معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 128

المقدمة
الحمد لله الذي خلق العوالم والخلائق كلها بلطفه وجعلها محتاجة إلى رحمته في وجودها وإستدامتها ، وصلى الله على محمد وآل محمد الطاهرين .
الحمد لله الذي لم يترك الخلائق وشأنها ، بل جعلها خاضعة لأوامره مستجيبة لمشيئته، الحمد لله الذي خلق الإنسان [فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( )، ورزقه العقل وآتاه القدرة للتمييز بين الحق والباطل ، والطيب والخبيث ، ليكون سبيلاً إلى عبادته , وطريقاً إلى الهداية إلى أوامره والعمل بمضامينها والإحتراز مما نهى عنه سبحانه .
الحمد لله الذي أنعم على الناس بتسخير ما في الأرض لسعادتهم ورغد عيشهم ، ولتكون الحياة الدنيا روضة ودار الموعظة والحجة على الناس ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ) فكل نعمة من نعم الله في الأرض موعظة وتذكير بوجوب عبادته تعالى.
ومن فضل الله عز وجل أن تأتي أسباب جذب الناس للإيمان بصيغة اللطف والرحمة ، وهو الذي صاحب خلق آدم وهبوطه الأرض ، قال تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فلم تنل طائفة أو جنس من الخلائق الخلافة في الأرض أو السماوات إذ إختص الإنسان بهذه النعمة العظمى والآية المتجددة في تفضيله على الخلائق بفوزه بصفة لم تنلها الملائكة مع أنهم سكان السماوات ، ومنقطعون إلى التسبيح وعبادة الله في الليل والنهار .
الحمد لله الذي جعل القرآن دستور الحياة ومنهاج الصلاح ، وطريق الهدى ، والبرزخ السماوي المانع من الغي والضلالة.
فمن خصائص الخليفة أن أنزل الله عز وجل له الكتب السماوية لتكون سبيل هداية وصراطاً حميداً ، وآية تدل على وجوب عبادته وزاجراً عن الكفر ، ومن الناس من أصر على الجحود وأنكر الرسالات مع كل نبي ، وإختار الإقامة على الضلالة مع قبحها الذاتي وسوء عاقبتها ، فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للهداية والتوبة والإنابة وآتاه القرآن ، وهو الكتاب الجامع للأحكام والسنن الكافي للعباد في أمور الدين والدنيا ، وهو الإمام والضياء الذي يقود الناس في مسالك الفلاح والنجاح ، قال تعالى [وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) .
وفي الآية أعلاه دعوة للناس لتلقي القرآن وأحكامه بالقبول وحث سماوي على الصدور عنه ، وعدم تضييع أحكامه والسنن الواردة في آي آية منه، وتبين الآية حاجة الناس إلى القرآن ، وعدم إمكان الإستغناء عنه، وذكرت علة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي البشارة والإنذار ، ولا يختص موضوعها بعالم الآخرة , والبشارة بالجنة والإنذار بالنار , بل يشمل كل منهما الحياة الدنيا .
وتقدير الآية : وما أرسلناك إلا بشيراً للدنيا والآخرة ونذيراً للدنيا والآخرة ) ، ليستنبط من الآية الكريمة قانون من جهات :
الأولى : بشارات الحياة الدنيا التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل.
الثانية : إنذارات الحياة الدنيا التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : بشارات الآخرة التي بعث الله عز وجل بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : إنذارات الآخرة التي تضمنتها رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : إرادة البشارات والإنذارات المستقرأة من القرآن .
الثاني : المقصود البشارات والإنذارات الظاهرة، والجلية في السنة النبوية.
الثالث : إرادة المعنى الأعم والجامع لذخائر وكنوز القرآن والسنة ، ومصاديق البشارة والإنذار فيهما.
والصحيح هو الثالث بلحظ أن الله عز وجل أرسل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً بالقرآن ، وجعل سننه من رشحات الوحي وكل فريدة منها حجة على الناس ، وضياء ينير لهم دروب الهداية والرشاد.
ومن الإعجاز الذاتي للقرآن أن كل آية منه تتضمن البشارة والإنذار من جهات :
الأولى : تتضمن الآية القرآنية البشارة منطوقاً ودلالة كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا]( ).
الثانية : ورود الإنذار في منطوق الآية القرآنية كما في قوله تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ]( ) وقوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ).
الثالثة : ذات آيات القرآن مجتمعة ومتفرقة بشارة وإنذار للناس جميعاً، ويدل عليه قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا] ( ).
الرابعة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببيان البشارات الواردة في القرآن ، وإتخاذ آياته سلاحاً لجذب الناس إلى الإيمان ، وبعث النفرة في نفوسهم من مفاهيم الكفر والضلالة ، قال تعالى [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا]( ).
الخامسة : منطوق البشارة الذي تتضمنه الآية القرآنية، فمثلاً قوله تعالى [فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( )، يدل في مفهومه على الإنذار من وجوه :
الأول : الإنذار للذين لا يستمعون الذكر والحكمة .
الثاني : التبكيت للذين يضعون أصابعهم في آذانهم كيلا يسمعوا التنزيل والإنذار للذين يستمعون القول والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكنهم لا يتبعونه ، ويقابلونه بالصدود والعناد ، وأولئك الذين حرموا أنفسهم من هداية الله عز وجل لهم هم الذين لم ينتفعوا من نعمة العقل .
الثالث : إنذار الذين يحاربون النبوة والتنزيل .
ومن إعجاز آية البحث أنها تدل في مفهومها على وجوه الإنذار هذه مجتمعة ومتفرقة .
السادسة : دلالة آية الإنذار في مفهومها على البشارة لمن يتق الله ويجتنب ما نهى عنه ، إذ جعل الله عز وجل القرآن موعظة وعبرة .
السابعة : ذخائر وعلوم البشارة والإنذار في كل قصة من القرآن، وهو من معاني الحسن في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )من وجوه :
الأول : تضمن القصة القرآنية البشارة في الدنيا والآخرة ، كما في قوله تعالى في قصة يوسف [فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا]( )، وعن عمر بن يونس اليمامي (قال : بلغني أن يعقوب عليه السلام كان أحب أهل الأرض إلى ملك الموت ، وأن ملك الموت استأذن ربه في أن يأتي يعقوب عليه السلام ، فأذن له ، فجاءه ، فقال له يعقوب عليه السلام : يا ملك الموت ، أسألك بالذي خلقك : هل قبضت نفس يوسف فيمن قبضت من النفوس؟ قال : لا . قال له ملك الموت : يا يعقوب ، ألا أعلمك كلمات ، لا تسأل الله شيئاً إلا أعطاك؟ قال : بلى . قال : قل : ياذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ، ولا يحصيه غيرك . فدعا بها يعقوب عليه السلام في تلك الليلة ، فلم يطلع الفجر حتى طرح القميص على وجهه فارتد بصيراً) ( ).
الثاني : إقتباس البشارات من القصة القرآنية ، وتطلع المؤمنين إلى الرزق الكريم من عند الله .
الثالث : توجه المسلمين بالدعاء إلى الله , وسؤاله ما رزق أنبياءه وأولياءه الصالحين من الرزق الكريم، وفي مريم ورد قوله تعالى [كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا] ( ).
وورد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال (إن امرأة عمران لما نذرت ما في بطنها محررا , قال: والمحرر للمسجد إذا وضعته دخل المسجد فلم يخرج من المسجد أبدا، فلما ولدت مريم قالت[رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( ) .
فساهم عليها النبيون فأصاب القرعة زكريا وهو زوج أختها، وكفلها وأدخلها المسجد، فلما بلغت ما تبلغ النساء من الطمث وكانت أجمل النساء وكانت تصلي فتضئ المحراب لنورها، فدخل عليها زكريا فإذا عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فقال: أنى لك هذا قالت هو من عند الله( ).
فهنالك دعا زكريا ربه قال: إني خفت الموالي من ورائي، إلى ما ذكر الله من قصة زكريا ويحيى)( ).
وإخبار القرآن عن دعاء زكريا ليرزقه الله عز وجل ولداً بآية من عنده سبحانه أسوة بما نالته مريم من الرزق بآية من عند الله دعوة للمسلمين بالإقتداء به وإرشاد لسؤال الحاجة والمسألة من عند الله وإن كانت خارقة للأسباب .
وهل يختص السؤال بموضوع الآية سواء من طرف مريم عليها السلام وما يأتيها من الطعام والفاكهة في غير وقتها أم من طرف النبي زكريا عليه السلام أم إرادة المعنى الأعم في السؤال ، الجواب هو الأخير، وإرادة الإطلاق في الدعاء من جهات :
الأولى : قيام المؤمن بسؤال الله عز وجل بحاجات الدنيا والآخرة ، وفي الحديث القدسي (يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك، وملح عجينك) ( ).
الثانية : التضرع إلى الله عز وجل بدوام النعم .
الثالثة : الإطلاق في أفراد الزمان الطولية بإتخاذها دعاءً وفرصة للدعاء.
الرابعة : عموم أفراد المكان وعاء ومناسبة للدعاء , ومن فضل الله على المؤمن أن تشهد له آنات من الزمان وبقع من الأرض بتوجهه إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة .
الخامسة : دعاء المسلم وسؤاله الحاجات من عند الله إقرار بأن مقاليد الأمور بيده سبحانه ، وأن الخير كله بيده ولـيـس من إله غيره.
السادسة : في الإقتداء بمريم وزكريا في الدعاء أمور :
الأول : التسليم بصدق نزول القرآن من عند الله عز وجل .
الثاني : الإتعاظ بما في القرآن من القصص , قال تعالى ان [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
الثالث : الإقتباس والإنتفاع من مضامين آيات القصص القدسية ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
لقد جاء الجزء السادس والعشرون بعد المائــــة في صلة شطر من الآية 153 بشطر من الآية سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ.
وتضمن هذا الجزء المبارك تتمة هذه الصلة في ثورة علمية لم يشهدها التأريخ ، ولم تطرأ على أذهان كثير من الناس .
وذكرت فيه أنه إذا إنتهج العلماء في الأجيال القادمة ذات منهجية الجزء الخامس العشرين بعد المائة في التفسير بأن يصدر الجزء الواحد منه بصلة آية بآية أخرى يكون مجموع أفراد هذا العلم وفق المتتابعة الهندسية والحسابية :
730 ,446، 19
تسعة عشر مليوناً وأربعمائة وستة وأربعين الفاً وسبعمائة وثلاثين علماً، ويكون مرآة لقانون علوم القرآن اللامتناهي ) .
فكيف وقد جاء الجزء السابق بصلة شطر من آية بشطر من آية أخرى والحمد لله ، مع أن التفسير الذي نتطلع إلى إنجازه على أيدي العلماء في الأجيال اللاحقة، هو عمل مؤسساتي بأن يجتمع ذوو الإختصاصات اللغوية والفقهية والأدبية والعلمية والفكرية على تفسير الآية , كما مبين تفصيلاً في الجزء الخامس والعشرين بعد المائة من هذا السفر المبارك( ).
أما الجزء السابع والعشرون فهو القسم الثاني من تفسير آية البحث، ويتعلق بالعلوم المستقرأة من صلتها بالآية السابقة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ..]( ).
ويضم بين دفتيه ثلاثمائة وأربع عشرة صفحة تتعلق بالصلة بين شطر من آية البحث بشطر من الآية قبل السابقة لها ، ( سنلقي .. كفروا .. ) ( ).
وفيه قوانين مستنبطة من قوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] والفرق بين المؤلفة قلوبهم والمنافقين، وكيف أن الصلاة حرب على النفاق.

وأختتم الجزء بقانون (من منافع آية البحث) ( )، إذ تتجلى هذه المنافع في الدنيا والآخرة، وتبدأ من حين نزول الآية والأسباب والمقدمات التي سبقت هذا النزول، ومن الشواهد على تفضيل المسلمين في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، مجئ الآية السابقة بيان التقصير والخطأ والمعصية من المسلمين لتكون باباً للعفو عنهم وهدايتهم للتوقي من هذه الأمور، فان قيل لماذا يعاقب الله الذي يعصيه من أهل الملل السابقة بينما يأتي العفو والثواب وسبل الهداية للمسلمين عندما يعصون كما في قوله تعالى في الآية السابقة [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ]( ) .
والجواب إن المعصية التي تذكرها الآية السابقة في طول طاعة المسلمين لله ورسوله، وبروزهم للقتال والقتل في معركة بدر ثم أحد ثم الخندق من غير ملل أو كلل، وقد إنخزل المنافقون وسط الطريق إلى أحد، وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
ويمكن تأسيس علم جديد هو (قانون منافع الآية القرآنية) لينضم إلى أبواب التفسير التي يتضمنها هذا السِفر وفي تفسير كل آية بعنوان ( منافع آية البحث ) ويكون مثل :
الأول : في سياق الآيات .
الثاني : إعجاز الآية، وقد قسمناه إلى قسمين :
أولاً : الإعجاز الذاتي للآية .
ثانياً : الإعجاز الغيري للآية .
الثالث : الآية سلاح .
الرابع : مفهوم الآية .
الخامس : الآية لطف.
السادس : إفاضات الآية.
السابع : من غايات الآية .
وتأسيس باب من منافع الآية لا يتعارض مع تجليات منافع الآية في ثنايا تفسيرها والأبواب أعلاه التي تتقدمه بخصوص كل آية من القرآن , ويكون هذا العلم على أبواب إلى أقسام:
الأول : المنافع حال نزول الآية .
الثاني : المنافع المستقرأة من أسباب النزول.
الثالث : منافع الآية التي تخص عهد الصحابة.
الرابع : المنافع التي تشمل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
لخامس : إنتفاع المسلمين من الآية في أمور الدنيا.
السادس : المنافع في أمور الدين وبناء صرح الإسلام.
السابع : الثواب العظيم المترشح عن نزول الآية القرآنية , وعمل المسلمين بما فيها من الأوامر والنواهي .
وجاء هذا الجزء المبارك قسماً ثالثاً في تفسير آية البحث [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] ( )، وقسيماً للجزئين السابقين في إستنباط المسائل والبراهين من الآية أعلاه، ويتضمن تفسير المضامين القدسية للآية الكريمة أعلاه , وإستقراء نكات علمية من كنوزها المدخرة للعلماء في الأجيال المتعاقبة ، وتحتمل هذه الكنوز عند النهل منها وجوهاً :
أولاً : إصابة كنوز العلم هذه بالنقصان .
ثانياً : بقاء هذه الكنوز على مقدارها كماً وكيفاً.
ثالثاً : كنوز الآية القرآنية توليدية، فمع تجلي شطر منها، فان علوماً جديدة تتفرع عنه، وعما بقي من الذخائر في ثنايا الآية القرآنية , وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ] ( ).
رابعاً : التباين والإختلاف في آيات القرآن، فمنها ما تبقى كنوزها على حالها، ومنها ما تكون توليدية بإذن الله.
والصحيح هو الثالث أعلاه، لذا فان العلوم التي تتضمنها أجزاء هذا السِفر نعمة وفضل من عند الله سبحانه , وبرهان على صدق نزول القرآن منه سبحانه , ومدخل لفتح خزائن من علوم آيات القرآن، وكذا كتب التفسير المتقدمة لعلماء الإسلام فان كل كتاب منها ثروة علمية وتراث إيماني , وفيه بعث لإستقراء ذخائر القرآن، وهو لبنة ذهبية في بناء صرح علوم القرآن غير المتناهية .
ومع قلة كلمات آية البحث فقد وردت صيغة الجمع ولغة الخطاب الموجهة للمسلمين فيها تسع مرات، كما يأتي في باب التفسير من هذا الجزء , كل صيغة من صيغ الجمع في مضامين هذه الآية مدرسة تستلهم منها الدروس.
إن إختصاص هذا الجزء بتتمة صلة آية البحث بالآية قبل السابقة لها[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ…] ( )، رحلة في رياض ناضرة وإشراقات علمية، وثروة للأجيال اللاحقة، تتجلى بالجمع بين الآيتين، والمسائل المستنبطة من هذا الجمع المبارك التي تتضمن الإلهام للمؤمنين من أنوار الوحي.
ومن إعجاز نظم آيات القرآن تعلق موضوع هذه الآية والآية السابقة بخصوص معركة أحد، إبتداء وإستدامة وإنتهاء، إذ إبتدأت المعركة بصدق وعد الله للمسلمين برجحان كفتهم في القتال، وكثرة القتلى في صفوف الذين كفروا , وإقترن هذا القتل بالرعب من وجوه:
الأول : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب من مقدمات سقوط القتلى منهم.
الثاني : إستحضار الذين كفروا لوقائع معركة بدر وكثرة الأسرى فيها سبب لدبيب الرعب إلى قلوبهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] وهناك مسائل:
الأولى : هل إستحضر الصحابة يوم أحد وقائع ونتائج معركة بدر, وكيف أنهم ساقوا سبعين أسيراً من المشركين بعد سقوط سبعين قتيلاً منهم.
الثانية : هل كان الصحابة من المهاجرين والأنصار يتلون يوم أحد قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، وأنهم يرجون إستصحاب وتكرار ذات النصر بفضل الله.
الثالثة : هل يكون إستحضار الصحابة لوقائع ونتائج معركة بدر سبباً لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا.
الجواب نعم، فقد كانت الآية أعلاه وأمر نزول الملائكة لنصرة المسلمين , ووقائع معركة بدر حاضرة في الوجود الذهني للمسلمين ومصاحبة لهم .
وفيه بيان لتعدد أسباب وأفراد الرعب التي تتوجه إلى قلوب الذين كفروا.
الثالث : كل قتيل يسقط من الذين كفروا سبب لغزو الرعب لقلوبهم، وإصابتهم بالخيبة.
الرابع : زحف الذين كفروا إلى المدينة قادمين من مكة سبب لإلقاء الرعب في قلوبهم لتلبسهم بالشرك وملازمة الرعب له، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : إقتران الرعب بالشرك بالله.
الصغرى : الذين كفروا من أهل مكة مشركون.
النتيجة : إقتران الرعب بالذين كفروا من أهل مكة.
وتحتمل الصلة بين إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كما في الآية قبل السابقة، وكثرة القتلى في صفوفهم في بدايات المعركة وجوهاً :
أولاً : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب سبب لكثرة القتل في صفوفهم.
ثانياً : قتل حملة لواء الذين كفروا يوم أحد ، تباعاً واحداً بعد الآخر سبب لإلقاء الرعب في قلوبهم.
ثالثاً : ليس من صلة بين إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وبين كثرة القتلى في صفوفهم في بداية معركة أحد.
رابعاً : التداخل في الأثر والتأُثير ، فإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا نوع طريق لكثرة القتل في صفوفهم، وكذا فان كثرة قتلاهم سبب لإلقاء الرعب في صفوفهم من غير أن يلزم الدور بينهما لتعدد وتباين ضروب الرعب، وتوالي وتعاقب سقوط القتلى منهم , وكلما قتل صاحب اللواء حمله آخر، حتى قتل سبعة منهم من أسرة واحدة من بني عبد الدار فحملته امرأة منهم.
وباستثناء الوجه ثالثاً أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها صحيحة ولا تعارض بينها، ومع قلة كلمات هاتين الآيتين فانهما تذكران وقائع معركة أحد وأسباب وعلل تبدل الريح فيها، وصيرورة الجولة للذين كفروا بسبب ترك الرماة مواضعهم خلافاً لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم وتأكيده عليهم بعدم تركها على كل حال، وعند نصر جيش المسلمين أو هزيمتهم.
وأختتمت الآية السابقة بعفو الله عز وجل عن المؤمنين , وثناء الله عز وجل على نفسه بقوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( )، لدعوة المسلمين للشكر لله، وترغيبهم بالثبات في مقامات الإيمان، وفيه توبيخ للمنافقين وإخبار عن تجدد مصاديق وأفراد من فضل الله عز وجل على المؤمنين في معارك الإسلام اللاحقة، وحال السلم والمهادنة، ومطلق أيامهم، وتهيئة مقدمات العبادات، والمندوحة في المعاملات .
ليكون في خاتمة الآية السابقة مواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة وأجيال المسلمين المتعاقبة , لما تتضمنه بداية هذه الآية من الإخبار عن فرار طائفة من المؤمنين يوم أحد , بقوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ].
ومن خصائص اللغة العربية كثرة المترادفات ولا يعني هذا الترادف التطابق في المعنى بين المترادفين بل هناك تقارب وتشابه وكأن المترادفين مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا , والله عز وجل هو الواسع الكريم الذي له ملك السموات والأرض ، فهو الذي يتفضل ويختار كلماته التي تبقى في كتابه الخالد القرآن إلى يوم القيامة كماً وكيفاً ومفردات .
ومن فضل الله عز وجل أني أقوم بمفردي بالتأليف والمراجعة والتصحيح , وهو على مرتبتين :
الأولى : تصحيح الكتاب على الورق .
الثانية : تنقيح الكتاب في جهاز الكمبيوتر .
وليس من عون ومدد إلا من عند الله عز وجل وهو من مصاديق خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]وفيه دعوة للعلماء لبذل الوسع في إستنباط القوانين وإستقراء المسائل من الآية القرآنية والجمع بينها وبين آيات القرآن الأخرى .

حرر في النجف الأشرف
10/10/2015
26/ذو الحجة 1436هــ

قوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]الآية 153

الإعراب واللغة( )
إبتدأت الآية بحال طائفة من المؤمنين يوم معركة أحد , وهم في إرباك وخشية من شدة هجوم الذين أشركوا بعد أن كانت الريح والغلبة في بدايات المعركة للمؤمنين .
ويقال أصعد في الأرض: أي سار في أرض تعلو وترتفع تدريجياً، ويقال أصعد الرجل أي إشتد في عدوه، وذهب وأبعد في الأرض، وهو من وجوه تفسير الآية لأن الفار لا يصعد الجبل القريب إذ يكون هدفاً للعدو ويحاصره فيه .
وورد عن الحسن البصري في قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ]قولان :
الأول : فروا منهزمين (قَالَ: فَرُّوا مُنْهَزِمِينَ فِي شِعْبٍ شَدِيدٍ لا يَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) ( ).
الثاني : تصعدون أي في الجبل .
وهل يحتمل المراد من (تصعدون) هو المجاز وتصور الفارين من المسلمين أن الأرض ترتفع أمامهم وأنهم لا يعدون فيها إلا بمشقة زائدة، الجواب لا دليل عليه، لأن الأصل في الكلام العربي هو الحقيقة .
وقوله تعالى ( ولا تلوون ) أي لا تستديرون ولا تعطفون على أحد، وفي التنزيل[وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا]( ) .
قال الشاعر :
ولم يكن مَلَكٌ للقوم يُنْزِلُهُم . إلاَّ صلاصلُ لا تُلْوي على حَسَبِ( ).
أي يُقسم بينهم بالسوية لا يؤثر أحداً بسبب النسب والحسب.
لإرادة التذكير بفضل الله على المؤمنين يوم معركة أحد، وبيان النصر والفتح المبين في معركة الخندق، ثم في صلح الحديبية ثم في فتح مكة , وليشكر المسلمون في كل زمان الله عز وجل على نعمة عدم الهزيمة في معركة أحد.
و(من المجاز: فلان لا يلوي ظهره إذا وصف بالشدّة) ( )ولكن الآية جاءت بالوصف الذي يدل على الفرار وعدم الإلتفات , ويجمع قوله تعالى [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] بين الحقيقة والمجاز ، إذ يستحضر المؤمنون في فرارهم حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وقلة من أهل بيته وأصحابه لا زالوا يقاتلون في الميدان فلم يلتفتوا ، والمجاز كناية عن حال الفزع والخوف والرهبة التي ملأت نفوسهم .
وفيه دلالة على أن اللفظ القرآني أعم من التقسيم الإستقرائي للكلام العربي إلى الحقيقة والمجاز ، فقد يأتي اللفظ القرآني جامعاً لهما معاً من غير تعارض أو تزاحم بينهما .
والخبير اسم من أسماء الله الحسنى , والنسبة بينه وبين اسم العليم هي العموم والخصوص المطلق فاسم العليم هو الأعم .
والمراد من الخبير أي العالم بكنه الشيء ، الذي يعلم حقيقة فعل المسلمين وصبغته ، وما يبتنى عليه ، والعلم بما سيكون عليه عمل وفعل المسلمين ، والله هو الخبير بما ينفع المسلمون وما يجلب لهم المنفعة ويدفع عنهم المفسدة .
وأختتمت الآية به لبيان حقيقة وهي أن كل فرد من مضامين آية البحث رحمة بالمسلمين .
سياق الآيات
تتمة صلة هذه الآية بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ …] ( ).
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب والله خبير بما تعملون ) وفيه وجوه( ) :
الوجه الأول : بيان مصداق لملكية الله للسموات والأرض , وأنها ملكية مشيئة وإرادة حاضرة ، فلم يخلق الله الكائنات ويتركها تسير وفق قانون العلة والمعلول والسبب والمسبب ، فهذا القانون لا يشمل نظامها على نحو الإستغراق والعموم إلا أن يشاء الله عز وجل إذ أن العلة الفاعلية لله عز وجل وحده , وهو الذي يتغشى الناس بمصاديق رحمته في الدنيا وكل فرد من رحمة الله توليدي تترشح عنه أفراد متكثرة من الرحمة ، ومن الشواهد قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لتكون الرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توليدية , وكل أصل تتفرع عنه فروع من الرحمة , وهذه الفروع كأغصان الشجرة تتدلى لتصل إلى كل بيت وكل إنسان ، وتكون مرآة ومقدمة ومثلاً في الدنيا كشجرة المنتهى في الآخرة , وفيه ترغيب للفوز ببركاتها وظلها ، والتي إنتهى إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء ، قال تعالى [وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى] ( ).
وعن ابن مسعود قال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستمائة جناح ينفض من ريشه التهاويل والدر والياقوت) ( ).
ومن مصاديق ملكية الله للسموات والأرض أنها ملكية مشيئة وتصرف , وبلحاظ الجمع بين الآيتين هناك مسألتان :
الأولى : تفضل الله عز وجل بحصانة المؤمنين من الهزيمة والفرار ، مع إجتماع أسبابهما , وفيه شاهد بأن المشيئة والحكم لله عو وجل على قانون العلة والمعلول، والسببية , وهو سبحانه القاهر للأسباب والمسببات , وفي التنزيل [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( ).
الثانية : لم يترك الله عز وجل الكفار وشأنهم ، ولم يرجئ كل عقابهم إلى الآخرة كما أرجأ حسابهم ، بل تفضل بملأ قلوبهم بالرعب والفزع ليكون مقدمة لملأ قبر من يموت منهم على الكفر بأمارات عذاب في عالم البرزخ كما ورد قوله تعالى في آل فرعون [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ] ( ) .
إذ تدل الآية أعلاه على عذابين :
الأول : في عالم البرزخ ، كما في رؤية آل فرعون للنار لإيذائهم وتذكيرهم بأنها ستكون دار المقامة لهم .
الثاني : عذاب الذين كفروا يوم القيامة بدخولهم ذات النار التي كانوا يرونها وهم في قبورهم مما يدل على حياة الكافرين في القبور لإرادة عذابهم عذاباً إبتدائياً، وحكم دلالة الآية أعلاه أعم من موضوع النزول , إذ يشمل رؤساء الكفر والضلالة مطلقاً .
ونقل الماوردي أقوالاً ثلاثة في الآية أعلاه أحدها (أنهم يعذبون بالنار في قبورهم غدواً وعشياً ، وهذا لآل فرعون خصوصاً . قال مجاهد : ما كانت الدنيا) ( ).
ولو تنزلنا وقلنا أنها خاصة بآل فرعون فان غيرهم من الكافرين لا يسلمون من عذاب البرزخ لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
وإلقاء الفزع والخوف في قلوب الذين يهاجمون المدينة ويحاربون الإسلام بالسيف , ومن مصاديق لطف الله بمخاطبته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
لقد تفضل الله سبحانه بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا , ليكون رحمة من وجوه :
الأول : نزول السكينة في قلوب المؤمنين بفقد عدوهم لشرط الفطنة والمكر في فن القتال لأن الرعب يضعف الإنتباه ،وهو من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) ليكون الرعب من جنود الله عز وجل .
ومن الآيات أن الرعب الذي يملأ قلوب الذين كفروا رحمة بالمؤمنين وبذات الذين كفروا .
الثاني : صيرورة الرعب مرآة لعذاب الذين كفروا وتذكيراً به .
الثالث : هل يشمل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نفسه وبعثته رحمة بشخصه.
أم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خارج بالتخصيص بلحاظ أنه وسيلة وسبب الرحمة فهو غير الذي تحل وتنزل عليه ذات الرحمة ، الجواب هو الأول , فقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لنفسه أيضاً .
ويصح تقدير الآية : وما أرسلناك إلا رحمة لنفسك ولغيرك من العالمين) لإرادة البيان والعموم , فلفظ العالمين سور الموجبة الكلية وإن كان شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسمى من غيره من أفراد العالمين غير المتناهية .
الرابع :الرعب رحمة بأولئك الذين هجموا على المدينة للإجهاز على الإسلام والمؤمنين فهجم عليهم الرعب فصار برزخاً بينهم وبين غزو المدينة ، وهو سلامة لها ولأهلها .
الخامس : زجر الذين خلف الذين كفروا رجالاً ونساءً , ومنعهم من التحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والهجوم على المسلمين .
السادس : بقاء سلاح الرعب في الأرض ، وعدم مغادرته لها، ليتوجه إلى الذين يحاكون أولئك الكفار في ظلمهم وتعديهم ، ليكون هذا الرعب بشارة للمؤمنين في كل زمان وحرزاً لهم وللإسلام , وهو من معاني مجئ آية السياق بصيغة الإستقبال [سنلقي ]وأسرار تلاوة المسلمين لذات الآية في صلاتهم وخارج الصلاة .
ففي كل يوم يتلو المسلمون الآية بصيغة الإستقبال وفيه إخبار عن حضور هذا الرعب وغزوه للذين كفروا , ومن إعجاز آية السياق أنها لم تقيد زمان طرو حال الفزع والخوف والرعب على الذين كفروا , أفراداً وجماعات .
لقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمرتبة رفيعة بين الأنبياء والناس جميعاً باجتماع أمور :
الأول : بلوغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم درجة النبوة والرسالة .
الثاني : رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة مطلقة للإنس والجن .
الثالث : نزول الرحمة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببعثته ورسالته .
الرابع : من رحمة الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة أمته [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) , ولا يتعارض هذا المعنى مع نيل المسلمين هذه المرتبة ببعثته , وليس هو من الدور بينهما , لأن كلاً منهما من فضل الله .
ويكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : كنتم خير أمة أخرجت للناس ) برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : كنتم خير أمة أخرجت للناس ) بالتصديق بنبوة محمد ونصرته .
ثالثاً : كنتم خير أمة ) بعملكم بأحكام القرآن وخروجكم إلى الناس بالدعوة لها ونصرتها وتعاهدها .
الخامس : من رحمة الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا , ويدل عليه الحديث الوارد عن أبي أمامة « أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فضلت على الأنبياء بأربع : أرسلت إلى الناس كافة ، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً , فأينما رجل أدركه من أمتي الصلاة فعنده مسجده , وعنده طهوره ( )، ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي، وأحل لنا الغنائم) ( ).
ولم ينحصر إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بخصوص معركة أحد وإن كانت هي موضوع نزول آية السياق , وفيه دلالة على أن كفار مكة كانوا في حال رعب وفزع , وهم في مكة لأن مدة السفر بينهما أقل من شهر ليكون الرعب الذي يأتي قلوب الذين كفروا على وجوه منها :
الأول : الرعب المترشح عن الشرك ، وهو المستقرأ من قوله تعالى في آية السياق [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ].
الثاني : إصرار الذين كفروا على إتخاذ الشريك والند مع إنعدام السلطان والبرهان عليه .
الثالث : الرعب الذي يقذفه الله في قلوب الذين كفروا بسبب نكرانهم لمعجزات النبوة والتنزيل .
الرابع : ما يصيب الذين كفروا من الرعب لإخبار آية البحث شدة العذاب الذي ينتظرهم باللبث الدائم في النار .
(عن أنس قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية { وقودها الناس والحجارة }( ) فقال : أوقد عليها ألف عام حتى احمرت ، وألف عام حتى ابيضت ، وألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها) ( ).
الخامس : الرعب الذي يأتي للذين كفروا بنعت آية البحث لهم بالظالمين والإشارة إلى سوء عاقبة آبائهم من الكفار الذين ورثوا عنهم الجحود والإستكبار , وهو من معاني خاتمة آية البحث بقوله تعالى [وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ].
الوجه الثاني : لقد بعث الله عز وجل الأنبياء بالدعوة إلى عبادته وحث الناس على الإنقياد إلى أوامره ، وتفضل وجعل المعجزة مصاحبة للنبي ودليلاً على صدق نبوته ، وبرزخاً دون طرو وإستقراء الشك بنبوته .
ومن خصائص المعجزة أنها ملائمة لأهل زمان النبوة والمسائل الإبتلائية فيه ، بحيث تكون سبباً لهدايتهم للإيمان لما تتضمنه من التحدي والأمر الخارق للعادة .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجتماع أمرين متضادين لنصرته وهما :
أولاً : إلقاء الخوف والفزع في قلوب الذين يضمرون له العداوة ويجهزون الجيوش لمحاربته وقتاله ، ليكون هذا الإلقاء معجزة بذاته ، ومقدمة لإظهار المعجزات وعناية الناس بها وتدبرهم بمضامينها ، فاذا كان الظالمون يحشرون الناس لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ولا يتدبرون بالمعجزات , ولا يلتفتون إلى الأسرار الملكوتية في كل آية تنزل من آيات القرآن .
فقد تفضل الله عز وجل وجعلهم وعموم الذين كفروا مشغولين بأنفسهم ويفكرون في مآلهم ويكثر ويستديم التلاوم بينهم، ومن الإعجاز أن هذا الإنشغال آية في النفوس تملي عليهم التدبر قهراً بمعجزات النبوة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ).
ثانياً : تنجز الوعد من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين برجحان الكفة في قتالهم عدوهم ، ومنع الذين كفروا من النصر والغلبة .
لقد إنتصر المسلمون في معركة بدر نصراً جلياً واضحاً وساقوا الأسرى والغنائم ، وألقيت جثث الذين قتلوا من كفار قريش في القليب ، بينما عجز الذين كفروا عن تحقيق النصر في معركة أحد .
وأختتمت آية البحث بما يدل على علم الله عز وجل بحال المؤمنين يوم معركة أحد ومطلقاً , أي يعلم الله سبحانه بأحوال المسلمين والمسلمات في الحياة الدنيا وعملهم وسعيهم وصبرهم في سبيله تعالى .
وهذا العلم من رشحات صفة العلم المطلق لله عز وجل وأنه سبحانه [الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ] ( ).
ولم يرد الجمع بين الإسمين أعلاه من الأسماء الحسنى في القرآن إلا في الآية أعلاه مع أنه موضوع خاتمة آية البحث .
الوجه الثالث : في الجمع بين الآيتين مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
أولاً : والله خبير بما تعملون قبل أن نلقي في قلوب الذين كفروا الرعب, لبيان صلاح المسلمين وأهليتهم للمدد من عند الله ببعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
ثانياً : والله خبير بما تعملون ) ولأجله نلقي في قلوب الذين كفروا الرعب .
ثالثاً : والله خبير بما تعملون ) عند بعد أن ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب ) وفيه وجوه :
أولاً : لقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار بأن فوت الفرصة على الذين كفروا فجعلهم عاجزين عن البطش بالمؤمنين عندما أخطأ الرماة وتركوا مواضعهم .
ليكون من رشحات إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا قانون منعهم من الإنتفاع من الخطأ والقصور والتقصير الذي يقع عند المسلمين , ويصدر عن طائفة منهم .
ثانياً : لما جاءت خيالة الذين كفروا للمسلمين من خلفهم حصل الإرباك في صفوف المسلمين وسقط الشهداء وإنهزم أكثرهم من وسط الميدان , وتوجهوا صوب جبل قريب فصعدوا إليه ، ليكون من الآيات أنهم تركوا جبل الرماة تقصيراً ومعصية لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فصعدوا الجبل فراراً وطلباً للسلامة وتنظيم صفوفهم .
فاخبر الله عز وجل عن علمه بما يؤول إليه حال المسلمين في القتال ، وفيه منع لدبيب الجزع والقنوط واليأس إلى نفوسهم ، فما دام الله عز وجل يعلم بما يعملون فإنهم يفوضون أمورهم إليه سبحانه ويرجون نواله .
ثالثاً : حث المسلمين على الدعاء وسؤال النصر والغلبة والسلامة والأمن ، ليكون الدعاء من عمل المسلمين ، وفيه تنقية للأقوال وعالم الأفعال ، وهو مناسبة لذكر الله عز وجل وتحقيق النصر على الذين كفروا سواء جاء الدعاء بخصوص النصر أم إرادة المعنى الأعم ، لذا ورد في الآية السابقة [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ]( ).
الوجه الرابع : لقد أختتمت آية البحث بالإخبار عن إحاطة الله عز وجل علماً بما يعمل المسلمون ، وجاء اسم [الخبير ] في الآية للدلالة على علم الله تعالى بما يفعل المسلمون مجتمعين ومتفرقين منذ الأزل ، وعلمه تعالى بأفعالهم سابق لخلقهم وخلق آدم عليه السلام ، لذا تفضل سبحانه ورد على الملائكة حينما إحتجوا على جعل الإنسان خليفة في الأرض بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث بأن الله عز وجل يعلم ما يعمل المسلمون وأن أهل الأرض ليسوا كلهم مفسدين ، بل فيهم أمة تحارب الفساد وتسعى لإستئصاله وهم المسلمون ، ويسمون [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم في أخراكم ومأواهم النار ) وفيه وجوه :
الأول : من معاني الجمع بين الآيتين بيان التضاد والتنافي بين المؤمنين والذين كفروا في الدنيا والآخرة.
لقد فاز المسلمون بالإستجابة لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعبادة الله والتصديق بالمعجزات فخاطبهم الله عز وجل بالقرآن إكراماً لهم ، ثم ناداهم رسوله الكريم ، وبه أخبرت آية البحث , وتقدير قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] على وجوه :
أولاً : الشهادة من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسوله إلى الناس .
ثانياً : الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يترك أصحابه وشأنهم وههم يفرون من ميدان المعركة .
ثالثاً : ذكر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة عند عودته للمسلمين لإفادة مسألة وهي وجوب إستجابتهم له والرجوع إلى ميدان المعركة ، ومن الآيات مصاحبة الأمن والسلامة لتلك العودة .
رابعاً : الآية حجة على الذين كفروا ، إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول لهم وللناس جميعاً ، وهم يحاربونه ويريدون قتله ، لذا أخبرت آية السياق بأن عاقبتهم إلى النار .
خامساً : من معاني آية البحث : والرسول يدعوكم في أخراكم لتروا منافع وأثر الرعب الذي غزا الذين كفروا , وتجلى في أقوالهم وأفعالهم ، وجعلهم عاجزين عن المطاردة , أو إعادة الكرة على المسلمين .
ومن خصائص حرف الإستقبال (السين) في قوله تعالى [سنلقي] أن الذين كفروا سألوا المبارزة في بداية المعركة ثم إمتنعوا عنها إلى أن غادروا خائبين إلى مكة ، وتقدير الآية : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فلا يسألوا بعدها المبارزة .
سادساً : والرسول يدعوكم لتشكروا الله عز وجل على نعمة المهادنة في ميدان القتال ، إذ رد الذين كفروا السيوف في أغمادها .
الثاني : من وجوه دعوة الرسول للمسلمين إخبارهم بأن عاقبة الذين كفروا هي النار ، وتقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعو المؤمنين بأن مأوى الكفار الذين حاربوه هي النار خالدين فيها, [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا ] ( ).
وتتجه أطراف القتال إلى الشعر والزجر وذكر المفاخر والأمجاد لشحذ الهمم ، وجاء القرآن بآيات كثيرة لتنمية ملكة الدفاع عند أجيال المسلمين إلى يوم القيامة من وجوه :
أولاً : ذكر قصص الأنبياء الذين قاتلوا في سبيل الله ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ( ) .
ثانياً : بيان صبر وجهاد المؤمنين من الأمم السابقة , فيغادر نبيهم الدنيا ، ولكنهم يبقون على نهجه في دفع الذين كفروا وبيان القبح الذاتي لمفاهيم الضلالة .
ثالثاً : إتخاذ الأنبياء وأتباعهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منهاجاً ثابتاً .
رابعاً : إخبار القرآن عن تعرض عدد من الأنبياء والمؤمنين للقتل صبراً لدعوتهم إلى الله ، بينما يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه ليعودوا إلى القتال والذي كفروا على بعد خطوات منه ، فجعلهم الله بسلاح الرعب عاجزين عن الوصول إليه أو إلى الذين يقاتلون حوله ، والذين يدعوهم من أصحابه الفارين والصاعدين على الصخرة .
الثالث : ترى لماذا يكون مأوى الذي كفروا النار ، فيه وجوه :
أولاً : الملازمة بين الكفر في الدنيا واللبث الدائم في النار في الآخرة , وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : النار عاقبة الكافرين .
الصغرى : الذين حاربوا رسول الله والإسلام كافرون .
النتيجة : النار عاقبة الذين حاربوا رسول الله والإسلام .
ثانياً : إختيار الذين كفروا من قريش الشرك بالله جهلاً وعناداً وإستكباراً , ولقد عبدوا الأوثان وإتخذوها واسطة للتقرب إلى الله عز وجل زلفى بغير حق .
ثالثاً : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء .
رابعاً : تلبس الذين كفروا بالمعاصي وإصرارهم على إرتكاب الذنوب .
خامساً : ترك الذين كفروا وظائف العبادة الواجبة على كل مكلف عن عمد وقصد .
سادساً : من أسماء الله عز وجل الملك والمالك ، لذا يجوز قراءة سورة الفاتحة بالقراءتين فتقول [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] ( ) و(ملك يوم الدين ) (عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ { ملك يوم الدين } بغير ألف) ( ) .
وورد عن أنس بن مالك حديثان متعارضان يفيد أحدهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ (يقرأ { ملك يوم الدين } بغير ألف) ( ) ، والآخر أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء من بعده يقرأون (مالك يوم الدين ) (وأوّل من قرأها : (ملك يوم الدين) مروان بن الحكم) ( ).
فيتعارض الحديثان على فرض التساوي في صحة السند ويتساقطان ، فيرجع إلى الأحاديث الأخرى التي تقول بجواز القراءة بالوجهين .
وورد عن عن سفيان بن عيينة عن الزهري في حديث قال : كان علي بن الحسين عليه السلام إذ قرأ (ملك يوم الدين) يكررها حتى يكاد أن يموت , وورد مزيد بيان في الجزء الأول من رسالتنا العملية (الحجة) و(حجة النساء).
الرابع : بيان قانون وهو أن مثوى ودار إقامة الذين كفروا يوم القيامة هي النار بلحاظ زمان التلبس بالكفر من جهات:
الأولى : قبل دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين يوم أحد .
الثانية : عند دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين .
الثالثة : بعد دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بالرجوع إلى ميدان المعركة .
وهذا الإطلاق من أسرار مجئ الآية بصيغة الجملة الإسمية [وَمَأْوَاهُمْ النَّار].
وفي الآية نكتة وهي حجب الكفار عن أنفسهم العفو والتوبة والمغفرة .
إن بيان القرآن لحال البؤس التي تنتظر الذين كفروا في الآخرة علة لإزالة ومحو ما لهم من الهيبة في النفوس التي قد تترتب على كثرة عددهم وخيلهم وأسلحتهم أو بسبب بطشهم وما إشتهروا به من شدة البأس , وهي أمور جعل الذين كفروا لها موضوعية عند هجومهم والغاية منه.
ليكون الجمع بين الآيتين أعلاه من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً] ( ) (عن سعيد ابن أبي آوس في قوله : {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ} ( ) قال : كان المشركون يرون المسلمين مثليهم فلمَّا أسروهم سألهم المشركون كم كنتم؟
قالوا : ثلاثمائة وبضعة عشرة،
قالوا : ما كنَّا نراكم إلاّ تضاعفون علينا،
قال : وذلك ممَّا نصر به المسلمون) ( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين ( فأثابكم غماً بغم , ومأواهم النار ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : يتعلق موضوع هذا الشطر من آية البحث بحال المؤمنين في ميدان المعركة ، بينما يذكر الشطر أعلاه من آية السياق سوء عاقبة الذين كفروا في الآخرة , وفيه وجوه :
أولاً : بعث السكينة في نفوس المسلمين من جهات :
الأولى : تغشي المؤمنين بالغم ثواباً وتخفيفاً من عند الله .
الثانية : مجئ الثواب للمؤمنين على نحو دفعي ومن غير إبطاء بدليل الفاء في قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ] .
الثالثة : سوء عاقبة الذين كفروا ممن يحاربهم ويقاتلهم في معركة أحد ليشمل اللبث الدائم في النار كلاً من :
الأول : الكفار الذين زحفوا لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين, وأيهما أشد عذاباً من الكفار : الذين جاءوا من مكة للقتال في معركة بدر أم الذين حضروا في معركة أحد منهم ، فيه وجوه :
الأول : ينزل العذاب الأشد بمن حضر في معركة بدر من كفار قريش .
وهو من معاني تسمية معركة بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( )ولأنها أول معركة بين المسلمين والذين كفروا ، وسال فيها الدم ، وتولد الثأر وتجدد القتال بسببها .
الثاني : الذين حضروا معركة أحد من الذين كفروا هم أشد عذاباً من الذين إشتركوا في معركة بدر .
الثالث : نسبة التساوي في العذاب بالنسبة للكفار الذين شهدوا معركة بدر ومعركة أحد .
الرابع : تتعلق شدة العذاب بخصوص الذين حضروا المعركتين معاَ .
الخامس : يلقى الذين قتلوا في معركة بدر وأحد أشد العذاب .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , ولا يشمل العذاب الذين أدركتهم التوبة , نعم الذين حضروا معركة أحد منهم أشد عذاباً من جهات :
الأولى : كانت معركة بدر موعظة وإنذاراً .
الثانية : الأصل هو إنزجار الذين كفروا بعد معركة بدر لتجلي معجزات النبوة في معركة أحد .
الثالثة : مجئ الذين كفروا لمعركة أحد وإختيارهم القتال وزمانه ومكانه شاهد على تماديهم في الغي والتعدي .
الرابعة : دلالة زحف كفار قريش في معركة أحد على الإصرار على محاربة الإسلام والنبوة .
الخامسة : معركة بدر حجة على الذين كفروا ، فلما جاءوا للقتال في معركة أحد تجددت حجة أخرى مضافة إليها .
السادسة : كثرة الشهداء من المؤمنين الذين غادروا إلى الرفيق الأعلى في معركة أحد ، ويشترك في دم كل واحد منهم الكفار الذي حضروا لقتال النبوة والتنزيل في معركة أحد .
وهل تكون توبة الذين إشتركوا في معركة أحد من الذين كفروا ودخولهم الإسلام سبباً لمحو هذا العذاب أم أنهم خارجون بالتخصيص عما يترتب على التوبة ، الجواب هو الأول ، قال تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ] ( ).
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إن الاسلام يجبّ ما قبله) ( ).
الثاني : الكفار والمنافقون الذين قاموا بتحريض الذين كفروا على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثالث : الذين مدوا وأعانوا الذين كفروا في قتالهم النبوة والإيمان .
الرابع : الذين أصروا على الكفر والجحود وإن لم يشتركوا في القتال ولم يلجأوا إلى التوبة والإستغفار مع إقامة الحجة عليهم وتجلي المعجزات النبوية والكونية لهم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ).
ثانياً : تجلي مصداق إلقاء الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ممن حضروا معركة أحد ومَن وراؤهم ، وهو من الشواهد على تفضل الله بتنزيل الآية قبل السابقة بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]ويأتي هذا الرعب بلحاظ الجمع بين الآيتين من جهات :
الأولى : إخبار آية السياق عن وجود عالم آخر ينتقل إليه الناس بعد الموت ، لبيان حقيقة وهي أن الموت أمر وجودي ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ] ( ) .
فنسبت الآية أعلاه الحضور إلى الموت وأنه فاعل , ولكنه وفعله وأوانه وحضوره لا يكون إلا بأذن الله عز وجل .
الثانية : بيان آية السياق لسوء عاقبة الذين كفروا بإخبارها عن كون النار هي مأواهم ومحل إقامتهم الدائم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا] ( ) وليس من ظلم أشد من ظلم الذين قاتلوا سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : بيان آية البحث لفضل الله على المؤمنين يوم أحد ، بما يخفف وطأة الضرر الذي ترشح عن هجوم الذين كفروا وشدة قتالهم .
الرابعة : إخبار آية البحث عن تفضل الله بإقالة عثرة المؤمنين ، فبعد الخطأ والمعصية بترك أغلب الرماة لمواضعهم على الجبل يوم أحد ، وصيرورة هذا الخطأ سبباً لإنكسار جيش المسلمين وكثرة القتلى بينهم وإصابة جيش الإسلام بالغم لفوات نعمة النصر والغنائم وسقوط الشهداء منهم تفضل الله عز وجل بسنخية من الغم تكون ثواباً وكاشفاً عن الهم , وبرزخاً دون الحزن والوهن ، وليكون قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( )، عاماً شاملاً للمؤمنين وأن الله عز وجل لا يتركهم في ميدان القتال بل يمدهم بأسباب النصر الذاتية .
ثالثاً : إدراك الذين كفروا للتباين بين المؤمنين وبينهم , وبما يمنع من هزيمة المؤمنين ، فلم يكن الذين كفروا من قريش ناقصي خبرة في فنون القتال أو تأريخ المعارك والوقائع ، إذ يدل قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) على سعة صلاتهم مع الأمم والدول وإختلاطهم ومعاملاتهم التجارية مع الروم والفرس واليمن مما يترشح عنه سعة المعرفة .
وكانت قريش تجتمع في دار الندوة المطلة على الكعبة والتي بناها قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويتناجون فيها ويذكرون أيام العرب والقصائد التي قيلت في المعارك وفي المجد والفخر أو الذم ، وكانوا يتشاورون فيها عند المهمات، وفيها إتفقوا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإجهاز عليه في فراشه عندما علموا بازدياد عدد أصحابه وإختيارهم الهجرة إلى الحبشة ويثرب وهي المدينة لوجود من يأويهم ويذب عنهم من الأوس والخزرج , ويدل هذا الإيواء بالأولوية القطعية على إستعدادهم للذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته .
الوجه الثاني : ذهب عدد من المفسرين إلى القول بأن الثواب بالغم للذين عصوا من المؤمنين يوم أحد نوع عقوبة بسبب ما أدخلوه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من الحزن، وذكرت مصاديق ووجوه لهذا الغم، ولكن هناك تغاير بين الغم وأسبابه .
والمختار أن الثواب بالغم رحمة من عند الله، ولم يأت عقوبة خاصة وبعد أن أخبرت الآية السابقة عن فشل وجبن وتنازع طائفة من المؤمنين يوم أحد، وصدور المعصية منهم، وأخبر الله عز وجل عن كون المؤمنين على قسمين بقوله تعالى[مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ]( ) .
وتفضل الله عز وجل وبين النعم التي توالت على المؤمنين، وهو من إعجاز القرآن وذخائر العلوم التي تتضمنها آياته، فمع بيان القرآن للتقصير والمعصية من المؤمنين جاءتهم النعم تترى، لأنهم حضروا إلى ميدان المعركة بقصد القربة، وطاعة لله ورسوله ولإرادة نصر الإسلام، وفيه بعث للأسى والندامة في قلوب المشركين الذين إنخزلوا وسط الطريق إلى أحد.
ويتجلى توالي النعم على المؤمنين بلحاظ آية البحث والآية السابقة من وجوه:
الأول : نزول آيات القرآن من عند الله بخصوص معركة أحد.
الثاني : تفضل الله باللطف بالمؤمنين الذين حضروا معركة أحد إذ خاطبهم جميعاً بصبغة الإيمان , تقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا لقد حضرتم وشاركتم بالقتال مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معركة أحد) , وكل آية من هذه الآيات المتجاورة والمتعاطفة ثناء على المؤمنين ودعوة لهم.
الثالث : وعد الله عز وجل للمؤمنين بالنصر والغلبة.
الرابع : تنجز الوعد الإلهي للمؤمنين , وتحقق نصرهم في الساعات الأولى لمعركة أحد بتوالي سقوط القتلى من رؤساء الذين كفروا الذين جلبوا الناس لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا أول من سقطوا قتلى، مما أصاب عموم جيش الذين كفروا بالرعب والفزع، وكان سبباً بانهزامهم وفرارهم لولا أن الرماة تركوا مواضعهم.
الخامس : تجلى الغلبة للمؤمنين في بداية المعركة , وبما يقر عين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويزيد أصحابه إيماناً، ويبعثهم على الإخلاص في طاعة الله ورسوله.
السادس : ورد قوله تعالى[حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ]( ) وحتى تفيد معنيين:
الأول : الرفع والقطع، كما في قوله تعالى[وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا]( )، أي حتى رفع حال النجاسة المترتبة على الجنابة.
الثاني : تفيد حتى الغاية نحو (أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ( ) وجاءت حتى في الآية السابقة مع أداة الشرط (إذا).
ووردتا مجتمعتين (حتى إذا) نحو إثنتين وأربعين مرة في القرآن ، يأتي في أغلبها معها جواب شرط تتجلى فيه معاني ودلالات الشرط، كما في قوله تعالى في قصة نوح[حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ]( ).
وقد تتعدد الكلمات والجمل بين أداة الشرط (إذا) وبين جوابها , ولكن أين هو جواب الشرط في الآية السابقة حتى على فرض أنها بمعنى (حين) يحتمل وجوهاً:
الأول : جواب الشرط مقدر.
الثاني : ليس من جواب شرط في الآية، لأن القول بجواب الشرط قاعدة مستقرأة من نظم اللغة العربية وفق الصناعة النحوية.
الثالث : جواب الشرط هو (ثم صرفكم).
والمختار هو الثالث، فبدل أن يكون جواب الشرط متعلق بالفاء كما في قوله تعالى[فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ]( )، فان الجواب جاء لبيان نكتة , وهي من جهات:
الأولى : تعدد وإختلاف الأحوال التي لاقاها المؤمنون بعد الفشل والجبن.
الثانية : تداخل حالات المؤمنين في آنات وساعات يوم معركة أحد، وإفادة واو العطف الجمع والتداخل , وتقدير الآية: حتى إذا فشلتم وجمعتم مع الفشل التنازع والمعصية ) ، وهو على وجوه:
الأول : حتى اذا تنازعتم وأنتم في حال فشل وجبن.
الثاني : حتى إذ عصيتم وأنتم في حال فشل.
الثالث : حتى إذا عصيتم وأنتم في حال فشل وتنازع.
الرابع : حتى إذا تنازعتم وأنتم في حال معصية وتركٍ لمواضعكم على الجبل وفرارٍ من مواضع القتال.
ورد الخطاب في الآية السابقة بصيغة العموم الإستغراقي لفظاً ومعنى ودلالة أربع عشرة مرة من جهات:
الأولى : [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ]( ).
الثانية : [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ]( ).
يتضمن قوله تعالى[تحسونهم] فعلا , وفاعلا ومفعولا به , وكل منهما بصيغة الجمع، لبيان وجوه:
أولاً : كثرة عدد المسلمين، وكذا عدد المشركين.
ثانياً : إخلاص المسلمين في الجهاد.
ثالثاً : سعي المسلمين لإستئصال الكفر.
رابعاً : صدق إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب لافادة الجمع بين الآيتين السابقتين: ولقد صدقكم الله وعده بان ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب.
خامساً : لم يحدث قتل المسلمين للذين كفروا إلا باذن الله، وفيه رد على أهل الشك والريب، ومنع من المغالطة، فلا يقال لماذا أكثر المسلمون القتل في الذين كفروا , وممكن أن تكون المعجزة سبباً لدخولهم الإسلام.
وجاءت الآية بتزكية عمل المسلمين فقتلهم للمشركين من جهات:
الأولى : إتصاف المسلمين بصبغة الإيمان بدليل عطف الآية على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفيه شاهد على صحة عملهم.
الثانية : إباحة قتل الذين كفروا يوم أحد على نحو التعيين، قال تعالى[وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الثالثة : بيان قانون وهو أن القتل أمر عظيم وشديد، ولكن المسلمين قتلوا المشركين بإذن الله ودفاعاً عن النفس .
الرابعة : لقد كان المسلمون حديثي عهد بالجاهلية، وليس من السهل التخلص من أعراف الثأر, وعصبية ( الجاهلية الأولى) والولاء للقبيلة وموضوعية النسب في الإنحياز والنصرة، فلذا جاء قوله تعالى(بإذنه) لمنع أسباب النفرة بين المسلمين بسبب قيام بعضهم بقتل أقارب للمسلمين من المشركين .
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم المؤاخاة بين أصحابه من المهاجرين والأنصار لإزاحة العصبية ولجعل الأولوية في الصلات الأخوة الإيمانية، وتلك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المعاملات والصلات وتأسيس مدرسة أخلاقية وإجتماعية تتقوم بالتقوى، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثالثة : الضمير (هم) في تحسونهم وإرادة الذين كفروا به.
الرابعة : قول تعالى(حتى إذا فشلتم) ويدل عليه ميم الجمع في (فشلتم) وقيل تقسم ميم الجمع إلى قسمين:
الأول : ميم الحقيقة أي تدل على الجمع حقيقة , وتأتي مجازا أو تقديراً، ومن الحقيقة قوله تعالى[مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى]( ).
الثاني : وهي الميم التي تدل على المفرد، ولكنها تنزل منزلة لفظ الجمع، وأستدل عليه بقوله تعالى[عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ]( )، وأن الميم تدل على فرعون وأصلها (فرعون وملإه) ولكن يمكن حمل الميم على معنى الجمع , وليس المفرد، من جهتين:
الأولى : إرادة ملأ بني إسرائيل ذاتهم) لأن الذين آمنوا أول الأمر ذرية من قوم موسى، خاصة وأن نظم الآيات يتضمن التصديق بموسى عندما ألقى السحرة عصيهم , فأنذرهم موسى عليه السلام وأخبرهم بأن الذي جاءوا به سحر وتخيل .
الثانية : إرادة ملأ بني فرعون، وأعوان القواد والأمراء من قومه، والفشل كيفية نفسانية، وتدل الآية على أمور:
الأول : حصول حال الفشل والجبن في النفس.
الثاني : ظهور الفشل والجبن على فعل الفرد من المسلمين يوم أحد بعد أن جاءت خيالة المشركين من خلفهم بسبب ترك الرماة المسلمين مواضعهم.
الثالث : إرادة الفشل العام الذي يتغشى الجماعة والطائفة وأفراد الجيش على نحو العموم المجموعي.
وصحيح أن الآية جاءت بصيغة الجمع (فشلتم) ولكن شطراً من المؤمنين يخرجون بالتخصص , ويدل على عدم عموم معنى الفشل والجبن وإستثناء فريق من المؤمنين قوله تعالى[وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ].
فإن قلت قد يجتمع الفشل مع إرادة وحب الآخرة، وهذا صحيح , ولكن الأصل بخلافه، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن بقاء فريق من المؤمنين يجاهدون مع رسول الله في الميدان يدل على سلامتهم من الفشل والجبن.
الخامسة : قوله تعالى (وتنازعتم) إذ يدل على الجمع بلحاظ ميم الجمع، والعطف على إذا فشلتم، وتقدير الآية على وجهين:
الأول : حتى إذا تنازعتم.
الثاني : إرادة حال الجمع بين الفشل والتنازع , وتقدير الآية: حتى إذا فشلتم وتنازعتم .
والنسبة بين الفشل والتنازع هي العموم والخصوص من وجه، فالفشل حال إنقباض وخوف يدب في النفس، بينما التنازع نوع مفاعلة بين طرفين أو أكثر، وتحتمل الصلة بينهما وجوهاً:
الأول : للفشل أثر وموضوعية في حصول التنازع.
الثاني : النسبة بين الفشل والتنازع نسبة السبب والمسَبب، إذ يؤدي الفشل إلى التنازع والخصومة.
الثالث : للتنازع أثر وموضوعية في حدوث الفشل والجبن والخور.
الرابع : ليس من أثر أو موضوعية لأي من الفشل والتنازع في حدوث الآخر.
الخامس : الأثر المتبادل بين الفشل والتنازع بلحاظ أن كلاً منهما من مصاديق الفزع والخوف، ومادة لحدوث أو إستمرار الآخر.
والمختار هو الخامس، مع التسليم بأن الفشل سابق في زمانه للتنازع، ولكن الفشل والجبن من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، فقد يزداد مع التنازع، فجاءت الآية السابقة للتحذير من كل منهما، ولبيان فضل الله عز وجل بالعفو عن المؤمنين، وبأخبار آية البحث بدعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم في أخراهم، لتكون هذه الدعوة سور الموجبة الكلية الذي ينتفي معه الفشل، وينتهي التنازع، ويستعد جميع الصحابة إلى تجدد القتال مع الذين كفروا، وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
أولاً : والرسول يدعوكم للتنزه عن الفشل والجبن.
ثانياً : والرسول يدعوكم لترك التنازع والخصومات.
ثالثاً : حتى إذا فشلتم قام الرسول يدعوكم لترك الفشل.
رابعاً : حتى إذا تنازعتم دعاكم الرسول.
السادسة : وعصيتم، في خطاب للمؤمنين، ومن الإعجاز في الآية أنها لم تبين كلاً من الوجوه الآتية:
أولاً : جنس المعصية.
ثانياً : موضوع المعصية.
ثالثاً : فرد ومصداق المعصية.
رابعاً : أوان المعصية .
ولكن هذه الوجوه مستقرأة من ذات الآية السابقة، وبخصوص أولاً أعلاه فتدل عليه لغة الخطاب بصبغة الإيمان، وحال المؤمنين وهم في ميدان المعركة , ولقاء الذين كفروا على أن المعصية في الأمور الجزئية، وأنها لم تصدر إلا من منازل الإيمان وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
وبالنسبة لموضوع المعصية فقد ثبت في التفسير والأخبار أنها تتعلق بمخالفة الرماة لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء في مواضعهم، لبيان أن فرد المعصية ليس من العبادات والأحكام، إنما كان قضية في واقعة، وحالاً من حالات القتال في معركة أحد .
وأما أوان المعصية فقد ذكرته الآية السابقة على نحو التعيين[وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ]( )، أي بعد رؤية فرار المشركين، وإستعدادهم للإنقلاب إلى مكة، وفي الآية أعلاه حجة على الذين عصوا بذكر الآية لخصوص رؤيتهم لهزيمة العدو فلم تقل الآية وعصيتم من بعد نصركم أو غلبتكم) كما ورد في أول الآية ونسبت لعموم المسلمين حسهم وقتلهم للذين كفروا بقوله تعالى ( إذ تحسونهم ).
والمعصية على أقسام:
الأول : الإمتناع عن فعل المأمور به، كالصلاة والصيام.
الثاني : فعل المنهي عنه مثل الظلم.
الثالث : الفرد الجامع لفعل المنهي عنه، والإمتناع عن المأمور به، إذ قد يجتمع القسمان أعلاه في فرد واحد، وهو الذي وقع في معركة أحد، إذ جاءت معصية الرماة بعد أمور:
الأول : وضع وتعيين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مواضعهم على الجبل.
الثاني : تأكيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بلزوم عدم ترك مواضعهم على كل حال.
ويتجلى بوصيته لهم , وهي على جهات:
الأولى : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: احموا ظهورنا)( )، لتعيين وظيفة الرماة، ومنع اللبس أو الترديد فيها، ولتكون هذه التوصية برزخاً دون الخصومة والتنازع بينهم، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأتي بجوامع الكلم وكلمات معدودة , فتكون وسيلة للنصر والفوز والهداية , ومانعاً من الخصومة والفرقة والفشل والإرتداد.
الثانية : قوله صلى الله عليه وآله وسلم للرماة: فإن رأيتمونا نقتل لا تنصرونا)( )، وفيه شاهد على التخفيف عن الرماة بعدم إشتراكهم في القتال، إنما تختص وظيفتهم بالثبات على جبل الرماة لمنع خيل المشركين من الهجوم من وراء جيش المسلمين، ومن الآيات أن الرماة يرون خيالة المشركين وهم يتوثبون للزحف، وفي كل مرة يتقدمون فيها يرشقهم الرماة بالسهام فيتراجعون، هذا وكفة القتال تميل إلى جانب المؤمنين .
ويتولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان أموراً :
الأول : القيام وسط المعركة .
الثاني : الإشتراك بالقتال .
الثالث : تقديم النبال للرماة , مع تعضيدهم .
الرابع : توجيه وحث المجاهدين .
الخامس : تلقي الجراحات بصبر بلحاظ أن تلقيها أمر وجودي.
السادس: الثبات في الميدان بعزم .
السابع : سؤال الله عز وجل إنجاز وعده بالنصر .
الثامن : شكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل على تحقق مصداق الوعد بلحاظ إمكان إجتماع سؤال تحقق الوعد مع تنجزه واقعاً ليضاف إلى السؤال الشكر والثناء على الله عز وجل، فيتفضل الله باستدامة مصداق الوعد.
العاشر : دعوة الصحابة المنسحبين للرجوع إلى ميدان المعركة .
الحادي عشر : الدعاء للمقاتلين من المؤمنين .
الثاني عشر : الثناء على الذين يبذلون الوسع في القتال .
الثالثة : قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للرماة: وأن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا)( ).
الرابعة : تحديد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة أوان الإنسحاب والنزول من الجبل بقوله لهم : وأن رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا ترجوا، حتى أرسل إليكم).
الخامسة : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أرشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تتقدم على النبل، إنا لا نزال غالبين ما لبثتم في مكانكم.
الثالث : توصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمير الرماة عبدالله بن جبير صباح يوم معركة أحد: انضح عنا الخيل بالنبل ، لا يأتوننا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك) ( ).
الرابع : نهي أمير الرماة لأصحابه عن النزول من الجبل , وترك مواضعهم.
الخامس : ثبات أمير الرماة ونحو ثمانية من أصحابه معه على الجبل حتى أستشهدوا، فثباتهم هذا حجة على الذين إنسحبوا وشاهد على أنهم عصوا بترك مواضعهم، ولكن الآية السابقة أخبرت عن فضل الله بالعفو عنهم بقوله تعالى(ولقد عفا عنكم).
السادس : رؤية الرماة لفرقتين من خيالة المشركين تحت الجبل يتحينون الفرص للهجوم على جيش المسلمين من خلفهم، على جنبي جيش المشركين أي كانوا في ميمنة وميسرة الجيش، وعن ابن الأثير مجنبة الجيش ( قيل هي الكتِيبة التي تأخذ إحْدى نَاحِيَتيِ الطريق)( ).
السابعة : قوله تعالى (من بعد ما أراكم) وهي ذات صيغة الخطاب , ودلالة ميم الجمع على إرادة الصحابة من المهاجرين والأنصار في معركة أحد، وبين الذين عصوا في قوله تعالى (وعصيتم) .
وبين الذين رأوا النصر كما في قوله تعالى (من بعد ما أراكم ما تحبون) عموم وخصوص مطلق، فالذين رأوا النصر أعم وهم عموم المؤمنين الحاضرين في معركة أحد، ويمكن التفكيك في المتعلق، وتقدير الآية : وعصيتم أيها الرماة من بعدما أراكم أيها المؤمنون.
الثامنة : تجلي صيغة الجمع في الآية السابقة بقوله تعالى[مَا تُحِبُّونَ]بلحاظ واو الجماعة في (تحبون) وهذه هي المرة الثانية في الآية التي يأتي فيها الجمع في الآية بصيغة واو الجماعة بعد قوله تعالى[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
ومن الإعجاز أن النسبة بينهما هي التساوي، وأن المخاطبين في(تحسونهم) هم أنفسهم (ما تحبون) فان قلت لم يشارك الرماة في قتل الذين كفروا في بدايات المعركة لأنهم مرابطون على الجبل، والجواب بلى، لقد إشترك الرماة برشق خيالة المشركين بالنبال كلما هموا بالهجوم عليهم، بالإضافة إلى أن قيام طائفة من جيش المسلمين بقتل الذين كفروا إنما ينسب لعموم الجيش لأنه فعل جهادي لهم جميعاً، وحصيلة سعيهم مجتمعين، إذ أن الغلبة يومئذ لجيش المسلمين.
التاسعة : من صيغ الجمع في الآية السابقة ميم الجمع في قوله تعالى[مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا] وفيه وجوه :
أولاً : كشف ما في نفوس المهاجرين والأنصار يوم أحد.
ثانياً : إرادة تأديب المسلمين، وإصلاح نفوسهم، وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله , ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه( ).
ثالثاً : إدراك المسلمين لحقيقة وهي أن الله يعلم ما في القلوب، ولزوم توحيد النوايا بما فيه مرضاة الله.
العاشرة : ميم الجمع في قوله تعالى[وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] وتوجه لغة الخطاب للمؤمنين في معركة أحد، للثناء عليهم، وترغيب المسلمين والناس جميعاً بالإيمان باليوم الآخر، والسعي للثواب والأجر العظيم يوم القيامة , قال تعالى[وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ]( )، ولم تذكر الآية فريقاً ثالثاً ، وهم الذين يريدون الدنيا والآخرة، ولا تنفيه الآية إذ أنها وردت بصيغة التنكير في (منكم).
الحادية عشرة : ميم الجمع في ( ثم صرفكم) في ذات صيغة الخطاب الموجه للمؤمنين الذين حضروا وشاركوا في القتال في معركة أحد دفاعاً عن النبوة والتنزيل، ودفعاً للذين كفروا وجورهم.
الثانية عشرة : ميم الجمع في (عنهم) لإرادة جيش الذين كفروا وهذه هي المرة الثانية التي تذكرهم فيها الآية السابقة ، ومن الإعجاز في نظمها , ورود ذكر الذين كفروا بصيغة المفعول به ووقوع الفعل عليهم، وبما يفيد ذمهم وتوبيخهم , فورد ذكرهم في قوله تعالى[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] أي وقع على الذين كفروا القتل وصارت سيوف المؤمنين تحسهم، ثم جاء الإخبار عن صرف المؤمنين عنهم.
الثالثة عشرة : ميم الجمع في قوله تعالى (ليبتليكم) ويحتمل الإبتلاء في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص الذين تركوا مواضعهم على الجبل.
الثاني : المقصود أهل البيت والصحابة الذين لم يغادروا مواضعهم في ميدان المعركة، وواصلوا القتال لصد العدو ومنعه من الوصول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : إرادة عموم أهل البيت والصحابة الذين حضروا معركة أحد.
الرابع : المقصود عموم المسلمين والمسلمات.
ويدل نظم الآية على إرادة الوجه الثالث إلا أنه لا يمنع من إرادة المعنى الأعم وقصد عموم المسلمين والمسلمات، فقد كانت معركة أحد موعظة ودرساً للأجيال المتعاقبة من المسلمين، ومناسبة لبداية حياة إيمانية تتقوم بأداء الفرائض والعبادات، وهو المستقرأ من ترتب الإبتلاء على الإنصراف عن الذين كفروا وليكون قوله تعالى[ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] بياناً لتحقق نعمة عظيمة، وهي بداية رجحان كفة المسلمين في حال الحرب والسلم، وفي الآية دعوة للمسلمين للحكم بما أنزل الله، وفي داود عليه السلام ورد قوله تعالى[يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ]( ).
ولم يرد لفظ خليفة في القرآن إلا مرتين، واحدة في إخبار الله عز وجل للملائكة عن خلق آدم وصيرورته خليفة في الأرض، والثانية الآية أعلاه لبيان أن الخلافة متصلة بفضل ونعمة من عند الله عز وجل.
وأن رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خليفة في الأرض , كما ورد اللفظ بصيغة الجمع ففي الثناء على المسلمين وبيان عظيم منزلتهم وما يجب عليهم من فعل الصالحات والتنزه عن السيئات , قال تعالى في خطاب لهم[هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ]( ).
الرابعة عشرة : ميم الجمع في قوله تعالى (عفا عنكم) والآية معطوفة على النداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]( )، ومعطوفة بالنسبة للفاعل على أول الآية السابقة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ] ليكون تقديرها (ولقد عفا الله عنكم) .
وتكرر لفظ (ولقد) في الآية السابقة، وهو أمر نادر في القرآن، وقد ورد مثله في الآية [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ]( ).
أما ضمائر الجمع في آية البحث , فمن وجوه :
الأول : الفعل المضارع (تصعدون ) ودلالة واو الجماعة على إرادة المسلمين، ترى لماذا لم تقل الآية (إذ صعدتم) بصيغة الماضي مثل قوله تعالى[إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا]( )، والجواب إرادة بيان أمور:
أولاً : تعدد وإستمرار الصعود وعدم إنقطاعه من جهة الإرتقاء على الجبل، ويدل السعي في الصعود إلى مكان مرتفع في الجبل على شدة الخوف.
ثانياً : تعدد أفراد المؤمنين الذين يصعدون الجبل.
ثالثاً : التوالي في صعود المؤمنين الجبل، فيكون أولهم فوق الجبل وآخرهم في السفح , والضابطة الكلية أنهم يسمعون كلام ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالرجوع، مما يدل على عدم ذهابهم بعيداً.
الثاني : قوله تعالى (ولا تلوون) ودلالة واو الجماعة على إرادة الجمع، وإن لم يكن المقصود العموم الإستغراقي للمسلمين في معركة أحد.
الثالث : قوله تعالى (والرسول يدعوكم ) إذ يدل ميم الجمع على إرادة المسلمين، وتقدير الآية على وجوه:
أولاً : والرسول يدعوكم وأنتم تصعدون.
ثانياً : والرسول يدعوكم وأنتم لا تلوون على أحد.
ثالثاً : والرسول يدعوكم لترك الصعود في الأرض، والرجوع إلى الميدان .
رابعاً : والرسول يدعوكم لتستديروا وتعودوا إلى الميدان , وإذ كان الذين يصعدون ولا يلوون على أحد طائفة من المؤمنين المقاتلين يوم أحد، فهل تختص دعوة الرسول بهم أم أنها عامة للصحابة الذين يقاتلون في الميدان.
الجواب هو الأول بدليل تقييد الدعوة بقول تعالى (في أخراكم) أي في آخر الفارين وبيان أنهم كالقطار في الفرار.
الرابع : قوله تعالى (فاثابكم) ويدل ميم الجمع فيه على إرادة الصحابة يوم أحد، ونزول الثواب عليهم بالغم وهو ذات الأذى الذي ترتب على الإنكسار والخسارة التي لحقتهم بسبب الفشل والخور ومعصية أمر الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : واو الجماعة في قوله تعالى (لكيلا تحزنوا) لبيان فضل الله بدفع الحزن عن نفوس الصحابة في معركة أحد، وهو من وجوه:
الأول : صرف الحزن الذي يكون على نحو القضية الشخصية، وبسبب التقصير الذاتي، كالحزن الذي يلحق المؤمن بسبب فراره.
الثاني : دفع الحزن والأسى عن الصحابة مجتمعين بسبب التقصير الفردي الذي صدر من الرماة، وتركهم مواضعهم على الجبل.
الثالث : سلامة المهاجرين والأنصار من الحزن الذي يصيبهم لو إستمرت وإزدادت الخسارة في القتلى والجراحات، وصار عدد الفارين من الصحابة أكثر، وإتسعت المسافة بينهم وبين ميدان المعركة، وصار بعضهم لا يسمع دعوة الرسول إلا بالواسطة والمناجاة بينهم.
السادس : ميم الجمع في(فاتكم) ودلالتها على توجه الخطاب للمسلمين وتوثيق حقيقة , وهي ضياع مكاسب في الحرب عن المؤمنين.
السابع : ميم الجمع في أصابكم، لبيان أن فقد الشهداء سبب للأذى لمن بقيَ حياً من المؤمنين في معركة أحد، فوقع القتل على سبعين منهم ولكن الأذى تغشاهم جميعاً، وهل ينحصر معنى الإصابة هنا بخصوص المصيبة يوم أحد، كما في قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
الجواب صحيح أن موضوع الآيتين متحد، وكل منهما نزلت بخصوص معركة أحد، إلا أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فآية البحث أعم، ويتجلى بمجيئها بصيغة الماضي(ما أصابكم) بينما قيدت الآية أعلاه الإصابة بخصوص معركة أحد وإلتقاء الفريقين فيه.
ليكون من فضل الله على المسلمين أن الأذى الذي لاقوه في يوم أحد سبب لسلامتهم من الحزن عما أصابتهم من المصائب يومئذ، وما وقع قبله.
السابع : واو الجماعة في(تعلمون) لبيان حقيقة وهي إرادة عموم المسلمين في آية البحث، وبما يفيد إنتفاعهم الأمثل من مضامينها بلحاظ كبرى كلية وهي أن الله عز وجل خبير بما يعمل الناس مجتمعين ومتفرقين , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ]( ).
الوجه الثالث : مع التباين الموضوعي والحكمي بين المسلمين والذين كفروا في معركة أحد، فان الأثر والتأثير بينهما ظاهر وجلي، وعلة الغم الذي أصاب المسلمين من جهات:
الأولى : هجوم الذي كفروا على المدينة، وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الثانية : سقوط سبعين شهيداً من المسلمين.
الثالثة : إشاعة الذين كفروا يوم معركة أحد بأنهم قتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وسرعان ما انتشر الخبر بين الصفين، وبلغ المدينة المنورة ومع هذا بقيت على حالها من الإستقرار والتسليم بامامته وحكم الإسلام مع أنه لم تمض ثلاث سنوات على هجرته لها، وفيها فريق من اليهود والكفار إلى جانب طائفة من المنافقين.
الرابعة : تخلف الذين كفروا من قريش عن دخول الإسلام سبب لإصابة المؤمنين بالغم والحزن.
فاذا كان أغلب الناس خارح مكة والبعيدين عنها في مساكنهم لم يطلعوا على معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكنوز السماوية التي تستقرأ منها فان أهل مكة عامة وقريشاً خاصة على بينة من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدلائل على صدقها.
وعن ابن عباس : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوه لك، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله . قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً. قال : فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر أو أنك كاره له.
قال: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده مني، ولا بشاعر الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله : الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله ، وإنه ليعلوا وما يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته.
قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه . قال : فدعني حتى أفكر. ففكر. فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت {ذرني ومن خلقت وحيداً}( ).
ومن المعجزات الحسية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إعتراف عدد من كبراء قريش بصدق نبوته مع إصرارهم على الكفر والجحود، كما في الحديث أعلاه، ليترشح عن إعترافهم هذا دخول أفواج من الرجال والنساء الإسلام، لتكون أحاديث قريش عن آيات القرآن حجة عليهم، ودعوة للناس لنبذ الكفر والشرك، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
فلا غرابة أن يأتي المشرك من أهل مكة إلى بيته مساءً ليجد إبنه او بنته قد دخلوا الإسلام، ولا يؤدي الوعيد والتهديد إلا إلى ثباتهما على الإيمان، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قيام بعض النسوة من بيوتات المدينة بالهجرة إلى المدينة من غير محرم أو ولي .
فلم ينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الهجرة كما في قصة أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط التي هاجرت بعد صلح الحديبية، بل أحاطها بعنايته وذب عنها، إذ قدم أخواها عمارة والوليد إلى المدينة طلباً لإرجاعها عملاً بالعهد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش، فلم يردها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن العهد لا يشمل النساء , ونزل قوله تعالى[إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ]( )،
ومن الإعجاز في الآية أعلاه صيغة التذكير في الفعل(جاءكم) فلم تقل الآية (إذ جاءتكم) بينما ورد قوله تعالى[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( )، لبيان قوة الإيمان عند المؤمنات اللاتي يهاجرن، وحسن إختيارهن، وتحديهن للقوم الكافرين .
وهل يرد تذكير الفعل هذا على لزوم إكرامهن وجواز إستشارتهن , الجواب نعم ، وورد جواز إستشارة المؤمنة في قصة موسى عليه السلام[قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ]( )، وأبوها شعيب النبي، وقيل ابن أخي شعيب، وإسمه يثرون كاهن مدين وأنها ولدت لموسى عليه السلام ولداً أسماه جرثمة .
عن عقبة بن المنذر السلمي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ { طس } حتى بلغ قصة موسى عليه السلام قال : إن موسى أجر نفسه ثماني سنين أو عشراً على عفة فرجه ، وطعام بطنه ، فلما وفى الأجل .
قيل : يا رسول الله أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أبرهما وأوفاهما ، فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت من غنمه قالب لون من ذلك العام ، وكانت غنمه سوداء حسناء ، فانطلق موسى إلى عصاه فسماها من طرفها ، ثم وضعها في أدنى الحوض ، ثم أوردها فسقاها ، ووقف موسى بازاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة قال : فأنمت وأثلثت ووضعت كلها قوالب الوان . إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش ، ولا ضبوب ، ولا غزور ، ولا ثفول ، ولا كمشة تفوت الكف .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : فلو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم . وهي السامرية .
قال ابن لهيعة : الفشوش : التي تفش بلبنها واسعة الشخب ، والضبوب : الطويلة الضرع مجترة ، والغزور : الضيقة الشخب ، والثفول : التي ليس لها ضرع إلا كهيئة حلمتين ، والكمشة : الصغيرة الضرع لا يدركه الكف)( ).
الخامسة : فوات الغنائم عن المسلمين في معركة أحد، فصحيح أن فريقاً منهم كان يطمع فيها، إلا أن فواتها سبب للأسف عند جميع المسلمين من وجوه:
الأول : نيل المسلمين الغنائم نعمة على المسلمين جميعاً.
الثاني : الغنائم شاهد على نصر المسلمين.
الثالث : يبعث دخول الغنائم إلى المدينة الغيظ في قلوب المنافقين والكفار، وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
الرابع : إصابة الذين كفروا بالذل والهوان عند إستيلاء المؤمنين على مؤونهم ورواحلهم.
الخامس : الغنائم عون ومدد للمؤمنين، وقد إكتظت المدينة المنورة بالمهاجرين، وضاقت الموارد فيها، فمجئ الغنائم تخفيف ورحمة، وسبب للمكاسب وإزدهار التجارة.
ومن وجوه الثناء على الأنصار أنهم صبروا على هذه المزاحمة، وبادروا إلى قسمة وشطر أموالهم بينهم وبين إخوانهم من المهاجرين، ولا عبرة بما يقوله أفراد من المنافقين.
لقد أصيب المؤمنون بالغم في سبيل الله، وعند ملاقاة الذين كفروا فجازاهم الله بالأجر والثواب.
وتقدير الآية : فأثابكم الله غماً بغم لما لحقكم في سبيل الله، ليأتي الثواب من ذات جنس الأذى النفسي الذي لاقاه المؤمنون.
وذكرت آية البحث وجهاً من الثواب العاجل الذي يأتي للمؤمنين لجهادهم في سبيل الله، أما آية السياق فذكرت سوء عاقبة الذين كفروا في الآخرة، لبيان أن الدنيا روضة ناضرة للمؤمنين، وهي وعاء الإنذارات للذين كفروا ومنها آية السياق، وهل في آية البحث إنذار للذين كفروا سواء في منطوقها أو مفهومها، الجواب نعم من وجوه:
الأول : قوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ] حجة على الذين كفروا لشدة هجومهم، وبطشهم، وإشاعتهم القتل للإنتقام منهم.
الثاني : يتضمن قوله تعالى [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] في مفهومه تحريض المؤمنين بالرجوع إلى ميدان المعركة والإنقضاض على العدو، وقد تفضل الله عز وجل بمقدمات هذا الإنقضاض بقذف الرعب في قلوب الذين كفروا.
الثالث : يتضمن قوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] الإنذار للذين كفروا من وجوه:
أولاً : والرسول يدعوكم لإنذار الذين كفروا.
ثانياً : والرسول يدعوكم لإخبار الذين كفروا بما ينتظرهم من العذاب لتكذيبهم الرسول، قال تعالى[فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون]( ).
ثالثاً : والرسول يدعوكم لعدم الفتور في مجاهدة الذين كفروا، بلحاظ أن الإنذار أعم من أن يختص بعذاب من عند الله في الدنيا والآخرة، فيشمل ما يأتي من الأذى والضرر للذين كفروا من جهات:
الأولى : الأذى يأتي للذين كفروا بآيات القرآن، وما فيها من الذم والتوبيخ والتبكيت للذين كفروا كما في قوله تعالى بخصوص معركة أحد[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، وهذا التبكيت ونحوه غير التخويف والإنذار الصريح.
الثانية : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل مع تعدد محاولات قتله من قبل المشركين، سواء في ميدان المعارك أو خارجه باعث للفزع في قلوب الذين كفروا.
الثالثة : الأذى والتخويف للذين كفروا بالسنة النبوية القولية والفعلية، فمثلاً لما إنكشف كذب وزيف إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إزدادوا غيظاً وكمداً، وكان أبي بن خلف وهو من رؤساء الكفر في مكة قد افتدي من الأسر في معركة بدر، فأخذ يتوعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان يقول: إن عندي العود، وهي فرس له، اعلفها كل يوم فرقاً( ) من ذرة، ولاقتلن عليها محمداً، فبلغ رسول الله كلامه، فقال: بل انا أقتله إن شاء الله، وفيه مسائل :
الأولى : وصول أخبار قريش بما فيها المسائل الشخصية والأحاديث الخاصة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : نقل العيون وغيرهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعيد ومكر قريش.
الثالثة : رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يبعث العز في نفوس المؤمنين.
الرابعة : إظهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسن التوكل على الله سبحانه.
الخامسة : تعليق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقتله لعدو الله وعدوه على المشيئة الإلهية، قال تعالى[وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ) .
وهل تحتمل توبة أبي بن خلف وأنها من مصاديق تعليق قتله على المشيئة الإلهية الجواب نعم، بينما ورد في القرآن ذم أبي لهب وهو عم النبي بما يفيد في ظاهره ظلمه لنفسه وحجب التوبة عنه، قال تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
وتبين خاتمة الآية أعلاه إتصاف المشيئة الإلهية بالحكمة وأن الله عز وجل أحاط بكل شئ علماً، ولا يفعل إلا ما فيه الصلاح وأسباب الهداية.
السادسة : إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسالة إلى المشركين يبعث الفزع والخوف في نفوسهم.
السابعة : بعث السكينة في نفوس المؤمنين، وحثهم على بذل الوسع في الدفاع عن الإسلام، وعدم الخشية من الذين كفروا ووعيدهم إذ كانوا يبعثون رسائل التخويف الى المهاجرين والى الأنصار.
ولما وقعت معركة أحد، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إني أخشى أن يأتي أبي بن خلف من خلفي، فان رأيتموه فآذنوني به)( ) فلم يتركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشأنه، ولم يقل لأصحابه أن أقتلوه أو إكفوني إياه، ولما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشعب جاء أمية بن خلف مقنعاً بالحديد , وهو يركض على فرسه , وهو يقول أين محمد؟ لا نجوت إن نجا.
فاعترضه رجال من الصحابة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوه وخلوا طريقه ولما وصل أمية بن خلف قال: ياكذاب أين تفر، فتناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حربة من الحارث بن الصمة وانتفض إنتفاضة، ثم إستقبله بها، فطعنه في عنقه , وفي رواية أنه خدشه في عنقه خدشاً فاحتقن الدم.
فرجع أمية إلى قومه مذعوراً، وقال: قتلني والله محمد، وعن ابن إسحاق: قَالُوا لَهُ ذَهَبَ وَاَللّهِ فُؤَادُك وَاَللّهِ إنْ بِك مِنْ بَأْسٍ قَالَ إنّهُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي بِمَكّةَ أَنَا أَقْتُلُك ، فَوَاَللّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيّ لَقَتَلَنِي . فَمَاتَ عَدُوّ اللّهِ بِسَرِف( ) وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إلَى مَكّةَ
قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ
لَقَدْ وَرِثَ الضّلَالَةَ عَنْ أَبِيهِ … أُبَيّ يَوْمَ بَارَزَهُ الرّسُولُ
أَتَيْتَ إلَيْهِ تَحْمِلُ رِمّ عَظْمٍ … وَتُوعِدُهُ وَأَنْتَ بِهِ جَهُولُ
وَقَدْ قَتَلَتْ بَنُو النّجّارِ مِنْكُمْ … أُمَيّةَ إذْ يُغَوّثُ يَا عَقِيلُ
وَتَبّ ابْنَا رَبِيعَةَ إذْ أَطَاعَا … أَبَا جَهْلٍ لِأُمّهِمَا الْهَبُول
وَأَفْلَتْ حَارِثٌ لَمّا شَغَلْنَا … بِأَسْرِ الْقَوْمِ أُسْرَتُهُ فَلَيْلُ( ).
الرابع : بعث اليأس في نفوس الذين كفروا بسبب عجزهم عن الفصل بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأي طائفة من المهاجرين والأنصار في ميدان المعركة ز
ويدل على بقاء الصلة وتلقي الصحابة الأوامر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة ومن غير واسطة قوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ].
واذ كانت دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم تصل إلى الذين إنهزموا من أصحابه، فمن باب الأولوية القطعية إستمرار صلته وقيامه بتوجيه الأوامر لمن كان يقاتل بين يديه من أصحابه، وتدل عليه أخبار عديدة.
ودوام قرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه من مصاديق قوله تعالى[بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] ( )، لإنتفاعهم من رشحات الوحي والسنة النبوية، وهو من مصاديق قوله تعالى بخصوص معركة أحد[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ).
فتتجلى وجوه من ولاية الله عز وجل للمؤمنين بعدم الفصل بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة.
وجاء قيد (في أخراكم) لتأكيد دوام بلوغ نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في كل الأحوال.
الخامس : جاءت آية البحث بصيغة الخطاب الموجه إلى أصحاب معركة أحد من المؤمنين، وفيه إنذار للذين كفروا بأن الله عز وجل يدفع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ويرد كيد الكافرين إلى نحورهم.
السادس : تدل المضامين القدسية لآية البحث على سلامة المهاجرين والأنصار من طاعة الذين كفروا إذ كانوا يرغبونهم بالرجوع إلى ملتهم، فتأتي آية البحث لتتضمن الإخبار عن الثواب للمؤمنين، وسلامتهم من الحزن.
السابع : تتضمن آية البحث الوعد من عند الله للمؤمنين بالوقاية من الحزن والمنع من إستحواذه على نفوسهم وفيه إنذار للذين كفروا وزجر عن الشماتة بالمسلمين عند فقد الشهداء من بينهم، وجاءت الآيات الأخرى بالإخبار بأن مقام الشهداء في الآخرة في جنات الخلد، ليدل في مفهومه على بعث الحسرة والأسى في قلوب الذين كفروا لتضييعهم الدنيا والآخرة.
الثامن : إختتام آية البحث بالإخبار عن علم الله عز وجل بما يفعل المؤمنون، وتفضله باللطف وأسباب تعاهدهم سنن الإيمان والتنزه عن الضعف والوهن في مرضاة الله، إن قوله تعالى[وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] دليل على بقاء المسلمين في مقامات الإيمان، وأن عملهم وقتالهم في معركة أحد في عين الله عز وجل.
التاسع : خاتمة آية البحث وعد للمؤمنين بالجزاء الكريم لما لحقهم من الخسارة في معركة أحد وكثرة الشهداء من بينهم، وتفشي الجراحات في أبدانهم وتفانيهم في سبيل الله، ليكون هذا الوعد إنذاراً للذين كفروا بأنهم لم يضروا المؤمنين لحضور الثواب والجزاء من عند الله للمؤمنين، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ومأواهم النار) وفيه وجوه :
الوجه الأول : مع أنه لا يفصل بين آية البحث والسياق إلا آية واحدة فقد وردت آية السياق بصيغة الغائب بخصوص جيوش الذين كفروا الذين زحفوا إلى المدينة المنورة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، من ضمن آيات تخاطب المسلمين ليكون إخبارهم عن إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب موضوعاً لإنذار الذين كفروا من جهات:
الأولى : صبغة القرآنية والتنزيل من السماء لنبأ إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا.
الثانية : تسليم الذين كفروا بالعجز عن تحقيق النصر، لعدم إجتماعه مع الرعب إذا كان الطرف الآخر سالماً من هذا الرعب.
ووردت آية السياق بصيغة المضارع[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] فهل تشمل الآية المعارك اللاحقة لمعركة أحد، أم تختص بمعركة أحد، الجواب هو الأول من وجوه:
الأول : بيان الآية لعلة الرعب وهو الشرك بالله.
الثاني : من معاني الفعل المضارع الإستدامة والتجدد.
الثالث : مصاديق تحقق الرعب في قلوب الذين كفروا في معارك الإسلام اللاحقة ومنها معركة حنين في السنة الثامنة للهجرة وبعد فتح مكة وعن السائب بن يسار قال( سمعت يزيد بن عامر السوائي وقد كان شهد حنينا مع المشركين ، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فنحن نسأله عن الرعب الذي ألقى الله تعالى في قلوب المشركين يوم حنين كيف كان ؟ قال: كان يأخذ لنا الحصاة فيرمي بها الطست فتطن قال : فكنا نجد في أجوافنا مثل هذا. وقال عند انكشافه انكشفها المسلمون يوم حنين فتبعهم الكفار فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من الأرض ، ثم أقبل بها على المشركين فرمى بها في وجوههم فقال : ارجعوا شاهت الوجوه فما منا أحد يلقى أخاه إلا وهو يشكو إليه القذاء ويمسح عينه)( ).
الثالثة : بيان آية السياق لعلة إلقاء الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا، وهو إختيارهم الشرك بالله عز وجل، وفيه نكتة وهي عجز الشركاء والأنداد عن الدفع عن أوليائهم، قال تعالى[قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ]( ).
الرابعة : جاءت هذه الآيات معطوفة فيما بينها، إذ إبتدأت بقوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، وجاءت بعدها خمس آيات كلها متوجهة إلى ذات جهة الخطاب وهم المسلمون الذين آمنوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونطقوا بالشهادتين، وتحتمل آية السياق بلحاظ جهة الخطاب وجوهاً:
الأول : إرادة خطاب الذين كفروا، من جهات:
الأولى : خصوص الذين زحفوا لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد.
الثانية : الذين كفروا من أهل مكة.
الثالثة : أصالة العموم المستقرأة من آية السياق وإرادة الذين كفروا على نحو العموم الإستغراقي لأن الآية في مقام بيان الحكم.
الثاني : توجه الإشعار إلى عموم المسلمين لبيان حال الذين أصروا على الشرك.
الثالث : إرادة إخبار المهاجرين والأنصار وصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً لإتخاذ آية البحث مادة للجدال والإحتجاج على الذين كفروا والإحتراز منهم.
الرابع : إخبار المؤمنين الذين حضروا معركة أحد على نحو التعيين والخصوص.
الخامس : تذكر آية السياق قانوناً عاماً وهو بيان صبغة وصفة الذين كفروا لبعث النفرة من نصرتهم .
السادس : إخبار الناس جميعاً بخسارة الذين كفروا وما ينتظرهم من سوء العاقبة، قال تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق آية البحث، ولا تزاحم بين قانون سوء عاقبة الذين كفروا مع توجه الإنذار لهم، وإشعار المؤمنين بحالهم، لتكون هذه الوجوه حجة ومقدمة لهزيمة الكفار في معارك الإسلام، إذ يستقرأ منها وهن وخذلان الكافرين.
وليستبين أمر من آية البحث وهو أن إنسحاب وفرار شطر من المسلمين من ميدان المعركة لن يتكرر مرات متعددة، فالخسارة والإنكسار ينتظران الذين كفروا في الدنيا لأن الرعب يملأ صدورهم.
ليكون الرعب الذي تذكره آية السياق على وجوه:
أولاً : إنه سبب لصد الذين كفروا عن الإلحاح والتتابع في الهجوم على المدينة المنورة.
ثانياً : إشغال الذين كفروا بأنفسهم.
ثالثاً : ظهور أمراض في أبدان الذين كفروا، لترشح الضرر البدني عن الأذى والإنقباض النفسي.
رابعاً : التخفيف عن المؤمنين عند اللقاء.
خامساً : قيام المؤمنين بوعظ وإنذار الذين كفروا، لأن الرعب الذي يملأ صدورهم مناسبة لتلقيهم هذا الإنذار بالقبول.
سادساً : ما يصيب الذين كفروا من الرعب مقدمة للرعب والفزع المطلق الذي ينزل بهم يوم القيامة.
سابعاً : دعوة الذين كفروا للتوبة والإنابة، بلحاظ نفرة الناس من الرعب، وسعيهم لطرده , وتنحصر السلامة والنجاة منه بالإسلام، والتنزه عن مفاهيم الكفر، ولو إختار الكافرون من قريش وأعوانهم كف اليد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فهل ينجو الذين كفروا من الرعب الذي تذكره آية السياق.
الجواب لا، وهو من الإعجاز ببيان الآية لعلة نزول الرعب في قلوبهم ومجتمعهم وناحيتهم وهو الشرك بالله.
وقد تفضل الله عز وجل ببعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً إلى الناس جميعاً لنجاتهم من براثن الكفر، وما يجلبه لصاحبه من الضرر، وصيرورته سبباً لتحمل أوزار غيره ممن يرث عنه الكفر أو يفتتن به، كما ورد في قوله تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ]( ) .
لبيان الإثم الذي يلحق الآباء من سوء إختيارهم وقبح فعلهم، ومن إتباع الأبناء لهم على الباطل.
إن بيان آية السياق لحال الذين كفروا في الدنيا وفي الآخرة بإصابتهم بالرعب في الدنيا، وإقامتهم في النار في الآخرة مواساة للمسلمين مما أصابهم من الخسارة يوم أحد، وإذ إنتهت وقائع معركة أحد بيوم واحد هو النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، فان المسلمين يتلون آية السياق كل يوم لتكون حرزاً من الحزن والوهن.
الوجه الثاني : تتضمن آية البحث الوعد من عند الله بنفي ودفع الحزن عن المؤمنين مع الإخبار عن الخسارة التي أصابتهم، فليس لأحد أن يقول لم يتلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المعارك الخسارة، أو يذهب إلى القول بأن من خصائص النبوة النصر المتصل والدائم، أو أن المسلمين كانوا يكسبون الغنائم في كل معركة .
ترى لماذا قدمت آية البحث ما فات المسلمين من النصر المبين والغنائم على ما أصابهم من القتل والجراحات مع أنها أعظم وأهم، الجواب فيه بيان حقيقة وهي أن فوات النصر أعظم عند المؤمنين من الجراحات والكلوم التي أصابتهم، وورد بخصوص معركة أحد قوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ..]( ).
ولما سأل المسلمون إحدى الحسنيين إما النصر أو الشهادة، فان فريقاً منهم نال الشهادة، ولكن النصر المبين لم يفتهم ، ولو لم تكن نتيجة معركة بدر النصر والظفر التام للمسلمين وجلبهم الأسرى والغنائم إلى المدينة، فهل يحزنون لما لاقوه في معركة أحد، الجواب لا، فقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بأن جعلهم يتطلعون إلى ذات النصر الذي حققوه في معركة بدر أن ينالوه في كل معركة من معارك الإسلام بفضل من الله ، ويكون تقدير آية البحث : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر المشابه للنصر يوم بدر.
إن إخبار آية السياق عن سوء عاقبة الذي كفروا وبيانها بأن مثواهم الدائم هو نار جهنم من أسباب سلامة المؤمنين من الحزن على ما فاتهم.
الوجه الثالث : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار سعادة ورحمة للمؤمنين، للملازمة بين الغبطة والسعادة من جهة وبين الإيمان بالله والنبوة والتنزيل من جهة أخرى، وفيه مسائل :
الأولى : ترغيب الناس بالإسلام وبعثهم للسعي لنيل السعادة في الدنيا والآخرة.
الثانية : دعوة الناس للتصديق بعالم الآخرة، والإقرار بوجود عالم آخر يتقوم بالحساب والثواب بالحسن على فعل الخيرات، والعقاب على إرتكاب السيئات.
الثالثة : هذه الملازمة مقدمة ومرآة لما يرزقون من السلامة والنعيم الأخروي، وهل هو من عمومات قوله تعالى بخصوص أهل الجنة [كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ]( ) .
الجواب قد ذكرت الآية أعلاه خصوص الثمار التي يرزق بها أهل الجنة، فيتذكرون مثلها في الحياة الدنيا كالرمان والعنب والمثلية في الجنس ولكن طعم ثمار الجنة ليس لها شبه في طعمها ولونها ورائحتها .
وعن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لمّا خلق الله سبحانه جنّة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثمَّ قال لها : تكلّمي، قالت : قد أفلح المؤمنون ثلاثاً ثمَّ قالت : أنا حرام على كلّ بخيل ومرائي( ).
الرابعة : إقامة الحجة على الناس بتجلي حقيقة وهي الحتم والقطع بهزيمة الذين كفروا في حربهم على النبوة وأهل الإيمان.
الخامسة : بيان سوء عاقبة الذين كفروا في الآخرة، وفيه بعث للنفرة في النفوس من الكفر والشرك وأسباب الضلالة.
السادسة : بقاء الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان، وقد تفضل الله عز وجل وجعل تكامل هذه الدعوة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
الوجه الرابع : هل يصح تقدير آية البحث لكيلا تحزنوا على ما فاتكم فمأواكم الجنة) الجواب نعم، لبيان أن صرف الحزن عن المؤمنين فضل من عند الله، وهو باب للأجر والثواب، فينعم الله عز وجل على المؤمنين بصرف الحزن عنهم، ويجعل إنصرافه سبباً لنيل المراتب السامية في الآخرة، وليكون صرف الحزن عنهم بشارة للفوز بسلامتهم منه في الآخرة وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ليكون من معاني قوله تعالى[وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( )، تفضل الله عز وجل باقامة المؤمنين في الجنة ثواباً لهم على قتالهم للذين كفروا في معركة بدر وأحد.
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : لكيلا تحزنوا على ما أصابكم ومأواهم النار) وفيه وجوه :
الوجه الأول : إفادة التباين والتضاد بين حال المؤمنين وحال الذين كفروا , إذ تدل آية البحث على توالي مصاديق الرأفة بالمؤمنين، وتدل في مفهومها على حزن الذين كفروا لما فاتهم وما أصابهم، لبيان قانون وهو أن الحزن كيفية نفسانية لا يقدر على دفعها إلا الله عز وجل، فان قلت قد يلجأ الإنسان إلى العلاج والعقاقير الطبية لدفع الحزن والكآبة، وهذا صحيح، وفيه مسائل :
الأولى : لا تدفع هذه العقاقير الحزن من الأصل، بل قد ترفعه إذا حل بساحة الإنسان.
الثانية : يستلزم طلب العقاقير السعي وبذل المال.
الثالثة : مصاحبة الأضرار الجانبية للعقاقير.
الرابعة : لا تعالج العقاقير داء الحزن والكآبة إلا على نحو السالبة الجزئية ولفترة محدودة مع تعطيل ظاهر للأعمال والفكر.
الخامسة : هذه العقاقير مما رزق الله الإنسان من العلم.
السادسة : إنحصار آثار العقاقير بالقضية الشخصية.
فلا ينتفع منها إلا الذي يطلبها ويتناولها، أما آية البحث فان نفعها لعموم المسلمين والمسلمات ولا يصاحبها إلا النفع والأجر، ولا ينال الذين كفروا إلا الخيبة في المعركة وبعدها، وتكون عاقبتهم الخلود في الجحيم بسبب إصرارهم على الشرك بالله مع قيام الحجة عليهم بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الوجه الثاني : لما أخبرت آية السياق بسوء عاقبة الكفار الذين زحفوا من مكة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين صدّقوا بنبوته وإتبعوه وأن إقامتهم الدائمة في نار جهنم لأنهم ظالمون لأنفسهم ولغيرهم، وردت آية البحث بالمواساة الحاضرة والآجلة للمؤمنين، لتصاحبهم في أيام حياتهم.
ومع التباين الموضوعي بين آية البحث والسياق فان كلاً منهما تبعث السكينة والطمأنينة في نفوس المؤمنين، والحسرة والأسى في نفوس الذين كفروا، لذا فمن معاني قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، الوارد بخصوص الذين كفروا عند إنسحابهم من معركة أحد متوجهين الى مكة فان من معاني الخيبة التي لحقتهم نزول الطمأنينة والمواساة على المؤمنين إذ تفضل الله عز وجل عليهم بالخروج من المعركة بالسلامة من الحزن والأسى على ما أصابهم من الخسارة، مما يدل على عصمتهم من الكلل والوهن.
الوجه الثالث : إصابة الذين كفروا بالرعب من جهة سلامة المؤمنين من الحزن عما فاتهم وما أصابهم، فلم تقف آية البحث عند خصوص فوات النصر التام والغنائم عن المؤمنين وتترك الإصابة بالجراحات وفقد الشهداء سبباً للحزن والأسى بلحاظ أنها مصيبة ظاهرة تهجم على النفوس وتخالط الأركان، ويدركها العقل والحواس لتتجلى للذين كفروا حقيقة وهي عجزهم عن قهر جيش الإسلام لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ومعه المؤمنون يمتلكون سلاحاً واقياً وهو السلامة من الحزن والجزع والأسى وإن توالت عليهم المصائب .
وتقدير آية البحث، لكيلا تحزنوا على مافاتكم ولا ما أصابكم ولا ما يفوتكم ولا ما يصيبكم.
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً والله خبير بما تعملون ).
الوجه الأول : قد تقدم في الجزء السادس والعشرين بعد المائة تقدير الجمع بين قوله تعالى (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) وبين مضامين آية البحث من غير ذكر علة إلقاء الرعب التي وردت جلية في آية السياق ( ) .
وفي خاتمة آية البحث حذف ، وتقدير الآية : والله خبير بما تعملون يا أيها الذين آمنوا ) بلحاظ عطف آية البحث على ما تقدمها من الآيات , وفيه ثناء عليهم ووعد كريم لهم في النشأتين ، وترغيب بالإيمان ، وبعث للنفرة من الشرك والضلالة ، ولم تكتف آيات القرآن بذم الكفر بمفهوم الآيات التي تمدح المؤمنين وتثني عليهم أو بالإضمار بل بينت القبح الذاتي للكفر وعلته وهي إختيار الشرك بالله , وجعل أنداد له سبحانه وسوء عاقبة الكفر, وفي التنزيل [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] ( ) وقال تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ) .
وأخبرت آية السياق عن عقاب عاجل على الكفر بالقاء الرعب في قلوب الكافرين , وفيه نكتة وهي أن هذا الإلقاء ليس بسبب طارئ وهو زحف كفار قريش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بل لأنهم مشركون لإرادة ذمهم على الوصف الأعم ، ليكون تبكيتهم على الوصف الأخص وهو زحفهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من باب الأولوية القطعية، ولبيان نكتة وهي أن هذا الزحف سبب آخر يترتب عليه الإثم ويعجل معه العذاب على للذين كفروا ، ومن الإعجاز في آية السياق أنها لم تذكر الشركاء الذين جعلهم الكفار أنداداً لله سبحانه بصيغة العاقل فلم تقل الآية ( من لم ينزل به سلطاناً ) بل جاءت بلفظ (ما) الذي يفيد الجامع المشترك بين غير العاقل والعاقل .
(عن ابن عباس قال : لما نزلت { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } ( )شق ذلك على أهل مكة . وقالوا : شتم الآلهة . فقال ابن الزبعرى : أنا أخصم لكم محمداً ، ادعوه لي فدعي . فقال : يا محمد ، هذا شيء لآلهتنا خاصة؟ أم لكل من عبد من دون الله؟ قال : بل لكل من عبد من دون الله . فقال ابن الزبعرى : خصمت . ورب هذه البنية ، يعني الكعبة ، ألست تزعم يا محمد ، أن عيسى عبد صالح ، وأن عزيراً عبد صالح ، وأن الملائكة صالحون؟ قال : بلى .
قال : فهذه النصارى تعبد عيسى . وهذه اليهود . تعبد عزيراً ، وهذه بنو مليح تعبد الملائكة ، فضج أهل مكة وفرحوا! فنزلت { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } ( )عزير وعيسى والملائكة { أولئك عنها مبعدون } ونزلت { ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون } قال : وهو الصحيح) ( ).
وفي رواية أن (قال ابن الزبعرى : أما والله لو وجدته في مجلس لخصمته،
فسلوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، و النصارى تعبد عيسى، فاخبر النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: ياويل أمه، أما علم أن ” ما ” لمالا يعقل و ” من ” لمن يعقل ؟ فنزل: ” إن الذين سبقت لهم ” الآية) ( ).
قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} . قال المشركون : يا محمد لتنتهينّ عن سبّ الهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم اللّه تعالى أن يسبوا أوثانهم) ( ).
ليتولى الله عز وجل بنفسه وبكلامه النازل من سبع سموات ذم الذين أشركوا وفضحهم وإلقاء الرعب في قلوبهم , والوعيد لهم ولما يعبدون , ليصبحوا عاجزين عن التجرأ على مقام الربوبية وعلى التعدي على النبوة والإيمان ، وإذا ما هجموا فان الهزيمة تنتظرهم وتصبح غاية همهم وإختيارهم ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : مصاحبة الرعب للذين أشركوا .
الصغرى : قيام الذين أشركوا بالهجوم على المدينة .
النتيجة : مصاحبة الرعب للذين هجموا على المدينة .
ترى من هم الذين إتخذهم كفار مكة أنداداً لله عز وجل , وصار فعلهم هذا سبباً لنعتهم بالشرك ، الجواب من وجوه :
الأول : المراد الأوثان التي إتخذها الكفار آلهة تقربهم إلى الله كما ورد في التنزيل [مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى]( ).
الثاني : الأصنام التي يرجو الكفار منها النفع ودفع الضرر وتوجهوا لها بالمسائل ، ونذروا لها وذبحوا لها القرابين .
الثالث : طاعة الذين كفروا للرؤساء الكافرين في عتوهم وظلمهم وجحودهم بالله .
الوجه الثاني : ترى بماذا يتعلق لفظ (سلطاناً ) في آية السياق ، فيه وجوه :
الأول : الشرك بالله ، وتقدير الآية ما لم ينزل الله بالشرك سلطاناً وبرهاناً .
الثاني : الذي يتخذه الذين كفروا نداً وشريكاً لله عز وجل وتقدير الآية : ما لم ينزل بالشريك سلطاناً .
الثالث : موضوع الشرك كالنذر والقربان والتوجه بالمسألة لغير الله عز وجل .
الرابع : إرادة الأصنام التي يتخذها الذين كفروا وسائط تقربهم إلى الله , وإجتهدوا في التزلف إليها ، وعلقوها على الكعبة وملأت بيت الله وبيوتهم التي من حوله ، وكانت بيوتهم ملاصقة للبيت الحرام ، ولا تبعد عن بئر زمزم مثلاً إلا أمتاراً معدودة ، وكذا بالنسبة للجهات الأخرى .
ليكون الذم للذين كفروا عاماً وشاملاً لحياتهم في مكة ونفيرهم في محاربة الرسالة والرسول الذي بعثه الله من بين ظهرانيهم لنجاتهم في النشأتين .
وهل يختص الإنذار في آية السياق بالرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا ، الجواب لا , وفيه وجوه :
الأول : الإنذار والوعيد على الشرك بالله .
الثاني : الإنذار على إتخاذ الشريك مع إنتفاء الحجة والبرهان عليه ، وفيه بيان للإحتجاج بالفعل الذي رزقه الله للإنسان , لأن إدراك إنعدام السلطان والعلم على إتخاذ الشريك يدركه العقل ، وتكون الحواس مرآة وآلة له .
الثالث : الوعيد والتخويف على نصب الذين كفروا ثلاثمائة وستين صنماً في البيت الحرام ، ولكل قبيلة صنم ، ولكن عدد القبائل اقل من عدد الأصنام هذا ، فلابد أن عدداً منها مشاع يتوسلون به جميعاً .
وقيل إذا كان الصنم مصنوعاً من الذهب أو الفضة أو الخشب فهو صنم أما إذا كان منحوتاً من الحجارة فهو وثن ، ليكون من البشارات بقوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] زوال الأصنام حول البيت عام الفتح ليعلم الله عز وجل ماذا يفعل المؤمنون بعد النصر المبين وزوال حقبة الأوثان وإلى يوم القيامة .
وعن ابن عباس (قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فشد لهم إبليس أقدامها بالرصاص ، فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخرّ لوجهه فيقول : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً }( ) حتى مرّ عليها كلها) ( ).
الرابع : الوعيد على الكفر بالنبوة ، إذ تفضل الله عز وجل وإختار نفراً من عبادة ليكونوا وسائط بينه وبين خلقه بخصوص الوحي والتنزيل والدعوة إلى عبادة الله ، مع علمه بأحوال الناس ، وهو القادر على أن تكون ذات المراتب من الهداية التي يقوم بها الأنبياء , وتتنجز بالتنزيل تأتي مباشرة من عند الله للناس ولكنه سبحانه تلطف عليهم بالنبوة ، وخفف عنهم بالتنزيل ، وكل فرد منها جذب إلى الإيمان ، وباعث للشوق في النفوس للقاء الله عز وجل .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ، وهل النبوة والتنزيل من هذا الإبتلاء , الجواب نعم ، لوجوب التصديق بها ، ومن فضل الله بخصوص الإبتلاء قانون تيسير الهداية في موارده ووجود برزخ دون الفشل في الإختيار والإختبار ، فتفضل الله وجعل المعجزة مصاحبة للنبوة ، فيأتي كل نبي بمعجزة إلى قومه تدل على صدق نبوته ، وبما يفيد التحدي والأمر الخارق للعادة مع سلامة المعجزة من المعارضة والمحاكاة ،
وزاد الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والناس في زمانه والأزمنة اللاحقة بأن جعل القرآن النازل عليه معجزة مع المعجزات الحسية التي جرت على يديه ، وهي كثيرة منها ما رواه جابر بن عبد الله قال (عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ فَجَهَشَ النَّاسُ نَحْوَهُ ، فَقَالَ « مَا لَكُمْ. قَالُوا لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلاَ نَشْرَبُ إِلاَّ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِى الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا . قُلْتُ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا ، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً) ( ).
وعن جابر قال (تُوُفِّىَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَاسْتَعَنْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَضَعُوا مِنْ دَيْنِهِ ، فَطَلَبَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم إِلَيْهِمْ ، فَلَمْ يَفْعَلُوا ، فَقَالَ لِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا ، الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ ، وَعَذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ ، ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَىَّ .
فَفَعَلْتُ ، ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَجَلَسَ عَلَى أَعْلاَهُ ، أَوْ فِى وَسَطِهِ ثُمَّ قَالَ « كِلْ لِلْقَوْمِ . فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمُ الَّذِى لَهُمْ، وَبَقِىَ تَمْرِى ، كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَىْءٌ) ( ).
الوجه الثالث : لما أخبرت آية السياق عن إلقاء الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا تفضل الله عز وجل وأختتم آية البحث ببيان قانون وهو علمه تعالى بما يفعل المسلمون مع سلامتهم من الرعب.
وفي الجمع بين الآيتين دعوة للمسلمين للصبر في مواطن القتال وجهاد الذين كفروا بلحاظ كبرى كلية وهي تخفيف الأعباء عن المؤمنين في معركة أحد فالحال التي صار عليها الذين كفروا يوم المعركة غير الحال التي خرجوا بها من مكة فقد كانوا يتناجون بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسر أو قتل أصحابه وأرادوا إدخال المهاجرين إلى مكة أسرى ، محاولة لإرجاعهم إلى طاعتهم ، ولم يعلم أن الله عز وجل حذر المسلمين من الركون إليهم ومن طاعتهم في آيات معركة أحد هذه بقوله تعالى [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ليكون من معاني [فَتَنْقَلِبُوا] في الآية أعلاه الإنقلاب إلى مكة في أسر الذين كفروا والنزول على حكمهم طوعاً وكرهاً .
أما حال الذين كفروا في ميدان المعركة فقد ملأ الرعب قلوبهم، ومن خصائصه نسخ التهديد والوعيد والمناجاة بينهم بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسر أصحابه .
ويكون تقدير آية السياق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]فلا يتذكرون وعيدهم وهم في مكة وينسون الغايات الخبيثة التي زحفوا من اجلها بجيش عرمرم وينشغلون بأنفسهم وكيفية الإنقلاب والرجوع إلى مكة وهو من معاني الخيبة في قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) أي الخيبة من قتل أو أسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أهل بيته أو أصحابه من المهاجرين والأنصار .
وإيهما أفضل للمؤمن يومئذ القتل في سبيل الله أم الوقوع في الأسر بيد الذين كفروا ، قد تفضل الله عز وجل بالجواب بقوله تعالى [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ …]( ).
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : والله خبير بما تعملون ومأواهم النار )وفيه وجوه :
الوجه الأول :من معاني الربوبية المطلقة لله عز وجل أنه سبحانه خبير بعمل الخلائق ما كان منها يتم بانتظام كجريان الشمس والقمر والليل والنهار ، وما كان بالتوالد والتكاثر والنمو وكله خلق خاشع ساجد لله عز وجل ، قال تعالى [وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] ( ) .
وتتضمن آية البحث الثناء على المؤمنين والوعد الكريم من عند الله عز وجل بالثواب الجزيل على عملهم الصالحات ، وتقدير آية البحث بلحاظ الشطر أعلاه من آية السياق على وجوه :
الأول : والله خبير بما تعملون في جهادكم الذين كفروا .
الثاني : والله خبير بما تعملون في دفع الذين كفروا عن رسول الله وعن القرآن ، بلحاظ الملازمة بين الرسالة والتنزيل .
الثالث : والله خبير بما تعملون لدفع الناس عن المصير إلى النار.
الرابع : والله خبير إذ هداكم للإيمان , وجعلكم تعملون بالمعروف وتنهون عن المنكر .
وتقدير آية البحث والله خبير بما تعملون وما يعمل الذين كفروا قبل وبعد إلقاء الرعب في قلوبهم ليكون علم الله عز وجل في المقام سبباً لنصر المؤمنين وهزيمة الكافرين .
الوجه الثاني : بعد أن ترك الرماة من المسلمين مواضعهم تقصيراً ومعصية لأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يتركوها بأي حال ، جاءت خيل المشركين من خلفهم فارتبك المسلمون حينما رأوا تعرضهم للقتل من خلفهم بعد أن هزموا المشركين ، وجعلوهم يهمون بالفرار ، فجاءت كل من خاتمة آية البحث وآية السياق لتحقيق هزيمة أخرى للكفار بما تتضمنه كل منهما من الإنذار والوعيد للذين كفروا .
ومن دلالات الجمع بين الآيتين بيان تفضل الله عز وجل بالإخبار عن عقوبة وعاقبة الكافرين في النار ، وإحتراز المسلمين من طاعتهم , وهو من الإعجاز في قانون ( تعضيد آيات القرآن للأوامر والنواهي الواردة فيه ، فلما إبتدأت هذه الآيات بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ].
تفضل الله عز وجل وأخبر عن خلود الذين كفروا في النار لأنهم ظلموا أنفسهم بإختيارهم الكفر بالله عز وجل والنبوة لأنه سبحانه خبير بما يعمل المسلمون فإذا ورد هذا التحذير لهم فانهم يتناجون بالإحتراز من طاعة الذين كفروا .
ترى لماذا لم تقل الآية أعلاه ( أن تطيعوا الذي أشركوا ) خاصة , وقد جمعت آية السياق بين صفتي الكفر والشرك بقوله تعالى [الَّذِينَ كَفَرُوا] [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] والجواب إرادة المعنى الأعم ، وشمول التوقي والحيطة من طاعة الذين كفروا بالله والذين كفروا بالنبوة والتنزيل ، والذين يصرون على الجحود بالمعجزات العقلية والحسية ، فقد يعلن الإنسان تسليمه بالتوحيد ولكنه يجحد بنبوة محمد ويسعى في إبطال المعجزات ، فجاءت هذه الآيات بالتحذير من طاعته لبذل الوسع في معركة أحد والخندق وحنين .
الوجه الثالث : تقدير خاتمة آية البحث بلحاظ آية السياق : والله خبير بما تعملون لبلوغ مرتبة الدخول إلى الجنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) الذي يتلوه كل مسلم ومسلمة عدة مرات كل يوم بشوق وبصيغة القرآنية , وإقرار بأن هذا الصراط طريق للخلود في النعيم في الآخرة .
وهل تلاوة الآية أعلاه من صيغ النجاة من طاعة الذين كفروا ومن دخول النار ، الجواب نعم ، بلحاظ التباين والتضاد بين الصراط المستقيم وبين ما نهى الله عز وجل عنه .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين ، والله خبير بما تعملون وبئس مثوى الظالمين ) .
لقد نزّل الله عز وجل القرآن رحمة بالمسلمين فتفضل ونعت أعداءهم بالظلم ، ومن الإعجاز ان الناس يدركون بالفطرة قبح الظلم ولزوم إجتنابه , وجاءت آية السياق لتخبر بأن عاقبته أشد من قبحه الذاتي إذ أن صاحبه يبوء بالعقاب الأليم مع اللعنة والطرد من رحمة الله , ويتجلى هذا المعنى بقوله تعالى [وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ].
لبعث النفرة في النفوس من ذات الظالمين وفعلهم لذا قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ).
ليكون من معاني قوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] أمور:
الأول : سلامة المؤمنين من الظلم .
الثاني : التفقه في الدين وإدراك حقيقة وهي التباين بين الإيمان والظلم .
الثالث : الإحتراز من ظلم النفس والجحود بالآيات .
الرابع : إنذار الناس من الظلم وبيان سوء عاقبته .
الخامس : الإقرار بأن الله عز وجل يعلم بأفعال العباد ، وأنه تفضل على المسلمين وهداهم إلى سبيل النجاة , فهو الخبير بحالهم وشأنهم وما يصلحهم في أمور الدين والدنيا ، وليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )أمور :
أولاً : الإخبار عن شقاء وعذاب الظالمين في الآخرة كما في خاتمة آية السياق .
ثانياً : بيان كيفية السلامة من الظلم للذات والغير , وتنحصر هذه السلامة بالإيمان وما يترشح عنه في أداء الواجبات وإجتناب المحرمات .
ثالثاً : من الإعجاز أن القرآن جامع للأحكام وكاشف للسنن.
ومنه الجذب إلى صيغ الهداية وطرق الرشاد , وإتيان الواجبات ، والدفع والصد عن الفواحش والسيئات وأسباب الظلم للنفس والغير .
وتتجلي منافع صدق وعد الله للمسلمين المذكور في الآية السابقة بمضامين آية البحث , وتقدير الآية : ولقد صدقكم الله وعده إذ تصعدون ) ولو دار الأمر بين أمرين :
الأول : إنقطاع أفراد ومصاديق الوعد الإلهي عند ترك الرماة لمواضعهم التي عينها لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إستمرار مصاديق وعد الله للمسلمين في معركة أحد حتى بعد أن ظهر الفشل والخور والنزاع بينهم لإرادة إختصاص الوعد بقتل المؤمنين للذين كفروا وبدليل مجئ (ثم) التي تفيد العطف والترتيب والتأخير في قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] والمختار هو الأول لوجوه :
الأول : إفادة العموم والإستدامة من الوعد الإلهي للمؤمنين .
الثاني : حاجة المسلمين للوعد الإلهي ، وهم في حال الفشل والتنازع ، ولا يخيب الله رجاء المؤمنين .
الثالث : كما أن من مصاديق الوعد الإلهي حس وقتل المؤمنين للذين كفروا والذي يدل بالدلالة التضمنية على سلامة المؤمنين من القتل والأسر ، ومنع الذين كفروا من اللحاق بهم عندما صعدوا الجبل ليكون قوله تعالى قبل آيتين [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] من مصاديق الوعد الإلهي لذا جاءت الآية السابقة بصيغة الماضي وتقديرها :
ولقد صدقكم الله وعده بأن ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب ) وإلا فأن الكفار قطعوا أكثر من أربعمائة وخمسين كيلو متراً لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وإرادة إستئصالهم ثم يمسكون ولا يهجمون عليهم وهم على الجبل لا يبعدون عنهم إلا أمتاراً معدودة بدليل أنهم يسمعون وعد ونداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وليكون من الإعجاز في قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] أمور :
الأول : بقاء المؤمنين في حال عز ورفعة حتى في حال فرارهم من العدو وجيوشه .
الثاني : ليس ثمة مسافة بين جيش الذين كفروا وبين الموضع الذي صعد إليه المؤمنون ، ومع هذا عجز الذين كفروا عن اللحاق بهم ، ولم يستطيعوا أن يكونوا برزخاً وحاجزاً بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين فروا ، بدليل قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ليكون من معناه : ولقد صدقكم الله وعده إذ الرسول يدعوكم في أخراكم بمأمن من العدو .
الثالث : بيان حقيقة وهي أن نزول ورجوع المؤمنين إستجابة لنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر سهل ، لأن الإنحدار والنزول أسهل من الصعود .
وتبين الآية السابقة كيفية إنقضاء معركة أحد ، بكف أيدي المؤمنين عن الذين كفروا ، والعزوف عن تجديد القتال بدليل قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ]الذي يحث العلماء على إيجاد الأمارات والقرائن التي تدل على إنصراف المؤمنين عن قتال الكافرين ، وهو من الشواهد على تحقيق النصر للمؤمنين .
ويحتمل التذكير بخصوص آية البحث في موضوعه والجهة التي يتوجه إليها وجوهاً:
الأول : إرادة المهاجرين والأنصار الذين شاركوا في القتال يوم معركة أحد .
الثاني : المقصود خصوص الذين صعدوا الجبل وفروا من المعركة من الصحابة .
الثالث : في الآية ذكرى وتذكير لعموم المؤمنين بأوان معركة أحد ، سواء الذين خرجوا للقتال أو الذين تخلفوا وبدون عذر .
الرابع : إرادة الذكرى لأجيال المسلمين ، ولزوم إقتباس المواعظ من وقائع معركة أحد ، لذا كان نصيبها من آيات القرآن أكثر من معارك الإسلام الأخرى من جهة :
الأولى: عدد الآيات .
الثانية : تفصيل المعركة .
الثالثة : بيان الفضل الإلهي على المسلمين في المعركة .
الرابعة : نتائج وخواتيم المعركة .
الخامسة : الآثار المترتبة على المعركة .
والجمع بين الآيتين من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) بلحاظ كبرى كلية وهي أن الحجة في المقام أعم من الإحتجاج واللوم والتوبيخ ، إذ تبين الآية حجة الله على المسلمين والناس بصدق وعد الله عز وجل لنبيه الكريم وللمسلمين ليكون نصرهم في معارك الإسلام رحمة ومقدمة للرحمة العامة جميعاً ، وتقدير الآية ( ولقد صدقكم الله وعده رحمة للعالمين ) بلحاظ أن صدق الوعد بغلبة المسلمين في بدايات معركة أحد من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وجاءت آية البحث لتوجيه الخطاب إلى المؤمنين الذين فروا من المعركة ، أي كيف تفرون وقد صدقكم الله وعده ، وأقام الحجة لكم وأن لا تولوا الأدبار عند الزحف لأن الله صدقكم وعده وهو وملائكته معكم وأقام الحجة على الذين كفروا فكيف تقاتلون الرسول والمؤمنين بنبوته وقد صدقهم الله وعده وإنتفع جميع المؤمنين من صدق الله عز وجل وعده لهم في معركة أحد حتى الذين فروا ولم يلووا على أحد ، ولم يلتفتوا إلى ساحة المعركة وفيها سيد المرسلين يقاتل مع قلة من أهل بيته وأصحابه لا يتجاوز عددهم في رواية ثلاثة عشر رجلاً خمسة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ( ).
إعجاز الآية الذاتي
تتضمن الآية الثناء على المؤمنين من المهاجرين والأنصار , ودفع الذم والتوبيخ عنهم بتقييد دعوة الرسول بسماعهم لها، وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] لبيان عدم إبتعادهم كثيراً عن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وميدان المعركة , وانهم كانوا يسمعون صوته ودعوته (إلي عباد الله) وفيه مسائل :
الأولى : عدم تحقق فرار الصحابة على نحو السالبة الكلية .
الثانية : نقض إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين بأن يسمعوا بخبر مقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتتعقبه دعوته لهم في أخراهم التي تدل على أنه حي يرزق ، وأنهم لم يهزموا , وهي البشارة العظمى بذات يوم أحد وما بعده.
الثالثة : نفي وتكذيب إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوة إضافية للمؤمنين للعودة إلى القتال ، وهو من أسباب ومصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، أي سنلقي الرعب في قلوبهم بعودة المؤمنين إلى القتال في الحال ، فلقد ظن كفار قريش أن المؤمنين إنهزموا وولوا الأدبار , ولكنهم سرعان ما عادوا وتناجوا بينهم للقتال وأحاطوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم , ولم يخشوا دنو المشركين منهم وإرادتهم صعود الجبل , فصار من الصعب على الذين كفروا مزاولة الحرب والقتال ، ولا عبرة بالقليل النادر ممن غلب عليه الخوف وترك ساحة المعركة ولم يعد إليها .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] تثبيت حقيقة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغادر وسط الميدان في معركة أحد بدلالة دعوته لآخر المنهزمين ، فلم ينهزم بعدهم أحد لم يسمع دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
لذا فمن وجوه تقدير الآية :
الأول : والرسول يدعوكم لترجعوا إليه .
الثاني : والرسول يدعوكم لعدم العزوف عن القتال .
الثالث : والرسول يدعوكم لإدراك حقيقة وهي أنه لا زال في الميدان .
الرابع : والرسول يدعوكم لخير الدنيا والآخرة .
الخامس : والرسول يدعوكم ليشهد لهم يوم القيامة بالجهاد في سبيل الله ، قال تعالى [وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا] ( ).
السادس : والرسول يدعوكم لهزيمة الذين كفروا .
السابع : والرسول يدعوكم لرؤية الملائكة وهم يقاتلون كمدد من عند الله لكم .
الثامن : والرسول يدعوكم لرؤية الذين كفروا كيف ينهزمون خائبين .
التاسع : والرسول يدعوكم لمنع صيرورة إشاعة قتل النبي حقيقة .
ومن دلالات الإعجاز في قوله تعالى[ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] البشارة للمسلمين بنهاية المعركة , كما إبتدأت في صيرورة الغلبة والظهور والعلو للمسلمين.
وكما بدأت معركة أحد بصدق وعد الله للمسلمين وقوله تعالى[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] فانها أختتمت بانهاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين المعركة لنسبة الصرف والإنصراف لهم على نحو التعيين .
وهل قوله تعالى[ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] من مصاديق وعد الله سبحانه للمؤمنين , أم أنه خارج بالتخصص.
الجواب هو الأول، سواء كان المراد من الوعد هو النصر أو المعنى الأعم منه، وتبين الآية أن إنتهاء المعركة كان بإذن الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم , وتلك آية في إمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن الله عز وجل أكرمه بأن جعل بداية المعركة ظلماً من الذين كفروا لأنفسهم , وتعدياً منهم على النبوة والتنزيل، قال تعالى[وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
ومن مصاديق النصر في إنهاء المعركة من طرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أن الغايات الحميدة التي أرسل الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً تتحقق حتى بانتهاء ووقف القتال، وليكون هذا الصرف من مصاديق تنزه نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الأخلاق المذمومة كالثأر والإنتقام أو حمل الناس على الإسلام بالإكراه وقوة السيف، قال تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]( )، وتقدير الآية على وجوه:
الأول : ثم صرفكم عنكم ليبتليكم بإقامة الحجة على الذين كفروا , وبثقل وشدة وطأة الرعب الذي ملأ قلوبهم، وبوقوع الخصومة والخلاف بينهم.
الثاني : ثم صرفكم عنهم ليتدبروا في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تجلت في معركة أحد , وبما لحقهم من الخزي والخيبة والعجز عن تحقيق أي غرض خبيث جاءوا من أجله وأنفقوا الأموال الطائلة بالسعي إليه.
الثالث : ثم صرفكم عنهم) ليكون هذا الصرف معجزة جلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه من المعركة منتصراً.
الرابع : ثم صرفكم عنهم) ليعودوا مسلمين، ويتوبوا إلى رشدهم بفضل الله , قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] ( ).
الخامس : ثم صرفكم عنهم لأن فتح مكة قريب ليدخلوا فيه ومعه الإسلام.
ويمكن تسمية آية البحث الكريمة (إذ تصعدون) ولم يرد لفظ ( تصعدون )في القرآن إلا في هذه الآية.
وفيه إعجاز لفظي، ومن دلالاته أمور:
الأولى : حدوث صعود وفرار شطر من المؤمنين من المعركة مرة واحدة، وعدم حدوثه مرة أخرى، فان قلت قد فرّ وإنهزم المسلمون في معركة حنين.
وسميت حنين لأن الموضع عرف باسم رجل هو حنين بن قانية وتسمى أيضاً غزوة أوطاس من وطست الشيء وطساً إذا كدرته، وتركت فيه أثراً ظاهراً.
لقد كان فتح مكة موعظة للناس وعبرة لهم، ومناسبة للكف عن التعدي على الإسلام، وهو من مصاديق تسمية مكة أم القرى وذكر هذه التسمية في باب الإنذار والوعيد، ولو على نحو التعدد بقوله تعالى[لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] والذي ورد مرتين في القرآن( ).
قال ابن إسحاق: وَلَمّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكّةَ ، جَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النّضْرِيّ فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلّهَا ، وَاجْتَمَعَتْ نَصْرٌ وَجُشَمٌ كُلّهَا ، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ ، وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ وَهُمْ قَلِيلٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ إلّا هَؤُلَاءِ وَغَابَ عَنْهَا فَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ اسْمٌ.
وَفِي بَنِي جُشَمٍ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إلّا التّيَمّنُ بِرَأْيِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحَرْبِ وَكَانَ شَيْخًا مُجَرّبًا.
وَفِي ثَقِيفٍ سَيّدَانِ لَهُمْ . فِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتّبٍ وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ وَجِمَاعُ أَمْرِ النّاسِ إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ .
فَلَمّا أَجْمَعَ السّيْرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَطّ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.
فَلَمّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ فِي شِجَارٍ لَهُ يُقَادُ بِهِ فَلَمّا نَزَلَ قَالَ ” بِأَيّ وَادٍ قَالُوا : بِأَوْطَاسٍ.
قَالَ: نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ لَا حَزْنٌ ضَرِسْ وَلَا سَهْلٌ دَهِسْ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ ” قَالُوا : سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ . قَالَ ” أَيْنَ مَالِكٌ ؟ ” قِيلَ هَذَا مَالِكٌ وَدُعِيَ لَهُ.
فَقَالَ: يَا مَالِكُ إنّك قَدْ أَصْبَحْت رَئِيسَ قَوْمِك ، وَإِنّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ . مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ ” قَالَ سُقْت مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ قَالَ ” وَلِمَ ذَاكَ ؟ ” قَالَ أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَهْلُهُ وَمَالُهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ.
قَالَ: فَأَنْقَضَ بِهِ ” . ثُمّ قَالَ رَاعِي ضَأْنٍ وَاَللّهِ وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ ؟ إنّهَا إنْ كَانَتْ لَك لَمْ يَنْفَعْك إلّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك فُضِحْت فِي أَهْلِك وَمَالِك ، ثُمّ قَالَ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ ؟ قَالُوا : لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ.
قَالَ: غَابَ الْحَدّ وَالْجَدّ ، وَلَوْ كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ وَلَوَدِدْت أَنّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ.
قَالُوا : عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ ، قَالَ ” ذَانَك الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لَا يَنْفَعَانِ وَلَا يَضُرّانِ , يَا مَالِكُ إنّك لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ الْبَيْضَةِ بَيْضَةِ هَوَازِنَ إلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا ، ارْفَعْهُمْ إلَى مُتَمَنّعِ بِلَادِهِمْ وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ ثُمّ أَلْقِ الصّبّاءَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ لَحِقَ بِك مَنْ وَرَاءَك ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك أَلْفَاك ذَلِكَ قَدْ أَحْرَزْت أَهْلَك وَمَالَ.
قَالَ وَاَللّهِ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ إنّك قَدْ كَبِرْت وَكَبِرَ عَقْلُك . وَاَللّهِ لَتُطِيعُنّنِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ أَوْ لَأَتّكِئَنّ عَلَى هَذَا السّيْفِ حَتّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي . وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ رَأْيٌ فَقَالُوا : أَطَعْنَاك ؛ فَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ : هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي :
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ … أَخُبّ فِيهَا وَأَضَعْ
أَقُودُ وَطْفَاءَ الزّمَعْ … كَأَنّهَا شَاةٌ صَدَعْ( ).
لقد إعتمد رئيس هوازن مالك بن عوف صيغة الهجوم المباغت مع إختياره وادياً ضيقاً مكاناً لهجومه، وأبى الله إلا أن يحفظ رسوله الكريم والمؤمنين وهو من مصاديق قوله تعالى[فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًاوَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ) .
وقال لأفراد جيشه كلمات واضحة بينة : إذا رأيتموهم أي المسلمين فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة واحدة .
وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ليدخل في جيش هوازن , ويطلع على خبرهم عن قرب فاقام فيهم وسمع عزمهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقاء حتى أنه إستعار أدراعاً من صفوان بن أمية وهو يومئذ كافر فقال: يا أبا أمية أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غدا.
فقال صفوان: أغصباً يا محمد ؟ قال: بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك ” قال: ليس بهذا بأس.
فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأله أن يكفيهم حملها ففعل( ).
وكان عدد جيش المسلمين إثني عشر ألفاً.
وعن جابر بن عبد الله قال : فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين فسبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليها، فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه.
وأقبل رسول الله وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فلما انحط الناس ثارت في وجوهم الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد.
وإنحاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات اليمين يقول: أين أيها الناس ؟ هلموا إلي أنا رسول الله، أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله”.
قال: فلا شئ، وركبت الابل بعضها بعضا، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر الناس ومعه رهط من أهل بيته: على بن أبى طالب، وأبو سفيان بن الحارث ابن عبدالمطلب، وأخوه ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، والفضل بن العباس.
وقيل الفضل بن أبى سفيان، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة بن زيد، ومن الناس من يزيد فيهم قثم بن العباس، ورهط من المهاجرين منهم أبو بكر وعمر، والعباس آخذ بحكمة بغلته البيضاء وهو عليها قد شجرها.
قال: ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام هوازن وهوازن خلفه، إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه. قال: فبينما هو كذلك إذ هوى له على بن أبى طالب ورجل من الانصار يريدانه، قال: فيأتى على من خلفه فضرب عرقوبي الجمل فوقع على عجزه، ووثب الانصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانجعف( ) عن رحله( ).
قال: واجتلد الناس، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الاسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ورواه الامام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم الزهري، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق.
قال : والتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وكان ممن صبر يومئذ وكان حسن الاسلام حين أسلم، وهو آخذ بثفر بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” من هذا ؟ ” قال ابن أمك يا رسول الله( ).
ومن مصاديق الآية أعلاه وأن مكة أم القرى الإخبار المتقدم عن هزيمة هوازن إذ سرعان ما عاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه وإجتمعوا حوله.
إعجاز الآية الغيري
من إعجاز الآية أنها تأديب للمسلمين في ميادين القتال من جهات:
الأولى : ترك الفرار والإنهزام.
الثانية : بيان قانون وهو أن الله عز وجل يعلم ما يفعله المسلم في ميدان القتال، وهو من الإعجاز في إختتام آية البحث بقوله تعالى[وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الثالثة : إرشاد المسلمين إلى سبيل للتدارك في القتال، وهو إذا إنسحب الجنود فيجب ألا يبتعدوا كثيراً عن وسط المعركة، وفي هذا الإبتعاد تفرق وتشتت، وتعرض ذات المقاتلين للقتل والأسر .
وفي حديث لأبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فإنما يأكل الذئب القاصية( ).
الرابعة : بيان حقيقة وهي أن جيش النبي وأصحابه قد يخسرون جولة أو معركة، وقد يقتل فريق منهم، لذا ذكرت الآيات نيلهم مرتبة الشهادة بقوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
وإن قلت هذه الآية عامة ولا تختص بحال الحرب والقتال، ولا المسلمين وحدهم , فالجواب تؤكد الآية موضوع الخلود , وهو القتل في سبيل الله إلى جانب بيان أسباب النزول وأن الذين يقتلون في المعركة هم الأصل في مضامين هذه الآية.
وفي قوله تعالى [وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ]( )، قيل فيمن قتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد( ).
ومن مصاديق الإعجاز الغيري في آية البحث دعوة المسلمين والناس جميعاً للتدبر في الوقائع التي حدثت أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتنفرد رسالته صلى الله عليه وآله وسلم من بين النبوات بقانون , وهو تجلي وتوثيق الأحداث التي صاحبت نبوته بالبيان القرآني الخالي من الترديد أو اللبس، وهو من أسرار بقاء القرآن سالماً من التحريف والتبديل إلى يوم القيامة، وهذا البقاء من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بتقريب أن تلقي الأجيال المتعاقبة لأخبار الوقائع أيام النبوة , ومنها معركة أحد موعظة , وكيف أن المعركة إبتدأت برجحان كفة المسلمين، وسقوط رجالات من كفار قريش قتلى مضرجين بدمائهم، لزيادة إيمان المسلمين في أجيالهم المتتالية والمتعاقبة لتجلي فضل الله عز وجل عليهم بمعنى أن الله عز وجل يتفضل بتنجز وعده للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه يوم أحد .
فيكون رحمة ومدداً وزيادة في إيمان المسلمين في كل زمان، وهو من أسرار تلاوة آيات وسور القرآن في الصلاة اليومية، ولتكون آية البحث مادة لإحتجاجهم , وبرزخاً دون المغالطة.
ومن إعجاز الآية الغيري أنها تبعث الفزع في قلوب الذين كفروا في كل زمان في ذات الوقت الذي تمتلأ قلوب المسلمين بالطمأنينة عند تلاوتها.
وقد ذكرت الآية اسم الجلالة، كما يدل عليه الضمير المستتر في قوله تعالى(فأثابكم) وذكرت الآية الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ (الرسول) وتفيد الألف واللام العهد.
كما في قوله تعالى[فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ] ( )، فان المراد من الرسول في الآية أعلاه هو موسى عليه السلام لبيان مسائل :
الأولى : ما إختص به بعض الأنبياء من النعم والتفضيل ناله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق خاتمة الآية السابقة , ومن الآيات أن هذه الكلمة ( فأثابكم ) تتكون من فعل وفاعل ومفعول به .
الثانية : أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] لأن إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفضيل وتشريف للمسلمين.
الثالثة : لم تستمر معصية كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد آذوه وحاربوه ، ولم تر الأيام والأشهر حتى دخلوا في الإسلام على نحو الأفراد والجماعات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ] ( ) .
الرابعة : مع عطف [فَأَثَابَكُمْ] على [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] فان المسلمين والمسلمات جميعاً يدركون أن الفاعل في [فَأَثَابَكُمْ] هو الله عز وجل ، فلا يقدر على الثواب بالغم والنعاس إلا الله سبحانه الذي تفضل وجعل كلاً منهما تخفيفاً عن المسلمين , وسيأتي مزيد بيان في الجزء التاسع والعشرين بعد المائة والذي يتضمن تفسير الآية التالية , التي تبدأ بقوله تعالى (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا ).
الآية سلاح
من فضل الله عز وجل علينا تأسيس باب للعلم في تفسير كل آية من القرآن إسمه (الآية سلاح) لتستقرأ به درر من ذخائر القرآن ونجعل لذات هذا العنوان موضوعية في التفسير والتحقيق، وفي الآية وجوه :
الأول : قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] حرز وتأديب، وفيه مسائل:
الأولى : توجه الخطاب من عند الله عز وجل للمسلمين على نحو مباشر من غير واسطة إكرام لهم ، ومصداق لقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وهل يحق للمسلمين الإفتخار بأن الله عز وجل يخاطبهم في القرآن بصفة الإيمان، الجواب نعم ، بلحاظ تقدير الآية بلغة العطف على ما تقدمها من الآيات المجاورة على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا إذ تصعدون .
ثانياً : إذ تصعدون يا أيها الذين آمنوا .
ثالثاً : إذ تصعدون وأنتم مؤمنون .
الثانية : إفتخار المسلمين بأن الله عز وجل يذكر أفعالهم على نحو التفصيل والبيان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على موضوعية قصص القرآن في تجلي وبيان الأحكام ، وتحقق مصداقها العملي ، فتترتب وتستقرأ الأحكام من قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] لتنتفع منها الأجيال المتعاقبة وإلى يوم القيامة .
الثالثة : من معاني آية البحث تأسيس قانون وهو تنحي فريق من المؤمنين من وسط المعركة إلى موضع قريب منها ، كما يدل عليه قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ].
ليكون المدار على مواصلة القتال والعودة إلى ساحة المعركة لتتجلى معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوته لأصحابه بالرجوع إلى المعركة لتكون طريقاً إلى العز والفخر في الدنيا , ومنهاجاً للعبور على الصراط يوم القيامة.
ومن الآيات في نبوته صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة كل مسلم ومسلمة لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )، كل يوم فمن مصاديق الصراط المستقيم في المقام أمور :
الأول : طاعة الله ورسوله .
الثاني : المبادرة للخروج للجهاد تحت لواء النبوة والتنزيل .
الثالث : إجتناب معصية الرسول في ميدان المعرفة .
الرابع : الإتعاظ من معصية أغلب الرماة لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم المكث على الجبل والتدبر في الضرر الفادح الذي ترتب على تركهم مواضعهم من جهات :
الأولى : كثرة قتلى المسلمين , لقد فقد المسلمون يوم أحد سبعين شهيداً , وصحيح أن بعضهم غادر إلى الرفيق الأعلى أثناء المبارزة والقتال وقبل أن يترك الرماة مواضعهم ، ولكن إزداد عدد القتلى من المسلمين عندما جاءهم العدو من خلفهم .
فان قلت إذن لماذا قال الله في خاتمة الآية السابقة [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ].
الجواب إنه من رحمة الله عز وجل بالمسلمين وإكرامه للمجاهدين ، ورضاه عن الذين خرجوا لمعركة أحد ولم ينخزلوا وسط الطريق بل قاتلوا دون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طلباً لمرضاة الله عز وجل ، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ] ( ).
(عن صهيب قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة هممت بالخروج ، فصدني فتيان من قريش ثم خرجت ، فلحقني منهم أناس بعد ما سرت ليردوني ، فقلت لهم : هل لكم أن أعطيكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي؟ ففعلوا . فقلت : احفروا تحت أسكفة الباب فإن تحتها الأواقي ، وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قباء قبل أن يتحوّل منها ، فلما رآني قال : يا أبا يحيى ربح البيع ، ثم تلا هذه الآية)( ) .
وبلحاظ قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]يحتمل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وجوهاً :
أولاً : العفو عن المؤمنين في واقعة أحد خاص بهم موضوعاً وحكماً .
ثانياً : إرادة إنتفاع المؤمنين والمؤمنات أيام التنزيل من العفو عن المقاتلين في معركة بدر .
ثالثاً : جاء العفو خاصاً للذين يقاتلون يوم أحد لينتفع منه ومن خلفهم المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة .
رابعاً : صحيح أن موضوع العفو في الآية السابقة خاص من جهة الأشخاص والموضوع ، ولكن النفع منه يتغشى الناس جميعاً لما فيه من إستدامة الدعوة إلى الله , وحث الناس على الهداية وجذبهم إلى الإيمان .
الثانية : إقتباس الدروس من واقعة أحد، وما تتضمنه آية البحث من أسباب الفشل والوهن التي ترشحت عن ترك المؤمنين مواضعهم على الجبل.
الثالثة : تنمية ملكة حسن الظن بالله عز وجل، وحضور رحمته بالمؤمنين في حال السراء والضراء، ومنها الوحي إلى رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة المؤمنين للعودة إلى ميادين القتال، فقد يلجأ القائد إلى الإنسحاب والهزيمة عندما يرى جنوده وقد فرو أمام العدو، فينجو بنفسه، ويرجو جمع أصحابه في طريق العودة إلى بلادهم، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم صبر في مواطن القتال، وأخذ يدعو أصحابه للرجوع فاستجابوا له لبعث روح اليأس في نفوس الذين كفروا.
مفهوم الآية
من خصائص الآية السابقة أنها أختتمت بالوعد الكريم من عند الله للمؤمنين بالنص الجلي بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]وأختتمت بوعد كريم آخر وهو [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ].
وبينهما عموم وخصوص مطلق ، فخاتمة الآية وموضوع الفضل الإلهي أعم وأعظم وأشمل ليكون من إعجاز القرآن أن الآية تختتم بالأتم والأشمل لتكون للمؤمنين عيداً في أولها وعيداً في آخرها ، وكأن نزول الآية من القرآن كنزول المائدة .
وعن ابن عباس (أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً؟ ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم ، فإن أجر العامل على من عمل له ، ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا[هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ]( )، إلى قوله[أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم) ( ).
ومن أسرار نظم القرآن صيرورة خاتمة الآية السابقة مواساة للمسلمين ودعوة لهم لإلتماس سبل النجاة والنجاح والتدارك بعد الصعود إلى الجبل والفرار من وسط المعركة .
ويكون من مفاهيم آية البحث بلحاظ خاتمة الآية السابقة وجوه:
الأول : والله ذو فضل على المؤمنين ) بأن يكرمهم بصيغة الخطاب بصبغة الإيمان كما تقدم بيانه ، أي أن تقدير الآية (يا أيها الذين آمنوا إذ تصعدون ) فضل عظيم من عند الله ورحمة متجددة في كل زمان .
لقد غادر المهاجرون والأنصار الدنيا في آجالهم قبل وبعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ولكن ذكرى جهادهم حاضرة في أذهان وأقوال المسلمين، ووثقها الله عز وجل في القرآن , ليكون في ذكر التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أجر وثواب لقصد القرآنية ، عند التلاوة أو إستحضار مضامينها في الأذهان.
الثاني : من فضل على المؤمنين صرف الضرر المترتب على صعودهم وهزيمتهم بعد خطأ الرماة بالنزول من الجبل فمن فضل الله عز وجل عليهم دعوة الرسول لهم بالعودة إلى ميدان القتال ، وهذه العودة أعم من المبارزة والمسايفة ورمي السهام وتلقي النبال ، فما أن إجتمع ورجع المؤمنون حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إنسحب الذين كفروا مع أن رجحان الكفة لهم في الظاهر إذ أدركوا أن المعجزة أقوى من الظاهر وحاكمة عليه .
الثالث : والله ذو فضل عظيم على المؤمنين ) إذ يذكرهم وبأجيالهم المتعاقبة عن قسوة وظلم الذين كفروا من قريش وأعوانهم بأن أكرهوا المؤمنين الأوائل من المهاجرين والأنصار على التقهقر والإنسحاب وترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان مع قلة قليلة من أهل بيته وأصحابه ، فقوله تعالى [ إِذْ تُصْعِدُونَ] حجة على الذين ظلموا مع إختصاص الخطاب فيها للمؤمنين.
وتقدير الآية إذ تصعدون بسبب تعدي الذين كفروا عليكم .
الرابع : ولا تلوون على أحد والله ذو فضل على المؤمنين ) فألقى السكينة في قلوبكم وعلى أبدانكم بأن جعل الرسول يدعوكم في أخراكم.
ومن مفاهيم آية البحث أن النصر وحس المؤمنين للذين كفروا لم ينقطع عندما إنهزم أكثر جيش المسلمين لبقاء النبي وثلة من أصحابه وأهل بيته يقاتلون وسط الميدان ، وهو من الإعجاز في الوعد الإلهي وإستدامته الوارد بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
وإذ تناقص حس المؤمنين للذين كفروا بعد أن جاءتهم خيل المشركين من خلفهم ، فان الرعب الذي أصاب الذين كفروا لم يزول أو ينقص ، وتقدير الآية : إذ تصعدون والرعب يملأ قلوب الذين كفروا ) .
وتجلت هذه الحقيقة بعجز الذين كفروا عن مطاردة الذين يصعدون ويفرون من المؤمنين ، وهل يدل عليه قوله تعالى [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] بلحاظ أن من معانيه إنتفاء الخطر .
وتدل آية البحث على أن الغم من الأضداد ، فهو أذى وهم ، ولكنه إذا جاء من عند الله وبصيغة الثواب فهو رحمة ونعمة ، لذا تفضل الله وقال [فَأَثَابَكُمْ] , وفي الثناء على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الموت في بيعة الرضوان عند صلح الحديبية ، ورد قوله تعالى [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَيهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا] ( ).
ويدل على إرادة الثواب بالغم كونه علة لصرف الحزن عن المؤمنين , ولم يختص صرف الحزن بفرد واحد منهم ، أوما يتعلق بما فات المؤمنين من الغنائم والمكاسب بل يشمل صرف الحزن عن المسلمين الذي قد يأتي بسبب الخسارة التي لحقتهم .
وبلحاظ مفهوم الآية هناك مسائل :
الأولى : ماذا يحصل لو لم يترك الرماة مواضعهم .
الثانية : ترى ماذا يحدث لو لم يصعد شطر من المؤمنين الجبل ويفرون من وسط المعركة .
الثالثة : ماذا يحدث لو لم يدعُ الرسول الصحابة للرجوع .
الرابعة : ماذا يحصل لو لم يثيب الله المؤمنين بالغم .
والجواب على المسألة الأولى أعلاه هو إستمرار حس وقتل المؤمنين للذين كفروا حتى يغادروا أرض المعركة هاربين ، وقد شاهد المسلمون كيف أنهم كانوا يستعدون للهروب لولا خطأ الرماة ، وربما نزلت آية تقول في بيان حال الذين كفروا [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ].
وهناك تباين بين المسلمين والذين كفروا إذ تتوجه دعوة الرسول للمسلمين فيستجيبون لها .
أما الكفار فلا تصل إليهم دعوة ، وإن وصلت إليهم من رؤسائهم فأنهم يقابلونها بالإزدراء والإعراض .
وأما الثانية ،فإن لم يفر المؤمنون من ميدان القتال فان النصر المبين مصاحب لهم ، لأن الذين كفروا عاجزين عن الثبات أمام سيوفهم وقد ألقى الله عز وجل الرعب في قلوبهم .
وأما الثالثة فقد كانت دعوة الرسول لأصحابه للرجوع إلى ميدان المعركة حاجة لهم وللإسلام.
ولو لم يدع الرسول أصحابه للرجوع لصاروا على ثلاثة فرق:
الأولى : الذين يبقون على الجبل يترقبون كيف تنتهي المعركة.
الثانية : الذين يفرون ولا يقفون إلى في المدينة، خاصة وأنها لا تبعد عنهم إلا بضع كيلو مترات.
الثالثة : الذين يرجعون إلى المعركة، ممن كانوا يتناجون بالقتال عندما سمعوا بإشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذب والدفاع عن الإسلام والتنزيل، قال تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
هذا بالإضافة إلى الطائفة التي كانت تقاتل في سبيل الله حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين يديه قبل دعوته لباقي أصحابه وبعدها , وأما الرابعة فلا يعلم ما يحصل من الضرر على المسلمين لو لم ينزل عليهم الله الغم ثواباً والنعاس آمنة إلا هو سبحانه.
ونعمة الغم ثم الأمنة النعاس من أسرار الفضل الإلهي عليهم وعلى الناس من جهة العلية والتأثير، والكشف والدلالة، والحجة والبرهان بلحاظ ضابطة كلية وهي أن أمر وفضل الله عز وجل على الناس خير محض وسبيل هداية، وزاجر عن الظلم والفسوق ومانع من إستدامة أسباب الكفر والجحود.
إفاضات الآية
من ذخائر الدنيا ومعالم الزينة والبهجة فيها دعوة الرسول لأصحابه وأتباعه والناس جميعاً بما هو نبي ورسول، ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن كل دعوة منه هي من مقامات النبوة والرسالة لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
لتكون هذه الدعوة على وجوه :
الأول : إنها تشريف وإكرام للذين يدعوهم الرسول , ليكون من آيات الله ولطفه بالمؤمنين أنهم ينهزمون ولا يلتفتون إلى أحد ولكن معاني الإكرام تصاحبهم وتلاحقهم ، أما المصاحبة فللغة الخطاب التشريفي في الآية بصيغة الإيمان، وأما الملاحقة والتعقيب فلدعوة الرسول لهم ، وهو من أسرار قوله تعالى في آية البحث [فِي أُخْرَاكُمْ] أي أينما صرتم في فراركم وهزيمتكم فان دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصل إليكم وتخالط شغاف قلوبكم لتكون جذباً لهم ، وتنبيهاً على سوء فعل الهزيمة والأضرار المترشحة عنها.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل وسط المعركة فكيف كان يدعو أصحابه المنهزمين، فيه وجوه :
الأول : يدعو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين يمرون عليه من المسلمين الفارين ، وقال لأحدهم وهو ينصرف منهزماً، عن عمارة بن غزية قال: قالت أم عمارة: قد رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما بقي إلا نفير ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني لا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال: يا صاحب الترس، ألق ترسك إلى من يقاتل! فألقى ترسه فأخذته فجعلت أترس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
الثاني : جمع النبي بين القتال ودعوة أصحابه إلى العودة والرجوع .
الثالث : قتال النبي ذاته دعوة لأصحابه للرجوع , وتحمل الدعوة على معناها الظاهري .
الرابع : تقسيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقته بين أمور :
أولاً : الدعاء وسؤال الله النصر على الذين كفروا .
ثانياً : قتال الذين كفروا وسط الميدان .
ثالثاً : توجيه وتعضيد أهل البيت والصحابة الذين يقاتلون حوله .
رابعاً : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنهزمين من أصحابه للرجوع إلى وسط المعركة .
خامساً : تجلي وظائف الإمامة العامة للنبي في معركة أحد , وبينها وبين دعوة أصحابه للقتال عموم وخصوص مطلق.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، لبيان جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبذل الوسع في سبيل الله والإخلاص في دعوته .
ليس من دعوة أعظم وأحسن من دعوة ونداء الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء وسيد المرسلين .
الثاني : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين خالصة لوجه الله عز وجل ، وهي من فروع الوحي ، فلم يدعهم الرسول إلا بأمر من عند الله .
الثالث : دعوة الرسول تنزيه للمسلمين من الرياء والنفاق .
الرابع : مصاحبة المدد الإلهي لدعوة الرسول ، وكأن الآية تقول والرسول يدعوكم وقد كفل الله لكم السلامة والأمن .
الخامس : كما أن حس المسلمين للذين كفروا بإذن الله فان دعوة الرسول لهم بإذن الله عز وجل .
وحينما ينهزم الجيش يكون حال القائد على وجوه :
الأول : مبادرة القائد إلى الإنسحاب والهزيمة .
الثاني : قتل أو أسر القائد لإنفراد المشركين به .
الثالث : لجوء القائد إلى الهزيمة طلباً للسلامة، فيضر أصحابه وأتباعه.
وقد يقوم القائد بدعوة أصحابه إلى التجمع والتحشد , وإعادة التنظيم والكر على العدو، وهذه الدعوة على شعب :
الأولى : عند فرار القائد مع جنوده , وإختياره موضعاً لإعادة تنظيم وهيكلية الجيش.
الثانية : عند وقوع القائد في الأسر عند العدو ، أو إصابته بالجراحات .
الثالثة : عندما يكون القائد وسط الميدان ويزاول بنفسه القتال .
والشعبة الأخيرة نادرة ، وقد تجلت في معركة أحد بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع شدة جراحاته أصحابه للقتال ، فأصاب المسلمين الغم والهم للتخلية بينه , ونفر من أصحابه وبين المشركين , ليكون هذا الغم سبباً للعودة للقتال والدفاع عن أمور :
الأول : النبوة بلحاظ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين .
الثاني : التنزيل ، وتوالي نزول آيات القرآن ، وكل آية ينزل بها جبرئيل عليه السلام تكون دستوراً وضياءً ينير دروب السالكين إلى يوم القيامة .
الثالث : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بقي في الميدان يواجه رماح وسيوف وحجارة الذين كفروا ، فبعد فرار أغلب المسلمين صارت المواجهة والقتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ومعه نحو ثمانية من أهل بيته وأصحابه وبين ثلاثة آلاف من الذين كفروا جاءوا لقتله ، فصاروا قريبين منه، ليس من حاجز أو برزخ يحجبهم عنه .
الرابع : الدفاع عن النفس والعرض لشدة بطش الذين كفروا وعزمهم على أمور :
أولاً : الثأر لقتل المشركين يوم بدر .
ثانياً : قلع وحجب نواة الإيمان .
ثالثاً : إستئصال أسباب الهداية والصلاح .
رابعاً : جعل الصحابة بين المطرقة والسندانة لتكون حالهم على وجوه :
أولاً : القتل .
ثانياً : الأسر .
ثالثاً : التعذيب الشديد .
فتفضل الله عز وجل وأسقط هيبة قريش من بداية المعركة بأن جعل الغلبة للمؤمنين لإزاحة حاجز الخوف ومنع إستحواذ اليأس على قلوب المؤمنين ، فتفضل الله عز وجل بآية البحث لبيان قبح الفرار وأنه لا يجلب إلا الأذى والضرر الخاص والعام ، وأخبرت عن دعوة الرسول للمؤمنين بالعودة ليكون فيها خير الدنيا والآخرة وبناء صرح الإيمان .
إكرام الآية للمسلمين
قد تقدم قانون إكرام كل آية قرآنية للمسلمين ليأتي هذا الباب لبيان مصداق هذا القانون في المضامين القدسية للآية القرآنية ودلالاتها والمسائل المستقرأ من منطوقها ومفهومها ويتعلق موضوع آية البحث بواقعة أحد.
وهل في حدوث القتال في هذه المعركة إكرام للمسلمين ، الجواب يتعلق موضوعنا بإكرام الآية القرآنية للمسلمين وليس الحادثة والواقعة وحتى على فرض سؤال وهو : هل في وقوع معركة أحد إكرام للمسلمين أم أنه بلاء وشدة لذا تفضل الله وأنزل عليهم الغم ثم النعاس أمنة .
الجواب لا تعارض بين الأمرين ، إذ تدل واقعة أحد على أمور:
الأول : السعي في مقامات الهدى والإيمان ، وهو الأمر الذي حمل أقطاب الكفر من قريش على تجهيز الجيوش العظيمة والزحف إلى المدينة .
الثاني : لم تمر ثلاث سنوات على هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذا صار أصحابه زبر الحديد ، فيشتاقون للقاء العدو ويرغبون في الشهادة ، وفي التنزيل [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]( ).
الثالث : لم يبعث نصر المسلمين في معركة بدر على التهاون والغرور والزهو من قبل المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، لقد إتخذ المسلمون من النصر في معركة بدر سلاحاً للمعارك اللاحقة خاصة وأن قريشاً تواصل إرسال رسائل التهديد والوعيد والتخويف إلى المدينة ، وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] ( ) .
وفي الآية أعلاه دليل على أن نسخ قانون الخشية من الظالمين ، ووعيدهم ببعثة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون من معاني قوله تعالى [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) أن المسلمين خرجوا للذين يخوفونهم ويتوعدونهم والوسائط الذين ينقلون أنباء إستعداد وتهيئ العدو للقتال والهجوم .
وتكرر لفظ الناس في الآية ليكون من مصاديق الآية أعلاه تحلي المسلمين بالصبر المقرون بتعاهد أحكام الشريعة عند إزدياد ظلم وتعدي الذين كفروا ، لأن الصبر أمر وجودي ، ويتضمن القصد والسعي لإرادة التجدد في كل آن ، وليس من تعارض بين الغم والصبر ، ولا بين النعاس والصبر ، وكل فرد منها سبب للآخر من أن يلزم الدور بينهما .
أن لغة الخطاب في آية البحث إكرام للمسلمين ولطف بهم ومواساة لهم لما لحقهم من الضرر يوم أحد , وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : ثم أنزل عليكم من بعد الغم نعاساً بينما ألقى الله الرعب في قلوب الذين كفروا ، ومن الإعجاز في هذه الآيات أن النعاس أنزل من السماء بينما ذكر الله الرعب بأن ألقاه في قلوب الذين كفروا بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
ولم تقل ( سنلقي على قلوب الذين كفروا الرعب ) وفيه مسائل :
الأولى : بيان شأن خاص للتنزيل ونزول الأمر من عند الله .
الثانية : الإخبار بأن الرعب حاضر وقريب من الذين كفروا .
الثالثة : الإشارة إلى تعدد ضروب الرعب التي يلقيها الله في قلوب الذين كفروا .
الرابعة : مع أن ليس ثمة مسافة في نزول الأمر من عند الله ثواباً أو عقاباً لقومه [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) إلا أن في النزول أطرافاً :
الأول : علة وسبب نزول الأمر .
الثاني : الأمر أو الشيء المنزل .
الثالث : المنزل له أو عليه .
أما الإلقاء من عند الله ففيه طرفان :
الأول : الأمر الملقى .
الثاني : الملقى إليه ، وفيه نكتة وهي قرب الرعب من الذين كفروا .
الخامسة : الإخبار بأن نزول النعاس رحمة من عند الله وأنه ينزل مع الملائكة وهو نعمة أخرى إلى جانب الوحي مع أن الوحي ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وهل يشمل نزول النعاس أمنة في آية البحث النبي محمداً صلى الله عليه آله أم أنه خارج بالتخصيص .
الجواب هو عدم شمول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا النعاس، وتدل عليه أيضاً أسباب وذكر أسماء الصحابة الذي نزل عليهم النعاس أمنة ومجئ الآية بلغة التبعيض بقوله تعالى [يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ] ( )، لبيان قانون وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتصف بخصائص دائمة وهي:
الأولى : الإستدامة لتلقي الوحي في الليل والنهار.
الثانية : إتصاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باليقظة والسلامة من أسباب الغفلة ونحوها، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).
الثالثة : إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في ميادين القتال الحال والهيئة التي خرج فيها من بيته.
الرابع : إنتظار وتطلع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للوحي والتنزيل في ساعة الشدة والضراء، ويدل قوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا]( )، على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتطلع إلى الوحي في المسائل الإبتلائية، وفي حال الحضر والسفر، والسلم والحرب، وهذا التطلع وتفضل الله عز وجل بالوحي والتنزيل مما يعضد المسلمين ويقوي قلوبهم ويزيدهم هدى , وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
ويمكن تأسيس قانون وهو بين تطلع النبي محمد صلى الله عليه إلى السماء وبين مسألة تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام عموم وخصوص مطلق فتطلعه أعم موضوعاً وحكماً ومنه :
أولاً : يتطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء عند توجيه سؤال له لم يعلمه أو يريد جوابه من عند الله كبيان وحكم .
لذا ورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن منها [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي] ( ) و[وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ] ( )
ليدل لفظ [قُلْ] في الآيتين أعلاه على نزول الجواب من عند الله وأنه جاء متعقباً لسؤالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي يدل عليه علم النزول ، إذ يحتمل أوان السؤال وجوهاً :
أولاً : إرادة تقدم نزول السؤال على نزول كل من الآيتين :
ثانياً : الإقتران بين زمان نزول سؤال الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : تأخر أوان السؤال عن نزول الآية القرآنية , وتقدير الآيتين هو : (سيسألونك عن الروح)(سيسألونك عن العفو) .
رابعاً : إرادة المعنى الجامع لصيغ السؤال في أفراد الزمان الطولية أيام النبوة المباركة , وتقدير الآيتين : لقد سألوك وسيسألونك عن الروح ، ماذا ينفقون .
خامساً : الإطلاق الزماني المتجدد في السؤال الشامل لأيام النبوة وما بعدها ، وتقدير الآيتين أعلاه : لقد سألوك وسوف يسألون عن الروح ( ماذا ينفقون ) .
والمختار هو الأخير ، وهو من مصاديق صيغة المضارع في الآيتين ، وتدل عليه وقوع السؤال في الزمن الماضي أخبار السنة النبوية وأسباب نزول الآيات القرآنية.
أما بالنسبة لما بعد أيام النبوة ، فهو من التحدي الذي تتضمنه الآية القرآنية ومصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) لإفادة بيان أزمنة السؤال السابقة والحالية واللاحقة ، ومن مصاديق السؤال التحقيق في موضوعه وما يسئل عنه في آيات القرآن والسنة ، وكأن كلاً من الآيتين تقول أن الناس سيلجأون إلى القرآن والسنة لمعرفة الجواب , وفيه مسائل :
الأولى : هذا اللجوء من المعنى الأعم للفظ [يَسْأَلُونَكَ] وهو من الشواهد على سلامة القرآن من التحريف ، وعصمته من طرو أسباب التبديل والتغيير .
الثانية : صدور المسلمين وغيرهم عن القرآن في المسائل الكلامية والقواعد العلمية .
الثالثة : تفقه المسلمين في الدين وإصلاحهم للإحتجاج ، وإقامة البرهان على النبوة والتنزيل .
الرابعة : دعوة علماء الإسلام للقيام بالبيان والتبليغ وعدم الإمتناع عن الإجابة او توجيه الأسئلة لهم ، وفي الحديث ( العلماء ورثة الأنبياء ) ( ).
وتقدير الآية : ويسألونكم عن الروح ) بلحاظ مجئ القرآن والسنة بالإخبار عن خلق الإنسان ، وأن ذات روحه تعود إلى جسده بلحاظ أنه مركب من روح وجسد ، ويكون الحساب عليها معاً ، فالمفارقة بين الروح والجسد بعد الموت لا تعني التأبيد ، إنما تغادر الروح الجسد بالموت لترجع إليه في عالم البرزخ ، وفي عالم البعث والنشور.
ثانياً : يتطلع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ، ويتقلب وجهه فيها عندما يدرك أوان نزول آية في موضوع مخصوص ، قال تعالى [وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ] ( )وهذا التقلب والتطلع من رشحات توالي نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومقدماته .
ثالثاً : ينقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء والمسألة رجاء نزول الوحي عند الحاجة والضرورة وطرو مسألة .
وهل هناك ملازمة بين تطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ونزول آية أو آيات من القرآن ، فيه وجوه :
الأول : نزول آية خاصة بموضوع الدعاء .
الثاني : نزول آية في موضوع وحكم آخر غير الذي سأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ قانون وهو أن الله عز وجل لا يترك الدعاء والمسألة من غير إستجابة لقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثالث : نزول جبرئيل بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بما هو أعم من نزول آية من القرآن .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من سنن الرسالة وفضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل , قال تعالى [ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا] ( ).
رابعاً : لقد أدرك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الملازمة بين النبوة والتنزيل ، وتوالي نزول آيات القرآن ومنها ما يتعلق بالحوادث والوقائع ومنها ما يكون موضوعه عاماً ومنها ما يأتي إبتداءً من فضل الله ، فلذا يتطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى رحمة الله بالتنزيل .
خامساً : يتقلب وجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السماء رغبة بدخول الناس الإسلام ، ودفع شر الأعداء ، ورجاء الوحي والتنزيل
وما هو أعم من أسباب هداية الله للناس ورمي الذين كفروا بالرعب والخذلان والوهن ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) .
سادساً : يتطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء رجاء رفد وفضل الله عز وجل ، وهو نوع توسل وإنقطاع إلى رحمة الله ، من غير أن يتعارض مع إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكبرى .
وهل من موضوعية للعطف بين هذه الآيات في موضوع إكرامها للمسلمين ، الجواب نعم ، وتقدير آية البحث بحسب هذا اللحاظ على وجوه منها :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله أنزل الله عليكم أمنة نعاساً ) فمع الإيمان يأتي الفضل الإلهي ولا تختص وجوهه بحال السلم أو المهادنة أو عند سؤال الدعاء من المسلمين فيأتي إبتداء من عند الله ، ولا يعلم أي من المسلمين أن من وجوه تعضيد المسلمين وبيان إكرام الله عز وجل لهم بالقاء النعاس عليهم أمنة وتخفيفاً .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا لا تظنوا بالله غير الحق ) لبيان أن الإيمان كل لا يقبل التجزئة والتبعيض ، ومن شرائط الإيمان الإقرار بقدرة الله المطلقة وبنصرته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبولايته للمؤمنين .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا إن خسرتم جولة في المعركة أو خسرتم المعركة فلا تظنوا بالله إلا الحق وأنه سبحانه يعلم ما يصيبكم وهو القادر على نصركم وقد تفضل وبشركم بأنه يدخل الرعب في قلوب الذين كفروا .
الآية لطف
لقد خلق الله عز وجل الإنسان ليجعل له الدنيا دار رشحات لطفه وإحسانه ، يدركها الإنسان بعقله وحواسه في حال السعادة والرخاء وفي حال الشدة والأذى، وأيهما يكون ذكر الإنسان فيها لنعم الله أكثر.
الجواب ليس من قانون ثابت في المقام ولكن الذكر عند حال الشدة هو الأكثر عند الأكثر والأعم من الناس فجاءت آية البحث لدعوة الصحابة لذكر الله والتوسل إليه بالدعاء للنصر والغلبة والأمن من الهزيمة والإنكسار .
ومن آيات النبوة تضمن وقائع معركة أحد التي جرت في النصف من شهر شوال في السنة الثالثة للهجرة النبوية الموافق للثالث والعشرين من شهر آذار سنة 625ميلادية الغبطة والسعادة للمؤمنين في بدايات المعركة بنصرهم وظفرهم بالعدو لقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ].
ومن اللطف الإلهي بالمؤمنين يوم أحد توصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة بعدم ترك مواضعهم على أي حال وهذه التوصية من رحمة الله على المجاهدين في معركة أحد وأهليهم وعلى المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة , ولو إستمر الحس والقتل من المؤمنين للذين كفروا في معركة أحد، فلا يعلم النفع العظيم عليهم إلا الله عز وجل وربما زحفوا خلفهم ودخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة، ولكن[لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً]( ).
ومن اللطف في الآية خلوها من الذم أو التوبيخ للمسلمين مع أنها إبتدأت بالإخبار عن صعودهم وفرارهم ، وجاء هذا الإخبار بعد أن أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] لتكون آية البحث من مصاديق هذا الفضل .
وهل من معاني [فِي أُخْرَاكُمْ] أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو المؤمنين في آخر الزمان أيضاً إلى الصبر والمرابطة ونحوها ليتجلى إعجاز مستحدث من مضامين آية البحث أم أن القدر المتيقن منها هو وقائع أحد .
الجواب أن موضوع مثل هذه الدعوة متجدد ومستمر , وتدل عليه آيات أخرى من القرآن .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بظرف زمان الماضي (إذ) وهذه البداية نوع مواساة وتسلية للمؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، فقد إنقطع وإنتهى الإنهزام والصعود إلى الجبل يوم أحد ، وجاءت هذه الآية لبيان أن الذي يبقى منه الموعظة والعبرة والدروس المستقرأة وإتخاذ المسلمين للظرف (إذ) النازل من السماء شاهداً على واقعة أحد، والأحداث التي جرت فيها.
لقد نزل القرآن بالثناء على المسلمين ومدحهم وهذا المدح ليس برزخاً دون التنبيه على الأخطاء والزلل .
ويحتمل قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]وجوهاً:
الأول : إنه مدح للمسلمين لخروجهم إلى القتال وإنسحابهم للنجاة والتجمع والعودة للقتال , وإن كانت هذه العودة بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : رأفة ورحمة الله بالمؤمنين ، وإن إنهزموا وإنسحبوا فان الآية تخبر عن صعودهم إلى الجبل فراراً وطلباً للأمان والتدبر في الأمر، وكأن كلمة (تصعدون) تدل على رقي ورفعة المؤمنين في كل الأحوال ، في حال الهجوم والإنسحاب ، وعند لمعان السيوف والتقهقر ، وهو من الإطلاق في قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالث : إرادة لوم المسلمين على تركهم مواضعهم ، ومن وجوه تشريفهم أن يأتي التنبيه واللوم من عند الله، وبتنزيل باق إلى يوم القيامة ، وفي قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( )، ورد عن جابر أنه قال (فينا نزلت . في بني حارثة ، وبني سلمة { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } ( ) وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله { والله وليهما })( ).
الرابع : المقصود ذم وتوبيخ الذين تركوا مواضعهم من المؤمنين في معركة أحد لأمور :
أولاً : ترك الرماة مقاعدهم التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : إصابة المؤمنين بالفشل والجبن إذ أن ترك الرماة مقاعدهم ليس علة تامة لقوله تعالى في الآية السابقة [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ….] ولا دليل على إرادة الآية أعلاه خصوص الرماة الذين تركوا مواضعهم، نعم لقد كانوا سبباً في تفشي الإرباك في صفوف الصحابة .
ثالثاً :لوم المؤمنين للتنازع بينهم ، فقد جاءوا بقلوب مؤمنة ، ونفوس تعشق الشهادة، وتسعى لمرضاة الله عز وجل، وقد آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف يكون التنازع بينهم في ساعة الضيق والمحنة .
ولابد من مضاف إليه لظرف الزمان (إذ) الذي إبتدأت به الآية، فتشرأب الأعناق إلى ما بعد (إذ ) وتتسع الحدق( ) وتجحظ العيون خاصة وأن الآية السابقة جمعت بين أمور متباينة من الوعد الإلهي وتحقق النصر المبين للمؤمنين في بداية المعركة، ثم تعددت صيغ اللوم والبيان بخصوص التقصير وأفراده.
ولعل الآية السابقة هي أكثر آيات القرآن يتوجه فيها لوم للمسلمين والمختار أن هذا اللوم ليس توبيخاً وذماً إنما هو تعليم وإرشاد وبيان لفضل الله عز وجل في كل الأحوال .
ولقد إبتدأت الآية السابقة بالتأكيد على صدق وعد الله وفيه خير الدنيا والآخرة , أما هذه الآية فقد إبتدأت بالظرف ثم المضاف إليه الذي يتضمن صعود المسلمين على الجبل وتركهم ساحة المعركة ، وهو أمر مستقرأ من الفشل والجبن والتنازع والمعصية التي ذكرتها الآية السابقة ، لكن ليس على نحو العلة والمعلول ، وقاعدة السَبب والمسُبب لأن قوله تعالى في الآية السابقة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] بشارة ووقاية وعلاج وتدارك .
وتقدير بداية الآية : كيف تصعدون ولا تلوون على أحد وقد صدقكم الله وعده ) .
ومن الإعجاز في المقام ورود صدق وعد الله بصيغة الماضي بينما جاء الفعل في أول آية البحث بصيغة المضارع ، وصحيح أن (إذ) يقلب معناه إلى الماضي إلا أنه لا يمنع من بقاء صيغة معنى المضارع في ذات الآية .
وهل من معنى الآية : إن كنتم في قادم الأيام تصعدون ولا تلوون على أحد , فالرسول يدعوكم في أخراكم ، الجواب من وجوه :
الأول : نعم لتضمن بعض معارك الإسلام اللاحقة دعوة للرسول كما في معركة حنين.
فقد إنهزم المسلمون في بداية معركة حنين مع أن عدد المسلمين إثنا عشر ألفاً ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا] ( ).
وقال بعض المسلمين: (لن نُغلب اليوم من قلّة) ( ) أي أن كثرة عدد جيش المسلمين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واقية من الخسارة , وفيه إشارة إلى معركة أحد إذ كان عدد المسلمين فيها ثلث جيش كفار قريش , ومن معهم من غطفان والأحابيش وغيرهم .
وحينما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة إلى وادي حنين ، وهو أودية تهامة في أوان الفجر حمل الذين كفروا حملة رجل واحد ففرت الكتائب الأولى من المسلمين ، ومرت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من أهل بيته وصحابته .
ومن آيات النبوة ومعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم العسكرية أنه كان يتقدم نحو العدو ويرّكض بغلته التي اهداها له فروة بن نفاثة الجذامي ، والعباس آخذ بحكمتها يكفها ويمنعها عن الجري نحو العدو ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول (أنا النبي لا كذب … أنا ابن عبد المطلب) ( ).
الثاني : إذ تصعدون ولا تلوون على أحد , وقد صدقكم الله وعده ) لبيان حقيقة وهي سلامة المسلمين من الهزيمة والإنكسار حتى في حال الإنسحاب وصعود الجبل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
ومن الشواهد بأن الملائكة تفتك بالذين كفروا مدبرين ومقبلين، فحتى حينما ينهزم المؤمنون فان الملائكة تلاحق الذين كفروا وهو من الإطلاق في قوله تعالى [فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
فلم تقيد الآية أعلاه ضرب الذين كفروا في حال المبارزة أو عند إدبارهم وهزيمتهم ، بل وردت مطلقاً ما دامت المعركة مستمرة بينهم وبين المسلمين .
الثالث : لقد صدقكم الله وعده فاتركوا الصعود والفرار والهزيمة ) لتأكيد نعمة الله على المسلمين , وبيان قانون وهو أن صدق وعد الله ينفع في أفراد الأزمنة الثلاثة :
الأول : الزمان الذي تقدم على الوعد الإلهي .
الثاني : الزمان اللاحق للوعد الإلهي
الثالث : أوان موضوع الوعد الإلهي .
الرابع : تنجز الوعد الإلهي .
الخامس : زمان ما بعد تحقق مصداق الوعد الإلهي .
ومن فضل الله تجدد مصاديق الوعد الإلهي في كل زمان ، وهي حاضرة عند فرار المؤمنين يوم أحد ، ومنها سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل , وبطلان وزيف إشاعة قتله ، ومنها قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] في الآية السابقة بلحاظ الإنجذاب الروحي التلقائي لدعوة الرسول .
ولما بينت آية البحث إنكسار وهزيمة أغلب المؤمنين وتركهم ساحة المعركة ، وعدم إستماعهم لدعوة الرسول لهم بالرجوع إليه يتبادر إلى الذهن أن البلاء والعقاب ينزلان بالمنهزمين ، ولكن الله عز وجل أخبر عن مجئ فضله لهم بقوله [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] لتكون الفاء للسببية وان الغم من عند الله ، ومواساة لهم ، لكيلا يأسفوا على إنهزامهم ، ويستولي عليهم الأسف والأسى , ويقصروا في قواعد الجهاد .
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات أنها بدأت بالثناء والإكرام للمسلمين بالنداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا ..] ( ) وتوالى فيها الثناء عليهم .
إذ تبين الآية أعلاه التضاد والتنافر بين المسلمين والكفار في الدنيا والآخرة ، وملاك التمايز والفصل في الآخرة هو عصمة المسلمين من طاعة الذين كفروا ، وليس من كتاب يحذر الذين كفروا من طاعة الذين آمنوا , وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ومن سنن الخلق والإرادة التكوينية نهي المؤمنين عن طاعة الذين كفروا وحث الذين كفروا على طاعة الذين آمنوا بما يفيد تعظيم شعائر الله .
ومن الإعجاز في هذه الآيات أن كل جملة وشطر منها مدح للمسلمين من وجوه :
الأول : النداء بصفة الإيمان بالتنزيل والكتاب الخالد إلى يوم القيامة ، فيموت المسلم وينتقل إلى جوار ربه , ويرجو رحمته ولكن النداء التشريفي من عند الله تعالى له مستمر ومتجدد من جهات :
الأولى : يتوجه النداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] أيام النبوة إلى أهل البيت وإلى الصحابة.
الثانية : إرادة خصوص المجاهدين في معركة أحد بحسب نظم الآيات.
الثالثة : توجه الخطاب للمسلمين والمسلمات عموماً ويشمل الخطاب المنافقين من باب الإنذار والتحذير وإقامة الحجة عليهم ، نعم يخرج المنافقون بالتخصص من الآيات التالية والتي تبدأ بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] قال تعالى في ذم المنافقين [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا] ( ).
الرابعة : شمول النداء المسلمين والمسلمات في كل زمان وإلى يوم القيامة ، وليس من نداء يصاحب الناس في الحياة الدنيا أكثر وأطول من نداء القرآن [يَاأَيُّهَا النَّاسُ]( ) و[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ليفوز المسلمون بالإنتفاع الأمثل من النداء العام أعلاه كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ]( ).
ومن وجوه الخير أعلاه تلقي خطاب [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] في القرآن مع التحذير والتخويف من طاعة الذين كفروا .
ويصح تقدير آية البحث بلحاظ عطفها على النداء التشريفي للمسلمين على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إذ تصعدون .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تلوون على أحد .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا الرسول يدعوكم في أخراكم .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا أثابكم الله غماً بغم .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا كيلا تحزنوا على ما فاتكم .
السادس : يا أيها الذين آمنوا لا تحزنوا على ما أصابكم .
السابع : يا أيها الذين آمنوا الله خبير بما تعملون .
ومن منافع هذا التقدير وذكر النداء مع مضامين آية البحث أمور :
الأول : بعث السكينة في نفوس المؤمنين .
الثاني : بيان التضاد والتمايز بين المؤمنين والذين كفروا ، فيصيب الرعب قلوب الذين كفروا بينما تكون قلوب الذين آمنوا في مأمن من هذا الرعب.
الثالث : تجديد إيمان المسلمين عند النداء يا أيها الذين آمنوا .
الرابع : من خصائص ميدان المعركة أن المقاتلين يحتاجون إلى ما يشد عزمهم ، وقد جاء كفار قريش بالنسوة يرددن الأشعار ويحرضن على القتال ويضربن بالدفوف والأكبار والمعازف وعددهن سبع عشرة امرأة وأقاموهن خلف الرجال ، ويرددن الأشعار ويذكرن بالرجال منهم الذين أصيبوا بواقعة بدر ، ومن أشعارهن ورجزهن :
نحن بنات طارق … نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق … أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق( )
أي فراق من غير محبة أو مودة , وكأنهن يشرن إلى ترشح أسرهن عن إدبارهم , ويستحضرن وقوعهم بالأسر في معركة بدر, وهو من مصاديق قوله تعالى (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) ( ) وشمول النساء منهم بهذا الرعب .
وكن ينصرن حملة اللواء من بني أبي طلحة من عبد الدار :
ضرباً بني عبد الدار … ضرباً حماة الأدبار
ضرباً بكل بتار( )
إن هلاك الكفار الذين كانت النسوة منهم تتغنى بشجاعتهم , وسكوتهن إلى نهاية المعركة شاهد على عدم تحقيق الكفار النصر . ومن مصاديق [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] في الآية السابقة أن بني أبي طلحة أول من سقط من الكفار تباعاً بمبارزة متعاقبة بمرأى ومسمع من الصفين وفيه خزي لهم ولنسائهم وليكون من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
أما المسلمون فكانت معهم آيات القرآن تبعث في نفوسهم الشوق إلى الشهادة وبذل الوسع من أجل تحقيق النصر ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( ).
لقد رأى المسلمون ومن بدايات المعركة كيف أن نسوة الذين كفروا يتهيأن للفرار والهروب لبيان قهر آيات القرآن للقوم الكافرين ودحض كيدهم .
وقال ابن إسحاق بإسناده عن الزبير قال : (وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْتنِي أَنْظُرُ إلَى خَدَمِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَة وَصَوَاحِبُهَا مُشَمّرَاتٌ هَوَارِبُ مَا دُونِ أَخْذِهِنّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ إذْ مَالَتْ الرّمَاةُ إلَى الْعَسْكَرِ حِين كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ وَخَلّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ فَأُتِينَا مِنْ خَلْفِنَا ، وَصَرَخَ صَارِخٌ أَلَا إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ ؛ فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ اللّوَاءِ حَتّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ) ( ).
لتتجلى مع إلتقاء الصفين منافع النداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]ليكون من أسباب الفزع والخوف في صفوف جيش العدو مع كثرتهم , والحماس الذي تثيره أهازيج النسوة في نفوسهم .
كما تتبين أسرار ملكوتية بنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] عند صعود وإنسحاب الذين كفروا , فذات النداء يحثهم ويدعوهم إلى أمور :
الأول : الثبات في ميدان المعركة وعدم مغادرته .
الثاني : إدراك قبح الهزيمة والفرار .
الثالث : الإنصات لدعوة ونداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن من معاني نداء الإيمان هو : يا أيها الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : رجاء توجه المؤمنين إلى سلاح الدعاء وسؤال النصر من الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ] ( ).
الخامس : لقد جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار, وكانت ساعة الحرج والشدة في معركة أحد مناسبة لتأكيد إيمان الصحابة بالصبر والجهاد ، والإستجابة لنداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعودة والحضور عنده .
وهل نجحوا في هذا الإختبار ، الجواب نعم ، لذا وردت مضامين هذه الآية والآية التي بعدها بصيغة الإيمان بعطفها على نداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ( ).
السادس : تأكيد نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوته لأصحابه بصبغة ومرتبة الرسالة السامية ، لتأتي فيما بعد معركة حنين ليقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنا النبي لا كذب … أنا ابن عبد المطلب) ( ).
لقد إبتدأت آية البحث بذكر ما أصاب المسلمين من الإرباك والتشتت بعد مجئ العدو من خلفهم وعمله السيف بهم ، إذ إنهزموا صوب الجبل صعوداً ومنهم من خرّ على وجهه لا يلتفت لساحة المعركة حيث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلاقي سيوف وسهام وحجارة الذين كفروا .
ومن لطف ورحمة الله بالمسلمين وإكرامه لهم أن الآية لم تقف عند ذكر هذه الحال المؤلمة ، بل تعقبتها بالإخبار عن دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم وهم في هذه الحال مما يدل على إنقطاعها , وتقدير الآية على وجهين :
الأول : إذ تصعدون فدعاكم الرسول فامتنعتم عن الصعود .
الثاني : لا تلوون على أحد فدعاكم الرسول فسمعتم دعوته ويترشح عن سماع المؤمنين لدعوة النبي إستجابتهم لها ، وهو من مصاديق النداء في بداية هذه الآيات [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ( ).
لقد دعاكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيمان قبلاً ووجهاً لوجه في مكة , وفي بيعة العقبة الأولى والثانية ، وجاءت معركة بدر ليدعوهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند آخر المنهزمين منهم لبيان فضل الله عز وجل على المؤمنين ، فبعد أن إستجابوا لدعوة التوحيد طوعاً نجاهم الله بدعوة رسوله الكريم من الفرار من الزحف , ومن فتك الذين كفروا بهم ، ليكون من معاني الآية : والرسول يدعوكم في أولاكم وفي أخراكم .
ثم بينت الآية فضل الله عز وجل في رزق المؤمنين الغم ليكون مناسبة للتخفيف ، وليس بينه وبين دعوة الرسول برزخ أو وقت ثم بينت الآية علة إلقاء الغم في نفوس المؤمنين , وهي سلامتهم من الحزن على ما فاتهم وما أصابهم .
ويحتمل تعلق قوله تعالى تعالى[لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا] وجهين :
الأول : إثابة المسلمين بالغم .
الثاني : دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في أخراهم وإثابتهم بالغم بسبب الغم الذي لحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حدوث الفشل والتنازع بين المؤمنين .
وهل يصح تقدير الآية : والرسول يدعوكم في أخراكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ) الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل والشواهد بأن دعوة الرسول من فروع الوحي ، وتترشح عنها البركة .
لقد أراد الله عز وجل سلامة المسلمين من الحزن ليتوجهوا إلى الذكر والدعاء ، ويقبلوا على الصلاة بشوق وينصتوا إلى آيات القرآن بتدبر من غير أن يشغلهم ما فاتهم من الغنائم ، ومن إعجاز الآية ذكرها لما أصاب المسلمين ونزول القتلى والجراحات فيهم .
وهل ذات الصعود بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] مما أصاب المسلمين والذي أراد الله عز وجل سلامتهم من الحزن عليه ، الجواب نعم .
وتقدير الجمع بين خاتمة آية البحث ومضامينها القدسية على وجوه :
الأول : والله خبير بما تعملون إذ تصعدون ) لبيان ما بعد الصعود وما يترتب على الفرار من الأثر والضرر على المسلمين لبيان قانون أن دعوة الرسول للصحابة بالعودة إلى ميدان المعركة من مصاديق أن الله خبير بما يعمل المسلمون .
وهل يدل قوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]في مفهومه على إرادة ما يعمل المسلمون في حال الضد مما هم عليه وآثار الفعل الذي يتم تداركه بفضله سبحانه ، الجواب نعم ، وهو من أسرار مجئ اسم خبير في خاتمة الآية وليس العليم ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : والله خبير في خاتمة الآية لو تستمرون تصعدون ولا تلوون على أحد .
ثانياً :والله خبير بما تعملون لو لم يدعوكم الرسول .
ثالثاً : والرسول يدعوكم للعلم بأن الله خبير بما تعملون ).
وفيه ترغيب للمسلمين بعمل الصالحات لإدراكهم ان الله سبحانه يعلم ما يفعلون وأنه سبحانه حاضر معهم .
رابعاً : والله خبير بما تعملون عند النزول من الجبل والعودة من الفرار ولكم فيه الأجر والثواب .
خامساً : والله خبير بما تعملون باستجابتكم للرسول يدعوكم في أخراكم .
سادساً : والله خبير بما تعملون بعد مجئ نزول الغم عليكم ثواباً من عند الله .
سابعاً : والله خبير بما تعملون لو لم ينزل عليكم الغم من عند الله أو أنه يأتيكم ولكن ليس بعنوان الثواب ، وتلك آية من بديع صنع الله فهو وحده الذي يعلم بما سيفعله الإنسان في حال الضد مما هو عليه كما لو كان غنياً ويعمل الصالحات فاذا سلب منه الغنى وصار فقيراً لا يعلم أحد ماذا يعمل إلا الله .
وكذا لو كان فقيراً إلى أن غادر الدنيا فأنالإنسان لا يعلم ماذا يعلم لو كان غنياً وكذا حال المؤمنين في ميدان القتال ، فقد رحمهم الله عز وجل بقذف الرعب في قلوب أعدائهم بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( )ولا أحد يعلم لو دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه معركة أحد ولم يحل الرعب في قلوب الذين كفروا خاصة وأنهم زحفوا بثلاثة آلاف رجل ، وجاءوا بهمة وعزيمة وطلباً للثأر وبرواحل كثيرة وأسلحة حادة ، وإصطحبوا معهم النساء مع طول المسافة بين مكة والمدينة وكأنهم واثقون من النصر والغلبة ، ولكن [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ] ( ) فداهم الذين كفروا الرعب والفزع مما لم يجعلوا في الحسبان .
ترى لو أجريت عملية حسابية لما حلّ بهم من الوهن والضعف بسبب هذا الرعب فماذا تكون النتيجة ، الجواب في القرآن فمع أن جيش المشركين نحو ثلاثة أضعاف جيش المسلمين في معركة بدر ، فقد نزل قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ) .
ليكون من الإعجاز القرآني أن معركة بدر صارت مثلاً وموعظة للمسلمين أيام التنزيل , وفي المعارك اللاحقة فيكون ذات الصحابي مثلاً وأسوة لنفسه ولغيره .
فيكون قتاله في معركة بدر قدوة ومثلاً لنفسه في معركة أحد ، ليكون قتاله في معركة بدر وأحد أسوة ذاتية لقتاله في معركة الخندق ، وقتاله وإشتراكه في هذه المعارك مثلاً وسبيل هداية لنفسه ولغيره من الصحابة في معارك الإسلام اللاحقة مثل معركة حنين التي جرت في السنة الثامنة للهجرة وبعد فتح مكة .
والمراد من لفظ (لغيره) أعلاه أي الصحابة الذين قاتلوا معه في تلك المعارك وغيرهم ممن لم يكن بدرياً أو أحدياً ليكونوا مجتمعين ومتفرقين مثلاً للتابعين وتابعي التابعين ، وهل يختص المثل هنا في باب الجهاد , الجواب لا، إنما هو أعم ويشمل الإقتداء في باب العبادات والعمل الصالح , وإتباع نهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : من وجوه الجمع بين خاتمة آية البحث ومضامينها القدسية : والله خبير بما تعملون إذ لا تلوون على أحد ).
من إعجاز وأسرار القرآن تجلي المفاهيم والدلالات من وجوه :
أولاً : الجمع بين خاتمة الآية السابقة ومضامين الآية التالية لها ، فمثلاً يمكن إستحداث العلوم من الجمع بين قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ) الذي جاء خاتمة للآية السابقة وبين كل شطر من آية البحث وقد تقدم بيانه( ) .
ثانياً : الإعجاز في الصلة بين خاتمة الآية السابقة وبداية الآية التالية لها .
ثالثاً : الصلة بين خاتمتي الآيتين المتجاورتين وقد يمر بعضهم على خواتيم الآيات من غير تدبر لتأتي الدروس والمواعظ المستقرأة من الجمع بين خواتيم الآيات ، فلا أحد يعلم ماذا يحدث للصحابة الذين فروا لو إستمروا بفرارهم وبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ثمانية أو عشرة من أهل بيته وأصحابه في مقابل ثلاثة آلاف من المشركين الذين كانت سهامهم ورماحهم وحجارتهم تصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسقط بعضهم وهو يذب عن رسول الله .
قال ابن إسحاق (وترس أبو دجانة دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل) ( ).
ومن معاني الجمع بين مضامين آية البحث الإخبار بأن الله سبحانه رؤوف المؤمنين الثواب بالغم مع علمه بأنهم لا يلوون على أحد ، ولا يلتفتون لشدة الحال باحاطة الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو يقاتل في سبيل الله .
الثالث : والله خبير بما تعملون والرسول يدعوكم في أخراكم وفيه إخبار عن علم الله عز وجل بما يعمل المسلمون وما يترتب على عملهم من جهات :
الأولى : علم الله بما يعمل المؤمنون في ساحة المعركة وحواليها قبل أن يدعوهم الرسول للعودة إلى الميدان .
الثانية : علم الله عز وجل بكيفية تلقيهم لدعوة الرسول لهم بالعودة .
الثالثة : إن الله عز وجل يعلم ما يصلح المؤمنين وينفع الإسلام يوم أحد ، فعندما إنهزموا جاءتهم دعوة الرسول لدفع الأذى والضرر عنهم .
الرابعة : علم الله عز وجل بحال المؤمنين بعد تلقيهم دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للعودة للقتال .
الخامسة : تفضل الله عز وجل بدعوة الرسول لأصحابه بالرجوع إلى ميدان المعركة وهو سبحانه خبير بأن هذه الدعوة كافية لنجاتهم من الأسر والقتل ، ويعلم الله عز وجل أن هذه الدعوة علة تامة لعودتهم إلى ميدان القتال .
ولو لم يعودوا بدعوة الرسول هذه ، فهل يتفضل الله عز وجل بسبب آخر غيرها لجذبهم إلى ميدان القتال ، الجواب نعم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ].
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : والله خبير بما تعملون من الصالحات وضروب الجهاد بعد دعوة الرسول إليكم .
فمن الإعجاز في دعوة الرسول عدم إنحصار منافعها وما يترشح عنها بذات واقعة أحد ويوم المعركة ، ليكون من معاني ودلالات إسمه تعالى [خبير ] هو فوز المسلمين بالنفع العظيم بسعيهم وصبرهم في سبيله تعالى .
ثانياً :والله خبير بما تعملون مع الرسول عند عودته لكم إذ أن إستجابة المسلمين لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق العمل الذي أختتمت به آية البحث .
ثالثاً : والله خبير بما يعمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته المؤمنين إلى ميدان المعركة ، ليفوز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة رسالية خاصة به وهي الدعوة العامة للناس جميعاً للإيمان بالله عز وجل ، ودعوة خاصة لأصحابه في معركة أحد بالرجوع إلى ميدان المعركة .
وهل من صلة بين دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله ودعوته أصحابه في معركة أحد الجواب نعم ، وبينهما عموم وخصوص مطلق , فالدعوة إلى الله هي الأهم ونداء النبي لأصحابه يوم أحد من ذات الدعوة إلى الله عز وجل والثبات في وجوب عبادته سبحانه .
الرابع : تقدير الجمع بين مضامين آية البحث فأثابكم غماً بغم والله خبير بما تعملون ).
لقد ذكرت آية البحث اللطف الإلهي الذي يتجلى بدعوة الرسول للمؤمنين وإثابة الله لهم بالغم وحجب الحزن عنهم الذي قد يأتي بالطبع والغريزة الإنسانية بسبب ما فاتهم من الغنائم ، أو ما أصابهم من الجراحات , وفقد سبعين صحابياً خروا شهداء وهل من صلة بين كثرة قتلى المؤمنين وبين دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه للعودة .
الجواب نعم ، ليس لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدرك الحاجة للرجال وكثرة السواد ، فقد إنخزل ثلاثمائة من المسلمين في الطريق إلى أحد , ولم يطلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم البقاء ولكن الصلة هي نزول البركات على المؤمنين في ميدان المعركة جزاءً وثواباً للشهداء الذين وقعوا في المعركة .
فيصح تقدير الآية :إذ تصعدون ولا تلوون على أحد فتعودون إلى المعركة ببركة الشهداء .

من غايات الآية
في آية البحث مسائل :
المسألة الأولى : تكشف الآية حقيقة سلامة المسلمين من اليأس والقنوط .
وعن ابن مسعود قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الفاجر الراجي لرحمة الله ، أقرب منها من العابد القنط)( ).
لقد جعل الله عز وجل آية البحث واقية دون يأس وقنوط المسلمين مما يدل بالدلالة التضمنية على عدم مجيئها لذم وتوبيخ المؤمنين أو تعييرهم في الأجيال المتعاقبة إذ وردت هذه الآيات بإكرامهم من وجوه :
أولاً : الشهادة للمسلمين بالإيمان لقوله تعالى في بداية الخطاب في هذه الآيات بصبغة الإيمان .
ثانياً : تأديب وتعليم المسلمين بعدم إجتماع الضدين ، فلا يجتمع الإيمان مع طاعة الذين كفروا .
ثالثاً : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نجاتهم من مفاهيم الضلالة وسلامتهم من طاعة الذين كفروا ، وليس من حصر لوجوه هذا الشكر , منه الشكر لله عز وجل على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وعلى سلامته في معركة أحد التي تخبر عنها آية البحث ودعوته لإصحابه بالرجوع إلى ميدان المعركة .
رابعاً : تفقه المسلمين في أمور الدنيا والآخرة بمعرفة أضرار طاعة الذين كفروا ، وهل يدل قوله تعالى [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ] ( ) عن النهي عن الركون إليهم بقوله تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ) , الجواب نعم بلحاظ أن الركون مقدمة للطاعة .
وبين الركون والطاعة عموم وخصوص مطلق ، فكل طاعة هي ركون وليس العكس وكذا النسبة بين الذين ظلموا والذين كفروا ، فلذا جاءت الآية أعلاه بالمعنى الأعم وفيه نكتة إعجازية وهي أن الركون للظالمين يقود للركون للذين كفروا وقد يكون برزخاً دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن الإعجاز في بيان القرآن مجئ آية خاصة ونص جلي بالنهي عن الركون للظالمين.
خامساً :إكرام المسلمين في النشأتين بولاية الله عز وجل لهم وهذا الإكرام مقدمة وباب لإكرام إضافي توليدي في الدنيا والآخرة ، وليس من باب من الفضل إلا وتفتح عنه أبواب غير متناهية من الفيض والجود وضروب من النعم الإلهية ، قال تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] ( ).
ليكون من معاني حرف الإضراب [بَلْ] في الآية أعلاه , تفضل الله بأمن ووقاية المسلمين من طاعة الذين كفروا .
ترى لماذا جاءت الآية أعلاه بصيغة الولاية , ولم يختص موضوعها بنفي طاعة المسلمين للذين كفروا ، الجواب لإرادة المعنى الأعم من فضل الله وأنه سبحانه يعطي بالأتم والأوفى ، ولبيان حقيقة , وهي أن الله عز وجل يصلح المسلمين للدفاع في معركة بدر وأحد ، وتحمل الأذى الشديد والتضحية والفداء في معركة أحد وغيرها .
وهل في قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] مواساة للمسلمين بسقوط سبعين شهيداً يوم أحد ، الجواب نعم ، وهو من إعجاز نظم الآيات ودلالات اللفظ القرآني بلحاظ الزمان والمكان والموضوع وسيأتي مزيد كلام في الجزء التالي إن شاء الله , ويتجلى في هذه الآيات علم إستقراء المسائل والحجج من الجمع بين أكثر من آيتين من وجوه عديدة منها :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بل الله مولاكم إذ تصعدون ) ليكون من مصاديق الولاية بلحاظ آية البحث دعوة الرسول للمؤمنين حال صعودهم وإنسحابهم ، ويدل على معنى الحال تقييد الدعوة الرسالية بقوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ].
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إذ تصعدون بل الله مولاكم ) لبيان أن صعود وإنسحاب الصحابة لم يستمر فولاية الله برزخ دون الهروب والفرار والهزيمة .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بل الله مولاكم والله خبير بما تعملون ) وفيه بشارة الهداية والتوفيق للمؤمنين ليكون من الإعجاز في التلاوة بالصلاة اليومية [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) الإنتفاع الأمثل من ولاية الله .
الرابع : بيان قانون الملازمة بين الإيمان والصبر والولاية والنصرة من عند الله , وتعدد المتلازمات ذات الحسن الذاتي من فضل الله عز وجل .
فعندما يؤمن الإنسان يكون في حفظ الله وتتغشاه رحمته على نحو متعدد من جهتين :
الأولى : مصاديق الرحمة العامة التي تأتي لكل أنسان براً كان أو فاجراً ، ومنها إستدامة الحياة إلى حين الأجل ، وجريان الرزق ، وعدم قدرة الخلائق عن حجبه ومنعه عن الإنسان ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ).
وليس من حصر لموضوع الرحمة الخاصة ، ولا يستثنى عبد منها بالتخصص أو التخصيص ، قال تعالى [نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ]( ) وفي قانون الملازمة هذا ترغيب بالإيمان وبعث للنفرة في النفوس ، وفيه حث على أداء الفرائض والعبادات , وتفسير لفضل الله في أداء المسلم الصلاة اليومية في دقائق معدودات ليفوز بالخلود في النعم .
الثانية : الرحمة الخاصة التي تأتي للأفراد والجماعات والأمم لطفاً وفضلاً ونافلة من عند الله عز وجل , ويتجلى بالنسبة للمسلمين في كل آية من آيات القرآن لما فيها من التشريف والإكرام لأجيالهم المتتالية.

مصاديق ليبتليكم
تقدير الآية على وجوه:
الأول : ليبتليكم الله في تلقي الأحكام من عند الله، ووجوب الإمتثال لها.
الثاني : ليبتليكم الله بلزوم سلامة رسول الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه.
الثالث : ليبتليكم الله بنزول آيات القرآن نجوماً على نحو التعاقب.
الرابع : ليبتليكم الله بشؤون الحكم والرياسة.
الخامس : ليبتليكم الله عز وجل بذات الأسباب والحال التي أدت بكم إلى الفشل والتنازع والمعصية ثم عفا عنكم، لتجتنبوا ذات الأخطاء، فبعد معركة أحد بأقل من سنتين جاء الذين كفروا بجيوش عظيمة في معركة الخندق، فثبت المسلمون، وحافظوا على رباطة جأشهم، ورابطوا حول وخلف الخندق إلى أن إنهزم العدو، وفيها نزل قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
السادس : إختبار مراتب إيمان المسلمين، وصبرهم في طاعة الله ولم يرد لفظ(يبتلي) في القرآن إلا في الآية السابقة والآية التالية في آية إعجازية في نفاسة اللفظ القرآني، وكل واحد من ألفاظ وكلمات القرآن فريدة، وكنز نزل من السماء، لينفذ ضياؤه في القلوب وينير دروب الهداية في مشارق الأرض ومغاربها، وهو من أسرار تلاوة سور وآيات القرآن في الصلاة، والتفصيل والفصل بينهما، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فكل سورة تتكون من آيات متعددة.
السابع : لقد عفى الله عز وجل عن المؤمنين وما صدر عن طائفة منهم من التقصير والمعصية , بعد أن فتح الله عز وجل باباً من العز والرفعة للمسلمين إذ عاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة وعادوا معه إلى عاصمة الإسلام، ونواة الإيمان، والمصر الذي يأوى إليه المؤمنون، ليندفع عنهم الإستضعاف، ويعيشوا في ربوع الإسلام بأمن وطمأنينة.
الثامن : تدل الآية بالدلالة التضمنية على بداية مرحلة جديدة في بناء صرح الإسلام بعد معركة أحد، وأن الأرض تغيرت وصار للمسلمين دولة وشأن.
لقد حقق المسلمون النصر العظيم على الذين كفروا في معركة بدر وسيق الأسرى ودخلت الغنائم إلى المدينة المنورة في يوم مشهور، بحيث لم يصدق المنافقون ونحوهم, فحينما جاء زيد بن حارثة بشيراً بالنصر المبين، قال بعضهم: ما جاء زيد إلا فلاً ) أي فاراً ومنهزماً.
التاسع : بيان قانون وهو أن الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء، وأن الخروج من المعركة بأذى شديد وسقوط الشهداء وجراحات عديدة أصابت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت وأصحابه ليس سبباً للقعود والجلوس، والفترة في الجهاد ، بل الجهاد متصل ومتجدد، وما ميدان المعركة إلا أحد أفراده .
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة، فقال صلى الله عليه وسلم قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه)( ).
التاسع : في الآية حذف يتعلق بمصاديق وضروب الإبتلاء والإمتحان , ترى لماذا لم تبين الآية هذه المصاديق , الجواب من وجوه:
أولاً : ورود مصاديق الإبتلاء في ذات الآية السابقة، لتكون مصاديق إبتلاء المسلمين بعد السلامة والنجاة في معركة أحد مصاحبة لأوان المعركة ومتعقبة لها، وفيه جهات:
الأولى : إنحصار الإبتلاء بخصوص ما بعد لفظ ليبتليكم.
الثانية : إرادة خصوص العفو عن المسلمين والذي جاء متعقباً للإبتلاء بقوله تعالى[لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ].
الثالثة : إرادة مضامين الآية السابقة مما يتضمن معنى الإبتلاء والإمتحان.
والصحيح هو الثالثة أعلاه , وهو من ذخائر الإعجاز في الآية الكريمة، وقد تقدم الكلام فيه تفصيلاً , وتقدير الصلة والربط بين لفظ(ليبتليكم) وكلمات الآية السابقة الأخرى( )، يضاف لها معنى وهو من جهتين:
الأولى : ليبتليكم الله والله ذو فضل على المؤمنين.
الثانية : والله ذو فضل على المؤمنين ليبتليكم.

التفسير
قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ]
يدل أول آية البحث على تنزيه المسلمين من الفرار والهزيمة بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] فالذي يفر من المعركة لا يختار صعود الجبل بل يتخذ الأرض السهلة ، ويميل عن الجادة الوسطى كيلا يلحق به العدو ، والذي يصعد الجبل يكون هدفاً لحصار وملاحقة العدو له .
ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] عند التحقيق والتدبر تنزه المسلمين عن الفرار ، وتوقيهم وإحترازهم من الهزيمة أمام العدو بدليل أن الآية لا تدل على مطاردة العدو للمسلمين في إدبارهم لذا فان صعود المؤمنين على الجبل يوم أحد ليس للإنهزام وإعتزال القتال ، فهم في مأمن من الفرار وتولية الأدبار , وعن عبد الله بن عمر في قوله تعالى [إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ] ( )قال إنما نزلت هذه الآية في أهل بدر لا قبلها ولا بعدها .
وموضوع الآية أعم من سبب النزول، وتقدير آية البحث : وتفرون مصعدين في الوادي ، وعلى الجبل بلحاظ الإعجاز في مجئ لفظ [إِذْ تُصْعِدُونَ] في آية البحث إذ يشمل الصعود في الجبل ، والإنحدار في الوادي ، والسير في الأرض المستوية بلحاظ سور الموجبة الكلية في المقام وهو تسمية الأرض صعيداً .
(والصًعِيْدُ والصَعَادُ: وَجْهُ الأرض قَلً أمْ كَثُر، ويُجْمَع الصَعيدُ على صُعُدٍ ثمً على صُعُدَاتٍ .
وفي الحديث: ” لَوْ تَعْلمونَ ما أعْلمُ لَخَرَجْتُم إلى الصُّعُدات تَجْأرون إِلى الله ” ، وكذلك قولُه: ” ايّاكم والقعوْد في هذه الصُعُدَات ” : أي الطُّرُق) ( ).
ويحتمل موضوع الصعود في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة فرار المؤمنين بعد ترك الرماة الجبل .
الثاني : المقصود دفع المؤمنين عن الذين كفروا وبيان قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] فذات الإنصراف هو الصعود ، ويكون تقدير الآية : ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون ).
الثالث : إذ تصعدون عند إنتهاء المعركة وترك الذين كفروا ميدان القتال عائدين إلى مكة .
والمختار هو الأول، والمراد من الصرف أمر آخر متعقب له، وجاء بعد إجتماع الصحابة حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزولهم من الجبل ورجوعهم من الجادة والطريق والشعب , ليكون من متعلق ( إذ تصعدون ) هو العفو بقوله [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ].
وقال البغوي ({ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي: ردّكم عنهم بالهزيمة)( ).
والمختار أن المراد من (صرفكم عنهم) هو إنتهاء المعركة بعدم قيام المسلمين بتجديد القتال والهجوم على الذين كفروا , ولبيان مصداق لتنجز وعد الله عز وجل للمؤمنين الذي تذكره الآية السابقة .
وقيل (وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم : « يَا معْشرَ المُسْلِمينَ أَنَا رَسُولُ الله فلم يلتفت إليه أحد ، حتى أتوا على الجبل . فذلك قوله تعالى : { إِذْ تُصْعِدُونَ } يعني الجبل . وهذا قول الكلبي) ( ).
والأرجح في نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو : إلي عباد الله ) ولا مانع من التعدد في صيغة النداء والدعاء ولتأكيد التعدد والإتصال في النداء وتجدده سواء في التوجه إلى ذات الأشخاص الفارين أو غيرهم، وعلى نحو الجمع وبصيغة الإفراد وبالتنكير وبالإسم، كما لو نادى بعض الفارين باسمه كما سيأتي بعد بضع صفحات في حديث محمد بن مسلمة.
والضابطة في المقام قوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] فلم يغادر المؤمن ساحة المعركة منسحباً أوفاراً إلا ودعوة ونداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصاحبه ويلازمه , ويجذبه إلى ميدان المعركة .
وقد يناقش هل صعود وفرار المسلمين من معركة أحد من الكبائر بلحاظ أن الفرار من الزحف كبيرة ، الجواب لا ، من جهات :
الأولى :صدور العفو من عند الله عز وجل عنهم بدليل قوله تعالى في الآية السابقة [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] ليكون إخبار الله عز وجل عن العفو عنهم واقية من قيام بعضهم في الأجيال اللاحقة بذم الذين فروا ورميهم بفعل الكبيرة لأنهم عصوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أوصى الرماة بعدم ترك مواضعهم ، مع أنه ليس من تساو بين الرماة الذين نزلوا عن مواضعهم والذين فروا من ميدان المعركة .

قوله تعالى[وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]
لقد أخبرت الآية عن صعود فريق من الصحابة الجبل ، والذهاب بعيداً في الأرض المنبسطة من غير أن يلتفت بعضهم إلى بعض ولا ينتظر أحدهم الآخر ، لأن لفظ تصعدون أعم من الإرتقاء والصعود على الجبل فيشمل معنى السير في أرض تعلون وترتفع والذي ذهب وأبعد عن المعركة وتقدم البيان فيه( )، ولكن خاتمة الآية السابقة حاضرة في موضوعها عند الهزيمة بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
بأن يتجلى هذا الفضل بحضور دعوة الرسول لهم وهم في حال الفرار , وفيه مسائل :
الأولى : يفر المؤمنون من وسط المعركة ويصعدون الجبل، ولكن صوت ونداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطرق أسماعهم ، ويصل إلى شغاف قلوبهم .
الثانية : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه المنهزمين من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
ويدرك المؤمنون الذين فروا من المعركة هذا القانون ، لذا بادروا إلى الرجوع للمعركة , وشاركوا في القتال , ودفع وإزاحة الذين كفروا .
الثالثة : إفادة التغيير في سير المعركة بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من أسرار خصائص ومعاني الوحي فيها ، وتأكيد قانون وهو أن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تذهب هباءً، فلابد من إستجابة وأثر لها .
الرابعة : بعث اليأس في نفوس الذين كفروا ، فحتى لو إنهزم المسلمون وصعدوا الجبل فارين , فان دعوة النبي في أخراهم علة تامة لرجوعهم إلى ميدان المعركة والإستبسال في القتال .
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : ولا تلوون على أحد قبل دعوة الرسول لكم .
الثاني : ولا تلوون على أحد فجاءت دعوة الرسول لتلتفتوا إلى حالكم وتتداركوا الأمر بالعودة إلى القتال .
الثالث : لولا دعوة الرسول لكم لبقيتم لا تلوون على أحد .
الرابع : والرسول يدعوكم في أخراكم لتستديروا، وتلتفتوا إلى ميدان المعركة ، وتسمعوا النداء ، وتتناجوا بينكم للدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته.
الخامس : لا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم ، وهذا الوجه هو سياق آية البحث ومعناه أنكم لا تلتفتون إلى أي أحد أثناء الفرار , ويحتمل مسائل :
الأولى : دعوة الرسول لم توقف فرار المسلمين .
الثانية : دعوة الرسول سبب لوقف الفرار .
الثالثة : التفصيل إذ ترشح عن هذه الدعوة أمور :
أولاً : الذي عاد وترك الفرار وموضعه .
ثانياً : الذي لم يتوقف عن الفرار حتى مع دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً : من صرف نية الفرار بعد أن كان ناوياً محاكاة الفارين .
والصحيح هو الثانية , وأولاً من الثالثة أعلاه .
لقد كانت دعوة الرسول سماوية نبوية فتجلت منافعها في الحال . وإجتمع الصحابة حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو مما لم يذكر في الآية , ولكنه يستقرأ من نظمها ودلالاتها .
فقد أحاط جيش الذين كفروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإرادة محو النبوة ووقف التنزيل وهدم صرح التشريع بقتله ، وفي سلامته بيان للأسرار الملكوتية في شخصه الكريم ، وأن الإيمان كله إرتكز في تلك الساعة على سلامته وحفظه فتوجه إلى أصحابه يناديهم (إلي عباد الله ) ففي الرجوع إلى النبي تعاهد وحفظ لعبادة الله في الأرض لتكون دعوة النبي لأصحابه يوم أحد بالرجوع إلى المعركة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
السادس : ولا تلوون على جريح من المؤمنين يحتاج إعانتكم وهل يمكن القول بأن تقدير الآية : ولا تلوون على شهيد في المعركة، الجواب لا ، لأن القدر المتيقن من الآية إرادة الأحياء , إلا أن يراد الإقتداء بهم , والبطش بقاتليهم .
السابع : ولا تلوون على أحد من الكفار فتقتلوه، وقد صدقكم الله عز وجل وعده وجعلكم [تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ].
الثامن : ولا تلوون على أحد جريح من الذين كفروا فتجهزون عليه.
التاسع : ولا تلوون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه الكريم وحضوره في الميدان ولزوم الذب عنه إذ يشمله لفظ [أَحَدٍ] الوارد في الآية .
ليكون قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] من مصاديق حث المؤمنين على عبادة الله والناس من ورائهم بالواسطة والتبعية لأن في رجوع المسلمين وإستجابتهم لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعظيماً لشعائر الله وحفظاً لميراث النبوة ، وبرزخاً دون فخر الذين كفروا أو بلوغهم أسباب النصر .
لقد جعل الله عز وجل من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة لثبات المسلمين في معارك الإسلام اللاحقة ، وإتقانهم لصيغ التدارك في القتال .
العاشر : والرسول يدعوكم في أخراكم لتلتفتوا إلى الذين كفروا وكيف أنهم في حال رعب وفزع , [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
(عن مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ يَقُولُ سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ وَقَدْ انْكَشَفَ النّاسُ إلَى الْجَبَلِ وَهُمْ لَا يَلْوُونَ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَيَقُولُ إلَيّ يَا فُلَانُ إلَيّ يَا فُلَانُ أَنَا رَسُولُ اللّهِ فَمَا عَرّجَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ عَلَيْهِ وَمَضَيَا) ( ).
وفي الحديث شاهد على أن نداء ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت على أقسام :
الأول : دعوة المؤمنين على نحو العموم المجموعي بالعودة للقتال بقوله ( إلي عباد الله ) .
الثاني : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للفرد منهم بالاسم وعلى نحو التعيين .
الثالث : نداء ودعوة النبي للمتحد والمنفرد من المؤمنين سواء بالاسم أو بالدلالة والإشارة والقرينة .
وجاء لفظ (أحد) بلغة التنكير من غير تعريف وتعيين , وفيه وجوه :
الأول : إرادة الصحابة الذين ينادون المنهزمين بالرجوع.
الثاني : عدم التفات المسلمين المنهزمين إلى الذين كفروا في هجومهم وفتكهم بالمسلمين، كما لو كانوا في حال غضب وإستحياء.
الثالث : عدم الإلتفات إلى أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار الذين يقاتلون حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين يديه، الذين صبروا على القتال ولم ينسحبوا عن مواضعهم، أو إنسحب بعضهم إلى موضع آخر يقاتل فيه.
الرابع : المقصود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن المسلمين المنهزمين لا يلتفتون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ عموم لفظ أحد، وفي التنزيل في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
الخامس : عدم الإلتفات إلى حال المعركة وكيفية سير القتال، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان، ولم ينهزم، فاذا أدرك الجندي أن القائد يقاتل وسط المعركة فانه قد يرجع إليها، أما بالنسبة للمؤمنين فانهم إذا علموا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي يرزق ويقاتل وسط الميدان فانهم يعودون للقتال.
السادس : إرادة وصف حال المؤمنين وهم منهزمون , فمن الناس من ينهزم بإنتظام ووفق قواعد وأقل الخسائر مع الإلتفات يمنة ويسرة، ومنهم من ينهزم وهو يستمع للكلام ومستعد للرجوع للمعركة مع الراجح والسبب .
فبينت الآية أن إنهزام المؤمنين على نحو السالبة الكلية ومن غير أمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم, ولا إنتظام أو راجح .
السابع : جمع المسلمون الذين إنسحبوا بين أمور في الجملة :
أولاً : الإنسحاب السريع مع بذل الجهد والمشقة، وهو من أسرار لفظ(تصعدون) لما في صعود الجبل ونحوه من المشقة.
ثانياً : سماع دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع, وهجر الفرار .
ثالثاً: الرجوع إلى الميدان عند سماع نداء الرسول .
وتقدير الآية على وجوه:
الأول : ولا تلوون على أحد يدعوكم إلى الرجوع , حتى دعاكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : ولا تلوون على أصحابكم الذين إنسحبوا معكم.
الثالث : ولا تلوون على الذين جعلهم معكم في ذات الوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : ولا تلوون فترون حال الفزع والخوف الذي يتغشى الذين كفروا.
الخامس : ولا تلوون على أحد يدعوكم للقتال في سبيل الله.
والمراد من معنى (أحد) في الآية وجوه :
أولاً : إرادة التنكير والعموم بدليل عدم ورود صيغة من صيغ التعريف .
ثانياً : المراد من لفظ (أحد) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وفي التنزيل [وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ] ( ).
ثالثاً : المقصود الصحابة الذين بقوا يقاتلون في الميدان ويدفعون العدو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : المقصود من (أحد) في الآية المعنى الإجمالي لما يحدث في ميدان المعركة .
خامساً : الآية كناية عن حصر الذين إنهزموا , والغاية توثيق الفرار والهزيمة ، أي أنهم جعلوا همهم طلب النجاة بالفرار ، لذا يأتي في الآية التالية قوله تعالى [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] ( ).
سادساً : المراد من (أحد) أفراد العدو ، وزحفهم وإرادتهم الإجهاز على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن معه من المؤمنين ، وبيان حقيقة وهي أن الأصل هو الثبات في الميدان وقتالهم بعد أن تفضل الله عز وجل وألقى الرعب في قلوبهم .
سابعاً : دعوة الذين إنهزموا للإلتفات إلى المعركة ، ورؤية الذين كفروا، وتجلي مصداق لإلقاء الرعب في قلوبهم بأن صاروا عاجزين عن اللحاق بالمنهزمين من المؤمنين مع كثرة أفراد العدو بينما لاحقهم المسلمون في معركة بدر وأفشوا فيهم القتل وأسروا سبعين منهم .
ثامناً : الآية وصف بياني لحال الذين إنهزموا من المؤمنين كما لو كان يقال مثلاً : لا يعلمون بـ (أحد) لوصف الهارب والفار بإنشغاله بنفسه وجلده .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث لأصالة الإطلاق وتعدد معاني اللفظ القرآني .
ورد لفظ [أحد] في آية البحث على نحو التنكير , وعدم التعيين ، وفيه وجوه:
الأول : إرادة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( )لتبين آية البحث حقيقة , وهي أن المنهزمين لم يلتفتوا إلى وجوب الدفاع والذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : ولا تلوون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : ولا تلوون على الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : ولا تلوون على ما يصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجراحات والكلوم .
الثاني : إرادة أهل البيت والصحابة الذين بقوا يقاتلون في الميدان , وكيف أنهم يذبون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : ولا تلوون على المؤمنين الذين ثبتوا في مواضعهم التي عينهم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ) .
الرابع : ولا تلوون على الذين كفروا , ووجوب دفعهم وقتالهم ، قال تعالى [فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ]( ).
الخامس : ولا تلوون على المؤمنين الذين أصيبوا بالجراحات الشديدة .
السادس : ولا تلوون بعضكم على بعض أي لم يلتفت المنهزم إلى صاحبه , ولم يستحضروا وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتفضل الله عليهم بالتدارك بدعوة الرسول لهم بالرجوع بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] لتكون من معاني دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المناجاة بين المنهزمين والذين صعدوا الجبل للرجوع إلى ميدان القتال ليصبح عليهم أمناً وسكينة كما صارت النار [بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) بدليل أنه لم يتجدد القتال بعد عودتهم إلى ميدان المعركة .
ولتأتي الآية لتخبر عن نزول النعاس أمنة عليهم من عند الله عز وجل بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ] .
ليكون من معاني التراخي في الحرف (ثم) الذي إبتدأت بها الآية التالية وجود فترة بين دعوة الرسول للمنهزمين ليعودوا إلى ميدان المعركة والفوز بنعمة النعاس أمناً وحفظاً .
وهل يأتي النعاس إلا على الذي صار في حال أمن ودعة.
ويمكن تقسيم حال المسلمين يوم معركة أحد إلى قسمين:
الأول : الذين ساروا الى ميدان المعركة مع رسول الله صلى الله وآله وسلم وأخذوا مواضعهم في القتال عند إلتقاء الصفين وعددهم سبعمائة رجل.
الثاني : الذين إنسحبوا من وسط الطريق، بأثر وإغواء رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول وعددهم ثلاثمائة .
وهل كل الذين إنخزلوا معه منافقون مثله , الجواب لا دليل عليه، ولكنهم إتبعوه إفتناناً بما يقول , ولمقامه كرئيس للخزرج , لينقطع سلطان هذه الرئاسة يومئذ , وفيه شاهد وبيان لضرر المنافق على الإسلام، ليكون من إعجاز القرآن التحذير من المنافقين وإنذارهم من شدة عذابهم في الآخرة , قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ]( ).
لقد تفضل الله عز وجل ونهى رسوله الكريم عن طاعة المنافقين , وفيه زجر للمسلمين من طاعة المنافقين، لذا عجز المنافقون عن التأثير على المؤمنين عند التوجه إلى القتال , فلم تشهد معركة بعد واقعة أحد في السنة الثالثة للهجرة رجعت طائفة من المسلمين بتحريض من المنافقين.
وبلحاظ وقوع القتال بين المسلمين والذين كفروا وإستمرار هذا القتال وترك الرماة مواضعهم ينقسم القسم الأول إلى أقسام:
الأول : طائفة ثبتت تقاتل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتصبح على قسمين :
أولاً : الذين سقطوا شهداء مثل مصعب بن عمير.
ثانياً : الذين أصيبوا بالجراحات البالغة مثل الإمام علي عليه السلام وطلحة وأم عمارة.
الثاني : طائفة إنهزمت عندما جاء العدو من خلف جيش المسلمين , وهذه الطائفة على أقسام :
الأول : الذين بادروا إلى الرجوع إلى ميدان المعركة حالما سمعوا دعوة الرسول بقوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] ومنهم الذين تناجوا بمواصلة القتال عندما سمعوا إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : أفراد إنهزموا، ولم يرجعوا في ميدان المعركة ولم يرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد ثلاثة أيام ومنهم الوليد بن عقبة الذي نزل فيه فيما بعد قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]( ).
وقد قاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد , وعن علي عليه السلام: كان للنبى صلى الله عليه وآله وسلم فرس يقال له المرتجز، وحمار يقال له عفير، وبغلة يقال لها دلدل، وسيفه ذو الفقار، ودرعه ذو الفضول( ).
وذكر أن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسعة سيوف منها ذو الفقار، والبتار والقعلي والمحذم , والقضيب وذكر أنه أول سيف تقلده النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وله سيف تركه له والده.
وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة أرماح منها المتثني
وله درعان صارا إليه من غنائم بني قينقاع اسم أحدهما السعدية والآخر فضة.
وعن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيف قائمته وقبيعته من فضة ، كان يسمى ذا الفقار، وكان له قوس تسمى السداد وكانت له كنانة تسمى الجمع، وكانت له درع موشحة بالنحاس تسمى ذات الفضول .
وكانت له حربة تسعى السغاء، وكان له مجن يسمى الذقن، وكان له ترس أبيض يسمى الموجز ، وكان له فرس أدهم يسمى السكب، وكان له سرج يسمى الداج، وكان له بغلة شهباء يقال لها دلدل .
وكانت له ناقة تسمى القصواء، وكان له حمار يقال له: يعفور، وكان له بساط يسمى الكر ، وكان له نمرة تسمى النمر، وكانت له ركوة تسمى الصادر، وكانت له مرآة تسمى المرآة .
وكان له مقراض يسمى الجاح، وكان له قضيب شوحط يسمى الممشوق ( ).
وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيف ذي الفقار يوم أحد للإمام علي عليه السلام.
وذكر ( أن ريحاً هبت يوم أحد فسمعوا قائلاً يقول :
لَا سَيْفَ إلّا ذُو الْفَقَارِ … وَلَا فَتَى إلّا عَلِيّ( ).
بحث أصولي
من القواعد الأصولية أن النكرة إذا جاءت في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الإستفهام فإنها تدل على العموم كما في قوله تعالى[يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا]( )، فإن العموم في معاني النكرة يتجلى في الآية أعلاه بوجوه:
الأول : إنتفاء الملك لأي نفس في الآخرة , ويدل عليه قوله تعالى[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
الثاني : إرادة إنعدام الملك والنصرة والشفاعة لأي نفس سواء كان إنساناً أو غيره.
الثالث : عجز أي نفس عن الحصول على شفاعة أو نصرة أو تعضيد من أي من أهل المحشر يوم القيامة، إلا أن يشاء الله سبحانه, وكل فرد مشغول بنفسه ، قال تعالى بخصوص الذين ظلموا [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ) .
الرابع : التنكير في لفظ (شيئاً) ليشمل ما هو موجود وما معدوم، ونفي ما يرد في التصور الذهني في الحياة الدنيا، ليكون إنقطاع الناس إلى الله سبحانه رجاء رحمته في الدنيا والآخرة.
ونفت الآية ملك أو فعل أي نفس لنفس أخرى في الآخرة، فهل تخرج ذات النفس بالتخصص أو التخصيص، وهل تكون مستثناة من النفي، فيقال: يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً إلا نفسها).
الجواب لا، وهو من صيغ التنكير والعموم في الآية أعلاه بأن يشمل لفظ النفس ذات النفس الإنسانية ، وتقدير الآية ( يوم لا تملك نفس لذاتها شيئا ) ويدل عليه قوله تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
ويتحلى العموم في صيغة التنكير , إذ كانت تصدق على القليل والكثير، والصغير والكبير، كما في آية البحث بقوله تعالى(على أحد) وكذا إذا كانت النكرة ملازمة للنفي، وهو الذي يتجلى في لفظ (أحد) في الآية .
ويستدل في علم الأصول بذات لفظ (أحد) لبيان النفي مثل(ما بالدار من أحد) ومنهم من أنكر الإطلاق في إفادة النكرة في سياق النفي العموم.
وأختلف في إرادة العموم في حالتين:
الأولى : إذا كانت النكرة مرفوعة بعد (لا) العاملة عمل ليس نحو (لا طالب في الدرس).
الثانية : إذا جاء نفي النكرة بغير لا، ومن غير حرف الجر مثل (ليس في الدرس طالب) .
ومن أبهى القوانين في هذا الباب كلمة التوحيد لا إله إلا الله وما فيها من النكرة التي تنفي أي معبود غير الله.
وتفيد آية البحث ولفظ [على أحد] منها العموم ولكنه لم يستمر في أفراده لموضوعية دعوة الرسول لهم للعودة إلى ميدان المعركة , ومن اللطف الإلهي في الآية أنها قدمت الصعود بقوله تعالى [إذ تصعدون] على [لا تلوون] وفيه مسائل :
الأولى : الصعود فعل وحركة وإنتقال في المكان أما عدم الإلتفات فمصاحب له .
الثانية : بيان ما أصاب المسلمين من الخوف باجتماع أمرين وهما الفرار وعدم الإلتفات .
الثالثة :تأديب المسلمين وحثهم على لزوم الإلتفات .
ورصد حال المعركة وسير القتال وطرو الغفلة عنهم .
الرابعة : تتضمن آية البحث دروساً عسكرية , وتعليم المسلمين فنون القتال , وفيه مسائل :
الأولى : موضوعية الإستعداد للمعركة والتهيء للقاء العدو كما في آية [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
الثانية : تجلي موضوعية الوحي في السنة الدفاعية , وحال القتال .
الثالثة : الهداية إلى كيفية إبتداء المعركة وهي وجهين :
أولاً : عدم مبادرة المسلمين لبدء القوم بالقتال لإتمام الحجة ، وهل هو قاعدة كلية في كل زمان ومكان بأن لا يبدأ المسلمون القتال الجواب لا ، فيجوز أن يبدأوا القتال والإغارة للتباين وللتبدل النوعي في وسائل وكيفية القتال ولقيام الحجة على الناس في السنوات الأولى للإسلام ، ولأن الحرب خدعة , وقد يكون لعمومات وجود المقتضي وفقد المانع وللأمن والسلامة من ضربة الحمامة أي الهجوم المباغت للعدو .
ثانياً : مبادرة المسلمين بالزحف والهجوم بعد إبتداء المعركة بالمبارزة ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ].
الرابعة : مرحلة إستعداد الذين كفروا للهروب عائدين بذل وهوان إلى مكة مع ترك مؤنهم وكان معهم سبعمائه بعير لنقل المؤون والعتاد ، وسبعمائه درع قيمتها أكثر من خمسين ألف دينار ، ذهب ،وكل مثقال ذهب عيار ثمانية عشرة حبة .
الخامسة : معصية الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء في مواضعهم ونزولهم إلى المعركة للإستحواذ على حصة من الغنائم ، ومجئ العدو من خلفهم ، إذ كان الرماة يمنعون الخيل من التقدم لأنها تصد وتقف عند رميها بالسهام والرماح .
السادسة : حصول الأنكسار عند المسلمين ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية ، أن الكفار حينما إنهزموا ليس هناك من يرجعهم إلى الميدان ، أو فئة يلجأون إليها ، ويجتمعون عندها ، فقد أرادوا يوم أحد الهيام على وجوههم كما فعلوا يوم بدر حيث المسلمون يلاحقونهم بالسيوف ويحشرونهم للأسر لولا ترك الرماة لمواضعهم ، أما المسلمون فحينما أنكسروا لم يفروا على وجوههم بل صعدوا الجبل القريب بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] .
ومن خصائص هذا الصعود ترقب سير المعركة والبقاء بالقرب منها ، ورجاء الإجتماع والإجهاز على العدو ، فان قلت ينخرم هذا الأمر بقوله تعالى [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] الجواب لا ، من وجوه :
الأول : القدر المتيقن من الواو في الآية الجمع بين حال الصعود وعدم الإلتفات ، أما إذا إستقروا على الجبل , فالأمر مختلف.
الثاني : لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين فلم تصل الحال بهم إلى الإستقرار على الجبل ومواضع الفرار والبعد عن ميدان المعركة بل جاءهم النداء المتكرر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع إليه .
الثالث : تسليم المسلمين بأن ما يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي سواء كان أمراً أو نهياً ،وإقرارهم بأن في العودة إليه خير الدنيا والآخرة .
الرابع : مبادرة المسلمين للرجوع إلى ميدان المعركة إستجابة لنداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإلتفات حوله .
وتقدير آية البحث : والرسول يدعوكم في أخراكم فاستجبتم لدعوته ورجعتم إلى المعركة .
الخامس : تعقب الثواب والأجر لعودة المسلمين إلى المعركة .
السادس : إخبار الآية التالية عن توالي النعم على المسلمين لعلم الله عز وجل بما يفعلون مع الغم وصرف الحزن , فرزقهم النعاس أمنة وسلاماً .
قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]
تنقسم (أل) إلى قسمين :
الأول : أل (العهدية ) والمراد منها فرد واحد معهود بالذكر أو بالقرينة والدلالة ، وهي على أقسام :
أولاً : العهد الذكري وهو الذي سبق لمصحوبها ذكر في ثنايا الكلام فتنصرف إليه، كما في قوله تعالى [كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ]( )، إذ ذكر الرسول والمراد منه موسى عليه السلام .
ثانياً : العهد الذهني , وفيه تعيين لمصحوبها والإنصراف الذهني، فما أن يسمعه السامع حتى ينصرف ذهنه إليه ، كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ) لإرادة فريضة الصلاة بقيامها وركوعها وسجودها .
ثالثاً : العهد الحضوري ، وهو ما يكون مصحوباً معهود ذهناً فعندما يسمع يتبادر إلى الذهن ذات المقصود .
رابعاً : إرادة المعنى الأعم الجامع للوجوه أعلاه خاصة وأن هذا التقسيم إستقرائي ، فقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ]( )يدل على إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من لفظ [النَّبِيُّ] في الآية أعلاه .
الثاني : أل الجنسية، وهي التي تدخل على اسم مجمل غير معين , وهي على شعبتين :
الأولى : آل الإستغراقية، وهو ما تصح مرادفة (كل) لها أي أنها تشمل أفراد الجنس كلها حقيقة كما في لفظ الإنسان في قوله تعالى[خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ]( ).
الثانية : آل التي تستغرق الجنس مجازاً وقيل أن الألف واللام في كلام العرب أربعة عشر قسماً، على التفصيل، بالمتفق عليه والمختلف فيه. وهي: العهدية، والجنسية، والتي للكمال وهي نوع من الجنسية، والتي للحقيقة، والتي للحضور، والتي للغلبة، والتي للمح الصفة، والزائدة اللازمة، والزائدة للضرورة، والتي هي عوض من الضمير، والتي هي عوض من الهمزة، والتي للتفخيم، وبقية الذي، والموصولة وكلها عند التحقيق راجعة إلى ثلاثة أقسام: معرفة وزائدة وموصولة( ) .
ويراد منها خصائص الجنس، ما في قوله تعالى[وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( )، أي من حقيقة وسنخية الماء وليس من كل شئ إسمه ماء ومنهم من جعل آل الجنسية ثلاثة أنواع أو أكثر.
أما بالنسبة لآية البحث فيدل لفظ [الرَّسُولُ] على إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين من جهات :
الأولى : موضوع وسبب نزول آية البحث وهو واقعة أحد .
الثانية : لغة الخطاب في آية البحث ، وعطفها على نداء التشريف للمسلمين قبل أربع آيات , وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ) وفيه وجوه :
أولاً : إستدامة إكرام المسلمين في الخطاب القرآني حتى في حال الإنسحاب والتقهقر .
ثانياً : من ضروب علة إخبار آية البحث عن تراجع طائفة من المسلمين وصعودهم الجبل هو الهداية والإرشاد والتعليم ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) الجواب نعم.
ومن مصاديق قوله تعالى ( والرسول يدعوكم في أخراكم ) وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم بأن الرعب ملأ قلوب الذين كفروا.
الثاني : والرسول يدعوكم في أخراكم بأن الذين كفروا يستعدون للهزيمة للملازمة بين إمتلاء القلب بالرعب وبين الإنهزام.
الثالث : والرسول يدعوكم في أخراكم بأن في رجوعكم وعودتكم السلامة والأمن في الدنيا والآخرة .
الرابع : والرسول يدعوكم في أخراكم بأن الذين كفروا سينهزمون ويولون الدبر حالما يرون رجوعكم إلى ميدان المعركة .
الخامس : والرسول يدعوكم في أخراكم ليتم النصر في معركة أحد كما تم يوم بدر .
السادس : والرسول يدعوكم في أخراكم للفوز بالذب عن النبوة والتنزيل ، وفيه شرف الدنيا والآخرة .
السابع : والرسول يدعوكم في أخراكم لحرمة الفرار من الزحف ، ويذكركم بأنه في وسط الميدان .
الثامن : والرسول يدعوكم في أخراكم للإجهاز على الذين كفروا .
التاسع : والرسول يدعوكم في أخراكم لأن [اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( ).
العاشر : والرسول يدعوكم في أخراكم بأن لا مولى للذين كفروا .
الحادي عشر : والرسول يدعوكم في أخراكم ) ، ويجب تلبية دعوة الرسول والإستجابة لها , لأنها فرع الوحي ، لذا ورد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية البحث بصفة الرسول (عن أبي سعيد المعلّى عن أُبيّ بن كعب قال : كنت أُصلي فناداني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم أجبه، فلما صلّيت أتيته،
فقال : ما منعك أن تجيبني؟
قلت : كنت أُصلي،
قال : أولم يقل الله : {يا أيها الذين آمنوا إستجيبوا لله وللرسول} الآية.
ثمّ قال : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن نخرج من المسجد فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن.
قال : نعم ، الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت) ( ).
الثاني عشر : والرسول يدعوكم في أخراكم بأن الملائكة نزلوا مدداً وعوناً لكم، ومن يكن الملائكة مدداً لهم لن يضرهم العدو بأنفسهم ودينهم، وهو من مصاديق قوله تعالى في خطاب للمسلمين [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وتبين الآية حقيقة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجمع بين أمور :
الأول : الثبات في موضعه وسط المعركة .
الثاني : الصبر وتحمل الجراحات الشديدة في رأسه ووجهه الشريف .
الثالث : الدعاء وسؤال النصر من عند الله ، وإلتماس تنجز وعده بالنصر .
الرابع : دعوة الصحابة الذين فروا للرجوع إلى ميدان المعركة.
الخامس : توجيه الذين يقاتلون حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البيت والصحابة في الرمي والمبارزة ودفع الأذى ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) الإستدامة في موضوع الآية أعلاه وأن قيام النبي بتعيين مواضع أصحابه لم ينحصر بمقدمات القتال أو بداية المعركة ، بل كان يبين مقاعدهم في القتال طيلة ساعات المعركة وهو من أسرار إمامته ، وتوظيف الوحي في ميدان المعركة بما يبث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا ، ويكون تقدير الآية قبل السابقة : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بأمور :
أولاً : ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه في المعركة .
ثانياً : دفاع أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وسقوطهم شهداء بين يديه وأصابت الإمام علي عليه السلام ست عشرة ضربة ، وعن الإمام الباقر عليه السلام : أصاب علي عليه السلام يوم أحد ستون جراحاً.
ودافع سبعة من الصحابة دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قتلوا جميعاً وآخرهم عمارة بن يزيد بن السكن ، وقاتل طلحة ( حتى ضربت يده فقطعت أصابعه فقال طلحة حس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو قلت باسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون) ( ).
ثالثاً : عدم نيل الذين كفروا لما طلبوا عند جمعهم الجيوش، وعجزوا عن الغايات الخبيثة التي قصدوها من وراء هجومهم ، وهل يقال أنهم رجعوا بخفي حنين , الجواب إنما رجوعهم أخزى من هذا المثل لقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
إن عجز المشركين عن تحقيق أي غاية من الغايات التي زحفوا من أجلها سبب لإمتلاء قلوبهم بالرعب والفزع لتترشح عنه أمور :
الأول : إمتلاء نفوس الذين كفروا باليأس .
الثاني : ظهور التلاوم بين الذين كفروا وذم بعضهم لبعض .
الثالث :عزوف القبائل عن نصرة قريش في حربها على الإسلام .
الرابع : إدراك الناس لحقيقة وهي أن عجز قريش عن تحقق النصر مع بذلها الوسع في الإعداد والتخطيط والتعبئة والتجهيز والقيادة والمؤون والعدة والسلاح معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للناس لدخول الإسلام .
فجاءت آية البحث لبيان حقيقة وهي إذا كان كفار قريش قد خابوا في معركة أحد فأنهم لا يستطيعوا تحقيق نصر على المسلمين ، إذ أنها تحث المسلمين على الصبر في الميدان وتغلق الباب أمام فرارهم وإنسحابهم من الميدان ، لتخبر بالدلالة التضمنية على أن معارك الإسلام لن تقف عند معركة أحد، وأسباب الفرار لا تختص بها ، فلابد من الإحتراز من الفرار والهزيمة وإن حدثت أسباب أخرى لها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الْحَرْبُ خَدْعَة) ( ) لبيان حقيقة من جهتين :
الأولى : تنمية ملكة الإحتراز عند المسلمين , وإتقانهم فنون القتال .
الثانية : لزوم إعتماد المسلمين الخدعة والتورية والإستدراج ونحوه في الحرب من جهات :
الأولى : مقدمات القتال .
الثانية : عند إبتداء المعركة .
الثالثة : أثناء المعركة وإشتداد القتال .
الرابعة : بعد إنتهاء المعركة ، وكون الحرب خدعة لم يمنع من قانون الوعظ ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفراد العدو إلى الإسلام ونبذ الشرك ومفاهيم الضلالة ، وإتخذ هذا الفعل صيغة القانون لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر به أمراء السرايا ويحذرهم من البدء بالقتال قبل النصح والإرشاد ، وملأ أسماع العدو بذكر الله ومعاني التوحيد التي تنفذ إلى شغاف القلوب طوعاً وقهراً .
وهل هي من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( )، الجواب نعم ، لبيان أن الرعب يأتي مع الشرك إبتداء وإستدامة، فما دام الكافر متلبساً بالكفر والجحود فان الرعب يغزو قلبه ولن يفارقه إلا في أحدى حالتين :
الأولى : التوبة والإنابة من الشرك والضلالة .
الثانية : الموت ومفارقة الروح الجسد، وهل دعوة الرسول لأصحابه بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] من مصاديق قوله صلى الله عليه وآله وسلم (الْحَرْبُ خَدْعَة) ( ) .
الجواب تترشح عن هذه الدعوة أسباب الخدعة بعودة الصحابة للقتال ومواصلته ومفاجأة الذين كفروا ببذل الصحابة الوسع في الدفاع والإخلاص في الجهاد .
وتتضمن الآية أطرافاً :
الأول : نداء دعوة الرسول .
الثاني : مضمون الدعوة بالعودة إلى القتال وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (إلَي عِبَادِ اللّهِ أَنَا رَسُولُ اللّهِ) ( ) .
الثالث : الذين يتلقون الدعوة وهم الذين إنهزموا من المعركة .
وظاهر الآية الكريمة أنهم يسمعون الدعوة ولكنهم كانوا مسرعين في فرارهم ليكون من بركات هذه الدعوة إزالة الخوف عن نفوسهم وجعلهم يعزمون على العودة إلى القتال وإن أبطأوا في الرجوع ، فانهم في معركة حنين لم يبطئوا بالعودة إلى القتال مع أن مباغتة جنود هوازن وثقيف كانت أشد وادهى ، فلم يلبث الصحابة أن إنهزموا .
ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا نحو عشرة من أهل بيته وأصحابه وطلب من عمه العباس أن يناديهم ، وكان جهوري الصوت.
وعن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم حنين حين رأى من الناس ما رأى: ” يا عباس ناد: يا معشر الانصار يا أصحاب الشجرة ” فأجابوه: لبيك لبيك.
فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك فيقذف درعه عن عنقه ويأخذ سيفه وترسه ثم يؤم الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة، فاستعرض الناس فاقتتلوا، وكانت الدعوة أول ما كانت للأنصار، ثم جعلت للخزرج، وكانوا صبرا عند الحرب، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال: الآن حمى الوطيس.
قال: فو الله ما راجعه الناس إلا والاسارى عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكتفون، فقتل الله منهم من قتل، وانهزم منهم من انهزم، وأفاء الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أموالهم وأبناءهم) ( ) فهل من موضوعية لآية البحث وقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] في إجابة المهاجرين والأنصار لنداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة عمه العباس يوم حنين (لبيك لبيك) .
الجواب نعم ، وهو من إعجاز آية البحث الغيري ، وفيه دعوة للعلماء في الأجيال المتعاقبة أن لا يقضوا في تفسير الآية بلحاظ سبب نزولها وموضوعها ومعاني كلماتها بل لابد من التحقيق في النتائج الحميدة التي تترشح عن الآية الكريمة من وجوه :
الأول : أثر نزول الآية .
الثاني : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمضامين الآية وتفسيرها .
الثالث : تلقي المسلمين للآية عند نزولها بالقبول ، وتناقلهم وتبادلهم وتدارسهم لها .
الرابع : تلاوة المسلمين للآية القرآنية .
الخامس : صيرورة الآية القرآنية حكماً وملاكاً للفصل والقضاء.
السادس : إتخاذ المسلمين الآية القرآنية حجة وبرهاناً .
السابع : تجلي منافع الآية في الدنيا والآخرة .
الثامن : الآية القرآنية إمام ورائد ولواء هدى .
التاسع : إستحضار المسلمين للآية القرآنية عند حلول أو طرو أمر وموضوع يتعلق بمضامينها ، وهو من أسرار قراءة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة، فيقرأون الآية في الصلاة اليومية لتكون حاضرة في الوجود الذهني ساعة حدوث أمر يتعلق بموضوعها أو الأحكام والسنن التي فيها.
لقد قام بعض أهل الملل السابقة بتحريف التنزيل وكتب سماوية سابقة، قال تعالى [يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ] ( ).
وجعل الله عز وجل آيات القرآن في عصمة من التحريف والتبديل والتغيير، والقرآن باق برسمه وترتيب سوره وآياته إلى يوم القيامة، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة خمس مرات كل يوم وعلى نحو الوجوب العيني ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
وتبين آية البحث حفظ وعصمة السنة النبوية الدفاعية من التحريف بقوله تعالى [يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ].
وذكرت الآية دعوة الرسول لأصحابه , ومضمون دعوة الرسول على وجوه محتملة :
أولاً : إرادة تذكير الصحابة بأنه حي يرزق .
ثانياً : الدعوة للإغارة على العدو .
ثالثاً : دعوة الرسول لأصحابه لحس وقتل الذين كفروا بإذن الله ، ولو تردد الأمر في الإذن الإلهي بين رفعه عندما تحولت الريح والجولة ضد المؤمنين وبين بقائه وإستدامته، فالصحيح هو الثاني فمع فرار شطر من المسلمين فان الإمام علي وفريقاً من الصحابة من المهاجرين والأنصار ثبتوا وسط الميدان يقتلون ويحسون الذين كفروا , ويذبون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليحتسبه الله عز وجل ثباتاً للصحابة بفضله , وينزل الفيوضات والعفو عنهم جميعاً.
رابعاً : إستقراء معاني دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ التقييد الوارد في ذات الآية بقوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ].
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق ودلالات آية البحث ، وقد تقدمت وجوه أخرى في ذات الموضوع ومعاني دعوة الرسول .
ولم تذكر الآية أثر هذه الدعوة عند الصحابة، وفيه وجوه :
أولاً : سماع الصحابة المنسحبون دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالعودة وكان يقول لهم ( إلي عباد الله)( ) مما يعني لغة الخطاب وجود السامع مع المتعدد ، بدليل صيغة الجمع فيها ، مع دعوته للأفراد بالاسم يا فلان وبالذات من غير تعيين الإسم.
ثانياً : إستجابة الذين سمعوا الدعوة لنداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : لم يسمع دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا شطر من الصحابة , وفيه مسألتان :
الأولى : رجوع جميع الذين سمعوا الدعوة .
الثانية : رجوع قسم ممن سمع دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : لم يرجع الذين سمعوا دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال , خاصة وأن الآية تقول [إِذْ تُصْعِدُونَ] .
خامساً : إستجاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين سمعوا الدعوة والذين لم يسمعوا إذ تناجوا بينهم بالرجوع والعودة إلى ساحة المعركة، خاصة وأن القتال توقف بعد دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى المعركة.
والمختار هو الأخير وهو المستقرأ من قوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] ومن مضامين هذه الآية وقوله تعالى في الآية التالية [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] ( ) ، ولا عبرة بالقليل النادر الذي إبتعد عن ساحة المعركة .
وتقدير آية البحث : والرسول يدعوكم في أخراكم فرجعتم وعدتم ) وهل يمكن تقدير الآية بالنفي وتقديرها على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم في أخراكم فتصعدون .
الثاني : والرسول يدعوكم في أخراكم ولا تلوون على أحد ) الجواب لا ، ليكون من دلالات نظم آية البحث ذكرها لدعوة الرسول بعد الإخبار عن الصعود والإنسحاب وعدم الإلتفات فيصح تقدير الآية على وجهين :
الأول : والرسول يدعوكم فصرتم لا تصعدون .
الثاني : والرسول يدعوكم فهجرتم حال عدم الإلتفات للنداء وسير المعركة .
وتحتمل الواو في [وَالرَّسُولُ] وجوهاً :
الأول : إرادة مطلق الجمع وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينادي أصحابه (إلي عباد الله , إلي عباد الله ) وهم ينهزمون غير ملتفتين إلى ندائه وإلى الذين يقاتلون من أصحابهم أو الذين سقطوا قتلى أو الجرحى الذين يحتاجون إلى يد العون والمساعدة .
الثاني : المقصود الترتيب كما قلت : صليت المغرب والعشاء ) فتأتي صلاة العشاء مرتبة بعد صلاة المغرب ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نادى على أصحابه بعد أن رآهم يفرون وينهزمون بدليل قوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ].
الثالث : المعنى الجامع لوجوه من جهات :
الأولى : دعوة النبي لأصحابه حينما رآهم يفرون .
الثانية : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالعودة أثناء فرارهم وإستمرار هزيمتهم .
الثالثة : إستجابة عودة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما سمعوا نداءه ، فليس ثمة فترة بين دعوته وبين إبتداء عودتهم وتوالي رجوعهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ، وبيان مصداق رأفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه بجعلهم يتداركون العودة إلى القتال في صفحة مشرقة تخلد صدق نبوته , وسلامتهم من النفاق والرياء وغلبة حب الدنيا وزينتها .
وعن الإمام علي عليه السلام (كنّا إذا أحمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان أقربنا إلى العدّو إذا اشتدّ الحرب) ( ).
وتدل آية البحث وقوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] في مفهومها على إنتفاء الغضب والسخط من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه الذين إنهزموا من المعركة لدلالة كلمة ( يدعوكم ) على الرأفة والرفق وسنخية النداء .
وقد تقدم في باب الإعراب أن الواو في [وَالرَّسُولُ] حالية( ) ، ويمكن أن تكون أستئنافية وعاطفة ، فهي حالية بلحاظ إقتران دعوة الرسول بعدم ليّ الصحابة المنهزمين أعناقهم إلى الخلف وميدان المعركة ، وهي إستئنافية لإستقلال موضوعها , وما في دعوة الرسول من معاني متجددة وهي عاطفة لأن حال ودعوة الرسول غير حال المنهزمين .
فيدعوهم النبي من ميدان المعركة إلى العودة إليها ، ويدل عليه قوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتبع الذين فروا ، ولم يركض معهم بقصد دعوتهم للرجوع بينما هم يركضون بقصد الفرار من الميدان , فكان يقف في موضعه ويناديهم بحيث يسمعون , ويدل عليه ذات التقيد في [أُخْرَاكُمْ].
ويكون تقدير الآية الكريمة بلحاظ معركة أحد على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم للدفع عنه .
الثاني : والرسول يدعوكم لحفظ ما نزل من القرآن .
الثالث : والرسول يدعوكم لدوام نزول القرآن من عند الله سبحانه .
الرابع : والرسول يدعوكم لقهر الكفر ودحض الكافرين .
الخامس : والرسول يدعوكم لرؤية المعجزة بظهور الرعب الذي يملأ قلوب الذين كفروا على أفعالهم وأقوالهم , ويتجلى بحال الفزع والخوف والرغبة بالإنسحاب من المعركة .
السادس : والرسول يدعوكم لمعرفة سوء عاقبة الذين كفروا وأنهم خالدون في النار , قال تعالى[لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ] ( ).
السابع : والرسول يدعوكم لإبلاغ الذين كفروا بأن عاقبتهم إلى النار ، وصبر المؤمنين في منازل اللقاء من وجوه الإنذار والذم لهم , قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
السابع : والرسول يدعوكم لقتال الذين كفروا لأن مأواهم إلى النار .
الوجه الثالث : من الإعجاز في آية السياق أنها لم تأت بالفاء عند الإخبار عن صيرورة الذين كفروا إلى النار ، فلم تقل الآية (فمأواهم النار ) بل جاءت بحرف العطف الواو ، وفيه وجوه :
الأول : تعدد علة دخول الذين كفروا النار من جهات :
الأولى : إتخاذ الذين كفروا الشرك منهاجاً وسنة .
الثانية : إصرار الذين كفروا على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله ، وهذا المعنى من أسرار إجتماع وصف الكفر والشرك في موضوع متحد في آية السياق ، وتقديرها على وجوه :
أولاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا بنبوة محمد الرعب والفزع.
ثانياً : سنلقي في قلوب الذين كفروا بالقرآن وآياته الرعب .
ثالثاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا بأن الله خبير بما تعملون .
رابعاً : سنلقي الرعب في قلوب الذين كفروا بالبشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة .
خامساً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بالإخبار بأن الله مولاكم .
سادساً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لأن الله هو خير الناصرين .
سابعاً : سنلقي الرعب في قلوب الذين كفروا بأن الله قادر على أن يلقي الرعب في قلوبهم .
ثامناً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لأنهم أشركوا بالله الذي له ملك السماوات والأرض.
تاسعاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لأن مأواهم النار ) ليكون هذا الرعب حجة عليهم في النشأتين .
عاشراً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لأنهم صاروا سبباً لصعودكم الجبل , وفراركم من المعركة .
حادي عشر : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لتثبيت الإيمان في قلوبكم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] ( ).
الثالثة : بيان قانون وهو أن عاقبة الذين كفروا الإقامة الدائمة في النار سواء زحفوا لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لم يزحفوا .
وهل من أثر وموضوعية لقانون ( مأوى الذين كفروا النار ) في هجومهم على المدينة وقتالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الجواب نعم ، لما في قلوبهم من الزيغ والحسد والبغضاء للذين نجوا من النار بأختيارهم الإيمان .
الرابعة : إيذاء الذين كفروا النبي وحصارهم لبني هاشم في شعب أبي طالب لأكثر من سنتين , وسعيهم لقتل النبي محمد صلى الله عيه وآله وسلم في فراشه .
الخامسة : تلقي الذين كفروا دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام بالإعراض والعناد والإستكبار .
السادسة : قيام الذين كفروا بتجهيز الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن آمن بنبوته .
السابعة : من وجوه تقدير آية السياق : ومأواهم النار بما سيرتكبون من المعاصي والسيئات ، وما يقومون به من الهجوم على المدينة المنورة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الثاني : كأن آية السياق تتضمن عطف العام على الخاص والجزاء الآخروي على الفعل في الدنيا .
فالأول هو عطف سوء عاقبة الذين كفروا على إلقاء الرعب في قلوبهم .
وأما الثاني فهو بيان قبح مثوى الذين كفروا وشدة عذابهم بسبب إقدامهم على قتال النبي محمد صلى الله عله وآله وسلم والذين آمنوا .
ومع بذل الذين كفروا الأموال من أجل إرتداد بعض الذين آمنوا فان المسلمين متمسكون بالعروة الوثقى ومبادئ الإسلام ويؤدون الفرائض بشوق وحب لله عز وجل ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في التقييد بقوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] أن آخر الفارين والمنهزمين من ميدان المعركة يسمع نداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أكثر وأوضح مما يسمعه أوائل الذين إختاروا الفرار والهزيمة مع أن صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصل إليهم جميعاً لإرادة العموم في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] وسيأتي مزيد بيان في باب سياق الآيات من الجزء التالي( ) ويمنع قيد [فِي أُخْرَاكُمْ] من العذر والإعتذار بعدم سماع دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد قسمت الآية التالية في منطوقها المؤمنين يوم معركة أحد إلى قسمين :
الأول : الذين نزل عليهم النعاس أمنة .
الثاني : الذين همتّهم أنفسهم وكانوا يظنون بالله غير الحق .
أما آية البحث فقسمتهم في مفهومها ودلالتها إلى قسمين :
الأول : الذين ثبتوا في مواضع القتال .والذين فروا لاحقتهم دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لجذبهم وإعادتهم إلى ميدان المعركة ، أما الذين همتهم أنفسهم فقد جاءت الآية التالية بذمهم والأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجدالهم وإقامة الحجة عليهم .
قوله تعالى[فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ]
الباء هنا بمعنى (على) وتقدير الآية غماً على غم، ومن خصائص هذه الباء إرادة إستقلال كل من الغمين في موضوعه، وعدم ترك التداخل بينهما في الوجود الذهني والأثر والتأثير، فيترشح الأثر عن : إستحضار أي منهما على نحو التعيين.
وتبين الآية تعدد الغم من وجهين :
الأول : الغم اللاحق بقوله تعالى [غَمًّا] وهو الذي ترشح عن الهزيمة والفرار ، وحصول إشراف العدو عليهم .
الثاني : الغم السابق والذي يدل عليه لفظ [بِغَمٍّ] ويحتمل وجوهاً :
أولاً : إرادة فوات الغنيمة والحرمان من تحقيق المكاسب وجلب الأسرى .
ثانياً : المقصود الغم بسبب إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي إنطلقت من معسكر المشركين وسرعان ما إنتشرت بين الصفين.
وعن عبد الرحمن بن عوف ({ فأثابكم غماً بغم } قال : الغم الأول بسبب الهزيمة ، والثاني حين قيل قتل محمد . وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة) ( ).
ثالثاً : الغم الذي أدخلوه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمخالفتهم لأوامره والنزول من الجبل، والغم الذي أصابهم بسبب قتل الذين كفروا يومئذ لسبعين من المسلمين .
والغم على فوات الفتح بعد رؤية مقدمات النصر.
وقيل (الغم الأول انحراف خالد بن الوليد عليهم بخيل من المشركين، والغم الثاني حين أشرف عليهم أبو سفيان)( ) .
والمراد إتصال ضروب الغم التي تسبب ألم النفس وضيق الصدر، إلا الغبن الذي جاء ثواباً من عند الله فانه رحمة وجزاء حسن , لذا قيل المراد من الباء في [بِغَمٍّ] المصاحبة .
والغم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً , فيحتمل وجوهاً :
الأول : فأثابكم غماً شديداً بغم خفيف .
الثاني : فأثابكم غم خفيفاً بغم خفيف .
الثالث : فأثابكم غماً خفيفاً على غم شديد .
والمختار هو الثاني ، وهو المستقرأ من كلمة [فَأَثَابَكُمْ] فصحيح أن المسلمين أصيبوا بمصيبة متعددة يوم أحد وخسروا الشهداء ولكن الغم ليس ذات الفعل والحادثة والأمر ، بل هو الأثر النفسي المترتب عليه .
ويدرك المؤمنون عظيم الثواب والأجر لما أصابهم وما فاتهم ، وهو من الإعجاز في ذكر مادة الثواب في قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ] ولبيان أن هذا هو ثواب الدنيا وثواب الآخرة أعظم وأكبر ، بلحاظ أن لفظ الثواب يستعمل غالباً في الخير .
تقدير الآية (فأثابكم الله غماً بغم) ولم يرد اسم الجلالة في بداية الآية ومع هذا ينصرف أمر الإثابة إلى الله عز وجل فهو المثيب .
ويحتمل تعلق موضوع الثواب في( فأثابكم ) وجوهاً :
الأول : إرادة الغم الثاني في قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا] .
الثاني : متعلق الثواب هو الغم الأول [بِغَمٍّ].
الثالث : المراد العنوان الجامع للغم الأول والثاني .
والصحيح هو الأخير .
وتحتمل مدة الغم الذي تغشى المؤمنين وجوهاً :
أولاً : قصر مدة الغم ، كما لو كان نصف ساعة من نهار يوم المعركة , وأواخر أوقاتها .
ثانياً : تعلق الغم بحال المسلمين بعد دعوة الرسول للمؤمنين أثناء إنسحابهم فراراً من غير أمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً : طول مدة الغم الذي أصاب المسلمين كما لو كان أكثر من ساعة .
والمختار هو الأخير بدليل إبتدأت الآية السابقة بحرف العطف الذي يفيد التراخي [ثُمَّ] وبما يتعلق بذات الموضوع وبيان حال المسلمين بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] ( ).
ويحتمل موضوع الثواب بالغم وجوهاً :
الأول : إرادة الرماة الذين تركوا مواضعهم من جهات :
الأولى : مخالفة الرماة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالبقاء على الجبل .
الثانية : عدم إنصات الرماة لقول أميرهم عبد الله بن جبير الذي حثهم على طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمرهم بعدم مغادرة مواضعهم.
الثالثة : صيرورة الرماة الذين تركوا مواضعهم سبباً للتخلية بين أصحابهم الرماة الذين بقوا في مواضعهم وبين خيالة المشركين .
الرابعة : مجئ الغم لهؤلاء الرماة الذين نزلوا من الجبل بسبب قتل أمير الرماة ومن بقي معه على الجبل طاعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : إصابة هؤلاء الرماة الذين نزلوا من الجبل بسبب تقديمهم طلب الغنائم ، وحرصهم على جمعها ، فإجتمع تركهم لمواضعهم والحرمان من الغنائم .
السادسة : صيرورة هؤلاء الرماة سبباً لحرمان المؤمنين من الغنائم، فقد أشرف الذين أشركوا على الهروب في بدايات المعركة.
السابعة : ترتب الضرر وسقوط الشهداء من المسلمين بسبب ترك الرماة مواضعهم، وفيه تنزيه لمقام النبوة والوحي من أسباب الخسارة، لتأكيده على الرماة بعدم ترك مواضعهم على أي حال.
الثامنة : كان وجود خيالة المشركين خلف جبل الرماة أمارة وباعثاً على لزوم بقاء الرماة في مواضعهم لحين إنسحاب هؤلاء الخيالة ، والتأكيد من أن إنسحابهم ليس خدعة وإستدراجاً .
التاسعة : كثرة الشهداء من المؤمنين بعد خطأ الرماة .
العاشرة : حجب النصر المبين عن المؤمنين في معركة أحد ، كالنصر الذي تحقق في معركة بدر ، ولا يضر هذا الحجب بصدق إنتصار الإسلام في معاركه لتسمية بدر[يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( )، وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل.
والحمد لله الذي جعل الخسارة يوم أحد تأتي بعد الفرق بين الحق والباطل ، وتجلي النصر للمؤمنين والعلو والرفعة في حال النصر أو الهزيمة بعد معركة بدر ، لذا أنعم الله عز وجل على المؤمنين بالثواب بالغم ثم أبدله بالنعاس والأمنة كما في الآية التالية [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] ( ).
أي ضمن المسلمون النصر والعز في معركة بدر، فلا يضرهم ما أصابهم في معركة أحد، والحرب سجال فنزل عليهم النعاس للطمأنينة والإفتخار بالنصر يوم بدر، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه ورودها على نحو العموم الإستغراقي للناس من غير تقييد بالملة والدين.
فقد أنشأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون قواعد صرح الإيمان وإقتطفوا النصر المبين يوم بدر ، الذي يبقى حصناً وملاذاً لهم عند التهيئ للمعارك ومقدماتها، ويكون مواساة لهم عند نزول الخسارة والهزيمة بهم .
الحادية عشرة : إستشهاد عدد من ذات الرماة الذين إنسحبوا من الجبل ونزلوا لجمع الغنائم .
الثانية عشرة : إصابة الرماة الذين تركوا مواضعهم بالغم والهم بسبب الغم الذي لحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما ترتب على ترك مواضعهم من الأذى الشديد والخسارة الفادحة ، ومنها إنتقال سبعين من أهل البيت والصحابة إلى الرفيق الأعلى، إذ أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدفنوا بدمائهم.
وعن سعيد بن جبير (قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد والجلود وقال: ” ادفنوهم بدمائهم وثيابهم “)( ).
ترى لماذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدفن الشهداء بثيابهم خاصة وأن هذا الأمر من الوحي وأسرار النبوة فالمتبادر أن الشهيد يطيب ويكفن بأحسن كفن ، ويشيع أعظم تشييع ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بدفن شهداء الإسلام ومنهم عمه حمزة بن عبد المطلب بثيابهم ، وفيه مسائل :
الأولى : يلقى الشهداء الله عز وجل ودماؤهم تسيل قربة إليه سبحانه .
الثانية : بيان مصداق للجهاد في سبيل الله .
الثالثة : شكوى وفزع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى الله عز وجل ، فكأن الشهداء معهم رسالة تتضمن ما وقع عليهم من ظلم وبطش الكفار .
الرابعة : إرادة تعجيل الفرج ، وتقريب النصر ، وتيسير الفتح .
الخامسة : شفاعة الشهداء بدمائهم للمؤمنين بأجيالهم المتعاقبة فيدخلون عالم الخلود وهم مضرجون بدمائهم طاعة لله ورسوله ، وتفانياً وشوقاً للقاء الله عز وجل.
السادسة : دعاء الشهداء وهم في عالم البرزخ للمؤمنين الأحياء فيسألهم الله ماذا يريدون فيسألون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجاة المؤمنين وكمال الدين وهزيمة المشركين ، وبقاء شريعة سيد المرسلين إلى قيام يوم الدين .
السابعة : دعاء الشهداء للمؤمنين في عالم البرزخ، وفيه وجوه:
أولاً : دعاء الشهداء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
ثانياً : دعاء الشهداء للذين أصيبوا بالجراحات ممن قاتل إلى جانبهم في معركة أحد بالشفاء العاجل والأجر .
ثالثاً : تضرع الشهداء لسلامة ومغفرة ذنوب جميع الذين قاتلوا في معركة أحد بما فيهم الرماة الذين تركوا مواضعهم ولم يقتلوا يومئذ والذين خاطبتهم آية البحث بقوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ].
رابعاً : دعاء الشهداء لأهل البيت والمهاجرين والأنصار عامة ومنهم القاعدون.
خامساً : سؤال الشهداء إنتقام الله عز وجل من الذين كفروا، وفضح وخزي المنافقين، قال تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( ).
سادساً : ليس من دعاء للشهداء في عالم البرزخ للتباين بين نواميس وماهية الحياة الدنيا، وأيام البرزخ بلحاظ أنه من عالم الآخرة الذي يتصف بأنه دار حساب من غير عمل.
سابعاً : دعاء الشهداء للمؤمنين الذين يقتلون بعدهم وتطلعهم إلى وفودهم عليهم.
ثامناً : دعاء الشهداء للمسلمين والمسلمات جميعاً بالسلامة والنجاة والثبات في منازل الإيمان.
تاسعاً : دعاء الشهداء للناس جميعاً بالتوبة والإيمان وسؤال تنزه الأرض عن مفاهيم الشرك والضلالة , ليكون دعاؤهم كسؤال الملائكة لله عز وجل كما ورد في التنزيل [ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
بتقريب أن الملائكة سألوا الله عز وجل أن يكون الخليفة في الأرض بمثل تقواهم .
وباستثناء الوجه سادساً أعلاه فان الوجوه الأخرى من فضل الله عز وجل على المؤمنين، ومن مصاديق الصلة بين عالم الدنيا والآخرة سنخية الإيمان، ومن وجوه إحتجاج الله على الملائكة في قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، بلحاظ هذه المسألة أمور:
الأول : سقوط نفر من المؤمنين شهداء في سبيل الله.
الثاني : وجود أمة في كل زمان تدعو إلى عبادة الله، وتحارب الفساد وتمنع من القتل وسفك الدماء بغير حق.
الثالث : مجئ الثواب للمؤمنين في الدنيا بدعاء الشهداء لهم.
الرابع : خلود المؤمنين بالنعيم الدائم في الآخرة، قال تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ]( ).
الثامنة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، وبيان عزم المؤمنين على الإنتقام للشهداء .
التاسعة : تأسيس تشريع بخصوص الشهداء في ميدان المعركة بدفنهم في ثيابهم , وعلبه الإجماع للنص المقرون بعلة إختصاصهم بهذا الدفن .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وأن الآخرة هي دار الثواب والجزاء ، فأخبرت آية البحث عن أمر إعجازي خارق لنواميس الحياة الدنيا ، وهو صيرورتها محلاً للأجر والثواب بقيود وشرائط تتعلق بالعقيدة والعمل .
الأول : الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ] ( ).
الثاني : الإستجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج للقاء الذين كفروا الزاحفين للقتال .
الثالث : بذل الوسع في القتال ، قال تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] ( ).
ومن الآيات مجئ الثواب للمؤمنين في ميدان القتال ، فلم يغادروا جبل أحد , ويتوجهوا إلى المدينة إلا وقد فازوا بالثواب العاجل وهو الغم ، وهو أعظم من الغنائم والمكاسب ، وهل هو نصر , الجواب نعم ، فانه قهر للنفس الشهوية والغضبية , وإصلاح للنفوس ونصر على الأعداء , إذ عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى المدينة بعز وهيبة وفخر .
ومن منافع الثواب العاجل للمؤمنين يوم أحد المنع من الخلاف والتخاصم بينهم .
لقد تنازعوا في ميدان المعركة بقوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] ليتفضل الله عز وجل ويرزقهم الثواب بالغم فيكون برزخاً دون الخصومة والنزاع بينهم عند الرجوع إلى المدينة ليكون من معاني ومنافع الثواب العاجل للمؤمنين في ساحة معركة أحد إنقطاعهم لأداء الفرائض والعبادات , وصدورهم عن القرآن والسنة .
وتتضمن كلمة [فَأَثَابَكُمْ] أفراداً :
الأول : حرف العطف الفاء .
الثاني : الفعل الماضي أثاب .
الثالث :الفاعل وهو ضمير مستتر , وتقديره هو يعود لله عز وجل .
الرابع : الكاف في محل مفعول به .
الخامس : ضمير جمع الذكور الميم .
وتقدير الفاعل (هو) والأصل في الضمير أنه يعود لما قبله إلا مع القرينة الصارفة ، والفاعل الذي ورد قبل [فَأَثَابَكُمْ] هو (الرسول) في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]والمراد منه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته لأصحابه في معركة أحد بالعودة إلى ميدان المعركة وقطع الفرار .
وتتجلى القرينة في المقام للدلالة على أن فاعل أثاب هو الله عز وجل من وجوه :
الأول : بيان قانون وهو لا يقدر على الثواب إلا الله عز وجل .
الثاني : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم مجتمعين ومتفرقين بأن الثواب رحمة نازلة من عند الله .
الثالث : الغم كيفية نفسانية لا يقدر على إحضاره ونفاذه إلى النفوس وظهور سلطانه على الجوارح إلا الله عز وجل .
الرابع :أصل التبادر إلى الأذهان بأن الثواب والجزاء لا يرد في القرآن إلا لله عز وجل , قال تعالى [فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] ( ).
الخامسة : سلامة المسلمين من الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن مصاديق هذه السلامة إدراك إنحصار القدرة على الثواب بالغم بالله عز وجل .
وقد ذكرت الآية التالية نزول النعاس من عند الله عز وجل متعقباً للغم ، بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا]وسيأتي بيانه إن شاء الله .
ويدل لفظ الثواب في الآية على تعلق الموضوع بالأحكام التكليفية الخمسة ، وبالأمر والنهي لذا فان الآية تدل بالدلالة التضمنية على أمور :
الأول : إستجابة المؤمنين لدعوة النبي وإنحيازهم إليه ، وتقدير الآية : والرسول يدعوكم في أخراكم فأستجبتم له فأثابكم الله غماً..).
الثاني : ثناء الله عز وجل على المسلمين لدلالة الثواب مدح المؤمنين على حسن سمتهم , وإيمانهم ويدل الثناء على وجوبه .
الثالث : ذم الذين كفروا لإختيارهم الهجوم على المسلمين ، وإصرارهم على محاربة النبوة والتنزيل .
علم المناسبة
لم يرد لفظ [فَأَثَابَكُمْ] إلا في آية البحث لبيان قانون وهو الملازمة بين شدة الأذى الذي يلقاه المؤمنون وبين الثواب العظيم ، وذكرت آية البحث الغم على نحو متعدد , ويحتمل وجوهاً :
الأول : حصر الثواب بالغم .
الثاني : ترتب الثواب بالغم على حدوث الغم عند المؤمنين .
الثالث : إرادة تعدد مصاديق الثواب عرضاً وطولاً .
والمختار هو الثالث ، فان إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره وأن الثواب لا يعني الحصر به ، إذ تتعدد وجوه الثواب ويدل عليه أمور :
الأول : ذات لفظ[فَأَثَابَكُمْ]وما فيه من البشارة .
الثاني : تعدد وكثرة فضل الله عز وجل في الموضوع المتحد.
الثالث : دلالة آيات السياق على عظيم الثواب من عند الله ، ويكون تقدير آية البحث فأثابكم غماً بغم وسيثيبكم وسوف يثيبكم بما هو أهله .
والمراد من عرضاً أعلاه شمول فضل الله لعموم المؤمنين ، وأما طولاً فالمراد شمول ثواب الله للمؤمنين في أفراد الزمان الطولية .
وتبين الآية كنزاً من كنوز الحياة الدنيا ، وهو أنها دار ثواب من عند الله ، وإذا كان عقاب الله عز وجل للإنسان في الدنيا على ذنبه سبباً لعدم عقابه عليه في الآخرة لأنه تعالى أكرم من أن يعاقب على الذنب مرتين بإستثناء الكفر والشرك بالله , فهناك مسائل :
الأولى : ثواب الدنيا للمؤمنين ليس برزخاً دون الثواب في الآخرة .
الثانية : إتصاف ثواب الآخرة بأنه من اللامتناهي .
الثالثة : ثواب الدنيا مقدمة وسبيل للفوز بفعل وعمل صالح يكون سبباً للثواب في الدنيا والآخرة ، ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ] أنه مفتاح لتوالي أفراد ومصاديق من الثواب في النشأتين ترتبت في الأصل على تلقي المؤمنين الأذى الشديد يوم أحد وسقوط الشهداء , وتلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة الجراحات والكلوم الشديدة مع فوات نعمة وقوع المشركين في الأسر وجلب مؤنهم مغانم إلى المدينة المنورة .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل كان أهل المدينة المنورة ينتظرون جلب المؤمنين الغنائم ودخول الأسرى المدينة .
الثانية : هل رخصت الأسعار في المدينة عند خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين للقتال في معركة أحد , أم بقيت على حالها , أم أرتفعت وشحت وغابت السلع من الأسواق لتصبح مقدمة للإحتكار .
أما الأولى فالجواب نعم ، إستصحاباً لواقعة بدر إذ جاء المشركون بخيلهم وخيلائهم فساقهم المسلمون أسرى وجلبت معهم مؤنهم غنائم ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأفراد السنة الدفاعية أن شطراً من أهل المدينة والمنافقين عندما جاءهم البشير بنصر المسلمين في معركة بدر أنكروا الأمر وإستبعدوه لما يعلمون من كثرة أفراد جيش قريش ومن والاهم وكثرة أسلحتهم وخبرتهم في القتال .
أما في معركة أحد فقد تطلع الناس في المدينة إلى نصر المسلمين للإستصحاب ووقوع نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر بالمعجزة , ولعله من الأسباب التي منعت فريقاً من أهل الكتاب الذي يقيمون في المدينة من إعانة قريش في عدوانها ، ولا عبرة بالقليل النادر مثل أبي عامر الفاسق ،إذ خرج إبنه حنظلة في جيش المسلمين ووقع قتيلاً يومئذ بعد أن شد على أبي سفيان وتمكن منه ، وكاد يقتله لولا أن رآه شداد بن الأسود وقد علا أبا سفيان فضربه شداد فقتله .
وخص بتسمية من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم ينلها غيره ، وهي غسيل الملائكة ، إنتفع منها أولاده وذريته وتفاخرت الأوس به .
(عن أنس بن مالك قال إفتخر الحيان من الانصار الأوس والخزرج فقال الخزرجيون منا اربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ وأُبي وزيد وأبو زيد وقال الأوس منا من اهتز له العرش سعد بن معاذ ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت ومنا من حمته الدبر عاصم بن ثابت ومنا غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر) ( ).
وعندما أخذ المؤمنون بجمع أجساد الذين إستشهدوا ليصلي عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويدفنوا فقدوا جثمان حنظلة فوجدوه في جهة من الأرض والماء يقطر منه ، فأخبروا رسول الله بالأمر , فقال : أن الملائكة تغسله ثم أمرهم أن يسألوا زوجته عن أمره فسألوها ، فقالت (خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة) ( ).
وأما المسألة الثانية ، فلا دليل على تغير وزيادة الأسعار في المدينة يوم معركة أحد ، وهو من الإعجاز , وفضل الله عز وجل على المسلمين وذويهم بأن المعركة لم تدم إلا يوماً واحداً , إذ عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ذات يوم المعركة , وقبل الغروب .
وردت مادة (ثوب ) عشرين مرة في القرآن ، وباستثناء قوله تعالى [هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] ( ) فإن الآيات الأخرى وردت في الثواب والثناء على المؤمنين .
وتتضمن البشارة بالجنة وحسن إقامتهم فيها ولم يرد لفظ [فَأَثَابَكُمْ] إلا في آية البحث , وفيه مسائل :
الأولى : لآية البحث خصوصية من وجوه :
أولاً : نزول آية البحث في موضوع واقعة أحد .
ثانياً : مجئ الثواب للمؤمنين وسط ميدان المعركة .
ثالثاً : حب المؤمنين لإستدامة الغم النازل من عند الله لأنه ثواب كما في قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ).
فمع ان الآية ذكرت همّ وعزم طائفتين من الأنصار على الفشل والجبن إلا أن الذين نزلت في الثناء عليهم وبيان فضل الله عليهم , فكانوا يفتخرون بها لذكرها لولاية الله عز وجل لهم ، وعن جابر بن عبد الله قال (فينا نزلت في بني حارثة ، وبني سلمة { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله { والله وليهما})( ).
بحث بلاغي
الدعاء إسم، ويأتي مصدراً يقال دعا يدعو ادع دُعاء ، وهو داع والمفعول مَدعو ودعيّ ، وفي قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]أطراف:
الأول : الداعي ، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقال دعا إلى الأمر أي حث عليه .
الثاني : أداة وصيغة الدعاء .
الثالث : موضوع الدعاء .
الرابع : المدعُوون .
ترى لماذا لم تقل الآية ( والرسول يناديكم ) خاصة وأن النداء من معاني الآية ، قال تعالى [وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا] ( )والنداء لغة هو الصوت ، ويقال ناداه مناداة ونداء أي صاح والجواب بين الدعاء والنداء عموم وخصوص مطلق ،إذ يكون النداء مجرداً , ويتضمن إرادة الإشعار والإخبار أو يكون مقيداً بموضوع مخصوص ، كما في الآية أعلاه .
ويصح تقدير آية البحث ( والرسول يناديكم ) ولكن لو وردت الآية بصيغة النداء فلا تتضمن معاني الدعوة والدعاء والغايات منها ، وفيه دلالة على أن كل كلمة من القرآن فريدة لا تؤدي غيرها ومرادفها في نفس موضوعها ذات المقاصد والأغراض التي وردت من أجلها .
أما الدعاء في آية البحث فانه أعم في موضوعه وغاياته ودلالاته ولبيان حقيقة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف يؤمئذ بالنداء مثل تعال يا فلان ، بل كان يحث على الصبر والمرابطة وتحلي المؤمنين بالتقوى ومجاهدة النفس والعدو , وتتكون ماهية النداء من أطراف :
الأول : المنادي .
الثاني : صيغة النداء .
الثالث : الغرض من النداء .
الرابع : المنادى .
وفيه من جهة الكثرة والقلة في أطراف النداء وجوه :
الأول : قلة المنادي وكثرة المنادى .
الثاني : قلة المنادي وقلة المنادى .
الثالث : كثرة المنادي وكثرة المنادى .
الرابع : كثرة المنادي وقلة المنادى .
وهناك أقسام أخرى بلحاظ صيغة النداء تضرب في الوجوه الأربعة .
الخامس : قلة المنادي وكثرة المنادى مع تعدد صيغ وكيفية النداء أو مع إتحاده .
السادس : كثرة المنادي وكثرة المنادى مع ترديد ذات النداء مرات متعددة وبينت آية البحث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم بدعوة أصحابه بمفرده مع تعدد صيغة الدعوة والنداء .
ومن صيغ النداء ما يكون ندبة ، والمندوب هو المفقود , وسبب الحزن أو الذي يأتي بسببه الوجع ، وقد يكون المنادى بالندبة غير موجود أو غير عاقل أو بعيداً لا يسمع الندبة , كما لو ندبت البنت أباها، أو شكا رجل من الألم ، وقال واضرسي.
وفي التنزيل حكاية عن يعقوب[وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ]( ).
ومنه الإستغاثة , وفيه أطراف:
أولاً : المستغيث ، وهو الذي يطلب الإغاثة والعون والنجاة من الشدة .
ثانياً : موضوع الإستغاثة .
ثالثاً : المستغاث منه ، وهو مصدر الأذى .
والأصل في النداء هو مخاطبة العاقل ، وقد يرد لغير العاقل مجازاً وبمعاني الشعر والبلاغة .
أما في القرآن فيرد النداء لغير العاقل على نحو الإعجاز لبيان أن الأشياء والخلائق كلها تستجيب لأمر الله كما في قوله تعالى [فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ) وكما في قوله تعالى في قصة داود [يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ]( ) وفيه وجوه :
الأول : إرادة معنى التسبيح ، فقوله تعالى [أَوِّبِي مَعَهُ] أي سبحي معه ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ( ) .
وقيل معنى أوبي معه : أي سبحي معه بلسان الحبشة ( )
الثاني : المعنى : سيري معه ، وفيه وجوه :
أولاً : السير في النهار كله دون الليل ، (والتَأْويبُ: أن تسيرَ النهارَ أجمعَ وتَنْزِلَ اللَيْلَ) ( ).
ثانياً : السير في الليل كله .
ثالثاً : السير في الليل والنهار .
الثالث : عودي معه في التسبيح كلما عاد فيه( ) قال تعالى [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ] ( ).
الرابع : إرجعي إذ رجع وعاد ، قال سلامة بن جندل :
يَوْمانُ يومُ مُقامات وأنْدية … ويومُ سَيْرٍ إلى الأعَداء تَأْويب ( )
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ، وقد ورد في القرآن [وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ] ( ) أي تعود إلى داود وترجع إليه ، وتصدر عن أمره ، ومعنى [أَوِّبِي مَعَهُ] أعم لذا قيدت الآية أعلاه لفظ أواب بالجار والمجرور (له) بالإضافة إلى أن قوله تعالى [أَوِّبِي مَعَهُ]أمر من عند الله عز وجل .
وقد آب وعاد الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوته لهم ليدخلوا المدينة بعد معركة أحد وهم يحيطون به وعن يمينه وعن شماله , وفيه عز لهم وشاهد بأنهم لم ينهزموا في المعركة ، لأن المنهزم يدخل البلدة قبل الجيش ، أو يغيب وجهه فلا يعلم أوان دخولهم أو لا يحضره .
وهل قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] من صيغ النداء ، الجواب نعم ، وفي هذا النداء والدعوة وجوه :
أولاً : إنه من السنة القولية .
ثانياً : إنه من الجهاد باللسان .
ثالثاً : فيه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر .
رابعاً : إنه شاهد على حب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين وإرادته لهم الخير والفلاح والعز وهو باب للتدارك والإنابة ، وهل يصدق على الذين عادوا إلى المعركة بأنهم أوابون ، الجواب نعم .
ويتصف الكلام العربي بأمور :
الأول : الجهة التي يصدر منها الكلام ،وهي إما مفرد أو مثنى أو جمع أو نائب عن الجماعة والطائفة سوء كان قائداً أو وكيلاً أو سفيراً .
الثاني : الجهة التي يتوجه إليها الكلام ، وهي على شعب :
الأولى : جهة الخطاب وإرادة مُخاطب سواء كان حاضراً أو غائباً ، حقيقة أو مجازاً ، ومنه الوصية للغائب وللأبناء الذين لم يولدوا بعد .
الثانية : الغائب وإرادة غائب من الكلام .
ويجمع الجهة الأولى والثانية أعلاه قوله تعالى خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] ( ).
الثالثة : كلام الإنسان عن نفسه بصيغة المتكلم ، وخطابه لها كما لو ترجل لوم الإنسان لنفسه بعبارات وجمل مفيدة ومسموعة ، وفي معنى النفس اللوامة قوله تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( ) ، وورد عن ابن عباس في قوله تعالى { بالنفس اللوامة } قال : التي تلوم على الخير والشر تقول لو فعلت كذا وكذا) ( ).
وورد الإخبار عن تبرأ الشيطان عن أتباعه في التنزيل [وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ]( ).
الثالث : وترتب على صيغة الفعل موضوعية للزمان في الكلام وهو على أقسام :
أولاً : إرادة زمان الفعل الماضي ، كما في قوله تعالى في آية البحث [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] ( ).
ثانياً : مجئ الكلام بصيغة الفعل المضارع والمستقبل كما في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] ، ولكن هذا الشطر مقيد ومعطوف في دلالته ومتحد في موضوعه مع الإخبار وبالزمن الماضي عن صعود الصحابة الجبل وفرارهم [إِذْ تُصْعِدُونَ] الذي يكون ماضياً في معناه ودلالته لنزول آية البحث بعد واقعة أحد ، وكما في قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ] ( )ومعناه إستحضار صورة رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قواعد البيت وتمكين النفس منها ، ويتضمن معنى إستدامة رفع قواعد البيت في كل زمان وأن نداء ودعوة إبراهيم للناس بالحج قائمة في كل زمان والواردة بقوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ] ( ) .
لبيان قانون من علوم القرآن وهو أن معنى اللفظ القرآني أعم من البلاغة والصناعة النحوية ، إذ تتصف دلالاته بأمور :
الأول : التعدد وكثرة وجوه ومعاني اللفظ القرآني .
الثاني : تشعب مواضيع اللفظ القرآني .
الثالث : تحقق مصاديق اللفظ القرآني في أفراد الزمان الطولية إلى يوم القيامة .
الرابع : تجدد موضوعية اللفظ القرآني , وحاجة الناس له في كل زمان .
الخامس : اللفظ القرآني توليدي في معناه ودلالاته .
السادس : كثرة الغايات الحميدة والمقاصد السامية من اللفظ القرآني .
السابع : تعدد المرادفات للفظ القرآني .
والترادف : التتابع والردف ما تبع الشئ , قال تعالى [أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) .
ومن إعجاز القرآن أن هذه المرادفات لا تجزي في موضوع ذات اللفظ ، ومنه ورود لفظين مترادفين في القرآن ، ولكن أياً منهما لا يستغرق الوجوه والمضامين القدسية للفظ الآخر بلحاظ نظم الآية كالترادف بين تفعلون وتعملون ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ] ( ).
والترادف بين الموت والوفاة مع الفرق بينهما في الدلالة كما في قوله تعالى [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا] ( ).
والترادف بين (جاء )و(أتى) قال تعالى [فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ] ( ) فقد ورد لفظ (جاء ) في الآية أعلاه مرتين .
ومن إعجاز القرآن عدم ورود الفعل (جاء) بصيغة المضارع أو الأمر أو اسم فاعل أو اسم مفعول في القرآن .
وورد الفعل (أتى ) بصيغة المضارع في القرآن في مواضع عديدة من القرآن ، قال تعالى [اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ] ( ) وقيل تأتي جاء بما فيه جهد ومشقة ، أما أتى فتستعمل لما يقع بيسر .
ومن الترادف الجسم والجسد ، فيطلق الجسم على البدن والروح في الجملة أي بما يدل على الحركة كما في قوله تعالى في ذم المنافقين [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ] ( ).
أما الجسد فيأتي للدلالة على لما ليس فيه حياة وحركة ، وقد ورد في القرآن أربع مرات بذات المعنى ، إثنتين بخصوص العجل ، قال تعالى [فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا] ( ).
ويكون تقدير آية البحث (والرسول يدعوكم إذ تصعدون ).
ومن الإعجاز في مجئ الآية بصيغة المضارع إرادة أفراد الزمان الطولية الثلاثة كلها ، وتعلقها بالزمن الماضي بأتصالها بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ].
علم المناسبة
ورد لفظ [الغم] ست مرات في القرآن إثنتين منها في آية البحث لتكون هي ( آية الغم ) بلحاظ مسائل :
الأولى : ترشح الغم عن فوات منفعة أوحدوث خسارة في المعركة , وهل يمكن القول بالملازمة بين القتال ودخول المعركة وبين الغم ، الجواب لا ، بدليل عدم خروج المسلمين من معركة بدر بالغم مع إنتقال أربعة عشر من الصحابة يومئذ إلى الرفيق الأعلى شهداء إذ أنهم نالوا المرتبة السامية , والخلود في الفردوس الأعلى , والذي إقترن بالنصر المبين للمسلمين .
الثانية : تكرار لفظ الغم في الآية من بين خمس آيات من القرآن ورد فيها هذا اللفظ .
الثالثة : إنفراد آية البحث بمجئ لفظ (الغم) فيها منصوباً بقوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ].
الرابعة : ذكر آية البحث لصفة أحد الغمين , وأنه نعمة وثواب من عند الله وناسخ للغم الأول الذي ورد في الآية بصيغة المفعول به المنصوب .
الخامسة : بيان الآية لمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي ان الغم الذي هو أذى وكابوس على النفس يكون ثواباً ورحمة من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ) .
لقد بينت الآية قبل السابقة حقيقة وهي أن الله عز وجل هو الذي ألقى الرعب في قلوب الذين كفروا , فهل هو سبحانه الذي أثاب المؤمنين بنفسه بالغم , أم أن هذا الثواب يأتي بواسطة ملك مقرب ,الجواب هو الأول .
ومن رحمة الله عز وجل بالناس الإخبار بأن إلقاء الرعب خاص بالذين كفروا ويأتيهم لاحقاً بدلالة سين الإستقبال في [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]مع بيان علة إلقاء الرعب وهو الشرك بالله , وفيه دعوة لهم للتوبة قبل وبعد إلقاء الرعب في قلوبهم .
بينما جاء الثواب بالغم سريعاً وعاجلاً بدليل ورود فاء التعقيب في [فَأَثَابَكُمْ].
قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا على ما فاتكم ]
في الآية وجوه :
الأول : تكشف الآية عن حال الإنسان عند إتحاد أو تعدد الأذى والمصيبة إذ يكون الحزن على وجوه :
أولاً : الحزن اسم جنس ينطبق على صرف الطبيعة والمسمى وعلى الشديد منه.
ثانياً : يطرأ الحزن بسبب الأذى المتحد والمتعدد .
ثالثاً : بيان قانون وهو عدم الملازمة الدائمة بين المصيبة والحزن، إذ تنخرم هذه الملازمة بفضل الله , وجعل المؤمنين في أمن وسلامة من الحزن عند إبتلائهم بالأذى وتلقي ضروب الضرر ، والنسبة بين المصيبة والحزن هي نسبة العلة والمعلول ، إذ يترشح الحزن على الفرد والجماعة عند نزول البلاء والضرر وفوات منفعة.
فجاءت آية البحث لتنفي هذه القاعدة , وتبين معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتعلق بالحالة النفسية وسنخية مجتمعات المسلمين بالوقاية من الحزن عند نزول الخسارة الفادحة بأن يتغشاهم الغم , ثم جاءت الآية التالية بالإخبار عن نزول النعاس أمنة على الصحابة بعد معركة أحد بقوله تعالى [ُثمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا]( ).
وتتضمن آية البحث دعوة لأطباء الأبدان والزعماء والمصلحين للسعي لدفع الحزن والأسى عن الإنسان عند المصيبة والضرر لعدم ثبوت الملازمة بينهما ، فالمصيبة في الغالب أمر خارجي ، وحدث وواقعة ، أما الحزن فهو إنقباض يستولي على النفس .
فان قلت إنما إنصرف الحزن عن المؤمنين بمعجزة من عند الله ، وإثابتهم بغم طارئ إلى جانب الغم بسبب الخسارة ، الجواب هذا صحيح ، وما يقع بالمعجزة دليل وسبيل هداية لتحقيق شطر منه بالعلم والسعي والكسب كما في بشارة الملائكة لإبراهيم وسارة بالولد بقوله تعالى [وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ] ( ) .
وعن ابن عباس قال (لما رأى إبراهيم أنه لا تصل إلى العجل أيديهم نكرهم وخافهم ، وإنما كان خوف إبراهيم أنهم كانوا في ذلك الزمان إذا هم أحدهم بأمر سوء لم يأكل عنده يقول : إذا أكرمت بطعامه حرم عليّ أذاه ، فخاف إبراهيم أن يريدوا به سوءاً، فاضطربت مفاصله ، وامرأته سارة قائمة تخدمهم ، وكان إذا أراد أن يكرم أضيافه أقام سارة لتخدمهم ، فضحكت سارة وإنما ضحكت انها .
قالت : يا إبراهيم وما تخاف أنهم ثلاثة نفر وأنت وأهلك وغلمانك؟ قال لها جبريل : أيتها الضاحكة أما أنك ستلدين غلاماً، يقال له إسحاق ، ومن ورائه غلام يقال له يعقوب { فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها }( ) فأقبلت والهة تقول : واويلتاه ووضعت يدها على وجهها استحياء . فذلك قوله { فصكت وجهها وقالت أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً } .
قال : لما بشر إبراهيم بقول الله { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى } باسحاق { يجادلنا في قوم لوط } وإنما كان جداله أنه قال : يا جبريل أين تريدون ، وإلى من بعثتم؟ قال : إلى قوم لوط وقد أمرنا بعذابهم.
فقال إبراهيم { إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته }( ).
وكانت فيما زعموا تسمى والقة فقال إبراهيم : إن كان فيهم مائة مؤمن تعذبونهم؟ قال جبريل : لا . قال : فإن كان فيهم تسعون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبريل : لا ، قال : فإن كان فيهم ثمانون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبريل : لا ، حتى انتهى في العدد إلى واحد مؤمن؟ قال جبريل : لا ، فلما لم يذكروا لإِبراهيم أن فيها مؤمناً واحداً قال : { إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته }( )( ).
وعلى فرض عجز الأطباء ونحوهم عن الفصل بين المصيبة والحزن ، وإيجاد برزخ بينهما فان آية البحث تبقى شاهداً على أمور :
الأول : الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المدد من عند الله ، وتعدد مصاديق المدد منها :
أولاً : نزول الملائكة عضداً وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار .
ثانياً : إلقاء الرعب والخوف في قلوب الذين كفروا .
ثالثاً : إصلاح نفوس المؤمنين، وسلامتها من إستيلاء الحزن عليها.
وقال الواحدي ({ فأثابكم } أَيْ : جعل مكان ما ترجعون من الثَّواب { غمَّاً } وهو غمُّ الهزيمة وظفر المشركين { بغمٍّ } أَيْ : بغمِّكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذْ عصيتموه) ( ) .
ولا دليل على الحصر بهذا المعنى ، ولو دار الأمر في الثواب النازل من عند الله للمؤمنين بين كونه جزاءً حسناً أو عقاباً ، فالمختار هو الأول.
وتبين آية البحث سنخية الغم، وهل هو جزاء حسن أم عقوبة من جهة الفاء في قوله تعالى [فأثابكم] الجواب هو الأول ويدل عليه بيان معلوله وأثره من دفع الحزن والأسى عن المؤمنين.
وفي التنزيل [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( )ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أن الله عز وجل يدفع عن المؤمنين الحزن بثواب ولطف منه تعالى وإن حضرت أسباب هذا الحزن وتحقق مقتضيه .
ولو داهم المسلمين الحزن مرة أخرى بعد معركة أحد فهل يثيبهم الله بما يصرفه عنهم , فيه وجوه :
أولاً : يأتي ذات الغم الوارد بقوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا]لدفع الحزن عن المؤمنين .
ثانياً : إرادة التفصيل ، إنما يدفع الله عز وجل الحزن عن المؤمنين الذي يترتب عن خوضهم المعارك وقتالهم ومبارزتهم للذين كفروا في الميدان .
ثالثاً : مجئ ما يصرف الحزن عن المؤمنين على نحو عام بلحاظ ترتبه على عمل وفعل ذي صبغة إيمانية .
رابعاً :حضور ما يصرف الحزن عن المؤمنين عند طرو أسبابه وحدوث مقدماته ليكون هذا الصارف ثواباً من عند الله عن صبر وتقوى المؤمنين .
والمختار هو ثالثاً ورابعاً أعلاه ، إذ أن آية البحث نعمة وبشارة حضور ما يمحي الحزن عن المؤمنين .
وتدعو آيات القرآن المسلمين والمسلمات للصبر واللجوء إلى الذكر عند الإبتلاء وحلول المصيبة ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
وهل يصح تقدير الآية : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم إن فاتكم ) لتأخذ الآية صبغة العموم والإستقبال ، الجواب لا دليل عليه ، قال تعالى [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وتجلى إتباع المؤمنين الهدى في معركة أحد من جهات :
الأولى : إتباع المؤمنين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو إمام الهدى ، وفي تفسير الآية أعلاه (قال مقاتل بن حَيَّان: الهدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
الثانية : تصديق المؤمنين بنزول القرآن ، والعمل بأحكامه .
الثالثة : من الهدى الذي يجب إتباعه نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال .
الرابعة : أصيب المسلمون بالأذى والخسارة يوم أحد لأنهم على الهدى .
الخامسة : صرف الحزن عن المؤمنين في معركة أحد مع شدة الأذى الذي لحقهم والخسارة التي نزلت بهم من مصاديق الهدى وزيادة الإيمان وعمومات قوله تعالى [ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ) لبيان أن الهدى نعمة وموعظة، وآية تزيد إيمان المسلمين , وتنمي عندهم ملكة الصبر وعدم الخشية من الذين كفروا .
ويكون تقدير الآية على وجوه:
الأول : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنائم.
الثاني : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من أسباب النصر.
الثالث : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الأسرى , ووقوعهم في أيديكم.
الرابع : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من دخول المدينة بالنصر المبين.
الخامس : لكيلا تحزنوا لبيان لطف الله بالمسلمين وسلامتهم من الحزن المطلق في ميدان القتال.
السادس : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم، وما في الحزن من الأذى للنفوس.
ومن الإعجاز في آية البحث تفضل الله عز وجل بنجاة المؤمنين من الآثار النفسية والإجتماعية المترتبة على الحزن والأسى، وسلامة المسلمين من الكآبة مدد لهم في سبل التفقه في الدين، وبناء صرح دولة الهدى والإيمان، وتنزيه لمجتمعاتهم من العادات المذمومة .
ويكون تقدير الآية: لكيلا تحزنوا فيؤذيكم الحزن.
السادس : لكيلا تحزنوا فيشمت بكم الذين كفروا.
السابع : لكيلا تحزنوا فتعلوا أصوات المنافقين، وأهل الشك والريب.
الثامن : لكيلا تحزنوا على ما أصابكم من الغم.
التاسع : لكيلا تحزنوا على إنخزال رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة من جيش المسلمين وسط الطريق.
العاشر : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من قتل رؤساء الكفر والضلالة من قريش وحلفائهم يوم أحد.
وهل يمكن تقدير الآية: لكيلا تحزنوا على ما سيفوتكم) أم أن القدر المتيقن هو منطوق الآية الكريمة وإرادة الزمن الماضي لدلالة الآية على إنقضاء معركة أحد.
الجواب هو الأول، لأن الآية تنمي ملكة العصمة من الحزن عند المسلمين الذي قد يترتب على فوات منفعة في ميدان القتال وأيهما أهم صرف الحزن عن المؤمنين أم ما فاتهم من الغنائم وأسباب النصر .
الجواب هو الأول، فقد خرج المسلمون من معركة أحد بشرف الدنيا والآخرة، وبسلامتهم من الحزن وهذه السلامة خير محض، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
من إعجاز الآية بيانها لما لحق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم أحد من الخسارة، ومجئ هذا البيان بخصوص موضوع سلامتهم من الحزن والكآبة بفضل من الله، وفيه بيان بأن الله عز وجل يعلم بحالهم وأنه سبحانه يشكر لهم هذا الجهاد والعناء في سبيله سبحانه , لذا أختتمت الآية بقوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ليكون من مصاديق فضله تعالى أمور :
الأول : ذكر ما أصاب المؤمنين في ثنايا بيان فضله تعالى عليهم من صرف الحزن عن الموضوع المتعدد.
الثاني : ليس ثمة فترة بين طرو سبب الحزن في ميدان القتال وبين مجئ الثواب من عند الله لصرف هذا الحزن.
الثالث : صرف الحزن عن المؤمنين بأبهى وأفضل سبيل , وبما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
الرابع : ذات الثواب بالنعم نعمة من عند الله عز وجل ونزوله وموضوعه أعم في نفعه من دفع الحزن عن المؤمنين ولا تختص منافعه بصرف الحزن عن المؤمنين فهي متصلة ودائمة إلى يوم القيامة.
لقد زال الحزن عن المؤمنين وبقي الثواب متجدداً تترشح منافعه عليهم وعلى أجيال المسلمين من بعدهم , ويحتمل دفع الحزن من حيث جهته وجوهاً :
الأول : إرادة دفع الحزن عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت الآية بصيغة الجمع للإكرام والثناء عليه.
الثاني : المقصود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار الذين شاركوا في القتال يوم أحد.
الثالث : دفع الحزن عن الرماة الذين نزلوا طلباً للغنائم لأنهم تركوا مواضعهم طمعاً بالغنائم والمكاسب وسعوا إلى جلب الأسرى.
وهل كان فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لباب كسب للصحابة بأن جعل عوض وبدل الأسير لمن أسرّه في الميدان سبباً في نزول هؤلاء الرماة من مواضعهم، الجواب لا، فما من فعل من النبي صل الله عليه وآله وسلم إلا وفيه النفع الخاص والعام، وهو خال من الأذى والضرر.
وهذا الباب وسيلة لترغيب المسلمين في الجهاد، وفيه إغاظة للكافرين ، ومنع من إيجاد سلطان لهم على عموم المسلمين والمسلمات، فلا يقوم المنافق أو المنافقة بتحريض المسلمين عن منع زوجها أو إبنها أو أخيها عن الجهاد، مع أنهم لا يخرجون للجهاد من أجل الغنائم والمكاسب . وهو واقية من أخلاق وشر النفاق.
الرابع : إرادة المسلمين والمسلمات أوان واقعة معركة أحد، ونزول آية البحث.
الخامس : المقصود عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
وباستثناء الوجه الأول أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق آية البحث، وهو من الإعجاز في كثرة الآيات التي إختصت بها معركة أحد ومقدماتها، وتفاصيل القتال وحال المؤمنين فيها، فعندما يتلو المسلم هذه الآيات ويعلم وقائع معركة أحد، فان الحزن يتغشاه بسبب أمور:
الأول : سقوط سبعين شهيداً من المسلمين في يوم واحد.
الثاني : إصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراح أثناء معركة أحد .
الثالث : كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستمرار جريان الدم من رأسه ووجه وسقوط أسنانه الأمامية، أي أفراد الحزن لما أصاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متعددة .
الرابع : كثرة الجراحات التي تلقاها أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار حتى المؤمنات ، كما في أم عمارة التي بقيت جراحاتها ظاهرة لتكون شاهداً على إخلاص الصحابة في بناء صرح الإسلام بدمائهم رجالاً ونساءً .
وأم عمارة هي نسيبة ( بفتح النون وكسر السين ) بنت كعب من بني مازن بن النجار شهدت بيعة العقبة الثانية ومنها امرأة أخرى هي أسماء بنت عمرو من بني سلمة مع ثلاثة وسبعين رجلاً من الخزرج والأوس وكانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالضرب على يمينه , وعن أم عمارة قالت( كانت الرجال تصفف على يمين رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ليلة بيعة العقبة والعباس آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ينادى زوجي غزية بن عمرو يا رسول الله هاتان امرأتان حضرتا تبايعانك فقال اني لا اصافح النساء) ( ).
ولم تقعد أم عمارة في بيتها يوم معركة أحد ، بل خرجت في صبيحته في طريق أحد تتلمس الأخبار ومعها سقاء لتسقي أفراد الجيش ، وكان خروجها مبكراً لقولها :
خَرَجْتُ أَوّلَ النّهَارِ وَأَنَا أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النّاسُ وَمَعِي سِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ فَانْتَهَيْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ وَالدّوْلَةُ وَالرّيحُ لِلْمُسْلِمِينَ .
فَلَمّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ انْحَزْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقُمْت أُبَاشِرُ الْقِتَالَ وَأَذُبّ عَنْهُ بِالسّيْفِ وَأَرْمِي عَنْ الْقَوْسِ حَتّى خَلَصَتْ الْجِرَاحُ إلَيّ) ( ).
لقد صار كفار قريش قريبين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصارت حجارتهم تصل إليه فقال رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( من رجل يشري لنا نفسه ) ( )يدعو من بقي معه من المهاجرين عندما غشيه القوم الكافرون يريدون قتله أو أسره ، فقام خمسة نفر من الأنصار منهم زياد بن السكن ليستشهدوا واحداً بعد آخر ثم جاء عدد آخر من المسلمين [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( )فازالوهم وأبعدوهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومع شدة حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فانه لم يترك الجريح على حاله ، فحينما أثقلت الجراح زياد بن السكن قال النبي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدنوه مني فوسده قدمه ، فمات وخده على قدمه الشريف .
فاندفعت أم عمارة إلى وسط الميدان ، وأخذت تدفع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتذب عنه ، وكان ابن قمئة من أشد الذين كفروا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ .
ولم تمنع شجاعته وإندفاعه أم عمارة من التصدي له إذ اعترضته هي وعدد من المسلمين فضربها على عاتقها( ) لتترك ضربته في عاتقها جرحاً بليغاً ، وصار موضعه أجوفاً ليكون شاهداً متجدداً تطلع عليه المسلمات.
وذكر أنها تصدت لابن قمئة عندما جاء وهو يقول : دلوني على محمد ، فلا نجوتُ إن نجا ) وكانت أم عمارة تحمل سيفاً ، فضربت ابن قمئة عدة ضربات ، ولكن كان عليه درعان وبقيت تقاتل وأصيبت بأثني عشر جرحاً .
وشهدت أم عمارة يوم معركة أحد إستشهاد مصعب بن عمير الذي كان يقاتل ببسالة وتفان وقطع الكفار في هجومهم يده اليمنى ، فأخذ اللواء بيده اليسرى ، ثم قتله ابن قمئة ، وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لشبه بينهما وكأنه مثل رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، مع الفارق .
فقد أخرج ابن المنذر عن وهب بن منبه قال : ( إن عيسى عليه السلام كان سياحاً فمر على امرأة تستقي ، فقال : اسقيني من مائك الذي من شرب منه مات وأسقيك من مائي الذي من شرب منه حيي؟ قال : وصادف امرأة حكيمة فقالت له : أما تكتفي بمائك الذي من شرب منه حيي عن مائي الذي من شرب منه مات؟ قال : إن ماءك عاجل ومائي آجل . قالت : لعلك هذا الرجل الذي يقال له عيسى ابن مريم؟ قال : فإني أنا هو، وأنا أدعوك إلى عبادة الله وترك ما تعبدين من دون الله عز وجل . قالت : فأتني على ما تقول ببرهان؟ قال : برهان ذلك أن ترجعي إلى زوجك فيطلقك . قالت : إن في هذا لآية بينة ، ما في بني إسرائيل امرأة أكرم على زوجها مني ، ولئن كان كما تقول إني لأعرف أنك صادق .
قال : فرجعت إلى زوجها ، وزوجها شاب غيور فقال : ما بَطُؤ بِكِ؟ قالت : مر علي رجل فأرادت أن تخبره عن عيسى ، فاحتملته الغيرة فطلقها ، فقالت : لقد صدقني صاحبي .
فخرجت تتبع عيسى وقد آمنت به ، فأتى عيسى ومعه سبعة وعشرون من الحواريين في بيت وأحاطوا بهم ، فدخلوا عليهم وقد صوّرهم الله على صورة عيسى ، فقالوا : قد سحرتمونا؟ لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعاً ، فقال عيسى لأصحابه : من يشتري منكم نفسه بالجنة؟ .
فقال رجل من القوم : أنا . فأخذوه فقتلوه وصلبوه ، فمن ثم شُبِّه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى وصلبوه ، فظنت النصارى مثل ذلك ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك .
فبلغ المرأة أن عيسى قد قتل وصلب ، فجاءت حتى بنت مسجداً إلى أصل شجرته ، فجعلت تصلي وتبكي على عيسى ، فسمعت صوتاً من فوقها صوت عيسى لا تنكره : أي فلانة إنهم والله ما قتلوني وما صلبوني ولكن شُبِّه لهم ، وآية ذلك أن الحواريين يجتمعون الليلة في بيتك ، فيفترقون اثنتي عشرة فرقة كل فرقة منهم تدعو قوماً إلى دين الله ، فلما أمسوا اجتمعوا في بيتها ، فقالت لهم : إني سمعت الليلة شيئاً أحدِّثكم به وعسى أن تكذبوني وهو الحق ، سمعت صوت عيسى وهو يقول : يا فلانة إني والله ما قتلت ولا صلبت ، وآية ذلك أنكم تجتمعون الليلة في بيتي ، فتفترقون اثنتي عشرة فرقة ، فقالوا : إن الذي سمعت كما سمعت ، فإن عيسى لم يقتل ولم يصلب إنما قتل فلان وصلب ، وما اجتمعنا في بيتك إلا لما قال ، نريد أن نخرج دعاة في الأرض ، فكان ممن توجه إلى الروم نسطور وصاحبان له ، فأما صاحباه فخرجا ، وأما نسطور فحبسته حاجة له فقال لهما : ارفقا ولا تخرقا ولا تستبطئاني في شيء ، فلما قدما الكورة التي أرادا قدما في يوم عيدهم ، وقد برز ملكهم وبرز معه أهل مملكته ، فأتاه الرجلان فقاما بين يديه ، فقالا له : اتق الله فإنكم تعملون بمعاصي الله وتنتهكون حرم الله مع ما شاء الله أن يقولا .
قال : فأسف الملك وهمَّ بقتلهما ، فقام إليه نفر من أهل مملكته , فقالوا : إن هذا يوم لا تهرق فيه دما ، وقد ظفرت بصاحبيك فإن أحببت أن تحبسهما حتى يمضي عيدنا ثم ترى فيهما رأيك فعلت ، فأمر بحبسهما ثم ضُرِب على أذنه بالنسيان لهما ، حتى قدم نسطور فسأل عنهما فأخبر بشأنهما وإنهما محبوسان في السجن ، فدخل عليهما , فقال : ألم أقل لكما ارفقا ولا تخرقا ولا تستبطئاني في شيء .
هل تدريان ما مثلكما؟ مثلكما مثل امرأة لم تصب ولداً حتى دخلت في السن فأصابت بعدما دخلت في السن ولداً ، فأحبت أن تعجل شبابه لتنتفع به ، فحملت على معدته ما لا تطيق فقتلته ، ثم قال لهما : والآن فلا تستبطئاني في شيء ، ثم خرج فانطلق حتى أتى باب الملك ، وكان إذا جلس الناس وضع سريره وجلس الناس سمطاً بين يديه ، وكانوا إذا ابتلوا بحلال أو حرام رفعوا له ، فنظر فيه ثم سأل عنه من يليه في مجلسه ، وسأل الناس بعضهم بعضاً حتى تنتهي المسألة إلى أقصى المجلس ، وجاء نسطور حتى جلس في أقصى القوم ، فلما ردوا على الملك جواب من أجابه ، وردوا عليه جواب نسطور فسمع بشيء عليه نور وحلا في مسامعه , فقال : من صاحب هذا القول؟ فقيل : الرجل الذي في أقصى القوم . فقال : عليَّ به . فقال : أنت القائل كذا وكذا؟ قال : نعم . قال : فما تقول في كذا وكذا؟ قال : كذا وكذا . فجعل لا يسأله عن شيء إلا فسَّره له . فقال : عندك هذا العلم وأنت تجلس في آخر القوم؟ ضعوا له عند سريري مجلساً؟ ثم قال : إن أتاك ابني فلا تقم له عنه ، ثم أقبل على نسطور وترك الناس ، فلما عرف أن منزلته قد تثبتت قال : لأزورنه .
فقال : أيها الملك رجل بعيد الدار بعيد الضيعة ، فإن أحببت أن تقضي حاجتك مني وتأذن لي فأنصرف إلى أهلي . فقال : يا نسطور ليس إلى ذلك سبيل ، فإن أحببت أن تحمل أهلك إلينا فلك المواساة ، وإن أحببت أن تأخذ من بيت المال حاجتك فتبعث به إلى أهلك فعلت ، فسكت نسطور .
ثم تحيَّن يوماً فمات لهم فيه ميت , فقال : أيها الملك بلغني أن رجلين أتياك يعيبان دينك؟ قال : فذكرهما فأرسل إليهما ، فقال : يا نسطور أنت حكم بيني وبينهما ما قلت من شيء رضيت . قال : نعم أيها الملك ، هذا ميت قد مات في بني إسرائيل فمرهما حتى يَدْعُوَا ربهما فيحييه لهما ففي ذلك آية بيِّنة ، قال : فأتى بالميت فوضع عنده ، فقاما وتوضآ ودعوا ربهما فرد عليه روحه وتكلم ، فقال : أيها الملك إن في هذه لآية بينة ، ولكن مرهما بغير ما أجمع أهل مملكتك ، ثم قل لآلهتك ، فإن كانت تقدر أن تضر هذين فليس أمرهما بشيء ، وإن كان هذان يقدران أن يضرا آلهتك فأمرهما قوي .
فجمع الملك أهل مملكته ودخل البيت الذي فيه الآلهة ، فخر ساجداً هو ومن معه من أهل مملكته وخرَّ نسطور ساجداً ، وقال : اللهم إني أسجد لك وأكيد هذه الآلهة أن تعبد من دونك ، ثم رفع الملك رأسه , فقال : إن هذين يريدان أن يبدلا دينكم ويدعوا إلى إله غيركم ، فافقأوا أعينهما أو اجذموهما أو شلوهما ، فلم تردَّ عليه الآلهة شيئاً .
وقد كان نسطور أمر صاحبيه أن يحملا معهما فأساً ، فقال : أيها الملك قل لهذين أيقدران أن يضرا آلهتك؟ قال : أتقدران على أن تضرا آلهتنا؟ قالا : خلِّ بيننا وبينها ، فأقبلا عليها فكسراها ، فقال نسطور : أما أنا فآمنت برب هذين ، وقال الملك : وأنا آمنت برب هذين ، وقال جميع الناس : آمنا برب هذين ، فقال نسطور لصاحبيه : هكذا الرفق) ( ).
ولم يرفع وهب بن منبه الحديث ، وهو يكثر من الأخذ من كتب ملل أهل الكتاب .
لقد نال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة سيد الأنبياء والرسل وما رزق الله الأنبياء كان عنده بفضل من عند الله عز وجل مع زيادة ونافلة بفضل ولطف من عند الله عز وجل فصحيح أن التشبيه في المقام ليس تاماً ، ولكن المشركين حينما شاع بينهم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل إنكفأوا ورجعوا إلى مواضعهم يلتمسون أثر هذا الخبر وإنشغلوا بالتمثيل بأجساد الشهداء , وبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى دعوة أصحابه للرجوع إلى ميدان المعركة حتى إذا إجتمعوا إليه قادهم في نوع جمع منتظم إلى شعب الجبل .
(وأخرج الواقدي والبيهقي عن ام عمارة قالت سمعت رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} بالجرف وهو يقول لا تطرقوا الناس بعد صلاة العشاء فذهب رجل من الحي فطرق أهله فوجد ما يكرهه فخلى سبيله ولم يهجه وضن بزوجته ان يفارقها وكان له منها أولاد وكان يحبها فعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى ما يكره) ( ).
ويحتمل قوله تعالى ( لكيلا تحزنوا) من جهة أوانه وجوهاً:
أولاً : إردة مدة وأوان معركة أحد لأنها ساعة سقوط القتلى من المؤمنين، وحصول فرار شطر عنهم.
ثانياً : بعد دعوة الرسول للمؤمنين وإجتماعهم حوله في ميدان المعركة ورؤية الجراحات البالغة التي أصابتهم.
ثالثاً : حينما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفقد القتلى من المؤمنين وجمعهم والصلاة عليهم ودفنهم.
رابعاً : عند عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة أحد إلى المدينة المنورة , وسؤال الناس لهم عن نتائج المعركة، والمقارنة الفطرية بينها وبين نتائج معركة بدر.
خامساً : إرادة الإطلاق، وأيام المسلمين في أجيالهم المتعاقبة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق آية البحث.
إن قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ] رسالة سماوية وإنذار إلى الذين كفروا بانهم إذا عادوا للقتال في معركة لاحقة لا يلقون إلا الهزيمة .
وهو من الإعجاز الغيري لآيات معركة أحد وتباطئ وتلكأ كفار قريش بتكرار الهجوم، فقد جاءوا إلى معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، ثم بعد ثلاثة عشر شهراً زحفوا مرة أخرى في معركة أحد، ليتأخروا نحو سنتين للهجوم في معركة الخندق، كما أن هذه المعركة لم تكن فيها مبارزات وقتال شديد مع حصارهم للمدينة المنورة أكثر من عشرين ليلة.
إذ تبعث آية البحث اليأس في نفوسهم لأنها تبين ملاقاة المؤمنين لهم بعصمة من الحزن والأسى ليكون سبباً أضافياً من أسباب فزع الذين كفروا، ومن الإعجاز في قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ]، مجئ شطر من هذا الرعب برؤيتهم للمؤمنين وهم في سلامة من الحزن والأسى، يتلقون ما ينزل بهم من الأذى الشديد بالصبر ورجاء الثواب والأجر.
من وقائع معركة أحد هّم طائفتين من المسلمين بالجبن والخور بقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( )فصرف الله عنهم بولايته لهم الفشل والجبن وقد يقول قائل ، لقد صرف الله عز وجل الهم بالفشل عن الطائفتين ، فلماذا لم يمنع المؤمنين من الفرار مع أن الأمرين وقعا في معركة أحد .
والجواب أن الهم بالفشل صدر من طائفتين وهم بنو سلمة وبنو حارثة إذ همّوا بالرجوع مع عبد الله بن أبي في وسط الطريق إلى معركة أحد فوقاهم الله ، وسر من أسباب هذا الهم من جهات:
الأولى : قيام عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق بالتحريض على الرجوع بذرائع شتى منها :
أولاً : عدم سماع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رأيه وإرادته البقاء في المدينة وقتال المشركين داخلها إن غزوها .
ثانياً : دعوة عدم وقوع قتال بين الفريقين .
ثالثاً : قوله (والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا) ( )ويظهر التضاد والتنافي بين ثانياً وثالثاً أعلاه .
ثانياً : رجوع ثلاثمائة رجل وهم ثلث جيش المسلمين مع عبد الله بن أبي بن أبي سلول من منطقة الشوط في الطريق .
الثالث : إصرار الذين رجعوا على عدم الذهاب للقتال ، فقد تبعهم (أبو جابر السلمي يدعوهم فأعيوه وقالوا له : ما نعلم قتالاً ، ولئن أطعتنا لترجعن معنا ) ( ).
الرابع : تواتر الأنباء عن كثرة جيش الذين كفروا وتعدد القبائل والأحابيش الذين خرجوا مع قريش ، وكثرة أسلحتهم وخيلهم ومؤنهم وإرادتهم الثأر والأنتقام .
والآية إنحلالية وتقديرها بصيغة المفرد بتوجه الخطاب لكل فرد من جيش المسلمين من المهاجرين والأنصار : لكيلا تحزن ) .
وليس من قوة وقدرة تستطيع نزع الحزن عن أفراد جيش مجتمعين ومتفرقين عندما يتعرضون إلى خسارة كما في معركة أحد غير فضل الله عز وجل ، خاصة وأن هذه الخسارة جاءت بعد أمور تبعث على الأمل وإستصحاب النصر وهي :
الأول : تحقيق النصر المبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم بدر .
الثاني : مجئ النصر في معركة بدر مع قلة عدد وعدة المسلمين ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثالث : كثرة الموارد التي جاءت للمسلمين بسبب كثرة الغنائم يوم بدر ، وبدل فك قيد الأسرى .
علم المناسبة
لم يرد لفظ [تحزنوا] بصيغة الإيجاب في خطابات القرآن ، وفيه بيان لفضل الله عز وجل على المسلمين وكيف أن الله سبحانه أكرمهم ولم يصبهم الحزن والأسى .
وورد لفظ [ لا تحزنوا] ثلاث مرات في القرآن ، وبصيغة النفي ، إثنتين بخصوص معركة أحد إحداهما في آية البحث ، والأخرى بقوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( )إذ كثر عدد القتلى من المؤمنين ، وإتزداد وثخنت الجراحات في الأحياء منهم ، فتفضل الله عز وجل ونهاهم عن الوهن والحزن والكآبة ليكون فيه مواساة لهم .
ترى ما هي الصلة بين الآية أعلاه وبين قوله تعالى في آية البحث [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ]الجواب من وجوه :
الأول : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين في دفع الضعف والوهن عنهم .
الثاني : حث المؤمنين على الشكر لله عز وجل على كل من :
أولاً : نعمة صرف الوهن والضعف عن المؤمنين .
ثانياً : سلامة المؤمنين من الحزن والكآبة .
ثالثاً : إصابة الذين كفروا بالوهن والحزن .
الثالث : عصمة المسلمين من الحزن أثناء معركة أحد وبعدها مع تحملهم الخسارة والضرر لإدراكهم أن ثواب الله عظيم ، وأن الذين كفروا أصيبوا بالأسى والحزن ، قال تعالى [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ] ( ) .
وفيه بيان لقانون وهو أن الله عز وجل ينهى عن أمر ويتفضل ويمد المؤمنين بأسباب العون لإجتناب المنهي عنه ، فقد نهاهم الله سبحانه عن الوهن والحزن ، وأخبر في آية البحث بأنه عفا عنهم وصرفهم عن الذين كفروا وتفضل عليهم ورزقهم من فضله وأنعم عليهم بدعوة الرسول لهم ، وعودتهم للميدان بعد هذه الدعوة من غير أن يتجدد القتال وأثابهم بالغم لينسخ ويمحو الغم الذي ترتب على الحرمان من الغنائم ، وخطأ وتقصير الرماة الذين تركوا مواضعهم وسقوط سبعين من الشهداء الكرام .
وجاءت الآية أعلاه مطلقة بنفي الوهن والحزن ، وقيدت آية البحث علة الحزن المنهي عنه بما يفوتهم من الغنائم والمكاسب ، لبيان قانون أن النعمة الإلهية تتغشى مصاديق وأمور الدنيا كلها ، وصرف الحزن الخاص بواقعة أحد بسلامة المسلمين العامة من الحزن .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا]الإطلاق في معارك الإسلام اللاحقة ، وفي حال السلم والحرب ، ولبيان أن النهي عن الحزن من جند الله عز وجل , وكذا الغم الذي تفضل الله سبحانه به ثواباً ،قال تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
قوله تعالى [وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ]
يبين العطف في الآية وذكرها للأذى الذي لاقاه المسلمون ، بأن الله سبحانه لن يترك عملهم يذهب سدى ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن ذكر سعي وجهاد المسلمين في آية البحث مقدمة لثوابهم وأجرهم ، ولذات الذكر في القرآن ثواب عظيم ، وهل في تلاوة المسلمين لآية البحث ثواب متجدد للمجاهدين يوم أحد، الجواب نعم ، من غير أن يتعارض مع ثواب المؤمنين في تلاوتهم , قال تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وهل تكون آية البحث شاهداً على علم الله بما يقع للمسلمين في معارك الإسلام اللاحقة وجزاءهم على ما يلاقونه ، أم أن القدر المتيقن خصوص موضوع واقعة أحد ، الجواب هو الأول ، وتقدير آية البحث : كيلا تحزنوا على ما يفوتكم ولا ما يصيبكم).
وما أصاب المسلمين يوم أحد على وجوه :
الأول :كثرة قتلى المسلمين ، وعظم المصيبة بقتل حمزة بن عبد المطلب ونخبة من المهاجرين والأنصار .
الثاني : إصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات البالغة في رأسه ووجهه ، وتقدم التفصيل في الجزء السابق ( ).
الثالث : الجراحات والكلوم التي أصابت المؤمنين .
الرابع : حال الإنسحاب والفرار التي تعرض لها المؤمنون بسبب ترك الرماة مواضعهم , وظلم وشدة هجوم وإصرار الذين كفروا على القتال والعدوان.
وهل تذكر آية البحث ما أصاب المؤمنين أو شطر منهم ، الجواب نعم إذ إبتدأت بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]وهو ذاته مصيبة .
الخامس : ما ذكرته الآية السابقة من إصابة المسلمين والتنازع في الأمر والمعصية لأمر الرسول ، فان قلت هذه أفعال وأخطاء صدرت من المؤمنين , والقدر المتيقن من المعصية ما يترتب على فعل خارجي .
والجواب تلك الأخطاء مصيبة أصابت المؤمنين ، ويحتمل وجوهاً :
أولاً : كل من الفشل والتنازع والمعصية مصيبة قائمة بذاتها .
ثانياً : إتحاد سنخية المصيبة وأن الفشل والتنازع والمعصية مصيبة واحدة .
ثالثاً : التفصيل ومنها ما يكون مصيبة قائمة بذاتها من جهة الاسم والمسمى والأثر، ومنها ما لا يصل إلى مرتبة المصيبة .
رابعاً : إجتماع إثنين ليكونا مصيبة مثل الفشل والتنازع مصيبة ، أما المعصية فمصيبة بذاتها .
والصحيح هو الأول ، فكل فرد منها مصيبة بذاتها بدليل أنه يستلزم الحزن ، وهذا الحزن شاهد على صدق إيمان أهل البيت والصحابة ، فتفضل الله عز وجل وجزاهم على خروجهم لأحد وجهادهم يومئذ بأن أثابهم بالغم كيلا يتغشاهم الحزن .
فان قلت في هذا الحزن ثواب عظيم فهل فات المؤمنين، الجواب لا ، فان الله عز وجل يمحو عنهم الحزن , ويكتب لهم أجره .
قوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]
الآية إنحلالية والمراد على وجوه :
الأول : علم الله عز وجل بما يعمل المؤمنون يوم معركة أحد ، وهو سبحانه الذي يعلم بترك الرماة لمواضعهم منذ الأزل ، وفيه شاهد على خروجهم من هذه الشدة بفضل الله ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وفيه وقاية لعثرة المسلمين متحدة كانت أو متكررة .
الثاني : علم الله عز وجل بكيفية إنتهاء معركة أحد بما يكون معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للإسلام وقهراً للذين كفروا ، لأن قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]تتفرع عنه مسائل عديدة فيها عز الإسلام .
الثالث : من مصاديق قوله تعالى [اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] تأكيد حقيقة وهي عصمة المسلمين في دينهم وإيمانهم حال الخسارة في معركة أحد .
فمع كثرة الشهداء والجراحات التي أصابت المسلمين فانهم خرجوا من المعركة أشد إيماناً وأقوى شكيمة وهو من أسباب إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، فيتحقق النصر للمسلمين يوم بدر بإلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا فيترشح عنه رعب إضافي ينفذ إلى قلوبهم ، ويزحفون في معركة أحد للثأر والإنتقام ، فيأتيهم رعب أخر ليكون تقدير الآية أعلاه : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب يوم معركة أحد بالإضافة إلى الرعب المستقر في قلوبهم ) فأنى لهم النصر والغلبة ، ومع أن الرعب ليس جرماً مادياً ، وليس له وزن وثقل إلا أنه سبب الثقل والإبطاء في حركة الذين كفروا وشلّ حركتهم وحال بينهم وبين مطاردة المؤمنين مع تنازلهم وتقصيرهم وما أظهروا من الجبن ، لقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ] ( ).
ومضامين الآية أعلاه وما فيها من الكشف عن أحوال المسلمين في الميدان من مصاديق خاتمة هذه الآية ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : والله خبير بما تعملون في ميدان المعركة .
الثاني : والله خبير بما تعملون فيدفع عنكم الشرور ومصارع السوء .
الثالث : والله خبير بما تعملون , وكيفية إستجابتكم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته لكم بالرجوع إلى ميدان المعركة .
الرابع : والله خبير بما تعملون بعد خروجكم بسلام من معركة أحد .
الخامس : والله خبير بما تعملون من الفرائض والعبادات .
السادس : والله خبير بما تعملون من الصالحات لتفوزوا بالأجر والثواب ، قال تعالى في بيان حسن جزاء المؤمنين يوم القيامة [كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
السابع : إن الله عز وجل يعلم ما يقوم به المسلمون من وجوه طاعة الله ورسوله أو معصية الرماة للرسول ، وهذه المعصية في طول طاعتهم لله والرسول التي تتجلى بمبادرتهم للجهاد والدفاع عن الحرمات .
وفيه بعث للسكينة في نفوسهم ، فما دام الله يعلم بما يفعل المسلمون وهو خبير بنفعهم ومصلحتهم ودفع المفسدة والضرر عنهم فأنهم في مأمن من الشك والريب والحزن والخوف ، لذا ورد في آية البحث [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ] ( )،
وقد ورد لفظ [َاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ست عشرة مرة في القرآن ومنها ما ورد بلفظ إنه بصيغة [أن الله]ولفظ [تفعلون] بدل [تعملون] وكلها بصيغة المضارع ، والمراد أفراد الزمان الطولية وعالم الأفعال مطلقاً ، لحضورها عند الله عز وجل قبل أن يفعلها الناس وأثناء فعلها وبعده لتكون شاخصة يوم القيامة لغرض الحساب , قال تعالى [وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا]( ).
وهل من ملازمة موضوعية بين خاتمة هذه الآية وخاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]الجواب نعم وقد تبدو للوهلة الأولى أن الصلة بين الآيتين هي العموم والخصوص المطلق إذ وردت خاتمة الآية السابقة على نحو الإطلاق من جهتين :
الأولى :الفضل الإلهي .
الثانية : إرادة أصالة عموم المؤمنين .
أما آية البحث فأخبرت عن كون الله عز وجل هو الخبير بما يعمل المؤمنون والمقيد بصيغة الخطاب وكأنه خاص بالذين قاتلوا تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد .؟
والمختار أن النسبة بين الآيتين هي التساوي من جهة وتقدير خاتمة آية البحث : والله خبير بما يعمل المسلمون ، وهل المراد من الإيمان في الآية هو الإيمان الخاص بالإقرار بالجوانح والإركان أما الإطلاق وشمول كافة المسلمين والمسلمات الذين نطقوا بالشهادتين ليتوجه الخطاب في الآية إلى المنافقين والضلال أيضاً ، المختار هو الأول ، لذا لم تقل الآية : والله ذو فضل على الذين آمنوا بينما أختتمت آية البحث بالإخبار عن إحاطة الله علماً بما يفعل المسلمون وسنخية عملهم وكيفية اللاحق منه وحقيقته , وفيه دعوة للإرتقاء إلى مقامات الإيمان , وبه قهر وإغاظة للذين كفروا .
وأختتمت آية البحث بأن الله عز وجل خبير بما يعمل المسلمون لبيان أن الثواب للمسلمين في معركة أحد هو نعمة عظمى عليهم ، في ذاته والأثر المترتب عليه , وسيأتي تفسير الآية التالية بيان إختتامها بالأعم ، وهو قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ).
ليفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل يعلم ما يعمل المسلمون والكيفية النفسانية التي يبتنى عليها هذا العمل والحال التي تترشح عن عمل المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، وأن فرار طائفة من المسلمين في معركة أحد في عين الله وأنه سبب لنزول الرحمة عليهم بالغم ثواباً ثم النعاس أمنة وأثر هذه النعمة على الذين كفروا بأن تمتلأ صدورهم رعباً وخزياً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
ومن معاني الاسم [خبير] أن الله يعلم نوايا المؤمنين الحسنة في قتالهم الذين كفروا وإرادتهم إقامة شعائر الدين وبناء صرح الإيمان , وتنزيه النفوس والمجتمعات من براثن الكفر والضلالة ، فتفضل الله سبحانه ورزقهم الثواب بالغم , وهو كيفية نفسانية تبعث العزم وإستدامة الإرادة في الجهاد في سبيل الله , والعودة إلى ميدان القتال والإحاطة برسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه ، وفيه بيان عملي لصدق إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله .
قانون الفاء في(فأثابكم)
ومن الإعجاز أن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه يتعقبها خير كثير ، ويمكن تأسيس قانون وهو ( رشحات دعوة الرسول ) وليس من حصر زماني أو مكاني لأفراد ومصاديق النعم التي تتفرع عن دعوة الرسول التي هي من الوحي ، ومن الإعجاز عدم تأخرها عن الدعوة , لذا جاءت الآية بحرف التعقيب الفاء ، فلم تقل الآية (وأثابكم) لإحتمال إرادة الجمع ، بل قالت [فَأَثَابَكُمْ] وفيه مسائل :
الأولى : هذا الثواب مترشح ومتعقب لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : ليس ثمة فترة بين دعوة الرسول للمؤمنين بالرجوع إلى ميدان المعركة وبين نزول الثواب من عند الله عز وجل ، فمن خصائص الفاء أن التالي بعدها يأتي بعد الأول الذي قبلها من غير مهلة .
الثالثة : في الثواب بالغم تعضيد لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ، ومدد وعون لهم كي يبادروا للرجوع إلى ميدان المعركة .
الرابعة : من منافع الغم العاجل حث الصحابة على الرجوع إلى الميدان وعدم الإبطاء .
الخامسة : منع الصحابة من الشك وسوء الظن والوهم .
السادسة : بعث السكينة في نفوس المؤمنين بإجتماع أمور :
الأول : دعوة الصحابة للرجوع إلى ميدان المعركة .
الثاني : صدور الدعوة من شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكما يتولى بنفسه إمامة الجماعة في كل فرض ، فانه تولى بنفسه دعوة أصحابه للرجوع إلى المعركة ، وكأنه وعد بالأمن والسلامة .
الثالث : دعوة الرسول لأصحابه بالرجوع دليل على سلامته من القتل وأنه لم ينشغل بجراحاته وآلامها بل يقاتل في الميدان، وهو من مصاديق قوله تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وهل الغم من جنود الله، الجواب نعم لأنه مدد للمسلمين وحرب وقهر للذين كفروا.
الرابع : مجئ الثواب من عند الله للمؤمنين ، وتعقب هذا الثواب لنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم .
الخامس :سرعة مجئ الثواب من عند الله , وطون هذا الثواب بصيغة الغم، وهذه السرعة في حلول الغم لا يقدر عليها إلا الله عز وجل ، لذا لم يكل الله نزول الثواب إلى ملك من الملائكة بل تفضل سبحانه بنفسه لبيان أن معركة أحد فرقان بين الحق والباطل، وبناء لقواعد الإيمان في الأرض وإلى يوم القيامة ، وهو الذي يتجلى في كل زمان ، إذ يتلو المسلمون في هذا الزمان آيات البحث الخاصة بمعركة أحد وكأنها واقعة اليوم ويستحضرون أحداثها ويقتبسون من دروسها الصبر والتحمل في جنب الله ، والرضا بقضائه مما جرى فيها من الأحداث من وجوه :
أولاً : قد تتعقب الخسارة النصر .
ثانياً : مصاحبة الفضل الإلهي للمسلمين في حال الخسارة مثلما هو يصاحبهم في حال النصر والغلبة .
ثالثاً : لزوم بذل المؤمن الوسع في بناء صرح الإسلام .
رابعاً : الإجتهاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
السابعة : الفاء في [فَأَثَابَكُمْ] حرب على الكفر ، وسلاح لكبت وخزي المنافقين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
وقد يشمت المنافقون بالمؤمنين عند الخسارة كما ورد بخصوص معركة بدر في قوله تعالى [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ] ( ) فذكرت الآية تغشي الغم للمؤمنين لبيان عزمهم على القتال والفوز بالنصر، ثم جاءت الآية التالية لبيان الأمنة والنعاس الذي يلحق المؤمنين بعد الغم .
الثامنة : من معاني الفاء في [فَأَثَابَكُمْ] البشارة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم , وبعث السكينة في نفسه لما ينزل على أصحابه من أسباب الطمأنينة ومن التنبيه على الخطأ والمعصية ، ليكون هذا الغم من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( )بلحاظ صيرورة الغم طريقاً للتدارك عندما يأتي ثواباً .
وتبين الآية في مفهومها عدم رضا الصحابة على فرارهم ، وأنهم لم يفرحوا بهذا الفرار والإنسحاب مع أنه سبيل نجاة من القتل بل تغشاهم الغم والأسى على تركهم مواضعهم التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى مغادرتهم وإبتعادهم عنه وهو لا يزال يقاتل الذين كفروا ، وليس من حصر زماني لهذا الغم ، فقد يستمر ويستديم ويكثر التلاوم بين الصحابة ويأتي الذم من غيرهم من عموم المسلمين فتفضل الله عز وجل وأبدلهم بالنعاس أمنة ، وجعله ناسخاً لكل أفراد الغم بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] ( ) فحال النعاس دون التلاوم والحسرة والندامة .
وتضمن معنى وهو أن المعارك مع الذين كفروا لن تنتهي دلالة على قرب الفتح والنيل من الذين كفروا ، ومن وجوه الأمنة في المقام :
الأول : التطلع إلى دخول فريق من الذين كفروا الإسلام لما رأوا من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال ، ومنها قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]فلم يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين فروا من أصحابه وشأنهم ، كما ترك المنافقين الذين إنخزلوا في وسط الطريق إلى أحد ، بل نادى على الذين قاتلوا معه ليرجعوا إلى الميدان , ومنها إستجابة الصحابة لدعوة الرسول وإجتماعهم حوله وإحاطتهم به وإستعدادهم للبذل والتضحية والفداء .
الثاني : كشف الصحابة لكذب وزيف إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلمهم بسلامته ، وهو من أسرار قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه بالنداء ودعوة الصحابة للرجوع إلى ميدان المعركة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا]( ).
الثالث : كفاية الله عز وجل للمؤمنين , ودفعه الذين كفروا عنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه نزلت في معركة الخندق ، وهي متأخرة زماناً على معركة أحد إلا أنه لا يمنع من شمول مضامين الآية لوقائع معركة أحد ، ترى لماذا لم تنزل الآية في يوم معركة أحد ، والجواب إن كفاية المؤمنين القتال في معركة على نحو الموجبة الجزئية بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين، وإنصراف الذين كفروا إلى مكة خائبين ، أما في معركة الخندق فلم يحدث قتال ومبارزة متعددة .
التاسعة : من خصائص الفاء في [فَأَثَابَكُمْ] أنها تزيد إيمان المسلمين لما تكشفه من حقيقة ، وهي أن الغم الذي أصاب المسلمين رحمة من عند الله وأنه ليس مرضاً وداء في النفوس أو أنه مترتب على الخسارة بل هو سبب للنجاة من الحزن والأسى على الحرمان من الغنائم وعلى الخسارة بفقدان الشهداء من المؤمنين ، وفي أصحاب الكهف ورد قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى] ( ).
لتكون نعمة الزيادة في الهدى التي فاز بها أصحاب الكهف حاضرة عند المسلمين ، ونالوها ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما كان عند المؤمنين من الملل السابقة من مراتب الرفعة والشأن عند المسلمين إقتبسوها بالتقوى والثبات على الهدى وسنن الإيمان وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
العاشرة : بيان مداهمة الغم للمسلمين بلطف من عند الله بحيث يزيح أسباب الغم الواقعية ليكون من الإعجاز أن ينسخ الغم صبغة الغم أو يحل معه ويزاحمه مع التباين في السنخية بأن المنسوخ كيفية نفسانية نتيجة الضرر والخسارة التي لحقت المسلمين في معركة أحد ، أما الغم الناسخ ، فهو رحمة وتخفيف من عند الله .
الحادي عشرة : تدل الفاء في [فَأَثَابَكُمْ] على ترتب ما بعدها على ما قبلها ، وكأنه من ترتيب العلة على المعلول ، ويحتمل موضوع الغم في الآية بلحاظ الترتيب وجوهاً :
أولاً : جاء الثواب بالغم مترتباً على دعوة الرسول وندائه للمؤمنين من خلفهم .
ثانياً : ترتب مجئ الغم على الأمر الجامع مع عدم إلتفات المؤمنين الفارين إلى الوراء ، ودعوة الرسول لهم بالرجوع ، ليكون من منافع حاسة السمع والإعجاز في خلق الإنسان أنه عندما يعرض بقلبه وجسده وبصره عن الشيء ، تبقى حاسة السمع تلقف ما يردها من الأصوات من الجهات الأربعة بما يفيد الإحاطة والتدارك ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ) وهل فيه دلالة على تفضيل حاسة السمع على البصر , الجواب لا .
ولبيان قانون وهو إنتفاع الإسلام والنبوة من بديع خلق الإنسان أسمى وأحسن إنتفاع ، إذ سمع المؤمنون صوت النبي يصدح بالحق والدعوة للرجوع إلى ميدان المعركة ، وفيه سلامتهم وعزهم وفخرهم في أفراد أيام الحياة الدنيا وإلى يوم القيامة ، ثم يكون فيه الشرف والرفعة والثواب العظيم في الآخرة .
ومن خصائص نداء ودعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها تغير التأريخ ، وتعيد الناس إلى الرشاد ، وتجذبهم إلى منازل الإيمان ، وتجلت منافعها من حين النداء بأن جاء الثواب متعقباً لها ، والغم الذي يتضمن حث الصحابة على الرجوع والشعور بالندم لترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان يقاتل الأعداء .
ثالثاً : لم يأت الغم تخفيفاً ورحمة من عند الله إلا بعد أن صعد الفارون من المسلمين الجبل وسارعوا الخطى ولم يلووا على أحد ، ودعاهم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للرجوع إلى المعركة .
رابعاً : عدم وقوع الغنائم بيد المؤمنين بسبب الفرار والهزيمة لأن الأصل عند المؤمن هو الثبات في مواضع القتال ، وإن جاءت خيالة المشركين من الخلف ، فما أن يلتفت لهم شطر من المؤمنين ويلاقوهم بالسيوف حتى يدب الفزع في نفوسهم لأن الله عز وجل قد ألقى الرعب في قلوبهم بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث وفيه دلالة على نجاة المؤمنين من الغم , وما يترشح عنه بفضل من الله وليكون الغم رحمة وسبيل تدبر وتدارك بالإنصات إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليرجعوا إليه فلم يجدوا قتالاً ولا مبارزة ، وكأن العدو غائب غير موجود حتى مع إطلالة أبي سفيان وأصحابه عليهم .
لتكون تلك الحال من مصاديق قوله تعالى في إبراهيم [يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) فصار ميدان المعركة محل إجتماع المؤمنين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون بشارة وراثتهم الأرض ،قال تعالى [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ]( ).
الثانية عشرة : لقد تفضل الله عز وجل وجعل شريعة الإسلام باقية إلى يوم القيامة مع سلامة القرآن من التحريف والتغيير والتبديل ليكون إماماً للناس في كل زمان ، وجاءت آية البحث لتحكي جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في بناء صرح الإيمان ، وقد رزقه الله النصر على أعدائه ، وفي كل معركة يخوضها ضد الكفار ، وهذا النصر وتحققه على نحو العموم الإستغراقي من مصاديق قوله تعالى [وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا] ( ) ودفع هجوم كفار قريش في معركة أحد لإستئصال الشريعة وسنن التوحيد في الأرض مع أنهم مجاوروا البيت الحرام .
وتمكن الذين كفروا من النيل من المسلمين في جولة من المعركة بعد أن كانت بدايتها نصراً للمؤمنين وبشارة إلحاق الخسارة بالذين كفروا ، ليثاب المؤمنون على الخسارة في هذه الجولة بالغم ذي صبغة اللطف والرحمة والناسخ للغم المترشح عن الخسارة والفرار الذي إختاره أكثر المسلمين يومئذ ، لقوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] وتقدير الآية : فأثابكم الله غماً مؤنساً بلطف ورحمة بسبب الغم الذي أصابكم نتيجة الخسارة وفرار شطر منكم .
وليكون من خصائص هذا الغم أمور :
الأول : منع الخلاف والخصومة بين المؤمنين بسبب هذا الفرار.
الثاني : تنزيه المؤمنين عن التعيير بالفرار في معركة أحد إنما الفضل بالخروج للقتال وعدم الإنصات لدعوة رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول وسط الطريق .
الثالث : من معاني ودلالات قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) الثناء على المؤمنين الذين إشتركوا في معركة أحد والزجر عن توجيه اللوم لهم بسبب القصور والتقصير ومعصية الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء على جبل الرماة في كل الأحوال خاصة وأن الآية السابقة ذكرت نزول العفو من عند الله على المؤمنين بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] ( ).
الثالثة عشرة : ورود الفاء في قوله تعالى[فَأَثَابَكُمْ]مناسبة لتفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة قانون قرب رحمة الله عز وجل منهم ، وسرعة نزول الفضل الإلهي عليهم ، وكأنه ليس ثمة مسافة بين العرش وبين المؤمنين من أهل الأرض ، وقد يقول بعضهم لماذا ينزل الغم على المؤمنين ، والجواب من جهات :
الأولى : بيان قانون من الإرادة التكوينية من وجوه :
أولاً : ليس من حصر للنعم التي تنزل من السماء .
ثانياً : صيرورة الأذى الظاهر نعمة وغبطة وسبباً للرضا .
ثالثاً : بعث السكينة في نفوس المسلمين بما هو ضدها .
رابعاً : ترغيب الناس بالإسلام بأن يكون الغم الذي يصيب المؤمنين رحمة وجنة من الغم والهم .
خامساً : ترشح الطمأنينة عن الغم , لتكون فرعاً لحضورهم ومزاولتهم القتال وشدته .
الثانية : سلامة المسلمين من إستدامة الغم الذي ينزل من عند الله ، لبيان التباين في الأثر وإن إتحدت السنخية أو الاسم .
الثالثة : صيرورة الغم الذي يأتي من عند الله مقدمة لنزول النعاس أمنة ورحمة ، وهو الذي بينته الآية التالية إذ إبتدأت بتقييد مجئ النعاس بعد الغم بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً] .
الرابعة : تحلي المسلمين بالصبر عند غزو الهم والغم إلى نفوسهم , والإرتقاء في المعرفة الإلهية بادراك أن الهم والغم إذا كانا في موضوع أو حكم في سبيل الله ففيهما الأجر والثواب ، وعن ابن عباس (كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ فَقُلْتُ بَلَى فَقَالَ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ .
وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) ( ).
الخامسة : عدم شماتة الذين كفروا لأن الغم الذي أصاب المسلمين رحمة بهم , وباب للثواب العظيم في النشأتين .
الرابعة عشرة : الفاء في [فَأَثَابَكُمْ]برزخ دون الجدال والخلاف بين المسلمين ، وتنزيه لهم من المغالطة التي قد ترد من تذكير المؤمن بفراره يوم أحد مع ثباته في معارك الإسلام الأخرى ، إذ تفيد إنعدام الفترة بين الغم المترشح عن الخسارة والفرار وبين الغم الذي نزل ثواباً وسكينة , ليكون هذا الغم مقدمة لنزول الأمن والنعاس وشآبيب الرحمة من عند الله .
ويدل قوله تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ] ( ) في مفهومه على الزجر عن الجدال بين المسلمين إلا بما فيه تعظيم شعائر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الطرفين المجادِل والمجادَل ، ويدل عليه قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ) فمن مصاديق وعلة إمتناع المؤمنين عن الجدال في معركة أحد عفو الله عنهم ومجئ الغم لهم ثواباً .
وفي الآية بيان لإنتفاء وتضاؤل النفاق والمنافقين بين صفوف المسلمين الذين شاركوا في معركة أحد فليس فيهم شامت أو نادم على الخروج والمجئ إلى القتال ، ولكن لحقهم الغم لفوات نعمة النصر ولإصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات والكلوم ، ليكون من معاني قوله تعالى [ِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ] الثناء على المؤمنين والشهادة السماوية الباقية لهم بحسن وسمت وصدق الإيمان ليصيب المنافقين والذين كفروا الحزن والأسى عند سماع آية البحث يتلوها المسلمون ، لما فيها من إكرام المجاهدين الصابرين في سوح المعارك عند قتالهم المعتدين من الذين كفروا ، إذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج لقتالهم إلى أن أصبحوا على بعد بضعة أميال من المدينة المنورة .
وإذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بالوحي بأن كفار قريش سيأتون لقتاله ، فلماذا لم يباغتهم في عقر دارهم والجواب من وجوه :
الأول : إقامة الحجة على الذين كفروا بين أهل الأرض وإلى يوم القيامة , بأنهم معتدون ظالمون .
الثاني : بيان حقيقة وهي أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والهجوم ومباغتة الذين كفروا وإن كانوا يستحقون أخذهم بأشد الأحوال .
الثالث : إنشغال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتثبيت دعائم الإسلام وأركان الدين وتفقه المسلمين بالأحكام .
الرابع : لا يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما يأمره الله به وفي التنزيل [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
الخامس : سوء عاقبة الذين كفروا يوم القيامة , لذا ورد قبل آيتين في ذمهم ووعيدهم قوله تعالى [وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
الخامسة عشرة : لو دار الأمر بين كون الثواب في [فأثابكم] جزاءً حسناً أم أنه عقوبة ، فالصحيح هو الأول ، لأن الآية وردت خطاباً للمؤمنين وهم يقاتلون تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسمعون صوته ويتلقون منه الأوامر من غير واسطة أمراء وقادة وعرفاء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
وفي الآية دعوة لأمراء المسلمين بمنع البطانة من إنشاء حواجز بينهم وبين عامة المؤمنين .
ولا يعلم منافع وأثر هؤلاء المؤمنين إلا الله عز وجل فهم يدافعون عن الإسلام ، ويرجون رحمة الله في النشأتين ، ولا يخشون ما يفقدونه ، فلم يتركوا خلفهم الأموال والعقارات ، إنما يتطلعون إلى مرضاة الله ويعشقون ما وعد المؤمنين به من النعيم الدائم وإخلاصهم بالجهاد من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( )وتقدير الآية على وجوه :
الأول : فأثابكم الله جزاء وإحساناً عليكم .
الثاني : فأثابكم الله على صبركم وملاقاتكم الذين كفروا في ميدان القتال .
الثالث : فأثابكم الله عز وجل ولا يقدر على الثواب غيره سبحانه , وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدلالة الآية في مفهومها على أنه لا يقدر على ثواب المؤمنين في النشأتين إلا الله عز وجل .
الرابع : فأثابكم الله في الدنيا ليكون مقدمة ونوع طريق للثواب في الآخرة .
الخامس : فأثابكم الله غماً لدفع الحزن عنكم .
السادس : فأثابكم الله في ميدان المعركة وسيثيبكم بعدها .
السابع : فأثابكم الله لبعث الحسرة في قلوب الذين كفروا بأن هجومهم وتعديهم لم يجلب للمؤمنين إلا الفوز بالثواب من عند الله عز وجل.
الثامن : فأثابكم الله لصحبتكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال .
التاسع : فأثابكم الله لترغيب المسلمين بالجهاد .
العاشر : فأثابكم الله لزجر المنافقين عن صد المسلمين عن الجهاد.
السادسة عشرة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الثواب بعد الخطأ والتقصير والمعصية بترك الرماة مواضعهم ، وتلقي الخسارة في الميدان لضياع فرصة النصر الذي كان حاضراً من أول المعركة وعداً من عند الله ، وتنجز مصداقه بابتداء المعركة بكثرة القتلى من المشركين , وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
السابعة عشرة : ترى ما هي النسبة بين إثابة المسلمين بالغم من عند الله وبين العصمة من الحزن مما حصل في واقعة أحد ، الجواب من وجوه :
الأول : نسبة التساوي بلحاظ العلة والمعلول .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الحزن الذي أصاب المؤمنين بسبب كثرة القتلى بين صفوفهم وفوات الغنائم أكبر وأشد من أن يغطيه ويدفعه الغم .
الثانية : منافع الثواب بالغم من عند الله أكثر وأعظم من دفع الحزن عن المؤمنين .
الثالث : من خصائص الغم الذي جاء ثواباً من عند الله دفع شطر من الحزن والأذى عن المؤمنين في معركة أحد ، وله منافع أخرى تتعلق بتهذيب النفوس ومنع الكآبة من الإستحواذ على المؤمنين .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه من وجوه :
أولاً : الإستقراء من لفظ [فَأَثَابَكُمْ] ودلالته على عظيم النعم من عند الله .
ثانياً : مجئ الآية بالعطف بالفاء التي يفيد التعقيب من غير مهلة أو فاصلة .
ثالثاً : إن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى .
رابعاً : بيان نكتة وهي الإطلاق في أسباب إنتفاء الحزن عن المؤمنين مطلقاً من جهات :
الأولى : حال الفشل والجبن الذي أصاب طائفة من الصحابة ، لقد كان عدد الرماة على الجبل خمسين, وكان رئيسهم عبد الله بن جبير وهو بدري أنصاري من بني مالك من الأوس , فهل كلهم من الأنصار أم كان معهم مهاجرون , الأقرب هو الثاني .
الثانية : الإختلاف والتنازع بين الرماة .
الثالثة : حصول الإرباك بين صفوف المقاتلين عندما جاءت خيل المشركين من ورائهم .
الرابعة : معصية الرماة لأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء في مواضعهم حتى إنتهاء المعركة , وعن البراء بن عازب قال (جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا (عبدالله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن.
فقال أصحاب عبدالله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنظرون ؟ قال عبدالله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة.
فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك الذى يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثنى عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين رجلا، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا وسبعين قتيلا.
فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ ثلاثا، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبوه) ( ).
ترى لماذا نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن إجابة أبي سفيان فيه وجوه :
الأول : إغاظة أبي سفيان ومن معه من الذين كفروا .
الثاني : إعطاء رسالة للذين كفروا بأن كلمة المسلمين واحدة .
الثالث : إصابة الذين كفروا بالفزع والرعب لأن سكوت المسلمين أمر وجودي وليس عدمياً ، وفيه دلالة على إرادة المسلمين إعادة القتال .
الرابع : بيان مسألة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أجل وأكبر من أن ينطق أبو سفيان بأسمه وعلى نحو مجرد ( محمد ) من غير صفة النبوة .
وفي قوله تعالى ({ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً }( ) يريد ولا تصيحوا به من بعيد : يا أبا القاسم . ولكن كما قال الله في الحجرات { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله }( ) )( ). الخامس : دلالة سكوت المؤمنين عن جواب العدو على أخذ الحائطة وإرادة مواصلة القتال .
الثامنة عشرة : ومن مسائل قانون الفاء في [فَأَثَابَكُمْ]بيان صلة مصداق حاضر لما تقدم قبل ثلاث آيات بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]( ) وإخبار بإتصاف ولاية الله عز وجل بالقرب من المؤمنين إذ تدل الفاء في [فَأَثَابَكُمْ] على حضورها ، وتجلي هذا الحضور بسلامة المؤمنين من الحزن , وما يترشح عنه من الأذى أو تعطيل الأعمال أو الإنشغال عن العبادات .
ويبين إستحضار ولاية الله للمؤمنين أن الغم الذي يأتيهم من عنده مثال فرع الولاية فهو رحمة وحصن حصين ، وقد أراد الله عز وجل نجاة موسى عليه السلام وهو رضيع عندما طلب فرعون قتل كل مولود منهم لأن أحدهم يقضي على ملكه ، فأمر الله عز وجل أم موسى أن تلقيه في البحر ، قال تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ] ( ) لبيان لطف الله عز وجل بأم موسى باقتران الأمر بالإلقاء بالبحر بالوعد الكريم الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل والذي يتصف بالتعدد من جهات :
الأولى : سلامة موسى من الغرق والهلاك .
الثانية : تفضل الله عز وجل بإعادة موسى عليه السلام إلى أمه ، وفيه آية بأنه إذا رجع إليها لا يذهب ظنها لقاعدة الأسباب والمسببات ، وعدم وجود مرضعة غيرها يقبل ثديها والرضاعة منها ، إنما هو بأمر وفضل ومعجزة من عند الله ، ليكون من الآيات في نبوة موسى عليه السلام مصاحبة المعجزات له منذ الأيام الأولى لولادته ، ويأتي من بعده عيسى عليه السلام لتكون المعجزة مصاحبة له في حمل مريم به من غير زواج أو وطئ ، وتجلت ببشارة الملائكة لها [ إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] ( ).
وذكرت الملائكة وجاهة عيسى في الدنيا قبل أن تحمل به مريم لبيان سلامته من القتل عند الولادة وفي صباه ، فلا يهجم عليه فرد أو جماعة ولا على أمه ، وفعلاً فقد إنبهروا من المعجزة وإنشغلوا بتأويلها ، وجعله الله عز وجل يدافع عن نفسه بتكليمه الناس وهو في المهد ، وقد ولد في مجتمع يتوارث النبوة ، وفيه أمة موحدة تعبد الله ، قال تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ]( ) بخلاف قوم صالح إذ جاءتهم الناقة آية من عند الله ومعجزة لنبيهم ولم تولد في رحم لتكون بخصالها شاهداً حسياً على وجوب عبادة الله ، وقد نسبها الله عز وجل إلى نفسه كما ورد في التنزيل [هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
وعن جابر بن عبد الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل الحجر قام فخطب الناس فقال : يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات ، فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله إليهم الناقة ، فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ، ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها وتصدر من هذا الفج .
فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام ، وكان وعداً من الله غير مكذوب ، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلاً كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله من عذاب الله . فقيل : يا رسول الله من هو؟ قال : أبو رغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه) ( ).
لتأتي البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل ولادته في مكة وبلاد فارس والروم لتكون حجة ، ومنهم من أراد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صباه ، ولكن الله حفظه وأنجاه .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ) إرادة أفراد الزمان الطولية , وتقدير الآية : والله يعصمك من الناس كما عصمك في أيام حياتك السابقة.
وذكر ابن عباس أن فرعون وجلساءه تذاكروا وعد الله عز وجل إبراهيم أن يجعل من ذريته أنبياء وملوكاً [فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكون فيه ، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب .
فلما هلك قالوا : ليس هذا كان وعد الله إبراهيم . قال فرعون : فكيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم ، على أن يبعث رجالاً – معهم الشفار – يطوفون في بني إسرائيل : فلا يجدون مولوداً إلا ذبحوه] ( ) لولا رحمة الله عز وجل بنجاة موسى ز
ويدل تذاكر فرعون والملأ من قومه لوعد الله للأنبياء على إتصال كيد ومكر الظالمين بلحاظ الوعد الكريم الذي يتجلى في القرآن كما في الآية السابقة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
وهل من أسرار مجئ الآية أعلاه بصيغة الفعل الماضي إرادة دفع كيد وشرور الذين كفروا , ومنع بطشهم بالمسلمين , الجواب نعم والأصل في الوعد الإلهي هو الإستغراق لأفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل من جهتين :
الأولى : إستدامة وتجدد الوعد الإلهي للمسلمين .
الثانية : تحقق مصداق الوعد الإلهي في كل زمان ، ويكون تقدير الآية أعلاه : ويصدقكم الله وعده فتحسونهم بإذنه ، الجواب يحتاج هذا المعنى إلى دليل وتعضيد من الكتاب والسنة ، وبه وردت آيات عديدة ، قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ] ( ) وقال [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ) .
لتبين الآية السابقة بيان الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة أحد ، وهذا الفضل على وجوه :
الأول : نصر المسلمين في بداية المعركة وشيوع القتل في صفوف الذين كفروا .
الثاني : بيان قانون وهو أن وعد الله عز وجل يكون حالاً وحاضراً ، فلا يؤخر الله وعده إلى حين إشتداد الحاجة ، فجاء مصداقه في بداية المعركة بأن قَتل الإمام علي عليه السلام حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة الذي أصر على المبارزة ، فلم يبرز له أحد من المسلمين لأمور :
الأول : التأكيد العملي لكره المسلمين للقتال فان قلت لماذا يكره المسلمون القتال وهم على الحق ، وعدوهم كافر معتد, الجواب من وجوه :
الأولى : القبح الذاتي للقتال وسفك الدماء ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ).
الثانية : كفاية البراهين والمعجزات لجذب الناس إلى الهدى والإيمان .
الثالثة : بعث النفرة واليأس في نفوس الذين كفروا من القتال .
الثاني : إقامة الحجة على الذين كفروا بأنهم هم الذين طلبوا القتال وأصروا عليه ، فمع أن مجئ كفار قريش ومن والاهم من مكة بخيلهم وخيلائهم إلى المدينة لإرادة القتال والثأر لقتلاهم في معركة بدر حجة عليهم أمام الناس جميعاً ، فان صيغ الرحمة واللطف في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة على الذين كفروا باظهار المسلمين العزوف عن القتال .
الثالث : فتح باب للتوبة والإنابة ، وحث الكفار على الرجوع من حيث أتوا .
الرابع : بيان رأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقريش فهم عشيرته وأهله فهو يعلم أن الملائكة ينزلون مدداً له ، فأراد أن تتعظ قريش وتدعو إلى الصلح والمهادنة .
الخامس : بعث الخلاف والخصومة بين صفوف الذين كفروا لأنهم يرون إنعدام المقتضي للقتال والحرب .
السادس : تطلع المسلمين لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإذن بالمبارزة والقتال مع تسليمهم بأنه لا يقول أو يفعل إلا ما يأمره الله عز وجل .
السابع : إنقطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدعاء وسؤال النصر من عند الله , وعن رفاعة الزرقي (قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” استووا حتى أثني على ربي عز وجل، فصاروا خلفه صفوفا فقال: ” اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطى لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك.
اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذى لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والامن يوم الخوف.
اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا.
اللهم حبب إلينا الايمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك.
اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق) ( ).
ولكن طلحة بن أبي طلحة تمادى وأخذ يعير المسلمين بما هو حق وصدق من جهة حسن عاقبة المؤمنين مع سوء عاقبة الذين كفروا فنادى (يَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ زَعَمْتُمْ أَنّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنّةِ وَأَنّ قَتْلَانَا فِي النّارِ كَذَبْتُمْ وَاَللّاتِي لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَقّا لَخَرَجَ إلَيّ بَعْضُكُمْ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ عليه السلام فَقَتَلَهُ) ( ).
التاسعة عشرة : صحيح أن حرف الفاء للعطف والتعقيب ، ولكنه يفيد ما يشبه التعليل , وكأن ما بعدها معلول لما قبلها ، ويحتمل الثواب بالغم بلحاظ ما قبل قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ] وجوهاً :
الأول : تعقب الثواب لدعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بالرجوع إلى المعركة ، إذ أن قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] حث على الفوز بالثواب العاجل والآجل ويدل عليه نظم الآية لقوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ].
الثاني : ترتب الثواب بالغم على فرار أكثر المسلمين وعدم إلتفاتهم إلى الوراء ، وتقدير الآية : ولا تلوون على أحد فأثابكم غماً بغم .
الثالث : إرادة صعود أكثر المسلمين فوق الجبل وفرارهم من المعركة وندمهم وأسفهم على هذا الفعل الصادر منهم فجازاهم الله بالثواب بالغم مواساة لهم ، وتقدير الآية : إذ تصعدون فأثابكم غماً بغم .
الرابع : إرادة الجامع لمضامين آية البحث وترتب الثواب بالغم على صعود وفرار أكثر المؤمنين مع دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بأخراهم , لأن الأصل هو أن يقاتل الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن لا يغادروا مواضعهم التي عينهم فيها ، فقد كان قبل المعركة ينظم صفوفهم ويشد من أزرهم لتأتي لهم دعوته في آخر المعركة من خلفهم وهم في حال فرار .
الخامس : عطف موضوع الإثابة بالغم على خاتمة الآية السابقة، وتقدير الجمع بينهما : والله ذو فضل على المؤمنين فأثابكم غماً بغم ) بلحاظ أن هذه الإثابة فضل من عند الله من جهات :
الأولى : الثواب بالغم فضل على ذات المؤمنين الذي دب إلى نفوسهم الغم بمشيئة وأمر ورحمة من عند الله .
الثانية : إنه فضل على المسلمين والمسلمات في المدينة المنورة الذين خلفهم المجاهدون خلفهم ، فيصاب المؤمنون الذين في الميدان بالغم ثواباً ، فيكون سبباً لبعث السكينة في نفوس القاعدين من المؤمنين والنساء والصبيان في المدينة .
الثالثة : بيان مصداق لعفو الله عز وجل عن المؤمنين الذين إنهزموا من معركة أحد بأن تفضل والقى عليهم الغم تخفيفاً ،وتقدير الجمع بين الآيتين : ولقد عفا عنكم فأثابكم غماً بغم). وبين العفو من عند الله وبين الإثابة بالغم عموم وخصوص مطلق ، فالعفو أعم من أن ينحصر موضوعه بخصوص الآية التي ذكرته وهي الآية السابقة أو موضوعها وهو معركة أحد ، لذا يمكن القول بأن الأمنة النعاس الذي رزقه الله عز وجل المؤمنين والذي تبدأ به الآية التالية من مصاديق هذا العفو المبارك .
وتقدير الجمع بين الآية السابقة والآية التالية : ولقد عفا عنكم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ) فان قلت يدل (ثم) على العطف والمغايرة والتراخي ، والجواب إختصاص العطف ونحوه بالإثابة بالغم وحلول النعاس أمنة محله مع إتصال فضل الله على المؤمنين .
وتقدير الجمع بين هذه الآيات الثلاثة : ولقد عفا الله عنكم فأثابكم غماً بغم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ).
الرابعة : عطف الإثابة بالغم على الإبتلاء لبيان أنه مصداق للإبتلاء الوارد في الآية السابقة ، وتقدير الجمع بين الآيتين : ليبتليكم فأثابكم غماً بغم ) لبيان وجوه :
أولاً : الثواب والغم من مصاديق الإبتلاء والشواهد عليه .
ثانياً : هذا الثواب مقدمة ونوع طريق للإبتلاء الذي ذكرته الآية أعلاه .
ثالثاً : المعنى الأعم الجامع ، فذات الإثابة إبتلاء , وكذا الغم إبتلاء ، وهما طريق وسبب لإبتلاء وإمتحان آخر ، وبين قوله تعالى [لِيَبْتَلِيَكُمْ] وبين هذه الوجوه من الإبتلاء عموم وخصوص مطلق ، فالإبتلاء الذي أخبرت الآية أعلاه أعم في موضوعه وزمانه ومكانه، كما ورد بخصوص واقعة حنين التي وقعت في السنة الثامنة للهجرة ، قوله تعالى [هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا]( ).
ومن الإعجاز في الآية السابقة مجئ الإبتلاء بعد صرف المؤمنين عن الذين كفروا والفصل بينهم في ميدان القتال ، ليكون هذا الفصل ووقف المسايفة ورمي النبال والسهام والحجارة مناسبة ومقدمة للإبتلاء .
وهل الإبتلاء علة تامة لصرف المؤمنين أي يكون تقدير الآية : ولقد صرفهم عنكم ليبتليكم فقط ) الجواب لا ، لأن منافع وقف القتال أعم من جهات :
الأولى : إنه إمتحان وإختبار للمؤمنين .
الثانية : إرادة صيرورة الإبتلاء مقدمة لغاية حميدة أخرى ، وتقدير الآية مثلاً : ولقد صرفكم عنهم ليبتليكم بأمور :
الأول : طاعة الله ورسوله .
الثاني : تجدد القتال مع المشركين .
الثالث : التفقه في الدين .
الرابع : أداء الفرائض .
الخامس : جهاد وفضح المنافقين .
الثالثة : إرادة إبتلاء الذين كفروا بهذا الإنصراف ، لأن وقف القتال إنذار للذين كفروا ودعوة لهم للإيمان ، وتوبيخ على البقاء في منازل الكفر والجحود .
الرابعة : من غايات صرف المسلمين عن الذين كفروا في ميدان معركة أحد توالي النعم على المؤمنين ودخول القبائل في الإسلام .
الخامسة : حث المسلمين على الشكر لله عز وجل من وجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل بجعل الإنصراف من القتال بيده سبحانه .
الثاني : نزول الآية السابقة بنسبة الإنصراف من القتال والمبادرة إلى وقف المعركة إلى المسلمين شاهد تأريخي على أنهم لم ينهزموا ولم يخسروا معركة أحد ، لأن الخاسر عاجز عن الدفاع عن نفسه وإيقاف المعركة ، كما أن المنتصر لن يرضى بايقاف الطرف الآخر للمعركة والقتال لأنه يطمع بالغنائم والقتل وسبي أفراد العدو .
الثالث : التوثيق السماوي الخالد لكيفية إنتهاء معركة أحد , وأن الله عز وجل هو الذي أمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بوقف المعركة حيث يشاء الله من جهة الزمان والكيفية , بدليل قوله تعالى (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) ( ).
الرابع : الدلالة على عودة الذين فروا من المعركة وصعدوا الجبل إلى ميدان المعركة ، فلا يصدق على الفار أنه إنصرف عن عدوه .
العشرون : من إعجاز القرآن أن كل آية وكل كلمة منه دعوة سماوية لأداء الفرائض والعبادات ، وزاجر عما نهى الله عز وجل عنه وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في كل يوم ، وهذه القراءة متعددة من جهات :
الأول : وجوب القراءة في كل ركعة من الصلاة .
الثاني : تعاقب الصلاة الواجبة خمس مرات في اليوم .
الثالث : التباين الذاتي بين فرائض الصلاة من جهة عدد الركعات مع إتحادها في وجوب القراءة ، لتكون هي الجامع المشترك بينها .
الرابع : تكرار القراءة في كل ركعة من الصلاة .
الخامس : صيرورة القراءة في كل ركعة على وجهين :
أولاً : القراءة الثابتة , وهي سورة الفاتحة .
ثانياً : القراءة المختارة , وهي السورة والآيات التي يقرأها المسلم بعد سورة الفاتحة ، في آية إعجازية لتنمية الصلة بين المسلم والقرآن وبعث الشوق في نفسه لآياته والتدبر في معانيها ، وجعل موضوعية لحفظ المسلم لآيات وسور القرآن عند القراءة .
الحادية والعشرون : من منافع (الفاء) في فأثابكم منع الجدال بين المسلمين في ساحة المعركة وبعد إنقضائها.
إن إنشغال المقاتلين بالجدال وأسباب الخلاف سبب للوهن ودبيب الضعف وهو فرصة للعدو للإنقضاض على الجنود الذين إنقطع وإنشغل كل واحد منهم ببيان حجته أو دحض حجة غيره أو يتجه إلى المغالطة والعناد والإصرار إذ تكون في ساحة المعركة مندوحة للعناد إلا بخصوص المؤمنين ، لأنهم يحرصون على التقيد بأمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
ولما ترك الرماة مواضعهم خلافاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعتهم الله عز وجل بالمعصية وتوجه الخطاب بالمعصية إلى المسلمين جميعاً في الآية السابقة [وَعَصَيْتُمْ] لبيان نكتة تتضمن معنى تحذير الفرد والجماعة والطائفة من المسلمين من إرتكاب الخطأ الذي قد ينسب إلى الأمة , وهذه النسبة بلحاظ الضرر الذي يترشح عنه ، إذ كان ترك الرماة لمواضعهم سبباً لإنكسار المؤمنين وإشاعة القتل بينهم .
ولم يكن ترك الرماة لمواضعهم موضوعاً للجدال والخلاف والتعيير بين الأفراد من المؤمنين والقبائل والطوائف ، وقد ورد قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( )فنسب الهم بالفشل إلى خصوص الطائفتين من جهات :
الأولى : لم يترجل الفشل والجبن والخور في الواقع , لأن الهم أول القصد .
الثانية : لم يعلم الذين كفروا بهذا الهم في أوانه , ليكون إظهاره وبيانه بالتنزيل حجة ودعوة لهم للإسلام.
الثالثة : دفع الهم بالفشل عن المؤمنين بفضل من عند الله عز وجل وولايته لهم ، لتعدد أفراد هذا الهم الزمانية , فحينما يطرأ على الأذهان يستمر في وجوده الذهني مدة قد تطول أو تقصر .
وهل هو من الكلي المتواطئ الذي يكون على مراتب متساوية قوة وضعفاً , أم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في الشدة والضعف والظهور والخفاء .
والصحيح هو الثاني : كما لو كان تقدير الآية : ولقد همت طائفتان منكم أن تفشلا وإزداد همهما والله وليهما ، فمحى وأزال الله عز جل هذا الهم .
أو : ولقد همت طائفتان أن تفشلا ووثق الله همهما والله وليهما ) لأن هذا التوثيق شهادة من الله على الذين كفروا وظلمهم, وإنذار لهم .
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أن الهم بالجبن والخور, لم يضر المسلمين لأنه بقى في عالم الوجود الذهني ولم ينعكس بقول أو فعل بفضل الله ، أما آية البحث فقد ذكرت ما يدل على الفشل والجبن من جهتين :
الأولى : الصعود في الجبل .
الثاني : عدم الإلتفات والعودة إلى ميدان المعركة ، كما ذكرت الآية السابقة ، فشل فريق من المؤمنين على نحو النص بقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ]فان قلت لماذا التقييد أعلاه بفريق وطائفة من المؤمنين مع ورود الآية بلغة الخطاب والعموم الإستغراقي .
والجواب لثبوت بقاء نفر من أهل البيت والصحابة يقاتلون مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة .
وهل دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بالرجوع من أسباب منع الجدال بينهم مع أنهم في حال هزيمة وإنكسار ، عدا فريق يقاتل في سبيل الله ، الجواب نعم ، لتكون دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع والقتال من مصاديق وصفه والثناء عليه في قوله تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
الثانية والعشرون : تبين الفاء في [فَأَثَابَكُمْ]حضور رحمة الله بالمسلمين ، وعدم إبطاء الفضل الإلهي عنهم ، قال تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ) وفيه ترغيب للمسلمين بالجهاد والصبر في ميادين القتال لإدراك قانون من الإرادة التكوينية وهو أن الله عز وجل يقيل عثراتهم ، ويفتح لهم أبواباً من رحمته ، وليس من حصر لمصاديق هذه الرحمة ، فلا أحد يظن أن الثواب من عند الله يأتي على نحو الغم ثم تأتي بعده نعمة النعاس وتكون أمناً , لبيان قانون وهو أن فضل الله أعم من عالم التصور للناس مجتمعين ومتفرقين .
ويكون من خصائص هذه النعمة دلالات على وجود موضوعها وهو الأمن من قبل نزول النعاس من جهات :
الأولى : سلامة المؤمنين من القتل .
الثانية : عجز الذين كفروا عن مطاردة المؤمنين أو اللحاق بهم.
الثالثة : دعوة الرسول للمؤمنين في أخراهم شاهد على الأمن،وباعث عة الطمأنينة .
وهل جاء الثواب من عند الله بدعاء النبي والمؤمنين أم أنه إبتداء من عند الله ، الجواب لا تعارض بين الأمرين ، وقد إجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء وسؤال النصر وكفاية الذين كفروا .
لقد كانت كفة الذين كفروا هي الأرجح في العدد والعدة والتدريب والمؤون والأسلحة والخيل .
فجاء وعد الله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] ليجعل مقامات المؤمنين هي الأعلى ، وتزول أسباب الترجيح في العدة والعدد .
وتبين آية البحث حقيقة وهي أن فضل الله في معركة أحد متجدد وتوليدي ، وتتضمن الآيات التي تتعلق بواقعة أحد مصاديق متعددة من فضل الله على المؤمنين ومنها قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ] وهو يتضمن نعماً متعددة من جهات :
الأولى : سرعة مجئ الثواب للمؤمنين والذي تدل عليه الفاء .
الثانية : دبيب الغم إلى نفوس المؤمنين عند سماعهم لصوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وإدراكهم وجوب الإستجابة له وإن كان في الأمر نوع خطورة , فالذي يفر من المعركة يخشى من العودة إليها ، وإن تغيرت الحال ، ولكن دعوة الرسول للمؤمنين تزيح عنهم هذه الخشية .
الثالثة : دخول الغم إلى نفوس المؤمنين من غير إنكار منهم لأنه رحمة من عند الله ، لقد عجز الذين كفروا عن رد الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم ، وتلقى المؤمنون الثواب بالغم بالقبول والرضا والشكر لله والتدارك .
الثالثة والعشرون : عندما يقصر ويذنب العامل لا يرجو من رئيسه ورب العمل الثواب والأجر ، بل ينتظر التبكيت والتوبيخ والعقاب ، ويستحضر العقوبات التي تعرض لها هو نفسه أو غيره بسبب ذات التقصير والمعصية أو ما هو أدنى أو أكثر منه ليقيس عليه .
بينما جاءت آية البحث باعجاز وهو أن الله عز وجل يرحم ويثيب المؤمنين حتى في حال التقصير والتخلف عن أداء الواجبات لطارئ قهري ، كهجوم كفار قريش , أو عدم التقيد بأوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة مع التنبيه لضرورة هذا التقيد , وحاجة بناء صرح الإسلام إليه , وهو من مصاديق وجوب طاعة الله ورسوله ، ولما إنهزم أكثر المسلمين يوم أحد تفضل الله عز وجل وأثابهم بالغم , وفيه مسائل :
الأولى : ترى ما هو ثواب المؤمنين , لو لم ينهزموا ويصعدوا الجبل .
الثانية : هل من موضوعية لثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقلة من أصحابه في إثابة الذين إنهزموا .
أما الأولى فتدل آية البحث على عظيم فضل الله عز وجل على المؤمنين ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن ثوابهم متصل ومتجدد ليكون الثواب العظيم بالغم فرداً إضافياً للمصاديق المتكثرة من الثواب التي أنعم الله عز وجل بها عليهم ، ولو لم ينهزموا يكون الثواب أعظم وبسنخية غير الغم .
وأما الثانية فالجواب نعم ويدل عليه تقدم قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] .
وهل تصح قراءة الآية :والرسول يدعوكم ليثيبكم الله غماً بغم ) الجواب نعم بلحاظ أن الإثابة بالغم رحمة ونعمة .
لقد تفضل الله عز وجل بآية البحث لبيان أن التقصير في طول العمل العبادي وليس برزخاً دون الأجر والثواب أو سبباً للفزع والخوف والرعب ، إذ خرج الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد وإستجابوا له وهو ينظم صفوفهم ، ويعين لهم مواضعهم ، وحدث الخطأ من الرماة بأن تركوها طمعاً بالغنائم .
فجاءت الآية بالإخبار عن الثواب المقترن باللوم للتخفيف عنهم ، ولحثهم على التدارك وبذل الوسع في الجهاد والحرص على الإمتثال لأوامر الله عز وجل ورسوله , لأن فيها خير الدنيا والثواب العظيم في الآخرة .
المسألة الرابعة والعشرون : مجئ الفاء في [فَأَثَابَكُمْ] دعوة للمسلمين لشكر الله عز وجل من جهات :
الأولى : مجئ الثواب من فضل الله لبيان قانون هو توالي مصاديق الثواب على المؤمنين في حال الهجوم والفرار الذي هو فرار من طاعة الذين كفروا ومن الإستجابة لهم .
الثانية : حضور وفورية الثواب من عند الله عز وجل فلم تقل الآية ( وأثابكم ) بل ذكرت الآية الثواب بالفاء وما تدل عليه من الحالية فحالما صعد وفر المسلمون من ميدان المعركة وتوجه الرسول لهم بالنداء والدعوة للرجوع للميدان ، وما فيه خير الدنيا والآخرة، جاء مصداق للخير العاجل وهو لثواب بالغم لبعث النفرة في نفوسهم من الذين كفروا ، وعدم التسليم لهم أو الوقوع بالأسر في أيديهم .
الثالث : الشكر لله عز وجل على التوفيق للثبات على الإيمان حتى في حال الهزيمة والفرار .
الرابع : قطع الفرار ونجاة المؤمنين من الإستمرار بالصعود والإنكسار , ويتجلى هذا القطع من وجوه :
أولاً : إدراك المؤمنين للتضاد بين الفرار وبين الإيمان .
ثانياً : دعوة الرسول للمؤمنين بالرجوع لقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ].
ثالثاً : تسليم المؤمنين بوجوب الإستجابة لرسول الله في دعوته وفي حال الرخاء والشدة ، وفي أمور العبادات والمعاملات ، وفي حال الحرب والسلم ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) .
رابعاً : فضل الله عز وجل بالملازمة بين دعوة الرسول وبين السلامة والأمن .
الخامسة : الشكر لله عز وجل على توالي الثواب والفضل الإلهي على توالي الثواب حتى في حال القصور والتقصير .
السادسة : الشكر لله عز وجل على دعوة الرسول للمؤمنين وتعقب هذه الدعوة لهم في آخراهم لتكون سبباً لردهم إلى العز والرفعة وأسباب النصر على الذين كفروا .
السابعة : الشكر لله عز وجل على توثيق القرآن لصعود المؤمنين وفرارهم في القرآن بما يكون موعظة وعبرة وذكر دعوة الرسول لهم وزجر عموم المسلمين عن لومهم بسبب الفرار وترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان ، ويتجلى هذا الزجر من جهات :
الأولى : لغة الخطاب بصيغة الإيمان بلحاظ عطف آية البحث على الآيات السابقة ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا إذ تصعدون )
الثانية : تفضل الله عز وجل بالعفو عن المؤمنين قبل أن يغادروا ميدان المعركة .
الثالثة : سلامة المؤمنين من الرجوع مع الذين إنسحبوا وسط الطريق إلى جبل أحد بتحريض وفتنة من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول الذي إنبرى عندما وصل الجيش إلى (الشوط) فنادى بين الخزرج والأوس : أطاع الولدان ومن لا رأي له وعصاني ما تدري علام نقتل أنفسنا أيها الناس ها هنا ) .
يريد أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يستمع له في البقاء في المدينة وإنتظار قدوم المشركين إليه ومحاربتهم ، بل إستمع إلى الشباب الذين كانوا يتلهفون لقتال المشركين ، ويدل على هذه اللهفة قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) ويرد عليه من وجوه :
أولاً : لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالوحي وبأمر من عند الله عز وجل ، ومشورة النبي لأصحابه ثم خروجه إلى أحد من مصاديق قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]( ).
ثانياً :قال رأس المنافقين ( أطاع الولدان ) ولكن إنصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمشورة عامة المهاجرين والأنصار وأخذه للقول بالخروج إلى العدو ليس طاعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بل هم جميعاً أمروا بطاعته , ومنهم رأس النفاق ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) ومصاديق الرحمة بخصوص معركة أحد وآيات البحث أكثر من أن تحصى في ذاتها وموضوعها , والخير المترشح عنها في كل زمان وإلى يوم القيامة ، لذا كانت طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج إلى العدو واجباً .
أما الرجوع إلى المدينة وسط الطريق إلى أحد فهو ظلم للنفس والغير وهو حرام ، وفيه بيان عملي لقبح النفاق وما تترتب عليه من أضرار لذا فمن إعجاز القرآن مجئ آياته بأمور :
الأول : ذم النفاق ، وبيان قبح إخفاء الكفر مع إظهار الإيمان .
الثاني : الزجر عن النفاق وتأكيد الضرر الذي يترشح منه على الذات والغير .
الثالث : تحذير المسلمين والمسلمات من النفاق ، فمن إعجاز القرآن ذكره للمنافقين خمس مرات ، مع أن الأصل بورود لفظ [ المنافقين ]شموله للمنافقات أيضاً بلحاظ تغليب المذكر ، ولكن قد يظن الناس أن المرأة خارجة بالتخصيص عن موضوع النفاق لأنها حبيسة المنزل , ولدلالة سقوط الجهاد عنها على عدم عنايتها بالأمور العقائدية والقتالية وقلة شأنها .
ومن الآيات التي تذكر المنافقين ما يتعلق بعالم الآخرة وسوء عاقبتهم , قال تعالى [يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ] ( ).
الرابع : حث المسلمين على التفقه في الدين والإلتفات إلى وجوب إيمان أفراد العائلة بما يحصنهم من النفاق , والحذر من المنافقين .
الخامس : بيان موضوعية المرأة في إصلاح المجتمعات بنجاتها من النفاق .
ثالثاً : أخبر رأس النفاق عن الملازمة بين الخروج إلى ميدان أحد وبين القتل وهو رئيس الخزرج وأشار في كلامه بأنه صاحب خبرة وتجربة في المعارك وإختيار المناسب زماناً ومكاناً للقاء العدو إذ قال وهم في المدينة قبل الخروج : (يا رسول الله لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه) ( ).
ولكن الإختيار الذي يأتي عن الوحي هو الأصح والأنسب ، لذا فان خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد كان بإذن الله عز وجل ، ولا يتعارض معه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن لبس لأمة الحرب وخرج (ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل) ( ) بعد أن ندم الذين لحوا عليه بالخروج .
ولو قاتلهم النبي بالمدينة ولم يخرج منها في معركة أحد ’ لألحوا عليه بالخروج لهم في معركة الخندق , ولكانت مصيبة لأن عدد الذين كفروا عشرة آلاف أي أكثر من ثلاثة أضعاف عددهم في معركة أحد , إلا أن يشاء الله بصرف الضرر والمصيبة .
وقالوا (استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك , فلما خرج عليهم قالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد) ( ) وأستدل بقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه بأن الجهاد يلزم بالشروع فيه ، فمن لبس لأمته وشرع في أسبابه وتأهب للخروج ليس له أن يرجع عن الخروج حتى يقاتل عدوه ) ( ).
ولكن القدر المتيقن من حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( ما ينبغي لنبي ) هو أمر خاص بالأنبياء لأن فعل النبي بالوحي وبإذن الله عز وجل .
رابعاً : رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر أصحابه معه سالمين وعودة الذين كفروا إلى مكة خائبين .
الخامسة والعشرون : تفضل الله عز وجل ببيان أن الأذى من القتال لا يختص بالمسلمين وكشف لهم سراً يتعلق بحال الذين كفروا ، وهو أنهم يألمون من حال القتال وما تترتب عليه من الخسارة وسقوط القتلى وبذل الأموال ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ] ( ).
ليكون بين المسلمين والذين كفروا تشابه في تلقي الأذى ولكن مادة الإفتراق من جهات :
الأولى : مجئ الثواب للمسلمين بسبب الأذى الذي لحقهم في القتال .
الثانية : ترتب الإثم والعقاب على الذين كفروا بسبب الأذى الذي أصابهم نتيجة محاربتهم للنبوة والمسلمين .
الثالثة : إستقراء الأذى في قلوب الذين كفروا ومصاحبة الفزع والجزع له .
الرابعة : مجئ الغم للمؤمنين تخفيفاً عن الأذى الذي لحقهم .
الخامسة : عدم إبطاء الثواب عن المؤمنين , وكأنه مصاحب للأذى والضرر في ميدان القتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
السادسة : نزول آيات القرآن التي تتضمن الثناء على المؤمنين وذم الذين كفروا قبل أن يغادروا ميدان المعركة ، وبعد المغادرة ، ولا يعلم أثر ومنافع هذه الآيات إلا الله عز وجل , وكل آية من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( )بلحاظ أن الآية القرآنية من جنود الله إذ تثبت آيات الثواب الإيمان في النفوس ، وتدعو الناس للتوبة والإنابة وتزجر آيات الإنذار عن الكفر والصدود عن النبوة والتنزيل .
السابعة : سلامة المؤمنين من الوهن والقنوط، وإصابة الذين كفروا بالوهن واليأس، قال تعالى[لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
السادسة والعشرون : لقد تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ليكون من خصائص أفضل الأمم بتعقب الثواب للغم والهّم بما يمنع من أثره وطغيانه وإستيلائه على النفوس ،وفيه نكتة وهي تفضل الله عز وجل بازاحة أي مانع ذاتي وكيفية نفسانية تحول دون أداء المسلمين للفرائض والواجبات العبادية على النحو الأتم ، خاصة وأنها تتصف بالدقة في الأداء سواء في الواجب المضيق كالصيام أو الواجب الموسع كالصلاة .
بلحاظ أن الوقت الشرعي لأداء الصلاة أكثر مما يستغرقه أداؤها ، مثل صلاة الصبح فان وقتها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أي نحو ثمانين أو تسعين دقيقة بينما تؤدى ذات الصلاة بخمس دقائق أو نحوها .
ومن خصائص سرعة مجئ الثواب منع صيرورة الغم حاجزاً دون ذكر المؤمنين لله عز وجل أو غفلتهم عما يجب عليهم أزاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد أمر الله عز وجل بطاعة رسوله وقرنها بطاعته ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبّني أحبّه الله .
فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلاّ أن نتّخذه رباً، كما في حديث النصارى لعيسى، فأنزل الله تعالى {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ}( ) فيما أمر به فقد أطاع الله) ( ).
وهل لنزول الثواب على المؤمنين في ميدان المعركة نفع وفائدة في إقبالهم على أداء الفرائض وعمل الصالحات في اللاحق والقادم من الأيام . الجواب نعم ليكون من فضل الله عز وجل على الناس أن كل فرد من الثواب توليدي يترشح عنه ثواب آخر مثله أو أعظم منه .
إن الأرض والسماء ملك طلق لله عز وجل لا يشاركه أحد في ملكه لهما ، وهو الذي يتجلى بوضوح يوم القيامة ، قال تعالى [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ) .
وينتفع الناس في الدنيا من ملك الله عز وجل بما سخره لهم ، وتفضل سبحانه وجعل كل موطن من مواطن الأرض سبيل رحمة وتخفيف وثواب للمؤمنين ، فكل ملك يغضب ويعاقب جنوده إذا علم أنهم إنهزموا مع بقاء قائدهم في الميدان ، سواء خرج هذا القائد سالماً من المعركة أو قتل أو أسر بعد فرارهم وتخليهم عنه ، ولكن الله تفضل وأخبر في آية البحث بأن المسلمين إنهزموا والرسول باق في الميدان ويدعوهم للرجوع ، ومع هذا تفضل الله عز وجل عليهم بالثواب والآجر العاجل وهو من مصاديق [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )بأن جعل المؤمنين ينتفعون من الإقامة في ملكه فأينما يحلون يأتيهم الثواب والأجر لتصديقهم بأنهم والخلائق ملك لله عز وجل ، لذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ( ).
السابعة والعشرون : إرادة تأديب المسلمين بمنع الجدال والخصومة بينهم في أمور الدين والدنيا ، فان مجئ الثواب بالغم ثم النعاس أمنة لتغشيهم بالسكينة في ساحة المعركة وحال القتال وهو برزخ وحائل دون الجدال والتبكيت والتنابز بالفرار ونحوه بينهم مما يدل على لزوم إجتناب الجدال والخصومة ونحوها في حال السلام والرخاء من باب الأولوية القطعية .
وتبذل الدول والمجتمعات والقبائل الجهود والأموال لإصلاح ذات البين ولجمع الكلمة ومنع الفرقة ، وإذا صارت خصومة إجتهد الوسطاء في الصلح ودرء المفاسد التي تترتب على الفرقة وقد يفلحون بعد حين أو يعجزون وتغلق الأبواب أمامهم .
ليتجلى الإعجاز في آيات القرآن فيأتي حرف واحد من حروفه ومجموعها (323671 ) وورد عن ابن عباس قال : وجميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألف حرف وستمائة حرف وأحد وسبعون حرفاً) ( ).
ليكون هذا الحرف وهو الفاء في [فَأَثَابَكُمْ]برزخاً دون حصول الخلاف بين المؤمنين في معركة احد أو بعدها وعند العودة إلى المدينة أو في معارك الإسلام اللاحقة .
ولم يعاقب أو يؤاخذ أحد من ذوي الشهداء من فرّ من المؤمنين يومئذ ويحمّله شطراً من التقصير والتسبيب بقتل الشهيد ، وقد إشترك في معركة أحد من الأنصار حسيل بن جابر الحبسي ومعه إبناه حذيفة وصفوان فقتل المسلمون حسيلاً ظناً منهم أنه من المشركين مع أن إبنه حذيفة كان يصيح محذراً : أبي أبي ، ولكنه لم يسمعوا كلامه
(فتصدق إبنه حذيفة بديته على من أصابه) ( ), أي أنه لم يأخذ منه الدية , ولم يستلمها منه , ويتصدق به على المسلمين , بل تركها لمن قتله خطأ .
الثامنة والعشرون : بيان بركة دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه إذ يتعقبها الأجر والثواب ، بينما تكون عاقبة الذين كفروا في ذات الساعة الهزيمة المقترنة بالخيبة والهوان ، ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توالي النعم على المؤمنين ونزول الأذى والبلاء بأعدائه الذين يحاربونه ، ويقاتلون دون الأصنام وعبادتها ، لذا تضمنت الآية قبل السابقة الإخبار عن علة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بأنه الشرك بالله .
لقد أخبر القرآن عن هيئة وحال الذين كفروا عند رجوعهم إلى مكة بعد إنتهاء معركة أحد بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
أما المسلمون فعادوا إلى المدينة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالثواب لقوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ] ليكون مصداقاً لقوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ).
ومن الإعجاز أن الآية أعلاه نزلت بخصوص معركة أحد ، فلما غادر الذين كفروا معركة أحد وتوجهوا إلى مكة ندموا ندماً شديداً وأصابتهم الحسرة , وعن ابن عباس (قالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم. بئسما صنعتم)( )( ).
وهو من مصاديق الخيبة في قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] لبيان أن خيبتهم ليست مجردة , ولكنها توليدية تترشح عنها أمور :
الأول : الحسرة والندم للذين كفروا .
الثاني : إقرار الذين كفروا بالتقصير المترشح عن إمتلاء نفوسهم بالرعب والفزع .
الثالث : إدراك الذين كفروا العجز عن تحقيق أي غاية من غاياتهم الخبيثة .
الرابع : حصول النزاع والخصومة بين الذين كفروا وهم في طريق العودة , وهو من رشحات الرعب والخوف الذي يملأ نفوسهم .
الخامس : عزم الذين كفروا على الرجوع إلى ميدان معركة أحد ، وتجديد القتال لرميهم الله بالخيبة , ويوحي إلى رسوله الكريم بأن يخرج المسلمون لصدهم ودفعهم ، ولم يكن كل الذين كفروا ينوون الرجوع ولكن شطراً منهم تناجوا بخصوص التورية والتغطية على هزيمتهم فبعث نفراً من المسلمين لتعقبهم والتأكد من عدم عودتهم ، وحتى في بداية إنسحابهم إلى المدينة لم يتركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشأنهم ، فحينما إنصرف المشركون نادوا [إن موعدكم بدر العام المقبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم هو بيننا وبينك موعد.
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبى طالب فقال: اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الابل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الابل فهم يريدون المدينة.
والذى نفسي بيده إن أرادوها لاسيرن إليهم فيها ثم لاناجزنهم.
قال علي عليه السلام : فخرجت في أثرهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الابل ووجهوا إلى مكة) ( ) .
وتلك آية في إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن بعث خلف الذين كفروا في بداية إنسحابهم .
ويدل تكرار بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين متعقبين الذين كفروا على أمور :
الأولى : خيبة الذين كفروا بملاحقة المؤمنين لهم .
الثاني : بيان حقيقة وهي أن المسلمين لم ينهزموا في معركة أحد لقاعدة ظاهرة في فنون القتال , وهي أن المنهزم لا يلاحق عدوه .
الثالث : إنذار الذين كفروا من الرجوع للقتال مرة أخرى , ولم يتعظ الكفار إذ عادوا في السنة الخامسة في معركة الخندق .
الرابع : عجز الذين كفروا عن تعيين موضع ومحل القتال وساحة المعركة ، إذ أن النبي محمداً هو الذي إختار الخروج لهم إلى جبل أحد ، وفي معركة الخندق هو الذي عيّن بقاء أصحابه في المدينة وعدم مغادرتها .
الخامس : طاعة المؤمنين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأمر به ، فمع كثرة الجراحات التي أصابتهم فقد توجهوا صوب المشركين متعقبين طريق مسارهم .
السادس : فيه دلالة وشاهد على تنجز مصداق عملي آني على إنتفاء الحزن عن المؤمنين بقوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ] بلحاظ أن ملاحقة الذين كفروا شاهد على نصر المؤمنين , وإعلان عملي بأنهم مستعدون للقتال مرة أخرى , وفي ذات الميدان ، وهذا الإستعداد من أسباب ووجوه إلقاء الرعب في قلوب الذين آمنوا .
التاسعة والعشرون :صحيح أن الغم في الأصل أذى ولكنه حينما يأتي من عند الله للمؤمنين يكون رحمة ونعمة لذا وصفته الآية بأنه ثواب ، وهل ثواب الغم مثل صيرورة النار التي ألقى فيها إبراهيم برداً وسلاماً كما في قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ) .
الجواب بينهما عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بأن كلاً منهما نعمة من عند الله وشاهد بأن الأشياء المحسوسة وغير المحسوسة للإنسان مستجيبة لله عز وجل ، وأيهما أعظم نعمة الغم ثواباً أم الغنائم التي يجلبها المجاهدون من ساحة المعركة .
الجواب هو الأول ، وينفق مال الغنيمة في الأكل والشرب وحاجات الدنيا ، أما الثواب بالغم فهو نعمة تتغشى النفوس ، ويكون برزخاً دون الكدورات الظلمانية ، وقد تفضل الله عز وجل وذكره في القرآن ليبقى نعمة دائمة وغنيمة متجددة تتضمن معاني الثناء على المؤمنين , وتوثق صبرهم في مرضاة الله , وتسليمهم بأن الغم الناسخ رحمة ونعمة من عند الله عز وجل.
الثلاثون : من الإعجاز في سرعة وحضور الغم في نفوس الصحابة في ميدان المعركة صيرورته برزخاً دون قصر الهمة وضعف المنُة أو الرضا بحال الخسارة والهزيمة ، وهذا الغم من الإعجاز في قوله تعالى في الآية السابقة [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] لأن الغم وسيلة للتدارك وباعث على الإقدام وملاقاة العدو من جديد توكلاً على الله عز وجل وأملاً بالنصر لأنه سبحانه هو الذي تفضل بالغم مقدمة وتذكيراً بلزوم التوكل عليه .
ومن خصائص الغم الناسخ الذي تفضل الله عز وجل به على المؤمنين أنه يجعلهم يتدبرون بما يجب فعله وعدم الإنشغال بما مضى وحده من الفشل والتنازع ومعصية الرماة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكيف أنها سبب لمجئ خيل الذين كفروا من خلف المسلمين وإشاعة القتل بينهم ، لذا تفضل الله عز وجل بعدم تأخير الثواب بالغم بل نزل عليهم وهم في ميدان المعركة بدليل ورود الفاء في قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ] ويدل على هذا المعنى بيان آية البحث لعلة هذا الثواب بقوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ].
بلحاظ أن الحزن إنقباض للنفس وحالة من الكآبة بسبب فوات منفعة ، وعام الحزن هو العام العاشر من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي توفى فيه أبو طالب عم النبي وخديجة بنت خويلد زوج النبي.
الحادية والثلاثون : لقد تفضل الله عز وجل وخفف عن المؤمنين بقوله تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ] ( )لتبين آية البحث الأسباب والوسائط التي ينعم بها الله عز وجل على المؤمنين ويجعلهم يدفعون الذين كفروا وينتصرون عليهم ، ومنها قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] ( ).
ترى كيف يكون التخفيف بالغم ، الجواب من وجوه :
أولاً : نعت الغم بأنه ثواب من عند الله ، وفيه تخفيف لأنه باعث على الشكر لله عز وجل على الثواب واللطف منه تعالى .
ثانياً : لقد نسخ الغم الذي جاء ثواباً من عند الله المتعدد من مصاديق الغم التي جاءت من جهات :
الأولى : إنقطاع حس وقتل الذين كفروا أو حصول النقص فيه.
الثانية : كثرة القتلى من المسلمين .
الثالثة : إصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات والكلوم وإقتراب العدو منه .
الرابعة : إنتشار إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين.
الخامسة : ما ذكرته الآية السابقة من أسباب الغم والهم والحزن والأسى , وهي على وجوه:
الأول : إصابة طائفة من المسلمين بالفشل والجبن وإختباء على الجبل.
الثاني : فرار طائفة من المسلمين من ميدان المعركة.
الثالث : الإختلاف والتنازع بين المسلمين في الثبات والبقاء على جبل الرماة أو عدمه، وما ترشح من الخسارة وشيوع القتل بين المسلمين من التنازع.
الرابع : معصية الرماة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء على الجبل، وهل الفرار من ميدان المعركة من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة[وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] ( ) .
الجواب نعم، لأن تجلي مصاديق النصر للمسلمين في بدايات المعركة أمارة وحجة على لزوم ثباتهم في الميدان.
الخامس : إرادة فريق من المسلمين الحياة الدنيا التي تتجلى بطلب الغنائم والسعي إليها.
ثالثاً : مجئ الثواب للمؤمنين أثناء المعركة وقبل إنقضائها.
رابعاً : تفشي الغم لعموم المؤمنين سواء الذين كانوا في الميدان أو الذين صعدوا الجبل أو الذين فروا في الطريق.
خامساً : صيرورة الغم الثواب سبباً ومقدمة لرجوع المؤمنين إلى ميدان القتال.
الثانية والثلاثون : جاءت الفاء في [فَأَثَابَكُمْ] لسلامة المؤمنين من وسوسة الشيطان ، ومن إلقاء الفتنة بينهم , ولطرد الشك في نفوسهم ، وذكرت الآية التالية ظن فريق من المسلمين بالله غير الحق ز
ويقع الخلاف بين أفراد الجيش قادة وأفراداً عند التعرض للهزيمة والإنكسار خاصة مع تجلي أسباب النصر والغلبة ليتفضل الله عز وجل بمنع هذا الخلاف من جهات :
الأولى : توجيه الخطاب بصعود الجبل إلى المؤمنين جميعاً [إِذْ تُصْعِدُونَ] مع أن نفراً منهم بقوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أن هذا الصعود والفرار مصيبة على الجميع .
وتفضل الله عز وجل وصرف ضرره بدعوة الرسول للذين فروا بالعودة إلى ميدان القتال .
الثانية : ذكر القرآن لموضوع صعود طائفة من المؤمنين الجبل ، وفرارهم , وهذا الذكر دعوة للمسلمين والمسلمات بترك اللوم فيه ، أو التوبيخ بسببه لأنه يدل على جهاد المؤمنين في سبيل الله ، كما تفيد الآية عودتهم إلى الميدان .
الثالثة : دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في أخراهم للرجوع إلى ميدان المعركة ، وهذه الدعوة من الوحي ، وهي شاهد على أن الله عز وجل يقيل عثرة المؤمنين ، ويمنع إستدامة صعودهم في الجبل .
الرابعة : إخبار الآية السابقة عن أمور :
الأول : تفضل الله بالعفو عن المؤمنين .
الثاني : نسبة الآية السابقة للإنصراف في القتال إلى المؤمنين بقوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] ومجئ الخطاب أعلاه بصيغة العموم الإستغراقي الشامل لجميع المؤمنين الحاضرين في معركة أحد .
الثالث : إختتام الآية السابقة بتأكيد فضل الله عز وجل على المؤمنين بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] والآية أعلاه إنحلالية وتقديرها : والله ذو فضل على كل فرد حضر معركة أحد.
الخامسة : البيان التفصيلي لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة بقوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] لبيان تغشي وبلوغ الدعوة لهم جميعاً .
السادسة : مجئ الثواب من عند الله عز وجل للمؤمنين بقوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ] .
السابعة : تعقب الثواب لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإنتفاء التراخي والفترة بين دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع وبين نزول الثواب من عند الله , لبيان قانون وهو أن الثواب الذي يتفضل به الله من أبهى وأجلى مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
وهل كان المؤمنون محتاجين للثواب بالغم أم أنه نافلة وفضل من عند الله , الجواب لا تعارض بين الأمرين ، والصحيح هو الأول والثاني في طوله ، فأن الله عز وجل يعلم ما يصلحهم .
الثامنة : تغشي الثواب لعموم المؤمنين ، وعدم إستثناء بعضهم وهو من عظيم فضل الله عليهم وبركات وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم , فكما وصلت دعوته لهم جميعاً فأنهم جميعاً فازوا بالثواب العظيم .
الثالثة والثلاثون : في قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ] دعوة للمؤمنين من ذوي الإختصاص والقيادة في الأمور العسكرية لإقتباس المسائل منها في باب النظرية والتنفيذ في الحروب ، وكيفية التدارك وتحويل الهزيمة إلى نصر ، ومؤاساة الجنود والنفع المتعدد من صيغ التدارك لجمع أفراد الجيش وإعادة توزيعهم في المواضع ،وهو سبب لبعث الفزع والخوف واليأس في قلوب الأعداء .

بين الغم والنعاس
بين الغم الذي تذكره هذه الآية , والنعاس الذي تذكره الآية التالية[ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا]( )، عموم وخصوص مطلق من جهة المتعلق، إذ أصاب الغم جميع المؤمنين الذين حضروا معركة أحد ، أما النعاس فانه نزل على طائفة منهم ، وهو من إعجاز القر آن ، وليس من فاصلة بين الأمرين سواء في ذات الحدوث وتعقب النعاس للغم أو سياق الآيات ومجئ نبأ النعاس في آية مستقلة وبعد آية الغم لبيان قانون وهو مع توالي الأذى والضراء على المؤمنين تتوالى النعم من عند الله عز وجل لذا تفضل وقال [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه :
أولاً : حث المسلمين على الشكر لله عز وجل بعدم لحوق الضرر بهم في بدايات الدعوة الإسلامية .
ثانياً : الإخبار عن سنخية معارك الإسلام الأولى .
ثالثاً : تأكيد قانون وهو أن الذي صرفه الله عن المسلمين من الأذى والضرر أكثر من الذي لحقهم وأصابهم ، وبين الضرر والأذى عموم وخصوص مطلق ، فكل ضرر هو أذى وليس العكس .
رابعاً : الوعد من عند الله عز وجل للمسلمين بالأمن من إضرار الذين كفروا بهم .
خامساً : إرادة التباين النسبي والموضوعي بين الضرر والأذى ، وعدم إنحصاره بالحكم إنما يشمل الكيف إذ تكون النسبة بينهما على أقسام :
الأولى : الفرق والمائز الرتبي كما في موضوع الجراحات مثلاً ، فان الله عز وجل يحول دون كثرة الجراحات عند المؤمنين ، ويمنع الذين كفروا من مواصلة الضرب بالسيف والرمي بالسهام والحجارة .
الثانية : التباين الموضوعي بين الضرر والأذى ، فيدخل قتل المؤمن في مصاديق الضرر , وتكون الكلوم من الأذى .
الثالثة : إرادة التباين والفارق في مدة وزمان الإبتلاء ، فمدة الضرر طويلة ومتصلة ، ومدة الأذى قصيرة ومنقطعة ، ومن الشواهد حصار قريش للمدينة المنورة في معركة الخندق في السنة الرابعة ، فمن فضل الله بخصوص هذه المعركة وجوه :
الأولى : إكتفاء الذين كفروا بحصار المدينة .
الثاني : عجز الذين كفروا عن إقتحام وغزو المدينة ، مع كثرة أفراد الجيش إذ كان عددهم عشرة آلاف .
الثالث : إرتباك جيش الذين كفروا عند رؤيتهم الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة .
الرابع : قلة أفراد المبارزة والمسايفة بين المسلمين والكفار في معركة الخندق لتكون من الآيات ، فبعد الغم ثم النعاس في معركة أحد تفضل الله وخفف عن المسلمين في معركة الخندق بعدم حدوث القتال العام بين الصفين .
الخامس : قتل الإمام علي عليه السلام لعمرو بن ود العامري فارس قريش، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ: برز الايمان كله إلى الشرك كله)( ).
وفيه شاهد على أن من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ) التخفيف عن المؤمنين في مؤونة القتال فبعد أن فقد المسلمون سبعين شهيداً في يوم واحد في معركة أحد حاصر المشركون المدينة أكثر من عشرين ليلة , ولم يفقد المسلمون إلا ستة شهداء وهم من الأنصار .
الأول : سعد بن معاذ، بني عبد الأشهل , رماه حبان بن العرقة فمات، ويقال رماه أبو أسامة الجشمي .
الثاني : أنس بن أوس بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن زعوراء بن جشم بن عبد الأشهل، قتله خالد بن الوليد، رماه بسهم .
الثالث : عبد الله بن سهل الأشهلي، رماه رجلٌ من بني عويف فقتله.
الرابع : الطفيل بن النعمان. قتله وحشي، وكان وحشي يقول: أكرم الله بحربتي حمزة والطفيل, والطفيل من بني سلمة
الخامس : ثعلبة بن غنمة بن عدي بن نابي، قتله هبيرة بن ابي وهب المخزومي.
السادس : كعب بن زيد من بني دينار ، وكان قد ارتث يوم بئر معونة أي أثخن بالجراحات فحمل , ثم صح حتى قتل في الخندق، قتله ضرار بن الخطاب. ( )
وقتل يومئذ ثلاثة من فرسان المشركين .
السادس : إستنزاف مؤن كفار قريش بالحصار حول المدينة ، لقد قامت قريش قبل الهجرة النبوية , وفي السنة السابعة للبعثة النبوية بحصار بني هاشم في شعب أبي طالب وأصابهم الجوع حتى كان الصَبيان منهم يقتسمان التمرة الواحدة .
ولم تنقطع دعوة النبي مدة الحصار إلى التوحيد والإسلام وكان أهل البيت عضداً له ، أما في حصار الخندق , فقد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم مستعدون للقتال والتضحية في سبيل الله , وقبله قدم سبعون منهم أنفسهم شهداء يوم أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] ( ) .
بلحاظ مجئ حرف العطف (ثم ) وما فيه من معاني التراخي ، وبتقريب إتصال النعاس والأمنة منه لإستدامة نعمة الأمن المترشحة من تضحية شهداء أحد الأمنة والنعاس .
لقد بعثت هذه الشهادة الفزع في قلوب الذين كفروا ، وكانت رسالة تأريخية للكفار بأن المؤمن مشروع شهادة عند إرادة الإجهاز على الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) .
وقد أدرك بعض أقطاب الذين كفروا هذه الحقيقة عند التقاء الصفين يوم بدر قبل وقوع القتال فيها .
فيسقط سبعون قتيلاً من كفار قريش في معركة بدر فيصاب الكفار بالفزع والخوف ، ويسقط سبعون شهيداً من المؤمنين في معركة أحد فيصاب الكفار أيضاً بالرعب ويزداد المؤمنون إيماناً حتى اذا جاءت معركة الخندق , تجلى إستيلاء الخوف على الذين كفروا وصاروا عاجزين عن إقتحام الخندق إلى أن جاءت ريح عاتية من عند الله أدركوا معها لزوم الإنسحاب والفرار [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
ليكون من معاني (ثم) التراخي من جهة الإبتداء والعطف على ما قبلها ومن جهة ذات الموضوع الذي تتعلق به وإستدامته وطول مدته ، ليكون من معاني العطف في المقام أمران:
الأول : قصر مدة الغم الذي أصاب المسلمين ، فان قلت هذا الغم ثواب بذاته وباب للعفو ، والجواب هذا صحيح بدليل قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] ليتم الثواب بتحقق مسمى الغم وليحل بدلاً عنه الأمنة من نعاس , وفيه أجر وثواب آخر.
لتكون هناك ملازمة بين الإيمان والثواب التوليدي المترشح عن ذات الإيمان ومما يتفرع من عمل الصالحات والمناجاة والمبادرة إلى فعل الخيرات ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
الثاني : إستمرار نعمة النعاس والأمنة، وفيه جهات :
الأولى : إستدامة ذات النعاس كوعاء وظرف للأمنة.
الثانية : طول مدة الأمن وإتصاله برجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة.
الثالثة : تجلي كل من نعمة الأمنة والنعاس.
الرابعة : تعدد ضروب الإستدامة الحسنة للأمنة والنعاس والتي هي خير محض من جهة النعاس والأمنة مع إضافة إستمرار وإتصال ما يترشح عنهما من وجوه:
أولاً : ما يتفرع من النعاس من الأثر وأسباب الرضا بأمر الله.
ثانياً : إنقطاع الغم ولجوء المسلمين مع النعاس والأمن إلى الصبر والإسترجاع.
ثالثاً : توجه المسلمين لقادم الأيام ، والإستعداد للمعركة اللاحقة حال الإنتهاء من معركة أحد , وهي معركة الأحزاب , والتي صارت تعرف بمعركة الخندق لأن الذين كفروا توجهوا بالوعيد والتخويف للمسلمين، ساعة إنتهاء معركة أحد، عند عصر الخامس عشر من شهر شوال وهو اليوم الذي وقعت فيه معركة أحد , وما بعدها.
بحث أصولي
يرد الأمر على نحو الإطلاق من غير تعيين لعدد المرات التي يلزم فيها أداء وتكرار الفعل ، فهل تكفي فيه المرة الواحدة أم لابد من التعدد والكثرة ، فيه وجوه :
الأول : كفاية المرة الواحدة عند الجمود على النص ودلالة اللفظ المتحد .
الثاني : إقتضاء الأمر تكرار الفعل وإن كان الأمر متحداً كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] لتجدد التكليف بأدائها في كل وقت من الفرائض الخمسة .
وجاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس قال : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال ابن عباس : نعم . فقرأ { فسبحان الله حين تمسون }( ) صلاة المغرب ، { وحين تصبحون } صلاة الصبح { وعشيا } صلاة العصر { وحين تظهرون } صلاة الظهر وقرأ « ومن بعد صلاة العشاء) ( ).
ويأتي الأمر أحياناً بأداء ذات الفعل متكرراً مع التباين المحدد في الوعاء الزماني لكل منها بما يمنع من التزاحم , كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] بينما ورد الأمر بالحج متحداً كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )ليكون من الإعجاز في التباين في عدد مرات وجوب الأمر في القرآن هو التكرار اليومي لأداء الصلاة , وكفاية أداء المكلف للحج مرة واحدة في العمر .
وفي الأمر بالفعل والإمتثال له وجوه :
الأول : إجزاء المرة الواحدة في الإمتثال للأمر ,وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ .
الثاني : لزوم تكرار الأداء إلا مع القرينة التي تدل على كفاية المرة الواحدة .
الثالث : إرادة المشترك بين المرة الواحدة والتكرار .
الرابع : التوقف في الأداء من جهة المرة الواحدة أو التكرار وتلزم صيغة إفعل طلب ذات ماهية الفعل , وصيرورته أمراً وجودياً .
ومن إعجاز القرآن أنه يجمع بين المجمل والمبين ، فما من أمر مجمل في موضع منه إلا وقد بينه الله في موضع آخر , بالإضافة إلى إستقراء الأمارات والقرائن من ذات آيات القرآن ، وجاءت السنة النبوية للتفسير والبيان في هذا الباب وغيره .
(وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال كتب الله عليكم الحج . فقال رجل : يا رسول الله ، كل عام؟ فأعرض عنه ثم قال : والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما أطقتموها ، ولو تركتموها لكفرتم ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . . . } الآية) ( ) .
وهل وردت دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونداؤه للصحابة بالرجوع في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]على نحو الإتحاد أو التعدد .
الجواب هو الثاني وهو المستقرأ من جهات :
الأولى :صيغة المضارع في الفعل [يَدْعُوكُمْ] وما تدل عليه من التعدد .
الثانية : دلالة الخبر (إلي عباد الله , إلي عباد الله) على التكرار والتعدد .
الثالثة : مجئ التقييد والبيان في الدعوة بملاحقتها ومتابعتها للصحابة بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] إذ أن الآية إنحلالية , فمع صيرورة أي واحد من الصحابة هو آخرهم في الإنهزام وأقربهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والميدان تأتي دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم جميعاً بالعودة .
الرابعة : مجئ بعض الأخبار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو بعض أصحابه بأسمائهم ليتركوا الفرار ويرجعوا إلى الميدان ، وعن محمد بن مسلمة (يقول: سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول يومئذٍ، وقد انكشف الناس إلى الجبل وهم لا يلوون عليه، وإنه ليقول: إلي يا فلان، إلي يا فلان، أنا رسول الله! فما عرج منهما واحدٌ عليه ومضيا) ( ).
علم المناسبة
لم يرد لفظ [تُصْعِدُونَ]في القرآن إلا في آية البحث لبيان حقيقة وهي إنفراد واقعة أحد ببلاء وإبتلاء نزل بالمسلمين , لم يحصل في غيرها من تأريخ الوقائع والحروب التي خاضها المسلمون مع الذين كفروا .
وفيه تأكيد لنعمة الله عز وجل على المسلمين من جهات :
الأولى : ذكر المعصية التي إرتكبها الرماة من المسلمين يوم أحد في القرآن .
الثانية : دلالة واقعة أحد على صبر أهل البيت والصحابة في سبيل الله .
الثالثة : تثبيت معالم الدين وأحكام شريعة سيد المرسلين بالدم وتلقي الضرر من القوم الكافرين .
الرابعة : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من معركة أحد بتعاهد للنصر الذي فازوا به في معركة بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )من وجوه :
أولاً : عجز الذين كفروا عن الوصول إلى المدينة المنورة .
ثانياً :عودة النبي محمد سالماً من المعركة .
ثالثاً : عجز الذين كفروا عن تحقيق نصر في معركة أحد .
رابعاً : تعجل الذين كفروا بالعودة إلى مكة في ذات يوم المعركة.
ومن الإعجاز أنه مع التباين بين عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين الجراحات التي أصيب بها فان كل فرد منها مواساة لذوي الشهداء من المهاجرين والأنصار ، أما سلامته فلأن دوام التنزيل وقوام الدين بها ، فهو خليفة الله في الأرض ، والإمام المقتدى وسيد الأنبياء الذي تترى على يديه الأحكام بالبيان والتعيين ، لتكون فيصلاً بين الهداية والكفر , وسبباً لجذب الناس للإيمان وتنزههم عن براثن الكفر والضلالة ، قال تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ] ( ) .
وما كان عند الأنبياء السابقين فهو عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما الجراحات الشديدة التي أصيب بها فإنها تدل على أمور :
الأول : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتال الذين كفروا بنفسه .
الثاني : بذل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوسع في دفع الذين كفروا .
الثالث : دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الذين فروا من ميدان المعركة , وتقدير قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] إذ تصعدون والرسول يدافع عنكم ويقاتل دونكم ، ويمنع العدو من اللحاق بكم وإقتيادكم أسارى .
ويقال ( ليس بعد الإسار إلا القتل ، أي بعد الأسر ) ( )، وفيه شاهد بأن المتعارف آنذاك قتل الأسير , وفيه مسألتان :
الأولى : عصمة المسلمين من الأسر في معركة أحد بفضل من الله وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة .
الثانية : نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأسر وشماتة الأعداء ، لتكون هذه النجاة معجزة حسية له ، بلحاظ إحاطة آلاف من الذين كفروا به في ميدان معركة أحد , وهم يريدون قتله .
الثالثة : بيان التغيير النوعي الذي حصل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باطلاق سراح الأسرى ، كما في معركة بدر ومنهم من دفع بدلاً وعوضاً ، ومنهم أطلق من غير عوض ، ثم جاءت آيات القرآن بإكرام الأسرى والرأفة بهم ، قال تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ] ( ).
وتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على لزوم التنزه عن البطش بالأسرى والإنتقام منهم وقتلهم , وفيها شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الأسرى تتبين لهم معجزات النبوة عن قرب وبعيداً عن الغشاوة التي يجعلها على أبصارهم وأسماعهم وبصائرهم رؤساء الكفر والضلالة والإقامة بينهم وإتباعهم .
ليكون من معاني قوله تعالى [ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ) تبرأ رؤساء الكفر من أتباعهم بخصوص معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ، إذ ينكرون كونهم سبباً في حجبها عنهم ، أو صدهم عن التصديق بها , ليأتي الأسر رحمة من عند الله عز وجل بالأسير فيطلع عن كثب على الآيات الباهرات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها حسن سمت المسلمين وعنايتهم بالأسير.
ويتجلى الإعجاز بأن آية واحدة نزلت من القرآن جعلت جميع المهاجرين والأنصار والتابعين وذويهم وذراريهم يرأفون بالأسرى ويتعاونون في إعانتهم ولا يتناجون في إيذائهم .
وتكون حالة الرأفة بالأسير برزخاً دون بقائه في مقامات العناد والإصرار على الكفر .
وهل من ملازمة بين الرأفة بالأسير وبين تصديقه وتسليمه بما عند الذين أسروه والغايات التي يسعون إليها ، الجواب لا ، من وجوه :
الأول : جاءت آية العناية بالأسرى لبيان حسن أخلاق المسلمين، وقد ورد في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( )وليكون الأسر وحسن معاملة الأسير مناسبة ومقدمة لهدايته .
الثاني : ترغيب جنود المشركين بالإسلام , وعدم الإصرار على القتال والتفاني فيه ، فيكون من أسباب رجحان كفة المسلمين عزمهم على مواصلة القتال حتى النصر أو الشهادة وتردد الذين كفروا بالقتال وعدم خشيتهم من الأسر وتفضيله على القتل والهلاك ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( ) أي النصر أو الشهادة .
وعن كعب بن عجرة قال ( بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالروحاء إذ هبط عليه أعرابي من سرب فقال : من القوم وأين تريدون؟ قال : قوم بدوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم . قال : ما لي أراكم بذة هيئتكم قليلاً سلاحكم؟
قال : ننتظر إحدى الحسنيين ، إما أن نقتل فالجنة وإما أن نغلب فيجمعهما الله تعالى لنا الظفر والجنة .
: أين نبيكم؟ قالوا : ها هوا . فقال له : يا نبي الله ليست لي مصلحة آخذ مصلحي ثم الحق؟ قال اذهب إلى أهلك فخذ مصلحتك .
فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وخرج الرجل إلى أهله حتى فرغ من حاجته ثم لحق بهم ببدر ، فدخل في الصف معهم , فاقتتل الناس فكان فيمن استشهد … الحديث )( ).
الثالث : بعث الرضا في نفوس ذوي الأسرى فاذا سمعوا بأن أباهم أو أخاهم وقع في الأسر عند المسلمين إطمأنت نفوسهم ، وأدركوا أن أمراً جديداً طرأ في الأرض ، وهو عدم قتل الأسير والتنزه عن إيذائه ، فأسير المسلمين بخير وسلامة ، وهذه الطمأنينة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وهل يتعارض هذا المعنى والطمأنينة التي تنزل في قلوب ذوي الأسرى مع قوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)( ) الجواب لا ، لأن ذات الأسر سبب للرعب والفزع وإستدامته في قلوب الذين كفروا حتى بعد فك قيد الأسير ولحوقه بأهله , إنما هي في طول الرعب لإدراكهم بموضوع الأسر , ومناسبة للتوبة والإنابة وهي علة الرعب.
ترى كيف يكون وقوع المشركين بالأسر مع فرار الصحابة من ميدان المعركة، الجواب حصل هذا الفرار في جولة من معركة مخصوصة وهي معركة أحد ، ومن الآيات أنها بدأت بنصر المسلمين وقتلهم للذين كفروا لقوله تعالى في الآية السابقة [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]وإنتهت بعودة المؤمنين إلى ميدان المعركة وإحاطتهم بالنبي .
لذا فمن معاني خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] إصلاح المؤمنين لمعارك الإسلام اللاحقة، كما حدث في معركة الخندق إذ صبروا أكثر من عشرين ليلة في مواجهة ودفع الذين كفروا، وكذا في معركة حنين إذ بادروا إلى الرجوع عند سماع النداء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحثهم على العودة إلى ميدان المعركة.
الرابع : حب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقاء الله سبحانه لإحتمال القتل في المعركة، لذا ورد قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ) وقد تفضل الله عز وجل ونجاه من القتل في معركة أحد مع شدة هجوم الذين كفروا .
لينتفع ذات الذين كفروا من قريش وذراريهم من سلامته من قتلهم إياه، ليدخلوا في الإسلام ويفوزوا بالتوبة ويصبحوا أمراء وحكاماً في الأمصار.
الخامس : دعوة ذوي الصحابة من النساء والأولاد وعموم المسلمين إلى حث الصحابة على عدم الفرار في القتال وعدم التخلية بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين في ميدان المعركة .
وورد الألف واللام في (الرسول) للعهد ، وإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منه ، وفيه مسائل :
الأولى : ليس من رسول أو نبي أيام نزول القرآن إلا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : بين عيسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فترة خالية من الرسل ، وفي التنزيل [ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ] ( )أي بعد إنقطاع من الرسل بحكمة من عند الله ولبيان أن الله عز وجل يعلم ما يصلح الناس فتفضل بالنبوة الخاتمة .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ) ( ).
الثالثة : توجه الخطاب في آية البحث للمسلمين وتذكيرهم بوجوب طاعة الرسول محمد صلى الله عليه وآله سلم في دعوته وندائه لهم بالرجوع ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] ( ).
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم أن تطيعوا الله .
الثاني : والرسول يدعوكم أن أطيعوه .
الثالث : والرسول يدعوكم أن [َأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
ومن مصاديق الرحمة في قوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] وجوه:
الأول : الفوز بدعوة الرسول من غير واسطة، فذات صحبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة عظمى من عند الله , أما دعوة الرسول فهي نعمة إضافية من وجوه :
أولاً : التشرف بسماع صوت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يأتي الوحي والتنزيل بواسطته ، فقد ينزل ملك غير جبرئيل بالوحي ، أما الذي يتلقاه فهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الحصر والتعيين من عند الله ، وترشح عن هذا التعيين حفظ الله عز وجل له من القتل والأسر والموت ، وتجلى هذا الحفظ بدعوته لأصحابه، بالعودة والسلامة، وعجز غيره عن القيام بذات الدعوة من جهة نفعها وأدائها وأثرها المبارك.
ثانياً : حضور صوت ودعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة وساعة الشدة والضيق .
ثالثاً : دعوة الرسول لأصحابه مدد ونصرة وعون .
الثاني : دعوة الرسول لأصحابه الذين فروا من ميدان المعركة سبيل نجاة لهم في النشأتين .
الثالث : دعوة الرسول لأصحابه مقدمة وطريق لتداركهم القصور والتقصير .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn