يفرون ويخسرون الثواب والأجر بل إنشغل بدعوتهم للرجوع إلى الميدان , ( وعن ابن اسحاق فحدثني حميد الطويل عن انس بن ملك قال كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم احد وشج وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه وجعل يمسح الدم وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فانهم ظالمون) قال ابن هشام وذكر لى ربيح بن عبدالرحمن بن ابى سعيد الخدرى عن ابيه عن ابى سعيد الخدرى ان عتبة بن ابى وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى وان عبدالله بن شهاب الزهري شجه في وجهه وان ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من المغفر في وجنته ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التى عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون فأخذ على بن أبى طالب بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورفعه طلحة بن عبدالله حتى استوى قائما ومص ملك بن سنان أبو أبي سعيد الخدرى الدم من وجهه ثم ازدرده فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مس دمى دمه لم تصبه النار( ).
وهل كانت هذه الدعوة النبوية لإرادة سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والفصل بينه وبين العدو ، ودفع المشركين عنه ، ويكون تقدير الآية الكريمة : والرسول يدعوكم في أخراكم لتدفعوا عنه القتل .
الجواب معنى وغايات الدعوة أعم ، وهو الذي تدل عليه وقائع معركة أحد وأن الصحابة حين رجعوا لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطر داهم من العدو ، لمصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
الخامسة : توثيق القرآن لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى معركة أحد بآية البحث لتكون وثيقة سماوية تبين جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في صدر الإسلام ، والتفاني من أجل بناء صرح الإيمان ، فيقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى الله وتبليغ آيات القرآن وأحكام الشريعة ، ويتحمل الأذى الشديد من الكفار ، حتى إذا وقعت معركة أحد قام بدعوة أصحابه للرجوع إلى الميدان ، وهو من مصاديق دعوته المتجددة إلى عبادة الله ، وقوله تعالى [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ] ( ) .
فثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان من مصاديق السبيل والمنهج الذي يتوارثه الأنبياء في سيرتهم وهو الدعوة إلى الله عز وجل بإخلاص وتفان .
وهل يجب على الصحابة الإستجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع أم أنها أمر مستحب ومندوب لتعيين الواجبات في الفرائض .
الجواب هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) ( ).
لذا فمن معاني ودلالات قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]إرادة الحياة للمؤمنين من جهات :
الأولى : السلامة من القتل ، ومنع مطاردة العدو لهم بين أحد والمدينة أو دخول العدو خلفهم في أزقة المدينة ، ولكن الله عز وجل حال دون هزيمة المؤمنين بفضله ولطفه سبحانه ومنه دعوة الرسول لهم بالرجوع إلى المعركة .
الثانية : المقصود من دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيت الإيمان في نفوس أصحابه لأن الإبتلاء والجزع والخوف أسباب للعزوف عن علتها وموضوعها إلا الإيمان وقصد القربة فلا يزيد أصحابه في حال الجزع والشدة إلا ثباتاً وإيماناً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى] ( ).
الثالثة : حث المؤمنين على الدعوة إلى الله ، وإتخاذ دعوة الرسول نبراساً وضياءً في الصبر والمرابطة ، وهي من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) ومن تقوى الله في المقام الإستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في العودة إلى ميدان المعركة لذا قلنا بإفادتها الأمر والوجوب .
الوجه الثاني : على فرض الجمع بين الآيتين حسب هذه المسألة وهي الخامسة والعشرون فان الواو في [والله] تفيد وجوهاً :
الأول : العطف : عطف الفضل الإلهي على دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , ويكون من عطف العام على الخاص .
الثاني : الإستئناف بأن تكون الواو دلالة على موضوع آخر ، وهو فضل الله المتصل والمتجدد على المؤمنين .
الثالث : العنوان الجامع للعطف والإستئناف .
والمختار هو الأخير ، ولتعدد معاني اللفظ القرآني وأسرار نظم آيات القرآن ، ويحتمل لفظ المؤمنين الوارد في خاتمة للآية السابقة وجوهاً :
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فهو أمام المؤمنين ووردت الآية بصيغة الجمع لإكرامه .
الثاني : المقصود المقاتلون الذين صبروا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعة المحنة وقاتلوا دونه ، ومنهم أم عمارة .
الثالث : إرادة عموم المسلمين الذين خرجوا إلى معركة أحد ، ولم يرجعوا مع رأس النفاق عند إنخزاله وسط الطريق .
الرابع : المقصود المسلمون والمسلمات أيام نزول الآية وأوان معركة أحد وبإستثناء المنافقين الذين يخرجون بالتخصيص لإبطانهم الكفر .
وهو من إعجاز خاتمة الآية السابقة إذ قيدت خصال الذين يتلقون الفضل الإلهي بوصفهم بالمؤمنين .
الخامس : إرادة المعنى الأعم وشمول عموم المسلمين والمسلمات في كل زمان وإلى يوم القيامة , ويحتمل جوابنا وجهين :
الأول :لا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق هذه الآية .
الثاني : الصحيح هو الأخير لإرادة المعنى العام الشامل .
فهل من فرق بين الوجهين في المقام ، الجواب نعم , لدلالة القول بعدم التعارض بين هذه الوجوه أعم ونقصد منه أن كل وجه من هذه الوجوه صحيح ليفوز أهل أحد الذي قاتلوا تحت راية التوحيد بمصاديق خاصة من الفضل الإلهي ، نعم لم يتوجه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده .
والفضل الإلهي بلحاظ آية البحث توليدي من جهات :
الأولى : ترشح الفضل الخاص على القضية والنعمة الشخصية.
الثانية : تفرع الفضل العام على الخاص ، فتأتي النعمة للفرد فينتفع منها هو والأمة ، وتترشح عنها نعم عامة أخرى .
الثالثة : الفضل العام الذي يتغشى الناس جميعاً وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ]( ).
الرابعة : ما خصّ الله به المسلمين من الفضل , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامسة : فضل الله على الخلائق كلها وهو على وجوه :
أولاً : الفضل المستديم .
ثانياً : الفضل الذي يأتي دفعياً .
ثالثاً : الفضل التدريجي .
السادسة : الفضل النافلة والزيادة ، فان قلت معنى الفضل هو الزيادة والنافلة .
والجواب يأتي فضل على ذات الفضل ، وليس هو من تحصيل ما هو حاصل بل التعدد والغيرية بين الفضل الأول والذي يأتي تالياً له وفرعاً منه ، وقيدناه بالفرعية لتمييزه عن وجوه أخرى من الفضل من وجوه :
أولاً : وجوه من الفضل مصاحبة للفضل الأصل .
ثانياً : ضروب من الفضل مصاحبة للفضل الفرع .
ثالثاً : أفراد من الفضل تتصف بمصاحبتها للأصل والفرع .
ومن الآيات في الفضل الإلهي أموراً :
أولاً : عدم إنقطاع الفضل الأصل عند مجئ الفضل الأصل .
ثانياً : مصاحبة الفضل الفرع للفضل الأصل .
ثالثاً : ترشح فضل ثالث ورابع من إجتماع الأصل والفرع من الفضل .
السابعة : الفضل الذي خص الله عز وجل به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , وفي التنزيل [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ] ( ) .
والآية أعلاه من الشواهد على تفرع الفضل الإلهي المتحد إلى مصاديق غير متناهية بلحاظ إغتراف ونيل وإنتفاع كل مسلم ومسلمة , بل وكل إنسان وإلى يوم القيامة من الفضل الإلهي الخاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وسلامته من الضرر والأذى وموانع التبليغ .
ومن اللطف الإلهي بالمؤمنين أنهم ينتفعون من جهات :
الأولى : الفضل العام الذي يأتي للناس جميعاً بلحاظ أنهم أفراد من الناس ، وبينما عموم وخصوص مطلق , فكل مؤمن إنسان وليس العكس .
الثانية : الفضل الذي يأتي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، فهو كالنهر الجاري الذي يمر على بيت كل مسلم فيغترفون منه بكرة وعشياً , ومن مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الثالثة : ما يأتي لكل مؤمن من الفضل , إذ ينتفع منه المسلمون جميعاً .
الوجه الثالث : لقد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ترى ما هي مصاديق الفضل من عند الله بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]الجواب من وجوه :
أولاً : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشهادة له بأنه رسول من عند الله فضل من الله على المؤمنين .
ثانياً : من فضل الله منع دبيب الشك والريب إلى قلوب المؤمنين في ساعة الحرج والشدة , وعند الإنسحاب والإنهزام والصعود على الجبل .
وقد يحدث بعضهم نفسه ما دام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من عند الله لماذا يهزمنا الذين كفروا ، فجاء الجواب بآية البحث التي هي برزخ دون مثل حديث النفس هذا , لأن الفرار والصعود والإنسحاب من المسلمين في جولة من المعركة ليس نهاية لها ، فهم يعودون إليها في ذات الوقت أو بعده حسب الحال والمناسبة .
لتكون دعوة متجددة في كل زمان للمؤمنين في ميدان القتال وزاجراً للذين كفروا عن التعدي على المؤمنين , وهذا التجدد والزجر من مصاديق خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ].
الوجه الثالث : بين موضوع الآية السابقة وخاتمتها عموم وخصوص مطلق , فالمراد من المؤمنين في خاتمة الآية وجوه :
الأول : المهاجرون والأنصار الذين حضروا معركة أحد ، وهل يلزم التقييد بأنهم الذين قاتلوا تحت لواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا ، فاحتمال خروج المهاجر أو الأنصاري كرهاً مع الذين كفروا أمر ممتنع واقعاً ، وليس من حصر لفضل الله عليهم والذي تبينه آية البحث والآية السابقة .
الثاني : المقصود عموم المؤمنين أيام نزول آية البحث وحال وقوع معركة أحد , وبيان حقيقة وهي أن هذه المعركة رحمة بالمؤمنين بذاتها وغايتها , والمواعظ المستقرأة منها .
الثالث : المقصود المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة .
والصحيح هو الأخير لأصالة الإطلاق وعموم النفع , فيكون تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم يوم أحد لتعودوا إلى المعركة .
وكل من دعوة الرسول والإستجابة لها من فضل الله على المؤمنين في أجيالهم المتعاقبة .
الثاني : والرسول يدعوكم رحمة بالمؤمنين والمؤمنات الذين في المدينة لما في الهزيمة من الأذى والحزن لهم .
الثالث : والرسول يدعوكم فضلاً من الله عز وجل عليكم ، وليس من أمة تنهزم في القتال , فيأتيهم نداء خاتم النبيين بالعودة إلى المعركة فيستجيبون له فلا يجدون قتالاً ببركة دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : عدم تجدد القتال بعد عودة المؤمنين للمعركة من مصاديق خاتمة الآية ( والله ذو فضل على المؤمنين ) .
الخامس : والرسول يدعوكم في أخراكم ليقتدي بكم المؤمنون في معارك الإسلام القادمة ، وهذا الإقتداء من جهات :
الأولى : تلاوة آية البحث وإخبارها عن دعوة الرسول .
الثانية : حسن التوكل على الله بأن الرجوع إلى المعركة أخف وطأة من الهزيمة .
الثالثة : ثقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه وحثهم على طاعة الله بدعوتهم للرجوع إلى المعركة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ] ( ).
وفي أسباب نزول الآية أعلاه ورد عن سعد بن أبي وقاص (قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له : إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا . قال : ولم سألتم هذا؟ قالوا : نطلب الأمن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم } الآية)( ).
المسألة السادسة والعشرون : تقدير الجمع بين الآيتين : ولقد صدقكم الله وعده فأثابكم غماً بغم ) :
من معاني ودلالات تسمية الآية القرآنية بالآية وجعل فاصلة بينها وبين غيرها من الآيات أن الذي يتلوها يدرك أنه في روضة ناضرة , وكأنها مقدمة لدخول الجنة وطريق إليها ، إذ تتصف الآية القرآنية بأنها كنز للعلوم وخزانة للمواعظ ، ومدرسة للأجيال .
وإذا ترك المسلم لأبنائه تلاوة الآيات القرآنية إرثاً وتركة صاروا في غبطة وخير .
لذا تفضل الله عز وجل وجعل تلاوة القرآن واجباً عينياً في الصلاة على كل مسلم ومسلمة بقيد البلوغ والعقل والتكليف ، وهو من مصاديق قوله تعالى في خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ].
فهذه التلاوة فضل على الأب والابن وتأديب سماوي للأبناء يتضمن معاني التخفيف عن الآباء وتعضيدهم ، وعندما وقعت معركة بدر وأحد والخندق وحنين نزل الملائكة مدداً لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وبخصوص معركة بدر نزل قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
أما في حال السلم وقبل وبعد إلتقاء الصفين فان المدد الإلهي للمسلمين حاضر وجلي , لتكون أفراد ومصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] من اللامتناهي من وجوه :
الأول : ذات الوعد الإلهي وتعدد أفراده .
الثاني : تفضل الله بصدق وعده وتنجزه ، ترى لماذا وصفت الآية تنجز الوعد الإلهي بأنه صدق من عند الله ،الجواب من جهات :
الأولى : تأكيد قانون في الإرادة التكوينية من وجهين :
أولاً :تفضل الله عز وجل بالوعد للمؤمنين ، وهو الغني عنهم وعن الناس , وفي التنزيل [اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
ثانياً : الملازمة القطعية بين الوعد من الله وتنجزه وصيرورته واقعاً وصدقاً .
الثانية : ما أن تنزل آية قرآنية بالوعد الإلهي حتى يتطلع المسلمون إلى تنجزه .
الثالثة : تحقق مصداق الوعد من الله رحمة وجزاءً عاجلاً للمسلمين .
الثالث : تجدد مصاديق وأفراد الوعد الكريم من عند الله للمسلمين في كل زمان .

من منافع آية البحث
لقد تجلت منافع قوله تعالى [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] ( ) في الآية السابقة في يوم حنين ، وهذا التجلي والبيان الفعلي لمصاديق الآية أعلاه من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية من وجوه :
الوجه الأول : سلامة جيش المسلمين من الهزيمة عند وقوع الهجوم المفاجئ والمباغت ، وقد إتعظ المسلمون من واقعة أحد من جهات :
الأولى : غدر المنافقين بإنخزالهم وسط الطريق إلى أحد مع علمهم بكثرة أفراد جيش الذين كفروا , وما يطلبونه من الثأر والإنتقام .
الثانية : وقوع الخلاف والخصومة بين الرماة عندما رأوا جيش المشركين يتهيأ للفرار ونسوتهم اللائي جئن ينشدن الأشعار والزجر والأهازيج ويضربن بالطبول فصرن وفي بدايات المعركة يهرولن إلى الأبل لركوبها والهروب إلى مكة خشية السبي بعد أن قتل المسلمون حملة لواء المشركين ونفراً من رجالاتهم .
وموضوع الخلاف هو البقاء على الجبل طاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم تركه والنزول لجمع الغنائم بلحاظ أن القدر المتيقن من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو حال المبارزة والمسايفة والكر والفر ، قال تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ].
الثالثة : إتعاظ المسلمين مما أصابهم من الفشل والجبن الظاهر على الأفعال بالفرار والإنسحاب وعدم اللوي والإلتفات إلى الوراء في حال الفزع , لقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] .
وظهر الفشل والجبن على فريق من المسلمين الذين فروا أو وظنوا دنو الأجل وأحسوا بقرب السيوف من رقابهم ولكن الخطاب في الآية ورد عاماً لجميع المسلمين ، وهل يتبادر إلى الذهن أن الفشل والجبن أصابهم جميعاً ، بما فيهم الذين يقاتلون حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين يديه .
الجواب لا ، للتنافي والتضاد بين الفشل ومزاولة القتال بالسيف مع قرب العدو وشدة بطشه ووتره وطلبه الثأر ليس شخصياً يتعلق بقتل شخص واحد ، أو أن الذي يطلبه شخص واحد ، بل جاء ثلاثة آلاف رجل يريدون الثأر لأمور :
أولاً : قتل سبعين فارساً من كفار قريش بيوم واحد ، هو السابع عشر من شهر رمضان .
ثانياً : هزيمة قريش ولحوق الخزي والذل بهم يوم بدر.
ثالثاً : وقوع سبعين أسيراً من المشركين أسرى بيد المسلمين ، لقد كانت قريش ذات شأن عند القبائل العربية وحتى عند الدول العظمى آنذاك كالدولة الرومانية والفارسية , ولابد أن شأنهم قلّ حين وقع منهم في يوم واحد سبعون قتيلاً وسبعون أسيراً من جيش قليل باسلحة بدائية بسيطة من السيوف والعصي إذ خرج أكثرهم من المدينة وهم لا يريدون القتال , وكانت قريش هي التي طلبت القتال وسعت إليه .
لقد جعل الله عز وجل لقريش من (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) ( )إلى اليمن في الشتاء لجلب الحبوب ورحلة [الصَّيْفِ] إلى الشام لجلب البضائع مناسبة لمعرفة التجار والأمراء برجالات قريش ومنزلتها بين القبائل ، وعندما وقعت الحرب بين الدولة الرومانية والفارسية كما في قوله تعالى [وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ] ( ) إنقطع طريق التجارة بين العراق والشام , وصار طريق القوافل بين اليمن والشام , وهي محملة بالتجارات والبضائع .
ويخشى التجار في الشام واليمن وما وراءهما على أموالهم إذ كانوا يبيعون قريشاً بالآجل ، وحتى إذا كانوا يبيعونهم بالنقد فأنهم يرجون لهم الإستقرار ودوام الأمن في طريق القوافل , ومنه إكرام القبائل العربية التي تمر عليها قوافل التجارة لقريش لأنهم مجاوروا البيت الحرام ويتولون السدانة والسقاية والحجابة والعناية بوفد الحاج والمعتمرين , وهم أولوا بأس وتستجيب لدعوتهم بالنصرة قبائل العرب , ولكنهم جحدوا بهذه النعم بمحارتهم النبوة ومن القوانين في الإرادة التكوينية سلب النعم عن أعداء النبوة والذين يقاتلون المؤمنين بها سواء كان قتالهم بتلك النعم أو بدونها إذ تكون العاقبة الخسران المبين في الدنيا ليكون موعظة لهم ولغيرهم قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ) فان قلت يكون سوء عاقبتهم درساً وموعظة لغيرهم من الناس ، فكيف يكون موعظة لهم .
الجواب أن سوء عاقبة الفرد والجماعة مناسبة لهم للإستغفار والتوبة والتدارك ، ويمكن تسمية الدنيا بأنها (دار موعظة ) وتأتي الموعظة من وجوه :
أولاً : الإتعاظ من أخبار الأمم السالفة، وهو على جهتين:
الأولى : أنباء الأنبياء والموحدين من الأمم السابقة، وما نالوه من النعم في الحياة الدنيا.
الثانية : قصص الظالمين ورؤساء الضلالة وتابعيهم.
ثانياً : إتعاظ الإنسان ممن حوله مجتمعين ومتفرقين، وإذ تحتاج الموعظة من الأمم السابقة إلى كسب وسعي ووسط أما إتعاظ الإنسان ممن ومما حوله فهو أمر مدرك بالحواس، وهو من الآيات في تسمية الإنسان بالإنسان ليأنس بالإعتبار والإتعاظ ممن حوله.
ثالثاً : إتعاظ المسلم وغيره من قصص القرآن , ومجئ آياته باخبار الأولين , فحينما تفضل الله عز وجل وجعل الدنيا (دار الموعظة) فانه سبحانه أبى إلا أن يجعل أصل تعيين موضوع الموعظة إلا في القرآن والتنزيل .
ومن معاني خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( )، سلامة القرآن من التحريف والتبديل لينتفع المسلمون من قصص القرآن
الإنتفاع الأمثل، ويقتبسوا منها المواعظ , ويتخذوها والناس مدرسة للهداية والصلاح، وهو من مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، بتقريب أن من حسنها سلامتها من التحريف والتبديل ونهل وإستقراء الأجيال الموعظة والسنن منها ، ففي كل زمان تطل علينا دروس وينابيع من الحكمة من قصص القرآن بحسب لحاظ الموضوع والحكم وأحوال أهل الزمان .
رابعاً : إتعاظ الإنسان من نفسه ، وما تمر عليه من الحوادث والوقائع والقول والفعل اللذين يصدران منه ، وما يجلبانه من النفع أو يدفعانه من الشر والأذى ، وفي التنزيل [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] ( ).
خامساً : إتعاظ المسلمين مجتمعين ومتفرقين من الوقائع والأحداث والمعارك التي جرت في السنين الأولى للإسلام وعهد النبوة ، وهل في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )موعظة وعبرة للمسلمين الجواب نعم ، ويمكن تأسيس علم جديد هو (كل آية قرآنية موعظة ) وتحتمل الموعظة في الآية القرآنية من جهة الإتحاد والتعدد وجوهاً :
الأول : إتحاد الموعظة في الآيات القرآنية ، فتكون المواعظ في القرآن بعدد آياته .
الثاني : تعدد الموعظة في القرآن بلحاظ الجمل المفيدة في الآية القرآنية ، وكل جملة في الآية موعظة مستقلة .
الثالث : كل كلمة من الآية القرآنية موعظة .
الرابع : تعدد الموعظة المستنبطة من الآية القرآنية .
والصحيح هو الرابع ، ويكون الوجه الثاني والثالث في طوله ومن وجوه الموعظة في آية البحث أمور :
الأول : وقوع الهزيمة والفرار من جيش المسلمين بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] ومن دلالات القرآن وصيغ ندبة المسلمين بلحاظ بخصوص آية البحث أمور :
أولاً : مجئ نبأ الهزيمة في أول آية البحث ، فتكون الآية التي تحكي هزيمة المسلمين وتوثقها ومناسبة للتدبر .
ثانياً : صيغة العموم في لغة الآية وخبر الهزيمة , ولم يفر كل المسلمين من المعركة، ولكن هذه الصيغة لبعث المسلمين على أخذ الحائطة واليقظة في القتال، والمناجاة على عدم الفرار، وتقدير الآية على جهات:
الأولى : إذ تصعدون كيلا تصعدون.
الثانية : إذ تصعدون لأن منكم من أراد الدنيا.
الثالثة : إذ تصعدون والله يدعوكم للثبات في مواقعكم.
الرابعة : إذ تصعدون ولو أطاع الرماة رسول الله لما صعدتم وفررتم.
الخامسة : إذ تصعدون والرسول يدعوكم في أخراكم.
السادسة : إذ تصعدون والذين كفروا يريدون قتلكم.
السابعة : إذ تصعدون فانزل الله آية السيف وآيات القتال.
الثامنة : إذ تصعدون ليبوء الذين كفروا بالإثم وسوء العاقبة.
التاسعة : إذ تصعدون فيشهد لكم الناس بصدق الإيمان ، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله بلحاظ أن المسلمين صعدوا الجبل وفروا من وسط المعركة بصفة الإيمان، والثبات على الهدى، فليس من نقص أو عيب عندهم ,ولكن الذين كفروا أظهروا بطشاً شديداً ، وإصراراً على الجحود، وقد تجلى بتعجيلهم الهجوم لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه.
ولما كان كفار قريش يسافرون كل سنة عدة سفرات إلى الشام واليمن، ومنهم من يسافر إلى الحبشة وبلاد فارس .
فهل كان هناك تحريض من إحدى الدخول العظمى آنذ اك أو من التجار في تلك البلدان على الإجهاز على الإسلام قبل أن يرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسائله إلى ملوك وأمراء زمانه في السنة السادسة للهجرة يدعوهم للإيمان أو بعدها , الجواب لا دليل عليه , ولكنه إصرار كفار قريش على الجحود بالنبوة.
العاشرة : إذ تصعدون فيطمع بكم الذين كفروا لولا فضل الله.
الحادية عشرة : إذ تصعدون ونفر منكم يقاتلون دون رسول الله.
الثانية عشرة : إذ تصعدون وقد حضر الملائكة لنصرتكم.
الثالثة عشرة : إذ تصعدون فانزلوا وارجعوا إلى ميدان المعركة لأن الملائكة يقاتلون معكم، ويدفعون عنكم.
الرابعة عشرة : إذ تصعدون والله وليكم وهو ناصركم.
الخامسة عشرة : إذ تصعدون وأهل الأرض والسماء يتطلعون إلى جهادكم وزحفكم وهجومكم على الكفار.
السادسة عشرة : إذ تصعدون وقد أنكر الملائكة خلافة الإنسان في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، فكان هجوم الكفار وقتلهم حمزة بن عبد المطلب وأصحابه التسعة والستين في معركة أحد.
ليكون فرار وصعود المؤمنين حجة على الذين كفروا لأن إمتناعهم عن دخول الإسلام وهجومهم على المدينة مصداق للفساد في الأرض وإشاعة القتل بغير حق، فجاءت آية البحث وقوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ] من مصاديق ردالله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، بأن الله سبحانه يثيب المؤمنين ويذكر فرارهم وصعودهم يوم أحد ليكون حجة على الذين كفروا وسبباً لإستئصال الكفر والضلالة بلحاظ أن الكفر علة غيرية لصعود وفرار المسلمين ، ومقدمة لنزول المدد والنصرة من عند الله عز وجل .
ثالثاً : من صيغ ندب المسلمين للإتعاظ بخصوص آية البحث التفصيل في كيفية فرار وهروب المسلمين يوم أحد من وجوه :
الأول : صعود المسلمين وإرادة المعنى الأعم من كلمة الصعود بأخذه على ظاهره أي الصعود إلى الأعلى ، أي إلى جبل قريب من موقع المعركة .
الثاني : بيان المشقة في الصعود , والتعب والعناء عند التسلق والإرتقاء في الأرض .
الثالث : حال الخوف الذي ترشح عنه ترك الموضع في القتال .
الرابع : إمتناع المسلمين عند فرارهم عن الإستدارة , والنظر إلى مجريات الأمور في معركة القتال .
الخامس : تدعو آية البحث إلى تأسيس قواعد وتثبيت فنون للإنسحاب والفرار من المعركة عند الحاجة والضرورة والتهيئ للدفاع والتصدي للعدو , ويتجلى قيد الحاجة والضرورة بقوله تعالى [وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ] ( ) .
وهل كان الذين صعدوا على الجبل ، وفروا من ساحة المعركة بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ]ممن تولوا دبرهم عند الزحف أو لا , الجواب لا , فقد دعاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للعودة وهو فئتهم .
الوجه الثاني : كثرة جيش المسلمين في معركة حنين ، إذ كان عدد المسلمين الذين حضروا معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة سبعمائة مقاتل وأغلبهم رجالة ليس عندهم رواحل ، أما في معركة حنين التي وقعت في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة فكان عدد المسلمين فيها إثني عشر ألف رجل ، وتلك آية تدل على صدق نبوة محمد مع لحاظ قلة الرجال وأفراد القبائل في مكة والجزيرة آنذاك بالقياس إلى هذا الزمان الذي تدل فيه كثرة سكان مكة وما حولها على بركة نبوة محمد وإستجابة دعوة إبراهيم ، كما ورد في التنزيل [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( ) وليس من جيش في العالم مثل جيش المهاجرين والأنصار الذي يتصف بأمور تتجلى فيها معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية منها :
الأول : أن يأتي العدو مهاجماً حتى يتجهزون للخروج وإرادة القتال بشوق ولهفة سبباً لإرادة النصر والغلبة في المعركة .
الثاني : حب الشهادة في سبيل الله والإخلاص في القتال وبذل الوسع في الدفاع عن الإسلام وبخصوص معركة أحد ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
الثالث : عدم ترك المؤمنين التفقه في الدين وأداء الفرائض قبل وأثناء وبعد المعركة ، وهو من أسباب بعث اليأس في قلوب الأعداء ومن مصاديق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
الرابع : تعضيد القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين دفاعهم عن الإسلام فلا يدخلون المعركة إلا وعندهم قواعد للقتال تستقرأ من آيات القرآن التي نزلت قبل المعركة .
وعندما إستشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وهم في الطريق إلى معركة بدر ،( فقال المقداد بن الأسود : أما واللّه لا نقول لك ما قال قوم موسى إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون) ( ) .
وإقتبس المقداد كلامه من آيات القرآن ولزوم نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن قوله تعالى بخصوص موسى وابي إسرائيل [َاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]( ).
وإستحضر المؤمنون في معركة أحد الآيات التي نزلت بمناسبة معركة بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وأظهر المنافقون الحسد والنفرة من إنتصار الإسلام وقهر المسلمين للذين كفروا ، خاصة وأن أغلبهم يبقون في المدينة ، ويمشون في أسواقها ، حال النفير , ويوجهون اللوم لأبناء عمومتهم من المؤمنين الذين خرجوا تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقتال والدفاع فنزل القرآن من عند الله بتوجيه الذم والتبكيت للمنافقين ، وهو من عمومات قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( )من جهات :
الأولى : ذم المنافقين نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : التخفيف عن المؤمنين بأن يحمي الله ظهورهم ، ويجعل الذي يستهزأ أو يسخر أو يلوم المؤمنين الذين خرجوا للقتال في معركة أحد في حال الحصر والإرتباك .
الثالثة : إرادة المعنى الأعم من الآية أعلاه ، وتقديرها : أليس الله بكاف عبده في معركة بدر وتحقق النصر على الذين كفروا ، ومعركة أحد إذ إنهزم أكثركم ، فان قلت هناك مسألتان :
الأولى : لماذا لم يكف الله عز وجل النبي محمداً القتال يوم أحد لينجوا سبعون شهيداً من المسلمين وينزل صاعقة على الذين كفروا كما أمطر إبرهة وجيشه بحجارة صغيرة فتدخل في رأس أحدهم وتخرج من دبره ، قال تعالى [وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ] ( ).
الثانية : لقد أصيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجراحات عديدة في معركة أحد .
أما بالنسبة للمسألة الأولى فقد جعل الله عز وجل الحياة دار إبتلاء وإمتحان لذا فزعت الملائكة إلى الله عز وجل عندما أخبرهم بجعل خليفة في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )ولم تعلم الملائكة أن خاتمة القتال بين الإيمان والكفر هو غلبة الإيمان ونصر الأنبياء والذين آمنوا معه ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
وقد تقدم قبل آيات إخبار القرآن عن قتال الأنبياء بقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
ومن بديع صنع الله عز وجل وسنن الإبتلاء في الدنيا نزول العذاب والمحق بالظالمين وإن تباينت ضروب الإبتلاء ، وهذا التباين من مصاديق الإبتلاء والدلائل على عظيم قدرة الله وسعة سلطانه وليكون كل واحد منها موعظة للناس ، وهو من الشواهد على حاجة الناس للقرآن إذ يتضمن الإخبار والتوثيق لسوء عاقبة الذين حاربوا الأنبياء , وفيه إنذار لكفار قريش ومن والاهم بلزوم إجتناب محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويحتمل كون ختم القتال لصالح النبي والذين آمنوا وجوهاً :
أولاً : إنه قانون دائم ومطلق ينبسط على كل المعارك التي خاضها الأنبياء سواء بحضور النبي المعركة أو بارساله السرايا وأفواج الدفاع .
ثانياً : إرادة الأكثر والأغلب من معارك الإسلام فقد تحصل هزيمة للنبي وأصحابه ، وهو لا يضر بعموم قانون غلبة ونصر الأنبياء .
ثالثاً : من الإبتلاء في الحياة الدنيا تعرض النبي في قتاله أعداءه للخسارة أحياناً .
والمختار هو الأول ، ولا ينخرم هذا القانون بوقوع خسارة للنبي في بعض المعارك والذين كفروا فلا عبرة بالقليل النادر .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم خسارته معركة من المعارك التي قاد فيها جيش المسلمين لمواجهة الذين كفروا وعددها نحو ثمان وعشرين معركة .
ولم يخسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم معركة أحد , وتدل عليه آيات منها البحث ، من وجوه :
أولاً : دلالة قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] على حقيقة وهي مزاولة الصحابة للقتال وشدة هجوم الذين كفروا عليهم .
ثانياً : دلالة قوله تعالى ( لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ) في مفهومه على سلامة المؤمنين من الخسارة يوم أحد لأنها تخبر على فوات الغنائم , مما يدل على عدم الخسارة إنما فات المغنم في تلك المعركة مع الأهلية لإحرازه .
ثالثاً : يدل قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] على حقيقة وهي عدم إنتهاء المعركة بصعود وفرار الصحابة , فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم للرجوع إلى ميدان المعركة .
رابعاً : سلامة ونجاة المسلمين من الوقوع في الأسر .
ولم ينقطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من أهل بيته وأصحابه عن القتال والدفاع يوم أحد ، وجاءت دعوته لأصحابه الفارين دفاعاً عنهم عند الأجيال المتعاقبة , وفي ثنايا سجلات التأريخ من جهات :
الأولى : عدم إبتعاد الصحابة الفارين عن ميدان المعركة بلحاظ سماعهم نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إصابة جيش الإسلام بالأذى والضرر والجراحات في معركة أحد .
الثالثة : حين رجع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش وسط الطريق لم ينادهم أو يدعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرجوع ، وحينما إنهزم المؤمنون من وسط المعركة وصعدوا الجبل وفروا في الطريق دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إلي عباد الله إلي عباد الله ) وتلك آية في إكرام الصحابة ، خاصة وأن هذه الدعوة من الوحي .
لقد ورد في وصف الصحابة بالشدة على الكفار بقوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] ( )وفي صعودهم وفرارهم الوارد في آية البحث في قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]بلحاظ الآية أعلاه وجوه :
الأول : إرادة المجمل والعام في شدة الصحابة على الكفار .
الثاني : خروج حال الإنهزام والصعود التي طرأت على المؤمنين من وصف الصحابة بالشدة والغلظة على الكفار .
الثالث : صحيح أن طائفة من المؤمنين فروا من وسط المعركة ولكن نفراً من أهل البيت والصحابة كانوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان ليكونوا مصداقاً لعنوان الأشداء على الكفار .
الرابع : تلبس وتحلي المهاجرين والأنصار بالقتال في معركة بدر ومعركة أحد أو هما معاً بجعل عنوان ( أشداء على الكفار ) يصدق عليهم على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي .
الخامس : بين الشدة على الكفار وحال القتال والدفاع عموم وخصوص مطلق ، إذ تتجلى شدة المؤمنين على الكفار بتوبيخهم على عبادة الأوثان وذمهم على عادات الجاهلية .
وهل تحمل المؤمنين الأذى والتعذيب من المشركين كما في إيذائهم لآل ياسر بما فيهم سمية أم عمار وبخصوص بلال ورد أنه كلما إشتد عليه العذاب قال أحد أحد , ليبعث الفزع والخوف في قلوب الذين يعذبونه من كفار قريش .
من الشدة على الكفار التي تذكرها الآية أعلاه الثناء على المؤمنين , الجواب لا ، لأن الشدة مفاعلة من وجوه :
أولاً : الشديد على غيره .
ثانياً : الموضوع الذي يتصف بالشدة .
ثالثاً : الذي تقع عليه الشدة والقسوة والغلبة .
وكذا فان عدم الركون ليس من الشدة كما في قوله تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ).
السادس : من الشدة الغلظة والتبكيت كما في قوله تعالى [جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ).
الوجه الثالث : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية يوم حنين بلحاظ وحضور قوله تعالى في آية البحث [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]عدم فرار المؤمنين في الأرض أو الصعود في الجبل ، إنما إنهزمت كتائب المسلمين التي كانت تسير في المقدمة لأن الذين كفروا من هوازن وثقيف فاجأوهم بالهجوم فلم تكن معركة حنين مثل معركة بدر وأحد اللتين بدأتا بالتقاء الصفين إنما كمنت هوازن وثقيف في جنبات الوادي حتى إذا وصل المسلمون باغتوهم بالهجوم عليهم .
ومن الإعجاز فيه المنع من القول في بعض الأزمنة أن نصر المسلمين منحصر بالتقاء الصفين ، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحرب خدعة( ).
وأما لو كان سير المعركة على نحو مغاير فقد لا يحقق المسلمون النصر فجاءت معركة حنين خلافاً لقواعد الحرب والمبارزة في زمان النبوة ، فإتخذ مالك بن عوف رئيس هوازن من المباغتة سلاحاً في أول المعركة مع تنظيم صفوف قومه بالإستمرار بالهجوم ، وعدم الوقوف عند حد معين ، لتتجلى المعجزة وإفشال هجوم هوازن بذات السلاح الملكوتي والفعل الدفاعي المترشح عن الوحي وهو ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة ، وعدم مغادرته موضعه .
وهناك تباين زماني ومدة خمس سنوات تفصل بين معركة أحد ومعركة حنين ، ووقعت أحداث وحصل تغيير عظيم في المنازل والمقامات والشأن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )فبعد أن كان المسلمون مستضعفين في مكة ويتعرض حكم الإسلام في المدينة إلى الهجوم ذي الصبغة العسكرية والإقتصادية والإجتماعية , ويحرض كبار رجالات قريش من الكفار القبائل على الإسلام ، ويجهزون الجيوش العظيمة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برجوع قريش من المعارك على وجوه :
الأول : هزيمة قريش يوم بدر فلم تقف خيلهم وإبلهم إلا في مكة مع أن المسافة بين بدر وبينها نحو ثلاثمائة وخمسين كيلو متراً مع إنكسار وخزي لكثرة قتلاهم والأسرى الذين وقعوا بيد المسلمين ، إذ كان دخول سبعين أسيراً من الكفار إلى المدينة في معركة بدر على وجوه :
الأول : دعوة للمسلمين للإجتهاد بالدعاء لطلب النصر .
الثاني : حث المسلمين على بذل الوسع في الدفاع والجهاد .
الثالث : دخول الأسرى من الذين كفروا إلى المدينة المنورة أمر مفاجئ لم يكن في الحسبان ، وفيه تبكيت للمنافقين .
الرابع : إنه من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثاني : مصاحبة الذل والإنكسار لكفار قريش عند الرجوع من كل معركة من معارك الإسلام لعجزهم عن تحقيق أي غاية سعوا إليها في القتال وعند مقدماته .
الثالث : رجوع قريش خائبين من معركة أحد بعد أن عجزوا عما سعوا إليه من الغايات الخبيثة ، قال تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ].
وهل إدعى كفار قريش ومن والاهم من غطفان والأحابيش تحقيق النصر في معركة أحد ، الجواب لا دليل عليه ولا عبرة بما قاله أبو سفيان يوم أحد(يوماً بيوم وأن الأيام دول والحرب سجال) ( ) وقال حنظلة بحنظلة وفلان بفلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا سواء . أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون) ( )، أي أن المسلمين قتلوا إبنه حنظلة في معركة بدر ، وقتل المشركون حنظلة بن أبي عامر الراهب يوم أحد , ولكن كانت خسارة الذين كفروا يوم بدر سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً ، إلى جانب موضوعية العاقبة ، فقتلى المسلمين في الجنة وقتلى الكافرين في النار وبلحاظ آية البحث يكون من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] مسائل :
الأولى : الآية أعلاه برهان على أن الذين كفروا لم يفرحوا أو يستبشروا بفرار وصعود طائفة من المؤمنين على الجبل بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ].
الثانية : بعث السكينة في نفوس المؤمنين بإقرار الذين كفروا بخيبتهم وقصورهم عن الإضرار بالمؤمنين إذ يحتمل قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] وجوهاً :
الأول : لا يعلم الذين كفروا بخيبتهم في معركة أحد فتأخذهم المكابرة ويغلب عليهم الرياء والكذب ويعلنون زوراً أنهم انتصروا في معركة أحد ليصبح هذا الإعلان كالحقيقة في النفوس .
الثاني : التفصيل وأن فريقاً من الذين كفروا يعلمون أنهم عادوا خائبين من المعركة ، وفريقاً لا يعلمون هذه الحقيقة .
الثالث : علم الذين كفروا ممن حضر معركة أحد بخيبتهم وخسارتهم .
والمختار هو الثالث لأصالة الإطلاق في معرفة الخيبة , ولفضل الله في إبتلاء الذين كفروا بالذل والهوان , ويحتمل أوان ومدة إحساس وإدراك الذين كفروا بالخيبة وجوهاً :
أولاً : أدرك الذين كفروا الخيبة وهم في ميدان المعركة عندما أخذ حملة اللواء يتساقطون واحداً بعد آخر حتى حملته امرأة منهم ، وهل في حملها للواء خيبة حالة وآجلة , وخزي لكفار قريش الجواب نعم , لما فيه من عجز الرجال منهم عن التصدي لوظيفة من وظائف القيادة والزعامة بما يمثله اللواء من دلالة على تماسك الجيش .
فان قلت قد دافعت امرأة دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي أم عمارة , فهل فيه عيب على المسلمين الجواب لا ، للتباين الموضوعي ، إذ شاركت أم عمارة نفراً من أهل البيت والصحابة في الدفاع والذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يصح تقدير آية البحث : إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأم عمارة تقاتل دون رسول الله ) الجواب نعم ، ولكن ليس بمعنى اللوم والتقريع ، إنما لإرادة الحث على الرجوع إلى المعركة ، وإجتناب الفرار في المعارك اللاحقة بالإسلام وفي التنزيل [وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] ( ).
ولعل حمل امرأة من المشركين لواءهم لإرادة إجتناب المهاجرين والأنصار الإجهاز عليها وقتلها للتنزه عن قتل المرأة الذي هو أمر معيب ، وهو من مصاديق خيبة الذين كفروا وزجر لهم من التعدي على المسلمين .
لقد كان الذين كفروا يشعرون بالخيبة وهم في مكة يستعدون لمعركة أحد إذ تتجلى هذه الخيبة من الحسرة والخزي الذي ترشح عن هزيمتهم في معركة بدر .
ثانياً : مصاحبة الخيبة للذين كفروا من يوم معركة بدر , وهو من مصاديق تسميته[يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( ).
ثالثاً : أصيب الذين كفروا بالخيبة في طريق العودة من معركة أحد , إذ إكتشفوا أنهم لم يبلغوا ما كانوا يطلبون .
رابعاً : لم يدرك الذين كفروا خيبتهم إلا بعد رجوعهم إلى مكة وتتبع الناس إلى كيفية جريان الوقائع في معركة أحد ، وذكر قتل الطرفين من جهة العدد والمنزلة ، ومقارنة ما عاد به الذين كفروا من معركة أحد بالقياس مع الوعيد والوعود التي أعلنوها قبل المعركة وعند تجهيز الجيوش لحرب النبوة والتنزيل .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة خصوصاً وأن الخيبة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوته قوة وضعفاً .
فان قلت الظاهر من قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] هو إصابة الذين كفروا بالخيبة حال رجوعهم من معركة أحد ، والجواب إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، وأن شهادة الآية أعلاه على خيبة الذين كفروا بعد إنتهاء المعركة لا يدل على نفي الخيبة عنهم قبل إنقلابهم ورجوعهم من المعركة .
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خيبة أعدائه الذين يحاربونه بالسيف او الكلمة أو الإقتصاد .
الثالثة : بيان صفحة مشرقة من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يفر أصحابه أمام شدة هجوم الذين كفروا يوم أحد فيرجع الذين كفروا بالخيبة والأسى واليأس ، فان قلت هذا الأمر خلاف سنن الحروب وفنون القتال فان إنهزام أفراد العدو دليل على النصر , والجواب من وجوه :
الأول : لم ينهزم المؤمنون جميعاً من المعركة بل كان النبي وقليل من أصحابه يقاتلون وسط الميدان .
الثاني : لم يكن فرار المؤمنين الذين تركوا ميدان المعركة فراراً متصلاً وبعيداً عن المعركة ، لذا قيدت آية البحث بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ]وليس بعد الصعود هرولة وجري إلى الأرض المنبسطة ، كما أن تضاريس الأرض التي جرت فيها معركة أحد لا زالت على حالها شاهداً ودليلاً ، وإتخذ المسلمون من قبور الشهداء وجبل الرماة مزاراً تأتيه الوفود في موسم الحج والعمرة( ) .
الثالث : قد ملئ الله عز وجل قلوب الذين كفروا بالرعب والفزع فلا تجتمع النشوة بنصر لا أصل له مع حال الرعب والفزع والخوف .
الرابع : إكرام الله عز وجل للمسلمين بأن خاطبهم في القرآن بصفة الإيمان بدليل عطف آية البحث على قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )وفيه بعث للخيبة والقنوط في نفوس الذين كفروا .
الخامس : لقد أعلن جيش الكفار يوم أحد عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسرعان ما شاع الخبر بين الصفين ، وهو خدعة كبيرة تهد جيش المسلمين ، وتضعف قواهم ، وتفرق شملهم خاصة , وقد إنهزم أكثرهم لولا رحمة الله ولطفه نصره للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من وجوه :
الأول : سرعة إنكشاف كذب وزيف إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : ثبات نفر من المؤمنين وسط الميدان ، وهل سمع هؤلاء النفر نبأ قتل النبي , وهل صدقوا به ، الجواب قد سمعوا هذا النبأ ولكنهم لم يلتفتوا إليه لأنهم كانوا يقاتلون بين يديه .
الثالث : عزم الصحابة من المهاجرين والأنصار على القتال حتى مع خبر قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من وجوه بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
وكأن هذه الإشاعة تمهد لفراق المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن حلول أجل إنتقاله إلى الرفيق الأعلى مع ثباتهم على سنن الإيمان وتعاهدهم للجهاد في سبيل الله ، والدفاع عن بيضة الإسلام .
وليعجز الذين كفروا عن إشاعة قتل النبي يوم حنين مع أن القتال يومئذ أشد منه في معركة أحد ، بالإضافة إلى سرعة عودة المنهزمين وإحاطة نحو مائة من أهل البيت والصحابة حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه وقف لهزيمة كتائب المسلمين ودعوة عملية لهم للرجوع للقتال .
وقد إشترك العباس بن عبد المطلب وعدد من الصحابة في دعوة المنهزمين للرجوع إلى معركة حنين ، وكان العباس جهورياً في صوته ، ومن المواعظ التي إقتبسها المسلمون في المعركة أحد , وآية البحث أمور :
الأول : المناجاة بالثبات في الميدان المعركة ، وعدم مغادرة موضع القتال سواء كان عن تعيين من رسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أنه في نظم وترتيب الجيش , فبينما وقفت صفوف المؤمنين في معركة أحد بتنظيم وتوجيه من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )، فان معركة حنين أمر مختلف إذ كان جيش المسلمين يسير في الطريق , فهجمت هوازن وثقيف وإن كان القتال مع هوازن من غايات هذا السير ومنذ خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من مكة لما بلغه من عزم هوازن على مهاجمة المسلمين ولم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإلإخبار عن هذا العزم وإستعدادات هوازن للهجوم والقتال بل أرسل العيون وإندسوا في وسط هوازن ورأوا كيفية التهيئ للقتال .
الثاني : لقد أخبرت آية البحث عن مناداة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] وتكررت ذات الدعوة يون حنين ولكن القرآن لم يذكرها .
فقد ثبتت بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو المسلمين (يا أصحاب الشجرة ) ( ) وفيه مسائل :
الأولى : حضور دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بخصوص القتال يوم حنين ، فالذي ينهزم يوم حنين تأتيه آية البحث وتحضر في الوجود الذهني [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] وهو من إعجاز القرآن وإرادة معنى للآية أعم من أسباب النزول .
لقد نزلت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد فكان الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتلوها في الصلاة اليومية الواجبة وجوباً عينياً ليسمعها الصحابة من المهاجرين والأنصار فتكون درساً متجدداً وتذكيراً بواقعة أحد ، وتحذيراً من الفرار والهزيمة .
الثانية : يتلو المسلمون في صلواتهم آية البحث ويتدارسونها ويخبر الحاضر في واقعة أحد من المؤمنين غيره كيف أن الرسول كان يدعوهم ، وما كان يقول لهم ، وسرعة إستجابتهم له .
الثالثة : الوصية بالثبات في المعركة من الأمر بالمعروف والمناجاة بالبر ، قال تعالى [وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
الرابعة : بيان موضوع جديد حدث عقب واقعة أحد وهو صلح الحديبية ترى لماذا ندب ونادى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه بذكر بيعة الرضوان ، فيه وجوه :
أولاً : رضا الله عز وجل عن الذين بايعوا تحت الشجرة .
ثانياً : ثناء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أهل بيعة الشجرة .
ثالثاً : إكرام أجيال المسلمين لأصحاب بيعة الشجرة .
رابعاً : موضوعية أفراد البيعة الأولى في حال السلم , وعند طرو حال الشدة والبأساء .
الثالث : تنمية ملكة الصبر في ميدان القتال عند المسلمين , وهو أمر خاص بموضوعه , وأكثر مشقة من الصبر مطلقاً .
الوجه الرابع : لقد خرجت هوازن بشركها وإصرارها على الجحود لملاقاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم خارجون من مكة بعد الفتح, وكان المشركون يتبركون بشجرة إسمها (ذات أنواط ) ويضعون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ، ويتبركون بها ويتفاءلون عند القتال بها , فمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسدرة خضراء عظيمة , فقال بعض ممن أسلم حديثاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إجعل لنا شجرة مثل ذات أنواط ، فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وقال (اللّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى : ” اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إنّهَا السّنَنُ لَتَرْكَبُنّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ) ( ).
لقد إتخذ رجال هوازن مواضعهم في أطراف وادي حنين وحينما إجتمع المسلمون فيه وهم سائرون أخذ المشركون برشقهم بالسهام والنبال التي صارت تنزل عليهم كزخات المطر والبرد ومن كل جهة ، ثم هجمت فرقة من هوازن على مقدمة جيش المسلمين الذين فروا أمامهم .
قال الواقدي (فَلَمّا كَانَتْ الْهَزِيمَةُ حَيْثُ كَانَتْ وَالدّائِرَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَتَكَلّمُوا بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالضّغْنِ وَالْغِشّ قَال: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ قَالَ: يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ: لَهُ أَبُو مَقِيتٍ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا أَنّي سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ قَتْلِك لَقَتَلْتُك وَقَالَ: صَرَخَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ وَهُوَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ أَخُو صَفْوَانَ لِأُمّهِ أَسْوَدُ مِنْ سُودَانِ مَكّةَ: أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ .
فَقَالَ: صَفْوَانُ اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاك لَأَنْ يَرُبّنِي رَبّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَبّ مِنْ هَوَازِنَ. قَالَ: وَقَالَ: سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: لَا يَجْتَبِرُهَا محمد) ( ) أي أصابت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مصيبة ليس لها جبر وعوض .
ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإثني عشر ألفاً إلا تسعة من أهل بيته وأصحابه ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه ليحضر في الميدان قوله تعالى [يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] كذخيرة في السنة الدفاعية ، فكان رد المؤمنين يوم حنين هو المبادرة والسرعة بالرجوع إلى ميدان القتال وأخذوا يجتمعون حوله بالمئات ويواصلون القتال بصبر وجلد ،قال تعالى [ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وتفضل الله عز وجل [وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ) ليتحقق مصداق لما وعد الله عز وجل به المسلمين في معركة أحد بنزول الملائكة عند تحليهم بالصبر وثباتهم في الميدان يوم حنين بقوله تعالى (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوّمِينَ) ( ).
فأخذت كتائب المشركين تتقهقر ، وصفوفهم تتزعزع , وهم يرون كثرة القتلى من بينهم ثم فروا على وجوههم ، فذهبت طائفة منهم إلى مدينة تسمى نخلة , وطائفة إلى مدينة تسمى أوطاس ، فلحقهم المسلمون وإنسحب أكثر المشركين إلى مدينة الطائف وكانت محصنة ولها سور ، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتريث في مطاردتهم , وصار المسلمون يجمعون الغنائم ، ويحشرون السبي (قَالُوا: وَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ ، وَالسّبْيُ وَالْغَنَائِمُ بِهَا مَحْبُوسَةٌ وَقَدْ اتّخَذَ السّبْيُ حَظَائِرَ يَسْتَظِلّونَ بِهَا مِنْ الشّمْسِ .
فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إلَى تِلْكَ الْحَظَائِرِ سَأَلَ عَنْهَا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا سَبْيُ هَوَازِنَ اسْتَظَلّوا مِنْ الشّمْسِ . وَكَانَ السّبْيُ سِتّةَ آلَافٍ , وَكَانَتْ الْإِبِلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ بَعِيرٍ وَكَانَتْ الْغَنَمُ لَا يُدْرَى عَدَدُهَا، قَدْ قَالُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَأَقَلّ وَأَكْثَرَ .
فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَمَرَ بُسْرَ بْنَ سُفْيَانَ الْخُزَاعِيّ يَقْدَمُ مَكّةَ فَيَشْتَرِي لِلسّبْيِ ثِيَابًا يَكْسُوهَا، ثِيَابَ الْمَعْقِدِ فَلَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ مِنْهُمْ إلّا كَاسِيًا، فَاشْتَرَى بُسْرٌ كُسْوَةً فَكَسَا السّبْيَ كُلّهُمْ وَاسْتَأْذَنَا رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِالسّبْيِ وَقَدْ كَانَ فَرّقَ مِنْهُ وَأَعْطَى رِجَالًا; عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ كَانَتْ عِنْدَهُ امرأة مِنْهُنّ قَدْ وَطِئَهَا بِالْمِلْكِ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَدْ وَهَبَهَا لَهُ بِحُنَيْنٍ فَرَدّهَا إلَى الْجِعِرّانَةِ حَتّى حَاضَتْ فَوَطِئَهَا، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ أُخْرَى، وَأَعْطَى عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ جَارِيَةً يُقَالُ: لهارَيْطَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ حَيّانَ بْنِ عُمَيْرَةَ وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ جَارِيَةً يُقَالُ: لَهَا: زَيْنَبُ بِنْتُ حَيّانَ بْنِ عَمْرٍو، فَوَطِئَهَا عُثْمَانُ فَكَرِهَتْهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلِيّ وَطِئَ) ( ).
ووزع على عدد من الصحابة بعض الجواري ولما جاءه أكابر هوازن وسألوه ردها لم ينتقم منهم أو يوبخهم , بل أمر برد الجواري جميعاً مع أن هوازن أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه ، وأصروا على الصدود عن الإيمان .
لقد جاء الإسلام بحرمة وأد البنات , قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ) فأراد المشركون وأد الإسلام ، وإستصال عرى الإيمان ، فتفضل الله وأخزاهم في معركة حنين لتكون موعظة للأجيال.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn