المقدمة
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وما فيهن ، وإنفرد بالربوبية المطلقة للخلائق، وجعل مرجعها إليه سبحانه على نحو القهر والمحو والإزالة، قال تعالى [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( ).
الحمد لله الذي لقن العباد حمده وتسبيحه ، وجعل الحمد مصاحباً للموجودات ، وتتعدد وتتباين العوالم وينتقل الناس إلى عالم البرزخ ثم دار الآخرة ويبقى الحمد لله هو الجامع المشترك بينها وبإتصال غير منقطع ، إذ تفضل وجعله واجباً عينياً على المكلفين عدة مرات في اليوم بقراءة كل مسلم ومسلمة في الصلاة قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
ولا يستطيع الناس أن يحصوا منافع هذه التلاوة وأسرار تكرارها في الصلوات اليومية الخمسة فلا يحصيها إلا الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ) .
وتتجلى أفراد النعم الإلهية في المقام من جهات :
الأولى : فرض الصلاة اليومية .
الثانية : تلاوة القرآن في الصلاة .
الثالثة : حال الخشوع عند التلاوة والإنقطاع إلى الله في الصلاة.
الرابعة : قراءة الحمد لله في حال القيام بين يدي الله والتسليم له بالمشيئة المطلقة في سلطانها ونفاذها.
الخامسة : عدم إنحصار التلاوة في الصلاة بقول المصلي الحمد لله ، بل تأتي معه وجوه :
أولاً : الوصف الحسن والثناء على الله والإقرار بأنه رب العالمين ، وفيه شهادة وإعلان بسلامة المسلم من درن الشرك وأسباب الضلالة .
ثانياً : تلاوة آيات سورة الفاتحة الستة الأخرى، وكل آية مدرسة في إظهار العبودية والتسليم لله عز وجل وحسن التوكل عليه سبحانه.
ثالثاً :قراءة سورة وآيات أخرى مع سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة .
السادسة : قراءة المسلمين لسورة الفاتحة وإبتداؤها بالبسملة والنطق بالحمد لله في كل ركعة من ركعات الصلاة .
السابعة : صيرورة الحمد لله صفة ملازمة للمسلم .
الثامنة : تفضل الله عز وجل بهداية الناس وأهل الملل بالحمد له سبحانه.
التاسعة : ورود لفظ الحمد لله في القرآن خمساً وأربعين مرة بصيغ متعددة أكثرها لفظ [الْحَمْدُ لِلَّهِ] الذي ورد فيه سبعاً وثلاثين مرة ، وورد بصيغة الجمع مرة واحدة في قوله تعالى [التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين]( ) .
ليكون من معاني عجز الناس عن إحصاء نعم الله ، هو تخلفهم عن إحصاء وعدّ ما قاله الناس من لفظ [الْحَمْدُ لِلَّهِ]في الأجيال المتعاقبة ، بل يعجزون عن حساب عدد المرات التي يتلو ويقرأ فيها أهل الأرض [الْحَمْدُ لِلَّهِ] في اليوم الواحد ، سواء على نحو الوجوب العيني أو الكفائي أو الندب أو الرجاء والدعاء والتوسل أو بصيغة الشكر لله عز وجل على النعم .
وإذا قرأ المسلم لفظ [الْحَمْدُ لِلَّهِ] في الصلاة أو عند التلاوة مطلقاً وبقصد القرآنية فهل يحتسب عند الله عز وجل شكراً وحمداً منه لله أم أنه إسقاط للواجب.
الجواب هو الأول ، وهو من فضل الله ، ليكون من معاني قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ملازمة لفظ [الْحَمْدُ لِلَّهِ] للمسلمين في مساجدهم ومنازلهم وفي الأسواق والمنتديات ، ليصدق عليهم تسمية ( أمة الحمد لله).
ويكون من معاني الآية اعلاه أن المسلمين( خير أمة ) بتعاهدهم مجتمعين ومتفرقين لفظ [الْحَمْدُ لِلَّهِ] فلا تمر ثانية من الليل أو النهار إلا وعدد من المسلمين ينطقون بلفظ [الْحَمْدُ لِلَّهِ]في الصلاة أو خارجها بلحاظ إنبساط الصلاة في الأرض آنات الليل والنهار لأن أوقاتها بحسب الآيات الكونية كطلوع الفجر وزوال الشمس وغروبها والمساء، قال تعالى في الدلالة على أوقات الصلاة وتعيينها [فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ]( ).
الحمد لله في النعماء وتوالي مصاديقها ، وإزاحة الموانع التي قد تحول دون وصولها للفرد والجماعة ، الحمد لله في السراء والضراء والذي يتفضل ويقرب أسباب الغبطة ووجوه الخير ويدفع الكثير من اللأواء وضروب الضراء , وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
الحمد لله الذي أرسل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً بشيراً ونذيراً ، وحاملاً للواء الحمد في الدنيا والآخرة، وعن إبي سعيد الخدري عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ – آدم فمن سواه – إلا تحت لوائي ، وأنا أوّل من تَنْشَقُّ عنه الأرض ولا فخر . . .
فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم عليه السلام فيقولون : أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك . فيقول : إني أذنبت ذنباً أهبطت منه إلى الأرض ، ولكن ائتوا نوحاً.
فيأتون نوحاً فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقول: ائتوا موسى. فيأتون موسى عليه الصلاة والسلام فيقول: إني قتلت نفساً، ولكن ائتوا عيسى. فيأتون عيسى عليه السلام فيقول: إني عُبِدْتُ من دون الله، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم.
فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها، فيقال : من هذا؟ فأقول: محمد. فيفتحون لي ويقولون: مرحباً. فأخرّ ساجداً فيلهمني الله عز وجل من الثناء والحمد والمجد، فيقال: ارفع رأسك… سل تُعْطَ، واشفع تُشَفّعْ، وقل يسمع لقولك. فهو المقام المحمود الذي قال الله: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً})( ).
الحمد لله الذي جعل القرآن مدرسة الحمد والنور، وجعل الأرض روضة ناضرة بتوالي النعم على الناس عامة والمؤمنين خاصة، وعندما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، أجابهم الله عز وجل بلغة الإحتجاج من مقام الربوبية والإحاطة بكل شئ علماً[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فخرّ الملائكة ساجدين لله عز وجل، وكان من علم الله عز وجل أن ترى وتسمع الملائكة المسلمين يضجون ويلبون بلفظ[الْحَمْدُ لِلَّهِ].
ليقوم الملائكة بتدوينه وتوثيقه وسؤال الله عز وجل الرحمة والعفو عن المؤمنين والتوسل إلى الله عز وجل بهداية الناس أجمعين، ويمكن إستقراء هذا التوسل من الآية وقول الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا]( ) .
بلحاظ المعنى الذي نذهب إليه في تفسير هذه الآية وهو رجاء الملائكة أن يكون أهل الأرض مثل أهل السماء في الإنقطاع إلى العبادة والتسبيح وتنزيه الأرض من الفساد والقتل بغير الحق ، فأخبرهم الله عز وجل بأنه جعل الأرض دار إمتحان وإختبار وفي كل زمان توجد أمة مؤمنة منقطعة إلى العبادة ويصاحبها الوحي والتنزيل على الأنبياء ولا تفارق الحمد لله ، حتى تفضل الله سبحانه وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل عليه القرآن لتكون الحياة بسنخيتها ( دنيا الحمد لله).
ومن الآيات أن الرفعة والعز يصاحب الحمد لله ، فمن إختار الإقامة على [الْحَمْدُ لِلَّهِ] لفظاً وإيماناً وشوقاً وحباً لله عز وجل ، تفضل الله عز وجل وجعل العز والغبطة ملازمتين له في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ومنه بيان السنة النبوية وتفسير ذات آيات القرآن للسنة، من غير أن يلزم الدور بين بيان السنة النبوية وعلوم التفسير لآيات القرآن ، وبيان ذات آيات القرآن لكل منهما ، للتباين الجهتي والموضوعي.
وقد أنعم الله عز وجل علينا بصدور هذا الجزء , وهو التاسع والعشرون بعد المائة من سٍفر(معالم الإيمان في تفسير القرآن).
بعد أن جاءت الأجزاء الثلاثة السابقة في تفسير الآية[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ..]( ) ومنها الجزء السادس والعشرون بعد المائة الذي إختص بالصلة بين شطر من الآية أعلاه بشطر من الآية(151) في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً .
وإذا إنتهج العلماء في الأجيال القادمة ذات المنهجية في علم التفسير وقوانين التأويل فستصل أجزاء ذات التفسير إلى أكثر من عشرين مليون جزء ، لبيان قانون وهو أن علوم القرآن من اللامتناهي وأن ذخائره لا تنقطع ، وخزائنه لا تنقص وورد في التنزيل ورد بصيغة الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبملاك التحدي[قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]( ).
والنسبة بين كلمات الله وبين القرآن الذي هو كلام الله هي العموم والخصوص المطلق بلحاظ أن المراد من كلمات الله هي نعمه وأصناف خلقه وإرادته ومشيئته، وقيل المراد من كلمات الله (أنها علم الله)( ) وهذا الجزء هو القسم الأول من تفسير الآية الكريمة [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا..] ( ).
وقد تقدم في الجزء السابق كيف أن كلمة [فَأَثَابَكُمْ] تتضمن خمس أفراد في إعرابها وهي :
الأول : الفاء حرف عطف .
الثانية : الفعل الماضي (أثاب) .
الثالث : الفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) .
الرابع : الكاف ضمير متصل للدلالة على مفعول به .
الخامس : ميم جمع الذكور .
ويعود فيها الضمير إلى الله عز وجل مع أن الاسم الذي سبقها هو الرسول بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا]( ) لبيان قانون وهو أقوى وأبهى من القرينة الصارفة ، ويتجلى هذا القانون بوجوه :
الأول : لا يقدر على الثواب بالغم والكيفية النفسانية المؤقتة أو الدائمة ، الخاصة والعامة إلا الله عز وجل ، فقد ورد قبل ثلاث آيات بأن الله عز وجل ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب والفزع بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] وفيه نكتة وهي منع المسلمين من الغلو بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من ثمراته المنع من الغلو بالأئمة والأولياء والأنبياء السابقين من باب الأولوية القطعية.
وإبتدأت هذه الآيات بالعطف وذكر نزول النعاس أمنة على المؤمنين وبصيغة إضمار الفاعل بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ]وفيه نكتة من جهات :
الأولى : عطف هذه الآية على خاتمة الآية السابقة التي تتضمن ذكر الله عز وجل باسم الجلالة وعلى نحو النص الصريح بقوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( )
الثانية : لا يننزل النعم أو النقم من إلا الله , ويدل إقتران الأمنة بالنعاس على أن النعاس النازل نعمة وخير محض .
الثالثة : من صفات الله عز وجل أنه يهب النعم المتوالية في الموضوع المتحد، ويحتمل توالي النعم بخصوص الجهة التي تتوجه لها النعم وجوهاً :
أولاً : خصوص الأنبياء ، لأن آية البحث تتعلق بواقعة معركة أحد وحضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقتاله فيها ، فتتوالى النعم عليه بالقضية الشخصية .
بينما تأتي فرادى إلى أصحابه الذين معه في الميدان ، فمثلاً نعمة [َالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] فان نعمة شخص الرسول خاصة به صلى الله عليه وآله وسلم وكذا دعوته لأصحابه من مقام الرسالة .
ثانياً : تتوالى النعم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه الذين بقوا يقاتلون في الميدان ، دون الذين فروا وصعدوا الجبل .
ثالثاً : أما الذين فروا فتأتيهم النعم يومئذ على نحو الإتحاد والإنفراد .
رابعاً : التفصيل لتكون النعم على جهات :
الأولى : النعم المتتالية التي تأتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الموجبة الكلية .
الثانية : النعم المتتالية التي هي على نحو الموجبة الجزئية للمؤمنين الذين ثبتوا في الميدان.
الثالثة : النعم التي تأتي فرادى للمؤمنين الذين فروا من ميدان المعركة ، وهل قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] نعمة على خصوص الذين صعدوا الجبل وفروا من المعركة أم أنها أعم.
الجواب هو الثاني من وجوه :
الأول : إنها نعمة من عند الله على المؤمنين الذين ثبتوا في الميدان من جهات :
الأولى : الشهادة النبوية للمؤمنين بأنهم لم يغادروا مواضعهم في المعركة.
الثانية : دعوة الرسول للذين فروا من المعركة حث لهم على البقاء في ميدان المعركة.
الثالثة : إذا كان الرسول قد دعا ونادى الذين فروا من المعركة ففيه دعوة للذين ثبتوا في الميدان لشكر الله عز وجل على نعمة البقاء ومواصلة القتال.
الرابعة : عودة الذين فروا مدد وعون للذين بقوا في الميدان لذا لم يستحدث قتال بعد تلك الدعوة.
الخامسة : نعمة الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعو أصحابه للرجوع إلى ميدان المعركة.
الثاني : لإنها نعمة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه وأصحابه والتابعين من أمته.
الثالث : دعوة الرسول نعمة على الذين فروا وصعدوا الجبل للعودة إلى ميدان المعركة من جهات:
الأولى : دعوة الصحابة الفارين للإلتفات إلى حالهم وفرارهم ليكون من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] أي لا تلوون على أنفسكم وحالكم.
الثانية : دعوة الرسول نعمة للذي تتوجه إليه، والإستجابة لها عز ورفعة وسلامة من الشنار( ).
الثالثة : إرادة إجتماع المؤمنين في موضع واحد، وترك التشتت والتفرق، لذا فان هذه الدعوة المباركة من مصاديق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
والفرار من ميدان المعركة أحد، إبتعاد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتفرق في الآفاق، مما يجعل الذين بقوا في الميدان من المؤمنين في شدة وضرر بتعدي الذين كفروا.
فكما أن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه زجر ونهي عن البقاء في حال فرار فانه دعوة لتجلي معاني الأخوة الإيمانية والإيثار والتضحية والفداء.
وإذ أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى[وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( )، إبتدأت آية البحث بما يفيد تفضل الله بإصلاح المسلمين لعمل ما فيه بناء صرح الإيمان، والمسارعة في فعل الخيرات، والفوز بالنعيم الدائم في الآخرة .
وأخبرت الآية السابقة بفرار شطر من الصحابة وصعود طائفة منهم الجبل القريب من ميدان معركة أحد وتضمنت الآية فضل الله عز وجل بمواساة المسلمين وإذا أعطى الله فإنه يعطي بالأتم والأوفى، فقد تفضل سبحانه بالغم ثواباً وجزاءً عاجلاً ليكون واقية من الحزن وإن تعددت أسبابه في معركة أحد كما سيأتي بيانه( )، لتدل مضامين الآية السابقة على عدم ثبوت قانون العلة والمعلول إلا أن يشاء الله، وأن الإيمان باب لنزول الفضل الإلهي بما يفوق هذا القانون ويقع الإستثناء منه بالبينة والبرهان، ويدل عليه قوله تعالى في الآية قبل السابقة[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ).
وإبتدأت الآية السابقة بقوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ ] لبيان فرار عدد من الصحابة يوم أحد، وفيه بعث للحزن والأسى في النفوس على وجوه :
أولاً : بعث الحزن في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص أصحابه ونتيجة المعركة على الخلاف من حالهم والنتيجة لمعركة بدر التي قال الله تعالى فيها[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
ثانياً : الفرار باعث للحزن في نفوس أهل البيت والصحابة الذين كانوا في ذات الساعة يقاتلون في الميدان.
ثالثاً : يبعث الفرار الحزن في نفوس ذات الصحابة الذين فروا من الميدان.
ومن معاني الحزن في المقام عدم إبتعادهم في فرارهم عن ميدان المعركة، ويدل عليه قوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ] أي أنهم إختاروا الصعود على الجبل القريب من المعركة مع أنه ليس واقية من القتل والأسر لإنكشافهم للعدو وقربه منهم، ويدل عليه تقييد وبيان دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم بأنها في أخراهم بقوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] أي أنهم مجتمعين ومتفرقين يسمعون دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالرجوع إلى المعركة ليتناجوا في العودة إلى المعركة، نعم قد يقال بدلالة هذا القيد بأن الذين هم آخر الفارين هم الذين يسمعون الدعوة والنداء وهم أقرب الفارين إلى ميدان المعركة حيث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجهة صدور الدعوة لهم بالرجوع .
والجواب أن الآية أعلاه جاءت بصيغة العموم الإستغراقي ( يدعوكم ) وذات اللغة التي إبتدأت فيها آية السياق (إذ تصعدون) لبيان بلوغ الدعوة جميع الذين فروا بالإضافة إلى صيغة الرسالة في سنخية الدعوة والنداء وما لها من النفع والبركة، وهل تدل على لزوم مناجاة الصحابة بالرجوع إلى ميدان المعركة.
الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ليكون من معاني الرحمة الإلهية في المقام إنقطاع القتال وعدم تجدده بعد دعوة الرسول.
رابعاً : يصيب الحزن المسلمين والمسلمات في المدينة، عندما سمعوا بفرار فريق من الصحابة، وهو الأمر الذي ظهر على لسان بعض المؤمنات في الطريق بين المدينة وموضع معركة أحد.
خامساً : من إعجاز القرآن إصابة كل مسلم ومسلمة وإلى يوم القيامة بالحزن عند تلاوة الآية التي تتضمن فرار المسلمين من الميدان، وتركهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل خلف ظهورهم.
ومن اللطف الإلهي أن ذات الآية التي ذكرت فرارهم بينت ما يدفع عنهم الحزن من وجوه:
الأول : التقييد والحصر في فرار شطر من الصحابة وعدم إبتعادهم عن ميدان المعركة.
الثاني : صدور الدعوة من الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالعودة إلى ميدان المعركة.
الثالث : ذكر الآية السابقة لتغشي الغم المسلمين ثواباً من عند الله على ما أصابهم من غم لكيلا يحزنوا، وفيه نسخ ومنع للحزن بين المسلمين بخصوص ما وقع في معركة أحد.
وجاءت آية البحث بمضامين قدسية تبعث السكينة في نفوس المسلمين إذ بدأت بالعطف ونزول الأمنة على الجاهدين يوم أحد لتبقى تصاحب المسلمين إلى يوم القيامة[فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ليترشح عن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قانون وهو لزوم المناجاة بين المؤمنين من جهات:
الأولى : الثبات في الميدان.
الثانية : المرابطة في الثغور.
الثالثة : إستحضار قوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] في كل زمان، والتدبر في معانيه.
الرابعة : المناجاة بين المسلمين في العودة إلى الميدان والصبر في ملاقاة الحتوف، وفيها بعث للفزع والخوف في قلوب الذين كفروا، وبرزخ دون إستدامة القتال, وهو مكروه بذاته.
ومن أسرار قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، وذخائر الأحكام الكامنة فيه أنه باعث للإنسان على إجتناب القتل والتعدي بالجناية خشية القصاص , فيكون في هذا الحكم حياة للقاتل والمقتول، أي للذي ينوي القتل ويعزم عليه، وللذي أريد وقوع القتل عليه، ولا تشترط الآية أعلاه بتنجز وتحقيق كل حكم قصاص بدليل عمومات قوله تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( )، ولكن ذات حكم القصاص ومجيئه في القرآن زاجر عن إشاعة القتل، وكذا بالنسبة لقوله تعالى(والرسول يدعوكم) فإنه زاجر ومانع من الهجوم على المدينة والمسلمين وتجدد القتال، وهو من الإعجاز في بقاء الآية القرآنية غضة طرية يتجلى نفعها من جهات:
الأولى : هذه الدعوة وقاية من القتال.
الثانية : إنها حرز أثناء القتال، ومانع من الفرار.
الثالثة : دعوة الرسول وسيلة مباركة للتدارك والرجوع إلى الميدان إن حصل الفرار.
الرابعة : دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى[وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( )، ففيها والإستجابة لها بر وصلاح، وهل من أبهى مصاديق التقوى في ساعة الضيق والشدة.
الخامس : في الآية تأديب لأمراء السرايا التي بعثهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولعامة أفراد السرايا والغزوات بالإستجابة لهم عند دعوتهم لهم، ومحاكاتهم لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحينما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض كما ورد حكاية عنهم في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، رد الله عز وجل عليهم بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علمه تعالى قوله تعالى(والرسول يدعوكم) وكونه مانعاً من الإفراط في القتل، والتجدد المستمر للقتال، لأن هذه الدعوة برزخ دون طغيان وغرور الذين كفروا، ومانع من إتباع الناس للطواغيت خاصة وأنها ليست مجردة بذاتها، بل تأتي مع البراهين والحجج الكونية والنبوية والتنزيلية التي تدل على وجوب الإيمان بالله واليوم الآخر، وحرمة سفك الدماء، ومحاربة الإسلام وتجهيز الجيوش على المسلمين، ووردت قصص القرآن ببيان سوء عاقبة الطاغين، قال تعالى[وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( )، لبيان حقيقة وهي أن هذه العاقبة من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن بديع خلق الإنسان وأن نعمة الأمن يعرف حقها الذي هو يتمتع بها والذي هو خارج عنها فاقد لها، ليتفضل الله عز وجل ويبين في آية البحث الملازمة بين الإيمان والأمن وحتى في حال القتال.
ومن فضل الله عز وجل أني أقوم بالتأليف والتصحيح والمراجعة لكتبي في التفسير والفقه والأصول والأخلاق إلى جانب مسؤولية تدريس البحث الخارج لفضلاء الحوزة العلمية، والإجابة على الفتاوى الشفوية والتحريرية.
وعن سخبرة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أعطي فشكر ، وأبتلي فصبر ، وظلم فاستغفر، وظلم فغفر , ثم سكت، فقيل: ما له يا رسول الله؟ قال: ( أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)( )( ).
3/11/2015
25 محرم الحرام 1437هـ
قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] الآية 154
الإعراب واللغة
ثم : حرف عطف يفيد التراخي .
أنزل : فعل ماض مبني على الفتح , والفاعل ضمير مستتر تقديره ( هو ) يعود لله عز وجل ، ولا يقدر على إنزال النعاس ومتصفاً بالأمنة غيره سبحانه ، فان قلت قد يتوصل الطب إلى بعث النعاس عند الإنسان ويتصرف في مقداره.
والجواب هذا صحيح , ومنه علم التخدير في طب الإبدان ومقدمة العملية الجراحية ، ولكن الموضوع مختلف فلم يأت النعاس بالآلة والحس واللمس والجارحة . أو الواسطة ، بل نزل نزولاً من عند الله ومن غير أن ترى له مادة أو جنس , وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الجند في الآية أعلاه ما يكون في الحرب وضد الأعداء.
والجواب هو الأول، فالنعاس من جنود الله ورحمة وهو علة لبعث السكينة في نفوس المؤمنين .
عليكم : حرف جر ، والضمير (كم) في محل اسم مجرور متعلق بأنزل.
من بعد : جار ومجرور متعلق بأنزل ، و(بعد) نقيض قبل ، وهو ظرف مبهم ، يعلم معناه بالإضافة لما بعده ، كما في آية البحث ( من بعد الغم ) ليدل على ما هو لاحق ومتعقب للغم ، ويكون مجروراً كما في آية البحث، ويأتي منصوباً، كما ورد في التنزيل [فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ] ( ).
الغم : مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الكسرة تحت آخره.
أمنة : مفعول به منصوب .
نعاساً: بدل من [أَمَنَةً] منصوب مثله .
يغشى: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعة الضمة المقدرة على الألف، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو أي النعاس .
طائفة : مفعول به منصوب .
منكم : جار ومجرور ، متعلق بمحذوف نعت لطائفة .
وطائفة : الواو حرف عطف وإستئناف ، إنه حرف عطف من جهة إتحاد لفظ طائفة في المعطوف والمعطوف عليه ، ولأن كلاً منهما قسم من جيش المسلمين .
وهو حرف إستئناف بلحاظ التباين الموضوعي ، وقد ذكرت كتب الإعراب أنه حرف إستئناف على نحو الحصر ، إذ أن القول بإجتماع معنى ودلالات العطف والإستئناف أمر مستحدث في تفسيرنا هذا بلحاظ أمور :
الأول : سعة وتعدد معاني اللفظ القرآني .
الثاني : تقسيم حرف (الواو) إلى حرف عطف وإستئناف إستقراء من علماء النحو والبلاغة ، والقرآن أعم في موضوعه ودلالته.
الثالث : لو دار الأمر بين الإتحاد والجمع ، فالجمع هو الأفضل ما دام يسعه اللفظ .
الرابع : لزوم عدم تفويت معنى بياني للفظ القرآني ومصداق من رشحات علم التفسير، نعم، قد ينحصر معنى الحرف بالعطف أو الإستئناف مع القرينة.
ويحتمل الأصل في معنى الحرف (الواو) في لغة القرآن وجوهاً:
الأول : الإطلاق وتعدد المعنى.
الثاني : الحصر بمعنى واحد هو العطف أو الإستئناف .
الثالث : إرادة المعنى الأعم الجامع للوجهين أعلاه، إلا مع الدليل أو القرينة على أحدهما.
والصحيح هو الأول فالأصل في حرف الواو الذي يتوسط بين إسمين في القرآن هو العطف والإستئناف إلا أن تدل قرينة أو أمارة صارفة إلى أحدهما دون الآخر، وفيه فتح لأبواب من علوم وذخائر القرآن .
وتبين مضامين آيات القرآن أن علم التفسير أوسع وأعم من مفردات الصناعة النحوية ، والتقسيمات الإستقرائية فيها ، خاصة وأن نزول القرآن سابق زماناً لتأسيس علم النحو ، وفيه نكتة وهي التوسعة والزيادة في علم النحو بلحاظ ما يترشح عن القرآن من العلوم ، والمندوحة في ضوابط وقواعد النحو العربي .
طائفة : مبتدأ مرفوع على القول بأن الواو حرف عطف وإستئناف .
قد : يأتي حرف (قد) على وجهين :
الأول : يأتي (قد) مع الفعل المضارع ، ويكون على شعبتين :
الأولى : إفادة التوقع، ورجحان حدوث الفعل، وهذا المعنى قد يرد في القرآن ولا يفيد إلا الوقوع مثل قوله تعالى[قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ]( ).
الثانية : إفادة التقليل مثل : قد أتيتم للصلاة أي قلما إنتقل من الطهارة المائية كمقدمة للصلاة إلى الطهارة الترابية كبديل عنها.
الثاني : يأتي(قد) مع الفعل الماضي، ويفيد التحقيق، قال تعالى [قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ]( ).
وجاءت أكثر أفراد (قد) الواردة في القرآن من هذا الوجه ، ومنها ما ورد في آية البحث .
أهمتهم : أهمّ : فعل ماض ، والتاء : تاء التأنيث الساكنة و(هم) ضمير مفعول به .
أنفسهم : أنفس : فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره.
و(هم) ضمير مضاف إليه .
يظنون : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو: فاعل.
بالله: جار ومجرور متعلق بالفعل (يظنون).
غير : مفعول مطلق لتأكيد معنى الظن ، ولإخراج اليقين والظن الصحيح والمعتبر بالتخصيص.
ظن : مفعول مطلق لبيان النوع، وهو منصوب بالفتحة.
الجاهلية : مضاف إليه مجرور، وعلامة جرة الكسرة تحت آخره.
يقولون : مثل (يظنون).
هل لنا : هل حرف إستفهام.
اللام : حرف جر ، والضمير (نا) في محل جر متعلق بمحذوف خبر مقدّم من جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من شىء .
من شيء : من حرف جر زائد .
شيء : مجرور لفظاً مرفوع محلاً مبتدأ .
قل إن الأمر كله لله .
قل : فعل أمر مبني على السكون ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (أنت ) يعود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
إن : حرف مشبه بالفعل للتوكيد .
الأمر : اسم (إن ) منصوب بالفتحة .
كله : كل : اسم يدل على الشمول والإستغراق لأفراده ومصاديقه في الموضوع أو الحكم المتحد ، وغالباً ما يأتي (كل) مضافاً وبحسب موقعها من الجملة من جهة الأجزاء والأفراد والتذكير والتـأنيث.
وجاءت في الآية تأكيداً معنوياً ، ومضافاً إلى الضمير (الهاء ) .
لله : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر (إن) .
يخفون : مثل (يظنون في أنفسهم) .
(في أنفسهم).
(في أنفس) جار ومجرور متعلق بـ ( يخفون ) .
هم : ضمير مضاف إليه .
ما لا يبدون لك : ما : اسم موصول مبني في محل نصب مفعول به.
لا : نافية .
يبدون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو: فاعل.
لك : اللام حرف جر، والكاف ضمير في محل جر متعلق بـ (يبدون) .
يقولون : مثل (يبدون )
لو : حرف شرط غير جازم .
كان : فعل ماض ناقص.
لنا : اللام حرف جر ، و( نا ) ضمير في محل جر متعلق بمحذوف خبر متقدم .
من الأمر : جار ومجرور متعلق بمحذوف حال .
شئ : اسم كان مؤخر مرفوع .
ما : نافية .
قتلنا : قتل : فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون .
و(نا): ضمير نائب فاعل .
ها هنا : ها : حرف تنبيه .
هنا : اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب ظرف مكان متعلق بـ ( قتلنا ) .
قل: فعل أمر مبني على السكون، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والمقصود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لو كنتم في بيوتكم: لو: حرف شرط غير جازم .
كنتم : فعل ماض ناقص، والميم جمع الذكور.
في بيوتكم : في حرف جر .
بيوت : اسم مجرور متعلق بمحذوف خبر كنتم ، (كم) ضمير مضاف إليه .
لبرز الذين كتب عليهم القتل : لبرز : اللام لام العاقبة ، والمشهور في الصناعة النحوية أنها لام القسم ، ولا دليل عليه .
برز : فعل ماض .
الذين : اسم موصول في محل رفع فاعل .
كتب : فعل ماض مبني للمجهول .
عليهم : جار ومجرور متعلق بـ (كتب ) .
القتل : نائب فاعل مرفوع .
إلى مضاجعهم : إلى : حرف جر ، مضاجعهم : اسم مجرور ، وهو مضاف والضمير (هم) في محل جر مضاف إليه .
وليبتلي الله ما في صدوركم:
الواو : حرف عطف وإستئناف .
اللام : للتعليل.
ليبتلي : فعل مضارع منصوب بـ(أن ) مضمرة بعد اللام .
الله : اسم الجلالة فاعل مرفوع .
ما : اسم موصول مبني في محل نصب مفعول به .
في صدوركم : في : حرف جر .
صدوركم : اسم مجرور وعلامة جره الكسرة تحت آخره، وهو مضاف.
والضمير (كم) مضاف إليه .
ويتعلق الجار والمجرور بمحذوف صلة (ما).
وليمحص ما في قلوبكم: الواو: حرف عطف وجملة ليمحص مثل جملة ليبتلي.
والله عليم :الواو: حرف جر إستئناف.
الله: اسم الجلالة مبتدأ مرفوع بالضمة.
عليم: خير مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره.
بذات الصدور: الباء حرف جر.
ذات: اسم مجرور وعلامة جرة الكسرة وهو متعلق بـ(عليم).
الصدور: مضاف إليه مجرور وعلامة جرة الكسرة.
والنعاس : إبتداء النوم بأن يشعر الإنسان بالحاجة إلى النوم وبعده الوسن (وهو ثقل النعاس ثم الترنيق، وهو مخالطة النعاس العين ثم الكرى والغمض، وهو أن يكون الإنسان بين النائم واليقظان ثم التغفيق، وهو النوم وأنت تسمع كلام القوم، عن الأصمعي , ثم الإغفاء، وهو النوم الخفيف ثم التهويم والغرار والتهجاع، وهو النوم القليل ثم الرقاد، وهو النوم الطويل ثم الهجود والهجوع والهبوغ، وهو النوم الغرق ثم التسبيخ وهو أشد النوم) ( ) .
وفي أوائل الأشياء يقال : (الصبح أول النهار ،الغسق أول الليل ،الوسمي أول المطر ، البارض أول النبت ، اللعاع أول الزرع، وهذا عن الليث اللبأ أول اللبن ،السلاف أول العصير ،الباكورة أول الفاكهة ،البكر أول الولد ،الطليعة أول الجيش ، الوخط أول الشيب، النعاس أول النوم .
الحافرة أول الأمر، قال الله عز وجل[يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة] ( )، أي في أول أمرنا. أي أن منكري البعث يقولون على نحو الإستفهام أنرد بعد موتنا إلى لأول الأمر وإلى الحياة ويقال في المثل: النقد عند الحافرة. أي عند أول كلمة الفرط أول الوراد وفي الحديث: أنا فرطكم على الحوض) ( )، أي أولكم .
الزلف أول ساعات الليل، واحدتها زلفة، عن ثعلب عن ابن الأعرابي الزفير أول صوت الحمار، والشهيق آخره، عن الفراء النقبة أول ما يظهر من الجرب، عن الأصمعي العلقة أول ثوب يتخذ للصبي، عن أبي عبيد عن العدبس الاستهلال أول صياح المولود إذا ولد العقي أول ما يخرج من بطنه النبط أول ما يظهر من ماء البئر إذا حفرت الرس والرسيس أول ما يأخذ من الحمى الفرع أول ما تنتجه الناقة) ( ).
والمضاجع : جمع مضجع ، وهو محل الضجوع والرقود إلى النوم ، قال تعالى [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ] ( ) أي ترتفع وتتباعد أضلاعهم وجوانبهم عن الفرش ومواضع النوم ، ، وقال الشاعر :
وقُل لَهُم مَا جَفَّ لِي مَدْمَعٌ … ولا هَنَاني بَعْدَكُم مَضْجَعُ( )
وأطلق الضجوع على مصارع القتلى إستعارة
قانون العطف بين الآيات
من الإعجاز في هذه الآية والآيات السابقة التي تربط بينها لغة العطف والتي إبتدأت بالنداء بصفة الإيمان [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا]( ) أن كل جملة منها تتضمن المدح والثناء على المسلمين ، وصيغة العطف بين هذه الآيات أعم من حروف العطف ومنها :
الأول : حرف الواو الذي إبتدأت به الآية قبل السابقة بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
الثاني : حرف الإضراب [بل] الذي يتصف بأمور:
أولاً : الربط بين ما قبله وما بعده.
ثانياً : إرادة إتحاد الموضوع والإشتراك بين ما قبله وما بعده.
ثالثاً : عطف ما بعد ( بل ) على ما قبله، إذ أن (بل) من حروف العطف.
رابعاً : يكون معناه إضراباً عن الأول أي ما قبله.
خامساً : إثبات الثاني الذي يلي بعده.
الثالث : مجئ العطف بالواو في وسط الآية.
وجاءت واو العطف في ثنايا آية البحث والآيات الأربعة السابقة لها ، ولم ترد في آية [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا].
الرابع : العطف بـ[ثم] وهي من أدوات العطف، وتفيد التراخي بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] لدلالة معنى حرف [ثم] على الصلة والتعاقب بين ما قبلها وما بعدها مع وحدة الموضوع والجنس .
الخامس : إتحاد صيغة الخطاب في هذه الآيات ومجئ الضمائر المتشابهة التي تشير إلى عموم المسلمين والمسلمات .
وإبتدأت آية البحث بحرف العطف (ثم) لبيان إتصالها في الموضوع مع ما سبقها , ويحتمل وجوهاً :
الأول : عطف هذه الآية على الآية السابقة .
الثاني : عطف هذه الآية على شطر من الآية السابقة .
الثالث : عطف شطر من آية البحث على الآية السابقة .
الرابع : عطف شطر من آية البحث على شطر من الآية السابقة.
السادس : عطف هذه الآية على الآيتين السابقتين .
السابع : عطف هذه الآية السابقة وشطر من الآية التي قبلها .
الثامن : عطف هذه الآية على الآيات السابقة .
التاسع : إرادة التبعيض بأن يعطف شطر من آية البحث على الآية السابقة أو الآيات السابقة ، وعطف شطر من الآية على شطر من آية سابقة أو آية أخرى غير التي عطف عليها الشطر الآخر من الآية .
العاشر : العطف في الآية الواحدة ، وهو كثير في القرآن بأن تعطف كلمة على كلمة أو جملة على جملة ، وأغلب آيات القرآن تتكون من أكثر من جملة مفيدة، ومن خصائص العطف في القرآن تعدد الحكم في ذات الموضوع أو الموضوع المتعدد ، كما يتجلى في أمهات التكاليف ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
وليس من حصر لموضوع العطف في القرآن ، وبالنسبة لآية البحث فإنها معطوفة على الآيات الخمسة السابقة، وفيه مسائل :
الأولى : وحدة موضوع الآيات , وإرادة الصلة والتداخل بين مضامينها القدسية .
الثانية : دعوة المسلمين والناس جميعاً على إستقراء الأحكام بلحاظ الصلة بين هذه الآيات ، وهو لا يتعارض مع إرادة المعنى الخاص لكل آية وهو من إعجاز القرآن بأن يكون معنى وأسرار الفصل بين الآيات ، إذ تستقل كل آية بموضوعها ويستقرأ حكم آخر من صلتها مع الآيات الأخرى.
وتفضل الله عز وجل وبيّن هذا المعنى بلحاظ صيغة العطف التي تدعو الكافر والمسلم ، إلى الربط بين الآيات ، وتجذب الأسماع للإنصات والإلتفات للصلة بين الآيات , وفيه تنمية للمدارك العقلية من جهات :
الأولى : تعلق معرفة تمام المعنى ومضمون الآية على الإحاطة بمضامين الآيات التي عطفت عليها الآية أو التي عطفت على ذات الآية .
الثانية : موضوعية الإلتفات بمعناه الأعم في الإصلاح البلاغي من وجوه:
الأول : الإنتقال من لغة الخطابة إلى الغائب أو العكس.
الثاني : رفع الملل.
الثالث : جذب الأسماع.
الرابع : إضفاء طراوة على الكلام كما في الإنتقال من الغائب إلى لغة الخطاب في قوله تعالى [ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
وهل من فارق ومائز بين الإلتفات في القرآن والإلتفات بمعناه الأصطلاحي البلاغي ، الجواب نعم ، النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فكل إلتفات قرآني هو إلتفات بلاغي وليس العكس وإن كانت دلالات الإلتفات اللغوي محصورة فان دلالات الإلتفات القرآني غير محصورة.
وقد تجد الإلتفات القرآني من آية واحدة كما في قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ).
وتحتمل بدايات آيات القرآن وجوهاً :
أولاً : أكثر آيات القرآن تبدأ بالعطف على ما قبلها .
ثانياً : التساوي بين الآيات التي تبدأ بالعطف والآيات التي تأتي في موضوع أو حكم مستقل .
ثالثاً : الآيات التي لا تبدأ بالعطف أكثر من الآيات التي تبدأ بالعطف .
رابعاً : أكثر آيات القرآن تتضمن العطف بين مضامينها في ذات الآية , ويحتمل العطف هنا جهتين :
الأولى : العطف بالمعنى الإصطلاحي وبحروف العطف وهي الواو ،ثم ، الفاء، حتى، أو، أم، لا، بل، لكن.
الثانية : العطف بالمعنى الأعم الذي ذكرناه في الصفحات السابقة ، إذ أن حصر المعطوف بحروف خاصة أمر إستقرائي في الصناعة النحوية , ولكن مضامين القرآن وقواعد العطف فيه أعم وأكثر وهو من العلوم الخاصة بالقرآن والتي تفتح أبواباً غير متناهية من الإستنباط والإستقراء وقواعد الإقتباس .
والمختار هو الأول والرابع أعلاه بجهتيه.
وهل يلتفت العالم والقارئ والمستمع لذخائر العطف ذات السنخية المتعددة في القرآن ، الجواب نعم ولو على نحو الإجمال والموجبة الجزئية , لتبقى هذه الذخائر والكنوز تدعو العلماء في كل زمان لإستظهار علوم القرآن.
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآية السابقة [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ..] ( )وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : إذ تصعدون ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً) وفيه وجوه :
الأمر الأول : بيان التباين من جهة الصدور بين أمرين :
أولاً : الصعود على الجبل ، وإتخاذه طريقاً للعزوف والإبتعاد عن ميدان المعركة من قبل طائفة من المسلمين .
ثانياً : الأمنة النعاس ، وصدوره من عند الله عز وجل .
لقد أراد الله عز وجل من المؤمنين الجهاد والثبات في ميادين القتال ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) .
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة الحسنة للمؤمنين في ثباته وسط المعركة مع زحف الكفار وصيرورتهم على بعد أمتار معدودات منه بحيث تصله حجارتهم لذا لاقت دعوته لأصحابه الذين فروا بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]الإستجابة منهم .
الأمر الثاني : بيان إتصال إستدامة وتوالي وتعاقب مصاديق فضل الله عز وجل على المؤمنين ، فيتفضل الله عز وجل ويذكر في الآية السابقة صعود وفرار طائفة من الصحابة ، وعدم إلتفاتهم إلى ميدان المعركة ولمعان السيوف فيها فيأتي فضل الله عز وجل بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع , ويبعث الرعب والخوف في قلوب الكفار
الثالث : لقد جعل الله عز وجل في القرآن أعظم وأبهى القصص ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ) وهناك مسألتان :
الأولى : هل تشمل قصص القرآن الوقائع التي مرت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
الثانية : تحتمل قصص القرآن وجهين :
أولاً : قصص القرآن بمرتبة واحدة من الحسن والتفضيل .
ثانياً : قصص القرآن من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة من الحسن .
أما الأولى فالقدر المتيقن من القصص هي الوقائع والأحداثالتي تخص الأمم السابقة ، لأن القصة تتألف من أطراف :
الأول: رؤية القصة .
الثاني : موضوع القصة .
الثالث : الذي تقُص عليه القصة ويستمع إليها .
وذكر الوقائع التي جرت للنبي محمدج صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن من باب الذكرى والموعظة والتوثيق السماوي وأما بالنسبة للمسألة الثانية فالمختار هو أولاً أعلاه من جهات :
الأولى : كل قصة في القرآن من الله عز وجل .
الثانية : صبغة القرآنية لكل قصة من القرآن .
الثالثة : نزول قصص القرآن بواسطة جبرئيل عليه السلام على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : سلامة القصة القرآنية من التحريف والتبديل والتغيير .
الخامسة : كل قصة قرآنية موعظة وعبرة ، نعم تختص الآيات الخاصة بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذكرها لسنة النبي القولية والفعلية والتقريرية والتدوينية والدفاعية ، ومنها كل من آية البحث والسياق , وما فيهما من بيان لواقع معركة أحد ، وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وما لاقوه من الأذى مناسبة لإستقراء المعجزات التي تفضل الله سبحانه يومئذ .
ومن الثابت تأريخياً أن المسلمين لم ينهزموا أول المعركة ولم يكونوا بكفة متساوية مع الذين كفروا بل كانت الغلبة للمسلمين ومن الإعجاز الغيري لآيات القرآن مجئ الأخبار التأريخية عن الوقائع التي تذكرها موافقة لمضامين هذه الآيات ، وهل للآية القرآنية موضوعية في عدم طرو التحريف والتبديل على الأخبار التي تخص مضامين آيات القرآن , الجواب نعم , وهذه الموضوعية من جهات :
الأولى : ذكر أسباب نزول الآيات وصيرورتها حديث المسلمين وغيرهم .
الثانية : تناقل الناس وقائع الإسلام ، وصيرورتها حديث الركبان .
الثالثة : تنظيم القصائد الشعرية من وجوه :
الأول : الأشعار التي يقولها الصحابة ، وقد إشتهر شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسان بن ثابت بقصائده البيانية, لتتجلى معاني ودلالات واضحة
وأخرج ابن سعد عن جابر بن عبد الله (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يحمي أعراض المسلمين فقال عبد الله بن رواحة: أنا. وقال كعب بن مالك: أنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنك تحسن الشعر. وقال حسان بن ثابت: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أهجهم فإن روح القدس سيعينك)( ).
ومن شعر حسان بن ثابت الأنصاري في ذم الحارث بن هشام على فراره يوم بدر ، وتركه القتال مع قومه ودونهم:
تَبَلَتْ فُؤَادَك فِي الْمَنَام خَرِيدَةً ( )… تَسْقِى الضّجِيعَ بِبَارِدِ بَسّامِ
كَالْمِسْكِ تَخْلِطُهُ بِمَاءِ سَحَابَةٍ … أَوْ عَاتِقٍ كَدَمِ الذّبِيحِ بَيّحَ مُدَام
نُفُجُ الْحَقِيبَةِ بُوصُهَا مُتَنَضّدٌ … بَلْهَاءُ غَيْرُ وَشِيكَةِ الْأَقْسَامِ
بُنِيَتْ عَلَى قَطَنٍ أَجَمّ كَأَنّهُ … فُضُلًا إذَا قَعَدَتْ مَدَاكُ رُخَامِ
وَتَكَادُ تَكْسَلُ أَنْ تَجِئْ فِرَاشُهَا … فِي جِسْمِ خَرْعَبَة وَحُسْن قَوَام
أَمّا النّهَارَ فَلَا أُفَتّرُ ذِكْرَهَا … وَاللّيْلُ تُوزِعُنِي بِهَا أَحْلَامِي
أَقْسَمْتَ أَنْسَاهَا وَأَتْرُكُ ذِكْرَهَا … حَتّى تُغَيّبَ فِي الضّرِيحِ عِظَامِي
يَا مَنْ لِعَاذِلَةٍ تَلُومُ سَفَاهَةً … وَلَقَدْ عَصَيْتُ عَلَى الْهَوَى لُوّامِي
بَكَرَتْ عَلَيّ بِسُحْرَةٍ بَعْدَ الْكَرَى … وَتَقَارُبٍ مِنْ حَادِثِ الْأَيّامِ
زَعَمَتْ بِأَنّ الْمَرْءَ يَكْرُبُ عُمْرَهُ … عَدَمٌ لِمُعْتَكِرٍ مِنْ الْأَصْرَامِ
إنّ كُنْتِ كَاذِبَةَ الّذِي حَدّتْتِنِي … فَنَجَوْتِ مَنْجَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ
تَرَك الْأَحِبّة أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُمْ … وَنَجَا بِرَأْسِ طِمرّة وَلِجَامِ
تَذَر الْعَنَاجِيجُ الْجِيَادُ بِقَفْرَةٍ … مَرّ الدّمُوكِ بِمُحْصَدٍ وَرِجَامِ
مَلَأَتْ بِهِ الْفَرْجَيْنِ فَارْمَدّتْ بِهِ … وَثَوَى أَحِبّتُهُ بِشَرّ مَقَامِ
وَبَنُو أَبِيهِ وَرَهْطُهُ فِي مَعْرَكٍ … نَصَرَ الْإِلَهُ بِهِ ذَوِي الْإِسْلَامِ
طَحَنَتْهُمْ وَاَللّهُ يُنْفِذُ أَمْرَهُ … حَرْبٌ يُشَبّ سَعِيرُهَا بِضِرَامِ
لَوْلَا الْإِلَهُ وَجَرْيُهَا لَتَرَكْنَهُ … جَزَرَ السّبَاعِ وَدُسْنَهُ بحَوَامِي
مِنْ بَيْنَ مَأْسُورٍ يُشَدّ وَثَاقُهُ … صَقْرٍ إذَا لَاقَى الْأَسِنّةَ حَامِي
وَمُجَدّلٍ لَا يَسْتَجِيبُ لِدَعْوَةٍ … حَتّى تَزُولَ شَوَامِخُ الْأَعْلَامِ
بِالْعَارِ وَالذّلّ الْمُبَيّنِ إذْ رَأَى … بِيضَ السّيُوفِ تَسُوقُ كُلّ هُمَامِ
بِيَدَيْ أَغَرّ إذَا انْتَمَى لَمْ يُخْزِهِ … نَسَبُ الْقِصَارِ سَمَيْدَع مِقْدَامِ
بِيضٌ إذَا لَاقَتْ حَدِيدًا صَمّمَتْ … كَالْبَرْقِ تَحْتَ ظِلَالِ كُلّ غَمَامِ) ( ).
قال ابن هشام تركنا من قصيدة حسان ثلاثة آيات من آخرها لأنه أقذع فيها .
وأجاب الحارث بن هشام معتذراً عن فراره يوم بدر ، ويقر بالإعجاز والمدد الذي صاحب المسلمين في معركة بدر .
اللّهُ أَعْلَمُ مَا تَرَكْتُ قِتَالَهُم ْ … حَتّى حَبَوْا مُهْرِي بِأَشْقَرَ مُزْبِد
وَعَرَفْتُ أَنّي إنْ أُقَاتِلْ وَاحِدًا … أُقْتَلْ وَلَا يَنْكِي عَدُوّي مَشْهَدِي
فَصَدَدْتُ عَنْهُمْ وَالْأَحِبّةُ فِيهِمْ .. طَمَعًا لَهُمْ بِعِقَابِ يَوْمٍ مُفْسِدٍ)( ).
وقال حسان في توثيق وقائع معركة بدر ، حيث يذكرها بالإسم، ويبين ما لحق كفار قريش من الخسارة الفادحة :
لَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ بَدْرٍ … غَدَاةَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ الشّدِيدِ
بِأَنّا حَيْنَ تَشْتَجِرُ الْعَوَالِي … حُمَاةُ الْحَرْبِ يَوْمَ أَبِي الْوَلِيدِ
قَتَلْنَا ابْنَيْ رَبِيعَةَ يَوْمَ سَارا … إلَيْنَا فِي مُضَاعَفَةِ الْحَدِيدِ
وَفَرّ بِهَا حَكِيمٌ يَوْمَ جَالَتْ … بَنُو النّجّارِ تَخْطِرُ كَالْأُسُودِ
وَوَلّتْ عِنْدَ ذَاكَ جَمُوعُ فِهْرٍ … وَأَسْلَمَهَا الْحُوَيْرِث مِنْ بِعِيدِ
لَقَدْ لَاقَيْتُمْ ذُلّا وَقَتْلًا … جَهِيزًا نَافِذًا تَحْتَ الْوَرِيدِ
وَكُلّ الْقَوْمِ قَدْ وَلّوْا جَمِيعًا .. وَلَمْ يَلْوُوا عَلَى الْحَسَبِ التّلِيدِ) ( ).
، ومن شعر كعب بن مالك في معركة أحد :
إنّكِ عَمْرَ أَبِيك الْكَرِ … يمِ أَنْ تَسْأَلِي عَنْكِ مَنْ يَجْتَدينا
فَإِنْ تَسْأَلِي ثَمّ لَا تُكْذَبِي … يُخْبِرُك مَنْ قَدْ سَأَلْتِ الْيَقِينَا
بِأَنّا لَيَالِي ذَاتِ الْعِظَا … مِ كُنّا ثِمَالًا لِمَنْ يَعْتَرِينَا
تَلُوذُ الْبُجُودُ بِأَذْرَائِنَا … مِنْ الضّرّ فِي أَزَمَاتِ السّنِينَا
بِجَدْوَى فُضُولٍ أُولِي وُجْدِنَا … وَبِالصّبْرِ وَالْبَذْلِ فِي الْمُعْدِمِينَا
وَأَبْقَتْ لَنَا جَلَمات الْحُرُو … بِ مِمّنْ نُوَازِي لَدُنْ أَنْ بُرِينَا
مَعَاطِنَ تَهْوِي إلَيْهَا الْحُقُو … قُ يَحْسِبُهَا مَنْ رَآهَا الْفَتِينَا
تُخَيّسُ فِيهَا عِتَاقُ الْجَمَا … لِ صُحْما دَوَاجِن حُمْرًا وُجُونَا
وَدُفّاعُ رَجْلٍ كَمَوْجِ الْفُرَا … تِ يَقْدُمُ جَأْوَاء جُولَا طَحُونَا
تَرَى لَوْنَهَا مِثْلَ لَوْنِ النّجُو … مِ رَجْرَاجَةً تُبْرِقُ النّاظِرِينَا
فَإِنْ كُنْتَ عَنْ شَأْنِنَا جَاهِلًا … فَسَلْ عَنْهُ ذَا الْعِلْمِ مِمّنْ يَلِينَا
بِنَا كَيْفَ نَفْعَلُ إنْ قَلّصَتْ … عَوَانًا ضَرُوسًا عَضُوضًا حَجُونَا
أَلَسْنَا نَشُدّ عَلَيْهَا الْعِصَا … بَ حَتّى تَدُرّ وَحَتّى تَلِينَا
وَيَوْمٌ لَهُ وَهَجٌ دَائِمٌ … شَدِيدُ التّهاوُل حَامِي الأرِينا
طَوِيلٌ شَدِيدُ أُوَارِ الْقِتَا … لِ تَنْفِي قَواحِزُهُ الْمُقْرِفِينَا
تَخَالُ الْكُمَاةَ بِأَعْرَاضِهِ … ثِمَالًا عَلَى لَذّةٍ مُنزفِينا
تَعاوَرُ أَيْمَانُهُمْ بَيْنَهُمْ … كُؤُوسَ الْمَنَايَا بِحَدّ الظّبِينَا
شَهِدْنَا ككُنّا أُولِي بَأْسِهِ … وَتَحْتَ العَماية وَالْمُعْلِمِينَا
بِخُرْسِ الْحَسِيسِ حِسَانٍ رِوَاءٍ … وَبُصْرِيّةٍ قَدْ أُجِمْنَ الجُفونا
فَمَا يَنْفَلِلْنَ وَمَا يَنْحَنِينَ … وَمَا يَنْتَهِينَ إذَا مَا نُهِينَا
كَبَرْقِ الْخَرِيفِ بِأَيْدِي الْكُمَاةِ … يُفَجّعْنَ بِالظّلّ هَامًا سُكُونَا
وَعَلّمْنَا الضّرْبَ آبَاؤُنَا … وَسَوْفَ نُعَلّمُ أَيْضًا بَنِينَا
جِلَادَ الْكُمَاةِ وَبَذْلَ التّلَا … دِ عَنْ جُلّ أَحْسَابِنَا مَا بَقِينَا
إذَا مَرّ قَرْنٌ كَفَى نَسْلُهُ … وَأَوْرَثَهُ بَعْدَهُ آخَرِينَا
نَشِبّ وَتَهْلِكُ آبَاؤُنَا … وَبَيْنَا نُرَبّي بَنِينَا فَنِينَا
سَأَلْتُ بِك ابن الزّبَعْرَى فَلَمْ … أُنَبّأْك فِي الْقَوْمِ إلّا هَجِينَا
خَبِيثًا تُطِيفُ بِك الْمُنْدِيَاتُ … مُقِيمًا عَلَى اللّؤْمِ حِينًا فَحِينَا
تَبَجّسْت تَهْجُو رَسُولَ الْمَلِ … يكِ قَاتَلَك اللّهُ جِلْفًا لَعِينَا
تَقُولُ الْخَنَا ثُمّ تَرْمِي بِهِ … نَقِيّ الثّيَابِ تَقِيّا أَمِينَا( )
الثاني : من الآيات توثيق تبادل النسوة الأشعار فيصبح الشعر والرجز ميداناً آخر للصراع بين الذين آمنوا والذين كفروا ، فان سقط الجهاد عن المرأة فان المؤمنات لم يقفن مكتوفات الأيدي لتبقى قصائدهن أنشودة الإيمان ، وروضة من رياض الجنان ، ترفع فيها آيات القرآن شكراً للواحد المنان على نعمة بعثة الرسول الكريم ، ولا بأس بتأليف مجلدات بشعر وزجر الصحابيات وصلته بنزول القرآن وشهادته على الدلالة المطابقية بين مضامين الآية القرآنية وبين أسباب النزول إن لم يرق لمرتبة الحجة والبرهان .
الثالث : ما يرد في أشعار الذين كفروا من الدلائل على إستحضار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وقلوب الذين كفروا بالرعب ليكون من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( )وجوه :
الأول : مجي الرعب إلى الذين كفروا بقصائد صحابة النبي صلى الله عليه وآله.
الثاني : دلائل طبع الرعب على قلوب الذين كفروا من أشعارهم التي تحكي خسارتهم .
الثالث : رثاء الذين كفروا لقتلاهم في معركة بدر وأحد .
الرابع : بيان أسرار ودلالات أمر تحريم قريش على أهل مكة البكاء على قتلاهم الذين ألقاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قليب بدر ، إذ أن ذات النهي عن البكاء على القتلى من الرعب .
الخامس : الجدال والإحتجاج بين المؤمنين والذين كفروا بما يبعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا .
السادس : فضح المنافقين وتأكيد زيف أسباب الريب والشك التي يظهرونها في طيات ألسنتهم وفي صدورهم، وإمتناعهم عن الإستجابة للأحكام الشرعية، ويأتي هذا الفضح من وجوه :
أولاً : نزول آيات القرآن بذم وفضح المنافقين .
ثانياً : مجي آيات القرآن بالأوامر والنواهي ومعرفة المنافقين بتخلفهم عنها .
ثالثاً : من الإعجاز الغيري للآية القرآنية بعثها الرعب والخوف في قلوب المنافقين أيضاً .
رابعاً : مجيء السنة النبوية ببعث الخوف في قلوب المنافقين .
وهل المنافقون بمرتبة واحدة مع الذين كفروا في التضاد مع المؤمنين ، المختار لا ، إذ أن الذين كفروا أبعد وأشد على الإسلام من المنافقين.
وبين الكفار والمنافقين عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء هي إبطان الكفر ، فكل من الكافر والمنافق في قرارة نفسه جاحد ، أما مادة الإفتراق فهي من وجوه :
الأول : إجهار الكافر بالجحود بالربوبية والنبوة والتنزيل بينما يظهر المنافق الإيمان .
لذا ورد في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( ) عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أن هذا النداء والتكليف فيه يشمل المنافقين والضلال .
الثاني : ينطق المنافق بالشهادتين.
الثالث : قيام الكفار بتجهيز الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
ولا يخرج المنافقون مع الكفار بل يتربصون الفرص ويتمنون هزيمة وإنكسار المسلمين ، وقد تجلت معالم النفاق بأن إنسحب عبد الله بن أبي سلول كبير أهل النفاق مع ثلاثمائة من جيش المسلمين في الطريق وقال كلاماً يدل على النفاق ( علام نقتل أنفسنا ها هنا) ( ).
وفي كلامه هذا مسائل :
الأولى : بين الذهاب إلى معركة أحد وبين القتال عموم وخصوص مطلق من وجهين :
أولاً : خاصة وهي ليس كل من يذهب للقتال وبنية لقاء العدو يزاول القتال .
ثانياً : أمر عام , وهو قد يحضر جيشان بينهما عداوة وتلتقي الصفوف ولكنه لا يقع قتال ، إنما يكون الصلح أو المهادنة أو التفرق، والحرب أشد شيء على الناس ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ]( ).
الثانية : بين حضور المعركة والقتال فيها عموم وخصوص مطلق، لأن النسبة بين أفراد الجيش وإشتراكهم في القتال عموم وخصوص مطلق، فقد يكون الإنسان وسط الميدان وحاملاً سيفه ومستعداً للقتال, وقد يطلب المبارزة ولكن لا يبرز له أحد.
الثالثة : بين الإشتراك بالقتال ، ومزاولة المسايفة والرمي وتلقي السهام والرماح وبين القتال عموم وخصوص مطلق ، فقد يقاتل الإنسان ويخرج من المعركة سالماً.
الرابعة : بين الإصابة بالجراحات وبين الموت ومغادرة الروح الجسد عموم وخصوص مطلق ، فقد يتلقى المجاهد الجراحات في رأسه أو بدنه أو هما معاً ، ولكنه يخرج سالماً ، وقد تجلت هذه الحقيقة في شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد بأبهى صورها إذ أصابت الجراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
أولاً : تعدد إصابات وجراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : كسر الأسنان الأمامية السفلى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : جرح شفة النبي السفلى .
الثالث : شج وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : كسر أنف النبي .
الخامس : جرح وجنة وصفحة خد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً : لم تنقطع الدماء من جراحات وكلوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن قامت فاطمة الزهراء عليها السلام بإحراق حصيراً فحشت برماده جرحه .
ثالثاً : بقاء أثر إصابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكسر أسنانه أيام حياته في شهادة بدنية على جهاده في سبيل الله، وتقدمه لصفوف المجاهدين.
الخامسة : لقد أراد رأس النفاق بعث الفزع والخوف في قلوب المؤمنين , وتحتمل جهة الخطاب التي يقصدها رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول وجوهاً :
أولاً : إرادة أتباع رأس النفاق الذين يتناجون بضروب النفاق وإظهار الإيمان أمام المؤمنين بينما يتخذون من السخرية بالمؤمنين منهاجاً في الأحاديث الخاصة بينهم .
ثانياً : إرادة الخزرج وهم قوم عبد الله بن أبي بلحاظ أنه رئيسهم ويظن أنهم لا زالوا ينصتون له .
ثالثاً : المقصود أولئك الذين إنخزموا معه وعددهم ثلاثمائة .
رابعاً : المقصود عموم جيش المسلمين من المهاجرين والأنصار .
خامساً : إرادة الناس الذين يحيطون به ويسمعون كلامه .
سادساً : وجه رأس النفاق كلامه إلى عموم الأنصار من الأوس والخزرج ، فهم قومه وأهل بيته، والأصل أن الأوس والخزرج إخوان وأبناء عمومة.
والمختار أن رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول وجه كلامه إلى الأنصار عامة .
لتكون عدم إستجابتهم له معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية ، خاصة وأن أكثر جيش المسلمين من الأنصار.
إن قول عبد الله بن أبي سلول(ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس)( ) كفر وجحود لأنه يخبر عن إنتفاء علة القتل، ويتجاهل الثواب العظيم الذي أعده الله عز وجل للشهداء.
لقد كان كلامه خذلاناً لقومه أنفسهم لأنه أراد أن يواجهوا العدو مع قلة عددهم بلحاظ كبرى كلية من جهات :
الأولى : إخلاص الأنصار في إيمانهم .
الثانية : بيعة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة الأولى والثانية بالدفاع والذب عنه ونصرته، وتجديد وتوسعة هذه البيعة في معركة بدر، من غير نقض أو رد أو إعتراض من رأس النفاق أو غيره.
الثالثة : تجلي مصداق جهاد الأنصار في سبيل الله في معركة بدر إذ تجلى للناس جميعاً صدق إيمان الأنصار ، وهو من مصاديق تسمية يومها بـ [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) من وجوه :
الأول : مقدمات معركة بدر في المدينة إذ خرج الأنصار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المعركة , وصحيح أن الأصل الخروج كان لطلب عير أبي سفيان التي كانت قادمة من الشام ، وكان مجموعها نحو ألف بعير، والذين عليها ثلاثون أو أربعون رجلاً ولكن إستجابة الأنصار لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخروج من مصاديق إخلاص الإيمان .
الثاني : بذل الأنصار الوسع في الجهاد وملاقاة الأعداء , وعندما طلب عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وإبنه الوليد بن عتبة المبارزة، خرج لهم ثلاثة من الأنصار، ولكن الكفار طلبوا الأكفاء من قريش.
الثالث : التهيئ لملاقاة الذين كفروا في الطريق إلى بدر ، لقد نوى المسلمون في خروجهم طلب العير، وأراد الله عز وجل بهذا الخروج تغيير مجرى التأريخ وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ]( )، وفيه إستجابة لرجاء الملائكة في إصلاح الأرض وتهذيب نفوس بني آدم بسؤال الملائكة الإنكاري حينما أخبرهم الله عز وجل عن جعل خليفة في الأرض إذ [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) فأجابهم الله عز وجل بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فان قلت ما هو الدليل على إرادة الملائكة بهذا الإستفهام الإصلاح ولبس إنكار خلافة الإنسان ، الجواب من جهات :
الأولى : لقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثانية : رحمة الملائكة بالناس ورجاء سلامتهم من الحسد والغضب والسخط ، وهو المستقرأ من قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( ).
الثالثة : المختار أن الملائكة سألوا الله عز وجل أن يكون الناس متنزهين عن الفساد وسفك الدماء بغير حق ليدخلوا الجنة ثواباً على الصالحات .
فقد أرادوا أن يكون الناس مثل الملائكة من جهة الصلاح والدعاء، وهل يعلم الملائكة التباين في السنخية وأن الملائكة عقول بلا شهوة، والإنسان مركب من عقل وشهوة , وهو من مصاديق الإبتلاء في الدنيا من غير أن يتعارض مع علة خلق الناس وهي العبادة ، بلحاظ الملازمة بين الإبتلاء والتكليف، وترتب الثواب على أداء الفرائض والعبادات .
ومن فضل الله عز وجل وقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) تقريب الناس لأداء الفرائض العبادية والتقيد بسننها وهو الذي يتجلى بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلّوا كما رأيتموني أصلّي)( ) .
ليشمل الحديث أصل أداء الصلاة، وكيفية أدائها وعدم التفريط بسننها ومستحباتها، وهل يشمل الأداء قصد القربة في نية أداء الصلاة , الجواب نعم.
وبعث النفرة في نفوس الناس من الجحود ، ومفاهيم الضلالة وهذا التقريب أحد مصاديق اللطف الإلهي الذي يتجلى في قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ].
ومنه خروج الأنصار لمعركة بدر .
الرابعة : لقد سجد الملائكة لآدم بنية الإستجابة لأمر الله عز وجل وإرادة كيف أن إبليس إمتنع عن السجود ، والشقاء الذي كتب عليه ، وما ينتظره من العذاب الأليم يوم القيامة ، فاشفقت الملائكة على الناس جميعاً ذكرواً وأناثاً من سوء العاقبة، وسألوا تنزيه الحياة الدنيا من الفساد .
ولكن الذين كفروا أصروا على محاربة النبوة والتنزيل ، فتصدى الأنصار للدفاع والذب عن الإسلام والقرآن وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن أسرار ختم النبوة برسالته أمور :
الأول : وجوب دفاع المسلمين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبذل الوسع في سلامته وحفظه من كيد الذين كفروا وإرادتهم قتله , وفي التنزيل [فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًاوَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
الثاني : نزول تمام القرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بتبليغ الآيات والأحكام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ]( ).
الثالث : تعاهد المسلمين لنزول آيات القرآن ليكون من الغايات الحميدة لنزول القرآن نجوماً على مدى ثلاث وعشرين سنة , وتفضل الله بحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحين نزول تمام القرآن وهو من مصاديق آيات الحفظ في القرآن ومنها مضامين ودلالات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً :إنا نحن نزلنا عليك يا محمد القرآن .
ثانياً : إنا نحن نزلنا القرآن ولا يقدر غيرنا على تنزيله .
ثالثاً : إنا نحن نزلنا عليك القرآن ، وفيه إصلاح للنفوس والمجتمعات .
وتتضمن الآية أعلاه الشهادة من عند الله بأنه سبحانه أنزل القرآن ، وتدل هذه الشهادة بالدلالة التضمنية على شهادة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة والرسالة .
ومن أسرار التفخيم وتكرار ضمير المتكلم وبصيغة الجمع (إنا ) و(نحن ) مسائل :
الأولى :بيان عظمة آيات نزول القرآن في الإرادة التكوينية .
الثانية : توكيد قانون وهو أن كل كلمة من القرآن نازلة من عند الله سبحانه .
الثالثة : تصاغر الخلائق عند نزول القرآن ، ويتجلى بأثر نزول القرآن على المتلقي من جهتين :
الأولى : بيان القرآن لمعاني الخشية التي تظهر على الجبال لو نزل عليها القرآن ، بقوله تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ] ( ) إذ ورد لفظ الجبل بصيغة التنكير التي تفيد العموم .
وتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية والأولوية على أن القرآن لو نزل على الأرض المستوية فان أثره أعظم وأكبر , وأما لو نزل على الأنهار والبحار فان الماء يطغى في الأرض ، وقد وردت النصوص بما يصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التعرق وما يغشاه من الإنقباض عند نزول الآية القرآنية عليه حتى يسري عنه ويغادره الملك والوحي .
الثانية : القرآن آية التوحيد في الأرض , والبرهان على إنتفاء الشريك .
ومن مصاديق وصفات القرآن وجوه :
الوجه الأول : القرآن كلام الله عز وجل , والصلة الدائمة بينه وبين عباده ،قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ] ( ).
الوجه الثاني : من خصائص القرآن أنه حكم الله في الأرض إذ يتضمن أحكام الحلال والحرام ، وسنن المرسلين ومنهاج الأنبياء والصالحين .
الوجه الثالث : القرآن بيان من الله عز وجل للناس وإلى يوم القيامة ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( )وهل يمكن القول ( القرآن بيان الله ) الجواب لا ، فصحيح أن القرآن هو البيان الذي لم تشهد الأرض مثله وهو الفيصل بين الحق والباطل وفيه مسائل :
الأولى : لا يختص البيان من عند الله بالقرآن ولا بالبيان القولي مطلقاً .
الثانية : من البيان الآيات الكونية الدائمة والمتجددة .
الثالثة : يتفضل الله بالبيان للملائكة والخلائق ، كل خلق وجنس بما جعل الله عز وجل عنده من قدرة على الفهم والمعرفة، وهل قوله تعالى للملائكة [اسْجُدُوا لآدَمَ] ( )، من البيان .
الجواب نعم، إنه من البيان القولي لتعلم الملائكة منزلة الإنسان وخلافته في الأرض.
الرابعة : جاء قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، بصيغة التنكير فلم تقل الآية (هذا البيان) وفي لغة التنكير دعوة للمؤمنين والناس جميعاً إلى العناية بالقرآن والتدبر في مضامينه القدسية ، مع التدبر في وجوه البيان الأخرى في السموات والأرض.
وهل بيان القرآن متحد أم توليدي متجدد، الجواب هو الثاني، بحيث تكون كل آية قرآنية أصلاً مباركاً تتفرع عنه الآيات والبراهين التي تدل على التوحيد، وتدعو إلى عبادة الله , وترك مفاهيم الضلالة , وهو من مصاديق قوله تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ]( ).
وبلحاظ قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، فان البيان القرآني على وجوه:
أولاً : يبعث البيان في الآية القرآنية الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا.
ثانياً : مصاحبة الخوف والفزع للكفر والضلالة .
ثالثاً : ما يترشح من الآية القرآنية من الدلائل والإنذار والوعيد هو الذي يملأ قلوب الذين كفروا بالرعب والفزع.
ويمكن تسميته بالرعب مما في الآية القرآنية ، وهو على وجوه:
الأول : كل فزع وأمر يترشح عن معاني الآية القرآنية سبب لنزول الرعب وحلوله في قلوب الذين كفروا.
الثاني : تعدد مصاديق الرعب المترشحة عن كل فرع من الفروع والبراهين التي تترشح عن الآية القرآنية.
الثالث : كل فرع مترشح عن البيان القرآني هو بيان بذاته وهذه الحقيقة الاعجازية تخيف الذين كفروا، وتجعلهم متخلفين عن محاربة النبوة.
الوجه الرابع : القرآن أمر الله عز وجل , ومرآة لمشيئته في هداية الناس، وجعل الإيمان هو قوام الحياة الدنيا، قال تعالى[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
لقد شاء الله عز وجل أن ينزل كلامه إلى الأرض بواسطة الملك جبرئيل ، ويتلقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين ليس من قرآن نزل قبله ولا قرآن ينزل بعده، وهو من أسرار سلامته من التحريف والتبديل والتغيير , قال تعالى[ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ] ( ).
ومن مصاديق أمر الله في القرآن أنه قوانين وقواعد وضوابط تحكم فعل الإنسان، وسيرته في الحياة الدنيا ، وتدعوه كل يوم للعمل الصالح، وتبين له أمر الله في خلق الجنة وخلود الصالحين في نعيمها ، وخلق النار وسبل الوقاية والسلامة منها، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : في القرآن هداية إلى أمر الله.
الثانية : الإيمان بنزول القرآن إقرار بإحاطة أمر الله للوقائع والأحداث وإلى يوم القيامة.
الثالثة : من أمر الله عز وجل أن الآخرة دار أمره ومشيئته المطلقة ، وفي التنزيل [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] ( ).
الوجه الخامس: الرجوع إلى بداية آية السياق ووقوع الصعود , ثم نزول النعاس أمنة في يوم واحد وهو يوم معركة أحد ، وتحتمل النسبة بين موضوع الآيتين من جهة التقدم والتأخر وجوهاً:
أولاً : تقدم فعل الصعود والفرار في قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ] على نزول الأمنة على المؤمنين الذي ورد في آية البحث بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا].
ثانياً : إقتران صعود أكثر المؤمنين الصخرة , هروباً من القتال بنزول النعاس عليهم أمنة .
ثالثاً : تقدم تغشي النعاس للمؤمنين على صعودهم على الجبل طلباً للأمن والنجاة من القتال والقتل عندما صارت الجولة للذين كفروا .
رابعاً : تقدم الصعود والفرار ثم إقتران النعاس به إذ فّر وإنسحب المؤمنون من المعركة فنزل عليهم النعاس أمنة أثناء الفرار وحال الصعود والإنسحاب ، وكان هذا النعاس من أسباب عدم إستمرار جري وهروب الذين إنسحبوا من المؤمنين إلى المدينة فتفضل الله عز وجل عليهم بالنعاس لدفع ورفع الخوف عن نفوسهم.
والمختار هو الأول، فكانت وقائع معركة أحد على نحو الترتيب من وجوه :
الأول : إلتقاء الصفين للقتال في النصف من شهر شوال في السنة الثالثة للهجرة.
الثاني : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعيين مواضع المسلمين وتنظيم صفوفهم .
الثالث : إبتداء القتال بتقدم طلحة بن أبي طلحة حامل لواء المشركين بطلب المبارزة والإلحاح فيه .
وكان يسمى كبش الكتيبة لقوته وشجاعته، وأثار عنده أبو سفيان الحمية حمية[الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ( )، بأن ذكره بخسارتهم في معركة بدر، وأن تلك الخسارة جاءت من جهة بني أبي طلحة، وخيرّه بين بذل الوسع في القتال أو تسليم الراية لغيره ، ومن خارج بيته ولكنه وأخوته توعدوا أبا سفيان وأنذروه.
مما يدل على أنهم لم يتعظوا بالآيات يوم بدر ونزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، بقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
لقد دعا طلحة بن أبي طلحة للمبارزة فلم يجبه أحد من المهاجرين والأنصار مرتين , وفي الثالثة خرج الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
بينما في معركة أحد برز ثلاثة من المشركين وطلبوا المبارزة وهم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وإبنه الوليد فبادر ثلاثة شباب من الأنصار في الحال وهم عوف ومعوذ إبنا الحارث ، وعبد الله بن رواحة فخرجوا لمبارزتهم .
ويحتمل هذا الخروج وجوهاً :
الأول : خرج هؤلاء الرهط من الأنصار بأمر من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إختارهم على نحو التعيين بعد أن شاء الثلاثة من المشركين المبارزة .
الثاني : تصدي هؤلاء الرهط للخروج لمبارزة وقتال المشركين الذي برزوا للقتال بأن إستأذنوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأذن لهم بالخروج .
الثالث : خرج هؤلاء الرهط من الأنصار إلى المبارزة واظهروا الإستجابة لتحدي المشركين بمبادرة شخصية منهم، ولم يرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويطلبوا الإذن.
وظاهر النصوص والأخبار والمتبادر أنهم لم يخرجوا إلا بإذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع حبهم للشهادة ونصرة النبي والدفاع عنه ، والمختار أن خروجهم من الإيثار وأنهم لم يمهلوا المشركين في طلبهم ويجعلوهم يتبخترون بين الصفين وكأن المسلمين يترددون في ملاقاتهم ومبارزتهم، فيكون إذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم في هذه الحال موعظة ونوع مدد وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمضى خروجهم , ولم يأمرهم بالقعود أو الرجوع.
ومن الآيات أنهم لم يبارزوهم، ولم تحصل مسايفة بينهم لأن عتبة بن ربيعة وأخاه وإبنه أرادوا مبارزة الأكفاء من قريش، وفيه دليل على قطع المشركين للرحم إلى جانب إصرارهم على الجحود وإنكارهم للنبوة ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية .
الوجه السادس : إبتدأت آية السياق بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ]ترى لماذا لم تقل الآية (ثم صعدتم )كما في بداية آية البحث [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ].
الجواب من وجوه :
أولاً : ما يرد في رسم القرآن هو الحق والصدق , ولا يصح غيره للتباين في المعنى ، وفي التنزيل [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
وهل تدخل ألفاظ آيات القرآن بعمومات الآية أعلاه الجواب نعم.
ثانياً : بيان حقيقة وهي عدم وجود فاصلة وتراخ بين مزاولة المؤمنين للقتال وبين إختيارهم الفرار ، فقد كانت الجولة للمسلمين وتهيئ المشركون للهزيمة والفرار ، وتوجهت نساؤهم إلى الإبل لركوبها، والمبادرة بالهرب .
و( عن البراء قال : لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير، وقال: لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا.
فلما لقينا هربوا، حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة.
فقال عبد الله: عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا.
فأبوا، فلما أبوا صرفت وجوههم فأصيب سبعون قتيلا ( ).
وفجأة جاءت خيالة المشركين من الخلف , وإستحر( ) القتل في المسلمين فحصل الإرباك في صفوفهم , وإنهزم أكثرهم صاعد الصخرة أو متخذين من الأرض المستوية طريقاً للنجاة ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ]أن المسلمين لم يجعلوا المدينة المنورة مقصدهم في الفرار والهزيمة ، إنما فروا حول المعركة وعلى الجبل لأمور :
الأول : معرفة حال وموضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان ، وكأن المشركين إلتفتوا إلى هذه الحقيقة ، وأنها مقدمة لعودة المؤمنين إلى القتال والهجوم وحس وقتل الذين كفروا فاشاعوا خبراً وهو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجعل المسلمين في حال تشتت وعجز .
الثاني : حرص المؤمنين على وقف القتل فيهم والإنسحاب للإجتماع .
الثالث : تفقد المسلمين بعضهم لبعض ومعرفة من بقي منهم حياً، إذ كان المسلمون على وجوه :
الأول : الذين يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودونه وبين يديه .
الثاني : الذين سقطوا شهداء وسط المعركة وكان مجموعهم يوم أحد سبعين شهيداً ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل سقط هؤلاء الشهداء جميعاً قبل إنهزام المسلمين .
الثانية : هل قتل بعض الشهداء بسيوف المسلمين .
أما بالنسبة للمسألة الأولى , ففيها جهات :
الأولى : كانت طائفة من أهل البيت والصحابة يقاتلون حتى عندما إنهزم اكثر المسلمين.
الثانية : إستمرار قتال طائفة من المسلمين من مصاديق إبتدء آية السياق بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ]ولم تبدأ بحرف العطف الذي يفيد التراخي .
الثالثة : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الدفاعية أن بقاء طائفة من المؤمنين تقاتل وسط الميدان برزخ دون ملاحقة المشركين للذين إنهزموا من المسلمين وإختاروا صعود الجبل ، خاصة وأن هذه الملاحقة هي التي إجتهدت قريش من أجل تحقيقها أحد عشر شهراً بلحاظ أنها المصداق الجلي للثأر لما لحقهم يوم بدر إذ طاردهم المسلمون فأسروا منهم سبعين إلى جانب بلوغ عدد قتلى المشركين سبعين قتيلاً أيضاً.
ولم ينحصر سقوط القتلى من المسلمين فيما قبل هزيمة المسلمين، بل سقط عدد منهم وهم يذبون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويقاتلون دونه .
وأما بالنسبة للمسألة الثانية فليس من دليل قاطع على قيام المسلمين بقتل بعضهم بعضاً عند مجيء العدو من الخلف.
وورد الخبر بقتل عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري بسيوف المسلمين ، ولم يكن هذا القتل بسبب الإرباك بين صفوف المسلمين بعد أن جاء العدو من خلفهم ، إنما دخل عبد الله بن عمرو بينهم وهم لا يعرفونه , لتكون هذه الواقعة من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبأ المسلمين وحصن صفوفهم ونظمهم بكيفية يعجز العدو معها عن إختراق الصفوف والدخول بينهم .
الثالث : الذين أصيبوا بالجراحات والكلوم من المهاجرين والأنصار ، سواء الذين بقوا في أرض المعركة أو الذين إستشهدوا عند إخراجهم وتخليتهم أو الذين إنسحبوا من المعركة .
الرابع : الصحابة الذين إنسحبوا فارين من وسط الميدان، وهم على أقسام :
الأول : الذين صعدوا الجبل وإجتمعوا عند الصخرة .
الثاني : الذين فروا في الأرض من غير قصد جهة معينة .
الثالث : الذين إختاروا السير بالجادة العامة إلى المدينة ، ولما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة تبوك نظر إلى جبل أحد وقال (هذا جبل يحبّنا ونحبّه) ( ).
ثالثاً : الصلة والتداخل الموضوعي بين خاتمة الآية السابقة وآية السياق وأول آية السياق بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ]لبيان وجوه :
الأول : تجلي مصاديق فضل الله عز وجل على الصحابة الذين فروا أثناء فرارهم وهزيمتهم .
الثاني : من فضل الله عز وجل قصور وعجز الذين كفروا عن اللحاق بالصحابة الذين فروا من المعركة ، وهذا القصور والعجز رحمة من عند الله من جهات :
الأولى : إنه رحمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه وأصحابه .
الثانية : عجز الكفار عن اللحاق بالمنهزم من المؤمنين رحمة بالذين إنهزموا لأن الله عز وجل كتب لهم حياة جديدة وأمناً من القتل يومئذ.
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
الجواب نعم ، بتقريب أن الفرار أثناء القتال مناسبة وفرصة للعدو للحاق بالمنهزمين .
الثالثة : من فضل الله على المؤمنين بعث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا ليكون من فضل الله عز وجل عليهم تخلف الذين كفروا عن العمل بقواعد وفنون القتال مع أنهم من أهل الخبرة فيه لطروا أمر جديد في سنن القتال، وهو إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب والفزع والخوف .
ليكون تقدير آية إلقاء الرعب بلحاظ آية البحث والسياق : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فيعجزون عن اللحاق بالمؤمنين عند صعودهم الجبل.
الثالث : قد يتبادر إلى الذهن أن هزيمة شطر من المهاجرين والأنصار سبب لجلب نعمة الله عليهم ، فتفضل الله عز وجل وأخبر بأنه ولي المؤمنين حتى في حال صعودهم وفرارهم ، كما ورد قبل أربع آيات [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( ).
والآية أعلاه هي أقل آيات سورة آل عمران كلمات ولكنها تتضمن قواعد من الإرادة التكوينية التي تجلت في معركة أحد ،فمن ولاية الله عز وجل للمؤمنين في حال هزيمتهم أمور :
الأول : حفظ الله عز وجل لرسوله الكريم عندما تخلى عن القتال أكثر المسلمين .
الثاني : يدل قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ]على حقيقة وهي إختيار الذين إنهزموا الفرار بأنفسهم من غير أمر أو أذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا مناجاة بينهم بالفرار ، وهل نسبة فعل الصعود لهم بالذات حجة عليهم.
الجواب لا تصل النوبة إلى مسألة الحجة عليهم ، إنما تتضمن الآية الإخبار عن أمرين :
الأول : فرار المؤمنين .
الثاني : مصاحبة الفضل الإلهي للمؤمنين قبل الفرار وأثناءه وبعده .
وقد ثبت في الفلسفة أن المتضادين لا يجتمعان , فلما أختتمت الآية قبل السابقة بالإخبار عن الإطلاق في فضل الله عز وجل على المؤمنين إبتدأت الآية السابقة بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ]لبيان مسائل :
الأولى : حضور وتغشي فضل الله للمؤمنين في إنهزامهم وفرارهم .
الثانية : تأكيد عدم سخط الله على الذين إنهزموا من المؤمنين، وهذا التأكيد من رشحات شكر الله عز وجل للمؤمنين على القليل من الطاعة والعبادة وإعطائه الكثير جزاء ، قال تعالى [عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً] ( ).
الثالثة : تقدير الجمع بين الآيات : إذ تصعدون والله ذو فضل عليكم إذ ترجعون إلى المعركة ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : إذ تصعدون ويتفضل الله عز وجل بجمعكم مع رسول الله في ميدان القتال .
الثالث : سلامة المسلمين من التنازع والخصومة عند الهزيمة والإنسحاب ، إذ كان همهم هو الرجوع إلى المعركة والدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان صعودهم سبباً لكشف العدو الذي جاء من خلفهم ويبدأون الهجوم بحفظ ظهورهم ليتعظوا وينتفعوا من وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للرماة إذ كانت هذه الوصية خاصة، ولم يتقيدوا بها لتتخذها عامة الجيش منهاجاً بعد وقوع الخسارة وأسباب الهزيمة .
لقد كان عدد جيش الإسلام يوم أحد سبعمائة ، وكان عدد الرماة خمسين، وبسبب ترك أكثرهم مواضعهم بعد أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعدم مغادرتها إلى إنتهاء المعركة فقتل من المسلمين العشرات بسبب هذا الخطأ والتنازع والتقصير ، ولكن إتعاظ المسلمين من هذا الخطأ والمعصية من اللامتناهي من جهات :
الأولى : إتعاظ المؤمنين يوم أحد من هذا القصور بالتحشد في موضع الإنهزام .
الثانية : مناجاة المؤمنين للرجوع للقتال .
الثالثة : التلاوم بين المسلمين لترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل في الميدان .
الرابعة : إتعاظ الصحابة من خطأ الرماة ليتواصوا بينهم بلزوم التنزه عن طلب الدنيا ، وجعل الغنائم هي الغاية قبل وبعد دخول المعركة.
الخامسة : إنتفاع التابعين وتابعي التابعين من أصحاب المسلمين في معركة أحد وأخذ الحائطة في الدين .
وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
إذ تصعدون ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ) فبعد الفرار ولحوق الحيرة أكثر المؤمنين وإصابتهم بالخوف والهلع ضربهم النعاس رحمة من عند الله ، وليكون هذا النعاس سبباً لمحو الحزن عن المؤمنين ودعوة لهم للتهيئ للقتال في ذات معركة أحد ، وما بعدها ، وهو من مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : ولا تلوون على أحد ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ) .
وفي الجمع بين الآيتين وجوه :
الوجه الأول : تحتمل النسبة والترتيب الزماني بين الآيتين وجوهاً :
أولاً : تقدم حال فرار المسلمين وعدم التفاتهم إلى أحد .
ثانياً : يدل قوله تعالى [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] على عدم نزول النعاس على المؤمنين للتباين بين الفرار وبين النعاس .
ثالثاً : يدل قوله تعالى [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]على أن عدم الإلتفات إلى الوراء أمر وجودي ، وليس عدمياً وأن المسلمين لم يحرموا من ملكة إختيار الفعل , والإلتفات لذات الفعل عند إيقافه ، فهم لم يلتفتوا ورائهم , ولم يتدبروا في حال المعركة والخسارة التي تلحق جيش المسلمين عموماً عند إنسحابهم .
رابعاً : تقدم نزول النعاس على المؤمنين على عدم إلتفاتهم إلى الوراء لأن في النعاس عوناً لهم , وتخفيفاً من وطأة الخسارة .
خامساً : الإقتران الزماني بين نزول النعاس على المؤمنين وبين عدم إلتفاتهم إلى الوراء عند الإنهزام .
ومن الإعجاز في آية البحث عطف عدم الإلتفات على الصعود بحرف الواو لبيان مسائل :
الأولى : إرادة التعدد والغيرية بين صعود المنهزمين من المؤمنين وبين عدم الإلتفات إلى الوراء .
الثانية : بيان وصف إضافي لحال المنهزمين من المؤمنين، وهو عدم إلتفاتهم إلى الوراء لبيان أن إنسحابهم لم يكن مرتباً وليس هناك تنسيق بينهم على الإنسحاب بينما علمهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف بأمر من الله عز وجل، قال سبحانه [فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ] ( ).
فيصير المسلمون فرقتين ، تأتي فرقة فيصلون مع النبي ركعتين في الصلاة الرباعية فاذا أتموا قاموا من مواضعهم في الصلاة وأخذوا أسلحتهم وصاروا في قبال العدو ، فتأتي الطائفة الأخرى التي لم تصل وتصلي ركعتين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبامامته.
وجاءت آية البحث والسياق لبيان فرار أكثر المؤمنين من المعركة، فأنزل الله عليهم النعاس رحمة وسبيلاً للتدارك وهبة ومائزاً بينهم وبين الذين كفروا .
الثالثة : الصعود والفرار من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة سرعة وإبطاء، وجماعة وفراداً، فجاءت الآية للإخبار عن فرار الجماعة بلحاظ صيغة الجمع فيها، وعن سرعة صعودهم وفرارهم سواء كانوا ركباناً أو مشاة، ويدل عليه عدم ليهم لرقابهم والنظر لوقائع المعركة.
الرابعة : رحمة ورأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باصحابه، وعدم يأسه منهم، فمع فرارهم وإنهزامهم وعدم إلتفاتهم لأحد، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يناديهم ويطلب منهم الرجوع إليه بقوله: إليّ عباد الله ، إليّ عباد الله ( ).
وفي معنى نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع في قوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] وجوه :
الأول : يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للدفاع والذب عنه.
الثاني : يدعو النبي أصحابه للقيام بواجبهم الجهادي في الدفاع عن بيضة الإسلام , وعن أنفسهم.
الثالث : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي، وفيه دلالة على تحقق إستماعهم لها، ووجود المستجيب للدعوة.
الرابع : يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للرجوع إلى القتال ، وملاقاة الذي كفروا، قال تعالى[فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ]( ).
الخامس : يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للرجوع إليه ، والإنصات له.
السادس : في رجوع الصحابة بعث للرعب والفزع في قلوب الذين كفروا ، وجعلهم في حال يأس.
السابع : إرادة المتعدد من الغايات أعلاه.
فلو دار الأمر بين المتحد من الغايات أو المتعدد في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فالصحيح هو المتعدد، لذا لا تعارض بين الوجوه أعلاه.
لقد تفضل الله عز وجل وكفى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الأعداء، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
وجاءت الآية أعلاه بذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة العبودية لبيان شكر الله له لحسن عبوديته وخضوعه لله، ولمنع المسلمين من الغلو برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذا جاءت دعوته لأصحابه بصفة العبودية لله لبيان الجامع المشترك بين المؤمنين في معركة أحد , وهو نصرة النبي والدفاع عن الإسلام والتنزيل .
إن توجه الخطاب من عند الله للمسلمين في آية السياق والبحث إكرام لهم ، ومن الآيات أن الذين إنهزموا وفروا طائفة منهم ، ومع هذ توجه الخطاب في الآية إلى جميع المسلمين , وفيه مسائل :
الأولى : عدم ذكر أسماء الذين فروا وإنهزموا كيلا يكون نوع لوم عليهم في أحقاب التأريخ المتعاقبة .
الثانية : آية السياق تأديب للمسلمين وإصلاح لهم في قادم الأيام ومعارك الدفاع اللاحقة .
الثالثة : لقد شكر الله عز وجل المؤمنين ومجيئهم في معركة أحد وإشتراكهم في القتال تحت لواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] من شكر الله لهم من وجوه :
الأول : حث المؤمنين على التدارك .
الثاني : الإخبار بأن الله عز وجل راض عن المؤمنين حتى في حال إنهزامهم .
الثالث : إقالة عثرة المؤمنين، وهو من بركات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] ولا يختص بحال إنهزام الصحابة بل هو متجدد في كل حال وزمان.
لقد آمن أهل البيت والصحابة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصاحبتهم دعوته في حال الشدة والرخاء لتتضمن آية السياق مسائل :
الأولى : آية السياق شاهد على فضل الله على المؤمنين لإزاحة الخوف والفزع عنهم ، فلما جاء قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( )تفضل الله عز وجل بالآيات وعموم الوحي الذي يترشح عنه برزخ دون دبيب الوهن والحزن إلى قلوبهم .
الثانية : نفي إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي كانت لها موضوعية وأثر في نفوس المؤمنين عند سماعها .
وفي ميدان معركة أحد (قال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا) ( ).
الثالثة : بيان حب الصحابة المنهزمين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإرادتهم سلامته من القتل، ومن الآيات أن أهل المدينة ومع ما لحقهم من الضرر وكثرة القتل والجراحات فيهم إستبشروا ، وعمت السعادة أرجاء المدينة , وتغشت الغبطة النفوس حينما علموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي يرزق ، ودخل المدينة من جديد ، وهل من فرق بين دخول المدينة في أول الهجرة ودخوله لها راجعاً من معركة أحد.
الجواب بينهما عموم وخصوص من وجه ، وكل عودة منهما نعمة عظمى على المؤمنين .
الوجه الثاني : من الإعجاز في نظم هذه الآيات تأكيد آية البحث لما ورد في الآية السابقة من تغشي الغم لنفوس المؤمنين في معركة أحد تخفيفاً من عند الله ، وجاء هذا التأكيد بذكر تعقب الغم بأمنة نعاس وبينهما من جهة المحل عموم وخصوص مطلق إذ تغشى النعاس طائفة من المؤمنين ، فهل كان منهم الذين ذكرتهم آية السياق بقوله تعالى [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ].
الجواب من وجوه :
الأول : نسبة التساوي بين الذين إنهزموا ولا يلوون على أحد وبين الذين أنزل الله عز وجل عليهم أمنة نعاساً .
الثاني : التباين في الأفراد بين الذين إنهزموا ولم يلتفتوا إلى أحد وبين الذين أنزل الله عليهم النعاس .
الثالث : نزول الأمنة من نعاس على شطر من الذين بقوا في ميدان المعركة يقاتلون الذين كفروا ويذبون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأجسادهم وأنفسهم وسيوفهم .
وبلحاظ ما ورد في أسباب النزول فان الظاهر هو الثاني والثالث أعلاه ليكون من إعجاز لغة الخطاب في هذه الآيات إرادة علم السبر والتقسيم فيرد الخطاب لعموم المجاهدين ويخصص بالقرائن والأمارات ، ويستقرأ المراد على نحو التعيين من مضامين الآيات .
وتبين هذه الآيات حال المسلمين في معركة أحد ،ففي الطريق إنخزل منهم ثلث الجيش دفعة واحدة بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول وهذا الإنخزال مصيبة بذاته بلحاظ أمور :
الأول : خروج المسلمين في سبيل الله ، وفيه الأجر والثواب .
الثاني : مجيء الذين كفروا للقتال ومحاولة طمس معالم الدين والمنع من التنزيل بلحاظ أنهم يريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : كثرة جيش الذين كفروا ، وكان عددهم ثلاثة أضعاف المسلمين ، إذ كان مجموعهم ثلاثة آلاف رجل ، بينما جيش المسلمين نحو ألف فكيف وقد إنسحب منه نحو ثلاثمائة ، ليبقى سبعمائة مؤمن في لقاء جيش عرمرم معه مائتا فرس ، وأسلحة ومؤن كثيرة ، بعد أن سخروا الأموال التي كسبوها من أنعم الله عز وجل عليهم بـ [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ) إذ جعل الله عز وجل التجارة نوع طريق ومقدمة لتعاهد قريش ملة إبراهيم وصيانة البيت الحرام .
الرابع : لزوم نصرة الأوس والخزرج بعضهم لبعض في ملاقاة الذين كفروا من قريش .
الخامس : لقد زحف الكفار للقتال والفتك والأسر والسبي وإستباحة المدينة .
وهل هناك دليل أو أمارة على أن المنافقين أو غيرهم أبرموا عقداً ونوع شرط مع الذين كفروا باجتناب غزو المدينة ودخولها كي ينسحبوا من القتال وسط الطريق .
الجواب لقد كان بعضهم يذهب إلى مكة يرثي الذين قتلوا من كفار قريش في معركة بدر ، ويحرضهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ولكن ليس من دليل ظاهر على إتفاقهم مع مشركي قريش على عدم غزو المدينة المنورة ، وورد دليل بخلافه وهو سؤال عبد الله بن أبي بن أبي سلول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء في المدينة لقتال الذين كفروا من قريش عندما ورد الخبر بقدومهم إذ قال(يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا.
فقال عبدالله بن أبى: يا رسول الله لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه) ( ) وقد يقال أن هذا الإقتراح كان مكراً وكيداً منه ، كان ينوي الإنسحاب إذا صار قتال في المدينة ، وعندئذ يكون إنسحابهم أشد ضرراً على المسلمين من إنسحاب الرماة لأن ترك ثلث جيش المسلمين مواضعهم يعني فتح ثغرة كبيرة تنفذ منها جيوش الكفار إلى بيوت المدينة وقد يصلون إلى المسجد النبوي ، والأصل عدم المكر في هذا الرأي والمشورة.
وإذ فرّ كثير من المؤمنين في معركة أحد إلى الجبل وصعدوا الصخرة وكانوا يسمعون دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالرجوع والعودة بدليل تقييد هذه الدعوة إنها تصل آخر المسلمين لقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ).
ويختلف الأمر لو حدث الفرار في المدينة ، فقد يذهب بعضهم إلى بيته أو يتفرقون في أزمة المدينة .
الوجه الثالث : لما بينت آية السياق إنهزام فريق من المؤمنين في معركة أحد ، وعدم إلتفاتهم إلى ورائهم لبيان حقيقة وهي أن المعركة لم تنته بعد وهو من إعجاز القرآن لبيان أن لغة العموم الإستغراقي في الخطاب [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]إنما تفيد التخصيص وأن المراد طائفة من المسلمين لأنها تدل بالدلالة التضمنية على وجود طائفة من المسلمين لا زالت تقاتل في سبيل الله
ثم جاء تأكيد هذه الحقيقة بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] الذي ورد متعقباً للفظ [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ].
وتبين الآية رحمة الله عز وجل بالمسلمين وأنه سبحانه لم يتركهم وحال الفزع والخوف التي حلت بهم بسبب شدة بأس الذين كفروا ، وكأنه من مصاديق قوله تعالى [وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا] ( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين إنتقال المسلمين من حال الخوف إلى حال الأمن ، وتبدل حال الذين فروا منهم ليعودوا إلى ميدان المعركة , وتقدير الجمع بين الآيتين : ولا تلوون على أحد فدعاكم الرسول فرجعتم ثم انزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً .
وهل يمكن القول بنزول الأمنة النعاس عليهم وهم في حال الصعود والفرار ليكون مقدمة ووسيلة لإستماعهم لدعوة ونداء الرسول لهم ، الجواب لا دليل عليه ، خاصة وان الذين نزل عليهم النعاس أكثرهم ممن بقي يقاتل في الميدان .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين والرسول يدعوكم في أخراكم ثم أنزل الله عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ) وفيه وجوه:
الوجه الأول : بيان النعم العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها على المهاجرين والأنصار، بان ينزل القرآن بذكرهم وما لاقوه من الأذى، وبما تفضل عليهم من الأمنة والنعاس الذي تغشاهم يوم أحد، وقال بعض فلاسفة يونان أن الله عز وجل خلق الناس وتركهم وشأنهم .
فجاءت آية البحث لتبين أن الله عز وجل يمد المؤمنين ويخذل الكافرين، ويجعل النصر حليف النبوة والتنزيل، وكل موضوع ورد في الجمع بين الآيتين أعلاه مدد للمؤمنين وتعضيد لهم.
وجاء الحرف (ثم) لإفادة العطف والتراخي لبيان مسائل:
الأولى : الأمنة من النعاس إخبار عن إنقضاء وزوال حال الغم عن المؤمنين.
الثانية : إرادة الإنتفاع الأمثل من دعوة الرسول للمهاجرين والأنصار بالعودة إلى ميدان المعركة.
الثالثة : يفيد الجمع بين الآيتين البشارة بعدم تجدد القتال، بعد دعوة الرسول للمؤمنين فليس عليهم بعد الصعود والفرار إلا العودة، وفيه خير الدنيا والآخرة.
وتقدير الآية على وجوه:
أولاً : والرسول يدعوكم للعودة إلى المدينة بأمن وسلام , وتتجلى البشارة بنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل.
ثانياً : والرسول يدعوكم لتروا أثر الرعب الذي قذفه الله في قلوب الذين كفروا بأن أعلنوا الرجوع إلى مكة خائبين.
ثالثاً : والرسول يدعوكم وأنتم في حال أمنة من نعاس لتشكروا الله عز وجل على إنقضاء المعركة بخزي وخيبة للذين كفروا، وتكون نتيجة المعركة على وجوه:
الأول : إنتصار أحد الطرفين إنتصاراً ساحقاً.
الثاني : تحقق النصر على نحو الموجبة الجزئية، مع حفظ الطرف الآخر لوجوده وشأنه ومواضعه في الجملة.
الثالث : التكافؤ وعدم إنتصار أحد الطرفين.
الرابع : تحقق النصر لكل من الطرفين في جهة وموضوع خاص.
ففي معركة بدر إنتصر المسلمون انتصاراً ساحقاً ومبيناً.
وأما بالنسبة لمعركة أحد، فقد يظن أن الذين كفروا إنتصروا إنتصاراً جزئياً، ولكن الصحيح هو العكس، فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا هم الذين انتصروا في معركة أحد نصراٍ لا ينحصر بالموجبة الجزئية.
إذ أن الأمور بخواتيمها، وقد إنسحب الذين كفروا من قريش ومن والاهم(خَائِبِينَ) ( ) مع بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الميدان لتأكيد حقيقة وهي أن الصحابة استجابوا لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وتقدير الآية : والرسول يدعوكم في أخراكم فاستجبتم له وحضرتم عنده وسط الميدان ثم أنزل الله عليكم أمنة من نعاس.
وهل نزول الأمنة من النعاس من شكر الله عز وجل للذين آمنوا على عودتهم لميدان المعركة , الجواب إنه من فضل الله وشكره للذين آمنوا على الأعم من عودتهم لميدان القتال، كما أن شكر الله عز وجل للمؤمنين على نزولهم من الجبل، وعودتهم بعد الفرار أعم وأكبر من الأمنة من نعاس، ودلالة العموم والكثرة في مصاديق نعم الله على المؤمنين من وجوه تثبيت الإيمان في نفوس المسلمين على نحو الإطلاق .
الوجه الثاني : من إعجاز آية البحث إخبارها عن مجئ الأمنة من نعاس بعد الغم، ولو قالت الآية ثم أنزل عليكم أمنة نعاساً فقد يتبادر إلى الذهن وجوه:
الأول : نزول هذه الأمنة بعد الغم كثواب من عند الله ولكن لماذا قيدت الآية ذكر الأمنة من النعاس بعد الغم ليرد ذكر الغم في هاتين الآيتين ثلاث مرات من مجموع عدد مرات ذكر الغم في القرآن وهي ستة .
الثاني : نزول الأمنة من النعاس بوجود الغم على قلوب المؤمنين للخسارة التي لحقتهم في يوم معركة أحد، فيأتي الغم أولاً ثم تنزل الأمنة من النعاس.
الثالث : لقد ذكرت آية البحث فردين من الغم وبصيغة التنكير لكل منهما بقوله تعالى[فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] لتنزل الأمنة بعد الإصابة بالغم الثاني تخفيفاً عن المؤمنين.
الرابع : نزول الأمنة من نعاس بعد الإصابة بالغم لتكون صارفة للغم عن النفوس.
والصحيح هو الرابع، وهو من أسرار مجيء (ثم) في آية البحث لإفادتها معنى التراخي , ولمنع الخلاف والخصومة بين المسلمين بخصوص ترتيب أحوال المؤمنين في أحد , ولبيان لزوم المواساة بينهم .
الوجه الثالث : لقد هجم الذين كفروا على المدينة بقصد القضاء على الإسلام، فخلدت آية السياق أمراً وهو دعوة الرسول للمؤمنين بالعودة إلى ميدان القتال ، وهو سلاح ماض بيد المسلمين ، وهو من شكر الله عز وجل لهم على الإيمان.
وخلدت آية البحث النعاس أمنة للمؤمنين في يوم المحنة والشدة التي لم يتعرض لمثلها المسلمون من قبل، فصحيح أنهم لاقوا الأذى والتعذيب في مكة، وخاضوا معركة بدر وسقط منهم الشهداء، إلا أنهم أصيبوا بنكسة ونكبة في معركة أحد، وفرّ كثير منهم من ميدان المعركة، فجاءت نعمة النعاس والأمن تسلية ومواساة وتذكيراً بأن الله عز وجل معهم في السراء والضراء , وورد في خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبه في الغار قوله تعالى[لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا]( ).
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : فأثابكم غماً بغم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : إتحاد موضوع الآيتين بلحاظ جهة الخطاب إذ تتوجه كل من الآيتين إلى المؤمنين الذين خاضوا غمار الحرب والقتال يوم أحد تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتوجه الأمر والمشيئة الإلهية بخصوصهم بقوله تـعالى [فَأَثَابَكُمْ][أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ] وتتعـدد الآيات بخصوص معركة أحد .
لتبين هذه الآيات تفاصيل المعركة وذكرت فضل الله عز وجل على المؤمنين :
وإبتدأت هذه الآيات بالنداء بنهي المسلمين والمسلمات كافة عن طاعة الذين كفروا بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ] ( ).
ولو تردد الأمر في الآية أعلاه بين إرادة التقييد والحصر في الخطاب كما لو أريد خصوص الصحابة أو المؤمنين الذين خرجوا للقتال يوم أحد أو التقييد في الموضوع وإرادة مسألة أو مسائل خاصة .
فالأصل إرادة عموم المسلمين بالخطاب والنهي عن طاعة الذين كفروا والإطلاق في النهي وشموله لأمور العبادات والفرائض وأحكام التصديق بالنبوة .
وهل تشمل الآية النهي عن إكتساب العلوم والصنائع والمهارات الجواب لا ، فهذا الإكتساب ليس من الطاعة إنما هو من العلم وزيادة المعرفة وتبادل الخبرات إذ جعل الله عز وجل الناس بالناس وهو من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) بالإضافة إلى دلالة آية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] على بيان أثر وعاقبة تلك الطاعة على فرض حصولها إذ يتفرع عنها الإرتداد والخسران مما يدل على أن موضوعها هو الإعتقاد وإرادة الذين كفروا ترك المسلمين للإيمان .
وقيل لا تشمل آية [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] العين والزوجة ، ولكن موضوعهما مختلف ، فليس الإنصات لهما من الطاعة , وقد ورد النهي عن نكاح الكافرة , قال تعالى [وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ]( ).
لتكون هذه الآية وموضوعها مقدمة وتهيئة لأذهان المؤمنين للقتال في معركة بدر وأحد بتقريب وهو أن الذين كفروا يبذلون الوسع باليد والسيف والسلاح لإكراه المسلمين أو شطر منهم على الإرتداد مما يدل على أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه للقتال في معركة بدر وأحد ضرورة وحاجة.
ولو لم يخرجوا للقتال لدخل الذين كفروا إلى المدينة لطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , لتبين كل من آية السياق والبحث المسؤوليات العظمى التي تولاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في معركة بدر وأحد في الدفاع عن أمور :
الأول : التوحيد ، وإقرار الناس بوجوب عبادتهم لله عز وجل ونبذ الشرك ، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحكاية عنه [إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ]( ).
الثاني : الرسالة والنبوة الخاتمة .
الثالث : توالي نزول آيات القرآن .
الرابع : المؤمنون ونواة الإيمان .
لقد جرت وقائع معركة بدر في اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، ووقائع معركة أحد في النصف من شهر شوال في السنة الثالثة للهجرة ، ويحتمل عدد الآيات والسور التي نزلت يومئذ وجوهاً :
الأول : عدد الآيات والسور التي نزلت قبل معركة بدر أكثر من التي نزلت بعدها .
الثاني : عدد الآيات والسور التي نزلت بعد معركة بدر أكثر من التي نزلت قبلها .
الثالث : التساوي بين عدد الآيات التي نزلت قبل معركة بدر والتي نزلت بعدها .
الرابع : التفريق بين عدد الآيات وعدد السور في المقارنة أعلاه فعدد السور التي نزلت قبل معركة بدر أكثر من عدد السور التي نزلت بعدها بلحاظ إتصاف السور المكية بأنها قصار ، لذا ورد بخصوص القرآن ومن باب اللغز والسؤال الملتبس ما هو الذي الشيء الذي إذا عددته صار أكثر من مائة فاذا حسبت نصفه كان أقل من عشرين ، أي أن نصف القرآن الأول أقل من عشرين سورة من أصل مائة وأربع عشرة سورة .
الخامس : عدد الآيات والسور التي نزلت بعد معركة أحد أكثر من الآيات والسور التي نزلت قبلها .
السادس : حصول التساوي في عدد الآيات النازلة قبل وبعد معركة أحد .
وللبيان والتحقيق لابد من الرجوع إلى تقسيم آيات وسور القرآن تقسيماً إستقرائياً إلى:
الأول : السور المكية وهي التي نزلت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
الثاني : السور المدنية وهي السور التي نزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
ومع أن عدد السور المكية هي الأكثر ، فان عدد الآيات والكلمات القرآنية التي نزلت في المدينة أي بعد الهجرة النبوية هي الأكثر ، ومنها آيات الأحكام ، و آيات البحث هذه من سورة آل عمران إذ أنها تتعلق بمعركة أحد وتخبر عن وقائعها مما يدل على أنها مدنية وجاء نزولها بعد المعركة ، وهو تشريف وإكرام للمسلمين ، وليس من أمة أو طائفة يوثق الكتاب الباقي إلى يوم القيامة وقائع معاركها مثل المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لتكون هذه الآيات مدرسة لأجيال المسلمين وواقية من تعدي الذين كفروا من وجوه :
الأول : الخطاب التشريفي في قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ] ( ) وما في منطوقه ومفهومه من الثناء على المسلمين من وجوه :
أولاً : مدح المسلمين والثناء عليهم من عند الله بنعتهم بصيغة الإيمان .
ثانياً : دعوة المسلمين للألفة والتآخي والتعاضد بينهم في مسالك الأمن من طاعة الذين كفروا ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
ثالثاً : بيان الآية أعلاه لمسألة إبتلائية في حياة المسلمين وهي دعوة الذين كفروا لحملهم على طاعتهم ، ولم تكتف الآية بالإخبار عن هذا الإبتلاء ، بل تضمنت لزوم أخذ الحائطة منهم والحذر من طاعتهم .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه( ) تعلق التحذير بموضوع طاعة الذين كفروا من غير ذكر الأسباب والكيفية والصيغ التي يتبعها الذين كفروا لحمل المسلمين على طاعتهم ، وفيه مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين لإستقراء الوسائل والصيغ التي يتبعها الذين كفروا لحمل المسلمين على طاعتهم من آيات القرآن ودلالاتها، ومنها الآيات محل البحث والسياق لأنها من الشواهد على إتخاذ الذين كفروا السيف والقتل وإرادة البطش والسبي وسائل لحمل المسلمين على ترك دينهم.
الثانية : بعث الحيطة والحذر في نفوس المسلمين من الذين كفروا لتكون الآية من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ).
الثالثة : بعث الخوف والرعب في قلوب الذين كفروا عند رؤيتهم حذر ويقظة المؤمنين والفطنة التي جعلهم عليها القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
الثاني : بيان القرآن لمكر وقبح فعل الذين كفروا في صدودهم وصدهم عن النبوة والتنزيل ، قال تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الثالث : إستحضار السنة النبوية القولية والفعلية وكشفها لقبيح فعل الذين كفروا ليحترز المسلمون، ومن السنة في المقام ما يكون من علم الغيب ليزداد المسلمون إيماناً، ويلتفتوا إلى حقيقة وهي أن نهي الله عز وجل عن طاعة الذين كفروا رحمة بهم وبالناس جميعاً.
ولا يعلم منافع هذه الآية إلا الله عز وجل، ومنها ثبات المؤمنين في معركة أحد، وعودة الذي إنسحب منهم إلى ميدان المعركة، وتقدير آية السياق على وجوه:
أولاً : والرسول يدعوكم في أخراكم لعدم طاعة الذين كفروا.
ثانياً : والرسول يدعوكم للثبات في مقامات الإيمان.
ثالثاً : والرسول يدعوكم للتفقه في الدين للإحتراز من طاعة الذين كفروا.
رابعاً : والرسول يدعوكم لتعلموا بأن طاعة الذين كفروا تردكم على الأعقاب، ويترشح عنها الخسران المبين، وفي التنزيل[وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ]( ).
خامساً : والرسول يدعوكم لتلاوة آية (ان تطيعوا) وتستحضروها يوم أحد، لأن مجاهدة الذين كفروا برزخ دون طاعتهم.
سادساً : والرسول يدعوكم لوقاية عموم المسلمين والمسلمات من طاعة الذين كفروا ، إذ تبعث عودة الصحابة إلى ميدان معركة أحد اليأس في قلوب الذين كفروا من إرتداد بعض المسلمين بلحاظ جهاد وصبر النخبة منهم، قال تعالى[الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ]( ).
سابعاً : والرسول يدعوكم لقانون العودة إلى ميدان المعركة متى ما حدث فرار أو إنسحاب في تأريخ معارك الإسلام .
وتبين هذه الآية والآية التالية قانوناً وهو عدم إجتماع الغم والنعاس في محل واحد إذ تفيد الآية التالية تعاقبهما ومجئ النعاس بعد الغم بلحاظ كبرى كلية وهي أن الغم يدفع النعاس ويطرد النوم ، ولا يميل معه الإنسان إلى الطمأنينة والسنة والدعة.
وهل الغم والنعاس في الآية من المتضادين الذين لا يجتمعان في محل واحد ، الجواب لا ، إنما كل فرد منهما نعمة من عند الله والغم الذي أصاب المسلمين ثواب وتخفيف من عند الله ، وبعث على السعي للفوز بنعمة الغلبة وحس الذين كفروا التي تفضل الله عز وجل بها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في بداية معركة أحد , بقوله تعالى في الآية السابقة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] ( ).
لقد أخبرت الآية عن حس وقتل المؤمنين للذين كفروا في معركة أحد عند تحقق وتنجز أمور :
الأمر الأول : الوعد من عند الله عز وجل ، ويحتمل هذا الوعد وجوهاً :
أولاً : الوعد الإجمالي العام للمؤمنين من أهل الأرض من أيام آدم وإلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى] ( ).
ثانياً : وعد الله عز وجل للأنبياء والمرسلين ، قال تعالى [فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ] ( ).
ثالثاً : الوعد الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحتمل قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] جهتين :
الأولى : المراد بالخطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاطبه الله بصيغة الجمع في قوله تعالى [صَدَقَكُمْ] إكراماً له .
الثانية : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ونصرهم في معركة أحد .
والصحيح هو الجهة الثانية .
رابعاً : الوعد العام للمسلمين بالنصر والغلبة على الذين كفروا من قريش .
خامساً : الوعد الخاص للمسلمين في معركة أحد عند طرطرو و مقدماتها والإستعداد لها ، كما ورد في خصوص معركة بدر إذ قال الله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ] ( ).
وورد عن ابن عباس أنه قال (أقبلت عير أهل مكة من الشام فبلغ أهل المدينة ذلك ، فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد العير ، فبلغ أهل مكة ذلك فخرجوا فأسرعوا السير إليها لكي لا يغلب عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان الله عز وجل وعدهم إحدى الطائفتين ، وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم وأيسر شوكة وأخصر نفراً ، فلما سبقت العير وفاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين يريد القوم ، فكره القوم مسيرهم لشوكة القوم.
فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة ، فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ فوسوس بينهم ، يوسوسهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين .
وأمطر الله عليهم مطراً شديداً فشرب المسلمون وتطهروا ، فأذهب الله عنهم رجز الشيطان واشف الرمل من إصابة المطر ، ومشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم ، وأمد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة عليهم السلام ، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة ( )، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة .
وجاء إبليس في جند معه راية في صورة رجال من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان للمشركين { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } ( ).
فلما اصطف القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره . ورفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً .
فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين ، وأقبل جبريل عليه السلام فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته .
فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال : [إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ) ، فذلك حين رأى الملائكة)( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية السابقة وعظيم فضل الله على المسلمين ، وهل يشمل الوعد الإلهي للمسلمين مضامين آية البحث ، أم أن القدر المتيقن هو خصوص حس وقتل الذين آمنوا للذين كفروا في معركة أحد ،الصحيح هو الأول , ليكون من تقدير آية البحث ما ذكرناه من مسائل تقدير الجمع بين آية البحث والآية السابقة ( ).
الأمر الثاني : تنجز وعد الله للمؤمنين ، قال تعالى [إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ* وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ] ( ) وتحقق تنجز الوعد في واقعة أحد بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ] قوله تعالى [صَدَقَكُمْ اللَّهُ] وبين تحقق الوعد يوم أحد عموم وخصوص مطلق من جهتين :
الأولى : وعد الله للمؤمنين أعم من وعده في معركة أحد .
الثانية : تحقق وصدق وعد الله للمؤمنين أكثر وأعم من وعده في معركة أحد .
الثالث : بيان مصداق تنجز الوعد الإلهي بتجلي الغلبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ].
فمن الإعجاز في المقام مجئ الوعد للمؤمنين قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعند بعثته وهجرته ، وعند الدخول في معركة أحد .
وهل يصح القول بمجئ وعد الله للمؤمنين بالنصر قبل هبوط آدم إلى الأرض ، الجواب نعم ، وهو من معاني الخلافة في الأرض كما في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( )لإفادة إحتجاج الملائكة مسألة وهي عدم إحتجاجهم على الخليفة وسلموا بالأمر ولكنهم سألوا الله عز وجل عدم وجود أعداء للخليفة والأنبياء وأن تثني الوسادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فيحكمون بما أنزل الله من غير أذى وضرر من الذين كفروا ، فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
لتدل الآية بالدلالة التضمنية على وعد الله للأنبياء والمؤمنين بالنصر والغلبة ، وقهر الكفر والضلالة ، ويدل على هذه الإطلاق قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( )بلحاظ ورود هذه الآية بصيغة المضارع لتشمل آدم وهو نبي رسول ، مما يدل على أن الوعد بنصر الرسل قبل هبوط آدم إلى الأرض ونيله مرتبة الرسالة .
وعن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال : نعم . كان نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً ، قال له { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ) ( ).
وأيهما أفضل نعمة الغم أم النعاس ، الجواب هو الثاني من جهات :
الأولى : النعاس في المقام عنوان الطمأنينة .
الثانية : إخبار آية البحث عن نزول النعاس من عند الله عز وجل ، وفيه دليل على أنه نعمة عظمى ، وذخيرة إدخرها الله عز وجل لرسوله الكريم والمؤمنين يوم أحد عندما يباغتهم الذين كفروا فيطلعون على المدينة بثلاثة آلاف مقاتل ويحدث خطأ من الرماة المسلمين فيه خسارة عظيمة ، لولا فضل الله وإلقائه الرعب في قلوب الذين كفروا .
الثالثة : تقييد النعاس بأنه أمنة وأمان وطمأنينة .
الوجه الثالث : تقدير الجمع بين الآيتين بلحاظ ذكر الفاعل في كلتا الحالتين وهو الله عز وجل : فأثابكم الله غماً بغم ثم أنزل الله عليكم أمنة نعاساً ).
لبيان حضور فضل الله عز وجل وتغشي رحمته للمؤمنين في ميدان المعركة ، وأنه سبحانه لا يترك نبيه الكريم يواجه الذين كفروا وشدة بطشهم ، بل يحفظه والمؤمنين معه ، ويذب عنهم وينصرهم وهو من مصاديق قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( ) أي لم يتركك الله عز وجل منذ أن إختارك للنبوة والرسالة ، ولا أبغضك بعد أن أحبك وإصطفاك .
ومن خصائص المؤمن تعلق روحه وإنحصار أمله بالله عز وجل عند الشدائد والمحن ، ومنها يوم أحد وما لاقاه المؤمنون من الأذى ، وما لحقهم من الضرر بسبب هجوم كفار قريش .
ومن الإعجاز في الجمع بين الآيتين مجئ الغم متعقباً لدعوة الرسول لقوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ] بينما عطف عليه نزول النعاس بحرف العطف [ ثم] الذي يفيد التراخي ،فلم تقل الآية ( وأنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ) لأن الواو لمطلق الجمع ، وقد لا تفيد الترتيب وقال المشهور بإفادتها الترتيب ، ورد عليهم بما ورد حكاية عن الكفار (إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا) ( ) وليس بتام .
وكل من القولين له أمثلة تناسبه وتقدم الكلام فيه ، وقد أسسنا علماً في المقام فذكرنا أن الواو تفيد الجمع والترتيب في آن واحد ،وقد تفيد أحدهما على نحو الحصر مع القرينة الصارفة ليكون من معاني مجئ الفاء أن التالي متعقب للأول ، وعدم إجتماع الغم والنعاس .
ولم تقل الآية فانزل عليكم من بعد الغم أمنة ) لإفادة الفاء معنى التعقيب المتصل الذي ليس بين ما قبل الفاء وما بعدها فصل ومهلة ،ويتجلى في الحرف [ثم] وجود فاصلة زمانية بين الغم والنعاس وهو من معاني الصبر عند المؤمنين ، لذا ورد قوله تعالى في آية البحث [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ] وفي التنزيل [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ] ( ) .
قال ابن مالك
(والفاء للترتيب باتصال … وثم للترتيب بانفصال) ( ).
الوجه الرابع : ذكرت الآية السابقة فردين من الغم وبصيغة التنكير ، حلّ أحدهما بسبب وقائع معركة أحد ، وما لحق المسلمين فيها من الخسارة في الأرواح والجراحات في الأبدان ، وفوات الغنائم ، وجاء الغم الآخر ثواباً وجزاءً من عند الله لينسوا معه الغم الأول ، وينشغلوا بالثاني ، كما لو تعلق بأسباب النصر ، وكيفية التدارك وتحقيق الغلبة على الذين كفروا .
وذكرت آية البحث الغم مرة واحدة وبصيغة التعريف بالألف واللام ، وفيه وجوه :
الأول : المراد إستبدال الفرد الأول من الغم الوارد بقوله تعالى [بِغَمٍّ] .
الثاني : حل النعاس محل الفرد الثاني من الغم الوارد في قوله تعالى [غَمًّا].
الثالث : نسخ النعاس لفردي الغم الأول والثاني ، والوارد بقوله تعالى [غَمًّا بِغَمٍّ].
الرابع : مجئ النعاس على كل أفراد الغم التي حلت بالمؤمنين في معركة أحد مجتمعين ومتفرقين .
والمختار هو الأخير ، وهو من الإعجاز في سياق الآيات من جهات :
الأولى : بيان الفضل الإلهي على المؤمنين .
الثانية : مصاحبة نعم عديدة لنعمة النعاس .
الثالثة : جاء الأمن والنعاس رحمة من عند الله ، وهو ناسخ لكل ضروب الغم يوم أحد والتي ترشحت عن أمور :
الأول : عدم وقوع الغنائم بأيدي المسلمين .
الثاني : فوات فرصة دخول الأسرى من المشركين إلى المدينة .
الثالث : الحرمان من بدل فكاك الأسرى كما حصل بعد معركة بدر ، إذ جاءت قريش لدفع العوض عن الأسرى .
ومن الإعجاز أن الذي يقوم بأسر الأسير هو الذي يقبض ويمتلك البدل ، وإن كان كبيراً كما في بدل فكاك أبي عزيز بن عمير وهو أخو الصحابي الجليل مصعب بن عمير لأبيه وأمه ، وكانت راية الذين كفروا يوم بدر بيد أبي عزيز بعد النضر بن الحارث ،فانتزعها منه أبو اليسر وأسره (قَالَ أَبُو عَزِيزٍ مَرّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي ، فَقَالَ شُدّ يَدَيْك بِهِ فَإِنّ أُمّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ لَعَلّهَا تَفْدِيهِ مِنْك ، قَالَ وَكُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ فَكَانُوا إذَا قَدّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التّمْرَ لِوَصِيّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إيّاهُمْ بِنَا ، مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ إلّا نَفَحَنِي بِهَا . قَالَ فَأَسْتَحْيِيَ فَأَرُدّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدّهَا عَلَيّ ما يَمَسّهَا .
قَالَ ابن هِشَامٍ : فَلَمّا قَالَ أَخُوهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ لِأَبِي الْيَسَرِ وَهُوَ الّذِي أَسَرَهُ مَا قَالَ قَالَ لَهُ أَبُو عَزِيزٍ يَا أَخِي ، هَذِهِ وَصَاتُك بِي ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ إنّهُ أَخِي دُونَك . فَسَأَلَتْ أُمّهُ عَنْ أَغْلَى مَا فُدِيَ بِهِ قُرَشِيّ ، فَقِيلَ لَهَا : أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَبَعَثَتْ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَفَدَتْهُ بِهَا) ( ) .
الرابع : الغم لسقوط سبعين شهيداً من المؤمنين .
الخامس : ما أصاب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من الجراحات والكلوم .
السادس : فرار المؤمنين سبب لإصابتهم بالغم ، وهو من جهات:
الأولى : إصابة المؤمن الذي إنهزم بالغم بسبب هروبه .
الثانية : حزن المؤمن لإنهزام أخيه المؤمن معه , سواء إنهزم قبله أو بعده.
الثالثة : أسى وغم المؤمن لإنهزامهم جماعة .
الرابعة : الغم الذي يلحق الطائفة التي إنهزمت بسبب فرار وإنهزام كل واحد منهم لتكون أفراد الغم متعددة .
الخامسة : الغم الذي لحق أهل البيت والصحابة الذين ثبتوا في الميدان بسبب فرار إخوانهم .
وجاء الغم الأول ككيفية نفسانية ، وهو أمر قهري , أما الثاني فجاء رحمة وثواباً من عند الله مما يدل على إتصافه بصيغة اللطف وهو برزخ دون الحسرة ، وهي شدة الحزن على ما فات من الغنائم وتمام بشارات النصر .
ومن أسرار الآية السابقة [َأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ]بيان حاجة المؤمنين إلى جهة نزول الرحمة من عند الله ، لذا تفضل سبحانه وأنزل النعاس أمنة وسلاماً .
وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) من جهات :
الأولى : الإصابة بالغم عند الهزيمة .
الثانية : نفرة نفوس المؤمنين من الفرار والهزيمة .
الثالثة : تنمية ملكة التوكل على الله عند المسلمين ، وقهرهم للنفس الشهوية .
الرابعة : تنزه المسلمين عن حب الدنيا ، لأن الفرار من رشحاته.
الخامسة : شكر المؤمنين لله عز وجل على فتح باب الإنابة في المعارك بدعوة الرسول لهم في أخراهم بلحاظ أنها دعوة متجددة تشع بأنوار النبوة .
السادسة : حث المسلمين على الإنتفاع الأمثل من دعوة الرسول في وحدة المسلمين ، ونبذ الخصومة والإقتتال الطائفي والمذهبي بين الذين يجمعهم قول لا إله إلا الله محمد رسول الله , وهو من ذخائر ذكر الآية السابقة لدعوة الرسول .
ولا عبرة بالتأويل المخالف للنص والمنطوق والسنة النبوية ، وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يمتنع عن قتل المنافقين مع أنهم طائفة في صفوف المسلمين .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن المسلم يحتاج إلى أخيه سواء الذي بقي في الميدان أو الذي يلزم رجوعه إليه .
وعن أبي هريرة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخواناً) ( ).
وعن أنس بن مالك قال [ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال امرت ان اقاتل المشركين حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله فإذا شهدوا ان لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا حرمت علينا اموالهم ودماؤهم الا بحقها له ما للمسلم وعليه ما على المسلم] ( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين البشارة بزوال الهم والغم عن المؤمنين إذ يدل على التسلسل بلحاظ أمور :
الأول : الغم الذي يترشح عن الإنكسار والخسارة من جهات :
الأولى : الغم بسبب ترك الرماة مواضعهم على الجبل .
الثانية : مجئ خيالة المشركين من خلف جيش المسلمين .
الثالثة : كثرة القتلى بين المؤمنين إذ جاءهم العدو من خلفهم ومن ورائهم ، ليكون هذا الدرس والغم موعظة وحرزاً لهم في معركة حنين ، فلم يبالوا بالهجوم المباغت للذين كفروا وسقوط السهام والنبال عليهم كزخات المطر من كل جنبات وادي حنين ، قال تعالى في ذكر جنود هوازن وثقيف [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ] ( ).
الثاني : لحوق الغم للمؤمنين بسبب كثرة الشهداء يوم أحد، وهم عشر جيش الإسلام والنواة التي أنشأت معه قواعد صرح الإيمان ومنهم حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي حزن وبكى عليه ورثاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : إصابة المؤمنين بالحزن بسبب ما ترتب على ترك الرماة مواضعهم .
الرابع : تغشي الغم للمؤمنين بسبب فرار أكثرهم من المعركة ، مع إحاطة الرعب والفزع بالذين كفروا وهم في ميدان المعركة ، فالأصل هو فرارهم وهزيمتهم وهو الذي حصل في معركة بدر .
الخامس : لحوق الغم بالمؤمنين لتعذر وقوع الغنائم في أيديهم ، وهي وإن كانت من المكاسب إلا أنها عنوان نصر المسلمين، وشهادة على هزيمة الذين كفروا.
ولما كان تقدير الجمع بين الآيتين في هذه المسألة وهي الرابعة( ) : فأثابكم غماً بغم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ) .فيحتمل تحقق الأمن من وجوه :
الأول : مجئ الأمن بدلاً وحالاً محل الغم الأول بقوله تعالى [بغم] .
الثاني : نزول الأمن ليحل محل الغم الثاني الذي جاء رحمة وثواباً من عند الله بقوله تعالى [غماً] .
الثالث : تحقق الأمن بالنعاس للنجاة من الحزن على ما فات المسلمين من الغنائم .
الرابع : نزل النعاس أمناً وأماماً مما لحق المؤمنين من الخسارة وسقوط الشهداء .
الخامس : مجئ النعاس أمناً من الظن باعادة الذين كفروا الكرة والهجوم على المؤمنين غروراً وعتواً ، وهل كان يدور بخلد الذين كفروا الهجوم طمعاً بالمؤمنين بعد أن رأوهم قد فروا وإنهزموا ، الجواب لا من جهات :
الأولى : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدد من أهل بيته وأصحابه يقاتلون في الميدان .
الثانية : عودة الذين فروا وإنهزموا من المؤمنين إلى ساحة المعركة ورؤية الذين كفروا لهم ، لذا أطل أبو سفيان وهو يومئذ رئيس جيش المشركين على المؤمنين وناداهم بلغة التخويف والتهديد ، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرد عليه وإجابته وهذا الرد من مصاديق الكبت ومقدمات الخيبة الواردين في قوله تعالى [أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الثالثة : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب ، وهو برزخ دون الطمع بالمسلمين أو بوقوع أسرى منهم في أيدي المشركين أو رجوع المشركين بغنائم.
الرابعة : رؤية جيش المشركين لإستجابة المؤمنين لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعودة إلى القتال ، فقد دعاهم إلى الإسلام فأستجابوا إلى أداء الفرائض فتقيدوا بها، وإلى إجتناب المعاصي والسيئات فإحترزوا منها [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( )، فأصاب الذين كفروا الرعب وملأ قلوبهم الخوف والفزع ، وصار همهم الرجوع إلى مكة خشية القتال أو الوقوع في الأسر .
لقد فرّ أكثر المسلمين من المعركة فأصابهم جميعاً الغم لتكون دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورجوعهم سبباً لنزول النعاس أمنة من سيوف الذين كفروا .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين هذه الآية وآية السياق وهي الآية السابقة : ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً لكيلا تحزنوا على ما فاتكم )وفيه وجوه :
الأول : بيان رأفة الله عز وجل بالمؤمنين ، وأنه سبحانه يدفع عنهم الحزن وحال الأسى والأذى بسبب الخسارة التي لحقت بهم في معركة أحد ، مما يدل على تغشيهم برحمته في ميدان المعركة من باب الأولوية القطعية والدفع عنهم وصرف العدو عنهم ، وإذا كان الله عز وجل يصرف الحزن عن المؤمنين بالغم فانه سبحانه يصرف الذين كفروا ويرجع كيدهم إلى نحورهم بإلقاء الرعب في قلوبهم، قال تعالى[وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ]( ).
الثاني : البشارة للمسلمين بأن ما فاتهم من الغنائم لابد وأن يأتيهم بالذات أو المثل والبدل من النافلة والزيادة من فضل الله سبحانه تعالى جمعاً بين تفضل الله بطرد الحزن عنهم وبين نزول الأمنة والنعاس عليهم.
ويمكن إستقراء مسألة وهي مجئ العرض والبدل للمسلمين من غير عناء وجهد وتعب ، فإن قلت صحيح أن الغنائم التي وقعت بأيدي المسلمين في معركة حنين أضعاف ما فاتهم في معركة أحد ، ولكنها لم تأت من غير عناء ، بل بجهاد وصبر وفر وكر.
والجواب العوض والبدل من عند الله للغنائم أعم من أن ينحصر في معركة معينة أو بخصوص ميدان المعارك ، وقد يأتي بصفة الزكاة والجزية والخراج وضريبة الأرض .
وعن عفيف الكندي وهو أخو الأشعث بن قيس لأمه قال : (كنت امرءا تاجرا فقدمت مني أيام الحج و كان العباس بن عبد المطلب امرءا تاجرا فأتيته أبتاع منه وأبيعه.
قال : فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء فقام يصلي تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت تصلي وخرج غلام فقام يصلي معه فقلت: يا عباس ماهذا الدين ؟ إن هذا الدين ماندري ماهو!
فقال : هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى و قيصر ستفتح عليه وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به و هذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به.
قال عفيف : فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون أربعاً) ( ).
والثواب والجزاء على العمل والعطاء ، ومن خصائص الثواب الذي يأتي من عند الله أنه عام يتغشى أيام الحياة الدنيا والآخرة ، وفي التنزيل [وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا] ( ).
لقد جاء الغم رحمة من عند الله ويدل بالدلالة التضمنية على أنه نعمة وأن الغم أخف وطأة من الحزن لإخبار الآية على أن الغم أمن وواقية من الحزن .
الثالث : تحتمل السلامة من الحزن بلحاظ آية البحث وجوهاً :
أولاً : النعاس الذي أنزله الله عز وجل هو الواقية من الحزن والأسى في معركة أحد وبعد الخسارة التي لحقت بالمؤمنين .
ثانياً :الأمنة والأمان هو السبب والعلة للسلامة من الحزن على ما فات المسلمين من الغنائم .
ثالثاً : سبب سلامة المسلمين من الحزن إجتماع الأمنة والنعاس معاً عند المؤمنين .
رابعاً : كانت عصمة المؤمنين من الحزن بفضل ولطف من عند الله .
خامساً : تدل آية السياق على أن الغم التالي هو السبب بالنجاة من الحزن .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من أسرار إجتماع آية البحث والسياق .
الوجه الرابع : أخبرت آية السياق بأن الله عز وجل أنعم على المؤمنين الذين حضروا معركة أحد وقاتلوا الكفر والجحود والعدوان بالغم ثواباً وجزاءً حسناً لصرف الحزن عنهم ، ليكون النعاس والأمنة اللذين تذكرهما آية البحث على وجوه :
أولاً : تأكيد صرف الحزن عن المؤمنين .
ثانياً : بيان فضل الله عز وجل على المؤمنين ، فاذا كان الغم كثواب يقطع ويدفع الحزن ، فمن باب الأولوية القطعية أن النعاس كأمان يصرفه ويدفعه عن المؤمنين .
ثالثاً : بعث المسلمين إلى إختيار الفعل المناسب عند إنتهاء المعركة، والتوجه إلى إصلاح النفوس وأداء العبادات .
الوجه الخامس : بيان قانون وهو توالي النعم من عند الله عز وجل على المؤمنين في حال النصر والغلبة وعند الخسارة والإنكسار ، وكل نعمة واقية من الحزن.
لقد أراد الله عز وجل بالنعاس صرف أذهان المؤمنين عن الغنائم والحرمان منها ، إذ أن حضورها المستمر في الأذهان باعث للتلاوم بين المسلمين وإظهار الأسى والجزع والإكثار من الجدال والشكوى ، فلو أن أحد الرماة ممن تركوا مواضعهم ونزلوا إلى الميدان طلباً للغنائم أستشهد في المعركة ، فان الغم والنعاس أمان من قيام المؤمنين بلومه وذمه، وتوجيه العتاب إليه بأنه كان سبباً في حرمانهم من الغنائم ، لذا فإن قوله تعالى [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ] ( )تزكية للشهداء جميعاً وإن أخطأ وقصّر بعضهم ، وإخبار بأنهم أحياء عند الله وأن الله تعالى يثيبهم على فعلهم الصالحات وتضحيتهم في سبيله ويمحو عنهم ما إقترفوه من الذنوب ، أما بالنسبة للتقصير والخطأ الصادر منهم في معركة أحد فقد أخبر الله عز وجل في ذات الآية السابقة بأنه عفا عنهم.
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين هذه الآية وآية السياق : ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً لكيلا تحزنوا على ما أصابكم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من القوانين التي تترشح عن نبوة محمد صلى الله سلامة المؤمنين بنبوته من الحزن والأسى من جهات :
الأولى : مجئ الآيات القرآنية التي تنهى عن الحزن والأسى وبيان علة السلامة من الحزن والوهن والضعف بعلو مرتبة المسلمين ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الثانية : صيرورة صرف الحزن عن المؤمنين مقدمة لسلامتهم من الحزن يوم الفاقة وأوان حلول أوان أهوال الآخرة، وفي التنزيل [وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ] ( ).
الثالثة : تدل الآية أعلاه على أن نزول الغم على المؤمنين عند فرارهم إنما هو شكر من الله عز وجل لهم على إيمانهم وخروجهم للقتال مع النبي وعدم إنصاتهم لرأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول ، وهو يحث الناس على الرجوع عن معركة أحد .
الرابعة : بعث السكينة في نفوس المسلمين والبشارة بعدم وقوع ذات الخسارة التي تعرضوا لها في معركة أحد في المعارك اللاحقة فان قلت قد ورد التقييد في الآية السابقة بأن الغم يدفع الحزن الذي ترتب على ما حصل في معركة أحد على نحو الخصوص ، وهذا صحيح فلم تقل الآية ( لكيلا تحزنوا على ما يفوتكم ولا ما يصيبكم) ولكن المضامين القدسية للآية أعم بلحاظ بقاء نعمة الواقية من الحزن، ولم يدر في خلد الذين كفروا أن الملائكة ينزلون لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كمدد سماوي ، وأن مدداً نفسياً آخر يأتي للمسلمين من جهات :
الأولى : الثواب العظيم بالغم من عند الله للوقاية من الحزن والحسرة ، وتجتهد علوم الطب العام والنفسي لنجاة الإنسان من الكآبة ، وتعطى له العقاقير والأدوية ذات الأعراض الجانبية الضارة عند تشخيص المرض .
أما المسلمون فان الله وقاهم من مرض الكآبة والحزن من الأصل مع أنهم تعرضوا لنكسة وخسارة ، وهذه الوقاية من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بسلامة العقول والأبدان من الأمراض النفسية .
الثانية : نزول النعاس من عند الله عز وجل أمنة ورحمة من عند الله على الذين آمنوا.
الثالثة : فضل الله في سلامة المسلمين من الحزن على مصيبة فقد الشهداء لقوله تعالى [وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ]وقد يقال لماذا لا يحزن المؤمنون على إخوانهم الذين إستشهدوا في معركة أحد ، الجواب من وجوه :
أولاً : حسن إقامة ومثوى الشهداء عند الله حتى أنهم يرغبون بالعودة إلى الدنيا وإخبار المؤمنين عن النعيم الذي يقيمون فيه .
ثانياً : لا تعارض بين السلامة من الحزن وبين ذكر الشهداء والثناء والتراحم عليهم والفخر بجهادهم في سبيل الله .
ثالثاً : إتخاذ الشهداء أسوة حسنة ، وفي قصة كل شهيد دليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتسليم والرضا بوعد الله وما أعده للمؤمنين مطلقاً والشهداء خاصة ، وعن ابن عمر قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: التاجر الصدوق الامين المسلم مع الشهداء يوم القيامة) ( ) .
ويبين الحديث عظيم منزلة وشأن الشهيد يوم القيامة ، وإمكان نيل تلك المرتبة في المعاملات وإظهار التقوى والصلاح في البيع والشراء مع الناس مطلقاً .
رابعاً : حث المسلمين للإستعداد إلى قادم الأيام والإشارة لملاقاة جيوش الذين كفروا، فقد زحف المشركون بثلاثة آلاف على المدينة في معركة أحد، وكانت المصيبة بسقوط سبعين شهيداً ، فكيف وقد جاءوا بعدها بعشرة آلاف في معركة الخندق لتتجلى منافع تفضل الله بالغم ثواباً، ليكون أمناً من وجوه :
الأول : الأمن من الحزن وإطباق الحسرة على نفوس المؤمنين .
الثاني : السلامة من الإنشغال بتوجيه اللوم إلى الرماة الذين تركوا مواضعهم ونحوهم .
الثالث :تأديب المسلمين , وتنمية ملكة اللجوء إلى الذكر والإسترجاع عند المصيبة عندهم .
الرابع : بيان حقيقة وهي أن كل فرد من أهل البيت والصحابة مشروع شهادة في ملاقاة الذين كفروا ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] ( ).
الخامس : البشارة بالنصر وجني ثمار جهاد المؤمنين، وتجلي بركات دماء الذين أستشهدوا في سبيل الله، بإقامة دولة الحق والهدى والإيمان .
السادس : ضرورة صدور المؤمنين عن الكتاب والسنة , وتلقي الأوامر التي تأتي من عند الله بالطاعة والإمتثال وعدم الإنشغال بالحزن الذي هو كيفية نفسانية قد تكون عائقاً دون التدبر بحقائق الأشياء وعواقب الأمور .
السابع : إرادة طرد الغفلة وأسبابها عن المسلمين .
الثامن : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، إذ يرون كيف يأتي الثواب للمسلمين ، بينما يعاني الذين كفروا من الرعب الذي ملأ قلوبهم ، وما يترشح عنه من الضجر والسأم وأسباب الشقاق والخصومة بينهم ، وقد تقدمت وجوه من البيان في الجمع بين هذه الآية والآية قبل السابقة : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ) ( ).
إن ذات الخطاب التشريفي (ياأيها الذين آمنوا) مرتبة سامية بين الأمم، وشهادة في الدنيا والآخرة وباب للرزق الكريم، وتتضمن الآية أعلاه دعوة المسلمين لتعاهدها والحفاظ عليها، وإجتناب التفريط بها موضوعاً ودرجة رفيعة وحكماً يلزم تعاهده كل حين، فلذا تفضل الله عز وجل وجعل الصلاة واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة وإتصافها بالتمام في معاني الخضوع والخشوع لله عز وجل وتضمنها تلاوة المسلم لكلام الله، وفي كل فعل وقول في الصلاة مسائل:
الأول : فيه تجديد للبقاء في مراتب الإيمان.
الثاني : إنه إعلان للجهاد والصبر في طاعة الله.
الثالث : إنه وسيلة مباركة للتقرب إلى الله عز وجل.
الرابع : رجاء رفد وعون ومدد الله .
الخامس : العصمة من طاعة الذين كفروا .
السادس : الإعلان العملي بالبراءة من الشرك.
وتبين الآية قانوناً جلياً خالياً من اللبس والترديد أن الذي يطيع الذين كفروا في أمور الدين ينسلخ من مرتبة الإيمان، ويخرج بالتخصيص من الخطاب الوارد في ذات الآية الذي يتضمن الإكرام على إختيار لباس الإسلام، ورداء التقوى والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لتكون الآية أعلاه على وجوه:
الأول : إنذار المسلمين والمسلمات من الإرتداد مطلقاً، سواء بطاعة الذين كفروا أو بسبب آخر.
الثاني : خطاب التشريف مدد سماوي للمسلمين مجتمعين ومتفرقين ليتعاهدوا سنن الإيمان.
الثالث : بعث اليأس والقنوط في قلوب المشركين من ثبات المسلمين على الإيمان على نحو القضية النوعية أو الشخصية، فالذي يدخل إبنه أو إبنته الإسلام يُسلم بالعجز عن إرتدادهم.
الرابع : بعث النفرة في نفوس المسلمين من الإرتداد.
الخامس : تفقه المسلمين في الدين بمعرفة قبح طاعة الذين كفروا، وبينها وبين الإرتداد عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء النهي عن كل منهما وحرمته وقبحه الذاتي .
ومادة الأفتراق أن طاعة الذين كفروا أعم من الإرتداد الذي قد يقع من غير طاعة الذين كفروا، وأيهما أشد قبحاً وضرراً على الذات والغير .
الجواب الإرتداد أشد قبحاً وضرراً، وقد يكون نتيجة لطاعة المسلم للذين كفروا لذا ورد قوله تعالى[فَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا]( ).
وهل تشمل الآية الضرورة والحاجة وموارد التقية، الجواب صحيح أن الضرورات تبيح المحذورات وأنها تقدر بقدرها إلا أنه ليس من ضرورة في باب الإعتقاد والإيمان تلزم التخلي عنهما لصدق الإيمان بإستقراره في القلب بدليل قوله تعالى[إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ]( ) .
وفي أسباب نزول الآية أعلاه ورد عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة، قال لأصحابه: تفرقوا عني، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض، فالحقوا بي. فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت، فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون وأبو جهل، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه، فإذا ألبسوها إياه قال: أحد.. أحد.. وأما خباب، فجعلوا يجرونه في الشوك، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيةً، وأما الجارية، فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم، واشتد على عمار الذي كان تكلم به. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت: أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟ قال: لا. قال: وأنزل الله {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان})( ).
ومع أن حال الضرورة يدخل في الأحكام العامة فان الإيمان مستثنى من ذاته الإستثناء , وهو من الإعجاز في نيل الإنسان شرف الخلافة في الأرض بأن تكون هذه الدرجة عصمة من الإكراه على الكفر والجحود، وهو من عمومات قوله تعالى[خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
فمثلاً من وجوه تقدير الآية أعلاه: يا ايها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا في ترك الصلاة يردوكم على أعقابكم) .
فهل يستطيع الذين كفروا إكراه المسلم على ترك الصلاة الجواب لا، لصحة أداء المسلم الصلاة بأي كيفية يضطر إليها ولو انحصر الركوع والسجود بحركة وإنغماض العين ويكون إغماضها للسجود أكثر منه للركوع .
ومن مصاديق التمام والكمال في خلق الإنسان إنفراد الله عز وجل بالسلطان والتأثير والأثر فيه، وهو الذي يدل عليه ما ورد قبل ثلاث آيات[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
وقد تقدم في تفسير هذه الآية بأنه لا يقدر على إلقاء الرعب في القلوب إلا الله عز وجل، وهو سبحانه الذي يعلم ثبات المسلم في مقامات الإيمان وإخلاصه في طاعته وصبره في الوقاية من طاعة الذين كفروا , وفيه مسائل:
الأولى : عدم طاعة الذين كفروا أمر وجودي.
الثانية : إجتناب طاعة الذين كفروا عزيمة ويقظة متجددة.
الثالثة : في عصمة المسلمين من الإنقياد للذين كفروا أجر وثواب.
الرابعة : فيه دلالة على عدم وجود برزخ بين الإيمان والكفر.
لقد جاء كفار قريش بخيلهم وخيلائهم في معركة أحد لقهر المسلمين ووقف الدعوة إلى التوحيد بعد أن عجزوا عن حمل المسلمين على طاعتهم إذ أبى المسلمون إلا طاعة الله ورسوله، فصار السيف هو الفيصل.
لقد تجلى لقريش وغيرها في السنة الثالثة للهجرة منعة الإسلام، وقوة شوكة المسلمين، ليكون من مصاديق قوله تعالى[يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( )، في تسمية معركة بدر إحاطة الناس علماً بقيام دولة الإسلام، فاراد الكفار إعادة المسلمين إلى إتباعهم وطاعتهم، والإنقياد لأوامرهم والرجوع إلى عبادة الأوثان، فخرج المؤمنون لقتالهم ليدل هذا الخروج على عصمة المسلمين عن طاعة الذين كفروا.
ومن الإعجاز في قوله تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( )، نسبة فعل الإرتداد إلى الذين كفروا بقوله تعالى(يردوكم) ويحتمل وجوهاً :
أولاً : ذات طاعة الذين كفروا إرتداد.
ثانياً : طاعة الذين كفروا فيما يأمرون من أسباب الجحود بما فيه الإرتداد.
ثالثاً : قيام الذين كفروا بأفعال وأوامر خاصة تؤدي إلى إرتداد المسلم الذي يطيعهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة التي تبين أن طاعة الذين كفروا تؤدي إلى الخسران وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الإرتداد خسران.
الصغرى : طاعة الذين كفروا إرتداد.
النتيجة : طاعة الذين كفروا خسران.
والآية أعلاه سلاح وواقية للمسلمين يوم معركة أحد، ويصح تقديرها على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا إستعدوا لمعركة أحد بعدم طاعة الذين كفروا.
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا تخسروا معركة أحد، وتنهزموا من المعركة، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( )، بلحاظ كبرى كلية وهي أن صيغة الإنقلاب والخسارة خاصة وعامة من جهات:
الأولى : الخسارة الشخصية عند الإرتداد.
الثانية : خسارة الجماعة والطائفة.
الثالثة : خسارة الطائفة بارتداد الفرد والجماعة منها، وقد جاء قوله تعالى(والرسول يدعوكم) لمنع هذه الوجوه من الخسارة عن المؤمنين في الدنيا والآخرة.
وهل فرار وانسحاب أكثر المسلمين من معركة أحد بقوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] من مصاديق الإرتداد على الأعقاب في قوله تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ) .
الجواب لا، لأن هذا الصعود والفرار ليس عن طاعة للذين كفروا إنما عن قتال وجهاد ومسايفة مع الذين كفروا ودفاع عن الإسلام، ولأن الخطاب في(إذ تصعدون) بصفة وصيغة الإيمان لبيان حقيقة وهي أن الأفعال والوقائع التي تذكرها هذه الآيات تؤكد عصمة المسلمين من طاعة الذين كفروا لمصاحبة الخطاب بالإيمان لهم بدليل إبتداء هذه الآيات بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ( ). وقد إستجاب الذين فروا من معركة أحد لدعوة الرسول لتكون عودتهم إلى ساحة معركة أحد من صيغ حمل المشركين على دخول الإسلام وطاعة الله ورسوله .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذين كفروا.
رابعاً : يا أيها الذين كفروا آمنوا لا ترتدوا على أعقابكم خاسرين ).
وقد يظن بعضهم أن الهزيمة والإنسحاب بمعركة أحد نهاية للخصومة والعداء بين كفار قريش وبين المهاجرين والأنصار من جهة أخرى، فبينت الآية أعلاه أن هذه الهزيمة مقدمة للحوق الضرر بالمسلمين سواء الذين يفرون من ميدان المعركة أو الذين يبقون فيها، أما الذين يبقون فيصبحون قلة يسهل على العدو قتلهم أو أسرهم، وان الذين يبقون فانهم يقعون في الأسر , ويكون نوع طريق لحملهم على طاعة الذين كفروا .
فجاءت الآية أعلاه لدفع الضرر عن المسلمين والسلامة من الفرار للعلم بأن ضرره عليهم عام، لذا فما أن دعاهم الرسول للرجوع إلى الميدان بقوله تعالى(والرسول يدعوكم) حتى تناجوا بالإستجابة لدعوته ونزلوا من الجبل وأحاطوا به، ليصاب الذين كفروا بالرعب والذعر، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ) .
لقد كان الذين كفروا يطمعون بحمل المؤمنين على طاعتهم والإنقياد لهم، فجاءت دعوة الرسول لتجعلهم يفزعون ويهرعون للهروب وينجو المسلمون من طاعتهم ومن أسباب الإرتداد.
الجهة الثانية : تبين الآية أعلاه التي تتضمن التحذير من طاعة الذين كفروا سوء عاقبتها في الدنيا والآخرة , وتجعل المسلمين في حال فطنة وحرص على سلامة دينهم وما ذاقوه من حلاوة الإيمان خاصة وقد إختار إخوان لهم الشهادة والقتل في سبيل الله فتفضل الله عز وجل وبعد أن ختم الآية بقوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، بصيغة الشرط والتعليق على طاعة الذين كفروا بأن أخبر عن قوانين متعددة في بضع كلمات بقوله تعالى[َبلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( ).
وإذ إبتدأت الآية التاسعة والأربعين بعد المائة بقوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) وما فيه من الإكرام التشريفي للمسلمين والمسلمات تعقبتها الآية أعلاه بالإبتداء [بل] وهي نعمة من عند الله وأعجاز في نظم الآيات بذاته وبما يعده من المضامين القدسية ، فمن معانيه أنه كفاية وحرز من عند الله .
وحرف الإضراب في موضعه هذا من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( )وإرادة العموم في الآية أعلاه فضلاً من عند الله عز وجل .
ومن الإعجاز والتعدد في فضل الله في المقام وجوه :
الأول : كفاية الله عز وجل للنبي عز للمسلمين والمسلمات .
الثاني : كفاية الله للمؤمنين مدد ونصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : كفاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عز للإسلام وواقية من طاعة الذين كفروا .
ترى ما هي النسبة بين الولاية بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]وبين الكفاية في قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) الجواب من وجوه :
الأول : إرادة التساوي وأن الولاية هي نفسها الكفاية من عند الله .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وهناك مادة للإلتقاء ومادة للإفتراق بينهما .
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق , وهو على شعبتين :
الأولى : ولاية الله للعبد أعم من كفايته له .
الثانية : كفاية الله للعبد أعم من ولايته له .
الرابع : الكفاية والولاية مما إذا إجتمعا إفترقا , وإذا إفترقا إجتمعا .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثالث أعلاه والوجه الرابع .
ومن نعم الله عز وجل على المسلمين تعدد فضله عليهم في حال السراء والضراء ، وتتصف آية الولاية أعلاه بأمور :
أولاً : مجيء الآية بصيغة الجملة الخبرية التي تفيد القطع ، وهل آية الولاية أعلاه وعد من عند الله .
الجواب إنها أعم من الوعد إذ أن الولاية مصاحبة للإيمان في الحال والمستقبل ، وقد تقدم أن الآية أعلاه أقل آيات سورة آل عمران كلمات.
ومع هذا فإنها تتضمن قوانين تتغشى حياة المسلمين والمسائل الإبتلائية , وأسباب العز والرفعة في الدنيا والآخرة , وهي :
أولاً : ولاية الله عز وجل للمسلمين والمسلمات .
ثانياً : عدم مغادرة ولاية الله عز وجل للمسلمين والمسلمات ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الله ولي الذين آمنوا .
الصغرى : المسلمون هم الذين آمنوا .
النتيجة : الله ولي المسلمين .
ثالثاً : نصرة الله عز وجل للمسلمين .
رابعاً : الإطلاق والعموم في ولاية الله للمسلمين .
خامساً : قانون [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ).
وهل تتضمن الآية أعلاه الإخبار عن وجود ناصرين غير الله عز وجل ، الجواب نعم ، وهذه النصرة على وجوه :
أولاً : نصرة أولياء الله عز وجل للمسلم .
ثانياً : نصرة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وفي معركة بدر إجتهد النبي بالدعاء ليلة ويوم المعركة ، فتفضل الله وأنزل الملائكة لنصرته والمؤمنين ، قال تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
ثالثاً : نصرة المسلمين بعضهم لبعض , وهو من أسرار مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله. وسلم بينهم .
رابعاً : النصرة والعون بين الكافرين أنفسهم ، والتي لا تجلب إلا الخيبة والخسران .
وهل قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ) مطلق أم مقيد ، الجواب هو الأول سواء بلحاظ الزمان أو المكان أو الحكم ، وهو لا يتعارض مع التقدير الذي يكون فرع الإطلاق , ومنه في المقام وجوه:
الأول : والله خير الناصرين في الدنيا والآخرة .
الثاني : والله خير الناصرين الذي ينزل الملائكة مدداً وعوناً ، ولا يقدر على إنزالهم إلى الله عز وجل .
الثالث : الله خير الناصرين الذي نصر نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وأحد .
الرابع : والله خير الناصرين الذي يقيل عثرة المنهزم والفار من المؤمنين فيرجع إلى ميدان المعركة .
الخامس : والله خير الناصرين الذي نجىّ رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من سيوف وسهام الذين كفروا في معركة أحد .
السادس : والله خير الناصرين الذي يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا .
السابع : والله خير الناصرين في حال السلم والمهادنة والحرب .
الثامن : والله خير الناصرين الذي يكون نصره بالكاف والنون ، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
التاسع : والله خير الناصرين الذي صدقكم وعده إذ تحسونه بإذنه .
العاشر : والله خير الناصرين الذي صرفكم عنهم ليبتليكم .
الحادي عشر : والله خير الناصرين وهو ذو فضل على المؤمنين.
الثاني عشر : والله خير الناصرين وهو خبير بما تعملون .
الثالث عشر : والله خير الناصرين الذي أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً .
الرابع عشر : قل إن الأمر كله لله والله خير الناصرين .
الخامس عشر : والله خير الناصرين والله عليم بذات الصدور .
السادس عشر : والله خير الناصرين لأن نصرته خاصة بالأنبياء والذين آمنوا .
السابع عشر : والله خير الناصرين الذي يحول بين المؤمنين وبين الهزيمة .
والقوانين التي وردت في هذه الآية هي :
الأول : ولاية الله عز وجل للمسلمين والمسلمات ، ويدل حرف الإضراب [بل] في بداية الآية على أن ولايته سبحانه واقية وحرز وسلاح وإمامة في مسالك النجاح والتوفيق والرشاد .
الثاني : نصرة الله عز وجل لنبيه الكريم وللمؤمنين .
الثالث : قانون (الله خير الناصرين ) مستديم ومتجدد أمس واليوم وغداً , وفي الدنيا والآخرة .
وتحتمل دعوة الرسول في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] بلحاظ القوانين أعلاه وجوهاً :
أولاً : هذه الدعوة من ولاية الله عز وجل لرسوله الكريم في عودة أصحابه لميدان المعركة وعدم تحقق مصداق الهزيمة عليهم .
ثانياً : إنها من نصرة الله لرسوله .
ثالثاً : هذه الدعوة من ولاية الله للذين آمنوا ليرجعوا إلى المعركة فينقلب الذين كفروا بتبكيت وخيبة .
رابعاً : إنها من نصرة الله للذي آمنوا بلحاظ أن هذه الدعوة مدد وعون ذو صيغة رسالية للذين آمنوا بالله ورسوله.
لقد آمن أهل البيت والصحابة ,وكان أكثر الناس يومئذ على الكفر والضلالة.
وتحملوا الأذى في جنب الله وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد يطلبون النصر ويسعون للغلبة على الذين كفروا ، فتفضل الله عز وجل بنصرته لهم بأن ملأ قلوب الذين كفروا بالرعب ، وجعلهم ينسحبون إلى مكة من غير أن يحرزوا أي غاية جاءوا لها .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ) النصر المبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة بدر ، وحضور هذا النصر ودلالاته قبل وأثناء وبعد معركة أحد ، وهذا الحضور من أسباب مبادرة المؤمنين للعودة إلى ميدان القتال .
وبينما زحف الكفار إلى معركة أحد والرعب في إنتظارهم ليملأ قلوبهم ، فان المؤمنين خرجوا من المدينة ومعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وولاية الله ونصرته لهم ، وفيه شاهد برجحان كفة الذين آمنوا وإن كان عددهم نحو ربع عدد جيش الذين كفروا ، لذا ما أن بدأت المعركة حتى تهاوت رؤوس حاملي لواء الذين كفروا من قريش تباعاً مع أنهم هم الذين خرجوا من بين الصفين وطلبوا المبارزة إذ كان حامل لوائهم طلحة بن أبي طلحة الذي كان يسمى كبش الكتيبة لأنه أصر على المبارزة، فخرج له الإمام علي عليه السلام فقتله بعد أن تبادلا ضربتين.
ومن الإعجاز في قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ) تعلق مضامين الآية الكريمة بما قبلها بدلالة إبتدائها بحرف الإضراب [بل] الذي يتضمن معنى الأمن والسلامة للمسلمين من طاعة الذين كفروا ، فان الآية وعد كريم بالنصر على الذين كفروا والأمن والوقاية من الفرار من الزحف.
وهل يساعد الملائكة المؤمنين وكلما إجتهد الذين كفروا في فنون الحرب فان الله عز وجل يرجع كيدهم إلى نحورهم , ومن معاني [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة الشدة وإقتراب العدو منه , وفي التنزيل [فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
الجهة الثالثة : إخبار هذه الآيات عن قانون إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا ، ليكون من إعجاز القرآن الغيري رؤية أمارات هذا القانون على أقوال وأفعال الذين كفروا .
ويمكن تأسيس قانون في المقام وهو أن الناس جميعاً شرع سواء في إعجاز القرآن الغيري إذ يدركون بعقولهم وحواسهم مصاديق إعجاز القرآن .
فصحيح أن الرعب كيفية نفسانية إلا أن سلطانه يظهر على الجوارح والأفعال فتصغى الأسماع إلى القرآن وتميل النفوس إلى الإسلام ، ترى ما هي علامات الرعب التي ظهرت على الذين كفروا في معركة أحد , الجواب من وجوه :
الأول : مبادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه للخروج للقتال ، فلم يبقوا في المدينة بل توجهوا إلى ميدان المعركة ، وتتجلى على وجوههم علامات الرضا والشوق للقاء العدو .
الثاني : إصابة الذين كفروا بالرعب عند رؤية المؤمنين منقادين لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تنظيم صفوفهم وتعيين مواضعهم.
الثالث : كان أكثر جيش المسلمين من الأنصار يوم أحد مما يدل على دخول الإيمان قلوب أهل المدينة وإستعدادهم للذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : تتابع سقوط القتلى من حملة لواء المشركين وصناديدهم .
الخامس : إستعداد الذين كفروا للهروب والفرار مع بدايات القتال كما في قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] تكرار النصر للمسلمين في بداية معركة بدر وأحد بأن سقط أوائل المبارزين من كفار قريش ثم هجم المسلمون فازاحوا الذين كفروا عن وسط الميدان وأشاعوا القتل فيهم بمدد وعون من الملائكة .
عن الضحاك في قوله تعالى[تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] الآية قال : كان هذا موعداً من الله يوم أحد عرضه على نبيه صلى الله عليه وسلم ، أن المؤمنين إن اتقوا وصبروا أيدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، ففر المسلمون يوم أحد وولوا مدبرين فلم يمدهم الله( ) .
وعن عكرمة في الآية أعلاه قال: هذا يوم أحد فلم يصبروا ولم يتقوا فلم يمدوا يوم أحد ، ولو مدوا لم يهزموا يومئذ ( ) , ولعل الضحاك أخذ هذا القول عن عِكرمة , ولا دليل عليه , فقد صبر المؤمنون وأظهروا أسمى آيات التقوى .
السادس : عجز الذين كفروا عن ملاحقة المؤمنين عند صعودهم وفرارهم إلى أن جاءتهم دعوة الرسول للعودة إلى ميدان المعركة إذ تدل آية السياق على وجود فترة تخللت فرار طائفة من المسلمين بدليل لغة العطف في قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] .
وإحتمال إجتماع الصعود مع عدم الإلتفات إلى الغير زماناً وفعلاً لا يتعارض مع إستغراقهما لوقت مخصوص جعل الله عز وجل فيه غشاوة على أبصار الذي كفروا ومنعهم من اللحاق بالمؤمنين.
وعندما جاءت دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعودة والرجوع إستمعوا وإستجابوا لها، ما يدل بالدلالة التضمنية على وجود برزخ ومانع بين الكفار وجنودهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سواء الذين من حوله أو الذين فروا ، والذين سرعان ما إلتحقوا به فكانت هذه الدعوة والإستجابة لها من مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
السابع : إنسحاب الذين كفروا في آخر يوم معركة أحد من غير سبب وموضوع جلي للإنسحاب من الخزي والذل وهو زاجر وعبرة لغيرهم ، وحجة في توافد الناس إلى المدينة المنورة لدخول الإسلام ليكون الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) لبيان حقيقة وهي أن كل فرد من أفراد جند الله لا يعلم به وبكيفية نصرته للمؤمنين إلا الله عز وجل , ومنه مقدار وكيفية من الرعب الذي يلقيه في قلوب الذين كفروا مجتمعين ومتفرقين .
وتقدير الجمع بين الآية أعلاه وآية السياق والبحث على وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا إذ تصعدون ) ليفيد الجمع بين الآيتين بعث السكينة في نفوس المؤمنين حتى في حال فرارهم ، وحث لهم للإستجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب وأنتم لا تلوون على أحد ) ليكون من منافع الرعب في المقام وجوه :
أولاً : عزوف الذين كفروا عن مطاردة الذين آمنوا .
ثانياً : خوف الذين كفروا من المدد الذي يأتي للمسلمين .
ثالثاً : منع وإمتناع الذين كفروا من الإحاطة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذي بقوا يقاتلون بين يديه مع قلتهم، قال تعالى[كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
رابعاً : حضور وقائع معركة بدر في الوجود الذهني للذين كفروا في معركة أحد ، فحالما بدأت المعركة جاءت مصاديق الوعد الإلهي للمسلمين تترى بالغلبة في المبارزة الفردية والهجوم العام حتى شوهدت النسوة اللائي جئن مع الذين كفروا لإثارة الحماس في نفوسهم يهرولن نحو الإبل للركوب.
فنزل أغلب الرماة من المسلمين من مواضعهم التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وكأن هذه الهرولة فتنة وإستدراج، ولكنه موضوع مباين للفتنة والإغواء من غير قصد منهن، ولو لم ير هؤلاء الرماة تلك النسوة يستعدن للفرار فانهم رأوا جيش الذين كفروا يتقهقرون عن وسط الميدان تاركين مؤنهم خلفهم في آية بينة لسلاح الرعب وأثره وموضوعه .
خامساً : إدراك الذين كفروا والناس جميعاً القبح الذاتي والغيري للشرك ، وما يجلبه من الكآبة وضيق النفس ،وغزو الرعب للقلوب خاصة , وأن آية إلقاء الرعب تبين الملازمة بين الرعب وبين الشرك .
سادساً : التخفيف عن المؤمنين ، فحينما يفرون من وسط المعركة لا يتبعهم العدو ، فادنى إنسحاب يجعلهم يقفون قريباً من وسط المعركة للإحساس بالأمن ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] بلحاظ سماع الذين فروا من الصحابة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع دنو الذين كفروا منه ، ووصول الحجارة التي يرمونها إليه ، وإصابته في رأسه ووجهه ، ومع سيلان الدماء منه فانه صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك أصحابه يفرون بل دعاهم للرجوع ليكون من مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا في المقام وجوه :
أولاً : دعوة الرسول لأصحابه من مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وسبب لإلقاء أفراد أخرى منه في قلوبهم .
ثانياً : إستماع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدعوته، وتلقيها بالقبول والإقرار برسالته , وهو الذي يدل عليه الخطاب التشريفي [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] والذي عطفت عليه مضامين آية السياق .
ثالثاً : إستجابة المؤمنين لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجوعهم إلى ميدان المعركة .
الثالث : تقدير الجمع بين الآيتين : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لكيلا تحزنوا على ما فاتكم).
لقد بينت هذه الآيات أن علة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا هو إتخاذهم شريكاً ونداً لله عز وجل وعبدوا الأصنام وإتخذوها وسائط يتقربون بها إلى الله عز وجل.
وجاءت آية السياق لبيان العذاب العاجل الذي يصيب الذين كفروا بسبب كفرهم وشركهم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )بلحاظ أن هذا العذاب زاجر للذين كفروا عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ودعوة للذين كفروا للتوبة والإنابة.
ومن معاني آية السياق صيرورة الرعب سبباً للتخفيف عن المؤمنين وسلامتهم من الحزن والأسى الذي قد يترشح عن بسبب كثرة القتلى منهم ، لقد جاء النهي من عند الله للمسلمين عن الضعف والحزن ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
فتفضل الله عز وجل وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب كيلا يدب الحزن إلى نفوسهم ، وفيه مصداق لقوانين:
الأول : نزول الأمر من عند الله للمسلمين وتعقبه بالمدد وأسباب اللطف التي تقرب المسلمين للإمتثال لأوامره سبحانه.
الثاني : نزول البلاء بالذين كفروا تخفيف عن المؤمنين.
الثالث : حضور رحمة الله عز وجل بالممسلمين في ميدان المعركة، وبين هذا الحضور ونزول الملائكة لنصرة المؤمنين عموم وخصوص مطلق، فرحمة الله هي الأعم، ونزول الملائكة من مصاديقها.
الرابع : دفع الله الحزن والأسى عن المسلمين عند شدة الأذى والإبتلاء.
الخامس : مجئ النهي من عند الله سبحانه عن المعصية , وتفضله بالعون والمدد لإمتثال المسلمين ، والموانع التي تحول دون إرتكابهم المعصية والذنوب ، وتدل عليه عمومات قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
إذ تفيد خاتمة الآية أعلاه صرف السوء والفحشاء عن المخلصين من المؤمنين الذين أحسنوا إسلامهم ، وملأ الإيمان قلوبهم ومنهم الذين خرجوا إلى معركة أحد يطلبون إحدى الحسنيين، إما الشهادة أو النصر ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( )، وأيهما أقرب للمؤمنين في أذهانهم وأحاديثهم عند خروجهم إلى معركة أحد ، فيه وجوه :
أولاً : النصر هو الأقرب من جهات :
الأولى : إستصحاب النصر على الذين كفروا يوم بدر .
الثانية : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن رؤياه عشية الخروج للمعركة، وكانت تتضمن وقوع الخسارة بين صفوف المسلمين إلا أنها تنبأ بالدلالة التضمنية عن وقوع القتال مع المشركين وسلامة المسلمين من الهزيمة .
الثالثة : تلاوة المسلمين لآية إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وإدراك قانون وهو التباين والتضاد بين الرعب والنصر ، فلا يجتمعان في محل واحد وجهة واحدة إلا على نحو الفرد النادر.
الرابعة : دلالة الجمع بين الآيتين على حقيقة وهي أن دفع الحزن عن المؤمنين نعمة عظمى ، وأيهما أكبر نفعاً الغنائم التي فاتت المسلمين يوم أحد أم دفع الحزن عنهم ، الجواب هو الثاني لأنه نعمة ورحمة باقية في أجيال المسلمين .
وفيه حجة ودليل على صدق نزول القرآن من عند الله ، فيرى المسلمون آثار الرعب الذي ملأ قلوب الذين كفروا وإنتفاء الحزن عن المؤمنين والذين رجعوا إلى المدينة بآية الرضا بأمر الله، والسلامة من الحزن والأسى على الغنائم.
ثانياً : الغنيمة هي الأقرب في أذهان المؤمنين، ويدل قوله تعالى[وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ]( ).
والمراد من الطائفتين في الآية أعلاه:
الأولى : قافلة تجارة قريش القادمة من الشام، وتسمى أيضاً عير أبي سفيان، وهي غير ذات الشوكة.
الثانية : جيش الشام الذي زحف لنصرة القافلة وقتال المسلمين, عندما أرسل لهم أبو سفيان يستصرخهم، وهي الطائفة ذات الشوكة وتخبر الآية أعلاه بأن الصحابة ، رغبوا بالإستيلاء على القافلة وكانت من ألف بعير محملة بالبضائع، وأرادوا صرف القتال عنهم.
ولا تدل الآية أعلاه على طمع المسلمين ونحوه، إنما كرهوا القتال من جهات:
الأولى : القبح الذاتي للقتال، وأنه شر وأذى.
الثانية : إدراك الصحابة لحقيقة وهي أن قريشاً عشيرة وقبيلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومع علم المسلمين بأن كفار قريش آذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا إنهم يعلمون بأنه لم يدع عليهم، ولم يتوعدهم، أو يقصد الإنتقام منهم .
و( عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك ؟ فقال كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركوا العرب وافناء الناس في الموسم ، فنزل عليّ جبريل فقال { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } ( )قال : فقمت عند العقبة ، فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة ، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، وتنجحوا ولكم الجنة .
قال : فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون عليّ بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهي ويقولون : كذاب صابئ ، فعرض عليّ عارض فقال : يا محمد ، إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك .
فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه، قال : الأعمش فبذلك تفتخر بنو العباس ، ويقولون: فيهم نزلت)( ).
ولا دليل على قول بني العباس فيهم نزلت , خصوصاً وأن الآية أعلاه مدنية .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم ، في علي بن أبي طالب .
وعن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } أن علياً مولى المؤمنين { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس })( ).
الثالثة : عدم تهيء المسلمين للقتال يوم معركة بدر.
الرابعة : إدراك المسلمين بأن الناس يدخلون الإسلام عند التدبر بالآيات ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً : حب المسلمين لكسب الغنائم وتحقيق النصر والغلبة، وظاهر الآية أعلاه أن المسلمين كانوا يرغبون في القافلة.
ويكشف قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ] ( )، واقع معركة أحد وهو أن الغنائم صارت قريبة من المؤمنين , وفي متناول أيديهم، إذ إستعد الذين كفروا للهزيمة والهروب .
لقد تقدم بيان مسائل الجمع بين الآيتين( ) ترى هل من ملازمة بين إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وبين إنتفاء الحزن عند المسلمين على فوات الغنائم ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : إصابة الذين كفروا بالرعب فتح للمسلمين، ومقدمة للنصر في معارك الإسلام اللاحقة .
الثاني : كانت غنائم معركة بدر مواساة متقدمة زماناً لفقدان غنائم معركة أحد.
الثالث : تجلي رشحات قانون إبتلاء الذين كفروا بالذل وفوز المؤمنين بالعز والرفعة عند اللقاء.
الرابع : الآية بشارة مجئ الغنائم والمكاسب للمسلمين في معارك الإسلام اللاحقة.
وتقدير الجمع بين الآيتين على جهات :
الأولى : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لتأتيكم الغنائم الكثيرة لكيلا تحزنوا .
الثانية : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليتركوا مؤنهم ويفروا منهزمين .
الثالثة : ستكون عندكم الأموال الطائلة لكيلا تحزنوا على ما فاتكم، ولم تمر الأيام والأشهر حتى جاءت غنائم حنين التي تبلغ أضعاف مضاعفة للمؤن التي جاء بها كفار قريش والتي رجعوا ببعضها إلى مكة ، وكان الرعب ملازماً لهم ومستحوذاً على قلوبهم ، فلم يتنعموا بها، أما غنائم هوازن وثقيف التي إستولى عليها المسلمون في معركة حنين فهي :
أولاً : ستة آلاف من السبي .
ثانيا : أربعة وعشرون آلفاً من الإبل .
ثالثاً : أكثر من أربعين آلف شاة .
رابعاً : أربعة آلاف أوقية فضية( ) .
الرابعة : في قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ] ( ) وعد من عند الله عز وجل للمسلمين بالسعة في الرزق وكثرة الغنائم والأموال , وهو الذي تحقق بمعجزة متجددة , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (الطلاق/2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( ).
الخامس : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب , وتفضل الله وقال [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] ( )
وفيه تأكيد للتباين بين صيغة العذاب التي تنزل من عند الله على الذين كفروا , وشآبيب الرحمة التي يتفضل بها الله عز وجل على الذين آمنوا، وكما أنه لا يقدر على إلقاء الرعب في القلب إلا الله عز وجل فكذا لا يستطيع إلقاء النعاس وصيرورته أمنة ورحمة إلا الله عز وجل ، قال تعالى [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
فان قلت ظهرت علوم وأجهزة جديدة تكشف سريرة الإنسان، وما إذا كان صادقاً أو كاذباً ، والجواب من وجوه :
الأول : قد تكشف هذه الأجهزة جانباً واحداً مما يخفيه الإنسان.
الثاني : يستطيع الإنسان بذل الوسع والتورية للتمويه على هذه الأجهزة.
الثالث : لا تقدر هذه الأجهزة على كشف سرائر الإنسان على نحو الإستغراق ، فمن معاني الخلافة في الأرض إنفراد الله عز وجل بالعلم بأسرار في خلق وشأن الإنسان.
الرابع : يستلزم نصب هذه الأجهزة الحديثة أمراً وحكماً ومقدمات ، ولكن الله عز وجل يعلم بما في الصدور حال إنشاء النية أو تبديل القصد أو إرادة الفعل أو الإنصراف عنه، وفي التنزيل في ثناء الله على نفسه[يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ).
الخامس : لا تكشف هذه الأجهزة إلا جانباً من أسرار الإنسان.
السادس : من فضل الله عز وجل أنه يستر الإنسان ولا يفضحه ، ولما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، أجابهم عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )فمن علمه سبحانه أنه يستر على العباد ، وهذا الستر من وجوه :
أولاً : ما يجول في خاطر الإنسان .
ثانياً : النوايا والعزائم .
ثالثاً : العلم بالأقوال الحميدة والمذمومة.
رابعاً : عدم كشف المستور .
خامساً : حجب الأفعال والذنوب عن الأبصار.
وهل في هذا الستر والحجب إغراء بإرتكاب الذنوب ، الجواب لا ، إنما هو مناسبة للتوبة والإنابة بلحاظ إقتران هذا الستر بتذكير العبد بالآيات والبراهين التي تدل على الربوبية المطلقة لله عز وجل.
وورد عن أنس بن مالك قال :قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم) ( ).
وهل يعلم العبد أن الله عز وجل يستر عليه عيوبه، الجواب من وجوه :
أولاً : إختصاص المؤمن بالعلم بان الله عز وجل ستار العيوب لأن هذا العلم فرع الإيمان.
ثانياً : إدراك المسلمين والمسلمات جميعاً لفضل الله بعدم كشف العورات وذمائم الأخلاق .
ثالثاً : معرفة الناس جميعاً بأن الله عز وجل يمهل العبد بستر ذنوبه.
والصحيح هو الأخير لقوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ) وهذه المعرفة من أسرار النفخ من روح الله في آدم ليبقى العلم بسريرة الإنسان خاصاً بالله عز وجل ، وهذا الإختصاص وحجب العلم بسرائر الناس عن الخلائق من خصال الخلافة في الأرض وإكرام الله عز وجل للإنسان بها ، قال تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ).
وإذا تعلق الأمر بالإيمان وضده من الكفر والجحود فان الأمر مختلف إذ تكشف هذه الآيات عن ماهية قلب الكافر وأنه مملوء بالرعب والفزع والخوف ليدل على التضاد بينه وبين سنخية قلب المؤمن، وأن النعاس يأتيه أمنة من عند الله لما في هذا الكشف من الموعظة وأسباب الهداية والصلاح ، وفيه تذكير بأمور:
الأول : قلوب البشر بيد الله عز وجل , ويجازي المؤمن على فعل الصالحات بالسكينة والطمأنينة في قلبه.
الثاني : إنذار الذين كفروا بصيرورة قلوبهم محلاً للعقوبة والعذاب .
الثالث : ترغيب الناس بالإيمان .
الرابع : الإخبار عن قانون وهو التباين والتنافي بين الكفر والنصر ، فان إمتلاء القلوب بالرعب والخوف شاهد على الهزيمة والإنكسار ، وفيه نفي للقول بأن الذين كفروا إنتصروا يوم أحد ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن غزو الرعب لقلوب الذين كفروا هزيمة بذاته ومقدمة للتخاذل والإنكسار.
وبينما أخبرت آية (سنلقي) عن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي الشامل للذين خرجوا لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام.
ووردت آية البحث بالتخصيص في موضوع إلقاء النعاس أي صبغة الأمنة بطائفة من الذين آمنوا .
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين آية البحث والآية السابقة : ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً والله خبير بما تعملون ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : تتحد صيغة الخطاب في الآيتين من جهات :
الأولى : تخاطب كل من الآيتين المؤمنين .
الثانية : موضوع كل من الآيتين واقعة أحد .
الثالثة : كل من الآيتين فضل من عند الله على المؤمنين بالإخبار عن علم الله عز وجل بما يعملون ,ويحتمل موضوع هذا الفضل وجوهاً :
أولاً : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين ثبتوا معه في ميدان المعركة .
ثانياً : المراد عموم الصحابة الذين حضروا معركة أحد ليشمل الخطاب الذين فروا من الميدان لولا دعوة الرسول لهم .
ثالثاً : إرادة جميع المسلمين والمسلمات أيام التزيل .
رابعاً : المقصود عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
خامساً : شمول الناس جميعاً بخاتمة الآية السابقة .
والمختار هو رابعاً أعلاه لورود الآية بصيغة الخطاب مع أن الله عز وجل خبير بما يعمل الناس كافة مجتمعين ومتفرقين , وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ] ( ).
وهل من ملازمة بين فضل الله عز وجل على المسلمين وإختتام الآية السابقة بالإخبار عن كون الله عز وجل عالماً بما يعمل المسلمون وكنه عملهم ، ونواياهم في إقامة شعائر الله وإثابتهم عليها بالغم ثواباً .
الوجه الثاني : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : والله خبير بما تعملون إذ نزل بكم الغم ثواباً لبيان قانون وهو ترشح العمل الصالح عن الغم .
الثاني : والله خبير بما تعملون قبل وبعد نزول النعاس أمنة لكم .
الثالث : والله خبير بما تعملون إذ يغشى النعاس طائفة منكم وإذا كان النعاس قد نزل على فريق من الصحابة في معركة أحد ففي نزول وتحقق الأمنة وجوه :
أولاً : نسبة التساوي بين النعاس والأمنة من جهة المتعلق فذات الذين نزل عليهم النعاس هم الذين صاروا في حال أمنة ، ولظاهر الملازمة في الآية بين الأمنة والنعاس .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص وهو على شعبتين :
الأولى : الذين نزل عليهم النعاس أعم من الذين فازوا بالأمنة ، بلحاظ أن الصعود والفرار في قوله تعالى في الآية السابقة [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] شاهد على إصابة الذين فروا بالخوف والفزع من شدة هجوم الذين كفروا وحدوث القتل بين صفوف المؤمنين بعد أن جاءتهم خيل الذين كفروا من خلفهم .
الثانية : الذين صاروا في حال أمن وطمأنينة عند نزول النعاس أعم من الذين نزل عليهم ذات النعاس للإقتباس أي إقتباس عموم المؤمنين حال الأمنة من الذين نزلت عليهم ، ومحاكاتهم والتشبه بهم، وللمناجاة بينهم وقيام الذين نزلت عليهم الأمنة وغيرهم بالأمر بالأمن والطمأنينة , والنهي عن الخوف وإستحواذ الفزع على الصدور.
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه ليكون الصحابة يوم معركة أحد على طوائف :
الأولى : الذين نزل عليهم النعاس وتغشتهم الأمنة .
الثانية : الذين نزل عليهم النعاس وحده ، ومن رشحاته الطمأنينة والأمن .
الثالثة : الذين تغشاهم الأمان ونزلت عليهم السكينة ولم يعودوا يخشون العدو وخيله , ولكن لم ينزل عليهم النعاس لإنتفاء الحاجة إليه .
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( إن لأهل ذكر الله أربعاً . ينزل عليهم السكينة ، وتغشاهم الرحمة ، وتحف بهم الملائكة ، ويذكرهم الرب في ملأ عنده) ( ).
ويبين الحديث أعلاه في مفهومه ومن باب الأولوية القطعية أن السكينة تنزل على المؤمنين في ساحة المعركة لأن قتالهم من معاني الذكر ومن أجل إستدامة وإحياء ذكر الله على الألسنة وفي المجتمعات وتجليه بالنطق بالشهادتين وأداء الفرائض والعبادات ، ومن أسماء القرآن الذكر ، قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا] ( ).
والمختار هو الشعبة الثانية من الثاني أعلاه ، من جهات :
الأولى : قيدت آية البحث موضوع التغشي بخصوص النعاس فلم تقل الآية أمنة نعاساً يغشيان طائفة منكم ، بل خصت الطائفة بالنعاس .
الثانية : إبتداء آية البحث بالعطف على الآية السابقة بلحاظ صيغة الجمع في المخاطب : ثم أنزل عليكم ) وهو من الإعجاز في نظم الآيات وأن آية البحث معطوفة على قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ…] .
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا أنزل الله عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً كيلا تطيعوا الذين كفروا فيردوكم على أعقابكم ).
الثالثة : نزول النعاس نعمة عظمى على المسلمين يحل بأبدان وأجسام طائفة من المؤمنين , فينتفعون منه جميعاً ، وهل يمكن القول أنه مثل إنتفاع المسلمين والنعاس من نزول الوحي والقرآن على شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص .
الجواب لا ، فانه قياس مع الفارق ، نعم ينتفع المسلمون من ذات آية البحث ويقتبسون منها المواعظ والحكم ، ويعلمون أن الله عز وجل معهم في السراء والضراء وأنه يواسيهم بالصبر ومقدماته ، وفيه ترغيب بالمرابطة والدعوة إلى الله عز وجل لذا فمن إعجاز نظم آيات القرآن إختتام هذه السورة وهي سورة آل عمران بقوله تعالى[اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الوجه الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل أعلم بما يجلب المصلحة للمسلمين , ويدفع عنهم الضرر والأذى .
لقد زحفت قريش بخيلها وخيلائها وأحوالها التي أكتسبتها من نعمة [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )وبالشأن الذي جعله الله عز وجل لهم بين القبائل بجوارهم البيت الحرام لمحاربة النبوة والتنزيل ولقهر الذين آمنوا بالله وإستجابة للرسول في دعوته إلى الحق والهدى والله تعالى عالم بما يفعل المسلمون في ملاقاة الذين كفروا وهو سبحانه خبير بما لهم وشأنهم وقلة خبرتهم في فنون القتال ، والنقص في مؤنهم وأسلحتهم .
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : والله خبير بما تعملون عند إصابتكم بالغم والهم بسبب الخسارة التي نزلت بكم والحرمان من الغنائم وعدم صيرورة الذين كفروا أسرى في معركة أحد .
ثانياً : والله خبير بما تعملون إثابة الله لكم بالغم .
ثالثاً : والله خبير بما تعملون في المعارك اللاحقة ومجئ الغنائم أضعافاً مضاعفة لما حجب عنكم في معركة أحد وهو الذي تجلى في معركة حنين بعد مرور خمس سنوات على معركة أحد .
رابعاً : والله خبير بما تعملون والناس يتغشى طائفة منكم ، بما يكون فيه صلاح لجميع من حضروا معركة أحد من المؤمنين وهذا العموم الإستغراقي من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ].
خامساً : والله خبير بما تعملون لذا تفضل عليكم بالغم ثم بنعمة النعاس ، ليكون كل منها مناسبة لتثبيت الإيمان في صدورهم .
سادساً : والله خبير بما تعملون وأن عملكم طريق إلى النصر والظفر على الذين كفروا .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم إذ تصعدون ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : قد ورد لفظ [إِذْ تُصْعِدُونَ] في الآية السابقة بصيغة العموم الإستغراقي للمؤمنين , وأخبرت آية البحث بأن متعلق النعاس طائفة منهم ، ويحتمل وجوهاً :
أولاً : نسبة التساوي بين الذين صعدوا إلى الجبل وفروا من ساحة المعركة وبين الذين نزل عليهم النعاس ، وفيه مسائل :
الأولى : تعقب النعاس لحال الصعود والفرار وإنعدام الفترة بينهما .
الثانية : سبق الغم والنعاس لحال الصعود فصعدوا إلى الجبل وفروا من المعركة وهم بحال نعاس وإغفاءة للسلامة من الخوف والرعب .
الثالثة : مصاحبة النعاس لحال الصعود والفرار والإنهزام من ميدان المعركة .
الرابعة : مصاحبة الغم لحال الصعود والفرار ، بينما يأتي النعاس متعقباً لحال الصعود .
الخامسة : مجئ كل من الغم والنعاس عند النزول من الجبل والعودة إلى ميدان المعركة .
والمختار هو الرابعة والخامسة أعلاه ليحل النعاس محل الغم وينسخه ، وهل يمكن القول ببقاء مسمى الغم بعد نزول النعاس عليه ، الجواب من خصائص الجمع بين الآيتين نفي بقاء الغم في صدور المؤمنين ، لبيان أن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى وللتباين والتضاد بين الغم والنعاس ، نعم يبقى في نفوس المنافقين والذين ليس لهم هم إلا بأنفسهم وهو من أسرار إخبار الآية السابقة عن مجئ الغم لعموم المؤمنين ، وتقييد آية البحث موضوع ومحل النعاس وأنه خاص بطائفة منهم .
وأيهما يفضل المؤمن في كل جيل أن يكون من نزل عليهم النعاس ، أم من الذين همتهم أنفسهم ، الجواب هو الأول ، وهو من الإعجاز في التفصيل الوارد في آية البحث وإختصاص النعاس بطائفة من المؤمنين بأنه تأديب لأجيال المسلمين وتنمية ملكة الإيمان في نفوسهم.
فان قلت ينزل النعاس على المؤمنين من الرجال فما بال الموؤمنات ، والجواب من شرائط الجهاد المذكورة ، فلا يجب عليهن الجهاد ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن جهاد المرأة لا قتال فيه ، وهو الحج والعمرة( ).
ولكن سقوط الجهاد عن المرأة لا يمنع من إنتفاعها من كل من نعمة الأمنة والنعاس بالإضافة إلى أن بعض المؤمنات كن يقاتلن مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودونه فيشملهن نزول الأمنة .
وهل ينزل عليهن النعاس ، الجواب لا دليل عليه ، وهو من الإعجاز بتقييد نزوله على طائفة من المؤمنين ، ويدل قتال النسوة دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأم عمارة على أنهن لسن ممن أهمتهم أنفسهم .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق بين الذين صعدوا إلى الجبل وبين الذين نزل عليهم النعاس ، وهو على شعبتين :
الأولى : الذين نزل عليهم النعاس أعم وأكثر من الذين صعدوا على الجبل ، وتدل عليه أخبار أسباب النزول ، وذكر أسماء من الصحابة نزل عليهم النعاس مع أنهم لم يفروا ولم يصعدوا على الجبل .
الثانية : الذين صعدوا إلى الجبل وفروا من ساحة المعركة أعم وأكثر من الذين نزل عليهم النعاس أمنة لأن ذات النعاس نعمة وحجبها الله عن عدد من الذين فروا من الميدان كما لو حجب الله النعاس عن الرماة الذين جمعوا بين ترك مواضعهم على جبل الرماة معصية لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزلوا لجمع الغنائم ، ثم ما لبثوا أن تركوا ميدان المعركة وفروا منه ، وصعدوا إلى الجبل .
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه ، إذ يتغشى النعاس فريقاً من الذين صعدوا ويتغشى غيرهم من ثبت في الميدان .
رابعاً : نسبة التباين وأن النعاس لم ينزل على الذين صعدوا الجبل وفروا من المعركة بل نزل على خصوص الذين ثبتوا في الميدان.
والمختار هو الشعبة الأولى من ثانياً أعلاه ، وهو من مصاديق خاتمة الآية قبل السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]فان قلت حتى لو إختص النعاس وموضوع نزوله بالذين ثبتوا في الميدان فانه من فضل الله عليهم وعلى عموم المؤمنين .
والجواب هذا صحيح ، ولكن لو دار الأمر بين الأعم والأخص من فضل الله , فالصحيح هو الأعم .
وتقدير الآية : والله ذو فضل على المؤمنين بأن تغشاهم جميعاً فضله وإحسانه )، ويدل على العموم أيضاً بيان آية البحث للطائفة الذين حرموا من نعمة الأمن والنعاس وهم الذين أهمتهم أنفسهم ، بينما خاطبت الآية السابقة الذين صعدوا بلسان الرأفة والرحمة وتفضل الله عز وجل عليهم بالغم ثواباً وبالسلامة من الحزن على فوات الغنائم وعلى الخسارة في الأرواح وكثرة الجراحات .
الوجه الثاني : ليس عند قائد الجند عندما ينهزم جنوده إلا الغضب والسخط وإنزال العقاب بهم وقطع عطاءاتهم إلا أن يخشى إنتقامهم، ويكون عاجزاً عن عقابهم ومؤاخذتهم وعندما صعد المسلمون على الجبل ، وفروا في سطح الأرض هروباً من أرض المعركة ولا دليل على أنهم كانوا يريدون دخول المدينة فراراً إلا بعض الأفراد ، ولا عبرة بالقليل النادر .
أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانه لم يعاقب أو يوبخ أحداً منهم ولم يذمهم ولكنه توجه إليهم وناداهم من مقامات الرسالة لتأكد آية البحث صدق نبوته ، ففي حال الشدة والضراء وقيام أكثر الصحابة بالتخلية بينه وبين الذين كفروا يتوجه لأصحابه الذين فروا بالنداء العام والخاص يسألهم الرجوع إلى ميدان المعركة وصرف النظر عن الفرار .
فجاء كل من الغم والنعاس مدداً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته ، ومناسبة لإستجابة الصحابة لها ، وحينما يفر الجنود قد يأتي اللوم ويتوجه العقاب إلى قائد الجند من قبل الملك أو السلطان ويحمله مسؤولية الهزيمة في الميدان لذا يختار بعضهم الرمي بنفسه في التهلكة لإدراكه بأنه مقتول على كل حال ، فيختار القتل في الميدان دون القتل عقوبة وما فيه من الذل والعار وليس بتام فاذا كان القتال ليس بإذن الإمام وليس في سبيل الله ، فان رمي النفس في التهلكة إثم وخزي في الآخرة .
فأخبرت الآية السابقة عن صعود وهزيمة شطر من الصحابة لتأتي دعوة الرسول لهم رحمة من عند الله بلحاظ أنها شعبة من الوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الوجه الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين بيان قانون وهو أن النعاس برزخ دون أمور :
أولاً : بقاء الذين فروا من المؤمنين في حال الهزيمة .
ثانياً : إستمرار الذين صعدوا الجبل بالإرتقاء فيه .
ثالثاً : توالي فرار الصحابة واحداً بعد آخر ، وطائفة بعد أخرى بالمحاكاة وشدة الخوف والإتباع بلحاظ الصلة والنسب فيفر عدد من الأوس فيتبعهم غيرهم من ذات النسب , فتفضل الله عز وجل بدعوة الرسول لمنعهم وهو من الإعجاز في قوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] الذي يدل بالدلالة التضمنية على توقف الفرار لذا تفضل الله عز وجل على المؤمنين بالنعاس وجعله أمنة من الفرار وقطعاً لأسبابه .
رابعاً :تنزه المسلمين من التلاوم بينهم ، وظهور أمارات الخصومة بين الطوائف منهم ، وهو من أسرار إختصاص طائفة من المؤمنين بالنعاس دون طائفة أخرى .
لقد تفضل الله عز وجل على الصحابة بالنعاس بعد الهزيمة والرجوع إلى الميدان ليتدبروا بما يجب فعله ، وعدم الإقامة على حال الندامة والأسى بسبب الهزيمة ، وهو من مصاديق سلامتهم من الحزن بقوله تعالى في آية البحث [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ].
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم في أخراكم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ) وفيه وجوه :
بيان قانون وهو ترشح البركة وأسباب الرحمة من دعوة الرسول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وتحتمل الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه بلحاظ الكم والكيف وجوهاً :
أولاً : يفوز الأقرب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البيت والصحابة بنفع أكثر من غيرهم من الرحمة الإلهية التي تذكرها الآية أعلاه .
ثانياً : إرادة التساوي بين الناس في الإكتساب من الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه .
ثالثاً : التباين الرتبي بين المسلمين وغيرهم في الرحمة الإلهية التي تنزل على الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : ينال غير المسلم من الرحمة ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من السلم لأن هذه الرحمة سبب للتوبة والإنابة والهداية .
والصحيح هو أولاً أعلاه ويكون ثالثاً في طوله ، وفيه ترغيب للناس بالإسلام ، وحث للمسلمين على الإجتهاد لبلوغ مراتب التقوى ، ولم يأت هذا الحث مجرداً بل تأتي معه مقدماته وأسبابه ، بلطف ومدد من عند الله عز وجل ، ومنها النعاس الذي نزل على المؤمنين ساعة الشدة وملاقاة الأعداء .
الوجه الثاني : يدل الجمع بين آية البحث والآية السابقة على قانون من جهات :
الأولى : إستقراء قانون وهو كل آية من آيات القرآن تتضمن رحمة وعوناً وسبباً لتدارك المسلمين وإقالمة العثرة .
الثانية : يتجلى في الجمع بين كل آيتين مصداق إضافي للمدد والعون وأسباب تدارك المسلمين للأمور بما يفيد الصلاح والفلاح .
الثالث : تتضمن كل آية من القرآن وجوهاً من إلقاء الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، ليكون من مصاديق ما ورد قبل ثلاث آيات هو : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بكل آية من آيات القرآن ) .
فان قلت إنما يتلو وينصت لآيات القرآن المسلمون وليس الذين كفروا والجواب من وجوه :
أولاً : لا دليل على هذا القول إذ يستمع الناس جميعاً للقرآن على نحو قصد الإستماع أو السماع بالوحي وهو من مصاديق وعمومات قوله تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( ), وهو لا يتعارض مع ظاهر الخطاب في الآية وإرادة المسلمين في ترتب نزول الرحمة على الإنصات .
ثانياً : إنصات المسلمين مناسبة لإنصات غيرهم وسبب لترغيب الناس للإستماع إليه ، وهو من الشواهد على صدق نزول القرآن من عند الله بلحاظ أن هذا الإستماع نوع تحد للذين كفروا .
ثالثاً : تفضل الله عز وجل وجعل القراءة في شطر من الصلوات اليومية جهرية بحيث يسمع القرآن بالعرض المسلم وغير المسلم ، ومن الآيات أن حال الخضوع والخشوع التي يكون فيها المسلم أثناء الصلاة تتغشى غيره عند الإستماع ولو على نحو الموجبة الجزئية .
رابعاً : تأسي غير المسلم بالمسلم في حال وكيفية الإستماع لآيات القرآن الذي يترشح عن قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وهل تشمل الرحمة غير المسلم عند إنصاته للقرآن ، الجواب قيدت الآية أعلاه الرحمة بالرجاء وبخصوص بالمسلمين دون غيرهم لإرادة الإنصات المقترن بالتسليم بأن القرآن كلام الله .
الوجه الثالث : إبتدأت آية البحث بصيغة الماضي ولغة العطف والتراخي [فِي أُخْرَاكُمْ] بينما ورد قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] بلغة المضارع ولا تعارض بينهما ، ويتعلق موضوع كل من الآيتين بواقعة أحد التي جرت بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من جهة وبين الذين كفروا على بعد نحو خمس كيلو مترات عن المدينة المنورة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن العمران في المدينة المنورة بلغها وتجاوزتها محلات المدينة لتنادي المساجد حول أحد بالشهادتين خمس مرات كل يوم وإلى يوم القيامة .
وتقدير الجمع بين الآيتين والرسول دعاكم في أخراكم ثم أنزل الله عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ) لبيان حقيقة وهي أن النعاس واقية من الفرار وقطع له ، إذ تدل آية البحث على وجود البرزخ من الفرار ، وتفضل الله عز وجل ومنع المقتضي له ، ويتجلى هذا المنع بلحاظ آيات البحث من جهات :
الأولى : إبتداء هذه الآية بنداء الإكرام الذي خص الله عز وجل به المسلمين والمسلمات بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ( ).
وقد يقال كيف يكون هذا النداء واقية وبرزخاً دون فرار المؤمنين في معركة أحد ، والجواب يدل هذا النداء على الإطلاق في سنخية الإيمان , ومنه :
أولاً : الإقرار باليوم الآخر .
ثانياً : الإيمان بالثواب العظيم على الصبر والمرابطة وملاقاة الذين كفروا وقتالهم دفاعاً عن مبادئ التوحيد وسنن التنزيل والنبوة التي تتجلى بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد .
ثالثاً : الملازمة بين الإيمان والعصمة من طاعة الذين كفروا لثبات المؤمنين في ميدان القتال ، وقطع طريق الإغواء والإغراء الذي قد يزاوله الذين كفروا مع عدد من المسلمين .
رابعاً : من مصاديق الإيمان إدراك قبح النفاق والحذر مما يبثه المنافقون من شدة بأس جيش الكفار وكثرة خيلهم وأسلحتهم ، وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ).
ومن الإعجاز في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] إستدامة هذا الخطاب إلى يوم القيامة بلحاظ بقاء القرآن وأحكامه بين الناس سالماً من التحريف إلى يوم البعث .
ويترشح عنه قانون وهو وجود أمة مؤمنة في كل يوم من أيام الدنيا تتلقى النداء التشريفي[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وتعمل بأحكامه ومنها الدفاع عن كلمة التوحيد وإتيان الفرائض , ومنها ترك الكبائر والفرار من الزحف .
وعن معاذ بن جبل قال : أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات . قال : لا تشرك بالله شيئاً وإن قتلت وحرقت ، ولا تعقن والديك وان أمراك أن تخرج من أهلك ومالك ، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً فإنه من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ، ولا تشربن الخمر فإنه رأس كل فاحشة ، وإياك والمعصية فإن بالمعصية يحل سخط الله ، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس وان أصاب الناس موت فاثبت ، وانفق على أهلك من طولك ، ولا ترفع عنهم عصاك أدباً وأخفهم في الله) ( ).
الثانية : دلالة نهي الله عز وجل المسلمين عن طاعة الذين كفروا على التباين والتضاد بينهم ، ولقد إختار الذين كفروا هذا التضاد وما يترشح عنه من الأذى للطرفين جحوداً وعناداً منهم ، وإصراراً على عدم التصديق بالمعجزات الباهرات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتفضل الله عز وجل وجازى المؤمنين بالأمنة والنعاس في الدنيا وفي ذات الوقت ألقى الرعب في قلوب الذين كفروا ليعم التضاد في الحال بالنفوس ، مع الوعد الكريم للمؤمنين بحسن الثواب والوعيد للذين كفروا بسوء العاقبة ، لذا قال تعالى في هذه الآيات [وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ] ( ).
الثالثة : يدل بيان هذه الآيات بأن الخسارة هي عاقبة الذين يطيعون الذين كفروا على حقيقة وهي أن الذين كفروا في خسران مبين ، وفيه دعوة للمسلمين إلى عدم الفرار منهم ، لأن من معاني خسرانهم تخلفهم عن تحقيق النصر والغلبة في القتال ، وهو الذي تجلى في كل معارك الإسلام الأولى من جهات :
الأولى : هزيمة الذين كفروا في معركة بدر بما يجعلهم محط سخرية القبائل والنساء والناس جميعاً إلى يوم القيامة (عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبدالمطلب، وكان الاسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه.
وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر فبعث مكانه العاص ابن هشام بن المغيرة، وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف منهم رجل إلا بعث مكانه رجلا.
فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا، قال: وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل الاقداح أنحتها في حجرة زمزم، فو الله إنى لجالس فيها أنحت أقداحى وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب (1) الحجرة فكان ظهره إلى ظهري ، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان، واسمه المغيرة بن الحارث بن عبدالمطلب قد قدم.
قال: فقال أبو لهب: هلم إلي، فعندك لعمري الخبر.
قال: فجلس إليه والناس قيام عليه فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس ؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض، والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شئ.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت: تلك والله الملائكة ! قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهى ضربة شديدة، قال وثاورته فاحتملني وضرب بي الارض ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فبلغت في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده ! فقام موليا ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته) ( ).
الثانية : بذل رؤساء الكفر الوسع في التحضير والتهيئة للحرب وإنفاقهم الأموال الكثيرة لمعركة أحد ، والطواف على القبائل حول مكة لتحريضهم على المشاركة على الإغارة والهجوم على المدينة المنورة ، وتعلم هذه القبائل أنه ليس من غنائم يكسبونها في قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأنهم لا يملكون إلا الإيمان ، وبعضهم يقاتل ، وهو لا يحمل إلا العصا ، فاشترطت هذه القبائل على قريش شروطاً قاسية وبذلاً للأموال وتعهدات بالنفقة ، فكانت عبأ شديداً على قريش زادت من شدة وطأتها عودتهم من معركة أحد لم ينالوا إلا الحسرة ، ولم يكسبوا إلا الفزع , وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
ليكون من مصاديق خيبة كفار قريش رجوعهم بالشروط وأعباء الهجوم في معركة أحد من دون تحقيق أي غاية من الغايات التي عملوا لها جاهدين نحو سنة كاملة بين معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ومعركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وقطعوا من أجلها أكثر من أربعمائة وخمسين كيلو متر , بالذهاب ومثلها بالإياب في كل مرة.
الثالثة : مجئ الذين كفروا بعشرة آلاف رجل في معركة الخندق ولولا ثبوت هذا العدد في السنة وأخبارها والتواتر ، وبيان آيات القرآن لشدة الإبتلاء بهجوم الأحزاب في معركة الخندق , لقال بعض الباحثين يصعب جمع مثل هذا العدد في الجزيرة في تلك الأزمنة .
وذكر أن سبب قدوم كفار قريش في معركة الخندق هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أجلى بني النضير إلى خيبر ، سار حيي بن أخطب وكنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس الوائلي ، وأبو عامر الراهب وجماعة أخرون معهم إلى مكة لتأجيج الكره والبغضاء في نفوس كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحريضهم على قتاله ، وأعلنوا أنهم حلفاء لقريش في قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهم أبو سفيان (مرحباً وأهلاً، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد) .
ولكن قريش توعدت بالرجوع إلى القتال وهم في ميدان معركة أحد وفي الطريق إلى مكة إذ ندموا على ما فاتهم وهم في أول طريق العودة إلى مكة فهمّوا بالرجوع لغزو المدينة وصرف الله كيدهم بوصول الوعيد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم .
وسارت قريش بنظام دقيق في التعبئة وحشد الجيوش إذ خرج رجالها ومعهم الأحابيش من مكة بأربعة آلاف ، وعقدوا اللواء في دار الندوة لطلحة بن أبي طلحة ، وكانت معهم مائتا فرس وألف وخمسمائة بعير ، وإلتقت معهم بنو سليم بمر الظهران بسبعمائة مقاتل مدداً لقريش بقيادة سفيان بن عبد شمس وهو عمرو بن سفيان بن سعد بن قائن المعروف بكنيته ( أبو الأعور السلمي ) الذي كان في مقدمة جيش معاوية في معركة صفين .
(وكان من أشد من عنده على علي عليه السلام , وكان علي يذكره في القنوت في صلاة الغداة يقول : اللهم عليك به مع قوم يدعو عليهم في قنوته) ( ).
وليس له صحبة وشهد حنيناً كافراً ثم أسلم بعد ، وروى قصة هزيمة هوازن ، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلاً : إنما أخاف على أمتي شحا مطاعا وهوى متبعا وإماما ضالا ( ).
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم في أخراكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : بيان فضل الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا يفرق بين أهل بيته وأصحابه وبين الذي ثبت الإيمان في نفسه وبين ضعيف أو حديث الإيمان ، وتجلى في العطاء وتوزيعه الغنائم على أصحابه بالسوية .
وتدل دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في معركة أحد على أنه لم يغضب على أحدهم أو يرجو عودة فرد مخصوص منهم ليستثنى من الدعوة تبكيتاً له بل جاءت دعوته لجميع الصحابة الذين فروا , ويدل على صيغة العموم وجوه :
الأول : ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية السياق بلفظ الرسول وتقدير الآية : ورسول الله إليكم يدعوكم .
الثاني : ميم جمع الذكور الواردة في يدعوكم ، ولو دار الأمر بين العموم والخصوص ، فالأصل هو العموم .
الثالث : دلالة قوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] على شمول المؤمنين جميعاً بالنداء .
الوجه الثاني : فوز الصحابة الذين لم تشغلهم أنفسهم وسلامتها بدعوة الرسول لهم ، وفيه آية وهي مجئ الأمن وسلامة النفوس بدعوة الرسول وليس بالفرار والإنسحاب وسط الطريق إلى المعركة.
وتقدير الجمع بين الآيتين : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم فحرموا من دعوة الرسول ، ويدل عليه تقييد الآية السابقة بقوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] فان الذين فروا من المعركة بعد شدة ضراوة القتال يسمعون نداء الرسول .
أما الذين همتهم أنفسهم وشغلتهم سلامتها عن إتباع الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طاعة الله والذب عن الحرمات ومنع التعدي على حدود الله وإنسحبوا وسط الطريق فان دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا تصل إليهم إلا بالواسطة , لتعلم أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة أن الذين إتبعوا رأس النفاق ورجعوا وسط الطريق حرموا من دعوة الرسول ساعتئذ وما تعقبها من الثواب العاجل بالغم الكاشف عن الغم المترتب على الخسارة والحرمان من الغنائم وأسباب النصر المبين .
وقد ذكرت الآية السابقة قصوراً وتقصيراً من شطر من الصحابة من وجوه :
أولاً : الفشل والجبن بقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ].
ثانياً : الخصومة والتنازع بقوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ].
ثالثاً : معصية الرماة لأمر الرسول بعدم ترك مواضعهم على الجبل .
رابعاً : إرادة فريق من المسلمين الذين خرجوا إلى معركة أحد الدنيا وكسب الغنائم وتقييد الأسرى بقصد قبض الفداء والبدل عنهم .
أما آية السياق فتضمنت التقصير والمعصية بالفرار من ميدان المعركة لقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] ( )لقد أكتنزت قريش الأموال والذهب والفضة من التجارة في [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )وبجوارهم البيت الحرام وإنتفاعهم من أسواق العرب التي تقام أيام موسم الحج والأشهر الحرم .
وكان عددها في الجاهلية ثلاث عشرة سوقاً منها سوق دومة الجندل وهو أولها لأنها تقام تباعاً ، وعكاظ التي هي أعظم أسواق العرب ، وتنزلها قريش وهوازن وغطفان وغيرها .
وتقام في النصف من ذي القعدة إلى أن يهل هلال ذي الحجة فينتقلون بأجمعهم إلى سوق ذي المجاز وهو قريب من عرفة ليوافيه الحجاج الذين لم يشهدوا الأسواق قبله .
ولما إختار كبار ورؤساء قريش الكفر والجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأقاموا على الأصنام إبتلاهم الله بإنفاق أموالهم على القتال الذي يترتب عليه الإثم والمحق ، وتطيل التجارة, ونقص الشأن عند القبائل , قال تعالى وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ.
الوجه الثالث : بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن دعوة الرسول محمد صلى الله الله عليه وآله وسلم لا تتوقف على كل حال , إذ تدل آية البحث على أمور :
أولاً : وجود أمة وجيش يحارب الإسلام والنبوة .
ثانياً : إتصاف الذين يحاربون الإسلام بخصلة الكفر والجحود .
ثالثاً : جيش الكفر الذي زحف على المدينة ثلاثة أضعاف جيش المسلمين في عدده , وتزداد الأضعاف بخصوص المؤون والسلاح .
رابعاً : حصول إنتكاسة في جيش المسلمين بانخزال ثلث الجيش وسط الطريق بإغواء من رأس النفاق ، وفيه تأديب للمسلمين بالصبر والتوكل على الله عند حدوث مثله ، تأسياً وإقتداءً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
خامساً : وجود أمة مؤمنة تذب عن الإسلام ، وتجاهد في سبيل الله , وتدفع عن النبي والتنزيل .
المسألة الحادية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم في أخراكم [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ] وفيه وجوه :
الوجه الأول : لقد ذكرت آية البحث طائفة من المسلمين تغشاهم النعاس في ساعة الضيق رحمة وفضلاً من عند الله , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ] ( ).
ليكون من معاني المعية في الآية أعلاه المدد والنصرة للمؤمنين في ميادين القتال ، وتتضمن الآية أعلاه أموراً :
الأول : الوعد الكريم للمسلمين .
الثاني : الإنذار للذين كفروا .
الثالث : التحدي والإعجاز ، ودعوة الناس للتدبر في كل واقعة من معاني الآية وكيف أن الله عز وجل مع المؤمنين .
الرابع : وهل ذات البحث وما تذكره نعمة الأمنة والنعاس من مصاديق الآية أعلاه وحضور رحمة لله الجواب نعم .
الوجه الثاني : لقد جاء أمر الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ] ( )ويكون جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
أولاً : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين للكفار بالسيف .
ثانياً : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين للكفار باللسان وصيغ الإحتجاج وإنكار الجحود وبيان قبح الكفر .
ثالثاًَ : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين باللسان والذم للنفاق .
رابعاً : جهاد الكفار والمنافقين في الموضوع المتحد , ويكون قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] من مصاديق الوجوه الأربعة أعلاه لأنه دعوة من وسط المعركة وفي حال القتال مع الذين كفروا ، وهو من الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد , وترجمة آيات القرآن بالسنة النبوية .
الوجه الثالث : تأكيد قانون وهو توجه دعوة الرسول للمؤمنين الذين صبروا وجاهدوا وقاتلوا يوم أحد ، وإن إلتجأ شطر منهم للإنسحاب , والنبي وسط ميدان المعركة ، وهو من رأفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهم ، ليجمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوته أصحابه يوم أحد بين وجوه :
الأول : جهاد ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكفار بالسيف .
الثاني :جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين بالإعراض عنهم والغلظة عليهم .
الثالث : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين , وهدايتهم للأمن في الدارين بأن يوجه لهم دعوته بالرجوع إلى ميدان المعركة .
ومن الإعجاز في السنة النبوية أن قوله تعالى ( والرسول يدعوكم ) في آية السياق من وجوه الجهاد الثلاثة أعلاه
المسألة الثانية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين والرسول يدعوكم في أخراكم وطائفة يقولون هل لنا من الأمر من شئ ) .وفيه وجوه :
الأول : تقدير الآية : والرسول يدعوكم على جهات :
الأولى : والرسول بعثه الله لكم يدعوكم فاستجيبوا لدعوته .
الثانية : والرسول الذي خرج معكم إلى القتال يدعوكم .
الثالثة : والرسول الذي جعله الله خاتم الأنبياء والمرسلين يدعوكم , وليس من رسول أو نبي بعده فيدعو الناس ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن لفظ [خَاتَمَ] لم يرد في القرآن إلا في الآية أعلاه ، لبيان إنفراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصفة وليصير إسماً من أسمائه ، ويكون تقدير الآية والرسول يدعوكم في أخراكم فاستجيبوا لدعوته .
الرابعة : والرسول يدعوكم ولن يترككم تبقون في حال فرار .
الخامسة : والرسول يدعوكم ليبين لكم أنه ليس من فرار في الآخرة من عالم الحساب وأن الصبر في الميدان في سبيل الله ، وترك الفرار عند ملاقاة الذين كفروا .
السادسة : والرسول يدعوكم كيلا تضروا انفسكم وتظنون بالله غير الحق .
السابعة : والرسول يدعوكم ليكون عملكم مرآة للإيمان .
الوجه الثاني : بيان حاجة المسلمين يوم أحد لدعوة الرسول لهم بالرجوع إلى ميدان القتال ، والصبر عند إلتقاء الأسنة ولمعان السيوف لمنع إفتتانهم بالذين شغلتهم أنفسهم ، وإختاروا الهزيمة والإنسحاب وسط الطريق ، فلابد من أمة ترابط وتلاقي الذين كفروا في ميدان المعركة إذ أنهم يريدون إستئصال الإسلام ، وهؤلاء الذين إنخزلوا وسط الطريق صاروا عرضة لهجوم وغدر الذين كفروا وما يقومون به من الإذلال لأهل المدينة جميعاً لو دخلوها ، ولكن الله عز وجل أنعم عليهم بصد ودفع الذين كفروا ليعودوا إلى مكة [خَائِبِينَ].
ليكون تقدير آية السياق : والرسول يدعوكم للدفاع عن الذين همتهم أنفسهم ويظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية .
ولتكون هذه الدعوة سبباً لصلاحهم وتنزههم من النفاق ، وهي باب للتوبة ، ليخرج من ذريتهم مؤمنون تنفر نفوسهم من النفاق وأخلاقه ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] أي أنه يدعو المسلمين لبقاء صرح الإسلام والتقوى بالعودة إلى ميدان القتل في نهار يوم أحد , وحيث لم يحدث بعدها قتال ، ولكن الدعوة شهادة على ثبات المسلمين وآية من جهات :
الأولى : إنها رسالة عملية للذين كفروا تدل على معاودة المسلمين القتال ، لقد تعرض الذين كفروا للهزيمة يوم بدر ، فلم يستطيعوا العودة إلى ميدان القتال وليس من أحد يدعوهم إليها وعادوا أدراجهم إلى مكة بعد أن فقدوا سبعين قتيلاً ، وتركوا خلفهم بأيدي المسلمين سبعين أسيراً ، وتطلع هؤلاء الأسرى وهم في موضع معركة بدر إلى رجوع جيش أصحابهم لأخذهم من أيدي المسلمين بالصلح أو القتال ولكن دون جدوى إذ عجل الكفار بالرجوع بفزع ورعب وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] وليصيب ذات الرعب الأسرى من وجوه :
أولاً : الوقوع بيد المسلمين وتقييد أيدي أكثرهم منعاً للهروب .
ثانياً : مرور الأسرى على القتلى من كبار رجالات قريش .
ثالثاً : جهل الأسرى بما يفعل بهم .
رابعاً : خوف الأسرى من مستقبل الأيام ودخولهم المدينة وحياة الأسر وما فيها من الذل والهوان .
الثانية : قطع دابر النفاق ، ومنع المسلمين من محاكاة المنافقين في إنسحابهم وعلى فرض حدوث هذه المحاكاة فأنها تكون على وجوه:
الأول : التجرأ بالإحتجاج على القتال ومن البراهين على التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أن المعارك الأولى للإسلام ذات صبغة دفاعية ، وهو من الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسباب قهر الذين نافقوا وإصابتهم باليأس والذعر .
الثاني : محاكاة المنافقين بالإنسحاب في الطريق إلى المعركة فاذا كان ثلث الجيش إنسحب وسط الطريق ، فان غيرهم ينسحبون عندما يشرفون على ميدان المعركة وعلى لقاء العدو .
الثالث : ترك طائفة من المسلمين المعركة عند إشتداد القتال، كما في قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ) ليكون من عموم ولاية الله للمؤمنين.
تقدير آية السياق : بل الله مولاكم بأن جعل الرسول يدعوكم) فذات دعوة الرسول لأصحابه يوم أحد من ولاية الله لهم وهو تشريف أضافي لهم .
الثالثة : تأكيد مصداق عملي لولاية الله عز وجل للمؤمنين في ساعة الشدة والمحنة بلحاظ أمور:
الأول : دعوة الرسول لأصحابه بالرجوع إلى المعركة من الوحي.
الثاني : العودة إلى الموضع الذي يقيم فيه رسول الله من ولاية الله ، والتوفيق إلى الهدى .
الثالث : ما يقع ويحدث عداً وإثباتاً بعد دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من ولاية الله عز وجل .
الرابعة : لما أخبر القرآن عن صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه يبشر بالخير والصلاح والإقامة في الجنة ، وينذر من الكفر والجحود واللبث الدائم في النار بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( )لتكون دعوة الرسول لأصحابه بشارة وإنذاراً ، إنها بشارة للمؤمنين ، وإنذار وتخويف للكافرين .
وهل كان الكفار من قريش يسمعون دعوة الرسول بقوله تعالى (إلي عباد الله ) الجواب نعم ، وهو لا يتعارض مع قيام أبي سفيان عندما إنقضت المعركة بالإشراف من على الجبل ومناداة المسلمين (أَفِيكُمْ مُحَمّدٌ ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ) ( ).
الوجه الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين حاجة المسلمين في ميدان المعركة إلى دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها حرب على النفاق وزجر عن الإنصات للمنافقين ، وفضح للمنافقين وإسكات لأصواتهم .
لقد أراد المنافقون أن يكون لهم رأي وأن يسمع قولهم في شؤون الحرب وكيفية القتال ، وتعيين موضعه ومكانه ، فأخبرت آية السياق بأن الرسول يدعوكم ليكون من معاني ومصاديق هذه الدعوة وجوه:
الأول : دعوة الرسول المسلمين إلى تفويض الأمر في معركة أحد إلى الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه وردت بخصوص مؤمن آل فرعون , وهو يعظ وينصح قومه ويتوعدهم على الجحود والإسراف في المعاصي إلا أنها دعوة للمسلمين لتعاهد التوكل على الله وتلقي الوحي والتنزيل بالقبول والتسليم بقانون ثابت في الإرادة التكوينية وهو ما يأمر به الله عز وجل وما يوحي به إلى أنبيائه هو الحق والصدق , وسبيل النجاة في الدنيا والآخرة .
ومع حال الشدة وضراوة القتال يوم أحد فان كل آية نزلت فيه تأديب وإصلاح للمسلمين ، وهي حرز من النفاق ومنع من تأثير المنافقين سواء في منطوقها أو تلاوتها أو بيانها وتفسيرها وأسباب نزولها ، ودعوة لتلقي أمر وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والتصديق .
الثاني : دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين والمسلمات للإعراض عن دعوة المنافقين التي هي بالضد مع دعوته إلى الله، فلا يريد المنافقون إلا القعود، والإمتناع عن ملاقاة الذين كفروا.
ومن الإعجاز أن دعوة الرسول هذه ترجمة وبيان لآيات القرآن، قال تعالى[يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ]( ).
الثالث : إقامة الحجة على المنافقين في تخلفهم عن دعوة الرسول وعن إتخاذها سبيل نجاة من النفاق , وما يترتب عليه من ذمائم الأخلاق، وتعدد الآثام.
الرابع : إنذار المنافقين من الإستهزاء بالذين يستجيبون لدعوة الرسول.
لقد وقعت معركة أحد على نحو قهري بالنسبة لرسول الله والمسلمين ، فلم يطلبوها ، ولم يسعوا إليها ، فان قلت قد ورد في التنزيل خطاب للمسلمين بخصوصها [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) .
والجواب جاء هذا التمني من طائفة من المؤمنين عندما علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار أن جيش الكفار صار قريباً من المدينة المنورة وأنهم يرومون القتال والثأر والبطش ، ليكون تمني المؤمنين الموت على وجوه :
أولاً : هذا التبني نوع مناجاة بين المسلمين ، وإستعداد للخروج للقتال .
ثانياً : طرد أسباب الخوف والهلع عن المسلمين .
ثالثاً : لما تفضل الله عز وجل وأخبر عن إلقاء الخوف والفزع والرعب في قلوب الذين كفروا كما في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ].
وتفضل وجعل من أسباب ومصاديق هذا الرعب تفاني المؤمنين في طاعة الله ورسوله وبذلهم النفوس في مرضاة الله وتثبيت دعائم الدين .
وهل يختص هذا الرعب بالذين حضروا معركة أحد من الذين كفروا ، الجواب لا ، فتمني المؤمنين الموت رسالة إلى كل الذين كفروا للإنزجار عن التعدي على الإسلام ، وتجهيز الجيوش لمحاربة النبوة والتنزيل .
ومن وجوه تقدير الجمع بين هذه الآية والآية السابقة : والرسول يدعوكم للإمتناع عن قول هل لنا من الأمر من شيء ) فان قلت ليس في هذا القول ضير , الجواب من جهات :
الأولى : جاء قول [هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ] بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقاء الذين كفروا في ميدان القتال .
الثانية : جاء هذا القول عن سوء ظن ، وعن شك بفضل الله عز وجل .
الثالثة : جاءت آية البحث بالأمر من عند الله بالرد عليهم بقانون قاطع ومستمر لا يقبل النسخ أو التبديل أو التغيير ، قال تعالى [بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا] ( ).
الرابعة : بيان الآية لتنزه طائفة من المسلمين عن قول (هل لنا من الأمر من شيء) فتفضل الله عز وجل وأنزل عليهم النعاس آمنة ورحمة وتخفيفاً .
وتتضمن دعوة الرسول للمسلمين الحجة لهم وعليهم أما كون هذه الدعوة حجة للمؤمنين فمن وجوه :
أولاً : إنها شاهد على صبر وجهاد المؤمنين في سبيل الله .
ثانياً : هذه الدعوة دليل على عدم إتباع الصحابة الذين فروا عن ميدان المعركة إذ تدل الدعوة والنداء على أطراف :
الأول : الداعي والمنادي .
الثاني : صوت النداء الذي يبلغ الأسماع .
الثالث : موضوع النداء ، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إلي عباد الله ) وترغيب أصحابه بالإقامة في جنة النعيم .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) ( ).
الرابع : المنادى والمدعو الذي تتوجه له دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكل دعوة تنقضي في أوانها وزمانها وإنقطاع موضوعها , أما دعوة الرسول بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] فهي باقية وخالدة إلى يوم القيامة وهو من إعجاز القرآن ، وكيف أن المعجزة الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تكون معجزة عقلية متجددة في مصداقها ورشحاتها في كل زمان ومكان فلم تختص دعوة الرسول بمعركة أحد ، ولا بالذين فرّوا وإنهزموا يوم معركة أحد .
ثالثاً : في الآية دليل على ملاقاة المؤمنين للذين كفروا في ميدان المعركة ، وأنهم خرجوا طاعة لله ورسوله ومن أجل منع الذين كفروا من التعدي على الحرمات .
رابعاً : تلقي دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاز بها الذين حضروا معركة أحد ، فان قلت توجهت دعوة الرسول للذين فروا من المعركة ونالوا فيها الثواب ، فماذا نال الذين ثبتوا في مواضعهم يومئذ .
الجواب لقد نالوا الثواب من جهات :
الأولى : ثواب ذات الدعوة التي قصد بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين فروا ، وهو من أسرار مجئ آية السياق بصيغة العموم الإستغراقي [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]وإن كان هذا العموم مقيد ويخرج منه النفر الذين ثبتوا في مواضعهم في ميدان المعركة بدليل إبتداء آية السياق بالإخبار عن الصعود والفرار وعدم الإلتفات إلى أحد وأن دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت لقطع هذا الصعود والفرار .
ويكون تقدير الآية : والرسول يدعو الذين يصعدون ولا يلوون على أحد ).
وهل يدعو وينادي الرسول الذين إنسحبوا من وسط الطريق ، الجواب نعم ، فهذه الدعوة تشملهم , ولكنهم حجبوا عن أنفسهم نعمة الإنتفاع منها ولو بالواسطة والإلحاق إذ بإمكان الثلاثمائة الذين إنخزموا وسط الطريق العودة إلى ميدان القتال خاصة مع تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للأذى الشديد وسقوط بعضهم قتلى في المعركة ، وأن إخواناً لهم من الخزرج والأوس موجودون وسط المعركة يرجون النصرة والمدد .
ويمكن تقدير قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]على وجوه :
الأول : شخص الرسول الكريم يدعوكم .
الثاني : مجئ الدعوة من الذين ثبتوا في الميدان بلحاظ أن الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إمامهم ونائب عنهم ، وأنهم بحاجة إلى النصرة .
الثالث : دعوة الرسول قريبة من جميع المسلمين والمسلمات , وهو الإمام في الدعوة إلى الهدى.
الرابع : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع صادرة من جميع المسلمين .
وتقدير الآية : والأمة تدعوكم لنصرة الرسول , والدفاع عن التنزيل .
الثانية : ثواب سماع دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابهم الذين إنهزموا , وتقدير آية السياق: والرسول يدعوكم لمحاكاة أهل البيت والصحابة الذين ثبتوا في الميدان، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثالثة : ثواب الأسوة الحسنة بثباتهم في مواضعهم، وفيه دعوة للمؤمنين للإقتداء بهم.
الرابعة : تلاوة آية السياق مناسبة كريمة للثواب، وتذكير بلزوم تلبية دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
المسألة الثالثة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم في أخراكم [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] ( ) وفيه وجوه :
الأول : توجه الخطاب في آية السياق إلى المسلمين الذين فروا من وسط المعركة وصاروا حواليها فصعدت طائفة منهم الجبل وإنسحبت طائفة إلى موضع قريب من ساحة المعركة ، فنزلت عليهم الرحمة بفضل الله بنداء الرسول لهم لتكون هذه الدعوة من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وهي لطف ورحمة لهم ولغيرهم من المسلمين وهي أيضاً رحمة بالكفار بزجرهم عن الإستمرار بالتعدي والهجوم على المسلمين وإشاعة القتل فيهم ، وليروا معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يقاتل , ويصبر في الميدان , وقد إنهزم أكثر أصحابه حتى إذا ما دعاهم للرجوع عادوا سراعاً إلا القليل النادر الذي يتعذر على العدو إكتشاف أمره , وليس فيه ضرر على المسلمين وجاء ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية السياق بصيغة الغائب وأنه يدعو المسلمين للعودة إلى رحمة الله التي تتغشى المؤمنين في ميدان المعركة وعدم حرمان أنفسهم منها .
وإبتدأت آية البحث بذات الصيغة من الخطاب في موضوعها ودلالتها مع إرادة عموم المسلمين في معركة أحد وعدم إختصاص أولها بالذين إنهزموا في الميدان , وفيه مسائل :
الأولى : من فضل الله عز وجل على المسلمين عدم إجتماع بدايتي آيتين متتاليتين بخصوص الذين إنهزموا من وسط المعركة .
الثانية : بعد دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للذين إنهزموا للرجوع إلى ميدان المعركة إمتنع حصر الخطاب بهم لبيان وجوه :
أولاً : عودة الصحابة إلى وسط المعركة وإلتحقوا بالنفر القليل من أهل البيت والصحابة الذين بقوا في الميدان .
ثانياً : عدم ذهاب دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هباءً فقد تلقاها الصحابة بالإستجابة .
وتقدير آية السياق : والرسول يدعوكم في أخراكم فتستجيبون).
ثالثاً : دعوة المسلمين والمسلمات للثناء على المؤمنين عند إستجابتهم لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتدبر في دلالة رجوعهم إلى ميدان المعركة وما تدل عليه من حسن السمت .
رابعاً : تسليم المسلمين بصدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى وهم في حال فزع وهلع وإنهزام من وسط المعركة ، وفيه تبكيت للمنافقين .
الثالثة : بيان عموم نعمة الأمنة والنعاس ، وأنها لم تختص بالذين إنهزموا من ميدان المعركة لأنها ثواب عاجل وفضل وجزاء كريم من عند الله ، وباب لتثبيت وزيادة الإيمان ، وتضمنت آية البحث توجه الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص والتعيين (قل) .
وعلى نحو التعدد في ذات الآية لبيان حقيقة وهي حاجة المسلمين في ميدان المعركة وبعدها إلى قول وإحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقوم في ميدان المعركة بأمور :
الأول :تعيين منازل ومقامات أصحابه في المعركة , بأمر وفضل من عند الله سبحانه , وهو من الشواهد المتقدمة للمعركة على عدم خسارة المسلمين فيها .
الثاني : تنظيم صفوف المسلمين ، ففي معركة بدر سوّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه صفوف المسلمين ، وكان في يده قدح( )، وفيه دلالة على التقارب والتلاحم بين المسلمين في صفوفهم من غير خشية من نبال وسهام العدو.
الثالث : الدعاء وسؤال الله عز وجل النصر والغلبة على الأعداء .
الرابع : الصبر في ميدان القتال مع كثرة وشدة الجراحات التي أصيب بها .
الخامس : عدم مغادرة النبي موضعه في ميدان المعركة وإن إنسحب وإنهزم أكثر أصحابه .
السادس : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه الذين تركوا مواضعهم ، ومن الآيات في المقام أن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه لم تنحصر بأفراد مخصوصين أو بالذين صعدوا الجبل أو الذين فروا في طريق المدينة بل جاءت عامة لهم جميعاً، وهو من أسرار تعدد معاني[تُصْعِدُونَ]في الآية السابقة[إِذْ تُصْعِدُونَ] وشموله لمعنى الصعيد وهو وجه الأرض، قال تعالى[فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا] ( ).
السابع : إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقامته الحجة على المنافقين والكفار ، وهو من مصاديق الغلظة في قوله تعالى[جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ).
الوجه الثاني : يدل الجمع بين الآيتين على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه قام بتبليغ الرسالة في حال السلم والحرب ، وإقامة الحجة والبرهان ، فمع أن الناس لا يعرفون في الميدان إلا لغة السيف فان كلاً من آية البحث والسياق تبين حضور السنخية المباركة للرسالة وإخلاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل ، وأنه لم يقصد سلامة نفسه إنما أراد بناء صرح الإسلام ، وتوارث أجيال المسلمين الصبر والتقوى في الحرب والسلم , وهو من أسرار صيغة المضارع في قوله تعالى [بلى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَافٍ مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ] ( ) فان المعركة تنقضي في مدتها ووقائعها , ويموت الأشخاص الذين حضروها من المؤمنين الذين لم يستشهدوا ، وكذا من الطرف الآخر والذين تدرك التوبة شطراً منهم، ولكن أجيال المسلمين جميعاً يحتاجون في كل زمان الصبر وإستحضار سنن التقوى والعمل بها .
وعن أبي أمامة الباهلي قال (سمعت : رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم في حجة الوداع على الجدعاء قد جعل رجليه في غرز الركاب يتطاول ليسمع الناس فقال : ألا تسمعون ؟ يطول صوته فقال قائل من طوائف الناس : ما تعهد إلينا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم) ( ).
لقد كانت دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس وجهاً لوجه من غير خشية من الظالمين حتى إذا صار المسلمون أمة واحدة قادرة على ملاقاة الأعداء والقتال في سبيل الله وتعرضوا للإنكسار في جولة من معركة أحد جاءتهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أخراهم ليرجعوا إلى سبيل النجاح والفلاح، ليتضمن قوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] في دلالته ومفهومه صيرورة دعوته لكم من أمامكم ووجهاً لوجه , بسلامة وتنقية من الفرار .
وهو من معاني حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه الصابرين والمسلمين جميعاً وفي سبب نزول قوله تعالى[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ]( ).
وفي أسباب النزول ذكر (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له : إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا . قال : ولم سألتم هذا؟ قالوا : نطلب الأمن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم}( )( ).
الوجه الثالث : من معاني الجمع بين الآيتين أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تتضمن إخبارهم بأن الأمر كله لله عز وجل، و[كل] الوارد في الآية سور الموجبة الكلية ، فيدخل فيه حال القتال بين المسلمين والذين كفروا ، فصحيح أن المراد من الآية مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين والذين شغلتهم أنفسهم ، ولكن معناها مطلق لأنها قانون من الإرادة التكوينية .
وحينما يعلم المسلم بأن الأمر كله لله وبيده سبحانه مقاليد الأمور ، فأنه لا يتوانى في بذل الوسع في سبيل الله سواء كان ممن يريد الدنيا أو الآخرة كما تقدم قبل آيتين بقوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ]( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : هل يصح شمول دعوة الرسول للمنافقين فيكون تقدير آية السياق : والرسول يدعو المؤمنين والمنافقين .
الثانية : هل يصح توجه قول النبي في آية البحث إلى المؤمنين أيضاً، ويكون تقدير الآية على قسمين :
أولاً : قل للمؤمنين أن الأمر كله لله .
ثانياً : قل يا أيها الذين آمنوا لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) .
أما بالنسبة للمسألة الأولى فالجواب نعم مع الإختلاف في العلة ، وتعدد الخطاب والواسطة إذ تأتي دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين للرجوع إلى ميدان المعركة مباشرة من وجوه :
الأول : يسمع الصحابة الذين فروا من ميدان المعركة دعوة ونداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ينطلق وسط الميدان ، ويدل عليه التقييد في الآية بقوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ].
الثاني : من معاني دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه الذين صعدوا الجبل تأديب الذين ثبتوا في الميدان الصبر القتال وعدم الحنق على الذين فروا لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته لهم يظهر حقيقة وهي عدم غضبه أوسخطه عليهم ، ولإدراك الجميع أن نتيجة هذه الدعوة الإستجابة لها ، لتكون أمارة على بداية إنتهاء جولة الذين كفروا يوم أحد .
الثالث : يدعو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين من وجوه :
أولاً: رؤية حضور المؤمنين معركة أحد .
ثانياً : دعوة المنافقين للإقتداء بالذين حضروا معركة أحد وشاركوا في القتال .
ثالثاً : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين للتوبة والإنابة .
رابعاً : حث المنافقين على الثناء على المؤمنين الذين قاتلوا في معركة أحد .
خامساً : دعوة المنافقين إلى الإمتناع عن الفتنة عند فقد الإسلام سبعين شهيداً .
سادساً : يدعو الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين ليغلظ عليهم .
سابعاً : يدعو الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين للتدبر في معجزة سلامته في معركة أحد مع تخليهم عنه وإنخزالهم عن جيش الإسلام وسط الطريق وعلى فرض أن الجهاد في معركة من معارك الإسلام الأولى فرض عين على المسلم فهل يجب على المنافقين أم أنهم خارجه بالتخصيص ، الجواب هو الأول لأنهم نطقوا بالشهادتين ودخلوا الإسلام وتوجه لهم الخطاب التكليفي سواء على القول بشمول الكفار بالفروع لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وإرادة الإطلاق في العبادة فتتضمن الأصول والفروع لوجود المقتضي وفقد المانع ، ومن خالف من الفقهاء قال بأن الكفار غير مكلفين بالفروع حجته أن الكفر مانع من التكليف بالفروع ، ولكن الكافر حجب عن نفسه الإيمان ، وقد ورد التنزيل بترتب العقاب على ترك الفروع ، قال تعالى [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ] ( ) .
أما بالنسبة للمسألة الثانية فالجواب نعم أيضاً لبيان التفكيك بين الإحتجاج على المنافقين وبين مضمون هذا الإحتجاج النازل من عند الله عز وجل.
ومن مصاديق وتقدير آية السياق وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم لنصرة إخوانكم الذين بقوا يقاتلون في الميدان، وهو من أبهى مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثاني : والرسول يدعوكم لدفع شماتة الذين كفروا بالإسلام والمسلمين، وهو من معاني إستدامة وتجدد مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث : والرسول يدعوكم وأن الذين كفروا ليس لهم من يدعوهم إلى القتال .
لقد تفضل الله عز وجل بجعل بدايات معركة أحد مثل بدايات معركة بدر ، فترك أكثر الرماة مواضعهم مع إيمانهم وإخلاصهم ، ولكنهم إجتهدوا فأخطأوا فاعمل المشركون السيف بالمسلمين.
ويحتمل حال الرماة الذين نزلوا من الجبل لجمع الغنائم ومجئ العدو من خلف المسلمين وجوهاً :
الأول : إستشهاد عدد من هؤلاء الرماة .
الثاني : هزيمة شطر من هؤلاء الرماة وهم يصعدون بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ].
فهل قتله وهزيمة كفار قريش من مصاديق إستجابة الدعاء الجواب لا، إنما كان دعاؤه حجة عليه وموعظة لغيره من المشركين ، وشاهداً على إستجابة دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر والغلبة للإسلام .
الثالث : قتال بعض الرماة دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ شهد الله عز وجل لهم بالإيمان بدليل قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )
وإبتدأت آية البحث بحرف العطف والتراخي (ثم) وفيه دعوة للتدبر بمضامين الآية السابقة ، والتفكر في الوقائع التي تذكرها الآية السابقة ومعانيها ودلالاتها ، وكأن حرف العطف ( ثم ) يدعو المسلمين عموماً إلى الإنتقال إلى التدبر بمضامين هذه الآية بعد إقتباس الدروس والمواعظ من الآية السابقة.
ولا يمنع مجئ آية السياق بصيغة المضارع من إرادة الزمن الماضي، والأشياء والأمور كلها حاضرة عند الله عز وجل ولا تغيب عنه .
فان قلت جاءت الآية بخصوص تعيين موضع وكيفية قتال الذين كفروا ، والجواب هذا صحيح ولكن المدار على عموم اللفظ وليس سبب أو موضوع النزول .
المسألة الرابعة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم في أخراكم يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ) وفيه وجوه:
الوجه الأول : يدل هذا الجمع على وجود أطراف :
أولاً : دعوة الرسول محمد لأصحابه يوم أحد .
ثانياً : الصحابة الذين إنسحبوا من المعركة وإنهزموا عندما كثر القتل فيهم بسبب ترك أكثر الرماة المسلمين مواضعهم .
ثالثاً : طائفة من المسلمين يخفون في أنفسهم غير الذي يظهرونه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ممن حولهم وهم المنافقون ، الذين يبطنون الكفر ، وتتضمن آية السياق دعوتهم لإظهار الإيمان وصيرورة باطنهم مثل ظاهرهم الذي يتجلى بأدائهم الفرائض مع المسلمين ، وبعثهم على الخروج معهم إلى مواطن لقاء العدو الذي جاء غازياً معتدياً ، فيكون صده عن الدفاع من الدفاع عن النفس والعرض والمال .
وهل الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخفون ما لا يظهرون ، الجواب لا ، ليكون من دلائل علم الجمع بين الآيات الذي يتجلى في هذا السفر الخالد بيان التباين بين المؤمنين والمنافقين وإن صدر فعل من طائفة من المؤمنين يدل على الفشل والجبن والخور ، ليكون من معاني قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ]الذي ذكرته الآية قبل السابقة ما ورد في الآية السابقة بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]وعدم الإلتفات من الفشل والخور الذي ذكرته الآية قبل السابقة ، فجاءت دعوة الرسول ناسخة وقاطعة له ، ومانعة من إستمراره لتتجدد هذه الدعوة في كل زمان ومكان فتمنع من الدعوة إلى عبادة الأوثان ، ومن ظهور الطواغيت ومدعي النبوة زوراً وبهتاناً .
الوجه الثاني : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجئ التوبيخ والتبكيت للمنافقين على نحو متعدد ومتكرر وفي مناسبات ووقائع مختلفة ، فحينما رجعوا وسط الطريق إلى أحد لم ينته الأمر ، بل جاءت الأيام بذمهم ، وهذا الذم متعدد من جهات :
الأولى : تأكيد قبح النفاق .
الثانية : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجدال المنافقين والإحتجاج عليهم .
الثالثة : تحذير المسلمين ، وهو من وجوه :
أولاً : تحذير المسلمين من أخلاق النفاق .
ثانياً : تنبيه المسلمين ودعوتهم لليقظة والفطنة والحذر من المنافقين.
ثالثاً : إنذار المسلمين من القوم الكافرين ونهيهم عن طاعتهم ، وبيان ضرر هذه الطاعة في النشأتين , وورد في قوله تعالى [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( )لبيان الملازمة بين طاعتهم وبين الخسارة ، فليس ثمة مدة وفترة بينهما ، فحالما تقع طاعة الذين كفروا تأتي الخسارة .
وتنقطع هذه الطاعة القبيحة بأحد أمرين :
الأول : الثواب والإنابة .
الثاني : الموت وزهوق الروح ، وفي هذه الحالة تكون العاقبة الندامة والخسران يوم القيامة .
وجاءت آية البحث واقية من هذه الطاعة وزجراً عنها ، وإخباراً عن تفضل الله عز وجل بأسباب ومقدمات عصمة المسلمين منها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) إذ رجع كفار قريش من معركة أحد إلى مكة , وقد إزداد المسلمون إيماناً بمدد وعون من الله .
ويتجلى هذا المدد في كل آية من هذه الآيات كما سيأتي بيان في تفسير الآية التالية
الوجه الثالث : يتضمن الجمع بين الآيتين حث المسلمين على أخذ الحائطة للدين ، والحذر واليقظة من المنافقين وفيه تأكيد بأن عدوهم لا ينحصر بالذين كفروا ، فمن الأعداء من يكون بين ظهرانيهم وهم المنافقون .
وتقدير الجمع بين الآيتين بلحاظ هذه المسألة وهي الرابعة عشرة: والرسول يدعوكم في أخراكم لتحذروا من الذين يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لكم ) ليكون موضوع دعوة الرسول أعم من وقائع معركة أحد ، مع حمل قوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ] على المعنى الأعم وإرادة أيام ما بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ،وتلك آية في ذم وتوبيخ المنافقين وبعث اليأس في نفوسهم ونفوس الذين كفروا من الإنتفاع منهم في بث روح اليأس أو الخوف في قلوب المسلمين بسبب ما يثيره المنافقون من ضروب الشك والريب والمغالطة وتخويف المسلمين قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُر++ْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ] ( ).
وتبعث آية السياق اليأس في نفوس أهل الجحود والضلالة من وجوه :
الأول : بيان الآية لفرار الذين آمنوا في طول صيغة الإكرام , وتقدير الآية : إذ تصعدون يا أيها الذين آمنوا .
الثاني : إخبار الآية عن حال المسلمين , وفرار أكثرهم في جولة من معركة أحد بعث للفزع في قلوب الذين كفروا , لدلالته على دعوتهم للتدارك .
الثالث : ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة من عند الله ، وفيه تذكير بهذه النعمة العظمى ، ولزوم الإنتفاع منها والصدور عما جاء به ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ) .
إذ يتجلى الوصل والصلة بين الخالق والمخلوق بآيات لا يرقى إليها الشك ، ومنها رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات العقلية التي جاء بها .
الرابع : حضور دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في معركة أحد ، لتكون دعوة متجددة لكل مسلم يفر من ميدان المعركة إذ تخالط آية السياق أركانه وخلجاته وتقديرها: والرسول يدعوكم للرجوع ).
الخامس :تغشي دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكل الذين إنهزموا , وفيه وجوه:
أولاً : هذه الدعوة والنداء رحمة فأراد الله عز وجل أن ينتفع منها كل المؤمنين الذين حضروا معركة أحد تحت لواء النبوة.
ثانياً : بيان حقيقة وهي عدم إبتعاد الذين إنهزموا عن موضع وميدان المعركة.
ثالثاً : بيان المدد من عند الله بمد صوت ونداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعله يحمل الى الذين فروا أولهم وآخرهم، لينقطع طمع الذين كفروا بأسر بعض المؤمنين أو الشماتة بهم بسبب إنهزامهم.
رابعاً : إستجابة الذين إنهزموا من المسلمين لدعوة ونداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعوتهم للمعركة.
الوجه الرابع : من الآيات في خلق الإنسان وأسرار قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في الرد منه سبحانه على إحتجاج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض علم الله عز وجل بما في صدور الناس من الرغائب والنوايا ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ، فالرغائب تتعلق في موضوعها بعالم التصور ، أما النوايا فهي أقرب إلى عالم التصديق والواقع .
ومن فضل الله عز وجل على الناس مجتمعين ومتفرقين أنه سبحانه [يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ] ( ) فيصده عن إرتكاب السيئات والتمادي فيها .
وتفضل الله سبحانه وأخبر في آية البحث عن علمه بما في صدور المنافقين من الزيغ والشك ، ليكون هذا الإخبار معجزة أخرى وشاهد على أن القرآن نور وضياء يهدي به الله عز وجل المؤمنين لسبر أغواء النفوس وكشف النفاق والرياء ، وهو سبيل للإصلاح وتهذيب المجتمعات ، ودليل على نيل المسلمين مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وهل يضر بتفضيل المسلمين وجود طائفة من المنافقين بين ظهرانيهم ، الجواب لا من جهات :
الأولى : تفضل الله بتسمية المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ]مع إخباره بوجود المنافقين بينهم .
الثانية : خروج المنافقين بالتخصيص من وصف [خَيْرَ أُمَّةٍ].
الثالثة : بيان صفات [خَيْرَ أُمَّةٍ] وإستحقاق المسلمين لهذه المرتبة بقيامهم بخصال الإيمان بقوله تعالى [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( ) .
الرابعة : مجئ آية البحث بكشف سرائر المنافقين بخصلة وهي أن الذي يظهرونه على إلسنتهم خلاف ما يبطنون .
وأصل النفاق لغة مشتق من مادة (نفق) وهو النفوذ والتسرب ، ويفيد معنى الإستتار والتلون والإختبار والتواري , وذكر أن بعض الحيوانات البرية تتخذ لها غارين أحدهما ظاهر تستعمله لدخولها وخروجها , والآخر خفي تفزع إليه عند حال الشدة ومداهمة الخطر ويسمى النفقاء ، ومنه أقتبس اسم المنافق ،ومن الحيوانات من تتلون بلون ما يحيطها من النبات أو أديم الأرض ، ولا تكاد تُرى ، لذا لم يكن هناك منافقون عندما كان المسلمون مستضعفين في مكة ، الجواب لم تكن هناك حاجة لأن يتلون صاحب الرياء وأرباب الشك والريب ، ليكشف وجود المنافقين في المدينة عن حقيقة وهي صيرورة المسلمين في حال قوة ومنعة وعز ورفعة .
ومن وجوه العزة في المقام كل من آية البحث والسياق ، فان قلت إبتدأت آية السياق بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]وهو بيان لحال فرار المسلمين من ميدان معركة أحد ولا يدل هذا الفرار على العز ، والجواب إنه من الشواهد على العز والرفعة من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل بتوجيه الخطاب للمسلمين فان قلت قد يتوجه الخطاب من عند الله للذين كفروا ، والجواب هناك تباين وتضاد في الموضوع والحكم ، إذ جاء الخطاب في آية السياق بصيغة الإيمان ، وهو نوع رضا من الله على المؤمنين .
الثانية : دلالة آية السياق بالدلالة التضمنية على أن قتال المسلمين في سبيل الله .
الثالثة : بيان بذل المسلمين الوسع في الجهاد والسعي في مرضاة الله عز وجل .
الرابعة : دلالة صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مرتبة من العز ، قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] ( ).
المسألة الخامسة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم في أخراكم يقولون لو كان لنا من الأمر من شيء ما قتلنا ها ههنا ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : الحمد لله الذي جعل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من عنده للناس جميعاً ، وجعله حاضراً لمعارك الإسلام الأولى ، فلم يبعث أهل بيته وأصحابه للقتال ويعقد الراية لأحدهم ، ويبقى هو في المدينة أو يغادرها إلى موضع آخر بلحاظ الضرر المحتمل من دنو كفار قريش من المدينة بجيش عرمرم لا قبل للمسلمين به من جهة كثرة عدده ومؤنه والأسلحة التي معهم ، بل خرج بنفسه مع الجيش ويتقدم المسلمين في الميدان ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )فليس من طائفة أو فرقة من المؤمنين إلا وقد أنصتوا إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في توجيهه وإرشادة وتعليمه لهم كيفية القتال ليفوزوا بنعمة لم ينلها أحد قبلهم ولا بعدهم من جهات :
الأولى : مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة من المهاجرين والأنصار بخصوص معركة أحد ، والخروج للقاء الذين كفروا خارج المدينة أو البقاء فيها ، وهو كالإجماع المركب في علم الأصول الذي يدل تحققه عدم وجود قول ثالث , وفيه شاهد على أن المشركين مصرون على القتال وأن خروج النبي وأصحابه بقصد الدفاع قربة إلى الله إذ تدل هذه المشورة وموضوعها على صيرورة فعل المؤمنين يوم أحد من الوحي بالواسطة .
وتقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم لعدم الإصغاء للذين يقولون لو كان لنا من الأمر من شيء ما قتلنا ههنا .
الوجه الثاني : من معاني الجمع بين الآيتين إقامة الحجة على المنافقين بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وما فيها من البركة والفيض ، ولو دار الأمر بين دعوة الرسول والقول والرأي الشخصي , فالمقدم هو دعوة الرسول لأنها من السنة النبوية والوحي ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ]( ).
ومن الإعجاز في آية البحث ورودها بلفظ (لو) وهو حرف إمتناع لإمتناع ، وفيه دلالة على إصابة المنافقين باليأس من الإصغاء لهم والإستماع لأقوالهم ، وهذا اليأس من وجوه :
الأول : التسليم بأن ما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق والصدق ، وهو لا يتعارض مع إبطان المنافقين الكفر لتقوم هذا التسليم بالواقع الذي تتجلى فيه الملازمة بين قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحكمة .
الثاني : قلة عدد المنافقين , وتقدير الآية : لو كان عددنا كثيراً فيهاب جناحنا ويصغى لنا ) ، لتكون هذه الآية حجة تبين قلة عدد المنافقين .
الثالث : بيان حقيقة وهي عدم إنصات عامة المسلمين للمنافقين، ترى ما هي علة عدم الإنصات هذا ، فيه مسائل :
الأولى : إكتفاء المسلمين بالتنزيل والسنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) .
فان قلت تدل الآية أعلاه على كفاية الله عز وجل لرسوله الكريم فكيف تكون السنة النبوية كافية والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مكفي ويكفيه الله عز وجل والجواب من كفاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفضله عليه بالوحي [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
فلا يأمر أو ينهى النبي صلى الله عليه وآله إلا عن أمر من عند الله ، فينتفع المسلمون جميعاً من هذه الكفاية ، فيكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
أولاً: إن الله عز وجل كاف لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن .
ثانياً : كفاية الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن والوحي مطلقاً .
ثالثاً : كفاية الله عز وجل لرسوله بالسنة النبوية .
رابعاً : تفضل الله عز وجل بكفاية المسلمين بالقرآن لذا تفضل الله, وقال [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ).
خامساً : كفاية المسلمين بالقرآن والسنة القولية والفعلية ، ومن الإعجاز أن كل فرد من أفراد الكفاية أعلاه سبب لعدم الإنصات للمنافقين ووقاية من مفاهيم وأخلاق النفاق .
الثانية : القبح الذاتي للنفاق ، ونفرة الناس منه ، وهذه النفرة من أسرار نفخ الله من روحه في آدم ، ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض ، وهو من مصاديق علم الله عز وجل بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فمن علمه تعالى في المقام نفرة النفوس من النفاق ، ومن ملاقاة التنزيل والنبوة باقتران إخفاء الكفر مع إظهار الإيمان ، ليكون قوله تعالى أعلاه[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وعداً من الله عز وجل إلى الملائكة بأنه ينصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , ويجعل النفوس تنفر من النفاق .
الثالثة : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توالي البراهين التي تدل على صدق نبوته ، وتعدد سنخية هذه البراهين ، ومنها ذات صبغة عقلية وأخرى حسية ، وكل واحدة منها تدعو الناس إلى إجتناب النفاق وإخفاء الكفر .
الرابعة : فضل الله عز وجل بفضح المنافقين وهو من وجوه :
الأول : نزول آيات القرآن ببيان خصال المنافقين ،قال تعالى[وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ] ( ).
الثاني : إصابة المنافقين باليأس من إستماع المسلمين لرأيهم بلحاظ إنقطاعهم إلى القرآن والسنة النبوية , وتجلي حقيقة وهي أن الصدق والحق مع القرآن وفي القرآن وبالقرآن .
الثالث : تجلي الصواب والحكمة في أقوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختياره ، مما يدل على إنتفاء الحاجة لقول ورأي المنافقين .
الخامسة : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجئ سورة كاملة وهي (سورة المنافقون ) وهو من أسباب كشف النفاق ، ووهن وضعف المنافقين , وفيه حرب على النفاق ووسيلة لمنع الناس من الإنصات للمنافقين .
الوجه الثالث : من معاني ودلالات قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] الدعوة إلى اليقظة والحيطة من المنافقين والحذر من كيدهم ومكرهم وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : والرسول يدعوكم للتنزه عن النفاق .
ثانياً : والرسول يدعوكم للحذر من المنافقين .
ثالثا : والرسول يدعوكم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
رابعاً : والرسول يدعوكم لعدم الإستماع لقول المنافقين .
خامساً : والرسول يدعوكم لقانون وهو ليس للمنافقين رأي بخصوص معركة أحد ومحلها .
سادساً : والرسول يدعوكم لنيل المراتب السامية بالعصمة من كيد المنافقين والكفار .
سابعاً : والرسول يدعوكم للإعراض عن قول المنافقين [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ شيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا]( ).
ثامناً : والرسول يدعوكم للإحتجاج على الذين يقولون [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ شيْءٌ] باتباع السنة النبوية في إختيار كيفية ملاقاة الذين كفروا.
تاسعاً : والرسول يدعوكم للإمتناع عن قول ( لو كان لنا من الأمر شيء ) وقول [هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ] فما يأتي به الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم جلب للمصلحة ودفع للمفسدة.
عاشراً : وطائفة يقولون هل لنا من الأمر من شيء والرسول يدعوكم ) لإفادة إجتماع الأمرين ، تجلي التباين والتضاد بينهما فلا يختار المؤمنون إلا الإستجابة لدعوة الرسول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) فيأتي تعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمواضع المسلمين في ميدان المعركة في حالات :
الأولى : تعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم مواضع المؤمنين في القتال قبل أن يقول المنافقون [لو كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ من شيء].
الثانية : تعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمواضع القتال أثناء قول المنافقين [لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ].
الثالثة : تحديد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمنازل المؤمنين في معركة أحد بعد قول المنافقين [لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ].
فان قلت الأصل هو مجئ دعوة الرسول لأصحابه بالرجوع إلى ميدان المعركة بعد هزيمتهم ، وأن تعيين مواضعهم في المعركة قبل الهزيمة .
والجواب هذا صحيح إلا على فرض أن رجوعهم إلى المعركة من مصاديق وعمومات قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) بلحاظ قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعادة توزيعهم على مواضع القتال ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]، وإنبساط معالم إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيادته لجيش المسلمين في معركة أحد ، ويكون من تقدير الجمع بين الآيتين: والرسول يدعوكم للتقيد بمواضعكم في ميدان المعركة فيخيب ظن المنافقين والذين كفروا.
الحادي عشر : والرسول يدعوكم لتلاوة الآيات التي تحذر من المنافقين وتمنع من الإفتتان بهم .
الثاني عشر : والرسول يدعوكم لعدم محاكاة المنافقين في رجوعهم عن القتال في معركة أحد , وفي معارك الإسلام اللاحقة .
الثالث عشر : والرسول يدعوكم للمناجاة بالدعوة إلى الخير والحث على نبذ النفاق ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الوجه الرابع : لقد بيّن المنافقون علة رجاءهم الشأن والموضوعية في الأمر والقرار وإختيار كيفية وموضع القتال في معركة أحد ، بأنها السلامة من القتل في الميدان ، وهي كلمة قد يراد منها إجتناب محاربة الذين كفروا ، ولكن ما هي الإحتمالات الأخرى لو لم يصدر الفعل ذو صبغة النفاق في الطريق إلى معركة أحد ، فيه وجوه محتملة :
الأول : عدم وقوع قتال في معركة أحد باجراء صلح بين الفريقين .
الثاني : رجوع الذين كفروا إلى مكة نادمين , وهم يتجنبون القتال بعد إستحضارهم لوقائع معركة بدر ونزول الملائكة لنصرة المسلمين ، فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم إنحصار العلم بنزول الملائكة لنصرته بالمؤمنين ، بل علم وأحس به نفر من الذين كفروا بواسطة الشواهد الحسية والأثر المترتب على هذا النزول بانتصار المسلمين بمعجزة النقص في عددهم وعدتهم (روي عن أبي سفيان بن الحارث قال : لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض( ).
(وقال سهيل بن عمرو : لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض معلمين يقتلون ويأسرون)( ).
الثالث : أراد المنافقون البقاء في المدينة , وإنتظار وصول المشركين لها , وقتالهم في طرقاتها وأزقتها ، وهو الرأي الذي عرضه عبد الله بن أبي بن أبي سلول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما إستشارهم في الحرب , وقبل أن يلبس لأمة القتال , ويخرج إلى المعركة .
الرابع : من معاني قول [لو كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ من شَيء] إبداء الرأي في كيفية القتال وتوزيع الطوائف والأشخاص في الميدان , وتقدير الآية : لو كان لنا من الأمر من شيء لاخترنا الرماة ممن لم يترك موضعه ، ولا يلتفت إلى الغنائم خاصة وأنه ورد قبل آيتين التحذير بقوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] ( ).
فلا يكون في المواضع ذات الأثر والتأثير إلا الذين يطلبون مرضاة الله ويريدون الأجر والثواب ولا يطمعون في الدنيا والغنائم , وهذا المعنى يتناقض مع سنخية النفاق .
الخامس : أشار المنافقون إلى حقيقة وهي خبرتهم في القتال ومعرفتهم بفنون الحرب وأنهم أرادوا الإنتفاع من خبرتهم وشجاعتهم بما يدفع القتل عنهم وعن جيش المسلمين خصوصاً إخوانهم من الأنصار .
فمن الآيات أن كلاً من الأنصار والمهاجرين يرى أخوة بعضهم لبعض ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) ولقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بينهم ، وهل هذه المؤاخاة هي التفسير العملي للآية أعلاه ، الجواب إنها مصداق وتفسير للآية , وليس هي التفسير الوحيد للآية القرآنية أعلاه ، فجاءت دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين لتعاهد سنن ومفاهيم الأخوة بين المؤمنين ، ومنها الرضا بأمر الله والقبول بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعصمة من النفاق والإمتناع عن الإنصات للمنافقين في كيفية ملاقاة الذين كفروا , ليكون من إعجاز المؤاخاة بين المؤمنين مجئ دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم على نحو الإشتراك والإجتماع مع تعاونهم ومؤازرة بعضهم لبعض للإستجابة لدعوته بمعناها الأعم الذي لا يختص بمعركة أحد خاصة وان الذين كفروا مصرون على القتال ومحاولة إستئصال عرى الإيمان ومحاربة التنزيل.
المسألة السادسة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم في أخراكم يقولون ما قتلنا ها هنا) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من خصائص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها خير محض ونفع متصل وأبى الله عز وجل إلا أن تكون[رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) فهي هبة ونعمة الله في آخر الزمان التي تتغشى بركاتها الناس جميعاً ، منهم بالذات والأصالة ومنهم من يأتيه النفع بالواسطة سواء عن إختيار أو قهر وإنطباق ، وكان الناس في تلقيهم لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم على أقسام :
الأول : الذين آمنوا بالرسالة وصدقوا بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنالوا شرف الدنيا والآخرة .
الثاني : الذين أصروا على الإقامة على الكفر والشرك وجحدوا بالبراهين الساطعة والدلالات الجلية على التوحيد والنبوة ، قال تعالى[وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ]( ).
الثالث : المنافقون الذين أظهروا الإيمان مع إبطان الكفر والضلالة .
الرابع : الذين توقفوا وإنتظروا وتطلعوا إلى المزيد من الآيات والبراهين .
فجاء قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] بلحاظ التقسيم أعلاه لوجوه :
أولاً : يدعو الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين آمنوا من جهات :
الأولى : يدعو الرسول المؤمنين للثبات على الإيمان وإقتباس الدروس والمواعظ من التنزيل والسنة النبوية , ومن إعجاز القرآن أن كل آية من القرآن كنز للعلوم ، ووسيلة مباركة لتنمية ملكة التقوى .
وكل آية تنزل من القرآن تكون من مصاديق الزيادة في قوله تعالى [لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] ( ).
الثانية : يدعو الرسول المسلمين إلى التفقه في الدين والتدبر بآيات القرآن ، وأخذ الحائطة من الذين كفروا والمنافقين .
الثالثة : يجتهد الرسول بدعوة المسلمين للحذر والحيطة من النفاق ويبين قبحه وضرره ، وهل تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآيات التي تذم النفاق من هذه الدعوة ، الجواب نعم وهو من إعجاز القرآن وذخائر أسراره بأن كل فرد من التلاوة حجة وتجديد للتنزيل بذات مكان وزمان مخصوصين ، فنزل القرآن في مكة والمدينة على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون تلاوة المسلمين لآيات القرآن إحياء وتذكيراً بالتنزيل وعهداً على تعاهده وحفظه , وهو من أسرار وجوب تلاوة آيات القرآن في الصلاة خمس مرات في اليوم .
فمن الإعجاز في سنن التشريع في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما من ركعة من ركعات الصلاة أو فرض منها خال من تلاوة آيات القرآن جهراً أو إخفاتاً ، ليصاحب التدبر التلاوة طوعاً وإنطباقاً بفضل الله عز وجل .
الرابعة : والرسول يدعو المسلمين للدفاع عن الإسلام وجهاد الكفار وصدهم ومنعهم من التعدي على الحرمات , وتأتي هذه الدعوة للمسلمين في حال السلم والحرب ، والرخاء والشدة ، ومن أمام المسلمين عند الهجوم ومن خلفهم إن تعرضوا للفرار والإنهزام.
ثانياً : والرسول يدعو الذين كفروا للتوبة والإنابة , ويدعوهم الرسول إلى أمور :
الأول : الإيمان بالله .
الثاني : الإقرار بالنبوة .
الثالث : التصديق بالتنزيل .
الرابع : الإمتناع عن محاربة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسعي لقتله .
الخامس : المناجاة باجتناب قتال المسلمين , فان قلت القدر المتيقن من آية البحث هو دعوة الرسول لأصحابه للعودة إلى ميدان المعركة, والجواب من وجوه :
الأول : دعوة الرسول متعددة وعامة .
الثاني : مضامين آية البحث حجة على الذين كفروا .
الثالث : دعوة الرسول لأصحابه بالرجوع إلى ميدان المعركة دعوة لذات الذين كفروا للتوبة والإنابة .
وتبعث دعوة الرسول لأصحابه للرجوع إلى المعركة الرغبة في نفوس غيرهم لدخول الإسلام .
الرابع : إقامة الحجة على الذين كفروا , وفي التنزيل [إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ] ( ).
ثالثاً : يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين للتوبة والنجاة من براثن النفاق ، قال تعالى في وصف وذم المنافقين [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
تأتي الدعوة مباشرة لقصد المنافقين وبالواسطة ، ومنها في آية البحث , وتقديرها على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم للعصمة من النفاق .
الثاني : والرسول يدعوكم في أخراكم لأن رجوعكم إلى ميدان المعركة حرب على النفاق وفضح للمنافقين .
الثالث : والرسول يدعوكم للرد على المنافقين الذين قالوا [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا] ويكون ردهم عليهم بالرجوع إلى التسليم بأن ما يأمر به وما يدعو إليه الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق والصدق .
الرابع : والرسول يدعوكم لإسكات وكبت المنافقين بالبيان العملي والبرهان الحاضر على تفويض المسلمين أمورهم لله ورسوله وأنهم لا يطلبون أن تكون له موضوعية في إتخاذ قرار الحرب والسلم ، وفي التنزيل حكاية عن مؤمن آل فرعون وصدوده عن الكافرين من قومه [وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ] ( ) .
الخامس : والرسول يدعوكم للجهاد ضد المنافقين بالرجوع إلى ميدان المعركة .
السادس : والرسول يدعوكم إلى عدم الإنصات إلى الذين رجعوا إلى معركة أحد منتصف الطريق .
السابع : والرسول يدعو المسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة بالفصل والتمييز بين الحق والباطل , وبين الإيمان والنفاق .
الوجه الثاني : يدل الجمع بين هذه الآية والآية السابقة على التباين بين حال المسلمين ودعوة الرسول لهم لخير الدنيا والسعادة بالعودة إلى ميدان القتال لتقترن بهذه العودة بإنقلاب الذين كفروا إلى مكة خاسرين خائبين , ومن أسبابه مسائل :
الأولى : ثبوت كذب إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتصال ودوام التنزيل .
الثانية : تدل عودة المسلمين إلى ميدان المعركة على إستعدادهم للقتال وتجدد الهجوم .
الثالثة : إستحضار الذين كفروا ما لحقهم من الخسارة من وجوه:
الأول : كثرة قتلى وأسرى الذين كفروا يوم أحد .
الثاني : فرار كفار قريش يوم بدر مع كثرة عددهم وأنهم ثلاثة أضعاف عدد المهاجرين والأنصار الذين لاقوهم يوم معركة أحد .
الثالث : حس وقتل المسلمين للذين كفروا في بداية معركة أحد لقوله تعالى قبل آيتين [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية اعلاه أنه لم يرد لفظ (صَدَقَكُمْ) ولفظ (تَحُسُّونَهُمْ) إلا فيها ويتعلق موضوع الآية أعلاه بوقائع معركة أحد لتأكيد حقيقة وهي أن المسلمين لم ينهزموا ولم يخسروا المعركة ، وكيف يخسر المسلمون الذين بدأوا المعركة بأمور :
الأول : إيمان المسلمين بالله وصدق الرسالة وحسن توكلهم على الله , ويدل عليه إبتداء هذه الآيات بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..] ( ).
الثاني : زحف وحضور المسلمين لمعركة أحد ومعهم الوعد من عند الله بالنصر والغلبة .
الثالث :إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ومصاحبة معاني النصر له .
الرابع : لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد إلا بأمر من عند الله لأن هذا الخروج من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الخامس : تنظيم وترتيب صفوف جيش المسلمين من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذخائر الوحي ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] .
وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
أولاً : وإذ غدوت بالحمد لله يا رسول الله .
ثانياً : وإذ غدوت من أهلك بأمر الله .
ثالثاً : وإذ غدوت من أهلك ومعك المؤمنون ) وفي قوله تعالى [تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ] مسائل :
الأولى : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشكر الله عز وجل على إيمان الذين معه .
الثانية : بشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن أصحابه يرجعون إليه , ويعودون إلى الميدان حال دعوته لهم .
الثالثة : يكون تقدير الآية السابقة : والرسول يدعوكم فأستجبتم له كما بوأكم مقاعد للقتال فاطعتموه .
الرابعة : نعت المسلمين بالمؤمنين في بداية المعركة حث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لدعوتهم عند إنهزامهم وعدم اليأس منهم وتجلى مصداق هذا الحث بمبادرتهم إلى الإستجابة لدعوته .
الخامسة : بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الخروج إلى القتال وعدم الخشية من إحتمال نكوص أصحابه وتخليهم في ساعة الشدة والقتال عنه .
السادسة : الآية بيان متقدم زماناً وتنزيلاً وموضوعاً بأن إنخزال المنافقين وسط الطريق لن يضر المسلمين ضرراً فادحاً في القتال وقد ورد في الأذى الذي يصيب المسلمين من عدوهم قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) .
ويحتمل إنخزال وانسحاب المنافقين , ومن انصت لهم قبل معركة أحد وجوهاً :
الأول : هذا الإنخزال من الأذى الذي ذكرته الآية أعلاه .
الثاني : إنه موضوع آخر غير الأذى المذكور في الآية أعلاه فهو على جهات :
الأولى : إنه أذى لم يصل إلى مرتبة الضرر التي هي أشد على المسلمين .
الثانية : ليس في هذا الإنخزال ضرر أو أذى .
الثالثة : في هذا الإنخزال والإنسحاب ضرر على المؤمنين وإضعاف لقوتهم وتثبيط لعزائمهم لولا أن منّ الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم بنزول الملائكة لنصرتهم كما يدل عليه قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
الثالث : إنه أمر منفصل عن مضمون قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) ولكنة مقدمة له .
والمختار هو الثالث والجهة الثالثة من الوجه الثاني أعلاه ، إذ تختص الآية أعلاه بغير المنافقين وموضوعها في حال السلم والمهادنة وعدم الإمتثال بدليل تتمة الآية [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ] .
ومن إعجاز الآية أعلاه أن الأذى الذي يأتي للمسلمين منهم لا يبلغ مرتبة الضرر حتى في حال وقوع القتال بين المسلمين والذين كفروا , وإن إنخزل المنافقون وسط الطريق أو قعدوا من أوله , وسعوا في بث أسباب الشك والريب .
لتكون آية البحث من مصاديق إلقاء السكينة في نفوس المؤمنين بأن يكون إحتجاج المنافقين من عدم جعل رأي لهم في موضع القتال في معركة أحد لن يبعث الشك والريب في نفوس المؤمنين ، ولم يجعلهم يميلون إلى تأييد قول المنافقين لإدراك المؤمنين بطلان هذا القول، فقد إستشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عموم المسلمين في شأن القتال يوم أحد وإختيار موضعه ورأي الأنصار والمهاجرين فيه ، ثم إختار الأخذ بقول الذين أصروا على الخروج للقاء العدو ، وهذا الأخذ لم يكن رأياً شخصياً ومحاباة لقول فريق إنما هو من الوحي لذا جاءت آية البحث بالرد [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] ( ) ومن معانيه أن إختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخروج إلى لقاء المشركين في أحد ، وعدم عمله بمشورة رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول بالبقاء بالمدينة إنما كان بأمر ومشيئة من الله عز وجل , وفيه تشريف للصحابة بالفوز بقانون وهو أن خروجهم للقتال بأمر من الله , فما هو شأنهم في ذات القتال ، وهل هو بأمر من عند الله عز وجل , الجواب نعم , من جهات :
الأولى : إخبار الآية أعلاه بالدلالة التضمنية عن حدوث المعركة لذكرها القتال بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) فتكون اللام في الآية أعلاه لام الغاية .
الثانية : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن رؤياه قبل خروجه إلى أحد ، ودلالتها في تأويلها على حد وقوع القتال ، ورؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي .
(عن ابن عباس قال لما جاء المشركون يوم أحد كان رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يقيم بالمدينة يقاتلهم فيها فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا تخرج بنا يا رسول الله نقاتلهم بأحد ورجوا ان يصيبوا من الفضيلة ما أصابه أهل بدر فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لبس لأمة القتال , ثم ندموا وقالوا يا رسول الله أقم فالرأي رأيك فقال ما ينبغي لنبي ان يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ز
وكان مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ قبل ان يلبس آلة الحرب إني رأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة وإني مردف كبشا فأولته كبش الكتيبة ورأيت ان سيفي ذا الفقار فل فأولته فلاً فيكم , ورأيت بقرا تذبح فبقر والله خير .
وأخرج احمد والبزار والحاكم والبيهقي عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا وكأن ظبة سيفي انكسرت فأولت أني أقتل كبشا لقوم وأولت كسر ظبة سيفي قتل رجل من عترتي فقُتل حمزة وقَتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلحة وكان صاحب اللواء) ( ).
الثالثة : إصرار الذين كفروا على القتال ، فلا يتصور أن جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل موتورين زحفوا من مسافة خمسمائة كيلو متراً مشاة وعلى الإبل يرجعون من غير قتال بدليل أنهم جاءوا بأقل من ثلث هذا العدد وقطعوا مسافة أقل في معركة بدر حيث يبعد موضعها عن مكة المكرمة مسافة ( 310 ) كم ,ولم يكونوا طالبين لثأر أو مصابين بكثرة قتلاهم في معركة سابقة لمعركة بدر لأن معركة بدر أول معارك الإسلام ، ومع هذا طلب الذين كفروا المبارزة ورفضوا أي نية ورأي بترك القتال والعزوف عنه ، ليدل بالأولوية القطعية على أنهم جاءوا في معركة أحد للقتال .
الرابعة : دلالة أخبار واقعة أحد ومقدماتها على إرادة المشركين قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أهم الغايات الخبيثة التي خرجوا من مكة نحو المدينة قاصدين وطالبين لها .
وعن سعيد بن المسيب قال (وكان أبي بن خلف قال حين افتدى والله إن عندي لفرسا أعلفها كل يوم فرقا من ذرة ولأقتلن عليها محمدا فبلغت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال بل أنا اقتله إن شاء الله فأقبل أبي مقنعا في الحديد على فرسه تلك يقول لا نجوت إن نجا محمد , فحمل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد قتله قال موسى بن عقبة قال سعيد بن المسيب فاعترض له رجال من المؤمنين .
فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخلوا طريقه وأبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم قال سعيد فكسر ضلع من أضلاعه ففي ذلك نزل [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ).
فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا ما جزعك إنما هو خدش فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أقتل أبيا ثم قال والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجار لماتوا أجمعون فمات أبي قبل ان يقدم مكة)( ).
وأقبل عبد الله بن حميد بن زهير وهو من جيش المشركين (يركض فرسه مقنعاً في الحديد يقول: أنا ابن زهير، دلوني على محمد، فو الله لأقتلنه أو لأموتتن دونه! فتعرض له أبو دجانة فقال: هلم إلى من يقي نفس محمد بنفسه! فضرب فرسه فعرقبها، فاكتسعت الفرس، ثم علاه بالسيف وهو يقول: خذها وأنا ابن خرشة! ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ينظر إليه يقول: اللهم ارض عن ابن خرشة كما أنا عنه راضٍ) ( ).
الخامسة : قيام المسلمين في بدايات المعركة بهزيمة المشركين ومن مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] إبتداء معركة أحد بقيام الإمام علي عليه السلام بقتل طلحة بن أبي طلحة حامل لواء المشركين .
وفيه إنذار وخزي للذين كفروا وهو باعث للرعب في قلوبهم وبرزخ دون عودتهم للقتال .
وكل آية من الآيات التي تخص معركة أحد كنز من العلوم وشاهد يدل على جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في سبيل الله .
وعدد آيات سورة آل عمران مائتا آية ، وكلماتها ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانين كلمة , وعدد حروفها خمسمائة وخمسة عشر وعدد حروفها أربعة عشر ألف حرف .
(عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : من قرأ السورة التي يُذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى اللّه عليه وملائكتهُ حتى تغيب الشمس.
وعن زرّ بن حُبيش عن أُبي بن كعب قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: من قرأ سورة آل عمران أُعطي بكلَّ آية منها أماناً على جسر جهنَّم.
روي عن أبي إسحاق عن سليم بن حنظلة، قال : قال عبد اللّه بن مسعود : من قرأ آل عمران فهو غني.
يحيى بن نعيم عن أبيه عن أبي المعرش عن عمر قال : سمعتُ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم يقول : «تعلَّموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان، وإنهما يأتيان يوم القيامة في صورة ملكين شفعاء له جزاءً حتى يدخلاه الجنَّة) ( ).
الوجه الثالث : تقدير آية البحث : والرسول يدعوكم أيها المؤمنون , وإن قال المنافقون [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا]وفيه إعجاز في إصلاح المؤمنين للقتال والدفاع عن الإسلام والنبوة ، والتوقي من قول المنافقين ، ومن منافع التحذير من المنافقين أمور :
الأول : تنمية ملكة الإحتراز والحيطة عند المسلمين .
الثاني : بيان قانون وهو أن النسبة بين دخول الإسلام والإيمان عموم وخصوص مطلق ، وقد يكون الإنسان مسلماً ولكن الإيمان لم يدخل قلبه بعد ، قال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه ورود لفظ القول بصيغة التأنيث (قَالَتْ) بينما ورد نعت قول النسوة من أهل مصر بصيغة التذكير عند قيامهم بذم فعل امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام ومراودتها له إذ ورد في التنزيل [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امرأة الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ]( ) .
وقد وردت آيات في ذم الأعراب وبيان الصلة والملازمة بين نفر من الأعراب والنفاق، وقال تعالى[الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا]( ) وقد ورد ثناء من الله عز وجل على طائفة من الأعراب بقوله[وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]( ).
وظاهر الآية أعلاه أن هذه الطائفة إستثناء من عموم الأعراب ، وصحيح أن المستثنى أقل من المستثنى منه ، ولكن الآية أعلاه لا تدل على إرادة الإستثناء بمعناه الإصطلاحي ، إنما وردت الآية بصيغة التبعيض [مِنْ الأَعْرَابِ] وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فقد يكون هناك طوائف من الأعراب تقول بالتوحيد وتؤمن بالنبوة وتتنزه عن النفاق , ولكنهم لم يحرزوا شرائط الإيمان ، وتقدير آية السياق بلحاظ الآية أعلاه على وجوه :
أولاً :والرسول يدعوكم للتنزه عن أخلاق النفاق .
ثانياً : والرسول يدعوكم أيها الأعراب إلى التقوى .
ثالثاً : والرسول يدعوكم أيها الأعراب لعدم الإنصات للمنافقين.
رابعاً : والرسول يدعوكم أيها المؤمنون لجذب الأعراب إلى منازل الإيمان .
ومن الإعجاز في الجمع بين آية البحث والآية السابقة مجئ النهي عن الإنصات للمنافقين من جهات :
الأولى : إخبار آية البحث عن قبح قول المنافقين وطلبهم صيرورة شأن وسلطان لهم في قرار القتال مع أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بيد الله عز وجل .
الثانية : تتضمن آية السياق دعوة ونداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع إليه وإلى ميدان المعركة , وعدم وجود فصل وفاصلة بينهم وبينه ينفذ منها المنافقون ، إذ أن تقدير الآية : والرسول يدعوكم كيلا يختص بكم المنافقون ويبثوا سمومهم.
الثالثة : يفيد الجمع بين آية البحث والسياق تأكيد غنى المسلمين عن المنافقين وعن قولهم فلا يضرون إلا أنفسهم .
الرابعة : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالعمل على فضح قول المنافقين وتأكيد بطلان إحتجاجهم , ومن الآيات أن القيام بهذا الفضح لا يستلزم زيادة في كسب العلوم والتحصيل ، بل يكفي تلاوة آية البحث لأنها مدرسة قائمة بذاتها .
الثالث : نزول آيات القرآن بالتحذير من المنافقين ، ودرن النفاق مدد وعون من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وواقية تتجلى منافعها من جهات :
الأولى : عند التهيء للقتال والإتيان بمقدماته وتحضير لوازمه .
الثانية : حال القتال والمبارزة ولمعان السيوف ، عن قتادة قال (قال المنافقون يوم الأحزاب حين رأوا الأحزاب قد اكتنفوهم من كل جانب ، فكانوا في شك وريبة من أمر الله .
قالوا : إن محمداً كان يعدنا فتح فارس والروم ، وقد حصرنا ههنا حتى ما يستطيع يبرز أحدنا لحاجته . فأنزل الله { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } )( ).
الثالثة : ما بعد إنقضاء المعركة وعودة المجاهدين إلى المدينة .
وهل التحذير من المنافقين في القرآن من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( )الجواب نعم .
الوجه الرابع : يمكن تأسيس علم جديد , وهو ( كل آية من القرآن حرب على النفاق ) فتحث آية السياق المسلمين على الإصغاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإستجابة له ، ويدل بالدلة التضمنية على عدم إتباع المنافقين للتضاد والتباين بين دعوة رسول الله إلى الهدى والصلاح والظفر بالأعداء في معركة أحد وبين قول المنافقين وما يرومون إلى تحقيقه من قولهم وإمتناعهم عن القتال عن الإستجابة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن مصاديق هذا العلم إنحسار النفاق بين صفوف المسلمين ، لقد أراد المنافقون تحريف كلام ودعوة الرسول وكأنه يدعوهم إلى القتل والموت بلحاظ ظاهر الحال وإنعدام التكافؤ بين جيش الكفار الذي يتصف بالكثرة في العدد والعدة ، وبين قلة عدد المسلمين والنقص في مؤنهم فالذي يواجه الجيوش الكبيرة بفئة قليلة يعرضهم للهلاك والقتل .
فجاء القرآن بنسخ وإبطال كلام المنافقين هذا وأخبر عن كون دعوة الرسول رحمة للمسلمين وسبيل نجاة لهم لأن الأمر كله لله سبحانه الذي بعث الرسول محمداً رحمة , فصار [بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
وأخبرت آيات القرآن بأن إنتصار الجيش الكبير على الذين هم أقل عدة وعدداً ليس قاعدة كلية بل هناك قوانين تحكم سير المعركة بين المؤمنين والكفار وهي :
الأول : النصر والظفر بيد الله .
الثاني : مصاحبة النصر للأنبياء والمؤمنين ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ).
الثالث : الوعد من عند الله عز وجل بنصر المؤمنين وإن كانوا في قلة ونقص في العدة والسلاح والخيل ، قال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
وقد يقال بأن الآية أعلاه مطلقة ولا تدل على نصر المؤمنين وإن كانوا قلة لأنها قيدت النصر بأنه بإذن الله ، ولم تقيده بخصال وصفات الفئة القليلة التي يأذن لها بالنصر ، والجواب من جهات :
الأولى : جاء الشطر أعلاه من الآية التاسعة والأربعين بعد المائتين من سورة البقرة حكاية عن لسان طالوت والمؤمنين الذين معه في قتالهم لجالوت ومن معه من الكافرين ، وكان يتصف بشدة البأس ، ويبادر إلى القتال قبل أن يجتمع إليه أصحابه فيغلب عدوه .
ولقد خرج طالوت بثمانين ألف ، وخاف أكثرهم من جالوت فأبتلاهم الله بشرب ماء من نهر الأردن ، فرجع منهم ستة وسبعون ألفا وعبر النهر مع طالوت أربعة آلاف ، ولما نظروا إلى جالوت وجيشه العرمرم [قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ] ( ) فرجع من جيش طالوت المسلمين ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ولم يبق معه إلا ثلاثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر .
و( عن قتادة قال : ذكر لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوم بدر « أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت ، وكان الصحابة يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً) ( ).
فنصرهم الله بأن قتل داود عليه السلام جالوت أمير جيش الذين كفروا فإنهزموا , فقد إعتادوا أن يقاتل جالوت دونهم وأن يجلب لهم النصر ويهزم عدوهم .
وهل هزيمة قوم جالوت من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في الآية أعلاه ببيانها علة إلقاء الرعب والفزع في قلوبهم وهو الشرك بالله ليكون سور السالبة الكلية الذي يلزم التوبة منه ، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (كان داود واخوة له أربعة ومعهم أبوهم شيخ كبير وتخلف داود في غنم لابيه ففصل طالوت بالجنود فدعا أبوه داود وهو أصغرهم .
فقال : يا بنى اذهب إلى اخوتك بهذا الذى قد صنعناه لهم يتقوون به على عدوهم , وكان رجلا قصيرا أزرق قليل الشعر طاهر القلب فخرج وقد تقارب القوم بعضهم من بعض .
فمر داود على حجر , فقال الحجر : يا داود خذنى فأقتل بي جالوت ، فاني انما خلقت لقتله ، فأخذه فوضعه في مخلاته التى تكون فيها حجارته التى كان يرمى بها عن غنمه بمقذافه فلما دخل العسكر سمعهم يتعظمون أمر جالوت .
فقال لهم داود : ما تعظمون من أمره ؟ فوالله لئن عاينته لاقتلنه فتحدثوا بخبره حتى ادخل على طالوت ، فقال : يا فتى وما عندك من القوة وما جربت من نفسك ؟ قال : كان الاسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه فآخذ برأسه فأفك لحييه عنها فآخذها من فيه ، قال : فقال : ادع لى بدرع سابغة .
قال : فأتى بدرع فقذفها في عنقه فتملا منها حتى راع طالوت ومن
حضره من بني اسرائيل ، فقال طالوت : والله لعسى الله أن يقتله به ، قال : فلما ان أصبحوا ورجعوا إلى طالوت والتقى الناس ، قال داود : أروني جالوت فلما رآه أخذ الحجر فجعله في مقذافه فرماه فصك به بين عينيه فدمغه ونكس عن دابته .
وقال الناس : قتل داود جالوت وملكه الناس حتى لم يكن يسمع لطالوت ذكر ، وإجتمعت بنو اسرائيل على داود وأنزل الله عليه الزبور وعلمه صنعة الحديد فلينه له وأمر الجبال والطير يسبحن معه ، قال : ولم يعط احد مثل صوته ، فأقام داود في بني اسرائيل مستخفيا واعطى قوة في عبادته) ( ).
الثانية : بيان آيات القرآن بأن النصر حليف المؤمنين لتفيد الآية أعلاه حقيقة وهي إرادة الإطلاق وصبغة القانون في نصر المؤمنين ويكون تقدير الآية [ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا..] ( ) إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا وإن كانوا فئة قليلة وأقل عدداً ممن يلاقيهم من الكفار .
الثالثة : تأكيد آيات القرآن بتحقيق نصر طالوت وجنوده بفضل الله وبركة نبوة داود عليه السلام ، قال تعالى [فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ] ( ).
وقد أتى الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وجعله ينتصر على الذين كفروا ولم يضره والمؤمنين إنخزال المنافقين في الطريق إلى معركة أحد ، لتبقى دعوته إلى المسلمين حاضرة معهم مصاحبة لهم ، تدل في دلالتها التضمنية على وجوب نبذ النفاق والغلظة على المنافقين , وهذه الغلظة طريق لإصلاحهم وهذا الإصلاح من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لتكون من معاني هذه الرحمة وجوه :
الأول : الرحمة بالمسلمين بارتقائهم في مراتب الإحتراز من المنافقين .
الثاني : من إعجاز آيات القرآن التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها تجعل المسلمين والمسلمات يتنزهون عن النفاق ، ويحرص كل واحد منهم ذكراً أو أنثى على إجتناب مفاهيم النفاق في القول والعمل .
الثالث : صيرورة كل مسلم حجة على لزوم إجتناب الذين يدخلون الإسلام النفاق .
الرابع : البيان للناس جميعاً إن المنافقين ليسوا بمؤمنين ، وهو من مصاديق الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً .
الوجه الخامس : ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]وبين [يَقُولُونَ ْ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا]باللسان ، الجواب هو العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق ، أما مادة الإلتقاء فمن وجوه :
أولاً : كل من الأمرين قول .
ثانياً : صبغة القرآنية لكل من القولين .
ثالثاً : تعلق موضوع الآيتين بمعركة أحد ، وهذا التعلق لا يفيد الحصر في الموضوع أو الحكم , وهو من إعجاز إحاطة ألفاظ القرآن المعدودة بالوقائع اللامتناهية .
فكأنه تحريض على عدم الرجوع إلى ميدان المعركة .
رابعاً : كل من الآيتين سبيل إلى التوبة .
أما مادة الإفتراق فهي على وجوه :
الأول : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة للمؤمنين , وقول المنافقين حجة عليهم .
الثاني : أوان دعوة الرسول لأكثر أصحابه هو عند هزيمتهم، أما قول المنافقين فصدر منهم قبل معركة أحد وبعدها وهو لا يتعارض مع القول باتحاد موضوع الآيتين .
الثالث : ملاك دعوة الرسول هي النجاة والسلامة لأصحابه والمؤمنين ، أما المنافقون فذكروا القتل وأسبابه .
الرابع : تتقوم دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأطراف :
أولاً : الداعي وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : الدعوة وصدور النداء .
ثالثاً : موضوع الدعوة ، وهو إرادة الرجوع إلى المعركة .
رابعاً : الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم طائفة من الصحابة فروا من وسط المعركة إلى الجبل القريب منه وفي الطريق قريباً من ميدان المعركة .
الخامس : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي، أما قول المنافقين فهو من عند أنفسهم ,ولغلبة النفس الشهوية وأسباب الضلالة عليهم.
السادس : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه حق وصدق ، أما قول المنافقين فهو مغالطة وتحريف للوقائع ، فلم يقتل المنافقون في واقعة أحد بل رجعوا إلى أهليهم في المدينة عند توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى ميدان المعركة .
لقد إعترف المنافقون كما ورد بوثيقة سماوية إطلع ويطلع عليها المسلمون جميعاً في أجيالهم المتعاقبة , وهي آية البحث أنه لم يكن لهم أمر وشأن في معركة أحد إبتداءً وإستدامة , وتلك آية من عند الله في تأديب المسلمين في إصلاح أمورهم , وإجتناب الإنصات للمنافقين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ).
وهل يدل قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] على الشأن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة احد، وأنه كان له من الأمر شيء أم أن المنافقين يظنون أن الأمر كله بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذا ذمهم الله عز وجل بقوله [وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ]( ) [وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن مجئ الآيتين أعلاه متعاقبتين إحداهما بعد الأخرى ، وفي سورة المنافقين بالذات لبيان أنها مدرسة جامعة لبيان خصال المنافقين المذمومة ، ولتحذير المسلمين وإنذار الناس منهم ومن الضرر الذي يترشح عن أقوالهم وأفعالهم والإنصات لهم .
لذا فان آية البحث رحمة لكل إنسان وقد تنظر بعض الطوائف أو الأفراد لقول وفعل المنافقين بما هم مسلمون ، فجاءت آية البحث لفضحهم وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بأن يخرج المسلمون بآية البحث للناس ويخبروهم بأن المنافقين لا يمثلون منهاج الإسلام فيكون من مصاديق الجمع بين آية البحث وآية السياق وجوه :
أولاً : والرسول يدعوكم للتبرأ من فعل المنافقين .
ثانياً : والرسول يدعوكم لتحذير الناس من المنافقين .
ثالثاً : والرسول يدعوكم لشكر الله عز وجل على نزول آية البحث بفضح المنافقين وإبطال سحرهم وإثبات زيف قولهم .
رابعاً : والرسول يدعوكم للدفاع عنه ورد كلام المنافقين بخصوص معركة أحد .
المسألة السابعة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : لقد أراد الله عز وجل حصانة أجيال المسلمين والمسلمات من آفة النفاق وإلى يوم القيامة , وتتجلى هذه الحصانة بمصاحبة كل من :
الأول : نيل أتباع الرسالة الخاتمة لشرف الدعوة السماوية من عند الله عز وجل .
الثاني : تلقي وسماع دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن مصاديق نيل المسلمين مرتبة [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) مصاحبة دعوة سيد الأنبياء والمرسلين للمسلمين والمسلمات في كل زمان ومكان , وهذه الدعوة خير محض.
الثالث : الوقاية من النفاق والمنافقين .
ويدعو الجمع بين الآيتين المسلمين والمسلمات إلى الأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بمضامينه ، ومن الإعجاز في هذا الجمع تضمنه لتعدد الدعوة والقول من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم للإصغاء لقوله.
الثاني : والرسول يدعوكم لمحاكاته في قوله .
الثالث : والرسول يدعوكم لتقولوا للمنافقين مثل قوله .
الرابع : والرسول يدعوكم للتدبر في أثر قوله للمنافقين من جهات :
الأولى : أثر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنافقين والذي أمره الله تعالى به , وهو على وجوه :
أولاً : إمتناع المنافقين عن قول [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ شيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا].
ثانياً : إدراك المنافقين لقانون فضحهم ولحوق الخزي بهم.
ثالثاً : توجيه المنافقين اللوم لأنفسهم على خذلانهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويبين فعل المنافقين في ترك نصرته في معركة أحد وأدعائهم الباطل لإرادة جعل موضوعية لرأيهم والإنتفاع من خبرتهم في القتال سبباً لتدارك الضرر الذي لحق بالمسلمين .
الثانية : إنتفاع المسلمين من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين بأن الأمر كله لله وتلقيهم الحجة التي تجعل المسلمين أكثر إيماناً ، والمنافقين أكثر وهناً وضعفاً .
الثالثة : ترغيب الناس بدخول الإسلام لبيان القرآن والنبي بأن الأمر كله لله وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليس له من الأمر شيء ،إنما هو الوحي سواء بخصوص معركة أحد أو بيان الأحكام الشرعية .
الرابعة : إدراك الذين يرغبون بدخول الإسلام بلزوم الوقاية من النفاق والحذر من الإسلام وهم منزهون عن النفاق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ] ( ) .
فيكون من نصر الله سلامة الإسلام من النفاق ، ودخول الأفواج من الناس , وإنحسار أثر المنافقين.
الوجه الثاني : بيان التباين في موضوع خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المتوجه إلى المؤمنين والمتوجه إلى المنافقين إذ يأتي نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المؤمنين بصيغة الدعوة والجذب إلى مقامات الهداية والأمن ، بينما يأتي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين بلغة الإحتجاج واللوم ، ومن خصائص هذا التباين جعل المسلم في حال إمتحان وميله لإختيار تلقي الخطاب بصفة الإيمان مع الإبتعاد عن منازل النفاق .
وهل يحتاج المؤمنون الذين قاتلوا تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد أن يقال لهم [قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ] .
الجواب نعم ، وهو من نعمة الله عز وجل عليهم ، صحيح أنهم بادروا للخروج للقتال , لكن هذه الآية موعظة وقانون كلي ولا يختص بالمنافقين , وهو من الإعجاز في عموم النفع من اللفظ القرآني ، وما في القرآن من صيغ الإحتجاج ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]أمور:
الأول : الدعوة إلى التوكل على الله وتفويض الأمور إليه سبحانه.
الثاني : المبادرة للرجوع إلى ميدان القتال لعدم الملازمة بين الرجوع إلى ميدان القتال وبين القتال , وكذا ليس من ملازمة بين الهروب والفرار من المعركة وبين النجاة والسلامة .
الثالث : والرسول يدعوكم لتلاوة آية البحث ، وما فيها من الإحتجاج على المنافقين .
الوجه الثالث : أخبرت الآية السابقة عن دعوة الرسول بصيغة الغائب وذكرت دعوته ونداءه للمؤمنين من غير أن يكون هناك برزخ بينه وبينهم مما يدل على عجز الذين كفروا عن حجب دعوة الرسول عن المسلمين، وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية , وعجز الذين كفروا هذا من مصاديق قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] كما يدل على عجزهم عن التفريق بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في حال السلم والمهادنة من باب الأولوية القطعية .
فمع شدة القتال فان المسلمين ينصتون إلى قول ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يناديهم : إلي عباد الله، إلي عباد الله( )، ويدل هذا النداء بالدلالة التضمنية على كون دعوتهم للرجوع إلى ميدان المعركة وموضوعها ومضمونها الأمن والسلامة والرجوع إلى كنف النبوة، والصدور عن الوحي والتنزيل، لتتجلى معجزة من معجزات النبوة، وآية من وجوه :
أولاً : توالي نزول النعم على الأفراد والناس عامة .
ثانياً : عدم مغادرة النعمة التي ينزلها الله الأرض , وإن إنقضى موضوعها وزال سببها ورحل إلى الدار الآخرة الذي نزلت عليه النعمة متحداً كان أو متعدداً .
ثالثاً : تأتي النعمة على نحو القضية الشخصية فيتفضل الله عز وجل ويجعلها نعمة عامة ينتفع منها الناس مباشرة وبالواسطة .
رابعاً : نزول النعم مناسبة لتوجه الناس بالدعاء والسؤال لله عز وجل لتجدد النعمة والفوز بها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) .
ومن أسرار ذكر النعم الإلهية على الأنبياء والناس في القرآن بأن يتوجه المسلمون لسؤال الله عز وجل للفوز بمثل هذه النعم .
لقد تفضل الله عز وجل وحث المسلمين على الإقتداء بالأنبياء بقوله تعالى في الثناء على الأنبياء والترغيب بأتباع سنتهم [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ) وكما أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ومن ورائه الذين آمنوا بالإقتداء بالأنبياء السابقين فانه سبحانه يتفضل عليهم بذات النعم ، وهل هناك قيد وتقييد لنزول هذه النعم على المسلمين باقتدائهم بالأنبياء على نحو المطابقة والمماثلة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ولأن شرائط مخصوصة من مراتب التقوى والجهاد في سبيل الله علة تامة لنزول هذه النعم , الجواب لا دليل عليه .
ومن فضل الله عز وجل أنه يعطي الكثير بالقليل ومن بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة الفوز بالنعم ، ومنه في المقام أن الله عز وجل أنعم على إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار بالنجاة منها بقوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) .
لبيان قانون وهو أن قوى الطبيعة القاهرة لا تضر الإنسان إلا بمشيئة من عند الله , وأنه سبحانه يمنع جريان قانون سلطان هذه القوى حيث يشاء وكيف يشاء بما فيه منع أثر هذه القوى مع بقاء ذات ماهيتها , وعدم سلب أو فقد أي سبب من أسباب الأثر والتأثير .
وتجلت هذه النعمة بسلامة المؤمنين من القتل والقتال عند عودتهم إلى ميدان القتال بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكأن قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] أي يدعوكم إلى الأمن والسلام والنجاة ، فقد ظنت طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم بفرارهم وهزيمتهم من ميدان المعركة النجاة ، فتفضل الله وجعل سلامتهم ونجاتهم من القتل بالعودة إلى ميدان المعركة بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، ليكون في الآية حذف , وتقديره على وجوه :
أولاً : والرسول يدعوكم للفوز بذات النعمة التي نالها إبراهيم عليه السلام بالنجاة من النار .
ثانياً : والرسول يدعوكم لنيل النعم التي أكرم الله بها الأنبياء .
ثالثاً : والرسول يدعوكم لهداية الناس للنعم التي تفضل الله عز وجل بها على الأنبياء .
رابعاً : والرسول يدعوكم لقتال الذين كفروا بالنعم التي أنزلها الله عز وجل على الأنبياء ، بلحاظ ان الشرك بالله الذي يتصفون به أم الكبائر وسبب لإنكار النعم والجحود بها ، فيكون قتال المسلمين في معركة بدر وأحد ونحوها على وجوه :
الأول : تأكيد نعم الله عز وجل بالهداية إلى الإيمان ، وهو من أعظم النعم ، وفي التنزيل [وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ] ( ).
الثاني : الثبات على الإيمان الذي هو الطريق الوحيد للفوز بالنعم التي رزقها الله سبحانه الأنبياء .
الثالث : منع الذين كفروا من صد الناس عن السعي إلى النعم وإكتسابها .
الرابع : قتال المسلمين للذين كفروا من أجلهم ونفعهم وتقريبهم إلى سبل التوبة والإنابة التي هي طريق مبارك إلى نيل النعم , وهو من عمومات قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
ومن فضل الله أن النعم التي تفضل الله بها على الناس تفوق الإحصاء , وكل نعمة تدعوهم للنهل والإغتراف منها ومن غيرها.
ومن توالي النعم على المسلمين في المقام ورود الإطلاق في قوله تعالى في الآية السابقة [فِي أُخْرَاكُمْ] لبيان فوزهم جميعاً بنعمة الأمن والسلامة ، ويدل هذا التقييد على أن الأمن والسلامة تشمل الذين بقوا في مواضعهم ولم يفروا ولم ينهزموا من باب الأولوية القطعية لأن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين الذين إنهزموا بسبب شدة القتال جاءت ليكونوا مع الذين ثبتوا في مواضعهم لتتغشاهم رحمة الله .
وقد تقدم في الآيات السابقة من هذه السورة إخبار القرآن عن ثبات أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا معهم , وسألوا الله تثبيت أقدامهم والنصر على القوم الكافرين ، وقال الله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] ( ).
وجاءت خاتمة الآية أعلاه بقانون كلي ينبسط على كل أيام الحياة الدنيا وهو من الشواهد على بقاء أحكام القرآن وما فيه من الوعد والوعيد إلى يوم القيامة.
وهل يمكن إستقراء قانون من هذه الخاتمة أنها في كل زمان هناك محسنون يحبهم الله ، الجواب يمكن إستقراء هذا القانون من آيات أخرى كما في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لقد أنزل الله عز وجل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتتلوه أجيال المسلمين وإلى يوم القيامة على نحو الوجوب العيني في الصلاة وهو من أبهى معاني الإحسان ، ويأتي ثباتهم في ميدان القتال في معركة بدر وأحد مماثلاً لفعل وجهاد وإحسان أصحاب الأنبياء من الأمم الأخرى كما في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ).
الوجه الرابع : يؤكد الجمع بين الآيتين البركات التي تترشح عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن دعوته ، فذات الدعوة نعمة خاصة تتجلى فيها فيوضات من عند الله على الذين توجهت وتتوجه لهم ، سواء كانت دعوة خاصة أو عامة في موضوعها لقانون الملازمة بين النبوة والبركة وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : ما يأتي به الرسول رحمة وبركة .
الصغرى : دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد مما جاء به من عند الله .
النتيجة : دعوة الرسول لأصحابه يوم أحد رحمة وبركة .
ومن بركات دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بيان الأمن والسلامة للمؤمنين بقوله تعالى [وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] ( ) في الحجة والبرهان وفي عالم الآخرة .
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو أصحابه ويحتج على المنافقين ، لتكون هذه الدعوة نوع إحتجاج وزجر للمنافقين ، ويكون قوله وإحتجاجه على المنافقين دعوة لأصحابه للعودة إلى ميدان المعركة من غير أن يلزم بينهما الدور .
إن قوله تعالى [قل] خطاب متجدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين فانتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى في السنة الحادية عشرة للهجرة ، ولكن كلاً من دعوته وقوله باقيان إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة اليومية ، وفيه حجة على الكافرين والمنافقين إذ أنهم إنسحبوا وسط الطريق وصدوا الناس عن الخروج لمعركة أحد وغيرها من معارك الإسلام ، لذا ورد قوله تعالى حكاية عن المنافقين يوم القيامة [يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ] ( ) .
ومن معاني المعية في الآية أعلاه أن المنافقين يقولون للمؤمنين ألم تكن نصلي معكم ونقف في صفوف صلاة الجماعة ، وعن ابن عباس قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده ، وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نوراً وكل منافق نوراً فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات ، فقال المنافقون : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ]( ) وقال المؤمنون : { ربنا أتمم لنا نورنا } فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً) ( ).
وبلحاظ آية البحث تحتمل دعوة الرسول الواردة في آية السياق وجوهاً:
أولاً : والرسول يدعوكم لتبرزوا إلى مضاجعكم ومصارعكم .
ثانياً : والرسول يدعوكم للأمن والسلامة من البروز إلى المضاجع ومواطن القتل .
ثالثاً : والرسول يدعوكم ليبرز بعضكم إلى مضاجعهم .
رابعاً : والرسول يدعوكم لتعودوا إلى ميدان المعركة , وهو القدر المتيقن من ظاهر الآية الكريمة .
خامساً : والرسول يدعوكم ليمحو الله عنكم القتل يوم معركة أحد .
والمختار هو ثانياً ورابعاً وخامساً أعلاه .
ومن الإعجاز في المقام عدم وقوع قتال يوم معركة أحد بعد دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع ، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج (قال : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشعب يوم أحد ، فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وما فعل فلان؟ فنعى بعضهم لبعض ، وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل ، فكانوا في هم وحزن .
فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل ، وكان على أحد مجنبتي المشركين وهم أسفل من الشعب ، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرحوا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم لا قوّة لنا إلا بك ، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر ، فلا تهلكهم .
وثاب نفر من المسلمين رماة ، فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله ، وعلا المسلمون الجبل ، فذلك قوله { وأنتم الأعْلَوْنَ إن كنتم مؤمنين })( ).
أي أن المسلمين تداركوا خطأ الرماة بالنزول من الجبل , فعادوا وصعدوا الجبل ورموهم من جديد فهزموهم.
وستبقى دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ضياء ينير دروب المسلمين , ويبعثهم على الإنصات لدعوة وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوارد في القرآن بلفظ (قل) وأخبار السنة النبوية .
المسألة الثامنة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم وليبتلي ما في صدوركم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : جاءت كل من الآيتين بلغة الخطاب المتوجه للمسلمين ، وتحتمل النسبة بين دعوة الرسول وبين الإبتلاء المذكور في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي بين الذين دعاهم رسول الله ممن حضر المنازلة والمواجهة مع الذين كفروا في يوم معركة أحد والذين يبتليهم الله عز وجل بما في صدورهم .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الذين تتوجه لهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع إلى ميدان المعركة أكثر وأعم .
الثانية : الذين يبتليهم الله ويمحص ما في قلوبهم أكثر وأعم من الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء , وأخرى للإفتراق بين دعوة الرسول والإبتلاء ما في الصدور .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه , وهو من إعجاز القرآن وأسباب الرحمة العامة في معركة أحد وغيرها .
لقد كانت معركة أحد إمتحاناً للمسلمين ومناسبة لتجلي آيات الإيمان بالإخلاص في الدفاع عن النبوة ودفع الذبن كفروا عن المحرمات ، وليكون صبرهم فيها مقدمة لصبرهم ومرابطتهم في معركة الأحزاب وتجلدهم في معركة حنين التي فاجأهم فيها كفار ثقيف وغطفان بهجوم سريع ومباغت ، قال تعالى [هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا] ( ).
وجاء الإبتلاء عاماَ يتغشى عموم المسلمين , ويخرج ما في صدورهم كي تنكشف بواطن المنافقين طوعاً وقهراً وإنطباقاً ويأتي هذا الكشف بلحاظ الجمع بين الآيتين من جهات :
الأولى : دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين للرجوع إلى ميدان المعركة ، فالمنافق يصد ويمنع من الرجوع وإن توجهت الدعوة إليه فهو يتردد في الرجوع , ويجد الأعذار ويذكر أسباباً لتلكئه وخذلانه .
وورد في التنزيل في ذم المنافقين إعتذارهم يوم الأحزاب [يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( ).
الثانية : إدراك المنافقين لحقيقة تتجلى عن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهي لزوم العودة إلى ميدان المعركة عند تلقي النداء النبوي .
وتقدير الآية : والرسول يدعوكم فيجب أن تعودوا ، لتبعث الدعوة والإستجابة لها الفزع في قلوب الذين كفروا وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
الثالثة : نزول النعاس فضلاً من عند الله في آخر معركة أحد على المؤمنين خاصة .
الرابعة : معرفة المنافقين بانشغالهم بأنفسهم وسوء ظنهم بالله عز وجل.
الخامسة : الإبتلاء الذي تذكره آية البحث وكشفه لما في الصدور ومواطن الأمور .
وفيه دعوة للتنزه عن النفاق , وبيان أنه شر محض وضرر على النفس والأمة ليكون هذا الكشف من أسرار إتحاد لغة الخطاب في آية البحث والآية التي قبلها وهي آية السياق ، وهو من إعجاز القرآن بأن يكون الخبر الوارد في القرآن مدرسة للأجيال وذخيرة للمؤمنين في النشأتين .
الوجه الثاني : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار , ويواجه الإمتحان في الدنيا الإنسان مطلقاً ، ليس من فرد معفو منه , ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم معصوم من الزلل والذنب فقد تفضل الله عز وجل وخاطبه [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] ( ) وفي دعوة الرسول إبتلاء وإختبار للمؤمنين والمنافقين والذين كفروا .
أما المؤمنون فيجب أن يستجيبوا للدعوة الرسالية , وفي هذه الإستجابة أمور :
الأول : أنها شاهد على طاعتهم لله ورسوله .
الثاني : هذه الإستجابة مناسبة لتلقي شآبيب الرحمة من عند الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثالث : تجلي قانون الملازمة بين العز والإستجابة لدعوة الرسول .
الرابع : ترشح النصر والغلبة عن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والإستجابة لها ، وتقدير الآية : والرسول يدعوكم للعودة لجلب النصر والغلبة في المعركة .
الخامس : بيان الفيوضات والإعجاز المتولد عن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , فذات الدعوة معجزة وبلحاظ أمور :
أولاً : كل فعل من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة .
ثانياً : مجي دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في ساعة الضيق والشدة .
ثالثاً : لقد بينت آية السياق في مفهومها حقيقة وهي أن دعوة الرسول بداية نهاية معركة أحد ، إذ لم يحدث بعدها قتال أو مبارزة ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم لإنتهاء وإنهاء المعركة .
الثاني : والرسول يدعوكم لتفقد القتلى ومداواة الجرحى .
الثالث : والرسول يدعوكم لتشكروا الله على إنتهاء معركة أحد من غير هزيمة المسلمين .
الرابع : والرسول يدعوكم للشهادة بأن المسلمين ثبتوا في الميدان وإنتهت المعركة , وهم لم يغادروا أو يبتعدوا عن جبل أحد مما يدل على سلامتهم من الهزيمة .
والنسبة بين الهزيمة والفرار الموضعي عموم وخصوص مطلق ، فالهزيمة أعم ، أما الفار من الجيش فقد يعود إليه ، لذا فان قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] للعودة للفئة والتحيز إليها والكر للرجوع لقتال العدو ، قال تعالى [وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ] ( ) .
ومعنى متحرفاً لقتال أي يتقهقر قهرياً أو أنه خدعة يظن العدو أنه إنهزم أمامه , وهو من معاني (الحرب خدعة ) ومن الإعجاز في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
أولاً : جعلت الدعوة الرسالية فرار المؤمنين يوم معركة أحد كالخدعة والتحرف لقتال إذ سرعان ما عادوا إلى وسط المعركة .
ومن الإعجاز في آية السياق مجئ الدعوة بصفة الرسالة , وليس النبوة، فلم تقل الآية: والنبي يدعوكم.
ووردت هذه الآيات المعطوف بعضها على بعض إبتداءً من قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، خطاباً للمسلمين، ولم يرد فيها ذكر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا في آية السياق مع أنه الإمام والقائد لهم في معركة أحد.
وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي وليس العكس.
ومن أسرار مجئ صفة الرسالة في آية السياق، مسائل :
الأولى : توجه دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسلمين جميعاً.
الثانية : بقاء دعوة الرسول حاضرة بين الصحابة لتكون قانوناً في كيفية التدارك في القتال، وتتضمن دعوة الرسول في مفهومها ومن باب الأولوية نهي المسلمين عن الفرار من المعركة .
والنبوة مشتقة من النبأ , وهو الخبر لأن النبي يخبر عن الله عز وجل.
أما الرسول فهو مأخوذ من الإرسال بمعنى التوجيه والبعث لبيان حقيقة من جهات :
الأولى : نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع جزء من الرسالة من عند الله .
الثانية: هذه الدعوة من عمومات قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ) .
الثالثة : هذه الدعوة أمر نازل من عند الله عز وجل ليتعقبها الأمنة والنعاس في النزول.
ثانياً : هذه الدعوة من التحيز إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجماعة المؤمنين الذين ثبتوا في الميدان ، ليكون التحيز والعودة إلى الرسول , وإلى ميدان القتال في معركة أحد أمراً محموداً ونادراً , إذ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون الذين ثبتوا في الميدان فئتهم .
فان قلت : قد ورد في السنة القولية في غير معركة أحد ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فئة المسلمين الذين فروا إلى المدينة كما ورد عن ابن عمر (قال : كنا في غزاة ، فحاص الناس حيصة قلنا : كيف نلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟! فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فخرج فقال من القوم…؟ فقلنا : نحن الفرارون . فقال : لا بل أنتم العكارون( ).
فقبلنا يده , فقال : أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ، ثم قرأ { إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة })( ) والجواب ورد الحديث أعلاه عند عودة المسلمين فارين إلى المدينة ولقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها .
أما العودة في معركة أحد , فتتصف بأمور :
الأول : لم يبتعد المسلمون عن ميدان المعركة كثيراً ولم يذهبوا إلى المدينة .
الثاني : دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بالعودة إلى القتال ، فلم يعتذر عنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدفع عنهم ، أو يأذن لهم بمغادرة ميدان المعركة بل دعاهم للرجوع إليها .
الثالث : إقتران هذه الدعوة بضمان أمنهم وسلامتهم ، وهو أعظم وأبهى من الإعتذار عنهم .
الرابع : تبعث عودة المسلمين إلى ميدان معركة أحد الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا أمس واليوم وغداً .
ثالثاً : إتصاف الإستجابة لدعوة الرسول بأنها تحيز إلى فئة وتحرف للقتال في آن واحد .
رابعاً : عودة المسلمين لميدان المعركة بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأسيس لقانون وهو عودة المسلمين إلى ميدان المعركة لاحقاً إذا فروا منها بلحاظ كبرى كلية وهي تجدد دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للذين يفرون من ميدان المعركة سواء في حياته أو بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى وهو من أسرار إنتصار المسلمين في حروب الردة مع شدة القتال فيها .
لقد أبتلي المؤمنون بدعوة الرسول فاستجابوا لها وفازوا بالإختبار فتحقق لهم الأمن في المعركة وما بعدها بآيات جلية , وصارت هذه الإستجابة سلاحاً للعبور على الصراط يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وأما بالنسبة لإبتلاء وإختبار المنافقين في دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى ميدان المعركة فانها على وجوه :
الأول : دعوة المنافقين للعودة مع المؤمنين إلى ميدان المعركة ، وهو من الإعجاز في صيغة العموم التي تدل عليها ميم الذكور في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] .
الثاني : حث المنافقين على التوبة والإنابة وتنزيه بواطنهم من النفاق والرياء .
الثالث : فضح المنافقين الذين يصرون على الإمتناع عن الدفاع عن الإسلام وعن أنفسهم وأهليهم .
الرابع : توبيخ وتبكيت المنافقين بأمور :
أولاً : في دعوة الرسول للرجوع إلى ميدان المعركة خير الدنيا والآخرة .
ثانياً : حرمان المنافقين أنفسهم من نعمة الإستجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ومن الآيات أن هذه النعمة توليدية تتفرع عنها نعم عديدة .
ثالثاً : بيان قانون مستديم وهو عدم ترتب الأثر والضرر على المؤمنين فيما يصدر من المنافقين من الصدود وبث الشك وأسباب الريب.
رابعاً : بعث روح الندم والحسرة في قلوب المنافقين والذين رجعوا معهم وسط الطريق إلى معركة أحد ، فقد حرموا أنفسهم من دعوة الرسول ومن الإستجابة لها ، وما يترشح عن هذه الإستجابة من الخير والبركة .
ومن الإعجاز في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدع الذين إنسحبوا وسط الطريق إلى معركة أحد مع أن عددهم نحو ثلاثمائة ولم يطلب منهم العدول عن الإنسحاب ، وفيه شاهد بأن قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] نعمة عظمى إدخرها الله عز وجل للمؤمنين ، وإختار المنافقون حجبها عن أنفسهم ، والإمتناع عن الفوز بها ، قال تعالى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
وأما إبتلاء الذين كفروا بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهي من وجوه :
أولاً : إقامة الحجة على الذين كفروا وتأكيد ظلمهم لأنفسهم وتعديهم وفسادهم في الأرض .
ثانياً : زجر الناس عن محاربة النبوة والتنزيل فان الذين كفروا زحفوا بثلاثة آلاف رجل لقتال المسلمين ، فتلقوهم بسلاح [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] فعاد الذين كفروا بخيبة وإنكسار ، قال تعالى في نعت وذم الذين كفروا يوم أحد [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ].
ثالثاً : فضح الذين كفروا وبيان قبح فعلهم باعراضهم عن النبوة والتنزيل ومحاربتهم المسلمين .
رابعاً : ترتب الإثم وإستحقاق الذين كفروا العقاب والعذاب الأليم بسبب جحودهم بالآيات الباهرات التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الوجه الثاني : لقد أخبرت آية البحث عن إبتلاء وإمتحان المسلمين بكشف ما صدورهم من الإيمان باستقراء مفاهيم الهدى في قلوبهم بالإختبار والإمتحان يوم معركة أحد ، ومن مصاديق الإختبار في المقام ودعوة الرسول بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] بيان أنها نوع إمتحان .
وهل يشمل الإمتحان بها الذين ثبتوا في الميدان ، وإن لم يشملهم فهل يحرمون من ثواب الإستجابة لها .
الجواب توجهت دعوة صلى الله عليه وآله وسلم للذين إنهزموا من الميدان أما الذين ثبتوا فيه فلا تتوجه لهم هذه الدعوة لأنهم لم يغادروا مواضعهم في القتال ، نعم يأتيهم وبفضل الله ثواب الإستجابة لهذه الدعوة , وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : والرسول يدعوكم لتكونوا مثل إخوانكم الذين ثبتوا في مواضعهم .
ثانياً : والرسول يدعوكم للفوز بثواب الإستجابة الذي فاز به الذين ظلوا يقاتلون دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : والرسول يدعوكم لإيمانكم وتصديقكم برسالته .
وتحتمل النسبة بين دعوة الرسول وإبتلاء المسلمين بما في صدورهم وجوهاً :
الأول : ذات دعوة الرسول إبتلاء وإمتحان لما في الصدور .
الثاني : يترشح الإبتلاء عن دعوة الرسول من جهة لزوم الإستجابة لها .
الثالث : موضوع الإبتلاء هو ما بعد دعوة الرسول والإستجابة لها ، لبيان إنتقال المسلمين إلى حال جديدة بعد دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تتقوم باجابة المسلمين لدعوته في ساحة الجهاد ولإرادة القتال ليبعث الفزع في قلوب الذين كفروا ، وليدل بالأولوية القطعية على إستجابة المسلمين لدعوة الرسول في حال الرخاء واليسر , ويدل على تلقيهم الأحكام الشرعية بالقبول والإمتثال .
الرابع : ليس من صلة بين دعوة الرسول في آية السياق وبين الإبتلاء بكشف ما في الصدور الذي تذكره آية البحث .
وباستثناء الوجه الرابع أعلاه فان الوجوه الثلاثة الأخرى كلها من مصاديق الجمع بين الآيتين ومضامين ودلائل نظم الآيات والمسائل المستنبطة منها .
ويمكن قراءة الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم ليبتلي الله ما في صدوركم لبيان قانون وهو أن العلة الغائية من دعوة الرسول لأصحابه للعودة إلى ميدان المعركة هو إبتلاء ما في صدورهم .
الوجه الثالث : لقد نادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين في ساعة من نهار يوم معركة أحد ودعاهم إليه وندبهم للرجوع إلى ميدان المعركة وتدارك حال الفرار , ليبقى هذا النداء خالداً إلى يوم القيامة تقتبس منه المواعظ , وتستنبط منه المسائل والمفاهيم .
ومن إعجاز الآية أنها جاءت بصيغة الخطاب , وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو المسلمين في كل زمان ومكان وحينئذ هل تختص الدعوة بالقتال .
الجواب لا ، لذا لم تقيد الآية موضوع الدعوة أو تحصره في لفظها بخصوص معركة أحد , فجاءت آية السياق بصيغة المضارع الذي يفيد التجدد ، وفيه ندب لتعاهد الفرائض وإتيان الواجبات ، فقد دحض الله الباطل ، وإندحر الذين كفروا في معارك الإسلام الأولى ، وتم الفتح وبدأت صفحة مشرقة جديدة من أيام الحياة الدنيا تتقوم بأداء العبادات والفرائض طاعة لله ورسوله من غير أذى أو ضرر من قبل الذين كفروا وهو من مصاديق [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] وتقدير الآية على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم لإقامة شعائر الله بعد هزيمة الذين كفروا .
الثاني : والرسول يدعوكم للتخفيف عنكم بجهاده والمؤمنين الصابرين في الميدان.
الثالث : والرسول يدعوكم لإتباع نهجه وسنته .
الرابع : والرسول يدعوكم ليبتلي الله ما في صدوركم بلحاظ كبرى كلية وهي أن هذا الإبتلاء رحمة وفضل من عند الله .
الخامس : والرسول يدعوكم للنجاة والنجاح في الإبتلاء والإمتحان .
ومن الإعجاز في نظم الآيات مجئ آية والبحث بصيغة المضارع أيضاً بقوله تعالى [لِيَبْتَلِيَكُمْ] لتكون دعوة الرسول على وجوه :
الأول : دعوة الرسول مقدمة لإمتحان وإختبار المسلمين وكشف ما في صدورهم من مفاهيم التقوى .
الثاني : مصاحبة دعوة الرسول للإبتلاء والإمتحان فيسيرون بعرض واحد ويحضرون عند المؤمن .
الثالث : دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين مدد لهم للتوفيق في ضروب الإبتلاء .
الرابع : من فضل الله عز وجل على المسلمين دعوة الرسول لهم ، وكذا إختبار وكشف ما صدورهم من مفاهيم التقوى .
الخامس : دعوة الرسول للمسلمين من افراد إبتلائهم وإظهار ما يضمرونه في صدورهم .
السادس : دعوة الرسول هي ذاتها موضوع الإبتلاء الذي تذكره آية البحث في قوله تعالى [لِيَبْتَلِيَكُمْ] .
السابع : إجتماع دعوة الرسول والإبتلاء لإظهار ما في الصدور باب لنزول رحمة الله على المؤمنين .
الثامن : حضور دعوة الرسول للمؤمنين عند أوان إبتلائهم بالكشف عما في صدورهم سبب للتوفيق والنجاح في الإبتلاء ، بأن تتجلى معالم الإيمان وسنخية التقوى التي يتصفون بها .
المسألة التاسعة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم وليمحص الله ما في قلوبكم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) توجه دعوة خاتم الأنبياء لهم والتي هي خير محض وسبيل هداية وباعث على السكينة .
ومن الإعجاز في آية السياق أنها لم تقيد موضوع دعوة الرسول إنما أخبرت بأنها تأتي للمسلمين في أخراهم لتكون نوع واقية لهم ، وتأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم فتكون آيات القرآن ضياء ينير دروب المسلمين.
وتأتي دعوة الرسول في أخراهم لبعثهم على العمل بأحكام القرآن والسنة ، وهل من موضوعية لدعوة الرسول للمسلمين في صيروتهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )الجواب نعم ، سواء الدعوة لهم بالعودة إلى ميدان القتال أو الدعوة لتعاهد أحكام الإسلام وسنن الفرائض .
ويمكن تأسيس قانون وهو كل حديث نبوي نداء ودعوة للمسلمين ، فالحديث النبوي كنز وذخيرة بيد المسلمين يدعوهم لتعاهد سنن الأخوة بينهم والإجتهاد في طاعة الله ، ونبذ الفرقة والخصومة ، ومن مصاديق نبذها تعاهد الفرائض العبادية ، وقد ضمن لهم الكتاب والسنة الوقاية من الإختلاف بها أو لسببها ، وجعلها الله عز وجل دعوة للوحدة والصلاح والنجاح في الدنيا والآخرة .
لقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى ميدان المعركة تطهيراً وتمحيصاً لهم من جهات :
الأولى : بيان منافع صحبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها تقي من العثرة والزلة والهزيمة ، فان قلت ما هو حال الذين بعد جيل وزمن الصحابة ، والجواب هو حضور هذه الدعوة بآية السياق في كل زمان ، وهو من إعجاز القرآن ونضارته وتجدد مضامينه مع تقادم الأيام .
الثانية : عصمة المؤمنين من النفاق والشك إذ أن دعوة الرسول تذكير بقبح النفاق وأسباب الريب ، وهو من الإعجاز بأمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في معارك الإسلام الأولى ، وكان عدد الغزوات التي خرج فيها الرسول بنفسه هي سبع وعشرون غزوة كما عن ابن إسحاق ( )و بلغ عدد السرايا ستاً وخمسين سرية .
ويحتمل موضوع دعوة الرسول في المقام وجوهاً :
الأول : إختصاص الدعوة بمعركة أحد .
الثاني : شمول دعوة الرسول للغزوات التي قاتل فيها وعددها تسع غزوات من مجموع الغزوات التي خرج فيها بنفسه وإن لم يقاتل فيها .
الثالث : تجدد دعوة الرسول للمؤمنين حتى في المعارك التي لم يقاتل فيها .
والمختار هو الأخير .
وهو من أسرار ذكر دعوة الرسول في القرآن ليترشح تمحيص وتطهير قلوب المسلمين عند كل غزوة ، وإن كان هذا التمحيص لا يتعلق بذات دعوة الرسول بل هو نعمة من عند الله ومعلول لعلل لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله عز وجل ، وهو من أسرار ومصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة عندما سألوا عن خلافة آدم في الأرض إذ قال لهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فخروا سجداً لله عز وجل .
ومن معاني ومنافع تعدد العلل في المقام أنها مجتمعة ومتفرقة رحمة من عند الله ولطف يتفضل به سبحانه لتقريب المسلمين إلى مراتب الإيمان وعون لهم لتمحيص قلوبهم .
الوجه الثاني : يصح تقدير الآية : والرسول يدعوكم ليمحص الله ما في قلوبكم من غير ذكر (الواو) في وليمحص ، لبيان أن دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة لتنقيح صدور المؤمنين وإصلاح قلوبهم .
لقد جعل الله عز جل الإنسان كائناً محتاجاً ، وهذه الحاجة ملازمة لعالم الإمكان لبيان قانون وهو أن هذه الحاجة رحمة من عند الله عز وجل للناس عامة والمسلمين خاصة لأنها سبيل للهداية ونبذ للشرك والضلالة.
ومن خصائص الإنسان السعي لحاجته ومقدماتها , وهو محتاج في وجوده وإستدامة حياته وعمله إلى رحمة الله عز وجل فأختار المسلمون الإيمان بالله عز وجل وأقروا له بالوحدانية وأعلنوا تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتفضل الله عز وجل بتمحيص قلوبهم وتنقيتها من أدران الريب والشك وأسباب الوهن ، وأنعم عليهم بدعوة الرسول لهم التي هي إقالة للعثرة ومانع من الإستمرار في الفرار والهزيمة .
فأراد الله عز وجل أن يجمع للمسلمين العودة إلى ميدان القتال وتمحيص القلوب بلحاظ كبرى كلية وهي أن الفرار من ميدان المعركة والهزيمة سبب للوهن والضعف وباعث للحسرة في القلوب، والتلاوم بين أفراد الجيش المنهزمين.
وسيبقى قول الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إلي عباد الله إلي عباد الله انا رسول الله ) ( ) حاضره في حياة المسلمين، وضياء ينير لهم دروب العودة إلى ميدان المعركة ، وإلى سبل التوبة والهداية ، والتدارك بما فيه الصلاح والإصلاح .
وتحتمل موضوعية دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد من جهة تخليص قلوب المسلمين من الشك والريب وجوهاً :
أولاً : إرادة تنقية قلوب الذين إنهزموا بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حي في الميدان ويدعوهم للأمن والسلامة من الهزيمة .
ثانياً : المقصود تنقية قلوب المؤمنين الذين ثبتوا في الميدان بأن يروا أصحابهم الذين إنهزموا يعودون إلى الميدان ، وتقدير آية السياق : والرسول يدعوكم لتعودوا إلى أصحابكم وتقروا عيونهم وتبعثوا الطمأنينة في نفوسهم .
ثالثاً : يدعو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه ليرجعوا إلى ميدان المعركة , فتكون هذه الدعوة تنقية لقلوب المسلمين والمسلمات أوان معركة أحد , وسبباً لبعث السكينة والرضا في نفوسهم .
رابعاً : إرادة تنقية قلوب المسلمين والمسلمات بأجيالهم المتعاقبة بدعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالعودة إلى ميدان المعركة خاصة وأنه لم يقع قتال بعد هذه الدعوة والإستجابة لها بالعودة والإحاطة بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والصحيح هو الرابع أعلاه .
لقد كانت العرب بعضها يغير على بعض ، وتختار طائفة أو قبيلة الفرار والهزيمة إنتظاراً لفرصة للإغارة والمكر بالعدو أو رجاء الصلح والمهادنة ، أو الهجرة طلباً للسلامة , وجاء الإسلام بمنهاج جديد يتجلى بدعوة الرسول للمسلمين للعودة إلى ميدان المعركة ساعة إشتداد القتال وظهور العدو، وفيه تنقية لقلوبهم من الخشية من العدو مع كثرة أفراده وأسلحتهم وخيلهم .
ولم يخطر على بال وأوهام الذين كفروا عند إستعدادهم لمعركة أحد نحو سنة كاملة وعندما حضروا المعركة أن سلاحاً ماضياً عند المسلمين إسمه [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] يحول بينهم وبين الإنهزام ، ويكون سبباً لعودة المنهزم إلى ميدان المعركة وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء ودليل بأن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) لإتصافهم بخصلة حميدة وهي إذا فرّت وإنهزمت منهم طائفة فإنها تعود إلى المعركة بنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما فيه من بركات النبوة ، وفيه مسائل :
الأولى : بعث المؤمنين على الثبات في مواضعهم وإن رأوا فرار فريق منهم , لأن دعوة الرسول تعيد هذا الفريق إلى مواضعهم وإلى ميدان المعركة .
وتقدير آية السياق وبلحاظ عطفها على النداء بصيغة الإيمان( ): يا أيها الذين آمنوا الرسول يدعوكم للثبات في مواضعكم لأن أصحابكم الذين إنهزموا منكم يرجعون بدعوة الرسول لهم ) وهو من الإعجاز في تعدد معاني دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتنفع الذي بقي في موضعه من جهات :
الأولى : الثبات في موضع القتال .
الثانية : ملاقاة ومحاربة الذين كفروا في الميدان ، وصدهم وحجبهم عن بلوغ غاياتهم الخبيثة .
الثالثة : إستحضار المؤمنين لدعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم وللذين إنهزموا منهم .
الرابعة : تطلع المؤمنين إلى رجوع أصحابهم الذين فروا من ميدان المعركة للتسليم بوجود موضوع وإستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل إستبشر المؤمنون يوم أحد بدعوة ونداء الرسول بأنه إشعار بتوقف القتال ، وخيبة الذين كفروا.
الجواب نعم ، وهو المستقرأ من مضامين هذا النداء ، ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة للتوجه والسعي إليه (إليَّ عباد الله إليَّ عباد الله ) ( )وهو لم يقل لهم إلى ميدان القتال عباد الله أو إلي أيها الفارون ، بل نعتهم بأنهم عباد الله وفيه تزكية لهم .
وفيه مسائل :
الأولى : تجديد الثناء على المؤمنين الذين إشتركوا بالقتال في معركة أحد .
الثانية : ترغيب الذين فروا من المؤمنين بالعودة إلى ميدان القتال .
الثالثة : دلالة النداء في مفهومه على ذم المنافقين والذين رجعوا معهم من الطريق إلى معركة أحد ، والذين خسروا أموراً :
الأول : حرمان المنافقين أنفسهم من ذكر القرآن للمجاهدين بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) وهذا الحرمان من جهات :
الأولى : نيل شرف الذكر في القرآن بالمدح .
الثانية : الثناء الذي تتضمنه الآية أعلاه .
الثالثة : شهادة القرآن بحسن سمت المؤمنين وطاعتهم لله ورسوله .
الرابعة : تخلف المنافقين عن صفة الإيمان المقرونة بالجهاد والقتال التي تذكرها الآية أعلاه .
الثاني : فوات نعمة النعاس التي أنزلها الله عز وجل على المؤمنين يوم أحد كما تدل عليه آية البحث .
الثالث : الهمّ بحياة وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودوام نعمة التنزيل ، الذي يدل عليه قوله تعالى [قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] في مفهومه لما فيه من التعريض بالمنافقين .
وذكر بعض علماء التفسير ما يدل بأن الغم في قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا] أي جزاء لما غممتم رسوله .
الوجه الثالث : من خصائص معركة أحد ومعارك الإسلام الأولى الأخرى صيرورتها سبباً لتنقية قلوب المسلمين من درن الشك والريب وأسباب الوهن والضعف ومرض النفاق ، وليس من حصر لسبل هذه التنقية لذا تفضل الله عز وجل وخص معركة أحد بآيات عديدة تدل على صبر المسلمين وتحملهم الأذى الذي لاقوه من المشركين .
وبيّن الله سبحانه أنه مناسبة لصفاء القلوب والذي يترشح عنها تهذيب وصلاح المجتمعات إذ ينعكس هذا الصفاء بالتدبر في الآيات الكونية والمعجزات النبوية , ويكون برزخاً دون الفتنة والغل , وقال الشاعر :
وإن من الإخوان إخوان كشرة … وإخوان حيّاك الإله ومرحبا( )
لقد صارت معركة أحد مناسبة لإخراج المسلمين صدق إيمانهم بالثبات في القتال وسقوط الكثير من الشهداء دفاعاً عن كلمة التوحيد , وتأكيداً لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بها .
وهو من الإعجاز الغيري لآيات القرآن بأن يقدم المؤمنون أنفسهم شهداء في سبيل الله ، من أسباب رجحان كفتهم في القتال إذ يحرص الذين يلاقونهم من الكفار على أنفسهم وحياتهم الدنيا وتنعمهم فيها ، فيشحون بأنفسهم عن الموت وهو من الأسرار في سرعة إنسحاب الذين كفروا من معركة أحد ، فمع أنهم عملوا على مدار سنة كاملة لتجهيز الجيوش ، وحشدوا ثلاثة آلاف رجل خرجوا معهم من مكة أو إلتحقوا بهم في الطريق إلى معركة أحد فأنهم لم يصبروا في موضع المعركة يوماً واحداً .
ليكون من معاني قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] وجوهاً :
أولاً : عودة الذين كفروا إلى مكة على عجالة , وكأن أمراً ما حدث في مكة يستلزم منهم الرجوع بسرعة , ومن غير الإلتفات إلى الغايات التي خرجوا من مكة من أجلها ، ليبقى الأتباع الذين صاحبوهم من الأحابيش ونحوهم في ذهول من أمرهم ، وهو باعث على التدبر بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون حالهم هذا مرآة دنيوية لقوله تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا] ( ).
ثانياً : إتصاف الذين كفروا في إنقلابهم ودعوتهم بكونهم خائبين , وفي حسرة وندامة .
ثالثاً : والرسول يدعوكم لينقلب الذين كفروا خائبين ) فحالما رأوا عودة المؤمنين إلى ميدان القتال وإستجابتهم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بادروا إلى الإنسحاب والرجوع إلى مكة المكرمة .
رابعاً : أنزل الله عليكم أمنة نعاساً فينقلبوا خائبين ) لبيان علة إنقلاب الذين كفروا وهو الرعب والفزع الذي ألقاه الله في قلوبهم وضرب وحس وقتل الملائكة والمؤمنين لهم .
فمع أن جيش المسلمين في حال نعاس آخر المعركة فقد إنهزم الذين كفروا ولم يلتفتوا وراءهم .
وهل في إنقلاب الذين كفروا في معركة أحد خائبين تنقية لقلوب المؤمنين من الكدورات والشك والريب.
الجواب نعم ، لذا تفضل الله عز وجل وذكر وقائع معركة أحد على نحو التفصيل والبيان فينتقل سبعون شهيداً من المسلمين في يوم واحد وهو النصف من شهر شوال في السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة فيكون سبباً لفزع وهروب الذين كفروا ، ومناسبة لنقاء قلوب المسلمين وسلامتها وإلى يوم القيامة من النفاق والشك ، وهو من الشواهد على كون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بأن تقدم الشهداء فيصيب الذين كفروا الرعب والجزع والهلع ، ويسقط القتلى من الذين كفروا بذات العدد فيدخل الحزن ويدب الخوف في نفوسهم ، وهو من مقدمات قوله تعالى [وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً] ( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن قول وفعل الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد مناسبة لزيادة إيمان المسلمين وواقية من إطاعة الذين كفروا أو الأصغاء لهم ، فيحتاج الإنسان في ساعة الشدة والضيق المؤاساة وسماع ما يؤنسه , ويكشف كربه ومنه دعوته ونداؤه لأصحابه بالرجوع إليه واللواذ به .
الوجه الرابع : يمكن قراءة الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم وليمحص الله ما في قلوبكم ) لبيان تعدد فضل الله عز جل على المؤمنين يوم أحد , وتوالي النعم عليهم ،إذ أن دعوة الرسول نعمة ، وتمحيص القلوب نعمة أخرى .
الثاني : والرسول يدعوكم ليمحص الله ما في قلوبكم ) فتكون دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين يوم أحد علة لتمحيص وتنقية القلوب .
الثالث : والرسول يدعوكم ويمحص الله ما في قلوبكم ) لبيان أن كل نعمة مستقلة بذاتها .
ليكون من أسرار معركة أحد تعدد وتوالي النعم على المؤمنين وتعلقها بأمور الدين والأبدان والقلوب .
الرابع : وليمحص الله ما في قلوبكم إذ الرسول يدعوكم ) لتكون الإستجابة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته من الشواهد على طهارة قلوب المؤمنين وخلوها من النفاق ، إنها صفحة مشرقة في تأريخ الإسلام تؤسس للزوم سلامة المسلمين من آفة الشك والنفاق ، وبناء لصرح عقائدي متكامل يتقوم بالتسليم لله عز وجل بالربوبية والتصديق بالنبوة والتنزيل .
وهل يمكن تأسيس قانون وهو أن كل آية قرآنية وقول وفعل من السنة النبوية يتضمن في دلالته وأثره ونفعه تنقية لقلوب الذين آمنوا الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
ويدل الرجوع إلى ميدان المعركة عند سماع نداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على طهارة القلوب وحسن النية وهو وسيلة للمغفرة والإرتقاء في سلم الإيمان وفيه [تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى] ( ).
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعظ المسلمين ويدعوهم إلى الإجتهاد في طاعة الله والصبر على المكاره ، (عن العرباض بن سارية قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم ثم أقبل بوجهه علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل : يا رسول الله كأن هذه موعظة مودِّع فما تعهد إلينا؟ فقال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة .. الحديث ) ( ).
ومن خصائص دعوة ونداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنها باعث للألفة والمودة بين المسلمين وطرد لأسباب الخلاف والخصومة بينهم وواقية من حب الدنيا والإنقطاع إليها ، الذي يكون برزخاً دون نقاء وطهارة القلوب ، ليكون تقدير آية السياق على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم لإجتناب اللهث وراء زينة الدنيا .
الثاني : والرسول يدعوكم لترك إرادة الغنائم .
الثالث : والرسول يدعوكم لعبور الصراط بتنقية القلوب والتوفيق في أسباب تمحيصها .
لقد كانت دعوة الرسول للمؤمنين بالرجوع إلى الميدان إمتحاناً عسيراً لهم من جهة حال المشقة والضراء التي هم عليها ، إذ أن المعركة قائمة ، والجولة للذين كفروا ، ولكن اللطف الإلهي يتجلى في المقام من جهات :
الأولى : دعوة الرسول بوحي من عند الله ، قد تكرر لفظ [قل] في آية البحث ، فان دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من ذات سنخية القول لأنها نداء ، وبينها وبين لفظ [قل] المتكرر في آية البحث عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه :
أولاً : صبغة القرآنية لكل من الدعوة في آية السياق ، ولفظ [قل] في آية البحث .
ثانياً : كل من النداء والقول من الوحي .
ثالثاً : تعلق الأمرين بواقعة أحد .
رابعاً : تعلق موضوع كل من الدعوة والقول بشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو الذي يتوجه له الأمر من عند الله [قل] .
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
أولاً : التباين في الآية إذ ورد قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] في الآية السابقة ، بينما ورد لفظ [قل] في آية البحث .
ثانياً : مجئ لفظ [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] بصيغة الجملة الخبرية ، وورد لفظ [قل] بصيغة الأمر من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا كان لفظ [قل] أمراً إنحلالياً يتوجه إلى المسلمين والمسلمات جميعاً , وتقديره (قولوا) و(قلن).
ثالثاً :يحتمل موضوع الآية بخصوص المؤمنين وجوهاً :
الأول : إستقراء لزوم صدور ذات الدعوة من المؤمنين والمؤمنات ، وتقدير الآية على شعبتين :
الأولى : والمؤمنون يدعونكم .
الثانية : والمؤمنات يدعنكم .
الثاني : القدر المتيقن هو دعوة الرسول لأصحابه الذين فروا من ميدان المعركة ، ولتكون هذه الدعوة مما إختص الله عز وجل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما وردت دعوته ونداؤه في معركة حنين بأن أوعز إلى عمه العباس بن عبد المطلب وكان جهوري الصوت أن ينادي (عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم حنين حين رأى من الناس ما رأى: ” يا عباس ناد: يا معشر الانصار يا أصحاب الشجرة ” فأجابوه : لبيك لبيك ) ( ).
الثالث : تختص محاكاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والإقتداء به بخصوص دعوته لأصحابه بالرجوع بأهل البيت والمؤمنين من المهاجرين والأنصار الذين ثبتوا في الميدان يوم أحد .
الرابع : حصر الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته بأمراء السرايا والكتائب بأن يدعو الذين يفرون من أفراد الجيش بالرجوع إلى ميدان المعركة .
والمختار هو الأول أعلاه ، وهو من الإعجاز الذي يتجلى في لغة القرآن ، وصيغ الخطاب فيها ، فيكون المؤمن داعياً ومدعواً للرجوع إلى الميدان , وإلى أداء الفرائض وهو من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن غير أن يتعارض مع خصوص الموضوع. وفيه آية بلزوم الإلتفات إلى مواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتعيين شطر منها مما يتصف بالشأنية والأهمية ، وما يترتب عليه الأثر .
المسألة العشرون : تقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم في أخراكم والله عليم بذات الصدور ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : يتكرر حرف العطف (الواو) في الآيتين بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ]وقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ] وفيه دلالة على الصلة وإتحاد الموضوع في هذه الآيات ، ويدل إبتداء آية البحث بحرف العطف (ثم) على الترابط الموضوعي في هذه الآيات وتعلقها بخصوص معركة أحد لبيان قانون وهو علم الله عز وجل بتلقي المؤمنين دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالإستجابة التي تتجلى بالعودة إلى ميدان المعركة .
إن إختتام آية البحث بقانون عام من الإرادة التكوينية وهو علم الله عز وجل ببواطن الأمور وخفايا الصدور ، وفيه دلالة على أن الله عز وجل لا يريد من الإبتلاء والإختبار العلم وهو سبحانه [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ) إنما يتعلق الإبتلاء بترتب الثواب والعقاب وإطلاع الناس على الوقائع والأحداث بما يدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويجذبهم للإيمان ليدل قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] بلحاظ خاتمة آية البحث على أمور :
أولاً : والرسول يدعوكم وهذه الدعوة من علم الله عز وجل بذات صدوركم وتلقيكم الدعوة بالإستجابة .
ثانياً : من الشواهد على علم الله عز وجل بذات الصدور دعوة الرسول لكم في أخراكم .
ثالثاً : من علم الله بذات الصدور الحسرة والحزن الذي يلحقكم عند الإستمرار بالهزيمة، وترشح الإنكسار عنها ، فتفضل الله عز وجل بدعوة الرسول للمؤمنين بالعودة إلى ميدان القتال ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) فتقطع دعوة الرسول الوهن ، وتحول دون الضعف والخور ، وتمنع من الحزن من جهتين :
الأولى : يبحث الإستمرار بالهزيمة الحزن في النفس في كل من :
الأول :المنهزم والذي إختار الفرار .
الثاني : المصاحب للمنهزم أي أن المنهزم يحزن لفراره ولفرار من معه في ذات الإنهزام .
الثالث : الذين بقوا يقاتلون في الميدان ورابطوا في الثغور وملاقاة العدو .
والثغور جمع ثغر ، وهو (موضع المَخافة من فُروج البُلدان) ( ) وما يسمى في هذه الزمان بحرس الحدود الجواب نعم إنه ثغر مؤقت بلحاظ صيرورته مكاناً لحجب الذين كفروا عن الوصول إلى المدينة والسعي لإستباحتها .
ومن أدعية الإمام علي بن الحسين عليه السلام دعاء إسمه( الدعاء لأهل الثغور) والذي يبدأ بالقول (اللهم صل على محمد وآله ، وحصن ثغور المسلمين بعزتك
وأيد حماتها بقوتك ، وأسبغ عطاياهم من جدتك ،
اللهم صل على محمد وآله ، وكثر عدتهم ، واشحذ أسلحتهم
واحرس حوزتهم ، وامنع حومتهم ، وألف جمعهم ، ودبر
أمرهم ، وواتر بين ميرهم ، وتوحد بكفاية مؤنهم ، واعضدهم بالنصر ، وأعنهم بالصبر ، والطف لهم في المكر) ( ) ( ).
الرابع : أسرة وأهل ذات المنهزم إذ يدخلهم الحزن لفراره وعدم ثباته في موضع خصوصاً مع بقاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة معه يقاتلون في الميدان .
الخامس : عموم المؤمنين والمؤمنات في المدينة الذين يتلقون نبأ إنهزام بعض المهاجرين أو الأنصار بالحزن والأسى , وبلحاظ أن الآيات يقتضي بذل الوسع في سبيل الله والفناء في مرضاته .
الثانية :والرسول يدعوكم بأمر الله عز وجل بعلمه سبحانه بذات صدور الناس وصيرورة هذه الدعوة برزخاً دون الحزن ، وفيه وجوه :
الأول : دعوة الرسول للمؤمنين بالرجوع إلى ميدان المعركة حث للناس على التوبة والإنابة والكف عن إعانة الذين كفروا في ظلمهم لأنفسهم وغيرهم بتعديهم على الإسلام والمسلمين ، فيدعو الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين للعودة إلى ميدان القتال ، ويتدبر الناس في معانيها ودلالتها ويدركون أنها سر من أسرار النبوة وواقية للمؤمنين من الهزيمة والإنكسار ، فليس من قائد يريد دوام رئاسته للناس يبقى وسط المعركة ينادي أصحابه ويعرض نفسه للقتل بالثبات في الميدان وتوالي صدور النداء منه لأصحابه الفارين مع شدة بطش جيش العدو وكثرة عددهم، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ثبت في الميدان بوحي وفضل من عند الله عز وجل .
الثاني : إذا كان الوحي خاصاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهل الفضل الإلهي في المقام خاص به، الجواب لا، فثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان فضل من الله على رسوله والمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
الثالث : قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]وثيقة سماوية تؤسس لقانون في المعارك والحروب بأن يدعو القائد المؤمنين للرجوع إلى ميدان المعركة فهي مدد متجدد للمسلمين في كل زمان ، ومن مصاديق الفرد الجامع في الجهاد والحرب على الكفر والنفاق في قوله تعالى [جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ).
وهل يختص هذا القانون بحال الميدان والمعركة أم ينفذ إلى القلوب ، الجواب هو الثاني ، وهو من عمومات خاتمة آية البحث .
ثالثاً : والرسول يدعوكم لتعلموا قانون علم الله عز وجل بذات الصدور , ومن الإعجاز في تحصيل هذا العلم أنه باعث على الإجتهاد في الجهاد ، والصبر على الشدائد وملاقاة الحتوف ، فان قلت من أبجديات الإسلام إدراك قانون إحاطة الله علماً بكل شئ ، ومنه خفايا النفوس .
والجواب هذا صحيح وهو من أسرار دخول الناس جماعات وقبائل في الإسلام ، وجاءت آية البحث للتذكرة به وتأكيده ، والمنع من نسيانه ، فمن خصائص إستحضار المؤمن لحقيقة علم الله بذات الصدور أمور :
الأول : إجتناب الفرار والهزيمة من ميدان القتال والخذلان ، وترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يقاتلون وسط الميدان .
الثاني : إن حصل الفرار من بعض أفراد الجيش فان إستحضار وتذكر علم الله عز وجل بذات الصدور زاجر لهم عن الإستمرار في الهزيمة خاصة وأنه يدل بالأولوية القطعية على علم الله عز وجل بهزيمتهم وفرارهم .
الثالث : دعوة المؤمنين للمناجاة بينهم بأن الله عز وجل عليم بذات الصدور ، وفيه واقية من الهم بالفرار والعزم عليه ، وهو من الإعجاز في كون خاتمة آية البحث من مصاديق ولاية الله عز وجل بقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ).
الوجه الثاني : لقد ذكرت آية السياق اسم الجلالة مرتين في أولها وآخرها ، وهو من الإعجاز فيها ، إذ إبتدأت بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] وفيه ثناء من عند الله عز وجل على نفسه فلا يقدر على صدق الوعد في ميدان المعركة إلا الله عز وجل .
ومن الإعجاز أن هذا الوعد يتضمن أموراً :
الأول : البشارة بنصر المسلمين .
الثاني : حس وقتل المسلمين للذين كفروا .
الثالث : رجحان كفة المسلمين مع قلة عددهم وعدم تجاوزه لثلث جيش الذين كفروا .
الرابع : بطلان وفساد مكر وحيلة الذين كفروا مع طول مزاولتهم للحروب وكثرة الأبطال فيهم .
الخامس : توثيق وتأكيد آية السياق لقانون وهو حصول حس وقتل المؤمنين للذين كفروا بإذن الله عز وجل ، وفيه دعوة للمسلمين للإجتهاد بالشكر لله عز وجل على هذه النعمة التي لا تختص منافعها بميدان المعركة أو أوانها.
ويحتمل الدعاء بسؤال صدق وعد الله عز وجل للمسلمين بحس وقتل الذين كفروا وجوهاً :
أولاً : يستحب الدعاء وسؤال الله عز وجل صدق وعده بحس وقتل الذين كفروا في معركة أحد .
ثانياً : قد أخبر الله عز وجل عن صدق وعده ، بينما يأتي الدعاء للرجاء وسؤال تنجز أمر في المستقبل ، وفي التنزيل [رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ] ( ).
ثالثاً : الإتيان بالدعاء لإستمرار تحقق حس وقتل الذين كفروا في معركة أحد بلحاظ أن هذا القتل من الكلي المشكك في كمه وكيفيته ومقداره ، فيأتي الدعاء للزيادة في أفراده .
رابعاً : الإجتهاد بالدعاء لترتب الأثر الحسن على حس وقتل المسلمين للذين كفروا .
خامساً : الدعاء بتجدد ذات الحس والقتل للذين كفروا في معارك الإسلام اللاحقة .
سادساً : الدعاء لصيرورة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] سبباً وموضوعاً لبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
سابعاً : التوجه بالشكر لله عز وجل على نعمة صدق الوعد ، وليس من حصر لمصاديق الشكر القولي والفعلي لفضل الله عز وجل على المسلمين في حسهم وقتلهم للذين كفروا ، ومنه الثبات في الميدان وإجتناب الفرار والهزيمة .
وإن حصل الفرار تأتي دعوة رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم بالعودة إلى ميدان القتال من الشكر لله عز وجل على نعمة إلحاق الضرر والخسارة الفادحة بجيش المشركين ، وكذا من الشكر لله عز وجل إستجابة الصحابة لهذه الدعوة ، والمبادرة إلى الرجوع إلى المعركة بقصد القتال والدفاع عن النبوة والتنزيل وأحكام الإسلام وبإستثناء الوجه أولاً فان الوجوه الأخرى من رشحات آية السياق .
وأختتمت آية السياق بالثناء على الله عز وجل ، وبيان مصداق لتفرده بالربوبية المطلقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( )لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يعلم وقائع معركة أحد ، وتبدل الريح فيها , وصيرورة الجولة للذين كفروا فاحتاج المسلمون لمدد من عند الله عز وجل فتفضل الله بنداء الرسول لأصحابه بالرجوع , والله خبير بمنافع وبركات هذه الدعوة إذ كفّ الذين كفروا عن القتال وصار أمر القتال ودوامه بيد المسلمين مما يدل بالدلالة التضمنية على تجدد صدق وعد الله عز وجل بقتل وحس الذين آمنوا للذين كفروا ، وهو من أسرار إبتداء وإنتهاء آية السياق بجملة تتضمن اسم الجلالة الذي يذكر المسلمين بنصره وقربه من المؤمنين .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً ) ( ).
وورد ذكر اسم الجلالة في آية البحث أربع مرات ، وهو ضعف عدد المرات التي ورد فيها بالآية السابقة وهي آية السياق، وتتضمن وجوهاً :
الأول : ذم المنافقين لسوء ظنهم بالله عز وجل ، ولم يستحيوا من قيام الله عز وجل بذكر سوء ظنهم به سبحانه في الكتاب السماوي الباقي إلى يوم القيامة , بقوله تعالى [يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ] ( ).
ومن الإعجاز والحجة في المقام أن هذا الظن جاء بعد أن رأى المسلمون والناس جميعاً آية نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة بدر من غير أسباب ظاهرية من جهة العدة والعدد ، وبعد آية جلية حاضرة في معركة أحد بأن إبتدأت معركة أحد بجولة لم يشهد لها التأريخ مثيلاً بأن تفتتح المعركة بإشاعة القتل في الذين كفروا بمدد وعون للمؤمنين من عند الله عز وجل، ووعد منه سبحانه لهم بالنصر ، وتنجز مصداقه من الساعات الأولى للمعركة ليذكر ويشكر المسلمون الله عز وجل ويعتصموا من الغفلة والجهل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ]( ).
الوجه الثالث : من وجوه الصلة بين خاتمة آية البحث وبين قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] في آية السياق أن نداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالعودة إلى ميدان القتال حاجة لهم في معركة أحد ، ومدد في المعارك اللاحقة لأنها موافقة لما في قلوبهم من الإيمان وإظهار الطاعة والخشوع لمقام الربوبية .
لقد كانت دعوة الرسول طرداً للغفلة ، وإستدامة لحياة القلوب، وبرزخاً دون الهموم وأسباب الحزن والوهن.
وهل تدعو دعوة الرسول إلى مكارم الأخلاق ، أم أنها أمر خاص بفنون القتال ولزوم الثبات في الميدان ، الجواب هو الأول لأنها تحث المسلمين على العفو والصفح فيما بينهم ، وفي ذات العودة إلى ميدان القتال مسائل :
الأولى : الرجوع إلى كنف الرسالة والإحاطة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان .
الثانية : إنها مكارم الأخلاق وسنن الإيمان .
الثالثة : هذه العودة باب للتفاخر والعز وتحدي الذين كفروا.
الرابعة : رجوع المؤمنين إلى ميدان القتال من الإغلاظ للمنافقين بتقريب وهو أن قوله تعالى [وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ) أعم من القول وعالم اللسان وإن كان القول في المقام هو الأصل .
فذات دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه من الإغلاظ على المنافقين ، وكذا إستجابة أصحابه لدعوته من ذات الإغلاظ وإن تباينت الماهية ، وهو لا يتعارض مع مصداق الآية الكريمة أعلاه بأن يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبكيت المنافقين وبيان قبح النفاق ولزوم تنزههم عنه .
الوجه الرابع : جاءت آيات القرآن بالتأكيد على البصيرة وسلامة القلوب من الغفلة ، قال تعالى [وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] ( ).
لقد منعت دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من إستحواذ حال الحيرة على قلوب المؤمنين ، لقد فرّ الصحابة من ميدان المعركة فأراد الله عز وجل بدعوة الرسول أن يفروا إليه سبحانه وإلى رسوله فكانت هذه الدعوة المباركة كشفاً للصراط وغذاء للقلوب المنكسرة ، فأندفعوا راجعين ، وهو من أسرار وجوب التلبيات الأربعة في الحج (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ) .
ومن معاني الجمع بين الآيتين الثناء على المؤمنين وأن الله عز وجل يعلم صدق إيمانهم , وأنهم يستجيبون لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعودة إلى ميدان القتال , وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : والله عليم بذات الصدور فأمر الرسول يدعوكم .
الثاني : والرسول يدعوكم بأن الله عليم بذات الصدور .
الثالث : والرسول يدعوكم لأن الله عليم بذات الصدور .
الرابع : والرسول يدعوكم لتسلموا بأن الله عليم بذات الصدور .
الخامس : والله عليم بذات الصدور والرسول يدعوكم ليلقي الرعب في قلوب الذين كفروا ) بلحاظ كبرى كلية وهي ان المراد من [القلوب] في الآية الشمول وأصالة العموم ، والصلة بين إلقاء الرعب في قلوب الكفار ودعوة الرسول بلحاظ آية البحث على وجوه :
أولاً : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا قبل دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى المعركة .
ثانياً : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا أثناء دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه خاصة وان الدعوة متكررة وخاصة وعامة ، وهذا التكرار من فضل الله عز وجل على المؤمنين وذات دعوة الرسول لأصحابه سبب وموضوع لإلقاء الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
ثالثاً : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بعد دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ، وهو من رشحات هذه الدعوة بلحاظ أمور :
أولاً : دلالة دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على سلامته من القتل وبطلان إشاعة قتله التي بثها الذين كفروا يوم أحد ، وهذا البطلان أمارة على بقاء حضور السنة النبوية في حياة المسلمين إلى يوم القيامة ، وكل مسلم ومسلمة يعملان في طاعة الله ورسوله ، وكأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني الأمة في كل زمان ، قال تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] ( ).
ومن الإعجاز في رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدور قوله وفعله عن الوحي وبأمر الله عز وجل مجئ الفرد الواحد من فعله رحمة للمؤمنين وعذاباً للذين كفروا ، وهو الذي يتجلى بدعوته لأصحابه للرجوع إلى ميدان المعركة ، وهذا التعدد والتباين الموضوعي في أثر قول وفعل الرسول من مصاديق خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ).
ثانياً : علم الله عز وجل بذات الصدور سبب إضافي لإصابة الذين كفروا بالرعب لأنه سبحانه يعلم مقدار وكم وسنخية الرعب الذي يحل في قلب كل فرد من الكفار ، وما يحل في قلوبهم مجتمعين بما يتجلى ويظهر على فعلهم ، ويبين الإرباك وآثار الفزع على رأيهم وأسباب الخصومة والخلاف فيما بينهم .
ثالثاً : من مصاديق علم الله بذات الصدور تفضله بصيرورة دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه أمراً حاسماً في معركة ومواجهة بين جيشين عظيمين ، أما جيش المسلمين فانه ذو قوة ومنعة بأمور :
الأول : وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جيش المسلمين قائداً وإماماً .
الثاني : إخلاص المؤمنين في جهادهم في سبيل الله .
الثالث : إرادة المسلمين تحقيق النصر أو الشهادة .
الرابع : حال العز والمنعة التي صار عليها المسلمون بعد معركة أحد .
الخامس : ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال، ومباشرته القتال بنفسه .
السادس : دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بالعودة إليه وإلى ميدان المعركة .
السابع : إستجابة الصحابة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالعودة إلى ميدان المعركة .
الثامن : المدد الكوني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، قال تعالى بخصوص معركة أحد [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
التاسع : إبتداء المعركة بقتل المؤمنين للكافرين ووقوع هذا القتل بوعد من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عامة ، أي أنه لم يقع صدفة وإتفاقاً ، أو عن إجتهاد وبذل الوسع من قبل المؤمنين بل بفضل ومدد من عند الله وتنجز لوعده الكريم ، ليصاحب هذا الوعد وتنجزه المسلمين وإلى يوم القيامة .
المسألة الحادية والعشرون : تقدير الجمع بين الآيتين : فأثابكم الله غماً بغم ثم أنزل الله عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : تدل كل من آية السياق والبحث حقيقة وهي حضور رحمة الله مع المسلمين ، وتفضل الله بأعانتهم بالمدد الذي أعم من أن يختص بفرد واحد مع عظمة كل فرد من أفراد هذا المدد ، فليس في تأريخ الإنسانية مدد مثل نزول الملك من السماء لنصرة طرف أو فريق في حال الحرب أو السلم , ويتفضل الله ويجعل مدده للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين متعدداً سواء في الجنس والماهية والكم والكيف ، فينزل آلاف الملائكة لنصرة المؤمنين .
ويهجم الذين كفروا بثلاثة آلاف رجل في معركة أحد لقتال المؤمنين ومحاربة الإسلام ، ويأتي مدد للمسلمين من سنخية أخرى وهو :
الأول : مجئ الغم ثواباً من عند الله عز وجل للمؤمنين .
الثاني : عدم إستدامة الغم .
الثالث : نزول نعمة أخرى متعقبة للغم وهو الأمنة النعاس .
الرابع : بيان قانون وهو أن نعمة النعاس نازلة من عند الله عز وجل ، وهو من المائز بين الغم والنعاس ، فلم تصف الآية السابقة الغم بأنه نازل من عند الله ، إنما بينت أنه ثواب لبيان مسائل :
الأولى : نعمة النعاس أعظم من نعمة الثواب بالغم .
الثانية : تقييد الغاية من نعمة الغم , إذ تتضمن أمرين :
أولاً : سلامة المسلمين من الحزن على ما فاتهم من الغنائم ، ولا تختص هذه السلامة بالذين حضروا المعركة بل يشمل المسلمين والمسلمات الذين في المدينة خاصة بعد ن رأوا دخول الغنائم والأسرى في معركة بدر والتي لم تمر عليها إلا نحو سنة .
وهل يحزن المنافقون والذين عادوا معهم في الطريق إلى معركة أحد على عدم جلب المؤمنين الغنائم لا أقل لأنها منفعة عامة لأهل المدينة وسبب لعمارة أسواقها وإزدهار التجارة فيها , الجواب لا دليل عليه لأنهم كانوا يشمتون بالمؤمنين , ويخفون في أنفسهم الكفر والإقامة على الضلالة .
ثانياً : عصمة المسلمين من غلبة الحزن عليهم وإنقطاعهم للألم والحسرة على فقد الأحبة من أبطال الإسلام مهاجرين وأنصاراً .
ومن الإعجاز في آية السياق أن أسباب الحزن التي تلح على المؤمنين متعددة فجاء الغم لينسخ أثرها ، ويمنع من تجدد الحزن بسببها ، وهل يكون الغم علة لنسيان هذه الأسباب ومنها :
أولاً : سقوط الشهداء من أهل البيت والصحابة .
ثانياً : إصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات البليغة .
ثالثاً : كثرة الجراحات التي أصيب بها المؤمنون .
رابعاً : إنسحاب ثلث الجيش في الطريق إلى معركة أحد .
خامساً : حدوث إنسحاب ثلث الجيش بفتنة من رأس النفاق .
سادساً : ترك الرماة لمواضعهم التي رتبهم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ونزولهم من الجبل طمعاً في الغنائم .
فان قلت إنما تتعلق المصيبة في المقام بخصوص الأثر والضرر الذي ترتب على هذا النزول من الجبل مصيبة لمخالفة الرماة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم بعد ترك مواضعهم [عن البراء قال جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير ووضعهم موضعا وقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال فأنا والله رأيت النساء يشددن على الجبل وقد بدت أسوقهن وخلاخيلهن رافعات ثيابهن .
فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة , أي قوموا للغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون , وقال عبد الله بن جبير فنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة : سبعين أسيرا , وسبعين قتيلا] ( ).
سابعاً : فرار طائفة من الصحابة من ميدان المعركة .
ثامناً : قرب العدو من شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووصول حجارتهم له ، وإصابة رأسه ووجهه بها .
تاسعاً : إجتماع مصيبة الحرمان من الغنائم ومصيبة الخسائر في معركة أحد والتي وقعت في يوم أحد ، أي تعددت المصائب على المسلمين في آن واحد فتفضل الله عز وجل بأن تغشاهم بالغم نعمة ورحمة منه تعالى ، ثم تفضل بأن أنزل أمنة نعاساً عليهم .
الثالثة : نعمة الغم مقدمة لنعمة الأمن والنعاس لبيان قانون وهو عندما تتوالى المصائب على المسلمين يتعاقب عليهم الغم وهو من الثواب العاجل ، ويكون سبيلاً للفوز بالثواب الأخروي ، وهو من مصاديق تلاوة المسلمين لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )في الصلاة اليومية الواجبة مرات متعددة , لذا أختتمت آية السياق بالتذكير بأن الله عز وجل يعلم كيف يصلح المسلمين لعمل الصالحات بقوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الرابعة : بعث الحسرة والندامة في نفوس المنافقين لحرمانهم من نعمة الأمنة والنعاس ولإصرارهم على الإقامة على النفاق وإبطان الكفر .
الوجه الثاني : يكشف الجمع بين آية البحث والآية التي قبلها أن كلاً منهما نعمة في ذاتها وموضوعها والهبات التي تذكرها كل واحدة منهما .
وصحيح أن آية البحث إبتدأت بحرف العطف (ثم) الذي يفيد التراخي وفق الصناعة النحوية لكنه لا يعني القانون الثابت الذي يفيد الإستغراق لكل إستعمالات (ثم) في اللغة العربية عامة وفي القرآن خاصة إذا ثبت وجود إستثناء في إستعمال (ثم) من غير تراخ وإبطاء ، فقد يكون التراخي في الموضوع وليس في الزمان والفعل ، وورد حكاية عن نوح في التنزيل [وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ] ( ).
لقد بينت آية السياق أن الغم ثواب من عند الله من أجل أن لا يحزن المؤمنون على ما فاتهم من النصر والغنائم وجلب الأسرى من الذين كفروا إلى المدينة المنورة ، وعلى ما أصابهم من الخسارة بفقد الشهداء لتؤسس الآية لقانون من الإرادة التكوينية وهو أن الثواب العاجل باب وعلة لنعم عديدة من عند الله عز وجل
ومن ذخائر القرآن عدم إختصاص أي قانون من القوانين التي يؤسسها بآية واحدة أو موضوع متحد وإن ورد هذا الموضوع بأكثر من آية ، بل تتعدد مواضيع القانون الذي يؤسسه القرآن بما ييسر للعلماء إستقراء العلوم وإستنباط المسائل منه , ويمنع من الشك والريب فيه .
إن نزول نعمة الأمنة النعاس في الآية التي تلت آية الثواب بالغم شاهد على تعاقبهما على الصحابة في ميدان المعركة ، ولو دار الأمر بين التوالي والتداخل بين الثواب بالغم ونعمة نزول النعاس والأمن على الصحابة أو التباطئ والفترة بينهما في معركة أحد , فالصحيح هو الأول لقانون توالي النعم من عند الله على الذين آمنوا .
نعم إبتدأت آية البحث بحرف العطف (ثم) لبيان حقيقة وهي أن نزول النعاس نعمة مستقلة قائمة بذات وليست معلولاً لتغشي الغم للصحابة ثواباً وفضلاً من عند الله .
الوجه الثالث : تؤكد كل من الآيتين المشيئة المطلقة لله عز وجل في أحوال الناس وأمور القتال وتبين أن رحمة الله عز وجل بالمؤمنين حاضرة معهم في حلهم وترحالهم ، فان قلت إن رحمة الله حاضرة ومصاحبة للناس جميعاً مجتمعين ومتفرقين ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ] ( ) وقال سبحانه [مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا]( ) والجواب لقد خلق الله عز وجل الناس لطاعته وعبادته وتلقي آيات النبوة والتنزيل بالقبول والتصديق ، فصار الناس على أقسام :
الأول : فريق مؤمن بالله ورسوله ويقاتل مع الرسول في معارك الإسلام الأولى ، وهذا القتال ليس أمراً إبتدائياً بل هو متجدد مع تعاقب الأنبياء ، إذ قاتل شطر منهم وأصحابهم الذين كفروا ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا]( ).
الثاني : فريق آمنوا بالله ورسوله ولكنهم قعدوا عن القتال والدفاع وهم على شعبتين :
الأولى : الذين إختاروا القعود شحاً وكسلاً .
الثانية : الذين أقعدهم العذر والضرورة ، وفي التنزيل [لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ] ( ).
الثالث : طائفة من الناس إختارت الغفلة والإعراض عن التدبر في الآيات .
الرابع : فريق من الناس جحدوا بالربوبية والتنزيل وإختاروا الكفر والضلالة ، ولكنهم لم يحاربوا النبوة وأهل الإيمان .
الخامس : الذين إختاروا قتال ومحاربة الإسلام والنبوة بالنفوس والأموال فخسروا الدنيا والآخرة .
وكانت واقعة أحد مع فريق من القسم الخامس أعلاه وكان أمثالهم من الأمم السابقة يقاتلون ويقتلون الأنبياء ، فتفضل الله عز وجل وجعل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في حصن وحرز من القتل .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا الحصن لا يتقوم باجتنابه لمواطن القتال ، وصرف الناس عن قتاله ، بل كان يخرج إلى المعارك بنفسه وهذا الخروج بأمر من عند الله عز وجل ليدل بالدلالة التضمنية على عظيم قدرة الله بدفع القتل عنه .
ومن الآيات أن الذين كفروا أشاعوا في معركة أحد خبر قتله وسرعان ما إنتشر بين الصفين .
وتحتمل هذه الإشاعة وجوهاً :
الأول : إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي السبب بقيام طائفة من المؤمنين بالفرار ، وهو الذي ذكرته آية السياق بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] ( ).
الثاني : حدوث الفرار قبل إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : التفصيل وأن عدداً من المؤمنين إنهزموا قبل إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدداً أخر عند سماع خبر قتله .
الرابع : ليس من صلة بين إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفرار طائفة من أصحابه من المعركة لحدوث هذا الفرار بسبب ترك الرماة المسلمين لمواضعهم ومجئ خيل المشركين من وراء ظهور جيش المسلمين وشدة القتل فيهم .
الخامس : من المسلمين من إنهزم بعد أن إستمر القتل فيهم ومنهم من إنسحب وفرّ عندما سمع إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار هو الرابع فعندما أشاع الذين كفروا نبأ قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان هو يقاتل وثلة من أصحابه ، وكانت لواء الإسلام مرفوعاً وسط الميدان بيد الإمام علي بن أبي طالب الذي قاتل قتالاً شديداً .
ومن أسرار قوله تعالى في آية السياق [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] ( ) لتكون دعوة الرسول في المقام على وجوه :
أولاً : قطع الطريق أمام إنتشار إشاعة قتل النبي بين المسلمين الفارين لأنها تبعث على الإرباك والقنوط والهمّ بالرجوع إلى المدينة مع وجود طائفة من المؤمنين لازالت تقاتل في سبيل الله .
ثانياً : بيان قانون مستديم وهو أن المسلمين يقاتلون دفاعاً عن الإسلام والنبوة والتنزيل على كل حال ، إذ يدل قتالهم مع خبر إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأولوية القطعية على قتالهم عند غيابه وإنتقاله إلى الرفيق الأعلى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
ثالثاً : تبعث دعوة الرسول صلى الله عليه وآله سلم لأصحابه المنهزمين اليأس والقنوط في نفوس الذين كفروا ، فقد بذلوا غاية المكر بإشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان الرد من جهات :
الأولى : ثبات الذين يقاتلون في الميدان لأنهم يحيطون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحثهم ويدعو الله لهم .
الثانية : رؤية لواء المسلمين وهو يؤرنق ويرفرف فوق الرؤوس ، ليكون مرآة لدعوة الرسول لأصحابه بالرجوع إلى ميدان المعركة .
الثالثة : من معاني قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]دحض إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : تأكد جميع الصحابة من المهاجرين والأنصار من سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذب إشاعة مقتله .
وفي الذي صاح قُتل محمد وجوه :
أولاً : إنه إبليس .
ثانياً : فرد من الجن كما ورد في حديث ابن الزبير أنه (رَأَى رَجُلًا طُولُهُ شِبْرَانِ عَلَى بَرْدَعَةِ رَحْلِهِ [ فَأَخَذَ السّوْطَ فَأَتَاهُ فَقَالَ ” مَا أَنْتَ ، فَقَالَ أَزَبّ ، قَالَ ” وَمَا أَزَبّ ، قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ ؛ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِعُودِ السّوْطِ حَتّى بَاصَ أَيْ هَرَبَ) ( ).
ثالثاً : إدعاء ابن قميئة بأنه قتل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , ونادى أبو سفيان بن حرب بعد إنتشار إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : يا معشر قريش، أيكم قتل محمداً؟ قال ابن قميئة: أنا قتلته. قال: نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها). وجعل أبو سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعركة هل يرى محمداً بين القتلى، فمر بخارجة بن زيد بن أبي زهير، فقال: يا أبا سفيان .
هل تدري من هذا القتيل؟ قال: لا. قال: هذا خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي، هذا سيد بلحارث بن الخزرج. ومر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى جنبه فقال: هذا ابن قوقل، هذا الشريف في بيت الشرف .
قال: ثم مر بذكوان ابن عبد قيس، فقال: هذا من ساداتهم. ومر بابنه حنظلة فقال: من هذا يا ابو عامر؟ قال: هذا أعز من ها هنا علي، هذا حنظلة بن أبي عامر. قال أبو سفيان: ما نرى مصرع محمد، ولو كان قتله لرأيناه، كذب ابن قميئة! ولقي خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندكم قتل محمد؟ قال خالد: رأيته أقبل في نفرٍ من أصحابه مصعدين في الجبل. قال أبو سفيان: هذا حقٌّ! كذب ابن قميئة، زعم أنه قتله) ( ).
الخامسة : عودة الفارين من الصحابة إلى ميدان المعركة لتكون هذه الإشاعة وثبوت كذبها خزياً للذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
بلحاظ أمور :
الأول : القبح الذاتي للكذب ، ونفرة الناس منه .
الثاني : دلالة لجوء الذين كفروا للإفتراء بقتل النبي شاهد على ضعفهم وعجزهم عن الوصول إليه مع كثرة أفراد الجيوش التي جاءوا بها في معركة أحد من مكة والأحابيش والقبائل التي حولها، خاصة وأن بعض الجيوش والقبائل كانت تلتحق بهم في الطريق إلى المدينة ليبلغوا ثلاثة آلاف رجل , بينما إنسحب من جيش المسلمين ثلثه وسط الطريق .
وأشارت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لما بلغوا موضع الأبواء في الطريق إلى معركة أحد بنبش قبر آمنة بنت وهب أم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولكن كبار رجالات قريش رفضوا طلبها لأنه يفتح عليهم باباً من الفتنة ويكون سبباً لخزيهم بين القبائل , وكأنهم يعلمون أن العاقبة لنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فخشوا نبش قبورهم وقتلاهم .
الثالث : مجيء القرآن بذم وتبكيت الذين كفروا بنعتهم في الآية أعلاه بخصال قبيحة وهي:
الأولى : وصف الكفر والتلبس به ذم وتوبيخ، وتأكيد لإصرار الجاحدين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الكفر والصدود عن دعوة الحق والهدى.
الثانية : تفضل الله بالإخبار عن إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ذم وتوبيخ لهم، ويمكن تأسيس قانون وهو : جمع الآيات التي تذم الذين كفروا وموضوع كل فرد من أفراد ذمهم وتوبيخهم، وكل آية قرآنية تتضمن ذم الذين كفروا في منطوقها أو مفهومها .
وهل يصلح أن يكون باب في تفسير كل آية إسمه (ذم الآية للذين كفروا) الجواب نعم، فيكون مع أبواب التفسير الأخرى في هذا السِفر المبارك مع إعجاز الآية الذاتي، وإعجاز الآية الغيري، والآية سلاح , ومفهوم الآية , ونحوها، بلحاظ ذكر ذم الآية القرآنية للذين كفروا في منطوقها أو مفهومها.
الثالثة : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب مما يجعلهم متخلفين عن الرأي السديد ووجوه الحكمة في القول والفعل.
الرابعة : نعت الذين كفروا بالشرك، وأنهم ظالمون لأنفسهم بإختيارهم عبادة الأوثان، وإتخاذها وسيلة تقربهم إلى الله زلفى.
الخامسة : إنتفاء السلطان والدليل والحجة في إتخاذ الذين كفروا الشريك والند لله عز وجل، ويدل قوله تعالى[مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( )، على إنحصار السلطان في باب العبادات والمناسك بما ينزل من عند الله، ويأتي التنزيل بالكتاب والنبوة، وفيه شاهد على أمور:
أولاً : تجلي البرهان والحجج التي تتوالى من عند الله رأفة بالناس .
ثانياً : بيان ماهية خلافة الإنسان في الأرض بأنها مقرونة بالعناية واللطف من عند الله عز وجل .
ثالثاً : لزوم صدور الناس عن النبوة والتنزيل وليس لهم إدعاء الرجوع إلى الوحي والنبوة زوراً وإفتراء ، إذ أن أشخاص وموضع النبوة جلي وبين بظهور المعجزة على يد كل نبي بحسب أهل الزمان وما يولونه عناية خاصة , لينفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات العقلية الباقية إلى يوم القيامة , إذ أن كل آية من القرآن معجزة قائمة بذاتها ، وتشهد أنها كنز من العلوم نازل من عند الله عز وجل , ومنه قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] الذي هو معجزة حسية وعقلية ، فهو معجزة حسية من جهات :
الأولى : مجئ الغم للمسلمين عل نحو قهري فوق ما أصابهم من الغم بسبب ما فاتهم من الغنائم وكثرة الشهداء الذين سقطوا والجراحات التي أصيبوا بها .
فلا يتصور الناس كيف أن أهل خاتم النبيين أنفسهم يتبعونه ويسيرون نحو خمسمائة كيلو متراً مشياً وعلى الإبل لقتاله وقتله وأصحابه مع أنه لم يغادرهم إلا بعد أن رأوا المعجزات التي تدل على صدق نبوته .
ومن الحجج في المقام إيمان نفر وعدد من أقرب أهل بيته بنبوته وهجرتهم معه وإخلاصهم في الجهاد والقتال ، فلا يأتي أحد في آخر الزمان ليقول أن الأصل هو إيمان أقارب وعشيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلماذا جحدوا بنبوته وحاربوا خاصة وأنهم مجاوروا البيت الحرام وعلى درجة من المعرفة ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ] ( )، أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإمام علي عليه السلام وعمه حمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب لأول مبارزة بين الإسلام والكفر ، بين المهاجرين والأنصار من جهة وكفار قريش من جهة أخرى .
ومن الآيات في المقام أن الذين كفروا هم الذين طلبوا المبارزة وأصروا عليها وأبوا أن يبارزهم ثلاثة من الأنصار تطوعوا لقتالهم ، وتعجل المشركون السوق إلى النار , وتجلى الصراط المستقيم بالجهاد لدحض الكفر وقهر الذين يصرون على محاربة الإسلام والنبوة لحق الدفاع عن النفس والملة والعرض .
إذ قال عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وإبنه الوليد (أخرجوا إلينا من بني عمنا ، ونادى مناديهم : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي “.
وعند الاموى أن النفر من الانصار لما خرجوا كره ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه أول موقف واجه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعداءه، فأحب أن يكون أولئك من عشيرته، فأمرهم بالرجوع وأمر أولئك الثلاثة بالخروج) ( ).
الثانية : نزول النعاس على المؤمنين في موضع مخصوص وهو جبل أحد ومحل القتال بين المسلمين والمشركين وفي ساعة معينة من يوم المعركة بحيث أحس كل فرد منهم بالنعاس يغزوه , ويدخل بدنه ويستحوذ على جوارحه وأركانه , من غير أن يميل إليه أو أن تسبقه سِنة وليس هو أوان نعاس ونوم إذ يطير الكرى والنعاس عن الإنسان في حال الشدة والخوف والفزع وعند شدائد الأمور .
ليس بين المسلمين والذين كفروا إلا أمتار معدودات إذ تصل حجارتهم ونبالهم إلى معسكر المسلمين وهم يزحفون شاهرين سيوفهم من أمام المسلمين ومن خلفهم بعد نزول الرماة المسلمين من الجبل .
الثالثة : إتصاف النعاس بأنه أمنة وصاحبه الأمن ، وكأن العدو ليس موجوداً وقريباً من المسلمين ساعتئذ لبيان أن الله عز وجل يجعل حجباً بينهم .
الرابعة : إختصاص النعاس بطائفة من المؤمنين لأنه نعمة وخير محض إذ تقيده آية البحث بأنه [يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ].
أما المعجزات العقلية في قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا]فمن جهات :
الأولى : بقاء وقائع معركة أحد غضة وحاضرة بين الناس إلى يوم القيامة ، كل جيل من الناس يذكرها ويتدبر في معانيها ودلالتها وكأنها وقعت في زمانهم فليس في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما هو رحمة .
وهل تنتفع أجيال المسلمين من نعمة الأمنة النعاس التي نزلت على المؤمنين يوم أحد ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق الصبغة العقلية لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يختص إعجاز الآية القرآنية بالماهية الذاتية وعجز الناس عن الإتيان بمثلها ولو إجتمعوا وإجتهدوا ، بل يشمل إعجاز الآية القرآنية المنافع المتعددة في موضوعها ، وتجدد فيوضاتها على أجيال المسلمين والناس إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ) .
فلا تستطيع الخلائق أن تأتي بمثل القرآن من جهة تجدد منافع كل آية قرآنية في كل زمان ومكان ، ترى لماذا لم تذكر الآية أعلاه الملائكة فلم تقل (قل لئن إجتمعت الملائكة والإنس والجن ..) ويحتمل الجواب وجوهاً :
الأول : ذكر الإنس والجن من باب المثال , وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره .
الثاني : جاءت الآية أعلاه للتحدي , وإقامة الحجة على المشركين.
الثالث : زجر الذين كفروا عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فما دام الإنس والجن عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن فعليهم أن يكفوا عن قتاله.
الرابع : للملائكة قدرات خاصة بفضل من عند الله بحيث لو إجتمعوا مع الإنس والجن جاءوا بقرآن .
الخامس : قطع الملائكة بأن القرآن كلام الله ولا يقدر على كل آية منه إلا الله عز وجل .
السادس : إكرام الله عز وجل للملائكة بعدم جعلهم موضوعاً في الإحتجاج بخصوص الإتيان بمثل القرآن .
السابع : يعلم الملائكة علم اليقين بأن القرآن نازل من عند الله وإذ يقوم جبرئيل وهو من كبار الملائكة بالنزول به على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وباستثناء الوجه الأول والثالث فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة ،إذ أن الآية تأديب للناس للإقتداء بالملائكة بالتسليم بنزول القرآن من عند الله وسلامته من التحريف وهذا التسليم من أسرار نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معارك الإسلام الأولى.
الوجه الرابع : لقد خرج المسلمون إلى معركة أحد بأمر من الله ورسوله، لتأتي لهم النعم، بأن رزقهم الله عز وجل الغم ثواباً ثم تفضل وأنعم عليهم بالأمنة والنعاس بفضله تعالى، بينما رزقهم الله عز وجل قبل نحو عام نصراً عظيماً، وغنائم كثيرة، في معركة بدر، ودخول سبعين أسيراً من الذين كفروا إلى المدينة المنورة.
ومنهم بعض كبار رجالات قريش ممن يعرفه أهل يثرب والقبائل العربية وله شأن وسطوة في مكة وعموم الجزيرة بلحاظ أن قريشاً جيران البيت الحرام، وتأتي العرب لأداء الحج في الموسم، في الأشهر الحرم، ويؤدون العمرة طيلة أيام السنة ، وقريش سادة مكة وحواليها، ويتولون التجارة بين الشرق والغرب، بين بلاد الروم من جهة، وبلاد فارس والهند والصين من جهة أخرى، كما وثقها القرآن بقوله تعالى[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )، ليدخل عدد منهم أسرى بسبب إصرارهم على الكفر وعبادة الأوثان والجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي صارت موضوع الإختبار للناس جميعاً منذ إشراقة أيام الرسالة وإلى يوم القيامة مع إقتران هذا الإختبار باللطف والرحمة والتقريب إلى الهدى والإيمان بفضل من الله عز وجل على الناس جميعاً , وفي التنزيل[وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
لقد رغب المسلمون عند خروجهم لمعركة بدر بالإستيلاء على قافلة قريش وكانت تتألف من ألف بعير محملة بالبضائع قادمة من الشام متوجهة إلى مكة برئاسة أبي سفيان قال تعالى[أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ]( )، والشوكة الشدة من الشوك، إذ ود ورجى المسلمون صرف القتال وملاقاة قريش لهم، وعلة هذا الود من وجوه:
أولاً : قلة عدد المسلمين في مجموعهم، وقلة الذين خرجوا مع النبي يومئذ وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، بينما كان عدد جيش الذين كفروا ألفاً.
ثانياً : النقص الظاهر في مؤن وأسلحة المسلمين , وكان عدد الخيل عند قريش أكثر من مائة وذكر أنها مائتي فرس مع ستمائة درع، وعدد كبير من الإبل وكانوا ينحرون منها كل يوم في بدايات الطريق بين تسعة إلى عشرة كل يوم، ولم يكن مع المسلمين سوى سبعين فرساً.
ثالثا : قلة التدريب والتهيئ للقتال من قبل المسلمين، فقد إنقطعوا إلى معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتلقي الصلاة وأحكام الشريعة بشوق وبذل الوسع في طاعة الله.
رابعاً : رغبة المسلمين باجتناب القتال دليل على تنمية ملكة المسلم ونفرة نفوسهم من القتال، لذا ورد قوله تعالى[وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ).
خامساً : لقد تلقى المسلمون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق , ومعجزاته بالقبول والتسليم بأنها من عند الله عز وجل، ويظنون أن الناس مثلهم عند الإطلاع على الآيات والمعجزات التي تخاطب العقول .
سادساً : لقد كان الإسلام في بداياته والمسلمون على قسمين:
الأول : المهاجرون.
الثاني : الأنصار.
أما المهاجرون فقد كانت ترتسم في أذهانهم شدة تعذيب كفار قريش لهم، ولكنهم عندما إلتقوا معم بذلوا الوسع في الجهاد، وعزموا على الإنتقام من المشركين.
وأما الأنصار من الأوس والخزرج فانهم يعلمون بأمور :
الأول : الشأن والجاه الذي لقريش بين القبائل .
الثاني : إمكان قيام قريش بتسخير الأحابيش وغيرهم لمحاربة الإسلام .
الثالث : إمتلاك قريش الأموال , وإستعدادهم لتوظيفها في القتال .
الرابع : إجتناب القبائل العربية محاربة قريش لأنهم مجاوروا البيت الحرام الذي يؤمه العرب في أيام الحج ، وفي العمرة على مدار السنة .
الخامس : الأخبار التي يذكرها الصحابة من المهاجرين عن قسوة وبطش قريش في تعذيبهم .
السادس :عدم تأهيل وتسليح المسلمين لمعركة فاصلة .
السابع :عدم خروج عدد من الصحابة إلى معركة بدر لظنهم بأن المسلمين خرجوا لطلب القافلة .
لقد إجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء ليلة معركة بدر رجاء النصر فتفضل الله عز وجل بالإستجابة بنزول الملائكة لنصرته، وتحقيق النصر المبين للمسلمين، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
فجلب المسلمون معهم الغنائم، والكثير من الأسرى، وخرجوا إلى معركة أحد مستصحبين معهم ذات النتيجة خاصة مع إجتماع نفس الأسباب لتحقيق النصر وإرتقائهم إلى مرتبة العز والقوة بعد الذل والهوان.
فتوالت عليهم النعم وهم وسط الميدان، من وجوه :
الأول : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا.
الثاني : تولي الله عز وجل نفسه إلقاء الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا.
الثالث : بيان علة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا , وهو إقامتهم على الشرك بالله عز وجل، وهو من مصاديق قانون الملازمة بين الشرك بالله وإلقاء الرعب في القلب.
الرابع : مجئ القرآن بانذار الذين كفروا بأن البلاء الذي ينزل بهم لا يختص بالحياة الدنيا، بل يشمل عالم الآخرة إذ يلبثون على نحو الدوام في النار، ويخلدون في العذاب بدليل قوله تعالى قبل ثلاث آيات [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ] ( ).
وهل هذا الإنذار مدد وعون للمسلمين في المعركة , الجواب نعم.
الخامس : تنجز وعد الله عز وجل للمسلمين باستباحة جيش الذين كفروا، وإشاعة القتل فيهم حالما إبتدأت المعركة , ولم تكن هذه الإستباحة عن مباغتة ومكر من المسلمين، بل جاءت بعد أن أصر الذين كفروا على القتال، وسأل ابن أبي طلحة حامل لوائهم المبارزة، وعيّر المسلمين إذ لم يبرز له أحد، مع أنهم لم يخرجوا إلا للقائهم .
وقال: يَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ زَعَمْتُمْ أَنّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنّةِ وَأَنّ قَتْلَانَا فِي النّارِ كَذَبْتُمْ وَاَللّاتِي لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَقّا لَخَرَجَ إلَيّ بَعْضُكُمْ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَقَتَلَهُ( ).
ترى لماذا لم يخرج أحد من المهاجرين والأنصار للقاء حامل لواء المشركين حين ألح على المبارزة، وتبختر بين الصفين، مع في تحديه من الأذى للمسلمين، ومع أنهم حضروا للمعركة طلباً لأحدى الحسنيين كما ورد في التنزيل[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ) .
الجواب من جهات:
الأولى : لم يتقدم أحد من المؤمنين للمبارزة إلا باذن من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يأذن لهم بالمبارزة والقتال إلا بوحي من عند الله، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
ليكون من مصاديق الخير في الآية أعلاه تحقق وعد الله عز وجل للمسلمين بحس وقتل الذين كفروا.
الثانية : إقامة الحجة على الذين كفروا لتكون وثيقة في ميدان القتال وشهادة على تماديهم في التعدي وتجاوز الحدود.
الثالثة : تأديب الناس في فنون الحرب والقتال بأن عاقبة الغرور الخسارة، ونتيجة الجهالة الندامة.
الرابعة : تحلي المسلمين بالصبر مع رغبتهم بالشهادة.
الخامسة : بيان قانون وهو إنتشار وسيادة الإسلام بالمعجزة والبرهان وليس بالسيف.
السادس : نعمة توثيق النعم التي تفضل الله عز وجل بها على المسلمين في معركة أحد، منها ما ورد فيه النص , ومنها ما يستقرأ من ثنايا الآيات، لبيان تعددها وكثرتها وتأكيدها قانوناً وهو أن الله يعطي بالأتم والأوفى والأحسن، وهذه النعم من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السابع : إخبار القرآن عن حصول الخور والفشل والوهن بين صفوف المؤمنين في معركة أحد بعد نزول الرماة المسلمين من مواضعهم على الجبل والتي أقامهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ]( ) .
وجاء لفظ (حتى) أعلاه دعوة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة والناس لإستقراء النعم التي تفضل الله عز وجل بها على المؤمنين بعد هذه الإنتكاسة، وتبين الآية قبل السابقة مجئ فشل وخور المسلمين بعد حسهم وقتلهم للذين كفروا باذن الله، فلم يعاقبهم الله عز وجل، ولم يمنع عنهم فضله أو يؤخر وينسئ نزول الملائكة لنصرتهم، ولم يرفع الرعب عن قلوب الذين كفروا، بل تفضل بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه الذين فشلوا وفروا من ميدان المعركة بالرجوع إلى الميدان، ويتبادر إلى الأذهان أن هذه الدعوة للدفاع والمبارزة والصبر عند اللقاء، وأن الذين يرجعون إلى المعركة سيقتلون أو يأسرون، لأن الجولة كانت للذين كفروا , وحال وضبط الجيش المنهزم أفضل وأحسن قبل الهزيمة مما هو بعدها , لتتجلى بسلامة جيش المسلمين معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلاف المتبادر.
وإن قلت إن إخبار القرآن عن حصول الخور والفشل عند المسلمين توبيخ ولوم لهم بلحاظ انه خصلة مذمومة , والجواب جاء هذا الإخبار في طول إكرام المسلمين بالخطاب التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لبيان قانون وهو حكومة ورجحان كفة الإيمان وصيرورته وصفاً وشهادة تمنع من التوبيخ واللوم في المقام خاصة وأن الذين إنهزموا من المعركة وأصابهم الفشل والخور قاتلوا في سبيل الله تحت لواء النبوة ، لقد ورد قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ] ( )لوجوه :
أولاً : بيان حال المسلمين في جولة من معركة أحد , وفيه تأديب لهم .
ثانياً: إقامة الحجة على الذين كفروا لتماديهم في الظلم والتعدي.
ثالثاً : إصلاح المسلمين لإجتناب حال الفشل والتنازع والخصومة في معارك الإسلام اللاحقة .
رابعاً : بيان الأذى الذي لحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفشل وخور طائفة من أصحابه وهو يقاتل وسط الميدان .
خامساً : توثيق حقيقة من جهات :
الأولى : لم يرغب المسلمون بالقتال .
الثانية : لم يكن المسلمون مستعدين لحرب ضروس .
الثالثة : لقد لاقى المسلمون على قلتهم جيشاً عرمرماً يطلب الثأر ويسعى للإنتقام .
الرابعة : دعوة أجيال المسلمين والناس جميعاً إلى التدبر في رحمة الله عز وجل بالمؤمنين حينما أصابهم الفشل والخور ، والأمور بخواتيمها .
سادساً: بيان صدق إخبار القرآن وسلامة قصصه من التحريف والزيادة والنقص في الوقائع والأحداث ، وفي علم الأصول لا نقول بالإستصحاب القهقري وهو تقدم المشكوك به زماناً وتأخر المتيقن ، كما لو علمنا اليوم أن زيداً ميت وشككنا هل هو ميت قبل أربعة أشهر وعشرة أيام لأن عدة الوفاة من حين بلوغ الخبر ( ) إن لم يثبت بالبينة على قول , لما فيه من التغليظ وإكرام الميت ، وليس مثل الطلاق الذي تبدأ عدته من حين وقوعه فاذا علمت به الزوجة بعد ثلاثة قروء فقد خرجت من العدة ولا يجري الإستصحاب القهقري ، وكذا إذا علمنا اليوم أن الزوج طلق زوجته ولا نعلم هل وقع الطلاق قبل ثلاثة شهور كي تخرج من العدة أم لا ، فلا يجوز الإستصحاب القهقري .
ولكن الأمر في القرآن مختلف ، وهو من الإعجاز فيه لأن قوانينه أعظم وأوسع من القواعد التي يضعها العلماء كل في إختصاصه فان إخبار القرآن عن حال الفشل والخور التي أصابت المسلمين في معركة أحد شاهد على صدق قصص القرآن ، وهو من مصاديق الحسن في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ).
سابعاً : بعث الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا ، فعودة المسلمين للقتال في ذات الساعة التي يصابون بها بالفشل والخور شاهد على صدقهم وتفانيهم في الدفاع عن النبوة والتنزيل , ويدل هذا التفاني على صدق المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد هبط آدم وحواء إلى الأرض بالإيمان واليقين ، لتعود الحياة الدنيا ببعثة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذات اليقين وليتعاهد المسلمون صرح الإيمان وإلى يوم القيامة ، وهو من الشواهد الحاضرة والمتجددة في كل زمان على قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ثامناً : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين ، فقد كان المسلمون في حال ضعف من جهات :
الأولى : إنخزال وإنسحاب ثلث جيش المسلمين في الطريق إلى أحد .
الثانية : قلة الخيل والمؤون والأسلحة التي عند المسلمين .
الثالثة : كثرة جيش المشركين وهم أكثر من أربعة أضعاف جيش المسلمين .
الرابعة : نزول الرماة من الجبل طمعاً بالغنائم بعد رؤية أمارات هزيمة المشركين .
الخامسة : مجئ خيل المشركين من خلف المسلمين .
السادسة : فرار طائفة من المسلمين .
ومع هذه الأسباب مجتمعة ومتفرقة لم ينهزم المسلمون ، ولم يخسروا المعركة ، وهو من أعظم النعم والشواهد على أن الله عز وجل معهم , ومن مصاديق قوله تعالى [َاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
فقد رحم الله عز وجل المسلمين والذين كفروا والأجيال المتعاقبة من الناس بسلامة المسلمين من الهزيمة والخسارة يوم أحد .
تاسعاً : إصلاح المسلمين لمعارك الإسلام اللاحقة .
لقد إجتمع من ضروب الخطأ والزلل والقصور بين المسلمين في معركة أحد أمور:
الأول : إنسحاب ثلث الجيش في الطريق إلى المعركة .
الثاني : حصور الفشل والجبن والخور .
الثالث : تنازع المسلمين بينهم , وظهور الخصومة بين الرماة وأميرهم في البقاء على الجبل أم تركه عند رؤية المشركين يتهيؤون للهروب .
الرابع : معصية بعض المؤمنين لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء الرماة الذين تركوا مواضعهم مع تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على لزوم بقائهم فيها إلى أن تنتهي المعركة ، أو الصحابة الذين فروا من وسط المعركة ، الأمر الذي وثقه القرآن بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ] ( ) ويحتمل القصور في الآية أعلاه وهي آية السياق وجوهاً :
أولاً : إتحاد القصور والمعصية , لأن عدم اللي على أحد فرع الصعود والفرار ومصاحب له .
ثانياً : كل من الصعود وعدم اللي على أحد معصية وقصور .
ثالثاً : إجتماع الصعود وعدم اللي معصية وقصور ثالث .
والصحيح هو ثانياً وثالثاً أعلاه إذ تدل الواو في [وَلاَ تَلْوُونَ] على المغايرة والتعدد في الفعل ، وجاء التأكيد بقوله تعالى [َولا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]لأمور :
أولاً : وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط المعركة ، ولزوم الدفاع عنه والقتال بين يديه .
ثانياً : إستمرار القتال وعدم إنقطاعه عند فرار طائفة من المسلمين .
ثالثاً : صيرورة الذين بقوا يقاتلون من أهل البيت والمسلمين في حال شدة , خاصة وان عددهم لا يتجاوز أحد عشر ، وفي رواية ثلاثة عشر .
لقد إنتفع المسلمون إنتفاعاً عظيماً في حال الحرب والسلم من قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ]ومن حقهم أن يفخروا بهذه الآية وما فيها من البيان ، نعم قد يقال أن الدراسات والتحقيقات وعلوم التفسير في هذا الباب متخلفة عن بيان المنافع العظيمة للآية سواء على سبيل الواقع أو العلوم المستقرأة منها .
وفي قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ) ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال (فينا نزلت . في بني حارثة ، وبني سلمة { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله { والله وليهما })( ).
وكذا بالنسبة للآية قبل السابقة فبعد أن بينت فشل وخور المسلمين وتنازعهم ومعصيتهم أخبرت عن فضل الله عز وجل عليهم وإعتزاز المسلمين بقوله تعالى في ذات الآية [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ].
الثامن : من النعم التي تذكرها هذه الآيات قوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] وفيه بشارة إنتهاء الحرب والقتال بين المسلمين والذين كفروا .
فمن الآيات أن المسلمين لم يبدأوا القتال ولم يقوموا بغزو الذين كفروا سواء في مكة او ما حولها ، وقد بلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبأ إستعدادهم للهجوم وتأتيه منهم إنذارات وتخويف ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم أظهر الصبر والحكمة وحسن التوكل على الله عز وجل ، ولم يجعل المسلمين في فزع وخوف .
فلم يأمر بلزوم ترك العمال والمكاسب والزراعات والتوجه إلى حمل السلاح والتدريب عليه ، والمرابطة في الثغور ولو أطراف المدينة بل ترك المسلمين على حالهم من العمل والمكاسب ، حتى إذا ما صار الذين كفروا على مشارف المدينة إستشار أصحابه بالخروج .
لتدل هذه الإستشارة على عدم تعيين كيفية القتال قبل وصولهم ، وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) ترى لماذا لم يستعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لمعركة أحد قبل أوانها بفترة ، والجواب من وجوه :
أولاً : لا دليل على عدم إستعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه لمعركة أحد ، نعم لم يستحوذ هذا الموضوع على كل أيام حياتهم .
ثانياً : بيان أولوية أداء الفرائض والعبادات وعناية المسلمين بما ينزل من آيات القرآن , والتفقه في الدين .
ثالثاً : إظهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين حسن التوكل على الله عز وجل وتلقيهم الوعد منه تعالى بالتصديق ، لذا قال سبحانه قبل آيتين [ وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ].
رابعاً : إجتناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يبعث النفرة والسأم في النفوس مثل عسكرة المجتمع , وتميل البلدان المتحضرة في هذا الزمان إلى ذات نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الإحتياط عند الضرورة وإعلان حال الحرب والنفير ومن دونها فأنهم يعيشون حياتهم المدنية العامة .
المسألة الثانية والعشرون : فأثابكم الله غماً بغم ثم أنزل عليكم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم) وفيه وجوه :
الوجه الأول : تتكرر لغة الخطاب من عند الله في توجهها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في واقعة أحد ، وهل نزل الغم على ذات الطائفة من المؤمنين الذين تذكرهم آية البحث , الجواب النسبة بين الذين نزل بهم الغم وبين الذين تغشاهم النعاس عموم وخصوص مطلق ، فالذين تغشاهم النعاس أخص .
لقد أنعم الله عز وجل على المؤمنين في معركة أحد بـأمور نازلة من عنده تعالى , وردت في آية السياق والبحث وغيرهما من الآيات ومنها :
الأولى : نعمة الغم ثواباً ومواساة ونسخاً للغم الشخصي .
الثانية : نزول الأمنة لطفاً وإحساناً من عند الله .
الثالثة : تغشي النعاس طائفة من المؤمنين .
والمختار أمور :
الأول : نعمة الأمنة أطول مدة وزماناً من الغم الذي تذكره الآية السابقة كثواب وجزاء من عند الله .
الثاني : نعمة الأمنة أعم من النعاس .
الثالث : شمول نعمة الأمنة للمؤمنين والمؤمنات الذين حضروا معركة أحد والذين بقوا في الميدان ويدل على لغة العموم في نعمة الأمنة ما ورد في الآية التالية بقوله تعالى بخصوص الذين تولوا وهربوا من ميدان معركة أحد بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ].
الرابع : بقاء نعمة الأمنة في الأرض تتغشى المسلمين .
ويكون تقدير آية البحث ثم أنزل الله عليكم من بعد الغم أمنة تتغشى المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة , ونعاساً يغشى طائفة منكم ) فنزل النعاس بخصوص طائفة من المسلمين ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان ، ومن ناله الفضل من عند الله ، وإن كان ممن فشل وهمّ بالفرار .
الوجه الثاني : مجئ الغم من الله للمؤمنين الذين قاتلوا في معركة أحد ثم أنزل الأمنة والنعاس عليهم من عند الله عز وجل من مصاديق المعية المباركة في قوله تعالى [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ] ( ).
أما الذين كفروا فان إتباعهم للشيطان لا يزيدهم إلا ضلالة ، وعن بعض بني ساعدة قال (سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول : لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى ، فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس ، وأوحى الله : إليهم إني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، وتثبيتهم أن الملائكة عليهم السلام تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول : ابشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم .
فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال : إني بريء منكم وهو في صورة سراقة ، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول : لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على موعد من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ثم قال : واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمداً وأصحابه في الحبال ، فلا تقتلوا وخذوهم أخذاً) ( ) .
فمع صيرورة الجولة للمشركين وتبدل الريح وسير المعركة في ساعة من يوم معركة أحد , فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلب الصلح والمهادنة ، وكذا الذين فروا من المسلمين لم يقترحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلب الصلح .
ليكون من منافع نزول الغم ثم الأمنة النعاس على المؤمنين بقاء عزمهم على القتال وعدم الرغبة في الصلح مع الذين أشركوا وكأنه من النسخ الفعلي لقوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] ( )الآية التي نزلت في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إن قوله تعالى [وَاللَّهُ مَعَكُمْ]وعد كريم تتجلى مصاديقه في كل آن وحادث في معركة أحد والمعارك الأخرى التي خاضها المسلمون ضد الكفر وأهل الشرك وتقدير الآية أعلاه بلحاظ آية السياق والبحث على وجوه :
أولاً : والله معكم إذ تصعدون فيحول دينكم ودون الهزيمة .
ثانياً : والله معكم إذ تصعدون فيمنع الذين كفروا من اللحاق بكم ومطاردتكم بأن ألقى الرعب في قلوبهم .
ثالثاً : والله معكم وأنتم لا تلوون على أحد فكانت دعوة الرسول حاجة لكم .
رابعاً : والله معكم والرسول يدعوكم , وفيه مسائل :
الأولى : كل من حضور رحمة الله مع المؤمنين ودعوة الرسول لهم نعمة قائمة بذاتها .
الثانية : بين المعية المباركة والدعوة الجلية عموم وخصوص مطلق إذ أن قوله تعالى [وَاللَّهُ مَعَكُمْ] يشمل كل المؤمنين في المعركة ومنهم الذين ثبتوا في مواضعهم ، ولم يثبتوا إلا لأن الله عز وجل معهم ، أما دعوة الرسول فقد توجهت للذين فروا من وسط الميدان لإرادة عودتهم له .
الثالثة : دعوة الرسول للصحابة للعودة إلى المعركة من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ مَعَكُمْ].
الرابعة : من معاني [وَاللَّهُ مَعَكُمْ] بيان فضل الله عز وجل على المسلمين قبل معركة أحد وأثنائها وبعدها .
الخامسة : تأكيد حقيقة تأريخية وهي عدم خسارة المسلمين لمعركة أحد , ومن يكون الله تعالى معه لن يخسر سواء في الدنيا أو الآخرة .
خامساً : والرسول يدعوكم في أخراكم لأن الله معكم وهذه الدعوة من الوحي إذ ورد في التنزيل حكاية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ] ( )وتقدير دعوة الرسول : لست أدعوكم من نفسي بل من الله عز وجل لأنه معي ، وهو الذي يتفضل عليكم بالأمنة لأنه معكم .
سادساً : والله معكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) وتتعدد أسباب الحزن وسبل التخفيف منه ، أما المسلمون فقد رزقهم الله عز وجل سلامة من الحزن إبتداء وإستدامة أو تجديداً لها .
فقد تفضل الله عز وجل وأخبر بأنه معهم في ساعة الشدة والحرج ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ] ( ) ويفيد الجمع بين آية السياق وقوله تعالى [وَاللَّهُ مَعَكُمْ]مسائل :
الأولى : وقاية المسلمين من الحزن والأسى .
الثانية : زيادة إيمان المسلمين بادراك سلامتهم من الحزن بمعجزة وفضل من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
الثالثة : من معاني [وَاللَّهُ مَعَكُمْ] البشارة بأن الله عز وجل يخلف على المسلمين وينعم عليهم بنيلهم ما حرموا منه في معركة أحد من الغنائم ويعوضون بدخول الناس والقبائل في الإسلام أفواجاً ، مع صيرورة الشهداء في عرصات الجنة والنعيم الدائم ، إذ تفضل الله عز وجل بالإخبار عن المقام الكريم للشهداء من أسباب دفع الحزن عن المسلمين ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) .
وهل قوله تعالى [وَاللَّهُ مَعَكُمْ] بيان وتفسير لخاتمة آية السياق [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] الجواب بينهما عموم وخصوص ، فالله عز وجل خبير بما يعمل الناس جميعاً ويعلم نظام الأكوان وسير الكواكب ، وعمل الخلائق كلها ، أما قوله [وَاللَّهُ مَعَكُمْ] فهو خاص بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ولا يختص الأمر بحال الحرب والقتال وإن كان هو مضمون الآية الكريمة [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] ( ).
إنما تصاحب رحمة وفضل الله عز وجل المسلمين في كل أحوالهم وقوله تعالى [وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ]أي لن ينقص أعمالكم ولا ينقص أجوركم ، وفي دلالة خاتمة الآية أعلاه وجوه :
الأول : يصرف الله الحزن والأسى عن المسلمين ويكتب لهم أجره وثواب ما فاتهم من أسباب النصر الغنائم .
الثاني : كتابة أجر المصيبة بفقد الشهداء وتلقي الجراحات البالغة .
الثالث : صرف الحزن يمنع من ترتب الثواب على ذات الحزن وإن كان في الله ، لأنه سالبة بانتفاء الموضوع .
الرابع : سبحان الله هو الذي [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ) فيعلم الله عز وجل من يحزن على الحرمان من النصر فيدفع عنه الحزن ويثيبه عليه ، ويعلم من يحزن لفوات الغنائم فيصرف الله عز وجل عنه الحزن من غير أن يثيبه على ما محاه من الحزن وأثره إنما يجب شكره لله على فضله .
والصحيح هو الأول والثاني أعلاه ، وهو من مصاديق المعية الكريمة ، وتقدير الآية : والله معكم ليدفع عنكم الحزن ويثيبكم عليه ) لأنه في الله ولله .
فلو قعد المؤمنون في بيوتهم لم ينزل بهم الحزن , ولم يصبهم البلاء إنما أصابهم الأذى للنفير في سبيل الله .
الوجه الثالث : تأكيد فضل الله على المؤمنين الذي ورد في آية السياق بأن دعا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المنهزمين من أصحابه وصرف الحزن والأسى عن عموم المؤمنين بسبب حرمانهم من النصر والمكاسب يومئذ ، وأنه نعمة تتعقبها نعم عديدة , وأختتمت الآية بالإخبار بقوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ].
وتقديره على وجوه :
الأول : والله خبير بما تعملون عند دعوة الرسول لكم ، ولولا أن الله عز وجل يعلم بانتقالكم منها وعودتكم إلى ساحة المعركة عند سماع نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتفضل ووجه إلى المنهزمين أمراً وعلة أخرى للرجوع .
الثاني : والله خبير بما تعملون عندما صرف الله عز وجل عنكم الحزن , ويحتمل عمل المسلمين حينئذ وجوهاً :
أولاً : عمل المسلمين بعد صرف الحزن عنهم خير محض على نحو الموجبة الكلية .
ثانياً : عمل المسلمين حينئذ خير ولكن على نحو الموجبة الجزئية .
ثالثاً : الخلط بين العمل الصالح وغيره .
والصحيح هو الأول ، ليكون من معاني [وَاللَّهُ مَعَكُمْ]الأخذ بأيدي المسلمين لعمل الصالحات والإرتقاء في مقامات التقوى .
الثالث : والله خبير بما كنتم تعملون قبل معركة أحد وما تعملون بعدها .
ولا يمنع مجئ آية السياق بصيغة المضارع من إرادة الزمن الماضي ، والأشياء والأمور كلها حاضرة عند الله عز وجل ولا تغيب عنه .
الرابع : والله خبير بما تعملون عند توالي النعم عليكم ، وأنه سبحانه يعلم إتخاذكم لهم مناسبة لشكره تعالى والصبر في ميادين القتال .
فمن الناس من تقعده النعمة عن العمل والجهاد ، فجاءت خاتمة آية السياق نوع تحد للمنافقين بأن المؤمنين يواظبون على أداء الفرائض وتعاهد سنن الإيمان في حال السراء والضراء ، والرخاء والشدة .
الخامس : خاتمة آية السياق باعث لليأس والفزع في قلوب الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
السادس : تقدير الصلة بين خاتمة آية السياق وأول آية البحث على وجوه :
أولاً : والله خبير بما تعملون فانزل عليكم من بعد الغم أمنةً نعاساً) .
ثانياً : والله خبير بما تعملون حينما ينزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً .
ثالثاً : والله خبير إذا لم ينزل عليكم أمنة نعاساً .
الوجه الرابع : ترى لماذا التخصيص بالأمنة النعاس في آية البحث بعد العموم بصيغة الغم في آية السياق إذ ورد الخطاب [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا] بينما ذكرت آية البحث تغشي الأمنة النعاس لطائفة من المؤمنين دون الكل .
والجواب جاء الغم إلى الذين إنهزموا وفروا من المعركة ، أما الأمنة النعاس فنزلا على الذين ثبتوا في الميدان من جهات :
الأولى : الثناء على أهل البيت والصحابة الذين ثبتوا في الميدان ليمنعوا من أسر أو قتل الكفار للذين فروا من المؤمنين .
الثانية :تفضل الله عز وجل بالشكر للمؤمنين الذين بقوا يقاتلون في معركة أحد مع تجلي الأذى وأسباب الضعف , من وجوه :
أولا : ترك الرماة لمواضعهم التي نصبهم وجعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : مجئ خيل المشركين من خلف المسلمين .
ثالثاً : كثرة القتلى من المسلمين .
رابعاً : إشاعة العدو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
خامساً : شدة القتال وزحف الذين كفروا والوفرة في أسلحتهم وخيلهم.
سادساً : تعدد جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
سابعاً : فرار أكثر الصحابة من ميدان القتال .
الثالثة : بيان ووثيقة حاضرة للمائز بين الذي يثبت في الميدان من الذي يفر منه ، وقد جاءت آيات القرآن بالتمييز بين المجاهد والقاعد بقوله تعالى [فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً] ( ).
وبينت آية البحث مسألة وهي تفضيل الذين ثبتوا في الميدان على الذين فروا منه بهبة عاجلة باقية في ذكرها وموضوعها إلى يوم القيامة وهي الأمنة النعاس .
وهل يصح تقدير الآية : ثم أنزل عليكم أمنة نعاساً) بلحاظ صبر المؤمنين في معارك الإسلام اللاحقة مثل معركة الخندق وحنين الجواب نعم .
الرابعة : دعوة المسلمين في أجيالهم المتعاقبة لإكرام الذين ثبتوا في الميدان في معركة أحد من غير أن يتعارض هذا الإكرام مع الثناء على جميع الذين شاركوا في المعركة من المؤمنين وإن فروا من القتال .
الخامسة : تأكيد موضوعية بقاء لواء الإسلام مرفوعاً وسط معركة أحد ، يحمله وهو يقاتل الإمام علي عليه السلام مع نفر من المهاجرين والأنصار ذكرتهم بعض كتب السيرة بالأسماء .
السادسة : لقد ورد قوله تعالى [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) فهل يصح القول (هل يستوي الذين ثبتوا في الميدان والذين فروا منه)الجواب لا ، وهو قياس مع الفارق، فبين الذين يعلمون والذين لا يعلمون تباين وتناف ، أما النسبة بين الذين ثبتوا في الميدان والذين فروا فهي على وجوه مرتبة :
الأول : التساوي بين عموم أفراد جيش المسلمين عند الخروج من المدينة .
الثاني : التساوي في مراتب الإيمان عند مواصلة السير نحو لقاء العدو في معركة أحد بعد إنخزال ثلث جيش المسلمين في الطريق تبعاً لرأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
الثالث : الإتحاد والتشابه في نيل مراتب الجهاد والرفعة عند إلتحام الصفين ، وقيام المسلمين بحس وقتل الذين كفروا في بدايات المعركة .
الرابع : حصول التباين على نحو الموجبة الجزئية عند فرار فريق من المسلمين وثبات طائفة منهم .
الخامس : عودة حال التساوي بين المؤمنين بعد دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للفارين منهم ، ليكون من معاني قوله تعالى [أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ] ويغشى الذين يحاكونهم ويقتدون بهم في الثبات في ميدان القتال .
المسألة الثالثة والعشرون : تقدير الجمع بين الآيتين : فأثابكم الله غماً بغم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : بيان المائز بين المؤمنين والمنافقين بتجلي الثواب العاجل للمؤمنين ، والذم والتبكيت للمنافقين ، وفيه بيان لقانون في الحياة الدنيا من جهتين :
الأولى : مجئ الثواب العاجل للمؤمنين .
الثانية : ذكر حال المنافقين بما يفيد ذمهم من غير عقوبة لهم ، لبيان حقيقة وهي كون الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ليس برزخاً دون مجئ الثواب العاجل للمؤمنين ، ليكون عوناً لهم وللناس في الإبتلاء في الدنيا من جهات :
الأولى : تثبيت المؤمنين في مقامات الهدى .
الثانية : بذل المؤمنين الوسع في الدفاع عن الإسلام والنبوة .
الثالثة : تعاهد المؤمنين لأحكام التنزيل والسنة النبوية .
الرابعة : بعث الندامة في قلوب المنافقين ، وحثهم على التنزه عن النفاق والرياء .
الخامسة : ترغيب الناس بالإيمان .
السادسة : بيان قانون يحكم حياة الناس يتقوم بوجود أمة تتعاهد الإيمان والدفاع عن التنزيل .
السابعة : تقريب الله عز وجل العباد إلى منازل الإيمان ، ودفعهم عن مفاهيم الشرك والضلالة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ] ( ).
الثامنة : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اللوم، فلا يحتج عليه بعض المسلمين لماذا لم يعاقب المنافقين ، ومن الآيات أن المسلمين حينما رجعوا من معركة أحد وقد خسروا سبعين شهيداً ، وكثرت الجراحات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه لم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين والذين رجعوا وسط الطريق إلى معركة أحد ، ولم يوبخ عبد الله بن أبي بن أبي سلول ويقول له لولا أنك رجعت بثلث الجيش لما أصابتنا هذه الخسارة .
ومن عادة الملوك أن يضعوا اللوم على القائد الميداني أو غيره ممن يكون طرفاً أو جزء علة في الخسارة ، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يحاسب رأس النفاق ، أو الرماة , فما لحق المسلمين في معركة أحد خير ونفع وبلاء فيه أجر ، وصارت سبباً وموضوعاً لنزول آيات من القرآن إنتفع , وينتفع منها المسلمون إلى يوم القيامة .
الوجه الثاني : تفيد الواو في [وَطَائِفَةٌ]الغيرية وأن الذين نزلت عليهم الأمنة ودب في أجسادهم النعاس بلطف ورأفة من عند الله هم غير الذين همتهم أنفسهم , ومن إعجاز الآية أمور :
الأول : التضاد بين الأمنة وبين الهمّ بالنفس .
الثاني : التباين بين النعاس وإستيلاء الهم على النفس وحضوره وموضوعه .
الثالث : نزول الأمنة من عند الله عز وجل نعمة عظمى فحجبها الذين همتهم أنفسهم عن ذاتهم ، وهل هذا الحجب في الدنيا والآخرة ، الجواب لا، إنما هو خاص بمعركة أحد وقد يمحوه الله ويعفو عن صاحبه بتوبته وتفانيه في مرضاة الله وتنزهه عن النفاق .
ومن الإعجاز في آية السياق والبحث إخبارهما عن كيفية نفسانية حلت بالمسلمين ، أما آية السياق فمن وجوه :
أولاً : عدم اللي إلى أحد ، وبين اللي والإلتفات عموم وخصوص مطلق ، واللي أعم من الإلتفات ليكون من معاني [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] وجوه :
الأول : عدم الإلتفات إلى الخلف .
الثاني : التفكر والتدبر بحال المؤمنين الذين بقوا يقاتلون في الميدان .
الثالث : غياب معاني الود والمحبة بين الذين فروا فكل فرد من الذين فروا لا يلتفت إلى صاحبه .
الرابع : عدم ترك إدراك أضرار الفرار على الإسلام والنبوة تلك الساعة لولا رحمة الله .
الخامس : التخلي عن مسؤولية مداواة الجرحى ، وإعانة المجاهدين الآخرين وسط الميدان .
السادس : الإعراض النفسي عما يجري من الوقائع ولا يعلم هذا الإعراض إلا الله عز وجل .
ثانياً : حصول الغم والهم عند المسلمين بعد فوات نعمة النصر الذي تجلى في بدايات المعركة بقوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ].
ومن الإعجاز في آية السياق أنها لم تخبر عن الغم الذي حل بالمسلمين على نحو مستقل كموضوع قائم بذاته ، بل ذكرته الآية عرضاً [بِغَمٍّ] في طول بيان فضل الله عز وجل عليهم بمجئ غم آخر ثواباً منه سبحانه بقوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] وفيه مسائل :
الأولى : ما أصاب المسلمين من الغم في سبيل الله والسبب خروجهم من المدينة لقتال الذين كفروا .
الثانية : بيان عدم مكث الغم طويلاً في نفوس المسلمين ، ومن أسرار نسخة بغم من عند الله عز وجل ، ولو مكث طويلاً لظهر على أفعالهم وسبب خصومة وخلافاً بينهم وتغشتهم الكآبة .
الثالثة : خفة وقلة وطأة الغم الذي أصاب المسلمين ، فما أن إلتفتوا إلى خسارتهم وحرمانهم من النصر حتى جاءهم الغم ثواباً من عند الله ليكون وسيلة لإتحادهم وألفتهم ورضاهم بقضاء الله عز وجل .
ثالثاً : دخول غم على غم وهو حالة نفسانية لا يعلمها , ولا يقدر عليها إلا الله عز وجل من جهات :
الأولى : مقدار وكيف الغم الأول المترشح عن المصيبة يوم أحد.
الثانية : مجئ غم آخر ثواباً من عند الله.
الثالثة : التداخل بين الغمين ونسخ الغم الأول الذي يتحد بالاسم مع الثاني , ولكنه يختلف عنه في الماهية ، لأن الغم الذي يأتي ثواباً وجزاء من عند الله باعث على السكينة ومانع من الحزن والأسى .
فالأصل في الغم أنه مترشح عن الحزن ، وهو ذاته سبب للحزن ، أما الغم الذي جاء من عند الله فانه واقية من الحزن والخوف ، وتلك معجزة من بديع صنع الله ،وخلاف نواميس سنخية الإنسان .
لقد إنشغل المنافقون بأنفسهم وحرصوا على سلامتها فحرموا أنفسهم من أمور :
الأول : الغم المترشح عن مصيبة الخسارة وعدم نيل الغنائم ، فهذا الغم في الأصل أذى نفسي ، ولكنه باب للأجر والثواب لأنه في سبيل الله وهو من عمومات قوله تعالى [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( )والذي يدل بالدلالة التضمنية على أن أي أذى يأتي للمسلمين في ميدان القتال أمر حسن بالذات والأثر والأجر وفي الدنيا والآخرة .
الثاني : رؤية وتدبر كيف يأتي الغم من عند الله عز وجل فيكون نعمة من جهات :
الأولى : الغم الذي يأتي من عند الله نعمة بذاته .
الثانية : إدراك وتلمس سنخية من الغم فيها رحمة من عند الله.
الثالثة : مشاطرة المؤمنين بنعمة الغم كجزاء من عند الله .
الثالث : لقد إفتخر المنافقون بأنهم لم يحضروا المعركة , فجاءت آية البعث لتبعث الأسى والندامة في نفوسهم , وتجعل ذويهم وغيرهم يلومونهم , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الوجه الثالث : من معاني الجمع بين الآيتين سلامة المؤمنين من الهمّ بأنفسهم، ولا يعني هذا أن نفوسهم ليست بعزيزة عليهم فهي أعز وأحسن النفوس، ولكنهم نذروها لله عز وجل، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ]( )، وروي في سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن رواحة الأنصاري قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت . قال : اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم . قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : الجنة . قال : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل ( ).
وتدل شهادة الله عز وجل للمؤمنين بشراء أنفسهم وأموالهم على أن الغم الذي نزل عليهم في معركة أحد رحمة وأجر وبركة، وليكون على وجوه:
اولاً : إنه برزخ دون دبيب الغم في معارك الإسلام اللاحقة , وما يصيب المسلمين من الخسارة، أو الحرمان من الغنائم.
ثانياً : تغشي الغبطة والسعادة حياة ومجتمعات المسلمين، وندرة الخصومة والخلاف، والكدورات، وأسباب الطلاق مثلاً، لصفاء نفوس المسلمين.
ثالثاً : دعوة المسلمين لتلقي ما يتفضل الله عز وجل به بالقبول والرضا.
رابعاً : بيان التباين بين الغم الذي يترشح عن حال الأذى والضرر وإنقباض النفس، وبين الغم الذي يأتي ثواباً من عند الله عز وجل.
خامساً : بشارة سلامة المؤمنين من الغم والكرب يوم القيامة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون ممّ ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، يُسْمعهم الداعي ويَنفذُهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم……) الحديث ( ).
وورد حرف الباء في قوله تعالى[فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] بين الغمين، وللباء ثلاثة عشر معنى منها:
الأول : الإلصاق، وهو المعنى الغالب لها، وإقتصر عليه سيبويه، ويكون الإلصاق على وجهين:
أولاً : الإلصاق الحقيقي نحو قوله تعالى [وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا]( ).
ثانياً : الإلصاق المجازي، كما لو قلت : أمسكت بالدليل.
ودخول الغم الذي جاء ثواباً من عند الله على الغم الذي قد يترشح عن المصيبة والنكسة يوم معركة أحد دخولاً وإلصاقاً حقيقياً وهو نفع حال وآجل.
الثاني : الظرفية، أي يكون بمعنى (في) كما في قوله تعالى في ذم المنافقين [إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الغم الأول الذي أصاب المؤمنين بسبب الخسارة وتعذر حيازة الغنائم في معركة أحد وعاء وظرفاً للغم النازل من عنده.
لتبين آية السياق قانوناً وهو أن الله عز وجل لم يترك الناس وشأنهم، بل يتفضل على المؤمنين بالنعم الظاهرة والباطنة، لقد أصر المنافقون على الإنطواء في قرارة نفوسهم على الكفر والضلالة، فتفضل الله عز وجل وأنفذ الغم ثواباً من عنده لنفوس المؤمنين ليحل محل الغم الحسي فلا تبقى حسرة في نفوسهم.
الثالث : الإستعلاء أي تكون الباء بمعنى (على) كما في قوله تعالى[وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ]( )، ليكون الغم الذي يأتي من فضل الله نازلاً على الغم المترتب على الأذى وناسخاً له .
المسألة الرابعة والعشرون : تقدير الجمع بين الآيتين : فأثابكم غماً بغم وطائفة يظنون بالله غير الحق ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : الحمد لله الذي جعل معركة أحد فيصلاً بين كل من :
الأول : الإيمان .
الثاني : النفاق .
الثالث : الكفر .
فقد خرج المؤمنون تحت لواء الرسالة للقتال في سبيل الله ، فشهد الله عز وجل لهم بالإيمان بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وتتضمن الآية أعلاه قيوداً تخرج المنافقين من مضامين الآية القدسية من جهات :
الأولى : لفظ [تُبَوِّئُ]وتعين إذا أن المنافقين رجعوا من منتصف الطريق إلى أحد وحرموا من أمرين :
أولاً : النعمة الحسية بتعيين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه لمواضع المقاتلين .
ثانياً : صفة الإيمان التي تذكرها هذه الآيات .
ثالثاً : النعمة العقلية وهي ذكر المؤمنين في الآية أعلاه يتلوها المسلمون بافتخار عدة مرات كل يوم لا يعلمها إلا الله ، وهكذا إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار وجوب تلاوة القرآن وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة .
وإذ سقط الجهاد عن المرأة ، فان تلاوتها آيات القتال لا يسقط عنها وفيه الفخر والعز وللمؤمنين في الصلاة وخارجها .
الثانية : لفظ (المؤمنون) الذي يفيد الإيمان بالقلب والجوانح ، لذا لم تقل الآية (إذ تبوء للمسلمين ) .
ولم تقل ( إذ تبوء للذين آمنوا) أو ( إذ تبوء للمهاجرين والأنصار ) فقد كان يوم معركة أحد مشهوداً وملاكاً يمتاز به المؤمنون فتفضل الله عز وجل وأخبر بأن فريقاً من المسلمين نجحوا في الإبتلاء ، ونالوا شرف مرتبة الإيمان بوقوفهم صفاً لملاقاة العدو الكافر وفيه دعوة لهم لتعاهد هذه المرتبة السامية بفضل ولطف من عند الله .
ترى هل من سبيل لتوبة المنافق ونيله مرتبة الإيمان , الجواب نعم ، فاذا ثاب المنافق والكافر ووقف كل منهما في الموضع الذي يعينه له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام وآمر السرية فقد نال ذات المرتبة بفضل الله عز وجل .
وتقدير الآية أعلاه (تبوء للمؤمنين مقاعد للقتال , فيا أيها المنافقون ويا أيها الكافرون توبوا إلى الله توبة نصوحاً ).
الثالثة : لفظ [مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] إذ رجع المنافقون ومن تابعهم من وسط الطريق من بستان بين المدينة وجبل أحد , يعرف باسم الشوط .
ومضى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى وصلوا إلى جبل أحد وصاروا على مقربة من العدو ، فجعلوا ظهورهم إلى الجبل ووجوههم صوب المدينة ، وكأنهم يعلنون رجوعهم الحتمي لها بسلام وأمن بصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : قوله تعالى [وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] فقد سمع الله عز وجل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو وينادي أصحابه للرجوع إلى ميدان المعركة والذي يدل بالدلالة التضمنية على وجود فارين من المسلمين ، ولكنهم عادوا بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
والله سبحانه سمع قول المنافقين وذكره في آية البحث بقوله تعالى [لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا] ( ) والله هو العليم بأحوال المسلمين ونتيجة المعركة ، ولا يحيط بالغايات الحميدة لكل آية إلا الله عز وجل ومنها تجلي غايات مستحدثة لكل آية قرآنية في كل زمان ومكان لذا فقد أسمينا باب الغايات في هذا السِفر بالتقييد والتبعيض بعنوان ( من غايات الآية).
الوجه الثاني : تحتمل الصلة بين المؤمنين الذين نزل بهم الغم من عند الله المنافقين الذين همتهم أنفسهم بلحاظ آية البحث والسياق وتلاوة المسلمين لهما وجوهاً :
الأول : يبقى كل فريق على حاله وفي منزله ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ]( )، الجواب لا، إذ يتعلق موضوع الآية أعلاه بأهل الملل الأخرى، وأنهم معجبون بما يرون، أما المنافقون فانهم ليسوا حزباً مستقلاً، وهم في حزن دائم، فرفعت آية السياق الغم عن المسلمين بذات سنخية الغم، أما المنافقون فهم في غم دائم .
وحينما ينزل الغم والأمنة والنعاس من عند الله عز وجل على المؤمنين يزداد حزن المنافقين، وهل هذا الحزن دعوة لهم للإيمان وخلع رداء النفاق الجواب نعم، وهو من البركات المترشحة عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إنجذاب المنافقين للمؤمنين في غبطتهم وسعادتهم، وسلامتهم من الغم والحزن حتى في حال النكسة، وإدراك الناس لحقيقة وهي أن نعمة عصمة المسلمين من الحزن مقدمة لوقايتهم من الهزائم والخسائر في معارك الإسلام، لذا قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ساعة إنتهاء معركة أحد لعلي عليه السلام : لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا( ).
الثالث : إنصات المؤمنين للمنافقين، وقبول معذرتهم في همهم بأنفسهم.
الرابع : التأثير المتبادل بين الفريقين، وإصغاء كل من المؤمنين والمنافقين بعضهم لبعض.
والصحيح هو الثاني، ولو على نحو الوجبة الجزئية، وهو من أسباب إنحسار النفاق بين المسلمين، فكل شطر من آية السياق والبحث عون للمسلمين في التنزه من النفاق.
الوجه الثالث : تقدير الجمع بين الآيتين: كيف تظن طائفة بالله غير الحق وقد أثابكم الله غماً بغم.
إن تفضل الله عز وجل بالثواب للمؤمنين في ساعة الشدة وبيان سنخية هذا الثواب وأنه من جنس الأذى النفساني المترشح عن المصيبة رحمة ونعمة متجددة ، وهل هو كالدواء المر الذي يكون فيه شفاء للمريض، بلحاظ أن الغم الذي جاء من عند الله علاج الجواب لا، لخلو الغم الذي يأتي من عند الله عز وجل من الأذى.
ويفيد الجمع بين الآيتين قانوناً وهو الإنتفاع العام من النعمة التي تنزل على المؤمنين من جهات:
الأولى : إنتفاع المؤمنين وذراريهم من النعمة الإلهية.
الثانية : إقتباس المنافقين من النعمة التي تأتي للمؤمنين، ولو على نحو جزئي وفردي.، وبعثهم على الرغبة في نيلها مع الأسى والحزن على الحرمان منها بسبب إبطائهم الكفر، والإمتناع بالإختيار لاينافي الإختيار.
الثالثة : إقامة الحجة على الذين كفروا من جهات:
الأولى : حرمان الذين كفروا أنفسهم من النعم النازلة من عند الله عز وجل.
الثانية : إصرار الذين كفروا على منع وصول النعم للمسلمين، وبذلهم الأموال والنفوس دون أن يبلغوا غايتهم , لتكون مجتمعة ومتفرقة وبالاً عليهم.
الثالثة : صيرورة الذين كفروا سبباً لحرمان أتباعهم من هذه النعم.
الرابعة : الإمتناع عن التدبر بالنعم التي تأتي للمسلمين وإقتباس المواعظ منها، وإتخاذها وسيلة للتوبة والإنابة.
عن الأغر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أيها الناس توبوا إلى الله جميعاً فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة)( ).